إقامة البراهين والأدلة
على
انحصار القواعد والأدلة
- حوار علمي هادئ مع دعاة تجديد أصول الفقه -
تأليف
الدكتور سعيد بن محمد بيهي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }(1)
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا }(2)
{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما }(3).
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
إن من آلاء الله الظاهرة ، ونعمه الشاملة ، أن أتم لهذه الأمة دينه ، وأكمل عليهم به نعمته ، قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا(4)} ، ولقد اشتمل هذا الدين الكامل على كل ما تدعو إليه حاجة الناس، قال تعالى: { ونَزَّلْنَا عليكَ الكتابَ تبياناً لكلِّ شيءٍ وهدًى و رحمةً وبُشْرَى لِلْمُسْلِمين }(5)، ولهذا فمحال أن يدع الله جل وعلا ما تعظم إليه حاجة عباده - مما تتوقف عليه إقامة دينه فيهم من طرق فهمه وقواعد استنباطه - دون أن يبين لهم كيفية تحصيلها ، ولا أن يرشدهم إلى طرق تأصيلها ، وإنما يحيلهم في ذلك إلى مجرد أفهامهم العاطلة ، وآرائهم الباطلة !
__________
(1) - آل عمران : 102.
(2) - النساء : 1.
(3) - الأحزاب : 70-71.
(4) - المائدة : 3.
(5) - النحل : 89.(1/1)
إن هذه الدراسة تتغيا بيان أن القواعد والأدلة التي يفهم الشرع بواسطتها ، والتي يتم استنباط الأحكام الشرعية للوقائع الحادثة من خلالها ، منحصرة فيما دل عليه الشرع منها ، متناهية فيما ضبطه العلماء من أصولها ، وأنه لا مجال للخروج عما قرروه بخصوصها ، ولا يُستطاع إضافة قواعد جديدة تكون خارجة عما استقرءوه منها ، ولا تتأتى زيادة أصول على ما دونوه فيها ، بحيث يُزعم أنها الجديرة بالاسترسال مع الوقائع الكثيرة التي يقذف العصر بها .
لقد دفعني إلى هذه الدراسة أمور أجملها فيما يلي :
1- الرغبة في دفع انتحال المبطلين لعلم أصول الفقه ، والذين يريدون تجديده دون معرفتهم بما بني عليه تأصيله ، ولا بما تأسس عليه تقعيده ، عسى أن يجعلني الله من عدول هذه الأمة ، الذين قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - : » يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين «.(1)
__________
(1) - أخرجه البزار في مسنده ، انظر مختصر زوائد مسند البزار لابن حجر 1/122-123، والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث ص: 28، وابن أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل 2/17، وابن وضاح في البدع والنهي عنها ص: 1، والحديث مشهور صححه غير واحد كالإمام أحمد كما نقله عنه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث ص: 29، واحتج به الحافظ ابن عبد البر ، ونسب تصحيحه إليه ابن الوزير اليماني في العواصم والقواصم 1/308، وصححه ابن الوزير في المرجع السابق ، وابن القيم في مفتاح دار السعادة 1/163-164. والحديث حسن لغيره لكثرة طرقه واعتضاد بعضها ببعض .(1/2)
2- شدة الحاجة إلى تحرير وجه الحق ، وتقرير عين الصواب ، في مسألة " تجديد الأصول " ، خاصة بعد أن كثر الخوض فيها ، خوضا يتعلق بأذيال من كلام أهل العلم ، ويتمسك بأطراف من نصوص الوحي ، مما أدى إلى التباس الحق بالباطل ، والصواب بالخطأ ، فصار الناس لأجل قوة تشغيب هؤلاء المجددين يعتقدون قوة ما بنوا عليه تجديدهم ، مع أن المتأمل في صنيعهم يجدهم أبعد شيء عن مسلك أهل العلم ، فهم لا يحتكمون إلى أصل ، ولا ينضبطون بقاعدة .
3- محاولة جمع أطراف الحق في هذه المسألة بعد أن كان مُشتتاً في مصادر مختلفة ، ومتفرقاً في مراجع متنوعة ، ونَظْمِه في سلك واحد ، ليكون باجتماعه متعاضداً في دفع هجمة هؤلاء العصرانيين(1)، فإن أفراد الحق إذا اجتمعت قويت ، ثم إن جمع المتفرق أحد ما يقصد بالتأليف ، وتأمل ما قاله العلامة الحسن اليوسي ( 1102هـ) عند بيانه لما ينبغي أن يشتمل عليه الوضع التصنيفي : » اشتمال الوضع على فائدة معتبرة تستحصل ، كاختراع ما كان مغفولاً عنه ، وجمع ما كان مفترقا ، واختصار ما كان مطولا ، وتهذيب ما كان محشوا ، وبسط ما كان مغلقا ، وتكميل ما كان ناقصاً ، تتميماً أو تذييلا ، أو تصحيحا أو تعريفا أو ترتيبا ، وعقد منثور ليحفظ ، وحل معقود ليفهم ، أو غير ذلك من الفوائد ، وإلا فتسويد قرطاس ، وتعديد وسواس «(2).
لقد تتبعت في سبيل جمع مادة هذه الرسالة عشرات المصادر الأصيلة ، والمراجع الموثوقة ، شأنها شأن أصلها ، فقد كانت جزءً من أطروحة دكتوراه الدولة المعنونة ب " التأصيل الشرعي لمفهوم فقه الواقع " ، غير أني استللتها منها لما استشعرت الحاجة إليها ، وأضفت إليها من الفوائد ما يكملها ، وألحقت بها من الفرائد ما يجملها .
__________
(1) - انظر عن هؤلاء العصرانيين كتاب " العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب " لمحمد حامد الناصر ، ص: 237.
(2) - القانون في أ حكام العلم والعالم وأحكام المتعلم ، ص: 343.(1/3)
أكثرت من النقول ، بحيث لا تكاد تخلو صفحة من نقل ، مع شدة الحرص على نسبة تلك الأقوال إلى قائليها ، وعزوها إلى مظانها ، وإيضاح وجه الفائدة منها ، ومناقشة صاحبها إن وجد الداعي لذلك بمقدار ما يتضح موضوع الدراسة .
بذلت أقصى ما استطعت من جهد لإيضاح معاني هذه الرسالة ، وقد كانت هذه الغاية وراء بعض التكرار زيادة في البيان ، كل ذلك مراعاة لخفاء مدارك مسائلها على كثير من أبناء الزمان ، ولا ريب أن خفاء الأمر من موجبات إيضاحه ، وقد لا يتحصل الإيضاح إلا بزيادة بسط وتكرار ، وانظر إلى قول العلامة صديق حسن خان (1307هـ) في بيان ما ينبغي أن يكون عليه التأليف : » وينبغي أن يكون مسوقا على حسب إدراك أهل الزمان ، وبمقتضى ما تدعوهم إليه الحاجة ، فمتى كانت الخواطر ثاقبة ، والأفهام للمراد من الكتب متناولة ، قام الاختصار لها مقام الإكثار ، وأغنت بالتلويح عن التصريح ؛ وإلا فلا بد من كشف وبيان ، وإيضاح وبرهان ينبه الذاهل ويوقظ الغافل «(1).
الاستدلال لما أذكره من التأصيل ، وذلك إما بالنقل عن العلماء ، وإما بما يفضي إليه التأمل الصحيح المؤسس على قواعد علمية منضبطة ، ولهذا فإنه لا يخلو من جدة ، أسأل الله صوابها ، وأبرأ إليه من خطئها .
وبعد فهذا جهد المقل ، لا أبرئه من نقص ، ولا أحاشيه من خطأ ، فإن الكمال لله تعالى ، والعصمة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ولله ذر القائل :
وإن تجد عيباً فسُدَّ الخللا ( فجَلَّ من لا عيب فيه وعلا(2)
ورجائي ممن اطلع عليه أن ينظر إليه بعين الإنصاف والموادعة ، لا بعين الاعتساف والمنازعة ، فإني ما قصدت به الشقاق والمجادلة ، ولا إظهار الغلبة والمماحلة .
والله أسأل أن يكسوه حلل القبول ، وأن يمن علي ببلوغ منتهى السول إنه قريب مجيب ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
__________
(1) - أبجد العلوم 1/189.
(2) - ملحة الإعراب لأبي محمد القاسم الحريري ، ص : 48.(1/4)
مستند دعاة تجديد علم الأصول
لقد ذهب بعض المعاصرين إلى أن القواعدَ الأصولية قديمةٌ لابد من تجديدها ، وخضوعها لسنة التطور، وأنها ليست وحياً منزلا من السماء ، بل هي اجتهاد استجاب به الأصوليون القدامى لواقع زمانهم ، وبما أن الواقع قد تغير إلى علاقات متشابكة ما كانت لتخطر ببال علمائنا قديما ، وبما أن الواقع صار يقذف بعشرات الوقائع إن لم نقل بالمئات كل يوم ، فإن ذلك التأصيل المتأثر بظروف ذلك الزمن الساذج ، لا يمكن أن يستجيب لواقع اليوم المعقد ، يقول الترابي:«إن العلم البشري قد اتسع اتساعاً كبيراً ، وكان الفقه القديم مؤسساً على علم محدود بطبائع الأشياء وحقائق الكون وقوانين الاجتماع ، مما كان متاحاً للمسلمين في زمن نشأة الفقه وازدهاره . أما العلم النقلي الذي كان متاحاً للمسلمين في تلك الفترة ، فقد كان محدوداً أيضاً مع عسرٍ في وسائل الاطلاع والبحث والنشر ، بينما تزايد المتداول في العلوم العقلية المعاصرة بأقدار عظيمة ، وأصبح لزاما علينا أن نقف في فقه الإسلام وقفة جديدة لنسخر العلم كله لعبادة الله ، ولعقد تركيب جديد يوحد بين علوم النقل التي نتلقاها كتابة ورواية قرآناً محفوظاً أو سنة يديمها الوحي وبين علوم العقل التي تتجدد كل يوم وتتكامل بالتجربة والنظر ، وبذلك العلم الموحد المتناهي نجدد فقهنا للدين وما يقتضيه في حياتنا الحاضرة طورا ً بعد طور »(1).
__________
(1) - تجديد الفكر الإسلامي ، د. حسن الترابي ، ص:68.(1/5)
إن أولئك المجددين يعتقدون بناء على هذا كله أنه لابد من فتح أبواب الاجتهاد الذي أعلى من شأنه الشرع الإسلامي ، وذلك بالاجتهاد في تجديد تلك الأصول القديمة بتوسيعها ، أو إحداث أصول جديدة تكون أكثر مرونة ، وفي ذلك يقول أيضاً الدكتور حسن الترابي في "تجديد أصول الفقه الإسلامي": « وفي يومنا هذا أصبحت الحاجة إلى المنهج الأصولي الذي ينبغي أن تؤسس عليه النهضة الإسلامية حاجة ملحة ، لكن تتعقد علينا المسألة بكون علم الأصول التقليدي الذي نلتمس فيه الهداية لم يعد مناسباً للوفاء بحاجتنا المعاصرة حق الوفاء ، لأنه مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها ، بل بطبيعة القضايا الفقهية التي كان يتوجه إليها البحث الفقهي »(1).
إن هؤلاء المجددين يرون أن تلك الأصول جهد إنساني اجتهادي ، وليست بالضرورة هي عينَ الشريعة ، وإن أُخذت منها ، بدليل أنها تنسب إلى أصحابها ، فيقال : أصول الحنفية ، أو المالكية ، أو الشافعية ، أو الحنابلة ، أو الظاهرية . وبدليل أن أصحابها قد اختلفوا فيما بينهم فيها أشد الاختلاف ، فصار اختلافهم فيها أعظم برهان على أنها جهد بشري ، وأضحى أكبر حجة لنا على جواز تغييرها وإعادة النظر فيها .
__________
(1) - تجديد الفكر الإسلامي ص: 73.(1/6)
إن التزام الأصول القديمة عند هذه المدرسة المعاصرة لم يدل عليه دليل من عقل ولا نقل ، وإنما أوقع فيه ما توارثه المسلمون من لزوم القديم حباً في الدعة والكسل ، ونفوراً من الاجتهاد لأجل ما فيه من المشقة وبذل الجهد ، يقول الدكتور كمال أبو المجد :« والاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم ، ويحتاج إليه المسلمون ، ليس اجتهاداً في الفروع وحدها ، وإنما هو اجتهاد في الأصول كذلك .. وكم من مسألة تواجه المسلمين اليوم فإذا بحثوها وأعملوا الجهد طلباً لحكم الإسلام فيها أفضى بحثهم إلى وقفة مع الأصول ... وليس ما تُردده الكثرة الغالبة من المعاصرين من امتناعٍ في الاجتهاد في الأصول إلا التزاماً بما لا يلزم ، وتقصيراً في بذل الجهد بحثاً عما ينفع الناس »(1).
وهاك أخي القارئ تلخيصَ مُجملِ ما بُنيت عليه مبررات الدعوة إلى تجديد قواعد أصول الفقه ، وكما صاغها أحد الباحثين المعاصرين المؤمنين بها ، يقول في ذلك : « أصول المتأخرين بالنظر لما غشيها من التعقيد يمكن أن تكون قابلةً للتجديد في الجملة ، لأن أصحابها أنفسهم ليسوا على اتفاق بشأنها فيما بينهم ، فقام اختلافهم دليلاً على أنها قابلة للنقاش والمراجعة ، وإلا كانت محل اتفاق فيما بينهم .
__________
(1) - حوار لا مواجهة ، د. أحمد كمال أبو المجد ، ص 42 ، كتاب العربي العدد 7 ، مقال بعنوان"مواجهة مع عناصر الجمود".(1/7)
إن أصول الفقه كما ورثناها عبر أجيال ، وُضِعت تحت تأثير ظروفٍ مغايرة للظروف التي نحياها ، ولتلبية حاجات محدودة ، انفعالاً بطابع التحفظ ، والخوف الشديد على مصير الدين ، وفي نطاق علمي ضيق حيث كانت وسائل الاتصال بالعالم الخارجي بدائية بطيئة ، والتبادل بين الأمم في مختلف المجالات قليلاً نسبيا ، وهي بالتالي أصول لم تعد قادرة على حل المعضلات الطارئة في مجال المعاملات المدنية والتجارية والسياسية والإدارية... سواء داخل حدود الدولة أو خارجها »(1).
لقد قامت سوق هذه الدعوة – بما لها من البريق الخلاب ، واللمعان المبهر- فصارت منهجاً لباحثين ، بل ومسلكاًً لمجلات حملت لواء الدعوة إليها ، فهذه مجلة المسلم المعاصر يصفها مؤسسها في عددها الافتتاحي بأنها :« تنطلق من ضرورة الاجتهاد ، وتتخذه طريقا فكرياً ، ولا تكتفي في البحث في ضرورة فتح باب الاجتهاد في فروع الفقه ، بل تتعداه إلى بحوث الاجتهاد في أصول الفقه »(2)
استناد القواعد الأصولية إلى الشرع
إن أول ما وقع فيه هؤلاء المجددون أنهم لم يتفطنوا إلى أن الأدلة الشرعية - وإن كان بعضها يرجع إلى الاجتهاد والرأي - لابد لها مِنْ مُستنَدٍ مِنَ الشرع تستند إليه ، ذلك لأن الاجتهاد فيها لم يُبْن على نظر محض ، ولم يُؤسس على رأي صِرف ، يقول العلامة الشاطبي في تقرير ذلك : « الأدلة الشرعية ضربان :
- أحدهما: ما يرجع إلى النقل المحض .
- والثاني: ما يرجع إلى الرأي المحض .
وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة ، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر ، لأن الاستدلال بالمنقولات لابد فيه من النظر ؛ كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل .
فأما الضرب الأول : فالكتاب والسنة .
__________
(1) - الاجتهاد في الفقه الإسلامي، ضوابطه ومستقبله، لعبد السلام السليماني ص: 389-390.
(2) - مجلة المسلم المعاصر ، العدد الأول/شوال 1974م ، د. جمال عطية .(1/8)
وأما الضرب الثاني : فالقياس والاستدلال .
ويلحق بكل واحد منهما وجوه ، إما باتفاق ، وإما باختلاف ؛ فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به . ومذهب الصحابي ، وشرع من قبلنا ؛ لأن ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صِرف لا نظر فيه لأحد .
ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان ، والمصالح المرسلة ، إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري ؛ وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية...
ثم نقول : إن الأدلة في أصلها محصورة في الضرب الأول ، لأنا لم نثبت الضرب الثاني بالعقل ، وإنما أثبتناه بالأول ، إذ منه قامت أدلة صحة الاعتماد عليه ، وإذا كان كذلك فالأول هو العمدة ، وقد صار إذ ذاك الضربُ الأول مستندَ الأحكام التكليفية من جهتين :
- إحداهما : جهة دلالته على الأحكام الجزئية الفرعية .
- والأخرى : جهة دلالته على القواعد التي تستند إليها الأحكام الجزئية الفرعية .
فالأولى : كدلالته على أحكام الطهارة ، والصلاة ، والزكاة ، والحج ، والجهاد ، والصيد ، والذبائح ، والبيوع ، والحدود ، وأشباه ذلك .
والثانية : كدلالته على أن الإجماع حجة ، وعلى أن القياس حجة ، وأن قول الصحابي حجة ، وشرع من قبلنا حجة ، وما كان نحو ذلك »(1).
لقد قرر العلامة الشاطبي أن الأدلة في أصلها محصورة فيما يرجع إلى النقل ، لأنها تستند إليه ، فبه يستدل على صحتها وحجيتها .
إن هذا المعنى الذي قرره العلامة الشاطبي في انحصار الأدلة ، هو نفس ما قرره قبله العلامة القرافي في "الفرق السادس عشر بين قاعدة أدلة مشروعية الأحكام وبين قاعدة أدلة وقوع الأحكام" قال رحمه الله: « فأدلة مشروعية الأحكام محصورة شرعا تتوقف على الشارع ، وهي نحو العشرين ؛ وأدلة وقوع الأحكام هي الأدلة الدالة على وقوع الأحكام ، أي وقوع أسبابها ، وحصول شروطها ، وانتفاء موانعها.
__________
(1) - الموافقات 3/227-228.(1/9)
فأدلة مشروعيتها : الكتاب ، والسنة ، والقياس ، والإجماع ، والبراءة الأصلية ، وإجماع المدينة ، وإجماع أهل الكوفة على رأي ، والاستحسان ، والاستصحاب ، والعصمة ، والأخذ بالأخف ، وفعل الصحابي ، وفعل أبي بكر وعمر ، وفعل الخلفاء الأربعة ، وإجماعهم ، والإجماع السكوتي ، وإجماع لا قائل بالفرق فيه ، وقياس لا فارق ، ونحو ذلك مما قرر في أصول الفقه ، وهي نحو العشرين ، يتوقف كل منها على مُدرك شرعي يدل على أن ذلك الدليل نصبه الشرع لاستنباط الأحكام .
وأما أدلة وقوعها فهي غير منحصرة ؛ فالزوال مثلا دليل مشروعيته سبباً لوجوب الظهر عنده قولُه تعالى : { أَقِم الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ }(1)، ودليل وقوع الزوال وحصوله في العالم الآلات الدالة عليه ، وغير الآلات ، كالإسطرلاب ، والميزان ، وربع الدائرة ... وجميع آلات الظلال ، وجميع آلات المياه ، وآلات الطلاب كالطنجهارة وغيرها من آلات الماء ... وغير ذلك من الموضوعات والمخترعات التي لا نهاية لها .
وكذلك جميع الأسباب والشروط والموانع لا تتوقف على نصب من جهة الشرع ، بل المتوقف سببية السبب ، وشرطية الشرط ، ومانعية المانع ، أما وقوع هذه الأمور فلا يتوقف على نصب من جهة صاحب الشرع ، ولا تنحصر تلك الأدلة في عدد ، ولا يمكن القضاء عليها بالتناهي »(2).
نقلت هذا النص رغم طوله لما فيه من الفوائد العظيمة ، والمتمثلة فيما يلي:
__________
(1) - الإسراء: 78.
(2) - الفروق للقرافي 1/128-129.(1/10)
1- بيان أن سببَ انحصار الأدلة توقفُ ثُبوتِها على الشرع ، والذي أفاده قوله: « فأدلة مشروعية الأحكام محصورةٌ شرعاً تتوقف على الشارع..» ، كما أفاده مفهوم قول صاحب "ترتيب الفروق واختصارها" في أدلة وقوع الأحكام التي لا تنحصر: «.. وهي لا تنحصر، ولا غاية لها.. ومن حيث إنه لا نهاية لها لم تكن هذه الأدلة تتوقف على نصب الشرع..»(1). مفهوم كلامه أن ما توقف على الشرع ينحصر .
لقد ذهب العلامة ابن القيم –رحمه الله - إلى نفس ما قرره القرافي فقال: « الفرق بين دليل مشروعية الحكم وبين دليل وقوع الحكم :
فالأول متوقف على الشارع . والثاني يُعلم بالحس أو الخبر أو العادة .
فالأول : الكتاب والسنة ليس إلا ، وكل دليل سواهما يستنبط منهما .
والثاني : مثل العلم بسبب الحكم وشروطه وموانعه.. »(2).
2- إن توقف الأدلة الأصولية على الشرع في ثبوتها ، يقتضي أن يشهد الشرع لها بالاعتبار ، ويستلزم أن يدل الدليل الشرعي على حجيتها ، فهي مبنية على مدارك شرعية ؛ دل على هذه الفائدة قول القرافي: «..يتوقف كل واحد منها على مُدرك شرعي يدل على أن ذلك الدليل نصبه الشرع لاستنباط الأحكام »؛ كما دل عليها قول الإمام ابن القيم لما تحدث عن أدلة مشروعية الحكم ، وأنها محصورة « فالأول : الكتاب والسنة ليس إلا ، وكل دليل سواهما يستنبط منهما »، وأفاده أيضا ما مر من قول العلامة الشاطبي: « إن الأدلة الشرعية في أصلها محصورة في الضرب الأول ، لأنّا لم نُثبت الضرب الثاني بالعقل ، وإنما أثبتناه بالأول ، إذ منه قامت أدلة صحة الاعتماد عليه..»(3)، فصحة الاعتماد على الأدلة الثابتة بالاجتهاد - كدليل القياس ، والاستدلال - موقوفة على شهادة الكتاب والسنة لها .
__________
(1) - ترتيب الفروق واختصارها للبقوري 1/346-347.
(2) - بدائع الفوائد 4/13.
(3) - الموافقات 3/228.(1/11)
إن دلالة الكتاب والسنة ليست قاصرة على الأحكام الجزئية الفرعية ، كما قد يتوهمه هؤلاء المجددون ، بل إن دلالته تشمل الدلالة « على القواعد التي تستند إليها الأحكام الجزئية »(1)أيضا .
3- ضرورة استحضار الفرق بين أدلة مشروعية الأحكام ، وأدلة وقوعها ، فأول فرق بينهما : أن أدلة مشروعية الأحكام محصورة ، وأدلة وقوعها غير محصورة ؛ وثاني فرق بينهما : أن أدلة مشروعية الأحكام متوقفة على الشارع ، وأدلة وقوعها ليست متوقفة على الشارع ، بل تعلم « بالحس أو الخبر أو العادة » كما أفاده العلامة ابن القيم .
وينبني على التفريق بينهما أن أدلة مشروعية الأحكام يرجع فيها إلى أهل العلم بالقرآن والحديث ؛ وأدلة وقوعها يرجع فيها إلى أهل الخبرة بها ، كما أفاده ابن القيم أيضا(2).
إن إغفال هذا الفرق بين النوعين هو سر اعتقاد أن وقوع أدلة الأحكام له مدخل في مشروعيتها ، وأنه يمكن إنشاء القواعد لنشوء الوقائع ، مع أن القواعد لا يمكن بناؤها إلا إذا دل الدليل على مشروعيتها وحجيتها ؛ وما دل الشرع على التأسيس عليه ، محصور كانحصار أصله الذي هو الشرع المنزل .
ومن الأمثلة التي توضح الفرق بينهما ما مثل به ابن القيم رحمه الله : « ومن أمثلة ذلك بيع المغيب في الأرض من السلجم والجزر والقلقاس ... وغيره ، فدليل المشروعية أو منعها موقوف على الشارع لا يُعلم إلا من جهته ؛ ودليل سبب الحكم أو شروطه أو مانعه يرجع فيه إلى أهله ؛ فإذا قال المانع من الصحة هذا غرر لأنه مستور تحت الأرض ، قيل كون هذا غرراً أو ليس بغرر يرجع إلى الواقع لا يتوقف على الشرع ؛ فإنه من الأمور العادية المعلومة بالحس أو العادة ، مثل كونه صحيحا أو سقيما ، كبارا أو صغارا.. ونحو ذلك .
__________
(1) - نفسه.
(2) - بدائع الفوائد 4/13.(1/12)
فلا يستدل على وقوع أسباب الحكم بالأدلة الشرعية ، كما لا يستدل على شرعيته بالأدلة الحسية ؛ فكون الشيء مترددا بين السلامة والعطب ، وكونه مما يُجهل عاقبته وتطوى مغبته أو ليس كذلك يعلم بالحس أو العادة لا يتوقف على الشرع ، ومن استدل على ذلك بالشرع فهو كمن استدل على أن هذا الشراب مسكر بالشرع ، وهذا ممتنع بل دليل إسكاره الحس ، ودليل تحريمه الشرع .
فتأمل هذه الفائدة ونفعها ، ولهذه القاعدة عبارة أخرى وهي أن دليل سببية الوصف غير دليل ثبوته ، فيستدل على سببيته بالشرع ، وعلى ثبوته بالحس أو العقل أو العادة ، فهذا شيء وذلك شيء »(1).
إن المتأمل في هذا المثال يتضح له الفرق بجلاء بين دليل مشروعية الحكم وبين دليل وقوع الحكم ، فبيع المغيب في الأرض كالجزر مثلاً إذا قال مانع من صحة البيع إن فيه غررا ، فقوله هذا مركب من ثلاث مقدمات : 1- الجزر مغيب في الأرض ، 2- ما كان مغيباً فهو غرر ، 3- ما كان غررا فبيعه لا يصح .
يقال لهذا المانع ينبغي أن تفرق بين جعل الغرر مانعا من صحة البيع ، إذ مانعية هذا المانع لا تثبت إلا من جهة الشرع ، وبين كون بيع الجزر المغيب في الأرض غرراً لأن هذا الأخير لا يتوقف ثبوته على الشرع ، وإنما يتوقف على الوقوع الذي يرجع فيه إلى أهل الخبرة الذين يقبل خبرهم ، أو إلى الحس أو العقل أو العادة ، ومثل ذلك مثل شراب معين هل هو مسكر أم لا ؟ فإنه لا يستدل على إسكاره أو عدم إسكاره بالشرع ، وإنما بدليل حسي يرجع فيه إلى تجربة معملية ، نعم إذا ثبت أنه مسكر فإنه يستدل بعد ذلك على تحريمه بالشرع .
__________
(1) - بدائع الفوائد 4/13.(1/13)
إن المعرفة بأدلة وقوع الأحكام ، والمتمثلة في الحس أو العادة أو الخبر عنهما ، والمتصلة بمعرفة الواقع ، لا تجعل من صاحبها متأهلاً للحكم على ما عرفه من الواقع بحكم الشرع ، إذ ذلك طور آخر لا يبلغه إلا العالم أو الشادي في العلم كما قرره ابن خلدون – عندما بين أن تعلم العلم من جملة الصنائع -، وذلك مقام هيهات أن يدرك شأوه العامي أو المبتدي ، وليست معرفة الواقع من العلم الذي يحصل به الامتياز حتى يُفتخر به ، بل هو مشترك بين عموم المكلفين ، ولهذا جعله القرافي أهون أنواع الأدلة الثلاثة والمتمثلة في : أدلة المشروعية ، وأدلة الحجاج ، وأدلة الوقوع ، قال رحمه الله بعد أن قرر الفرق بين قاعدة الأدلة وقاعدة الحجاج : «فائدة : هذه الثلاثة الأنواع موزعة في الشريعة على ثلاث طوائف :
1- فالأدلة يعتمد عليها المجتهدون .
2- والحجاج يعتمد عليها الحكام(1).
3- والأسباب يعتمد عليها المكلفون ، كالزوال ورؤية الهلال ونحوهما»(2).
__________
(1) - الحجاج : ما يعتمده القضاة كالبينة ، والإقرار ، والشاهد واليمين ، والشاهد والنكول ، واليمين والنكول ... وهي متوقفة على نصب من جهة صاحب الشرع ، ينظر كتاب الفروق 1/129.
(2) - الفروق 1/129.(1/14)
إن معرفة وقوع هذه الأسباب وما يماثلها من الأحكام الوضعية الأخرى لا تتوقف على نصب من جهة الشارع ، ولا يمكن أن تنحصر لحدوثها شيئا فشيئا ، زمنا بعد زمن ، ولا يعني هذا خلوها من حكم الشارع ، وذلك لعموم الشريعة ، وشمولها لكل ما يقع ، وإنما المقصود بيان أن معرفتها على جهة التفصيل ليست شرطا في العلم ، ولا في الاجتهاد ، إذ الإحاطة بما لا يتناهى ليست باستطاعة البشر ، بل هي من صفات كمال الله جل وعلا الذي أحاط علمه بكل شيء ، ما كان منه وما سيكون ؛ نعم لا يجوز الحكم على الواقعة إلا بعد تصورها ، وتصورها يمكن أن يحصل بالخبر كما يحصل بالحس ؛ فكان ماذا لو جهل العالِم بعض الأمور الواقعة ؟ ومَنْ مِنَ الناس لا يخلو من الجهل ببعض الواقع ؟
علاقة استمداد الأصول بانحصار الأدلة
لقد قام العلماء قديماً بالتأصيل لمسألة توقف الأدلة على الشرع ، فتنبهوا لضرورة استحضار ما تبنى عليه تلك الأدلة ضمن مبحث الاستمداد ، وجعلوا أصول الدين مما تستمد منه قواعد الأصول وأدلة الأحكام ، وذلك لأنها قواعد تنتسب إلى الملة الإسلامية ، ولهذا يسمي بعض العلماء العلومَ المشتملة عليها علوماً ملية أو شرعية أو دينية .
ولبيان وجه ارتباط مبحث الاستمداد بانحصار الأدلة ، لابد أولاً من تصوره ، وتصور صلته بالأدلة ، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره .
يقول العلامة ابن النجار الحنبلي : « ويستمد علم أصول الفقه من ثلاثة أشياء : من أصول الدين ، ومن العربية ، ومن تصور الأحكام . ووجه الحصر الاستقراء .
وأيضا : فالتوقف إما أن يكون من جهة ثبوت حجية الأدلة ، فهو أصول الدين . وإما أن يكون التوقف من جهة دلالة الألفاظ على الأحكام فهو العربية بأنواعها . وإما أن يكون التوقف من جهة تصور ما يُدَلُّ به عليه ، فهو تصور الأحكام »(1).
__________
(1) - شرح الكوكبي المنير 1/48-49.(1/15)
والذي يعنينا هنا استمدادها من أصول الدين ، وقد قال فيه ابن النجار: « أما توقفه من جهة ثبوت حجية الأدلة ، فلتوقف معرفة كون الأدلة الكلية حجة شرعا على معرفة الله تعالى بصفاته ، وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به عنه ، ويتوقف صدقه على دلالة المعجزة »(1).
إن المقصود "بالأدلة الكلية" ما « يتناول الأدلة الإجمالية التي تستفاد منها الأدلة التفصيلية ، والأدلة التي يثبت بها مسائل الأصول »(2).
إن ثبوت حجية الأدلة الكلية متوقف على معرفة مصدر ما يشهد لصحتها ، فلولا أننا نعرف أن ما يشهد لصحتها هو الوحي المتوقف ثبوته على وجود المُرسِل الذي هو الباري جل وعلا ، ووجود المُرسَل الذي هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وثبوت صدقه ، ما اعتمدنا تلك الأدلة ولا رفعنا بها رأساً .
__________
(1) - نفسه 1/49.
(2) - بيان المختصر لشمس الدين الأصفهاني 1/30.(1/16)
إذاً فمعرفة الباري جل وعلا بصفاته والتي منها الصفات المقتضية لإرسال الرسل ، وإنزال الكتب كصفتي عدله ورحمته ونحوهما(1)؛ ومعرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما يثبت صدقه في تبليغه عن ربه جل وعلا ، هما الأساس في إثبات أن القرآن والسنة وحي ينبغي قبول شهادتهما للأدلة بأنها حجة ، يقول العلامة الحسن اليوسي في استمداد علم الأصول من أصول الدين: « وأما من الثالث : فلأن ثبوت الكتاب موقوف على ثبوت صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، الموقوف على ثبوت الألوهية ، المبين في علم الكلام..»(2).
__________
(1) - انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/14 وما بعدها.
(2) - القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم ص: 218..قوله "المبين في علم الكلام"، إنما هو باعتبار ما تضمنته مباحثه من إثبات الباري جل وعلا، ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم، والمتأمل يجد أن هذين المطلبين ليسا قصراً على كتب علم الكلام، بل يوجدان في كتب الاعتقاد السالمة من بدع المتكلمين على أحسن وجه،بل إن إثبات الباري تعالى أمر فطرت عليه= =النفوس البشرية، وإثبات النبوة نصب عليه الله جل وعلا من الآيات الواضحة والبراهين الساطعة ما يتجاوز الاستدلال بالمعجزة التي اقتصر عليها المتكلمون، ومن أعطى النظر حقه يجد أن الشافعي الذي ابتدأ تدوين علم الأصول كان من أشد الناس تحذيراً من علم الكلام ، فهل أسس شيئاً من تأصيله عليه ؟ غير أنه لا يلزم من نص بعض أهل العلم على استمداد أصول الفقه من علم الكلام ، ارتضاؤه علم الكلام منهجا في العقيدة مادام يقصد ذلك المعنى الصحيح الذي قررناه للاستمداد ، ومن أمثال هؤلاء العلامة الشوكاني في إرشاد الفحول حيث قال : " وأما استمداده فمن ثلاثة أشياء : الأول: علم الكلام ؛ لتوقف الأدلة الشرعية على معرفة الباري سبحانه ، وصدق المبلغ ، وهما مبينان فيه، مقررة أدلتهما في مباحثه ... "(1/48)، فقد ألف رحمه الله رسالته" التحف في مذاهب السلف" داعياً إلى الاقتصار على ما كان عليه السلف . نعم الأولى استعمال عبارة العلامة ابن النجار من أن أصول الفقه مستمد من أصول الدين ، فإنها أبعد عن كل التباس .(1/17)
وحيث إن معرفة الباري سبحانه ، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقررة أدلتها في مباحث أصول الدين ، كان أصول الفقه مستمداً من أصول الدين لتوقفه في ثبوت أدلته عليه .
إن توقف حجية القواعد الأصولية على " أصول الدين" هو الذي حدا بأهل العلم إلى جعل مبحث الاستمداد – المُبيِّن لذلك التوقفَ – من مبادئ علم الأصول ومقدماته ، وقد عرَّف شمس الدين الأصفهاني المبادئ عند شرح قول ابن الحاجب في مختصره : " فالمبادئ : حده ، وفائدته ، واستمداده "(1)، بقوله : » المبادئ – باصطلاح المنطقيين – هي : ما يُبدأ به قبل المقصود لذاته ، لتوقف ذات المقصود عليه فقط .
وهي إما تصورات ، وهي : تصور الموضوع ، وأجزائه ، وجزئياته ، وأعراضه الذاتية ، وتسمى : الحدود . وإما تصديقات ، وهي : المقدمات التي تؤلف منها قياسات العلم ، وتسمى : القضايا المتعارفة إن كانت بينة ، وهي المبادئ على الإطلاق . وإلا فإن كان تسليمها مع مسامحة وحسن ظن بالمُعَلِّم ، تسمى : أصولاً موضوعة . وإن كانت مع استنكار وتشكك ، سميت مصادرات . والمبادئ بهذا المعنى من أجزاء العلم .
وقد تطلق على معنىً آخر وهو : ما يبدأ به قبل المقصود ، لتوقف ذاته عليه ، أو تصوره ، أو الشروع فيه . وبهذا المعنى لا يكون من أجزاء العلم بتمامها ، ضرورة دخول الحد وتصور الغاية وبيان الاستمداد فيها ، مع أنها لا تكون من أجزاء العلم .
والمراد بقوله : " المبادئ " هو الثاني ، لا الأول ؛ لأن تصور العلم وتصور غايته وبيان أنه يستمد من أي العلوم ، لا يكون مبادئ بالمعنى الأول ، ويكون مبادئ بالمعنى الثاني ؛ لأن الشروع في العلم وتصوره موقوف عليها «(2).
__________
(1) - مختصر ابن الحاجب مع شرحه بيان المختصر لشمس الدين الأصفهاني 1/12.
(2) - بيان المختصر (شرح مختصر ابن الحاجب) لشمس الدين الأصفهاني 1/12-13.(1/18)
إن تصور موضوع " استمداد أصول الفقه من أصول الدين" وإن لم يكن من أجزاء علم أصول الفقه ، إلا أنه متوقف عليه لشدة ارتباطه به ، بل إن العلوم الشرعية كلها مستمدة من أصول الدين إما مباشرة وإما بواسطة ، وإليك قول العلامة القرافي المقرر لهذه الحقيقة : » إن علم أصول الدين هو أصل العلوم كلها ... ومن فروعه إثبات النبوات بالنظر العقلي في المعجزات ، ومن فروع النبوة علم التفسير ، وعلم الحديث وعلم الأصول التي ينبني عليها الفقه ، ونحو ذلك من فروع علم الفقه ، فهو الغاية والنهاية.
وحينئذ يجب في كل علم هو فرع عن علم آخر أن توجد مقدمات الأصل مُسْتَسْلَفة في ذلك الفرع ، فتوجد حقائقها متصورة كما ثبت في علم الأصل «(1). ولعل السر في ذلك أن أصلَ علمِ المؤمن هو العلمُ بالله وبما أنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وعنه تتشعب علومه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية :» فأصل علمهم وعملهم : هو العلم بالله ، والعمل لله ... ثم من العلم به تتشعب أنواع العلوم ، ومن عبادته وقصده تتشعب وجوه المقاصد الصالحة «(2).
__________
(1) - نفائس الأصول في شرح المحصول 1/163-164.
(2) - مجموع الفتاوى 2/15-16.(1/19)
لقد كان أهل العلم على دراية دقيقة بما تبنى عليه العلوم الشرعية ، وبكيفية بنائها ، وما يتوصل به إلى بناء العلم توصلا قريباً ، وما يتوصل به توصلا بعيداً ، وتأمل نموذجاً من كلام العلامة التفتازاني عند شرحه لتعريف صدر الشريعة عبيد الله المحبوبي لعلم أصول الفقه بأنه : " العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه على وجه التحقيق" ، قال رحمه الله : » والتوصل القريب مستفاد من الباء السببية الظاهرة في السبب القريب ، ومن إطلاق التوصل إلى الفقه ، إذ في البعيد يتوصل إلى الواسطة ومنها إلى الفقه ، فيخرج العلم بقواعد العربية والكلام لأنها من مبادئ أصول الفقه ، والتوصل بهما إلى الفقه ليس بقريب ، إذ يُتوصل بقواعد العربية إلى معرفة كيفية دلالة الألفاظ على مدلولاتها الوضعية ، وبواسطة ذلك يُقتدر على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة ، وكذلك يُتوصل بقواعد الكلام إلى ثبوت الكتاب والسنة ووجوب صدقهما ليُتوصل بذلك إلى الفقه .(1/20)
والتحقيق في هذا المقام أن الإنسان لم يخلق عبثاً ولم يترك سدىً ، بل تَعَلَّق بكل من أعماله حكمٌ من قِبَل الشارع منوط بدليل يخصه ليُستنبَط منه عند الحاجة ، ويُقاس على ذلك الحكمِ ما يناسبه لتعذر الإحاطة بجميع الجزئيات ، فحصلت قضايا موضوعاتُها أفعالُ المكلفين ، ومحمولاتُها أحكامُ الشارع على التفصيل ، فسُمِّي العلمُ الحاصل من تلك الأدلة فقهاً ، ثم نظروا في تفاصيل تلك الأدلة والأحكام وعمومها فوجدوا الأدلةَ راجعةً إلى الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، والأحكامَ راجعةً إلى الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة ، وتأملوا في كيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالا من غير نظر إلى تفاصيلهما إلا على طريق المثال ، فحصل لهم قضايا كليةٌ متعلقة بكيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالاً وبيان طرقه وشرائطه ، ليُتوصل بكل من تلك القضايا إلى استنباط كثير من تلك الأحكام الجزئية عن أدلتها التفصيلية ، فضبطوها ودونوها وأضافوا إليها من اللواحق والمتممات وبيان الاختلافات ما يليق بها ، وسموا العلمَ بها أصولَ الفقه ، فصارت عبارة عن العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه «(1).
__________
(1) - شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه لسعد الدين التفتازاني 1/35-36.(1/21)
إن استحضار التوقف هنا على ذلك الأمر الخارجي إما أن يكون محققاً للبصيرة أو لكمالها في : دراسة علم الأصول ، وإدراك أن قواعده تستمد حجيتها من ثبوت ما بُنيت عليه ، حتى ينشأ التحرز من الوقوع في الدعوة إلى تجديد الأصول والقواعد بتغييرها ، تلك الدعوة المبنية على انعدام البصيرة فيما بنيت عليه قواعد علم "أصول الفقه" ، قال صاحب كشاف اصطلاحات الفنون في سياق تعريفه للنوع الخارجي من المبادئ : »..ما يكون خارجاً يتوقف عليه الشروع فيه ، ولو على وجه البصيرة ، أو على وجه كمال البصيرة ووفور الرغبة في تحصيله ، بحيث لا يكون عبثاً عرفاً أو في نظره ، كمعرفة العلم برسمه المفيد لزيادة البصيرة ومعرفة غايته «(1).
إن الحاجة تشتد - أكثر من ذي قبل - إلى استحضار معنى استمداد أصول الفقه من أصول الدين ، بل إن إشاعة دراسة هذا المبحث في المصنفات المعاصرة من آكد الضروريات ، خاصة وأننا نرى من لا بصيرة له - في فهم ما استمدت منه تلك القواعد - يذهب إلى اعتقاد أنها بنيت على الاجتهاد المجرد ، مما يسوغ له إعادة النظر فيها ، دون التفطن إلى أمر في غاية الوضوح عند العلماء ألا وهو :
إن اجتهاد السلف في صياغة القواعد والأدلة ليس اجتهاداً مبنيا على الرأي المحض ، وإنما هو اجتهاد في تَطَلُّبِ ما يشهد لها بالاعتبار من الكتاب والسنة ، ولهذا نجد في الكتب المطولة " لأصول الفقه " مبحث الحجية تحت كل دليل ، تُسْتَوفَى فيه أدلة حجية ذلك الدليل الكلي من الكتاب والسنة وعمل الصحابة .
__________
(1) - كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 1/16.(1/22)
إن الأدلة كلها ترجع إلى الكتاب والسنة كما قرره العلامة ابن القيم عند حديثه عن الدليل المتوقف على الشارع ، قال رحمه الله : « فالأول : الكتاب والسنة ليس إلا ، وكل دليل سواهما يستنبط منهما »(1)، وهو نظير قول الشاطبي المتقدم ، وإنما أكرره لدقة هذه المسألة ، قال رحمه الله : « إن الأدلة الشرعية في أصلها محصورة في الضرب الأول »(2)، أي ما يرجع إلى النقل المحض وهما الكتاب والسنة ، ثم علل ما ذهب إليه بقوله : « لأنا لم نثبت الضرب الثاني بالعقل »(3)، والضرب الثاني ما يرجع إلى الاجتهاد ، فإنه لم يثبته العلماء بالعقل المحض ، وإلا كان نوعاً من بناء القواعد على محض التشهي ، وصياغة الأدلة على مجرد الهوى ؛ والناظر في تعليل العلماء لرد بعض الأدلة كالاستحسان عندما عرف بأنه « دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه » ، يقول في ذلك صاحب المراقي :
« وردُّ كونه دليلاً ينقدحْ
ويَقْصُرُ التعبيُر عنه مُتَّضِحْ »(4)
وقال الآمدي: «.. ولاشك أن الاستحسان قد يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني ، وإن كان مستقبحا عند غيره... وليس ذلك هو محل الخلاف لاتفاق الأمة قبل ظهور المخالفين على امتناع أن يحكم المجتهد في شرع الله تعالى بشهواته وهواه ، من غير دليل شرعي.»(5)، قلت الناظر في تعليل رد بعض الأدلة يجد أن ذلك التعليل بُني على أن الدليل الكلي إن لم يدل على صحته الدليل الشرعي فإنه يُعَدُّ قولاً بالتشهي .
__________
(1) - بدائع الفوائد 4/13.
(2) - الموافقات 3/228.
(3) - الموافقات 3/228.
(4) - نشر البنود على مراقي السعود 2/263.
(5) - الإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين الآمدي 3/200.(1/23)
إذاً الأدلة المبنية على الاجتهاد لم تثبت بالنظر الصِّرف ، والعقل المحض ، قال الشاطبي : «.. وإنما أثبتناه بالأول »(1)أي بالكتاب والسنة ، ثم علل سبب إثباته بالكتاب والسنة فقال : « إذ منه قامت أدلة صحة الاعتماد عليه »(2).
فهل يعقل أن ينصرم عصر الصحابة والتابعين ولما يبحثوا المناهج التي يُبنى عليها الاستنباط في دينهم ؟ ألم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك »(3)؟ وهل إذا فاتت الصحابةَ والتابعين الأصولُ التي تبنى عليها أحكام دينهم ، أليس يقع الخُلف في خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يتم ظهور الصحابة والتابعين – مع أنهم خير القرون - على الحق ؟ وهل يعقل أن تخرج الأصول والأدلة عن الحق الذي تظهر عليه الطائفة المنصورة ؟
إن الله جل وعلا اقتضت حكمته أن لا يُخلي عصراً من قائمٍ له بالحجة ، وظاهر بالمحجة ، حتى لا تبطل الشريعة ، قال الأستاذ أبو إسحاق : « وتحت قول الفقهاء : لا يخلي اللهُ زماناً من قائم لله بالحجة ، سرٌّ عظيم ، وكأن الله تعالى ألهمهم ذلك ؛ ومعناه أن الله تعالى لو أخلى زماناً من قائم بالحجة لزال التكليف ، إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة ، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة »(4).
__________
(1) - الموافقات 3/228.
(2) - نفسه.
(3) - أخرجه مسلم في "الصحيح" في كتاب الإمارة 3/1523، ورواه بألفاظ قريبة من هذه الرواية البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين 1/31.
(4) - الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض، للسيوطي ص: 27، والبحر المحيط، للزركشي 4/497.(1/24)
وكما أن من مقاصد العلوم الشرعية إقامةَ الحجة على الخلق ، فكذلك من مقاصدها بل من أعظمها إقامة العبودية للخالق ، فإذا كان الأمر كذلك فهل يعقل أن يغفل السلف الصالح الاشتغال بما يعين على تحقيق تلك العبودية ، ويساعد على قيام الحجة على الخلق ، قال الشاطبي رحمه الله : «كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى ، لا من جهة أخرى ، فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني ، لا بالقصد الأول ، والدليل على ذلك أمور:
أحدها : ما تقدم في المسألة قبل أن كل علم لا يفيد عملا ، فليس في الشرع ما يدل على استحسانه ، ولو كان له غاية أخرى شرعية ، لكان مستحسناً شرعا ، ولو كان مستحسنا شرعا ، لبحث عنه الأولون من الصحابة والتابعين ، وذلك غير موجود ، فما يلزم عنه كذلك..»(1)
ولاشك أن مدارك الأحكام ، وقواعد الأدلة ، قد دل الشرع على استحسانها وطلبها حتى جعلها أهل العلم من أهم فروض الكفايات ، وما كان مستحسنا شرعا فإن الهمم تتوافر على إشباعه بحثاً ، وقتله دراسة .
وإلا فقولوا بربكم كيف يتصور أن تكون هممُ السلف أسفلَ الهمم حتى يُعْتقد أنهم أغفلوا مناهج استنباط الأحكام ، وتقرير القواعد المعينة على تنزيل الأحكام على الوقائع ؟.
ولقد استشكل الشيخ عبد الله دراز قول الشاطبي: « ولو كان مستحسنا شرعا ، لبحث عنه الأولون من الصحابة والتابعين..» ، فقال : « ممنوع ، فكم من علم شرعي لم يبحث عنه الأولون لعدم الحاجة إليه عندهم ؟ وأقربها إلينا علم الأصول ، ولم يبدأ البحث في تأصيل مسائله في عهد الصحابة والتابعين »(2)؛ إن هذا الاعتراض مبني على عدم إعطاء المسألة حقها من النظر ، وإلا فإن الصحابة اشتغلوا بأصول الفقه اعتماداً عليه عند الاستنباط سليقة كما قال صاحب المراقي :
« أول من ألفه في الكتبِ
محمد بن شافع المطلبِ
__________
(1) - الموافقات 1/73-74.
(2) - الموافقات 1/73، الهامش رقم: 3.(1/25)
وغيرُه كان له سليقةْ
مثل الذي للعرب من خليقةْ »(1)
ولم يخطر ببال العلامة الشاطبي أن الصحابة والتابعين اشتغلوا بمثل أصول الفقه تأصيلا لمسائله واحتجاجاً لها ، وإنما كانوا يصدرون عنه ، ويبنون عليه مثله مثل معرفة العرب للنحو ، قال العلامة عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي : « إن غير الشافعي من المجتهدين كالصحابة فمن بعدهم كان معرفة علم الأصول سليقة له ، أي مركوزا في طبيعته ، كما كان علم العربية من نحو وتصريف وبيان خليقة – أي مركوزا - في طبائع العرب فطرة فطرهم الله عليها .
والألقاب كاسم المبتدأ والخبر ، والفاعل والمفعول ، وغير ذلك اصطلاحات وضعها أئمة النحو ؛ وكذلك وضع أئمة الأصول الذين صنفوا فيه اسم المنطوق والمفهوم ، والفحوى والمخالفة ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، وغير ذلك »(2).
وممن قرر هذا المعنى أيضا العلامة القرافي في كتابه العُجاب " نفائس الأصول في شرح المحصول" حيث قال : » .. لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل ولا كثير ، فإن كل حكم شرعي لابد له من سبب موضوع ، ودليل يدل عليه وعلى سببه ، فإذا ألغينا أصول الفقه ألغينا الأدلة ، فلا يبقى حكم ولا سبب ، فإن إثبات الشرع بغير أدلته ، وقواعدها بمجرد الهوى خلاف الإجماع ، ولعلهم لا يعبئون بالإجماع ، فإنه من جملة أصول الفقه ، أو ما علموا أنه أول مراتب المجتهدين ، فلو عدمه مجتهد لم يكن مجتهداً ، غاية ما في الباب أن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لم يكونوا يتخاطبون بهذه الاصطلاحات ، أما المعاني فكانت عندهم قطعاً «(3).
__________
(1) - نشر البنود على مراقي السعود لعبد الله الشنقيطي 1/14.
(2) - نفسه.
(3) - نفائس الأصول في شرح المحصول 1/100 .(1/26)
إن نشوء الاصطلاح بعد الأولين لا يلزم منه حدوث العلم بعدهم ، لأن الاصطلاح ليس إلا تعبيراً عن نفس واقع ذلك العلم من أدلة ، وكيفية استعمالها ، والاصطلاح إنما تدعو الضرورة إليه وتشتد بسبب الحاجة إلى نقل ذلك العلم ، وإلا لَعَسُر نقل مناهج الاستنباط إلى من بعدهم ، ولنتصور نقلا لمناهج الاستنباط قائماً على قولنا مثلا: « تلك الآية يستعمل فيها مسلك عمر الفلاني في الآية كذا ، أو مسلك علي العلاني في الاستنباط في تلك القضية المعينة »!!؟
نعم توسع الاصطلاح توسعا كبيراً لا يخلو أحياناً من غلو ، أو من تأثر بطرائق علمي المنطق والكلام ، ولكن ليس البحث الآن عما شاب هذا العلم ، وإنما الحديث عن التأصيل الذي تشهد لصحته الأدلة المعتبرة من الكتاب والسنة ، واستقراء طرائق الصحابة والتابعين .
وممن استشكل كلامَ العلامةِ الشاطبي أيضاً الشيخُ محمد الخضر حسين قال رحمه الله : « من العلوم ما تقتضيه حال العصر، كعلم الكيمياء والهندسة ، ومباحث الحرارة والكهرباء ، وقاعدة وزن الثقل ، وما يشاكلها من العلوم التي لا يمكن الخلاص من الأعداء إلا بالقيام عليها ، ولم يبحث عنها الأولون من الصحابة والتابعين ، لأن الحاجة الداعية إلى تعلمها لم تظهر في ذلك العهد بمثل الوجه الذي ظهرت به اليوم »(1).
إن هذا الاعتراض بكون هذه العلوم نافعة نشأ أيضا عن عدم إعطاء المسألة ما تستحقه من التأمل ، وإلا فإن البحث ليس في كون العلوم نافعة ، وإنما في كونها شرعية ، وهل يُنَزِّل العلامة محمد الخضر حسين هذه العلوم التي وصفها بقوله : « لأن الحاجة الداعية إلى تعلمها لم تظهر في ذلك العهد بمثل الوجه الذي ظهرت به اليوم » منزلة العلوم الشرعية التي اشتدت الحاجة إليها ، ووجد المقتضي لها في عصر الصحابة فضلا عن عصر التابعين .
__________
(1) - الموافقات 1/73-74، الهامش رقم: 3.(1/27)
إن هذا الملحظ هو الذي جعل أهل العلم يقررون أن مرتبة المجتهد المستقل فقدت ، وأنه لا سبيل إلى إحيائها ، لأنها قائمة على الاستقلال بأصول ، بخلاف درجة المجتهد المطلق ، وفي ذلك يقول العلامة السيوطي: « لهج كثير من الناس اليوم بأن المجتهد المطلق فقد من قديم ، وأنه لم يوجد من دهر إلا المجتهد المقيد ، وهذا غلط منهم ما وقفوا على كلام العلماء ، ولا عرفوا الفرق بين المجتهد المطلق والمجتهد المستقل ، والمجتهد المنتسب ، وبين كل ما ذكر فرق ، ولهذا ترى أن من وقع في عبارته أن المجتهد المستقل مفقود من دهر ، ينص في موضع آخر على وجود المجتهد المطلق .
والتحقيق في ذلك أن المجتهد المطلق أعم من المجتهد المستقل ، وغير المجتهد المقيد ، فإن المستقل هو الذي استقل بقواعده لنفسه يبني عليها الفقه خارجا عن قواعد المذاهب المقررة ، وهذا شيء فُقِد من دهر، بل لو أراده الإنسان اليوم لامتنع عليه ، ولم يجز له ، نص عليه غير واحد ؛ قال ابن برهان في كتابه في الأصول : " أصول المذاهب ، وقواعد الأدلة منقولة عن السلف "(1)، فلا يجوز أن يحدث في الأعصار خلافها .
وقال ابن المنير : " أَتْباع الأئمة الآن الذين حازوا شروط الاجتهاد مجتهدون ملتزمون أن لا يحدثوا مذهبا ؛ أما كونهم مجتهدين فلأن الأوصاف قائمة بهم ، وأما كونهم ملتزمين أن لا يحدثوا مذهبا ، فلأن إحداث مذهب زائد بحيث يكون لفروعه أصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين متعذر الوجود ، لاستيعاب المتقدمين سائر الأساليب " هذا كلام ابن المنير وهو من أئمة المالكية ، وذكر نحوه ابن الحاج في المدخل(2)وهو مالكي أيضا ، وأما ابن برهان المنقول عنه أولا فمن أصحابنا .
__________
(1) - الوصول إلى الأصول لابن برهان 2/352.
(2) - انظر المدخل 1/75-76.(1/28)
وأما المجتهد المطلق غير المستقل فهو الذي وجدت فيه شروط الاجتهاد التي اتصف بها المجتهد المستقل ، ثم لم يبتكر لنفسه قواعد ، بل سلك طريقة إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد ، فهذا مطلق منتسب لا مستقل ولا مقيد..»(1).
انظر إلى قول السيوطي : « المستقل هو الذي استقل بقواعده لنفسه يبني عليها الفقه خارجا عن قواعد المذاهب المقررة ، وهذا شيء فقد من دهر، بل لو أراده الإنسان لامتنع عليه ، ولم يجز له ، نص عليه غير واحد »، وإلى قول ابن برهان : « أصول المذاهب ، وقواعد الأدلة منقولة عن السلف » وما علق عليه به السيوطي حيث قال : « فلا يجوز أن يحدث في الأعصار خلافها » وانظر أيضا إلى قول ابن المنير: «.. إحداث مذهب زائد بحيث يكون لفروعه أصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين متعذر الوجود ، لاستيعاب المتقدمين سائر الأساليب ».
إن السلف قد فرغوا من أمر القواعد والأصول ، وما ذلك إلا لأن الشارع أناط بناء الأحكام بها ، فصارت هذه القواعد مِلِّية ، لابد لها من دليل شرعي يدل عليها ، ويحتج به لها ، فهي ليست بمحض الرأي ، أو خالص العقل.
علاقة شمول الفتيا للأصول بانحصار الأدلة
إن القواعد والأصول من مشمولات الفتيا ، وليست من مشمولات الحكم ، ومعنى ذلك أنها جزء من الشريعة ، فليس للعالم إلا مجرد الإخبار فيها عن الشارع ، وليس له أن ينشئ منها ما يشاء ، ولا تخرج المدارك بالاتفاق أو بالاختلاف فيها عن الشريعة ، وذلك لأنها من الأمور المشتركة التي تدخل في الشرع العام ، والذي لا يجوز لحاكم أن يحكم فيه ، لأن الحكم فيه من اختصاص الله جل وعلا ، وإنما أبيح للناس الفتيا فيه إذا كانوا من أهل العلم ، قال العلامة القرافي رحمه الله في " تمييز الفتاوى عن الأحكام " : « السؤال السابع عشر.
__________
(1) - الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي ص: 38-39.(1/29)
إذا حكم الحاكم بمُدرك مختلف فيه ، كشهادة الصبيان ، أو الشاهد واليمين ، أو العوائد المختلف في اعتبارها ، كعادة الأزواج في النفقة ، هل هي عادة تُصَيِّرُ القول قول الزوج أم لا ؟ وهل يكون ذلك حكما بذلك المُدرَك أم لا ؟ وهل لأحد نقضُه لبطلان المُدرك عنده ويقول : هذا الحكم عندي بغير مُدرك ، فإن شهادة الصبيان والعَدَم سواء ، والحكم بغير مُدرك ، يُنقض إجماعا ، فأنقض هذا الحكم ؟ أم ليس لأحد ذلك ؟
جوابه
أن المدرَك المُختلف فيه قسمان :
تارة يكون في غاية الضعف ، فهذا يُنقض قضاء القاضي إذا حكم به ، لأنه لا يصلح أن يكون معارضا للقواعد الشرعية ، فيكون هذا الحكم على خلاف القواعد ، وما كان على خلاف القواعد الشرعية من غير معارض يُقَدَّمُ عليها ، نُقِض إجماعا .
وإن كان المُدرك متقاربا مع ما يعارضُه في الشريعة : فهاهنا خلافان : أحدهما في المدرك ، والآخر في الحكم المترتب عليه . فإذا حكم الحاكم بذلك الذي يقتضيه ذلك المُدرك امتنع نقض ذلك الحكم ، لاتصال حكم الحاكم به .
وليس حُكمه بأحد القولين في الحكم حكما منه بأحد القولين في المُدرك ، ولو كان كذلك لامتنع الخلاف بعد ذلك في الشاهد واليمين ، لكون بعض الحكام حَكَم به ، لكنه لا يرتفع الخلاف في هذه المدارك أبدا إلا أن ينعقد إجماعٌ في عصرٍ من الأعصار على أحد القولين فيها .
فظهر حينئذٍ أن الحكم بالمُدرك المختلف فيه ليس حُكما بالمُدرك ، بل بمقتضاه .
ويوضحه أن الحاكم لم يقصد الإنشاء في نفسه إلا في إِثْر ذلك المُدرك ، لا في ذلك المُدرك ، بل القضاء في المدارك محال ، لأن النزاع فيها ليس من مصالح الدنيا بل من مصالح الآخرة .(1/30)
وتقرير قواعد الشريعة وأصول الفقه : كُلُّه من هذا الباب ، لم يجعل الله تعالى لأحد أن يحكم بأحد القولين فيه ويُعينه بالحكم ، بل إنما يجعل له أن يُفتي بأحد القولين ، والفُتيا لا تمنع خصمه أن يُفتي بما يراه أيضا ، بخلاف الحكم يمنع خصمه من مذهبه ، ويُلجئه إلى القول المحكوم به »(1).
إن هذا النص النفيس تضمن فوائد عظيمة يمكن إجمالها فيما يلي :
1- قسم المدارك المختلف فيها إلى قسمين ، سواء كانت هذه المدارك حِجاجاً تبنى عليه أحكام القضاة كما مر في تعريف الحجاج ، أو كانت المدارك قواعد الشريعة وأصول الفقه ، ولهذا قال في آخر جوابه : « وتقرير قواعد الشريعة وأصول الفقه : كله من هذا الباب..».
وأما قِسْما المدارك المختلف فيها فهما :
أ- المُدرك الضعيف ضعفاً شديداً ، وهذا القسم من المدارك يُنقض مع ما يُبنى عليه ، فكل دليل كلي ، وكل قاعدة لم تبن على أدلة معتبرة شرعا فإنها مردودة على قائلها ، فليست العبرة في قبول قول المخالف في التأصيل كونه قد اجتهد كما يوهمه كلام بعض المعاصرين ، وإنما العبرة بسلامة ما بنى عليه اجتهاده ، وقوة ما أسس عليه تأصيله ؛ قال العز ابن عبد السلام : « من العجب العجيب ، أن يقف المقلد على ضعف مأْخذ إمامه ، وهو مع ذلك يقلده كأن إمامه نبي أرسل إليه ، وهذا نأي عن الحق ، وبعد عن الصواب ، لا يرضى به أحد من أولي الألباب ، بل تجد أحدهم يناضل عن مقلده ، ويتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ، ويتأولها ، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس ، فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن عليه نفسه ، تعجب منه غاية التعجب لما ألفه من تقليد إمامه ، حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه..»(2).
__________
(1) - الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص: 82-83.
(2) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لعز الدين بن عبد السلام ص: 305.(1/31)
إن السبب في رد القول الضعيف إذاً ضعف مأخذه ومدركه ، وبناءً على هذا فالمدرك الضعيف أولى بالرد ، وأحق بالنقض .
ب- المدرك المتقارب مع ما يخالفه ، وهذا القسم ليس قولٌ منه بأولى من قول ، ولن يرتفع الخلاف الواقع فيه إلا في صورة واحدة ذكرها القرافي بقوله : « لكنه لا يرتفع الخلاف في هذه المدارك أبدا ، إلا أن ينعقد إجماع في عصر من الأعصار على أحد القولين فيها »، نعم ينبغي على كل من يريد الله والدار الآخرة أن يحرص على اختيار أرجح المدارك ، وترجيح أقوى الأدلة .
لكن هل يعني الحرص على أقوى الأدلة ، وتطلب أرجح المدارك ، إزالة الاختلاف في المدارك ؟ وهل بقاء الاختلاف مسوغ لإنشاء مدارك جديدة ، وقواعد مستحدثة ؟ وهل الحق يخرج عما اختلفوا فيه ؟
إن الحق لو خرج عن أقوالهم جميعا للزم انصرام تلك القرون الأولى وقد فاتتها أجزاء من الحق لم تظهر عليها ، وخاصة أن هذه الأجزاء عليها بناء فهم الدين ، واستنباط أحكامه ، وهذا من أبطل الباطل .(1/32)
وكشأن أي اختلاف لا يجوز للمسلم أن يختار منه بمجرد الهوى والتشهي ، بل لابد أن يستند في الاختيار إلى دليل معتبر(1)، قال العلامة الشاطبي : « الناظر في المسائل الشرعية إما ناظر في قواعدها الأصلية ، أو في جزئياتها الفرعية ، وعلى كلا الوجهين فهو إما مجتهد أو مناظر، فأما المجتهد الناظر لنفسه ، فما أداه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقه ، إلا أن الأصول والقواعد إنما ثبتت بالقطعيات ، ضرورية كانت أو نظرية ، عقلية أو سمعية ، وأما الفروع فيكفي فيها مجرد الظن على شرطه المعلوم في موضعه ، فما أوصله إليه الدليل ، فهو الحكم في حقه أيضا ، ولا يفتقر إلى مناظرة ، لأن نظره في مطلبه إما نظر في جزئي ، وهو ثان عن نظره الكلي الذي ينبني عليه ؛ وإما نظر في كلي ابتداءً ، والنظر في الكليات ثانٍ عن الاستقراء ، وهو محتاج إلى تأمل واستبصار وفسحة زمان يسع ذلك..»(2)، فلابد للناظر إذا في مسائل الأصول ، وقواعد الشرع من الاجتهاد في تحري الراجح من تلك المدارك المتقاربة ، وما أداه إليه اجتهاده بعد التأمل والاستبصار فهو الحكم في حقه ، وليعلم أن الحق لا يخرج عما قرروه ، فليختر أعدل أقوالهم ، وأسعدها بالدليل .
2- قرر العلامة القرافي في نصه أيضا أن أمر المدارك حجاجاً كانت أو قواعد شريعة ليست من مجالات الحكم ، بل هي من مجالات الفتيا ومشمولاتها ، وفي ذلك يقول القرافي : «.. بل القضاء في المدارك محال ، لأن النزاع فيها ليس من مصالح الدنيا ، بل من مصالح الآخرة .
__________
(1) - انظر جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/913، وإرشاد المقلدين عند اختلاف المجتهدين لباب بن الشيخ سيدي الشنقيطي ص: 106. والموافقات 5/94.
(2) - الموافقات 5/406.(1/33)
وتقرير قواعد الشريعة وأصول الفقه : كله من هذا الباب ، لم يجعل الله تعالى لأحد أن يحكم بأحد القولين فيه ويُعيِّنه بالحكم ، بل إنما يجعل له أن يفتي بأحد القولين ، والفتيا لا تمنع خصمه أن يُفتي بما يراه أيضا ، بخلاف الحُكْم يمنع خصمه من مذهبه ، ويُلجِئه إلى القول المحكوم به » .
إن هذه الفائدة الثانية فائدة جليلة تنْحَلُّ باتضاحها إشكالات كثيرة ، وهي لن تتضح إلا بتصور الفرق بين الحكم والفتيا ، لأنه قد يشتبه بعضهما ببعض ، ومن أشد أهل العلم اعتناء ببيان ما بينهما من الفروق الإمام العلامة القرافي في كتابيه " الفروق " و" الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام " .
والفروق بينهما كثيرة منها ما يرجع إلى حقيقة كل منهما ، ومنها ما يرجع إلى مجالاتهما وتوابعهما :
- فالفروق في حقيقتهما أن حكمَ القاضي إنشاءٌ لا إخبارٌ، فهو « إنشاءُ إطلاقٍ أو إلزامٍ في مسائل الاجتهاد المتقارب فيما يقع فيه النزاع لمصالح الدنيا »(1).
__________
(1) - الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي، ص: 33 .(1/34)
وأما الإفتاء فهو إخبارٌ لا إنشاء ، » إخبارُ من عُرِفت أهليتُه بحكمٍ شرعي «(1)، ولهذا كان أهونَ من حُكْمِ القضاء ، قال ابن القيم نقلا عن بعض أهل العلم : « المفتي أقرب إلى السلامة من القاضي ، لأنه لا يُلزِم بفتواه ، وإنما يُخبر بها من استفتاه ، فإن شاء قَبِل قوله ، وإن شاء تركه . وأما القاضي فإنه يُلزِم بقوله ، فيشترك هو والمفتي في الإخبار عن الحكم ، ويتميز القاضي بالإلزام..»(2). إن العلامة ابن القيم لما نظر إلى المقصود بإنشاء الحكم والمتمثل في الإخبار به - جعل الحكم إخباراً ، لكنه فرق بينه وبين الفتيا بوجود الإلزام وعدمه . وهو – رحمه الله – لا يقصد نفي ما في الحكم من الإنشاء الذي يفارق به الفتيا ، غاية ما في الأمر أنه نظر إلى مرتبة أخرى من مراتب الحكم ألا وهي الإخبار به بعد إنشائه ؛ ولهذا ليس بين قوله وقول القرافي اختلاف حقيقي ، وإنما هو خلاف بسبب اختلاف الاعتبار.
غير أن ما ذهب إليه القرافي أوضح في التعريف ، وذلك بسبب أنه نظر إلى أول مراتب الحكم ، ألا وهي إنشاؤه ، ولا ريب أنها تسبق مرتبة الإخبار به ، والقاعدة المقررة أن » الكلام أبداً في الحقائق إنما يقع فيما هو في المرتبة الأولى لا فيما بعدها «(3). بل إن الحكم يوجد أحيانا من غير إخبار، فقد يكون الحكم بالفعل دون القول كبيع الحاكم للعبد الذي أعتقه من أحاط الدَّيْن بماله ، فإن نفس ذلك البيع مبطل للعتق من غير احتياج إلى إخبار بلفظ(4).
__________
(1) - انظر خواتم الذهب على المنهج المنتخب ص:89-90 .
(2) - إعلام الموقعين 1/29 .
(3) - الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص: 34 .
(4) - انظر الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص:130-131، وتبصرة الحكام لابن فرحون 1/101، والطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية على مذهب المالكية لمحمد جعيط ص:241.(1/35)
إن ذلك الخلاف في تعريف الحكم – إن عُدَّ اختلافاً- لا تأثير له ، بسبب اتفاق الجميع على التفريق بين الفتيا والحكم ، نعم نشأ في هذا العصر من لم يتفطن للفرق بينهما ، فأوقعه ذلك في الخلط بين مشمولات كل منهما حتى جعل ما يختص بالفتيا من مجالات الحكم ومحتوياته ، ورحم الله العلامة محمد النابغة الشنقيطي – الذي عقد في نظمه ما نثره الهلالي في شرحه لمقدمة المختصر الخليلي- إذ يقول:
» وبَعْضُهُمْ مِنْ قِلَّةِ الإِحْكامِ
قَدْ يَحْسِبُ الفَتْوَى مِنَ الأَحْكَامِ
وَالفَرْقُ أَنَّ الْحُكْمَ ذُو إِلْزامِ
وَهي لَمْ تَلْزَمْ بِلاَ التِزَامِ «(1)
وقد مثل الإمام القرافي لمنصبي الحكم والفتيا بمثال يتضح به ذلك الفرق بينهما فقال : « مثال الحاكم والمفتي مع الله تعالى – ولله المثل الأعلى - مثال قاضي القضاة يولي شخصين ، أحدهما نائبه في الحكم ، والآخر ترجمان بينه وبين الأعاجم .
فالترجمان يجب عليه اتباع تلك الحروف والكلمات الصادرة عن الحاكم ، ويُخبر بمقتضاها من غير زيادة ولا نقص . فهذا هو المفتي يجب عليه اتباع الأدلة بعد استقرائها ، ويخبر الخلائق بما ظهر له منها من غير زيادة ولا نقص..»(2).
ثم قال : « ونائب الحاكم في الحكم يُنشئ من إلزام الناس ، وإبطال الإلزام عنهم ، ما لم يقرره مستنيبه الذي هو القاضي الأصلي ، بل فوض ذلك لنائبه.. فهذا مثال الحاكم والمفتي مع الله تعالى ، وليس له أن ينشئ حكما بالهوى واتباع الشهوات..»(3).
قال ميارة في " تكميل المنهج المنتخب" :
« إِخْبارٌ الفَتْوى كَمَنْ يُتَرْجِمُ
والحُكْمُ إِنْشاءٌ كنائبٍ اعْلَمُوا »(4)
__________
(1) - بوطليحية ، نظم في المعتمد من الكتب والفتوى على مذهب المالكية ، ص: 151.
(2) - الإحكام في تمييز الفتاوى والأحكام ص: 43.
(3) - نفسه ص: 44.
(4) - بستان فكر المهج على تكميل المنهج لمحمد بن أحمد ميارة الفاسي، ص : 83.(1/36)
- وأما الفروق في مجالاتهما ، فالحكم يكون فيما يقع النزاع فيه لأجل مصالح الدنيا ، ولا يكون إلا جزئيا لتعلقه بقضايا الأعيان ، ولهذا لا يدخل الحكمُ العباداتِ وأسبابَها وشروطَها وموانعها ، ومداركَ الأحكام من حِجاج وقواعد شريعة وأصول فقه لأن النزاع فيها وقع لأجل الآخرة ، فتكون من مشمولات الفتيا ، وقد مر معنا في نص القرافي في تعليله عدم شمول الحكم للمدارك قوله : « القضاء في المدارك محال ، لأن النزاع فيها ليس من مصالح الدنيا بل من مصالح الآخرة .
وتقرير قواعد الشريعة وأصول الفقه : كله من هذا الباب ، لم يجعل الله تعالى لأحد أن يحكم بأحد القولين فيه ويعينه بالحكم »(1).
إن الفتيا شريعة عامة يشمل مجالها جميع المكلفين ، والحكم لا يكون إلا جزئيا خاصا لأن مجاله القضايا المعينة ، يقول العلامة القرافي : »..الفتيا شرع عام على المكلفين إلى قيام الساعة ، والحكم يختص بالوقائع الجزئية الخاصة «(2)؛ ومن هذه الحيثية تكون الفتيا أخطر من الحكم ، قال العلامة ابن القيم : «.. ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى ، فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره .
وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله ، فالمفتي يفتي حكما عاما كليا أن من فعل كذا ترتب عليه كذا ، ومن قال كذا لزمه كذا ، والقاضي يقضي قضاء معينا على شخص معين ، فقضاؤه خاص مُلزِم ، وفتوى العالم عامة غير مُلزِمة..»(3).
وقد جمع هذه الفروق صاحب "المنهج المنتخب" فقال :
« وَالحُكْمُ إِنْشَاءُ -كَلامٍ قُرِّراَ
فِي النَّفْسِ – إِلْزَاماً، وَقَدْ تَأَثَّراَ
بِهِ الذِي تَقارَبَتْ مَدارِكُهْ
وبِاجْتِهادٍ تَنْجَلِي مَسالِكُهْ
لِأَجْلِ ما يَصْلُحُ مِن دُنْيا، وَقَدْ
اخْتَصَّ بالفُتْيَا جَمِيعُ ما وَرَدْ
مِنَ العِباداتِ وما قَدْ مَنَعَا
__________
(1) - الإحكام للقرافي ص: 83.
(2) - نفسه ص: 92-93.
(3) - إعلام الموقعين 1/30-31.(1/37)
مِنْها وَأَسْبَابٍ شُروطٍ جُمَعَا
وَما لِلْآخِرَةِ فِيهِ اخْتُلِفاَ
وَرَسْمُها إِخْبَارُ مَنْ قَدْ عُرِفاَ
بِأَنَّهُ أَهْلٌ بِحُكْمٍ شُرِعاَ
وَالحُكْمُ وَهْيَ في سِواها اجْتَمَعاَ
وَرُبَّما شارَكَها فِيما ذُكِرْ
مِنَ الزَّكاةِ أَيْضاً إِنْ لَهُ افْتُقِرْ »(1)
- وأما الفروق في توابعهما ، فهي أن الفتيا ليست ملزمة إلا لمن اعتقد أو غلب على ظنه أنها صواب ، بخلاف الحكم فإنه ملزم للمحكوم عليه ، ولا يسعه رده سواء وافق مذهبه واختياره أم لم يوافقه ، وقد مر قول العلامة ابن القيم في القاضي : « فقضاؤه خاص مُلزم ، وفتوى العالم عامة غير ملزمة.»، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فيما يلزم المحكوم عليه إذا حكم عليه القاضي : «.. وكذلك إذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما فصل بينهما كما أمر الله ورسوله ، وألزم المحكوم عليه بما حكم به ، وليس له أن يقول : أنت حكمت علي بالقول الذي لا أختاره..»(2)؛ وفي ذلك قال ميارة في "التكميل" :
« وَتَلْزَمُ الفَتْوَى الذي لَها اعْتَقَدْ
وَالحُكْمُ قالُوا لِلْجَمِيعِ يُعْتَمَدْ
وَالحُكْم مِنْ قاضٍ كَنَصٍّ قَدْ وَرَدْ
فِي عَيْنِ نازِلَتِهِ فَلْيُعْتَمَدْ
وَقَوْلُهُمْ يَرْفَعُ خُلْفاً قَدْ أَلَمْ
لِكَوْنِهِ خَصَّ وَغَيْرُهُ أَعَمّْ »(3)
وبعد تصور الفروق بينهما نرجع إلى تفهم تلك الفائدة التي تضمنها نص القرافي السابق ، وهي أن المدارك من مشمولات الفتيا واختصاصها ، وأنها لا يجوز الحكم فيها لأنها مما يدخل في الشرع العام الذي يختص الله بالحكم فيه ، وقد فصل شيخ الإسلام ما يجوز للحاكم أن يحكم فيه وما لا يجوز في مجموع فتاواه وعقد لذلك فصلا نافعا بدأه بقوله :
« فصل .
__________
(1) -المنهج إلى أصول المذهب المبرج للشيخ محمد الأمين بن أحمد زيدان ص: 115-117.
(2) - مجموع فتاوى 35/360.
(3) - بستان فكر المهج ص: 338-339.(1/38)
فيما جعل الله للحاكم أن يحكم فيه ، وما لم يجعل لواحد من المخلوقين الحكم فيه ، بل الحكم فيه على جميع الخلق لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ليس لأحد من الحكام أن يحكم فيه على غيره ، ولو كان ذلك الشخص من آحاد العامة . وهذا مثل الأمور العامة الكلية التي أمر الله جميع الخلق أن يؤمنوا بها ويعملوا بها ، وقد بينها في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما أجمعت عليه الأمة ، أو تنازعت الأمة فيه..»(1)، غير أن هذا النزاع لا يضر لأن مداركه متقاربة ، ولأنه لأجل الآخرة كما قرره القرافي رحمه الله(2). وقد أطال شيخ الإسلام النَّفَس في بيان الفرق بين الشرع العام الذي لا يجوز للحاكم أن يحكم فيه أصلا ، والقضية المعينة التي يشرع للحاكم أن يحكم فيها بما أنزل الله تعالى .
وحيث إن مدارك الأحكام من الشرع العام ، والأمور العامة الكلية ، فإن الحكم فيها من اختصاص الله جل وعلا ، وليس للعالم الحكم فيها ، وإنما له الإفتاء ؛ والإفتاء إنما هو إخبار عن الله ورسوله ؛ فلا يجوز للمفتي أن يزيد على ما دل الدليل على شرعيته من القواعد والأدلة ، ذلك لأن الزائد لأصل لا دليل عليه ، والخارج عما أجمعوا عليه منها ، أو تنازعوا فيها بإحداث قول آخر لم يقولوه ، تارك لشرط الاشتغال بها – إفتاءً أو تصنيفا أو مناظرة - والمتمثل في الإخبار عن حكم الله فيها ؛ ولاشك أن المخل بشرط الاشتغال بها حكم اشتغاله وتأصيله الفساد والبطلان لاختلال شرطه .
__________
(1) - مجموع فتاوى 35/357.
(2) - انظر الإحكام للقرافي ص: 35-36 و ص: 83 و 88-89، والفروق له أيضا 4/51.(1/39)
إن المفتي مبلغ عن الله جل وعلا ، وقد مر تشبيه القرافي له بالمترجم حيث قال : « فالترجمان يجب عليه اتباع تلك الحروف والكلمات الصادرة عن الحاكم ، ويخبر بمقتضاها من غير زيادة ولا نقص . فهذا هو المفتي يجب عليه اتباع الأدلة بعد استقرائها ، ويخبر الخلائق بما ظهر له منها من غير زيادة ولا نقص..»(1).
لقد أدى إغفال التفريق بين ما يدخله الحكم ، وما يختص بالفتيا – زيادة على اعتقاد جواز تجدد القواعد الأصولية - إلى اعتقاد دخولها تحت الحكم بإلزام الناس بقوة السلطان ، أو دخول آثارها ونتائجها مطلقاً ، دون تمييز ما يدخل من تلك النتائج في مجال الحكم مما يقع النزاع فيه لأجل مصالح دنيوية ، وما لا يدخل مما لا يتصور وقوع النزاع فيه لأجل الدنيا ، بل يقع لأجل الآخرة كالحكم باستحباب شيء أو إيجابه مثلا ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض رده على من حكموا فيما ليس من مشمولات الحكم ، مبينا مخالفتهم للإجماع :» إن الأحكام الكلية التي يشترك فيها المسلمون – سواء كانت مجمعا عليها أو متنازعا فيها – ليس للقضاة الحكم فيها ؛ بل الحاكم العالم كآحاد العلماء يذكر ما عنده من العلم ، وإنما يحكم القاضي في أمور معينة . وأما كون هذا العمل واجبا أو مستحبا أو محرما فهذا من الأحكام الكلية التي ليس لأحد فيها حكم إلا لله ورسوله . وعلماء المسلمين يستدلون على حكم الله ورسوله بأدلة ذلك . وهؤلاء حكموا في الأحكام الكلية ، وحكمهم في ذلك باطل بالإجماع «(2).
يقول أحد أولئك ألا وهو الدكتور حسن الترابي – تحت فصل عقده لبيان أصول ضوابط للفقه الاجتهادي-: « الشورى والسلطان :
__________
(1) - تقدم في ص: 83.؟
(2) - مجموع الفتاوى 27/297-298.(1/40)
وحينما نحيي الأصول الواسعة التي عطلت في الفقه الإسلامي التقليدي تنشأ لنا الحاجة إلى ضبط نتائج الاجتهاد فيها . لأن سعتها تؤدي إلى تباين المذاهب والآراء والأحكام ، وأهم الضوابط التي تنظم المجتمع المسلم ، وتتدارك ذلك التباين هي أن يتولى المسلمون بسلطان جماعتهم تدبير تسوية الخلاف ورده إلى الوحدة ، مما لا يتيسر إن ترك أمر الأحكام حراً لا يرتهن إلا بآراء الفقهاء وفتاواهم .
ويتم ذلك التنظيم بالشورى والاجتماع ليتشاور المسلمون في الأمور الطارئة في حياتهم العامة ، فالذي هو أعلم يبصر من هو أقل علما ، والذي هو أقل علما يلاحق بالمسألة من هو أكثر علما ، ويدور بين الناس الجدل والنقاش حتى ينتهي في آخر الأمر إلى حسم القضية : إما بأن يتبلور رأي عام أو قرار يجمع عليه المسلمون ، أو يرجحه جمهورهم وسوادهم الأعظم ، أو تكون مسألة فرعية غير ذات خطر يفوضونها إلى سلطانهم : وهو من يتولى الأمر العام حسب اختصاصه بدءً من أمير المسلمين إلى الشرطي والعامل الصغير.(1/41)
ولا بأس مع هذه الضوابط - من إجماع تشريعي أو أمر حكومي- لا بأس من أن تكون الأصول الفقهية التي تستعمل واسعة جدا..»(1)، وقال أيضا في نص آخر مشابه له بل أوضح منه : « وتعود تلك المناهج الموحدة إلى مبدأ الشورى الذي يجمع أطراف الخلاف ، ومبدأ الإمام(2)الذي يمثل سلطان جماعة المسلمين ، والذي يحسم الأمر بعد أن تجري دورة الشورى ، فيعمد إلى أحد وجوه الرأي في المسألة فيعتمده ، إذ يجتمع عليه السواد الأعظم من المسلمين ، ويصبح صادراً عن إرادة الجماعة ، وحكماً لازماً ينزل عليه كل المسلمين ، ويسلمون له في مجال التنفيذ ، ولو اختلفوا على صحته النسبية »(3).
لقد ذهب الترابي إلى أن السلطان الحاكم يضبط نتائج الاجتهاد في الأصول الواسعة التي اقترحها بديلا عن أصول كافة العلماء التي يسميها أصولا تقليدية ، وذلك بأن يختار قولاً من الأقوال الخلافية بعد الشورى التي قد تفضي إلى اتفاق السواد الأعظم من المسلمين – الذين يجعل اتفاقهم إجماعا - ، ثم يلزم الناس بذلك الحكم .
__________
(1) - تجديد الفكر الإسلامي ص: 87.
(2) - في الطبعة الجزائرية لهذا الكتاب عبارة:" ومبدأ الإجماع" بدل "ومبدأ السلطان" الواردة في رسالة تجديد أصول الفقه ص:10. طبعة دار الجيل-بيروت ،1400-1980. والسياق يدل على صحة ما أثبته، فقد دلت نصوصه الكثيرة على جعل السلطان والشورى وسيلتي تقليل الخلاف إن لم تستطيعا إزالته بالكلية ، وما تفرزه الشورى من اتفاق الجميع – بما فيهم العوام – أو الأغلبية ، هو الذي يسميه الترابي إجماعاً ، ويؤكد صحة ما رجحته أيضاً أنه في نفس النص أضاف إلى ما سبق من ذكر الإمام أنه " يعمد إلى أحد وجوه الرأي في المسألة فيعتمده.."
(3) - تجديد الفكر الإسلامي ص : 70-71.(1/42)
إن الترابي يرى ضرورة أن ترد إلى الحكام سلطتهم في إنشاء الأحكام أو الإلزام بها ، تلك السلطة التي ضاعت في كتب الفقه وتاريخه بسبب ظروف معينة ، وتأمل قوله : » السلطة الرابعة في الإسلام هي سلطة أولياء الأمور الحكام التنفيذيون المسلمون(1)، وهذه السلطة ضاعت في كتب الفقه تماما ، على الرغم من أنها مقررة في القرآن تقريرا واضحا { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }(2)، ولا نجد هذا الأمر واضحا في كتب الفقه ، لم ؟.. لعل الفقهاء قد واجهتهم ظروف عملية «(3).
لقد اعتقد الترابي أن ضمور سلطة الحكام بل ضياعها في تاريخ الفكر الإسلامي ، كان له أبلغ الأثر في المنهجين الأصولي والفقهي ، وأن أحدَ ركائزِ التجديد الأصولي تكييفُ علم الأصول على الوجه الذي يَرُدُّ للحكام – ما يعتقده – حقَّهم في إنشاء الأحكام والإلزام بها ، واسمع إليه يقول : » فإذاً يمكن للفكر التقليدي أو الفكر القديم أن يكون منفعلاً بظروف معينة تؤثر على منهجه الأصولي تأثيراً بيناً . فإذا حالت(4)تلك الظروف وقامت فينا مثلا حكومات شورية ، ينبغي أن يكيف علم الأصول بما يرد إلى تلك الحكومات حقها في إنشاء الأحكام بأمرِ الحاكم فتطاع وفقاً للكتاب والسنة«(5).
إن الترابي عندما يقرر ما سبق نقله عنه فاته أن يستوعب ما يتأسس عليه بناءُ المدارك والأدلة وما تفرع عنها ، ولا ريب أن ما رامه من التجديد للمدارك والأدلة – لو كان ممكنا – لن يتأتى لأمثاله ، لسبب واضح جلي لكل منصف ألا وهو أن من شرط تجديد القديم قتله بحثاً ، والترابي بمعزل عن ذلك لفقدانه ما يعتبر شرطا في البصيرة أو كمالها في علم الأصول الذي يريد تجديده كما مر تقريره آنفا(6).
__________
(1) - هكذا بالرفع .
(2) - النساء :59.
(3) - تجديد الفكر الإسلامي ص: 29-30.
(4) - حالت الظروف، أي : تحولت وتبدلت .
(5) - المرجع السابق ص: 47.
(6) - انظر ص: 45و46 .(1/43)
لقد فات الترابي - بل أنَّى له أن يدرك - أنه لا يجوز لأي سلطة حاكمة أن تلزم الناس بما تختاره من أمر المدارك والأدلة ، فإن مدرك ذلك من دقائق العلم التي لا يضطلع بها إلا من كان رياناً من علم الشريعة ، بحيث يكون له ذوق فيها ، ولن يحصل ذلك إلا لمن مارس أصولها وقواعدها ، بحيث تصير له ملكة تشتمل عليها نفسه ، قد خالطت لحمه ودمه وعظامه .
إن الإلزام إنما يكون فيما يقع النزاع فيه لأجل الدنيا ، والمداركُ وما ينتج عنها ليست من ذلك الباب ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: « وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق "حكم الحاكم" ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه ، بل حكم الحاكم العادل يلزم قوما معينين تحاكموا إليه في قضية معينة، لا يلزم جميع الخلق ، ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يقلد حاكما لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله ، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء ، بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكما ؛ ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا ، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة »(1).
__________
(1) - مجموع الفتاوى 35/372-373.(1/44)
ولعل منشأ خطأ الترابي سوء فهمه لما ذكره أهل العلم من أن "حكم الحاكم يرفع الخلاف"(1)، فظن أن هذه القاعدة عامة عموماً جاوز مجالها ، فأدخل فيها ما لا يجوز للحاكم أن يحكم فيه ، مع أن الحاكم ليس له الحكم إلا فيما يقع النزاع فيه لأجل مصلحة دنيوية من حقوق أو حدود ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن بين أن ما حاكمه به ابن مخلوف هو من أمر العلم العام : « وقلت ما لابن مخلوف والدخول في هذا ؟ هل ادعى أحد علي دعوى مما يُحكم به ؟ أم هذا الذي تكلمت فيه هو من أمر العلم العام ؟ مثل تفسير القرآن ، ومعاني الأحاديث ، والكلام في الفقه ، وأصول الدين .
وهذه المرجع فيها إلى من كان من أهل العلم بها والتقوى لله فيها ؛ وإن كان السلطان والحاكم من أهل ذلك تكلم فيها من هذه الجهة ، وإذا عزل الحاكم لم ينعزل ما يستحقه من ذلك كالإفتاء ونحوه ، ولم يقيد الكلام في ذلك بالولاية .
وإن كان السلطان والحاكم ليس من أهل العلم بذلك ولا التقوى فيه لم يحل له الكلام فيه ، فضلا عن أن يكون حاكما..
وأيضا فيعلم أن هذا إما أن يتعلق بالحاكم أو لا ، فإن تعلق به لم يكن للخصم المدعى عليه أن يختار حكم حاكم معين ، بل يجب إلى من يحكم بالعلم والعدل ، وإن لم يتعلق بالحاكم فذاك أبعد .
وأيضا فأنا لم يدع على دعوى يختص بها الحاكم من الحدود والحقوق: مثل قتل ، أو قذف أو مال ونحوه، بل في مسائل العلم الكلية : مثل التفسير، والحديث ، والفقه ، وغير ذلك . وهذا فيه ما اتفقت عليه الأمة ، وفيه ما تنازعت فيه .
__________
(1) - انظر الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص: 80.(1/45)
والأمة إذا تنازعت - في معنى آية ، أو حديث ، أو حكم خبري ، أو طلبي - لم يكن صحة أحد القولين ، وفساد الآخر ثابتا بمجرد حكم حاكم ، فإنه إنما ينفذ حُكمه في الأمور المعينة دون العامة..»(1)، إذاً فأنت ترى أن حكم الحاكم لا يرفع الخلاف مطلقا ، وإنما يرفعه فيما يختص به ، ويجوز له الحكم فيه ، فكيف يجعل الترابي للسلطان حق ضبط الخلاف بتقليله عن طريق الحسم بعد الشورى في صور، ودونها في صور أخرى كصورة المسألة الفرعية التي ليست ذات خطر؟
إن حكم الحاكم يرفع الخلاف في عين النازلة التي جاز له شرعاً أن يحكم فيها ، لأن حكمه يكون فيها بمثابة النص الخاص ، ومذهب المحكوم عليه بمنزلة النص العام فيقدم الخاص على العام كما هو مقتضى القواعد الشرعية ، قال الإمام القرافي : « إن الله تعالى استناب الحكام في إنشاء الأحكام في خصوصيات الصور في مسائل الخلاف ، فإذا حكم الحاكم بإذن الله تعالى له ، وصح حكمه عن الله تعالى : كان ذلك نصا واردا من الله تعال على لسان نائبه الذي هو نائبه في أرضه ، وخليفة نبيه في خصوص تلك الواقعة ، فوجب حينئذ إخراجها من مذهب المخالف في نوع تلك المسألة .
فإن الدليل الشرعي الذي وجده المخالف في ذلك النوع عام فيه ، وهذا النص خاص ببعض أفراد ذلك النوع ، فيتعارض في هذا الفرد من هذا النوع دليل خاص وهو حكم الحاكم ، ودليل عام وهو ما اعتقده المخالف في جملة النوع ، فيقدم الخاص على العام كما تقرر في أصول الفقه .
وهذا هو السر في أن الحكم لا ينقض ، لا ما يعتقده بعض الفقهاء من أن النقض إنما امتنع لئلا تنتشر الخصومات..»(2)، وفي ذلك يقول أيضا ميارة في "التكميل" :
« وَالحُكْمُ مِنْ قاضٍ كَنَصٍّ قَدْ وَرَدْ
فِي عَيْنِ نازِلَتِهِ فَلْيُعْتَمَدْ
وَقَوْلُهُمْ يَرْفَعُ خُلْفاً قَدْ أَلَمّْ
__________
(1) - مجموع الفتاوى 3/235-238.
(2) - الإحكام ص:29.(1/46)
لِكَوْنِهِ خَصَّ وَغَيْرُهُ أَعَمّْ »(1)
قال شارحه وهو صاحب النظم: « والإشارة بقوله "والحكم من قاض" البيتين ، إلى قول الشهاب القرافي في الفرق الرابع والعشرين والمائتين مما حاصله : إن الله تعالى جعل إنشاء الحاكم الحُكمَ في مواطن الخلاف قضاءً وردَ من قِبَلِه في خصوص تلك الصورة ، ونصّاً خاصّاً يختص بتلك النازلة دون غيرها مما هو مثلها ، فيرتفع الخلاف عنها تقديماً للدليل الخاص على العام..»(2)وقال أيضا : « قول الفقهاء حكم القاضي يرفع الخلاف ، صحيح أو ظاهر وجهه لكونه دليلا خص تلك النازلة بعينها ، فصارت كأنها ورد فيها بالخصوص نص من الشارع ، ولا يدخلها الخلاف الممكن في مثلها ، وكأنها مستثناة منه ؛ وغير حكم القاضي من الدلائل الشرعية دليل عام ، والدليل الخاص يقدم على الدليل العام »(3).
إن المدارك - وإن وقع النزاع فيها - فإنها لا تدخل فيما يجوز للحاكم أن يحكم فيه لأنها من أمر العلم العام الذي لا دخل للولاية فيه ؛ وزيادة في بيان هذه الحقيقة أنقل نصا آخر لشيخ الإسلام ابن تيمية ، قال رحمه الله: « إن ما تنازع فيه العلماء ليس لأحد من القضاة أن يفصل النزاع فيه بحكم ، وإذا لم يكن لأحد من القضاة أن يقول : حكمت بأن هذا القول هو الصحيح ، وأن القول الآخر مردود على قائله ، بل الحاكم فيما تنازع فيه علماء المسلمين ، أو أجمعوا عليه : قوله في ذلك كقول آحاد العلماء إن كان عالما ؛ وإن كان مقلدا كان بمنزلة العامة المقلدين .
__________
(1) - بستان فكر المهج ص: 338-339.
(2) - نفسه ص: 339.
(3) - نفسه ص: 340.(1/47)
والمنصب والولاية لا يجعل من ليس عالما مجتهدا عالما مجتهدا ، ولو كان الكلام في العلم بالولاية والمنصب لكان الخليفة والسلطان أحق بالكلام في العلم والدين.. فإذا كان الخليفة والسلطان لا يدعي ذلك لنفسه ، ولا يلزم الرعية حكمه في ذلك بقول دون قول إلا بكتاب الله وسنة رسوله ، فمن هو دون السلطان في الولاية أولى بأن لا يتعدى طوره ، ولا يقيم نفسه في منصب لا يستحق القيام فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - وهم الخلفاء الراشدون - فضلا عمن هو دونهم..»(1).
إن العلماء بدقتهم المعهودة كانوا لا يعملون هذه القواعد في غير بابها ، ولا يعممونها في غير مجالها ، سواء تعلق الأمر بقاعدة "حكم الحاكم يرفع الخلاف" ، أو قاعدة " أن حكم الحاكم لا ينقض في مسائل الخلاف" ، بل كانوا يخرجون منها ما ليس داخلا فيها ، فهذا الإمام القرافي يبين بعض ذلك بقوله: « قول الفقهاء: إذا حكم الحاكم في مسائل الخلاف لا يُنقَض حكمه ، هل يتناول ذلك المدارك المجتهد فيها ؟ وهل هي حجة أم لا ؟ وهل يتصور الحكم فيها أم لا ؟ وهل هذه العبارة على إطلاقها أم يستثنى منها بعض المختلف فيه ؟ وإذا استثني منها بعض المختلف فيه هل يستثنى معه المداركُ المختلف فيها أم لا ؟
جوابه
إن هذه العبارة مخصوصة ، وقد نص العلماء على أن حكم الحاكم لا يستقر في أربعة مواضع وينقض : إذا وقع على خلاف الإجماع ، أو القواعد ، أو النص ، أو القياس الجلي . وهذه الثلاثة الأخيرة هي من مسائل الخلاف ، وإلا لم يكن إلا قسم واحد ، وهو المجمع عليه ، فخرج من إطلاقهم بنصوصهم هذه الصور الثلاث .
وأما المدارك المجتهد في كونها حجةً أم لا: فلا تندرج في عموم قولهم الذي قصدوه ، لأن مقصودهم الفروع التي يقع التنازع فيها بين الناس لمصالح الدنيا.
__________
(1) - مجموع الفتاوى 27/296-297.(1/48)
وأدلة الشريعة ، وحجاج الخصومة المختلفُ فيها كالشاهد واليمين ونحوه : إنما وقع النزاع فيه لأمر الآخرة ، لا لمصلحة تعود على أحد المتنازعين في دنياه ، بل النزاع فيها كالنزاع في العبادات . ومقصودُ كل واحد من المتنازعين ما يتقررُ في قواعد الشريعة على المكلفين إلى يوم القيامة ، لا شيء يختص به هو، فلا تندرج في قول الفقهاء هذه الصور أصلا »(1).
إن هذه النصوص النفيسة تبين أن الحاكم لا يجوز أن يحكم فيما كان من الشرع العام ، وإن وقع فيه النزاع ، فإنه ليس نزاعا لأجل مصالح الدنيا حتى يحتاج إلى فصل الحاكم ، وانظر إلى دقة عبارة الشهاب القرافي: « وأدلة الشريعة وحجاج الخصومة المختلف فيها.. إنما وقع النزاع فيه لأمر الآخرة ، لا لمصلحة تعود على أحد المتنازعين في دنياه..»، ثم بين أن مقصود أهل العلم من اجتهادهم في تقرير قواعد الشريعة ، استخراج ما دل الشرع على لزوم اعتماده في استنباط الأحكام من القانون الكلي الذي لا يسع أحدا الخروج عليه إلى يوم القيامة ، قال رحمه الله : « ومقصود كل واحد من المتنازعين ما يتقررُ في قواعد الشريعة على المكلفين إلى يوم القيامة ، لا شيء يختص به هو»، ولم يَدُر بخلدهم أن القواعد مادامت اجتهادية فإنها يجوز أن تتغير بتغير الزمان ، بل كانوا يعتقدون أنها مما يدخل تحت مجالات الفتيا ، فيكون النظر فيها بقصد الوصول إلى معرفة ما حكم الله به من خلال الكتاب والسنة .
إن أولئك المجددين غفلوا عن حقيقة كانت واضحة عند العلماء ، تلك الحقيقة هي أن الاجتهاد ينقسم إلى قسمين :
__________
(1) - الإحكام ص: 88-89.(1/49)
1- اجتهاد منشئ لمفقود أَذِن الشارع في إنشائه ، ومحله مشمولات الحكم ، فإنها بسبب تعلقها بقضايا الأعيان ، تعد كل نازلة منها مستأنفة لم يسبق لها نظير ، ويلتحق بها ما يتوقف عليه تنزيل الحكم الشرعي في الأعيان – سواء تعلق الأمر بالحكم أو بالفتوى – والمسمى عند العلماء تحقيق المناط ، ذلك لأنه ليس من باب إثبات الحكم بمدركه ، وإنما هو من تعيين محل الحكم والمتمثل في الحوادث الخارجية ، ولا ريب أن مَحالَّ الحكم متعددة ومختلفة ، وجزئية ومشخصة ، يقول العلامة الشاطبي : » الاجتهاد على ضربين:
"أحدهما" : لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف ، وذلك عند قيام الساعة .(1/50)
و" الثاني " : يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا .«(1)، والذي يعنينا هنا ما يتعلق بتحقيق المناط وهو الضرب الأول وفيه يقول العلامة الشاطبي : » (فأما الأول) فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط ، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله . ومعناه : أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي ، لكن يبقى النظر في تعيين محله . وذلك أن الشارع إذا قال : { وأشهدوا ذوي عدل منكم }(2)، وثبت عندنا معنى العدالة شرعا افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة ، وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء ، بل ذلك يختلف اختلافاً متبايناً ، فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة : " طرف أعلى" في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق ، و" طرف آخر" وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف ؛ كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام ، فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها ؛ و"بينهما " مراتب لا تنحصر . وهذا الوسط غامض لابد فيه من بلوغ حد الوسع ، وهو الاجتهاد ، فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد ... وكذلك في فرض نفقات الزوجات والقرابات ؛ إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المُنفَق عليه والمُنفِق ، وحال الوقت إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنضبط بحصر ، ولا يمكن استيفاء القول في آحادها ؛ فلا يمكن أن يستغني هاهنا بالتقليد ، لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه ، والمناط هنا لم يتحقق بعد لأن كلَّ صورة من صور النازلةِ نازلةٌ مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير ، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا ؛ فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد ، وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها ؛ فلا بد من النظر في كونها مثلها أولا ، وهو نظر اجتهادي أيضا ، وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات ، وقيم المتلفات «(3).
__________
(1) - الموافقات 5/11.
(2) - الطلاق : 2.
(3) - الموافقات 5/12-14.(1/51)
إن الاجتهاد في تحقيق المناط لما تعلق بتعيين محل الحكم وكان محل الحكم جزئياً ، فإنه لا يتأتى إدراجه تحت الفتيا ولا إلحاقه بها ، بسبب أن الفتيا شريعة عامة كما تقدم ، كما لا يتأتى إدخاله تحت الحكم لأن الحكم ليس مجرد إنشاء فقط ، وإنما هو إنشاء إلزام ، وعند التأمل نجد أن تحقيق المناط مما يتوقف عليه الحكم والفتيا جميعا ، بل يتوقف عليه عمل العامي بالحكم في خاصة نفسه ، قال العلامة الشاطبي عند حديثه عن تحقيق المناط : « فالحاصل أنه لابد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت ، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه »(1)، ولا ريب أن المتوقِف غير المتوقَّف عليه ، وإنما ألحقتُ ذلك النوعَ من الاجتهاد بالاجتهاد المنشئ لمفقود ، لأنه في هذا مثل الحكم الذي هو من باب الإنشاء ، فقد أذن للمجتهد أن يعين المحل الجزئي للحكم بنوع من التقدير الراجع إلى الاجتهاد ، وانظر إلى قول العلامة الشاطبي : » ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها ، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعداداً لا تنحصر ، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين ، وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ، ولا هو طردي بإطلاق ، بل ذلك منقسم إلى الضربين ، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين ...
__________
(1) - نفسه 5/16.(1/52)
ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن ؛ لأنها مطلقات وعمومات ، وما يرجع إلى ذلك منزلات على أفعال مطلقات كذلك ، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة ، وإنما تقع معينة مشخصة ؛ فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام ، وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون ، وكلُّه اجتهاد «(1). ولا يلزم من كون الاجتهاد في هذا القسم من باب الإنشاء ، أنه إنشاء بالهوى ، بل هو إنشاء على موازين الشرع ، وتأمل قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : » وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة ، لا يحكمون في الأمور الكلية ، وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله ، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :" القضاة ثلاثة : قاضيان في النار ، وقاض في الجنة ؛ فمن علم الحق وقضى فهو في الجنة ، ومن علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ، ومن قضى للناس على جهل فهو في النار"(2)«(3).
__________
(1) - الموافقات 5/14-17.
(2) - أخرجه أبو داود 4/5،(كتاب القضاء ، باب في القاضي يخطئ، رقم 3573). وابن ماجة 4/1،(كتاب الأحكام ، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق رقم 2315). وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 8/235، وفي صحيح الجامع الصغير 2/818.
(3) - منهاج السنة النبوية 5/132.(1/53)
2- اجتهاد كاشف عن موجود في الواقع ونفس الأمر، ومحله مشمولات الفتيا – بما فيها المدارك والأدلة -، فإنها جُعِلت شريعة عامة تقرر على المكلفين إلى يوم القيامة ، وقد تقدم أن أهل العلم ليس لهم فيها إلا مجرد الإخبار عن الشارع ، وحيث إن الخبر من جنس الوجود وعدمه - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « يرجع جنس الخبر إلى الوجود والعدم «(1)- فإن الاجتهاد في المدارك والأدلة من باب كشف ما له وجود حقيقي ، ولهذا فهو لا يتقادم بمرور الزمان ، مثله في ذلك مثل أي حقيقة موجودة ، فهل يقال مثلاً إن كروية الأرض مسألة قديمة ، وقد تطور الزمان ، فينبغي أن نغيرها ما دمنا قد أدركناها بالاجتهاد ؟
لاشك أن أول من سيعترض بأن هذه حقيقة لا تتغير بمرور الزمان الترابي وأمثاله ، فيقال لهم لقد نقضتم ما بنيتم عليه قولكم بالتجديد ، فإن إدراك تلك الحقيقة حاصل بالاجتهاد ، فما الفارق بين هذا الاجتهاد وذاك ؟ ثم يقال لهم ما ضابط الحقيقة هل هي : ما أدركه الناس بحواسهم و ما كان امتداداً لها من الوسائل العلمية كالمنظار والمجهر وغيرهما ؟ أو الحقيقة هي الأمر الذي تحقق وجوده في نفس الأمر ، سواء كانت وسيلة إدراكنا لها الحواس أو العقل أو الوحي ؟ وانظر إلى قول العلامة محمد الطاهر بن عاشور (1393هـ) : » فالحقيقة في كلامنا الشيء الذي حق ، أي ثبت وجوده في الخارج ونفس الأمر ، لا يشوبه شيء من الشك أو التوهم ، وذلك أوضح الوجود.. «(2).
إن أولئك الداعين إلى تجديد الأصول لما رأوا العلماء يقررون القواعد والأدلة بالاجتهاد ، اعتقدوا أنها مما يجوز تغييره ، ولم يتفطنوا إلى نوع ذلك الاجتهاد ، وأنه كاشف عن نفس الأمر الموجود ، وأنه ليس من باب إنشاء مفقود واختراع معدوم ، وإلا لكان قولا في الدين بغير علم .
__________
(1) - درء تعارض العقل والنقل 4/48.
(2) - أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ص:29.(1/54)
لقد أمر الله جل وعلا بالاجتهاد في استخراج الأحكام الشرعية ، ولابد لذلك من قانون للفهم والاستنباط ، فهل يعقل أن يأمر الله الناس باستخراج أحكام دينهم ، ولا يدلهم على كيفية ذلك بأن يُضَمِّنَ وحيه ما يُمَكِّن من استخراج منهاج كلي للاستنباط ؟ وهل يعقل أن يتجدد مدلول النص الشرعي المتضمن لشواهد الأدلة ، وحجج المدارك بحيث يتغير مدلولها ، مع أن نصوص الكتاب والسنة محصورة ؟ فهل يعقل أن يكون مدلولها في زمن الصحابة والتابعين غير مدلولها في زمن الدكتور الترابي ؟
إن اعتقاد تغير مدلول القرآن من أبطل الباطل ، لأن المدلول لازم للدليل ، فإذا تُصوِّر أنه ليس مدلولاً له في زمان الدكتور الترابي فإنه لم يصح أن يُجعل مدلولاً له في أي
زمن ، فيلزم من ذلك خطأ كل القرون في تقرير الأدلة والقواعد المعتبرة .
نعم إن المحققين من أهل العلم ردوا بعض هذه القواعد ، لكن لم يبنوا على ما بنى عليه الترابي وأضرابه ، وإنما كانوا جميعا يعلمون أن أمر التقعيد أمر شرعي لابد فيه من استدلال معتبر، يقول العلامة ابن القيم في نونيته :
» هذا وليس الطّعْنُ بالإِطْلاقِ فِيـ
هاَ كُلِّهاَ فِعْلَ الجَهُولِ الجَانِي
بَلْ فِي التِي قَدْ خالَفَتْ قَولَ الرَّسُو
لِ وَمُحْكَمِ الإِيمَانِ والفُرْقانِ
أَوْ فِي التِي مَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي
تَقْرِيرِهَا يَا قَومِ مِنْ سُلْطَانِ
فَهْيَ التِي كَمْ عَطَّلَتْ مِنْ سُنّةٍ
بَلْ عَطَّلَتْ مِنْ مُحْكَمِ القُرْآنِ «(1)
خاتمة
__________
(1) - الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية لابن القيم ص: 309.(1/55)
من كل ما تقدم يتبين أن الاجتهاد في مدارك الأحكام ، ومآخذ المسائل ، ليس اجتهاداً مطلقا ، وإنما هو مقيد بما تقتضيه الأدلة ، وليس للعالم إلا الاستدلال الذي هو طلب الدليل ، أما الدال بمعنى ناصب الدلالة كلية كانت أو جزئية ، أصلية أو فرعية فليس إلا الشارع ، وقد جعل الإمام أحمد اختصاص الله بنصب الدلالة ، والعلماء بطلب الدليل من قواعد الإسلام ، وأصول الإيمان ، قال رحمه الله : « قواعد الإسلام أربع : دال ، ودليل ، ومُبَيِّن ، ومستدل ؛ فالدال : الله تعالى ، والدليل: القرآن ، والمبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - . قال تعالى: { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }(1)، والمستدل : أولو الألباب وأولو العلم الذين يجمع المسلمون على هدايتهم ، ولا يقبل الاستدلال إلا ممن كانت هذه صفته »(2).
إن مبنى قيام الدين على هذه القواعد ، ولعل هذا هو السِّر في إدخال أهل العلم مبحث "الحاكم" في كتب أصول الفقه ، حيث يقررون أن "لا حاكم إلا الله" سواء كانت الأحكام فرعية ، أو أصلية : شاملة لأصول الدين أو أصول الفقه ، قال أبو حامد الغزالي في بيان الركن الثاني من أركان الحكم : « الحاكم : وهو المخاطِب ، فإن الحكم خطاب وكلام ، فاعله كل متكلم ، فلا يشترط في وجود صورة الحكم إلا هذا القدر.
أما استحقاق نفوذ الحكم ، فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه ، ولا مالك إلا الخالق ، فلا حكم ولا أمر إلا له .
أما النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والسلطان ، والسيد ، والأب ، والزوج ، فإذا أمروا وأوجبوا ، لم يجب شيء بإيجابهم ، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم .
__________
(1) - النحل: 44.
(2) - العدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى 1/135، والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 2/44.(1/56)
ولولا ذلك ، لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا ، كان للموجَب عليه أن يقلب عليه الإيجاب ، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر.»(1)، ولهذا السبب تجد أهل العلم يذعنون لما دل الوحي على أنه دليل شرعي ، إجماعا كان أو قياسا ، أو استصحابا ؛ وما دام لم يقدم المجدد لأصول الفقه دليلا على أن الله أوجب بناء الأحكام على ذلك المنهج الذي اقترحه فإنه لا نفوذ لقوله ، وانظر إلى قول الغزالي : « أما استحقاق نفوذ الحكم ، فليس إلا لمن له الخلق والأمر..» وإلى قوله : « ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا ، كان للمُوجَب عليه أن يقلب عليه الإيجاب ، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر».
وبناءً على هذا المعنى قال العلامة ابن الوزير اليماني (ت: 840 هـ) في رده على من تحجر واسعا بإضافة شرط في الاجتهاد لا دليل عليه : « إن الاجتهاد وشرائطه من قواعد الإسلام التي ينبني عليها عند الجماهير صحة الإمامة والقضاء والفتيا ، فينبغي التثبت في الدليل على شروطها من نفي وإثبات ، والسيد قد زاد في شروطها شرطاً لم يسبقه غيره إليه ، واستدل عليه بمجرد الشك والتحير في كيفية العبارة إذا سُرقت كتب العالم أو غُصِبت : هل يقال : سُرق علمه ، أو اغتصب ، أو كيف يُقال ؟
فنقول للسيد : هذه حجة غريبة ما عرفناها ، فبين لنا من أي أنواع الحجج هي ؟ فهي معروفة محصورة ، ومن أي أجناس الأدلة ؟! فهي مذكورة مشهورة ، وهي : العقل والكتاب والسنة والإجماع ، والقياس ، والاستدلال..»(2).
__________
(1) - المستصفى من علم الأصول لأبي حامد الغزالي 1/275-276.
(2) - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 2/18-19.(1/57)
نخلص من كل ما تقدم إلى أن الأدلة منحصرة ، من جهة لأنها متوقفة في ثبوتها على الشرع ، ومن جهة أخرى لأنها من الشرع العام الذي يعتبر من مجالات الفتيا . ولما كانت الفتيا تبليغاً عن صاحب الشرع ، فإنه يلزم المبلغ فيما يخبر به عن الشرع العلم بما يخبر به ، قال الله جل وعلا : { ولا تَقْفُ ما ليس لكَ به علمٌ إنَّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كُلُّ أُولَئِك كان عنهُ مَسْئُولا }(1)، كما يلزمه الصدق فيما يخبر به ، قال الله تعالى : { فمن أظلمُ ممن كَذَبَ على اللهِ وكَذَّب بالصدق إذْ جاءه ألَيْس في جهنمَ مثوًى للكافرين(2)} ، وقد بين العلامة ابن القيم اجتماع هذين الشرطين في المبلغ فقال : « ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ ، والصدق فيه ، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق ، فيكون عالما بما يبلغ ، صادقا فيه ، ويكون مع ذلك حسن الطريقة ، مرضي السيرة ، عدلا في أقواله وأفعاله ، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله .
وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ، ولا يجهل قدره ، وهو من أعلى المراتب السنيات ، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات ؟
فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته ، وأن يتأهب له أهبته ، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق ، والصدع به ، فإن الله ناصره وهاديه ، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا?يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ }(3)، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة ، إذ يقول في كتابه : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ }(4).
__________
(1) - الإسراء : 36.
(2) - الزمر: 32.
(3) - النساء: 127.
(4) - النساء: 176.(1/58)
وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه ، وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله »(1).
الفهارس العامة
1- فهرس الآيات القرآنية
2- فهرس الأحاديث
3- فهرس المصادر والمراجع
4- فهرس المحتويات
فهرس الآيات القرآنية
السورة ... الآية ... الآية ... ص
آل عمران ... 102 ... يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ... ... 2
النساء ... 1 ... يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم .. ... 3
" ... 59 ... أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ... ... 92
" ... ويستفتونك في النساء ... ... 124
" ... 176 ... يستفتونك قل الله يفتيكم ... 125
المائدة ... 3 ... اليوم أكملت لكم دينكم ... 4
النحل ... 44 ... لتبين للناس ما نزل إليهم ... ... 118-119
" ... 89 ... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا ... ... 4
الإسراء ... 36 ... ولا تقف ما ليس لك به علم.. ... 122-123
" ... 78 ... أقم الصلاة لدلوك الشمس ... ... 24
الأحزاب ... .7-71 ... يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ... ... 3
الزمر ... 32 ... فمن أظلم ممن كذب على الله
الطلاق ... 2 ... وأشهدوا ذوي عدل منكم ... -108
فهرس الأحاديث
طرف الحديث ... ص
القضاة ثلاثة
لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ... ... 51
يحمل هذا العلم من كل خلف ... ... 6
فهرس المصادر والمراجع
- أبجد العلوم المسمى الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم ، لصديق بن حسن خان القنوجي ، تحقيق عبد الجبار زكار ، نشر وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، دمشق 1978.
- الاجتهاد في الفقه الإسلامي ضوابطه ومستقبله ، لعبد السلام السليماني، منشورات وزارة الأوقاف الإسلامية بالمملكة المغربية ، طبع 1417-1996.
- الإحكام في أصول الأحكام ، لسيف الدين الآمدي ،مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بمصر 1387-1968.
- الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام،لشهاب الدين أبي العباس القرافي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب، الطبعة الثانية 1416-1995.
-إرشاد المقلدين عند اختلاف المجتهدين،لباب بن الشيخ سيدي الشنقيطي، تحقيق الطيب بن عمر بن الحسين الجكني، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 1418-1997.
__________
(1) - إعلام الموقعين 1/8-9.(1/59)
-أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ، لمحمد الطاهر بن عاشور، الشركة التونسية للتوزيع ، بدون تاريخ.
-إعلام الموقعين عن رب العالمين، لشمس الدين محمد بن قيم الجوزية، ضبط محمد بن عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411-1991.
-البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين الزركشي، ضبط وتعليق وتخريج الدكتور محمد محمد تامر، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1421 -2000.
-بدائع الفوائد،لابن قيم الجوزية، تحقيق معروف مصطفى زريق ومحمد وهبي سليمان وعلي عبد الحميد بلطه جي، دار الخير، الطبعة الأولى 1414-1994.
-بستان فكر المهج على تكميل المنهج ، لأبي عبد الله محمد ميارة الفاسي، مخطوط خاص.
-بيان المختصر(شرح مختصر ابن الحاجب) لشمس الدين الأصفهاني، تحقيق الدكتور محمد بقا، دار المدني-جدة، الطبعة الأولى 1406.
-تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لأبي الوفاء إبراهيم بن فرحون، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1416.
-تجديد الفكر الإسلامي، للدكتور حسن الترابي، دار البعث بالجزائر، الطبعة الأولى.
-ترتيب الفروق واختصارها ، لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم البقوري، تحقيق عمر بن عباد، منشورات وزارة الأوقاف الإسلامية بالمملكة المغربية 1414.
- التلويح شرح التوضيح على التنقيح ، لسعد الدين التفتازاني ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 1416.
-جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهري، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى 1414.
- الجامع الصحيح، للإمام أبي عبد الله البخاري ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 1414.
-حوار لا مواجهة، د.أحمد كمال عبد المجيد ، كتاب العربي، العدد7
-خواتم الذهب على المنهج المنتخب، لعبد الواحد بن محمد إبراهيم الأمزوري الهلالي، مخطوط خاص.(1/60)
-الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، مكتبة الثقافة الدينية-القاهرة، بدون تاريخ.
-شرح الكوكب المنير، لابن النجار الفتوحي الحنبلي، تحقيق الدكتور محمد الزحيلي والدكتور نزيه حماد، مكتبة العبيكان-الرياض 1413.
-صحيح مسلم، لأبي الحسين بن الحجاج النيسابوري ، ضبطه وصححه ورقمه محمد فؤاد عبد الباقي،دار الفكر-بيروت، الطبعة الثانية 1398.
-الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية على مذهب المالكية، لمحمد العزيز جعيط، الطبعة الثانية، مطبعة الإرادة –تونس، دون تاريخ.
-بوطليحية لمحمد النابغة الغلاوي الشنقيطي، تحقيق يحيى بن البراء ، المكتبة المكية ، ومؤسسة الريان ، الطبعة الأولى 1422-2002.
-العدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى الفراء، تحقيق الدكتور أحمد بن علي المباركي، الرياض، الطبعة الأولى 1410.
-العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، لمحمد بن إبراهيم الوزير اليماني، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1415.
-الفروق ،للشهاب أبي العباس القرافي، عالم الكتب-بيروت، بدون تاريخ.
-الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، تحقيق عادل بن يوسف العزازي،دار ابن الجوزي-المملكة السعودية، الطبعة الأولى 1417.
-القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم،لأبي المواهب الحسن بن مسعود اليوسي، تحقيق الدكتور حميد حماني، مطبعة شالة-الرباط، الطبعة الأولى 1998.
-قواعد الأحكام في مصالح الأنام،لأبي محمد عز الدين بن عبد السلام،مؤسسة الريان-بيروت، طبعة 1410.
-الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية(القصيدة النونية)، لابن قيم الجوزية، تحقيق عبد الله بن محمد العمير، دار ابن خزيمة-الرياض، الطبعة الأولى 1416.
-كشاف اصطلاحات الفنون ، لمحمد علي التهانوي ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 1418.
- مجلة المسلم المعاصر، العدد الأول/شوال 1974م.(1/61)
-مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد، طبع إدارة المساحة العسكرية-القاهرة 1404.
-مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية، دار الحديث-القاهرة.
-المدخل ،لأبي عبد الله محمد بن محمد العبدري الفاسي الشهير بابن الحاج ،دار الفكر، بدون تاريخ.
-المستصفى من علم الأصول، لأبي حامد الغزالي، تحقيق الدكتور حمزة بن زهير حافظ، شركة المدينة المنورة للطباعة-جدة، بدون تاريخ.
- ملحة الإعراب ، لأبي محمد القاسم بن علي الحريري ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1353.
-المنهج إلى المنهج إلى أصول المذهب المبرج،لمحمد الأمين بن أحمد زيدان الشنقيطي، تحقيق الحسين بن عبد الرحمن بن محمد الأمين الشنقيطي، دار الكتاب المصري-القاهرة، ودار الكتاب اللبناني-بيروت 1404.
-الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، تحقيق أبي عبيدة مشهور بن حسن سلمان، دار ابن عفان-السعودية،الطبعة الأولى 1417.
-نشر البنود على مراقي السعود، لعبد الله بن إبراهيم الشنقيطي، منشورات وزارة أوقاف المغرب. وطبعة دار الكتب العلمية-بيروت، الطبعة الأولى 1421.
-نفائس الأصول في شرح المحصول، لشهاب الدين القرافي، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، المكتبة العصرية-بيروت، الطبعة الثالثة 1420.
-الوصول إلى الأصول، لأبي الفتح أحمد بن علي بن برهان البغدادي، تحقيق الدكتور عبد الحميد علي أبو زنيد، مكتبة المعارف-الرياض، 1403.
فهرس المحتويات
الموضوع الصفحة
المقدمة 2
المبحث الأول : 12
مستند دعاة تجديد علم الأصول
المبحث الثاني : 19
استناد القواعد الأصولية إلى الشرع
المبحث الثالث : 35
علاقة استمداد الأصول بانحصار الأدلة
المبحث الرابع : 64
علاقة شمول الفتيا للأصول بانحصار الأدلة
خاتمة 118
الفهارس العامة : 126
1- فهرس الآيات القرآنية 127
2- فهرس الأحاديث 130(1/62)
3- فهرس المصادر والمراجع 131
4- فهرس المحتويات 140(1/63)