إثبات العلّة بالسَّبر والتَّقسيم
( أ. د. إبراهيم نورين إبراهيم (1) ()
مُقَدِّمَة:
الحمد لله الذي أنعم على الإنسانيّة برسالة الإسلام، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد بن عبد الله خير الأنام، وعلى آله وأصحابه الكرام. وبعد،،،
فإنَّ الله تعالى قد أناط سعادة الإنسانيّة على مرّ العصور والأزمان وإلى أنْ تقوم الساعة بشريعة الإسلام، وقد حفظ مصادرها، وأودعها من الخصائص ما يجعلها وافية بهذا الأمر. فما من واقعة أو حادثة أو تصرُّف إلاَّ وله في الشريعة الإسلامية حكم: إمَّا أنْ يكون منصوصاً عليه في الكتاب أو السُّنَّة فيؤخذ مباشرة أو غير منصوص عليه فيؤخذ عن طريق الاستنباط.
وأوّل طريق يلجأ إليه المجتهد لاستنباط الحكم الشرعي فيما لا نص فيه هو القياس، وهو الأساس التشريعي الذي يبيّن مدى ارتباط الأحكام الشرعيّة بمصالح العباد وحاجتهم.
والقياس يقوم على أربعة أركان، هي: الأصل، وحكم الأصل، والفرع، والعلّة، وهي أهم ركن من أركانه؛ لأنَّه لا يوجد إلاَّ إذا وُجدت، إذ عليها مدار تعدي الحكم من الأصل إلى الفرع.
__________
(1) (()أستاذ دكتور (بروفيسور)، عميد كليّة الدّراسات العليا بالجامعة.(1/1)
ومن المعلوم أنَّ القياس لا يكتفى فيه بمجرّد وجود الوصف الجامع بين الأصل والفرع ليكون علّة؛ بل لا بُدّ من دليل يشهد له بالاعتبار، لذلك احتاج الأصوليون إلى بيان مسالك العلّة، وهي طرقها الدالّة على كون الوصف علّة. وقد اختلفوا في عددها كما اختلفوا في اعتبار بعضها، ومن هذه المسالك (1) : الإجماع، والنّص، والمناسبة، والشَّبه، والدوران، وتنقيح المناط، والسَّبر والتقسيم، وهو محل بحثنا.
وقد تناولت هذا الموضوع ـ بعد المقدمة ـ من خلال أربعة مباحث: المبحث الأول تمهيدي، عرّفت فيه العلّة وبيّنت شروطها، وفي المبحث الثاني تناولت تعريف السَّبر والتَّقسيم لغة واصطلاحاً، وجعلت المبحث الثالث في تقسيم السَّبر والتَّقسيم، وفي المبحث الرابع بيَّنت شروط صحة السَّبر، وفي المبحث الخامس تناولت مذاهب الأصوليين في إفادة السَّبر والتَّقسيم للعلّيّة، وأشرت في الخاتمة إلى أهم نتائج البحث. ثم ذيّلت البحث بفهارس علميّة مفصّلة.
المبحث الأول: تعريف العلّة وشروطها
المطلب الأول: تعريف العلّة:
أولاً: تعريفها لغة:
__________
(1) انظر: المستصفى من علم الأصول: للغزالي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، والمطبعة الأميرية ببولاق، مصر، ط/1، 1324 هـ، 2/288، والتمهيد في أصول الفقه: لأبي الخطاب الكلزواني، محفوظ بن أحمد بن الحسن: دار المدني، ط/1، 1406 هـ، 4/9، والمعتمد في أصول الفقه: لأبي الحسين البصري، طبعة 1384 هـ، 2/775، وتيسير التحرير: لأمير بادشاه، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، 1351 هـ، 4/39، والإحكام في أصول الأحكام: لسيف الدين لآمدي، 3/364، والمحصول: للرازي، 2/193، والبحر المحيط في أصول الفقه: للزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر، ضبط وتخريج وتعليق د. محمد محمد تامر، دار الكتب العلميّة، بيروت، 4/165، ومنهاج الوصول في علم الأصول: للبيضاوي مع البدخشي والإسنوي، 3/38 فما بعدها.(1/2)
العلّة في اللُّغة: هي ما يتغيّر به حال الشيء وحكمه، ومنه سُمِّيَ المرض علّة؛ لأنَّ حالة المريض تتغيّر به من الصحة والقوّة إلى المرض والضعف. وسُمِّي الأمر المثبت للحكم في الشرع "علّة"؛ لأنَّه يتغيّر بها حال المنصوص عليه من الخصوص إلى العموم، إذ لم يعد الحكم خاصاً بالمنصوص عليه؛ بل يتعداه إلى كلّ واقعة وجدت فيها العلّة.
وقال بعض العلماء: هي مأخوذة من العلل بعد النهل، وهو معاودة الشرب مرّة بعد مرّة، لأنَّ المجتهد في استخراجها يعاود النظر مرّة بعد مرّة. ولذلك سُمِّيَ الأمر المثبت للحكم في الشرع علّة لتكرره بتكرّره (1) .
ثانياً: تعريف العلّة في الاصطلاح:
اختلف الأصوليون في المعنى الاصطلاحي للعلّة تبعاً لاختلافهم في حقيقتها، وأهم هذه المعاني:
[1] أنَّها: "المعرّف للحكم"، أي أنَّها علامة للمجتهد يحصل بها علمه بالحكم، لا الموجب والمؤثّر، ولا الباعث والداعي.
لذلك قالوا في تعريفها: "هي الوصف الخارج المعرّف للحكم".
وهذا قول جمهور الأصوليين من الشافعية والحنابلة وغيرهم، واختاره الرازي في "المحصول" والبيضاوي في "المنهاج".
قال البدخشي: "فاختار المصنف دفعاً لما ذكروا أنَّ العلّة بمعنى المعرّف للحكم لا الموجب والمؤثّر، ولا الباعث والداعي" (2) .
__________
(1) انظر: معجم مقاييس اللُّغة، 4/12-14، مادة (عل)، وأصول الفقه: لفخر الإسلام البزدوي، أبو بكر محمد بن أبي سهل، دار الكتاب العربي، 1372 هـ، 4/129، وكشف الأسرار: لعبد العزيز البخاري، 4/129، وشرح المنار: لابن مالك، 2/908.
(2) انظر: المنهاج مع شرح البدخشي، 3/37.(1/3)
[2] أنَّ العلّة هي: "الوصف المؤثّر بذاته في الحكم". والمراد بـ "المؤثّر": ما به وجود الشيء، كالشمس للضوء، والنّار للاحتراق، وهذا القول مبني على التحسين والتقبيح، وهو قول المعتزلة (1) .
[3] أنَّ العلّة هي: "الوصف المؤثّر في الحكم بجعل الشارع لا لذاته"، هذا قول الغزالي (2) .
[4] أنَّ العلّة هي: "الوصف الباعث للحكم"، وهذا قول الآمدي وابن الحاجب وجمهور الحنفية.
وقصدوا بـ "الباعث": كونها مشتملة على حكمة صالحة لأنْ تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، لا بمعنى أنَّه لأجلها شرعه حتّى تكون باعثاً وغرضاً يلزم منه المحذور. ويصح بأنْ يفسّر أيضاً بأنَّه: الباعث للامتثال،
أي باعث المكلّف على امتثال الحكم (3) .
المطلب الثاني: شروط العلّة:
يشترط في العلّة عدّة شروط، منها ما يلي:
[1] أنْ تكون وصفاً ظاهراً:
__________
(1) جمع الجوامع في أصول الفقه: لابن السبكي، تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، طبع مع شرحه للمحلى، المطبعة الأزهريّة، ط/1، 1331 هـ، 2/232.
(2) شفاء العليل في بيان الشّبه والمخيل ومسالك التعليل: للغزالي، محمد بن محمد أبو حامد، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1390 هـ، ص 47، وص 145.
(3) الإحكام في أصول الأحكام: للآمدي، 3/17، وشرح العضد على مختصر المنتهى: عضد الملة والدين، عبد الرحمن بن أحمد الأيجي، مع حاشية التفتازاني والجرجاني، دار الكتب العلميّة، ط/2، 1403 هـ، 2/213، والتلويح على التوضيح، 2/63.(1/4)
ومعنى كون الوصف ظاهراً أنْ يمكن إدراكه بالحسّ، وأنْ يتحقّق من وجوده وعدمه، وذلك مثل: الإسكار في تحريم الخمر. فإنْ لم تكن ظاهرة فلا تعتبر كالرضا في العقود، فإنَّه وصف خفي لا يعرف، ولذلك جعلت علّة صحة العقود الصيغ الشرعيّة في الإيجاب والقبول، مثل قول: "بعتك" من جانب البائع، و"قبلت" من جانب المشتري، فهذا يكفي في صحة العقد، ولكن في حقيقة الأمر قد يكون أحدهما غير راضٍ (1) .
[2] أنْ تكون منضبطة:
ومعنى كون الوصف منضبطاً أنْ لا يتفاوت في نفسه، بأنْ لا يتخلف بالاختلاف النسب والإضافات. فإنْ لم تكن منضبطة فلا تعتبر، كالمشقة في السفر، فإنَّها تتفاوت بطول السفر وقصره، وكثرة الجهد المبذول فيه وقلّته، ولذلك ناط الشارع الحكم بالسفر سواء وجدت المشقة بالفعل أم لا، قال تعالى { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة: 184] (2) .
[3] أنْ تكون مناسبة لتشريع الحكم:
ومعنى كون الوصف مناسباً للحكم أنَّ ربط الحكم به يغلب معه تحقُّق المصلحة المقصودة لتشريع الحكم. فإنْ لم تكن مناسبة لم يجز أنْ تكون علّة، كأنْ يقال: الصبح لا يقصر، فلا يقدّم آذانه على وقته كالمغرب. فيرد عليه: إنَّ عدم القصر لا تأثير له في عدم تقديم الآذان، فهو وصف طرديّ، أي يخلو عن المناسبة، ويعلم عدم التفات الشارع إليه، ولهذا استوى المغرب وغيره ممَّا يقصر في عدم تقديم الآذان (3) .
[4] أنْ تكون متعديّة:
__________
(1) شرح العضد لمختصر ابن الحاجب، 2/213-214، وأصول الفقه: لعبد الوهاب خلاف، ص 68.
(2) انظر: مفتاح الوصول: للتلمساني، ص 100.
(3) انظر: المنخول، ص 425، وشرح العضد لمختصر ابن الحاجب، 2/266، وإرشاد الفحول: للشوكاني،
ص 207.(1/5)
وهي ما تجاوزت محل النّص إلى غيره، فإنْ لم تكن متعديّة، بأنْ كانت قاصرة على محلها، فلا يخلو إمَّا أنْ تكون منصوصة أو مستنبطة، فإنْ كانت منصوصة، كالسفر" صحَّ التعليل بها إجماعاً، وإنْ كانت مستنبطة فقد اختلف العلماء في التعليل بها.
المبحث الثاني: معنى السَّبر والتَّقسيم في اللُّغة والاصطلاح
المطلب الأول: معنى السَّبر والتَّقسيم لغة:
السَّبر ـ بالفتح ـ: اختبار الشيء، ومنه: "المسبار" أو "السّبار": آلة اختبار غور الجرح ليقتص بمثله (1) .
والتَّقسيم: تجزئة الشيء، بأنْ يقال: الشيء إمَّا كذا، وإمَّا كذا (2) .
المطلب الثاني: معنى السَّبر والتَّقسيم اصطلاحاً:
والسَّبر في الاصطلاح: هو اختبار الوصف، هل يصلح للعلّيّة أم لا؟
والتَّقسيم في الاصطلاح: هو حصر الأوصاف الموجودة في الأصل التي يظنّ صلاحيتها للعلّة ابتداءً، فيقال: العلّة إمَّا كذا وإمَّا كذا.
ثم أطلق مجموع هذين اللفظين في الاصطلاح على مسلك خاص من مسالك العلّة، وعرّفوه بأنَّه: "حصر الأوصاف التي توجد في الأصل "المقيس عليه"، والتي تصلح للعلّيّة في بادئ الرأي، ثم اختبارها بإبطال ما لا يصلح بطريقة، فيتعيّن الباقي للعلّيّة" (3) .
والمراد بـ "الحصر": مجرّد ذكر الأوصاف، وليس المراد منه أنْ تذكر منحصرة، أي مرددة بين النفي والإثبات ليشمل قسميْ التقسيم المنحصر والمنتشر (4) .
__________
(1) تاج العروس، 3/253، مادة (سبر).
(2) القاموس المحيط، 4/166، مادة (قسم).
(3) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، 2/236، ونفائس الأصول في شرح المحصول: لشهاب الدين القرافي، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، مكتبة نزار الباز، المملكة العربيّة السُّعوديّة، ط/3، 1420 هـ، 8/3522، والمنهاج للبيضاوي مع شرح البدخشي، 3/71.
(4) نبراس العقول، ص 368.(1/6)
وتسمية هذا المسلك بمجموع هذين الاسمين واضحة، إلاَّ أنَّ الموافق للترتيب الخارجي أنْ يقال: "التَّقسيم والسَّبر"، بتقديم "التَّقسيم" على "السَّبر"، لكنهم عكسوا الترتيب؛ لأنَّ السَّبر هو أهم الأمرين في الدلالة على العلّيّة، "والتَّقسيم" ما هو إلاَّ وسيلة إليه، وعادة العرب تقديم الأهم في التعبير على غيره (1) .
وقد يُسمَّى هذا المسلك بـ "السَّبر"، وقد يُسمَّى بـ "التَّقسيم" (2) .
المبحث الثالث: تقسيم مسلك السَّبر والتَّقسيم
قسّم الأصوليون هذا المسلك باعتبار أحد جزئيه ـ وهو "التَّقسيم" ـ إلى قسمين:
التَّقسيم الأول: التَّقسيم الحاصر:
وهو الذي يدور بين النّفي والإثبات بأنْ يحصر الأوصاف التي يمكن التعليل بها للمقيس عليه حصراً يدور بين النّفي والإثبات، ثم يختبرها، ويبطل ما لا يصلح منها بدليله: إمَّا بكونه طرداً أو ملغيّاً أو نقض الوصف أو كسره أو خفائه واضطرابه أو بأيّ دليل آخر، فيتعيّن الباقي للعلّيّة.
وهذا القسم قطعي لإفادة العلّة إنْ كان حصر الأقسام وإبطال ما عدا الواحد منها قاطعاً.
ويجوز التَّمسُّك به في القطعيات والظنيات، فالأول: كقولنا: العالم إمَّا أنْ يكون قديماً أو حادثاً، وبطل أنْ يكون قديماً فثبت أنَّه حادث. والثاني: كأنْ يقول الشافعي: ولاية الإجبار في النكاح إمَّا ألاَّ تعلّل أو تعلّل بالبكارة أو الصغر أو الأبوة أو غيرها.
__________
(1) شرح تنقيح الفصول: لشهاب الدين القرافي، دار الفكر، ط/1، 1393 هـ، ص 398، والمنهاج: للبيضاوي مع شرح البدخشي، 3/71، ونفائس الأصول، 8/3524.
(2) انظر: المنهاج: للبيضاوي، 3/71.(1/7)
لا جائز أنْ تكون غير معلّلة، ولا أنْ تكون معلّلة بغير البكارة والصغر؛ لأنَّ الإجماع قائم على أنَّها معلّلة، وأنَّ العلّة منحصرة في هذين الوصفين. ولا يصح أنْ يكون الصغر هو العلّة، وإلاَّ لزم أنْ تكون الصغيرة مجبرة ولو كانت ثيباً مع أنَّ النص يدلُّ على أنَّ الثيب لا تجبر في النكاح؛ بل هي أحقّ بنفسها من وليها، كما قال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : (الثيب أحقّ بنفسها) (1) .
والثيب: لفظ يتناول الصغيرة والكبيرة، فتعيّن أنْ تكون العلّة في الإجبار البكارة (2) .
القسم الثاني: التقسيم غير الحاصر:
ويُسمَّى "المنتشر"، وعبَّر عنه البيضاوي بـ "السَّبر غير الحاصر" (3) . وهو الذي لا يكون دائراً بين النفي والإثبات، أو دار بين النفي والإثبات، ولكن كان الدليل على نفي علّيّة ما عدا الوصف المعيّن فيه ظنيّاً، كقول الشافعيّة: علّة الربا في غير النقديين من الربويات إمَّا الطعم أو الكيل أو القوت، والثاني والثالث باطلان بطريقة، فتعيّن الأوّل وهو الطعم، ففي الحديث الصحيح: (الطعام بالطعام، مثلاً بمثل) (4) .
وهذا القسم يفيد الظنّ، فلا يكون حُجَّة في العقليّات؛ بل في الشرعيّات فقط، هذا إذا لم يتعرض الإجماع على تعليل حكمه وعلى حصر العلّة في الأقسام، فإنْ تعرّض لذلك كان تقسيماً حاصراً، فكان قطعيّاً (5) .
المبحث الرابع: شروط صحة السَّبر
يشترط لصحة السَّبر أربعة أمور:
الأوّل: أنْ يكون الحكم في الأصل معلّلاً:
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق، برقم 1421، 2/1037.
(2) البحر المحيط: للزركشي، 4/200، ونهاية السول، 3/71.
(3) المنهاج مع شرحه: للإسنوي، 3/70.
(4) نهاية السول شرح منهاج الوصول، 3/71، والحديث أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاُ بمثل، برقم 1592، وابن حبان في كتاب البيوع، باب الربا، برقم 5011.
(5) نهاية السول، 3/70-71.(1/8)
إذ لو كان تعبُّداً لامتنع القياس.
الثاني: أنْ يجمعوا على تعليل حكم الأصل:
قال أبو الخطاب (1) : "إذ بتقدير أنْ يكون مختلفاً في تعليله فللخصم إلزامه التَّعبُّد فيه، فيبطل القياس".
وفصّل الطوفي (2) في ذلك فقال: "وهذا موضع تفصيل، وهو أنْ يقال: إنْ كان المستدل مناظراً أو خصمه منتمياً إلى مذهب ذي مذهب كفاه موافقة الخصم على التعليل، ولم يعتبر الإجماع عليه من الأُمَّة، إذ بدونه له أنْ يلزم التَّعبُّد في الأصل ويفسد كلّ علّة علَّل بها. أمَّا إذا أجمع على كونه معلّلاً لم يمكنه ذلك لمخالفة الإجماع..." (3) .
الثالث: أنْ يكون سبره حاصراً لجميع ما يعلّل به:
إمَّا بموافقة خصمه، وإمَّا أنْ يظهر عجزه عن إيراد غيره. ويقول لخصمه: إنْ اطّلعت على علّة أخرى فيلزمك إظهارها، لننظر في صحتها (4) .
الرابع: أنْ يثبت أنَّ الأوصاف التي أبطلها لا تصلح للتعليل:
وذلك من ثلاثة أوجه:
__________
(1) هو: محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني، البغدادي، الأزجي، الحنبلي، كنيّته أبو الخطاب، وُلِدَ سنة 342 هـ، من تصانيفه: "التمهيد في أصول الفقه"، توفى سنة 510 هـ. لنظر ترجمته في: شذرات الذهب، 3/292.
(2) هو نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد، الطوفي، الصرصري، البغدادي، وُلِدَ سنة 675 هـ، له تصانيف كثيرة في علوم القرآن، والحديث، والفقه وأصوله، والنحو، واللُّغة، والتاريخ، منها: "شرح مختصر الروضة"، و"معراج الوصول إلى علم الأصول"، توفى سنة 716 هـ. انظر ترجمته في: ذيل طبقات الحنابلة: لابن رجب، زين الدين أبو الفرق عبد الرحمن بن أحمد البغدادي الحنبلي، متطلبة السُّنَّة المحمديّة، 1372 هـ، 2/366، والدرر الكامنة: لابن حجر، 2/249.
(3) انظر: شرح مختصر الروضة: للطوفي، تحقيق د. عبد الله عبد المحسن التركي، ط/2، 1419 هـ، 3/405
فما بعدها.
(4) المستصفى، 1/435، وشرح مختصر الروضة، 3/406 فما بعدها.(1/9)
الوجه الأوّل: بيان بقاء الحكم بدون ما يحذفه فيبيّن أنَّه ليس من العلّة، إذ لو كان منها لم يثبت الحكم بدونه، وهذا يُسمَّى بـ "الإلغاء"، مثل: أنْ يقول الحنبلي أو الشافعي: يصح أمان العبد، لأنَّه أمان وجد من عاقل مسلم غير متهم فيصح قياساً على الحُرّ، فيقول الحنفي: إنَّ ما ذكرته من أوصاف العلّة في الأصل فقط، وتركت وصفاً آخر ـ وهو الحُرِّيَّة ـ هو مفقود في العبد، وحينئذ لا يصح القياس، فيقول المستدل: وصف "الحُرِّيَّة" ملغي بالعبد المأذون له، فإنَّ أمانه يصح باتفاق مع عدم الحُرِّيَّة فصار وصفاً لاغياً، لا تأثير له في الحكم (1) .
الوجه الثاني: أنْ يبيّن طرديّته ـ أي من جنس ما علم من الشارع إلغاؤه وعدم الالتفات إليه في إثبات الحكم ـ سواء كان ذلك في جميع الأحكام: كالطول والقصر، والسواد والبياض بالنسبة للآدميين، فإنَّه لم يعتبر في شيء من الأحكام، لا في القصاص، ولا في الكفارة، ولا في الإرث، ولا في العتق، ولا في غيرها، فلا يعلّل بهما حكم أصلاً، أو في بعض الأحكام كالذكورة والأنوثة، فإنَّهما لم يعتبرا في العتق، فلا يعلّل بهما شيء من أحكامه، وإنْ اعتبر في غيره كالشهادة، والقضاء، وولاية النكاح، والإرث (2) .
الوجه الثالث: أنْ لا تظهر مناسبة الوصف المحذوف بعد البحث عنها، ولا يجب ظهور عدم المناسبة بدليل؛ بل يكفي قول المستدل: بحثت في الوصف المحذوف فلم أجد له مناسبة، وكان أهلاً للنظر والبحث عدلاً، فالظاهر صدقه، ويلزم من ذلك حذف الوصف.
كأنْ يقول المستدل: العلّة في حرمة الخمر إمَّا الإسكار أو كونه ماء العنب. وغير الإسكار لا يكون علّة بالطريق الذي يفيد إبطال علّة الوصف، فتعيّن الإسكار للعلّة.
__________
(1) البحر المحيط، 4/205، وشرح مختصر الروضة، 3/407، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد، ص 157.
(2) شرح العضد لمختصر ابن الحاجب، 2/238، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي، 3/66.(1/10)
فإنْ ادّعى المعترض أنَّ الباقي كذلك، فلو أوجبنا على المستدل بيان المناسبة خرج عن السَّبر وصار "إخالة" (1) ، ولا طريق للتحكُّم، فلزم القول بالتعارض، والمصير إلى الترجيح. ثم للمستدل أنْ يرجح سبره بموافقته لتعدية الحكم، وموافقة سبر المعترض لعدمها، والتعدية أوْلَى ليعم الحكم وتكثر الفائدة.
وهذا الوجه قال به بعض الشافعيّة، واختاره الآمدي وابن الحاجب، ولم يعتبره ابن قدامة، إذ يعارضه الخصم بمثله في وصفه، ولا يكفيه نقضه لاحتمال كونه جزء علّة أو شرطاً فيها (2) .
الخامس: اشترط بعض الأصوليين أنْ يبيّن المستدل كيفيّة السَّبر:
ليكون مؤسساً دليلاً، غير مقتصر على مجرّد الحكاية مدعياً استيعاب جميع الأقسام.
قال الغزالي في "المنخول": "وقد اختلفوا في مسألة جدليّة، وهو أنَّ المستدل لو قال: سبرت، هل يلزمه إبداء كيفيّة السَّبر؟ فمنهم مَنْ قال: لا؛ لأنَّه لا يستفيد درأ قوله: يحتمل أنْ يكون وراءه تقسيم، فإنّه متوجّه؛ ذكره أو لم يذكره. وهو محتاج في رسم الجدال إلى إبداء قسم آخر. والمختار أنَّه لا بُدَّ من إبداء كيفيّة السَّبر؛ ليكون مؤسساً دليلاً، غير مقتصر على مجرّد الحكاية والدعوى للتشوُّف إلى استيعاب الأقسام، كما تقول: الخمر هو: مائع، أحمر، يقذف الزبد، ويسكر، ولا يعلّل بهذه الأقسام لبطلانها، فلم يبق إلاَّ الإسكار" (3) .
المبحث الخامس: مذاهب الأصوليين في إثبات العلّة بالسَّبر والتَّقسيم
__________
(1) الإخالة: هي المناسبة، وتُسمَّى "إخالة"؛ لأنَّه بالنظر إلى الوصف يخال أنَّه علّة، أي يظنّ ذلك. انظر: نهاية السول: للإسنوي، 3/50، ومختصر ابن الحاجب، 2/239، وإرشاد الفحول، ص 214.
(2) الإحكام: للآمدي، 3/66-67، وشرح العضد لمختصر ابن الحاجب، 2/237-238، والتعريفات للجرجاني، ص 62، وشرح المحلى على جمع الجوامع، 2/272.
(3) انظر: المنخول، ص 351.(1/11)
في عملية السَّبر والتَّقسيم إذا كان حصر الأوصاف قطعيّاً والإبطال قطعيّاً اتفق الأصوليون على أنَّ هذا مفيد للعلّيّة قطعاً، ولكنه قليل في الشرعيّات (1) . وفيما عدا ذلك يكون مفيداً للعلّيّة ظنّاً، كما إذا كان الحصر ظنياً أو السَّبر ظنياً أو كلاهما ـ وهو الأغلب ـ، فهذا ما اختلف فيه الأصوليون على أربعة أقوال:
القول الأول: إنَّه حُجَّة مطلقاً، أي للناظر لنفسه والمناظر لغيره، وهذا قول جمهور الأصوليين (2) .
القول الثاني: إنّه ليس بحُجَّة مطلقاً، وهو قول جمهور الحنفيّة، وحكاه في "البرهان" عن بعض الأصوليين (3) .
القول الثالث: إنَّه حُجَّة للناظر والمناظر، أي أجمع على تعليل ذلك الحكم في الأصل، وبه قال أبو الحسين البصري، واختاره الجويني وأبو الخطاب (4) .
القول الرابع: إنَّه حُجَّة للناظر دون المناظر، واختاره الآمدي (5) .
الأدلة:
استدلَّ أصحاب القول الأول بأنَّ الحكم لا بُدّ له من علّة، وقد دلّ المسلك المذكور على غلبة الظنّ بالعلّيّة، حيث ثبت به حصر الأوصاف الصالحة للعلّيّة، وإبطال غير الصالح منها، وانحصار التعليل فيما بقي بعد الحذف.
فثبت بهذا علّيّة المستبقي بعد الحذف، فيجب حينئذ اعتبارها، للإجماع على وجوب العمل بالظنّ في علل الأحكام.
__________
(1) نهاية السول شرح منهاج الوصول، 3/71، وأصول الفقه: لعبد الوهاب خلاف، ص 77.
(2) المسودة في أصول الفقه: لآل تيمية، مطبعة المدني، القاهرة، ص 426، وشرح المحلى على جمع الجوامع، 2/271، وأصول السرخسي، 2/231.
(3) أصول السرخسي، 2/231، ومسلم الثبوت، 2/256، والبحر المحيط للزركشي، 4/202.
(4) المعتمد، 2/784، والبرهان: لإمام الحرمين، 2/835.
(5) منتهى السول: للآمدي، 3/20، والبحر المحيط: للزركشي، 4/202-203.(1/12)
أمَّا بالنسبة للناظر فظاهر، وأمَّا المناظر فكونه حُجَّة عليه أنَّه يفيد الظنّ ما لم يدفعه، وما يفيد الظنّ يجب العمل به، فإنْ كان المناظر مجتهداً وجب عليه، وإنْ كان مقلداً توجّه الإلزام على مَنْ قلّده (1) .
واستدلّ أصحاب القول الثاني ـ وهم الذين يقولون بعدم اعتباره ـ بأنَّه يجوز إبطال المستبقي من الأوصاف بعد الحذف كما بطل غيرها؛ لأنَّ علّيّة المستبقي ثبت بالظنّ، والظنّ عرضة للخطأ.
وأُجيب عنه بأنَّ الحكم لا يخلو من علّة ظاهرة غالباً، وأنَّ علّته لا تعدو أوصاف محله، فإذا بطل ما عدا المستبقي تعيّن للعلّيّة، ولا أثر لجواز بطلانه (2) .
واستدلّ أصحاب القول الثالث بأنَّه لو لم يكن حُجَّة في حال الإجماع على تعليل حكم الأصل لأدَّى بطلان الباقي إلى خطأ المجمعين (3) .
وأُجيب بأنَّه لا ينافي أنَّه في غير هذه الحالة لإفادته غلبة الظنّ حُجّة أيضاً (4) .
واستدلّ أصحاب القول الرابع بأنَّ ظنّ الشخص لا يقوم حُجَّة على خصمه، فلا يكون حُجَّة إلاَّ للناظر دون المناظر (5) .
وأُجيب بأنَّا قد بيّنا أنَّه إذا كان مفيداً لغلبة الظنّ في ذاته من غير دافع كان حُجَّة للمناظر أيضاً.
الترجيح:
__________
(1) تقرير الشربيني على حاشية البناني لشرح المحلى، 2/271.
(2) شرح المحلى لجمع الجوامع، 2/271، ونبراس العقول، ص 374.
(3) شرح المحلى على جمع الجوامع، 2/271.
(4) نبراس العقول، ص 374.
(5) الإحكام للآمدي، 3/266-267.(1/13)
بعد استعراض الأقوال والأدلة والمناقشات من كلّ طرف يترجّح لنا أنَّ السَّبر والتَّقسيم طريق موصل إلى معرفة العلّة مطلقاً؛ لأنَّ الأصل في الأحكام التعليل، فمهما أمكن جعل الحكم معلّلاً لا يجعل تعبُّداً، وأنَّ الأصل في الوصف الذي أنيط به الحكم أنْ يكون مناسباً، فمتى أمكن إضافته إلى المناسب لا يضاف إلى غيره، وأنَّه لا يناسب إلاَّ الوصف الباقي بعد السَّبر الحاصل من حاذق متمرس في استخراج العلل، فوجب كونه علّة (1) .
الخاتمة:
فبعد هذه الجولة العلميّة حول مادة هذا البحث التي استعرضت فيها آراء العلماء حول مسائله بأسلوب قصدت أنْ يكون سهلاً يتمكّن طلاب العلم من فهمه، نخلص إلى النتائج الآتية:
[1] السَّبر والتَّقسيم عمليّة عقليّة يعتمد فيها على إثبات العلّة عندما يرد نص شرعي بحكم من الأحكام، ولم يوجد في النص ما يدلُّ على العلّيّة، كما لم يوجد إجماع يدلُّ عليها، فيقوم المستدل بالقياس بحصر الأوصاف الموجودة في محل الحكم، ثم يختبرها وَفق شروط العلّة، فيحذف ما لا يتوفر فيه هذه الشروط ويبطله، حتّى يبقى وصف تتوافر فيه شروط العلّة.
كما تقول: الخمر هو: مائع، أحمر اللون، يقذف الزبد، ويسكر، فلا يعلّل بهذه الأقسام لبطلانها، ويبقى فقط الإسكار، فيكون هو علّة تحريم الخمر.
[2] ينقسم هذا المسلك باعتبار أحد جزئيه ـ وهو التَّقسيم ـ إلى قسمين، هما: التَّقسيم الحاصر، والتَّقسيم غير الحاصر "المنتشر".
فالتَّقسيم الحاصر هو الذي يدور بين الإثبات والنّفي، فيفيد القطع إنْ كان الحصر في الأقسام وإبطال غير المطلوب قطعيّاً.
وأمَّا التَّقسيم غير الحاصر "المنتشر" فهو الذي لا يكون دائراً بين النّفي والإثبات، فهو يفيد الظنّ.
[3] يشترط لصحة السَّبر خمسة أمور، هي:
[أ] أنْ يكون الحكم في الأصل معلّلاً.
[ب] أنْ يجمعوا على تعليل حكم الأصل.
__________
(1) شرح مختصر الروضة: للطوفي، 3/411، وتنقيح الفصول، ص 398.(1/14)
[ج] أنْ يكون السَّبر حاصراً لجميع ما يعلّل به.
[د] إثبات أنَّ الأوصاف التي أبطلها لا تصلح للتعليل.
[هـ] بيان كيفيّة السَّبر.
[4] السَّبر والتَّقسيم طريق من طرق إثبات العلّة مطلقاً، وهو قول جمهور الأصوليين، وقد قامت عليه الأدلة القويّة التي لا تناهضها أدلة الأقوال الأخرى.
.. وصلَّى الله على نبينا مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه وسلّم ..(1/15)