'
ط
ط
ط
ط
ط
اعتنى به
سالم بن ناصر القرينيط
ط
ط
الحمد لله الذي أتحف العلماء بإتحاف النبهاء ، في شرح شيء من ضوابط الفقهاء الذي استوى على عرشه استواءً حقيقياً يليق بخالق الأرض والسماء ، واتصف بصفات الكمال التي ليس له فيها شبيه ولا مثال ، واسع الفضل والعطاء ، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعز سلطانه ، وأشهد أن لا إله إلا هو المتفرد بالربوبية والألوهية والملك والسلطان والقهر والأحدية والصمدية والأزلية والأبدية ، وأشهد أن محمداً عبده المصطفى ورسوله المجتبى بلغ فأتم البلاغ على الوجه الأكمل وختم الله به النبوات فهو الأفضل صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأطهار الكرام البررة الأخيار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً ما تعاقب الليل والنهار . أما بعد :-(1/1)
فإنني بفضل الله وحسن توفيقه ومحض فضله لما أتممت الكلام على القواعد الفقهية في تلقيح الأفهام العلية ، وعلى القواعد الأصولية في تحرير القواعد ومجمع الفرائد ، اشتاقت النفس إلى ضبط الأبواب الفقهية بضوابط تكون معينة لي ولمن شاء الله من عباده على معرفة أحكام فروعها وجزئياتها ، فإن هذه الأحكام التي ينص عليها الفقهاء في كتبهم إنما ترجع إلى ضوابط وقواعد ، وبضبطها يضبط الفقه فمن رام الوصول إلى أعلى المراتب في الشريعة فعليه بهذا الطريق الذي والله رأيت بركته ، مع أنني أرى من أهل زماني زهداً في الإطلاع على ما كتبته وحق لهم ذلك فإنه لا يفيد وإنما هي إشارات وعبارات هم إن شاء الله أغنياء عنها وإني يعلم الله أني أحب للجميع ما أحبه لنفسي وأرجو الله تعالى أن يكون فيمن يأتي بعدي من يحرص على ذلك فالوصية لمن انتفع بشيء مما كتبته أن يدعو لمقيده بالمغفرة والجنة ، فإنه العاجز الفقير الضعيف الذي كثر زلله وعظم خلله ، وإني أوصيك أيها المبارك أن لا تحقر الاستفادة ممن هو دونك بمراتب فإن هذا نوع كبر مذهب لبركة العلم وموجب للخسارة والله يؤتي ملكه من يشاء وينزعه ممن يشاء ، واحذر يا طالب العلم من اللهث وراء المال والمنصب فإنه باب شر وفتنة على الجميع وخصوصاً أهل العلم ، وإياك وطرق أبواب الملوك والأمراء فقد ذل علم الشريعة عندهم بدريهمات تحصلها سحتاً أو بكرسي يلتهب تحتك ناراً ، فأزهد فيما عندهم يفتقرون لما عندك ، وأفتقر لما عندهم يزهدون في علمك وتذهب هيبتك من قلوبهم ويفسد نظام العالم ، فإن العالم بخير ما عظم العلماء ، ورفع قدرهم وحمي ضبابهم ، فهم مصابيح الدجى وأنوار الظلام وأعلام الهدى ، فما أحسن أثرهم على الناس ، فعظم العلم الذي في قلبك يعظمك الله ، وإياك أن تبتذله عند أمير أو ملك كائناً من كان فالعلماء هم رؤوس الناس وكل سيموت ويواجه عمله ، فلا نؤتى من قبلك أيها المبارك ولا يخدعنك زخرف الدنيا وبهرجها فهي(1/2)
إنما كفر أهلها الذين هم أهلها ، أما العالم فلا ولا ألف لها فما له ولها ؟ فإنما هي عندنا ظل زائل وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، واصبر وصابر ورابط واتق الله لعلك أن تكون من المفلحين فإنما هي دقائق معدودة وأنفاس محسوبة ثم تعود الروح إلى ملكوتها العلوي في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، أسأل المولى بمنه وكرمه واسمه الأعظم أن يجمعنا وإياك مع صالح سلفنا وأن يحشرنا في زمرة الأنبياء والعلماء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فاللهم ارحم العلماء رحمة واسعة وأرفع نزلهم في الفردوس الأعلى وتجاوز عن خطئهم واغفر لأمواتهم وثبت أحياءهم وأكفهم شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم ، فإن الظن بك يا كريم يا رحمن يا رحيم إنكم ما ملأت قلوبهم بعلمك وأنت تريد أن تعذبهم ، والوصية لأهل العلم بتقوى الله تعالى في السر والعلانية فإن التقوى هي اللباس والزاد والعناء الحقيقي ، ثم بالإخلاص في كل مصادرهم ومواردهم ثم بالمتابعة للحبيب - صلى الله عليه وسلم - ببذل الجهد الكامل بالعمل والتعليم مشافهة وتأليفاً ثم بالصبر على ما يواجه العلماء عادةً فإن من رام النجاة من مثل هذه الابتلاءات فالراحة خير له وليجع من أول الطريق ، فاللهم اهد عدونا وأصلح قلبه وخذ بناصيته للبر والتقوى ووفقه لقبول الحق وبارك في عمره واجعلنا ممن يدرأ السيئة بالحسنة ، وأصلح قلوبنا ونقها في ديننا واهدنا سبل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ، أقول : إن هذا الكتاب الذي سأضعه بين يديك إن شاء الله تعالى يبحث لك في كل باب وكتاب فقهي عن قواعده وضوابطه التي ستحصلها تمتلك أزمة فروعه ولا أقول إني أتيت على كل الضوابط وإنما هو نزر يسير منها فهو عبارة عن مفتاح يهديك إلى ما وراءه ، ويطلعك على أهمية التقعيد والتأصيل ، وهو جهد المقل العاجز وعمل البشر مناطه النقص فإن اطلعت فيه فاطلع بقصد(1/3)
الاستفادة لا ينظر من يبحث عن العيب والتناقص فإن هذا لا يسلم منه أحد وإن مررت على شيء من ذلك فالله الله بالنصيحة الواجبة بين الأحبة بآدابها وضوابطها ، لا بقلة الأدب ورفع الصوت التطبيل وراء الأخطاء كما يفعله بعض من لا خلاق له عافانا الله وإياهم من ذلك وأسميت هذه الكتابة بإتحاف النبهاء يشرح شيء من ضوابط الفقهاء وإني اكتفيت فيه بالكلام إلى باب الجمع فقط وأما كتاب المعاملات فلي فيها مؤلف آخر وهو قواعد البيوع وفرائد الفروع . وأما ما بعده من الأبواب فأرجو من الله الكريم أن يمد في عمري إلى أن أتم الكلام عليه ، وطريقي فيه هي بعينها طريقي فيما قبله من كتب القواعد ، وهو أن أذكر الضابط أولاً ثم أشرح ثم أذكر ما يدل عليه من الكتاب والسنة ثم أبدأ في التفريع عليه من نفس هذا الباب أو الكتاب الفقهي مع ذكر بعض المسائل والتنبيهات التي لا يستغنى عن معرفتها الفقهية ، ولم آل جهداً في تيسير العبادة وتوضيح المقصود مع تعريفك الراجح بدليله إن ذكرت الخلاف ، ولا أقصد بذلك طباعته في كتاب مستقل فإن هذا بعيد المنال ، لكن الوصية لمن قدر على تحقيقه وإخراجه للناس في صورة مقبولة أن لا يأخذ على ذلك أجراً إذ العلم مبذول للعالمين بلا مقابل فليشهد الله تعالى ومن حضرني من الملائكة وعقلاء الشياطين أني قد أوقفت كل كتبي لله تعالى ، ولا أجزأ لأحد أن يتحكم فيها بحفظ حقوق الطبع فإن هذه الكلمة دخيلة على المسلمين فيما أظن والله أعلم ، فنعوذ بالله أن نتأمل بالعلم أو نكون ممن اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً ، فأسأل الله تعالى أن ينزل فيه البركة تلو البركة وأن يشرح له الصدور ويفتح فيه الأفهام ويجعله عمدة في هذا الباب وأن يغفر لي ما حصل فيه من الزلل والخطأ واستغفر الله وأتوب إليه والله أعلى وأعلم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأقول وبالله التوفيق ومنه استمد الفضل بحسن الكتابة والتحقيق .
الضابط الأول(1/4)
الأصل في المياه الطهورية إلا بدليل
أقول وبالله التوفيق :- اعلم رحمك الله تعالى أن خير ما حرص عليه طالب العلم في تحصيله العلمي هو ضبط القواعد والأصول مع أدلتها ومعرفة التفريع عليها فإنها الطريق الأسلم في التحصيل ، وهي حزام أمان من التشويش بكثرة الفروع ، وقد جربت هذا الطريق وطريق التفريع فوجدت أن طريق التأصيل والتقعيد لا يعلى عليه وقد ذكرت في قواعد البيوع طرفاً من فوائد ذلك ، وهذا الأصل الذي معنا هو العمدة في باب المياه الذي لابد أن يكون نصب عينيك في دراسة هذا الباب ولا تغفل عنه أبداً وأنت تنظر في فروع باب المياه التي نص عليها الفقهاء ، قوله ( الأصل ) أي القاعدة المستمرة ( في المياه ) جمع ماءٍ وهو معروف ، وهو اسم جنس يصدق على الكثير والقليل ولكن جمع هنا باعتبار أقسامه ، ( الطهورية ) أي أن كل ماءٍ رأيته من أي مصدر كان سواءً نزل من السماء أو نبع من الأرض أو كان واقفاً أو جارياً أو كان ماء عيون أو آبار أو بحار وغير ذلك ، كل لك يحكم عليه بأنه طهور مطهر ، بمعنى أنه صالح لرفع الحدث وإزالة الخبث ، قوله إلا ( بدليل ) أي أنه يجب عليك أن تبقى على هذا الأصل المتقرر إلا إذا ورد الدليل الصريح الصحيح بإخراج شيء من المياه عن هذا الأصل المتقرر ، وبناءً عليه فالواجب هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل المعتمد الصحيح في مبناه والصريح في معناه ، فإذا جاء هذا الناقل فانتقل وإلا فالأصل هو البقاء على هذا الأصل والدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه ، أي أن من حكم على شيء من المياه بأنه غير صالح لرفع الحدث أو إزالة الخبث فإنه مطالب بالدليل على إثبات هذه الدعوى وإلا فقوله غير مقبول ، وذلك لأن الأصل المتقرر قد ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة والاعتبار الصحيح وما ثبت باليقين فإنه لا يرفع إلا باليقين ، أما الأهواء والمذاهب والشكوك والوساوس والاحتياطات التي ما أنزل الله بها من(1/5)
سلطان فإنها ليست بدليل صالح للانتقال عن ما ثبت به الدليل ، ولذلك فالقاعدة تقول : ما ثبت بالدليل فلا ينتقل عنه إلا بالدليل ، واعلم أن هذا الانتقال نوع من الأحكام الشرعية فلا يوفيه من الدليل ، والقاعدة تقول : الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، وقد تقرر في القواعد أيضاً :- أن اليقين لا يزول بالشك . إذا علمت هذا فاعلم أن الأصل المهم في باب المياه قد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع في الجملة والاعتبار الصحيح ، وإليك البيان :-
فمن الأدلة : قوله تعالى " وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً لنحيي به بلدةً ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا " وهذا نص في الأصل فإنه حاكم الحكم القطعي على أن الماء الذي نزل من السماء ماء طهور ، ومفاده أنه يرفع به الحدث ويزال به الخبث ويجوز استعماله بسائر الاستعمالات من طبخ ومن شرب ونحو ذلك ومن المعلوم أن الماء الذي في باطن الأرض إنما يكتسب مادته من الماء النازل من السماء كما قال تعالى " فسلكه ينابيع في الأرض " والله أعلم .(1/6)
ومنها : قوله تعالى " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه " وقد تقرر في الأصول :- أن لفظة ( ما ) تفيد العموم لأنها من الأسماء الموصولة ، والأسماء الموصولة من صيغ العموم ، وقد تقرر في القواعد أن الأصل هو العموم حتى يرد المخصص ، وبناءً عليه فيكون الماء داخلاً في هذا العموم ، وقد قضت الآية أن كل ما في الأرض فإنه مسخر لنا والماء مما في الأرض ومقتضى تسخيره لنا جواز الانتفاع به ، أي أن القول بطهوريته من مقتضى تسخيره لنا ، إذ لو كان نجساً لما كان مسخراً لنا ، فدل ذلك على أن الأصل فيه الحل والإباحة والطهورية . ومن ادعى خلاف ذلك فإنه يكون بذلك الادعاء مخرجاً فرداً من أفراد العموم على دلالته المتقررة بالدليل ، وقد تقرر في القواعد أن ما ثبت بالدليل فإنه لا يرفع إلا بالدليل ، والله أعلم .
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الماء طهور لا ينجسه شيء " رواه الثلاثة وصححه غير واحد من الأئمة ، وهو نص صريح صحيح في إثبات سلامة هذا الضابط ، فقوله ( الماء ) اسم جنس دخلت عليه الألف واللام وقد تقرر في القواعد أن الألف واللام الإستغراقية إذا دخلت على اسم الجنس أفادته العموم فيدخل في ذلك كل ما يسمى ماءً فيحكم له بهذا الحكم النبوي العام ، ولا أظن أحداً يعرف وجه الاستدلال يناقش في صراحة هذا الحديث وأنه من أقوى الأدلة على إثبات صحة هذا الضابط . والله أعلم .
وهو كما قدمنا لك تفصيله بأدلته وإليك إتماماً للفائدة بعض الفروع المخرجة على هذا الضابط فأقول :-(1/7)
منها :- الماء المستعمل في طهارة عند الأصحاب لا يخلو من حالتين إما أن يستعمل في طهارة مستحبة وإما أن يستعمل في طهارة واجبة فإن استعمل في طهارة مستحبة فإنه يكره التطهر به مع وجود غيره ، وإما إن كانت الطهارة واجبة فإنه تزول طهوريته أصلاً فلا يرفع به الحدث والصواب أن الماء المستعمل في طهارة طهور مطهر يرفع الحدث ويزال به الخبث ذلك لأن الأصل في المياه الطهورية إلا بدليل ولا دليل فيما أعلم يقضي بإخراج الماء المستعمل عن هذا الأصل فحيث لا دليل فالواجب هو البقاء على الأصل ، بل قد ورد الدليل بنص ذلك كما في مسلم عن حديث أبن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بفضل ميمونه رضي الله عنها " ولأصحاب السنن " أغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حفنة فجاء يغتسل منها فقالت إني كنت جنباً فقال " إن الماء لا يجنب " وفي الصحيح " كان الرجال والنساء يتوضؤن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً وفي الصحيح من حديث جابر في قصة مرضه قال " ثم توضئ النبي صلى الله عليه وسلم وصب وضوءه علىّ فعقلت " فهذه الأدلة تفيد أن الماء المستعمل في الطهارة طهور مطهر باقِ على الأصل ، ولأن هذا الماء قصاراه أن يكون قد لاقى أعضاءً طاهرة وملامستها لا توجب تنجيسه ولا زوال طهوريته ، وأما حديث أبي هريرة في الصحيح مرفوعاً " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب " فإن العلة ليست لأنه يزول بذلك طهوريته وإنما سد ذريعة تغذيره ، وعلى كل فالصواب هو أن الماء المستعمل مستحبة أو واجبة أنه ماء طهور مطهر باقٍ على الأصل الذي كان عليه سابقاً والله ربنا أعلى وأعلم .(1/8)
ومنها : القول الراجح والله تعالى أعلى وأعلم هو أن الماء القليل الراكد الذي اغتسل فيه الخبث يحكم له بهذا الأصل أيضا ، فهو ماء طهور مطهر يرفع به الحدث ويزال به الخبث ، ومن ينجسه أو سلب طهوريته فعليه الدليل لأنه ينقلنا عن الأصل في باب المياه ، وأن حديث أبي هريرة المذكور آنفاً بأنه لا يدل على النجاسة أو سلب الطهورية وإنما فيه النهي عن الاغتسال فيه والنهي عن الاغتسال لا يلزم منه النجاسة أو سلب الطهورية ، بل لعلةٍ أخرى وهي سد ذريعة تقذيره ومصيره مستخبساً تستقذره الطباع ، وخصوصاً مع قلته وريموده وإلا فقد دل الدليل أن الماء طهور ولا ينجسه شئ " كما في الحديث السابق وعلى ذلك فأقول : الأصل في المياه الطهورية وهذا الماء داخل تحت هذا الأصل إذا لا دليل يخرجه عن قاعدته المستمرة والله أعلى وأعلم .(1/9)
ومنها : الماء المتغير بالطاهرات ، أقول : الراجح في ذلك أن الماء إذا خالطه طاهر فلا يخلو من حالتين : إما أن يخالطه مخالطة تقتضي تغير اسمه ووصفه المطلق أو لا ، فإن كان الأول فإنه يخرج عن مسمى الماء أصلاً ولا يكون قسماً من أقسامه ، فإن من رآه بعد هذا التغير لا يسميه ماءً وإنما يسميه باسم هذا الطاهر المخالط ، وحيث خرج عن مسمى الماء فلا شأن لنا به لأننا نبحث في الأصل في باب المياه مثال ذلك الشاي والقهوة والعصيرات والمرق كل ذلك كان أصله ماء لكن بعد مخالطة هذه الطاهرات انتقل عن اسمه إلى اسم هذا الطاهر وانتقل من وصفه إلى وصف هذا الطاهر فمن رآه فإنه لا يسميه ماء وإنما يسميه باسم هذا الطاهر المخالط ، وأما إذا خالطه مخالطة لا تقتضي تغير اسمه ووصفه المطلق بحيث أن من رآه سماه ماءً مطلقاً عن الإضافة فهذا الماء داخل في الأصل الذي قررناه وهو أنه طهور مطهر رافع للحدث مزيل للخبث ومن أدعى أنه خارج عنه فعليه الدليل لأنه نقلنا عن الأصل ولا دليل بل الدليل معنا وكذلك بقوله تعالى " فإن لم تجدوا ماءً فتيمموا " فهذه نكره في سياق النفي فتعمم فيدخل تحتها جميع ما يسمى ماء ، وهذا إن خالطه الطاهر مخالطة لم تخرجه عن مسمى الماء داخل تحت عموم هذا ومن ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم من قصعة عجين ولا شك أن العجين يغير الماء وخصوصاً فإنه تحلل في الماء وكان الماء قليلاً فلم توضأ النبي صلى الله عليه وسلم منه مع هذا التغير دل على إنه طهور مطهر ، ولأنه قال لقيس أبن عاصم اغتسل بماء وسدر وكذلك أمر أن تغتسل أبنته بماء وسدر والسدر يغير الماء لكن لما أمر بذلك دل على أنه طهور مطهر وأن هذا التغير لا يضر مما يدل على بقاء هذا الماء تحت حكم الأصل المتقرر في باب المياه وهذا هو اختيار أبي العباس شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله تعالى والله أعلم.(1/10)
ومنها :- الماء الذي خالطته نجاسة هو أقل من قلتين ولم تغيره ، ما حكمه ؟ أقول : فيه خلاف بين العلماء والراجح من هذا الخلاف أن هذا الماء طهور مطهر رافع للحدث مزيل للخبث ، ذلك لأن الأصل في باب المياه الطهورية فنبقى على هذا الأصل حتى يرد الناقل ولا أعلم ناقلاً صحيحاً صريحاً في هذه المسألة وإنما قصارتي ما استدلوا به هو حديث أبن عمر في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " فدل بمفهومه على أنه إذا كان أقل من قلتين فإنه يحمل الخبث " ولكن هذا الاستدلال لا يصلح أن يخرج هذا الماء عن الأصل المتقرر في باب المياه ، وبيان ذلك من وجوه أحدها أنه استدلال بالمفهوم وحديث أبي سعيد المتقدم متطوق وقد تقرر في الأصول أن المنطوق مقدم على المفهوم ، الثاني أن المفهوم لا يقضي أن ما دون القلتين يحمل الخبث أو ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة ولو لم يتغير ، بل إنما يفيد هذا المفهوم غلبة الاحتمال أي أن احتمال حمله للنجاسة إذا كان دون القلتين أكبر مما كان فوق القلتين لكن لا ينجس إلا بالتغير ، الثالث سلمنا أن ما دون القلتين يحمل الخبث لكن ليس كل ماء حمل الخبث يكون نجساً وعلى كل حال فالراجح إن شاء الله تعالى هو أن الماء سواء كان قليلاً أو كثيراً لا ينجس إلا بالتغير ، فإذا تغيرت أحد أوصافه بالنجاسة خرج عن هذا الأصل المستقر وإذا لم يتغير فالأصل هو الطهورية حتى يرد الدليل الناقل وهذا القول هو الذي دلت عليه السنة وعليه الصحابة وجمهور السلف وهو قول أهل المدينة واختاره أبن المنذر ونص عليه الإمام أحمد واختاره الشيخ تقي الدين أبن العباس والله أعلم .(1/11)
ومنها : أختلف العلماء في الماء القليل إذا غمس فيه القائل من نوم الليل الناقد للوضوء يده ، فهل يصير مستعملاً أم لا ؟ أقول : الراجح من هذا الخلاف إن شاء الله تعالى أن هذا الماء طهور مطهر يرفع به الحدث ويزال به الخبث ذلك لان الأصل في المياه الطهورية فلا ينقل عن هذا الأصل إلا ناقل صحيح صريح ولا ناقل يخرج هذا الماء عن هذا الأصل ، وأما حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً " إذا استيقظ أحدكم " من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده متفق عليه فلا يتم الاستدلال به على المدعي وذلك لأمرين الأول أن العلة من هذا الغسل تعبدية غير معقولة المعنى ذلك لأن على كل واحد منا يعلم أن يده باتت معه لكن الحديث يقول لا يدري " فهذا نفي للعلم فالإنسان عليه أن يغسل يده لأنه لا يدري أين باتت لذلك قالوا يجب غسلها ولو لفّها في جراب أو خرقة أو باتت في مكان طاهر وقد استنجى بالماء ، كل ذلك يفيدك أن العلة من هذا الغسل تعبدية ، وحيث كانت تعبدية فالواجب هو الاقتصار على مورد النص ولا نتعداه لغيره ومورد النص هنا هو الأمر بالغسل فنقول به ، لكن لا شأن لنا في الماء ولا دخل لنا فيه ، الثاني سلمنا أنه أمر بغسلها لعلة وهم النجاسة فإن مجرد وهم النجاسة لا ينقلنا عن الأصل المتقرر ، فإن المتقرر في هذا الماء يقيناً أنه طهور مطهر والشط حصل في نجاسته وقد تكرر في القواعد أنه لا ينقضي الأمر المتيقن ثبوتاً أو نفياً بشك عارض واليقين هنا هو الطهارة والشك حصل في الأمر السالب منها فالأصل عدمه واليقين هو الطهارة ، فالقول الراجح هو أن الماء باقٍ على أصل الطهورية لأن الأصل في المياه الطهورية والله وأعلم .(1/12)
... ومنها : أختلف العلماء في الماء اليسير الذي خلت به امرأة في طهارة كاملة عن حدث إنه مسلوب الطهورية وهو المشهور من المذهب والراجح إن شاء الله تعالى أن هذا الماء هو ماء طهور مطهر يرفع به الحدث ويزال به الخبث لأن الأصل في المياه الطهورية إلا بدليل ناقل ولا دليل يخرج هذا الماء عن هذا الأصل ، بل ورد الدليل بجواز التطهر به كما في حديث أبن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة رضي الله عنها ، ولأصحاب السنن " أغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حفنة فجاء يغتسل منها فقالت إني كنت جنباً فقال " إن الماء لا يجنب " ولأن هذا الماء لاقى أعضاء طاهرة فلا مقتضى لسلبه الطهورية وأما حديث الحكم الغفاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة " فمع القول بصحته فقصاراه مع الأحاديث السابقة يفيد كراهة التنزيه من باب الجمع بين الأدلة ، أما أن يستفاد منه إخراج الماء من الأصل المتقرر فلا ، والله وأعلم .
...
... ومنها : - الماء المشمس :- ففيه خلاف في كراهة التطهر به من عدمها ؟ والصواب إن شاء الله تعالى أن الماء المشمس ماء طهور مطهر رافع للحدث مزيل للخبث لأن الأصل في المياه الطهورية فلا ينقل عنه إلا ناقل صحيح ولا ناقل هنا ، وأما حديث " لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص " فهو حديث موضوع ، وأما قولهم :- إنه يورث ضرراً ، فالراجح هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل والله وأعلم .
... ومنها :- اختلف العلماء في ماء البئر بالمقبرة ، فقيل لا يتطهر منه وقيل لا بأس بذلك ، والصواب الثاني ، لأره الأصل في المياه الطهورية فلا ينقل عنه إلا ناقل لهذا الماء عن هذا الأصل ، فالراجح أن ماء البئر بالمقبرة ماء طهور مطهر رافع للحدث مزيل للخبث ، إلا إذا تغير بالنجاسة فحينئذ له كلام آخر والله وأعلم .
...(1/13)
ومنها :- اختلاف العلماء في تقسيم المياه ، فإنه يخرج على هذا الأصل أيضاً فإن هذا التقسيم إنما باعتبار الوارد عليه فقط ، أما الماء باعتبار أصله فلا يقسم إلى أقسام ذلك لأن الأصل فيه أنه طهور مطهر ، فالماء باعتبار أصله قسم واحد ، لكن باعتبار الطارئ عليه لا يخلو إما أن يكون الطارئ نجساً أو طاهراً " ، فإن كان نجساً وغيره فهو الماء النجس ، وإن كان طاهراً " وغير وصفه واسمه المطلق فهو الطاهر ، وقد قدمنا أنه يخرج حينئذ عن مسمى الماء أصلاً " ، والذي أريد إثباته هنا هو أن الماء باعتبار أصله قسم واحد وهو أنه طهور مطهر ، فاحفظ هذا فإنه مفيد جداً " ، ثم إذا بحثت في خلاف العلماء في أقسام المياه فاعلم أنهم إنما يبحثون في أقسامه باعتبار ما يطرأ عليه مما يخرجه عن أصله الأول ، والراجح من تقسيمهم هو أن الماء قسمات طهور ونجس هذا هو ما دلت عليه الأدلة والله وأعلم .
... ومنها :- ماء البحر فقد ذهب أكثر العلماء إما جواز التطهر به وهو الحق بلا ريب لحديث " هو الطهور ماؤه " ولأن الأصل في المياه الطهورية إلا بناقل ولا ناقل هنا والله وأعلم .(1/14)
... ومنها :- اختلف العلماء في رفع الحدث وإزالة الخبث بماء زمزم والصواب إن شاء الله تعالى هو جواز ذلك كله لأن الأصل في المياه الطهورية وماء زمزم داخل تحت هذا الأصل ، فمن أخرجه عن كونه رافعاً للحدث أو مزيلاً للخبث فعليه الدليل ، ولا دليل أعلمه صحيحاً يفيد ذلك ، بل الدليل ورد بخلافه وهو حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ " وكونه شريفاً ومعجزة لا يضر فإن الماء الذي نبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ماء شريف ومعجزة ومع ذلك فقد توضؤا به من عند أخرهم كما في حديث أنس عند الشيخين ، وأما قول العباس لا أحلها لمغتسل فإن الأحكام الشرعية لا تستفاد إلا من قول الله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم لا من قول غيرهما ، وبه تعرف الجواب والله وأعلم .
... ومنها :- أعلم أن الماء المتغير بالمجاورة ماء طهور مطهر داخل تحت هذا الأصل ، إذ لم يرد الناقل ، وحيث لا ناقل فالبقاء على الأصل هو المتعين والله وأعلم .
... ومنها :- الماء المسخن بالنجاسة ، القول الفصل فيه أنه ماء طهور مطهر لا يكره التطهر به ذلك لأن الأصل في المياه الطهورية ومن أدعى غير ذلك فعليه الدليل ، والماء المسخن بالنجاسة لم يأت فيه دليل بخصوصه يخرجه عن هذا الأصل ، ولا ننظر هل الحاجز سميكاً أم رقيقاً ، وإنما المهم أنه أن لم يتغير بالنجاسة فهو طهور مطهر لأن الأصل في المياه الطهورية .
... ولعل الضابط قد اتضح إن شاء الله تعالى وخلاصة أنك تحكم على جميع المياه بالطهورية إلا الذي ورد فيه الناقل ومن منع الطهارة عن حدث أو خبث بماء معين فاطلبه الدليل فإن جاء به فحياه الله وبياه وإن لم يأت به فقوله غير مقبول ، فإذا ضبطت ذلك استرحت من عناء الخلاف وكثرة التفريع في هذا الباب والله يحفظنا وإياك وهو أعلى وأعلم .
الضابط الثاني
كل ماءٍ جاز شربه اختياراً صح التطهر به(1/15)
وهذا ضابط جميل يتضح به خطأ من فرق بين ما يجوز شربه وما يجوز التطهر به ، فأقول :- قال الأئمة الحنابلة وغيرهم :- الماء إما أن يجوز التطهر به أو لا ، فما جاز التطهر به فهو الطهور ، وما لا يجوز التطهر به إما أن يجوز شربه والطبخ به أو لا فالأول الطاهر والثاني النجس ، وهذا تقسيم صحيح في طرفيه خطأ في وسطه ، أما قولهم :- الماء الذي لا يجوز شربه هو الماء النجس صحيح أيضاً لا غبار عليه ، لكن بقى قولهم :- فإن لم يصح التطهر به وجاز شربه فهو الطاهر ، فهذا خطأ ، بل نقول : كل ماء يجوز شربه فإنه يصح التطهر به ، ولا فرق بين جواز الشرب وجواز التطهر ، فكل ماء يتطهر به فإنه يشرب وكل ماء يشرب فإنه يتطهر به من غير فرق ، هذا هو الصواب إن شاء الله تعالى ، ومن فرق بينهما فقال :- هذا ماء يشرب ولا يتطهر به فعليه الدليل على هذا التفريق ، لكن قد تقول :- إننا نجد أشياء يجوز شربها ولا تصح الطهارة بها كالعصير والمرق ونحوها ، فأقول :- هذا السؤال حصل في ذهن من لم ينظر في الضابط النظر المطلوب وإلا فلو نظر فيه لعرف جواب هذا الإشكال وذلك أننا قيدنا هذا الضابط بقولنا ( كل ماءٍ ) وهذه الأشياء المذكورة في الإشكال ليست بماء ، وإنما يأتي الإشكال علينا لو أننا قلنا ( كل ما جاز شربه ) فحينئذ فالإشكال وارد ، لكن البحث هنا في الماء الذي يجوز شربه والطبخ به ، فيخرج ما عداه من المائعات التي يجوز شربها وليست بماء ، فإذا تقرر لك هذا ، فإن هناك مسائل كثيرة تتخرج على هذا الضابط أذكرها لك مختصرة لأنني ذكرت أغلبها في الضابط الأول مفصلاً فأقول :- الماء الذي خلت به امرأة في طهارة كاملة عن حدثٍ ، ماء يجوز شربه فإذا جاز شربه صح التطهر به لأن كل ماءٍ جاز شربه صح التطهر به ، وكذلك الماء الذي غمس فيه القائم من نوم الليل يده قبل غسلها ثلاثاً ، هو ماء يجوز شربه فتصح الطهارة به لأن كل ما جاز شربه صح التطهر به ، والماء المستعمل في طهارة(1/16)
واجبة أو مستحبة ماء يجوز شربه فيصح التطهر به لهذا الضابط ، وماء البئر بالمقبرة والماء المسخن بالنجاسة إذا لم يتغير بالنجاسة كلاهما ماء يجوز شربه فتصح الطهارة بهما أيضاً لهذا الضابط ، والماء المتغير بالطاهر إذا لم يسلب اسمه ووصفه المطلق ماء يجوز شربه فيصح حينئذ التطهر به لهذا الضابط وكذلك الماء الذي تغير بما يشق صون الماء أو بما لا يشق صون الماء عنه كل ذلك ماء يجوز شربه وكل ما جاز شربه صح التطهر به ، والماء المشمس أيضاً هو ماء يجوز شربه فتصح الطهارة منه لهذا الضابط كذلك أيضاً الماء الراكد الذي اغتسل فيه الخبث هو ماء يجوز شربه فيصح التطهر منه لهذا الضابط ، ومثله أيضاً ماء زمزم هو ماء يجوز شربه فيصح التطهر به لهذا الضابط ، وهلم جرا ، فهو ضابط لا ينخرم منه فرع واحد ، وهو مريح للطالب في ضبط المياه التي يجوز التطهر بها والتي لا يجوز التطهر بها ، فإن قلت :- هل لهذا الضابط مفهوم مخالفة ، بمعنى أنه هل كل ماء لا يجوز شربه لا تصح الطهارة به ، الجواب :- نعم هو مطرد ومنعكس ، فكل ماء لا يجوز شربه فإنه لا يصح التطهر به ، وذلك كالماء النجس ، فإنه لا يجوز شربه فكذلك لا يجوز التطهر به ، وكذلك الماء المغضوب والمسروق فإنه لا يجوز شربه فكذلك أيضاً لا يجوز التطهر به ، وهكذا ، فإن قلت :- عندنا إشكال وارد كل الورود على هذا الضابط وهو ماء البحر ، فإنه لا يجوز شربه ومع ذلك فالتطهر به جائز ، فكيف ذلك ؟ فأقول :- إن عدم شرب ماء البحر لا لأن شربه محرم شرعاً كالنجس والمغضوب والمسروق وإنما لأنه لا يساغ شربه لشدة ملوحته ، لكن لو ساغ لأحد شربه لما كان ثمة مانع شرعي يمنع من شربه ، فأصل الشرب جائز لأنه ماء طهور ، لكن من الذي يستطيع شربه ، وعلى هذا فماء البحر في الأصل ماء يجوز شربه لمن أطاقه وحيث جاز شربه صح التطهر به ، وعلى هذا فلا يكون ماء البحر مشكلاً على هذا الضابط ، يوضح هذا أن قولنا في الضابط ( جاز شربه(1/17)
) أي لم يمنع من شربه دليل سواء أساغته النفوس أم لا ؟ فالعبرة في الجواز الشرعي هو عدم ورود دليل المنع لا قبول النفس له ، ويوضحه أيضاً أن الماء القليل الراكد الذي أغتسل فيه الخبث قد لا تسيغه النفوس لتقذرها منه ، لكن هل ورود دليل من منع الشرب منه ، الجواب :- لا ، فحيث لا دليل يمنع من الشرب فالشرب إذاً جائز فإذا جاز الشرب صح التطهر به ، بغض النظر عن عدم قبول بعض النفوس لشربه ، وهذا هو معنى قولنا ( جاز شربه ) فماء البحر لو قويت بعض النفوس على شربه فهل يمنع من ذلك شئ ، الجواب :- لا فحيث لا مانع من شربه لمن قوي عليه فإذاً هو يجوز شربه وإذا جاز شربه صح التطهر به ، وعلى هذا فلا يكون هذا إلا يراد وارد على الضابط فإن قلت :- فالماء النجس أو المغضوب إذا أضطر الإنسان لشربه لبلوغه حَدَّ الهلاك ، فإنه ولا شك يجوز له شربه ، لأن المحرم يباح للضرورة ، فالماء المحرم لنجاسته جاز شربه حال الضرورة فهل يجوز التطهر به في هذه الحال ، فأقول :- لو نظرت إلى الضابط جيداً لوجدت إجابة هذا السؤال في ثناياه وهو في قولنا ( جاز شربه اختياراً ) فقولنا ( اختياراً ) هذا القيد يخرج حالة الاضطرار التي يباح فيها الشرب من الماء المحرم وعليه فهذا إلا يراد غير وارد ، ثم أقول :- حتى لو حذفنا كلمة ( اختياراً ) فإن إيرادهم شرب الماء المحرم حال الاضطرار لا يرد علينا أيضاً :- وبيان ذلك :- أن الضرورة تقدر بقدرها ، وهو لم يضطر للطهارة بهذا الماء وإنما اضطر لشرب ما تندفع به ضرورته فإذا شرب القدر الذي به تندفع الضرورة عاد حكم الماء للتحريم لأنه لا يجوز شرب قدر زائدٍ على حَدَّ الضرورة ، فلو تطهر منه بعد ارتفاع الضرورة لكان متطهراً من ماء لا يجوز شربه ، والماء الذي لا يجوز شربه لا يصح التطهر به ، فإن قلت :- فما الحكم لو تطهر قبل الشرب ، أي وضرورته باقية فأقول :- إنه مضطر للشرب لا للطهارة والضرورة تقدر بقدرها فيكون بهذه الطهارة(1/18)
متعد على الحرام قصداً بلا ضرورة ، فثبت بذلك أنه لم يضطر لشربه إذ لو كان مضطراً للشرب لقدمه وحيث لا ضرورة فلا جواز ، فثبت بذلك سلامة هذا الضابط من سائر الاعتراضات ولم أر في كتب الفقه من صرح به وإنما هو فتح من اللطيف المنان ذي الرحمة والمغفرة والفضل والجود والكرم فله الحمد والمنة وأسأله المزيد من هذه الفتوحات وهو حسبنا ونعم الوكيل وهو أعلى وأعلم .
الضابط الثالث
الأصل في الآنية لحل والإباحة إلا بدليل(1/19)
وهذا هو الضابط العام في باب الآنية ، فكل إناء من أي جنس كان على أي شكل كان فهو حلال مباح في سائر الاستعمالات إلا الآنية التي ثبت الدليل بتحريمها ، فتخرج عن هذا الأصل بعينها وحيث فقد الدليل فالبقاء على الأصل هو المتعين ، فمن حرم شيئاً من الآنية فإنه يطالب بالدليل فإن جاء به فعلى العين والرأس وسمعاً وطاعة لربنا ولنبينا صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يأت بدليل على هذا التحريم فقوله رَدٌّ عليه ، وقد دل على هذا الضابط الكتاب والسنة ، فأما الكتاب فقوله تعالى " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه " وهذه الآنية من جملة ما في الأرض لأنها كلمة ( ما ) بمعنى الذي فهي اسم موصول وقد تقرر في الأصول أن الأسماء الموصولة من صيغ العموم فيدخل تحتها كل ما في الأرض ومن ذلك الآنية ، ومعنى تسخيرها لنا أي أنها وجدت لنا لننتفع بها ، ولا يمكن الانتفاع بها وهي محرمة لأن مقتضى التسخير أن تكون حلالاً مباحة فدل ذلك على أن الأصل في الآنية عم ، فيدخل تحت هذا العموم جميع أنواع الزينة من المأكولات والمفروشات والملبوسات والأواني وغيرها ، كل ذلك من زينة الله والله تعالى أنكر على من حرم شيئاً منها مما يدل على أنها مباحة ، وهذا هو المطلوب والأواني من زينة الله التي أخرج لعباده ، فمن حرم شيئاً منها بلا دليل فيقال له " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده " إلا إذا جاء بالدليل فإن جاء به فيكون المحرم لهذه الآنية بعينها هو الذي أخرجها لعباده جل وعلا ، والتحليل والتحريم ملك له لا حول لنا . فيه ولا قوة وإنما نحن عبيد مربوبون فقراء لا يسعنا إلا أن نقول سمعاً وطاعة لربنا طوعاً وحباً وكرامة واختياراً وعزة وشرفاً ، فوالله إن الشرف في عبوديته ، وإن العبد ليفخر بأنه عبده والفقير إليه والذليل الحقير إليه ، الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً ، فالأمر أمره والحكم حكمه وكلنا تحت سلطانه(1/20)
وبين يديه يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا يسئل عما يفعل وهم يسألون ، وهو لا يفعل ولا يشرع ولا يحرم ولا يعاقب ولا يخفض ولا يرفع ولا يعز ولا يذل إلا لحكمة بالغة ، جل وعلا وتقدس وتنزه عن فعل العبث ، والمقصود ، أن الله تعالى أنكر على الذين حرموا زينة الله بلا برهان والأواني من زينة الله فمن حرم شيئاً منها فإنه يطالب بالدليل ، فلما طولب المحرِّم بالدليل عرفنا أن الأصل فيها الحل والإباحة وهذا هو المطلوب ، والله يتولانا وإياك .
ومن الأدلة أيضاً :- أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه استخدم الآنية من أجناس عدة ، فثبت عنه أنه اغتسل من جفنة " وثبت عنه " أنه توضأ من تور من صفر " وثبت عنه " أنه توضأ من توْر من حجارة " وثبت عنه " أنه توضأ من مزادة مشركة " وثبت عنه " أنه فعل ذلك في قربة ، ومن إداوةٍ فدل ذلك على أن الأصل في سائر الآنية الحل والإباحة ما لم يرد دليل التحريم .
ومن الأدلة أيضاً :- إجماع المسلمين المعلوم بالضرورة فإن الناس لا يزالون يتخذون الآنية لأكلهم وشربهم ووضوئهم ويبيعونها في أسواقهم من غير سؤال عن حلالها من حرامها وما ذلك إلا لأن المتقرر في أذهانهم أن الأصل فيها الحل والإباحة ، وذلك يجري بينهم من غير نكير ، فدل على اتفاقهم على هذا الضابط .
...(1/21)
ومن الأدلة أيضاً :- الاعتبار الصحيح وهو أنه بدراسة الشريعة في مصادرها ومواردها عرفنا أن ما كان الأصل فيه الحل فإنه لا يكثر الاستدلال على حلية أفراده ، بل توكل إلى تقرير أصل عام يفيد الحل ويكفي ، وإنما الذي تحرص عليه الشريعة هو بيان ما يستثنى منه فتجد الأدلة إنما تبين المحرم منه فقط وأما أفراد ما يباح منه فلا تحرص على تقريره ، وباب الآنية من هذا الباب فإنك لو سبرت الأدلة في الباب لوجدتها في بيان المحرم منها أكثر ، مما يدل على أن الأصل المتقرر فيه الحل والإباحية ، إذا تقرر لك هذا عرفت صحة هذا الضابط المفيد جداً في باب الآنية كما ستراه في الفروع إن شاء الله تعالى ، وإليك بعضها نسأل الله المولى جل وعلا أن ينفعنا وإياك بها فأقول :-(1/22)
منها :- آنية الذهب والفضة ، الأصل فيها الحل والإباحة لكن ورد الدليل الصريح الصحيح بتحريمها والتشديد فيه وذلك في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " متفق عليه " وعن أم سلمة رضي الله عنهما قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " متفق عليه " ولمسلم " إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة " الحديث " وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يشرب في إناء فضة كأنما يجرجر في بطنه ناراً " رواه أحمد وابن ماجه ، وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال :- نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب في الفضة فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة " مختصر من مسلم " وعن حذيفة عند البخاري قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها ، وعن لبس الحرير والدبياج وأن نجلس عليه فهذه النصوص الصريحة الصحيحة تفيدك إفادة قطعية بحرمة الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة ، فتكون هذه الآنية في الأكل والشرب خارجة عن الأصل المتقرر بمقتضى الدليل الصحيح الصريح فحيث ورد الدليل الناقل انتقلنا وإلا لو لم يأت لبقينا على الأصل وهو الحل والإباحة والله وأعلم .(1/23)
ومنها :- المسألة التي طال الجدل حولها وهي :- هل تحريم آنية الذهب والفضة مقصور على الأكل والشرب فقط ، أم يدخل في التحريم سائر الاستعمالات غير الأكل والشرب ؟ أقول :- فيه خلاف طالت ذيوله بين أهل العلم على قولين :- فذهب أكثر العلماء إلى أن التحريم فيهما منصب على سائر الاستعمالات وإنما ذكر الأكل والشرب من باب التغليب والقيد الأغلبي لا مفهوم له ، وذهب الأقل إلى أن التحريم منصب فقط على الأكل والشرب فيهما أما سائر الاستعمالات فلا بأس به ، والأرجح والله وأعلم هو القول الثاني إن شاء الله تعالى والدليل على رجحانه عدة أمور :- منها :- أن الحديث إنما ذكر فيه الأكل والشرب فيخص النهي بهما ويبقى ما عداه من سائر الاستعمالات على أصل الحل والإباحة ، لأن الأصل في الآنية الحل والإباحة في سائر الاستعمالات كما تقرر فجاء الدليل في تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة ، فخرج الأكل والشرب بالدليل فيبقى ما عداه لا دليل على إخراجه وحيث لا دليل يخرج سائر الاستعمالات فالأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل ، وأما قولهم :- تقييده بالأكل والشرب قيد أغلبي فأقول :- هكذا تبطل دلالة القيود والشروط هذا أغلبي وهذا ليس بأغلبي ، وهذا كله كلام فارغ ساقط ، بل التقييد بالأكل والشرب قيد معمول به وله مفهوم مخالفة لأن الأصل هو أعمال الكلام ولو جعلناه أغلبي لكان وجوده كعدمه وهذا لا يجوز في كلام آحاد الناس فكيف بكلام الشارع صلى الله عليه وسلم ، فالقيد ليس أغلبياً بل هو قيد مقصود معتمد وعلى الرأس والعين ، ويوضح هذا الوجه الثاني وهو أن راوية الحديث وهي أم سلمة ثبت عنها في صحيح البخاري أنه كان عندها جلجل من فضة فيه شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فكان يغسل للمريض ويسقاه فيشفى وهذا نوع من الاستعمال والجلجل إناء من الفضة وهي التي روت حديث النهي فلما استعملت إناء الفضة في غير الأكل والشرب دل ذلك على أنها فهمت من(1/24)
النهي أنه مقصور على الأكل والشرب ، وقد تقرر في الأصول أن الراوي أعلم بما روى . وتقرر أيضاً : أن تفسير الراوي مقدم على غيره ما لم يخالف ظاهر الحديث وفعلها هذا لم يخالف ظاهر الحديث بل هو موافق له كل الموافقة ، وفهم أم سلمة أحب إلينا من فهم غيرها فالراجح والله وأعلم قصر النهي على ما ورد في الحديث وخصوصاً وقد روى أحمد وأبو داود مرفوعاً " ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعباً " وعلى هذا فيجوز اتخاذها واستعمالها في غير الأكل والشرب ومن منع من ذلك فعليه الدليل وأما قوله كل ما حرم استعماله حرم اتخاذه كآلات الملاهي فأقول لهم نعم أنها قاعدة مفيدة ، لكن هذا فيما تحريمه التحريم مطلق لا مطلق التحريم فالخمر هي من الحرام المطلق فيحرم اتخاذها وآلات الملاهي من الحرام المطلق فيحرم اتخاذها لكن ما حرم من وجه وأبيح من وجه فلا يحرم اتخاذه لهذا الوجه كالسم مثلاً وثياب الحرير والذهب للرجل فالسم يحرم أكله لكن يجوز اتخاذه لقتل الحشرات المضرة وثياب الحرير كذلك وكذلك والذهب حرام على الرجل لكن يجوز اتخاذها لبيعها أو غيره من المنافع وذلك لأن تحريمها ليس تحريماً مطلقاً وأعني بالتحريم المطلق أي التحريم من كل وجه ، بحيث لا يباح فيه نوع من أنواع الانتفاع وأعني بمطلق التحريم :- أي ما حرم من وجه دون وجه فآنية الذهب والفضة إنما حرم للأكل والشرب فيها لكن يباح فيها الوضوء وجعلها زينة في البيت ما لم يصل إلى حد السرف والخيلاء فإذا ثبت إنها محرمة من وجه دون وجه فلا بأس حينئذ في اتخاذها وكل ذلك داخل تحت الأصل الذي قررناه لك وهو أن الأصل في الآنية الحل والإباحة . والله وأعلم .(1/25)
ومنها :- عظام الآدمي هل يجوز أن تتخذ منها آنية ؟ الجواب بالطبع لا ؟ فإن قلت أليس الأصل في باب الآنية الحل والإباحة ؟ فأقول : نعم لكن هذا الحل وهذه الإباحة مقيدة بما لم يرد فيه دليل وقد ورد الدليل الناقل عن أصل الحل والإباحة في هذه المسألة وذلك حديث عائشة عن أبي داود بإسناد على شرط مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كسر عظم الميت ككسره حياً " وزاد بن ماجه من حديث أم سلمة " في الإثم " ومن لوازم اتخاذه آنية كسره ، ولأن حق الميت الإكرام وأعظم إكرامه دفن جميع أجزائه واتخاذ عظامه آنية منافٍ لهذا الإكرام ، ولأن الآدمي له حرمة حياً وميتاً واتخاذ عظامه آنية منافي لذلك وهذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى ، لهذه الأدلة فإنها تصلح أن تكون ناقلة لهذا الفرع عن أصله المتقرر ، واختار هذا القول الحنابلة وأكثر العلماء والله تعالى أعلى وأعلم .(1/26)
ومنها :- آنية الكفار وثيابهم فإنه قد أشتد خلاف العلماء في هذه المسألة على أقوال والصواب منها أنه يجوز استعمالها ما لم تعلم نجاستها ، ذلك لأن الأصل في الآنية الحل والإباحة إلا بدليل ناقل وقد دل على ذلك الدليل الشرعي وهو حديث عمران بن حصين في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضؤا من مزادة مشركة " وهذا نص صريح صحيح في المسألة ومن ذلك أيضاً حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك عليهم " رواه أحمد وأبو داود وهو نص صحيح صريح أيضاً في المسألة ، ومن ذلك حديث أنس أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وأهالةٍ سنخة فأجابه " رواه الإمام أحمد ، فهذه النصوص تقيد إفادة قطعية جواز استعمال آنية الكفار ، وبالطبع أنهم لا يعلمون نجاستها أما إذا علمت نجاستها فلابد من غسلها بالماء لحديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال يا رسول الله إنَّا بأرض قومٍ أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم فقال " لا تأكلوا فيها إلا أنَّا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها " متفق عليه وفي بعض الروايات أنهم يأكلون فيها الخنزير ويشربون فيها الخمور فدل ذلك على أن آنية الكفار إن علمت نجاستها وجب غسلها وإن لم تعلم نجاستها جاز استعمالها وهذا القول هو الذي يجمع بين الأحاديث ويؤيد هذا قوله تعالى " وطعام الذين أتوا الكتاب حل لكم " وطعامهم يطبخ في آنيتهم ، وخلاصة المسألة أن نقول آنية الكفار إن غسلت جاز استعمالها مطلقاً ، وإذا لم تغسل فلا تخلو إما أن تعلم نجاستها أو لا ، فإن علمت نجاستها لم يجز استعمالها إلا بعد رحضها بالماء وإذا لم تعلم نجاستها فلا يخلو إما أن يجد غيرها أو لا فإن وجد غيرها فالأولى استعماله ، وإن لم يجد غيرها فله استعمالها لما دلت عليه الأدلة ولأن الأصل في الآنية الحل والإباحة وبهذا تعمل جميع الأدلة الواردة في(1/27)
الباب وهو الواجب ما أمكن والله وأعلم .
ومنها :- الآنية والقربة المتخذة من جلود الميتات ، وخلافهم فيها مبني على خلافهم في مسألة الدباغ هل هو مطهر أم غير مطهر ، وقد بحثنا هذه المسألة في موضوع أخر والذي يترجح بالدليل هو أنه مطهر للجلد وذلك في حديث ابن عباس مرفوعاً " إذا دبغ الإهاب فقد طهر " رواه مسلم . وعن ميمونة قالت مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بشاة يجرونها فقال : لو أخذتم أهابها فقالوا أنها ميتة فقال " يطهرها الماء والقرظ " رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح . وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت " رواه الخمسة إلا الترمذي والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وأما حديث ابن عكيم " آتانا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فهو حديث حسن إن شاء الله تعالى وهو متوافق مع الأحاديث السابقة كل الموافقة لأن الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ وأما بعد الدبغ فهو شنٌّ أو قربة ، فهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى ثم اختلف من قال بأن الدباغ وسيلة من وسائل التطهير هل هو مطهر لجميع الجلود أم ماذا ؟ أقول : الذي يترجح إن شاء الله تعالى أن الدباغ مطهر لجلود الحيوانات الطاهرة في الحياة وأما ما كانت نجاسته عينية كالخنزير ونحوه فلا يفيده الدباغ طهارة لان النجاسة العينية لا تطهر بحال فالدباغ وسيلة لإعادة حكم الجلد إلى وضعه في الحياة فما كان طاهراً في الحياة فالدباغ يطهره وما لا فلا والدليل على هذا عموم الأدلة السابقة والأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص وعلى هذا فالآنية والقرب المتخذة من جلود الحيوانات الطاهرة المدبوغة يجوز استعمالها في اليابسات والمائعات فهي داخلة تحت حكم الأصل في باب الآنية وهو الحل والإباحة والله ربنا أعلى وأعلم .(1/28)
ومنها :- حكم الإناء المضبب بالذهب والفضة وفي ذلك خلاف بين أهل العلم يطول التفصيل فيه لكن الأصل المتقرر في باب الآنية أن الأصل فيها احل والإباحة حتى يقوم الدليل المانع من ذلك إذا علمت ذلك فأقول وبالله التوفيق أما ما كان من الآنية من الذهب والفضة خالصاً فهذا تقدم البحث فيه وقررنا فيه التحريم وأن استعماله في الأكل والشرب من كبائر الذنوب وأما ما كان من الآنية فيه شئ من الذهب والفضة فهذا لا يخلو إما أن يكون أكبر مما هو فيه وإما أن يكون أصغر مما هو فيه فإن كان أكبر مما هو فيه فهو داخل تحت التحريم أيضاً لأن حقيقته أنه من آنية الذهب والفضة وذلك كحديدٍ ولكن الذهب أكثر من الحديد أو زجاج وفضة مثلاً لكن الفضة أكبر فهذا النوع من الآنية محرم لأن العبرة بما هو أكثر وأغلب لا بما هو قليل نادر وإن كان الذهب والفضة أقل مما هو فيه فهذا يترجح عندي إن شاء الله تعالى التفصيل فإن كان لحاجة كتشعيب القدح ونحو ذلك فهذا لا بأس فيه لأنه يسير ولحاجة وعلى ذلك حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة ، فهذا لا يعين الفضة وإنما يعين موضع الحاجة فإذا كانت الحاجة بالتشعيب يكتفي فيه بالفضة فالحمد لله وإلا فلا بأس بيسير الذهب للحاجة ومن حرم ذلك فعليه الدليل ، فإنه لتخزن هذه الآنية المشعبة بالذهب أو الفضة يسيراً على الأصل المتقرر ، وأما إن كان التفضيض أو التذهيب لغير حاجة وهو يسير عرفاً فالراجح عندي أيضاً جواز الأكل والشرب فيه وذلك لعدم الدليل الدال على المنع وأما حديث بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من شرب في إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه شئ من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم " رواه الدارقطني والبيهقي ، فأنعم بأول الحديث وأخره فأنه من أطرافه في الصحيحين أو أحدهما لكن زيادة أو إناء فيه شئ من ذلك زيادة ضعيفة لا تثبت فإنه رواها الدارقطني والبيهقي(1/29)
كلاهما من طريق يحيى بن محمد الجاري عن زكريا بن إبراهيم بن مطيع عن أبيه عن أبن عمر بهذا اللفظ وقال عنها البيهقي : إنها وهم يعني هذه الزيادة وقال الحاكم في علوم الحديث لم نكتب هذه اللفظة أو إناء فيه شئ من ذلك إلا بهذا الإسناد وقد ضعف الإمام الألباني في الإرواء هذه الزيادة كما ضعفها الإمام الشوكاني في النيل وعلة هذه الزيادة أمور الأول أنها من رواية يحيى بن محمد الجاري وهو ضعيف قال البخاري : يتكلمون فيه ولما ساق الإمام الذهبي هذه الزيادة في ميزانه قال " هذا حديث منكر " يعني هذه الزيادة ثم قال : وزكريا ليس بالمشهور أو الثانية جهالة حال إبراهيم بن مطيع وولده عبد الله ، قاله الحافظ في الفتح ، الثالثة أن المحفوظ عن عبيد الله العامري عن نافع بن عمر موقوفاً أنه كان يشرب في قدح فيه ضبة فضة وقد صححه الإمام الألباني وقال : وإسناد هذا الموقوف على شرط الصحيح كما قال في التلخيص . إ.هـ فثبت بذلك أن هذه الزيادة " أو إناء فيه شئ عن ذلك زيادة منكرة لأنها من رواية الضعيف التي خالفت روايات الثقات فأصل الحديث من أوله وأخره في الصحيح ولا شك ولكن وسطه زيادة منكر ، وقد تقرر في الأصول أن الضعيف إذا خالف الثقة فحديثه منكر ، فهذا بالنسبة لحديث ابن عمر ، وبالمناسبة فإن لهذا الحديث طريقاً آخر ذكره الإمام الألباني في الإرواء وهي من رواية العلاء بن برد بن سنارة عن أبيه عن نافع عن ابن عمر بلفظ حديث الصحيح " من شرب في إناء ذهب أو إناء من فضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم " وهذا الحديث أعل أيضاً بالعلاء فإنه ضعيف الحديث ، لكن له أصول وشواهد في الصحيح ، ولكن هذا في آنية الذهب والفضة الخالصة أو ما الحق بها مما هو أكثر مما فيه ، والبحث الآن في الضبة اليسيرة عرفاً ، فلو صحت هذه الزيادة " أو إناء فيه شئ من ذلك " لكفينا المؤنة ، لكن لما لم تصح فتبقى على الأصل المتقرر في باب الآنية وهو الحل والإباحة حتى يرد الناقل ،(1/30)
فهذا بالنسبة لحديث ابن عمر ، وأما حديث أم عطية قالت :- نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الذهب وتفضيض الأقداح ، فأقول :- أما النهي عن لبس الذهب للرجال فهذا لا شك فيه ، وقد ثبت فيه أحاديث أخرى صحيحة لا قطعية منها بوجه ، لكن هذا في باب اللباس ، ونحن في باب الآنية ، لكن قوله " وتفضيض الأقداح " فآه لو صحت فوالله لقلنا بها لكن أني لها أن تصح ، وقد تفرد بها عمر بن يحيى بن معاوية بن عبد الكريم وهو مطعون عليه في روايته ، فلا تصلح هذه الرواية لنقلنا عن الأصل المتقرر في باب الآنية الذي هو الحل والإباحة ، وخلاصة الكلام على هذه المسألة أن يقال :- الآنية الخالصة من الذهب والفضة محرمة ولا شك ، وأما المشوبة فلا يخلو إما أن تكون أكبر مما هي فيه وإما لا فإن كانت أكبر مما هي فيه فهي حرام مطلقاً أي سواء لحاجة أو غير حاجة لدخولها في عموم التحريم ، وأما إن كانت أقل مما هي فيه فهذا لا يخلو فإن كانت لحاجة فلا بأس بها ، لكن قد تقرر في الأصول أن الخروج من الخلاف مستحب ، فإذا استغنى الإنسان عن ملامستها تورعاً فهو الأبرأ لدينه لأن مثار الخلاف يوجب شبهة وإلا فالأصل في الآنية الحل والإباحة والله يتولانا وإياك قال أبو العباس الهزبر في الاختيارات :- ويحرم استعمال إناء مفضض إذا كان كثيراً ولا يكره يسير لحاجة ، ويكره لغيرها ، وقال في موضع آخر :- ومقتضى هذه الرواية – أي عن الإمام أحمد – أن يباح الكثير إذا كان أقل مما هو فيه ولم يستعمل وهذا هو القول الراجح إن شاء الله اعتماداً على الأصل المتقرر في باب الآنية فمن نقلنا عنه فعليه الدليل ، ولا يستدل على التحريم بكلام أحدٍ كائناً من كان إلا بكلام الشارع من الكتاب أو السنة الصحيحة وإلا فكل يؤخذ من قوله ويترك ، ولا يجوز التعصب لأحدٍ إلا للدليل الصحيح ، فعليك بالجادة واترك تخريجات الذين لا حظ لهم من نور النبوة وإنما يخرجون الفروع على كلام الأئمة فنبرأ إلى(1/31)
الله من كل من خالف كتابه وسنة نبيه وهذا جهد المقل بعد النظر الطويل والتردد الذي دام دهراً طويلاً في البحث عن الناقل للآنية التي فيها ضبة من ذهب أو فضة يسيرة عرفاً عن الأصل المتقرر فلم أجد فيه ما يشفي ويكفي ، فقلت بما قد تقرر في الأصل وأنا الضعيف الفقير إلى توفيق الله تعالى والمنطرح بين يديه ، والمذنب الذي رانت الذنوب على قلبه فلا حول ولا قوة إلا بالله واستغفر الله وأتوب إليه ورحم الله علمائنا وحشرنا في زمرتهم آمين والله وأعلم .
الضابط الرابع
آداب الخلاء والتوقيفية
ونعني بالتوقيفية أي أن مردها الدليل ، فلا يجوز لأحدً أن يخترع من عند نفسه قولاً أو فعلاً ويقول هذا من آداب الخلاء ، وذلك يتفرع على قاعدة عظيمة وهي قاعدة :- الأصل في العبادات الحظر والتوقيف فنحن نتعبد لله تعالى ببعض الآداب في حال التخلي ، والعبادات مرجعها للدليل ، ولا مدخل للعقول في باب التشريع على وجه التفصيل فبناءً على ذلك فمن أدعى أن هذا القول أو الفعل من جملة آداب التخلي فإننا نقول له ، أعطنا الدليل على هذه الدعوى ، فإن جاء بالدليل فعلى العين والرأس وإلا فقوله مردود عليه بقول صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ، متفق عليه ولمسلم " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " فإذا تقرر لك ذلك فإنك سترى من بعض الفقهاء عجباً في ذكر آداب لا خطام لها ولا زمام من أقوال وأفعال ما أنزل الله بها من سلطان ، فكثرت الفروع وطالت المسائل وهي غريبة عن الشريعة لا تمت لها بصلة ، وهذا من آثار البعد عن الدليل من الكتاب والسنة الصحيحة والاشتغال بكلام الأئمة تفريعاً وتخريجاً ، وسوف نسبر لك إن شاء الله تعالى في هذه العجالة أغلب ما يتكلم عنه الفقهاء من آداب الخلاء ، فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل بحسن التحقيق :-(1/32)
أعلم رحمك الله تعالى أن آداب الخلاء ثلاثة أقسام ، الأول آداب قبلية وهي :- قول بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " فأما البسملة فقد وردت في حديث على رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الخلاء إن يقول " بسم الله " وهو حديث حسن أو صحيح لغيره إن شاء الله تعالى ، وقد صححه الإمام الألباني بمجموع طرقه ، وحيث صح وجب قبوله والقول به :- وأما اللفظ الآخر فقد ثبت في الصحيحين وغيرها من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " ، ومن الآداب القبلية أيضاً ، الدخول بالرجل اليسرى ، وهذه لا أعلم لها دليلاً صحيحاً من السنة ، وإنما ورد ذلك عن بعض الصحابة ، إلا أن القاعدة العامة أن اليمين تقدم في كل ما كان من باب التكريم والتزيين واليسرى فيما عداه والخلاء مفضول فتقدم فيه اليسار ، ولم أر أحد من العلماء خالف فيه ، وقد تقرر في الأصول أن قول الصحابي حجة إذا لم يخالف نصاً ولم يخالفه صحابي آخر ، وللقياس على سائر ما تقدم فيه اليمين والشمال وقول الصحابي والقياس الصحيح كافية في إثبات هذا الأدب ، ومن الآداب القبلية أيضاً ، ترك ملامسة ما له حرمة ، كالقرآن وأوراق الأذكار والخاتم إذا كان نقشه فيه ذكر الله ، ويستدل على ذلك بحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه " رواه الخمسة وصححه الترمذي وقد صح عن أنس رضي الله عنه أن نقش خاتمه كان :- محمد رسول الله ، وقال المنذري والصواب عندي تصحيحه فإن رواته ثقات أثبات ، ويدل عليه أيضا عموم الأدلة القاضية بتعظيم شعائر الله وحرماته ، وأنها من تقوى القلوب ، ووجوب تعظيم ذكر الله تعالى وأسمائه تعالى وإبعادها عن كل ما يمس قدسيتها وكرامتها ، والحكم للكراهة فقط لأنه ترك ، وقد تقرر في الأصول أن كل فعلٍ(1/33)
تركه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينه عنه قولاً فهو للكراهة ، كما أن كل فعلٍ فعله ولم يأمر بها قولاً " فهو للندب ، وإذا ثبت ذلك فالكراهة تزول بالحاجة ، فإذا احتاج الإنسان لإدخال ما فيه ذكر لله تعالى للخلاء من خوف سرقته أو ضياعه فإنها تزول لما قد تقرر في الأصول أن الكراهة تزول بالحاجة ، والله أعلم ، قال الشيخ تقي الدين :- الدراهم إذا كانت عليها لا آله إلا الله وكانت في منديل أو خريطة يجوز أن يدخل بها الخلاء .
ومن الآداب القبلية أيضاً :- تجنب الأماكن التي فيها منفعة للناس مباحة وسيأتي في ذلك ضابط مستقل إن شاء الله تعالى .(1/34)
... ومن الآداب القبلية أيضاً :- الاستتار والبعد عن الناس فأما الاستتار فلحديث أبي هريرة رضي الله عنه " من أتى الغائط فليستتر " وفيه ضعف ، ويؤيده ما رواه مسلم من حديث عبد الله بن جعفر قال " أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسر إليَّ حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل ، ويؤيده أيضاً الأدلة العامة الدالة على وجوب ستر العورة عن الأعين في سائر الأحوال ومن ذلك حال قضاء الحاجة ، وأما البعد فللحديث الحسن عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد " وعن جابر رضي الله عنه قال " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرٌي " رواه ابن ماجه ، ولأبي داود :- كان إذا أراد البراز أنطلق حتى لا يراه أحد " ويؤيده أيضا ما في الصحيحين من حديث المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :- خذ الإداوة فأخذتها حتى توارى عني فقضى حاجته " فهذه الأحاديث تدل على مشروعية الإبعاد لقضاء الحاجة . ومن الآداب أيضاً أن يرتاد لبوله موضعاً رخواً أي ليناً هشاً وهذا بالاتفاق لئلا يترشش البول عليه ، ويستدل عليه بما رواه أبو داود عن أبي موسى مرفوعاً " إذا بال أحدكم فليرتد لبوله موضعاً ، وهذا الحديث فيه مجهول لكن أحاديث التنزه من البول تفيد ذلك ، كحديث أبي هريرة مرفوعاً " استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه ، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين في عذاب صاحبي القبرين وفيه " أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله " وفي رواية " لا يستنزه " وفي لفظ " لا يستتر " فمجموع هذه الأحاديث يفيد هذا الأدب ، فهذا بالنسبة للآداب القبلية التي أثبتتها الأدلة ، وأما الآداب البعدية ، أي التي تشرع بعد الخروج من الخلاء فهي كما يلي :-(1/35)
الأول :- قول غفرانك وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال غفرانك " أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه الحاكم وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والنووي والذهبي والإمام الألباني ، رحم الله الجميع رحمة واسعة .
ومن ذلك أيضاً : الخروج بالرجل اليمنى ولا دليل عليها بخصوصها فيما أعلم لكن وقع الاتفاق على ذلك فيما أطلعت عليه من كلام أهل العلم رحمهم الله تعالى وقد تقرر في القواعد أن اليمنى تقدم في كل ما كان من باب التكريم والتزيين وقر شرحنا هذه القاعدة في تلقيح الأفهام وسيأتي طرف منها في ضوابط آداب الفطرة إن شاء الله تعالى ، فهذا الذي أعلمه ثابتاً من الآداب البعدية وسيأتي في الفروع إن شاء الله تعالى ما يجعله بعض الفقهاء من الآداب البعدية ولا دليل عليه ، وأما الآداب الأثنائية ، أي التي يشرع فعلها أثناء التخلي فهي كما يلي :-(1/36)
الأول :- أن لا تستقبل القبلة ببول ولا غائط ولا يستدبرها لحديث أبي أيوب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا " متفق عليه ، ولحديث سلمان عن مسلم قال " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول " والأحاديث على هذا المعنى كثير شهيرة ، والراجح أن التحريم مطلق أي سواء كان في الصحراء أو في البنيان ، أو كان بينك وبين القبلة شئ يسترك ، وللمسألة بحث في موضع آخر ويطول البحث فيها هنا ، واختاره الشيخ تقي الدين وابن القيم والشوكاني وهي رواية عن الإمام أحمد رحم الله الجميع رحمة واسعة والله أعلم ، ومن الآداب الأثنائية أيضاً ترك الكلام حال التخلي بذكر أو غيره ، أما كراهته بالذكر فلحديث ابن عمر عند مسلم وغيره قال " مر رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه وهو يبول فلم يرد عليه ، وزاد أبو داود من حديث المهاجر قنفذ وفيه أنه هو المسلم وزاد " حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال " أني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر " أو قال " على طهارة " وصححة الحاكم والذهبي والنووي والأمام الألباني رحم الله الجميع رحمة واسعة ، وأما سائر الكلام فلحديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك " رواه أحمد وسنده حسن وعن أبي سعيد نحوه ، وفيه عكرمة بن عمار العجلي وقد احتج به مسلم في صحيحه ، وضعف بعض الحفاظ حديث عكرمة هذا عن يحى بن أبي كثير ولكنه لا وجه للتضعيف بهذا ، فقد أخرج مسلم حديثه عن يحى واستشهد بحديثه البخاري فقد أخرج له في صحيحه وبهذا تنتفي التهمة عن الحديث ويصبح حسناً على أقل الأحوال ، ولعله بذلك قد أتضح لك إن شاء الله تعالى ما أريد إثباته وهو أنه لا تثبت الآداب إلا بالدليل الصحيح وسيأتي في الفروع على(1/37)
هذا الضابط إكمال لبعض الآداب فإلى الفروع فأقول :-
منها :- زعم بعض الفقهاء – رحمهم الله تعالى – أن من آداب الخلاء عدم استقبال الشمس والقمر ، ويعللون ذلك بما فيهما من نور الله تعالى وروي أن معها ملائكة وأن أسماء الله تعالى مكتوبة عليها وأنهما يلعنانه ، لكن قال الحافظ والنووي :- إنه باطل لا أصل له وقال الإمام ابن القيم :- لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك كلمة واحدة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متصل ، وليس لهذه المسألة أصل في الشرع قلت :- بل ورد جواز ذلك في حديث أبي أيوب الأنصاري وفيه " ولكن شرقوا أو غربوا " فإنه لابد أن يكونا أو أحدهما في الشرق أو الغرب "، وحيث لا دليل على هذا الأدب ، فالصواب فيه إذاً أنه ليس بإدب من آداب الخلاء ذلك لأن آداب الخلاء توقيفية على الدليل ، ولا دليل على هذا الكلام أبداً .(1/38)
ومنها :- زعم البعض من الفقهاء – رحمهم الله تعالى – أنه من آداب الخلاء نتر الذكر ثلاثاً ليستخرج بقية البول منه ، ويروون في ذلك حديثاً عن عيسى بن يزداد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات " لكن خالفوا الصواب ، فالحق أن هذا ليس بأدب من آداب التخلي ، وذلك لعدم الدليل الصحيح ، وأما هذا الحديث الذي يروونه في كتبهم فهو حديث ضعيف ، فقد قال الإمام النووي :- اتفقوا على ضعفه ، وقال ابن معين :- لا يعرف هو ولا أبوه وهو عيسى بن يزداد بن فسأة . أ.هـ وضعفه أبو العباس شيخ الإسلام بن تيمية ، وحيث لا يصح الحديث به ، فليس بمشروعٍ ولا هو من آداب التخلي ، بل هو من الوسوسة المذمومة ، وهو سبب لمرض السلس لارتخاء أعصاب الذكر وعدم استمساكه لما فيه ، ومثله السلت والتنحنح وصعود الدرج والمشي خطوات ، وتفقده الفيئة بعد الفيئة ، كل ذلك من الوسوسة المذمومة ، وباب الوسوسة باب واسع خطير إذا انفتح على الإنسان فإنه لا يغلق إلا بكلفة ، قال الشيخ تقي الدين في الاختيارات :- ويكره السلت والنتر ولم يصح الحديث في الأمر به والمشي والتنحنح عقيب البول بدعة ومن ابتلى بشيء من هذه الوسوسة فلينضح على فرجه وسراويله بعد الاستنجاء من البول شيئاً من الماء فإذا أحس ببله فيقول هذه من هذه ، وفيه حديث ضعيف لكنه قاطع للوسواس وفي صحيح مسلم عن عائشة :- عشر من الفطرة ، وذكر منها :- " والانتضاح " وفسره بعض أهل العلم بهذا ، وقال أحمد فيمن ظن خروج شيء منه :- لا تلتفت إليه حتى تتيقن والهُ عنه فإنه من الشيطان وإنه يذهب إن شاء الله وعليك الاستعاذة من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس ، وإن لم يذهب وكثر عليك فراجع طبيباً نفسياً فإنه من الوسواس القهري وعلاجه عند الأطباء ، والله يحفظنا وإياك من كل سوء . والله أعلم .(1/39)
ومنها :- قال بعض الفقهاء : من آداب التخلي الجلوس على اليسرى ونصف اليمنى ويستدلون على ذلك بحديث عن سراقة بن مالك قال " علمنا رسول الله صلى الله في الخلاء أن نقعد على اليسرى وننصب اليمنى ، رواه البيهقي والطبراني لكنه حديث ضعيف ، فقد ضعفه الحافظ ، وقال الحازمي : في إسناده من لا نعرفه ، وقال الحافظ في التلخيص :- رواه الطبراني والبيهقي من طريق رجل من بني مدلج عن أبيه وفي إسناده من لا يعرف ولا نعلم في الباب غيره وحيث لم يصح الحديث فلا نقول حينئذ إن هذا من الآداب ، ذلك لآن آداب الخلاء توقيفية على الدليل الصحيح ولا دليل يصح في هذا الباب فيبقى الأمر على البراءة الأصلية من عدم اعتقاد الاستحباب والله أعلم .
ومنها :- قال بعض الفقهاء :- إن من آداب الخلاء أن لا يستقبل المتخلي بيت القدس ، لأنه إحدى القبلتين ولحديث يروونه في ذلك وهو عند أبي داود وابن ماجه مرفوعاً " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط " لكنه حديث ضعيف فقد قال الحافظ في الفتح :- وهو حديث ضعيف لأن فيه راوياً مجهول الحال قلت :- وعلى تقدير صحته فإن المراد بهذا النهي أهل المدينة ومن على سمتها لأن استقبالهم لبيت المقدس يلزم منه استدبارهم للكعبة وهو منهي عنه ، فالحق أن استقبال بيت المقدس واستدباره لا بأس به ما لم يلزم منه استقبال القبلة أو استدبارها فإن لزم منه ذلك فينهى عنه لا لأنه بيت المقدس ولكن لأنه يلزم منه استقبال البيت الحرام واستدباره ، وهذا هو الراجح إن شاء الله تعالى وذلك لأن آداب الخلاء توقيفية على الدليل الصحيح ولا دليل يدل على هذه المسألة فنبقى على البراءة الأصلية من عدم اعتقاده الاستحباب أو الكراهة والله أعلم .
ومنها :- ذهب جمهور العلماء إلى أن من آداب الخلاء أن لا يستكمل الإنسان رفع ثوبه حتى يدنو من الأرض فيرفع شيئاً فشيئاً ، وعللوا ذلك بأمور:(1/40)
الأول : حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض وهو حديث حسن صحيح .
الثاني : أن ذلك أستر له لئلا تنكشف عورته ، وستر العورة مأمور به ووسائل المأمور مأمور بها ، ولذلك قال ابن مفلح في المبدع : ولعله يجب إن كان ثمَّ من ينظره أ.هـ أي ولعل الرفع شيئاً فشيئاً يجب إذا كان في تركه انكشاف للعورة وإن لم يكن فيه كشف للعورة فأقل أحواله الاستحباب لأنه فعل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم والأصل في الأفعال أنها للاستحباب ما لم تقترن بأمر قولي ، فيكون لها حكم هذا القول .
الثالث : اتفاق العلماء على هذا الأدب فقد قال الإمام النووي يستحب أن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض بالاتفاق أ.هـ فإذا ثبت ذلك فلا شك حينئذ أن هذا من جملة آداب الخلاء القبلية لصحة الحديث فيه ومطابقته للأدلة العامة الآمرة بالمحافظة على العورة .(1/41)
ومنها :- ذهب بعض العلماء رحمهم الله تعالى إلى أنه يحرم على المتخلي لبثه فوق حاجته قدراً زائداً على الحاجة واستدلوا على ذلك بالأحاديث الآمرة بستر العورة كحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله ، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر قال " أحفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ، قلت : فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال إن استطعت ألا يراها أحد فلا يرينها قلت فإذا كان أحدنا خالياً قال فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه رواه الخمسة " وعلقه البخاري وحسنه الترمذي وصححه الحاكم فهذا الحديث فيه دليل على أن ستر العورة واجب مطلقاً إلا فيما استثنى وهو عدم وجوب سترها عن الزوجة وملك اليمين ، وقد دل الدليل أيضاً على أنه يجوز كشفها لقضاء الحاجة ولذلك شرع فيه البعد والاستتار عن الأعين وقد دل الدليل أيضاً على جواز كشف قدر الحاجة منها للضرورة كالعلاج ونحوه ، وما عدا ذلك فأنه لا يجوز كشفها فيه حتى لو كان الإنسان خالياً كما هو منطوق حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ، فإذا ثبت هذا فأقول : في حال خروج الخارج يجوز كشفها لدلالة الدليل على دلك فإذا انتهى الخارج وانقضت الحاجة فأنه يجب سترها فإذا خالف هذا الواجب فأنه يكون قد وقع في الحرام الذي هو كشف العورة بلا حاجة وقالوا أيضاً إن إطالة القعود على الحاجة يدمي الكبد ويورث الباسور ، وبناء على هذين الأمرين تعرف أن هذا من جملة آداب الخلاء قلت : أما الأمر الأول فهو البلسم الشافي والتعليل الكافي فإن الحديث المذكور حديث حسن أو صحيح لغيره ، وفيه دلالة كافية على وجوب ستر العورة حال الخلوة فإذا انقضت الحاجة وجب سترها وإطالة القعود على الحاجة مخالف للستر الواجب وقد تقرر في الأصول أن الأمر بالشيء نهي عن ضده فالأمر بستر العورة نهي عن كشفها إلا فيما استثنى ، فيكون كشفها لغير حاجة منهي عنه ، وأما الأمر الثاني فمرجعه الأطباء فإذا ثبت طبياً أن إطالة القعود على(1/42)
الحاجة مما يدمي الكبد ويورث الباسور فإن ثبوته يكون مؤيداً لهذا الأدب وحينئذ فيكون هذا الفرع من جملة آداب الخلاء والله أعلى وأعلم ولعل في هذه الفروع كفاية إن شاء الله تعالى وبها تعلم أن الأصل في آداب الخلاء هو التوقيف حتى يرد الدليل الصحيح الصريح فإذا دل الدليل على أن هذا الشيء أدب فهو أدب وما لم يدل عليه الدليل فلا تعده من جملة آداب الخلاء والله يتولانا وإياك .
جظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
الضابط الخامس
كل مكان فيه منفعة مباحة أو ضرر فلا تقضي الحاجة فيه
وهذا الضابط يدخل تحته جميع الفروع التي ينص عليها الفقهاء في كتبهم تحت باب : الأماكن التي نهى عن التخلي فيها ، وإليك بيانه بالتدليل والتفريع فأقول وبالله التوفيق : الأصل أن قضاء الحاجة جائز في كل مكان ، إلا في الأمكنة التي دل الدليل الشرعي أو العرفي على المنع من التخلي فيها فإذا ورد الدليل بالمنع فليس لنا إلا السمع والطاعة وكذلك إذا تعارف الناس فيما بينهم أنه لا تقضى الحاجة في هذا المكان فأنه يكون ملحقاً بالنهي عنه شرعاً ذلك لأنه قد تقرر في القواعد أن العادة محكمة وأن ما تعارف عليه الناس فأنه يكون حجة شرعية ، والضابط الذي قررته يجمع لك ذلك كله وخلاصة معناه أن يقال : كل مكان توفر فيه هذه الشروط فإنه لا يجوز قضاء الحاجة فيه .
الأول :- أن يكون للناس في هذا المكان منفعة ، وبناء على اشتراط هذا الشرط فالمكان الذي ليس للناس فيه منفعة فلا بأس بقضاء الحاجة فيه.
والثاني : - أن تكون هذه المنفعة مباحة ، وبناء عليه فلو كانت هذه المنفعة محرمة فلا بأس بقضاء الحاجة فيه .(1/43)
الثالث :- أن لا يكون في هذا المكان ضرر يعود على المتخلي أو غيره فإن كان التخلي في هذا المكان يعود عليه أو على غيره بالضرر فيمنع منه لما سيأتي إن شاء الله تعالى فأي مكان توفر فيه هذه الشروط فأنه لا تقضى الحاجة فيه فهذه هي شروط الضابط تنظيراً وبقى ذكر الفروع عليه وأذكر أهمها ويقاس عليها ما أتفق معها في هذا الضابط فأقول وبالله التوفيق .
منها :- ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أنه لا يجوز قضاء الحاجة في المساجد وذلك لثبوت الدليل بالنهي عن ذلك كما في الصحيحين من حديث أنس في قصة الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا الأذى والقذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن " وقد أتفق على ذلك العلماء رحمهم الله تعالى ولكن اختلفوا في مسألة هل يجوز البول في المسجد إذا كان في إناء ثم يريقه خارج المسجد ؟ والصواب المنع منه أيضاً لأن قوله صلى الله عليه وسلم " لا يصلح فيها شيء من هذا الأذى والقذر " نكره في سياق النفي فإن قوله " شيء " نكره وقد جاءت في سياق النفي وقد تقرر في القواعد الأصولية أن النكرة في سياق النفي تعم ، فيدخل تحتها جميع الصور ومن ذلك هذه المسألة ، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله تعالى ، لكن إن فعل ذلك للحاجة الماسة أحياناً فالأشبه جوازه كالحاقن بالمرة الذي لو أخر البول إلى الخروج لتضرر ومعه قارورة ، وكالمقعد الذي لا يستطيع المشي وليس عنده من يعينه على الخروج ونحو ذلك فالحاجة والضرورة لها أحكامها الخاصة فقد تقرر في القواعد أن المشقة تجلب التيسير وأنه إذا ضاق الأمر اتسع وأن رفع الحرج أصل من أصول الشريعة وإلا فالأصل المنع ، والمقصود أن المساجد لا يجوز قضاء الحاجة فيها وذلك لثبوت الدليل الشرعي بذلك ولأنها من الأمكنة التي للناس فيها منفعة مباحة فهي مكان صلاتهم المفروضة ومكان حلقات العلم والاعتكاف ، وقد(1/44)
تقرر في الضابط أن كل مكان في للناس منفعة مباحة فأنه لا تقضى الحاجة فيه والله أعلم .
ومنها :- الظل النافع ومثله المتشمس في زمن الشتاء ، فأن الناس لهم في الظل منفعة مباحة وهي الاستظلال من حر الشمس وكذلك يقاس عليه المتشمس في الشتاء فإن للناس فيه منفعة مباحة وهي الاستدفاء بأشعة الشمس من زمهرير الشتاء وحيث كان للناس في هذه الأمكنة منفعة مباحة فإنه لا يجوز قضاء الحاجة بها ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتقوا اللاعنين " قالوا :- وما اللاعنان يا رسول الله ، قال " الذي الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم " وعن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتقوا الملاعن الثلاثة البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل " رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم وابن السكن لكن فيه ضعف ، فهذه الأحاديث تفيد إفادة قطعية أن ظل الناس النافع لا يجوز إفساده عليهم بالتخلي فيه ، ويقاس عليه متشمسهم في الشتاء وذلك لأن كل مكان للناس فيه منفعة مباحة فلا يجوز قضاء الحاجة فيه ، والله أعلم .(1/45)
ومنها :- قارعة الطريق ، والمراد به الطريق المسلوك الذي تقرعه الأقدام ، فإن الناس ينتفعون من هذا الطريق في ذهابهم ورجوعهم فحيث ثبت أن للناس فيه منفعة مباحة فإنه لا يجوز التخلي فيه . وقد تقدم ذكر الأحاديث في ذلك وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلّ سخيمته على عامر من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين رواه البيهقي والطبراني بسند ضعيف وله أيضاً مرفوعاً " من أذى المسلمين في طرقهم فقد وجبت عليه لعنة الله وروى ابن ماجه في سننه من حديث جابر مرفوعاً " إياكم والتعريس على جواد الطريق فإنها مأوى الحيات والسباع وقضاء الحاجة عليها فإنها الملاعن قال الحافظ : إسناده حسن ولأن التخلي في هذه الطريق العامرة فيه إيذاء للمارة وإيصال الإيذاء للغير بغير حق محرم ولأن الناس لهم في سلوك هذه الطريق منافع مباحة وقد تقرر أن كل مكان للناس فيه منفعة مباحة أو ضرر على الغير فلا تقضي الحاجة فيه والله أعلم .
ومنها :- الماء الراكد لا يجوز قضاء الحاجة فيه ، وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه " ولأبي داود " ولا يغتسل فيه من الجنابة " رواه البخاري ومسلم وهو نص صريح في النهي وقد تقرر في الأصول أن النهي المطلق عن القرائن يفيد التحريم ، ولأن في بوله في هذا الماء الراكد إفساداً له وحرمان الناس من الانتفاع به ، ففيه ضرر يلحق الغير ، فإن الناس ينتفعون بهذا الماء في وضوئهم وشربهم وطعامهم وهي منافع مباحة وقد تقرر أن كل مكان للناس فيه منفعة مباحة أو ضرر على الغير فإنه لا تقضى الحاجة فيه وهذا منها فإن هذا الماء للناس فيه منافع مباحة ويتضررون بقضاء الحاجة فيه وقد تقدم في حديث معاذ النهي عن قضاء الحاجة في ثلاث مواطن وذكر منها " والموارد " وهي المياه التي يردها الناس والله أعلم .(1/46)
ومنها :- الشجر التي عليها ثمر يقصد ، لا يجوز قضاء الحاجة تحتها لما رواه الطبراني وغيره من النهي عن قضاء الحاجة تحت الأشجار المثمرة وضفة النهر الجاري لكن سنده ضعيف ، ولأنه يقذرها ويفسدها على الناس ففيه إيذاء للناس في ثمارهم وإن كان لها ظل يقصد فيكون التخلي تحتها ممنوعاً لمجموع الأمرين لتقذير الثمر ولإفساد ظل الناس ، وقيدنا هذه الثمرة بأن تكون مقصودة للأكل أحترازاً من الشجر الذي لا ثمر له أصلاً أو له ثمر لكن لا يقصد للأكل فهذا يجوز قضاء الحاجة تحته إن لم يكن له ظل نافع يقصده الناس وللناس في هذا الثمر الذي يؤكل منفعة مباحة وهي الأكل ، وفي التخلي تحتها إفساد لهذه المنفعة وإلحاق الضرر بالغير وقد تقرر أن كل مكان للناس فيه منفعة مباحة أو ضرر عليهم فلا تقضي الحاجة فيه فإن قلت : كيف لا يجوز قضاء الحاجة تحت الشجر الذي له ثمر يقصد وقد قضاها النبي صلى الله عليه وسلم تحت النخل في صحيح مسلم وغيره من حديث عبد الله بن جعفر وفيه " وكان أحب ما أستتر به النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل والحائش هو النخل الملتف ، والنخلة لها ظل نافع ولها ثمر يقصد ومع ذلك فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم حاجته تحتها بل هي أحب ما أستتر به فكيف نجمع بين هذا الحديث وبين النهي عن قضاء الحاجة في ظل الناس وإنها مجلبة للعن والنهي عن قضاء الحاجة تحت الشجرة المثمرة ثمراً يقصد؟ فأقول هذا سؤال جيد وجوابه أن يقال إنه ليس كل ظل ينهي عن التخلي فيه وإنما ينهي عن التخلي تحت الظل المقصود أي الذي يقصده الناس للاستظلال بدليل قوله في حديث أبي هريرة " أو ظلهم " فإضافة الظل إليهم دليل على إرادة المنتفع به دون غيره ، فيكون وجه الجمع بين ما ذكر أن هذا الحائش الذي قضى النبي صلى الله عليه وسلم حاجته تحته ليس من قبيل الظل المقصود وقد تقرر أنه جائز لأنه ليس للناس فيه منفعة مباحة ، وأيضاً فحائش النخل هو مجتمع النخل الذي يستر(1/47)
ما فيه والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي حاجته في حائش النخل ولا يلزم من ذلك أن يكون تحت نخلة بعينها فإن الحائش فيه فراغ بين نخلة ونخلة كما هو معروف بالعادة المستقرة في غراس النخيل ، وهو صلى الله عليه وسلم كان يحب قضاء الحاجة في حائش النخل لأنه أستر لا لأنه يريد الاستظلال بظل النخيل وهذا هو ما يفيده قول عبد الله بن جعفر " وكان أحب ما أستتر به " ويقال أيضاً أن قضاء الحاجة تحت الشجرة المثمرة منهي عنه وقت حصول الثمرة أما في الأوقات التي لا ثمر عليها فلا بأس بقضاء الحاجة تحتها إذا لم يكن لها ظل يقصد فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قضى حاجته في حائش النخل حال كونه لا ثمر فيه وبهذا تعلم أنه لا تعارض بين حديث عبد الله بن جعفر وبين غيره والله أعلم .
ومنها :- الجحر ، لا يجوز قضاء الحاجة فيه ، والمراد به ما تحتفره السباع والهوام لأنفسها ، وذلك لحديث قتادة عن عبد الله بن سرجس قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الجحر قالوا لقتادة ما يكره من البول في الجحر ، قال: - يقال إنها مساكن الجن " رواه أحمد وأبو داود والنسائي ، وصححه ابن خزيمة وابن السكن ، ولأنه يخشى عليه من خروج دابة من الأرض فتؤذيه أو يكون مسكناً للجن فيؤذونه ويروي أهل السيرة أن سعد بن عبادة بال في جحر بالشام ثم استلقى ميتاً " لكنه لا يصح من ناحية سنده ويكفينا الحديث السابق فالتخلي في الجحر سبب من أسباب حصول الضرر وقد تقرر أن كل مكان يكون في التخلي فيه ضرر فإنه يمنع من التخلي فيه وهذا هو المقصود من قولنا في الضابط " أو ضرر " وهذا منها والله أعلم .(1/48)
ومنها :- النار ، فذكر بعض العلماء أنه لا ينبغي قضاء الحاجة عليها ، وكذلك الرماد ، وعللوا ذلك بأنه يورث السقم أي المرض ، وأقول : لا أعلم دليلاً يمنع منه ، لكن إن ثبت بالعادة أن البول في النار والرماد يورث ضرراً فيصح حينئذ تفريعه على هذا الضابط ، وأما الكلام الذي لا أصل له فليس من الشريعة في شيء فليحرر المقام في هذا الفرع فإني لا أعرف أحداً بال في النار فأعتل بسبب البول فيها والله يحفظنا وإياك من علل الأقوال السامجة والنقول الهائمة العائمة فإنها هي التي تورث السقم والله أعلم .
ومنها :- البول في المستحم ، أي في المكان الذي يستحم فيه أي يغتسل فيه فإنه لا يجوز وذلك لحديث عبد الله بن مغفل قال قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه " رواه أبو داود بسند صحيح وفي رواية له ولأحمد في المسند " ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه " وهذه الزيادة فيها ضعف ، وعن حميد الحميري وهو ابن عبد الرحمن قال : لقيت رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسله رواه مسلم وأبو داود فهذه الأحاديث تدل على المنع من البول في محل الإغتسال وذلك لأنه يبقى أثره فإذا انتضح إلى المغتسل شيء من الماء بعد وقوعه على محل البول نجسه فلا يزال عند مباشرة الإغتسال متخيلاً لذلك فيفضي به إلى الوسوسة كما في الحديث " فإن عامة الوسواس منه " ففي البول في المستحم ضرر على المتخلي نفسه إما بتلويثه بالنجاسة وإما بالوسوسة بذلك وقد تقرر أن كل مكان يكون في التخلي فيه ضرر على المتخلي أو غيره فإنه يمنع من التخلي فيه ، وهذا فيما إذا كانت أرضية المستحم غير مقيرة أو مبلطة أما حمامات الناس اليوم فلا بأس بالبول فيها لأنها مبلطة ولها حفيرة يذهب فيها البول مع إراقة الماء عليها والله أعلم .(1/49)
ومنها :- التخلي بين قبور المسلمين فإنه حرام ولا يجوز لحديث عقبه بن عامر رضي الله عنه مرفوعاً وفيه " ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق " رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والمعنى : إنهما في القبح سيان فمن أتي أحدهما فهو لا يبالي أن يأتي بالأخر ولأن مقابر المسلمين هي بمنزلة البيوت للأحياء فكما أن في التخلي في بيوت الأحياء ضرراً عليهم فكذلك التخلي بين القبور ولأنهم أحياء في قبورهم ويعرفون أحياناً ما يدور حولهم ولهم الرفعة والكرامة والتخلي بين قبورهم فيه إهانة لهم والله أعلم .
ومنها :- التخلي في الحدائق العامة التي يرتادها الناس للانتفاع بظل أشجارها وجمال منظرها ، فإنه لا يجوز لأنه مكان للناس فيه منفعة مباحة وقد تقرر أن كل مكان للناس فيه منفعة مباحة فإنه يمنع التخلي فيه والله أعلم . ولعل الضابط بهذه الفروع قد اتضح إن شاء الله تعالى وهو أعلى وأعلم .
ج
ج
ج
ج
ج
ج
ج
ج
الضابط السادس
يجوز الاستجمار بكل طاهر مباح منقٍ إلا بدليل
والاستجمار هو إزالة الخارج من السبيلين بحجر أو ما يقوم مقامه ، وهذا الضابط في الأشياء التي يجوز الاستجمار بها وهي ما يسميها الفقهاء :- بشروط ما يستجمر به ، فأقول وبالله التوفيق إعلم رحمك الله تعالى إنه يجوز الاستجمار بكل ما توفر فيه هذه الشروط :
الأول :- أن يكون طاهراً وهو ما نعنيه بقولنا ( بكل طاهر ) وهو احتراز عن النجس فإن النجس لا يجوز الاستجمار به وذلك لحديث ابن مسعود عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الغائط فامرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين والتمست ثالثاً فلم أجد ، فأتيته بروثة فأخذهما والقى الروثة وقال :- هذا رجس أو ركس " وزارد ابن خزيمة " وهي روثة حمار وروث الحمار نجس فهذا دليل على أنه لا يجوز الاستجمار بالنجس ، واستعمال النجس في إزالتها يزيد المحل تلوثاً .(1/50)
والثاني :- أن يكون مباحاً ، وضد المباح المحرم ، والمحرم نوعان ، محرم لحق الله تعالى ومحرم لحق الآدميين ، وكلاهما لا يجوز الاستجمار به وبناء عليه فلا يجوز الاستجمار بالمحرم كالقرآن وكتب العلم لأنها محرمة لحق الله تعالى ولا بما هو ملك للغير بغير إذنه لأنه محرم لحق الغير ، فإن خالف الإنسان واستجمر بالمحرم وزالت النجاسة فهل يزول حكمها أم لا ؟ فيه خلاف والراجح أنه يزول حكمها لكنه آثم عاصٍ بهذا الاستعمال لأن المراد من الاستجمار إزالة عين النجاسة وقد حصل وإنما المنهي عنه هو أمر خارج وما عاد النهي فيه إلى أمر خارج فإنه لا يقتضي الفساد وإنما يقتضي الإثم وهذا هو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله تعالى ولأنه لم ينه عنه لكونه لا ينقي وإنما نهى عنه لأمر آخر ، فمن استجمر بما ليس بمباحٍ فإنه يصح لكنه آثم لإقدامه على ما لا يجوز له الإقدام عليه .
الثالث :- أن يكون منقياً :- وهو اسم فاعل من أنقى ، أي أن له خاصية الإنقاء ، وبناء عليه فلا يصح الاستجمار بالأملس من زجاج ونحوه ، إذ المقصود الإنقاء واإزالة النجاسة الخارجة عن المحل وما ليس بمنق لا يحصل منه هذا المقصود ، هذا هو ما ذكره الضابط من الشروط وهي تتضمن شروطاً أخرى لم تذكر نصاً ننبه عليها في ذكر الفروع إن شاء الله تعالى ، وقولنا ( إلا بدليل ) أي إذا ورد الدليل المانع من الاستجمار بهذا الشيء بعينه فإنه يخرج من هذا الأصل المتقرر إلى التحريم كما سيأتي إن شاء الله تعالى أما إذا لم يدل على المنع دليل فإنه لا يجوز التحكم بمجرد الهوى والتعصب ، فأي شيء طاهر مباح منق فأنه يجوز الاستجمار به ، هذا هو الأصل إلا ما ورد الدليل الصحيح بالمنع منه ، فأن قلت :- إننا وفي أحاديث الاستجمار أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالأحجار بعينها فكيف تقولون يجوز الاستجمار بغيرها ؟ فأقول :- لنا على ذلك أجوبة :-(1/51)
الأول :- المنع :- أي أننا نمنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر إلا بالأحجار بل ثبت عنه الأمر بغيرها ، كما روى الدارقطني وغيره أنه صلى الله عليه وسلم " كان يستجمر بثلاثة أحجار أو بثلاثة أعواد أو بثلاثة حثيات من تراب " ولأنه صلى الله عليه وسلم " نهى أن يستنجى برجيع وعظم " فلولا أنه أراد الحجر وما في معناه لما كان للاستثناء معنىً ، قال أبو العباس رحمه الله تعالى :- أمر بالاستجمار بثلاثة أحجار ، فمن لم يجد فثلاث حثيات من تراب .
الثاني :- أن تخصيصه الحجر ليس لأنه هو المتعين وإنما لأنه هو المعروف الموجود في عهده لا لأن الاستجمار بغيره لا يجوز .
الثالث :- أن الاستجمار ليس من الأحكام التعبدية التي لا يعلم معناها ، بل هو معلل بالاتفاق وعلته إزالة الخارج وحيث كان معللاً فحيث تحققت العلة تحقق المقصود فبأي شيء زال أثر الخارج فإنه يكون كافياً ، وهو يزول بالحجر وما في معناه وبه تعرف أنه ليس للشارع غرض إلا التنظيف والإزالة فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار .
وإليك بعض الفروع على هذا الضابط المقيد فأقول وبالله التوفيق :-
منها :- الاستجمار بالخشب والخرق هل هو جائز أم لا ؟
الجواب :- يعرف من هذا الضابط وهو أن الخشب والخرق إذا كانت طاهرة مباحة منقية فإنه يجوز الاستجمار بها وذلك لتحقق المقصود الشرعي والخشب والخرق تحمل هذه الخاصية ، وبناء عليه ، فلو ذهب معه بخرقة أو خشب أو قطن أو صوف أو خز ونحو ذلك فاستجمر به فإنه يجزء عنه وهو مذهب الجمهور واختيار أبي العباس وتلميذه رحمهما الله تعالى والله أعلم .(1/52)
ومنها :- الاستجمار بالعظم والروث ، لا يجوز ذلك لثبوت الدليل بالمنع ولو لم يرد الدليل بالمنع لكان جائزاً " لأن العظم وروث الماكول لحمه طاهر منق ، فالشروط فيه متوفرة إلا شرط الإباحة وقد قلنا في الضابط ( إلا بدليل ) وقد دل الدليل على أن الروث والعظم لا يجوز الاستجمار بهما وذلك لحديث سلمان رضي الله عنه في ذكر المنهيات ومنها " وأن تستنجي برجيع أو عظم " رواه مسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى برجيع أو عظم وقال " إنهما لا يطهران " رواه الدارقطني بإسناد صحيح إن شاء الله تعالى ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال :- فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً وكل بعرةٍ علف لدوابكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلا تستنجو بهما فإنهما طعام إخوانكم " رواه مسلم ، وعن أبي هريرة أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته فبينما هو يتبعه بها قال :- من هذا قال :- أنا أبو هريرة فقال " ابغي أحجاراً استنفض بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة فأتيته باحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعتها إلى جنبه ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت فقلت :- ما بال العظم والروثة ؟ قال :- هما من طعام الجن فإنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً " رواه البخاري . فحيث ثبت الدليل بالمنع فنقول له ، والنهي عن الاستنجاء بالعظم والروثة علته مقررة في الأدلة السابقة وهو أن العظم زاد إخواننا الجن والروثة علف دوابهم ، فإن قلت :- أو ليس النهي عن الاستنجاء بالروث من أجل النجاسة وذلك لحديث ابن مسعود السابق " فأخذهما والقى الروثة وقال " هذا رجس أو ركس(1/53)
" فأقول :- إن الروثة المذكورة في حديث ابن مسعود قد ورد بيانها في رواية ابن خزيمة وخير ما فسرت به السنة هو السنة وفيه " وهي روثة حمار " وروث الحمار نجس ، واكل النجاسة لا يجوز مطلقاً لا لنا ولا للإخواننا من الجن فإنهم مكلفون مثلنا وإن كانوا مختلفين عنا في بعض التشريعات لاختلافهم عنا في الحد والحقيقية ، والمقصود فتعليل الرد في حديث بن مسعود بأنها رجس وتعليل الرد في الأحاديث السابقة أنها زاد دواب الجن ، فلا اختلاف ولله الحمد والمنة . وهو أعلى وأعلم .
ومنها :- طعام الآدميين وعلف دوابهم ، فلا يجوز الاستجمار به وذلك لأنه محرم وإهدار للنعمة وللقياس الأولوي ، فأنه قد تقرر في الأصول أن مفهوم الموافقة الأولوي حجة فإذا كانت الشريعة نهت عن الاستجمار بالعظم والروث لأنه طعام الجن وعلف دوابهم فلأن تنهي عن الاستجمار بطعام الإنس وعلف دوابهم من باب أولى وأحرى لأن الإنس أشرف من الجن فطعامنا وعلف دوابنا أكبر حرمة من طعامهم وطعام دوابهم ، وقال الشيخ تقي الدين أبو العباس :- الاستجمار بطعام الآدميين وعلف دوابهم أولى بالنهي عنه من طعام الجن وعلف دوابهم والله أعلم .
ومنها :- الاستجمار بحجر كبير ذي شعب هل يجوز أم لا ؟ الجواب :- فيه خلاف والصواب الجواز لأن المراد استيفاء ثلاث مسحات لا ثلاثة أحجار بدليل ما رواه أحمد في المسند عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا تغوط أحدكم فليمسح ثلاث مرات " فبين أن الغرض عدد المسحات لا الأحجار ، ولأنه يحصل بالشعب الثلاث ما يحصل بالأحجار الثلاثة من كل وجه فلا فرق ، فكل شعبة منه تنزل منزلة حجر ، والله أعلم .(1/54)
ومنها :- جلد الحيوانات المدبوغ أو المذكى ذكاة شرعية ، هل يجوز الاستجمار به أم لا ؟ الجواب فيه خلاف ، والجواب يعرف من هذا الضابط المتقرر ، وهو أن كل طاهر مباحٍ منق فالأصل أنه يجوز الاستجمار به إلا بدليل مانع ، وبناء عليه فجلد الحيوان الطاهر في الحياة إذا دبغ أو ذكي الحيوان المأكول ذكاةً شرعية فجلده يطهر بذلك ، والجلد فيه خاصية الإنقاء وهو مباح ولم يأت دليل يمنع من الاستجمار به وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ، لعدم الدليل المانع وليس هو بمحرم كما لو كان على البهيمة ، فالراجح إذاً أن الاستجمار به جائز وعلى المانع الدليل الذي يخرج هذا الفرع عن الضابط المتقرر بالأدلة ، وأما المذهب فالمشهور فيه المنع من الاستجمار بجلد الحيوان مطلقاً سواء المذكى أو المدبوغ ، ولكن لا دليل معهم على هذا المنع ، فالراجح إن شاء الله تعالى هو ما يؤيده الضابط والأصل المتقرر وهو الحل والإباحة إلا بدليل ولا دليل والله أعلم .
... ... ... ...
الضابط السابع
ما تحققت مصلحته بقوله سراً قيل في الخلاء وما لا فلا
وهذا الضابط مفيد جداً وبمعرفته يتبين الفرق بين ما يقال في الخلاء من الأذكار وما لا يقال ، فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل بحسن التحقيق : إعلم أرشدك الله لطاعته أن الأذكار نوعان :
الأول : أذكار شرع فيها الجهر ، بمعنى أنه لا تتحقق المصلحة منها إلا برفع الصوت لإسماع الآخرين فلو قيلت سراً لم تتحقق المصلحة الشرعية منها ، فهذا النوع من الأذكار لا يجوز قوله في الخلاء ولو تحقق سببه لأننا قدمنا سابقاً أن من آداب الخلاء الأثنائية عدم الكلام بذكر ولا غيره وأن ذكر الله تعالى حقه التقدير والاحترام وقوله في الخلاء امتهان له وقلة أدب مع الله تعالى ، وقد تقدمت الأدلة على المنع من الذكر والكلام حال الخلاء والمراد بهذا المنع ما كان من قبيل رفع الصوت وهو الذكر الذي يشرع فيه رفع الصوت .(1/55)
الثاني : أذكار لم يشرع فيها الجهر أو ليس الجهر بشرط في تحقق المصلحة منها فهذا النوع من الأذكار إذا تحقق سببه في الخلاء فإنه يقال سراً وقوله سراً لم يرد فيه منع شرعي ، وذلك لأنه مصلحته تفوت ولا معارض لها وأما النوع الأول فإن مصلحته تفوت لكن لوجود المعارض الأقوى وهو احترام ذكر الله تعالى ، وأما أذكار المخافتة التي تتحقق منها المصلحة الشرعية بقولها سراً فهذه إن فات سببها فأتت بلا مسوغٍ لتفويتها أي أنها تفوت ولا مصلحة تتحقق بتفويتها ، ففاتت مصلحتها لا إلى مصلحة وأما النوع الأول ففوات مصلحته نحصل به مصلحة أعظم منه وهي مصلحة تعظيم شعائر الله تعالى ، وهذا هو الفرق بين ما يقال في الخلاء من الأذكار مما لا يقال وإليك بعض الفروع على هذا الضابط فأقول .
منها :- الآذان للصلوات المكتوبة في الخلاء ، لا شك في أنه محرم لا يجوز وذلك لأن الآذان من الأذكار التي لا تتحقق المصلحة منها إلا بالجهر بل الجهر وإسماع الغير شرط في صحته لأنه إعلام الغير بدخول وقت الصلاة والإعلام لا يحصل إلا بالجهر ، وحيث لم تتحقق المصلحة منه إلا بالجهر به فلا يجوز فعله في الخلاء وهذا أمر لا أعلم فيه مخالفاً والله أعلم .
ومنها :- إجابة المؤذن ، فلو سمع المتخلي آذاناً فهل يشرع له متابعته أم لا ؟ الجواب يعرف من هذا الضابط وهو أنه إن كانت الإجابة تتحقق المصلحة الشرعية منها بقولها سراً فتقال وإن كانت المصلحة منها لا تتحقق لا بالجهر بها فلا تقال ، فنظرنا فوجدنا أن الإجابة من الأذكار التي لم يشرع بها الجهر وأن المصلحة تتحقق منها بقولها سراً ، فالجهر فيها ليس بشرط فيها ولا سنة ، فحيث كان ذلك كذلك فإنها إذاً تقال في الخلاء سراً أي أنه يشرع للمتخلي أن يجيب المؤذن في نفسه سراً من غير جهر وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله تعالى ، فإنه قال : ويجيب المؤذن في الخلاء كأذكار المخافتة والله أعلم .(1/56)
ومنها :- حمد الله بعد العطاس ، أي إذا عطس المتخلي فهل يجوز له أن يحمد الله في الخلاء ، الجواب : يعرف من هذا الضابط وهو أن حمد الله تعالى بعد العطاس تتحقق المصلحة منه بقوله سراً وليس الجهر بشرط فيه فحيث تحققت مصلحته الشرعية بقوله سراً فإن لا بأس بقوله في نفسه من غير جهر ، وهو ظاهر المذهب فقد روى عبد الله وحنبل عن الإمام أحمد : إذا عطس الرجل في صلاته يحمد الله في نفسه ولا يرفع صوته ويحمد الله في نفسه إذا عطس في الخلاء ، وكذلك في صلاته .
ومنها :- إجابة المشمت أي إذا عطست في الخلاء وحمدت الله في نفسك فقال لك من في الخارج يرحمك الله ، فهل يشرع لك إجابته بقولك يهديكم الله ويصلح بالكم أم لا يشرع ؟ الجواب : يعرف من هذا الضابط وهو أن مصلحة تشميت العاطس لا تتحقق إلا بالجهر بها بل الجهر بها هو حقيقة الإجابة فقولها سراً لا تتحقق المصلحة الشرعية منه وذلك لأنه من باب رد الدعاء لمن دعا لك وهذا الرد لا تحصل مصلحته إلا بقوله جهراً لإسماع الداعي فحيث لم تتحقق مصلحته بقوله سراً فلا يقال في الخلاء صيانة لذكر الله تعالى وتعظيماً لشعائره ويقال بعد الخروج من الخلاء كما سيأتي في مسألة السلام إن شاء الله تعالى .
ومنها :- التسمية قبل الوضوء لمن أراد الوضوء في دورة المياه هل يقولها أم لا ؟ الجواب : يعرف من هذا الضابط وهو أن البسملة قبل الطهارة الشرعية تتحقق المصلحة منها بقولها سراً فإن قيلت سراً كفى . وليس الجهر بشرط فيها بل ولا سنة وحيث كان المقصود يتحقق من قولها سراً فإنها تقال في الخلاء في النفس بلا جهر والله أعلم .(1/57)
ومنها :- رد السلام على المسلم وهو أصل المسألة وما مضى فقياس عليه ، فأقول :- ما الحكم لو سلم عليك أحد وأنت في الخلاء فهل تجيبه أم لا ؟ الجواب أيضاً يعرف من هذا الضابط ، وهو أن رد السلام لا تتحقق المصلحة منه بقوله سراً بل لابد فيه من الجهر وحيث لم تتحقق المصلحة الشرعية منه إلا بالجهر به فلا يشرع حينئذ في الخلاء فمن سلم عليك وأنت في الخلاء فإنه لا يستحق الرد حال كونك في الخلاء وهذا هو الذي ثبتت به السنة كما في حديث ابن عمر قال :- مَرَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم على رجل فسلم عليه وهو يبول فلم يرد عليه " رواه مسلم قال أبو داود :- يروى أنه تيمم ورد وهذا الحديث محمول على الأذكار التي يندب فيها الجهر أو يجب ، وقسنا على ذلك سائر الأذكار ، وهو دليل هذا الضابط والله تعالى أعلم .
ومنها :- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع المتخلي ذكر اسمه هل يشرع أم لا ؟ الجواب أن يقال :- إن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ليس من شروط صحتها الجهر بها ، بل تصح مع الإسرار بها وتتحقق منها المصلحة الشرعية مع قولها في النفس فحيث كان ذلك كذلك فلا بأس بقولها في الخلاء ، وذلك قياساً على أذكار المخافتة ، وجماع ذلك أن كل ذكر تحقق سبب وأنت في الخلاء ، فأنظر إن كانت المصلحة الشرعية منه تتحقق بقوله سراً فقله وإن كانت لا تتحقق مصلحته الشرعية إلا بالجهر به ، فلا تقله بل يؤخر إلى الخروج ثم يتدارك إن كان من قبيل ما يتدارك والله ربنا أعلى وأعلم .
فإن قلت :- لقد نص القرآن أنه يجب على المتخلي تحذير الغافل والضرير عن الهلكة ، وهذا لا تتحقق المصلحة منه وهو التحذير إلا بالجهر به ، فإنه لو حذره سراً في نفسه لم يحصل التحذير بذلك ومع ذلك أوجبتم على المتخلي التحذير جهراً فكيف نجمع بين هذا وبين ما تقدم من أن ما لا تتحقق المصلحة الشرعية منه إلا بقوله جهراً فإنه لا يقال فأقول :- الجواب من وجهين :-(1/58)
الأول :- أن هذا ليس مما نحن فيه لأن الكلام في هذا الضابط فيما هو ليس مما نحن فيه لأن الكلام في هذا الضابط فيما هو من قبيل الأذكار وتحذير الغافل عن الهلكة ليس من هذا القبيل لأنه من كلام الناس .
الثاني :- أننا وإن سلمنا أن تحذير الغافل مندرج تحت هذا الضابط فإن مصلحة إحياء النفس البشرية أعظم من مجرد مراعاة عدم الكلام في الخلاء ، فأين هذه من هذه ، فإن إحياء النفس من أعظم ما جاءت به الشريعة وحرصت عليه أشد الحرص ، أفيعقل إذا تعارضت هذه المصلحة الأساسية مع مصلحة عدم الكلام في الخلاء أن تقدم الشريعة الثانية على الأولى ؟ هذا لا يعقل أبداً ، ومن قال ذلك فإنه من أبعد الناس عن معرفة مقاصد الشريعة وترتيب الأولويات فيها ، وحينئذ فيدخل هذا الفرع تحت تعارض المصلحتين والمفسدتين ، فإنه قد تقرر أنه إذا تعارض مصلحتان قدم أعلاهما وإذا تعارض مفسدتان قدم أدناهما ، فمصلحة إحياء النفس مقدمة على مراعاة مصلحة ترك الكلام في الخلاء ، ومفسدة تلف النفس أهم من مفسدة الكلام في الخلاء ، فقدمنا المصلحة الكبرى وفوتنا الصغرى ، ودرأنا المفسدة الكبرى بإرتكاب المفسدة الصغرى والله أعلم .
الضابط الثامن
تقدم اليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين واليسرى فيما عداه(1/59)
وهذه في الحقيقة قاعدة وليست ضابطاً ، ومفادها :- أن الأشياء نوعان : أشياء نفعلها ونقصد بها التجمل والتزين ، وأشياء نفعلها من باب دفع الأذى وإزالة القذر ، فالأفعال الأولى يسن فيها تقديم اليمين إكراماً لها ، والثانية تقدم فيها اليسار ، ونزيد ذلك إيضاحاً فنقول :- قد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي يشترك فيها اليمنى واليسرى أن اليمنى فيها تقدم إذا كانت من باب الكرامة كالوضوء والغسل والابتداء بالشق الأيمن في السواك ونتف الإبط وكاللباس والانتعال والترجل ودخول المسجد والمنزل فإن هذه الأمور تشترك فيها اليمنى واليسرى وهي من باب الكرامة فالسنة فيها تقديم اليمين وتقدم اليسرى في ضد ذلك أما فيما ليس من باب الكرامة كدخول الخلاء وخلع النعل والخروج من المسجد ونحو ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى بالأدلة ، فالأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى إن كانت من باب الكرامة تقدم فيها اليمنى وإن كانت ضد ذلك فتقدم فيها اليسرى ، وكذلك استقرت قواعد الشريعة أيضاً على أن الأفعال التي تختص بأحدهما أي إما باليمنى فقط أو باليسرى فقط إنها إن كانت من باب الكرامة فتقدم فيها اليمين كالأكل والشرب والمصافحة ومناولة الكتب وتناولها ونحو ذلك ، وإن كانت ضد ذلك ، قدمت فيها اليسرى كالاستجمار ومس الذكر والاستنثار والامتخاط ونحو ذلك ، هذا هو الذي استقرت عليه قواعد الشريعة والذي أيدته الأدلة الكثيرة كما ستراه إن شاء الله تعالى . إذا علمت هذا فإليك بعض فروع هذه القاعدة لتتضح أكثر فأقول :-(1/60)
منها :- الوضوء فإن السنة فيه التي أجمع عليها الفقهاء هي تقديم اليمنى على اليسرى فيما هو كالعضو الواحد كاليدين والرجلين ، وذلك لحديث أبي هريرة عند الأربعة وصححه ابن خزيمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا توضأتم فأبدوا بميامنكم " وذلك لأن الوضوء من باب التكريم والتزين فتقدم فيه اليمنى وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله " والشاهد قولها " وطهوره وهي مفرد مضاف وقد تقرر أن المفرد المضاف يعم فيدخل تحت قولها وطهوره جميع أنواع الطهور التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها كالوضوء والغسل ، ونحوها ، كل ذلك يسن فيه تقديم اليمين لأنه من باب التكريم والتزين ، وفي الصحيح من حديث حمران مولى عثمان في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم انه غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً ثم اليسرى مثل ذلك ثم مسح برأسه ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاثاً ثم اليسرى مثل ذلك " وقد اتفقت كلمة العلماء على هذه السنة والله أعلم .
ومنها :- نتف الإبط وحف الشارب وتقليم الأظافر وحلق العانة ، كل ذلك من سنن الفطرة ونحن نفعلها من باب التكريم والتزين وهي أفعال تشترك فيها اليمنى واليسرى أي إنك تأخذ شعر إبطيك جميعاً وتقلم أظافر يديك جميعاً وهكذا وقد تقدم أن الأفعال المشتركة بين اليمنى واليسرى إذا كانت من باب التكريم والتزين فتقدم فيها اليمنى وهذه الأفعال المذكورة من باب التكريم والتزين فالسنة فيها إذاً تقديم اليمين ، وذلك لعموم قول عائشة رضي الله عنها " وطهوره " بأن هذه الأشياء داخلة تحت هذا العموم لأنها من باب الطهارة فتأخذ شعر إبطك الأيمن أولاً ثم الأيسر ، وتأخذ جانب شاربك الأيمن أولاً ثم الأيسر وتقلم أظافر يديك اليمنى أولاً ثم اليسرى وتأخذ جانب شعر عانتك الأيمن أولاً ثم الأيسر وهكذا ، والله أعلم .(1/61)
ومنها :- أخذ شعر الرأس في الحج والعمرة يسن فيه البداءة بالشق الأيمن ثم الأيسر لما رواه مسلم وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة ثم انصرف إلى البدن فنحرها والحجام جالس وقال بيده عن رأسه فحلق شقه الأيمن فقسمه بين الناس ثم قال " أحلق الشق الأخر فقال " أين أبو طلحه ؟ فأعطاه إياه " وهو نص في المسألة ولأن الشعر في النسك عبادة مقصودة من باب التكريم والتزين فالسنة فيها تقديم اليمين والله أعلم .
ومنها :- لبس النعل وخلعه فإن لبسه مما أكرمنا الله به وهو من جملة الزينة ، فلبس في اللبس تقديم اليمين وفي الخلع تقديم الشمال . ودليل ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا انتعل أحدكم فليبدأ وإذا خلع فليبدأ بالشمال ولتكن اليمنى أولهما تنعل وأخرهما تنزع " ولحديث عائشة السابق " كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله متفق عليه ، والله أعلم
ومنها :- ترجيل الشعر أي تسريحه هو من باب التكريم والتزين فالسنة فيه تقديم اليمين لحديث عائشة السابق وفيه " وترجله فيبدأ بترجيل جانبه الأيمن ثم الأيسر والله أعلم .
ومنها :- دخول الخلاء والخروج منه وقد قدمنا ذلك .
ومنها : - دخول المسجد والخروج منه فإن دخوله من جملة الأعمال الصالحة التي تقدم فيها اليمين وعن أنس قال " من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى صححه الحاكم وغيره ، وقد تقرر في الأصول أن الصحابي إذا قال من السنة كذا فله حكم الرفع والله أعلم .
ومنها :- لبس الثياب وخلعها فإن لبسها من باب التكريم والتزين فيسن فيها تقديم اليمين وقد روى أبو داود والترمذي بسند جيد عن أبي هريرة مرفوعاً إذا توضأتم ولبستم فابدؤا بميامنكم والله أعلم .(1/62)
ومنها :- الاستجمار والاستنجاء هو من قبيل إزالة النجاسة فتقدم فيه اليسار ولا يجوز فعله باليمين إلا لضرورة وفي حديث عبد الله بن أبي قتادة في الصحيحين مرفوعاً " ولا يتمسح من الخلاء بيمينه وقد تقرر في الأصول أن النهي للتحريم إلا بقرينة ، ولا قرينة تصرف هذا النهي عن بابه إلى الكراهة وفي صحيح مسلم من حديث سلمان نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين " الحديث . والمقصود أننا قدمنا اليسار هنا لأنه ليس من باب التكريم والتزين .(1/63)
ومنها :- لبس الساعة ، وهذا الفرع من المسائل الجديدة ، لكن يدخل تحت هذه القاعدة ، وقد نظرت في هذه المسألة فوجدت أنها تدخل تحت أصلين ، الأول أن تقاس على الخاتم ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبثه في اليمين والشمال وذلك لحديث أنس قال كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه ، وأشار إلى الخنصر في يده اليسرى رواه مسلم وفي سنن أبي داود عن إبراهيم بن سعد عن إسحاق عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره وإسناده حسن ، وفعله جمع من الصحابة والتابعين وروى الترمذي وأحمد والنسائي وابن ماجه من حديث حماد بن سلمه قال " رأيت ابن أبي رافع يتختم في يمينه فسألته فقال " رأيت عبد الله بن جعفر يتختم في يمينه وقال " كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه " قال البخاري : هذا أصح شيء روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وعن ابن إسحاق عن عبد الله بن نوفل قال " كان ابن عباس يتختم في يمينه ولا إخاله إلا قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه رواه الترمذي ونقل عن البخاري أنه قال هو حديث حسن فالتختم في اليمين واليسار ثابت وإن كان ثبوته في اليسار أقوى لكن صح عنه أيضاً التختم في اليسار فالكل سنة ويدخل هذا الفرع تحت قاعدة الواردات على وجوه متنوعة فيسن للإنسان أن يتختم في اليمينى تارة وفي اليسرى تارة ، إذا علمت هذا فيقاس عليه الساعة فتلبس في اليمنى تارة وفي اليسرى تارة ، فالأمر واسع ولله الحمد والمنة .(1/64)
الأصل الثاني :- أن يقال : إن الأفضل لبس الساعة في اليد اليمنى وذلك لثلاثة أمور . الأول : مخالفة المشركين فإن لبسها في اليسار عادتهم المستقرة وقد أخذناها عنهم ومخالفتهم مقصد شرعي ولو في الأمور اليسيرة كلبس النعل في الصلاة وفرق الشعر ونحوها كما هو معروف فإذا كانت عادتهم المستقرة لبسها في اليسار فنحن نخالفهم ونلبسها في اليمين ، الثاني : أن الساعة لا يراعى فيها جانب معرفة الوقت فقط بل مقصدها الأعظم خصوصاً في هذه الأزمنة مراعاة جانب الجمال والزينة لذلك يشتريها الكثير بأثمان باهظة لهذا القصد فهي إذاً من باب التزين وقد قدمنا أن ما كان من باب التزين أنه تقدم فيه اليمين .
الثالث :- أن اليسرى تباشر النجاسات كثيراً كالاستنجاء بها فيخشى في إزالة النجاسة أن يتسرب للساعة شيء من هذه النجاسة خصوصاً إذا كانت واسعة أو يخاف عليها من السقوط مع حركة اليد لإزالة النجاسة ، فدرءاً لذلك يفضل أن تلبس في اليمين والمقصود أن الساعة إن أدخلتها تحت الأصل الأول فهو صحيح وإن أدخلتها تحت الأصل الثاني فهو صحيح والأمر واسع وإنما المراد تدريب الذهن على إجادة إرجاع الفروع لأصولها والله الموفق .(1/65)
ومنها :- السواك هل الأفضل أن يكون باليد اليسرى أم باليمنى ؟ أقول : هذا مما أختلف أهل الفضل والعلم رحمهم الله تعالى فيه على قولين فقيل تقدم فيه اليمين وقبل تقدم فيه اليسار وفصل بعض العلماء فقال إن كان المقصود منه إزالة شيء عالق بالأسنان من القذر وبقايا الطعام أو تغيير رائحة الفم فالسنة فيه تقديم اليسار لأنه من باب إزالة الأذى وآلته اليد اليسرى وإن كان التسوك لا لذلك وإنما لمحض تطبيق السنة فتقدم فيه اليد اليمنى والأقرب والله أعلم أن السنة فيه تقديم اليسار وهو المشهور عند الأئمة واختاره أبو العباس شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله تعالى بل قال أبو العباس رحمه الله تعالى في الفتاوى : وما علمنا أحداً من الأئمة خالف فيه فكأنه ينقل الإجماع في ذلك ولأن الأصل في الأحكام الشرعية التعليل ، والسواك إنما شرع لإزالة ما في داخل الفم وهذه العلة متفق عليها بين العلماء ولهذا شرع عند الأسباب المغيرة له كالنوم والإغماء وإطالة السكوت وعند العبادة التي يشرع لها الطهارة كقراءة القرآن والصلاة وفي حديث عائشة مرفوعاً " السواك مطهرة للفم " فهو وسيلة من وسائل التطهير فالسنة فيه تقديم اليسار فإن قلت ورد عند أبي داود حديث عائشة هذا بزيادة لفظ " وسواكه " وهي من زيادة مسلم ابن إبراهيم وهو ثقة مأمون وهو في هذه الزيادة لم يخالف الثقات وقد تقرر في الأصول أن زيادة الثقة مقبولة إذا لم يخالف الثقات ، قلنا نعم هي زيادة من ثقة ولم يخالف بها الثقات وإن كان الثقات لم يذكروها فحقها القبول كما تقرر في الأصول ولكن ليس المراد بالتيامن في السواك استعمال اليد اليمنى وإنما المراد تنظيف جانب الفم الأيمن قبل الأيسر ، فالسنة أن يبتدأ الإنسان بالاستياك من جانب فمه الأيمن بيده اليسرى ، وذلك لأن الأستياك من الأفعال المشتركة بين اليمين والشمال أي أن الفم له جانبان ، أيمن وأيسر وقد تقرر أن ما كان من قبيل هذه الأفعال تقدم فيه اليمين(1/66)
إن كان من باب التكريم والتزين فهو كالترجل والتنعل والطهور ودخول المسجد والمنزل فقلنا تستعمل فيه اليسار لأنه من باب إزالة الأذى وقلنا : يبتدأ بجانب فمه الأيمن لأنه من باب تكريم جهة اليمين وإزالة الأذى عنها أولاً وبهذا نكون قد عملنا بالأدلة كلها ولله الحمد والمنة وأضيف إلى هذا أن الشيخ تقي الدين في النقل السابق ذكر أن السنة الإستياك باليسار وأنه لا يعلم أحداً من الأئمة خالف فيه فهذا يدل على أنهم رحمهم الله تعالى كانوا يقدمون اليسار في الإستياك وقلنا يسن الابتداء بجانب الفم الأيمن عملاً بهذه الزيادة المذكورة وهذا القول هو الذي تتآلف به الأدلة فعملنا بهذه الزيادة وعملنا بالقاعدة المتقررة في هذا الباب وعملنا بالمشهور عن الأئمة والله يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم وخلاصة هذا الفرع أن الأفضل الاستياك باليد اليسرى مبتدءاً بجانب فمه الأيمن والله أعلم وأعلى .
(( التيمم بدل عن الطهارة المائية في كل خصائصها إلا بدليل ))(1/67)
... وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى، وهو الموافق للأدلة من الكتاب والسنة وبيان ذلك أن يقال : إن الله جل وعلا أوجب علينا عند القيام إلى الصلاة مع الحدث الطهارة بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) . فهذا أمر بالطهارة الصغرى ، فإن كان على الإنسان جنابة فهو مخاطب بقوله تعالى بعدها : ( وإن كنتم جنباً فاطهروا ) فهذا أمر بالطهارة المائية من الحدثين الأصغر والأكبر فدل ذلك على أن الطهارة المائية هي الأصل في رفع الحدث ، لكن ما الحكم إذا عدمت حقيقة بحيث لم توجد أو حكماً بمعنى أنها موجودة لكن لا يستطيع المكلف استعمالها ، هذا هو أجاب الله تعالى عليه بقوله : ( فلم تجدوا ماءاً فتيمموا) أي إذا أتيتم من الغائط وهو موجب الطهارة الصغرى أو لامس الإنسان أهله أو أمته وهو موجب الطهارة الكبرى فلم يجد ماءاً حقيقة أو حكماً فإنه ينتقل إلى البدل وهو التيمم فدل ذلك على أن التيمم بدل عن الطهارة المائية الصغرى والكبرى ، وصح بذلك قولنا في الضابط ( التيمم بدل عن الطهارة المائية ) فإن هذا هو ما تفيده هذه الآية ، ومثلها يقال في آية النساء ، وأما من السنة فحديث عمار بن ياسر - - رضي الله عنه - - قال بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت فلم أحد الماء فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك فقال إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ومسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه . متفق عليه . فعمار - - رضي الله عنه - - كان جنباً والجنابة توجب الطهارة المائية الكبرى ، لكنه لم يجد الماء ففعل ما فعل فأرشده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصواب والشاهد هو قول : إنما يكفيك فدل ذلك على أن التيمم بدل كاف عن الطهارة المائية وأنه يقوم مقامها في كل ما(1/68)
كان من خصائصها ، ومن الأدلة أيضاً حديث عمران بن حصين في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم فقال يا فلان ما منعك معنا فقال يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء فقال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك . ونحن نقول بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن التيمم يكفي المكلف عن طهارة الماء ويقوم مقامها في كل مكان من خصائصها ، وعن جابر - - رضي الله عنه - - قال : قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي وذكر فيها " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره ) . متفق عليه فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - طهوراً مما يدل على أنه يقوم مقام الطهارة المائية في التطهير فكما أن طهارة الماء مطهرة فكذلك التيمم مطهرة والتطهير من أخص خصائص طهارة الماء فإذا كان التيمم يقوم مقامها في ذلك فلأن يقوم مقامها في غيره من باب أولى . ومثله حديث حذيفة عن مسلم ( وجعلت تربتها لنا طهوراً ) وعن علي عند أحمد ( وجعل التراب لنا طهوراً ) وحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته ) ومثله حديث أبي ذر فأنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - التيمم بالصعيد الطيب منزلة الوضوء بالماء فدل ذلك على أنه بدل له يقوم بما يقوم به مبدله ، ومن قال غير ذلك فقد خالف الحديث فهذه الأدلة تفيد بجموعها أن التيمم بدل عن الطهارة المائية فإذا تقرر هذا فالمسلم أن أي التيمم منزل منزلة طهارة الماء في كل مكان من خصائصها ، وبيان ذلك أن يقال : إن كل شيء يجب له الوضوء والغسل فإنه عند عدم الماء يقوم التيمم مقامها فمن زعم أن هذا الشيء لا يقوم التيمم فيه عن الوضوء أو الغسل فعليه الدليل ، فإن النصوص السابقة جعلت التيمم بدلاً(1/69)
عنها عند فقد الماء أو تعذر استعماله ، ومن شأن البدل أن يساوي مبدله إلا ما خرج بالدليل وستأتي فروع فقهية ليتبين فيها أثر هذا الضابط إن شاء الله تعالى ، فالأصل أن التراب يقوم مقام الماء عند عدمه فيجب فيما يجب الماء له ويسن فيما يسن له إلا بدليل يفصل بينهما والله أعلم ، وإليك بعض الفروع التطبيقية على هذا الضابط المهم في باب التيمم فأقول :-
فيها : اختلف العلماء هل التيمم رافع للحدث أم مبيح للصلاة ؟ ويقصدون بذلك أن التيمم لا يرفع الحدث لكنه يبيح الصلاة مع وجود الحدث فأقول : هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم على أقوال فقيل هو رافع للحدث مطلقاً وقيل ليس برافع مطلقاً وقيل هو رافع للحدث إلى وجود الماء أو القدرة على استعماله، والصواب إن شار الله تعالى هو القول الثالث لأنه المتوافق مع الأدلة ، فقلنا هو رافع للحدث لأمور : الأول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه طهوراً ووضوءاً فقال عليه الصلاة والسلام ( فعنده مسجده وطهوره ) وقال : ( وجعلت تربتها لنا طهوراً ) وقال : ( وجعل التراب لنا طهوراً ) وقال : ( الصعيد الطيب وضوء المسلم ) وفي رواية ( طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ) ومقتضى ذلك أنه رافع الحدث إذا لو لم يرفع الحدث لما كان طهوراً ولا وضوءاً. الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للجنب : ( عليك بالصعيد فإنه يكفيك ) أي عن طهارة الماء فدل ذلك على أنه رافع للحدث إذ لو لم يكن رافعاً للحدث لما كان يكفينا .(1/70)
الثالث : أن التيمم يدل عن طهارة الماء ، ومن شأن البدل أن يساوي المبدل في كل خصائصه إلا بدليل ومن خصائص طهارة الماء أنها ترفع الحدث فكذلك التيمم فنقر بهذا أن التيمم يرفع الحدث وأما قولنا ( رفعاً مؤقتاً إلى وجود الماء أو القدرة على استعماله ) فقد دل على ذلك مافي الصحيحين من حديث عمران بن حصين في الرجل الذي لم يصل في القوم فقال له عليك بالصعيد فإنه يكفيك فلما جاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - سأله عنه وقال له : ( خذ هذا فأفرغه عليك ) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب وهو قد تيمم والتيمم يرفع الحديث فلما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - باستعمال الماء بعد وجود علمنا أن وصف الحدث عاد بوجود الماء أو القدرة على استعماله ، ويؤيد هذا حديث أبي هريرة وأبي ذر السابقين وفيهما : ( فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته فإن ذلك خير ) . فدل ذلك على عود وصف الحديث بوجود الماء أو القدرة على استعماله واختار هذا القول أبو العباس شيخ الإسلام - رحمه الله – تعالى فإن قلت : لن عليك إشكالات : أحدهما : إن الضابط ينص على أن التيمم يقوم مقام طهارة الماء في كل مكان عن خصائصها ، ومن خصائص طهارة الماء أنها ترفع الحدث رفعاً مطلقاً وأنت هنا تقول إن التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً ، فإذا لم يتساويا فكيف تقول إن البدل يقوم مقام المبدل ويساويه ؟ فأقول : هذا سؤال جيد وبيانه : أن الضابط فيه لفظه ( إلا بدليل ) ومعناها أنه إذا جاءنا دليل صحيح صريح يفصل بين الماء والتراب فإننا نقول به في هذا الشيء فقط دون ما عداه إذا علمت هذا فأعلم أن عندنا أمرين : الأول : حكمنا أن التيمم رافع للحدث فهذا متوافق مع الدليل والضابط كل الموافقة ولا إشكال فيه ، والثاني : حكمنا أن هذا ليس رفعاً مطلقاً كطهارة الماء وإنما هو رفع مؤقت وهذا أيضاً متوافق مع الأدلة كما ذكرت في سياقها ومتوافق مع الضابط في قولنا ( إلا بدليل ) فالدليل الشرعي الصحيح(1/71)
فرق في البدل ومبدله في هذا الشيء وهو أن المبدل وهو طهارة الماء رفعها للحدث رفعاً مطلقاً والبدل وهو التيمم رفعه للحدث رفع مؤقت وقد ذكر شيخ الإسلام تقي الدين – رحمه الله – أن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي له عملية وعلى كل حال وهذا القول هو الذي تتآلف به الأدلة والضابط منسجم مع الدليل كل الانسجام ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة .
الإشكال الثاني : لماذا لا نقول : إن التيمم لا يرفع الحدث وإنما هو يبيح الصلاة بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر هؤلاء باستعمال الماء بعد وجوده فلم يأمرهم إلا لأن الحدث موجود لم يرتفع ؟ فأقول : إن من تدبر ألفاظ الأحاديث وجد أمرين : أحدهما : أن تقضي بارتفاع الحدث . الثاني : أنها تقضي بوجوب الماء عند وجود وذلك لعود وصف الحدث .
... أما الأول فيفيده لفظ ( فإنه يكفيك ) ولفظ ( طهور المسلم ) و ( وضوء المسلم) ولفظ ( وجعل التراب لنا طهوراً ) ونحوها فإنها تفيد ارتفاع نصف الحدث ، وأما الثاني فيفده قول : ( خذ هذا فأفرغه عليك ) وقول : ( فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته ) وهي أمر والأمر يفيد الوجوب ، فلماذا وجب استعماله عليه مع أنه حدث قد ارتفع ؟ وما ذلك إلا لعود وصف الحدث بوجود الماء أو القدرة على استعماله ، هذا هو ما مقتضى نظري الضعيف القاصر والله يعفو عن الزلل والكمال المطلق لله وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الشارع . والخلاصة أن القول الراجح إن شاء الله تعالى هو أن التيمم يرفع الحدث لكن رفعاً مؤقتاً والله أعلى وأعلم .(1/72)
ومنها : ما حكم التيمم قبل دخول وقت الفريضة ؟ أقول : هذه المسألة خلافية والصواب إن شاء الله تعالى هو جوازه ودليل ذلك هو أن التيمم يدل على طهارة الماء يقوم مقامها في كل ما كان من خصائصها ومن خصائص طهارة الماء جوازها قبل دخول الوقت ، فكذلك التيمم لكن هذا في حق من تيقن أو غلب على ظنه عدم الماء أصلاً ، وهو رواية عن الإمام المبجل أحمد بن حنبل - - رضي الله عنه - - واختارها أبو العباس شيخ الإسلام بن تيمية – رحمه الله تعالى – ويدل لذلك أيضاً عموم قوله عليه الصلاة والسلام : ( الصعيد الطيب وضوء المسلم) فحيث التيمم فقد ارتفع حدثه ، ومن قيد صحته بدخول الوقت فعليه الدليل على كل فالمراد هو معرفة كيف تخرج هذا الفرع على الضابط وبيانه أن يقال : الوضوء يصح قبل الوقت فكذلك التيمم لأنه بدل عن طهارة الماء في ك خصائصها إلا بدليل ولم يأتي دليل يمنع من التيمم قبل دخول الوقت ، وأما قولهم : هو طهارة ضرورة فيتقدر بالحاجة فأقول : سلمنا ذلك الإنسان محتاج أن يبقى دائماً على طهارة ألا ترى أن ما رواه مسلم وغيره من حديث ابن عباس عن أبي الجهيم قال : أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى على جدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام والمؤمن دائم الذكر لربه جل وعلا فيستحب أن يكون دائماً على طهارة فإذا فقد طهارة الماء فدونه طهارة التراب فإنها تقوم مقامها ومن قال غير ذلك فعليه الدليل والله يغفر الزلل والخطأ وهو أعلم وأعلى .(1/73)
ومنها : ذهب بعض الفقهاء الفضلاء إلى أن التيمم يبطل بخروج الوقت ، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس مرفوعاً : من السنة أن يتيمم كل فريضة ثم يتيمم للصلاة الأخرى . وقال بعض العلماء لا يبطل التيمم بخروج الوقت وهذا القول هو الصواب إن شاء الله تعالى وذلك لأن التيمم عبادة انعقدت بالدليل الشرعي فلا تنقض إلا بالدليل الشرعي لأن الأصل عدم الانتقاض ، ولا دليل أعلمه يدل على انتقاضها وأما ما ذكروه فإنه ضعيف جداً لا تقوم بمثله الحجة ، وقد تقرر في الأصول أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة ، ولأن التيمم بدل عن طهارة الماء في ك خصائصها ومن خصائص طهارة الماء عدم الانتقاض بخروج الوقت فكذلك يقال في التيمم ، لكن إن يتيمم لكل وقت صلاة فهو أحسن وذلك للخروج من الخلاف لأنه فعل لما اتفق عليه العلماء وقياساً على الوضوء لكل صلاة والله أعلم .
ومنها : اعلم رحمك الله تعالى أن التيمم يبطله ما يبطل طهارة الماء فما يوجب الوضوء والغسل فإنه يوجب التيمم ، كالغائط والنوم المستغرق وأكل لحم الجزور والوطء والاحتلام والحيض وغير ذلك مما هو معروف وقد تكلمنا عن نواقض الوضوء وموجبات الغسل في ضوابطها ولله الحمد والمنة ، فقلنا : إن التيمم يبطله ما يبطل طهارة الماء لأنه بدل عنها ويحكم له بما كان عن خصائصها ومن خصائصها أن تبطل بهذه الأشياء المذكورة وتجب لها ، فكذلك التيمم يبطل بهذه الأشياء ويجب له إلا أن التيمم يبطله شيء آخر زائد على هذه المبطلات وهو وجود الماء أو القدرة على استعماله ، فمتى ما وجد الماء أو قدر على استعماله فإن طهارة التيمم تكون لا غية ويلزمه استعمال الماء متوضياً إن كان يتيمم عن حدث أصغر ويغتسل إن كان تيمم عن حدث أكبر وذلك لما قد منها لك من الأدلة والله ربنا أعلم .(1/74)
... ويستفاد من هذا أن من زعم مبطلاً للتيمم ليس من مبطلات طهارة الماء فإنه يطالب بالدليل ، فإن جاء به وإلا فنقول له : معذرة قولك هذا مردود عليك لأن الأصل عدمه وهذا يرجع لنا ما تقدم في الفرع قبله فخروج الوقت لا يبطل طهارة الماء فلا يبطل إذاً طهارة التيمم والله أعلم .
ومنها : ذكر جمع من أهل رحمهم الله تعالى أن الإنسان إذا تيمم لصلاة فإنه يستبيحها وما دونها دون ما كان أعلى منها في الرتبة وخرّجوا على ذلك أن من تيمم لنافلة فإنه لا يصلي به الفرض لأن الفرض أعلى من النقل في الرتبة ومن تيمم للفرض صلى به ما شاء من فروض ونوافل إلى خروج الوقت فأقول : عفا الله عمن قاله ورفع له الدرجة وأجزل له الأجر والمثوبة وجمعنا به في الجنة ، فإن هذا القول ليس بصواب بل الصواب أن من تيمم فقد ارتفع حدثه كما قدمنا لك فحيث ارتفع الحدث فله أن يصلي بهذا التيمم ما شاء من فروض ونوافل وذلك لأن التيمم بدل عن طهارة الماء في كل خصائصها ومن خصائصها أن من تطهر بالماء لنافلة أو قراءة قرآن أو غيرها من ما تجل له الطهارة أو تسن فله أن يفعل بهذه الطهارة ما شاء فكذلك التيمم لأن البدل له حكم المبدل وبناءاً عليه من تيمم لنافلة فإنه يصلي به الفرض ويقرأ به القرآن وهكذا واختاره شيخ الإسلام تقي الدين وقال : ( وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار ) والله أعلم .(1/75)
ومنها : تكرار المسح على في التيمم – وقد تقدم هذا الفرع – وتقدم أن الراجح فيه عدم التكرار للدليل الأثري والنظري فأما الأثري فحديث عمار بن ياسر الذي هو أصح حديث في صفة التيمم . ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه إلا خبرية واحدة فقط للوجه والكفين وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما شرحناه في التحرير ، وأما النظري فلأن التيمم طهارة مسح وقد تقرر في القواعد أنه لا تكرار في ممسوح ، فإن قلت : إن هذا الضابط يقرر أن البدل له حكم المبدل وأن التيمم يقوم مقام الوضوء في كل خصائصه ومن خصائص الوضوء التكرار ثلاثاً فمقتضى ذلك أن يقال بشرعية التكرار في التيمم فكيف افترقا في هذه الجزئية فأقول : نعم إنه لو لم يأت الدليل الصحيح القاضي بأن السنة في التيمم ضربة واحدة وقد قلنا في الضابط بأن التيمم يأخذ أحكام الوضوء إلا بدليل ، فقولنا ( إلا بدليل ) فقد لهم جداً وبهذا فلا إشكال ، وأزيدك إيضاحا فأقول : إن أعضاء الوضوء أربعة في الغسل تعميم البدن بالماء فكان على مقتضى هذا الضابط أن تمسح الأعضاء الأربعة في التيمم في الطهارة الصغرى ويمسح البدن كله في الطهارة الكبرى وهو الذي فعله عمار - - رضي الله عنه - - فإنه قاس التيمم عن الحديث الأكبر على الغسل فكما أنه يجب تعميم البدن بالماء في الطهارة الكبرى فكذلك يجب تعميم البدن بالتراب في الطهارة الكبرى ، ولكن هذا ليس بصحيح وذلك لأنه قد ورد الدليل الفاصل بين البدل ومبدله في الصفة فصفة التيمم واحدة في كلا الطهارتين وأعضاؤه إنما في الوجه والكفان فقط فحيث ثبت الدليل بذلك الفرق فنقول به لأننا ندور مع الدليل حيث دار فهو النور والخير والسلامة والعصمة والهدى فاستمسك به فإنك على الحق ما دمت عليه جعلنا الله وإياك من أهل الدليل ومم وفقهم الله للحق والله أعلى وأعلم .(1/76)
ومنها : اختلف العلماء في حكم الغسل ليوم الجمعة على أقوال : أرجحها أنه مستحب متأكد الاستحباب ، والأدلة على ذلك مبسوطة في غير هذا الموضع لكن ما الحكم إذا عدم الإنسان الماء ولم يقدر على استعماله لعذر فهل يشرع له التيمم أما لا ؟ فيه خلاف والصواب إن شاء الله تعالى أنه يشرع وذلك لأنه قد تقرر في الضوابط أن التيمم يقوم مقام الطهارة المائية في كل ما كان من خصائصها فيجب لما تجب له ويستحب لم تستحب له ، فإن قلت : أوليس الحكمة من مشروعية الغسل يوم الجمعة إزالة الروائح التي بها يتأذى المصلون ؟ قلت : نعم هذا من الحكم ولكن ليس هو العلة الوحيدة بدليل أننا نستحب الغسل ولو لم يكن على الإنسان شيء من الروائح الكريهة وهذا بالاتفاق بين العلماء ولله الحمد والمنة ، وعليه فأقول : إن الغسل شرع يوم الجمعة لكمال الطهارة فإن الغسل أكمل في تحصيل المقصود الشرعي لكن لو عدم الإنسان الماء فإنه ينتقل إلى البدل الشرعي وإن لم يكن فيه تحقق كما المقصود فما لا يدرك كله لا يترك جله ، والصعيد الطيب طهور المسلم عند عدم الماء ولعموم قوله تعالى : ( فلم تجدوا ماءاً فتيمموا ) فحيث ثبت ذلك فالبدل يقوم مقام المبدل في حكمه وإن لم يكن متفقاً معه في الصفة ، فالتيمم يوم الجمعة لعادم الماء يقوم مقام الغسل في حكمه وهو الثواب على فعل الأمر المستحب وإن لم يقم مقامه في إزالة الرائحة الكريهة فالراجح إن شاء اله تعالى في هذا الفرع هو ما يتوافق مع الضابط ، من أن التيمم يقوم مقام الطهارة المائية في كل ما كان من خصائصها والله تعالى أعلى وأعلم .(1/77)
ومنها : اتفق أسيادنا أهل العلم والفضل على أن تغسيل الميت فرض كفاية ، وهذا فيما إذا وجد الماء ، لكن السؤال هنا : ما الحكم إذا عدمنا الماء فهل يسقط فرض تغسيله ؟ أم ننتقل إلى الطهارة الترابية ؟ هذا هو ما أريد البحث فيه ، فأقول : في المسألة قولان لأهل العلم فقيل : يسقط تغسيله لأن العلة في تغسيله تنظيفه وتطهيره وهذا لا يكون إلا بالماء فإذا عدمناه سقط عنا فرض تغسيله وقيل : بل إذا عدمنا الماء فإننا ننتقل إلى الطهارة الترابية وذلك لأن التيمم يقوم مقام الماء في ك ما كان من خصائصه ، وهذا هو القول الراجح إن شار الله تعالى وذلك للأدلة العامة القاضية بالانتقال إلى التراب إذا عدم الماء ، فيدخل في هذا العموم الأحياء والأموات فكما أن الحي إذا عدم الماء انتقل إلى بدله الشرعي فكذلك الميت إذا عدمنا الماء فننتقل في تطهيره إلى البدل الشرعي ومن أخرج الميت عن هذا العموم فعليه الدليل ، ولأن العلة أصلاً في تغسيل الميت ليست هي تنظيفه فقط ، بل فيها نوع تعبد وذلك ليقدم على ربه على أتم أحواله وفي كامل طهارته والتيمم قد أثبتت الأدلة أنه طهور ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الصعيد الطيب طهور المسلم) فيدخل في عموم قوله ( المسلم ) جميع المسلمين الأحياء والأموات ، فالصعيد الطيب طهور المسلم الميت كما أن طهور المسلم الحي عند عدم الماء وقد تقرر في القواعد أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ولا مخصص هنا فالراجح إذاً هو أننا إذا عدمنا الماء أو وجد عذر يمنع من استعمال الماء فإننا نيممه ، والله أعلى وأعلم.
ولعل الضابط بهذه الفروع قد اتضحت معالمه وباتت مراسمه والله يتولانا وإياك وهو أعلم وأعلى .
الضابط التاسع
مشروعات الوضوء إيجاباً واستحباباً توقيفية(1/78)
ومعنى توقيفية :- أي أن مبناها على الدليل الشرعي الصحيح فلا ينبغي أن يخترع أحداً شيئاً من الأقوال والأفعال ويقول : هي من مشروعات الوضوء إيجاباً أو استحباباً فإن هذا الكلام لا يقبل إلا بدليل شرعي صحيح ، فإن جاء بدليل يثبت ذلك قبلناه وسلمنا له ، وإن لم يأت بدليل يثبت صحة دعواه فإن قوله مردود عليه غير مقبول ، هذا هو الحق الحقيق بالقبول ، فإن التشريع بالفرضية والإيجاب والسنية لا يؤخذ من العقول والأعراف وأقوال الأئمة وإنما هو وقف على نص الكتاب وما صح من السنة ، فما ورد الدليل الصحيح الصريح به أنه من فرائض الوضوء أو سننه قلنا به وما لم يأت به دليل فالأصل براءة الذمة من عهدته ، ولقد نظر الأئمة في الأدلة فوجدوا أن فروض الوضوء ستة : غسل الوجه وغسل اليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين ، وذلك لآية المائدة قال تعالى " يا أيها الذين أمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين " وهذه الفروض الأربعة متفق عليها بين العلماء ، ويأتي بعد ذلك فرض الترتيب والموالاة وقد اختلفوا فيها ثم يأتي بعد ذلك السنن ومن باب التفصيل والتوضيح أجعل ذلك في مسائل فأقول :-(1/79)
المسألة الأولى :- أختلف العلماء رحمهم الله تعالى في الترتيب بين أعضاء الوضوء الأربعة وهي الوجه واليدين والرأس والرجلان على أقوال والراجح فيها وجوب الترتيب فلا يصح الوضوء إلا مرتباً بين هذه الأعضاء الأربعة فلو قدم بعضها على بعض لم يصح وضوئه ، فإن قلت : فروض الوضوء توقيفية على الدليل وأنت ادعيت أن الترتيب في الوضوء وأجب والأصل عدم الوجوب فما دليلك على ما ادعيت فأقول نعم هذا سؤال مهم ، وجوابه أن يقال : إنه قد دلت الأدلة الصريحة الصحيحة على أن الترتيب بين الأعضاء الأربعة وأجب فمن ذلك حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بدء بالصفا ثم علل بداءة بالصفا بقوله " ابدأ بما بدأ الله به " وهذا اللفظ مسلم وللنسائي إبدؤا بما بدأ الله به واسناده صحيح " وقد تقرر في الأصول أن الأمر المجرد عن القرينة يفيد الوجوب ، فدل ذلك على وجوب البداءة بما بدأ الله به ، وهو وإن كان في الصفا والمروة لكن قد تقرر في الأصول أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ومن الأدلة أيضاً حديث رفاعة بن رافع عند أبي داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ثم يمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين " وفي ذلك بيان من النبي صلى الله عليه وسلم أن تمام الصلاة متوقف على إسباغ الوضوء على هذه الكيفية التي أمر الله بها في القرآن فهذا بيان بالقول ، ومن الأدلة العادة المطردة أنه صلى الله عليه وسلم ، فإنه عليه الصلاة والسلام ما توضأ إلا مرتباً فإن الذين وصفوا وضوءه صلى الله عليه وسلم على الصفة المأمور بها في القرآن وفعله هذا بيان لمجمل القرآن ، وقد تقرر في الأصول أن الفعل إذا كان بياناً لمجمل أنه يأخذ حكم هذا المجمل ، وحكم الآية الوجوب بالفعل إذاً يدل على الوجوب ، قال أبو العباس بن تيمية : ولم يتوضأ قط إلا مرتباً ولا مرة(1/80)
واحدة في عمره ، كما لم يصل إلا مرتباً .
ومن الأدلة أيضاً : ما رواه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتباً وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " لكنه حديث ضعيف ولو صح لكفانا المؤنة ومن ذلك أن المتقرر في قواعد الشريعة أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات ولا تجمع بين المختلفات ، والوضوء فيه مغسول وممسوح والله تعالى أدخل الممسوح بين المغسولات نفرق بين المتماثلات لا يعلم لذلك حكمه إلا وجوب الترتيب ومن الأدلة أيضاً أن في بعض طرق حديث المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " توضأ كما أمرك الله " وهي رواية صحيح إن شاء الله تعالى هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب ما لم يرد له صارف فهذه الأدلة قادتنا وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء الأربعة ولكن بقي عندنا مسألتان :
الأولى : ما حكم الترتيب فيما هو بالعضو الواحد كاليدين والرجلين .
الثانية : ما حكم الترتيب بين المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه ؟
فأقول : أعلم رحمك الله تعالى أن الترتيب نوعان :-
الأول : ترتيب وأجب لا يصح الوضوء إلا به وهو الذي بحثاه في أصل
المسألة الأولى ، وهو الترتيب بين الأعضاء الأربعة ، فأول الأعضاء الوجه ثم اليدان ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين ، فالترتيب بين هذه الأعضاء الأربعة ترتيب وأجب لا يصح الوضوء إلا به وهذا هو الذي لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ولا مرة واحدة وإنما هو كما قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى : لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه تنكيس الوضوء ولا التخيير فيه ولا التبنية على جوازه ولم يؤثر من فعل علماء المسلمين وعامتهم إلا الترتيب فالصلاة .(1/81)
النوع الثاني : ترتيب مستحب وهو الترتيب فيما هو كالعضو الواحد كالبداءة باليد اليمنى قبل اليسرى والرجل اليمنى قبل الرجل اليسرى فإن هذا ترتيب مستحب بمعنى لو أنه خالف فيه فإن وضوءه صحيح لكنه خالف السنة ففي حديث عائشة في الصحيحين : كان النبي صلى الله عليه وسلك يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله ومجرد الإعجاب لا يدل على الوجوب ، ولكن الذي يد على الوجوب في الحقيقة حديث أبي هريرة عند الأربعة وصححه ابن خزيمة مرفوعاً " إذا توضأتم فإبدؤا بميامنكم " فهذا أمر والأمر يفيد الوجوب إلا لصارف لكن قد نقل الإمام موفق الدين بن قدامة والإمام النووي رحمهما الله تعالى إجماع العلماء باستحبابه ، والإجماع على أنه لا إعادة على من بدء بيساره قبل يمينه فلما رأيت هذا الإجماع هبت مخالفته فإذا وجد من العلماء المجتهدين من يقول بوجوبه فليس الوجوب ببعيد لوجود الأمر وإلا فيعد الإجماع من جملة صوارف الأمر عن بابه من الوجوب إلا الاستحباب فهذا جواب المسألة الأولى وهي حكم الترتيب بين ما هو العضو الواحد ، وأما المسألة الثانية وهي حكم الترتيب بين المضمضة والاستنشاق وبين غسل الوجه فأقول إعلم وفقنا الله وإياك بالهدى والصواب أن الأحاديث الصحيحة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم مفرحة بتقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه وذلك كحديث عثمان وفيه " ثم تمضمض ثلاثاً واستنثر ثلاثاً ثم غسل وجه ثلاثاً " أخرجاه في الصحيحين ، وكحديث عبد الله بن زيد عندهما أيضاً وفيه " ثن أدخل يديه في النور فمضمض واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاث " وكذلك في حديث على بن أبي طالب الثابت عند أبي داود والنسائي وابن ماجه ، فهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة تفيد إفادة قطعية أنه صلى الله عليه وسلم كان يقدم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه لكن عندنا حديثان ينبغي البحث في سندهما : الأول حديث المقدام بن معدي قرب(1/82)
قال :" أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثاً وغسل وجهه ثلاثاً ثم غسل ذراعيه ثلاثاً ثم مضمض واستنشق ثلاثاً ثلاثاً ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما " رواه أبو داود وأحمد وفي هذا دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر المضمضة والاستنشاق عن غسل الوجه واليدين ، الثاني حديث العباس بن يزيد عن سفيان بن عينيه عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قال " أتيتها فأخرجت لي إناء فقالت :- في هذا كنت أخرج الوضوء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما ثلاثاً ثم يتوضأ فيغسل وجهه ثلاثاً ثم يمضمض ويستنشق ثلاثاً ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثم يمسح برأسه مقبلاً ومدبراً ثم يغسل رجليه " وفي هذا دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم قدم غسل الوجه على المضمضة والاستنشاق لكن يبقى النظر في هذه سند الحديثين ، فإذا صحت وجب القول بمقتضاها وتكون داخلة تحت العبادات التي وردت على وجوهٍ متنوعة فتفعل على جميع وجوهها في أوقاتٍ مختلفة ، وإذا لم تصح فالبقاء على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة السابقة هو السنة وما سواه فخلاف السنة ، فأقول :- أما حديث المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه فهو سند حديث حسن إن شاء الله تعالى وفيه إثبات تأخير المضمضة والاستنشاق عن غسل الوجه والذراعين فنقول به ، وأما حديث الربيع فهو حديث حسن إن شاء الله تعالى وفيه إثبات تأخير المضمضة والاستنشاق عن غسل الوجه فقط ، وحينئذ فأقول :- الترتيب بين المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه سنة وردت على وجوه متنوعة فأكثر ورودها تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه ، وإن أخرها عنه فجائز لثبوت الحديث به وإن أخرها عن غسل الوجه والذراعين فهو جائز أيضاً لثبوت الحديث به ، فيكون ذلك من العبادات الواردة على وجوه متنوعة إلا أن هذا في الترتيب المسنون ، أما الترتيب بين الأعضاء الأربعة هو ترتيب واجب(1/83)
ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم مخالفته البتة ، وهذا القول هو الذي يعمل الأدلة كلها وهذا هو الأصل ما أمكن أعني :- الجمع بين الأدلة الصحيحة ، وخلاصة الكلام هو أن الترتيب الواجب الذي لا يصح الوضوء إلا به هو الترتيب بين الأعضاء الأربعة الوجه ثم اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل القدمين وأما الترتيب المستحب فهو فيما هو كالعضو الواحد كاليدين والرجلين والفم والأنف مع الوجه فهما كالعضو الواحد فلو أخر المضمضة والاستنشاق بعد غسل الوجه فلا بأس لثبوت الحديث به ولأنهما خرجا مخرج العضو الواحد ، وإن أخرهما بعد غسل الذراعين فلا بأس أيضاً لثبوت الحديث به وبهذا نكون قد عملنا بالأدلة الصحيحة كلها وهذا هو الواجب ولا يجوز إدعاء شذوذ شيء فيها أو اعتقاد التعارض فيها وهذا هو الذي نويت الله به فإنه إذا ثبت صحة الحديث فالواجب تعظيمه وتقديمه على كل قول والله يتولانا وهو أعلى وأعلم .(1/84)
المسألة الثانية من مسائل القاعدة ، الموالاة هل هي واجبة في الوضوء أم لا فيه خلاف والأصل الذي قررناه عدم الوجوب إلا بدليل ذلك لأن فرائض الوضوء توقيفية على الدليل ، لكن نظرنا فوجدنا أن الأدلة تدل على وجوب الموالاة في الوضوء ومعناها : أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله بزمن معتدل ، والدليل على وجوبها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً توضئ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال إرجع فأحسن وضوءك : قال فرجع فتوضأ ثم صلى رواه مسلم وغيره والإحسان المأمور به هنا فسره الصحابي بأنه أعاد الوضوء ، ويدل عليها أيضاً حديث خالد بن معد عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة رواه أبو داود وأحمد وقال إسناده جيد وصححه الإمام الألباني رحمه الله تعالى وهو صريح في وجوب الموالاة وذلك لأنه لما أخل بها أمره أن يعيد الوضوء والصلاة مما يدل على أن الوضوء لا يصح إلا بها .(1/85)
ومن الأدلة أيضاً : حديث أبيّ بن كعب وابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم توضأ على الولاء وقال " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " إلا أن فيه مقالاً لا أظنه يصح معه ومن الأدلة أيضاً الفعل المتواتر منه صلى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام لم يتوضأ قط إلا متوالياً ، فإن جميع الذين وصفوا وضوءه صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه توضأ على الولاء ، وفعله هذا بيان للأمر في آية المائدة وقد تقرر في الأصول أن الفعل إذا كان بياناً لمجمل فإنه يأخذ حكم هذا المجمل والأمر في آية الوضوء للوجوب ، فيكون الفعل الذي حصل به البيان واجباً كالموالاة في الوضوء فعل داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو للوجوب هذه الأدلة نقلتنا من البراءة الأصلية إلى الحكم بالوجوب ولو لم تأتي هذه الأدلة لما قلنا بالوجوب لأن فرائض الوضوء توقيفية على الدليل وقد ورد الدليل الصحيح الصريح في وجوب الموالاة وبناء عليه فإنه لو اختلت فإن الوضوء لا يصح والله أعلم .(1/86)
المسألة الثالثة من مسائل القاعدة :- حكم البسملة فيه خلاف طويل بين أهل العلم رحمهم الله تعالى وأنت خبير بأن المطالب بالدليل هو من قال بالوجوب أو الاستحباب لأنه مخالف للأصل وناقل عنه والدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من المثبت عليه ، وحينئذ فنقول لمن قال بالوجوب أو الاستحباب ما دليلك على ذلك ؟ فقال من قال بالوجوب ، دليلنا على وجوب البسملة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا وضوء لمن لم يذكر أسم الله عليه " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وهو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده ووجه الدلالة منه أنه نفى الوضوء بـ " لا " النافية للجنس التي تفيد نفي الذات إن أمكن وإلا فنفي الصحة وإلا فنفي الكمال ، والذات هنا لا يتصور نفيها إذ يمكن أن يوجد الوضوء بلا تسمية فنبقى في نفي الصحة فيكون المعنى نفي الحقيقة الشرعية أي لا وضوء شرعي إلا بالتسمية وهذا الترتيب يفيد الشرطية فالنفي هنا يتوجه لنفي الصحة ولا يصرف إلى نفي الكمال إلا بدليل واختار هذا جمع من المحققين وقال من قال بالاستحباب ، إن حديث أبي هريرة فيه مقال عريض لا يصح معه وإن سلمنا الاحتجاج به ، فالمنفي فيه هو الكمال لا الحقيقة الشرعية بمعنى أن الوضوء يتوقف كماله المستحب على التسمية ، أي لا وضوء كاملاً إلا بها والذي جعلنا نصرف النفي من نفي الصحة إلى نفي الكمال عدة أمور :
الأول : قوله صلى الله عليه وسلم " إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى " وحديث " توضأ كما أمرك الله " ووجه الاستشهاد هو أن النبي صلى الله عليه وسلم علق صحة الصلاة بالوضوء المأمور به في القرآن ، والمراد به آية المائدة ، وليس فيها ذكر البسملة لا تصريحاً ولا تضمناً ، فدل ذلك على أن من توضأ كما أمره الله في القرآن فإنه قد أتى بالوضوء الشرعي .(1/87)
ومن الأدلة أيضاً : - أن جميع الذين نقلوا صفات وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كعثمان وعلى وعبد الله ابن زيد والربيع وغيرهم لم يذكروا أنه كان يسمي مع أنهم في مقام التعليم فلو كانت مما حفظوها منه صلى الله عليه وسلم لنقلوها للأمة ولكن صح الحديث به كما سبق والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن والجمع بين هذه الأدلة يكون بالقول باستحباب التسمية لا بشرطيتها فحديث أبي هريرة يدل على الاستحباب وسائر الأحاديث الصحيحة الصريحة تدل على جواز الترك فيكون المنفي في حديث أبي هريرة هو الكمال لا الحقيقة الشرعية وبهذا تتآلف الأدلة وهذا القول هو الأقرب إن شاء الله تعالى فتكون التسمية مستحبة لا واجبة ، والله تعالى أعلم .(1/88)
المسألة الرابعة :- المضمضة والاستنشاق والاستنثار هل هما من واجبات الوضوء التي لا يصح إلا بها أم من المستحبات ؟ الجواب : هو إعمال الضابط وهو أن من أدعى شرعية شيء في الوضوء إيجاباً أو استحباباً فإنه لابد أن يأتي بدليل صحيح صريح يثبت دعواه لأن الأصل عدم المشروعية ومن خالف الأصل فعليه الدليل ، فنظرنا في الأدلة فوجدنا أن الأقرب إن شاء الله تعالى هو وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار والدليل على ذلك عدة أمور : منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر " وهذا أمر بالاستنشاق والانتثار وقد تقرر في الأصول أن الأمر يفيد الوجوب إلا لصارف ولا صارف هنا يخرج الأمر عن بابه وفي رواية عند مسلم " ومن توضأ فليستنشق بمنخريه من الماء ومن الأدلة أيضاً حديث سلمة بن قيس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذ1 توضأت فانتثر وإذا استجمرت فأوتر " رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه بسند صحيح إن شاء الله تعالى وهذا أمر والأمر يفيد الوجوب إلا لصارف ولا صارف هنا ومن الأدلة حديث لقيط ابن صبره رضي الله عنه وفيه " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً " وفي رواية لأبي داود إذا توضأت فمضمض وهو حديث صحيح ومن الأدلة أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود وغيره مرفوعاً من توضأ فلينتثر ومن استجمر فليوتر " وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثاً رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما ومن الأدلة أيضاً حديث حماد ابن مسلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة قال " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق " رواه الدارقطني وفي سنده مقال وتؤيده الأحاديث السابقة والأمر للوجوب ما لم يرد الصارف ومن الأدلة أيضاً أن كل الذين وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا(1/89)
أنه تمضمض واستنثر ولم يخل بهما صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وفعله هذا بيان للأمر في قوله تعالى " فاغسلوا وجوهكم " وقد تقرر في الأصول أن الفعل الذي اقترن به أمر قولي إنه للوجوب فقد بين لنا رسول الهدي صلى الله عليه وسلم ما نزل إلينا فداوم على المضمضة والاستنشاق ، ولم يحفظ أنه أخل بهما مرةَّ واحدة .
ومن الأدلة أيضاً : حديث عائشة عند البيهقي مرفوعاً بلفظ " المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لابد منه لكنه حديث ضعيف ، فهذه الأدلة تدل دلالة صريحة على وجوب هذه الأمور ، فحيث صح بها الدليل قلنا بها ، فإن قلت :- أولست نفيت وجوب البسملة بحديث " توضأ كما أمرك الله " والمراد به ما ورد في آية المائدة وليس فيها البسملة ، فكذلك يقال في المضمضة والاستنشاق ، فإنها ليست مما أمرنا الله به في آية الوضوء فأقول :- بلى هي مما أمرنا الله به في آية الوضوء لكن لا تصريحاً وإنما تضميناً فإن الأمر بغسل الوجه أمر بهما لأنهما داخلان في حده ولذلك لما ورد البيان النبوي منه صلى الله عليه وسلم اتضح أنهما مما أمرنا به في الآية لا تصريحاً ولكن تضميناً وأما البسملة ، فلم يذكرها من علم الناس صفة الوضوء ، كعثمان وعبد الله بن زيد وعلى بن أبي طالب وغيرهم أما المضمضة والاستنشاق فإن جميع الواصفين لوضوئه صلى الله عليه وسلم ذكروها وقد أمر بها أيضاً هو صلى الله عليه وسلم فاتفقت دلالة القول ودلالة الفعل على وجوبها فتكون من الوضوء الذي أمرنا الله به وأمرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم وداوم عليه مداومة الواجب ، فالصواب فإنه لا يصح الوضوء إلا بها فمن أخل بها فإنه لم يأت بالحقيقة الشرعية لكن كما تقدم من أنه يجوز تأخيرها عن غسل الوجه ، ويجوز تأخيرها عن غسل الذراعين لثبوت الأدلة بذلك ، وبهذا نعمل بالأدلة الصحيحة كلها وهذا هو الواجب ما أمكن والله أعلم.(1/90)
المسألة الخامسة :- يعتقد بعض العوام أن غسل الفرجين من لوازم الوضوء وواجباته ، فتراهم قبل كل وضوء يدخلون الخلاء ويغسلون فروجهم وهذا يحتاج إلى دليل إذ أن مشروعات الوضوء إيجاباً أو استحباباً توقيفية على الدليل الصحيح وأين الدليل الدال على أن غسل الفرجين قبل الوضوء من الواجبات أو المستحبات فحيث لا دليل فالأصل هو عدم المشروعية نعم إذا كان الإنسان محتاجاً إلى الخلاء من بول أو غائط قبل الوضوء فإنه يقدمه على الوضوء ويغسل أثر الخارج لكن لا لأن ذلك من فروض الوضوء لكن لأن إزالة أثر الخارج واجبة سواء توضأ بعدها أو لم يتوضأ ولا ننكر الدخول للخلاء قبل الوضوء لوجود الحاجة وإنما الذي ننكره هو اعتقاد أن غسل الفرجين من لوازم الوضوء فترى البعض يدخل الخلاء ويغسل فرجيه ولو لم يكن له حاجة للدخول اعتقاداً منه لزوم ذلك فهذا هو الذي نتكلم معه ونقول له إن مشروعية الوضوء إيجاباً أو استحباباً توقيفية على الدليل الصحيح الصريح وأين الدليل الدال على ما ذهبت إليه فحيث لا دليل فالأصل عدم المشروعية والله اعلم .(1/91)
المسألة السادسة :- مسح الرقبة هل هو من سنن الوضوء أم لا ؟ والجواب هو إعمال هذا الضابط وهو أن الأصل في مشروعات الوضوء إيجاباً أو استحباباً التوقيف على الدليل الصحيح فما ثبت به الدليل قلنا به وما لا فلا فمن أدعى وجوب شيء أو استحبابه فعليه الدليل فأين الدليل الدال على مشروعية مسح الرقبة في الوضوء فإنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح عنقه في الوضوء بل ولا روى عنه ذلك في حديث صحيح بل الأحاديث الصحيحة التي فيها صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم ليس منها أنه كان يمسح عنقه ولهذا لم يستحب ذلك جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهم ومن استحبوا من العلماء فإنه استند إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه حتى بلغ القذال ومثل ذلك لا يصلح عمده في إثبات الحكم الشرعي فحيث لا دليل يدل على إثبات شرعيتها فالأصل عدمها لأن مشروعات الوضوء إيجاباً أو استحباباً توقيفية على الدليل الصحيح والله أعلم .(1/92)
المسألة السابعة :- ذكر بعض العلماء وهم قلة بعض الأذكار التي يعتقدون أنها من مشروعات الوضوء فيقولونها عند غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل القدمين ، وهذا يقف اعتقاد استحبابه على الدليل الصحيح فأين الدليل الدال على مشروعية هذا الذكر فحيث لا دليل فالأصل هو عدم المشروعية لأن مشروعات الوضوء إيجاباً أو استحباباً توقيفية على الدليل لكن ثبت في السنة من أذكار الوضوء التسمية في أوله تقدم دليلها وقول " أشهد ألاّ آله إلا الله " وأشهد أن محمداً رسول الله " في أخره لحديث عمر عند الإمام مسلم وإن زاد أحياناً " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " فلا بأس لكن لا يداوم عليه لأن في ثبوتها نظراً وقد تقرر في القواعد أن ما ليس بسنة ثابتة جاز فعله أحياناً وإن قال " سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا آله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك " فهو حسن لورود السنة بذلك وأما اختراع أذكار لا دليل عليها فهو من التقول على الشريعة بلا علم والتعبد لله بما لم يشرعه بدعة وضلالة ، فحيث لم يثبت بها الدليل فلا نقول بشرعيتها لأن مشروعات الوضوء إيجاباً أو استحباباً مبنية على الدليل الصحيح كما تقرر في الضابط والله أعلم ولعل الضابط قد اتضح بهذه المسائل وفروعه كثيرة وإنما المراد الإشارة إلى أهمية هذا الضابط والله أعلم .
الضابط العاشر
نواقض الوضوء توقيفية(1/93)
اعلم أرشدك الله للحق والصواب ، أن العبادة المنعقدة بالدليل الشرعي لا يجوز إبطالها إلا بالدليل الشرعي ، فلا تنقض بالأهواء وأراء المذاهب والكلام الفارغ الذي لا خطام له ولا زمام وهذا في كل عبادة فالصلاة عبادة انعقدت بتكبيرة الإحرام فلا تبطل إلا بدليل شرعي صحيح يدل على بطلانها وكذلك الصوم عبادة تنعقد بالإمساك مع النية من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس فلا يجوز إبطاله إلا بدليل شرعي صحيح وحيث إن الكلام على الوضوء فإنه يقال فيه ما يقال في سائر العبادات المنعقدة بالدليل الشرعي فإن الوضوء عبادة انعقدت بالدليل الشرعي ، فإنه قد دل الدليل الشرعي على أن استعمال الماءالطهور المباح على الأعضاء الأربعة بالنية رافع للحدث فينعقد الوضوء بذلك للدليل الشرعي فحيث انعقد بالدليل الشرعي فإنه لا يجوز إبطاله إلا بالدليل الشرعي فمن زعم أن هذا القول أو هذا الفعل مبطل للوضوء وناقض له فعليه الدليل ولا يقول لنا قال زيد أو عبيد أو مذهبنا كذا أو أفتى علماؤنا بكذا فإن الأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح أما أقوال الأئمة فإنها موقوفة على موافقة الدليل الصحيح ، فالدليل من الكتاب والسنة هو الميزان الذي توزن به الأعمال والاعتقادات وأما أقوال الناس فإنها موقوفة على موافقة الدليل فما وافق الدليل منها قبلناه وما خالفه رددناه فالعمدة هو النص الصحيح وما سواه فهو عبد له فلا يجوز لأحد كائناً من كان أن يتحكم في شريعة الله لأهوائه وأقواله ولا يجوز تقديم قول أحد على قول النواقض فعليه الدليل لأن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من المثبت عليه فإذا زعم أحد أن هذا القول أو هذا الفعل أو هذا الخارج أو هذا الداخل ينقض الوضوء فقل له إنه قد تقرر أن الوضوء عبادة انعقد حكمها بالدليل الشرعي الصحيح وما انعقد حكمه بالدليل الشرعي فإنه لا يجوز إبطاله إلا بالدليل الشرعي الصحيح فأين دليلك على أن ذلك من جملة مبطلات الوضوء(1/94)
فإن جاء بالدليل الدال على ذلك قبلناه وإن لم يأت به فقوله مردود عليه ذلك لأن البراءة الأصلية في مثل ذلك مستصحبة فهذا الضابط يقضي على أشياء كثيرة يدعي أصحابها أنها من نواقض الوضوء وليست هي كذلك كما ستراه في الفروع إن شاء الله تعالى ورحم الله الإمام الشوكاني لما قال في وبل الغمام : وقد عرفناك أن كون الشيء ناقضاً للوضوء لا يثبت إلا بدليل يصلح للاحتجاج وإلا وجب البقاء على الأصل لأن التعبد بالأحكام الشرعية لا يجب إلا بإيجاب الله ورسوله وإلا فليس بشرع وهو كلام من لم يتأثر بالعصبية المقيتة فرحم الله العلماء رحمة واسعة وجمعنا بهم في الجنة آمين وإليك الآن بعض الفروع على هذا الضابط حتى يتضح أكثر فأقول وبالله التوفيق .(1/95)
منها :- اختلف العلماء رحمهم الله تعالى وغفر لهم في مس المرأة هل هو ناقض للوضوء أم لا ؟ على أقوال فقيل ينقض مطلقاً وقيل لا ينقض مطلقاً وقيل ينقض إن كان بشهوة ولا ينقض إن كان بلا شهوة ، وكل استدل على ما ذهب إليه بأدلة ، وقد عرفتك أن نواقض الوضوء توقيفية على الدليل الشرعي الصحيح الصريح ، وأن الأصل عدمها وأن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من المثبت عليه ، فالذين قالوا :- إن مس المرأة ليس بناقض للوضوء لا يطلب منهم الدليل لأن الأصل معهم ومن كان الأصل معه فإنه لا يطالب بالدليل وإنما نطالب بالدليل من قال بالنقض مطلقاً أو بشهوة فنقول لهم : أين دليلكم على ما ذهبتم إليه ؟ لأنكم خالفتم الأصل ومن خالف الأصل فعليه الدليل فقالوا لنا دليلنا قول الله جل وعلا في آية المائدة أو لمستم النساء " وهي قراءة سبعية متواترة ، ووجه الشاهد منها أن الله تعالى أوجب التيمم على من لمس النساء وحقيقة اللمس هو الجس باليد وموجبات التيمم هي موجبات الوضوء فلما كان مس المرأة موجباً للتيمم علمنا أنه يوجب الوضوء فأنت ترى أن الآية أوجبت التيمم بمسمى اللمس وهو بلا شهوة فإن من مس امرأة بلا شهوة يدخل تحت قوله " أو لمستم " فهو دليل لمن قال بالنقض مطلقاً سواءً بشهوة أو بلا شهوة لكن العجيب أن هذا الدليل هو بعينه دليل من قال بالانتقاض إذا كان المس بشهوة فقط ، فزادوا شرطاً أخر زائداً على مسمى اللمس وهو وجود الشهوة والذي دعاهم إلى ذلك أحاديث كثيرة فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم مس المرأة أو مسته ولم يحدث وضوءاً وذلك كحديث عائشة في الصحيحين أنها كانت تنام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في قبلته اضطجاع الجنازة فكان إذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما " فهذا مس ومع ذلك لم يحدث منه وضوءاً ومن ذلك أيضاً حديثها عند مسلم قالت افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة " وفيه فوقعت يدي على بطن قدميه وهما(1/96)
منصوبتان " فهذا مس ومع ذلك لم يتوضأ منه وفي الصحيحين من حديث أبي قتادة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا سجد وضعها وإذا قام حملها " فأنزلوا هذه الأحاديث على المس بلا شهوة وانزلوا الآية على المس بشهوة ويشهد لهم أيضاً حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال " أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة يعرفها فليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها قال : فأنزل الله هذه الآية " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل " الآية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم صلي رواه أحمد والدارقطني وأصله في الصحيحين لكن دون الأمر بالوضوء والصلاة ووجه الدلالة منه أن هذا الرجل مس هذه المرأة بشهوة فأوجب عليه النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء مما يدل على أن مس المرأة بشهوة ينقض الوضوء والصواب من هذه الأقوال : إن شاء الله تعالى هو أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً وذلك لأن نواقض الوضوء توقيفية على الدليل الشرعي الصحيح الصريح وليس مع الموجبين للوضوء بمسها دليل يعتمد عليه ، أما قول من قال بالانتقاض مطلقاً فمما علم بالضرورة ضعفه لدلالة الأحاديث السابقة على أن مجرد المس ليس بناقض للوضوء بل وأجمع الصحابة رضي الله عنهم أن مجرد المس بلا شهوة ليس بناقض للوضوء ، ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى وإجماعهم حجة يجب المصير إليها فأضعف الأقوال في هذه المسألة هو هذا القول فإن مس الرجل امرأته من الأمور التي تعم بها البلوى ولا يسلم منها أحداً في عموم الأحوال فإن الرجل لا يزال يناول امرأته شيئاً وتأخذه من يده وأمثال ذلك مما يكثر ابتلاء الناس به فلو كان الوضوء من ذلك واجباً لكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك مرة بعد مرة ويشير إلى ذلك ولو فعل لنقل ذلك عنه ولو بأخبار الآحاد(1/97)
فلما لم ينقل عنه أحد من المسلمين أنه أمر أحداً من المسلمين بشيء من ذلك مع عموم البلوى علم أنه غير واجب فكيف وقد ثبت عنه بالنقل الصحيح الصريح هذا المس ولم يتوضأ منه كما في الأحاديث السابقة فهذا مما يدلك على أن هذا القول قول ضعيف جداً مخالف للمنقول المرفوع ومخالف لإجماع الصحابة فإن الصحابة الذين قالوا بالنقض كابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما إنما يعنون به ما كان من قبيل الشهوة وهذا هو لغة القرآن كما في قوله تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن " واتفقوا على أنه إن مسها بلا شهوة أنه لا تأثير لذلك ومثل ذلك قوله تعالى ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فإنه لو مسها مسيساً خالياً من الشهوة لم يجب به عدة ولا يستقر به المهر ولا تنتثر به حرمة المصاهرة باتفاق العلماء كما حكاه الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى ، فدل ذلك على هذا القول وأنه ليس بشيء وبقى في المسألة قول من قال بالانتقاض إذا كان بشهوة وقد استدلوا بالآية وبحديث معاذ بن جبل وبأنه مذهب ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ويجاب عن الاستدلال بذلك من وجوه الأول أن قول الصحابي حجة إذا لم يخالف صحابي أخر أما إذا خالفه صحابي أخر فليس قوله بحجة إجماعاً وفي هذه المسألة خالف ابن عباس وعلى ابن أبي طالب رضي الله عنهما فقالا بأن مس المرأة لا ينقض مطلقاً ولا يشك من عرف حال الصحابة أن ابن عباس وعلى أبن أبي طالب رضي الله عنهما أفقه من ابن مسعود رضي الله عنهما فلو رجحنا بين القولين لكان قول الحبر والخليفة الرابع أرجح من قول غيرهما لا سيما وقد ثبت عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى " أو لمستم النساء " إنه الجماع فهذا تفسير من قال له النبي صلى الله عليه وسلم اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " الثاني أن حديث معاذ بن جبل الذي أصله في الصحيحين من غير زيادة الأمر بالوضوء والصلاة ليس بصريح في انتقاض الوضوء بالمس بشهوة وإنما أمره بالوضوء(1/98)
والصلاة لأنهما من جملة المكفرات بدليل قوله تعالي في الآية " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات " وفي الحديث الصحيح " الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما " وفي الصحيح أيضاً مرفوعاً إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع أخر قطر ماء وإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كانت بطشتها يداه مع الماء أو مع أخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرج كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع أخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب " وفي الصحيحين من حديث عثمان في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم وقال في أخره " من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيها نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه " فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوضوء والصلاة ليكون ذلك كفارة لما فعل بدليل أن هذه القصة نزل فيها قوله تعالى " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات " فالصواب إن شاء الله تعالى أن مس المرأة لا ينقض مطلقاً ويدل لذلك أيضاً حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ " رواه أصحاب السنن بسند حسن وأما آية " أو لمستم " فتحمل على الجماع جمعاً بين القرآن ولأن الله جل وعلا ذكر في هذه الآية الطهارتين الصغرى والكبرى وذكر موجباً للطهارة الصغرى في قوله: " أو جاء أحد منكم من الغائط " فكان من البلاغة أن يذكر موجباً للطهارة الكبرى في ذلك في قوله " أو لا مستم النساء " وهذا من بلاغة القرآن وحسن نظامه والله الموفق ، والمقصود أنه لم يثبت دليل شرعي صحيح صريح في أن مس المرأة من جملة نواقض الوضوء وحيث لا دليل فالبقاء على الأصل هو المتعين وهو أن نواقض الوضوء توقيفية على الدليل الصحيح والله ربنا أعلى وأعلم .(1/99)
ومن الفروع أيضاً : القيء هل هو من نواقض الوضوء أم لا ؟ الجواب هو إعمال هذا الضابط وهو أن الأصل في نواقض الوضوء التوقيف على الدليل الشرعي الصحيح وأن الدليل يطلب من القائل بالنقض لأنه مخالف للأصل ومن خالف الأصل فعليه الدليل إذا علمت هذا فأعلم أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة على قولين فقيل بأنه من جملة نواقض الوضوء وقيل لا وإنما يستحب الوضوء من خروجه فقط وهذا القول هو الصواب إن شاء الله تعالى وهو اختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى وذلك لأن الأصل أن الوضوء عبادة انعقدت بالدليل الشرعي فلا يجوز إبطالها إلا بالدليل الشرعي ، ولم يأت دليل شرعي صحيح صريح في أن القيء من جملة النواقض وحيث لا دليل فالبقاء على الأصل هو المتعين قالوا لنا : بل ورد الدليل الدال على أنه من جملة النواقض ، وذلك في حديث إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف وليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا تتكلم "رواه ابن ماجه والدارقطني وهذا دليل على أن القيء من نواقض الوضوء ، وأيضاً حديث معدان ابن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال : صدق أنا صببت له وضوئه رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال هو أصح شيء في هذا الباب ، وقال ابن منده إسناد صحيح فهذا أيضاً دليل على أن القيء من نواقض الوضوء قلنا إن هذه الأدلة صريحها غير صحيح وصحيحها غير صريح في الوجوب وبيان ذلك : أن حديث عائشة المذكور حديث ضعيف فقد ضعفه الأئمة الحفاظ النقاد والأمام أحمد وغيرهما ومثل هذا لا تقوم به الحجة ولا يحل أن يثبت به حكم لأنه قد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة ثم هو مع ذلك الضعف مخالف للمتقرر شرعاً في متنه فأنه قد تقرر شرعاً أن الحدث(1/100)
في أثناء الصلاة مبطل لها وهذا الحديث فيه إثبات صحة ما تقدم منها قبل الحدث وأنه في صلاة حتى مع الحدث ولذلك قال " ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم " وهذا مخالف للمتقرر شرعاً فإن الدليل الصحيح دل على أن الحدث مبطل للصلاة وأنه تلزم إعادتها من أولها كما في حديث طلق بن علي " إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف وليتوضأ وليعد الصلاة " واسناده حسن وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ فحديث عائشة مع ضعفه مخالف لرواية الثقات وقد تقرر في القواعد أن الضعيف إذا خالف الثقات فحديث منكر ، وأما حديث أبي الدرداء فقد تكلم الحفاظ في إسناده أيضاً لكن مع التسليم بأنه منتهض للاحتجاج فلا يدل على الوجوب وإنما يدل على الاستحباب لأنها حكاية فعل وقد تقرر في القواعد أن حكاية الأفعال لا ترتقي إلى الوجوب ما لم تقترن بأمر قولي فهذا الحدث يدل على الاستحباب لا الوجوب ، ولا يصح تفسير الوضوء فيه بغسل اليدين لأنه قد تقرر في القواعد أن الألفاظ الشرعية تحمل على حقيقتها الشرعية ولا تصرف إلى المجاز إلا بقرينة ، وبهذا تعلم أن القول الراجح إن شاء الله تعالى هو أن القيء ليس من نواقض الوضوء وذلك لعدم الدليل الدال على ذلك ، وحيث لا دليل فالبقاء على الأصل هو المتعين لأن نواقض الوضوء توقيفية والله أعلم .(1/101)
ومن الفروع أيضاً : أكل لحم الجزور ، فيه خلاف فذهب الجمهور إلى أنه ليس بناقض واستدلوا على ذلك بحديث جابر " كان أخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست الناء " وقياساً على سائر اللحوم فإنه لا تنقض الوضوء ونواقض الوضوء توقيفية على الدليل الصحيح ، وذهب الأئمة الحنابلة أنه من جملة النواقض ، واستدلوا على ذلك بحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فقال توضؤا منها وسئل عن لحوم الغنم فقال لا توضؤا منها وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال لا تصلوا فيها فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال صلوا فيها فإنها بركة " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وقال ابن خزيمة : لم أرى خلافاً بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقد لعدالة ناقلية وصححه الإمام أحمد رحمه الله تعالى واستدلوا أيضاً بحديث جابر بن سمره رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتوضأ من لحوم الإبل قال نعم توضأ من لحوم الإبل الحديث رواه مسلم وفي حديث ذي العزة قال " عرض أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسير فقال يا رسول الله تدركنا الصلاة ونحن في أعطان الإبل أفنصلي فيها فقال : لا ، قال : أفنتوضأ من لحومها قال نعم رواه الطبراني وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسندة وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ورجال أحمد موثوقون فهذه الأحاديث تفيد أن أكل لحم الإبل خاصة من نواقض الوضوء وأما حديثهم فهو عام وهذه الأحاديث خاصة وقد تقرر في الأصول أن الخاص مقدم على العام ، وقد تقرر أيضا أن الجمع بين الأدلة الشرعية واجب ما أمكن وأنه مقدم على النسخ وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله تعالى ، فإن قلت : أوليس نواقض الوضوء توقيفية ؟ فأقول نعم : هي توقيفية على الدليل الصحيح وقد ورد الدليل الشرعي الصحيح الصريح في أن أكل لحم(1/102)
الجزور من النواقض فانتقالنا عن الأصل حصل بمقتضى الدليل لا بمجرد الدعاوي الباطلة وأما قياسهم لحم الإبل على سائر اللحوم بجامع عدم النقص في كلاٍ فهو قياس فاسد الاعتبار لأنه قد تقرر في القواعد أن القياس المصادم للنص باطل والله أعلم.
ومن الفروع أيضاً : خروج الدم من غير السبيلين ، هل هو ناقض للوضوء أم لا والجواب يعرف من هذا الضابط ، وهو أن الوضوء عبادة انعقدت بالدليل الشرعي فلا ينقض إلا بالدليل الشرعي وأن الدليل يطلب ممن قال بالنقض لأنه مخالف للأصل وأما من قال بأنه لا ينقض فلا نطالبه بشيء لأن الأصل معه ومن كان الأصل معه فلا يطالب بالدليل إذا علمت هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة فقال بعضهم بأنه ناقض إن كان كثيراً عرفاً وقال بعضهم لا ينقض مطلقاً وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى وذلك لأنه لم يأت دليل شرعي صحيح صريح في أن خروج الدم من نواقض الوضوء وحيث لا دليل فالبقاء على الأصل هو المتعين بل ورد الدليل بأنه ليس بناقض وذلك كما في حديث جابر في اللذين يحرسان في غزوة ذات الرقاع فرمى أحدهما بسهم فنزعه ثم بأخر ثم بالثالث وركع وسجد ودمائه تجري ، رواه أبو داود بإسناد حسن ومثل هذا لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم فإقراره له في إتمامه صلاته وعدم قطعها حجة ذلك لأنه تقرر في القواعد أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم حجة وإن قيل أنه لم يعلمه ، فيقال : إنه لا يخفى على الله تعالى فلو كان يتعلق به حكم شرعي لأوحى إلى رسوله فلما أقره ولم ينكره دل ذلك على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء ولأن الصحابة لا زالوا يصلون في حروبهم ودمائهم تسيل فلو كان من نواقض الوضوء لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لهم لأنه قد تقرر في القواعد أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وثبت عن أبن عمر أنه عصر بثره فخرج دم فصلى ولم يتوضأ وابن أبي أوفى عصر دملاً وروي عن غيرهما نحو ذلك ولا يعلم لهما مخالف من الصحابة(1/103)
فكان إجماعاً ولأن الأصل عدم النقض حتى يثبت في الشرع وهذا هو اختيار شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله تعالى . فإنه قال :- الظاهر أنه لا يحب الوضوء من خروج النجاسات من غير السبيلين فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب لعموم البلوى بذلك لكن استحباب الوضوء من الحجامة والقيء ونحوهما متوجه ظاهر وقال في موضع آخر :- الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لأبد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولابد أن تنقلها الأمة ، فإذا انتفى هذا علم أنه ليس من دينه وهو كلام متين ينبغي اعتماده والتفطن له في مثل هذا الخلاف ، وأما حديث عائشة المتقدم فهو حديث ضعيف ، وأما حديث ثوبان فهو حكاية فعل وأما حديث " فليأخذ بأنفه " فهو حيث ضعيف أيضاً ، وأما حديث " إنما هو عرق " فهو في الدم الخارج من السبيل فلا يقاس عليه غيره لأن العلة قاصرة على محلها لا تتعداه إلى غيره ، وبهذا تعلم أنه لم يأت ما يصلح للاستدلال به على نقض الوضوء بخروج الدم فحيث لا دليل فالأصل عدم النقض والله أعلم .(1/104)
ومن الفروع أيضاً :- انتقاض الوضوء بالقهقهة :- وهذا من غرائب الأئمة الحنفية عفا الله عنهم وغفر لهم ، وجمعنا بهم في الجنة ، ويا ليتهم تركوه وأخذوا بما صح ، لكن الكمال المطلق لله تعالى وللعلماء مطلق الكمال ، فغفر الله للعلماء مغفرة واسعة ورحمهم وتجاوز عنهم وحشرنا في زمرتهم ، والمقصود أن :- القائل بأن القهقهة من جملة النواقض وإن قيدها بكونها في الصلاة فأين الدليل الدال على ذلك ، فإنه ليس معهم دليل يؤيد ما ذهبوا إليه ، إلا قول جابر رضي الله عنه لما سئل عن الرجل يضحك في الصلاة فقال :- يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء ، وليت شعري ما وجه الاستدلال به على انتقاض الوضوء بعد تصريح هذا الصحابي بأنه لا يعيد الوضوء ، ولله دَرُّ الإمام الشوكاني حين قال :- فعليك بالوقوف في موقف المنع حتى يأتيك الدليل الدال على النقض في الشرع كما عرفناك سابقاً وحيث لا دليل فالبقاء على الأصل هو المتعين لأن نواقض الوضوء توقيفية على الدليل الصحيح الصريح والله الموفق والهادي ولا داعي إلى الترجيح هنا لأنك تعرف ما هو الراجح والله أعلم .
ومن الفروع أيضاً :- قال الأئمة الزيدية :- إن ارتكاب كبائر العصيان ينقض الوضوء ، وهذا لا أعلم له دليلاً من الشريعة ، فحيث لا دليل فالبقاء على الأصل هو المتعين لأن نواقض الوضوء توقيفية على الدليل الصحيح ، وبناءً على هذا فلا ينتقض الوضوء بالغيبة والنميمة والكذب والسب والقذف والسرقة وقتل النفس ونحوها ، لأنه لم يأت دليل على النقض والأصل عدمه والله أعلم .(1/105)
ومن الفروع أيضاً :- مس الذكر هل هو من النواقض أم لا ؟ الجواب :- عليك بإعمال هذا الضابط من أن الأصل عدم النقض إلا بدليل وقد اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافاً كبيراً ، والقاعدة أن ما اختلفنا فيه من شيء فحكمه إلى الله ، فنظرنا إلى الأحاديث الواردة في ذلك فرأينا أن الراجح إن شاء الله تعالى أن مس الذكر ينقض الوضوء إذا كان بشهوة وبلا حائل ، فإذا اجتمع هذا الشرطان في المس فإنه ينقض الوضوء وإن أختل شرط فيها فلا يجب ، وهذا القول هو الذي يعمل الأدلة كلها ولا يبقي منها شيء مهمل بنسخ ولا ترجيح ، ومن الأدلة الدالة على النقض حديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مس ذكره فليتوضأ " حديث صحيح لا غبار عليه ، فهذا علق الوضوء بمسمى اللمس من غير تعرض لشيء آخر ، لكن في حديث أبي هريرة مرفوعاً " من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء " حديث صحيح ، وفيه شرط زائد على مجرد الإفضاء وهو عدم الحائل ، فاشترطنا عدم الحائل لصحة الحديث واشترطنا أن يكون بشهوة لحديث طلق بن على أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه الوضوء فقال :- لا إنما هو بَضْعَةٌ منك " حديث صحيح إن شاء الله تعالى ، ووجه الدلالة منه أمران :-(1/106)
الأول :- أنه قال " في الصلاة " والصلاة ليست بمحل للمس بشهوة وخصوصاً من الصحابة فإن السائل صحابي والصحابة عدول ، ومس الذكر بشهوة في الصلاة خروج عن حد العدالة ، فالصلاة ليست محلاً للمس بشهوة في الصلاة ، ثانياً أنه قال " إنما هو بضعة منك " أي قطعة ، وهذا صحيح فإن الذكر عند عدم المس بشهوة ، فهذه الإشارات أفادت اشتراط الشهوة ، وهذا القول فيه إعمال للأدلة كلها وقد تقرر أن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ما أمكن فالراجح إن شاء الله تعالى حسب الصناعة الأصولية أن مس الذكر ناقض إن كان بشهوة وبلا حائل ، وحيث ثبت الدليل بكونه ناقضاً ، فالقول به هو المتعين والله أعلم .
ومن الفروع أيضاً : - انتقاض الوضوء بالنوم فهل النوم ناقض للوضوء أم لا ؟ الجواب :- أنه يعمل هذا الضابط من أنه لا يجوز القول بالنقض إلا بالدليل الشرعي الصحيح فأين الدليل الدال على أن النوم ناقض للوضوء ذلك أن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من المثبت عليه إذ علمت هذا فأعلم أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة على مذاهب كثيرة استوفاها الإمام الشوكاني في النيل والراجح في نظري والله أعلم ، أنه لا ينقض إلا النوم المذهب للشعور ، بحيث لو خرج منه الخارج لم يحس به وهو المعبر عنه بالنوم المستغرق ، والدليل على ذلك أمور :-(1/107)
منها :- حديث صفوان بن عسال وفيه " إلا من غائط وبول ونوم " وهو حديث صحيح وحديث معاوية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " العين وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء " وهو حديث حسن فقد حسنه الإمام المنذري وابن الصلاح والنووي والإمام الألباني وغيرهم ، وهو نص في المسألة من أن العين حارس لحلقة الدبر ، فإذا ذهب الحارس بالنوم المذهب للشعور استطلق الوكاء ، وفي الحديث زيادة " ومن نام فليتوضأ وفي سندها ضعف ولكن ما ثبت في السنة الصحيحة السابقة مؤيد لهذه الزيادة فإن قلت : أليس في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على عهده كانوا ينتظرون العشاء حتى تخفق روؤسهم ثم يصلون ولا يتوضؤن وهو عند مسلم وغيره وفي بعض الزيادات " يضعون جنوبهم " وفي بعضها " حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً ثم يقومون فيصلون ولا يتوضؤن قلت نعم هو هكذا إلا أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن وأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ما أمكن ووجه الجمع بين هذه الأحاديث أن تنزل الأحاديث القاضية بالانتقاض على النوم المستغرق المذهب للشعور وينزل حديث أنس على النوم الخفيف الذي لا يذهب الشعور وأما نومه صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينقض وضوئه لأن قلبه لا ينام فشعوره باقٍ فلو أحدث لعلم بحدثه ، وعلى ذلك فنقول : إن النوم ليس بحدث في ذاته وإنما هو مظنة للحدث فنزلت هذه المظنة منزلة اليقين فمن نام نوماً أزال شعوره بحيث لو أحدث لم يدر عن نفسه فقد أنتقض وضوئه ومن نام نوماً خفيفاً لا يذهب الشعور بحيث لو أحس بذلك فلا ينتقض وضوئه وهذا القول هو الذي تتألف به الأدلة والله أعلى وأعلم .
الضابط الحادي عشر
من حدثه دائم فإنه يتوضأ لوقت كل صلاة ويصلي ولا يضره خروج حدثه(1/108)
وهذا هو القول الصحيح الموافق للأدلة النقلية والعقلية والجاري على أصول الشريعة ومقاصدها وبيانه أن يقال : إعلم رحمك الله تعالى أنه لما تقرر لك أن نواقض الوضوء توقيفية على الدليل الصحيح الصريح وأن من جملة النواقض الخارج من السبيلين كما دل على ذلك الأدلة الصحيحة كقوله تعالى " أو جاء أحد منكم من الغائط " وقوله صلى الله عليه وسلم " فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " وعن أبي هريرة مرفوعاً " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ فقال رجل من أهل حضرموت ما الحدث يا أبا هريرة قال : فساءٌ أو ضراط متفق عليه وفي حديث صفوان بن عسال مرفوعاً " لكن من غائط وبول ونوم " وفي المتفق عليه من حديث علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال " كنت رجلاً مذاءً فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال يغسل ذكره ويتوضأ " وغير هذه الأدلة الدالة على أن ما يخرج من السبيلين ناقض من نواقض الوضوء لما قررنا لك هذا أردنا أن نضبط هذا الناقض بضابط مهم قد دلت عليه الأدلة الشرعية والاعتبار الصحيح وهو أن يكون هذا الخارح لم يخرج عن حده المعروف المألوف أي لم يخرج عن حد العادة المتقررة عرفاً أما لو خرج عن حده المعروف بحيث يصدق عليه وصف الديمومة فيقال : حدثه دائم فإن خروج هذا الحدث على هذا الوجه لا يكون ناقضاً للوضوء بل هو ملغي شرعاً غير معتبر وهذا هو ما نص عليه هذا الضابط ولذلك قال " من حدثه دائم " وهذا قيد مهم وذلك لأن الأصل أن الخارج من السبيل ناقض كما تقرر في الأدلة السابقة وغيرها لكن إذا كان خروجه على العادة المعروفة المألوفة أما لو خرج عن حد العادة وتكرر خروجه بحيث يوصف بأنه حدث دائم فإن هذا الخارج على هذا الوجه يعطى حكم آخر غير حكم الخارج على غير المألوف عادة وحينئذ نقول من حدثه دائم فإنه يجب عليه أمور :-(1/109)
... الأول : أن يغسل عنه أثر هذا الخارج . الثاني : أن يستثفر بثوبٍ أو خرقة الثالث : أن يتوضأ لوقت كل صلاة ويصلي وإن خرج منه شيء بعد ذلك فإنه لا يكون ناقضاً من نواقض الوضوء والدليل على ذلك عدة أمور فمن الأدلة حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر ، فإذا خلَّفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل " فهذه المرأة حدثها دائم وهو خروج دم الاستحاضة وبينت أم سلمه ذلك بقولها " تهراق الدماء " فأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم أن ترجع لأيام عادتها المتقررة قبل حلول هذا المرض فتترك الصلاة فيها ثم إذا مضت هذه الأيام فإن لها حكم الطاهرات وعليها أن تغتسل وتتحفظ وتصلي فاستفدنا من ذلك أن خروج الدم على هذا الوجه ليس بناقض للوضوء وأن عليها أن تستثفر بخرقة أو ثوب أو تحتشي بقطن أو ما يقوم مقامه وذلك ليمنع خروج الخارج أو يخفف من خروجه وفي الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة كانت تستحاض حيضة كثيرة شديدة " أنعت لك الكرسف " تحشين به المكان " قالت : إنه أكثر من ذلك فقال " تلجمي " وفي الصحيح أن أحدى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أعتكفت معه فكانت ترى الدم الصفرة والطست تحتها وهي تصلي " فدل ذلك على أن هذا الخارج على هذا الوجه لا يكون ناقضاً للوضوء وعن فاطمة بنت أبي حبيش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الدم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك عرق فانظري إذا أتى قرؤك فلا تصلي فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء " فهذه الأدلة تدل على أمور :-(1/110)
الأول : أن خروج الخارج على وجه الدوام لا يكون ناقضاً للوضوء . الثاني: أن الواجب على من أصيب بذلك أن يغسل الموضع ويستثفر بثوب أو يحتشي بقطن وأما الوضوء لوقت كل صلاة فقد دل عليه ما رواه الإمام البخاري عن عائشة في حديث فاطمة بنت أبي حبيش لما استفتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت :- إني امرأة استحاض فلا أطهر فأدع الصلاة فقال لها إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فدعي الصلاة قدر الأيام التي كنتِ تحيضين فيها ثم اغتسلي وتوضئ لكل صلاة " وزاد أحمد وابن ماجه " ثم صلى وإن قطر الدم على الحصير " فاستفدنا من ذلك وجوب الوضوء عليها لكل صلاة وأنه لا يضر. آخر وجه بعد ذلك فإن قلت : إن لفظ الحديث " فتوضئ لكل صلاة " فهذا يفيد العموم فإذا أرادت أن تصلي أي صلاة فرضاً كانت أو نفلاً فإنها تتوضئ وأنت قلت في الضابط " تتوضأ لوقت كل صلاة " فقط فلو صلت الصلوات الكثيرة في الوقت الواحد بوضوء واحد لكفاها ذلك فكيف خالف ظاهر الحديث ؟ فأقول إن خير ما فسرت به السنة هو السنة وأن السنة الصحيحة الصريحة قد وردت مبينة للمراد من قوله " وتوضئ لكل صلاة " أنه يريد به وقت كل صلاة وذلك كما في حديث عائشة رضي الله عنها وفيه " توضئ لكل صلاة حتى يجئ ذلك الوقت وفي لفظ لوقت كل صلاة وهي من زيادات أبي معاوية وهو ثقة وقد تقرر في الأصول أن زيادة الثقة مقبولة بشرطها وروى أبو داود عن حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة " تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي والوضوء عند كل صلاة ولأبي داود أيضاً من حديث أسماء بنت عميس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لتجلس إحداكن في مركن فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً تغتسل للمغرب والعشاء غسلاً واحداً وتغتسل للفجر غسلاً واحداً وتتوضأ فيما بين ذلك " فهذه الأحاديث تدل على أن المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة وأيضاً هذا هو الموافق لمقاصد الشريعة من(1/111)
إرادة رفع الحرج والعسر عن المكلفين ، والله أعلم فإن قلت : لقد ذكرت في الضابط " من حدثه " دائم وحرف من صيغة من صيغ العموم كما هو مقرر في الأصول وهذه الأحاديث التي ذكرتها إنما هي في المستحاضة فهل يعدى الحكم فيها إلى غيرها فأقول : نعم يعدى حكمها إلى غيرها بالقياس المستوفي لجميع أركانه فالأصل هو المستحاضة والفرع هو صاحب الحدث الدائم والعلة الجامعة هي دوام الحدث واستمراره والحكم هو كما أنه خفف عن المستحاضة لدوام حدثها فكذلك يخفف عن صاحب الحدث الدائم من باب التيسير عليه فهو مثلها في العلة وقد تقرر في الأصول أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين في العلة كما أنها لا تجمع بين مختلفين إذاعلمت هذا علمت صحة هذا الضابط ، وأنه موافق للدليل النقلي وللاعتبار الصحيح ، لم يبق إلا الفروع المخرجة عليه فأقول :-
منها :- المستحاضة التى أطبق بها الدم فإنها إن كانت تعرف عادتها جلست ثم اغتسلت عند انقضائها وتعصب فرجها بخرقة ونحوها ، ثم تتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي وتصوم ويغشاها زوجها ولا يضر خروج الدم من فرجها ، وذلك لما تقدم من الأدلة ولأن حدثها دائم ومن حدثه دائم فإنه يتوضأ لوقت كل صلاة ويصلي ولا يضر خروج حدثه والله أعلم .
ومنها :- من به سلس البول ، وهو نوع مرض يعرفه الأطباء بأنه يغسل فرجه ويعصبه بشيء ويتوضأ لوقت كل صلاة ويصلي ولا يضر خروج حدثه وذلك لأن حدثه دائم وقياساً على المستحاضة بجامع دوام الحدث في كلٍ والله أعلم .
ومنها :- من به تفلت ريح ، أي تخرج الريح من دبره على وجه الدوام فهذا أيضاً داخل تحت هذا الضابط ، إلا أنه لا يجب عليه غسل دبره لأن الريح لا يجب الاستنجاء منها ما لم يخرج معها رطوبة ، وإنما يجب عليه الوضوء لكل صلاة ولا يضر خروج حدثه عملاً بهذا الضابط قياساً على المستحاضة ، والله أعلم .(1/112)
ومنها :- من به رعاف مستمر أو جرح ينزف دماً لا يرقأ – وقلنا إن خروج الدم من نواقض الوضوء – فإنه يخرج على هذه القاعدة يغسل المحل المجروح ويعصبه أو يحشوه بشيء يمنع خروج الدم ويتوضأ لوقت كل صلاة ويصلي ولا يضر خروج حدثه وهذا من باب التخفيف والتيسير لأن كل حكم في تطبيقه عسر فإنه يصحب باليسر .
ومنها :- الرجل المذاء الذي كثر خروج مذيه على وجه المرض لا الشهوة فإنه يعطى حكم المستحاضة فيغسل ما أصابه من المذي ويعصب على ذكره بخرقة ويتوضأ لوقت كل صلاة ويصلي ولا يضر خروج حدثه .
وقس على هذه الفروع ما لم يذكر ، ولعل هذا الضابط قد بانت معالمه إن شاء الله تعالى والله أعلى وأعلم .
الضابط الثاني عشر
لا تكرار في الممسوح إلا بدليل(1/113)
وهذا هو الراجح الذي دلت عليه الأدلة الكثيرة كما ستراها إن شاء الله تعالى ، فأقول وبالله التوفيق :- إن الطهارة الشرعية نوعان طهارة مائية وطهارة ترابية والمراد بالطهارة الترابية أي التيمم أما الطهارة الترابية فإنها من قبيل الممسوح مطلقاً أي في الحدثين الأصغر والأكبر إذ هي مسح الوجه واليدين بالصعيد الطاهر وليس فيها شيئاً مغسول وأما الطهارة المائية فهي نوعان طهارة عن الحدث الأكبر وطهارة عن الحدث الأصغر أما الطهارة المائية عن الحدث الأكبر فهي من قبيل المغسول إذ ليس فيها ما يمسح لأنها تعميم البدن بالماء الطهور المباح ، وأما الطهارة المائية في الحدث الأصغر فإن فيها المغسول والممسوح كما هو معروف إذاً صارت الطهارة نوعان إما غسل وإما مسح وهذا الضابط إنما هو في الممسوحات دون المغسولات ، إذا علمت فاعلم أن الأشياء الممسوحة لا تكرار فيها أي لا يتكرر فيها المسح إلا إذا دل الدليل على شرعية المسح وإلا فالأصل عدم المسح وهذا عرفناه باستقراء أدلة الشريعة في الأشياء التي يشرع فيها المسح كما ستراه إن شاء الله تعالى ، فالأشياء الممسوحة ورد الأمر فيها مطلقاً فإنه لا يستفاد منه إلا المرة الواحدة لأنه قد تقرر في الأصول أن الأمر المجرد عن القرينة لا يفيد التكرار ، ولكن من لوازمه فعله مرة واحدة ، ويبقى ما زاد على المرة محتاجاً إلى دليل زائد ، وحيث لا دليل فالبقاء على الأصل هو المتعين ، وعلى ذلك وردت أدلة الشريعة في الممسوحات ، لكن لو دل الدليل الشرعي بالتكرار في ممسوح معين فنقول به ، ويبقى سائر الممسوحات على عدم التكرار وهو ما يقرره هذا الضابط ، وإذا كان الضابط بهذا الشرح لم يفهم فإليك بعض الفروع بأدلتها ليتضح أكثر فأقول :-(1/114)
منها :- المسح على الخفين ، فإنه من قبيل طهارة المسح كما وردت بذلك السنة كما في حديث المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وأنه ذهب لحاجة له وأن المغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ فغسل وجهه ويديه ومسح على الخفين " أخرجاه ، ولهما من حديث جرير أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل له تفعل هكذا قال نعم :- رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه " وفي حديث علي رضي الله عنه عند مسلم مرفوعاً " يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام بليالهن " وعنه رضي الله عنه قال " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه " رواه أبو داود بإسناد حسن فدلت هذه الأحاديث أن الخف يمسح فحيث تقرر ذلك فنقول :- السنة أنه لا تكرار فيه ، أي يمسح أكثر ظاهره مرة واحدة ، لأنه لا تكرار في الممسوح ، وذكر أبو العباس شيخ الإسلام والمسلمين أن المسح لا يسن فيه التكرار وأن العلماء أجمعوا على أن المسح على الخفين مرة واحدة مجزئة ، والله أعلم .
ومنها :- التيمم فإنه أيضاً من قبيل طهارة المسح ، فحيث تقرر أنه من طهارة الممسوحات فلا تكرار فيه حينئذ لأنه لا تكرار في الممسوح وهذا هو القول الصحيح الموافق للأحاديث الصحيحة الصريحة كحديث عمار بن ياسر وفيه " إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا فضرب الأرض ضربة واحدة ومسح بهما وجهه وكفيه ، وأما حديث ابن عمر " التيمم ضربتان " فإنه ضعيف مرفوعاً والمحفوظ أنه موقوف على ابن عمر كما نص على ذلك أئمة هذا الشأن ، والحجة في المرفوع ، ومذهب الصحابي وإن كان حجة لكن يشترط للاحتجاج به أن لا يكون معارضاً للنص الصحيح الصريح ، كما قال الناظم :-
... قول الصحابي حجة فأصغ لي ... ... ما لم يخالفه دليل معتلي(1/115)
فالراجح إن شاء الله تعالى أن المسحة الواحدة في التيمم كافية لأنه طهارة مسح وقد تقرر أنه لا تكرار في الممسوح .
ومنها :- العمامة ، فإنها أيضاً مما يمسح عليها ، فطهارتها طهارة مسح كما في حديث عبد الله بن أمية الضمري قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه " رواه البخاري ، وعن بلال قال مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين والخمار " رواه مسلم وغيره ، وعن المغيرة بن شعبة قال " توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين " رواه مسلم ، وعن سلمان لأنه رأى رجلاً قد أحدث وهو يريد أن يخلع خفيه فأمره سلمان أن يمسح على خفيه وعلى عمامته وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على خفيه وعلى خماره ، وعن ثوبان قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الخفين والخمار " رواهما الإمام أحمد عنه قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فأمرهم أن يمسحوا على العصائب يعني العمائم – وعلى التساخين - يعني الخفاف رواه أحمد وأبو داود ، فهذه الأدلة تفيد أن العمامة من قبيل الممسوح ، فحيث تقرر ذلك علم أنه لا تكرار فيها بل يجزئ مسحها مرةً واحدة ، لأنه لا تكرار في الممسوح وهذا هو القول الصحيح ، ومن ادعى شرعية تكرار مسحها فعليه الدليل لأنه مخالف للأصل والله أعلم .(1/116)
ومنها :- مسح الرأس ، وهذا مما أشتد الخلاف فيه بين أسيادنا أهل العلم والفضل – رحمهم الله تعالى وغفر لهم وجمعنا بهم في الجنة ، والصحيح من أقوالهم هو أن السنة في مسح الرأس الاقتصار على المرة الواحدة وذلك للدليل الأثري والنظري ، فأما الأثري فلحديث عبد الله بن زيد في المتفق عليه فإن في رواية البخاري " ثم مسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر مرة واحدة " وفي حديث علي في صفة الوضوء " ومسح برأسه واحدة " رواه أبو داود وإسناده صحيح ، وأما النظري فلأن الرأس طهارته المسح وقد تقرر أن لا تكرار في الممسوح واختار هذا القول أبو العباس شيخ الإسلام بن تيميه رحمة الله عليه وهو المشهور من المذهب فذهب جمع من أهل العلم إلى أن السنة تكرار مسحه ثلاثاً ، ومجمل أدلتهم صحيحة لكنها غير صريحة وإما صريحة غبر صحيحة ، ورحم الله الإمام الشوكاني حين قال :- والإنصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ إلى درجة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها لما فيها من الزيادة ، فالوقوف على ما صح من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان وعبد الله بن زيد وغيرهما من المتعين لا سيما بعد تقييده في تلك الروايات بالمرة الواحدة قلت :- فتبين لك بهذا أن السنة الصحيحة إنما أثبتت الاقتصار في مسح الرأس على المرة الواحدة وهذا مؤيد لما نحن بصدد شرحه من أنه لا تكرار في الممسوح والله أعلم .
ومنها :- الجبيرة ، فإنه من قبيل الممسوح ، فإذا وضع الإنسان على كسره أو جرحه جبيرة ، فإنه يمسح عليها ، وجوباً بالشرط المذكور عند الفقهاء ، وحيث إنه تقرر أنها مما يمسح عليها فإنه يمسح عليها مرة واحدة حتى ولو كانت على عضو يشرع فيه تكرار الغسل لو كان صحيحاً ، وذلك لأنه لا تكرار في الممسوح ، كما تقرر في هذا الضابط والله أعلم .(1/117)
ومنها :- مسح الأذنين ، يقال فيها ما قد قيل في الرأس لأنهما منه كما صح بذلك الحديث بمجموع طرقه ، فحيث تقرر أنها من قبيل الممسوح فإنه لا تكرار فيها لأنه لا تكرار في الممسوح والله أعلم .
فإن قلت :- لماذا قلت في الضابط ( إلا بدليل ) قلت :- هذا قيد مهم ليخرج ما ثبت الدليل بتكراره من الممسوحات ، وإني سبرت الأدلة فلم أجد – فيما أعلم – والله أعلم ، شيئاً من الممسوحات يشرع فيه التكرار إلا في مسح الخارج من السبيلين بالحجارة فإنه يتكرر المسح ثلاث مرات ليحصل الانقاء ، فمن وجد شيئاً من الممسوحات يشرع فيها التكرار فليسعفنا به فإني من أحوج الخلق لمعرفة الحق الثابت بالدليل الصحيح الصريح والله أعلم .
الضابط الثالث عشر
الأصل في الأعيان الطهارة إلا بدليل(1/118)
هذا هو فصل الخطاب في باب النجاسات ، وهو أن القاعدة المستمرة في الأشياء على أي صفة كانت ، مأكولة أو مشروبه أو ملبوسة أو مركوبة أو مفروشة أو جامدة أو سائلة أو صغيرة أو كبيرة ، كل ذلك الأصل فيه أنه طاهر ليس نجس إلا ما ورد الدليل الشرعي الصحيح الصريح بإثبات نجاسته فنقول به في هذا الشيء بعينه ويبقى ما عداه على أصل الطهارة ولا يطلب الدليل من مدعي الطهارة لأنه جار على الأصل وإنما يطلب الدليل من مدعي النجاسة لأنه مخالف للأصل والدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من المثبت عليه ، ثم اعلم رحمك الله تعالى أن دليل التحريم لا يستلزم منه النجاسة إذ ليس كل حرام نجس فإننا نجد أشياء محرمة وهي في ذاتها طاهرة كالسم والحرير والذهب في حق الرجال وآنية الذهب والفضة في حق الجميع ، ونحو ذلك ، فهذه الأعيان ثبت الدليل على تحريمها لكن ليست نجسة ، فدل ذلك على أن النجاسة وصف زائد على مجرد التحريم يحتاج إلى دليل آخر ، فلا يستدل عليها بدليل التحريم ، فصح بذلك قولنا وليس كل حرام نجس ، لكن كل نجس حرام فإن الدليل المثبت للنجاسة مثبت للتحريم وخلاصة الكلام أن يقال :- إن دليل التحريم لا يستفاد منه النجاسة ودليل النجاسة يستفاد منه التحريم ، فانتبه لهذا فإنك تخرج به من كثير الإشكالات التي يوردها بعض الفقهاء رحمهم الله تعالى وعفا عنهم كما ستراه إن شاء الله تعالى في الفروع . فهذا شرح الضابط من ناحية التنظير أما من ناحية الاستدلال به فاعلم أنه قد دل على صحته أدلة من الكتاب والسنة والاعتبار الصحيح ، فمن الأدلة قوله تعالى " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً " فدل ذلك على أن ما على الأرض من الأعيان مخلوق لنا أي للانتفاع به والاستعانة به على أمور الدين والدنيا وهذا لا يتم إلا مع القول بطهارة هذه الأعيان التي في الأرض لأن النجس غير منتفع به ولا يصلح الامتنان به فلما امتن الله علينا أنه خلق لنا ما في الأرض جميعاً دل ذلك(1/119)
على أن ما في الأرض مما يمكن الانتفاع به ، ثم تأمل قوله " ما " وهي الموصولة المفيدة للعموم والاستغراق ، ثم أكد ذلك العموم بقوله " جميعاً فدل ذلك أن جميع الأشياء التي في الأرض حلال طيبة طاهرة لأنها خلقت لنا فمن زعم أن شيئاً مما في الأرض ليس لنا لأنه نجس فعليه الدليل لأنه قد تقرر في الأصول أن العام يجري على عمومه حتى يرد دليل التخصيص والله أعلم .
ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه " ومقتضى هذا التسخير أن تكون طاهرة لأن النجس ليس بمسخر لنا لعدم جواز الانتفاع به فمن زعم نجاسة عين من الأعيان فقد زعم أنه خارج عن مقتضى التسخير فيطالب بالدليل الدال على هذا الإخراج فإن جاء به قبلناه وإلا فالبقاء على الأصل هو المتعين ثم أنظر إلى قوله " ما في الأرض " فإنه قد تقرر في الأصول أن الأسماء الموصولة من صيغ العموم وأكد ذلك العموم بقوله " جميعاً " فيقال فيه ما قيل في سابقه من أن الأصل هو البقاء على العام حتى يرد المخصص والله أعلم .(1/120)
ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " الآية فالله جل وعلا أنكر على الذين حرموا زينة الله وقد تقرر في الأصول أن المفرد المضاف يعم فقوله " زينة " مفرد وأضافها للفظ الجلالة فيفيد ذلك العموم فيدخل فيه جميع الزينة من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمفروشات والمركوبات ونحوها فكل ذلك من زينة الله التي أخرج لعبادة والطيبات من الرزق فمن زعم أن شيئاً من ذلك نجس فقد أدعى أنها حرام لأن كل نجس حرام فالله جل وعلا أنكر على من حرم شيئاً من هذه الزينة لكن لم ينكر على من قال بحلالها وطهارتها فدل ذلك على أن الأصل فيها الحل والإباحة والطهارة وهذا يقتضي جواز الانتفاع بها فمن حالف ذلك فعليه الدليل لأنه ناقل عن الأصل والله أعلم ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى " قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرم على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به " يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر هؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراءً عليه أنه لا يجد شيئاً فيما أوحي إليه محرماً إلا هذه الأشياء المذكورة فدل ذلك الحصر على أن ما سواها باق على أصل الحل والطهارة فمن زعم أن شيئاً من المطعومات أو المشروبات نجس بلا دليل فقد خالف مفهوم هذا الحصر فقد تقرر في الأصول أن مفهوم المخالفة حجة فدل ذلك على أن الأصل في الأعيان المطعومة الطهارة والله أعلم .(1/121)
ومن الأدلة أيضاً :- أن الله جل وعلا في نكاح الكتابية أو المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " فأحل لنا نكاحهن ولابد لناكحهن من مخالطتهن ومعاشرتهن أجسادهن عند مضاجعتهن ولابد أن يصيب الزوج من عروقهن أو لعابهن شيء ومع ذلك ليس في الأدلة ما يدل على وجوب التحفظ من ذلك فلو كان ذلك مما يجب التحفظ لبينة لآن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، ثم كيف يجيز لنا الشارع نكاحهن إذا كانت نجسة العين مع أمرنا بتوقي النجاسات والتحرز منها واجتنابها هذا ما لا يكون شراً فدل ذلك على طهارة أعيان الكفار وفي حديث سبايا أو طاس قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض " مع أنهن كن كافرات ولم يأمرهم بالتحرز مما يصيبهم من المسبيات الكافرات حال جماعهن ومن الأدلة على ذلك أيضاً قوله تعالى " ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر " ومقتضى التكريم أن لا يحكم بنجاستهم ولا يفرق النص بين مسلم وكافر ، ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى في المنافقين " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس " ومعلوم أن المنافقين كانوا يدخلون المسجد ويشهدون الجمع والجماعات ويصافحون المسلمين بل وبايع بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نقل أنه عليه الصلاة والسلام كان يغسل يده من ذلك فدل ذلك على طهارة أعيانهم مع أنه قال فيهم " إنهم رجس " فهذا لقوله " إنما المشركون نجس " فالرجسية والنجاسة في هذين النصين يراد بهما النجاسة والرجسية المعنوية لا الحسية وهذا من باب الجمع بين الأدلة لأنه قد تقرر في القواعد أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن ولأن الأصل في الأعيان الطهارة والكفار داخلون في هذا الأصل والله اعلم .(1/122)
ومن الأدلة أيضاً : قوله تعالى " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب " فنهى الله تعالى هؤلاء الذين يحللون ويحرمون بلا برهان عن ذلك وأمرهم بكف ألسنتهم وجعله من الكذب والافتراء ، ذلك لأن الحلال ما أحله الله تعالى والحرام ما حرمه ، والدين وما شرعه ، فلا يجوز لأحد من الناس كائناً من كان أن يحرم شيئاً بلا برهان ولا أن يحل شيئاً بلا برهان والذي يقول بأن هذه العين نجسة فإنه يكون بذلك محرم لها لأن كل نجس حرام فلابد حينئذ من برهان على ذلك وإلا لكان ذلك من الكذب والافتراء ، وأما الذي يقول بأنها طاهرة حلال فعنده البرهان الساطع فدل ذلك على أن الأصل في الأعيان الطهارة والله أعلم وبالجملة فكل آية فيها أن الله سخر لنا ما في الأرض أو خلقه لنا أو فيها الامتنان به علينا فهي دليل على هذا الضابط ذلك لأن من مقتضى التسخير الطهارة ومن مقتضى أنه خلقه لنا أن يكون طاهراً لإمكان الانتفاع به ولا يكون الامتنان إلا بما يستحق والنجس ليس هو مما يمتن به والله ربنا أعلى وأعلم ومن الأدلة أيضاً أنه مما يعلم من الدين بالضرورة أن الناس في العهد النبوي وبعده إلى عصرنا هذا لا زالوا يأخذون الأشياء ويعطونها ويستعملونها من غير سؤال عن طهارتها ونجاستها مما يدل على أنهم يعتمدون تأصيل الطهارة فيها فيستصحبون ذلك الأصل حتى يتبين لهم خلافه فلو كان الأصل عندهم النجاسة حتى يرد دليل الطهارة لما استعملوها إلا بالسؤال عن طهارتها ولو فعلوا ذلك لكثر نقله ولبلغ إلينا لكن لم يحصل شيئ من ذلك مما يدل على أن الأصل المقرر عندهم في هذه الأعيان الحل والإباحة والطهارة وهو المطلوب إثباته والله أعلم فإذا تقرر ذلك الضابط لك فابق عليه لا تتعداه حتى يرد الناقل الدال على خلافه وبه تعلم أن من أدعى خلافه فإنه يبين الدليل وبه تنجو من كثير من المزالق الذي قد زلق فيها بعض الفضلاء غفر الله لهم وعاملهم بعفوه(1/123)
وفضله وجوده وكرمه وجمعنا بهم في الجنة فهذا هو شرح الضابط من ناحية التنظير وبقى الآن شرحه من ناحية التفريع فأقول وبالله التوفيق .
من الفروع : المني ، قد اشتد خلاف العلماء فيه فمنهم من قال بأنه نجس ومنهم من قال بأنه طاهر والأصل المتقرر عندنا هو أن جميع الأعيان طاهرة إلا بدليل يدل على نجاستها فإن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه والذي يقول بطهارته على الأصل فلا يطالب بالدليل والذي يقول بالنجاسة مخالف للأصل فيطالب بالدليل . فيقال لمن قال بالنجاسة : ما دليلك على أن المني نجس قالوا عندنا على نجاسته عدة أدلة الأول ما رواه الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أغسل المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وإن بقع الماء على ثوبه ووجه الدلالة منه أنها رضي الله عنها غسلت المني من ثوب المصطفى صلى الله عليه وسلم والغسل شأن النجاسات والنبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك فأقره ولم يقل لها إنه طاهر فلماذا غسلتيه ؟ الثاني حديث عمار بن ياسر أنه كان يغسل ثوبه من النخامة فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ما تصنع يا عمار" فأخبره بذلك فقال صلى الله عليه وسلم " ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواء وإنما يغسل الثوب من خمس ، بول وغائط وقيء ومني ودم " ووجه الدلالة منه أنه قرن المني بالبول والغائط وهي نجسة بالاتفاق وكذلك القيء والدم على قول الأكثر وذكر أن تطهير المني يكون بالغسل وهذا شأن النجاسات ، أن المني خارج من مخرج البول ومخرج البول نجس فيلزم من ذلك نجاسة ما يمر فيه ، الرابع القياس على المذي ، فكما أن المذي نجس بالاتفاق فكذلك المني للاتفاق في المخرج وسبب الخروج ، الخامس استدلوا أيضاً ببعض الآثار عن الصحابة انهم أفتوا بالأمر بغسله ومذهب الصحابي حجة هذه هي مجمل أدلتهم رحمهم الله تعالى ، إلا أنك إذا نظرت إليها بعين التحقيق(1/124)
وجدت أنها لا يصلح الاستدلال بها على إخراج المني من الأصل المتقرر وهو الطهارة وبيان ذلك أن يقال أما حديث عائشة رضي الله عنها فلا كلام لنا في سنده ولكن المناقشة في الاستدلال لنا به على وجوب غسل المني فإنه حكاية فعل لها رضي الله عنها مع إقراره صلى الله عليه وسلم ذلك وحكاية الفعل والإقرار لا ترتقي إلى الوجوب وإنما يفيد ذلك الاستحباب فقط ، وبيان ذلك أن الأعيان التي غسلت بلا أمر قولي لا يستفاد من غسلها أنها نجسة فإن النجاسة لا تستفاد من مجرد الفعل والإقرار عليه بخلاف الأعيان التي أمر الشارع بغسلها وسيأتي الضابط في ذلك إن شاء الله تعالى والمقصود أن حديث عائشة إنما هو حكاية فعل فقط وحكاية الأفعال لا يستفاد منها وجوب الغسل وأضف إلى هذا أنه في لفظ مسلم قالت " لقد كنت أفركه من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه " وفي لفظ " لقد كنت أحكه يابساً بظفري من ثوبه " ومجرد الفرك والحك لا يذهب عينه بالكلية فلو كان نجساً لما أكتفت بمجرد حكه وفركه فدل ذلك على أن غسلها له في اللفظ الأول ليس لأنه نجس وإنما ذلك من باب إزالة الشيء المتقذر وأما حديث عمار فإنه حديث ضعيف لا تقوم بمثله حجه ولا يثبت به حكم شرعي ولقد أخرجه البزار وأبو يعلى الموصلي في مسندهما وابن عدي في الكامل والدارقطني والبيهقي والعقيلي في الضعفاء وأبو نعيم في المعرفة وضعفوه كلهم إلا أبا يعلى وذلك لأن في اسناده ثابت بن حماد وهو متهم بالوضع وقال اللألكائي أجمعوا على ترك حديثه وقال الطبراني انفرد به ثابت ابن حماد ولا يروى عن عمار إلا بهذا الاسناد وقال الإمام البيهقي : هذا حديث باطل إنما رواه ثابت بن حماد وهو متهم قلت : فهذا مما لا يجوز الاحتجاج بمثله ، لأنه قد تقرر في قواعد الأصول أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة والله أعلم .(1/125)
وأما قياسه على البول فما أفسده من قياس وذلك لأنه مع الفارق وقد تقرر في القواعد أن القياس مع الفارق باطل فإن البول إنما هو فضله الشراب المحتبس في المثانة ، وأما المني فإنه فضلة مستحلبة من سائر أجزاء البدن بل هو خلاصة الجسد ولذلك يشعر الإنسان بعد خروجه بفتور في أطرافه وثقل في رأسه وهو موجب للغسل والبول موجب للوضوء فقط فكيف يلحق هذا بهذا ، وأضف إليه أن مخرج المني ليس هو مخرج البول كما هو عند جمع من الأطباء ، وعلى كلٍ فالقياس باطل لعدم العلة الجامعة بين الأصل والفرع ، وأما قياسه على المذي فلا يصح أيضاً وذلك للاختلاف في الحد والحقيقة والموجب ، فإن حقيقة المني تختلف اختلافاً تاماً عن حقيقة المذي ، والمني موجب للغسل والمذي موجب للوضوء ، وكذلك يختلفان في المخرج فإن المذي يخرج من مخرج البول وأما المني فإنه يخرج من مخرج خاص به ، فقياس هذا على هذا باطل مع وجود الفارق ، وقد تقرر في القواعد أن القياس مع الفارق باطل وأما فتوى بعض الصحابة فإنها معارضة بفتاوى صحابة أخر ، وقد تقرر أن قول الصحابي حجة ما لم يخالفه صحابي آخر ، فبالله عليك أين الدليل الصالح لإخراج المني عن الأصل المتقرر بالدليل الصحيح الصريح وبناء عليه فالقول الراجح إن شاء الله تعالى هو القول بطهارة المني وذلك لأن الأصل في الأعيان الطهارة حتى يقوم دليل النجاسة وحيث لا دليل يدل على نجاسته فالبقاء على الأصل هو المتعين فكيف وقد ورد الدليل المثبت لطهارته وذلك كما في حديث عائشة رضي الله عنها فركها وحكها لمني النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقال إن هذا منيه صلى الله عليه وسلم وفضلاته طاهرة لأننا نقول إنه قد تقرر في القواعد أن حكمه صلى الله عليه وسلم وحكم أمته واحد ما لم يدل دليل الخصوصية ومن ذلك ما رواه الترمذي من حديث همام بن الحارث أنه قال أرسلت عائشة أم المؤمنين إلى ضيف لها تدعوه فقالوا : هل يغسل جنابة من ثوبه قالت : ولم يغسلها فقد(1/126)
كنت أفركها من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم " فهذه عائشة رضي الله عنها أنكرت على ضيفها غسل المني من ثوبه ولو كان غسل المني واجباً ما أنكرته صرحت بأنها كانت تفركه من ثوبه صلى الله عليه وسلم ولو كان نجساً ما أجزأ الفرك وروى ابن خزيمة في صحيحه بسند حسن عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسلت المني من ثوبه صلى الله عليه وسلم وهذا يبين أن عائشة رضي الله عنها لم تكن تغسل المني دائماً بل كانت تزيله بأي كيفية كانت فلو كان المني نجساً لغسلته كما تغسل سائر النجاسات ولأمرها صلى الله عليه وسلم بغسله كما أمرها بغسل دم الحيض ، وعن ابن عباس قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب فقال إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقه أو بإذخرة " رواه الترمذي وهذا الحديث الأشبه أنه موقوف على ابن عباس قاله الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى ووجه الدلالة منه ظاهرة وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبه المني بالمخاط والبصاق مما يدل على طهارته وأمر بإماطته بأي كيفية كانت ولو بإذخرة لأنه مستقذر طبعاً هذا على صحة رفعه وإلا فيكون من باب فتيا الصحابي وعلى كل حال فالأصل الأصيل هو أن المني عين من الأعيان والأصل في الأعيان الطهارة إلا بدليل ولا دليل يخرج المني عن هذا الأصل فالبقاء عليه هو المتعين وهذا هو المشهور من مذهب الأصحاب وهو اختيار شيخ الإسلام أبي العباس بن تيميه رحمه الله تعالى وسائر علماء المسلمين رحمة واسعة وغفر لهم وعفا عنهم وجمعنا بهم في الجنة آمين وإنما أطلت في هذا الفرع ليكون ما بعده واضحاً من تخريجه والله يعفو عن الزلل والخطأ وهو أعلى وأعلم .(1/127)
من الفروع أيضاً :- المذي عين من الأعيان والأصل في الأعيان الطهارة إلا بدليل وقد دل الدليل على نجاسته وذلك في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال " كنت رجلاً مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان أبنته مني فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأله فقال " يغسل ذكره ويتوضأ " متفق عليه وفي لفظ " توضأ وأغسل ذكرك " وفي لفظ " توضأ وانضح خرجك " فالمذي عين أمر الشارع بغسلها وكل عين أمر الشارع بغسلها فلقيام مانع فيها من حدث أو نجاسة ولا حدث هنا فبقيت النجاسة وعن سهل ابن حنيف رضي الله عنه قال " كنت القى في المذي شدة وعناء وكنت أكثر الاغتسال منه فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما يجزيك من ذلك الوضوء فقلت يا رسول الله فكيف بما يصيب ثوبي منه قال " يكفيك أن تأخذ كفاً من ماءٍ فتنضح على ثوبك حيث ترى أنه قد أصاب منه " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن عبد الله بن سعد قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء يكون بعد الماء فقال " ذلك المذي وكل فحل يمذي فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ وضوءك للصلاة " رواه أبو داود وقال الحافظ في إسناده ضعف وقد حسنه الإمام الترمذي ووجه الدلالة منهما كوجه الدلالة من حديث علي رضي الله عنه وقد أجمع العلماء فيما أعلم على نجاسة المذي ولم يخالف في ذلك إلا الأمامية الرافضة ولا عبرة بخلافهم إن قلت : أليس الأصل في الأعيان الطهارة والمذي عين من الأعيان ؟ قلت نعم هو عين من الأعيان والأصل في الأعيان الطهارة لكن هذا مقيد بعدم الدليل الدال على النجاسة وفي المذي قد قام الدليل الصحيح الصريح وانعقد الإجماع على نجاسته فنخرج حينئذ من هذا الأصل بمقتضي الدليل ، ول لم يرد الدليل بنجاسته لتعين البقاء على الأصل والله ربنا أعلى وأعلم .(1/128)
من الفروع على هذا الأصل : نجاسة الكفار ، فيها خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى قيل بأن أعيانهم نجسة وقيل بل هي طاهرة وإنما النجاسة نجاسة اعتقاد ، والأصل في الأعيان الطهارة فلا يجوز إدعاء نجاسة شيء منها إلا بدليل صحيح صريح والدليل يطلب من مدعي النجاسة فأين الدليل الدال على نجاسة أعيان الكفار ؟ قالوا ـ عندنا أدلة على ذلك منها قوله تعالى " إنما المشركون نجس " وهو نص في محل النزاع فإن المراد هنا نجاسة الأعيان ، ومنها حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً إن المؤمن لا ينجس " فمفهومه أن الكافر ينجس ، وقد تقرر في قواعد الأصول أن مفهوم المخالفة حجة ، كذا قالوا لكن الصواب إن شاء الله تعالى أن أعيان الكفار طاهرة وإنما النجاسة نجاسة اعتقاد ، فهي نجاسة معنوية لا حسية وذلك بأن الأصل المتأصل في باب النجاسات أن الأصل في سائر الأعيان الطهارة لا يخرج منها إلا ما دل الدليل على إخراجه ، وليس ثمة دليل صريح يصلح للاستدلال على نجاسة الكفار نجاسة عينية ، بل الأدلة الصريحة الصحيحة تدل على طهارة أعيانهم من ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة في قصة ثمامة بن أثال قال " فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل فربطوه بسارية من سواري المسجد " قد كان كافراً ، فلو أن الكافر نجس العين لوجب تجنيبه المسجد لأن المسجد لا يجوز تدنيسه بشيء من النجاسات فلما ربطه النبي صلى الله عليه وسلم بسارية من سواري المسجد مع أمره بتزيين المساجد عن النجاسات دل ذلك على طهارة ثمامة ، فاستفدنا من ذلك طهارة أعيان الكفار ومن الأدلة ما رواه ابن ماجه من أنه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف المسجد فقيل يا رسول الله إنهم قوم أنجاس فقال عليه الصلاة والسلام " ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء إنما أنجاسهم على أنفسهم " والمراد بالنجاسة التي على أنفسهم نجاسة الاعتقاد فالمراد بقوله تعالى " إنما المشركون نجس وخير ما فسر به(1/129)
القرآن هو السنة الكفار ليس على الأرض من أنجاسهم شيء لأن أعيانهم طاهرة وإنما نجاستهم نجاسة معنوية لا حسية ومن الأدلة أيضاً : أن الجمع الكافرة بعد الفتح كانت تأتي للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل عليه المسجد وهي لا زالت كافرة فيعلمهم الإسلام وربما سألوه قبل الإسلام ، ومع ذلك لم يكن عليه الصلاة والسلام يتحرز من دخولها المسجد ولم يكن يغسل أماكن جلوسهم مما يدل على طهارة أعيانهم ، فإن قيل :- إن نجاستهم لا تؤثر إذا لم يكن فيه بلل ؟ فأقول :- إن مجرد دخولهم للمسجد وهم أنجاس الأعيان ممنوع فإن المساجد كما قال عليه الصلاة والسلام " لا يصلح فيها شيء من هذا الأذى والقذر " فسواءً كان عليهم بلل يقطر على الأرض أو لا فالأمر سيان ، والله أعلم .(1/130)
ومن الفروع أيضاً ميتة الآدمي :- اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال فقيل : بأنها طاهرة مطلقاً وقيل بالنجاسة مطلقاً وقيل بالتفريق بين ميتة المسلم والكافر فميتة المسلم طاهرة وميتة الكافر نجسة ، والأصل المتقرر عندنا في هذا الباب هو الحكم على الأعيان بأنها طاهرة إلا بدليل فالأصل أن ميتة الآدمي مطلقاً طاهرة ، ومن نجسها فعليه الدليل ، وإني سبرت الأدلة التي يستدل بها من ذهب إلى تنجيسها فلم أجدها في الحقيقة تصلح للاعتماد فحيث لا دليل فالأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل ، فكيف وقد وردت أدلة تؤيد القول بالطهارة كقوله تعالى " ولقد كرمنا بني أدم " فقد حكم الله تعالى بتكريم الإنسان دون التفرقة بين مسلم وكافر ومن مقتضى التكريم ألاّ يحكم بنجاستها ، وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو جنب فانخنست منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال أين كنت يا أبا هريرة قلت : كنت جنباً فكرهت أن أجالسك وأن على غير طهارة فقال " إن المسلم لا ينجس " وكحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على سهل وسهيل أبني بيضاء في المسجد " رواه مسلم فلو كانت ميتة الآدمي طاهرة لوجب تزيين المسجد عنها ، بل وما زال المسلمون يصلون على موتاهم في المساجد إلى يومنا من غير نكير وروى الإمام البيهقي عن عطاء عن ابن عباس يرفعه " لا تنجسوا أمواتكم فإن المسام لا ينجس حياً ولا ميتاً " فهذه الأدلة تفيد إفادة صريحة طهارة ميتة الآدمي مطلقاً من غير فرق بين مسلم وكافر ولأن الأصل في الأعيان الطهارة إلا بدليل ولا دليل يخرج ميتة الآدمي عن هذا الأصل فالمتعين هو البقاء عليه والله أعلم .(1/131)
ومن الفروع : البول والغائط من بني أدم فإنه قد دل الشرعي الصحيح الصريح على نجاستهما ولذلك يخرجان من الأصل المتقرر بمقتضى الدليل وذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم " يغسل من الجارية ويرش من بول الغلام " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وقوله صلى الله عليه وسلم استنزه من البول فإن عامة عذاب القبر منه " رواه الدارقطني وفي حديث صاحبي القبرين " أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله " متفق عليه وفهما من حديث أنس في قصة بول الأعرابي في المسجد وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أرتقوا على بوله سجلاً من ماء " وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا وطئ أحدكم الأذى فإن التراب لهما طهور " وفي لفظ " إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب " وعن أبي سعيد الخضري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جاء أحدكم إلى المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى فيهما خبثاً فليمسحه بالأرض ثم ليصلي فيهما " وكذلك سائر الأحاديث الآمرة بالاستجمار فإنها دليل أيضاً على نجاسة الغائط والبول وقد أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على نجاستهما من الكبير ، وإنما اختلفوا في حكم بول الذكر الصغير الذي لم يأكل الطعام ، والصاب أنه نجس قد خفف في تطهيره لعموم الأدلة ولحديث " ويرش من بول الغلام " وحديث أم قيس أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه " متفق عليه وهذه حكاية فعل اقترنت بأمر قولي في قوله " ويرش من بول الغلام " وقد تقرر في القواعد أن الفعل إذا أقترن بقول واجب أفاد الوجوب والمقصود أن الدليل قد دل على نجاسة البول والغائط فيخرجان من الأصل المتقرر بمقتضى الدليل والله أعلى وأعلم .(1/132)
ومن الفروع : دم الحيض ، فإنه قد دل الدليل الصحيح الصريح على نجاسته فيكون خارجاً عن هذا الأصل بمقتضى الدليل وذلك كما في حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به قال : تحكه ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه " متفق عليه أي دم الحيض عين أمر الشارع بغسلها وذلك لنجاستها وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله في الضابط الذي بعده إن شاء الله تعالى ، وفي صحيح البخاري من حديث عائشة في سؤال فاطمة بنت أبي حبيش وفيه أنه قال لها " فإذا أقبلت الحيضة اتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي " فأمر بغسل الدم عنها مما يدل على نجاسته وقد نص الإمام النووي رحمه الله تعالى على إجماع العلماء على نجاسة دم الحيض والأدلة والإجماع تدل دلالة صريحة على نجاسة دم الحيض فيكون خارجاً من الأصل وبمقتضى الدليل والله أعلم .(1/133)
ومنها : ما يؤكل لحمه ، فإن العلماء رحمهم الله تعالى قد اختلفوا في بوله وروثه على أقوال والصواب منها إن شاء الله تعالى أنه طاهر وذلك لأن الأصل في الأعيان الطهارة إلا بدليل ناقل ولم يدل دليل على نجاسة بول وروث ما يؤكل لحمه ، بل قد ورد الدليل الدال على الطهارة وذلك كحديث أنس في الصحيحين في قصة العرينين الذين احتبوا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا بلقاح الصدقة وأن يشربوا من أبوالها وألبانها " فلما أمرهم بالشرب من أبوالها دل ذلك على طهارتها إذ لو كانت نجسة لما دلهم على الاستشفاء بها لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها كما في الحديث وقال صلى الله عليه وسلم " عباد الله تداووا ولا تتداووا بحرام " ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن التداوي يعني التداوي بالخمرة قال " إنها داء وليست بدواء " فهذا بالنسبة للبول وكذلك قال عليه الصلاة والسلام " صلوا في مرابض الغنم " ومرابضها غالباً لا تخلوا من بولها وروثها " وأما النهي عن الصلاة في مبارك الإبل فلأن مباركها مأوى للشياطين ولبحثها موضع آخر فهذه الأدلة تدل دلالة صريحة على طهارة بول وروث الإبل والغنم ، وقسنا عليها سائر ما يؤكل لحمه بل قال أبو العباس رحمه الله تعالى : لم يذهب أحد من الصحابة إلى القول بنجاسته – أي بول وروث المأكول – بل القول بنجاسته محدث لا سلف له من الصحابة وكذلك يقال في ريقه ومخاطه ودمعه وكل ذلك طاهر لأن الأصل في الأعيان الطهارة إلا بدليل والله أعلم .(1/134)
ومن الفروع أيضاً : ذهب بعض العلماء الفضلاء الأجلاء إلى أن المائعات غير الماء تنجس بمجرد وقوع النجاسة فيها ولو لم تتغير أوصافها ولا أدري إلى ساعتي هذه ما دليل ذلك وما المقتضى بتنجيس ما لم يدل الدليل على نجاسته ، فالله يعفو عن الخطأ والزلة ، ولذلك فالراجح والله تعالى أعلى وأعلم هو أن سائر المائعات تجري مجرى الماء فكما أنه لا ينجس الماء إلا بالتغير فكذلك المائعات فإنها لا تنجس إلا إذا تغيرت أحد أوصافها من لون أو طعم أو ريح بالنجاسة وهذا رواية عن الإمام أحمد واختارها الإمام شيخ الإسلام أبو العباس وتلميذه ابن القيم رحم الله الجميع رحمه واسعة ودليل ذلك أن الأصل في الأعيان الطهارة إلا بدليل وهذه المائعات من جملة الأعيان الداخلة تحت هذا الأصل ولم يأت ما يخرجها من نصٍ صحيح أو قياس مستقيم صريح فحيث لا دليل على إخراجها من أصل الطهارة فالبقاء عليه هو المتعين وقال الإمام ابن القيم رحمه الله : إذا لم تتغير بالنجاسة لم تنجس وهو الصواب الذي تدل عليه الأصول والنصوص والعقول فأثبت على هذا الأصل ولا تتعداه فإنه يعصمك بإذن الله تعالى من الزلل والحيرة في بعض هنات الفقهاء رحمهم الله تعالى والله أعلم .(1/135)
ومن الفروع :- القيء هل هو نجس أم طاهر فيه خلاف بين أهل العلم إلا أن الأصل الطهارة والقيء عين من الأعيان الأصل فيه أنه طاهر إلا إذا ورد الدليل المخرج له عن هذا الأصل ، فإذا ورد الدليل المخرج له عن هذا الأصل سمعنا له وأطعنا وإلا فالبقاء على الأصل هو المتعين وإني نظرت في أدلة القائلين بالنجاسة فوجدتها كما يلي : الأول الاستدلال على نجاسته بحديث معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال " صدق أنا صببت له وضوءه " رواه أحمد والترمذي وقال هو أصح شيء في الباب ، الثاني: الاستدلال على نجاسته بالاستقذار والاستحباب والاستحالة يؤدي إلى فتن وفساد ، الثالث : الاستدلال على نجاسته بالقياس على العذرة فضلات تخرج مع السبيل ، الرابع عدم الانتفاع به بأي وجه من أوجه الانتفاع وهذه هي علامة النجاسة ، هذه هي مجمل أدلة القائلين بالنجاسة وأنت إذا نظرت لها بعين التعقل وبعيداً عن نص المذاهب ومتابعة الأهواء وجدت ما يلي الأول : ليس كل ناقض للوضوء يكون نجساً فإنه لا تلازم بين الوضوء والحكم بالنجاسة فعندنا من النواقض ما ليس بنجس كالنوم وأكل لحكم الجزور وخروج الريح ومس المرأة عند من يقول به ، وزوال العقل بإغماء أو جنون ، فهذه الأشياء من جملة النواقض على خلاف في بعضها لكن ليست بنجسة ، فالاستدلال إذاً على نجاسة القيء بأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ منه ليس بمستقيم ، لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ وأمر بالوضوء من أشياء ليست نجسة بالإجماع والله اعلم ، الثاني : ليس كل متقذر طبعاً يكون نجساً شرعا ، وذلك لأنه على القول الصحيح لإستيفاء النجاسة من مجرد استقذاذ الطبائع لا طبائع العرب ولا الفرس ولا العجم ولا غيرهم وذلك لأن النجاسة عين مستقذرة شرعاً إذا علمت هذا فنقول : نعم سلمنا أن القيء مستخبث ومستقذر طبعاً فهل يلزم من ذلك أن يكون نجساً ؟ بالطبع(1/136)
لا وإلا للزم على ذلك نجاسة النخامة والمخاط والمني لأنها مستقذرة طبعاً ، وعلى كل فالضابط عندنا يقضي أنه لا تلازم بين استقذار الطبائع وبين الحكم بالنجاسة والله أعلم ، الثالث : ليس كل ما لا ينتفع به مطلقاً يحكم عليه بالنجاسة وذلك لعدم الدليل الدال على ذلك أولاً ، وثانياً : أننا نجد أشياء وقع الإجماع على طهارتها مع أنها لا ينتفع بها مطلقاً كالمخاط والبصاق والدمع والعرق فهذه طاهرة من الآدمي مع أنه لا ينتفع بها بأي وجه من أوجه الانتفاع فمن الذي جعل عدم الانتفاع المطلق علامة النجاسة ؟ إذا علمت هذا فاعلم أننا نوافقهم في أن القيء لا ينتفع به لكن هل يلزم من ذلك نجاسته ؟ بالطبع لا إذاً لا يستدل بذلك على نجاسته ، الرابع إن القاعدة الأصولية المتقرر في القياس أن القياس مع الفارق باطل ، ذلك لأن من شروط صحته الاتفاق بين الأصل والفرع في العلة فيقال لمن قاس القيء على العذرة ما العلة الجامعة بينهما حتى نعدي الحكم من العذرة إلى القيء فإننا بحثنا عن علة مستقيمة فلم نجد بل وجدنا الفرق الواسع والبون الشاسع بين القيء والعذرة لا في حقيقتهما ولا في أحكامهما ولا في مخرجهما ، عافانا الله وإياك ، فالقياس هذا لا يصح ولا يتطرق له احتمال الصحة وبهذا تعلم جيداً أن القول الراجح إن شاء الله تعالى هو طهارة القيء وذلك لأن الأصل في الأعيان الطهارة إلا بدليل ولم يأت دليل يخرجه عن هذا الأصل والله أعلم ولعل الضابط بهذه الفروع التسعة قد اتضحت معالمه وباتت مراسمه إن شاء الله تعالى وقس عليه ما لم يذكر والله ربنا أعلى وأعلم .
الضابط الرابع عشر
إذا زال وصف النجاسة زال حكمها(1/137)
وهذا الضابط يجمع لك الأشياء التي يجوز إزالة النجاسة بها ، وقبل بيانه أقول :- اعلم رحمك الله تعالى أن النجاسة عين مستقذرة شرعاً ، وقسمها العلماء إلى قسمين نجاسة عينية أي ذاتية وهذه لا يمكن تطهيرها أبداً وليست هي مجال بحثنا وذلك كالعذرة والبول والخنزير ونحوها فهذه الأشياء لا يمكن انفصالها عن وصف النجاسة لأن النجاسة من صفاتها الذاتية التي لا تنفك عنها ، فلو غسلنا العذرة بمياه الدنيا ما طهرت ، فقولنا في الضابط ( إذا زالت النجاسة ) لا يعني به النجاسة الذاتية ، وإنما يعني به القسم الآخر من النجاسة وهي النجاسة الحكمية ، وهي طروء النجاسة الذاتية على محل طاهر ، كوقوع البول على الثوب ، فالثوب طاهر في الأصل لكن لما وقع عليه البول صار نجساً لكن نجاسته – أي الثوب – ليست عينية لأنه كان طاهراً قبل وقوع البول وإنما نجاسته حكمية أي أنه ما دامت بقعة البول في الثوب فنحن نحكم عليه بأنه نجس ، حتى تزول هذه البقعة فإذا زالت هذه البقعة عاد للثوب وصفه الأول وهو الطهارة ، وبه تعلم أن الطهارة الحكمية تطهر إذا أزيلت أوصافها عن المحل الطاهر ، ثم أعلم رحمك الله تعالى أنه يستفاد من قول الفقهاء ( إن النجاسة عين ) ، يستفاد منه أن لها جرماً ولوناً وطعماً وريحاً ، وهذه الأوصاف هي أوصاف النجاسة ، فما دامت باقية في المحل الطاهر فهو نجس وإذا زالت عاد وصف الطهارة له ، والسؤال الآن هو :- هذه النجاسة الحكمية بأوصافها من لون أو طعم أو ريح أو جرم بماذا تزال ؟ بمعنى ما هي الأشياء التي تستعمل لإزالة هذه الأوصاف ؟ هذا هو ما يجيب عنه هذا الضابط ، لكن أنبهك مرة ثانية :- أن الكلام في هذا الضابط إنما هو عن النجاسة الحكمية لا العينية ، إذا علمت هذا فإلى شرح الضابط فأقول :- قولنا ( إذا زال ) هذا هو الأسلم في التعبير وذلك لأن حكم النجاسة يزول ولو زال بلا فعل أحدٍ كزواله بالريح أو الشمس كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، فالمعتبر(1/138)
عندنا هو زوال وصفها لا قصد إزالته ، فلو زالت أوصافها بلا قصد زال حكمها ، فقولنا ( إذا زال ) أفضل من قول البعض ( تزال ) لآن لفظ ( تزال ) مشعر باشتراط القصد في إزالته ، وسيأتي الكلام على القصد في إزالة النجاسة إن شاء الله تعالى ، قولنا ( وصف النجاسة ) المراد به عينها من جرمٍ أو طعمٍ أو ريحٍ أو لون ، فإذا كانت النجاسة لا جرم لها فالمعتبر زواله وإذا كانت لها لون فالمعتبر زواله وإذا كان لها ريح فالمعتبر زواله وإذا كان لها لون فالمعتبر زواله وإذا كانت مركبة من جرم ولون وطعم وريح فالمعتبر زوال هذه الأوصاف فهذه الأشياء الأربعة هي المرادة بقولنا ( وصف النجاسة ) وقولنا ( بالمزبل الطاهر المباح ) هذه الجزئية من الضابط تبين فيها شروط ما تزال به النجاسة وهي كما يلي :-
الأول :- أن يكون فيه خاصية الإزالة ، واستفدنا هذا من قولنا ( المزيل ) فإنه يفهم منه أن الشيء الذي لا يحمل خاصية الإزالة فإنه لا يفيد في إزالة أوصاف النجاسة ، وذلك كالزجاج مثلاً فإنه أملس ، فلو مسحت به النجاسة لما زالت وهذا معروف بالتجربة ، واشترطنا ذلك لأن المقصود الإنقاء وإزالة النجاسة .
الثاني :- أن يكون طاهراً وهو المقصود بقولنا ( المزيل الطاهر ) وبناء عليه فإنه لا يجوز إزالة النجاسة بشيء نجس لأن المقصود الإنقاء ، وإزالته بنجاسة مثله فإنه تزيد المحل نجاسة على نجاسته والدليل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين والتمست ثالثاً فلم أجد فأتيته بروثة " زاد ابن خزيمة بسند صحيح " وهي روثة حمار " فأخذهما والقي الروثة وقال :- هذا رجس أو ركس " والرجس والنجس ، ولأن النجاسة لا تزال بمثلها .(1/139)
الثالث :- أن يكون مباحاً ، فلا يجوز إزالة النجاسة بشيء محرم وذلك كالعظام والروث فلا يجوز إزالة النجاسة بها لحديث أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بروث أو بعظم وقال " إنهما لا يطهران " رواه الدارقطني وقال :- إسناد صحيح ، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتمسح بعظم أوبعرة " رواه مسلم ، وله من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :- أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال :- فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً وكل بعرة علف لداوبكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم " وعن أبي هريرة أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته فبينما هو يتبعه بها قال :- " من هذا " قلت :- أنا أبو هريرة فقال " ابغني أحجاراً استنفض بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة فأتيته باحجار في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت إلى جنبه فقلت :- ما بال العظم والروثة ؟ قال " هما من طعام الجن وإنه أتاني وَفْدٌ جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاماً " رواه البخاري ، فتلخص من هذا أنه لا يجوز إزالة النجاسة بالروث ولا بالعظام فأما العظام فلأنها زاد إخواننا الجن ، وأما الروث فلأنها علف دوابهم ، هذه هي العلة الصحيحة ، واستفدنا منه أنه لا يجوز أيضاً إزالة النجاسة بطعامنا وطعام دوابنا من باب أولى ، وقد تقرر في الأصول أن مفهوم الموافقة الأولوي حجة ، فإذاً لا يجوز إزالة النجاسة بما ليس بمباح ، وعدم إباحته ما لحرمته وإما لحق الغير .
فالأول كالعظم والروث وكذلك كتب العلم فإن لها حرمة فلا يجوز إزالة النجاسة بها .(1/140)
والثاني :- كالمسروق والمغصوب فلا يجوز إزالة النجاسة به لعدم إباحته فكل ذلك يدخل في قولنا ( المباح ) إلا أن العلماء رحمهم الله تعالى اختلفوا فيما إذا خالف الإنسان وأزال النجاسة بما ليس بمباح فزالت أوصافها الحسية فهل يزول حكمها أم لا ؟ والصواب أنه يزول حكمها مع الإثم ، فقلنا يزول حكمها لزوال أوصاف النجاسة زالت عينها فحصل المقصود وهو زوال وصف النجاسة والإعادة لا فائدة فيها وقلنا هو آثم لأنه أرتكب النهي عنه وهو اختيار أبي العباس بن تيميه رحمه الله تعالى والله أعلم وخلاصة الكلام أن النجاسة عين محسوسة لها وصف وطعم وريح وجرم ما دامت هذه الأوصاف باقية فحكمها باق وإذا زالت أوصافها زال حكمها من يحكم على المحل بأنه نجس مع زوال أوصاف النجاسة فإنه مخطأ – والله يعفو ويغفر الزلل والخطأ وهو أعلى وأعلم وبقي عندنا مسألتان قبل التفريع : وهما :
الأولى : هل يشترط النية لصحة إزالة النجاسة وما القاعدة في ذلك ؟
الثانية : ما الحكم لو عجزنا عن إزالة بعض أوصاف النجاسة ؟(1/141)
فأما جواب الأولى فيقال : إن النية شرط لصحة المأمورات وشرط لترتب الثواب في التروك ، فهذه هي القاعدة ، وبيانها أن الأشياء التي أمرنا بتركها واجتنابها لنا فيها نظران نظر من ناحية صحة هذا الترك ونظر من ناحية ترتب الثواب على هذا الترك ، فأما النظر الأول فإن المكلف بمجرد ترك الأمر يصح منه هذا الترك فمن ترك الزنا صح تركه ومن ترك شرب الخمر صح له ومن أزال النجاسة زال حكمها وصح ذلك منه ولو بلا قصد للترك ، وذلك لأن المقصود هو عدم الفعل وقد تحقق منه بمجرد تركه وأما بالنظر الثاني أنه لا يتحقق الثواب على هذا الترك إلا بنية التقرب لله بهذا الترك فإذا تركه متعبداً به لله جل وعلا فإنه مع صحة تركه يؤجر عليه ، وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل فيمن هم بالسيئة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جرائي " أي من أجلي " فأثيب على تركه للمحرم لأنه نوى النية الصالحة لهذا الترك إذا فهم هذا فنقول : إن إزالة النجاسة من باب التروك فإذا زالت عينها زال حكمها ولو بلا نية وقصد بل لو زالت بنفسها صح ذلك إلا أن المكلف لو قصد إزالتها تعبداً لله تعالى لأثيب على هذا الترك وعلى ذلك قوله تعالى عن أهل قباء " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " فهذا هو جواب المسألة الأولى .
وأما المسألة الثانية فإن القاعدة المتقررة في الشريعة زادها الله شرفاً ورفعة – أن الواجبات تسقط بالعجز والمحرمات تباح للضرورة فقال الناظم :
... ويسقط الواجب بالعجز كما ... ... يباح محظور لضر هجماً(1/142)
إذا تقرر هذا فأقول : إن المكلف يجب عليه إزالة عين النجاسة من جرم ووصف وريح ولون وطعم إلا أن هذا الواجب منوط بالقدرة والاستطاعة لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فإذا بذل الإنسان جهده في إزالة عين هذه النجاسة ولكن عجز عن إزالة بعض أوصافها فنقول : هذا الذي عجزت عنه لا يضرك بقاؤه لأن الواجبات تسقط بالعجز وعلى ذلك حديث أبي هريرة قال قالت خوله يا رسول الله فإن لم يذهب الدم ؟ قال " يكفيكِ الماء ولا يضرك أثره " رواه أبو داود وفيه ضعف لأن في سنده ابن لهيعه وهو ضعيف ، وعن معاذه قالت سألت عائشة عن الحائض يصيب ثوبها الدم فقالت : تغسله فإن لم يذهب أثره فلتغيره بشيء من صفرة " رواه أبو داود فأثر الدم الباقي الذي عسرت إزالته لا يضر لكن استحب تغيير صورته بزعفران أو صفرة أو غيرهما حتى يذهب لون الدم لأنه مستقذر ولأنه ربما نسبها من رآه إلى التقصير في إزالته ، والله أعلم .(1/143)
مسألة : هل يتعين الماء لإزالة النجاسة بحيث لا يقوم غيره مقامه عند وجوده أم لا ؟ أقوال : في هذا خلاف بين أهل العلم رحمهم الله والصواب إن شاء الله تعالى هو إعمال هذا الضابط وأن المعتبر هو زوال وصف النجاسة فإذا زال وصف النجاسة بأي مزيل طاهر مباح فهو كافٍ لتحقق المقصود ، إلا أن الماء هو أقوى المزيلات لوصف النجاسة ولا شك والدليل على ما رجحناه عدة أحاديث منها : أحاديث الاستجمار بالحجارة وهي متواترة ، ووجه الدلالة منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد المتخلي لإزالة أثر الخارج بالحجارة وقال " فإنها تجزئ عنه " فدل ذلك على عدم تعين الماء لإزالة النجاسة ، ومنها : أحاديث تطهير أسفل الخف بمسحه بالتراب وهما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه أذى أو قذراً فليمسحه بالتراب وليصلٍ فيهما " رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة ، وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب " رواه أبو داود وصححه بن حبان ووجه الشاهد فيهما أنه صلى الله عليه وسلم أرشد من وجد في نعليه النجاسة وأراد أن يصلي فيهما أن يزيل أثر النجاسة بمسحهما بالتراب ويصلي فيهما فدل ذلك على عدم اعتبار الماء بعينه في إزالتها وإنها إن ازيلت بغيره أجزئ ذلك ومنها قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة لما سألته عن ذيل ثوب المرأة الذي تجره ورائها وأنه ربما أصابه شيء من النجاسة فقال " يطهره ما بعده " ولم يشترط الماء لإزالته مما يدل على الاكتفاء بمرور الذيل على أرض طاهرة فإن قلت :- إننا نجد في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم يأمر بإزالة بعض النجاسة بالماء كما في حديث أسماء في نجاسة دم الحيض فإنه قال " تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه " متفق عليه من حديث أبي ثعلبة وفي المتفق عليه أيضاً(1/144)
من حديث أنس في قصة بول الأعرابي " فدعا بسجل من ماء فأهريق عليه " وفي رواية " أريقوا على بوله سجلاً من ماءٍ أو ذنوباً من ماءٍ " فهذه الأحاديث فيها الأمر بالماء والأمر يقتضي الوجوب فكيف تقول يجوز إزالة النجاسة بغير الماء ؟ فأقول :- كما أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالماء في هذه الأحاديث فإنه قد أمر بغيره في الأحاديث السابق ذكرها فحينئذ يجب الجمع بين الأدلة فيقال :- يجوز الأمران وأن الأمر بالماء وبغيره ليس من باب التعيين بحيث لا يجزئ غيره وأن المعتبر هو زوال وصف النجاسة وبهذا لا يبقى إشكال في الأحاديث ، لكن يبقى الماء هو الأفضل في التطهير لما فيه من خاصية الإزالة والله أعلم .
مسألة : ما الحكم لو زالت النجاسة بالريح والشمس ؟ أقول :- المعتمد في مذهب الأصحاب أنه لا يطهر متنجس بشمس ولا ريح بل لأبد من الغسل ، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بغسل بول الأعرابي ولو كان ذلك يطهر لاكتفى به ، وعن الإمام أحمد رواية أخرى وهو أنه إذا ذهب وصف النجاسة فلم يبق لها أثر بالشمس أو الريح فإنه يكتفي بذلك وهذه الرواية هي الراجحة واختارها أبو العباس بن تيمية وذلك لحصول المقصود وهو زوال وصف النجاسة ، ويدل عليه حديث ابن عمر في الصحيح " كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " وأما الأمر بالصب على بول الأعرابي فلأنه تعطيل لتطهير الأرض المرادة للصلاة عليها ولأن النجاسة لم تزل أوصافها ، والمسألة فيما إذا ذهبت الشمس أو الريح وصف النجاسة ، فالراجح إن شاء الله تعالى أنه إذا اختفت أوصاف النجاسة ولم يبق لها أثر أنه يكتفي بذلك والله أعلم .(1/145)
مسألة : ما الحكم لو لم نجد الماء لغسل النجاسة فهل يشرع لها حينئذ التيمم ؟ أقول ظاهر المذهب يفرقون بين النجاسة على الثوب أو البدن ، فأما إذا كانت على الثوب فإنني لا أعلم أحداً من العلماء قال بجواز التيمم بنية رفع حكمها ، بل كلهم متفقون فيما أعلم على أن النجاسة في الثوب والأرض لا يتيمم لها ، وأما إذا كانت على البدن فظاهر المذهب أنه إذا عدم ما يزيلها أو تضرر بإزالتها أنه يشرع التيمم بنية رفع حكمها وذلك لأن التيمم بدل على طهارة الماء والبدل له حكم المبدل ومن أحكام الماء أنه يرفع به الخبث فكذلك بدله أيضاً يرفع الخبث ، وعنه أي وعن الإمام أحمد أنه لا يشرع التيمم لرفع النجاسة ليس في معناه واختاره من أصحابنا ابن حامد وابن عقيل والشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية وقال :- هو قول جمهور العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة لأن التيمم إنما جاء عن طهارة الحدث دون طهارة الخبث وهذا القول هو الصواب إن شاء الله تعالى والله أعلم .
مسألة : ما الحكم لو كانت على بدنه أو ثوبه نجاسة وليس معه إلا ماء قليل لا يكفي إلا لوضوئه أو غسله بحيث لو أزال به النجاسة لم يجد ما يتوضأ به وإذا توضأ أو اغتسل به لم يجد ما يغتسل النجاسة به ، فهل يقدم غسل النجاسة أم يرفع به الحدث ؟ أقول :- مقتضى الفقه وقواعد الشريعة أنه يقدم رفع الخبث على رفع الحدث وذلك لأن الطهارة المائية إذا عدمت حل عنها بدلها ، فحينئذ نقول :- تقديم العبادات التي تفوت إلى غير بدل أولى من تقديم ما يفوت إلى بدل ، فطهارة الماء لها بدل ورفع الخبث لا بدل أولى من تقديم ما يفوت إلى بدل ، فطهارة الماء لها بدل ورفع الخبث لا بدل له والله أعلم .
مسألة : هل إزالة النجاسة لها حد في العدد ؟ أقول :- فيه خلاف بين العلماء على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن الإمام المبجل أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه .(1/146)
الأولى :- أنه يجب غسلها سبع غسلات ، ويستدلون على ذلك بقول ابن عمر " أمرنا بغسل الأنجاس سبعاً " وقد تقرر في القواعد أن قول الصحابي أمرنا بكذا ونهينا عن كذا له حكم المرفوع لأن الظاهر أن الآمر والناهي هو النبي صلى الله عليه وسلم .
... الثانية :- أنه يجب غسلها ثلاثاً فقط ويستدلون على ذلك بأحاديث الاستجمار فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتكرار المسح ثلاث مرات فتقاس عليها سائر النجاسات .
... الثالثة :- أنها تكاثر بالماء حتى تزول عينها وليس في ذلك حد معين ، وهذه الرواية هي الراجحة إن شاء الله تعالى وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم " أريقوا على بول الأعرابي سجلاً من ماء " ولم يذكروا عدداً وقوله في دم الحيضة يصيب الثوب " حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه ثم صلي فيه " ولم يذكر عدداً وقوله صلى الله عليه وسلم " يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام " ولم يذكر عدداً وقوله عليه الصلاة والسلام في آنية أهل الكتاب " فإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا " ولم يذكر عدداً وقوله عليه الصلاة والسلام في طهارة النمل " فإن رأى في نعليه أذىً أو قذر فليمسحه وليصل فيهما " ولم يذكر عدداً ، وفي حديث سهل بن حنيف أنه صلى الله عليه وسلم " إنما يكفيك أن تأخذ كفاً من ماءٍ فتنضح به على ثوبك حتى ترى أنه قد أصاب منه " ولم يذكر عدداً ، فهذه الأدلة تدل على أن الأصل هو إزالة العين النجسة من غير نظر إلى عدد المرات التي تحصل بها الإزالة فإن زالت بالمرة كفى وأن لم تزل بالغسلة الواحدة فثانية لا لأن الثانية شرط في ذاتها وإنما لأن العين النجسة لم تذهب بالكلية وإن لم تكف الثانية فثالثة وهكذا فالأصل هو مكاثرة النجاسة بالماء حتى تذهب أوصافها من لون وطعم وريح هذا هو الراجح الذي يؤيده الأدلة وهو اختيار شيخ الإسلام والمسلمين أبي العباس بن تيمية رحمه الله تعالى ، فإن قلت :- كيف تقول لا عدد في غسل النجاسة ونحن نجد أن النبي صلى الله(1/147)
عليه وسلم قال في نجاسة الكلب " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعاً " زاد مسلم " اولاهن بالتراب " فهنا حَدَّ الشارع إزالة النجاسة بعدد معين وهو سبع غسلات إحداها بتراب وكذلك نجد في أحاديث الاستجمار المتواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بإزالة الخارج بثلاثة أحجار " فهنا حَدَّ إزالة النجاسة بعدد ، فكيف نجمع هذا وبين كلامك السابق ؟ فأقول :- لا إشكال ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة والجمع بينها يسير سهل بفضل الله وحده وهو يقال :- عليك أن تفهم الضابط في ذلك وهو :- أنه لا تحد إزالة النجاسة بعدد إلا بدليل ، فهذا الضابط يحل لك الإشكال ويبين أن الأصل عدم التحديد ، وذلك لأن التحديد في غسل النجاسة يفتقر إلى دليل شرعي صحيح لأن البراءة الأصلية مستصحبة ، فالأصل عدم التحديد فمن ادعى أن هذه النجاسة لا تطهر إلا إذا غسلت بعددٍ معين فعليه الدليل ، فإن جاء بالدليل الصحيح الصريح قبلناه واعتمدنا في هذه النجاسة بخصوصها ويبقى ما عداها على الأصل وهو عدم التحديد ، وإني سيرت الأدلة فلم أجد نجاسة أمرت الشريعة بتكرار غسلها إلى في نجاسة الكلب فأمرت بغسلها سبعاً إحداها بتراب ، وكذلك نجاسة الخارج من أحد السبيلين إذا أزيل بحجر فإن الواجب ثلاث مسحات منقية كما تواترت به الأدلة ، فهاتان النجاستان ثبت الدليل بتكرار غسلهما فليخرجان عن الأصل بمقتضى الدليل ويبقى ما عداهما من النجاسات على الأصل وهو عدم التحديد ، لأن الأصل عدم التحديد إلا بدليل ، وهذا الضابط هو الذي يعمل الأدلة كلها والله أعلى وأعلم .(1/148)
فإن قلت :- أوليس أئمتكم الحنابلة يوجبون في سائر النجاسات سبع غسلات فكيف تخالف مذهبك ؟ فأقول :- إن مخالفة المذهب بمقتضى الدليل لا حرج فيها بل هو الواجب وذلك لأن الحق أحب إلينا من البقاء على المذهب في هذه الجزئية المخالفة للراجح ، وللمسألة موضع آخر ، والذي يعنيني هنا هو أن تعرف أن الأصحاب بنوا مذهبهم في هذه الجزئية على قول ابن عمر " أمرنا بغسل الأنجاس سبعاً " لكنه حديث ساقط لا يعرف له سند يثبت وإنما هو مما يتداوله الفقهاء في كتبهم من غير بحث عن أصله ، وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة ، فهو كلام باطل وما بني على الباطل فهو باطل ، فإن قلت :- ورواية الثلاث فلعلها بنيت على أحاديث صحيحة ؟ فأقول :- نعم الأحاديث صحيحة لكن هي في إزالة الخارج من السبيلين ، وهم قاسوا سائر النجاسات عليها ومن شرط صحة القياس العلم بالعلة حتى يمكن إلحاق الفرع بالأصل ، وأما الأحكام التعبدية فإنه لا يصح القياس فيها ، إذا علمت هذا فاعلم أن تكرار غسل النجاسات الثابت بالدليل الصحيح ليس المراد منه فقط حصول الإنقاء بدليل أنه قد يحصل الإنقاء بمسحة أو بحجر واحد ومع ذلك يلزمه استيفاء الثلاث ، وفي نجاسة الكلب لم تتكرر الغسلات لغلظ النجاسة وإلا لتكررت أكثر في نجاسة العذرة لأنها أغلظ من نجاسة لعاب الكلب ، وإنما تكررت وزيد التراب فيها لعلة يعلمها الله تعالى فحيث تقرر هذا فلا يصح حينئذ القياس لأن هذا التكرار من الأحكام التعبدية والأحكام التعبدية لا يدخلها القياس هذا أولاً ، وثانياً :- أن لا يقال بالقياس إلا مع عدم النص وأما القياس مع وجود النص فلا داعي له ، فكيف إذا عورض النص به ؟ لا شك أنه يكون باطلاً لأنه قد تقرر في القواعد أن القياس في مقابلة النص فاسد الاعتبار وقد ثبت في نجاسات كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم غسلها وأمر بغسلها من غير عدد فلو كان العدد شرطاً في غسلها لبينه فإذاً(1/149)
عدم التكرار بالنص فكيف نثبته بالقياس ، فالقياس لا يثبت ما نفاه النص ولا ينفي ما أثبته النص ولنه أيضاً قد تقرر في القواعد أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز إجماعاً ، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل النجاسات ولم يبين في كثير منها عدداً يدل على عدم اشتراط إذا لو كان شرطاً لبينه فلما لم يبينه دل على عدم إشتراطه لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز والله ربنا يتولانا وإياك وهو أعلى واعلم .
وبهذا التقرير تعلم خطأ المذهب في قياس الخنزير على الكلب فقالوا :- إذا ولغ الخنزير في الإناء وجب غسله سبعاً إحداها بتراب قياساً على الكلب وأقول :- القياس هنا لا يصح لعدم معرفة العلة ومن شروط صحة القياس العلم بالعلة فالراجح إذاً أن نجاسة الخنزير كسائر النجاسات يجب فيها المكاثرة بالماء حتى تذهب عينها من لونٍ وطعمٍ وريح وجرم والله أعلم .
الضابط الخامس عشر
كل عين أمر الشارع بغسلها فلقيام المانع فيها وما غسل بلا أمرٍ فلا(1/150)
وهذا الضابط يفيدك معرفة الفرق بين الأشياء التي أمر بغسلها لنجاستها ، أو لقيام الحدث بها ، وما يغسل من باب الاستقذار أو لإزالة صورته ونحو ذلك لكن لا لنجاسته أو لقيام الحدث به ، وبيان ذلك أن يقال إن الشريعة الإسلامية زادها الله شرفاً ورفعة إذا أمرت بغسل عين من الأعيان فإننا نستفيد من هذا الأمر وجوب غسل هذه العين لأنه قد تقرر في القواعد :- أن الأمر المطلق عن القرائن يفيد الوجوب ونعلم أيضاً أنها لم تأمر بغسلها إلا لحكمة ومصلحة وهذه المصلحة إما أن تكون لقيام حدث في هذه العين أو لقيام نجاستها ومثال الأول الأمر بغسل أعضاء الوضوء فإن الشريعة أمرت بغسل هذه الأعضاء والعلة في ذلك قيام الحدث بها وغسلها من باب الوجوب ومنها أيضاً أمر الجنب أن يغسل بدنه وذلك لقيام مانع في بدنه وهو حدث الجنابة ولا يتصور قيام الحدث في غير ذلك والمراد بالحدث الوصف القائم بالبدن المانع من صحة الصلاة فإن كان أصغر فيجب فيه الوضوء وإن كان أكبر فيجب فيه الغسل والمقصود أن الشارع لما أمر بغسل الأعضاء الأربعة في الوضوء وبتعميم الماء في الغسل علمنا أن ذلك لقيام مانع في الأعضاء والبدن وهذا المانع هو الحدث إذ لا نجاسة عليه . ومثال الثاني وهو ما أمر الشارع بغسله لقيام النجاسة فكالأمر بغسل البول وذلك لقيام مانع فيها وهو النجاسة وأيضاً كدم الحيض فهو عين أمر الشارع بغسلها كما في حديث " تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم يصلي فيه متفق عليه فأمر الشارع بغسلها لقيام مانع فيها وهو النجاسة وهكذا فهذه الأعيان التي غسلها وأمر بغسلها يحكم عليها بوجود المانع فإن كان في وضوء أو غسل فالمانع الحدث وإن كان غيره من الأعيان فالمانع هو النجاسة وإلا فللتعبد . وأما الأعيان التي غسلها الشارع ولكن لم يأمر بغسلها فلا يحكم عليها النجاسة لمجرد الغسل لأن الفعل المجرد عن الأمر لا يستفاد منه الوجوب فيقتصر على الاستحباب فنقول إن غسلها مستحب ويمثل(1/151)
لذلك بالمني فإنه عين غسلها الشارع كما في حديث عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل المني من ثوبه ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل إلا أنه لم يثبت في حديث صحيح صريح أنه صلى الله عليه وسلم أمر بغسله وإنما غسله بلا أمر فيستفاد من غسله المجرد عن الأمر استحباب إزالته فقط أما وصفه بالنجاسة فلا يستفاد من مجرد الغسل . وبه تعلم أن القول الصحيح طهارة المني وأن الاستدلال على نجاسته بمجرد الغسل ليس بصحيح ومن ذلك أيضاً غسل اليدين ثلاثاً قبل كل وضوء ثبت ذلك بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه غسل مجرد عن أمر فلا يستفاد منه إلا الاستحباب فنقول غسل اليدين ثلاثاً قبل كل وضوء مستحب فلا يقال إنه غسلها لقيام مانع الحدث فيها إذ لو كان ذلك كذلك لأمر به . ومن فروع ذلك أيضاً حديث أبي ثعلبة الخشني قلت يا رسول الله أنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم قال لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها فآنية أهل الكتاب عين أمر الشارع بغسلها وذلك لقيام مانع فيها من حدث أو نجاسة ولا يتصور حدث فيها ويبقى مانع النجاسة ويوضح ذلك أنه قال في بعض الروايات إنهم يأكلون فيها الخنزير والخنزير نجس فاستفدنا وجوب غسلها من الأمر به ومنها حديث أبي هريرة إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً متفق عليه زاد مسلم أولاهن بالتراب فهذا الإناء الذي ولغ فيه الكلب عين أمر الشارع بغسلها وذلك لقيام مانع فيها من حدث أو نجاسة ولا يتصور الحدث هنا ويبقى مانع النجاسة فنقول أمر الشارع بغسلها لنجاستها ففيه دليل على نجاسة لعاب الكلب و من ذلك أحاديث الاستجمار المتواترة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإزالة الخارج بثلاثة أحجار وذلك لقيام المانع فيها من حدث أو نجاسة ولا يتصور الحدث هنا فيبقى مانع النجاسة فنقول هذا دليل على نجاسة الخارج من السبيلين لأنه عين أمر الشارع بغسلها ومن ذلك غسل(1/152)
اليدين من النوم الناقض للوضوء كما في حديث أبي هريرة إذا استيقظ أحدكم فليغسل يديه قبل أن يدخلها في الإناء ثلاثاً فإن أحدكم لا يدري أين باتت يديه فاليدان في هذا الحديث عين أمر الشارع بغسلها ثلاثاً لقيام المانع فيهما ثم اختلف العلماء في تحديد هذا المانع فمنهم من قال هذا المانع هو ملامسة الشيطان لهما حال النوم كما هو قول أبي العباس بن تيميه ومنهم من قال أن المانع لا يعلم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يدري أين باتت يده وكأن هذا هو الأقرب فيكون الأمر بغسلهما تعبدي لا يعلم معناه ومنها :- الجلد أعني جلد الميتة عين أمر الشارع بغسلها في قوله يطهرها الماء والقرظ " وذلك لقيام المانع فيه من حدث أو نجاسة ولا حدث هنا فيبقى مانع النجاسة فنقول :- إهاب الميتة نجس للأمر بغسله والله أعلم .
ومنها :- الأمر بتغسيل الميت كما في حديث أم عطيه في المتفق عليه في قصة غسل بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم اغسلنها ثلاثاً أو خمسا … " الحديث وفي حديث ابن عباس في الصحيحين في قصة الذي وقصته ناقته اغسلوه بماء وسدر … " الحديث فالميت عين أمر الشارع بغسلها وذلك لقيام المانع فيها ثم اختلفوا في تحديده أيضاً فمنهم من قال المانع فيه هو النجاسة وهذا ليس بصحيح لدلالة الأدلة بطهارة بدن المؤمن حياً وميتاً ومنهم من قال المانع هو الحدث الذي أوجبه الموت وهذا الأقرب ومنهم من قال الأمر بالغسل تعبدي لا يعلم معناه .(1/153)
ومنها : المذي عين أمر الشارع بغسلها كما في حديث سهل بن حنيف عند أبي داود وغيره قال كنت أجد في المذي شدة وعناء وكنت أكثر الاغتسال منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم قال يكفيك فيه الوضوء قال فسألته عما يصيب ثوبي منه فقال إنما يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضحه عليه حتى ترى أنه قد أصاب منها فالمذي عين أمر الشارع بغسلها وذلك لقيام المانع فيها من حدث أو نجاسة ولا حدث هنا فيبقى مانع النجاسة فنقول إن المذي نجس لأنه أمر بغسله .
والخلاصة : أن الأشياء التي غسلها الشارع لا تخلو من حالتين إن أمر بغسلها قولاً فذلك دليل على قيام المانع فيها إما الحدث أو النجاسة أو تعبد وإن غسلها غسلاً مجرداً عن الأمر القولي فلا يستفاد منه نجاستها أو قيام الحدث بها وإنما يستفاد الأمر واستحباب غسلها والله يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم .
الضابط السادس عشر
لا حكم للنجاسة في الباطن إلا بدليل(1/154)
وهذا من مٌلَح الضوابط ، وأتيت به للإمتاع وإجمام النفس فأقول :- قد عرفنا سابقاً أن النجاسة عين مستقذرة شرعا ، وهذه العين المستقذرة شرعاً لا تخلو من حالتين ، أم أن تكون ظاهرة وإما أن تكون في الباطن ، والمراد بالباطن أي في الجوف كالبطن والأحشاء والعروق ونحوها ، فإذا كانت ظاهرة فتعطى حينئذ حكمها الشرعي وهو النجاسة ، أي نرتب عليها الأحكام الشرعية من وجوب غسلها وعدم صحة الصلاة بها وهكذا ، هذا إذا كانت ظاهرة ترى ، أما إذا كانت لا زالت في الباطن فإنه لا حكم لها ، بمعنى أنه لا يترتب عليها شيء من الأحكام الشرعية والدليل على ذلك قوله تعالى " وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها من بين فرث ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين " فاللبن التقى في الباطن مع الفرث والدم ومع هذه الملاقاة وصفه الله تعالى بقوله " لبناً سائغاً للشاربين " فهو طاهر بإجماع من بهيمة الأنعام ، مع وجود هذه الملاقاة في الباطن مما يدل على أن الملاقاة في الباطن لا حكم لها لأنه لا حكم للنجاسة في الباطن ، كذا استدل به بعض العلماء ، إلا أنه عندي يحتاج الاستدلال به على ما نحن فيه إلى النظر في الفرث والدم من بهيمة الأنعام هل هو نجس أم لا ؟ فأقول أما الفرث فإننا قد رجحنا سابقاً بأدلة طهارة روث المأكول ، وبهيمة الأنعام من ذلك فيكون روثها وفرثها طاهراً ، وأما الدم الجاري في العروق فهو النجس لأنه هو الدم المسفوح بعد خروجه فيكون اللبن والفرث قد التقيا مع الدم وهو نجس ومع ذلك حكمنا على اللبن والفرث بالطهارة مما يدل على إن هذا الدم لم يعط حكمه الشرعي لأنه لا زال في الباطن مما يدل على أنه لا حكم للنجاسة في الباطن ، لكن لو ذبحنا بهيمة الأنعام فخرج دمها لحكمنا عليه بالنجاسة لكن ما دام في الباطن فإنه لا حكم له لأنه لا حكم للنجاسة في الباطن .(1/155)
ومن الأدلة أيضاً : على ذلك الإجماع على صحة صلاة الحاقن والحاقب في الجملة ، فإن الحاقن والحاقب نعلم يقيناً وجود النجاسة في جوفهما ، أعني وجود البول والغائط ومع ذلك صحت الصلاة مع وجود النجاسة فهذا يدل على أن البول والغائط لا يعطى حكمه إلا بعد الخروج ، وأما إذا كان في الباطن فإنه لا حكم له ، إذ لو كان له حكم شرعي لما صحت الصلاة مع وجوده لأن من شروط الصحة إزالة النجاسة ، فإن قلت :- أوليس في حديث عائشة في الصحيح مرفوعاً " لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان " فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة مع مدافعة الأخبثين فكيف نقول أنه لا حكم لهما ؟ فأقول :- إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين ليس لأنه أعطاهما حكم النجاسة وإنما الحكمة من ذلك هي لتحصيل الخشوع ، فهذا الحديث لا يشير إلى ما نحن فيه لأننا لا نتكلم عن حكم الصلاة مع مدافعة الأخبثين وإنما نتكلم عن حكم الصلاة مع تحقق وجودهما سواء حصلت المدافعة أو لم تحصل ، فما حكمها ؟ الجواب هو الصحة ولا شك والسؤال هو :- لماذا صحت مع وجود النجاسة في أحشائه ؟ الجواب :- لأن هذه النجاسة لا زالت في الباطن ولا حكم للنجاسة في الباطن وهذا هو ما نريد تقريره ومن الأدلة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامه بنت أبنته وجوفها غالباً لا يخلو من نجاسة إلا أنها في الباطن فلما صلى بها مع كون جوفها ، والله يحفظنا وإياك وهو أعلم وأعلى .(1/156)
فإذا تقرر لك هذا الضابط فأعلم يرعاك الله – أن قولي فيه ( إلا بدليل ) قيد مهم فيه حتى لا يضطرب ، وإني سبرت الفروع المخرجة على هذا الضابط فوجدت أن تقيده بهذا القيد يجعله سليماً مطرداً ، وبيان هذا القيد أن يقال :- إن الأصل أن الشريعة لم تعط النجاسة حكماً ما دامت في الباطن كما قررنا سابقاً بالأدلة ، لكن هذا الكلام فيما إذا لم يرد دليل يثبت حكماً للنجاسة وإن كانت في الباطن فإنه يكون مخصوصاً من هذا الضابط ، وذلك كالميتة ، فإن الحيوان المأكول إذا مات حتف أنفه بعقرٍ أو نطح أو هدم أو خنق ونحوه ولم يخرج دمها فإنها تكون ميتة وحكمها أنها نجسة ، والمقتضى لتنجيسها هو احتقان الدم المسفوح فيها ، فهنا أعطيناه حكماً مع أنه لا زال في الباطن ، وذلك لدلالة الأدلة على نجاسة الميتة التي لها دم سائل والعلة في ذلك احتقان الدم فيها ، فإذا قيل لك :- كيف تقول :- لا حكم للنجاسة في الباطن وقد نجست الميتة بدمها الذي في باطنها فقل :- إن نجاسة الميتة بدمها المحتقن مخصوص من عموم الضابط .(1/157)
ومن ذلك أيضاً : من حدثه دائم وكان هذا الحدث نجاسة كرجل به سلس البول أو استطلاق بطن ، فإنه يعامل معاملة من حدثه دائم وقد تقدم الضابط في ذلك ، والإشكال هنا أن هذه النجاسة الخارجة ظهرت من الباطن فكان الواجب أن تعطيها حكمها ونرتب عليها آثارها لأن قولنا :- لا حكم للنجاسة في الباطن يفهم منه أن لها حكماً في الظاهر ، لكن هذا الشخص الذي نجاسته دائمة الخروج لا حكم لها في الظاهر بمعنى أن الشريعة لم ترتب عليها آثارها فهل هذا الفرع يخالف مفهوم الضابط ، فأقول :- نعم يخالفه لو لم نقل ( إلا بدليل ) لكن لما قلنا ( إلا بدليل ) استقام لنا الأمر فنقول :- إن الدليل الشرعي قد دَلَّ على أن هذه النجاسة الخارجة على وجه الاستمرار لا حكم لها ، فحيث دلت الأدلة على أنه لا حكم لها فتخرج عن مفهوم هذا الضابط بمقتضى الدليل فلا إشكال حينئذ ولله الحمد والمنة .(1/158)
ومن ذلك أيضاً : النجاسة التي عجز عن إزالتها ، فإنها نجاسة ظاهرة ومع ذلك فإنه لا حكم لها ، فهل هذا الفرع مخالف لمفهوم هذا الضابط ؟ الجواب :- نعم هو مخالف له لو لم نقل ( إلا بدليل ) لكن لما قلناه استقام لنا الضابط وبيان ذلك أن يقال :- إن هذه النجاسة التي عجز المكلف عن إزالتها قد رفعت الشريعة حكمها وذلك لأن القاعدة المتقررة في الشريعة أنه لا واجب مع العجز ، ولحديث أبي هريرة قال : قالت خولة : يا رسول الله فإن لم يذهب الدم قال يكفيك الماء ولا يضرك أثره " رواه أبو داود وسنده ضعيف وقال تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " وفي الحديث " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " متفق عليه من حديث أبي هريرة ، وبناءً على ذلك فإن هذه النجاسة التي عجز المكلف عن إزالتها أو إزالة أثرها هي من قبيل المعفو عنه شرعاً بمقتضى الدليل فلا إشكال في الضابط ولله الحمد والمنة . ونكون بهذا التقرير قد أتينا على مسائل هذا الضابط وإجابة الإشكالات الواردة عليه ، وخلاصته أن يقال :- ما دامت النجاسة في الباطن فإنه لا حكم لها إلا بدليل . وإذا خرجت ثبتت له أحكامها إلا بدليل والله أعلى وأعلم .
الضابط السابع عشر
موجبات الغسل توقيفية(1/159)
وقد عرفت سابقاً المراد بقولنا ( توقيفية ) أي أن مبناها على التوقيف فلا ينبغي إثبات شيء منها إلا إذا دل الدليل على ذلك ، فأثبت ما أثبته الدليل الصحيح الصريح ، فإن السلامة كل السلامة في ذلك ، وبيان ذلك :- أن الأصل المتقرر عندنا أن كل عبادة انعقدت بالدليل الشرعي فإنه لا يجوز إبطالها إلا بالدليل الشرعي ، إذ أنه لا يجوز حَلٌّ ما أبرم عقده بالدليل إلا بالدليل ، ولا دخل للأهواء ولا للمذاهب ولا لأقوال الرجال في ذلك ، وإنما المعتمد هو قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ، فما عَدَّه الشارع موجباً للغسل فهو الموجب ، وما لا فلا ، فدع عنك ما يدعيه البعض من أنه من موجبات الغسل فإذا نظرت إلى مستنده وجدته أوهى من خيط العنكبوت ، إما دليل ضعيف أو قياس باطل أو إجماع مخروم ، ناهيك عن الأحاديث الباطلة والكلام الساقط ، فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم والزم جادة الحق ، تنجو مع الناجين وإن جادة الحق في هذا الباب هو هذا الضابط وهو الموافق للدليل النقلي والعقلي ، فأما الدليل النقلي فإنه قد تقرر في النصوص أن الأصل في العبادات الحظر والتوقيف فلا يشرع منها غلا ما ثبت به الدليل الشرعي الصحيح من القرآن أو من السنة وهذا الأصل عام في تشريع أصل العبادة أو تشريع ما يبطلها فكما أننا لا نشرع من العبادات إلا بدليل كذلك لا يجوز لنا إبطال شيء منها قد انعقد بالدليل إلا بدليل فالتشريع الابتدائي توقيفي وإبطال شيء من التشريع توقيفي فكما أننا نطلب الدليل ممن شرع شيئاً وادعى أنه عبادة فكذلك أيضاً نطلب الدليل ممن ادعى أن هذا القول أو الفعل مبطل لهذه العبادة فإن جاء بالدليل قبلناه وإلا فالبقاء على الأصل الانعقادي هو المتعين ويكفيك في ذلك قول الله عز وجل وعلا " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " فالله جل وعلا أنكر على من اتخذ له أحداً يأخذ منه تشريعه بشيء لم يأذن به الله وما ذلك إلا لأن التشريع حق(1/160)
مخصص لله جل وعلا وهذا الكلام عام في التشريع الابتدائي وفي إبطالها مثبت بالدليل لأن اعتقاد المبطل نوع من الشرع وقال الله جل وعلا " إن الحكم إلا لله " والمراد بالحكم هنا الحكم الكوني القدري والحكم الشرعي . وهذا لم يخالف فيه أحد فيما أعلم إلا أن الخلاف وقع في التفريع عليه فقط وقد شرحنا هذه القاعدة بأدلتها في تلقيح الأفهام وأما الدليل العقلي فإن الله لما خلق العقل خلقه بحدود وطاقات يكون التفكير سليماً إذا كان في حدود ما خلق الله له أما إذا أقحم فيما هو خارج عن حدوده وطاقاته فإنه يضل ويضطرب إذا فهمت هذا فأعلم أن أمور التشريع والتعبد على وجه التفصيل خارجة عن حدود العقل وطاقاته فالعقول لا تستقل بإدراك الشرع على وجه التفصيل وهذا الكلام عام في تشريع أصل العبادة وفي تشريع ما يبطلها فكما أن العقل لا حق له في تشريع أصل العبادة فكذلك لا دخل له في تشريع شيء يبطل العبادة . فهذا الباب " أعني باب العبادات " كله مبناه على التوقيف الدليل الشرعي الصحيح وأعني بكلمة كله ثلاثة أمور .
الأول :- تشريع أصل العبادة مبناه على التوقيف .
ثانياً : تشريع صفة العبادة مبناه على التوقيف .
ثالثاً : تشريع شرط العبادة مبناه على التوقيف وكذلك تشريع ما يبطل العبادة مبناه على التوقيف إذا علمت هذا فأقول إن الشريعة أوجبت علينا الغسل في حالات هذه الحالات محصورة بالدليل الشرعي الصحيح فمن زعم أن فعلاً من الأفعال أو شيئاً خارج من البدن يوجب الغسل فإننا نطالبه بالدليل لأن موجبات الغسل توقيفية فإن جاء بالدليل المثبت لدعواه قبلناه وإلا فلا .
وزيادة في الإيضاح نضرب لك فروعاً على ما نص عليه بعض الفقهاء من أنه موجب للغسل ونخرجه على هذا الضابط فنقول :(1/161)
من الفروع : نص الأئمة الحنابلة على أن الغسل يجب بانتقال المني ومجانبته لمكانه ولو لم يخرج فنقول لهم إنه قد تقرر أن موجبات الغسل توقيفية على الدليل الصحيح فأين الدليل الدال على ما ذكرتموه قالوا لنا عندنا دليل لغوي وهو أن المني إذا جانب مكانه فإنه يصدق على الإنسان أنه جنب لمجانبة المني مكانه " كذا قالوا " فنقول لهم بئس المستند ويا ليتهم ما قالوه لأن مجرد مجانبة المني لمكانه ليست بموجبة للغسل إذا لم يخرج المني ، ذلك لآن الشريعة علقت الغسل برؤية الماء كما في الصحيحين من حديث أم سليم هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت قال نعم إذا هي رأت الماء فعلق وجوب الغسل برؤية الماء ولم يعلقه بمجرد الانتقال وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد عند مسلم إنما الماء من الماء فالماء الأول المقصود به ماء الغسل والماء الثاني فهو ماء المني فعلق النبي صلى الله عليه وسلم وجوب ماء الغسل برؤية ماء المني ومعناه أنه لا يجب الغسل إلا برؤية المني ، فنلخص من هذه الأدلة أنه لا يجب الغسل بمجرد الانتقال ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ولأن موجبات الغسل توقيفية على الدليل الصحيح الصريح فحيث لا دليل يدل على ذلك فالأصل هو البقاء على نفي الإيجاب حتى يرد الناقل ، ورحم الله الأصحاب رحمة واسعة وعفا عنهم وجمعنا بهم في الجنة ، فهم الأصول ونحن فروعهم ولا شك في فضلهم وعلمهم وتقدمهم إلا أن الحق أحب إلينا من أقوال الرجال والله أعلى وأعلم .(1/162)
ومن الفروع أيضاً :- لو ادعت المرأة أن بها جنياً يجامعها فهل عليها الاغتسال أو لا ؟ فأقول :- قد كنت أظن أن هذه المسألة من فروض المسائل الفقهية إلا أنه ثبت عندي أنها من المسائل الواقعة – نسأل الله السلامة والعافية – وعلى كل حال ، فلو وقعت هذه المسألة للبعض فإليك حكمها فأقول :- إن الأصل أن موجبات الغسل توقيفية على الدليل كما تقرر عندنا في هذا الضابط ، وقد دلت الأدلة الصحيحة الصريحة أن الغسل يجب بالإحتلام لحديث " هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال " نعم إذا رأت الماء " متفق عليه ، وحديث " إنما الماء من الماء " وحديث عائشة قالت " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل فقال " لا غسل عليه " وهذا الحديث رجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمر العمري وفيه مقال معروف ، ودل الدليل أيضاً أن من موجبات الغسل خروج المني دفقاً بلذة للأحاديث السابقة ولحديث علي :- سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال " في المذي الوضوء وفي المني الغسل " أخرجه أحمد وأصحاب السنة وصححه الترمذي ، وقال الترمذي :- وهو قول عامة أهل العلم ، وحكاه الطبري إجماع المسلمين ، وكذلك دل الدليل الصحيح على وجوب الغسل بالإيلاج ولو لم يحصل إنزال وذلك لحديث أبي هريرة مرفوعاً " إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل " متفق عليه وزاد مسلم " وإن لم ينزل " وفي حديث عائشة مرفوعاً " إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل " رواه مسلم ، فجماع الجني بالآدمية إن تصورناه فلا يخلو إن حصل منه إنزال فيجب الغسل عليها للإنزال لدلالة الأدلة على وجوب الغسل بالإنزال وإن حصل منها احتلام فيجب الغسل عليها أيضاً لدلالة الأدلة على وجوب الغسل بالاحتلام إذا رأت الماء وأما إذا لم يحص منها إنزال ولا احتلام فإنه لا يجب عليها غسل وذلك لعدم تحقق الإيلاج الموجب له فلا تترك الطهارة المتيقنة بأمر مشكوك فيه وسد باب الوساوس(1/163)
المفضية إلى ما لا تحمد عقباه قال في المبدع : إذا ادعت أن بها جنياً يجامعها فلا غسل عليها لعدم الإيلاج والاحتلام . والله أعلم .
ومن الفروع : ما الحكم إذا خرج المني من غير محله كمن انكسر صلبه فخرج منه فهل يجب عليه الغسل فأقول قد تقرر في الضابط أن موجبات الغسل توقيفية وقد دل الدليل الصحيح أن من موجبات إنزال المني إلا أن هذا الإنزال مقيد بأمرين الأول أن يكون دفقاً بلذة لقوله صلى الله عليه وسلم إذا فضخت الماء فاغتسل وإن لم تكن فاضخاً فلا تغتسل رواه أحمد وفي لفظ لأبي داود إذا فضخت المني فاغتسل والفضخ هو خروجه بالغلبة والشرط الثاني أن يكون من مخرجه وهو الذكر فإن خرج من غير مخرجه فهل يجب فيه الغسل أو لا الجواب قال الزركشي لا نزاع فيما نعلمه أن الغسل لا يجب بخروج المني من غير مخرجه قلت ولأن الأحكام المترتبة شرعاً على خروجه معلقة بالخروج المعتاد وهو خروج المني من مخرجه والله أعلم.
ومن الفروع :- ما الحكم لو اغتسل الإنسان ثم خرج بعد غسله مني فهل يجب عليه غسل آخر في ذلك خلاف والصواب أنه لا يجب به غسل إلا إذا خرج على وجه الشهوة وذلك لأن خروج المني بلا شهوة لا يوجب الغسل ولأن المني الثاني بقية من المني الأول وسئل بن عباس عن الجنب يخرج منه الشيء بعد الغسل قال : يتوضأ ويروى ذلك عن علي رضي الله تعالى عنهم والله أعلم .(1/164)
ومن الفروع :- زعم البعض أن خروج المذي موجب للغسل وهذا خطأ وذلك لآن موجبات الغسل توقيفية إلا بالدليل الصحيح ولم يأت دليل يفيد أن خروج المذي موجب للغسل بل ورد الدليل الصريح الصحيح في أنه غير موجب للغسل وذلك في حديث علي في الصحيحين " كنت رجلاً مذاءً فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألة فقال : فيه الوضوء ولو كان الغسل واجباً لأمره به ولأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حديث سهل بن حنيف قال : كنت كثير المذي وكنت أكثر الاغتسال منه حتى تشقق بدني فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه الوضوء وذكر الإمام النووي إجماع العلماء على أن المذي والودي لا يجب الغسل بخروجهما فإذا صح ذلك الإجماع فلا عبرة بخلاف من خالف والمقصود أنه لم يأت دليل يدل على أن من موجبات الغسل خروج المذي فحيث لا دليل فالبقاء على الأصل هو المتعين والله أعلم .
ومن الفروع :- هل يجب الغسل من إغماء الجواب مذهب الأصحاب أنه لا يجب إلا مع احتلام وإلا فيستحب الغسل فقط وهذا هو الصحيح والدليل على الاستحباب ما في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الإغماء وهو حكاية فعل وحكاية الأفعال يستفاد منها الاستحباب ما لم يقترن بأمر قولي وأما إذا خرج في حال إغمائه مني فيجب عليه الغسل لهذا الخارج . وحكى الإمام ابن المنذر إجماع العلماء على أن الإغماء لا يوجب الغسل قلت ولأن موجبات الغسل توقيفية على الدليل الصحيح الصريح ولم يأت دليل يوجب الغسل من مجرد الإغماء والله أعلم .
ومنها :- اختلف العلماء في غسل الكافر إذا أسلم هل يجب عليه أو لا ؟(1/165)
فالمشهور من المذاهب أنه يجب عليه الغسل واستدلوا بحديثين الأول حيث قيس بن عاصم عندما أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر رواه أبو داود والنسائي وهو حديث حسن ووجه الاستشهاد أن الأمر يفيد الوجوب ، وقرن الماء بالسدر ليس بصارف لآن دلالة الاقتران ضعيفة . والحديث الثاني حديث أبي هريرة في قصة ثمامة بن أثال عندما أسلم قال : فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل رواه عبد الرازق وأصله في الصحيحين والأمر يفيد الوجوب فهذه الأدلة تدل على أن من موجبات الغسل الإسلام وهو القول الصحيح إن شاء الله تعالى .
فإن قلت أليس موجبات الغسل توقيفية فأقول نعم هي توقيفية على الدليل وقد جاء الدليل المفيد أن من جملة موجباته إسلام الكافر والله أعلم .
ومنها :- ما الحكم إذا وقع الإنسان على بهيمة فهل يجب عليه الغسل أو لا ؟ فأقول فيه خلاف بين العلماء والمشهور من المذهب أنه يجب عليه الغسل وذلك لأنه إيلاج في فرج أصلي فأشبه الإيلاج في فرج الآدمية وهذا هو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الغسل لا يجب إلا بالإنزال وذلك لآن فرج البهيمة ليس بمحل الإيلاج الآدمي وكما أننا لا نقيم عليه حد الزنا بالإيلاج في فرجها كذلك لا نرتب عليه الغسل ولأن موجبات الغسل توقيفية فلا يجب منها إلا ما دل عليه الدليل الصحيح الصريح ولم يأت دليل يفيد على أن من وقع على البهيمة يجب عليه الغسل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس بين شعبها الأربع والمراد شعب الآدمية ولأن هذا هو المعهود الشرعي فننزل الأدلة عليه وإني لهذا القول أميل له من القول الأول وإن اغتسل خروجاً من الخلاف فهو مستحب ونزيد ذلك إيضاحاً في حديث عائشة مرفوعاً إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل فقرن الحكم بالفاء بعد وصف وهو مس الختان الختان والمراد الإيلاج والبهيمة لا ختان لها والله أعلم .(1/166)
ولعلك بهذه الفروع قد تبين لك جلياً ما أردت إثباته في هذا الضابط وخلاصته أن الأصل عدم موجبات الغسل فمن ادعى في فعل أنه موجب للغسل فقد خالف الأصل ومن خالف الأصل فعليه الدليل والله يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم .
الضابط الثامن عشر
المستحاضة تعمل بعادتها وإلا فبتمييزها الصالح وإلا فبغالب الحيض
أقول :- هذا الضابط هو فصل الخطاب في باب الاستحاضة وبيانه أن يقال :-المستحاضة :- هي من أطبق بها الدم والاستحاضة سيلان الدم في غير وقته من العرق العاذل من أدنى الرحم ، وهي نوع مرض ، فما الحكم إذا كانت المرأة مستحاضة فكم تجلس وعلى أي شيء تعتمد وكيف تميز بين الأيام التي تترك الصيام والصلاة فيها وبين غيرها ، وهل يحرم على زوجها غشيانها أم لا ؟ هذه الأسئلة هي ما يجيب عنها الضابط فأقول وبالله التوفيق :- إن المستحاضة عندنا لا تخلو من حالتين :- إما أن تكون معتادة ، وإما أن تكون مبتدأة ، والمراد بالمعتادة أي التي كانت تحيض قبل إطباق الدم بها والمراد بالمبتدأة أي التي رأت الدم ولم تكن حاضت ، أي أطبق عليها دم الاستحاضة ولم تكن قد حاضت من قبل فأما الأولى وهي – المعتادة – فإنها إذا أطبق بها الدم فإنها تعتمد على ثلاثة أشياء ترتيبية .(1/167)
الأول :- العادة المتقررة عندها قبل نزول دم الاستحاضة عليها ، فإن كان لها عادة معروفة قبل الاستحاضة من كل شهر فإنها تعتمد هذه العادة ، فتجلس عن الصوم والصلاة ولا يغشاها زوجها في أيام العادة هذه فإذا انقضت أيامها دخلت في حكم الطاهرات ، والعادة هي أقوى ما نرجع المرأة لها ، والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم الدم فقال لها :- " أمكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي ، فكانت تغتسل عند كل صلاة " رواه مسلم ، ولأحمد والنسائي " فلتنظر قدر قروئها التي كانت تحيض فلتترك الصلاة ثم لتنظر ما بعد ذلك فلتغتسل عند كل صلاة وتصلي " ووجه الدلالة منه :- أنه صلى الله عليه وسلم رد أم حبيبة لما أطبق بها الدم إلى ما تقرر من أيام عادتها قبل ذلك ، وهو المراد بقوله " أمكثي ما كانت تحبسك حيضتك " .
ومن الأدلة على ذلك أيضاً : حديث عائشة الآخر قال قالت فاطمة بنت حبيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم :- " إني امرأة استحاض فلا أطهر افأدع الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :- " إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب فاغسلي عنك الدم وصلي " متفق عليه ، وللبخاري :- " ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي " ووجه الشاهد منه أنه أرجع فاطمة بنت أبي حبيش إلى ما تقرر سابقاً من أيام عادتها مما يدل على أن المرأة المستحاضة إذا كان لها عادة متقرر قبل الاستحاضة أنها تعمل بها .
ومن الأدلة أيضاً : حديث أم سلمة أنها استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة تهراق الدم فقال " لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر فتدع الصلاة ثم لتغتسل ولتستثفر ثم تصلي " رواه الخمسة إلا الترمذي وقال النووي : إسناده على شرطهما وهو واضح في المقصود .(1/168)
... ومن الأدلة أيضاً : حديث القاسم عن زينب بنت جحش أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم أنها مستحاضة فقال " تجلس أيام أقرائها وتؤخر الظهر وتعجل العصر " الحديث رواه النسائي ورجاله ثقات فقد ارجعها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أيام عادتها المتقررة قبل إطباق الدم بها ومن هذه الأحاديث يتضح جلياً أن المستحاضة إن كان لها عادة متقررة قبل إطباق الدم بها أنها تعتمد هذه الأيام فمثلاً لو أن امرأة عادتها من كل شهر ستة أيام من أول الشهر وجلست على ذلك زماناً ثم أصيبت بمرض الاستحاضة واطبق بها الدم فنقول لها : أمكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك في نفس الوقت الذي كنت تحيضين فيه فتجلس ستة أيام من أول كل شهر هذا إذا كانت المرأة المستحاضة لها عادة متقررة قبل إطباق الدم بها وهذا هو المراد بقولنا في الضابط " المستحاضة تعمل بعادتها " وأما إذا كانت هذه المرأة ليس لها عادة متقررة في الماضي أو كان لها عادة لكن نسيتها ثم أطبق بها دم الاستحاضة ففي هذه الحالة نرجعها إلى التمييز بين دم الحيض ودم الاستحاضة فنقول لها : إن الله تعالى خلق دم الحيض على صفات تميزه عن دم الاستحاضة فإذا رأيت صفاته فأنتِ حائض وإذا اختفت فأنتِ مستحاضة فإن قالت لنا : وما صفاته حتى أكون منها على علم ؟ قلنا لها ثلاث صفات علمناها بالدليل والحس : الأولى : أنه دم أسود أو يميل جداً إلى السواد وأما دم الاستحاضة فهو دم أحمر كسائر دماء العروق .
الثاني : أنه دم ثخين لا يجري غالباً ولا يخرج متصلاً سائلاً بخلاف دم الاستحاضة فإنه دم رقيق سيال لأنه دم عرق .(1/169)
الثالث : أنه دم ذو رائحة منتنة رائحته لا تطاق بخلاف دم الاستحاضة فإنه دم لا رائحة له فهذه الفروق الثلاثة بين الدمين ينبغي العمل بها إذا لم يكن ثمة عادة سابقة متقررة فنقول للمرأة المستحاضة التي لا عادة لها : إذا رأيتِ الدم الأسود الثخين ذا الرائحة المنتنة فهو حيضك فاتركي الصلاة والصوم ولا يغشاك زوجك ، وإذا رأيت الآخر بصفاته فهو استحاضة فاغتسلي وصلي وصومي ، والدليل على ذلك حديث عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " إن دم الحيض دم أسود يعرف فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضيء وصلي فإنما هو عرق " رواه أبو داود والنسائي فهنا قد ردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمل بالتمييز بين صفات دم الحيض ودم الاستحاضة ، مما يدل على اعتباره إلا أنه في مرحلة ثانية بعد العمل بالعادة فكأنه كالبدل لها ، فلا يعمل به إلا إذا تعذر الأصل فإذا تعذر الأصل فإنه يصار إلى البدل ، وإذا لم يكن للمستحاضة المعتادة عادة سابقة وليس دمها بمتميز فحينئذ ترجع إلى الحالة الثالثة وهي أن نرجعها إلى غالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام وتحدده من الشهر بعادات قريباتها كأمها وأختها فتقول لها إجلسي من الشهر ستة أيام أو سبعة أيام في وقتٍ يغلب على الظن نزول الحيض فيه بالاجتهاد في حال الدم وعادة أقاربها من النساء فيما يغلب على ظنها أنه أقرب إلى عادتها وعادة نسائها ، والدليل على اعتبار ذلك حديث حمنة بنت جحش قالت : - كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش قالت فقلت يا رسول الله إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها ، قد منعتني الصلاة والصيام فقال " أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم قالت هو أكثر من ذلك قال فاتخذي ثوباً قالت : هو أكثر من ذلك قال فتلجمي قالت : - إنما أثج ثجاً فقال :- سآمرك بأمرين(1/170)
أيهما فعلت فقد أجزأ عنك ، فإن قويت عليهما فأنت أعلم ، فقال لها :- إنما هذه ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقيت فصلي أربعاً وعشرين ليلة أو ثلاثاً وعشرين ليلة وأيامها ، وصومي فإن ذلك مجزيك وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيضن النساء وكما يطه رن لميقات حيضهن وطهرهن " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه فهنا قد ردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى غالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام تجلسها من كل شهر ، فإن قيل :- هل تجلسها من أول الشهر أو من وسطه أو آخره ؟ أقول :- تنظر إلى عادة قريباتها كأمها وأختها أو خالتها وعمتها فإذا اتفقت عادتهن في وقت من الشهر فهي تبع لهن ، وإلا فتنظر إلى الغالب فإن اتفقت عادة أمها وأختها في وقت من الشهر عملت به وهكذا ، وإن لم يكن لها قريبات فحينئذ تجلس أول كل شهرٍ هلالي فتجلس من أوله ستة أيام أو سبعة أيام فهذه الحالات الثلاث هي حالات المستحاضة وخلاصتها أن نقول :- إذا كان لها عادة عملت بها ، وإن لم يكن لها عادة وكان لها تمييز عملت به فإن لم يكن لها عادة ولا تمييز عملت بغالب الحيض ، فهذا بالنسبة للمستحاضة المعتادة ، وأما المبتدأة فإنها بالطبع لا عادة لها مستقرة قبل إطباق دم الاستحاضة بها لأنها لم تكن قبل حائضاً ، فلا يتصور إرجاعها إلى عادتها الآن لأنه لا عادة لها ، فحيث تعذر الأصل فنصير إلى البدل وهو إرجاعها إلى التمييز إن كان معها متميزاً وإن لم يكن دمها متميزاً فنرجعها إلى غالب الحيض كما مضى تفصيله في المستحاضة المعتادة ، وهذا هو ما يفيده الضابط وهو القول الصحيح الموافق للأدلة الشرعية ولروح الشريعة ومقاصدها من إرادة رفع الحرج عن المكلفين وإرادة التخفيف عليهم ، ودعك مما يقوله بعض الفقهاء فإنه من الآصار والأغلال التي وضعت عنا في شريعتنا ، فإن من نظر في باب الحيض عند بعض المتفقهة المذهبيين وجد العجب(1/171)
العجاب ، حتى قال بعضهم إن باب الحيض من أعسر الأبواب الفقهية ، وما ذلك إلا لإقحام المسائل التي لا حطام لها ولا زمام فضلاً عن المسائل المخالفة للأدلة ، ورحم الله الإمام أحمد لما قال :- الحيض يدور على ثلاثة أحاديث :- حديث فاطمة وأم حبيبة وحمنة ومراده رحمه الله تعالى أن حديث أم حبيبة أصل في العمل بالعادة المتقررة ، وحديث فاطمة أصل في العمل بالتمييز وحديث حمنة أصل في العمل بغالب الحيض ، فهذا هو غالب باب الحيض وهو ما قررناه لك في هذا الضابط والله ربنا أعلى وأعلم .
الضابط التاسع عشر
الصفرة والكدرة في زمن المحيض حيض
ويدل على ذلك حديث أم عطية رضي الله عنها قالت : - كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً " رواه البخاري وأبو داود واللفظ له ، فهذا الحديث له منطوق ومفهوم ، فأما مفهومه فهو نص هذا الضابط وهو أن ما تراه المرأة من الصفرة والكدرة في زمن الحيض فإنه حيض يأخذ أحكام دم الحيض لأنه بقية له ، وهذا استدلال بمفهوم المخالفة وقد تقرر في الأصول أنه حجة فثبت بالدليل أنه لا حكم للكدرة والصفرة بعد الطهر ومفهومه أنهما وقت الحيض حيض ، وما يقال في الحيض يقال في النفاس أيضاً ، فمن كانت عادتها المتقررة مثلاً ستة أيام ثم رأت الطهر في اليوم الرابع ثم رأت في اليوم الخامس صفرةً أو كدرةً فهي حيض لأنها في زمن العادة المتقررة لكن لو أنه حاضت ستة أيام ثم رأت الطهر وفي اليوم الثامن رأت صفرةً أو كدرةً فنقول :- لا حكم لهذه الصفرة والكدرة لأنها بعد الطهر ، وكذلك النفساء إذا رأت الطهر قبل الأربعين فهي نفاس لأن الصفرة والكدرة بعد النفاس لا تعد شيئاً وهكذا هذا هو مذهب الأصحاب والحنفية والمالكية والشافعية وإسحاق والأوزاعي بل قال ابن رشد الحفيد :- لا خلاف أن الصفرة والكدرة حيض ما لم تر ذلك عقيب طهرها .(1/172)
ومن الأدلة على هذا الضابط أيضاً : قوله تعالى " ويسألونك عن المحيض قل هو أذىَ فاعتزلوا النساء في المحيض " أي في زمنه والصفرة والكدرة في المحيض من المحيض فهي أذىً فيجب اعتزال النساء عند رؤيتهما في وقت المحيض بنص الآية ومن الأدلة أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر " إنما هو عرق أو قال عروق " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وحسنه المنذري وهو نص في هذا الضابط ، فيدل بمنطوقه أن ما تراه المرأة بعد الطهر مما يريبها من الصفرة والكدرة لا حكم له إنما هو عرق أو عروق ، ويدل بمفهومه أن ما تراه المرأة قبل انقضاء أيام حيضها أنه معتبر .
... ومن الأدلة أيضاً على ذلك : أن النساء كن يبعثن إلى عائشة رضي الله عنها بالدرجة فيها الصفرة والكدرة فتقول :- لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء " يعني الطهر والدرجة قطنة تدخلها المرأة في فرجها ثم تخرجها لتنظر هل بقي شيء من أثر الحيض أم لا ؟ والشاهد منه أن عائشة رضي الله عنها حكمت على هذه الصفرة والكدرة بأنها حيض وأمرت النساء أن لا يعجلن باستحلال ما حرم عليهن بالحيض حتى يرين الطهر ، فاعتبرت الصفرة والكدرة في زمن العادة وقبل الطهر من الحيض ، وقال الإمام البغوي :- وهذا هو قول أكثر الفقهاء قلت :- وهو الذي لا ينبغي القول بغيره وهو اختيار شيخ الإسلام أبي العباس رحمه الله تعالى بل حكى بعضهم الإجماع على ذلك هذا ما تحرر عندي في شرح هذا الضابط ، وبقي عندنا مسألتان :-
الأولى :- ما معنى الصفرة والكدرة ؟ أقول :- الصفرة شيء كالصديد يعلوه صفرة تعرفه النساء ، والكدرة كلون الماء الوسخ وليسا كلون الدم ، وتعرف المرأة ذلك إذا أدخلت قطنة بيضاء نظيفة ثم مسحت بها فرجها فإنها تجد أن لون القطنة تغير من البياض إلى الاصفرار والكدر كلون الماء العكر تماماً فهذا هو المراد بالصفرة والكدرة والله أعلم .(1/173)
الثانية :- قول أم عطية " كنا " له حكم الرفع على القول الراجح عند فحول الأصول وأئمة الحديث فيكون تقريراً من النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد شرحنا في قواعد الأصول إن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم حجة على الجواز ، وبه يتم شرح هذا الضابط المفيد في باب الحيض وهو يزيل كثيراً من الإشكالات التي تعرض للمرأة في زمن حيضها والله أعلى وأعلم .
الضابط العشرون
كل دم يحمل صفات الحيض فهو حيض
أقول :- وهذا الضابط يسره الله تعالى بعد النظر في مسائل باب الحيض فرأيته من أجمع ضوابط هذا الباب ويحل إشكالات كثيرة يوردها بعض الفقهاء في هذا الباب فأقول :- عرف العلماء الحيض لغة بأنه السيلان ، وشرعاً :- دم طبيعة وجبلة ترخية الرحم في أوقات معلومة ، وهو شيء كتبه الله تعالى على بنات بني أدم كما في الحديث وذكر الإمام النووي رحمه الله تعالى أنه عام في جميع بنات بني أدم ، خلقه الله تعالى لحكمة تغذية الولد وتربيته هذا هو الحيض عند الفقهاء ، وقد تقدم لنا أن الله تعالى ميزه عن دم الاستحاضة بثلاث صفات :- أنه دم أسود وثخين ومنتن ، إذا علمت هذا فاعلم أن ما تراه المرأة من الدماء التي تخرج من فرجها تحمل صفات دم الحيض المتقررة شرعاً فإنه حيض تثبت له سائر أحكام الحيض التي سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى ، ولا يفرد هذا الدم عن أحكام الشريعة بحجة أنه ليس بحيض فكل هذه التعاليل عليلة لا دليل عليها إنما المعتبر وجود الدم الذي يحمل صفات الحيض ، فإذا رأت المرأة دماً أسود ثخيناً رائحته منتنة فهو الحيض فعليها أن تترك الصلاة والصيام ولا يغشاها زوجها ولا تدخل المسجد ولا تمس المصحف ، هذا هو الراجح المؤيد بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والاعتبار الصحيح وهو اختيار أبي العباس شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى ، والذي يدل على ذلك عدة أمور :-(1/174)
منها :- قوله تعالى " ويسألونك عن المحيض قل هو أذيً فاعتزلوا النساء في المحيض " فقرن الله تعالى الحكم وهو الاعتزال بالفاء عقب وصف وقد تقرر في الأصول أن قرن الحكم بالفاء بعد وصف مشعر بعلتيه فيستفاد من هذا أن الاعتزال علته وجود الأذى وأن الله تعالى وصف الحيض بأنه أذى فصار علة الاعتزال وجود الحيض الموجب الأذى ، فعلق الاعتزال بوجود مسمى الحيض لا بشيء آخر مما يدل على أن وجود الحيض بصفاته المعروفة شرعاً وصف كافٍ لوجوب الاعتزال من غير اعتبار شيء آخر ، فمن زاد لوجوب الاعتزال شرطاً آخر فقد زاد على القرآن شيئاً لا دليل عليه ، فإنك ترى بعض الفقهاء تسأله المرأة عن ما تراه من الدم يحمل صفات الحيض فيقول :- هذا ليس بحيض ولا يأخذ أحكام الحيض لأنك جاوزت الخمسين أو لأنك حامل أو لأنك لم تبلغي تسع سنين ، وكل هذه أعذار باردة لا دليل عليها ، وسيأتي الجواب عن الاستدلال لها في قيد الفروع إن شاء الله تعالى فالصواب حينئذ هو إعمال هذا الضابط وهو ما دلت عليه الآية وهو أن كل ما تراه المرأة من الدم يحمل صفات دم الحيض فهو حيض يأخذ الأحكام الشرعية المترتبة عليه من غير اعتبار آخر إلا بدليل يصلح لفصل هذا الدم عن حكمه والله أعلم .(1/175)
ومن الأدلة أيضاً :- حديث عائشة في سؤال فاطمة بنت حبيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قال لها :- " فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة " فعلق النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة بالفاء بعد وصف وهذا التركيب مشعر بالعلية فتكون علة ترك الصلاة هو إقبال الحيضة بصفاتها المعروفة شرعاً وحساً ، فدل ذلك على أن ما تراه المرأة من الدم مما يصلح أن يكون حيضاً فهو دليل على إقبال الحيضة وإذا أقبلت الحيضة وجب ترك الصلاة فمن علق ترك الصلاة بشرطٍ زائد على إقبال الحيضة فعليه الدليل ، ومن أجاز الصلاة مع إقبال الحيضة فقد خالف منطوق الدليل ، وكلاهما لا يجوز والمخرج من ذلك هو الوقوف عند ما نطق به النص وهو إن إقبال الحيض بصفاته المعروفة شرعاً وحساً كافٍ لترك الصلاة والحيضة يراد بها خروج الدم بصفاته المعلومة والله أعلم .
ومن الأدلة أيضاً :- حديث القاسم عن زينب وتقدم فيه " تجلس أيام أقرائها " والمراد بأيام أقرائها أي أيام حيضها التي يخرج فيها دم الحيض بصفاته المعلومة والمراد بالجلوس أي عن الصلاة والصيام فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الجلوس بأيام الأقراء أي أيام خروج الدم ، فمن رأت دماً يصلح أن يكون حيضاً فهذه هي أيام أقرائها فتجلس فيها عن الصلاة والصوم فمن زعم أنها لا تجلس مع خروج الدم الصالح أن يكون حيضاً فقد خالف النص الشرعي وهو لا يحل فدل ذلك على أن ما تراه المرأة من الدم يصلح أن يكون حيضاً أنه حيض يأخذ أحكامه من غير اعتبار شيء آخر والله أعلم .(1/176)
ومن الأدلة أيضاً :- حديث عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش وتقدم وفيه " إذا كان دم الحيضة فإنه أسود يعرف فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة " وهذا من أصرح الأدلة وبيانه :- أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الإمساك عن الصلاة بوجود الدم الأسود فيجب عليها الإمساك عن الصلاة ، فدل ذلك على أن ما تراه المرأة من الدم حاملاً لصفات دم الحيض فهو حيض يأخذ أحكامه فلا حول ولا قوة إلا بالله كيف يخالف هذا النص بدعوى الاحتياط للعبادة ، فهذا كلام أحرص الخلق على هذه الأمة يقول إذا رأت الدم الأسود تركت الصلاة وهؤلاء يقولون بل لا تتركه لأنها كذا وكذا ولأنه الأحوط للعبادة ونقول لهم :- إن الاحتياط في العبادة هو اتباع ما جاء عن الحبيب صلى الله عليه وسلم فهو أنصح الخلق للخلق عزيز عليه ما يوجب لنا العنت حريص علينا بالمؤمنين رؤوف رحيم ، فكلامه أحب إلينا من كلام غيره والله المستعان .
ومن الأدلة أيضاً :- ما رواه مالك في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها قالت في الحامل ترى الدم - إنها تدع الصلاة " ولم ينكر ذلك عليها ، ولأنه دم بصفات دم الحيض وفي زمن إمكانه ، فما المانع أن يكون حيضاً ، لآن الوجود من أكبر الدلائل على الإمكان ، ولآن هذا الدم الذي تراه المرأة متردد بين أن يكون دم فسادٍ خرج لعلةٍ أو دم طبيعة وجبلة والأصل عدم العلة فوجب حمله على الآخر ، وهو أنه دم حيض وبالجملة فإني لم أجد دليلاً إلى ساعي هذه يصلح لفصل ما تراه المرأة من الدم الصالح أن يكون حيضاً عن أحكامه الشرعية المتقررة بالأدلة ، فحيث لا دليل فالأصل هو البقاء على الأصل وهو أن ما تراه المرأة من الدم الذي يحمل صفات الحيض فإنه حيض تثبت له أحكامه الشرعية وهذا هو ما توصلت إليه في هذه المسألة والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وإليك بعض الفروع الفقهية ليتضح لك الضابط تفريعاً كما اتضح لك تنظيراً واستدلالاً فأقول :-(1/177)
منها :- اختلف العلماء في المرأة إذا رأت الدم قبل بلوغ التسع فهل هو حيض تثبت له أحكام الحيض أم لا ؟ فذهب الأئمة الأصحاب في المشهور عنهم أنه لا حيض قبل تسع سنين فما رأته المرأة من الدماء قبل ذلك السن فهو دم فساد لا يمنعها الصيام ولا الصلاة ولا قراءة القرآن ولا دخول المسجد واستدلوا على ذلك بعدم ثبوته في الوجود ، أي لم يعرف في الوجود امرأة حاضت قبل ذلك السن ولأن الحيض خلق لتغذية الولد وتربيته وهذه لا تصلح للحمل فلا توجد فيها حكمته ، كذا قالوا ، وفي المذهب رواية أخرى وهي أنه لا حد لأقل سن تحيض فيه المرأة فما رأته المرأة مما يصلح أن يكون حيضاً فهو حيض تجب به أحكام الحيض ، واختار هذا القول أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى ، فالمرجع في ثبوت الحيض لوجود الدم الصالح أي الذي يحمل صفات الحيض المعروفة شرعاً وحساً فأي قدر وجد وفي أي حال وسن كان وجب جعله حيضاً وهذا القول هو الراجح ولا شك لدلالة الأدلة على تعليق الأحكام الشرعية بوجود ما يصلح أن يكون حيضاً وقد تقدم ذكرها وعملاً بهذا الضابط من أن كل دم تراه المرأة يصلح أن يكون حيضاً فهو حيض تثبت له أحكام الحيض ، وما سوى هذا القول فهو خطأ والله أعلم .(1/178)
ومن الفروع أيضاً :- متى ينقطع سن الحيض ويحصل الإياس منه ؟ فيه خلاف بين أهل الفضل والعلم رحمهم الله تعالى رحمة واسعة فالمشهور من المذهب أنه لا حيض بعد الخمسين فإذا بلغت المرأة خمسين سنة دخلت في سن الإياس وخرجت من حد الحيض فما رأته بعد ذلك فهي دماء فساد وإن كانت تحمل صفات الحيض ويستدلون على ذلك بقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها :- إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض ، فمتى بلغت المرأة خمسين ورأت دماً فإنه ليس بحيض فلا تترك من أجله الصلاة والصيام ، وعن الإمام أحمد رواية ثانية وهي أنه لا حد لأكثره كما أنه لا حد لأقله وإنما المرجع فيه الوجود فمتى رأت المرأة وما يحمل صفات دم الحيض في زمن عادتها فهو حيض تثبت به أحكام الحيض ولو كان بعد الخمسين وهو مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام أبو العباس بن تيميه رحمه الله تعالى وصححه صاحب الكافي وصوبه المرداوي في الإنصاف وهو الراجح إن شاء الله تعالى وذلك لقوله تعالى " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم " ولا تسمى المرأة آيسة حتى ينقطع دمها فلا ينزل عليها ما كان ينزل عليها قبل الإياس ، أما ولا زال دمها ينزل منها فليست بآيسة ، ولأن الأدلة السابقة المذكورة في أصل الضابط علقت الأحكام على وجود الدم الصالح أن يكون حيضاً وهذه المرأة ترى ذلك فتثبت لها الأحكام ولو رأته بعد خمسين سنة ، لأن كل دم يحمل صفات الحيض فهو حيض وأما قول عائشة رضي الله عنها فما أدري ما حال إسناده وإن سلمنا صحته فالمراد به الغالب لا أنه حكم قطعي في كل امرأة والله أعلى وأعلم .(1/179)
ومن الفروع أيضاً :- المسألة التي طال حولها الجدل وهي :- هل الحامل تحيض أم لا ؟ أقول :- فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى فالمشهور من المذهب أنها لا تحيض ، قال الإمام أحمد :- إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدم يعني فالحمل علامة على عدم الحيض ، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في سبايا أوطاس " لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض " رواه أحمد وأبو داود ، فجعل الحمل علامة على انقطاع الحيض ، والحيض علامة على غير ذات الحمل مما يدل على أن الحامل لا تحيض ، ولأن الحيض من أقوى العلامات على براءة الرحم من الحمل ولذلك جعلت عدة الحامل وضع الحمل فلو كانت تحيض لاضطربت العدة فلا ندري أتعتد بالحيض أم بوضع الحمل ؟ ولأن الحيض لا يخرج من الحامل لأنه يصرف لتغذية الجنين وهذا هو أصل الحكمة من خلقه فكيف يتغذى الجنين إذا قلنا إن أن الحامل تحيض ، وعن الإمام أحمد رواية أخرى وهي أن الحامل تحيض وفاقاً لمالك والشافعي واختاره الإمام شيخ الإسلام بن تيمية وصاحب الفائق ، وقال في الفروع :- وهو أظهر وصوبه في الإنصاف وقال :- وقد وجد في زماننا وغيره أنها تحيض مقدار حيضها قبل ذلك ويتكرر في كل شهر على صفة حيضها وقال الحافظ بن حجر :- هو دم بصفات دم الحيض وفي زمان إمكانه فله حكم دم الحيض فمن ادعى خلافه فعليه البيان وفي الموطأ عن عائشة قالت :- في المرأة الحامل ترى الدم قالت :- إنها تدع الصلاة ولم ينكر ، قال الإمام مالك :- وذلك الأمر عندنا ولأنه دم لا يمنعه الرضاع فلا يمنعه الحمل ، وفي الحقيقة :- إن القول بأنها لا تحيض قوي جداً لأن الغالب في الحوامل أنها لا تحيض ، إلا أننا نقول :- إن رأت المرأة الحامل دماً يحمل صفات الحيض في زمن إمكانه أنه حيض يثبت له أحكام الحيض وذلك لدخولها في عموم الأدلة القاضية بأن الحائض تترك الصوم والصلاة ، فالشريعة علقت هذه(1/180)
الأحكام على وجود الدم الصالح لأن يكون حيضاً والحامل رأت ما يصلح أن يكون حيضاً فما المانع من جعله حيضاً ، إذا كان في وقته وعلى صفته وإن كان مصرفه غذاء الولد فقد يبقى بعده بقية فتخرج وعلى كل حالٍ فالغالب أن الحامل لا تحيض لكن قد يحصل ذلك فإن حصل فهي حائض تطبق عليها أحكام الحائض لأن كل دم يحمل صفات الحيض فهو حيض والله تعالى أعلى وأعلم .
ومن الفروع أيضاً :- حكم الأصحاب في المبتدأة فإنهم رحمهم الله تعالى زادوا في المسألة أشياء لا دليل عليها من باب الاحتياط ويا ليتهم ما فعلوا ، بل إن فهمها يحتاج إلى زمن من أهل العلم أنفسهم ولذلك لو سألت طلاب العلم عن حكم الحنابلة في المبتدأة فقد لا يعرفه مع أنه قرأه وشرح له لكن لعسرة لا يفهم إلا من فحول العلماء ، فكيف يلزم به النساء الذين يغلب عليهم طابع الجهل ، وعلى كلٍ فما قاله الأصحاب في المبتداة لا وجه له ولا دليل عليه فإنهم قالوا :- المبتداة إذا نزل بها الدم فإنها تجلس عن الصوم والصلاة أقل الحيض يوماً وليلة ، ثم تغتسل بعد ذلك لأنه آخر حيضها حكماً ، وتصلي وتصوم ولو كان الدم ينزل فإنه لا حكم له لكن لا توطأ لأن الظاهر أنه حيض – فيا سبحان الله أنظر كيف التناقض – ثم قالوا :- فإذا انقطع الدم لخمسة أيام أو ستة أيام أو سبعة أو أقل أو اكثر ما لم يكثر ويعبر أكثر الحيض فتغتسل عند انقطاعه اغتسالاً آخر فهذا يكون في الشهر الأول ثم تفعل في الشهر الثاني كذلك وكذلك تفعله في الشهر الثالث فإن توافق نزول الدم عليها وانقطاعه في زمن واحد من الثلاثة أشهر فهو حيضها وزمن عادتها فتجلسه في الشهر الرابع ، لكن لو سألتهم :- ما الحكم لو كان الصوم الذي صامته في زمن حيضها الذي أوجبتم عليها الصيام فيه صياماً واجباً كرمضان ، فإنهم يقولون :- عليها أن تقضي الصوم الواجب لأننا علمنا أنها صامته في زمن لا يجوز الصيام فيه ، هذا هو تفصيل المذهب في المبتدأة وأقول :- لا حول ولا قوة(1/181)
إلا بالله العلي العظيم إننا في الحقيقة في هذا الحكم الجائر الذي ينافي روح الشريعة قد وقعنا في عدة محاذير :-
الأول : أننا لم نجعل لهذا الدم الخارج منها حكماً شرعياً مع أن الأدلة علقت الأحكام بخروجه كما مضى في الأدلة ، وقلنا أنه دم فساد لا حكم له ، وقد تقرر بالأدلة أن كل دم يحمل صفات الحيض فهو حيض تثبت له أحكام الحيض .
الثاني : أننا أوجبنا عليها الاغتسال بعد اليوم والليلة مع أن الدم لا زال يخرج وهذا إيجاب باطل لا دليل عليه فالزمناها بشيء لم يلزمها به ربها ولا نبيها صلى الله عليه وسلم ، بل وخالفنا بذلك الأدلة ، فإن الأدلة دلت على أن الغسل إنما يجب بانقطاع الدم فكيف نقول يجب عليها الغسل والدم يخرج .
الثالث :- أننا أوجبنا عليها الصوم والصلاة وهي لا تزال في حد الحيض ، فخالفنا بذلك إجماع المسلمين من أن الحائض لا تصوم ولا تصلي ، بل نحن قررنا في أول باب الحيض أن الحائض لا يصح منها الصوم ولا الصلاة فكيف نقول بعد ذلك للمبتدأة صومي وصلي ولو كان الدم يخرج لأنك لست بحائضٍ حكماً وانظر إلى قولهم :- حكماً وذلك لأن هذه المرأة حساً وحقيقة وواقعاً حائض لكن رفعوا عنها حكم الحيض فصارت في حكم الطاهرات .
الرابع : أننا حرمنا عليها الوطء لأنها حائض حقيقة وأوجبنا عليها الصوم والصلاة لأنها ليست بحائض حكماً ، ولم يبق علينا إلا أن نحكم عليها أنها بقرة حكماً وشاةً حقيقة ومجنونة واقعاً وهلم جرا ، فانظر كيف يصنع التساهل في إثبات الأحكام بأهله عافانا الله وإياك .
الخامس :- أنهم لم يعتبروا العادة مستقرة إلا بتكرارها ثلاث مرات ، على تفصيلهم السابق في كل شهر تفعل ذلك ، وإني أشفق كل الشفقة على هذه المسكينة التي وقعت ضحية في شباك هذا الحكم الجائر .(1/182)
... السادس :- أنه أوجبوا عليها قضاء الأيام التي أوجبوا صيامها أصلاً ، وعلى كل حال ، فقول الأصحاب خطأ واضح ومخالف للدليل بل هو قول باطل وذلك لأن الله تعالى قد بين لنا ما تتقيه فكيف يقال إن الشريعة فيها شك ولأن الله تعالى لم يوجب عليها الصلاة مرتين إلا بتفريط ولأن الشريعة علقت الأحكام على خروج الدم الصالح أن يكون حيضاً ولذلك فالصواب الذي لا شك فيه والموافق للأدلة أن المرأة المبتدأة إذا رأت الدم الذي يصلح أن يكون حيضاً فهو حيض تثبت فيه أحكام الحيض فإذا انقطع ورأت الطهر ارتفعت أحكامه وهكذا وذلك لأن كل دم يحمل صفات الحيض فهو حيض ، فعليك بهذا الضابط فإن الحق يسير سمح سهل التطبيق والله يتولانا وإياك . وهو أعلم .
ومن الفروع أيضاً :- المستحاضة التي لا عادة لها فإننا قلنا سابقاً إنها تعمل بالتمييز الصالح فإذا رأت دماً يحمل صفات الحيض فهو حيضها وإذا زالت أوصافه وأعقبه صفات دم الاستحاضة فهي مستحاضة ، والمقصود ان هذه المرأة تعتمد على ما تراه من الدم يحمل صفات دم الحيض فتعلم أنه حيض تثبت له أحكام الحيض والله ربنا أعلم .(1/183)
ومن الفروع :- مسألة التلفيق وهي من المسائل الجديدة وصورتها أن ترى المرأة يوماً دماً ويوماً نقاءً ويتكرر ذلك عليها فالمذهب يقول :- إن الدم حيض إذا بلغ مجموع ما تراه أقل الحيض وهو يوم وليلة ولم يعبر مجموعة أكثره وهو خمسة عشر يوماً ، وهذا فيه نظر بل الصواب إن شاء الله تعالى أن المعتبر هو وجود الدم الذي يحمل صفات دم الحيض فإذا رأته في لحظة أو ساعة أو نصف يومٍ أو يوم أو أقل أو أكثر فهو حيض تترتب عليه أحكامه وإذا انقطع ورأت النقاء فهو طهر تصوم فيه وتصلي وإذا عاودها الدم بصفات دم الحيض فهو حيض وإذا رأت النقاء فهو طهر وهكذا فالمعتبر في حق هذه المرأة هو وجود الدم الذي يحمل صفات دم الحيض ، فما رأته من ذلك فهو حيضها وما رأته من النقاء فهو طهرها ، وهذا هو الأيسر الموافق للأدلة والله اعلم .(1/184)
ومن الفروع أيضاً :- خلافهم في أقل الحيض وأكثره ، فإنهم قد اختلفوا في ذلك على أقوال فأما الحنابلة فقد تقدم تفصيل مذهبهم فأن أقل الحيض عندهم يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً وكذلك قال الشافعية فيما أظن والعهد به بعيد ، وأما الحنفية فإن أقل الحيض عندهم ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام ، ويعنون بذلك أن ما تراه المرأة من الدماء أقل من يوم وليلة عند الحنابلة أو أقل من ثلاثة أيام عند الحنفية أنه لا يحكم عليه إذا جاوز الدم خمسة عشر يوماً عند الحنابلة أو عشرة أيام عند الحنفية فإن ما نراه على ذلك يكون دم فساد لا حكم له ، وهذه الأقوال ليست بشيء إذ لا دليل عليها ، فالراجح إن شاء الله تعالى أنه لا تحديد لا لأقل الحيض ولا لأكثره وإنما المعتبر الوجود فما تراه المرأة من الدم ويحمل صفات الحيض فهو حيض سواءً أقل من يومٍ وليلة أو أكثر من خمسة عشر ليلة ، وعلى ذلك تدل الأدلة واختاره أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وهذا هو خلاصة ما أردت إثباته في هذا الضابط ولعله قد اتضح إن شاء الله تعالى وخلاصته :- أن المعتبر هو وجود الدم الذي يحمل صفات الحيض ، فكل دم يحمل صفات الحيض فهو حيض ، والله ربي أعلى وأعلم ، وهذا جهد المقصر المفتقر في جميع أحواله لتوفيق ربه جل وعلا والله يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم .
الضابط الحادي والعشرون
مشروعات الأذان والإقامة إيجاباً أو استحباباً توقيفية(1/185)
أقول :- إعلم أرشدك الله لطاعته ووفقك لسلوك سبيل مرضاته أن الأذان والإقامة من جملة العبادات وقد عرفت سابقاً أن الأصل في العبادات الحظر والتوقيف ، فلا يشرع منها إلا ما أثبته الدليل الصحيح الصريح ، وأن الأصل في شروط العبادات أيضاً الحظر والتوقيف فلا يشترط فيها إلا ما دل الدليل الصحيح الصريح وأن الأصل في مبطلاتها الحظر والتوقيف فلا يبطلها إلا ما دل عليه الدليل الصريح الصحيح ، فصار باب العبادات جميعه مبناه على الحظر والتوقيف ، وأعني بكلمة ( جميعه ) أي أصلاً وصفةً ومكاناً وشرطاً ومبطلاً فكل ذلك لا يثبت إلا بدليل لأن الأصل عدمه فمن ادعاه فعليه الدليل إذا علمت هذا وفهمته فهماً جلياً فاعلم أن الأذان والإقامة من جملة العبادات التي تكلم العلماء في أصل إثباتها وشرطها وصفاتها وواجباتها ومستحباتها ومبطلاتها ، وقبل أن نذكر ذلك كله بأدلته ، لابد أن نعمل نحن وإياك هذه الأصول المتقدمة فنقول :- من أوجب شيئاً في الأذان والإقامة فعليه الدليل ، ومن استحب شيئاً فيهما فعليه الدليل ، ومن ادعى في قول أو فعل أنه يبطلهما فعليه الدليل ، لأن الأصل عدم هذه الأشياء ، ومن ادعى خلاف الأصل فعليه الدليل ، وهذا هو المراد بذلك الضابط الذي أريد تقريره هنا فقولي ( مشروعات ) بينته بقولي ( إيجاباً أو استحباباً ) ومعنى ذلك أن الأشياء التي تجب في الأذان والإقامة وتستحب فيهما مبناها على الحظر والتوقيف حتى يرد الدليل الصحيح الصريح وذلك لأنهما من جملة العبادات ومبني العبادات أصلاً وصفةً وشرطاً على الدليل الشرعي ، فمن زعم أن هذا القول أو هذا المعنى من جملة ما يشرع في الآذان إيجاباً أو استحباباً فعليه الدليل ، لأن الأصل عدمه ومن خالف الأصل فعليه الدليل ، إذا علمت فإليك بعض الأشياء التي ثبت الدليل الشرعي الصحيح أنها من جملة مشروعات الأذان إيجاباً أو استحباباً ثم نتبعها بالأشياء التي يذكرها بعض الفقهاء ويزعم أنها من(1/186)
المستحبات أو الواجبات وليس عليها دليل شرعي ، حتى ترى أهمية هذا الضابط وما يحويه من المسائل والفروع فأقول :-
من ذلك :- ألفاظ الأذان والإقامة فإن الأصل فيه ما رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما بسند صحيح من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال " لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب بالناقوس وهو له كاره لموافقته للنصارى طاف بي وأنا نائم رجل عليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس يحمله فقلت له :- يا عبد الله أتبيع الناقوس ؟ قال وما تصنع به ؟ قال قلت ندعوا به إلى الصلاة قال :- أفلا أدلك على خير من ذلك ؟ فقلت :- بلى ، فقال :- تقول الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر ، الله أكبر لا إله إلا الله قال :- ثم استأخر غير بعيد وقال :- ثم نقول إذا قمت للصلاة :- الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله " قال فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :- إن هذه لرؤيا حق إن شاء الله تعالى " ثم أمر بالتأذين قال ابن خزيمة في صحيحه :- هذا حديث صحيح ثابت من جهة النظر ، قلت :- فهذا الحديث العظيم فيه بيان ألفاظ الأذان والإقامة فمن ادعى شيئاً زائداً على ذلك فعليه الدليل ويدل لذلك أيضاً حديث عمر رضي الله عنه عند الإمام مسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال(1/187)
أشهد أن محمداً رسول الله قال أشهد أن محمداً رسول الله ثم قال حي على الصلاة قال :- لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله – من قلبه – دخل الجنة " فهذا أيضاً فيه بيان ألفاظ الأذان فمن ادعى شيئاً زائداً على ذلك فعليه الدليل ، وذلك لأن مشروعات الأذان والإقامة توقيفية ومن ذلك الألفاظ التي يحصل بها الأذان والإقامة فإن الشارع قد بينها بياناً شافياً كافياً ، وفي الصحيحين من حديث أنس مرفوعاً " أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة " زاد مسلم " إلا الإقامة " يعنى إلا قد قامت الصلاة فإنه يشفعها كما ثبت ذلك في حديث عبد الله بن زيد المتقدم فإن قلت :- كيف تقول إن هذه الألفاظ المذكورة في حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه وحديث عمر رضي الله عنهما هي فقط ألفاظ الأذان والإقامة المشروعة ومن زاد غيرها فعليه الدليل فماذا تقول في حديث أبي محذورة الذي رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الأذان " الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله ثم يعود فيقول :- أشهد أن لا إله إلا الله مرتين ، أشهد أن محمداً رسول الله مرتين ، حي على الصلاة مرتين ، حي على الفلاح مرتين ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله " ورواه الخمسة فذكروا التكبير مربعاً والزيادة من الثقة مقبولة ، فأنت ترى أن أذان أبي محذورة فيه زيادة ألفاظ على أذان عمر وعبد الله بن زيد فما تقول فيها ؟ وكذلك ماذا تقول في زيادة ( الصلاة خير من النوم مرتين ) في أذان الفجر فإنها لم ترد في أذان عبد الله بن زيد ولا في أذان عمر ، فأقول وبالله التوفيق :- لا نقول فيهما إلا خيراً " فأنعم بهما وأكرم فأما الزيادة الواردة في أذان أبي محذورة التي يسميها العلماء الترجيع فإنها ثبتت بالدليل الصحيح الصريح فحقها الاعتماد والقبول وهي عندنا صفة ثانية(1/188)
للأذان فيكون الأذان شرع بصفتين .
الأولى :- أذان بلال وهو الأذان في حديث عمر وعبد الله بن زيد بن عبد ربه .
... الثانية :- أذان أبي محذورة وهو المثبت في حديث أبي محذورة السابق وكلاهما حق وصدق فيكون الأذان بهما في أوقات مختلفة هو المشروع لأن العبادات الواردة على وجوه متنوعة تفعل على جميع وجوهها في أوقات مختلفة وقد ذكرنا ذلك في تلقيح الأفهام فالزيادة في حديث أبي محذورة ثبتت بالدليل وما ثبت بالدليل فإنه يجب قبوله واعتماده ، وأما زيادة ( الصلاة خير من النوم ) مرتين في أذان الفجر فأنعم فإنها حق وصدق في سندها ومعناها أما من ناحية سندها فقد روى أبو داود والنسائي وابن حيان وغيرهما قول عبد الله ابن زيد أن الرجل الذي رآه في الرؤيا قال له : ( فإذا كان آذان الفجر فقل : الصلاة خير من النوم مرتين . رواه الإمام أحمد وصححه ابن خزيمة في صحيحه وأخرج الأمام الترمذي من حديث بلال بلفظ : لا تثيوب في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر . قال الترمذي : وهو الذي اختاره أهل العلم . وصح عن أنس رضي الله عنه أنه قال : من السنة أن يقول في أذان الصبح : الصلاة خير من النوم وقد تقرر في الأصول أن الصحابي إذا قال من السنة كذا فله حكم الرفع . وروى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال : فجاء بلال ( فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة إلى الفجر فقيل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم فصرخ بلال بأعلى صوته : الصلاة خير من النوم قال سعيد ابن المسبب " فأدخلت هذه الكلمة في التأذين لصلاة الفجر " وقد عمل به المسلمون خلفاً عن سلف من غير نكير . فبهذه الأدلة يتبين جلياً أن هذه اللفظة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها من جملة ألفاظ الأذان في صلاة الفجر فتكون زيادتها بالدليل الصحيح الصريح والله أعلم .(1/189)
ومنها : الالتفات في الحيعلة يميناً وشمالاً ، فإنه من السنة للمؤذن فإن قلت : وما دليلك على ذلك ؟ قلت : لك الحق في المطالبة بالدليل لأن مشروعات الأذان إيجاباً أو استحباباً توقيفية ، فلا يثبت منها إلا ما أثبته الدليل الصحيح الصريح ودليلنا على ما ذكرناه حديث أبي جحيفة قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح وهو في قبة حمراء من أدم قال فخرج بلال بوضوئه فمن ناضح له ونائل قال فخرج النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه قال : فتوضأ وأذن بلال قال فجعلت أتتبع فاه هنا وهنا يقول يميناً وشمالاً حي على الصلاة حي على الفلاح الحديث " ولأبي داود " لوى عنقه يميناً وشمالاً حي على الصلاة حي على الفلاح ولم يستدر " فهذا فيه دليل على أن الالتفات يميناً وشمالاً في الحيلعة من السنة فإن قلت : لماذا لم تجعله من الواجبات قلت : لأنه حكاية فعل وإقرار وحكاية الأفعال لا ترتقي إلى الوجوب وإنما تفيد الاستحباب وحكاية الإقرار إنما تفيد الجواز والله أعلم .
ومنها : جعل الأصبعين في الأذنين هو أيضاً من جملة السنن والدليل على ذلك حديث أبي جحيفة السابق وفيه فجعلت أتتبع فاه هنا وهنا وأصبعاه في أذنيه " وصححه الترمذي وروى أبو داود وابن حيان من طريق أبي سلام الدمشقي أن عبد الله الهوزني حدثه قال قلت لبلال كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه قال بلال فجعلت أصبعي في أذني فأذنت " ولابن ماجه والحاكم من حديث سعد القرظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يجعل إصبعيه في أذنيه وفي إسناده ضعف قال العلماء : في ذلك فائدتان : إحداهما أن يكون ذلك أرفع لصوته الثانية أن ذلك علامة على المؤذن ليعرف من يراه عن بعد أو من يكون به صمم أن يؤذن ، قال الإمام الترمذي : استحب أهل العلم أن يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الأذان ولا أعلم في ذلك خلافاً والله أعلم .(1/190)
ومنها : أن يكون متطهراً وهذا قد وقع عليه الإجماع وقد تقرر في القواعد أن الإجماع حجة شرعية فلا داعي للإطالة في ذكره والله أعلم . إلا أن الذي أنبه عليه هنا هو أن الطهارة للأذان من الحدثين مستحبة وليست بواجبة وذلك لعدم الدليل على وجوبها والأصل عدم الوجوب وأما حديث أبي هريرة مرفوعاً " ولا يؤذن إلا متوضيء " فهو حديث ضعيف مرفوعاً والصحيح أنه موقوف ، ومن ادعى بطلان العبادة بقول أو فعل فعليه الدليل ، فالصواب أن الطهارة من الحدثين مستحبة لا واجبة ، قال في الإنصاف :- ولا تجب الطهارة الصغرى له بلا نزاع لكن وقع الخلاف في صحة أذان الجنب والصواب الصحة لعدم الدليل المبطل ولأن العبادة المنعقدة بالدليل الشرعي لا تبطل إلا بالدليل الشرعي والله أعلم .
ومنها :- الترديد وراء المؤذن وهو من جملة السنن في الأذان والدليل على ذلك حديث أبي سعيد في الصحيحين مرفوعاً " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن " وهذا عام في كل ما يقوله إلا في الحيعلتين فورد الدليل الصحيح بتخصيصهما وقد تقرر في القواعد أن الخاص مقدم على العام وذلك كما في حديث عمر عند مسلم وقد تقدم فيه أنه أجاب المؤذن كلمة كلمة سوى الحيعلتين فيقول " لا حول ولا قوة إلا بالله " وهل يشرع الترديد خلف المقيم ؟ وهل يشرع للمؤذن أن يجيب نفسه أيضاً كلاهما سيأتيان إن شاء الله تعالى والله أعلم .
ومنها : قول من سمع المؤذن إذا فرغ من أذانه " اللهم صل على محمد وعلى أله وصحبه وسلم اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمد الوسيلة والفضيلة وأبعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد " فإن هذا من السنة أما الصلاة فلحديث عبد الله بن عمر بن العاص عند مسلم وأما دعاء الوسيلة فلحديث جابر عند مسلم والأربعة والله أعلم .(1/191)
ومنها : استقبال القبلة في الأذان هو من جملة السنن وذلك لأن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة وقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من السنة أن يستقبل القبلة بالأذان فإن أخل كرة وصح " وحيث وقع الإجماع فلا كلام والله أعلم . فهذه بعض المشروعات في الأذان والإقامة وليس ذلك من باب الحصر وإنما من باب ضرب المثال إذا تبين لك هذا فإليك بعض الأشياء من الأقوال والأفعال التي جعلها بعض الفقهاء من جملة مشروعات الأذان ونرى كيف الجواب عنها فأقول : من ذلك : التثويب في غير صلاة الفجر أي قول الصلاة خير من النوم في غير أذان الفجر فإن بعض العلماء استحبه ولكن لا دليل عليه فإن ذلك القول إنما دلت الأدلة على قوله في أذان الصبح والأصل في مشروعات الأذان التوقيف فحيث لا دليل يدل على قولها في غير الفجر فالأصل عدم شرعيتها فيكون قولها بدعة لأنه إحداث في الدين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق عليه والله أعلم .
ومنها : - زيادة بعض المبتدعة قول " حي على خير العمل " كما قالت به العترة والرافضة واستدلوا على ذلك بروايات لا أصل لها والتي لها أصل فليست بصحيحة بل هي من الضعف الذي لا ينجبر فحيث لا يصح في ذلك شيء فنقول لهم أن خير العمل هو ما أخلصت فيه النية وتوبع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما خالف هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فليس هو من خير العمل بل هو من باطل العمل فهذه اللفظة في الأذان بدعة لعدم الدليل الصحيح فيها ولأن ألفاظ الأذان توقيفية فلا يشرع منها إلا ما دل عليه الدليل الصحيح الصريح والله أعلم .(1/192)
ومنها :- ما يقال في بعض الدول قبل الأذان من قوله تعالى " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً إلى قوله كبره تكبيراً " ثم يشرع في الأذان أو يقول قبله " اللهم صل على محمد وعلى آله محمد أو يتلفظ بالنية ويقول " اللهم إني نويت أن أؤذن للظهر الحاضرة ويقول ذلك " وبعضهم يكثر من التسبيح وبعضهم يرفع صوته بالنشيد والدعاء إلى غير ذلك من البدع المحدثة التي لا أصل لها في هذه الشريعة ولم يفعلها أحد من العلماء المعتبرين بل هي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها ولأن مشروعات الأذان إيجاباً واستحباباً توقيفية على الدليل وكل ذلك لم يأت به الدليل فهو بدعة وضلالة وخروج عن الصراط المستقيم والله أعلم .(1/193)
ومنها : - الترديد خلف المقيم هل يشرع أم لا ؟ أقول : هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى فقال بعضهم : يشرع الترديد خلف المقيم وذلك لأنها أذان بدليل قوله صلى الله عليه وسلم " بين كل أذانين صلاة " فسماها النبي صلى الله عليه وسلم أذاناً ولما رواه أبو داود من حديث أبي أمامه أن النبي صلى الله عليه وسلم ردد وراء المقيم كلمة كلمة حتى بلغ " قد قامت الصلاة " فقال " أقامها الله وأدامها " وذهب بعضهم إلى أن الترداد خلف المقيم لا أصل له في السنة وذلك لأن مشروعات الأذان والإقامة إيجاباً واستحباباً توقيفية ، فأين الدليل الدال على استحباب ذلك ، فأما ما رواه أبو داود فإنه حديث ضعيف لا تقوم بمثله الحجة وذلك لأن فيه راوٍ مجهول وفي سنده شهرين حوشب وفيه مقال ، وفيه انقطاع أيضاً بين شهرين حوشب وابن أبي أوفى قال النووي : وكيف كان فهو حديث ضعيف متقطع قلت : وقد تقرر في الأصول أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة وأما استندلالهم بحديث " بين كل أذانين صلاة " والإقامة أذان فتدخل في عموم قوله " إذا سمعتم المؤذن " فما أدري كيف وجه الاستدلال به فإننا وإياهم نتفق على أن الإقامة لا يشرع فيها كل ما يشرع في الأذان من وضع الإصبعين في الأذنين والالتفات في الحيعلة يميناً وشمالاً والترسل وكل هذه الأشياء مشروعة في الأذان دون الإقامة فكيف نجعلها أذاناً في سنية الترديد فقط دون سائر ما يشرع فيه وأيضاً : إن الإقامة أذان بالمعنى اللغوي لأنها إعلام والأذان إعلام فاتفقت الإقامة والأذان بأن كل منهما أذان بالمعنى اللغوي فأطلق عليهم " الأذائان " من باب التغليب لا من باب الاشتراك في سائر الأحكام كالقمرين والعمرين والأبوين وهكذا ويقال أيضاً : إن بلالاً كان يقيم في المسجد أو خارجه عندما يرى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة متوافرون في المسجد يرونه صلى الله عليه وسلم كل يومٍ خمس مرات ولم يثبت عن(1/194)
أحد منهم نقل صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يردد خلف المقيم فلو كان ذلك من هديه الراتب لذاع وانتشر ولنقل إلينا لكن لم يحصل شيئ من ذلك وأما حديث " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن " فهذا ليس بعام في جميع ما يقوله المؤذن وإنما هو عام في ألفاظ الأذان فقط وذلك لبيان النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمر السابق عند مسلم وعلى كل حال فالراجح إن شاء الله تعالى أن الترديد خلف المقيم ليس في السنة بل السنة تركه لأنه فعل توفر سببه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فالمشروع تركه ومن قال بأنه سنة فليأت ببرهان إن كان من الصادقين وإلا فالأصل في العبادات الحظر والتوقيف والله ربنا أعلم وأعلى .(1/195)
ومنها : - قول بعض الناس عند قول المؤذن في أذان الفجر (الصلاة خير من النوم) صدقت وبررت فهل هذا من السنة ؟ أقول :- لا ليس من السنة وذلك لأن مشروعات الأذان إيجاباً واستحباباً توقيفية على الدليل ولا دليل يدل على مشروعية ذلك وإنما يقوله من يقوله استحساناً ، والاستحسان ليس بدليل تثبت به الأحكام الشرعية فإن قلت : - قولهم ( صدقت وبررت ) أليس حقاً في نفسه ؟ قلت :- بلى هو حق في أصله لكن قد تقرر في القواعد أن شرعية الشيء بأصله لا تستلزم شرعيته بوصفه ، فنحن لا نناقش في صحة هذه الكلمة من حيث دلالتها وإنما نناقش اعتقاد شرعيتها عند قول المؤذن الصلاة خير من النوم فأين الدليل الذي يقيدها بذلك ؟ فحيث لا دليل فالأصل عدم شرعيتها لأن مشروعات الأذان إيجاباً واستحباباً توقيفية ، فإن قلت : فماذا نقول إذاً ؟ أقول : قل مثل ما يقول المؤذن لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن " والله أعلم ولعل الضابط بهذه الفروع قد اتضحت معالمه وبانت مراسمه إن شاء الله تعالى وخلاصته : أن من ادعى شرعية قول أو فعل في الأذان والإقامة فعليه الدليل لأن مشروعات الأذان والإقامة إيجاباً أو استحباباً توقيفية والله ربنا أعلى وأعلم .
الضابط الثاني والعشرون
الوقت أكد شرائط الصلاة فلا تصح قبله ولا بعده إلا من عذر(1/196)
إعلم رحمك الله تعالى أن الصلاة عندنا قسمان ، فرض ونفل ، والفرض قسمان :- فرض واجب بأصل الشرع وفرض وجب بالنذر ، والكلام هنا على الفرض الواجب بأصل الشرع فأقول وبالله التوفيق ، الفروض الواجبة بأصل الشرع خمسة بالإجماع ، وهي الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طلحة بن عبيد الله " خمس صلوات في اليوم والليلة " متفق عليه ، وفي السنن من حديث عبادة ، خمس صلوات كتبهن الله على العباد " وهذا مما وقع عليه الإجماع ولله الحمد والمنة ، وهذه الفرائض الخمسة جعل الله لها أوقات معلومة لا يصح إيقاعها قبلها إجماعاً ولا بعدها إلا من عذر على القول الصحيح كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، قال تعالى " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً " فكل فريضة من هذه الفرائض الخمس لها وقت مخصوص ، وإليك الأدلة على هذه المواقيت بداية ونهايةً ثم نعقبها ببعض المسائل المتعلقة بها فأقول وبالله التوفيق :-(1/197)
من الأدلة : عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل عليه السلام فقال له قم فصله ، فصلى الظهر حين زالت الشمس ، ثم جاءه العصر فقال قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله ثم جاءه المغرب فقال قم فصله فصلى المغرب حين وجبت الشمس ثم جاءه العشاء فقال قم فصله فصلى العشاء حين غاب الشفق ثم جاءه الفجر فقال قم فصله فصلى الفجر حين برق الفجر أو قال سطع الفجر " قلت :- فهذا الحديث إلى هنا فيه بيان بداية المواقيت الخمس ، ثم شرع في بيان آخرها فقال جابر " ثم جاءه الغد للظهر فقال قم فصله فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله ، ثم جاءه العصر فقال قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثلين ثم جاءه المغرب وقتاً واحداً لم يزل عنه ، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل أو ثلث الليل فصلى العشاء ثم جاءه حين أسفر جداً ، فقال قم فصله فصلى الفجر ثم قال " ما بين هذين الوقتين وقت " رواه أحمد والنسائي والترمذي ، وقال الإمام البخاري :- هو أصح شيء في المواقيت ، فهذا الحديث يدل على أن الصلاة لها أوقات مخصوصة لا تجزئ قبلها بالإجماع ، وفيه تفصيل هذه المواقيت وبيانها بياناً شافياً .(1/198)
ومن الأدلة أيضاً :- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس ما لم يحضر العصر ، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ، ووقت المغرب ما لم يغب الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل الأول ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس " رواه مسلم . وعن جابر عند الشيخين مرفوعاً " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت والعشاء أحياناً وأحياناً إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطئوا أخر والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس " فحديث عبد الله بن عمرو السابق في تحديد آخر الأوقات للصلوات المفروضة وحديث جابر هذا في تحديد أوائلها ، فإذا جمعتهما تبين لك أول الوقت وآخره ، فهما كحديث جبريل لكن مع اختلاف يسير سيأتي تحقيقه إن كان في العمر بقية ، ومن الأدلة الجامعة لتحديد المواقيت أيضاً حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وأتاه سائل يسأله عن المواقيت فلم يرد عليه شيئاً وأمر بلالاً فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس والقائل يقول قد انتصف النهار أولم ، وكان أعلم منهم ، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق قلت :- فهذا تحيدا البداية – ثم قال أبو موسى " ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول قد طلعت الشمس أو كادت ، وأخر الظهر حتى كان قريباً من وقت العصر بالأمس ثم أخر العصر فانصرف منها والقائل يقول :- قد أحمرت الشمس ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق وأخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول " قلت :- فهذا تحديد النهاية ، " ثم أصبح فدعا السائل فقال " الوقت ما بين هذين " رواه مسلم فهذه الأحاديث هي الأصول في تحديد المواقيت وفيها مسائل :-(1/199)
المسألة الأولى :- تبين مما سبق أن وقت الظهر من زوال الشمس إلى مصير ظل كل شيء مثله ، ووقت العصر من ذلك إلى اصفرار الشمس أو إلى مصير ظل كل شيء مثلين ، ووقت المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق ووقت العشاء من ذلك إلى نصف الليل الأول أو إلى ثلث الليل الأول ، ووقت الفجر من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس ، هذا هو ما دلت عليه هذه الأحاديث والله أعلم .
المسألة الثانية :- أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على أن من أوقع الصلاة قبل وقتها أنها لا تجزئه وذلك لأنه لا يجوز تقديم العبادة على سبب وجوبها ، وأجمعوا أيضاً على أن من فاتته لعذر فقضاها أنها تصح منه لحديث أنس في الصحيحين مرفوعاً " من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ، ثم اختلفوا فيمن تركها متعمداً حتى خرج وقتها الاختياري والاضطراري فهل يسوغ له قضاؤها أم لا ؟ على قولين :- فقيل نعم يسوغ له قضاؤها لأنه إذا أوجبنا القضاء في حق المعذور مع عدم تفريطه فلأن نوجب القضاء على العامد مع تفريطه من باب أولى ولعموم حديث " فاقضوا الله فالله أحق بالقضاء " رواه البخاري وقال بعضهم بل القضاء منه لا يصح وهي رواية عن الإمام أحمد وأختارها داود بن سليمان الظاهري وابن حزم وشيخ الإسلام بن تيميه واستدلوا على ذلك بأن الأحاديث الواردة في القضاء إنما هي في حق المعذور خاصة ويفهم منها أن العامد للترك لا قضاء عليه ، وإسقاط القضاء عنه ليس إسقاط تخفيف ورحمة بل إسقاط حرمان ولأن العبادة المؤقتة بوقت تفوت بفوات وقتها إلا من عذر ، فالمتعمد لا تبرأ ذمته بقضاء ما تركه عمداً ، وعلى هذا القول تدل الأدلة ، فالأقرب إن شاء الله تعالى هو ما اختاره أبو العباس بن تيميه رحمه الله تعالى والله تعالى أعلم .(1/200)
المسألة الثالثة :- قولنا في الضابط ( الوقت آكد فرائض الصلاة ) يعنى هذا الكلام أن جميع الشرائط تسقط مراعاة له ، فإذا كان في الاشتغال بتحصيلها تفويت له فإنها تسقط المطالبة بها ، فهو يسقطها لكنها لا تسقطه ، فالوقت آكد من الطهارة المائية والترابية ، فمن عدم الماء والتراب في الوقت وغلب على ظنه وجودهما بعده ، فنقول له ، صل الآن مراعاة للوقت وتسقط عنك الطهارة وصلاتك صحيحة ولا يلزمك إعادتها لأن الوقت آكد شرائط الصلاة ، ومن عدم ما يستر عورته وتيقن أنه سيجد الساتر بعد الوقت فنقول له صل الآن على حسب حالك مراعاة للوقت لأن الوقت آكد فرائض الصلاة ويسقط عنك اشتراط ستر العورة لأنك عاجز عنه في الوقت ، وبحثك عنه يؤدي إلى تفويت الوقت ، ومراعاة الوقت آكد من مراعاة السترة والله أعلم . ومن عجز عن تعلم الفاتحة في الوقت فنقول له :- صل في الوقت بالبدل عن الفاتحة وهو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والحوقلة ، ويسقط عنك وجوب قراءتها لأنك عاجز عنها في الوقت والاشتغال بتعليمها يفوت عنك إيقاع الصلاة في الوقت والوقت آكد شروط الصلاة ، فمراعاته أهم من مراعاة تعلم الفاتحة ، ومن لم يعلم جهة القبلة ولكن عنده القدرة على تعلم الطرق والدلائل التي توصله لجهتها لكن تعلمه لهذه الوسائل يستغرق عليه زمناً طويلاً يخرج به وقت الصلاة ، فنقول له :- سقطت عنك الجهة الأصلية وانتقل للجهة البدلية وهي الجهة التي يغلب على ظنك أنها القبلة بحسب ما آتاك الله من النظر ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، وصل على حسب حالك مراعاة للوقت ، هذا مع أنك تستطيع أن تعرف عين الجهة الصحيحة لكن ستتأخر هذه المعرفة إلى خروج الوقت والوقت آكد شروط الصلاة فإيقاع الصلاة للجهة البدلية في الوقت أحب عند الله تعالى من إيقاعها للجهة الأصلية لكن بعد خروج وقتها ، بل لا يجوز شرعاً تعمد إخراج الصلاة عن وقتها لمجرد الاشتغال بتحصيل شرطها ، فقول الفقهاء رحمهم(1/201)
الله تعالى :- ولا يجوز تأخيرها عن وقتها إلا لناوٍ الجمع ولمشتغل بشرطها الذي يحصله قريباً ، قولهم هذا فيه نظر ظاهر ، فإن الصلاة المجموعة لما بعدها يكون وقتها واحداً فتأخيره للأولى إلى الثانية ليس إخراجاً لها عن وقتها ، فالظهر والعصر في حال جواز الجمع وقتهما واحد وكذلك المغرب والعشاء ، فلو أخر الظهر إلى العصر جمع تأخير فإنه لا يعد مؤخراً للظهر عن وقتها لأن الوقتين يصيران وقتاً واحداً ، وأما تأخيرها للاشتغال بشرطها الذي يحصله قريباً ، فليس بصحيح ، بل لم يقل به أحد من الأئمة أصحاب المذاهب وإنما هو كلام بعض أصحابهم ، والصواب في هذا عدم الجواز ولو كان يحصله قريباً ، كما مضت الأمثلة عليه لأن الوقت آكد فرائض الصلاة فمن عدم السترة مثلاً وهو في برية ويعلم يقيناً أنه بعد ساعة أو ساعتين سيصل البلد ويجد السترة لكن بعد خروج وقت الصلاة ، فإننا نقول له صل في الوقت عرياناً وصلاتك صحيحة مراعاةً لإيقاع الصلاة في وقتها المفروض ، ويسقط عنك وجوب ستر العورة لأنك عاجز عنه في الوقت والواجبات تسقط بالعحز ، وعلى ذلك سائر الفروع ، فإذاً تقول في هذه العبارة :- ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها للاشتغال بتحصيل شروطها ، وهكذا دلت الأدلة ، وجميع ما مضى من الفروع هو اختيار أبي العباس شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى .(1/202)
المسألة الرابعة :- إعلم رحمك الله تعالى أن الوقت نوعان :- وقت اختيار ووقت اضطرار ، والمراد بوقت الاختيار ما يجوز إيقاع الصلاة في أي جزء من أجزائه بلا حرج ، والمراد بوقت الاضطرار ما لا يجوز تأخير الصلاة إليه بلا عذر ، ويكون من أخرها إليه بلا عذر آثماً ، إذا علمت هذا فاعلم أن وقت الظهر كله وقت اختيار ليس فيه وقت اضطرار ، وكذلك وقت المغرب والفجر كل أوقاتها أوقات اختيار من أولها إلى آخرها ، فيجوز للإنسان أن يوقع هذه الفروض الثلاث في أي جزء من أجزاء وقتها ، فإذا أخر الصلاة إلى وسط الوقت أو آخره فلا بأس فوقتها وقت موسع وأما وقت العصر ووقت العشاء ، فينقسم إلى قسمين :- وقت اختيار ووقت اضطرار ، فوقت اختيار العصر من مصير ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس ، والدليل على ذلك حديث ابن عمرو بن العاص وفيه " ووقت العصر ما لم تصفر الشمس " فإذا اصفرت الشمس خرج وقت العصر الاختياري ، ثم يبقى وقتها الاضطراري إلى غروب الشمس ، فمن أخر الصلاة – أعني صلاة العصر – إلى هذا الوقت فهو آثم إلا من عذرٍ من نوم أو نسيان هذا بالنسبة لوقت العصر وأما وقت الاختيار لصلاة العشاء فهو من مغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل فإيقاعها في أي جزء من هذا الوقت جائز بلا كراهة ، ثم يبدأ بعد نصف الليل وقت الاضطرار إلى طلوع الفجر الثاني والدليل على ذلك حديث عبد الله بن عمرو السابق وفيه " ووقت العشاء إلى صف الليل " فلا يجوز تأخير الصلاة إلى هذا الوقت فمن أخرها إلى هذا الوقت بلا عذر فهو آثم هذا هو ما دلت عليه الأدلة الصحيحة إن شاء الله تعالى – فإن قلت : فما دليلك على أن ما بعد اصفرار الشمس وقت للعصر وما بعد منتصف الليل وقت للعشاء اضطراراً ؟ قلت دليلنا على ذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " فهذا دليل على ما ذكرناه في العصر ويؤيده أيضاً حديث صلاة المنافق عند مسلم وفيه "(1/203)
يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلاً " ويؤيده أيضاً حديث " ليس في النوم تفريط إنما التفريط قي اليقظة أن يؤخر الصلاة إلى أن يجيء وقت الصلاة الأخرى " فهذا يدل على ما ذكرنا من أن وقت العصر ممتد إلى غروب الشمس ووقت العشاء ممتد إلى طلوع الفجر ، فإن قلت فلماذا تسمي بعضه وقت اختيار وبعضه وقت اضطرار ؟ قلت : فعلنا ذلك للجمع بين الأدلة فإن هذه الأدلة تفيد استمرار وقت العصر إلى غروب الشمس وحديث جبريل وعبد الله بن عمرو بن العاص يفيد انتهاءه عند اصفرار الشمس أو مصير ظل كل شيء مثليه فكيف ذلك فجعلنا حديث ابن عمرو وجبريل وأبي موسى تفيد انتهاء الوقت الاختياري ، وجعلنا هذه الأحاديث التي ذكرتها قبل قليل تفيد استمرارا الوقت لكنه الوقت الاضطراري وقد تقرر في القواعد أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن ، فإن قلت : فهل للفجر والمغرب وقت اضطراري ؟ قلت : الراجح لا ، لعدم الدليل وقد قال به بعض الأئمة لكن إثبات الحكم الشرعي يفتقر إلى دليل صحيح ، وهذا هو ما أردنا الكلام عليه في هذه المسألة والله ربي أعلى وأعلم .(1/204)
المسألة الخامسة : قد ذكرنا سابقاً أن الصلاتين المجموعتين وقتهما يصير وقتاً وقتاً ، وفي ذلك أنه يجوز إيقاعهما في أي جزءٍ من أجزاء الوقت ، لكن هل الأفضل جمع التقديم أم التأخير ؟ أقول : فيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى والراجح إن شاء الله تعالى هو التفصيل فأما جمع الظهرين بعرفه فالأفضل فيه التقديم لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه واتفاق الناس عليه خلفاً عن سلفٍ إلى عهدنا هذا وأما العشائين بالمزدلفة فالأفضل فيه جمع التأخير لفعله صلى الله عليه وسلم واتفاق الناس عليه وأما غيرهما فالأفضل فعل الأرفق به من جمع تقديم وتأخير ، فإن كان الأرفق به التقديم قدم أو العكس أخر ، والدليل على ذلك فعله صلى الله عليه وسلم ففي حديث معاذ قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما وإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب " رواه مسلم وهذا هو الذي تتآلف به الأدلة والله أعلم .(1/205)
المسألة السادسة : بم يدرك الوقت ؟ فيه خلاف بين العلماء والراجح إن شاء الله تعالى أن الوقت والجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة والركعة تدرك بالركوع لحديث " من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة " فمن أدرك ركعة من الصلاة في الوقت فقد أدرك الوقت والدليل على ذلك حديث أبي هريرة السابق " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر " متفق عليه . وللبخاري " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته " وعن عائشة عند مسلم مرفوعاً " من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس أو من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها " قال مسلم " والسجدة إنما هي الركعة ، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى فمنطوق هذه الأحاديث واضح ، ومفهومها أن من لم يدرك من الوقت ركعة فإنه لا يعد مدركاً للصلاة ، وقد تقرر في الأصول أن مفهوم المخالفة حجة والله ربنا أعلى وأعلم .
المسألة السابعة : وهي مكونة من فرعين :(1/206)
الفرع الأول : ما الحكم لو أدركت المرأة شيئاً من وقت الصلاة ثم نزل عليها الحيض ، فهل إذا طهرت تقضي هذا الفرض الذي دخل وقته أم لا ؟ أقول : فيه خلاف بين أهل الفضل والعلم رحمهم الله تعالى فقال بعضهم تقضيه إن أدركت منه مقدار سجدة لأن الوقت عندهم يدرك بمقدار سجدة فيه ، فإذا دخل عليها وقت الصلاة ولو بهذا المقدار فإنه قد تعلق في ذمتها فيلزمها الإتيان به أداءً إن أمكن لكن لما تعذر الأداء لنزول الحيض فعليها إذا طهرت أن تقضيه وقال بعضهم : بل تقضيه إذا أدركت منه مقدار ركعة كاملة وذلك لأن الوقت يدرك بإدراك ركعة فإذا دخل عليها الوقت ومضى منه مقدار ركعة فإنه قد تعلق بذمتها فنزول الحيض عليها لا يبرئ ذمتها منه ، وقال بعضهم : بل تقضيه إذا تضايق الوقت عليها وهذا هو الأقرب والله تعالى أعلى وأعلم ودليل ذلك أن وقت الصلاة وقت موسع والوقت الموسع يجوز للمكلف إيقاع ما وجب فيه في أي جزءٍ من أجزائه في أوله أو أخره أو أوسطه لكن إذا لم يبق منه إلا بمقدار الفعل فإنه ينقلب من موسع إلى مضيق فيجب الفعل الآن ولا يجوز التأخير لكن قبل تضايق الفعل يجوز التأخير فإذا جاز للمكلف تأخير الصلاة عن أول وقتها شرعاً بلا أثم فإنه لا ضمان عليه في طروء ما يمنع الأداء لأننا أجزنا له بالدليل أن يؤخر والجواز الشرعي ينافي الضمان ، فلو مات مثلاً فإنه لا يموت عاصياً لأننا أجزنا له التأخير ولو طرأ عليه جنون مطبق قبل الفعل وقبل تضايق الوقت فإنه لا يأثم بالتأخير ولا قضاء عليه بعد الإفاقة ، فكذلك مسألة الحيض فإن المرأة إذا أخرت الصلاة عن أول وقتها ثم حاضت فإنها لم تتجانف لأثم ولم تفعل خطأ بل هي فعلت ما يجوز لها شرعاً أن تفعله فالجواز الشرعي ينافي الضمان ومن الضمان إلزامها بالقضاء مع عدم التفريط ، لكن إذا أخرت الصلاة إلى آخر وقتها بحيث تضايق عليها الواجب ثم طرأ عليها الحيض فهنا يلزمها القضاء إذا طهرت لأنها مفرطة بهذا التأخير ، ولأن(1/207)
القضاء لأبد أن يكون بأمر جديد لا بالأمر الأول وهذا هو الراجح عند الأصوليين فعلى هذا فإنه ليس في الأدلة ما يوجب على هذه المرأة قضاء هذه الصلاة التي دخل عليها وقتها ولم يتضايق عليها ، والواجبات الشرعية تفتقر في ثبوتها في الذمة بدليل صحيح صريح ، فإن قيل : ألا تقاس على النائم والناسي ؟ قلت : لا هذا القياس لا يصح لأنه قد ثبت الدليل بأن وقت الصلاة في حقهما هو إذا استيقظ النائم وذكر الناسي بخلاف الحائض إذا نزل عليها الحيض بعد دخول الوقت وقبل تضايقه وعلى كلٍ فالراجح إن شاء الله تعالى أنه لا يلزمها القضاء إلا أن يتضايق الوقت ثم يوجد المانع واختار هذا القول أبو العباس بن تيميه رحمه الله تعالى والله أعلم .(1/208)
الفرع الثاني : ما الحكم إذا طهرت الحائض قبل خروج الوقت ؟ أقول : هذا فيه تفصيل ، فإن كان هذا الوقت الذي طهرت فيه لا يجمع لما قبله ولا لما بعده كالفجر فننظر إن بقي منه مقدار ركعة فأكثر فهي تعد مدركة له لقوله صلى الله عليه وسلم " من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر " متفق عليه . فالوقت كما مضى يدرك بركعة على القول الراجح فنقول لها : صلي صلاة الفجر لأنك أدركت الوقت وقد زال المانع في حقك . أما إذا كان ما بقي من الوقت بعد طهرها أقل من ركعة فنقول لها : قد خرج الوقت في حقك فلست بمدركة له لمفهوم المخالفة في قوله " من أدرك ركعة " فمفهومه أنه إذا لم يدرك مقدار ركعة فليس بمدرك للوقت ، هذا أولاً وثانياً أن يكون الوقت الذي طهرت فيه لا يجمع لما بعده إلا مع المسوغ للجمع كالظهر والمغرب فإنها لا تجمع مع ما بعدها إلا بالمسوغ الشرعي فهنا يقال فيها ما قد قيل في الفجر إن أدركت من وقت الظهر والمغرب مقدار ركعة فأكثر فتلزمها الصلاة وتكون في حقها أداءً لأنها أدركت من الوقت ركعة والدليل على ذلك الحديث السابق " وإذا لم تدرك مقدار ركعة فلا صلاة في حقها لمفهوم المخالفة من الحديث السابق وقد تقرر أن مفهوم المخالفة حجة ، ثالثاً : أن يكون الوقت الذي طهرت فيه يجمع مع ما قبله بالمسوغ الشرعي كالعصر فإنها تجمع إليها الظهر وكالعشاء فإنها تجمع إليها المغرب إذا وجد المسوغ فهنا يقال أما صلاة العصر والعشاء فيقال فيها ما قد قيل في الصلوات قبلها فإنها إذا طهرت وأدركت من وقت العصر والعشاء مقدار ركعة فإنه يلزمها أداء العصر والعشاء للحديث السابق وإذا لم تدرك مقدار ذلك فلا يلزمها شيء لمفهوم المخالفة منه لكن هل يلزمها مع أداء العصر أن تجمع إليها الظهر ، وهل يلزمها أن تجمع المغرب مع العشاء ، هذا هو الذي اشتد الخلاف فيه ، فمذهب الأصحاب نعم ، يلزمها ذلك فمن طهرت في وقت العصر لزمها الظهر ومن طهرت في وقت(1/209)
العشاء لزمها المغرب وهو مذهب الشافعية والمالكية فيكون هو مذهب الجمهور ، واستدلوا على ذلك بأن وقت الثانية وقت للأولى حال العذر ، فوقت الصلاتين مع العذر كالوقت الواحد فإذا أدرك وقت الثانية فكأنه أدرك وقت الأولى فيلزمه الإتيان بها ، واستدلوا أيضاً بأنها فتيا ابن عباس وأبي هريرة رواه ابن المنذر عنهما فإنهما قالا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة تصلي المغرب والعشاء فإذا طهرت قبل غروب الشمس بركعة صلت الظهر والعصر جميعاً ، قال في المبدع :- ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة ، وقال الشارح :- لا نعلم فيه خلافاً وقال في الإنصاف :- بلا نزاع ، وقال الإمام أحمد :- وهو قول عامة التابعين إلا الحسن ، قلت :- وذهب القليل من العلماء إلى أنه لا يلزمها إلا أداء الفرض الذي طهرت في وقته فلا يلزمها إلا صلاة العصر وصلاة العشاء فقط أما صلاة الظهر والمغرب فإن وقتها خرج في حالٍ هي غير مطالبة بها ولو في الذمة فإن الحائض لا تطالب بالصلاة لا أداءً ولا قضاءً ، ولا حتى في ذمتها بخلاف من مَرَّ عليه وقت الأولى لأنها أصلاً متعلقة بذمته وهو من أهل الوجوب فقياس الحائض على من يجوز له الجمع قياس مع الفارق ، وهذا القول من ناحية النظر أقوى إلا أن الراجح عندي والله اعلم هو القول الأول وذلك لأنه مذهب ابن عباس وأبي هريرة ومذهب الصحابي حجة بشرطه والشرط هنا متوفر فإنه لم يخالفهما صحابي آخر فيما نعلم ، ولم يخالفا بهذه الفتوى نصاً شرعياً ، فما ذهبا إليه أحب إلينا مما نختاره بنظرنا واجتهادنا فإنهما أقرب إلى الصواب ممن بعدهم والله يتولانا وإياك ، وخلاصة الكلام أن الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس بركعة لزمها جمع الظهر مع العصر وإذا طهرت قبل طلوعها بركعة لزمها جمع المغرب مع العشاء والله أعلى وأعلم ، هذا الكلام عن المسألة السابعة وفي كل ما مضى فيها خلاف لكن اقتصرنا فيها على القول الذي ينصره بالدليل والله أعلم وبه ينتهي الكلام(1/210)
على هذا الضابط والله أعلم .
الضابط الثالث والعشرون
الصلاة في أول الوقت أفضل إلا فيما استثناه الشارع
وهذا هو ما دلت عليه الأدلة واقتضاه الاعتبار السليم ، وأيدته مقاصد الشريعة العامة والخاصة ، وبيان ذلك أن يقال :- أما دليله شرعاً على وجه الإجمال فحديث ابن مسعود في الصحيحين " أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل فقال " الصلاة على وقتها " وعند الترمذي زيادة من ثقة تبين المراد وهي قوله " الصلاة في أول وقتها " وقد تقرر في الأصول أن زيادة الثقة مقبولة ما لم يخالف الثقات ، وأما دليله الشرعي على وجه التفصيل ، ففي الفجر أحاديث في تعجيلها منها :- حديث عائشة رضي الله عنها قالت :- كن نساء المؤمنات يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس " رواه الجماعة وزاد البخاري " ولا يعرف بعضهن بعضاً " هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح مرةً بغلس ثم صلى مرةً أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر " رواه أبو داود ورجاله رجال الصحيح وأصله في الصحيحين ، وهذا يدل على استحباب التغليس وأنه أفضل من الإسفار ولولا ذلك لما لازمه النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات ، وأما حديث " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر " فيجاب عنه بجوابين . الأول : أن صلاة الفجر لا توقع قبل دخول وقتها بحيث لا توقع إلا بعد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، والثاني :- أن هذا باعتبار الخروج منها أي أطيلوا صلاة الفجر حتى تسفروا فإنه أعظم للأجر قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى :- إنما تتفق معاني آثار هذا الباب بأن يكون دخوله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح مغلساً ثم يطيل القراءة حتى ينصرف عنها مسفراً وبهذا أجاب أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ، فهذه الأحاديث السابقة تدل دلالة واضحة على(1/211)
استحباب التبكير بصلاة الفجر وأما الظهر ففيها حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا دحضت الشمس " رواه مسلم ومعناه :- إذا زالت ، فهو يدل على استحباب تقديمها . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة وإذا كان البرد عجل " رواه النسائي وللبخاري نحوه ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً " إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة " متفق عليه فيفهم منه أنه إذا لم يشتد الحر وكان الجو بارداً أو معتدل الحرارة فبكروا بالصلاة وبادروا بها ، ومفهوم المخالفة حجة ، وكذلك حديث أبي ذر في المتفق عليه وأما العصر ففيه حديث أبي جحيفة وهب السوائي " ثم يصلي العصر فيذهب الذاهب إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية " وعن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة ، رواه الجماعة والبخاري :- وبعض العوالي في المدينة على أربعة أميال أو نحوه وعنه رضي الله عنه قال :- صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فأتاه رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله إنا نريد أن ننحر جزوراً لنا وإنا نحب أن تحضرها قال :- نعم فانطلق وانطلقنا معه فوجدنا الجزور لم تنحر فنحرت ثم قطعت ثم طبخ منها ثم أكلنا قبل أن تغيب الشمس " رواه مسلم ، ووجه الدلالة منه ظاهرة ، وعن رافع بن خديج قال كنا نصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ننحر الجزور فنقسم عشر قسم ، ثم نطبخ فنأكل لحمه نضجاً قبل مغيب الشمس متفق عليه ، ووجه الدلالة منهما ظاهرة ، وأما المغرب ففيها حديث سلمة بن الأكوع أن سول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب رواه الجماعة إلا النسائي ، وعن عقبه بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :- لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا(1/212)
المغرب حتى تشتبك النجوم " رواه أبو داود ، وفي إسناده محمد بن إسحاق لكنه قد صرح بالتحديث فانتفت علة الخوف من تدليسه ، فهذه الأدلة تفيد استحباب التبكير بصلاة المغرب ، وأما العشاء فإنه يستحب فيه التأخير بشرطه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى فهذه الأدلة الشرعية إجمالاً وتفصيلاً تدل دلالة واضحة على أن الصلاة في أول الوقت أفضل فأما الاستدلال بمقاصد الشريعة فنقول : إن إيقاع الصلاة في أول جزء من أجزائها فيه عدة مصالح : منها : أنه من باب المسارعة والمبادرة والمسابقة في الخيرات وهذا مقصود شرعاً قال تعالى " ويسارعون في الخيرات " وقال " فاستبقوا الخيرات " وقال " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم "
ومنها : أنه من تعظيم أمر الله تعالى وشعائره وهذا من تقوى القلوب قال تعالى " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب "
ومنها :- أن في المبادرة لإبراء الذمة مما تعلق بها وذلك لأنه بدخول الوقت عمرت ذمته بفعلها فإذا بادر بالفعل برئت ذمته ولأن الإنسان لا يدري ما يعرض له والمبادرة في إبراء الذمة مقصود شرعاً .
...(1/213)
ومنها : أن فيه تعويد النفس على النشاط والإبتعاد عن الكسل فإن النفس على ما عودتها عليه فإن عودتها على المبادرة والجد تعودت وإن عودتها على التأخير والتسويف تعودت ، فإيقاع الصلاة في أول وقتها والمبادرة بها فيه تعويد للنفس على البدء والمبادرة والنشاط وهذا مقصود شرعاً ، هذه المقاصد الشرعية تزيد في طمأنينة القلب لصحة هذا الضابط من أن الصلاة في أول وقتها أفضل إذا تقرر هذا فاعلم رحمك الله تعالى أن الشارع استثنى من هذا الضابط بعض الصلوات فجعل تأخيرها أفضل من فعلها في أول وقتها فإذا ثبت الدليل في صلاة معينة باستحباب تأخيرها قلنا به وإلا فالأصل هو البقاء على أفضلية التقديم ، وإني بعد سير الأدلة وتتبعها وجدت أن الأئمة رحمهم الله تعالى نصوا على استحباب تأخير بعض الصلوات من أول وقتها وإليك هذه الصلوات وننظر هل دل على استحباب التأخير دليل أم لا ؟
فمنها :- استحبابهم تأخير صلاة الظهر في شدة الحر والدليل على ذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا اشتد الحر فابردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم " وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفره فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبرد ، ثم أراد أن يؤذن فقال له : أبرد ، حتى رأينا فيء التلول فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فابردوا بالصلاة " متفق عليه وعن بن مالك رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة وإذا كان البرد عجل " رواه النسائي وللبخاري نحوه فهذه الأدلة تفيد استحباب تأخير صلاة الظهر في شدة الحر فتكون الأدلة الدالة على أفضلية تعجيل الصلوات في أول الوقت عامة وهذه خاصة وقد تقرر في الأصول أن العام مقدم على الخاص ولا تعارض بين عام وخاص ولا بين مطلق ومقيد والله أعلم .(1/214)
ومنها : صلاة العشاء فإنه قد ثبت الدليل باستحباب تأخيرها والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت : أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بالعشاء حتى ذهب عامة الليل ثم خرج فصلى وقال " إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي " رواه مسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال " أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء فخرج عمر فقال يا رسول الله نام النساء والصبيان فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يقطر ماء يقول : والذي نفسي بيده لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالصلاة في هذه الساعة " متفق عليه . وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء الآخرة " رواه مسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه " رواه أحمد والترمذي وصححه وفي حديث جابر في الصحيحين والعشاء أحياناً وأحياناً إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤا أخر " وعن أنس قال " أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال " قد صلى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها ، قال أنس كأني أنظر إلى وبيص خاتمه ليلتئذ " متفق عليه . وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال " أنتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة لصلاة العشاء حتى ذهب نحو من شطر الليل قال فجاء فصلى بنا ثم قال : خذوا مقاعدكم فإن الناس قد أخذوا مضاجعهم وإنكم لم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل " رواه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح . وعن أبي يرزه الاسلمي في حديث " وكان يحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة " متفق عليه فهذه الأدلة تفيد إفادة قطعية استحباب تأخير صلاة العشاء إلى أخر وقتها إلا أن هذا مشروط بعدم المشقة على المأمومين لما سبق في الأحاديث من قوله(1/215)
" لو لا أن أشق على أمتي " وقوله " ولو لا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة " فإذا لم يكن في التأخير مشقة فهو الأفضل وإذا كان فيه مشقة فالتقديم أفضل والله أعلم .
ومنها :- ذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى أنه يستحب لعادم الماء أن يؤخر الصلاة إلى أخر وقتها المختار إذا رجى وجود الماء ، قال في الإنصاف : لا أعلم فيه خلافاً لأن الطهارة بالماء فريضة والصلاة في أول الوقت فضيلة وانتظار الفريضة أولى وللخروج من الخلاف فإن بعض العلماء قال بعدم جواز التيمم إلا مع ضيق الوقت ، واستدلوا على ذلك أيضاً بقول على رضي الله عنه في الجنب يتلوم ما بينه وبين أخر الوقت فإن وجد الماء وإلا تيمم " ومعنى يتلوم أي يتأنى ويمكث وينتظر ما بينه وبين أخر الوقت المختار وعلم من ذلك أن التقديم لمتحقق العدم أو ظان عدم وجوده أفضل قال في الإنصاف : وهو صحيح وهو المذهب وعليه الأصحاب كذا قال الأصحاب وغيرهم لكن لا أعلم لهم دليلاً من السنة فالأصلح والله أعلم هو سنية التعجيل بالصلاة لمن أبيح له التيمم وعلى ذلك دلت السنة كما في حديث أبي سعيد قال : خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيداً طيباً ثم صليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الأخر ثم أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال للذي لم يعد أصبت السنة قال للذي أعاد لك الأجر مرتين " رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح ووجه الشاهد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم صوبهما في مبادرتهما بالصلاة بالتيمم وقال لأحدهما أصبت السنة ولم يقل لهما : كان الأفضل في حقكما التأخير فلما لم يقل ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز دل ذلك على أن السنة تعجيل الصلاة للمتيمم أول الوقت كالمتطهر بالماء ولعموم الأدلة القاضية باستحباب التقديم والعام يبقى على عمومه ولا يخص إلا بدليل واختاره الشيخ تقي الدين بن تيمية فإنه قال في الاختيارات من أبيح له(1/216)
التيمم فله أن يصلي به في أول الوقت ولو علم وجوده ( أي الماء ) أخر الوقت ويدل لذلك أيضاً حديث عمران بن الحصين في المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم فقال " يا فلان ما منعك أن تصلي معنا فقال " يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء فقال " عليك بالصعيد فإنه يكفيك " ثم جاء رجل بدلو من ماء فقال عليه الصلاة والسلام أين الرجل فقال هأنا ذا يا رسول الله قال خذ هذا فأفرغه عليك " فهنا أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم تخلفه عن الصلاة في الجماعة بحجة عدم وجود الماء وأمره بالصعيد وقال " فإنه يكفيك " مع أن الرجل كان يرجو وجود الماء بل قد وجده ، فهذا يدل على استحباب المبادرة بالصلاة في أول وقتها للتيمم ولا يؤخرها لعله يجد فإن هذا خلاف السنة والله أعلم . ويدل على ذلك أيضاً حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت " رواه الإمام أحمد في المسند فقوله " أينما أدركتني الصلاة " أي دخل وقتها فدل ذلك على استحباب إيقاعها بالتيمم فور دخول وقتها ، ولم يشرع التأخير لا لراجي الماء ولا لغيره ، والعام يجري على عمومه ولا يخص إلا بدليل فالراجح هو ما ذكرته لك والله أعلى وأعلم .
ومنها :- الأصل في صلاة المغرب استحباب التقديم لما مضى من الأدلة لكن أتفق الفقهاء على استحباب تأخيرها لتجمع مع العشاء عشية جمع أعني في ليلة المزدلفة وذلك لفعله صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر وغيره فيكون ذلك مخصوصاً من عموم أدلة استحباب التقديم والخاص مقدم على العام والله أعلم .(1/217)
ومنها :- استحباب تأخير صلاة الليل أعني قيام الليل مع الوتر الأفضل فيه التأخير إلى ثلث الليل الآخر لمن طمع أن يقوم أخر الليل والدليل على ذلك حديث جابر عند مسلم مرفوعاً " من خاف أن لا يقوم من أخر الليل فليوتر أوله ومن طمع أن يقوم من أخر الليل فليوتر أخر الليل فإن صلاة أخر الليل مشهودة وذلك أفضل " وفي الحديث أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة جوف الليل الغابر " أو كما قال صلى الله عليه وسلم فالشك مني لبعد العهد بالحديث وأما حديث أبي هريرة " وأن أوتر قبل أن أرقد " فمحمول على من له اشتغال بشيء من العلم أو غيره في أول الليل ويخاف أن لا يقوم من أخره والله ربنا أعلى وأعلم .
ومنها : - استحباب تأخير صلاة الضحى إلى أخر وقتها فإنه أفضل لحديث أبي أيوب مرفوعاً صلاة الأوابين حين ترمض الفصال " حديث صحيح وهي لا ترمض إلا عند ارتفاع الضحى واشتداد الشمس فتكون قريبة من الزوال لكن قبل وقت النهى ، فالمستحب تأخير صلاة الضحى إلى هذا الوقت والله أعلم .(1/218)
ومنها :- تأخير قضاء سنة الفجر لمن فاتته لعذر فإنه ورد فيها حديثان حديث يقضي بجواز فعلها بعد الصلاة مباشرة ودليله الإقرار وهو حديث قيس بن عاصم قال " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقيمت الصلاة فصليت معه الصبح ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم فوجدني أصلي فقال " مهلاً يا قيس أصلاتان معاً " قلت يا رسول الله إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح فصليتهما الآن فسكت النبي صلى الله عليه وسلم " وسكوته دليل الإقرار لأنه قد تقرر في الأصول أن الإقرار حجة على الجواز ، والحديث الثاني يقضي بقضائهما بعد طلوع الشمس وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لم يصلي ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس " رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وقال :- حديث صحيح على شرط الشيخين ، فالحديثان يدلان على شرعية قضاء سنة الفجر ، إلا أن الحديث الثاني خرج مخرج الأمر القولي والأول خرج مخرج الإقرار ودلالة الثاني أصرح في استحباب التأخير لأن الأمر يفيد الوجوب ما لم ترد القرينة لكن هنا وردت القرينة الصارفة له إلى الندب فيستفاد منه الندب ، والأول إنما هو إقرار ، والإقرار لا يفيد إلا الجواز ، فنقول :- من قضاهما بعد صلاة الفجر مباشرة فجائز لكن الأفضل والمستحب تأخيرهما إلى طلوع الشمس والله أعلم .
وخلاصة هذا الضابط هو أن الأفضل في الفرائض والنوافل فعلها في أول وقتها إلا ما استثناه الشارع بالدليل الصحيح الصريح فيكون هو بعينه مخصوصاً من عموم الأدلة ويبقى ما لم يدل عليه الدليل على أصل العموم والله ربنا أعلى وأعلم .
الضابط الرابع والعشرون
شروط الصلاة التي أمر المكلف بفعلها لا تسقط بالجهل والنسيان
والتي أمر باجتنابها تسقط بالجهل والنسيان(1/219)
إعلم رحمك الله تعالى أن شروط الصلاة نوعان :- شروط وجوب وشروط صحة ، والكلام هنا عن شروط الصحة لا شروط الوجوب وهي كما يلي :- استقبال القبلة ، وستر العورة ، والطهارة ، وإزالة النجاسة ، والإسلام ، والعقل ، والتمييز ، والنية ، ودخول الوقت ، فهذه الشروط التسعة هي شروط صحة الصلاة ، وهي تنقسم إلى قسمين :- الأول :- شروط أمر المكلف بفعلها بمعنى أنها كانت معدومة فأمر بتحقيقها وإيجادها فهذه هي المرادة بقولنا ( التي أمر المكلف بفعلها ) الثاني :- شروط أمر المكلف باجتناب بعض الأشياء بمعنى أنها إن كانت موجودة فإنه مأمور باجتنابها وتركها فهذه الشروط هي المرادة بقولنا ( أمر باجتنابها ) وبالمثال يتضح المقال :- الطهارة من شروط الصلاة ، وهي من الشروط التي أمرنا بإيجادها ، بمعنى أنها كانت معدومة فأمرها بتحصيلها ، وكذلك استقبال القبلة ، أما إزالة النجاسة فإنه شرط تركي أي أننا أمرنا بترك النجاسة واجتنابها لا بتحصيلها ، إذا علمت هذا فاعلم – أنه إذا تخلف شرط من شروط الصلاة السابقة فلا يخلو إما أن يكون تعمداً وإما أن يكون جهلاً ونسياناً ، فإن كان تعمداً فالصلاة باطلة لأنه اسقط شرط صحتها عالماً عامداً ، فلا عذر له ، وإما إن كان فوته جهلاً ونسياناً ، فهذا لا يخلو :- أما أن يكون هذا الشرط من الشروط المأمور بإيجادها أي هو من باب المأمورات ، وإما أن يكون من باب التروك ، فإن كان من باب المأمورات فإنه لا يسقط بالجهل والنسيان ، وإن كان من باب التروك فإنه يسقط بالجهل والنسيان ، وعلى ذلك دلت الأدلة الكثيرة ، والدليل على ذلك ما يلي :-(1/220)
منها :- حديث أبي هريرة في الصحيحين أن رجلاً دخل المسجد فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه وقال " ارجع فصل فإنك لم تصل " فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام ثم قال ارجع فصل فإنك لم تصل " فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ، ثلاثاُ ، فقال الرجل ، والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني ، فقال صلى الله عليه وسلم " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم أفعل ذلك في صلاتك كلها حتى تقضيها " رواه البخاري ومسلم وغيرهما ، ووجه الشاهد منه أن هذا الرجل قد فوت ركناً مأموراً به وهو الطمأنينة ، وفوتها جاهلاً بها لأنه قال " والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره " فلم يعذره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التفويت وأمره بالإعادة ثلاث مرات وقال له " لم تصل " فعرفنا أن ذلك من أجل تفويت الطمأنينة المأمور بها ، فقسنا عليها كل مأمور فقلنا لا يعذر من فوت المأمور جهلاً أو نسياناً .(1/221)
ومن الأدلة أيضاً :- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم فلما انصرف قال لهم :- لم خلعتم ؟ قالوا :- رأيناك خلعت فخلعنا فقال :- إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم إلى المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما " رواه أحمد وأبو داود ، ووجه الشاهد منه أنه صلى الله عليه وسلم افتتح الصلاة بهذه النجاسة في نعليه ، ثم ذكر في أثنائها فخلع نعليه لإزالة النجاسة ومضى في صلاته ، مما يدل على أن صلاته فيما مضى بالنجاسة صحيحة إذ لو كانت باطلة لاستأنفها من جديد ، فلما بنى عليها علمنا أنها وقعت صحيحة وأن هذه النجاسة العالقة به معفو عنها لأنه جاهل بها ، أي لا يعلم أنها في نعليه ، فنظرنا فوجدنا الشرط المختل هو إزالة النجاسة وهو من باب التروك فعرفنا بذلك أن باب التروك يتجاوز في الإخلال به خطأً ونسياناً وجهلاً ، وهذا الحديث وإن كان في باب النجاسات لكن قسنا عليه سائر أبواب التروك للإتفاق معه في المأخذ والله أعلم .(1/222)
ومن الأدلة أيضاً :- ما رواه الإمام مسلم من حديث معاوية ابن الحكم السلمي رضي الله عنه قال :- صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله ، قال فرماني القوم بأبصارهم فقلت :- ( واثكل أمياه ) ماذا فعلت فجعلوا يضربون على أفخاذهم فسكت فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه فوالله ما كهرني ولا نهرني ولا ضربني ولكن قال " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " ووجه الشاهد منه أن الكلام من جملة مبطلات الصلاة لكن لم يٌعَدَّ مبطلاً لصلاة معاوية لأنه فعله جاهلاً بالحكم فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بالإعادة فنظرنا في الكلام فوجدناه من جملة المأمور بتركها فعرفنا أن ما كان من قبيل التروك يتجاوز فيه عن الخطأ والنسيان والجهل ، وهذا الحديث وإن كان في الكلام خاصة لكن قسنا عليه سائر باب التروك للاتفاق في المأخذ والله أعلم .
ومن الأدلة أيضاً :- ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله " من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " والأكل والشرب من الأشياء المأمور بتركها فعفي عن من فعلها ناسياً مما يدل على أن باب التروك يتجاوز فيه عن الجاهل والناسي ، بمعنى أنه لا يترتب عليه الأثر الشرعي المقرر في حق من ارتكب هذا المحرم والله أعلم .
ومن الأدلة أيضاً : - ما في حديث أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها أو أصبح لا كفارة لها إلا ذلك " والصلاة من قبيل المأمور به ولم يعذر من تركها ناسياً مما يدل على أن باب المأمورات لا يعذر فيه صاحبه بالجهل والنسيان ، فهذا هو شأن المأمورات في الشريعة فإن الذمة لا تبرأ إلا بفعلها . والله أعلم .(1/223)
ومن الأدلة أيضاً : حديث صاحب اللمعة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً وفي قدمه مثل الظفر لم يصبه الماء . فقال :" ارجع فأحسن وضوءك " وهو تركها ناسياً فلم يعذر لنسيانه لأنه ترك شيئاً مأموراً به وهو غسل الرجل كلها فدل ذلك على أن باب المأمورات لا يسقط بالجهل والنسيان . والله أعلم .
ومن الأدلة أيضا :- ما في الصحيحين من حديث يعلى بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل متضمخ بطيب فقال يا رسول الله كيف تقول في رجلٍ أحرم في جبةٍ بعد ما تضمخ بطيب فنظر إليه ساعة فجاءه الوحي ثم سري عنه فقال :- أين الذي سألني عن العمرة آنفاً فالتمس الرجل فجيء به فقال :- أم الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات – وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في العمرة كل ما تصنع في حجك " وفي رواية " وهو متضمخ بالخلوق " فهذا الرجل ارتكب محظوران من محظورات الإحرام وهما :- الطيب ، ولبس المخيط ، لكن كان جاهلاً بالحكم الشرعي فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الحكم الشرعي فيهما ولم يلزمه بالفدية لجهله ، ومحظورات الإحرام من باب التروك فعلمنا بذلك أن باب التروك يتجاوز فيه عن الجاهل والناسي والله أعلم .
ومن الأدلة أيضاً :- حديث سليك وهو في الصحيحين عندما دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فجلس فقال له :- أصليت ركعتين قال :- لا ، قم فاركع ركعتين " فجلوسه هذا يحتمل أنه نسياناً أو جهلاً للركعتين – وهو الأقرب – ويحتمل أنه ظن منه عدم جواز فعلهما والإمام يخطب ، فإن كان الأول فإن نسيانه وجهله بتأكدهما لم يجعل عذراً له في تركهما بل أمر بهما ، فعرفنا بذلك أن باب المأمورات لا تسقط المطالبة به إن ترك جهلاً ونسياناً ، ويقال هذا حتى في النوافل المؤكدة ، والله أعلم .(1/224)
ومن الأدلة أيضاً :- حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر " رواه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن خزيمة ، والوتر سنة مؤكدة فنسيانها لم يجعل مفوتاً للمطالبة به بل يأتي به الإنسان ولو نسيه لأن باب المأمورات لا يسقط بالجهل والنسيان إلا أنه يقضيه من النهار شفعاً فبهذه الأدلة تعلم يقيناً إن شاء الله تعالى الفرق بين باب المأمورات وباب التروك وهذه القاعدة على عمومها ويدندن حولها الشيخ محمد بن صالح بن العثيمين كثيراً حفظه الله تعالى بل أقول : رحمه الله تعالى فإنه قد أتاني الليلة خبر وفاته وذلك في يوم الأربعاء ليلة الخميس الموافق الخامس عشر من شهر شوال من سنة إحدى وعشرين وأربعمائهٍ وألف من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام فكان خبر وفاته كالصاعقة التي أذهلت العقول وأحزنت القلوب وأبكت العيون فرحمه الله رحمة واسعة وعفا الله عنه وغفر له وجمعنا به في الجنة آمين ، وأخلف لنا خيراً منه وجزاه خير ما جزى عالماً عن أمته والمقصود :- أن هذا الضابط الذي نحن بصدد شرحه يستفاد منه معرفة الفرق بين الشروط التي يعفى عن الإخلال بها جهلاً ونسياناً وبين ما لا يعفى عنه ، وهو كما قدمنا لك تفصيله بأدلته وإليك إتماماً للفائدة بعض الفروع المخرجة على هذا الضابط فأقول :-(1/225)
منها :- ما الحكم لو صلى الإنسان وعليه نجاسة ؟ أقول : في المسألة تفصيل فإن صلى بها عامداً عالماً بالحكم فصلاته باطلة ، وإن كان جهلاً ونسياناً فلا يخلو فإن ذكرها أو علم بها في أثناء الصلاة وجب عليه إزالتها عنه أو خلع ما هي فيه إن أمكن خلعه ويمضي في صلاته ، فإن لم يقدر على إزالتها ولا خلع ما هي فيه خرج من الصلاة فأزالها ثم استأنف الصلاة وأما إذا لم يعلم بها إلا بعد الفراغ من الصلاة بالكلية فصلاته حينئذ صحيحة تامة وذلك لأن إزالة النجاسة من شروط التروك وشروط التروك تسقط بالجهل والنسيان وهذا التفصيل في هذه المسألة هو الراجح إن شاء الله تعالى والله أعلم .
ومن الفروع أيضاً :- صلى وعليه جنابة ناسياً لها فما حكم صلاته ؟ الجواب :- صلاته باطلة لاختلال شرط الطهارة ولأن اشتراط الطهارة من باب المأمورات وباب المأمورات لا تسقط بالجهل والنسيان لكن ما الحكم لو كان هذا الرجل إماماً فهل تبطل صلاة من خلفه ؟ الجواب :- فيه خلاف والصواب إن شاء الله أنها لا تبطل لعدم تفريطهم ولفعل عمر وعلي رضي الله عنهما فإنهما صليا بالناس ثم علموا بالجنابة فأعادوا هم ولم يأمروا من صلى خلفهم بالإعادة ، ولا يعرف لهما مخالف والله أعلم .
ومن الفروع أيضاً :- ما الحكم لو تكلم في الصلاة ؟ الجواب :- إن كان تكلم في الصلاة بكلام الناس وهو عالم عامد فصلاته باطلة وإن كان جاهلاً بالحكم أو ناسياً فصلاته حينئذ صحيحة على القول الراجح استدلالاً بحديث معاوية وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة بعد ما قال ما قال فلو كانت صلاته باطلة لأمره بالإعادة لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولأن ترك الكلام من شروط التروك وشروط التروك تسقط بالجهل والنسيان ، والله أعلم .(1/226)
ومن الفروع أيضاً :- ما الحكم لو مسح على الخف الذي قد انتهت مدة المسح عليه جاهلاً بالحكم أو ناسياً أنها انتهت ؟ أقول :- هذا يقع كثيراً ويكثر السؤال عنه فأقول طهارته هذه لا تصلح ولو صلى بها فصلاته باطلة لأنها بغير طهارة كاملة ، وذلك لأن الأدلة دلت على أن الحكم في المسح على الخفين مؤقت بوقت معين يختلف إقامة وسفراً ، فإذا انتهت هذه المدة فلا يصح المسح عليه إلا باستئناف طهارة جديدة تغسل فيها القدمان ، فيكون هذا الرجل قد أخل بشرط الطهارة وشرط الطهارة من شروط المأمورات والشروط في باب المأمورات لا تسقط بالجهل والنسيان جاهلاً أو ناسياً . والله أعلم
ومنها :- الأكل أو الشرب في الصلاة إن كان أوقعه عالماً عامداً بطلت صلاته ولو نفلاً ، على الصحيح وأما إن كان جهلاً ونسياناً فإنها لا تبطل على الصحيح لأنه من جملة شروط التروك وشروط التروك تسقط بالجهل والنسيان فالقول فيها واحد والله أعلم .
ومنها :- إذا صلى في ثوب مغصوب جاهلاً فصلاته صحيحة لأن ترك الغصب من باب التروك وباب التروك يسقط بالجهل والنسيان .
ومنها :- صلى في بقعة مغصوبة وقلنا بأن الصلاة فيها باطلة لكنه كان جاهلاً بحالها فصلاته صحيحة وذلك لأن ترك الغصب من باب التروك وباب التروك يسقط بالجهل والنسيان والله أعلم .
ومنها :- صلى بلا استقبال ناسياً فصلاته باطلة لأن باب الاستقبال من شروط المأمورات وباب المأمورات لا يسقط بالجهل والنسيان والله أعلم .
وخلاصة هذا الضابط أن يقال :- من فوت شرطاً من شروط الصلاة جاهلاً أو ناسياً فينظر إن كان من الشروط المأمور بإيجادها فإنه لا يتبرأ ذمته إلا بفعله ولا يسقط عنه بمجرد ذلك ، وإن كان من الشروط التي أمر بتركها واجتنابها فإنه يغتفر فيها الجهالة والنسيان والله ربنا أعلى وأعلم .
الضابط الخامس والعشرون
الأرض كلها مسجدٌ إلا ما استثناه الشارع(1/227)
وهذا الضابط يضبط لك المواضع التي يجوز الصلاة فيها وما لا يجوز فأقول :- إعلم رحمك الله تعالى أن الأصل أن سائر أجزاء الأرض يصلح إيقاع الصلاة فيها من غير كراهة ، وعلى ذلك دلت الأدلة ، بل هو مما تميزت به هذه الأمة المرحومة زادها الله شرفاً ورفعة على سائر الأمم فإن الأمم قبلها كانت لا تصلي إلا في كنائسها وبيعها وصوامعها فقط ولا تصح الصلاة منها في غير ذلك ، وهذا من الأغلال والآصار التي وضعت عنا برحمة الله لهذه الأمة بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " فالحمد لله على هذا التخفيف والحمد لله أن جعلنا من هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى وإنها لنعمة عظيمة ومنحة جليلة فالحمد لله أولاً وأخراً وظاهراً وباطناً ، والدليل على ذلك حديث جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل " الحديث ووجه الشاهد منه أمران :-
الأول :- قوله " جعلت لي الأرض " فكلمة الأرض مفرد دخلت عليه الألف واللام وقد تقرر في القواعد أن الألف واللام إذا دخلت على المفرد والجمع أفادت الاستغراق ما لم يتقدم قرينة عهد فيدخل في هذا اللفظ جميع أجزاء الأرض سهلها ووعرها ورملها وجبالها وسائر بقاعها من غير استثناء فمن أخرج بقعة من البقاع وقال لا يجوز الصلاة فيها فإنه يكون ناقلاً لنا عن الأصل فنطالبه بالدليل لأن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه .(1/228)
... الثاني :- أنه قال " فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره " وهذا عموم أخر في المكان ، ومعناه : في أي مكان وأي بقعة دخل عليك وقت الصلاة فعندك في هذه البقعة طهورك ومسجدك والمراد بالطهور أي التيمم لمن لم يجد الماء ، فلا تتكلف البحث عن مكان تصلي فيه فإن جميع البقع صالحة للسجود فيها ، فمن أخرج بقعة عن صلاحية السجود فيها فعليه الدليل وقد تقرر في القواعد أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل وتقرر فيها أيضاً أن الواجب هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص والله أعلم .
ومن الأدلة أيضاً :- حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجداً وطهوراً فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره " رواه الإمام أحمد ووجه الاستشهاد به هو نفس الحديث قبله لكن هنا أكد العموم في ( الأرض ) بعموم آخر أقوى منه وهو لفظ ( كلها ) فهذا يفيد دخول كل أجزاء الأرض فكل ما يسمى أرضاً فهو داخل في هذا العموم فمن فرق فأجاز الصلاة هنا ولم يجزها هنا فعليه الدليل وإلا فقوله مردود عليه والله أعلم . ومثله في اللفظ حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم لفظ " فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً وهو يفيد ما أفاده الحديث قبله .
ومن الأدلة أيضاً :- حديث أبي ذر في سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن أي مسجداً وضع في الأرض أول وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " وحيثما أدركت الصلاة فصل فكلها مسجد " متفق عليه ، وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الأرض كلها مسجدٍ إلا المقبرة والحمام " رواه الخمسة إلا النسائي .(1/229)
ومن الأدلة أيضاً :- الاستقراء المفيد لليقين أنه صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ومن بعدهم إلى يومنا هذا لا زالوا يصلون حيث أدركتهم الصلاة في أي بقعة كانت ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتحرى بقعة لا يصلى إلا فيها أو أنه كان يتحرز من بقعة لا يصلي فيها ، فقد صلى على التراب والرمل والماء والطين وعلى الحصير وغير ذلك مما يدل على أن الأصل صحة الصلاة في سائر أجزاء الأرض هذا هو ما تقرر بالاستقراء إلا أنه ينبغي تقييد هذا الضابط بما قيدناه به وهو أن لا يكون هذا المكان مما استثناه الشارع بالدليل الصحيح الصريح وقال : إنه لا تجوز الصلاة فيه فما صح النهي عن الصلاة فيه فإنه يكون خارجاً عن هذا الأصل بالدليل وبهذا القيد يكون الضابط جامعاً مانعاً ، فلا يشذ عنه موضع من سائر أجزاء الأرض فمن زعم أن هذه البقعة لا تصح أو لا تجوز أو تكره الصلاة فيها فإننا نطالبه بالدليل ، وإليك الفروع على هذا الضابط حتى يتضح أكثر فأقول :-(1/230)
منها :- الصلاة في المقبرة ما حكمها ؟ الجواب لا تصح فإن قلت : فما الدليل على ذلك لأنك تخالف الأصل فالدليل يطلب منك ، فأقول نعم لك الحق في طلب الدليل وهو حديث جندب بن عبد الله البجلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " رواه مسلم وعن عائشة رضي الله عنها قالت " لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه فإذا أعتم بها كشفها فقال وهو كذلك " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " قالت عائشة : - يحذر ما صنعوا ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً " متفق عليه ، وعنها في حديث أم سلمة أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال :- أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصورا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله " متفق عليه وعن أبي مرثدٍ الغنوي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها " رواه مسلم ، ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد " ، وروى مالك في الموطأ :- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " فهذه الأحاديث تدل دلالة صريحة قطعية على النهي عن الصلاة في المقابر واتخاذها مساجد ، وأن ذلك من الكبائر لترتب اللعن وشدة الغضب على ذلك والإخبار بأن من فعل ذلك فإنه من شرار الخلق يوم القيامة ، فدل ذلك على آكدية النهي والنهي يقتضي الفساد ، فإن قلت : فما علة النهي عن الصلاة في المقابر؟ أقول العلة(1/231)
الصحيحة التي يعرفها من تدبر الأدلة السابقة هي خوف اتخاذها مساجد ومتعبدات ومن ثم الوقوع في الشرك الأكبر المخرج عن الملة والعياذ بالله ، إذاً النهي عن الصلاة فيها من باب سد الذرائع المفضية إلى الشرك ، فإن قلت : أولم يثبت في الصحيح والسنن أن النبي صلى الله على وسلم صلى على قبرٍ بعدما دفن شهراً وأنه صلى على شهداء أحدٍ بعدما دفنوا بثمان سنين كما في البخاري وغيره وأنه صلى على المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد بعدما دفنت بليلة فكيف ذلك ؟ فأقول : إن النهي عن الصلاة في المقبرة نهي عام عن سائر الصلوات ولكن هذا العام قد خص بصلاة الجنازة فإنه يجوز إيقاعها في المقبرة لمن فاتته لثبوت ذلك وقد تقرر في القواعد أن الخاص مقدم على العام ولأنها لا ركوع ولا سجود فيها فالأمر فيها أخف من غيرها والله ربنا أعلم .
ومن الفروع أيضاً :- الصلاة في معاطن الإبل ؟ ما حكمها ؟ أقول : الأصل هو جواز إيقاع الصلاة في كل بقعة من سائر بقاع الأرض إلا ما استثناه الشارع وقد ثبت الدليل الصحيح الصريح بالنهي عن الصلاة في معاطن الإبل وذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الغنم " رواه أحمد والترمذي وصححاه وقد تقرر في الأصول أن النهي المطلق يقتضي التحريم ، فالصلاة في المعاطن محرمة فتكون هذه البقعة مستثناة بالدليل الصحيح ، ويدل لذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم " لاتصلوا في مبارك الإبل فإنها خلقت من الشياطين " وقال في حديث آخر " إنها جن خلقت من جن " وفي حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن الصلاة في سبع مواطن وذكر منها ( ومعاطن الإبل ) " ولكنه حديث ضعيف والعلة في النهي عن الصلاة فيها لأنها مكان يكثر فيه الأرواح الخبيثة فهي مأوى الشياطين والشياطين تحب مباركها ، أفاده أبو العباس رحمه الله تعالى والله أعلم .(1/232)
ومن الفروع : - الصلاة في الحش بضم الحاء وفتحها وهو المرحاض أيضاً لا تصح الصلاة فيه لكونه معداً للنجاسة ومقصوداً بها ولمنع الشرع من الكلام وذكر الله فيه فالصلاة أولى وقد تقرر في القواعد أن مفهوم الموافقة الأولوي حجة ، ولأنها محتضرة كما في الحديث " إن هذه الحشوش محتضرة " فالنهي عن الصلاة فيها أولى من النهي عن الصلاة في الحمام ومعاطن الإبل " ولم يرد في الحشوش بعينها نص خاص للنهي عن الصلاة فيها لأن الأمر فيها كان أظهر عند المسلمين من أن يحتاج إلى بيان ولهذا لم يكن أحد من المسلمين يقعد في هذه الحشوش ولا يصلي فيها ، وإذا سمعوا نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الحمام وأعطان الإبل علموا أن النهي عن الصلاة في هذه الحشوش أولى وأحرى والله أعلم .
ومن الفروع أيضاً :- الصلاة في الحمام لا تجوز أيضاً والمراد بالحمام المغتسل الذي يكون فيه بركاً للاغتسال فهذه البقعة لا تجوز الصلاة فيها لحديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه الترمذي وله علة وفي حديث ابن عمر السابق في ذكر المواضع التي نهى عن الصلاة فيها " والحمام " لكنه حديث ضعيف ، وعن ابن عباس أنه قال : " لا يصلين إلى حشٍ ولا في حمامٍ ولا في مقبرةٍ " قال ابن حزم : ولا نعلم لابن عباس مخالفاً من الصحابة فهذه الأدلة تدل على عدم جواز الصلاة في الحمام فيكون خارجاً عن الأصل المتقرر بمقتضى الدليل والله أعلم .(1/233)
ومنها :- الصلاة في جوف الكعبة والخلاف اشتد في الفريضة وأما النافلة فالخطب فيها يسير والصواب إن شاء الله تعالى صحة النفل والفرض في الكعبة ، فأما النقل فلحديث ابن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالاً فسألته هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : نعم : بين العمودين اليمانيين " متفق عليه وعنه أنه قال لبلال : هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة قال : نعم ركعتين بين الساريتين عن يسارك إذا دخلت ، ثم خرج فصلى في وجهة الكعبة ركعتين " رواه البخاري وهذا نص صحيح صريح في جواز صلاة النافلة في الكعبة فإن قلت : فقد أنكر ابن عباس رضي الله عنه الصلاة بقوله " إن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في البيت ولم يصل فيه " وهو عند البخاري ، فأقول : إن كان ابن عباس رضي الله عنه ينفي الصلاة في الدخول المراد في حديث بلال فإنه لا شك أن قول بلال مقدم عليه لأنه شاهد القصة لأنه كان حاضراً مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ابن عباس حاضراً معهم ورواية من شاهد القصة مقدمة على رواية غيره ، ولأن بلالاً مثبت وابن عباس نافٍ والمثبت مقدم على النافي ولأن بلالاً حفظ هذه الصلاة من النبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس لم يحفظها ومن حفظ حجة على من لم يحفظ فالراجح هو جواز النافلة في الكعبة لهذه الأدلة وأما الفريضة فإنني لم أجد إلى ساعتي هذه ما يدل عليها بخصوصها أي لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفريضة فيها ، ولم يثبت أنه نهى عن الصلاة فيها ، فحينئذ نرجع إلى الأصل المتقرر عندنا وهو أن الأصل أن الأرض كلها مسجد كما ثبت في الأحاديث السابقة وجوف الكعبة داخل في هذا العموم ولم يدل الدليل على استثنائه وقد تقرر في القواعد أن العام باقٍ على عمومه حتى يرد الناقل ، وبقياس الفرض على النفل فإن جوف الكعبة(1/234)
إذا كان محلاً صالحاً لإيقاع النفل فيه فإنه أيضاً يكون محلاً صالحاً لإيقاع الفريضة فيه لأن القول فيهما باعتبار البقعة واحد أعني أن البقعة التي يصح فيها النفل يصح فيها الفرض ، فهذا دليل على صحة الفرض في الكعبة وقد قال به جمهور العلماء من الشافعية والحنفية ورواية عن مالك واختارها الآجري من أصحابنا ورجحها صاحب الفائق وغيرهما وهو الذي ترجح بالنظر في الأصل والدليل وأما حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبع مواطن وذكر منها " وفوق ظهر بيت الله تعالى " فإنه حديث ضعيف لا تقوم بمثله الحجة وقد تقرر في الأصول أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة والله أعلم . لكن عليك أن تنتبه لأمر مهم وهو أننا إذا قلنا بصحة الفرض في الكعبة فإنما ذلك من باب الجواز لا الاستحباب بمعنى أنه لا يستحب إيقاع الفرض في الكعبة لعدم النقل في ذلك لأن الاستحباب حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل لكن لو أوقعها الإنسان في الكعبة فهل تصح ، الجواب نعم فالبحث هنا في الجواز لا الاستحباب وأما النافلة فإيقاعها في الكعبة مستحب لفعله صلى الله عليه وسلم فإن قلت : أليس صلاته في الكعبة من باب الخصوصية لعدم إقتداء من كان معه به ؟ قلت : قد تقرر في الأصول أن حكمه صلى الله عليه وسلم وحكم أمته واحد ما لم يدل دليل التخصيص وعدم اقتدائهما به في هذا الوقت بعينه لا يدل على اختصاصه به فإن المسلمين بعده لا زالوا يتحينون الصلاة نفلاً في الحجر إلى وقتنا هذا من غير نكير والحجر من البيت بمقدار ستة أذرع كذا ثبت في الحديث والله أعلم .(1/235)
ومن الفروع أيضاً :- الصلاة في قارعة الطريق أي محل قرع الأقدام على الطريق وهو ما كثر السابلة فيه وهي الطريق العامرة بالناس فالحنابلة على المنع من الصلاة فيها وقالوا بأن الصلاة فيها لا تصح واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في سبع مواطن وذكر منها " وقارعة الطريق " ولأن المراد في الصلاة خشوع القلب والقلب في هذا الموضع يكثر اشتغاله بمرور الناس مما يؤدي إلى قطع الخشوع وربما أدى إلى مرور أحدٍ بين يديه فيؤدي إلى نقض صلاته أو أفضى ذلك إلى إيذاء المسلمين في طرقاتهم والتضييق عليهم ومنعهم من كمال الانتفاع بطريقهم وذهب الجمهور إلى صحتها لكن مع الكراهة ومذهبهم أقوى وذلك لعدم الدليل الدال على عدم الصحة وهو رواية عن الإمام أحمد لكن إن أفضى إلى ما ذكر فإنه يمنع من الصلاة فيها لأن إيذاء الناس في طرقهم ممنوع وما أدى إلى الممنوع فهو ممنوع لكن لو صلى فيها فصلاته صحيحة والله أعلم .(1/236)
ومنها :- الصلاة في المجزرة وهي التي تجزر فيها الإبل وتذبح فيه البقر والغنم فذهب الحنابلة إلى المنع من الصلاة فيها مع القول بعدم الصحة ، واستدلوا بحديث ابن عمر السابق وفيه " والمجزرة " ولأنها نجسة من دماء الذبائح المسفوحة لكن الراجح إن شاء الله تعالى صحة الصلاة فيها مع تحقق الطهارة وذلك لعدم الدليل الدال على المنع من الصلاة فيها ، نعم دل الدليل الشرعي على شرطية طهارة البقعة من النجاسة ، لكن هذا عام في المجزرة وفي غيره ، فإذا تحقق المصلي من طهارة أرضية المجزرة وصلى فيها فصلاته صحيحة ومن أفسدها فعليه الدليل لأن الأصل عدم الإفساد ، وخصوصاً في مجازرنا في هذا الزمن فإن أرضيتها من الأسمنت أو البلاط الذي لا يتشرب النجاسة فإذا غسل عنه الدم عاد حكمه إلى الطهارة فإذا صلى فيه فيكون قد صلى في محل طاهر ، فالمجزرة داخلة في عموم قوله " الأرض كلها مسجد " ولم يدل الدليل الصحيح على استثنائها فنبقى على الأصل ، وأما حديث ابن عمر فقد عرفت أن ضعيف لا يحتج به والله أعلم .
ومن الفروع : - الصلاة في البيع والكنائس ؟ ما حكمها ؟ فأقول :- بعد النظر في الأدلة والآثار تبين والله أعلم أن المسألة فيها تفصيل في ثلاث حالات :(1/237)
الأولى :- إن كانت هذه المتعبدات قد أزيلت صورتها وبني عليها المساجد فالصلاة فيها جائز والدليل على هذه الحالة حديث عثمان ابن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مساجد الطائف حيث كان طواغيتهم رواه أبو داود وابن ماجه ورجال إسناده ثقات وفيه دليل على جعل الكنائس والبيع وأمكنة الأصنام مساجد وكذلك فعل كثير من الصحابة رضي الله عنهم حين فتحوا البلاد فإنهم جعلوا متعبداتهم متعبدات للمسلمين وغيروا محاريبها وقد يستدل عليه أيضاً بحديث أنس في بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على أرض كان فيها قبور المشركين وأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالقبور فنبشت ففيه دليل على جواز بناء المساجد في هذه الأماكن فهذا هو الحالة الأولى .
وأما الحالة الثانية : فهي فيما إذا كانت هذه البيع والكنائس على حالها وصورتها وفيها قبور لأوليائهم أو تماثيل لهم أو فيها صورهم فالصلاة فيها في هذه الحالة لا تصح بل هي بمنزلة الصلاة في المقابر وفي الأماكن التي يحضرها الشيطان والدليل على ذلك ما رواه البخاري معلقاً موقوفاً على عمر أنه قال : إنا لا ندخل كنائسهم من أجل التماثيل التي فيها والصور " وقد وصله عبد الرازق في مصنفه من طريق أسلم مولى عمر قال : لما قدم عمر الشام صنع له رجل من النصارى طعاماً وكان من عظمائهم وقال : أحب أن تجيبني وتكرمني فقال له عمر : إنا لا ندخل كنائسهم من أجل الصور التي فيها – يعني التماثيل ، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة ويستدل عليه أيضاً بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة إلا بعدما أخرج منها الأصنام وطمست منها الصور فدخلها وصلى فيها .(1/238)
الحالة الثالثة :- أن تكون هذه البيع والكنائس على صورتها وهيئتها لكن ليس فيها تماثيل ولا صور فالذي يثبت عن الصحابة كابن عباس وغيره في هذه الحالة صحة الصلاة فيها لعدم المانع لكن بشرط ألا تبقى متعبداً للنصارى واليهود بمعنى أنها قد زالت ملكيتهم عنها بحربٍ أو شراءٍ فلم تعد متعبداً لهم ففي هذه الحالة لو صلى فيها المسلمون فصلاتهم صحيحة إن شاء الله تعالى لعدم الدليل المانع وبهذا التفصيل تتألف الأدلة والآثار ولا يبقى بينها تعارض ولله الحمد والمنة وهو أعلى وأعلم ولعل الضابط بهذه الفروع قد اتضح إن شاء الله تعالى وهو أعلى وأعلم .
الضابط السادس والعشرون
مفسدات الصلاة توقيفية(1/239)
وهذا الضابط متفرع عن القاعدة الكبرى التي شرحناها مراراً وتكراراً وهي قولنا العبادات المنعقدة بالدليل الشرعي لا تنقض إلا بالدليل الشرعي ، وهي من القواعد التي ينبغي لطالب العلم أن يجعلها نصب عينيه في باب نواقض العبادات فأقول : إن الصلاة من أحل القربات وأعظم الطاعات وأكبر العبادات ، بل هي الركن الثاني من أركان الإسلام ، وقد دل الدليل الشرعي على أن الإنسان يدخل فيها بتكبيرة الإحرام وذلك لحديث " تحريمها التكبير " وفي حديث المسيء صلاته " إذا قمت إلى الصلاة فكبر " وهذا هو هديه صلى الله عليه وسلم الذي لا ينخرم فإنه كان يدخل في صلاته فرضاً أو نفلاً بقوله " الله أكبر " لم يثبت عنه غيرها فإذا ثبت أن الصلاة قد انعقد حكمها بالتكبير فإن الأصل استمرار حكمها أعني انعقادها إلى تمامها أي إلى الخروج منها بالسلام ، فلا يجوز الهجوم عليها بالإبطال والإفساد إلا ببرهان قاطع ودليل ساطع فمن ادعى أن هذا القول وهذا الفعل من جملة مبطلات الصلاة ومفسداتها فقل له : أين الدليل على ذلك فإن الأصل عدم المفسد ، فأنت تريد إفساد ما انعقد حكمه بالدليل الشرعي وهذا لا يقبل منك إلا إذا كان مستندك الدليل الشرعي فإنه لا يقوى على حل ما انعقد بالدليل الشرعي إلا دليل شرعي أخر فإن جاءنا الدليل الصحيح الصريح الدال على الإفساد قلنا به وإلا فلا يقبل قول أحد في إفساد ما دل الدليل الشرعي على انعقاده وهذا من تعظيم شعائر الله وحرماته ولأن الأصل عدم المفسد فنبقى على هذا الأصل حتى يرد الناقل ولأن القول بالإفساد والإبطال من جملة الأحكام الشرعية التي تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة لا بمجرد الهوى والتحكم والرأي الباطل وهذا الضابط يريحك جداً في باب مبطلات الصلاة وما يفسدها ، وإنما عليك فقط أن تحفظ ما دل الدليل على أنه مفسد ويبقى ما يذكره بعض الفقهاء من المفسدات بلا دليل الاعتبار به وهذا من توفيق الله ونعمته ورحمته فله الحمد في الأولى(1/240)
والآخره ، ومن باب التوضيح أضرب لك بعض الفروع لنرى كيف تطبيق هذا الضابط على الفروع فأقول :
منها :- اختلف العلماء رحمهم الله تعالى هل يقطع الصلاة شيء أم لا يقطعها شيء ؟ على قولين :- فقيل لا يقطعها شيء أبداً وذلك لحديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يقطع الصلاة شيء وادرؤا ما استطعتم " رواه أبو داود فقوله " شيء " نكرة في سياق النفي فتعم كما تقرر في الأصول ، ولأن مفسدات الصلاة توقيفية فالأصل عدمها ، وقيل :- إنه لا يقطعها إلا مرور الكلب الأسود البهيم فقط ، وهو رواية في المذهب ، وقال بعضهم بل يقطعها مرور الكلب الأسود والمرأة والحمار ، وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى وهو رواية في المذهب واختارها المجد وحفيده أبو العباس وتلميذه ابن القيم رحم الله الجميع رحمة واسعة ، والدليل على ذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقطع صلاة الرجل المسلم إذا لم يكن بين يديه مثل آخره الرجل المرأة والحمار والكلب الأسود " رواه مسلم ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار " رواه مسلم وعن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يقطع الصلاة الحمار والكلب والمرأة " رواه أحمد وابن ماجه وعن أنس مرفوعاً " يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة " رواه البزار وقال العراقي ورجاله ثقات وعن ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه مرفوعاً بلفظ " يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض " وعن عبد الله بن عمرو قال " بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض أعلى الوادي يريد أن يصلي قد قام وقمنا إذ خرج علينا حمار من شعب فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكبر وأجرى إليه يعقوب بن زمعة حتى رده " رواه الإمام أحمد في المسند وقال العراقي إسناده صحيح ، فهذه الأحاديث تفيد إفادة واضحة أن هذه(1/241)
الثلاثة تقطع الصلاة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عبرة بقول أحد معه ولا يصح القياس في المسألة لوجود النص فيها وأي قياس يصادم النص فإنه فاسد الاعتبار ، وأما حديث أبي سعيد " لا يقطع الصلاة شيء " فإنه حديث ضعيف فقد ضعفه الحافظ وغيره وعلى تسليم صلاحية الاحتجاج به فإنه عام وقد خص بهذه الأحاديث وقد تقرر في الأصول أن الخاص يقدم على العام فإن قلت أفلا يحتمل أن يراد بقوله " يقطع الصلاة " نقصان أجرها ؟ قلت : هذا مجاز وقد تقرر في القواعد أن الأصل هو البقاء على الظاهر حتى يرد الناقل والأصل في الكلام الحقيقة فلا تعدل عنها إلى المجاز إلا بقرينة ولا قرينة هنا تصرفنا عن الظاهر ولا عن الحقيقة ، فإن قلت : أوليس مفسدات الصلاة توقيفية ؟ قلت نعم : ومعنى توقيفية أي موقوفة على الدليل الصحيح الصريح وقد ورد ما يدل على أن هذه الثلاثة تقطع الصلاة ومعنى القطع أي الإفساد فإن قلت : أوليس قد ثبت في الصحيحين أن عائشة كانت تنام في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي معترضة بين يديه اعتراض الجنازة فكان إذا سجد غمزها فقبضت رجليها فكيف تقول إن المرأة تقطع الصلاة " الجواب : أن الذي يقطع الصلاة هو مرورها وليس مكثها بين يدي المصلي وحديث عائشة هذا إنما هو في المكث وحديث أبي ذر إنما هو في المرور والله أعلم .(1/242)
ومنها : مرور الشيطان بين يدي المصلي هل يقطع الصلاة أو لا ؟ أقول : فيه خلاف بين أهل العلم والفضل فقيل لا يقطع الصلاة لأن الأصل في مفسدات الصلاة التوقيف ولعدم العلم بمروره ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها وقيل : بل يقطع الصلاة مروره بين المصلي وبين سترته إذا علم المصلي بمروره ، وحينئذ يجب منعه وهو القول الراجح إن شاء الله تعالى واختاره أبو العباس شيخ الإسلام رحمه الله تعالى والدليل على ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن عفريتاً تفلت عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي فأمكنني الله تعالى منه فذعته حتى سال برد لعابه على أصبعي ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقاً يلعب به صبيان أهل المدينة " والشاهد في قوله ليقطع عليّ صلاتي " لكن علم به النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه فمن علم بمرور الشيطان بين يديه فعليه أن يمنعه فإن مروره يقطع الصلاة وهذا الحديث نص في المسألة فلا ينبغي إهماله فقد تقرر في القواعد أن الحديث الذي يمكن إعماله فإنه لا يجوز إهماله ، وأن حكمه صلى الله عليه وسلم وحكم أمته واحد ما لم يدل دليل التخصيص فيكون هذا الحديث من جملة مخصصات حديث " لا يقطع الصلاة شيء " والله أعلم .(1/243)
ومنها :- ذهب الأئمة الحنابلة في المشهور عنهم بأنه من نفخ أو تنحنح فبان حرفان بطلت صلاته واستدلوا على ذلك بالأدلة التي تنهي عن الكلام في الصلاة وذهب بعض أهل العلم في أنها لا تبطل الصلاة وذلك هو القول الراجح للدليل الأثري والنظري فأما الأثري فحديث علي قال كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح ليّ " حديث صحيح فدل ذلك على أن النحنحة لا تبطل الصلاة وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف أنه نفخ في صلاته وقال : عرضت على النار فرأيت بعضها يحطم بعضاً فدل ذلك على أن النفخ لا يبطل الصلاة وأما النظري فلأن النفخ والنحنحة وإن بان حرفان فإنها ليست بكلام لا لغةً ولا عرفاً ولا شرعاً فإن من حلف ألا يتكلم ثم تنحنح فبان حرفان لم يحنث لأنه لم يتكلم الكلام المعهود ولأن مفسدات الصلاة توقيفية على الدليل الصحيح ولم يأت دليل يدل على أن ما ذكروه مبطل للصلاة والأصل أن ما انعقد بالدليل الشرعي لا ينقض إلا بالدليل الشرعي والله أعلم .(1/244)
ومنها : ذهب بعض العلماء أن من أشار إشارة فهمت عنه فإن صلاته باطلة وذلك تنزيلاً لهذه الإشارة منزلة الكلام فالإشارة المفهومة كلام عندهم والقول الصحيح إنها لا تبطل الصلاة وذلك للدليل الأثري فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد عليهم السلام وهو في الصلاة ففي حديث ابن عمر أنه قال لبلال : كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين يسلمون عليه وهو يصلي فقال يقول هكذا وبسط كفه " حديث صحيح وفي الصحيح من حديث أسماء في صلاة الكسوف قالت دخلت على عائشة رضي الله عنها وهي تصلي فقلت ما شأن الناس فأشارت برأسها إلى السماء فقلت آية ؟ فأشارت برأسها أي نعم ومضت في صلاتها وهي إشارة مفهمة ومن ذلك أنه لما تكلم معاوية بن الحكم في الصلاة طفق القوم يضربونه بأيديهم على أفخاذهم يريدون تسكيته وفهم ذلك منهم ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على أن الإشارة المفهمة لا تبطل الصلاة وأما النظري فلأن مفسدات الصلاة توقيفية على الدليل الصحيح ولم يأت دليل يدل على بطلان الصلاة بمجرد الإشارة المفهمة . والله أعلم .
ومنها :- اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في المأموم الواحد إذا صلى عن يسار الإمام مع خلو يمينه ، هل صلاته صحيحة أم لا ؟ فقال بعضهم :- بأنها باطلة واستدلوا على ذلك بما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال :- بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الليل فقمت عن يساره فأخذ برأسي فأدارني خلفه فقمت عن يمينه " وفي حديث جابر :- فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه " وهذا دليل على أن الموقف الشرعي للمأموم الواحد أن يكون عن يمين الإمام فمن صلى عن يساره فقد خالف الموقف الشرعي فلا تصح صلاته ، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، وعنه أن صلاته صحيحة ولكن خالف السنة ، واختارها موفق الدين بن قدامة وصوبه في الإنصاف واستظهره في الفروع ، واستدلوا بأمرين :-(1/245)
الأول :- أن ابن عباسٍ وجابر افتتحا الصلاة عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم ثم أدارهما وبعد الإدارة بنيا على صلاتهما مما يدل على صحة إحرامهما بالصلاة ولو كانت الصلاة باطلة للزمهما إحرام جديد ولبين لهما النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلما بنيا على صلاتهما ولم يستأنفاها دل ذلك على صحة صلاتهما ، وإدارة النبي صلى الله عليه وسلم لا تدل على بطلان الصلاة لأنها فعل وإنما تدل على أن الموقف الشرعي للواحد عن يمين الإمام .
... والثاني :- أن الصلاة انعقدت بالتكبير فلا يجوز إبطالها إلا بالدليل الشرعي الصحيح الصريح وإلا فالأصل عدم البطلان وأن مفسدات الصلاة توقيفية على الدليل الصحيح الصريح ولم يأت دليل على بطلان الصلاة عن يسار الإمام مع خلو يمينه ، وحيث لا دليل فالأصل الانعقاد وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى والله أعلم .
ومنها :- ما الحكم لو صلى الفذ خلف الصف ، أقول :- هذه مسألة فيها خلاف ، وطلباً للاختصار أقول :- إعلم رحمك الله تعالى أن المصافة واجبة في الصلاة وقد دل على وجوبها قوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لمنفردٍ خلف الصف " وفي حديث وابصة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة " وهو حديث صحيح فدل هذان الحديثان على وجوب المصافة . والله أعلم .
ومنها : ما الحكم لو صلى الفذ خلف الصف لعجزه ؟ أقول :- صلاة الفذ خلف الصف إما لعجزه وإما لا فإن كان لعجزه عن المصافة فالقول الصحيح صحة صلاته لأن الواجبات تسقط بالعجز وأما إن صلى خلف الصف وحده مع قدرته على المصافة فالصواب أن صلاته باطلة وعليه إعادتها والدليل هو ما مضى من هذه الأحاديث ووجه الدلالة منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعيد الصلاة مما يدل على بطلان صلاته التي صلاها خلف الصف وحده والخلاصة أن من شروط صحة الصلاة المصافة مع القدرة فمن أخل بها مع القدرة عليها فصلاته باطلة .(1/246)
ومنها :- الحركة في الصلاة ، والمراد الحركة الأجنبية هل هي مبطلة للصلاة أم لا ؟ فيه خلاف بين أهل العلم ، رحمهم الله تعالى فأقول اعلم رحمك الله تعالى أن الأدلة دلت على وجوب السكون في الصلاة وعدم الحركة إلا فيما يحتاج الإنسان إليه فإذا تحرك الإنسان في الصلاة فلا يخلو إما أن تكون يسيرة وإما أن تكون كثيرة متوالية ، فإن كانت يسيرة فلا بأس بها إجماعاً وحد اليسير ما كان من جنس فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، من حمل أمامه بنت أبنته زينب ، وصعود المنبر والنزول منه لما صلى عليه ، وفتح الباب لعائشة وتأخره في صلاة الكسوف ثم عودة ، ورد المار بين يديه وقتل الحية والعقرب وإدارة ابن عباسٍ وجابرٍ ، فمثل هذه الأفعال تعد يسيرة فما كان من جنسها فهو يسير وقد اتفق الأئمة على أنه لا بأس بالعمل اليسير للحاجة ، وأما إذا كثر الفعل وطال وكان متوالياً بلا تفريق فإن صلاته تبطل به ، والدليل في ذلك الإجماع ذكره صاحب المبدع والإنصاف وغيرهما ، وقد تقرر أن الإجماع حجة شرعية يجب المصير إليها ، ولأن العمل الكثير يقطع الموالاة ويمنع متابعة الأركان ، فإن قلت :- أليس مفسدات الصلاة توقيفية ، قلت :- بلى ولكن إجماع العلماء على أن هذا مفسد حجة يجب المصير إليها لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة فوجب الأخذ به والله أعلم .(1/247)
ومنها :- ذهب الحنابلة وغيرهم إلى أن صلاة المفترض خلف المتنقل لا تصح للاختلاف في النية وفي رواية أخرى أنها لا تبطل واختارها جمع من الأصحاب ، وهي الراجحة ذلك لأن معاذاً رضي الله عنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم فهي له نافلة ولهم فريضة والحديث متفق عليه وهو نص في محل النزاع فلا ينبغي فيه المخالفة ولأن مفسدات الصلاة توقيفية ولم يأت دليل يدل على أن المفترض لو صلى خلف المنتفل أن صلاته تبطل وحيث لا دليل فالأصل عدم الإفساد واختلاف النيات جائز فيجوز للمفترض الصلاة خلف المنتفل كما في الحديث السابق ويجوز للمنتفل أن يصلي خلف المفترض كما في حديث يزيد بن الأسود في إعادة الجماعة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجلين " إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه فإنها لكما نافلة ويجوز للمسافر أن يصلي خلف المقيم فالأول يقصر والثاني يتم لحديث " أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر " فدل ذلك على جواز اختلاف النيات بين الإمام والمأموم فالراجح ولا شك أن المفترض يجوز له الإتمام بالمنتفل ومن ادعى أن صلاته ورائه باطلة فعليه الدليل لأن مفسدات الصلاة توقيفية .(1/248)
ومنها :- ذهب الأئمة الحنابلة رحمهم الله تعالى في المشهور عنهم أن من تكلم في الصلاة فإن صلاته باطلة سواء كان الكلام عمداً أو سهواً أو جهلاً طائعاً أم مكرهاً ، وذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء من السلف والخلف وهي رواية عند الحنابلة أنه لا تبطل إلا بعمده أما ما كان منه سهواً أو جهلاً أو إكراهاً فإنه لا يبطله وهو الصواب وذلك لأن مفسدات الصلاة توقيفية ولم يأت دليل يدل على أن كلام الساهي والناسي والجاهل والمكره مفسد للصلاة بل ورد ما يدل على أنه غير مفسد لها وهو حديث معاوية بن الحكم وتقدم فهو رضي الله عنه تكلم في صلاته جاهلاً ولما سلم النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة فلو كان الكلام في هذه الحالة مبطلاً لأمره بالإعادة لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولأن الكلام مما أمر المصلي بتركه وما أمر بتركه فإنه يسقط أثر فعله جهلاً ونسياناً فالصواب إن شاء الله تعالى أن من تكلم في الصلاة ناسياً أنه في صلاة أو جاهلاً فصلاته صحيحة ومن ادعى فسادها به فعليه الدليل والله أعلم .(1/249)
ومنها :- الالتفات في الصلاة هل هو مبطل لها مطلقاً أم لا يبطلها مطلقاً أم فيه تفصيل ؟ الجواب :- القول الراجح إن شاء الله تعالى أن فيه تفصيلاً وهو كما يلي الأول : إن كان المراد به الاستدارة بالوجه والبدن عن جهة القبلة فهو مبطل لها إجماعاً وذلك لأن من شروط صحتها استقبال القبلة وهذا ترك الاستقبال فبطلت صلاته ، الثاني : إن كان الالتفات حصل بوجهه وكان يسيراً ولم يخرج الوجه عن جهة القبلة بهذا الالتفات فهذا لا يبطل الصلاة لكن إن كان بلا حاجة فإنه مكروه إجماعاً لحديث أبي ذر مرفوعاً " لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف عنه " رواه أحمد وغيره وقال ابن عبد البر : جمهور الفقهاء على أن الالتفات لا يفسد الصلاة إذا كان يسيراً الثالث : إذا التفت بوجهه كثيراً كأنه هيئة السلام فهذا لا يخلو إن كان لحاجة فإنه لا بأس به لحديث سهل قال " ثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب " رواه أبو داود والمرد بالشعب أي الذي يجيء منه الطليعة ، ولم يكن هذا من فعله الراتب وإنما فعله لعارض وكذا قال ابن عباس " كان يلتفت يميناً وشمالاً ولا يلوي عنقه خلف ظهره " رواه النسائي والترمذي بسند صحيح وفي صحيح مسلم عن جابر أنه قال " اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يكبر يسمع الناس تكبيره ، فالتفت إلينا فرآنا قياماً فأشار إلينا فقعدنا " الحديث وفي الصحيح أيضاً أن أبا بكر التفت حين صفق الناس لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وأكثروا عليه التصفيق ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم وكل ذلك كان لحاجة فإذا كان الالتفات لحاجة فإنه لا بأس به ولا كراهة فيه أما إذا كان بلا حاجة فهو مكروه كراهة شديدة لكنه أيضاً لا يبطل الصلاة على القول الراجح فقلنا بأنه مكروه كراهة شديدة لحديث عائشة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في(1/250)
الصلاة فقال " إنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ، رواه البخاري وزاد الترمذي " إياك والالتفات في الصلاة فإنه هلكة فإن كان لأبد ففي التطوع وقلنا بعدم البطلان لأن مفسدات الصلاة توقيفية ولم يأت دليل على أن هذا الالتفات من جملة مبطلات الصلاة فحيث لا دليل فالأصل عدمه والله أعلم .
ومنها :- تكرار الفاتحة ، فإن بعض العلماء زعم أن الصلاة تبطل بذلك وقاسها على تكرار الركن الفعلي ، وهذا خطأ بل الراجح أنها لا تبطل وذلك لعدم الدليل والأصل أن مفسدات الصلاة توقيفية ولم يأت دليل يدل على بطلانها فحيث لا دليل فالأصل عدم الفساد لكن إن قيل بالكراهة فهذا له وجه وذلك للخروج من الخلاف ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأم قيامهم فهو مع الفارق وذلك لأن زيادة الركن القولي لا يتغير بها نظم الصلاة بخلاف الركن الفعلي والله أعلم .
ومنها :- ذكر أبو العباس بن تيميه رحمة الله عليه عن قوم أنهم قالوا : إن سبح الإمام أكثر من ثلاث بغير رضا المأمومين أن صلاته تبطل ثم قال قدس الله روحه : فهذا قول باطل محدث لم يقله أحد من الأئمة قلت وهذا القول الذي قاله هذا البعض إنما يدل على شدة التجاسر في إثبات ما ليس بثابت وهذا أثر من آثار التعصب والقول على الله بلا علم فأعوذ بالله وأعيذ به أخواني من مثل هذه المزالق الوخيمة والمناهج السقيمة والمذاهب العقيمة ، وأقول إن مفسدات الصلاة على الدليل ولم يدل دليل على مثل ذلك ويذكرني هذا بقول من جعل العطاس في الصلاة مبطلاً لها : فيا لله العجب من مثل هذا فإن هذا القول قول محدث لا سلف له ولا دليل عليه والله أعلم ولعلك بهذه الفروع إن شاء الله تعالى فهمت ما أريد إثباته لك في هذا الضابط فقس عليها ما لم يذكر والله أعلى وأعلم .
الضابط السابع والعشرون
كلما كان الإمام أجمع للشروط المعتبرة شرعاً كلما كانت الصلاة أكمل(1/251)
وهذا الضابط في باب الإمامة في الصلاة ، فأقول :- اعلم أرشدك الله لطاعته أن الشريعة راعت في إمام الصلاة شروطاً وصفات كثيرة ، منها ما هو من باب الوجوب ومنها ما هو من باب الاستحباب والكمال ، فمما ينبغي على المسلمين من باب الحرص على شعيرة الصلاة أن يتحينوا أن يكون إمام الصلاة ممن جمع هذه الشروط كلها أو أكثرها ، وكلما كان الإمام أجمع لهذه الشروط المعتبرة كلما كانت الصلاة أعظم أجراً وأكمل ثواباً وأتم عند الله تعالى ، وهذه الشروط العظيمة تدل على عظم منزلة الإمامة في الإسلام وأن لا يتولاها إلا أصحاب المقامات العالية والمنازل السامية فليست هي لمن هَبَّ ودبَّ ، ولذلك لم يكن يتولاها في عهد النبوة إلا النبي صلى الله عليه وسلم ثم تولاها الخلفاء الراشدون من بعده ، وهي مسئولية عظيمة ليست بالسهلة لكن من أحسن القيام بها وراقب الله في توليها فكم له فيها من الأجر العظيم والثواب الجزيل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة رجل أمَّ قوماً وهم به راضون " الحديث ، وقال عليه الصلاة والسلام " له من الأجر مثل أجر من صلى معه " وغير ذلك من الأحاديث الدالة على فضلها ، وأما الشروط التي نعنيها في الضابط بقولنا ( الشروط المعتبرة ) فأقول وبالله التوفيق ومنه استمد الفضل بحسن التحقيق :-(1/252)
عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم " رواه مسلم ، فيعتبر في الإمام أن يكون هو الأقرأ وهذا من باب الاستحباب ، فأحق الناس بالإمامة أقرأهم لكتاب الله تعالى ويؤيده حديث أبي مسعود البدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " رواه مسلم ، فيقدم القارئ على غيره إذا كان عالماً فقه صلاته ، فهذا من جملة الشروط المعتبرة . وفي حديث أبي مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإن كانوا في القراءة فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً " رواه مسلم ، وهذا يفيد اعتبار العلم ، فمما يعتبر في الإمام أن يكون عالماً بالسنة ، فهو مقدم على غيره ، وهذا من باب الاستحباب ، وكذلك يدل على اعتبار الأقدمية في الهجرة ، ويدل أيضاً على اعتبار السن ، فيقدم الأقرأ فإن استووا في الهجرة فيقدم الأكبر في السن ، فهذه بعض الشروط المعتبرة لكنها من باب الكمال والاستحباب لا التحتم والوجوب .
ويدل على اعتبار السن أيضاً حديث مالك بن الحويرث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم " متفق عليه ، وفي رواية مسلم " وكانا متقاربين في القراءة " ولأبي داود " وكنا يومئذٍ متقاربين في العلم " فلما تقاربا في القراءة وتقاربا في العلم قدم النبي صلى الله عليه وسلم في الإمامة الأكبر ، وهو موافق كل الموافقة لحديث أبي مسعودٍ السابق وكل ذلك من باب الاستحباب والكمال لا التحتم والوجوب .(1/253)
ومن الشروط المعتبرة أيضاً :- تقديم صاحب البيت في بيته والسلطان في ملكه فلا يجوز لأحد الافتيات عليهم إلا إذا أذنوا له فلا بأس ويدل لذلك حديث أبي مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه " وعن مالك بن الحويرث قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من زار قوماً فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم " رواه أبو داود والنسائي وغيرهما ، فصاحب البيت والسلطان أحق من غيرهما وإن كان الغير أقرأ أو أعلم منهما، وهذا هو ظاهر هذه الأحاديث ، فالواجب إذاً تقديم صاحب البيت والسلطان لأنهما في ملكهما فهما أحق من يتقدم ، ومثلها إمام المسجد الراتب في مسجده هو أحق من غيره فلا يجوز لغيره الافتئات عليه والله أعلم .
ومن الشروط المعتبرة أيضاً :- الذكورية إذا كان المأمومون رجالاً أو رجالاً ونساءً فلا يصح أن تكون المرأة إماماً للرجل وذلك لحديث " ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " رواه البخاري ، فقوله " أمرهم " مفرد مضاف وقد تقرر أن المفرد المضاف يعم ، فيدخل في ذلك كل الأمور ومن أعظمها أمر الصلاة والإمامة وهذا الحديث وإن كان على سببٍ خاص لكن قد تقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالاستدلال به هنا صحيح ، وفي الحديث الآخر " ولا تؤمن امرأة رجلاً " لكنه حديث ضعيف جداً ، ولأن المرأة عورة وحق الإمام التقديم فربما شوشت على من وراءها وأوقعت في قلوبهم الفتنة في ركوعها وسجودها ولذلك لا تصح مصافتها معهم وهي مأمومة فكيف تتقدم عليهم فإذا كان الأول ممنوع فالثاني من باب أولى ، لكن إذا كان المأمومون جميعاً نساءً فلا بأس أن تؤمهم وتكون وسطهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ومن الشروط أيضاً :- النطق ، وهذا أمر لا يحتاج إلى الاستدلال ، وذلك لأن الإمام يجب عليه إسماع من خلفه التكبير والقراءة وهذا عاجز عنها ولا بدل لها فلم تصح إمامته والله أعلم .(1/254)
ومن الشروط المهمة أيضاً : العدالة في الظاهر ، وضدها الفسق وهو نوعان في الاعتقاد وفي الأعمال ، وسيأتي تفصيل ذلك في الفروع إن شاء الله تعالى .
ومن شروطها أيضاً : الإسلام لأن الكافر لا تصح صلاته لنفسه فلم تصح بغيره وكذلك العقل لأن المجنون لو صلى لما صحت صلاته فمن باب أولى أن لا تصح بغيره وكذلك التمييز لنفس التعليل ، فهذه هي الشروط المعتبرة شرعاً في الإمامة وأعيدها مختصرة لتكون منك على ذكر :-
الأول :- الإسلام ، والثاني :- العقل ، والثالث :- التمييز ، والرابع : الذكورية ، والخامس :- النطق ، والسادس :- العدالة ، والسابع :- أن يكون هو صاحب السلطان ، والثامن : أن يكون الأقرأ أو الأعلم أو الأقدم هجرة أو الأكبر سناً ، فهذه الشروط هي التي تحررت عندي على خلاف في بعضها ، وسيتضح باقي ما يذكره الفقهاء من الشروط ونرى مدى صلاحيتها شرعاً فأقول وبالله التوفيق :-(1/255)
من الفروع :- إمامة العبد ، فإن العلماء على خلاف في إمامته ، فبعضهم قال لا تصح إذا كان من خلفه أحرار وبعضهم قال هي خلاف الأولى ، وبعضهم قال بل إن كان هو الأقرأ فالسنة تقديمه وهذا هو القول الصواب فإن عموم الأدلة السابقة أعني قول النبي صلى الله عليه وسلم " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " تدل على تقديم الأقرأ مطلقاً من غير نظر إلى حريته ورقه ، ولم يأت دليل يمنع من إقامة العبد ، ولم يأت في الأدلة ما يفيد اشتراط الحرية بل ورد ما يلغيه وهو ما رواه ابن عمر قال :- لما قدم المهاجرون الأولون نزلوا العصبة موضعاً بقباء قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وكان يؤمهم سالم مولى حذيفة وكان أكثرهم قرآناً وكان فيهم عمر بن الخطاب وأبو سلمة بن عبد الأسد " رواه البخاري ، وهذا نص في الموضوع ، بل هو يفيد إجماعهم على صحة إمامته ، ويؤيدها ما رواه الإمام الشافعي في مسنده عن ابن أبي ملكية أنهم كانوا يأتون عائشة بأعلى الوادي هو وعبيد ابن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير فيؤمهم أبو عمرو مولى عائشة ، وأبو عمرو غلامها حينئذ لم يعتق وهذا أيضاً نص في الموضوع ، وصلى ابن مسعود وأبو ذر وغيرهما وراء مولى أبي أسيد وهو عبد ، ولم يعرف لهؤلاء السادة مخالف منهم فكان إجماعاً ، قال الحافظ : مذهب جمهور العلماء صحة إمامة العبد وقال الشارح : وإمامة العبد صحيحة قلت وهو الراجح إن شاء الله تعالى وبه تعلم أن اشتراط الحرية شرط لاغ فاسد مخالف للدليل الصحيح الصريح والله أعلم .(1/256)
ومن الفروع أيضاً : اشتراط البلوغ فإن العلماء اختلفوا في إمامة الصبي بالبالغين فمنهم من منعها في الفرض وقال : لا تصح واستدل بما يروى " لا تقدموا صبيانكم " ولآن صلاته نفل وصلاة من خلفه فرض والمفترض لا يصح اقتداؤه بالمنتفل ، لكن أجازوا إمامته في النفل لأنه منتفل خلف منتفل ، وقال بعضهم بصحة إمامته مطلقاً إذا كان يعقلها بل الأفضل تقديمه إذا كان هو الأقرأ ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى والدليل على ذلك حديث عمرو ابن سلمه قال : قال أبي جئتكم من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً ، فقال : صلوا صلاة كذا في حين كذا ، فصلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً " فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآناً فقدموني وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين " وهذا نص قاطع للنزاع فإن قيل : لم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم ، قلت : إن الوقائع التي لها تعلق بالأحكام إذا كانت على خلاف الشرع إن لم يعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم فإن الذي يعلم السر وأخفى قد علم بها والوحي كان ينزل ولا يقع التقرير لأحد من الصحابة على الخطأ فلما لم ينزل في ذلك شيء دل على الجواز ، ولأن الصبي داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " والأصل البقاء على العموم بل أن الصبي تصح صلاته في نفسه ومن صحت صلاته في نفسه صحت بغيره وأما ما يروونه فليس بشيء فإنه لا سند له ولا أصل وإنما هو كلام يتداوله الفقهاء ولا يعزونه لشيء من الحديث المعتمدة ، قال ابن عبد الهادي : لا يصح ولا يعرف له إسناد صحيح وأما بناؤهم المسألة على أن المفترض لا يأتم بمنتفل فما أفسده من بناء لأن المعارضة في الأصل فإن الراجح صحة ائتمام المفترض بالمنتفل لحديث معاذ الذي تقدم ذكره والأصل أن كل من صحت إمامته في النفل فإنها تصح في الفرض إلا بدليل مانع وبهذا تعرف إن شاء الله تعالى أن اشتراط البلوغ لا وجه له ولا دليل عليه بل(1/257)
الدليل يخالفه فالراجح صحة إمامة غير البالغ إذا كان يعقل الصلاة وإذا كان الأقرأ فالسنة تقديمه والله أعلم .
ومنها : - اشتراط أن يكون الإمام بصيراً فإن المذهب عندنا أن إمامة البصير أكمل من إمامة الأعمى فهو شرط كمال لا شرط صحة ذلك لأن إمامة الأعمى صحيحة إجماعاً ، ولكن الصواب والله تعالى أعلم هو أن الأولى إمامة الأقرأ مطلقاً سواء كان أعمى أو بصيراً ، فلو كان الأعمى هو الأقرأ لكانت إمامته هي الأولى والدليل على ذلك حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم وهو أعمى " رواه أحمد وأبو داود وهو حديث حسن وعن محمود بن الربيع أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى الحديث " رواه البخاري ، فهذان الحديثان يدلان على أن إمامة الأعمى إمامةٌ كاملة لا نقص فيها بوجه ، بل هي السنة إذا كان هو الأقرأ والله أعلم .(1/258)
ومنها : - إمامة الفاسق ، سواءً كان فسقه من جهة الاعتقاد كالأشعري والمعتزلي والخارجي ونحوهم أو من جهة الأعمال كالمسبل وشارب الخمر ونحوهم ما حكم إمامته ؟ أقول : في المسألة تفصيل لابد منه وهو أن يقال : إن كان هذا الإمام هو إمام المسلمين الذي لا تقام الجمعة ولا العيد إلا خلفه فاعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الصلاة خلفه وهي صحيحة ولا تعاد وهذا بإجماعهم رضي الله عنهم بل نصوا على ذلك في كتب المعتقد بل ذكروا أن من يمتنع من الصلاة خلف إمام المسلمين الجمع والجماعات والأعياد ويصليها في بيته أنه مبتدع ضال ، والأدلة على ذلك كثيرة شهيرة فروى الإمام البخاري في صحيحه بسنده " أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف " وأخرج مسلم وأهل السنن أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان وفي صحيح مسلم " أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة يوم العيد مروان فقام إليه رجل فقال " الصلاة قبل الخطبة " ثم قال " قد ترك ما هنالك " فقال أبو سعيد أما هذا فقد أدى ما عليه الحديث " فكان أبو سعيد رضي الله عنه حاضراً وصلى أنس خلف الحجاج أيضاً ، وصلى ابن مسعود خلف الوليد بن عقبه فصلى الصبح أربعاً فالتفت عليهم فقال : أزيدكم " فقال ابن مسعود ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة ، وقد ثبت بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن أمراء بني أمية أنهم يميتون الصلاة عن وقتها ثم قال " صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة ولا شك أن من أمات الصلاة عن وقتها وفعلها في غير وقتها من غير عذر أنه غير عدل وقد صحح النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة خلفهم نافلة ومن صحت إمامتهم في النفل صحت في الفرض وهذا بإجماع الصدر الأول رضي الله عنهم فهذا بالنسبة للإمام إذا كان هو الأمير الذي لا تقام الجمع والجماعات والأعياد والجهاد إلا خلفه فالكلام فيه داخل في أمر المعتقد التي نبه عليها أهل السنة والجماعة في كتب الاعتقاد فمثل هذا لا تنبغي(1/259)
المخالفة فيه ، فهذا بالنسبة للحالة الأولى .
الحالة الثانية : أن يكون هذا الإمام الفاسق ممن رتبه ولي الأمر في هذا المسجد ، فهذا لا يخلو الأمر : إن كان في ترك الصلاة خلفه مفسدة راجحة كتعطيل الجماعة في هذا المسجد أو إيغار القلوب على التارك للصلاة خلفه فإن الصلاة خلفه أفضل لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ولأن الحرص على تحقيق المصالح العامة أولى من الحرص على جلب المصالح الخاصة ومن المصالح العامة تحقيق التآلف وبث روح الأخوة بين المسلمين فالمصلحة الشرعية تقتضي أن يصلى وراء هذا الإمام أما إذا لم يكن في ترك الصلاة خلفه أي مفسدة أصلاً أو فيه مفاسد لكنها نزر يسير لا ينظر إليها فلا شك أن ترك الصلاة خلفه والبحث عن الأتقى هو الأفضل وذلك لأن إمام الصلاة كلما كان أجمع للشروط المعتبرة شرعاً كلما كانت الصلاة أكمل ومن الشروط المعتبرة للكمال العدالة وعلى ولي الأمر أن لا يقدم في الإمامة إلا الأتقى ، فإنها من النصيحة الواجبة للمسلمين وهكذا يقال في غير الإمام الراتب ، هذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى في مسألة الصلاة خلف الفاسق وخلاصتها أن يقال : أن الفاسق نوعان : إما أن يكون مستوراً وإما أن يكون معلناً فإن كان مستوراً فالصلاة خلفه جائزة بالاتفاق واتفقوا على أنه لا يجب على المأموم امتحان إمامه وسؤاله عن اعتقاده أو البحث في أحواله المستورة هل هو عدل أم لا ؟ وأما الفاسق المعلن فلا يخلو إن كان هو إمام المسلمين ولا تقام الجمعة والجماعة إلا خلفه فالصلاة خلفه واجبة وتاركها مبتدع وإن كان غيره فينظر في المصلحة الشرعية على ما مضى تفصيله . والله أعلم .(1/260)
ومنها : - ذهب الأصحاب في المشهور عنهم أنه إذا اجتمع مقيم ومسافر أن إمامة المقيم أكمل واستدلوا على ذلك بأن المسافر قد يقصر فيفوت المأمومين بعض الصلاة في جماعة ، ولكن الصواب إن شاء الله تعالى أن أفضلهما في الإمامة أقرؤهما للقرآن أو أعلمهما بمعنى : اجمهما للشروط المعتبرة شرعاً من غير نظر بين إقامة أو سفر فإن هذا لم يأت الأدلة الصحيحة باعتباره وما لم تعتبره الشريعة فحقه عدم الاعتبار بل ورد في الشريعة ما ينافيه وهو حديث عمران بن حصين قال : ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً إلا صلى ركعتين حتى يرجع وأنه أقام بمكة زمن الفتح ثمان عشرة ليلة يصلي بالناس ركعتين ركعتين إلا المغرب ثم يقول : يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين أخريين فإنا قوم سفر " رواه أحمد بإسناد حسن ، وعن عمر أنه كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم قال يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " رواه مالك في الموطأ ورجال إسناده ثقات فهذه الأدلة صريحة في أن المسافر أولى بالإمامة إذا كان أجمع للشروط المعتبرة شرعاً ومثل هذا الفرع لا ينبغي الخلاف فيه لوضوح دليله والله أعلم .(1/261)
ومنها : - ذكر الأصحاب رحمهم الله تعالى أنه لو أجتمع متوضئ ومتيمم أن الأفضل تقديم المتوضئ لكمال طهارته وأما المتيمم فطهارته طهارة ضرورة وهو مبيح لا رافع ، ولكن الصواب إن شاء الله تعالى أن المتيمم أولى من المتوضئ إن كان أجمع للشروط المعتبرة شرعاً فإذا كان هو الأقرأ أو الأعلم أو الإمام الأعظم أو قائد الجيش مثلاً فتقديمه هو السنة ولم يأت في الأدلة ما يرجح إمامة المتوضئ على المتيمم بل ورد ما يؤيد الذي رجحناه وهو حديث عمرو بن العاص أنه لما بعث في غزوة ذات السلاسل قال " احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت أن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال " يا عمرو ، صليت بأصحابك وأنت جنب ، فقلت : - ذكرت قول الله تعالى " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما " فتيممت ثم صليت فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً " رواه أحمد وأبو داود والدارقطني والبخاري تعليقاً ووجه الشاهد منه هو إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو على ما فعله ولم يقل : كان الأولى أن يصلي بهم من تطهر بالماء فلو كان الأمر كما ذكره الحنابلة لنبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فلما لم ينبه عليه دل على عدم اعتباره بل وإقرار الصحابة الذين كانوا معه دليل على أنهم لا يرون أنهم أحق منه بالإمامة لأنهم متطهرون بالماء ويؤيد ذلك ما رواه الأثرم عن سعيد بن جبير قال " كان ابن عباس في سفر معه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمار بن ياسر وكانوا يقدمونه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ذات يوم فضحك ، وأخبرهم أنه أصاب من جارية له روميه فصلى بهم وهو جنب متيمم " وأحتج به الإمام أحمد في روايته فهذا يدل على أن الأولى بالإمامة من كان أجمع للشروط المعتبرة شرعاً من غير فرقٍ بين متوضئ ومتيمم ، والقول الراجح أن التيمم رافع للحدث(1/262)
رفعاً مؤقتاً إلى وجود الماء ، فعلى هذا فطهارة التيمم للعادم أو للعاجز عن استعمال الماء كطهارة المتطهر بالماء لا فضل لهذه على هذه والله تعالى أعلم .
ومنها :- لو اجتمع شارب للدخان وحالق اللحية ومسبل لثوبه فمن الذي يقدم ولماذا ؟ الجواب يقدم أولاً شارب الدخان وذلك لأن شرب الدخان يكون في حالٍ دون حال وفي حال إمامته ليس بعاص لشربه ثم يقدم حالق اللحية لأن حلقها صغيرة وأما المسبل فإن معصيته كبيرة عظيمة وقد اختلف في قبول صلاته فذنبه أعظم فاخفهم فسقاً شارب الدخان ثم حالق اللحية ثم المسبل والله أعلم .(1/263)
ومنها : - إمامة العاجز عن بعض الأركان من قيام أو ركوع أو سجود ما حكمها ؟ أقول : ذهب بعض العلماء إلى أنه لا تصح إمامته إلا بمثله في العجز في هذه الأركان إلا إذا كان هو إمام الحي الراتب المرجو زوال علته فلا بأس بإمامته ولكن لا أعلم لهم دليلاً صالحاً للتمسك بل الدليل على خلافه فالراجح إن شاء الله تعالى هو صحة إمامة العاجز عن بعض الأركان الفعلية مطلقاً سواء كان هو إمام الحي الراتب أو غيره وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله الحديث " ولحديث عائشة قالت " صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً فأشار إليهم أن اجلسوا فلما أنصرف قال " إنما جعل الإمام ليؤتم به " الحديث فيه وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون " متفق عليه وعنها في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي جالساً وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر متفق عليه والأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم التشريع فإمامة العاجز عن بعض الأركان الفعلية جائزة وهو اختيار أبي العباس بن تيميه رحمه الله فإن افتتح بهم الصلاة جالساً وجب عليهم الجلوس لقوله صلى الله عليه وسلم " وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون " وإن أفتتح بهم الصلاة قائماً فاعتل ثم جلس وجب عليهم إتمامها خلفه قياماً لحديث عائشة السابق وهذا هو الذي تجتمع به الأدلة والأصل عدم النسخ والله أعلم .(1/264)
ومنها : - إمامة من به سلس البول أو من حدثه دائم ، فقد ذهب الأصحاب إلى أن إمامته لا تصح إلا بمثله لأن طهارته طهارة ناقصة ولأنه يصلي مع خروج النجاسة التي يحصل بها الحدث المنافي للطهارة ولكن صحت صلاته في نفسه للضرورة وصحت بمثله لتساويهما في الحكم لكن لا تصح إمامته بالسليم من هذا الحدث كذا قالوا ولا أعلم لهم مستنداً شرعياً من دليل أو إجماع ، وطهارة من حدثه دائم شرعاً طهارة تامة وصلاته صحيحة في نفسه ومن صحت صلاته في نفسه صحت بغيره ، وبطلان الشيء يحتاج إلى دليل صحيح فالأقرب والله أعلم أن إمامته صحيحة بمثله وبغيره بل السنة تقديمه إن كان أجمع للشروط شرعاً فإذا كان هو الأقرأ أو هو السلطان أو صاحب الدار فتقديمه هو السنة وخروج حدثه هذا بعد الوضوء الكامل لا حكم له شرعاً إلى حين وقت الصلاة الأخرى ولم يأت دليل يدل على أن من الشروط المعتبرة في الإمام أن تكون طهارته أكمل ومن قال ذلك فليأت بدليل على اعتباره ولذلك قلنا : إمامة المتيمم أكمل إن كان أجمع للشروط المعتبرة في الإمامة وكذلك هنا نقول : إمامة من حدثه كامل أكمل إن كان أجمع للشروط المعتبرة والله أعلم .
ومنها : - إمامة ولد الزنا والجندي ، فالصواب هو أنهما إذا كانا أجمع للشروط المعتبرة في الإمامة فإمامتهما أكمل ، لعموم الأدلة وهو مذهب جمهور العلماء وقالت عائشة في ولد الزنا : ليس عليه من وزر أبويه شيء ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " ومن زعم نقص إمامته أو بطلانها أصلاً فليأت بدليل فإني بحثت في الأدلة فلم أجد ذكراً لشيء من ذلك فالأصل هو البقاء على العموم والله أعلم . وعلى ذلك تقاس باقي الفروع والله يتولانا وإياك .
الضابط الثامن والتاسع والعشرون
من صحة صلاته لنفسه صحت بغيره ومن صحت إمامته في النفل صحت في الفرض(1/265)
اعلم رحمك الله تعالى أن الصلاة بالغير تقاس على الصلاة بالنفس ، فإذا كانت صلاة الإنسان بنفسه صحيحة فإن صلاته بغيره صحيحة أيضاً إذ لا فرق بين هذا وهذا فمن منع من إمامة من صلاته في نفسه صحيحة فقد فرق بين متماثلين ، والشريعة لا تفرق بين متماثلين ، وكذا يقال في الإمامة في النفل والفرض ، فإن القول فيهما واحد لا يختلف فالذي تصح إمامته في النفل فإنها تصح في الفرض إذ لا فرق بين الإمامة في كلٍ ، ولذلك تفريعاً على هذين الضابطين صار القول الراجح هو صحة إمامة الصبي البالغ في الفرض لأن إمامته في النفل صحيحة ومن صحت إمامته في النفل صحت إمامته في الفرض وكذلك الراجح صحة إمامة العبد في الجمعة إذ لا دليل يمنعها وكذلك الصبي البالغ لأن إمامتهما في النفل جائزة فجازت في الغرض وعلى المانع الدليل والراجح صحة إمامة من به سلس البول بمثله وبمن ليس مثله لأن صلاته في نفسه صحيحة ومن صحت صلاته لنفسه صحت لغيره وكذلك تصح على القول الراجح إمامة المسافر بالمقيم والبدوي بالحضري والمتيمم بالمتوضئ لأن صلاتهم لأنفسهم صحيحة فتصح صلاتهم بغيرهم والراجح أن إمامة المرأة للنساء صحيحة لأن صلاتها لنفسها صحيحة ومن صحت صلاته لنفسه صحت بغيره وهكذا سائر الفروع ويفهم من هذا الضابط أن من لم تصح صلاته لنفسه فإنها من باب أولى لا تصح لغيره كالمحدث فإن صلاته لنفسه باطلة فكذلك صلاته بغيره ولكن إذا كان من خلفه لا يعلمون بحدثه فهذه مسألة أخرى ستأتي إن شاء الله تعالى وكذلك الكافر لا تصح صلاته لنفسه فكذلك لا تصح صلاته بغيره وغير المميز صلاته لنفسه لا تصح فكذلك لا تصح صلاته لغيره وكذلك المجنون لو صلى لنفسه فصلاته غير صحيحة فكذلك صلاته لغيره لا تصح وهكذا ، فإن قيل : إن المرأة صلاتها لنفسها صحيحة ولكن لو صلت بالرجال لما صحت صلاتها بهم أعني إمامتها لهم لا تصح فكيف ذلك ؟ الجواب نعم إن مقتضى هذا الضابط أن تصح إمامتها بهم لأن صلاتها في نفسها(1/266)
صحيحة ومن صحت صلاته في نفسه صحت بغيره ، لكن ورد الدليل الخاص الذي يقضي بالمنع من إمامتها لهم كما قدمنا سابقاً فالذي فك هذا التلازم هو الدليل الشرعي الصحيح فتخرج هذه الصورة لوحدها بمقتضى الدليل ، لكن قدمنا أن إمامتها للنساء صحيحة ، والله تعالى أعلى وأعلم .
الضابط الثلاثون
الاختلاف بين الإمام والمأموم في النية لا يؤثر في صحة الإمامة
وهذا هو القول الصحيح الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة ، فإذا كان المأموم قد نوى شيئاً مخالفاً لما نواه إمامه فإن هذا الاختلاف لا يؤثر في صحة الإمامة ، فمثل هذا الاختلاف سائغ بين الإمام والمأموم ، والدليل على ذلك ما في الصحيحين من حديث أنس في صلاة معاذ العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجوعه إلى قومه وصلاته بهم فهي له نافلة ولهم فريضة ووجه الشاهد أن نية معاذ رضي الله عنه مختلفة عن نية قومه فهو قد نوى نافلة وهم نووا الفريضة ومثل هذا لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم بل لما أطال بهم وشكاه بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يصلي ببعض السور مما يدل على علمه بفعله ذلك فلما لم ينكره دل على أن مثل هذا الاختلاف سائغ لا يؤثر في صحة الإمامة ومن ذلك أيضاً حديث يزيد بن الأسود أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح بمسجد الخيف فإذا هو برجلين لم يصليا فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال ما منعكما أن تصليا معنا قالا يا رسول الله أصابتنا جنابة ولا ماء قال : فلا تفعلا ، إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه فإنها لكما نافلة " وهو حديث صحيح والإمام قد نوى فرضاً وصلاتهم نفل فدل ذلك على جواز مثل ذلك الاختلاف بين الإمام والمأموم ، ومن ذلك أيضاً حديث " ألا رجل يتصدق على هذا فقام رجل من القوم فصلى معه " والحديث صحيح والمتصدق قد نوى النفل والداخل قد نوى الفرض ، فدل ذلك على تجويز مثل هذا الاختلاف . والله أعلم .(1/267)
ومن الأدلة أيضاً : الحديث السابق في صلاته صلى الله عليه وسلم بأهل مكة عام الفتح وقال " أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر " حديث صحيح وهم مقيمون قد نووا الإتمام وهو مسافر قد نوى القصر وهذا اختلاف في النية لكنه اختلاف سائغ لا بأس به ولا يؤثر في صحة الإمامة فصح هذا الضابط ولله الحمد والمنة فإن قيل : كيف يجوز مثل هذا الاختلاف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه " متفق عليه فهذا الحديث ينفي الاختلاف مطلقاً فأقول : إن خير ما فسرت به السنة هو السنة وقد ورد في أخر هذا الحديث تفسير له وأن المقصود به هو المخالفة في الأفعال وقال النبي صلى الله عليه وسلم" فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع الحديث " فدل ذلك على أن الاختلاف المنهي عنه هو الاختلاف في الأفعال لكن دلت الأدلة الأخرى على جواز الاختلاف في النيات والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن وهذا الجمع هو الذي تتآلف به الأدلة فإن لم يرض الطرف الثاني بهذا الجواب فنقول له : إن قوله صلى الله عليه وسلم " فلا تختلفوا عليه " نص عام والأدلة السابقة خاصة في جواز الاختلاف في النية وقد تقرر في الأصول أن الخاص مقدم على العام فإن لم يرض بهذا الجواب أيضاً فنقول هذا ما ثبت عندنا من الأجوبة والسنة أولى بالأتباع من كل أحد . والله أعلم . إذا علمت هذا فإليك بعض الفروع المخرجة على هذا الضابط فأقول :-
منها : - إقتداء المفترض بالمنتفل فيه خلاف والصواب جوازه لحديث صلاة معاذ بقومه وتقدم ، وهو نص فصل في المسألة والله أعلم .
ومنها : - إقتداء المنتفل بالمفترض صحيحة والدليل ما مضى من حديث يزيد بن الأسود وحديث " من يتصدق على هذا " وهي نصوص في المسألة والله أعلم .
ومنها : - إقتداء المقيم بالمسافر الصواب جوازها ودليلها ما مضى من حديث " أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر " وهو نص في المسألة والله أعلم .(1/268)
ومنها : - إمامة المؤدي بمن يقضي الراجح صحته ، فإن قيل : كيف تصح الإمامة في هذه الفروع السابقة مع وجود الاختلاف بين الإمام والمأموم ؟ قلنا إن هذا الاختلاف إنما هو في النية والاختلاف في النية بين الإمام والمأموم لا يؤثر في صحة الإمامة والله ربنا أعلى وأعلم .
ومنها : - من فاتته الظهر وأدركهم يصلون العصر فيدخل معهم بنية الظهر مراعاة للترتيب فإذا صلاها قام وصلى العصر ومجرد الاختلاف بين الإمام والمأموم في نية الفرض لا يؤثر فهذا نوى الظهر وهذا نوى العصر هذا الاختلاف لا يؤثر في الإمامة لأنه اختلاف في النية وأمرها سهل .
ومنها : - من لم يدرك من صلاة الجمعة إلا أقل من ركعة ، فهنا يكون قد فاتته الجمعة فنقول له أدخل معهم بنية الظهر فأنت تصلي الظهر وإمامك يصلى الجمعة وهذا الاختلاف في النية لا يؤثر في صحة الإمام هذا ما تيسر نذكره من الفروع الفقهية على هذا الضابط فإن كان ثمة شيء لم يذكر له نظير فقس على ما ذكر والله أعلى .
الضابط الحادي والثلاثون
فعل النافلة التي لا جماعة لها في البيت أفضل إلا لمصلحة راجحة(1/269)
ونعني بالنافلة ما ليس بفرض ، فإيقاع صلاة النافلة في البيت هو الذي رغبت فيه الأدلة الشرعية الصحيحة الصريحة ، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " متفق عليه ، فقوله ( صلاة المرء ) مفرد مضاف وقد تقرر أن المفرد المضاف يعم ، فيدخل في ذلك جميع الصلوات إلا ما وقع عليه الاستثناء وهو قول ( إلا المكتوبة ) وهذا الحديث نص في الموضوع ، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات " ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعيتن بعد العشاء في بيته وركعتين قبل صلاة الصبح " وفي رواية وركعتين بعد الجمعة في بيته " وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء فدخل بيتي إلا صلى أربع ركعات أو ستة ركعات " رواه الإمام أحمد بسندٍ جيد ، وقد تواتر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي قيام الليل في البيت لم يخل بذلك مرةً واحدة ، كما في حديث عائشة وابن عباس في ليلة مبيته عند خالته ميمونة ، وغيرها مما يصعب حصره إلا بكلفة ، وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن شقيق قال سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التطوع فقالت " كان يصلي قبل الظهر أربعاً في بيتي ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين وكان يصلي بالناس المغرب ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين وكان يصلي بهم العشاء ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين ، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر ثم قالت : وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر " وعن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني عبد الأشهل فصلى فيه المغرب فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال " هذه صلاة البيوت " رواه أبو داود وحسنه الألباني ، فهذا طرف من الأدلة الدالة على صحة هذا الضابط ،(1/270)
وبه يتقرر عندنا أن التطوعات في البيت أفضل لكن قيدنا هذه الأفضلية بقيدين مهمين : -
الأول : - قوله ( لا جماعة لها ) أي أن تكون هذه النافلة مما لم يشرع له الجماعة فإن كانت مما شرعت الجماعة لها فيكون فعلها في المساجد المخصصة لها أفضل ، وذلك كالتراويح فإن السنة فيها أن تصلى جماعة لحديث جبير بن نفير عن أبي ذر قال : - صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ثم لم يقم بنا في الليلة الثالثة ، وقام بنا في الليلة الخامسة شطر الليل فقلنا يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه فقال : - إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة " رواه الخمسة وصححه الترمذي وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد فصلى لصلاته ناس ثم صلى الثانية فكثر الناس ، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال " رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان " متفق عليه وعلى ذلك أجمع العلماء والله أعلم .
ومن ذلك أيضاً : - صلاة الكسوف على القول بأنها سنة فإن فعلها جماعة هو المشروع وقد ثبتت في ذلك الأحاديث بل شرع النداء لها بـ ( الصلاة جامعة ) ومن ذلك صلاة العيدين على القول أنها نافلة فإن فعلها في جماعة هو المشروع كما دلت على ذلك الأدلة وكذلك أيضاً صلاة الاستسقاء فالسنة فيها فعلها جماعة كما في الأحاديث الصحيحة ففعل هذه النوافل في الأماكن المخصصة أفضل ذلك لأنه تشرع لها الجماعة فهذا هو القيد الأول .(1/271)
والقيد الثاني في قوله ( إلا لمصلحةٍ راجحة ) ومعنى ذلك أنه إذا كان فعلها في المسجد فيه مصلحة تربو على مصلحة فعلها في البيت فإن المفضول ينقلب فاضلاً وذلك كمصلحة التعليم مثلاً أو مصلحة التأليف ، فمراعاة مثل هذه المصالح مطلوب شرعاً مثاب عليه صاحبه ولذلك نقول : الجهر بالبسملة أحياناً من باب التأليف والتعليم حسن جداً كما أن الجهر بدعاء الاستسقاء للتعليم أو الجهر بالفاتحة في صلاة الجنازة مثلاً أمر حسن وقد جهر عمر بدعاء الاستفتاح شهراً وابن عباس جهر بالفاتحة وقال : ليعلموا أنها سنة وبالجملة فهذا باب يحتاج إلى فقه ونظر في الأحوال ، فإن كانت المصلحة تقضي بإيقاع النافلة في المسجد فإيقاعها فيه هو الأفضل في هذه الحالة المخصوصة وإلا فالأصل هو إيقاعها في البيت والله أعلم فإن قيل فما المصلحة من إيقاعها في البيت ؟ أقول : إن الشريعة لا تشرع شيئاً إلا وفيه الحكم والمصالح ومن ذلك هذا التشريع فإن من حكمه أن لا تكون البيوت قبوراً فإذا صلى الإنسان في بيته فإنه تحل البركة في هذا البيت ويخرج عن مشابهة المقابر التي لا يصلى فيها ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " اجعلوا من هذه الصلاة في بيوتكم ولا تجعلوها كالمقابر " ومن ذلك أن فيه إخفاءً للعمل فيكون ذلك أدعى للإخلاص وأبعد عن الرياء ، وهذا أمر معلوم محسوس ومن ذلك تعليم أهل البيت بالسنة وكيفية الصلاة وحثهم على الصلاة بالإقتداء الحسن ، ومن ذلك طرد الشياطين وقراءة القرآن ، ومن ذلك حلول البركة في البيت بهذه الصلاة فإن الصلاة من موجبات البركة ، وغير ذلك مما يبين للمتأمل فالحمد لله على أن جعلنا من هذه الأمة المرحومة زادها الله شرفاً ورفعة . فإن قلت : فما قولك في رجل يخشى إن أخر النافلة ليصليها في البيت أن يلهى عنها فينساها فيحرم من أجرها فهل فعلها في المسجد في هذه الحالة أفضل ؟(1/272)
أقول : لا شك إن غلب عن ظن صاحبها ذلك فإن إدراكها في المسجد خير من تفويتها بالكلية فإن عندنا فضيلتين فضيلة الصلاة وفضيلة إيقاعها في البيت فإن كان مراعاة الفضيلة الثانية سيفوت علينا الأولى فإن ما لا يدرك كله لا يترك جله ، ومع ذلك نقول : حاول أن تعود نفسك على فعلها في البيت فإن الإنسان بعد فترة من الزمن سيجد أنها صارت من برنامجه اليومي الذي لا ينسى والله يعيننا وإياك على أنفسنا الأمارة بالسوء والله أعلم .
فإن قلت : إن كان إيقاعها في البيت سيفوت علىّ الصف الأول فأيهما يقدم ؟ أقول : هذا سؤال جيد فأقول : أما الإمام فلا يحتاج إلى جوابه لأن مكانه معروف ، وكذلك النوافل البعدية كركعتين بعد الظهر والمغرب والعشاء هذه لا تحتاج إلى جواب لأنها بعد الصلاة وكذلك النوافل الأخرى وقيام الليل والوتر ونحوها كل ذلك لا يحتاج إلى مثل هذا السؤال كما هو معروف ، لأن مصلحة إيقاعها في البيوت لا يعارضها مصلحة أخرى لكن بقي عندنا النافلة القبلية وهي أربع قبل الظهر وركعتان قبل صلاة الفجر فهل الأولى فعلها في البيت مع تفويت الصف الأول أم الأولى فعلها في المسجد مع إدراك الصف الأول ؟ والجواب : أنه إذا غلب على ظنه أنه إن فعلها في البيت أن الصف الأول سيفوت عليه فهنا أقول : قد تعارض عندنا مصلحتان مصلحة فعل النافلة في البيت ومصلحة الصف الأول ، وقد تقرر أنه إذا تعارضت المصالح فإننا نقدم العليا منها بتفويت الصغرى وتقرر أيضاً أننا نقدم المصلحة التي تفوت إلى غير بدل على المصلحة التي تفوت لبدل ، إذا علمت هذا فأقول : إن مراعاة إدراك فضيلة الصف الأول أولى من مراعاة إيقاع النافلة في المسجد وذلك لأمور منها فعل الصحابة في عهده صلى الله عليه وسلم كما في المغرب وغيرها إذا أذن المؤذن ابتدر الناس السواري يصلون ركعتين حتى يظن الداخل أن الصلاة قد أقيمت ، وكانوا يأخذون مصافهم قبل أن يخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم(1/273)
ومنها : أنه إن فاتت مصلحة الصف الأول فإنها تفوت إلى غير بدل وأما مصلحة النافلة في البيت فإنها إن فاتت فإنها تفوت إلى بدل وهو فعلها في المسجد وإدراك ما بعدها إلى غير بدل أولى من إدراك ما يفوت للبدل . والله أعلم .
ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا يستهموا عليه لاستهموا " رواه مسلم ومثل هذا الفضل لا يعارض بشيء . والله أعلم .
ومنها : - أن الحكم الشرعية من إيقاع النافلة في البيوت تدرك بالنوافل الأخرى كالبعدية وقيام الليل وإنما الذي يفوت شيء يسير من النوافل فهو إنما سنة الظهر القبلية وركعتا الفجر فقط فهي لا تفوت كلها وإنما بعضها لكن فضيلة الصف الأول إن فاتت فإنها تفوت كلها ولا يمكن تدارك شيء منها وتقديم العبادة التي تفوت مصلحتها بالكلية أولى من تقديم مالا تفوت مصلحته بالكلية وبهذا يثبت لك أن إدراك الصف الأول أولى من تحصيل النافلة في البيت وبعد ذلك أقول : - إننا في هذه الأزمنة قد تكاسل كثير من الناس عن التبكير إلى المسجد وزهدوا في ذلك زهداً عظيماً ، فلو صليت النافلة كلها في البيت فأنا ضامن لك إن شاء الله تعالى أن تدرك الصف الأول فإن غالب الناس الآن لا يأتون إلا مع سماع الإقامة وبعضهم بعد فوات الركعة الأولى فإن غلب على ظنك إدراك الصف الأول فعليك بتحصيل المصلحتين ولا تفوت منها شيء والله يوفقنا وإياك لكل خير .(1/274)
فإن قلت : لو كنت في مكة أو المدينة فهل فعل النافلة في الحرمين أولى أم فعلها في البيت ؟ أقول إن القاعدة الأصولية تقول : الدليل العام يجري على عمومه ولا يخص إلا بدليل فحيث تقرر ذلك فأقول أن قوله صلى الله عليه وسلم " صلاة المرء " هو من صيغ العموم ولا يخص منه إلا قوله " إلا المكتوبة " فيدخل في ذلك تفضيل فعل النافلة في البيت في سائر البقاع من غير فرقٍ بين بقعةٍ وبقعة ويوضح هذا ويجليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هديه الراتب فعل النافلة في البيت ولم يكن يفعلها في مسجده مع أن الصلاة في مسجده مضاعفة فإتباع السنة أولى من غيره ففعلها في البيت أفضل من فعلها في المسجد النبوي والمسجد الحرام والله ربنا أعلى وأعلم .
الضابط الثاني والثلاثون
الاجتماع للنافلة ليس بسنةٍ راتبة(1/275)
أقول : إعلم رحمك الله تعالى أن الأصل أن النوافل تصلى فرادا فكل أحد يصلي لنفسه ، فلا يكون فيها إماماً ولا مأموماً ، إذ لا جماعة لها ، هذا هو أكثر فعله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي النافلة في أكثر أحيانه منفرداً ، لكن ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أنه صلى النافلة جماعة بواحد أو أثنين وذلك كما في الصحيحين أيضاً أنه صلى بأنس واليتيم والعجوز ، قال أنس فقمت أنا واليتيم خلفه وأقام المرأة خلفنا فصلى لنا ثم انصرف ، وفي المتفق عليه من حديث عتبان بن مالك قال يا رسول الله إن السيول لتحول بيني وبين مسجد قومي فأحب أن تأتيني فتصلي في مكان من بيتي أتخذه مسجداً فقال " سنفعل إن شاء الله تعالى " فلما دخل قال : أين تريد فأشرت له إلى ناحية من البيت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصففنا خلفه فصلى بنا ركعتين وصلى مرة بابن مسعود رضي الله عنه " فدلت هذه الأحاديث الصحيحة صراحة على جواز إيقاع النفل جماعة إلا أن ذلك الاجتماع ليس اجتماعاً مؤكداً يحافظ عليه المحافظة على السنن الرواتب بل يفعل أحياناً ويترك أحياناً ، ويكون تركه أكثر لأن الترك كان أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم وإنما كان يفعله لعارض وربما كان يبدأ الصلاة منفرداً ثم يأتي من يأتم به ، فإذا صلى الإنسان نافلة من النوافل جماعة أحياناً فلا بأس لكن لا يتخذه عادة ومثال ذلك صلاة الضحى وقيام الليل والوتر وغيرها إذا صليت جماعة أحياناً فلا بأس والله أعلم .
الضابط الثالث والثلاثون
فعل الوتر على جميع وجوهه سنة(1/276)
وهذا متفرع عن قاعدة : - العبادات الواردة على وجوه متنوعة تفعل على جميع وجوهها في أوقاتٍ مختلفة ، وقد شرحناها في ( تلقيح الأفهام ) ، إذا علمت هذا فاعلم أن الوتر من جملة العبادات الذي يثبت بالأدلة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله على صفاتٍ متعددة ، فمن السنة حينئذ أن نفعله على جميع هذه الوجوه الواردة في ليالٍ مختلفة ، فمثلاً هذه الليلة بهذه الصفة والليلة التي تليها بالصفة الأخرى وهكذا أو هذا الأسبوع بهذه الصفة والأسبوع الآخر بالصفة الأخرى وهكذا ، أو يكون هذا خاضعاً لراحة النفس ونشاطها ، أو غير ذلك ، وقد ذكرنا في تلقيح الأفهام الفوائد من هذا التنويع مما يغني عن إعادته هنا ، وإتماماً للفائدة أذكر لك هنا ما صحت به الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم من صفات الوتر فأقول :-
منها : - حديث ابن عمرو في الصحيحين قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى " وهذه الصفة معناها : - أن يصلي الإنسان ركعتين ركعتين إلى ما كتب الله له فإذا أراد الوتر صلى ركعة واحدة فإن هذه الركعة توتر له ما قد صلى يوضح هذا رواية الإمام أحمد في المسند " صلاة الليل مثنى مثنى تسلم من كل ركعتين " ولمسلم :- قيل لابن عمر :- ما مثنى مثنى قال :- يسلم في كل ركعتين والله أعلم ، ومثل ذلك حديث عائشة في المتفق عليه قالت : - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة " فهذه الصفة ثبتت بقوله وفعله صلى الله عليه وسلم والله أعلم .(1/277)
ومنها : - أن يوتر بخمسٍ لا يجلس في شيء منها إلا في آخرها ، ودليله حديث عائشة رضي الله عنها قالت : - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرهن " متفق عليه ، فيسرد خمساً ولا يجلس للتشهد في شيء منها إلا بعد الخامسة، فيتشهد فيسلم . والله أعلم .
ومنها : - أن يوتر بسبعٍ لا يجلس في شيء منها إلا في آخرها دليله حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت : - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبعٍ وبخمسٍ لا يفصل بينهن بسلامٍ ولا كلام " رواه أحمد والنسائي وابن ماجه بسندٍ صحيح ومثله حديث ابن عباسٍ عند أبي داود بلفظ " ثم صلى سبعاً أو خمساً أوتر بهن ولم يسلم إلا في آخرهن " فيسرد سبع ركعات بلا جلوس ، فإذا صلى السابعة جلس وتشهد ثم سلم والله أعلم ، وسيأتي الإيتار بسبعٍ في رواية مسلم بعد قليل إن شاء الله .
ومنها : - حديث عائشة رضي الله عنها قالت : - كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً " متفق عليه ، وظاهر قولها ( يصلي أربعاً ثم يصلي أربعاً ) أن هذه الأربع متصلة بلا جلوس إلا في آخرها ، ولا يعارض هذا حديث " صلاة الليل مثنى مثنى " لأن التنويع في قيام الليل والوتر دليل على الجواز فالذي قال " مثنى مثنى " هو الذي صلى خمساً متصلة وسبعاً متصلة وثلاثاً متصلة وتسعاً متصلة وهكذا ، وفعله لا يعارض قوله ، فالظاهر أن المثبت في حديث عائشة هذا هو صفة أخرى للوتر فيصلي أربعاً متصلة ، ثم يسلم ثم يصلي أربعاً متصلة ثم يسلم ثم يصلي ثلاثاً فتلك أحدى عشرة ركعة والله أعلم .(1/278)
ومنها : - أن يوتر بتسع يجلس فيها بعد الثامنة ويتشهد ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يتشهد ويسلم ودليلها حديث سعيد بن هشام أنه قال لعائشة أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من البيت فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعناه " الحديث وهو صريح الدلالة في هذه الصفة والله أعلم .
ومنها :- أن يصلي ثلاثاً سرداً ويجعل السلام بعد الركعة الثالثة ودليلها حديث أبي أيوب الأنصاري مرفوعاً وفيه " ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل " وفي حديث أبي بن كعب " كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر " بسبح اسم ربك الأعلى ، وقل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد ولا يسلم إلا في أخرهن " حديث صحيح وتقدم حديث عائشة المتفق عليه ( ثم يصلي ثلاثاً ) والأحاديث في الإيتار بثلاث كثيرة والله أعلم ، فالتنويع على النفس بهذه الصفات هو المشروع وهذا من كمال هذه الشريعة زادها الله شرفاً ورفعة والله ربنا أعلى وأعلم .
الضابط الرابع والثلاثون
لا تصح النافلة في وقت النهي إلا ما له سبب(1/279)
وهذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى وهو الذي دلت عليه الأدلة الكثيرة كما ستراه إن شاء الله تعالى فأقول : إعلم رحمك الله تعالى أن الأصل جواز إيقاع النافلة في أي وقت وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " أعني على نفسك بكثرة السجود " والمراد صلاة النافلة ، ولعموم قوله تعالى " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " وفي حديث عائشة رضي الله عنها " من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوله وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر " متفق عليه ، وقالت " كان يصلي من الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله " رواه مسلم وفي غزوة الفتح صلى ثمان ركعات في بيت أم هائي بنت أبي طالب رضي الله عنها " وكان يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً وقال " من حافظ على أربعٍ قبل الظهر وأربعٍ بعدها حرمه الله على النار " وقال " رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً " حسنه الترمذي وصححه بن حيان وابن خزيمة ، والأحاديث في ذلك كثيرة تفيد بمجموعها أن الأوقات كلها ضرف صالح لإيقاع النافلة فيها ، فمن قال إن هذا الوقت لا يصح إيقاع النافلة فيه فهو مطالب بالدليل لأنه مخالف للأصل إلا أنه بعد استقراء الأدلة وجد العلماء رحمهم الله تعالى أن الشريعة قد استثنت من اليوم أوقاتاً خمسة لا يجوز إيقاع النافلة فيها ، وهي التي يسميها العلماء : أوقات النهي وهي كما يلي : من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس ومن طلوعها إلى ارتفاعها قيد رمح ومن بعد صلاة العصر إلى غروبها ومن شروعها في الغروب إلى تكامله ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس والدليل عليها ما يلي : - حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس " متفق عليه وللبخاري وأحمد " لا صلاة بعد صلاتين بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب " وعن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى(1/280)
الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس ومثله حديث أبي هريرة متفق عليهما وعن عمرو بن عبسة قال قلت يا نبي الله أخبرني عن الصلاة فقال : " صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل كالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم ، فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار " رواه الإمام مسلم في صحيحه وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال " ثلاث ساعات كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب " رواه مسلم أيضاً . وعن يسارٍ مولى ابن عمر قال " رآني ابن عمر وأنا أصلي بعد ما طلع الفجر فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا ونحن نصلي هذه الساعة فقال " ليبلغ شاهدكم غائبكم أن لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتين " رواه أحمد وأبو داود ، والأدلة كثيرة وهذا طرف منها ، وهي صريحة الدلالة في النهي عن الصلاة في هذه الأوقات وأنت ترى أن لفظ ( الصلاة ) الواردة في هذه الأحاديث لفظ عام لأن الألف واللام الاستغراقية تفيد العموم وكذلك قوله ( لا صلاة ) نكرة في سياق النفي فتعم فيدخل في ذلك جميع الصلوات فرضها ونفلها ، إلا أن الأدلة استثنت الفرائض المؤداة والمقضية والمعادة نفلاً ، فأما المؤداة فدليل استثنائها حديث أبي هريرة رضي الله عنه " من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " متفق عليه وما قبل الفجر والعصر بمقدار ركعة هو وقت نهي فأجاز له النبي صلى الله(1/281)
عليه وسلم إيقاع الفريضة فيه مما يدل على أنها خارجة عن النهي ، وأما المقضية فدليلها حديث أنس في الصحيحين مرفوعاً " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " فإن قلت : - هذا لفظ عام ، وأحاديث النهي عامة أيضاً فتعارض العمومان فلماذا قدمت عموم القضاء على عموم النهي ؟ قلت : - قدمناه لأنه قد تقرر في الأصول أن العام المحفوظ أي الذي لم يدخله التخصيص مقدم على العام المخصوص ، وعموم النهي مخصوص بأشياء كثيرة وعموم القضاء باقٍ على عمومه فقدمناه والله أعلم . وأما المعادة وهي صلاة الفريضة مرةً أخرى لإدراكها في جماعة أخرى فدليل استثنائها من عموم النهي حديث يزيد بن الأسود قال : - صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بمسجد الخيف فلما قضى الصلاة انحرف فإذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا فقال :- عَليَّ بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال :- " ما منعكما أن تصليا معنا ، فقالا :- يا رسول الله إنا قد صلينا في رحالنا قال :- فلا تفعلا ، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكم نافلة " رواه الخمسة ولأبي داود : إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معه فإنها له نافلة " وهذا كان بعد صلاة الفجر أي وقت النهي فندبهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فيه وهي نافلة في حقهم مما يدل على أن إعادة الجماعة في هذه الأوقات خارج من عموم النهي فمن فاتته الصلاة لعذر فإنه يجب قضاؤها إذا زال العذر من نوم أو نسيان ولو في وقت النهي ومن صلى الفريضة ثم أدرك جماعة أخرى لم يصلوها فليصل معهم ولو كان في وقت النهي هذا هو ما دلت عليه الأدلة والله أعلم . وإليك هذه المسائل المهمة في هذا الضابط حتى يكمل عقده فأقول :
المسألة الأولى : متى يدخل وقت النهي هل هو بدخول العصر والفجر أم بالصلاة ؟(1/282)
أقول : هذه المسألة فيها خلاف طويلة ذيوله ، فقال بعض العلماء : إن وقت النهي يدخل بدخول الوقت سواء صلى العصر والفجر أو لم يصل ، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس " فعلق النهي بالعصر والفجر والمراد الوقت ، وقال بعضهم : بل النهي معلق بفعل الصلاة فإذا صلى العصر والفجر دخل وقت النهي في حقه أما إذا لم يصل فلا نهي حينئذ ، واستدلوا على ذلك بأن في بعض روايات الحديث المتفق عليها لا صلاة بعد صلاة العصر ولا صلاة بعد صلاة الفجر " وفي حديث عمرو بن عبسه ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم فإذا قبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة " وحديثهم مطلق وهذه الأحاديث مقيدة وقد تقرر في الأصول أن المطلق يحمل على المطلق إذا اتفقا في الحكم والسبب ، وهذا هو الراجح حسب الصناعة الأصولية واختاره أبو العباس بن تيميه رحمة الله تعالى عليه ولو قلنا إن وقت النهي الموسع لا يدخل إلا بفعل الصلاة والمضيق يدخل بغروب قرص الشمس وطلوعه ولو لم يصل العصر والفجر لكان قولاً متوجهاً حسناً لأن المقصود من النهي قطع دابر المشابهة كما سيأتي وهم لا يسجدون للشمس إلا عند غروبها وطلوعها والله أعلم .
المسألة الثاني : فعل النافلة التي لها سبب كتحية المسجد سببها دخول المسجد وركعتي الطواف سببها الطواف وركعتي الوضوء سببها الوضوء ، فهل يجوز فعل ما له سبب في وقت النهي أم لا ؟ أقول : هذا فيه خلاف طويل أيضاً لكن الراجح والله تعالى أعلم هو الجواز وهو رواية في المذهب واختارها شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى والأدلة على ذلك كما يلي : -(1/283)
منها : - النافلة المعادة كما تقدم دليلها من حديث يزيد بن الأسود فإنها من ذوات الأسباب ، فإن سببها حضور الجماعة الثانية وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر مرفوعاً " صل الصلاة لوقتها فإن أقيمت وأنت بالمسجد فصل ولا تقل إني صليت فلا أصلي " وقسنا عليه سائر ما له سبب للاتفاق معه في العلة .
ومنها : - حديث أبي قتادة مرفوعاً " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس قبل أن يصلي ركعتين " متفق عليه وهو عام في الأوقات خاص في الصلاة وأحاديث النهي عامة في الصلاة خاصة في الوقت ، فخصصنا عموم أدلة النهي بخصوص أدلة تحية المسجد لأن العام المحفوظ مقدم على العام المخصوص ، وعموم أدلة النهي قد خص منه صلوات كثيرة وأما عموم أدلة تحية المسجد فهي باقية على عمومها يوضح ذلك ما في الصحيحين من حديث جابر أن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فجلس وقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أصليت يا فلان " قال : لا ، قال : " قم فصل ركعتين " فهو وقت نهي فإن أبتداء النفل والإمام يخطب محرم إجماعاً مما يدل على جواز التحية وقت النهي .
ومنها : - أنه في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت :- إنما نهي أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها فقال " لا تحروا لصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك " رواه مسلم والتحري هو التعمد وما له سبب لا تعمد فيه فلا يدخل في عموم النهي .
ومنها : - حديث أم سلمة قالت صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر ثم دخل منزلي فصلى ركعتين فسألته فقال " شغلت عن ركعتين بعد الظهر فصليتهما الآن " الحديث متفق عليه ، وهذا قضاء نافلة في وقت النهي وهو من ذوات الأسباب ، فإن سببه تذكر العبادة الفائتة فدل ذلك على جواز فعل ما له سبب .(1/284)
ومنها : - حديث قيس ابن عمرو قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقيمت الصلاة فصليت معه الصبح ثم انصرف فوجدني أصلي فقال " مهلاً يا قيس أصلاتان معاً " قلت يا رسول الله إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر ، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم " وهذا قضاء نافلة في وقت النهي فدل ذلك على جواز التنقل الذي له سبب في وقت النهي .
ومنها : - أن النهي إنما هو عن النفل الذي لا تفوت مصلحته وهو النفل المطلق ، أما النقل الذي تفوت مصلحته بفوات سببه فإنه لم ينه عنه وذلك لارتباطه بسببه فهذه الأدلة رجحنا جواز فعل ما له سبب من النوافل ، وهو القول الذي تطمئن له النفس والله أعلم .
المسألة الثالثة : هل يجوز إيقاع صلاة الاستخارة فيه ؟
أقول : - المعتمد من المذهب أنه لا يجوز لعموم النهي ولكن الراجح والله أعلم أن الأمر المستخار فيه إما أن يفوت بفوات وقت النهي وإما لا ، فإن كانت الاستخارة في أمرٍ يفوت بفوات وقت النهي فتكون حينئذ من ذوات الأسباب التي تفوت مصلحتها بفواتها وقد تقرر في الضابط أن ذوات الأسباب مخصوصة من عموم النهي كما قررنا " بالأدلة ، أما إذا كان الأمر لا يفوت بتأخيرها إلى وقت الجواز ، فإنها لا تجوز حينئذ لاتفاق العلماء على أنه لا يجوز ابتداء النفل الذي لا سبب له في أوقات النهي ، وهذا القول هو اختيار الشيخ تقي الدين أبي العباس رحمه الله تعالى والله أعلم .
المسألة الرابعة : ما الحكم لو نذر الإنسان صلاة في هذه الأوقات ؟(1/285)
فهل يوفي به أم لا ؟ أقول : - قد تقرر في الأدلة أن النذر إذا كان في أمرٍ محرم فإنه لا يجوز الوفاء به ، لقوله صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله فليطيعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " رواه مسلم في صحيحه ، ونذر الصلاة في هذه الأوقات نذر معصية لأن تعمد إيقاع الصلاة فيها بلا سبب محرم ، والنذر لا يحل الحرام فلا وفاء حينئذ ، وذلك مثل من نذرت الصلاة أو الصوم في أيام حيضها فإنها لا يجوز لها الوفاء به لأنه نذر معصية ، وحينئذ هل عليه كفارة ؟ فيه قولان والراجح أن عليه الكفارة وهي كفارة يمين لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " والله أعلم .
المسألة الخامسة : ما الحكم لو وقع الكسوف في وقت النهي ؟
وصورة ذلك أن تنكسف الشمس بعد صلاة العصر ، إن تصورنا ذلك ، أو عند قيام قائم الظهيرة أو ينخسف القمر بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس ، فهل تصلي الكسوف أم لا أقول : - فيه خلاف بين الأئمة الفقهاء رحمهم الله تعالى ، والراجح إن شاء الله تعالى أنها تصلى ، وذلك لأن صلاة الكسوف من ذوات الأسباب التي تفوت مصلحتها بفوات سببها ، وقد تقرر في الضابط أن ذوات الأسباب مخصوصة من عموم النهي ، فإن مراعاة مصلحة السبب أولى من مراعاة مصلحة ترك مشابهة المشركين ، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم " فإذا رأيتموه فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف ما بكم " فإن هذا العموم مقدم على عموم النهي لأن عموم النهي عام مخصوص وعموم حديث الكسوف محفوظ والعام المحفوظ مقدم على العام المخصوص .
المسألة السادسة : ما الحكم إذا مر القارئ على سجدةٍ أو حصلت له نعمة أو اندفعت عنه نقمة وأراد أن يسجد للشكر فهل يجوز سجود التلاوة والشكر ؟(1/286)
أقول نعم ، لأن الصواب أنهما لا يدخلان في مسمى الصلاة الشرعية والنهي عن الصلاة وهما ليسا بصلاةٍ ، لكن أقول : - حتى وإن قلنا إنهما صلاة فإنه يجوز إيقاعها في وقت النهي لأنهما من ذوات الأسباب ، فسجود التلاوة سببه المرور على آية السجدة وسجود الشكر سببه تجدد النعم واندفاع النقم وقد تقرر لنا سابقاً أن الصلاة التي لها سبب يجوز إيقاعها في أوقات النهي والله أعلم .
المسألة السابعة : صلاة الجنازة ، هل يجوز إيقاعها في وقت النهي أم لا ؟
أقول : - أما إيقاعها في أوقات النهي الطويلة فلا أعلم فيه خلافاً وأعني بالوقت الطويل ما بعد صلاة العصر إلى شروع الشمس في الغروب ، وما بعد صلاة الفجر إلى شروع الشمس في الشروق ، فهذان الوقتان يجوز إيقاع الصلاة فيهما بإحماع المسلمين فيما أعلم والله أعلم ، وأما الأوقات الثلاثة القصيرة فهي التي اشتد فيها الخلاف وأعني بها من شروع الشمس في الشروق إلى ارتفاعها قيد رمح ومن شروعها في الغروب إلى تكامله ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول ، فهذه الأوقات أختلف العلماء رحمهم الله تعالى في إيقاع صلاة الجنازة فيها على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد فالمشهور من مذهب الأصحاب أنها لا تجوز في هذه الأوقات الثلاثة واستدلوا على ذلك بحديث عقبة بن عامر السالف الذكر ، وهذا قول أكثر أهل العلم ، والقول الثاني هو أنها تجوز في هذه الأوقات وهو مذهب الإمام الشافعي ورواية عن الإمام أحمد واختاره الإمام أبو الوفاء بن عقيل وشيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله تعالى وغيرهما من المحققين وهو الأقرب إن شاء الله تعالى لأن صلاة الجنازة من ذوات الأسباب ، وقد تقرر عندنا بالدليل أن ذوات الأسباب لا تدخل في عموم النهي وكتحية المسجد حال الخطبة ، والله تعالى أعلم .
المسألة الثامنة : فإن قيل : - فما العلة من النهي عن الصلاة في هذه الأوقات الخمسة ؟(1/287)
فأقول : - لقد دلت الأدلة على أن العلة مختلفة ، فأما العلة في النهي عن الصلاة بعد صلاة العصر إلى الغروب ومن الغروب إلى تكامله ، وعن الصلاة بعد صلاة الفجر إلى الشروق ومن الشروق إلى ارتفاع الشمس قيد رمح ، هذه الأوقات الأربعة العلة في النهي عن الصلاة فيها سد ذريعة مشابهة المشركين في سجودهم للشمس إذا كانت قبل وجوههم في غروبها وشروقها ويدل لذلك حديث عمرو بن عبسة السالف الذكر ، فإنه نص صحيح صريح في التعليل بذلك ، وأما النهي عن الصلاة عند ارتفاع الشمس حتى تزول فعلة النهي هي أن هذه الساعة فيها تسجر جهنم لحديث عمرو بن عبسة أيضاً ومن باب التذكير أعيد لك سياقه فأقول : - عن عمرو بن عبسة قال : - قلت يا نبي الله أخبرني عن الصلاة فقال : - صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجر لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ، ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ، رواه الإمام مسلم في صحيحه وأحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم ، وهو صريح في العلل المذكورة والله أعلم .(1/288)
المسألة التاسعة : لقد تقرر في حديث بلال سنية الصلاة بعد الوضوء وذلك في حديث " ما توضأت وضوءاً من ليل أو نهار إلا صليت بعده ركعتين " وأقره النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديث عثمان في الصحيحين موفوعاً " من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث شيئاً من نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه " وفي حديث عقبة عن عمرو مرفوعاً " ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يصلي ركعتين مقبل عليهما بوجهه وقلبه إلا وجبت له الجنة " فاستفدنا من ذلك استحباب الصلاة بعد الوضوء ويسميه العلماء : - سنة الوضوء ، لكن ما الحكم إذا توضأ الإنسان في أحد هذه الأوقات الخمسة التي نهت الأدلة عن الصلاة فيها فهل تشرع الصلاة في حقه أم لا ؟(1/289)
أقول في هذه المسألة خلاف والمشهور من المذهب أنها لا تشرع ولكن الراجح إن شاء الله تعالى أنها تشرع إن لم يكن قصده الصلاة ، وإنما توضأ لقصدٍ آخر ، كأن يتوضأ لقراءة القرآن مثلاً أو غيره فيشرع حينئذ أن يصلي ركعتين ولو في وقت النهي لأن سنة الوضوء من ذوات الأسباب وقد تقرر أن ذوات الأسباب لا تدخل في عموم النهي ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع كلام بلال وأنه ما توضأ وضوءاً من ليل أو نهار إلا صلى بعده ركعتين ، لم ينكر عليه ولم يستفصل منه هل يوقعهما في أوقات النهي أم لا مما يدل على إقراره صلى الله عليه وسلم هذا العموم وقد تقرر أن إقراره صلى الله عليه وسلم حجة على الجواز ، وتقرر أيضاً أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال منزل منزلة العموم في المقال ، فيكون عموم الأحاديث السابقة المثبتة لسنة الوضوء مقدم على عموم أحاديث النهي لهاتين القاعدتين ولأن عمومها محفوظ وعموم النهي مخصوص وقد تقرر أن العام المحفوظ مقدم على العام المخصوص فالراجح إن شاء الله تعالى هو مشروعية الصلاة بعد الوضوء ولو في أوقات النهي ، لكن من كان قصده بالوضوء استحلال الصلاة فإنها حينئذ لا تجوز لأن الحيلة على استحلال المحرم لا تحله ، ومن استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه والله يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم .
المسألة العاشرة : ركعتا الطواف ، القول الراجح فيها إن شاء الله تعالى أنها تصح في أوقات النهي لأنها من ذوات الأسباب فمن طاف بالبيت في هذه الأوقات فإن السنة في حقه أن يصلي ركعتي الطواف وذلك لحديث جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا بني عبد مناف لا تمنعوا من طاف بهذا البيت وصلى أية ساعةٍ شاء من ليلٍ أو نهار " حديث حسن وعموم هذا الحديث محفوظ وعموم أحاديث النهي مخصوصة فيقدم المحفوظ على المخصوص . والله أعلم .(1/290)
ولعل الضابط بهذه المسألة قد بانت معالمه واتضحت مراسمه إن شاء الله تعالى فاللهم اغفر للعلماء وارحمهم رحمة واسعة وارفع درجاتهم واجمعنا بهم في الجنة آمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الضابط الخامس والثلاثون
لا تدرك الجماعة والصلاة إلا بإدراك ركعة
وهذا إن شاء الله تعالى هو الصحيح المتوافق مع الأدلة الشرعية الصحيحة وبيان هذا الضابط أن يقال :- بم تدرك الجماعة والصلاة ؟ أقول : - هذا فيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى فقيل تدرك الجماعة والصلاة بإدراك جزءٍ يسير منها ، فمن أدرك من الجماعة جزءاً يسيراً فإنه أدركها ولو بمقدار التحريمة ، ومن أدرك من وقت الصلاة مقدار ما يسع تكبيرة الإحرام فإنه يكون مدركاً للصلاة في وقتها ، وهذا هو المشهور من مذهب الأصحاب والأعلام الأجلاء والأئمة الفضلاء النبلاء ، واستدلوا على ذلك بما في صحيح الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك سجدة من صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر ومن المعلوم أن السجدة مقدارها يسير فعلمنا بذلك أن من أدرك من الجماعة أو الوقت جزءاً يسيراً فإنه يكون مدركاً له ، وقال جمع من أهل العلم وهو رواية في المذهب أيضاً أن الجماعة والوقت لا يدركان إلا إذا أدرك الإنسان منهما ركعة كاملة ، واختار هذا القول شيخ الإسلام أبو العباس بن تيميه رحمه الله تعالى وهو الصحيح المعتمد إن شاء الله تعالى ، وعلى ذلك أخرجنا الضابط ، فإنني قد اشترطت على نفسي من باب التيسير على طلاب العلم أن أخرج الضابط مجزوماً به من غير تردد على القول الذي ينصره الدليل إن شاء الله تعالى ، فالقول الراجح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى هو ما نص عليه هذا الضابط وهو أن الجماعة والصلاة لا تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة ، والدليل على ذلك ما في(1/291)
الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " وهذا نص صحيح صريح في هذه المسألة لا ينبغي تعديه ولا القول بغيره ، وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً ومن أدرك الركوع فقد أدرك الصلاة " رواه أبو داود بإسناد صحيح ووجه الاستشهاد منه ومن الذي قبله أنه قد تقرر في قواعد الأصول أن مفهوم المخالفة حجة ، فلما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ، علمنا بذلك أن من أدرك أقل من ذلك أنه لا يكون مدركاً للصلاة ، وهذا هو مفهوم المخالفة ، ولو كان ذلك كذلك لما كان للتقييد بالركعة فائدة ، فيالله ما أعظم هذا الحديث وما أصرح دلالته على ذلك والله أعلم .(1/292)
ومن الأدلة أيضاً : - حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أو غيرها فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته " فهذا في إدراك الجماعة ، فإنه نص في اعتبار إدراكها بركعة ، وهو حديث صحيح ، رواه الترمذي وابن ماجه ، وقال الترمذي : - حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم قالوا من أدرك ركعة من الجمعة صلى إليها أخرى ومن أدركهم جلوساً صلى أخرى وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق ، ومثله أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليصل إليها أخرى " حديث حسن صحيح ، فدل ذلك على أن من لم يدرك هذا المقدار فإنه لا يكون مدركاً للجمعة ، وهذا نص في محل النزاع فهذه الأدلة تدل دلالة قطعية على ما ذكرته من هذا الضابط ، فإن قلت فكيف تقول في قوله صلى الله عليه وسلم " من أدرك سجدة من صلاة الفجر فقد أدرك الفجر … الحديث " فإنه نص في السجدة ، فكيف تقول إن الصلاة لا تدرك إلا بركعة كاملة ، فأقول : - الجواب على هذا أن خير ما فسرت به السنة هو السنة ، والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن ، إذا علمت هذا فاعلم أن المراد بالسجدة الركعة ، وذلك لأمرين : -
الأول : - أن مسلماً رحمه الله تعالى قال في حديث آخر حديث عائشة هذا بعد روايته " والسجدة إنما هي الركعة " .(1/293)
... والثاني : أن الشريعة استعملت السجدة وتريد بها الركعة ، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " أعني على نفسك بكثرة السجود " والمراد الصلاة ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين " والمراد بها أي الركعتين ، ومن ذلك حديث ابن عمر في صلاة الخوف مرفوعاً " أن يكون الإمام يصلي بطائفة معه فيسجدون سجدة واحدة وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو ثم ينصرف الذين سجدوا السجدة مع أميرهم … وفي آخره قال :- ويعني بالسجدة الركعة ، فهذه الأدلة تدل على إن المراد بالسجدة الركعة الكاملة ، فيكون المراد بالسجدة في حديث عائشة الركعة وعلى هذا فلا يكون بين الأحاديث تعارض ولله الحمد والمنة ، وخلاصة الأمر أن القول بمقتضى هذا الضابط هو الذي يتوافق مع الأدلة ، نسأل الله أن يهدينا وإخواننا لموافقة الدليل الأثري ، فإنها أكبر نعمة على الإنسان ، والله يتولانا وإياك لما فيه الخير والصلاح وإليك بعض الفروع على هذا الضابط ليتضح لك كيف تطبيقه على المسائل الفقهية فأقول : -
منها : - القول الراجح أن من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فإنه يكون مدركاً للجمعة ، وإن أدرك أقل من ذلك فإنه لا يكون مدركاً للجمعة ويتمها ظهراً إن كان نوى الظهر ، وعلى ذلك تدل الأدلة ، وذلك لأن الجماعة والصلاة لا تدرك إلا بإدراك ركعة منها والله أعلم .
ومنها : - القول الراجح أن من أدرك ركعة من الجماعة فإنه يكون مدركاً للجماعة ومن أدرك أقل من ذلك فلا يكون مدركاً لها .
ومنها : - القول الراجح أن من أدرك ركعة من الوقت قبل خروجه فإنه يكون مدركاً للصلاة في وقتها ، ولو أوقع باقي الصلاة خارج الوقت ، وأن من لم يدرك من الوقت ركعة فإنه لا يكون مدركاً للصلاة في وقتها ، والله أعلم .(1/294)
ومنها : - المسألة المهمة وهي ما إذا أدركت المرأة من وقت الصلاة ركعة ثم حاضت ، فهل يلزمها قضاؤها إذا طهرت ، وإذا كانت حائضاً ثم طهرت وبقي من وقت الصلاة ركعة فهل يلزمها أداؤها ؟ أقول : - هما مسألتان ولا أدري هل مضى شرحهما أو لا ؟ لكن أذكرها هنا فإنها من جملة فروع هذا الضابط فأقول : -
المسألة الأولى : - إذا دخل الوقت ثم طرأ المانع من حيض أو نفاس فلا يخلو من حالتين : - إن لم تدرك منه مقدار ركعة فإنها لا يلزمها قضاؤها إذا طهرت لأنها لا تعد مدركة للوقت إلا بإدراك ركعة وهي لم تدرك ركعة ، وأما إذا أدركت من الوقت ركعة فالمذهب أنها يلزمها قضاؤها ، ولأنها أدركت الوقت بإدراك ركعة ومن أدرك الوقت فإنه تلزمه الصلاة ، وطروء المانع عليها يرفع الوجوب عن الذمة فإذا زال المانع وجب عليها القضاء ، وقال بعضهم بل لا يلزمها القضاء إلا إذا لم يبق من وقتها إلا بمقدار فعلها ، فإذا تضايق وقتها ولم تصل فطرأ المانع فإنها تقضيها ، وهو اختيار الشيخ تقي الدين ، وهو الراجح والله أعلم ويدل على رجحانه : - أنه قد تقرر في الأصول أن الواجب الموسع لا يأثم الإنسان بتأخيره مع العزم على فعله ما لم يتضايق وقته عن فعله وإذا أخرت المرأة الصلاة عن أول وقتها عازمة على فعلها فطرأ عليها المانع فلا مؤاخذة عليها فلا إثم ولا ضمان ، ويؤيد ذلك أيضاً : - أن الجواز ينافي الضمان فلما أجازت الشريعة التأخير دل ذلك على أنه لا ضمان بالتأخير والقضاء من الضمان فلما انتفى الضمان علمنا أنتفاء القضاء لأنه من الضمان ، ويؤيده أيضاً أنها لم تتجانف لأثم بالتأخير والوقت واسع لم يتضايق فلا تنسب إلى تفريط ومن لم يتجانف لإثم ولم ينسب إلى تفريط فلا شيء عليه ، ويؤيده أيضاً : - أن المسافر إذا دخل عليه وقت الصلاة وهو مقيم ثم سافر فإنه يصلي ركعتين على القول الراجح مع أنها وجبت في ذمته أربعاً فأين ذهبت الركعتان ، مما يدل على أن الاعتبار في الصلاة حالة(1/295)
المكلف حال الفعل وهو حال الفعل مسافر وفرض المسافر ركعتان كما في الحديث ، فكذلك المرأة إذا دخل عليها وقت الصلاة نقول : - وجبت الصلاة في ذمتها بإدراك ركعة من وقتها لكن نزل عليها الحيض ، فيرتفع الوجوب لأن الحيض شرط لصحة الصلاة ووجوبها فهي إذاً بعد نزول الحيض عليها لا تطالب بفعلها لأنها ليست من أهل الوجوب حينئذ فحيث لم تطالب بفعلها أداءً فإنها لا تطالب بها قضاءً لارتفاع وجوبها عن ذمتها أصلاً ، ولأنه قد تقرر في الأصول أن القضاء يتطلب أمراً جديداً وليس في المسألة دليل يوجب عليها القضاء فالأصل عدم وجوبه ، ومن أوجبه فعليه الدليل ، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم حديث واحد يأمرها بالقضاء وليست هي كالنائم والناسي وذلك لأن وقت الصلاة في حقهما أمر جديد بالقضاء ، وأما الحائض فوقت الصلاة الذي حاضت فيه خرج وهي ليست من أهل الوجوب ويؤيده أيضاً أن هذه المسألة مما تعم البلوى بها وتشتد الحاجة لبيانها بخصوصها لوجود الحيض في وقت الصلاة وقبل الفعل فلما لم يحصل أمر بالقضاء ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك حرفاً واحداً علمنا عدم وجوب القضاء لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، وهذا إذا لم يكن الوقت قد تضايق ثم حصل المانع ، أما إذا لم تصل حتى تضايق الوقت فإنه يلزمها القضاء ، لأنها حينئذٍ مفرطة بهذا التأخير ومؤاخذة به ، فهذا بالنسبة للمسألة الأولى وهي فيما إذا دخل الوقت على المرأة هي طاهر ثم حاضت ، فإن قلت : ألم تقرر سابقاً أن الوقت يدرك بركعة وهي قد أدركت ركعة ، قلت : نعم هي قد أدركت ركعة وهي من أهل الوجوب لكن لما حاضت أرتفع الوجوب عن ذمتها . فإن قلت : فما الذي رفعه قلت : ما مضى من الأدلة والله يغفر الخطأ والزلة وهو أعلى وأعلم .(1/296)
وأما المسألة الثانية : وهي فيما إذا طهرت الحائض في الوقت فأقول : القول الراجح إن شاء الله تعالى أنها إن طهرت ولم تدرك من الوقت ركعة فإنها لا تلزمها هذه الصلاة ، لأن الوقت لا يدرك إلا بركعة وهي لم تدرك ذلك المقدار ، أما إذا أدركت من الوقت ركعة فأكثر فإنه تلزمها هذه الصلاة عند عامة أهل العلم لأنها أدركت من الوقت ركعة فأكثر فأدركت الصلاة ودليل ذلك حديث " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " استدلالاً بمنطوقه ومفهومه ، لكن هل يلزمها مع فعل هذه الصلاة التي طهرت في وقتها أن تصلي ما يجمع إليها قبلها ، وصورة ذلك : إذا طهرت في وقت العصر فهل يلزمها أن تصلي معها الظهر ، وإذا طهرت في وقت العشاء فهل يلزمها أن تصلي معها المغرب أو لا ؟ أقول : فيه خلاف والذي عليه أكثر أهل العلم لزوم ذلك استدلالاً بفتيا ابن عباس وبعض الصحابة ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة وقد تقرر في الأصول أن مذهب الصحابي حجة بشرطه ولأن وقت الثانية وقت الأولى حال العذر فإذا أدركه المعذور فكأنه أدرك وقتها فلزمه قضاؤها ، وكذا قالوا ، والذي يقتضيه الضابط هو أنها لا تطالب إلا بأداء الصلاة التي طهرت في وقتها دون ما سواها وذلك لأن وقت الأولى خرج كله وهي ليست من أهل الوجوب أصلاً وإنما صارت من أهل الوجوب في وقت الثانية فلماذا تطالب بالأولى مع أنها ليست من أهل وجوبها لأنه صلى الله عليه وسلم قال " من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك العصر " ولم يقل وأدرك الظهر أيضاً وهذه المرأة أدركت من العصر ركعة فأكثر فهي مدركة للعصر بنص الحديث فكيف تلزم بالظهر وهي لم تدركها ، لكن أقول : حيث صحت فتيا ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصحابة فإننا نقول به فإن نظرهم أتم وعلمهم أعمق وأكمل ونحن تبع لهم لا نتعداهم في قليل ولا كثير فقولهم لنا خير من قولنا لأنفسنا ولغيرنا لا سيما وقد قال الإمام أحمد عن فتيا ابن عباس : وهو قول عامة التابعين إلا الحسن ،(1/297)
فاللهم أغفر لنا الزلل والخطأ وأنت أعلم وأعلى وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الضابط السادس والثلاثون
شروط الصلاة وواجباتها وأركانها منوطة بالاستطاعة
أقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل بحسن التحقيق ، اعلم رحمك الله تعالى أن أننا قد شرحنا في موضع آخر وأظنه في تلقيح الأفهام قاعدة لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة ، وهذا الضابط الذي نحن بصدد شرحه داخل في قاعدة لا واجب مع العجز ، فأقول : إن الشريعة الإسلامية قسمان : الأولى : مأمورات أمر إيجاب أو استحباب ، الثاني : منهيات نهي تحريم أو كراهة ، وما نحن بصدد شرحه يخص باب المأمورات وبما إننا في ضوابط الصلاة خصصنا لفظه بها ، وبيان ذلك أن يقال إن الأدلة الشرعية دلت على أن للصلاة شروطاً وواجبات وأركاناً وهي معلومة عند الفقهاء فشروط الصلاة هي الوقت والإسلام والتمييز والعقل والطهارة من الحدث والخبث ، واستقبال القبلة وستر العورة والنية ، وعلى كل ذلك أدلة شرعية صحيحة ، وواجباتها التكبير غير التحريمة ولتسميع للإمام والمنفرد والتحميد للكل ، وتسبيح الركوع والسجود وقول ( رب أغفر لي ) في الجلسة بين السجدتين والتشهد الأول وأما أركانها فهي القيام مع القدرة وتكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة والركوع والرفع منه والسجود على الأعضاء السبعة والاعتدال منه والجلوس بين السجدتين والتشهد الأخير وجلسته والطمأنينة في الكل والترتيب ثم التسليمتان ، هذه هي باختصار ، إذا علمت هذا فاعلم أن هذه الشروط والأركان والواجبات الأصل فيها أنه يجب الإتيان بها على الوجه المأمور به شرعاً إلا أن هذا الوجوب معلق بالاستطاعة والقدرة على الإتيان بها فأنت مطالب بها ما دمت قادر عليها وأما إذا أصابك العجز عن بعضها كلاً أو جزءاً فإنه يسقط عنك ما عجزت عنه وتطالب من ذلك بما قدرت عليه ، هذا هو شرح الضابط وقولنا ( منوطة ) أي معلقة ، تقول : ناط به أي تعلق فهذه الأشياء(1/298)
معلقة بالاستطاعة ، وقد دل على هذا الضابط الأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة ، فمن الأدلة قوله تعالى " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " وقوله " لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها " وقوله " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " وقوله " يريد الله أن يخفف عنكم " وقوله " ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به " قال الله " قد فعلت " كما في صحيح مسلم وقوله تعالى " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " فهذه الأدلة تفيد إفادة قطعية أن التكليف منوط بالقدرة والاستطاعة وأما ما كان خارجاً عن حد الوسع والطاقة فإننا لا نكلف به ومن ذلك شروط الصلاة وأركانها وواجباتها فإنها خاضعة لهذه الأدلة والله أعلم .
ومنها : - حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال كان بي بواسير فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم " صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب وإلا فاؤم " رواه البخاري ووجه الدلالة منه واضحة وذلك أن القيام ركن من أركان الصلاة وقد علقه النبي صلى الله عليه وسلم بالاستطاعة .
ومنها : - حديث أبي هريرة المتفق على صحته قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " فمنطوقه واضح ومفهومه أننا لا نطالب بالإتيان بالأمر إذا لم نستطعه ، وقد تقرر في الأصول أن مفهوم المخالفة حجة والله أعلم .
ومنها : حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد مريضاً فرآه يصلي على وسادةٍ فرمي بها وقال : صل على الأرض إن استطعت وإلا فاؤم إيماءً وأجعل سجودك أخفض من ركوعك " وإسناده قوي ووجه الدلالة منه كما في حديث عمران رضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/299)
ومنها : - حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين في قصة صلاته صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض قالت : فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان يصلي بالناس قاعداً وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر " ووجه الدلالة منه أيضاً واضحة .
ومنها : - قوله تعالى " فلم تجدوا ماءً فتيمموا " فعلق الله تعالى التيمم بعدم وجود الماء مما يدل على أنه إن كان قادراً على الماء فلا يتيمم وإن عدمه وجوداً أو حكماً فإنه ينتقل إلى التيمم مما يدل على أن الطهارة المائية إنما تلزم ويطالب بها من كان قادراً عليها وهي شرط للصلاة وقد علقه الله تعالى بالوجدان مما يدل على أن شروط الصلاة منوطة بالاستطاعة والقدرة والله أعلم .
ومنها : - حديث علي بن أبي طالب عند الدارقطني بسند ضعيف قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " يصلي المريض قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع أن يسجد أومأ جعل سجوده أخفض من ركوعه فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة فإذا لم يستطع صلى مستلقياً رجلاه مما يلي القبلة " وله شواهد عند البزار والطبراني والبيهقي قد يرتقي بها إلى مرتبة الاحتجاج ووجه الدلالة منه واضحة وهو أنه صلى الله عليه وسلم قد علق هذه الأشياء بالاستطاعة مما يدل على أن أركان الصلاة منوطة بالاستطاعة وإن لم ترضى به دليلاً لضعفه فدعه .(1/300)
ومنها : - حديث عبد الله بن أبي أوقى رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني منه فقال " قل سبحان الله والحمد لله ولا آله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " رواه أبو داود بإسنادٍ حسنه الألباني رحمه الله تعالى ووجه الدلالة منه واضحة وهي أن الفاتحة ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة إلا بها لكن هذا الركن منوط بالاستطاعة وهذا الرجل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يستطيع أن يأخذ شيئاً من القرآن ، فأسقط النبي صلى الله عليه وسلم المطالبة بهذا الركن القولي وعلمه ما يجزئه عنه مما يدل على أن أركان الصلاة وواجباتها وشروطها منوطة بالاستطاعة فإن قيل : قد يكون قوله " لا أستطيع أن أخذ شيئاً من القرآن " أنه يريد به غير الفاتحة ، فأقول هذا إيراد جاهل بالأصول فإن قوله ( شيئاً ) نكرة وقد وردت في سياق النفي وإذا وردت النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط تعم ، فإذا تقرر هذا فاعلم أنه قد تقرر أيضاً أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ولا مخصص هنا ، فدل ذلك على أن هذا الرجل لا يستطيع أن يأخذ شيئاً من القرآن لا الفاتحة ولا غيرها والله أعلم .(1/301)
ومنها : - ما رواه البخاري وغيره من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله صحيحاً مقيماً ، ومثله حديث عبد الله بن عمر عند أحمد بسند صحيح قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من أحد من المسلمين يبتلي ببلاءٍ في جسده إلا أمر الله الحفظة الذين يحفظونه : اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة مثل ما كان يعمل وهو صحيح ما دام محبوساً في وثاقي " ومثله أيضاً حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن أحمد أيضاً بسندٍ جيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أبتلى الله العبد ببلاءٍ في جسده قال الله : أكتب له صالح عمله الذي كان يعمله فإن شفاه غسله وطهره وإن قبضه غفر له ورحمه " فهذه الأدلة تدل على أن العبد مطالب بالعمل التام إن كان قادراً عليه أما إذا سلبت منه قدرته فعجز عنه كله أو بعضه فإنه يسقط عنه فعلاً لكنه يكتب له أجراً فلله الحمد والمنة على فضله وكرمه ورحمته والله أعلم .
ومن الأدلة أيضاً : - أن هذا الضابط متوافق مع مقاصد الشريعة فإن من مقاصدها رفع الحرج والعسر عن أهلها وإرادة التخفيف عليهم ، فمقتضى ذلك أن العاجز لا يطالب شرعاً بما عجز عنه ، وحيث توافق مع مقاصد الشريعة فهو صحيح لا غبار عليه لأن الشريعة حق وما وافقها فهو حق وعدل وخير ، والله يعفو عن الزلل والخطأ وهو أعلى وأعلم . ولعلك بذلك إن شاء الله تعالى قد اطمأنت نفسك لصحة هذا الضابط جعلنا الله وإياك من الذين اطمأنت قلوبهم وانشرحت صدورهم بالحق فهذا هو شرح الضابط من ناحية التنظير والتدليل وبقي شرحه من ناحية التفريع فأقول : -(1/302)
من الفروع عليه : أن العاجز عن الطهارة المائية وضوءاً أو غسلاً سواءً أكان عجزاً حقيقياً أو حكمياً فإنه تسقط مطالبته بها وينتقل لبدلها وهو الطهارة الترابية ، وذلك لأن الطهارة المائية شرط للصلاة وشروط الصلاة منوطة بالاستطاعة وهو لا يستطيعها فسقطت المطالبة بها وكذلك لو عجز عن الطهارة المائية في بعض أجزاء أعضائه فيأتي منها بما يستطيعه ، ثم يتيمم لما بقي ، بل أقول : لو عجز عن الطهارتين كلها الطهارة المائية والترابية كالمحبوس مثلاً ولا ماء معه ولا تراب أو المحروق الذي لا يستطيع استعمالهما فإن اشتراط الطهارة يسقط عنه ويصلي على حسب حاله ولا يعيد لو قدر على أحدهما ولو كان في الوقت لأنه أدى الصلاة على الوجه المأمور شرعاً فأنظر إلى سماحة هذه الشريعة زادها الله شرفاً ورفعة ، فالحمد لله أن جعلنا من أهلها والله أعلم .
ومنها : - أنه يجب على القادر أن يقوم في الفرض ، فالقيام في الفرض ركن لا تصح الصلاة إلا به ، لكن إذا كان الإنسان عاجزاً عن القيام لعذرٍ من شلل أو دوار في رأسه لا يستطيع معه القيام ونحو ذلك فإن فرض القيام يسقط عنه لأن أركان الصلاة منوطة بالاستطاعة ويصلي حينئذ قاعداً إن استطاع وإلا فعلى جنب ، ويكفيك في ذلك حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما والله أعلم .
ومنها : - من عجز عن الركوع التام والسجود التام فإنهما يسقطان عنه أو يسقط منهما ما عجز عنه وينتقل إلى الإيماء ، فيومئ بالركوع قائماً وبالسجود قاعداً لأنها أقرب إلى هيئة القادر عليهما ، وإن كان يصلي جالساً فيومئ عليهما أيضاً ويجعل سجوده أخفض من ركوعه وذلك لأن أركان الصلاة وشروطها وواجباتها منوطة بالاستطاعة والله أعلم .
ومنها : - المريض العاجز عن استقبال القبلة فإنه يسقط عنه شرطية استقبالها ويصلي على حسب حاله لأن شروط الصلاة منوطة بالاستطاعة والله أعلم .(1/303)
ومنها : - من اشتبهت عليه جهة القبلة يغيرها فإنه لا يتعين عليه استقبال الجهة الحقيقة وإنما عليه الاجتهاد بالنظر في الأدلة التي بها تعرف جهة القبلة ثم يصلي إلى الجهة التي أداه إليها اجتهاده وهذه الجهة هي القبلة في حقه فإن هذه قدرته واستطاعته ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ولأن شروط الصلاة منوطة بالاستطاعة وعلى ذلك حديث عامر بن ربيعة لكن فيه ضعف والله أعلم .
ومنها : - العاجز عن ستر عورته لعدم وجود ما يستتر به فإنه يصلي على حسب حاله ولا إعادة عليه وصلاته صحيحة تقبل الله منا ومنه وشرطية ستر العورة تسقط حينئذ لأنه عاجز عنها وشروط الصلاة منوطة بالاستطاعة والله أعلم .
ومنها : - العاجز عن قراءة الفاتحة وغيرها لعذر كحديث العهد بالإسلام وحل عليه وقت الصلاة أو الكبير الهرم الذي لا يقرأ ولا يستطيع أن يأخذ شيئاً من القرآن فهنا ينتقل إلى البدل وهو لتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والحوقلة وذلك لحديث عبد الله بن أبي أوفى المذكور في قيد الأدلة فإن قلت : أو ليست الفاتحة ركناً من أركان الصلاة لا تصح إلا بها ؟ قلت : نعم لكنه ليس وجوباً مطلقاً بل هو مقيد بالاستطاعة وهذا غير مستطيع ، ذلك لأن أركان الصلاة وشروطها وواجباتها منوطة بالاستطاعة والله أعلم . والفروع كثيرة وفيما مضى كفاية إن شاء الله تعالى وعليها فقس واستغفر الله تعالى وأتوب إليه وأبرأ من الحول والقوة إلا به ، فإن عليه اعتمادي واتكالي وبه التوفيق والعصمة ولا آله إلا هو وحده لا شريك له وهو أعلى وأعلم .
الضابط السابع والثلاثون
جنس التطوعات أوسع من جنس المفروضات
أو نقول
يجوز في التطوع ما لا يجوز في الفرض(1/304)
أقول : وهذا قاعدة وليس بضابط لأنه لم يحدد بباب واحد وهذا فعلته قصداً من باب الاختصار عليك فلا تجعل قادحاً في الكتاب وخروجاً عن الموضوع المقرر فيه ، وإن شئت أن تجعله ضابطاً فقل ( جنس التطوع بالصلاة أوسع من جنس فرضها ) فهذا ضابط في باب الصلاة ، وإن شئت أن تجعله ضابطاً في باب الزكاة فقل ( جنس التطوع بالصدقة أوسع من جنس فرضها ) وإن شئت أن تجعله ضابطاً في باب الصوم فقل ( جنس التطوع في الصوم أوسع من جنس فرضه ) وهكذا وترى أننا أخرجناه مطلقاً عن التقييد بشيء وإنما قلنا ( التطوعات ) فدخل في ذلك التطوع بالصلاة وبالصدقة وبالصوم وغيرها ، والأمر في ذلك سهل إن شاء الله تعالى وعلى كلٍّ فإن هذا الضابط أو أقول هذه القاعدة تبين أن الشريعة الإسلامية – زادها الله شرفاً ورفعة – خففت في النوافل ما لم تخففه في أحكام الفرائض ، فجعلت مبنى النوافل على التيسير بالنسبة للفرائض ، فرخصت في التطوعات ما لم ترخصه في المفروضات فيجوز في التطوع من الأفعال والأقوال ما لا يجوز في الفرض ، والحكمة في ذلك هي إرادة التكثير من التطوعات ولتكون أيسر على المكلف وأرغب لفعلها وذلك لأهمية التطوعات فإنها مكملة للفرائض ، ويرفع بها الدرجة وهي هنا أمان من ترك المفروضات فإن من حافظ على التطوع فلأن يكون محافظاً على الفريضة من باب أولى ، ولأن فعل التطوع عائد إلى ميل الإنسان نشاطه لأنه لم يكلف به تكليف إلزام وإنما تكليف ندب واستحباب فلو جعل ثقيلاً عليه لتركه ولفاتت عليه مصلحته فكان من رحمة الرحيم الرحمن الكريم الرؤوف البر الودود بنا أن خفف علينا فعله حتى لا تفوت علينا مصلحته وثوابه وعظيم أجره ، وأما المفروضات فإن المكلف مأمور بها أمر إيجاب ، ومعاقب على تركها بلا عذر وليس هو فيها أمير نفسه كما في التطوعات ، فكان ذلك كافياً في حرصه عليها وقيامه بها على الوجه المشروع وهذه القاعدة عرفناها – ولله الحمد – بالاستقراء ، وقد نص عليها(1/305)
الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى وغفر له وأجزل له الأجر والمثوبة ولا حرمنا الله بركة الانتفاع بعلمه فإن جميع ما كتبته سواءً في العقيدة أو الأصول أو الفته إنما هو فرع من فروعه فهو الأصل الأصيل والفحل العالم النحرير فارس المنقول والمعقول ، وأنا أشهد الله تعالى أني أحبه في الله حباً عظيماً وأرجو الله أن يجمعني به في الجنة آمين إنه ولي ذلك والقادر عليه والمقصود : أن هذه القاعدة عرفت بالاستقراء وإليك بعض الفروع عليها فأقول :(1/306)
منها : - القيام في النافلة القول الصحيح أنه سنة مؤكدة وليس بواجبة بمعنى أن المنتفل إذا صلى جالساً فإن صلاته صحيحة لكن يكون له من الأجر نصف أجر من صلى قائماً ، ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم في صحيحه قال : حدثنا يحي بن يحي قال أخبرنا هشام عن خالد عن عبد الله بن شقيق قال سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن تطوعه فقالت : كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً الحديث وفي أخره قالت : وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً وليلاً طويلاً قاعداً وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم وإذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين " ووجه الدلالة منه واضحة جليه ، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى تعليقاً على هذا الحديث : فيه جواز النفل قاعداً مع القدرة على القيام وهو إجماع العلماء قلت : - دعوى الإجماع فيها نظر فإن فيه نوع خلاف والله أعلم ، وروى أبو مسلم هذا الحديث من طريق آخر بلفظ " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الصلاة قائماً وقاعداً فإذا أفتتح الصلاة قائماً ركع قائماً وإذا أفتتح الصلاة قاعداً ركع قاعداً " وعنها رضي الله عنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في شيء من صلاة الليل جالساً حتى كبر قرء جالساً حتى إذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية قام فقرأهن ثم ركع " رواه مسلم وله في رواية عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي جالساً فيقرأ وهو جالس فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأها وهو قائم ثم ركع ثم سجد ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك " وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صلى رجل قاعداً نصف الصلاة ، قال فأتيته فوجدته يصلي جالساً فوضعت يدي على رأسه فقال ما لك يا عبد الله بن عمرو وقلت يا رسول الله حدثت أنك قلت(1/307)
صلاة الرجل قاعداً على نصف الصلاة وأنت تصلي قاعداً قال : أجل ولكني لست كأحد منكم " قال الإمام النووي معناه أن صلاة القاعد فيها نصف ثواب القائم فيضمن صحتها ونقصان أجرها وهذا الحديث محمولاً على صلاة النفل قاعداً مع القدرة على القيام فهذا له نصف ثواب القائم . أ.هـ كلامه رحمه الله تعالى ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركب الراحلة يسبح يومئ برأسه قبل أي وجهة توجه ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة وعن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي على دابته من ليل وهو مسافر ما يبالي حيث ما كان وجهه ، قال عبد الله بن عمر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة قبل أي وجهة توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة هذا فيه دليل على أنه يجوز في النفل ما لا يجوز في الفرض . ويوضح ذلك حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته نحو المشرق فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة " ودلالة هذه الأحاديث واضحة ولله الحمد والمنة فيها بيان أن جنس التطوعات أوسع من جنس الفرائض والله أعلم .(1/308)
ومنها : - شرعية الجماعة فإن الجماعة للفرائض الخمس والجمعة واجبة وهي فرض عين يأثم الإنسان بالتخلف عنها مع القدرة عليها وأدلة ذلك معروفة حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أنها شرط لصحة الصلاة واختاره الشيخ تقي الدين أبو العباس قدس الله روحه في الفردوس الأعلى فهذا بالنسبة للصلاة الفريضة وأما النافلة فإن الجماعة لها ليست بواجبة ، بل هي في بعضها سنة كصلاة التراويح والكسوف على القول بأنها سنة وإلا فالراجح عندي والله أعلم أن صلاة الكسوف واجبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها والأمر المجرد عن القرائن يفيد الوجوب ، وفي بعضها ليست بسنة كسائر النوافل من الرواتب القبلية والبعدية وتحية المسجد وركعتي الضحى وقيام الليل والوتر كل ذلك لا تشرع له الجماعة وإن وقعت أحياناً فلا بأس وتقدم ذلك فعدم وجوب الجماعة في التطوعات ووجوبها في الفرائض دليل على التوسيع فيها ، فدل ذلك على أن جنس النفل أوسع من الفرض والله أعلم .
ومنها : - الوقت : فإن الفرائض قد حددت بوقت معين لا تصح قبله ولا بعده إلا إذا فاتت بعذر ، أما التطوعات فإنها على ثلاثة أقسام : الأول : ما حدّ بوقت كالنوافل القبلية والبعدية والضحى والوتر ونحوها ، الثاني : ما حدّ بسبب كتحية المسجد وركعتي الطواف والكسوف على القول بأنها سنة وركعتي الوضوء ، والاستخارة ونحوها ، الثالث : ما هو مطلق عن الوقت والسبب كالتطوع في غير أوقات النهي ، فالتطوع المطلق عن الوقت والسبب هو المقصود عندنا في هذا الفرع فالفرائض حدت بوقت معين وكثير من التطوعات أطلقت على الوقت فهذا يدل على أن جنس التطوع أوسع من جنس الوقت وما ذلك إلا ليستزيد الإنسان من الخير ولا يحرم نفسه من الأجر ولله الحمد وهو أعلم وأعلى .(1/309)
ومنها : - التنويع في بعض التطوعات كالوتر وصلاة الضحى فإن مبناها على التوسيع فيه فصفات الوتر كثيرة فيجوز الوتر بواحدة وبثلاث وبخمس وبسبع وبتسع وبإحدى عشر وصلاة الضحى أقلها ركعتان وأكثرها ثمان على مذهب الأصحاب ، وأما الصلوات المفروضة فإنها ذات صفة واحدة لا تختلف أبداً فالتوسيع في صفة التطوع دليل على أن جنسه أوسع من جنس الفرض والله أعلم .
ومنها : - إعلم رحمك الله تعالى أن إيقاع الفريضة في المسجد واجب لا يجوز تركه إلا لعذر وذلك لحديث أبي هريرة أن رجلاً أعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فرخص ليّ فلما ولى دعاه فقال : هل تسمع النداء قال نعم قال فأجب " فهذا في الفرض بل في الصحيحين عنه أيضاً مرفوعاً " ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " والمراد شهودها جماعة في المسجد " وفي حديث ابن عباس مرفوعاً " من سمع النداء فلم يأت فإنه لا صلاة له إلا من عذر " والمراد لم يأت لأدائها جماعة في المسجد وفي الحديث الضعيف " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " وعلى ذلك عمل المسلمين سلفاً وخلفاً للفرائض أما النوافل فإن الشريعة وسعت في إيقاعها فقال صلى الله عليه وسلم " أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " وتقدم عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطوع على راحلته غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة وذلك لأن جنس التطوع أوسع من جنس الفرض .(1/310)
ومنها : - في الصوم أيضاً فإن القول الراجح إن شاء الله تعالى أنه يجوز إنشاء النية للنفل من النهار إذا لم يتقدمها مفسد وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها وفيه " فإني إذاً صائم " رواه مسلم وأما صيام الفرض فإنه لا يصلح إلا بنية من الليل كما في حديث حفصة مرفوعاً " من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له وذلك لأن جنس التطوع أوسع من جنس الفرض والله أعلم .
ومنها : - في الصدقة أيضاً فإن الصدقة المندوبة يجوز إعطاؤها للكافر المحتاج وأما الزكاة فإنه قد ضيق في أهلها فلا يجوز صرفها لغير الأصناف الثمانية من المسلمين وذلك لأن جنس النفل أوسع من جنس الفرض والله أعلم . ولعلنا قد أوصلنا إليك ما نريد إثباته في هذا الضابط إن شاء الله تعالى والله يتولانا وإياك واشهد الله على حبك في الله وإني لأفرح كل الفرح إن وصلت إليك المعلومة التي أريدها على وجه الكمال لأني أحب لك ما أحب لنفسي جعلنا الله وإياك من المتحابين فيه والمتآخين فيه والمتباذلين فيه وممن يظلهم ربهم بظله يوم لا ظل إلا ظله والله أعلى وأعلم .
الضابط الثامن والثلاثون
تسقط الجمعة والجماعة بكل عذر في عدم مراعاته مفسدة خالصة أو راجحة(1/311)
أقول : إعلم رحمك الله تعالى ووفقنا وإياك لكل خير أن كل شيء كتبته يداي في السابق والآن وفيما يأتي إن شاء الله تعالى ، إنما هو منة من الله وفضل فالله هو الذي من عليّ به ووفقني له وهداني إليه وإني لمعترف أمام ربي أني أنا العاجز الضعيف الفقير الذي لا حول له ولا قوة إلا بالله فهذا العلم لم يكن لي أن أحصله وأسطره لولا أن الله وفقني له وعلمني إياه ، إلا أن الذي يكدر صفوه أنه منوط بالعمل ، فالعلم كثير والعمل قليل جداً بل أقل من القليل ويزيد الأمر خطراً أنه أيضاً منوط بالدعوة إليه والدعوة إلى الحق الموافق للكتاب والسنة يشوبها الأذى ولا محالة ، فتأتي بعد ذلك مرتبة الصبر كما دلت عليه سورة العصر ، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من العلماء الربانيين الذين وفقهم الله تعالى للعلم النافع والعمل الصالح والدعوة إلى الحق والصبر على الأذى فيه آمين ، فأقول وبالله التوفيق ومنه استمد الفضل بحسن التحقيق : هذا الضابط في باب الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة ، وكلها تندرج تحته ولله الحمد وهذا من توفيق الله تعالى وحسن فضله وبيانه أن يقال : - إعلم رحمك الله تعالى أننا ننظر إلى الصلاة المفروضة من ثلاث جوانب .
الأول : - من جانب أصل فرضيتها فهي فرض بالإجماع القطعي الذي يكفر مخالفة مع العلم كما قرره أهل العلم رحمهم الله تعالى .
الثاني : - من جانب وقوعها جماعة فاختلف العلماء رحمهم الله تعالى هل الجماعة واجبة أم لا ؟ على أقوال : - فقيل فرض عين وقيل بل شرط لصحة الصلاة وقيل بل هي سنة مؤكدة ، والصواب الأول والأدلة مذكورة في غير هذا الموضع .(1/312)
... الثالث : - من جانب إيقاع هذه الجماعة في المسجد فهل الصلاة جماعة في المسجد واجبة أم لا ؟ فيه خلاف والصواب نعم هي واجبة لحديث الأعمى وحديث " من سمع النداء فلم يأت في صلاة له إلا من عذر " وحديث " ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " متفق عليه ، وشهودها هو حضورها في المساجد ، وعمل المسلمين عليه خلفاً عن سلف ، إذا علمت هذا فاعلم أن الكلام في هذا الضابط في الجانبين الأخيرين وهما الثاني والثالث ، ثم اعلم أن الأصل هو وجوب حضور الجماعة ووجوب إيقاعها في المسجد ، ولا يجوز التخلف عن ذلك إلا لمسوغٍ شرعيٍ وهذا المسوغ الشرعي هو طروء حالةٍ على المكلف لو لم يراعها لوقع في المفسدة الخالصة أو الراجحة ، فحينئذ فالشريعة تقول له : - إن الجماعة سقطت عنك لأنك لا تستطيع إتيانها إلا بوقوعك في هذه المفسدة لتحصيل المصلحة ودرء المفاسد عندنا مقدم على جلب المصالح وهذا داخل تحت قاعدة دفع الحرج الذي هو من خصائص هذه الأمة المرحومة زادها الله شرفاً ورفعة .. وهو فرع من قاعدة قوله تعالى " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " فإذا كان حضورك للجمعة والجماعة يؤدي إلى مفسدة خالصة أو راجحة فلا تأت وأنت معذور بعدم القيام بذلك الواجب لأن الواجبات تسقط بالعجز عنها والشريعة جاءت لتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فمن قام به هذا العذر واتصف بهذه الحالة فإنه لا تلزمه الجمعة أعني لا يلزمه حضور الجمعة والجماعة ، وقد حصر العلماء هذه الأعذار المبيحة لترك الجمعة والجماعة وأنا أذكرها إن شاء الله تعالى بأدلتها فأقول : -(1/313)
منها : - المرض ، فيعذر بترك الجمعة والجماعة المريض الذي لا يستطيع الحضور إليها . ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما مرض تخلف عن المسجد وقال " مروا أبا بكر فليصل بالناس " متفق عليه ، ففيه دليل على جواز تخلف المريض وقال عليه الصلاة والسلام " من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذرٍ قالوا : وما العذر ؟ قال " خوف أو مرض " رواه أبو داود بإسناد صحيح ولأن إتيان الجماعة واجب معلق بالاستطاعة وهذا غير مستطيع إلا بكلفةٍ ومشقةٍ لم يؤمر بها ، لكن إذا تكلف المريض الخروج للجماعة مع مرضه فلا بأس وفي الحديث الصحيح في مرض موت النبي صلى الله عليه وسلم " أنه خرج متوكئاً " فإن قلت فماذا نفعل بحديث أبي هريرة " لو يعلم الناس ما في صلاة العشاء والفجر لأتوهما ولو حبواً " فهذا فيه دليل على إتيان الجماعة على أية حال ولو حبواً ، فأقول : هذا على المبالغة ومعناه : لو علم الناس الذين يتخلفون عن هاتين الصلاتين مع صحتهم وسلامتهم ما فيهما من الأجر لحرصوا أتم الحرص على شهودها ولو حبواً ، حرصاً منهم على تحصيل أجرهما في جماعة ، وهذا الدين يسر ولله الحمد فهذا هو العذر الأول وهو المرض والله أعلم .(1/314)
ومنها :- مدافعة أحد الأخبثين ، وهما البول والغائط ، فمن كان محتاجاً لإخراجهما وحضرت الجمعة أو الجماعة فإنه يبدأ بهما أولاً حتى وإن أدى الاشتغال بهما إلى فوات الجمعة والجماعة فإنه لا يضر ولا أثم على صاحبها وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها عند الإمام مسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان " ولأن مدافعتها مذهبة للخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها فصلاتها منفرداً بخشوع كامل أفضل من صلاته جماعة بلا خشوع أو بخشوع ناقص بسبب هذه المدافعة ولأنه إن فاتت الجماعة فإنه ينتقل إلى بدلها وهو الصلاة منفرداً وأما إذا فات الخشوع فإنه لا بدل له وقد تقرر في القواعد أن العبادات التي تفوت إلى غير بدل مقدمة على ما يفوت إلى بدل ويقاس على هذا العذر ما كان في معناه والله أعلم .(1/315)
ومنها :- حضور الطعام المحتاج إليه لحديث أنس في الصحيح " إذا قدم العشاء فابدؤا به قبل أن تصلوا المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم " ولحديث عائشة السابق وفيه " لا صلاة بحضرة طعام " ولخبر ابن عمر يرفعه " إذا وضع عشاء أحدكما وأقيمت الصلاة فابدؤا بالعشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه " وفي لفظ " حتى يقضي حاجته منه " فإن قلت : فماذا نفعل بحديث " أنه صلى الله عليه وسلم دعي إلى الصلاة وهو يحتز من كتف شاةٍ فقام فصلى " فأقول : لعل المراد مع عدم الحاجة جمعاً بين الأحاديث ولأن العلة في المنع هي تشوق النفس إلى الطعام فينبغي أن يدور الحكم مع علته وجوداً وعدماً ، ولا ينبغي تعمد ذلك أعني وضع الطعام عند حضور الصلاة لكن إذا وقعت اتفاقاً فلا بأس ، والترخص إنما هو في ترك الجماعة فقط أما الوقت فلا رخصة في تركه فانقبه لهذا والله أعلى وأعلم . وهنا مسألة وهي : أنه هل يأكل حتى يشبع أو حتى يسد نهمته من الطعام فقط ؟ والجواب يعرف من قوله " ولا تعجلوا عن عشائكم " وقال " و لا يعجل حتى يفرغ منه " فيأكل حتى تذهب نهمته من الطعام . والله أعلم .(1/316)
ومنها :- الخوف كأن يخاف من ضياع المال أو خوف فواته أو الضرر فيه كمن يخاف على ماله من لص ونحوه وذلك لأن المشقة اللاحقة بذلك أعظم من التأخير بالمطر الذي هو عذر بالاتفاق فيكون ذلك عذر ن باب أولى لأن القياس الأولوي حجة ، ولأن الشريعة من مقاصدها حفظ المال وذهاب مفسدة وصلاة الجماعة مصلحة وقد تقرر في الأصول أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، أو يخاف من فوات نفسه كأن تثور الحروب بين القبائل مثلاً ويقل الأمن ويخاف بعض الناس على أنفسهم أن يخرجوا لصلاة الجماعة فيصابون بأذىً فلهم الصلاة في رحالهم لأن مراعاة حفظ النفس أولى وأوجب من مراعاة مصلحة شهود الجمعة والجماعة أو يخاف على عرضه من الانتهاك كالمسافر بأهله ويخاف إذا نزل للصلاة جماعة أن يخالفه أحد إلى أهله أو ينتشر الفساق في بلد ما ويخاف الإنسان إذا شهد الجماعة في المسجد أن يخالفه أحد إلى بيته فله الصلاة في بيته ولا يلزمه حضور الجماعة ولا الجمعة لأن حفظ العرض من مقاصد الشريعة العظيمة وإذا فات فإنه لا بدل له أو كان يخاف بحضور الجمعة أو الجماعة موت قريبه أو رفيقه أو لم يكن ثمة من يمرضهما غيره . كل هذه الصور يعذر أصحابها في ترك الجمعة والجماعة وكلها داخلة تحت الخوف والله أعلم
ومنها :- النوم فإن النائم إذا فاتته الجمعة أو الجماعة لا يؤاخذ لحديث أنس في المتفق على صحته " من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا استيقظ أو ذكر لا كفارة منها إلا ذلك " لكن ينبغي للإنسان أن يأخذ الاحتياط التام للاستيقاظ وخصوصاً في هذا الزمن الذي كثر فيه السهر وكثر فيه ملؤا البطون وثقلت فيه الرؤوس وذلك بالساعة المنبهة أو بالتوصية لأحد من الأهل أو الأقارب أو الرفاق والله يعفو عن الخطأ والزلة وهو أعلى وأعلم .(1/317)
ومنها :- إذا أمطرت السماء مطراً يبل الثياب أو حصل له التأذي بالوحل أو بريح باردة شديدة في الليلة المظلمة ، وذلك لقول ابن عمر : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه في الليلة الباردة أو المطيرة " صلوا في رحالكم " رواه ابن ماجه وصححه الإمام الألباني رحمة الله تعالى عليه ، وعن أبي المليح قال خرجت في ليلة مطيرة فلما رجعت استفتحت فقال أبي : ما هذا ؟ قال لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وأصابتنا سماء لم قبل أسافل نعالنا فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلوا في رحالكم " رواه ابن ماجه وغيره بإسناد صحيح وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في يوم جمعة ، يوم مطر : " صلوا في رحالكم " حديث صحيح بشواهده وعن عبد الله بن الحارث بن نوفل أن ابن عباسٍ أمر المؤذن أن يؤذن يوم الجمعة وذلك يوم مطير فقال " الله أكبر الله أكبر أشهد ألاّ آله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، ثم قال : ناد في الناس فليصلوا في بيوتهم فقال له الناس : ما هذا الذي صنعت ؟ قال : قد فعل هذا من هو خير مني تأمرني أن أخرج الناس من بيوتهم فيأتوني يدوسون الطين إلى ركبهم " فهذه الأدلة الصحيحة فيه دليل على جواز التخلف عن الجماعة في حالة المطر الكثير وما هو في معناه بجامع التأذي في كلٍ والله أعلم ، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : " البرد الشديد عذر في الليل والنهار وشدة الحر عذر في الظهر والثلج عذر إن بلَّ الثوب ، وذكر أبو المعالي أن كل ما أذهب الخشوع كالحر المزعج فإنه عذر " وقال : " والزلزلة عذر لأنها نوع خوف " .
تسلسل الضابط ... نصه ... رقم الصفحة
الأول ... الأصل في المياه الطهورية إلا بدليل ... 4
الثاني ... كل ماءٍ جاز شربه اختياراً صح التطهر به ... 13
الثالث ... الأصل في الآنية لحل والإباحة إلا بدليل ... 16
الرابع ... آداب الخلاء والتوقيفية ... 26(1/318)
الخامس ... كل مكان فيه منفعة مباحة أو ضرر فلا تقضي الحاجة فيه ... 35
السادس ... يجوز الاستجمار بكل طاهر مباح منقٍ إلا بدليل ... 42
السابع ... ما تحققت مصلحته بقوله سراً قيل في الخلاء وما لا فلا ... 47
الثامن ... تقدم اليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين واليسرى فيما عداه ... 52
التاسع ... مشروعات الوضوء إيجاباً واستحباباً توقيفية ... 59
العاشر ... نواقض الوضوء توقيفية ... 70
الحادي عشر ... من حدثه دائم فإنه يتوضأ لوقت كل صلاة ويصلي ولا يضره خروج حدثه ... 82
الثاني عشر ... لا تكرار في الممسوح إلا بدليل ... 87
الثالث عشر ... الأصل في الأعيان الطهارة إلا بدليل ... 91
الرابع عشر ... إذا زال وصف النجاسة زال حكمها ... 106
الخامس عشر ... كل عين أمر الشارع بغسلها فلقيام المانع فيها وما غسل بلا أمرٍ فلا ... 116
السادس عشر ... لا حكم للنجاسة في الباطن إلا بدليل ... 120
السابع عشر ... موجبات الغسل توقيفية ... 124
الثامن عشر ... المستحاضة تعمل بعادتها وإلا فبتمييزها الصالح وإلا فبغالب الحيض ... 131
التاسع عشر ... الصفرة والكدرة في زمن المحيض حيض ... 136
العشرون ... كل دم يحمل صفات الحيض فهو حيض ... 138
الواحد والعشرون ... مشروعات الأذان والإقامة إيجاباً أو استحباباً توقيفية ... 147
الثاني والعشرون ... الوقت أكد شرائط الصلاة فلا تصح قبله ولا بعده إلا من عذر ... 156
الثالث والعشرون ... الصلاة في أول الوقت أفضل إلا فيما استثناه الشارع ... 167
الرابع والعشرون ... شروط الصلاة التي أمر المكلف بفعلها لا تسقط بالجهل والنسيان
والتي أمر باجتنابها تسقط بالجهل والنسيان ... 175
الفهرس
الخامس والعشرون ... الأرض كلها مسجدٌ إلا ما استثناه الشارع ... 182
السادس والعشرون ... مفسدات الصلاة توقيفية ... 191
السابع والعشرون ... كلما كان الإمام أجمع للشروط المعتبرة شرعاً كلما كانت الصلاة أكمل ... 201(1/319)
الثامن والتاسع والعشرون ... من صحة صلاته لنفسه صحت بغيره ومن صحت إمامته في النفل صحت في الفرض ... 212
الثلاثون ... الاختلاف بين الإمام والمأموم في النية لا يؤثر في صحة الإمامة ... 214
الحادي والثلاثون ... فعل النافلة التي لا جماعة لها في البيت أفضل إلا لمصلحة راجحة ... 217
الثاني والثلاثون ... الاجتماع للنافلة ليس بسنةٍ راتبة ... 222
الثالث والثلاثون ... فعل الوتر على جميع وجوهه سنة ... 223
الرابع والثلاثون ... لا تصح النافلة في وقت النهي إلا ما له سبب ... 226
الخامس والثلاثون ... لا تدرك الجماعة والصلاة إلا بإدراك ركعة ... 236
السادس والثلاثون ... شروط الصلاة وواجباتها وأركانها منوطة بالاستطاعة ... 242
السابع والثلاثون ... جنس التطوعات أوسع من جنس المفروضات أو نقول يجوز في التطوع ما لا يجوز في الفرض ... 249
الثامن والثلاثون ... تسقط الجمعة والجماعة بكل عذر في عدم مراعاته مفسدة خالصة أو راجحة ... 255
الفهرس ... ============================ ... 261(1/320)