سلسلة البحوث الأصوليّة
المُقَدَّمة لِنَيْل درجة الأستاذيّة
(5)
إتحاف الأخيار
بترجيحات الأخبار
دكتور
إسماعيل مُحَمَّد عَلِيّ عبد الرحمن
أستاذ أصول الفقه المساعد
كلِّيّة الدراسات الإسلامية والعربية
لِلبنات بالمنصورة - جامعة الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي حَبَّب إلينا الإيمان وزَيَّنه في قلوبنا ، وكَرَّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، ونسأله تعالى أنْ يجعلنا مِن الراشدين ..
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أَرْسَل رسولَه بالهدى ودين الحق لِيُظْهِرَه على الدين كُلِّه ولو كَرِه المشرِكون ..
وأشهد أنّ سيدنا محمداً عَبْده ورسوله ، أَوْجَب الله عَزّ وجَلّ علينا اتباعَ سُنَّتِه ؛ فقال تعالى {وَمَا ءَاتَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (1) ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومَن تَبِع هداه إلى يوم الدين ..
أمّا بَعْد ..
فإنّ عِلْم أصول الفقه هو العلم بالقواعد التي يُتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية مِن أدلتها التفصيلية (2) .
وهو عِلْم يدور – كما ذكر الغزالي (3) رحمه الله – على أقطاب أربعة :
القطب الأول : الأحكام .
والقطب الثاني : الأدلة .
والقطب الثالث : وجوه دلالة الأدلة .
(1) سورة الحشر مِن الآية 7
(2) مختصر المنتهى 1/18
(3) الغزالي : هو زيْن الدين أبو حامد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الغزالي الشافعي رحمه الله تعالى ، حُجّة الإسلام ، فقيه أصوليّ صوفيّ حكيم متكلِّم ، وُلِد بالطابران بخراسان سَنَة 450 هـ .
مِن مصنَّفاته : إحياء علوم الدين ، المستصفى ، الوجيز ، مكاشفة القلوب ، كيمياء السعادة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 505 هـ .
الأعلام 7/247 وطبقات الشّافعيّة 1/249 - 264
والقطب الرابع : المجتهد (1) .(1/1)
ومما تقدَّم يتضح أنّ أسمى غايات عِلْم أصول الفقه هي التوصل إلى الأحكام الشرعية واستنباطها مِن الأدلة التفصيلية .
هذه الأدلة التي تُسْتَقَى منها الأحكام أجمعت الأُمَّة على حُجِّيَّة أربعة منها ، وهي : الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس (2) ، واختلَفوا في حُجِّيَّة ما عداها مِن الأدلة المختلَف فيها .
وقد أَوْلَى الأصوليون السُّنَّةَ اهتماماً وعنايةً تليق بها كمرتبة ثانية مِن مراتب التشريع الإسلامي ، وكمصدر أساس مِن مصادره ، فأَثبَتوا حُجِّيَّتَهَا ووضّحوا علاقتها بالقرآن الكريم ، وأصَّلوا كثيراً مِن قواعدهم على ضوئها ..
وفي ذلك يقول ابن السمعاني (3) رحمه الله تعالى :" إنّ سُنَّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حُكْم الكتاب في وجوب العمل بها وإنْ كانت فرعاً له ؛ لأنّ الله تعالى ختم برسوله - صلى الله عليه وسلم - النُّبُوَّةَ وأَكْمَل به الشريعةَ وجَعَل إليه بيانَ ما أَجمله في كتابه وإظهارَ ما شرعه مِن أحكامه " (4) ا.هـ .
وفي هذا البحث الذي أحاول أنْ أعايش فيه السُّنَّة المطهّرة في أحد جوانبها التشريعية التي أخذت قسطاً كبيراً وبحثاً طويلاً مِن الأصوليين : ألاَ وهو كيفية دفع التعارض الواقع في السُّنَّة المطهّرة والترجيح بينها ..
(1) المستصفى /7
(2) يُرَاجَع : قواطع الأدلة 1/31 وروضة الناظر /60 وبلوغ السول /88
(3) ابن السمعاني : هو أبو المظفر منصور بن مُحَمَّد بن عبد الجبار بن أَحْمَد بن مُحَمَّد رحمه الله ..
مِن مصنَّفاته : البرهان ، الاصطلام ، القواطع في أصول الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمَرْو سَنَة 489 هـ .
النجوم الزاهرة 5/160 والبداية والنهاية 12/153
(4) قواطع الأدلة 1/226
وقد اخترتُ هذا الموضوع محلاًّ لبحثي لأسباب ، أهمّها :
1- معرفة حقيقة التعارض الواقع في النصوص الشرعية وقواعد دفعه ، والذي يُعَدّ الترجيح واحداً منها .(1/2)
2- الوقوف على حقيقة الترجيح وأحكامه وتطبيقه عمليّاً في ترجيحات الأخبار .
3- ردّ دعاوى الجاهلين القائلين بوقوع التعارض والتناقض في نصوص الشريعة ومنها السُّنَّة المطهّرة .
4- توضيح أثر هذه الترجيحات بين الأخبار في الفقه الإسلامي ، وكيف كان أثرها قويّاً في اختلاف الفقهاء ، ومِن ثَمّ الأحكام الشرعية .
5- أنّ الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة – خاصة الأخبار – مِن الأهمية بمكان لدى الأصوليين ؛ لأنّ تَرْكَه يؤدي إلى تعطل الأدلة والأحكام ..
وفي ذلك يقول الطوفي (1) رحمه الله تعالى :" اعلم أنّ هذا مِن موضوع نظر المجتهد وضروراته ؛ لأنّ الأدلة الشرعية متفاوتة في مراتب القوة ، فيحتاج المجتهد إلى معرفة ما يقدِّم منها وما يؤخِّر ؛ لئلاّ يأخذ بالأضعف منها مع وجود الأقوى فيَكون كالمتيمم مع وجود الماء ..
وقد يَعرض لِلأدلة التعارض والتكافؤ ، فتصير بذلك كالمعدومة ، فيحتاج إلى إظهار بعضها بالترجيح لِيعمل به ، وإلا تعطلت الأدلة والأحكام " (2) ا.هـ .
(1) الطوفي : هو نَجْم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي الصرصري البغدادي الحنبلي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 673 هـ ..
مِن مصنَّفاته : مختصر روضة الموفّق ، بغية السائل في أمّهات المسائل .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببلدة الخليل سَنَة 716 هـ .
الدرر الكامنة 2/154 والفتح المبين 2/124
(2) شرح مختصر الروضة 3/673
6- أنّ الكتاب والسُّنَّة هُمَا سبيل العصمة مِن الضلال ؛ لِقوله - صلى الله عليه وسلم - { تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا : كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي } (1) ، والاعتصام بالسُّنَّة والتمسك بها لا يتحقق إلا بدفع التعارض الواقع بَيْنَهَا ، والترجيح أحد سبل دفع هذا التعارض .(1/3)
7- إفراد هذا الموضوع بمصنف مستقلّ أجمع فيه معظم مسائله وجزئياته ولستُ الأول في ذلك ، لكني أحاول أنْ أضيف لبنةً أصوليّةً في جانب مِن جوانب السُّنَّة المطهّرة ؛ عَلِّي أنال بها شفاعة صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام .
وبناءً على ما تقدّم فقد شرح الله تعالى صدري وقلبي لِلبحث في هذا الموضوع ودراسته ، وسميتُه بـ" إتحاف الأخيار بترجيحات الأخبار " .
وقد رأيتُ تقسيمه إلى هذه المقدمة وخمسة فصول وخاتمة ، على النحو التالي :
الفصل الأول : التعارض .
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : تعريف التعارض وشروطه وأقسامه .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تعريف التعارض .
المطلب الثاني : العلاقة بَيْن التعارض والمعارضة والتعادل .
المطلب الثالث : شروط التعارض .
المطلب الرابع : أقسام التعارض .
(1) أَخْرَجَه الحاكم في المستدرك 1/72 والبيهقي في السنن الكبرى 10/114 والدارقطني في سُنَنِه 4/245 عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
المبحث الثاني : تعارض الأدلة ودفعه .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : حُكْم تعارض الأدلة الشرعية .
المطلب الثاني : دفع التعارض .
المطلب الثالث : العلاقة بَيْن التعارض والترجيح .
المطلب الرابع : العجز عن الترجيح .
الفصل الثاني : تعريف الترجيح وشروطه وحُكْمه ، وتعريف الخبر وأقسامه .
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : تعريف الترجيح وشروطه وحُكْمه .
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : تعريف الترجيح .
المطلب الثاني : أركان الترجيح وشروطه .
المطلب الثالث : محلّ الترجيح .
المطلب الرابع : حُكْم الترجيح .
المطلب الخامس : تعارض وجوه الترجيح .
المبحث الثاني : تعريف الخبر وأقسامه .
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : تعريف الخبر .
المطلب الثاني : أقسام الخبر عند الأصوليين .
المطلب الثالث : أقسام الخبر عند المحدّثين .
المطلب الرابع : ترجيحات الأخبار عند الأصوليين .(1/4)
المطلب الخامس : ترجيحات الأخبار عند المحدّثين .
الفصل الثالث : الترجيح العائد إلى السند .
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : ( تمهيديّ ) .
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : أقسام ترجيحات الأخبار .
المطلب الثاني : أقسام الترجيح العائد إلى السند .
المبحث الثاني : الترجيح العائد إلى الراوي .
وفيه ستة مطالب :
المطلب الأول : الترجيح بكثرة الرواة .
المطلب الثاني : الترجيح بعلوّ الإسناد .
المطلب الثالث : الترجيح بعِلْم الراوي .
المطلب الرابع : الترجيح بعدالة الراوي وورعه .
المطلب الخامس : الترجيح بذكاء الراوي وضبطه .
المطلب السادس : الترجيح بشهرة الراوي .
المبحث الثالث : الترجيح العائد إلى الرواية والمروي ووقْت الرواية .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : الترجيح العائد إلى الرواية .
المطلب الثاني : الترجيح العائد إلى كيفية الرواية .
المطلب الثالث : الترجيح العائد إلى المروي .
المطلب الرابع : الترجيح العائد إلى وقْت الرواية .
الفصل الرابع : الترجيح العائد إلى المتن .
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : الترجيح العائد إلى العامّ والخاصّ .
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : ترجيح الخاصّ والعامّ .
المطلب الثاني : ترجيح المقيد وتعارُض صيغ العموم .
المطلب الثالث : ترجيح الأمر والنهي والخبر .
المبحث الثاني : الترجيح العائد إلى المنطوق والمفهوم والحقيقة والمَجاز .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : ترجيح منطوق اللفظ ومفهومه .
المطلب الثاني : ترجيح الدلالات .
المطلب الثالث : ترجيح ما اشتمل على زيادة أو ألفاظ متغايرة .
المطلب الرابع : الترجيح العائد إلى الحقيقة والمَجاز والمشترك .
الفصل الخامس : الترجيح العائد إلى المدلول أو أمر خارجيّ .
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : الترجيح العائد إلى الناقل والمثبت والنافي .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : ترجيح الناقل عن البراءة الأصلية .(1/5)
المطلب الثاني : ترجيح المثبت لِلحُكْم .
المطلب الثالث : ترجيح المثبت لِلطلاق والعتاق .
المطلب الرابع : ترجيح النافي لِلحدّ .
المبحث الثاني : الترجيح العائد إلى الحُكْم .
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : ترجيح الأخفّ .
المطلب الثاني : ترجيح الحُكْم الوضعي والمقصود به بيان الحُكْم .
المطلب الثالث : ترجيح المقرون بالمعارض والتهديد والتأكيد والقول
والفعل .
المبحث الثالث : الترجيح العائد إلى أمر خارجيّ .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : الترجيح بكثرة الأدلة .
المطلب الثاني : الترجيح بموافقة دليل آخَر .
المطلب الثالث : الترجيح بالعمل .
المطلب الرابع : ترجيح ما ينفي النقص عن الصحابة .
الخاتمة : وتتضمن أهمّ نتائج البحث وثماره ، والتي أسأل الله سبحانه وتعالى حُسْنها في شأني كُلّه ، خاصّةً عند لقاء ربّي عَزّ وجَلّ .
وأسأل الله العَلِيّ القدير أنْ يمدّني بمَدَده ، وأنْ يُلْهِمني التوفيق والسداد والرشاد ، وأنْ يَجعله خالصاً لِوجْهه ؛ حتى يَكون حُجّةً لي لا علَيّ ..
وصلى الله على سَيِّدنا محمد وعلى آله وصحْبه وسلَّم .
الفصل الأول
التعارض
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : تعريف التعارض وشروطه وأقسامه .
المبحث الثاني : تعارض الأدلة ودفعه .
المبحث الأول
تعريف التعارض
وشروطه وأقسامه
وفيه مطالب :
المطلب الأول : تعريف التعارض .
المطلب الثاني : العلاقة بَيْن التعارض والمعارضة والتعادل .
المطلب الثالث : شروط التعارض .
المطلب الرابع : أقسام التعارض .
المطلب الأول
تعريف التعارض
تعريف التعارض لغةً :
التعارض لغةً : مصدر " تعارض " (1) مِن " المعارضة " ، وهي المقابلة على سبيل الممانعة والمواقعة ، ومنه " اعترض فلان فلاناً " أيْ وقع فيه ..
ويقال " لفلان ابن يعارضه " : أي يقابله بالدفع والمنع .
ويقال " عارض الكتابَ معارضةً وعراضاً " : قابلَه بكتاب آخَر (2) .(1/6)
ومما تقدّم يكون التعارض لغةً : التقابل والتمانع والمواقعة .
تعريف التعارض اصطلاحاً :
عرّف الأصوليون التعارض بتعريفات عدة ، أذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : تقابل دليليْن على سبيل الممانعة .
وهو تعريف الزركشي (3) رحمه الله تعالى ، واختاره الفتوحي (4)
(1) يُرَاجَع القاموس الفقهي /247
(2) يُرَاجَع : تهذيب اللغة 1/463 والصحاح 3/1087 وتاج العروس 5/51 والقاموس المحيط 2/348 والكليات /850
(3) الزركشي : هو بدْر الدين أبو عبد الله مُحَمَّد بن بهادر بن عبد الله التركي المصري الزركشي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بمصر سَنَة 745 هـ ..
مِن مصنَّفاته : البحر المحيط ، تشنيف المسامع .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 794 هـ .
الفتح المبين 2/218
(4) الفتوحي : هو تقيّ الدين أبو البقاء مُحَمَّد بن شهاب الدين بن أَحْمَد بن عبد العزيز بن علِيّ الفتوحي المصري الحنبلي ، الشهير بـ" ابن النجار " رحمه الله تعالى ، وُلِد بمصر سَنَة 898 هـ ..
مِن مصنَّفاته : منتهى الإرادات ، الكوكب المنير المسمَّى بـ" مختصر التحرير " .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 979 هـ .
شذرات الذهب 8/39 والأعلام 6/233 ومقدمة شرْح الكوكب المنير 1/5 ، 6
والشوكاني (1) رحمهما الله تعالى (2) .
التعريف الثاني : تقابل الحُجّتيْن المتساويتيْن على وجْه يوجِب كُلَّ واحد منهما ضدّ ما توجِبه الأخرى : كالحِلّ والحرمة ، والنفي والإثبات .
وهو تعريف السرخسي (3) رحمه الله تعالى (4) .
التعريف الثالث : تقابل الحُجّتيْن على السواء لا مزيّة لأحدهما في حُكْمَيْن متضادّيْن .
وهو تعريف البزدوي (5) رحمه الله تعالى (6) .
التعريف الرابع : تقابل دليليْن على وجْه يمنع كُلّ واحد منهما مقتضى صاحبه .(1/7)
(1) الشوكاني : هو مُحَمَّد بن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن عبد الله الشوكاني الصنعاني اليماني رحمه الله تعالى مجتهِد فقيه مُحَدِّث أصوليّ قارئ مقرئ ، وُلِد بصنعاء سَنَة 1172 هـ ، تَفَقَّه على مذهب الإمام زيْد - رضي الله عنه - ثُمّ اسْتَقَلّ ولم يُقَلِّد وحارَب التقليد ..
مِن مصنَّفاته : إرشاد الفحول ، نَيْل الأوطار ، تحفة الذاكرين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بصنعاء سَنَة 1250 هـ .
الأعلام 3/953 والفتح المبين 3/144 ، 145
(2) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/109 وشرح الكوكب المنير 4/606 وإرشاد الفحول /273
(3) السرخسي : هو شمْس الأئمّة أبو بَكْر مُحَمَّد بن أَحْمَد بن أبي سهْل الحنفي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : المبسوط في الفقه ، أصول السرخسي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 483 هـ .
الفوائد البهيّة /158 والجواهر المضيئة 2/28
(4) يُرَاجَع أصول السرخسي 2/12
(5) فَخْر الإسلام البزدوي : هو علِيّ بن مُحَمَّد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى ابن مجاهد الحنفي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 400 هـ ..
مِن مصنَّفاته : كنْز الوصول إلى معرفة الأصول ، غناء الفقهاء ، شرْح الجامع الصغير والكبير .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 482 هـ .
معجم البلدان لِياقوت 2/54 ومفتاح السعادة /12
(6) أصول البزدوي مع كشف الأسرار 3/162
وهو تعريف الإسنوي (1) رحمه الله تعالى (2) .
التعريف الخامس : تدافع الحُجّتيْن .
وهو تعريف ابن عبد الشكور (3) رحمه الله تعالى (4) .
التعريف السادس : اقتضاء كُلّ مِن الدليليْن عدم مقتضى الآخَر .
وهو تعريف ابن الهمام (5) رحمه الله تعالى (6) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على تعريف التعارض عند بعض الأصوليين يتضح لنا ما يلي :
1- أنّ التعريفات : الأول والرابع والخامس والسادس لا يمنع كُلّ واحد منهما مِن وقوع التعارض بَيْن القطعي والظني ، وهو غير واقع ؛ لأنهما(1/8)
(1) الإسنوي : هو أبو مُحَمَّد عبد الرحيم بن الحَسَن بن علِيّ بن عُمَر بن علِيّ بن إبراهيم القرشي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بإسنا سَنَة 704 هـ .
مِن تصانيفه : المبهمات على الروضة ، الأشباه والنظائر ، التمهيد ، نهاية السول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 772 هـ .
الدرر الكامنة 2/354 والفتح المبين 2/193 ، 194
(2) نهاية السول 2/207
(3) ابن عبد الشكور : هو محِبّ الله بن عبد الشكور البهاري الهندي الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ..
مِن مصنَّفاته : مُسَلَّم الثبوت ، سُلَّم العلوم في المنطق .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 1119 هـ .
الفتح المبين 3/122
(4) مسلّم الثبوت 2/189
(5) ابن الهمام : هو مُحَمَّد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ متكلِّم نحويّ ، وُلِد سَنَة 790 هـ ..
مِن مصنَّفاته : التحرير ، فتْح القدير ، زاد الفقير في الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 861 هـ ودُفِن بجوار ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى .
الفتح المبين 3/39
(6) التحرير مع التيسير 3/136
ليسا في قوة متساوية ، ولِذَا قدّم القطعي على الظني .
2- أنّ تعبير ( الحُجّتيْن ) الوارد في التعريف الثاني والثالث والخامس تعبير واسع يشمل الدليلَ وغَيْرَه ، ولِذَا فالأَوْلَى أنْ يُعَبّر بـ( الدليليْن ) .
3- أنّ الأَوْلَى عندي أنْ يُعَرَّف التعارض بأنّه : تقابل دليليْن متساوييْن على وجْه يقتضي كُلّ واحد منهما خِلاَفَ ما يقتضيه الآخَر .
شرح التعريف المختار :
( تقابُل ) : كالجنس في التعريف ، يشمل كُلّ تقابل ، سواء كان بَيْن دليليْن أو غَيْرهما .
( دليليْن ) : قيْد أول ، خرج به تقابل غَيْر الدليليْن ؛ فلا يُسَمَّى " تعارضاً " .(1/9)
( متساوييْن ) : قيْد ثانٍ ، خرج به تقابل دليليْن غَيْر متساوييْن ؛ فلا يتحقق التعارض ؛ لأنّ الأقوى مقدَّم على الأضعف ، والقطعي مقدَّم على الظني ، ولِذَا لا يتعارضان .
( يقتضي كُلّ واحد منهما خِلاَفَ ما يقتضيه الآخَر ) : قيْد ثالث ، خرج به اتفاق ما يقتضيه الدليلان في الحُكْم ، فلا يكون تعارضاً ، وإنما ترادفاً وموافقة .
المطلب الثاني
العلاقة بَيْن التعارض والمعارضة والتعادل
لقد عبّرَت الكثرة مِن الأصوليين عن هذا الباب بـ( التعارض والترجيح ) (1) ، وعبّر بعض الحنفية بـ" المعارضة والترجيح " (2) ، وعبّر بعض الأصوليين بـ( التعادل والترجيح ) (3) .
ولِذَا وجب أنْ نحدد العلاقة بَيْن التعارض والمعارضة والتعادل فيما يأتي ..
أوّلاً – تعريف المعارضة :
المعارضة لغةً : الممانعة على سبيل المقابلة (4) .
واصطلاحاً : تقابل الحُجّتيْن المتساويتيْن على وجْه يوجِب كُلّ واحد منهما ضدَّ ما توجبه الأخرى (5) .
ثانياً – تعريف التعادل :
التعادل لغةً : مِن " عدل الميزان والمكيال " سَوّاه فاعتدل .
(1) يُرَاجَع : الموافقات 4/294 والبرهان 2/1184 والمستصفى /375 وقواطع الأدلة 3/29 وروضة الناظر /412 وشرح العضد 2/309 وشرح تنقيح الفصول /417 والورقات مع حاشية النفحات /114 والتحرير مع التيسير 3/136 ومسلّم الثبوت 2/189
(2) يُرَاجَع : أصول السرخسي 2/12 والتنقيح مع التوضيح 2/215 وأصول البزدوي 3/160 والمنار مع حاشية نسمات الأسحار /235
(3) يُرَاجَع : المحصول 5/503 والإحكام لِلآمدي 4/23 والفائق 4/369 ونهاية السول 3/151 والمنهاج مع شرحه 2/781 وجمع الجوامع مع البناني 2/357 والمسودة /449 والبحر المحيط 6/108 وإرشاد الفحول /273 ومناهج العقول 3/149
(4) يُرَاجَع المعجم الوسيط 2/593
(5) يُرَاجَع : أصول السرخسي 2/12 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار 3/161 ، 162 والمنار مع شرح إفاضة الأنوار /35
والعدل : المِثْل والنظير .(1/10)
و" عَدَله يَعدله وعادَله " وازَنَه .
ولِذَا كان التعادل لغةً هو : التساوي والتماثل (1) .
واصطلاحاً : كَوْن الأمارتيْن على وجْه لا يكون لأحدهما مزية على الآخَر (2) .
وبمقارنة تعريف المعارضة مع تعريف التعارض يتضح أنّ المعارضة فيها مقابلة دليليْن متساوييْن ، وهذا هو معنى التعارض ؛ فَهُمَا مترادفان ..
أمّا تعريف التعادل : فإنّه نفى وجود مزية لأحد الأمارتيْن ، وهذا يجعل التعادل ليس مرادفاً لِلتعارض .
لكنّ الكثرة المعبّرين بـ( التعادل ) قصدوا به التعارضَ وعَدّوهما مترادفيْن .
وفرَّق الإسنوي – رحمه الله تعالى – بينهما : بأنّ الأدلة إذا تعارضت فإنْ لَمْ يكن لِبعضها مزية على البعض الآخَر فهو التعادل ، وإنْ كان فهو الترجيح .
وهذا التعليل هو ذاته تعريف الأصفهاني (3) – رحمه الله تعالى – لِلتعادل والمتقدم ذِكْره (4) .
كما فرَّق الفتوحي – رحمه الله – بَيْنَهُمَا في قوله :" والتعارض : تقابل
(1) يُرَاجَع : تاج العروس 8/10 والقاموس المحيط 3/13
(2) شرح المنهاج 2/781 وتيسير الوصول 6/171
(3) شمْس الدين الأصفهاني : هو أبو الثناء محمود بن أبي القاسم عبد الرحمن بن أَحْمَد بن مُحَمَّد ابن أبي بَكْر بن علِيّ الأصفهاني الشافعي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد بأصفهان سَنَة 674 هـ ..
مِن مصنَّفاته : بيان المختصَر ، تشييد القواعد ، مَطالع الأنظار شرْح طوالع الأنظار .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 749 هـ .
الدرر الكامنة 4/327 والفتح المبين 2/165
(4) يُرَاجَع : نهاية السول 3/151 وشرح المنهاج 2/781 وتيسير الوصول 6/171
دليليْن ولو عامّيْن على سبيل الممانعة والتعادل والتساوي " (1) ا.هـ .
وفرَّق التفتازاني (2) – رحمه الله تعالى – بَيْن صور ثلاث لِلدليليْن المتعارضيْن : لأنهما إمّا أنْ يتساويَا في القوة أو لا ، وعلى الثاني إمّا أنْ تكون زيادة أحدهما بما هو بمنزلة التابع أو لا ..(1/11)
ففي الصورة الأولى معارضة ولا ترجيح ، وفي الثانية معارضة مع ترجيح ، وفي الثالثة لا معارضة حقيقةً فلا ترجيح ؛ لابتنائه على التعارض المبني على التماثل (3) .
ومما تقدّم يتضح أنّ بعض الشافعية المستعمِلين لِتعبير " التعادل " قصدوا به التعارضَ ، إلا أنّ هذا التفريق مِن بعضهم بَيْن التعادل والتعارض يجعل تعبير التعارض أَعَمَّ مِن تعبير التعادل ؛ لأنّ التعادل يكون بَيْن دليليْن متساوييْن دون أنْ يكون لأحدهما مزية عن الآخَر ، فبَيْنَهُمَا عموم وخصوص مطلق ، فيجتمعان في كُلّ دليليْن متساوييْن متعارضيْن ، ويتفرد التعارض في حالة ما إذا كان لأحدهما مزية عن الآخَر (4) .
(1) شرح الكوكب المنير 4/605 ، 606
(2) التفتازاني : هو سعْد الدين مسعود بن عُمَر بن عبد الله التفتازاني رحمه الله تعالى ، العلاّمة الشافعي ، وُلِد بتفتازان سَنَة 712 هـ ..
مِن تصانيفه : التلويح في كشْف حقائق التنقيح ، شرْح الأربعين النووية في الحديث .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بسمرقند سَنَة 791 هـ .
الدرر الكامنة 1/545 والفتح المبين 2/216
(3) التلويح 2/217 بتصرف .
(4) يُرَاجَع : التعارض والترجيح عند الأصوليين /42 ، 43 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 1/39 ، 40
المطلب الثالث
شروط التعارض
اشترط الأصوليون لِلتعارض شروطاً ، حصرتُهَا فيما يلي :
الشرط الأول : أنْ يكون الدليلان المتعارضان متساوييْن في الثبوت ..
فلو كان أحدهما قطعيّ الثبوت والآخَر ظنِّيّ الثبوت انعدم التعارض ؛ لِتقديم القطعي على الظني ، ولِذَا يقدَّم القرآن الكريم والسُّنَّة المتواترة على خبر الآحاد .
الشرط الثاني : أنْ يكون الدليلان المتعارضان متساوييْن في القوة ..
فلا تَعارُض بَيْن المتواتر والآحاد ؛ لأنّ المتواتر أقوى ، فيقدَّم وينتفي التعارض .
الشرط الثالث : أنْ يكون الحُكْم الذي يقتضيه كُلّ دليل منهما مخالفاً لِلحُكْم الذي يقتضيه الدليل الآخَر ..(1/12)
كأنْ كان أحدهما يقتضي الحرمةَ والآخَر يقتضي الحِلَّ ، أو كان أحدهما مثبتاً والآخَر منفيّاً .
فإنْ كان الحُكْم فيهما واحداً انعدم التعارض .
الشرط الرابع : أنْ يكون محلّ الحُكْميْن واحداً ..
فإن اختلف محلّ الحُكْميْن انتفى التعارض ..
نَحْو : قوله تعالى {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} (1) مع قوله {وَأَقِيمُوا الصَّلَوة} (2) ؛ فمحلّ الحُكْم الأول هو الزنا ، ومحلّ الحُكْم الثاني هو الصلاة ، والأول
(1) سورة الإسراء مِنَ الآية 32
(2) سورة البقرة مِن الآية 43
محرِّم ، والثاني موجِب ، فاختلف الحُكْمان وتَعارَضَا ، لكنّ محلّهما ليس واحداً ، ولِذَا فلا تَعارُض .
الشرط الخامس : اتحاد الوقت فيهما ..
فإن اتحد وقْت تشريع الحُكْميْن المتناقضيْن كان هو التناقض بعينه ..
نَحْو : جواز شرب الخمر في غَيْر أوقات الصلاة في قوله تعالى {لا تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون} (1) ، ثُمّ حرّم شربها مطلقاً في قوله تعالى {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} (2) ..
فالحُكْمان متناقضان ، لكنّ وقْتهما ليس واحداً ، وإنما تقدّم الأول ثم شُرِّع الثاني ورَفَع الحُكْمَ الأولَ ونَسَخَه ، ومِن هنا كان التعارض منتفياً ؛ لِعدم اتحاد وقْت الحُكْميْن (3) .
الشرط السادس : أنْ يكون التعارض بَيْن دليليْن أو بينتيْن أو أصْليْن ..
نَحْو : أنْ تقوم بينة لِزَيْد بكذا ولِعمرو به .
ونَحْو : ما لو قَدّ ملفوفاً (4) وزعم الولي حياته والجاني موْتَه ؛ فإنّ
(1) سورة النساء مِن الآية 43
(2) سورة المائدة مِن الآية 90(1/13)
(3) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/109 ، 110 وأصول السرخسي 2/12 وتيسير التحرير 3/136 وشرح نور الأنوار على المنار مع كشف الأسرار لِلنسفي 2/86 ، 87 وميزان الأصول /687 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار 3/161 ، 162 وأصول الفقه لِمدكور /321 ، 322 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /49 – 53 وأصول الفقه الإسلامي لِبدران /461 ، 462
(4) قَدّ : أيْ شَقّ وقطع .. يُرَاجَع المعجم الوجيز /491
و" قَدّ ملفوفاً " : أيْ قطع شيئاً ملفوفاً نصْفيْن وهو لا يعلم ما بداخله ثم بان أنه إنسان ، فزعم الولي أنه حيّ وطلب القصاص ، وزعم القادّ أنه ميت .
وفيها أقوال ثلاثة :
الأول : القول قول القادّ ؛ لأنّ الأصل براءة ذمته من الدية وبدنه من القصاص .
والثاني : القول قول الولي ؛ لأنّ الأصل بقاء حياة المقدود .
والثالث : إنْ كان ملفوفاً في ثياب الأحياء فالقول قول الأولياء ، وإنْ كان ملفوفاً في ثياب الأموات =
الأصل بقاء الحياة ، والأصل براءة الذمة (1) .
= فالقول قول الأجنياء .
يُرَاجَع قواعد الأحكام 2/55
والراجح عندي : إنْ كان ظاهر اللفاف يوحي أنّ داخِله إنسان – حيّاً كان أم ميتاً – فلا تبرأ ذمته وإنْ كان ظاهره لا يوحي بذلك برئت ذمته .
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/112 والتنقيح مع التوضيح 2/215 ، 216 وتسهيل الوصول /241
المطلب الرابع
أقسام التعارض
لقد اختلف الأصوليون في حصر أقسام التعارض وتقسيماته المتعددة بتعدد اعتبارات مختلفة ..
وقد حصرتُ هذه التقسيمات فيما يلي :
التقسيم الأول : باعتبار محلّه أو ما يجري فيه .
ينقسم التعارض باعتبار محلّه إلى أربعة أقسام :
القِسْم الأول : تعارض دليليْن .
والدليلان المتعارضان لهما صور ثلاث :
الصورة الأولى : أنْ يكون الدليلان المتعارضان منقوليْن .
والدليلان المتعارضان المنقولان لهما أحوال ثلاثة :
الحالة الأولى : أنْ يكونَا قطْعيَّيْن .
الحالة الثانية : أنْ يكونَا ظنِّيَّيْن .(1/14)
الحالة الثالثة : أنْ يكون أحدهما قطعيّاً والآخر ظنِّيّاً .
الصورة الثانية : أنْ يكون الدليلان المتعارضان معقوليْن .
الصورة الثالثة : أنْ يكون الدليلان المتعارضان أحدهما منقول والآخَر معقول .
القِسْم الثاني : تعارض بينتيْن .
القِسْم الثالث : تعارض أصْليْن .
القِسْم الرابع : تعارض أصْل وظاهِر (1) .
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/112 ومختصر المنتهى مع بيان المختصر 3/371 – 374 والإحكام لِلآمدي 4/249
التقسيم الثاني : باعتبار الحقيقة والظاهر .
ينقسم التعارض باعتبار الحقيقة والظاهر إلى قِسْميْن :
القِسْم الأول : تعارض حقيقيّ .
وهو : تعارض النصوص في نَفْس الأمر .
القِسْم الثاني : تعارض ظاهريّ .
وهو : تعارض ظواهر النصوص في ذهن المجتهد (1) .
التقسيم الثالث : باعتبار قبوله الترجيح وعدمه .
ينقسم التعارض باعتبار قبوله الترجيح وعدمه إلى قِسْميْن :
القِسْم الأول : تعارض بلا ترجيح .
وهو واقِع – عند الكثرة – بَيْن الدليليْن القطعييْن والدليل القطعي مع الدليل الظني .
القِسْم الثاني : تعارض يتأتى فيه الترجيح فيما إذا تعارض دليلان ظنِّيّان (2) .
التقسيم الرابع : باعتبار وقوعه بَيْن الأدلة الأربعة .
هذا التقسيم يُعَدّ تفريعاً على التقسيم الأول ؛ لأنّه يبين وجوه جريان التعارض بَيْن الأدلة الأربعة ، والمحصورة في عشرة أقسام :
القِسْم الأول : تعارض الكتاب والكتاب .
وهذا التعارض لا حقيقة له في نَفْس الأمر ، وإنما يقع التعارض في ذهن المجتهد .
القِسْم الثاني : تعارض الكتاب والسُّنَّة .
والسُّنَّة إنْ كانت متواترةً فالقول فيها كما تقدَّم ، وإنْ كانت خبر آحاد قدّم الكتاب عليها .
(1) يُرَاجَع البرهان 2/1178 ، 1184
(2) يُرَاجَع : تسهيل الوصول /240 ، 241 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /43 ، 44
القِسْم الثالث : تعارض الكتاب والإجماع .(1/15)
الإجماع إنْ ثبتت عصمته فلا يُتصور وقوع التعارض بَيْنَه وبَيْن الكتاب ، وإنْ لم تثبت عصمة الإجماع فالكتاب – حينئذٍ – مقدَّم عليه .
القِسْم الرابع : التعارض بَيْن الكتاب والقياس .
إذا تعارض الكتاب والقياس كان الكتاب مقدَّماً ؛ لِعصمته دون القياس .
القِسْم الخامس : تعارض السُّنَّتَيْن .
إذا تعارضت السُّنَّتان : فإمّا أنْ تكونَا متواترتيْن ، أو آحاديْن ، أو إحداهما متواترةً والأخرى آحاداً ..
فإنْ كانتَا متواترتيْن : فلا تعارض بَيْنَهُمَا في الحقيقة ونَفْس الأمر .
وإنْ كانتَا آحاداً : رجّح بَيْنَهُمَا ، فإنْ تعذَّر فالخلاف في التخيير أو التساقط .
وإنْ كان إحداهما متواترةً والأخرى آحاداً : قدّم المتواتر .
القِسْم السادس : تعارض السُّنَّة والإجماع .
إذا تعارضت السُّنَّة والإجماع : فإنْ كانَا قطْعييْن لَمْ يمكن التعارض بَيْنَهُمَا ، وإنْ كان الإجماع قطعيّاً مع خبر الواحد قدّم الإجماع ، وإنْ كان ظنِّيّاً مع خبر الواحد فقد تعارض دليلان .
القِسْم السابع : تعارض السُّنَّة والقياس .
إذا عارضت السُّنَّة القياس قدِّمَت السُّنَّة المتواترة على القياس ، وإنْ كانت غَيْر متواترة والقياس جليّاً تردّد في تقديم أحدهما ، وإن كان القياس غَيْر جليّ قدّمَت السُّنَّة غَيْر المتواترة عليه .
القِسْم الثامن : تعارض الإجماع والإجماع .
إذا عارض الإجماعُ الإجماعَ : فإنْ ثبت عصمتهما فلا يُتصور وقوع تعارض بَيْنَهُمَا ، وإنْ لَمْ يثبت أمكن الجمع بَيْنَهُمَا ، أو يرجح أحدهما بقوة مستنده أو صفته : كتقدم الإجماع النصي على القياسي ، والنطقي على
السكوتي ، واللفظي الحقيقي على المعنوي .
القِسْم التاسع : تعارض الإجماع والقياس .
إنْ ثبت عصمة الإجماع قدِّم على القياس ، وإنْ لَمْ يثبت قدِّم على الأقيسة الضعيفة ، أمّا القياس الجلي مع الإجماع ففيه تردّد .
القِسْم العاشر : تعارض القياس والقياس .(1/16)
القياسان المتعارضان إمّا جليّان أو خفيّان أو أحدهما جليّ دون الآخَر : فالجليّان يستعمل بَيْنَهُمَا الترجيح ، وغَيْر الجليّيْن لا بُدّ مِن الترجيح بَيْنَهُمَا ، وإن كان أحدهما جليّاً قدِّم على غَيْر الجلي (1) .
التقسيم الخامس : باعتبار العموم والخصوص .
هذا التقسيم يُعَدّ تفريعاً – أيضاً – على التقسيم الأول ؛ لارتباطه بالدليل النقلي ، الذي يمكن حصر صور التعارض الواقع فيه باعتبار العموم والخصوص في صور أربع :
الصورة الأولى : أنْ يكون الدليلان المتعارضان عامّيْن .
الصورة الثانية : أنْ يكون الدليلان المتعارضان خاصّيْن .
الصورة الثالثة : أنْ يكون الدليلان المتعارضان أحدهما عامّ والآخَر خاصّ .
الصورة الرابعة : أنْ يكون الدليلان المتعارضان أحدهما عامّ مِن وجْه ، خاصّ مِن وجْه آخَر (2) .
(1) البحر المحيط 6/111 ، 112 بتصرف ويُرَاجَع إرشاد الفحول /273
(2) يُرَاجَع : اللمع /19 ، 20 والورقات مع حاشية النفحات /114 – 124 وشرح تنقيح الفصول /421 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/417 ، 418
المبحث الثاني
تعارض الأدلة ودفعه
وفيه مطالب :
المطلب الأول : حُكْم تعارض الأدلة الشرعية .
المطلب الثاني : دفع التعارض .
المطلب الثالث : العلاقة بَيْن التعارض والترجيح .
المطلب الرابع : العجز عن الترجيح .
المطلب الأول
حُكْم تعارض الأدلة الشرعية
إذا كان التعارض – على الراجح عندي – هو ( تقابل دليليْن متساوييْن على وجْه يقتضي كُلّ واحد منهما خِلاَفَ ما يقتضيه الآخَر ) فإنّ تقابل الدليليْن بهذه الصفة يفتح باباً لِلتردد والتحير في الاختيار ، بلْ ربما التشكك في ورود مِثل ذلك في أدلة الشرع وأحكامه ..
ولِذَا اختلف الأصوليون في جواز تعارض الأدلة الشرعية .
والحديث في ذلك يستلزم تقسيمه على النحو التالي :
1- المراد بالدليل القطعي والدليل الظني والأمارة .
2- تحرير محلّ النزاع .(1/17)
3- مذاهب الأصوليين في جواز تعارض الأدلة الشرعية .
4- أدلة المذاهب مع الترجيح .
ونفصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..
أوّلاً – المراد بالدليل القطعي والدليل الظني والأمارة :
لَمّا كانت مذاهب الأصوليين – كما سيأتي بإذن الله تعالى – تدور جميعها حول جواز التعارض بَيْن الأدلة القطعية والأدلة الظنية – كُلّ واحد منهما مع نَفْسه أو مع الآخَر – فإنّ ذلك يقتضي - قبْل الخوض في هذه المذاهب - أنْ نبين المراد بالدليل القطعي والدليل الظني والأمارة ، بتعريف كُلّ منهما فيما يلي ..
تعريف الدليل القطعي :
القطع لغةً : مصدر " قطع " أي هدم ، و" قطع الشيء " أبانه (1) .
(1) يُرَاجَع : لسان العرب 8/276 والقاموس المحيط 2/306 ومعجم مقاييس اللغة 5/101
وقد اختلف الأصوليون في تعريف الدليل القطعي :
فعرَّفه ابن السبكي (1) – رحمهما الله تعالى – بأنّه : ما يفيد العلم اليقيني (2) .
وعرَّفه التفتازاني – رحمه الله – بأنّه : يطلَق على نَفْي الاحتمال أصلاً وعلى نَفْس الاحتمال الناشئ عن دليل (3) .
وقريب منه ما ذهب إليه الكفوي (4) – رحمه الله تعالى – حينما ذَكَر أنّ الدليل القطعي له معنيان :
المعنى الأول : ما يقطع الاحتمال أصلاً : كحُكْم الكتاب ومتواتر السُّنَّة والإجماع .
وبه يثبت الفرض القطعي ، ويقال له " الواجب " .
المعنى الثاني : ما يقطع الاحتمال الناشئ عن دليل هو تعدد الوضع : كالقياس والظاهر والمشهور .
ويُسَمَّى بـ: الظن اللازم العمل في اعتقاد المجتهد (5) .
(1) تاج الدِّين السُّبكي : هو أبو نصْر عبد الوهاب بن علِيّ بن عبد الكافي بن علِيّ بن تمّام بن يوسف ابن موسى السبكي الشافعي رحمه الله تعالى ، الملقَّب بـ" قاضي القضاة " ، وُلِد بالقاهرة سَنَة 727 هـ ..
مِن مصنَّفاته : شرْح مختصر ابن الحاجب ، الإبهاج ، جَمْع الجوامع في أصول الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 771 هـ .
الفتح المبين 2/192(1/18)
(2) الإبهاج 3/210
(3) الكفوي : هو أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه لغويّ ، وُلِد في " كفا " بالقرم ..
مِن مصنّفاته : الكليات ، تحفة الشاهان في فروع الحنفية ( باللغة التركية ) .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقدس سَنَة 1094 هـ .
معجم المؤلفين 3/31
(4) التلويح 1/35
(5) يُرَاجَع الكليات /442
أقسام الدليل القطعي :
والدليل القطعي : إمّا أنْ يكون قطعيّ الثبوت ، وإمّا أنْ يكون قطعيّ الدلالة على الحُكْم ، وإمّا أنْ يكون قطعيّ الثبوت والدلالة على الحُكْم معاً ..
فهذه أقسام ثلاثة ..
القِسْم الأول : دليل قطعيّ الثبوت .
وهو : الدليل الذي ورد إلينا بطريق التواتر ، وهذا متحقق في الكتاب والسُّنَّة المتواترة .
القِسْم الثاني : دليل قطعيّ الدلالة على الحُكْم (1) .
وهو : الدليل الذي لا يحتمل تأويلاً ولا تخصيصاً .
القِسْم الثالث : دليل قطعيّ الثبوت قطعيّ الدلالة على الحُكْم .
تعريف الدليل الظني :
الظن لغةً : التردد ، ويطلَق على الراجح بَيْن طَرَفَيْ الاعتقاد غَيْر الجازم (2) .
واصطلاحاً : تجويز أمْريْن أحدهما أظهر مِن الآخَر (3) .
وقد ورد الظن بمعنى اليقين في قوله تعالى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَقُوا رَبِّهِم} (4) ، كَمَا ورد بمعنى الشك في قوله تعالى {وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّون} (5) أيْ يشكّون ، فاليقين منه : ما كان له سبب دلّ عليه ، والشك منه : ما خطر بالقلب مِن سبب يدلّ عليه (6) .
(1) يُرَاجَع : الوجيز في أصول الفقه لِزيدان /159 ، 160 ، 177 ، 178
(2) يُرَاجَع القاموس المحيط 4/247
(3) يُرَاجَع : اللمع /3 وشرح اللمع 1/150 والتمهيد لِلكلوذاني 1/57
(4) سورة البقرة مِن الآية 46
(5) سورة البقرة مِن الآية 78
(6) قواطع الأدلة 1/18 – 20
ويمكن تعريف الدليل الظني - أخذاً مِن مقابل تعريف الدليل القطعي – بأنّه : ما لا يفيد العلم اليقيني .
وله معنيان :(1/19)
المعنى الأول : ما لا يقطع الاحتمال أصلاً ، نَحْو : خبر الآحاد .
المعنى الثاني : ما لا يقطع الاحتمال الناشئ عن دليل .
أقسام الدليل الظني :
ينقسم الدليل الظني إلى أقسام ثلاثة :
القِسْم الأول : دليل ظنِّيّ الثبوت .
وهو : الدليل الذي ورد إلينا بغَيْر طريق التواتر ، وهو متحقق في المشهور والآحاد .
القِسْم الثاني : دليل ظنِّيّ الدلالة على الحُكْم .
وهو : الدليل الذي احتمل التأويل أو التخصيص .
القِسْم الثالث : دليل ظنِّيّ الثبوت ظنِّيّ الدلالة على الحُكْم (1) .
أقسام الدلالة السمعية باعتبار القطع والظن :
وعلى ضوء ما تقدّم مِن تقسيمات لِلدليل القطعي وتقسيمات لِلدليل الظني قسمت الأدلة إلى أربعة أقسام :
القِسْم الأول : دليل قطعيّ الثبوت قطعيّ الدلالة على الحُكْم : كالنصوص المتواترة .
القِسْم الثاني : دليل قطعيّ الثبوت ظنِّيّ الدلالة على الحُكْم : كالآيات المؤولة .
القِسْم الثالث : دليل ظنِّيّ الثبوت قطعيّ الدلالة على الحُكْم : كأخبار الآحاد التي مفهوماتها قطعية .
(1) يُرَاجَع عِلْم أصول الفقه لِخلاّف /35
القِسْم الرابع : دليل ظنِّيّ الثبوت ظنِّيّ الدلالة على الحُكْم : كأخبار الآحاد التي مفهومها ظنِّيّ (1) .
تعريف الأمارة :
الأمارة لغةً : بالفتح : العلامة والوقت ، وبالكسر : الولاية (2) .
واصطلاحاً : هي الدليل المفضِي إلى الظن ، أو الدليل المظنون (3) .
وهذا الإطلاق استعمله كثير مِن الأصوليين (4) ، أذكر منهم :
الفخر الرازي (5) – رحمه الله تعالى – في قوله :" اختلفوا في أنّه : هل يجوز تعادل الأمارتيْن ؟ : فمنع عنه الكرخي (6) مطلقاً ، وجوَّزه الباقون " (7) ا.هـ .
والقرافي (8) – رحمه الله تعالى – في قوله :" والمراد بالدلالة : ما أفاد
(1) يُرَاجَع الكليات /242
(2) يُرَاجَع : الكليات /187 والصحاح 2/582(1/20)
(3) يُرَاجَع : العدة 1/135 والتمهيد لِلإسنوي /505 وشرح تنقيح الفصول /339 وشرح الكوكب المنير 1/53 وبيان المختصر 1/35
(4) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/113 والإبهاج 3/213 ونهاية السول 3/151 ومناهج العقول 3/150
(5) فَخْر الدِّين الرّازي : هو أبو عبد الله مُحَمَّد بن عُمَر بن الحسين بن الحَسَن بن علِيّ التيمي البكري الطبرستاني الرازي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالرّيّ سَنَة 544 هـ .
مِن مصنَّفاته : المحصول ، مفاتيح الغيب ( التفسير الكبير ) ، معالم أصول الدِّين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بهراة سَنَة 606 هـ .
البداية والنهاية 13/55 والفتح المبين 2/50
(6) الكرخي : هو أبو الحَسَن عبد الله بن الحَسَن بن دلال بن دلهم الكرخي الحنفي رحمه الله ..
مِن مصنَّفاته : المختصر ، شرْح الجامعين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 340 هـ .
البداية والنهاية 11/24 والفتح المبين 1/197 ، 198
(7) المحصول 2/434
(8) القرافي : هو أبو العباس أَحْمَد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يَلِّين الصنهاجي البهنسي المصري المالكي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالبهنسا .. =
القطع ، وبالأمارة : ما أفاد الظن " (1) ا.هـ .
والبيضاوي (2) – رحمه الله تعالى – في قوله :" الباب الأول : في تعادل الأمارتيْن في نَفْس الأمر " (3) ا.هـ .
والصفي الهندي (4) – رحمه الله تعالى – في قوله :" مسألة : تعادل القاطعيْن غَيْر جائز قطعاً ؛ لامتناع الجمع بَيْن النقيضيْن ، وكذا في الأمارتيْن عند الإمام أحمد (5) والكرخي وجمْع مِن الفقهاء " (6) ا.هـ .
والآمدي (7) – رحمه الله تعالى – في قوله :" واختلفوا في تعادل الأمارات
= مِن مصنَّفاته : التنقيح في أصول الفقه ، شرْح التهذيب .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدير الطين سَنَة 684 هـ .
الفتح المبين 2/90
(1) شرح تنقيح الفصول /339(1/21)
(2) القاضي البيضاوي : هو أبو الخير عبد الله بن عُمَر بن مُحَمَّد بن علِيّ البيضاوي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالمدينة البيضاء بفارس قُرْب شيراز ، وإليها نُسِب ..
مِن مصنَّفاته : منهاج الوصول إلى عِلْم الأصول ، الإيضاح في أصول الدين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بتبريز سَنَة 685 هـ .
البداية والنهاية 13/309 والفتح المبين 2/91
(3) المنهاج مع شرحه 2/781
(4) صفي الدِّين الهندي : هو مُحَمَّد بن عبد الرحيم بن مُحَمَّد الشافعي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد بدلهي بالهند سَنَة 644 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الزبدة في عِلْم الكلام ، نهاية الوصول إلى عِلْم الأصول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 715 هـ .
الدرر الكامنة 4/14 والفتح المبين 2/120
(5) الإمام أَحْمَد : هو أبو عبد الله أَحْمَد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس الشيباني - رضي الله عنه - ، الإمام الفقيه المحدِّث ، أحد الأئمّة الأربعة ، وُلِد ببغداد سَنَة 164 هـ .
مِن مصنَّفاته : المسنَد ، التفسير ، السُّنَّة .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - ببغداد سَنَة 241 هـ .
البداية والنهاية 10/320 والفتح المبين 1/156 - 163
(6) الفائق 4/369
(7) سَيْف الدِّين الآمدي : هو أبو الحَسَن علِيّ بن أبي علِيّ مُحَمَّد بن سالم التغلبي الأصولي رحمه الله =
الظنية : فذهب أحمد بن حنبل والكرخي إلى المنع مِن ذلك ، وذهب القاضي أبو بكر (1) والجبائي (2) وابنه (3) وأكثر الفقهاء إلى جوازه " (4) ا.هـ .
والإطلاق السابق يُعَدّ تقييداً لِلأمارة وقصراً لها على الدليل الظني ، لكن هناك مِن الأصوليين مَن عَمَّم إطلاق الأمارة لِتشمل الدليل المفضِي إلى الحُكْم سواء كان دليلاً ظنِّيّاً أو كان دليلاً قطعيّاً (5) .(1/22)
وإذا كانت الأمارة – بالفتح – هي العلامة فإنّي أرى أنها تعمّ الدليل القطعي والدليل الظني ؛ لأنّ كُلّ واحد منهما علامة على الحُكْم ، لكنّ الأَوْلَى عندي استعمال الدليل - ظنِّيّاً كان أو قطعيّاً - بدلاً منها ؛ لأنّ
= تعالى ، وُلِد بآمد سَنَة 551 هـ ، نشأ حنبليّاً ، وتَمَذهَب بمذهب الشّافعيّة ..
مِن مصنَّفاته : الإحكام في أصول الأحكام ، منتهى السول في الأصول ، لباب الألباب .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 631 هـ .
البداية والنهاية 13/140 وطبقات الشّافعيّة الكبرى 5/129 والفتح المبين 2/58
(1) القاضي أبو بَكْر الباقلاني : هو مُحَمَّد بن الطيب بن مُحَمَّد بن جعفر بن القاسم الباقلاّني المالكي رحمه الله تعالى ..
مِن تصانيفه : التمهيد ، المقنع في أصول الفقه ، إعجاز القرآن ، المقدمات في أصول الديانات .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 403 هـ .
وفيات الأعيان 4/269 ، 270 وشذرات الذهب 3/168 والفتح المبين 1/233 - 235
(2) أبو علِيّ الجبائي : هو أبو علِيّ محمد بن عبد الوهاب بن سلامة الجبائي رحمه الله تعالى ، أحد أئمة المعتزلة ، وُلِد سَنَة 235 هـ ، له مقالات وآراء انفرَد بها في المذهب ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 303 هـ .
البداية والنهاية 11/125 والأعلام 7/136 والنجوم الزاهرة 3/189
(3) أبو هاشم الجبائي : هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي المعتزلي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : الجامع الكبير ، الأبواب الكبير .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 321 هـ .
الفتح المبين 1/183 ، 184
(4) الإحكام 4/203
(5) يُرَاجَع : اللمع /3 والتمهيد لِلكلوذاني 1/61 والعدة 1/131 وإحكام الفصول /47 والقطع والظن عند الأصوليين 1/119
التعبير بواحد منها تقييد لإطلاقها وتخصيص لِعمومها .
ثانياً – تحرير محلّ النزاع :(1/23)
حصرت الكثرة مِن الأصوليين النزاع في تعارض الأدلة الظنية ، ومنعوا تعارض الأدلة القطعية ، وكذا تعارض الأدلة القطعية مع الأدلة الظنية .
وفي ذلك يقول الغزالي رحمه الله تعالى :" ولا يُتصور التعارض في القواطع إلا أنْ يكون منسوخاً " (1) ا.هـ .
ويقول ابن قدامة (2) رحمه الله :" لا يُتصور التعارض في القواطع إلا أنْ يكون أحدهما منسوخاً ، ولا يُتصور أنْ يتعارض عِلْم وظنّ " (3) ا.هـ .
ويقول ابن الحاجب (4) رحمه الله تعالى :" ولا تعارُض في قطْعيّيْن ولا في قطعيّ وظنِّيّ " (5) ا.هـ .
ويقول الآمدي رحمه الله تعالى :" اتفقوا في الأدلة العقلية المتقابلة بالنفي والإثبات على استحالة التعادل بَيْنَهَا ، واختلفوا في تعادل الأمارة
(1) المستصفى /375
(2) ابن قدامة : هو أبو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمَد بن مُحَمَّد بن قدامة بن مقدام بن نصْر بن عبد الله المقدسي الدمشقي الحنبلي رحمه الله تعالى ، وُلِد بجماعيل سَنَة 541 هـ ..
مِن مصنَّفاته : المغني في الفقه ، الروضة في أصول الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 620 هـ .
البداية والنهاية 13/134 والفتح المبين 2/54
(3) روضة الناظر /412
(4) ابن الحاجب : هو جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عُمَر بن أبي بَكْر بن يونس المالكي رحمه الله تعالى ، وُلِد في إسنا سَنَة 570 هـ ..
مِن تصانيفه : المقصد الجليل في عِلْم الخليل ، الإيضاح ، مختصر منتهى السول والأمل .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالإسكندرية سَنَة 646 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 13/287 والفتح المبين 2/67 ، 68
(5) مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/310
الظنية " (1) ا.هـ .
ويقول التفتازاني رحمه الله تعالى :" ثُمّ التعارض لا يقع بَيْن القطْعيّيْن لامتناع وقوع المتنافييْن ، ولا يُتصور الترجيح ؛ لأنّه فرع التفاوت في احتمال النقيض ، فلا يكون إلا بَيْن الظَّنَّيْن " (2) ا.هـ .(1/24)
ويقول الصفي الهندي رحمه الله تعالى :" تعادل القاطعيْن غَيْر جائز قطعاً ؛ لامتناع الجمع بَيْن النقيضيْن ، وكذا في الأمارتيْن عند الإمام أحمد والكرخي وجَمْع مِن الفقهاء ، خِلاَفاً لِلأكثر " (3) ا.هـ .
ويقول تاج الدين الأرموي (4) رحمه الله تعالى :" لا ترجيح في الدلائل اليقينية " (5) ا.هـ .
ويقول ابن إمام الكاملية (6) رحمه الله تعالى :" ولا شكّ أنّه يمتنع تعادُل القاطعيْن أيْ تقابُلهما " (7) ا.هـ .
وحكى الزركشي – رحمه الله تعالى – اتفاقاً في عدم جواز التعارض
(1) الإحكام 4/203
(2) التلويح 2/216
(3) الفائق 3/369
(4) تاج الدين الأرموي : هو أبو الفضايل محمد بن الحسين بن عبد الله الأرموي الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، مِن القضاة ، أصْله مِن أرمية ، وُلِد سَنَة 594 هـ ، أخذ عن الفخر الرازي – رحمه الله تعالى – وكان مِن أكبر تلامذته ..
مِن مُصَنَّفاته : الحاصل مِن المحصول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 656 هـ .
معجم المؤلِّفين 9/244 وأصول الفقه تاريخه ورجاله /248
(5) الحاصل 2/968
(6) ابن إمام الكاملية : هو كمال الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عَلِيّ الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، وُلِد سَنَة 808 هـ ..
مِن مصنّفاته : تيسير الوصول ، شرح الورقات ، طبقات الأشاعرة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 874 هـ .
البدر الطالع 2/244 والفتح المبين 3/43 وأصول الفقه تاريخه ورجاله /425
(7) تيسير الوصول 6/174
بَيْن الدليليْن القطْعيّيْن ، سواء كانَا عقْليّيْن أو نقْليّيْن ، وكذلك بَيْن القطعي والظني (1) .
ويقول الجاربردي (2) رحمه الله :" لا ترجيح في القطعيات " (3) ا.هـ .
وفي " المسودة " :" اتفقوا على أنّه لا يجوز تعادل الأدلة القطعية ؛ لِوجوب مدلولاتها ، وهو محال ، وكذاك الأدلة الظنية عندنا " (4) ا.هـ .(1/25)
ومِن هذه الأقوال ونحوها يتضح أنّ الأصوليين فرَّقوا بَيْن تعارض الأدلة القطعية بعضها البعض وتعارض الأدلة الظنية بعضها البعض وتعارض الأدلة القطعية مع الأدلة الظنية ..
وهذه صور التعارض بَيْن الأدلة :
الصورة الأولى : تعارض الدليليْن القطْعيّيْن .
هذه الصورة سلّمت الكثرة بعدم جوازها ، وأخرجوها عن محلّ النزاع لكن وجدنا مِن الأصوليين مَن أجاز تعارض الدليليْن القطْعيّيْن ..
ومِن ذلك : ما حكاه الماوردي (5) والروياني (6) – رحمهما الله تعالى -
(1) يُرَاجَع البحر المحيط 6/113
(2) الجاربردي : هو فخر الدين أحمد بن الحسين بن يوسف الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ أخذ عن القاضي البيضاوي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنّفاته : شرح المنهاج ، شرح أصول البزدوي ، الحاوي الصغير في الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بتبريز سَنَة 746 هـ ودُفِن بها .
البدر الطالع 1/47 وشذرات الذهب 6/148 والأعلام 1/107
(3) السراج الوهاج 2/1031
(4) المسودة /448
(5) الماوردي : هو القاضي أبو الحَسَن عَلِيّ بن مُحَمَّد الماوردي [ نسبةً إلى بيع ماء الورد ] البصري الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالبصرة سَنَة 364 هـ ، وكان يميل إلى مذهب الاعتزال ..
مِن مصنَّفاته : الحاوي الكبير ، أدب الدنيا والدِّين ، الإقناع في الفقه ، الأحكام السلطانية .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 450 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 5/267 - 269 والفتح المبين 1/252 ، 253
(6) الروياني : هو فخر الإسلام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد الروياني =
عن الأكثرين : إنّ التعارض على جهة التكافؤ في نَفْس الأمر جائز وواقع (1) .(1/26)
ويقول الأنصاري الحنفي (2) رحمه الله تعالى :" ولا يكون [ التعارض ] في نَفْس الأمر ، وإلا لزم التناقض ، بلْ يُتصور ظاهراً ، وهذا يمكن في القطعي والظني ، فتجويزه في الظّنّيّيْن فقط مع نَفْيه في القطْعيّيْن تَحَكُّم ؛ إذ حقيقة التعارض لا تُتصور في شيء منهما ، وصورته تجري فيهما على السوية " (3) ا.هـ .
ويقول أمير بادشاه (4) رحمه الله تعالى :" فمَنْعه [ أي التعارض ] بَيْنَهُمَا [ أي القطْعيّيْن ] وإجازته في الظّنّيّنْن تَحَكُّم " (5) ا.هـ .
ومما تقدّم نرى أنّ تعارض الدليليْن القطْعيّيْن داخل في محلّ النزاع وليس خارجاً عنه .
= الطبري الشافعي رحمه الله ، فقيه أصوليّ ، وُلِد ببخارى سَنَة 415 هـ ، تولى قضاء طبرستان ..
مِن مصنّفاته : بحر الذهب ، الكافي ، حلية المؤمن .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى مقتولاً على يد الملاحدة سَنَة 502 هـ .
سير أعلام النبلاء 12/60 والنجوم الزاهرة 5/197 وشذرات الذهب 4/4
(1) يُرَاجَع البحر المحيط 6/114
(2) بحْر العلوم الأنصاري : هو أبو العباس عبد العليّ محمد بن نظام الدين محمد اللكنوي الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ منطقيّ ..
مِن مصنَّفاته : فواتح الرحموت شرْح مُسَلَّم الثبوت .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 1180 هـ .
الفتح المبين 3/132
(3) فواتح الرحموت 2/189
(4) أمير بادشاه : هو السَّيِّد الشَّريف مُحَمَّد أمين بن محمود الحسيني رحمه الله تعالى ، مُفَسِّر أصوليّ فقيه ، وُلِد بخراسان ، واستوطَن مكّة ..
مِن مصنَّفاته : تيسير التحرير ، تعريب فَصْل الخطاب في التصوف .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمكّة سَنَة 987 هـ .
أصول الفقه .. تاريخه ورجاله /474
(5) تيسير التحرير 3/136 ، 137
الصورة الثانية : تعارض الدليل القطعي مع الدليل الظني .(1/27)
الكثرة مِن الأصوليين قالت بعدم تعارض الدليل القطعي مع الدليل الظني ، وادعى بعضهم في ذلك اتفاقاً ، لكنه مردود بما تقدَّم ذِكْرُه مِن جوازه ووقوعه .
الصورة الثالثة : تعارض الدليليْن الظَّنِّيَّيْن .
هذه الصورة سلّمت الكثرة بجواز التعارض فيها ، لكن وجدنا مَن منع التعارض فيها ..
وفي ذلك يقول الآمدي رحمه الله تعالى :" واختلفوا في تعادل الأمارات الظنية : فذهب أحمد بن حنبل والكرخي إلى المنع مِن ذلك " (1) ا.هـ .
وفي " المسودة " :" اتفقوا على أنّه لا يجوز تعادل الأدلة القطعية ؛ لِوجوب مدلولاتها ، وهو محال ، وكذاك الأدلة الظنية عندنا " (2) ا.هـ .
وهناك مِن الأصوليين مَن حصر النزاع في تعارض الأدلة في نَفْس الأمر ، أمّا تعارضها في ظن المجتهد فلا خِلاَف فيه ..
وفي ذلك يقول الأصفهاني رحمه الله تعالى :" والتعادل بَيْنَهُمَا إمّا في نَفْس الأمر وإمّا في نظر المجتهد " (3) ا.هـ .
ويقول ابن إمام الكاملية رحمه الله تعالى :" وأمّا التعادل بَيْن الأمارتيْن : فإنْ كان في نظر المجتهد فهو متفَق على جوازه ، وإنْ كان في نَفْس الأمر فهو محلّ خِلاَف " (4) ا.هـ .
ومما تقدَّم يتضح أنّ الأدلة الشرعية في صورها الثلاث كانت محلّ نزاع بَيْن الأصوليين ، وإنّي أتفق مع القائلين بعدم وجود تعارض في نَفْس
(1) الإحكام 4/203
(2) المسودة /448
(3) شرح المنهاج 2/782
(4) تيسير الوصول إلى منهاج الوصول 6/175 ، 176
الأمر بَيْن الأدلة الشرعية ، أمّا التعارض الظاهري أو في نَفْس المجتهد فإنّه واقع بَيْن الأدلة الشرعية في صورها الثلاث .
ثالثاً – مذاهب الأصوليين في جواز تعارض الأدلة الشرعية :
اختلف الأصوليون في جواز تعارض الأدلة الشرعية على مذاهب ، حصرتُها فيما يلي :
المذهب الأول : عدم جواز تعارض الأدلة الشرعية مطلقاً .(1/28)
وهو مذهب عامة الفقهاء وبعض المعتزلة (1) والإمام أحمد - رضي الله عنه - وبعض الحنابلة ، وهو قول العنبري (2) والكرخي رحمهما الله تعالى ، واختاره الشيرازي (3) – رحمه الله تعالى – في " التبصرة " وابن السبكي – رحمهما الله تعالى – إلا أنّه منعه بَيْن الدليليْن الظنييْن في نَفْس الأمر وأجازه في ظن المجتهد (4) .
(1) المعتزلة : هي إحدى الفِرَق الكلامية ، وقد اختُلِف في سبب تسميتهم بهذا الاسم ، وإنْ كان أَشهَر الأقوال في ذلك أنّه لاعتزالهم عن الحقّ وعَنْ أقوال المسلِمين ، أو لاعتزال إمامهم واصِل بن عطاء مَجلِسَ الحَسَن البصري ..
وهُمْ يقولون بنفي الصفات ، وبأنّ كلامه تعالى مُحْدَث وإرادته مُحْدَثَة ، وأنّه لَمْ يَخلق أفعالَ عباده ونَفَوْا شفاعة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لأهْل الكبائر .
يُرَاجَع : المِلَل والنِّحَل 1/42 والبرهان في معرفة عقائد أهْل الأديان /49 ، 50
(2) العنبري : هو عبيد الله بن الحسن بن حصين العنبري التميمي رحمه الله تعالى ، فقيه محدِّث ، وُلِد سَنَة 105 هـ ، ولي قضاء البصرة ، روى عن خالد الحذّاء وسعيد الجريري ، وروى عنه ابن مهدي ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 168 هـ .
ميزان الاعتدال 3/5 وتهذيب التهذيب 7/8
(3) أبو إسحاق الشيرازي : هو إبراهيم بن علِيّ بن يوسف بن عبد الله الشيرازي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 393 هـ ..
مِن مصنَّفاته : التنبيه ، اللُّمَع ، التبصرة في الأصول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 476 هـ .
طبقات الشّافعيّة الكبرى 3/88 ووفيات الأعيان 1/5
(4) يُرَاجَع : التبصرة /510 والمحصول 2/434 والمسودة /448 والفائق 3/369 ، 370 =
وأصحاب هذا المذهب منعوا تعارض الأدلة الشرعية ، سواء كان التعارض بَيْن دليليْن قطْعيّيْن أو بَيْن دليليْن ظنِّيَّيْن ، أو بَيْن دليليْن أحدهما قطعيّ والآخَر ظنِّيّ .(1/29)
المذهب الثاني : عدم جواز التعارض بَيْن دليليْن قطْعيّيْن ، ولا بَيْن دليل قطعيّ ودليل ظنِّيّ ، وجوازه بَيْن دليليْن ظنِّيَّيْن .
وهو ما عليه كثير مِن الأصوليين ، واختاره الجويني (1) والغزالي والفخر الرازي وابن قدامة وابن الحاجب والبيضاوي والآمدي والأصفهاني والصفي الحنبلي (2) والزركشي والطوفي والفتوحي رحمهم الله تعالى (3) .
وفرَّق بعض أصحاب هذا المذهب بَيْن التعارض في حُكْمَيْن متنافييْن والتعارض في فِعْلَيْن متنافييْن ، فقالوا : إنْ كان تعارض الدليليْن في
= والإبهاج 3/213 ونهاية السول 3/151 ومناهج العقول 3/150 وجمع الجوامع مع شرح المحلي مع حاشية البناني 2/357 – 359 وشرح الكوكب المنير 4/608 وإرشاد الفحول /275 ومذكرة أصول الفقه /316 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /54 ، 55 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 1/41 ، 42
(1) إمام الحَرَمَيْن : هو ضياء الدين أبو المعالي عبد المَلِك بن عبد الله بن يوسف بن مُحَمَّد الجويني الشافعي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : البرهان في أصول الفقه ، الأساليب في الخلافيّات ، التحفة ، التلخيص .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 478 هـ .
طبقات الفقهاء الشّافعيّة 2/799 والبداية والنهاية 12/128 والفتح المبين 1/273 - 275
(2) الصفي الحنبلي : هو صفيّ الدين عبد المؤمن بن عبد الحقّ بن شمائل القطيعي البغدادي الحنبلي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ فرضيّ ، وُلِد ببغداد سَنَة 658 هـ ، تفقَّه على علماء بغداد والشام ومصر حتى برع ومهر في عِلْم الفرائض والحساب والجبر والهندسة ..
مِن مصنّفاته : تسهيل الوصول ، تحقيق الأمل في عِلْم الأصول والجدل ، شرح العمدة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 739 هـ .
شذرات الذهب 6/121 ، 122 والدرر الكامنة 2/418 والفتح المبين 3/148 ، 149(1/30)
(3) يُرَاجَع : البرهان 2/1143 والمستصفى /375 والمحصول 5/507 ، 508 وروضة الناظر /412 ومختصر المنتهى 2/310 والمنهاج مع شرحه 2/788 ، 789 والإحكام 4/203 وقواعد الأصول /739 والبحر المحيط 6/132 والبلبل /187 وشرح الكوكب المنير 4/607 وحاشية النفحات /114 وإرشاد الفحول /275 وشرح الورقات لِلعبادي /148
حُكْمَيْن متنافييْن والفعل واحد : كتعارض الأمارتيْن على كون الفعل قبيحاًَ ومباحاً وواجباً ، وهذا جائز غَيْر واقع ، وإنْ كان تعارض الدليليْن في فِعْلَيْن متنافييْن والحُكْم واحد : فهذا جائز وواقع (1) .
المذهب الثالث : عدم جواز التعارض بَيْن دليليْن قطْعيّيْن .
وهو اختيار الصفي الهندي – رحمه الله تعالى - في " الفائق " (2) .
المذهب الرابع : جواز تعارض الأدلة الشرعية مطلقاً .
وهو محكيّ عن الأكثرين ، وعليه بعض الحنفية (3) .
المذهب الخامس : جواز التعارض بَيْن أدلة الفروع ، وعدم جوازه بَيْن أدلة الأصول .
وهو محكيّ عن القاضي أبي يعلى (4) رحمه الله تعالى (5) .
المذهب السادس : جواز التعارض بَيْن أسباب الظنون .
وهو اختيار العز بن عبد السلام (6) رحمه الله تعالى (7) .
(1) يُرَاجَع : المحصول 5/507 ، 508 وروضة الناظر /413 والإحكام لِلآمدي 4/203 والتمهيد لِلإسنوي /487
(2) يُرَاجَع الفائق 4/369
(3) يُرَاجَع : التحرير مع التيسير 3/136 ، 137 ومسلّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/189 والتقرير مع التحبير 3/3 والبحر المحيط 6/113 وإرشاد الفحول /275
(4) القاضي أبو يعلى : هو مُحَمَّد بن الحسين بن مُحَمَّد بن خلف بن أَحْمَد بن الفراء الحنبلي رحمه الله ..
مِن مصنَّفاته : أحكام القرآن ، إيضاح البيان ، المعتمد ، مسائل الإيمان .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 458 هـ .
طبقات الحنابلة /377 - 388 والنجوم الزاهرة 5/78
(5) يُرَاجَع : المسودة /448 ، 449 والبحر المحيط 6/114(1/31)
(6) العزّ بن عبد السلام : هو سلطان العلماء عزّ الدِّين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السُّلَّمي الدمشقي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد في دمشق سَنَة 577 هـ ونشأ بها ، وأقام بمِصْر أكْثر مِن عشرين سَنَة ..
مِنْ مصنَّفاته : القواعد الكبرى ، شجرة المعارف ، مسائل الطريقة ، الفَرْق بيْن الإيمان والإسلام .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمِصْر سَنَة 660 هـ ودُفِن بالقرافة .
شذرات الذهب 3/301 ، 302 وطبقات الشافعية 2/109 - 111
(7) يُرَاجَع قواعد الأحكام 2/52 والبحر المحيط 6/114
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليين في جواز تعارض الأدلة الشرعية يمكن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ المذاهب الثلاثة الأُوَل يجمعها عدم جواز التعارض ، مع تفاوت في درجته : فالمذهب الأول منعه مطلقاً ، والمذهب الثاني أجازه بَيْن الأدلة الظنية ، والمذهب الثالث منعه بَيْن القطعية ..
وهنا أمور ثلاثة ينبَّه عليها :
الأمر الأول : أنّ التعارض في القطعيات السمعية لا يُتصور إلا أنْ يكون أحدهما منسوخاً (1) .
الأمر الثاني : أنّ منع هذا التعارض مبنيّ على أنّ العلوم غَيْر متفاوتة ، فإنْ قلنا بتفاوتها جاز الترجيح بَيْن القطعيات ؛ لأنّ بعضها أجلى مِن بعض .
الأمر الثالث : أنّ المنع السابق إنما هو بالنسبة إلى ما في نَفْس الأمر والحقيقة ، أمّا في الأذهان فجائز ؛ فإنّه قد يتعارض عند الإنسان دليلان قاطعان بحيث يعجز عن القدح في أحدهما (2) .
2- أنّ المذاهب الثلاثة الأخيرة يجمعها جواز التعارض ، مع تفاوت في درجته : فالمذهب الرابع جوَّزه مطلقاً ، والمذهب الخامس والسادس كلاهما قريب مِن المذهب الثاني القاصر لِلتعارض بَيْن الأدلة الظنية .
3- أنّه يمكن حصر المذاهب جميعها في مذْهبيْن :
المذهب الأول : عدم جواز تعارض الأدلة الشرعية .
المذهب الثاني : جواز تعارض الأدلة الشرعية .(1/32)
وسنفصِّل أدلة كُلّ مذهب – بإذن الله تعالى – فيما يلي ..
(1) يُرَاجَع : المستصفى /375 وروضة الناظر /412 وحاشية النفحات /114
(2) يُرَاجَع البحر المحيط 6/113
رابعاً – أدلة المذاهب مع الترجيح :
أدلة المانعين لِتعارض الأدلة الشرعية :
استدلّ المانعون لِتعارض الأدلة الشرعية بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَفًا كَثِيرا} (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ التعارض تناقُض ، والتناقض اختلاف ، والاختلاف نفَى الله تعالى وقوعه في القرآن الكريم ، فدلّ ذلك على منع وقوع التعارض بَيْن الدليليْن القطْعيّيْن (2) .
الدليل الثاني : أنّه لو جاز تعارُض الدليليْن القطْعيّيْن لَجاز ثبوت مدلولهما وثبوت مدلولهما محال ؛ لِمَا يلزم عليه مِن اجتماع المتناقضيْن ، وما أدى إلى المحال كان محالاً ، فدلّ ذلك على عدم جواز تعارض الدليليْن القطْعيّيْن (3) .
الدليل الثالث : أنّه لو جاز تعارض الدليل القطعي مع الدليل الظني لانتفى الظن بأحد الطرفيْن عند القطع بالطرف الآخَر ، واليقين ثابت في القطع ، فلا يجوز أنْ يقابله ظن ؛ لاستحالة وجود ظن في مقابلة يقين ، فينتفي التعارض حينئذٍ ويُعمل بالقطعي دون الظني (4) .
الدليل الرابع : أنّ التعارض لو وقع بَيْن دليليْن ظنييْن : فإمّا أنْ يُعمل بهما وهو جمْع بَيْن المتناقضيْن ..
أو لا يُعمل بواحد منهما ، فيَكون وضعهما عبثاً ، وهو محال على الله تعالى .
(1) سورة النساء مِن الآية 82
(2) يُرَاجَع : الموافقات 4/118 ، 119 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /56
(3) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/247 والفائق 4/369 وبيان المختصر 3/373 وحاشية النفحات /114 وشرح المنهاج 2/789
(4) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/608 وبيان المختصر 3/373 وشرح المنهاج 2/789
أو يُعمل بأحدهما على التعيين ، وهو ترجيح بغَيْر مرجِّح ..(1/33)
أو على التخيير ، وهذا يقتضي ترجيح أمارة الإباحة بعينها ، وهو ترجيح بلا مرجِّح .
ولَمّا كان الجمع بَيْن المتناقضيْن والعبث في أحكام الشرع والترجيح بلا مرجِّح ثلاثتها لا تجوز كان ما أدى إليه – وهو التعارض بَيْن الأدلة الظنية – غَيْر جائز .
وإذا منعنا التعارض بَيْن الأدلة الظنية فهو بَيْن القطعية أَوْلَى (1) .
الدليل الخامس : أنّ الدليليْن المتعارضيْن إذا قصدهما الشارع - مثلاً - لَمْ يتحصل مقصوده ؛ لأنّه إذا قال في الشيء الواحد :" افعل .. لا تفعل " فلا يمكن أنْ يكون المفهوم منه طلب الفعل - لِقوله :" لا تفعل " - ولا طلب تَرْكه - لِقوله :" افعل " - فلا يتحصل لِلمكلف فَهْم التكليف ، وإذا كان كذلك فلا يقع التعارض بَيْن الأدلة الشرعية ، قطعيّةً كانت أم ظنِّيَّة (2) .
أدلة المجوزين لِتعارض الأدلة الشرعية :
استدلّ المجوزون لِتعارض الأدلة الشرعية بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : الآيات المتشابهات ، نَحْو : قوله تعالى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَلِ وَالإِكْرَام} (3) ، وقوله تعالى {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} (4) ، وقوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) ؛ فإنّها تؤدي إلى الاختلاف في فَهْم معناها وإنْ كان التوقف فيها محموداً ، إلا أنّ الاختلاف فيها قد وقع ، ووضْع الشارع لها مقصود له ، وإذا كان مقصوداً له وهو عالِم بالمآلات فقد جعل
(1) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/614
(2) الموافقات 4/123 بتصرف .
(3) سورة الرحمن الآية 27
(4) سورة الفتح مِن الآية 10
(5) سورة طه الآية 5
سبيلاً إلى الاختلاف ، ومِن ثَمّ وقوع التعارض فيها (1) .
مناقشة هذا الدليل :(1/34)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نسلِّم أنّ المتشابه يؤدي إلى الاختلاف إنما الأصل مع التشابه هو التوقف والتسليم بالمتشابهات بمقتضى قوله تبارك وتعالى {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ ءَايَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهُ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُوا الأَلْبَب} (2) (3) .
الدليل الثاني : أنّ العلماء الراسخين والأئمة المتقين اختلفوا في إصابة المجتهد : فمنهم مَن قال : كُلّ مجتهد مصيب ، ومنهم مَن قال : ليس كُلّ مجتهد مصيباً ، وسلَّم الكل بهذا الخلاف ، وهذا دليل على أنّ له مساغاً في الشريعة على الجملة ، فدلّ ذلك على جواز وقوع التعارض بَيْن الأدلة الشرعية (4) .
الدليل الثالث : قوله - صلى الله عليه وسلم - { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ ؛ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُم } (5) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَرَنَا باتباع الصحابة - رضي الله عنهم - ، ولا شكّ أنّهم اختلفوا في الفتاوى والأحكام ، واختلافهم راجِع إلى تعارض الأدلة عندهم ، والأمر باتباعهم مع اختلافهم بهذه الكيفية دليل على جواز تعارض الأدلة (6) .
(1) يُرَاجَع : الموافقات 4/123 ، 124 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /59
(2) سورة آل عمران الآية 7
(3) يُرَاجَع التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 1/68
(4) يُرَاجَع الموافقات 4/124
(5) أَخْرَجه البيهقي وعَبْد بن حميد .. انظر : كشْف الخفاء 1/147 وتلخيص الحبير 4/190
(6) يُرَاجَع : الموافقات 4/125 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 1/64 ، 65
مناقشة هذا الدليل :(1/35)
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ هذا الحديث خبر آحاد ، وهو لا يفيد إلا الظن ، والظن لا ينفع في الأصول (1) .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
ويمكن ردّ هذا الوجه مِن المناقشة : بأنّا لا نسلّم أنّ هذه المسألة مِن الأصول ؛ وإنما هي مِن الفروع التي يفيد فيها الظن وليس القطع .
الوجه الثاني ( لِلباحث ) : أنّا لا نسلِّم أنّ اختلافهم راجِع إلى تعارض الأدلة ، وإنما قد يكون راجعاً لِتفاوت فَهْمهم في المراد مِن اللفظ ، نَحْو : قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوء} (2) ؛ فقد اختلفوا في معنى القرء : هل هو الحيض أم هو الطهر ؟ : رأيان لهم في ذلك (3) .
الدليل الرابع ( لِلباحث ) : أنّ التعارض قد وقع في نصوص كثيرة مِن الكتاب والسُّنَّة ..
نَحْو : عدة المتوفَّى عنها زوجها المحددة بأربعة أشهُر وعشراً وبحوْل كامِل .
ونَحْو : نَقْض الوضوء مِن مسّ الذَّكَر وعدم نَقْضه .
والوقوع دليل الجواز ، فدلّ ذلك على جواز تعارض الأدلة الشرعية .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على أدلة المانعين وأدلة المجوِّزين لِتعارض الأدلة الشرعية يتضح لنا ما يلي :
1- أنّ أدلة المانعين لِتعارض الأدلة الشرعية أدلة قوية ووجيهة ومقبولة .
(1) يُرَاجَع أدلة التشريع المتعارضة /29
(2) سورة البقرة مِن الآية 228
(3) يُرَاجَع : أحكام القرآن لِلشافعي 1/242 ، 243 وزاد المسير 1/259 وفتح القدير 1/237
2- أنّ أدلة المجوزين – كذلك – بعضها قويّ ومقبول ، وبعضها لَمْ يَسلم مِن الاعتراض والمناقشة .
3- أنّه يمكن تقابل المذْهبيْن وجمْعهما في مذهب واحد ، وذلك بحمل المذهب الأول على عدم وقوع تعارُض حقيقيّ بَيْن الأدلة الشرعية ، وحمْل المذهب الثاني على وقوع التعارض الظاهري أو في ظن المجتهد ؛ لأنّ التعارض الحقيقي لا يقع في أدلة الشرع .(1/36)
وفي ذلك يقول الإمام الشافعي (1) - رضي الله عنه - :" لا يصحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبداً حديثان صحيحان متضادّان ينفي أحدهما ما يثبته الآخَر مِن غَيْر جهة الخصوص والعموم والإجمال والتفسير إلا على وجْه النسخ وإنْ لَمْ يجده " (2) ا.هـ .
ويقول ابن خزيمة (3) رحمه الله تعالى :" لا أعرف أنّه رُوِي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثان بإسناديْن صحيحيْن متضادان ، فمَنْ كان عنده فليأتِ به حتى أؤلف بَيْنَهُمَا " (4) ا.هـ .
ويقول السرخسي رحمه الله تعالى :" اعلم بأنّ الحُجَج الشرعية مِن الكتاب والسُّنَّة لا يقع بَيْنَهُمَا التعارض والتناقض وضعاً ؛ لأنّ ذلك مِن
(1) الإمام الشافعي : هو أبو عبد الله مُحَمَّد بن إدريس بن العباس بن شافع المطَّلبي - رضي الله عنه - ، أحد أئمة المذاهب الأربعة ، وُلِد بغزّة ، وقيل : بعسقلان ـ سَنَة 150 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الأُمّ ، الرسالة ، أحكام القرآن .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بمصر سَنَة 204 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 1/100 والفتح المبين 1/133 - 142
(2) البحر المحيط 6/113 ، 114
(3) أبو بكر بن خزيمة : هو محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة السلمي النيسابوري الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 223 هـ ، صنَّف ما يزيد على مائة وأربعين كتاباً ..
مِن مصنّفاته : تفسير القرآن ، المسند في الحديث .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 311 هـ .
تذكرة الحفّاظ 2/720 - 731
(4) الكفاية في عِلْم الرواية /606 ويُرَاجَع فتح المغيث 1/75
أمارات العجز ، والله تعالى يتعالى أنْ يوصف به " (1) ا.هـ .(1/37)
ويقول الشاطبي (2) رحمه الله تعالى :" وأمّا تجويز أنْ يأتي دليلان متعارضان : فإنْ أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر وفي أنظار المجتهدين لا في نَفْس الأمر : فالأمر على ما قالوه جائز ، ولكنْ لا يقضي ذلك بجواز التعارض بَيْن أدلة الشريعة ، وإنْ أرادوا تجويز ذلك في نَفْس الأمر : فهذا لا ينتحله مَن يفهم الشريعة " (3) ا.هـ .
4- أنّ الخِلاَف في تعارض الأدلة الشرعية بناه البعض على الإصابة والخطأ في الاجتهاد وهل كُلّ مجتهد مصيب أم لا ؟
فمَنْ قال " إنّ كُلّ مجتهد مصيب " أجاز تعارُضها في نَفْس الأمر ؛ لأنّ الحقّ متعدد .
ومَن قال " ليس كُلّ مجتهد مصيباً " منَع تعارُضها في نَفْس الأمر ؛ لأنّ الحقّ واحد (4) .
وفي ذلك يقول الغزالي رحمه الله تعالى :" فالذين ذهبوا إلى أنّ المصيب واحد يقولون : هذا [ التعارض ] بعجز المجتهد ، وإلا فليس في أدلة الشرع تعارُض مِن غَيْر ترجيح ، فيلزم التوقف أو الأخذ بالاحتياط أو تقليد مجتهد آخَر عَثَر على الترجيح ، وأمّا المصوِّبة فاختلفوا " (5) ا.هـ .
(1) أصول السرخسي 2/12
(2) الشاطبي : هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مُفَسِّر مُحَدِّث ..
مِن مصنَّفاته : الموافقات ، الاعتصام ، أصول النحو .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 790 هـ .
الفتح المبين 2/212 ، 213
(3) الموافقات 4/139
(4) يُرَاجَع : التبصرة /510 وكشف الأسرار لِلبخاري 3/167 ، 168 والقطع والظن 2/650 وأدلة التشريع المتعارضة /29
(5) المستصفى /164
المطلب الثاني
دفع التعارض
الكثرة مِن الأصوليين عبَّروا عن هذا المطلب أو هذه المسألة بـ( حُكْم التعارض ) (1) ..
ولكني أرى أنّ تعبيرهم يحتمل تأويليْن :
الأول : حُكْم وقوع التعارض في الأدلة الشرعية ، وهو المراد مِن قولهم ( مجال التعارض ) .
الثاني : حُكْم المخلص مِن التعارض وكيفيته ( دفع التعارض )(1/38)
ولِذَا أرى أنّ التعبير بدفع التعارض أَوْلَى ؛ لأنّه أَعَمّ ، فيندرج تَحْتَه حُكْم دفْع التعارض وكيفيته أو وطُرُق دفع .
ونفصِّل القول في كُلّ واحدة منهما فيما يلي ..
أوّلاً – حُكْم دفع التعارض :
إذا تعارضت النصوص ظاهريّاً أو في ذهن المجتهد فإنّ الواجب على العلماء المجتهدين إزالة هذا التعارض ودفعه ؛ حتى لا يتشكك ضعاف الإيمان أو المنافقون أو غَيْر المسلمين في أحكام شريعتنا الغراء لِتعارض أدلتها ونصوصها .
وإذا كانت نصوص الشريعة متناقضةً فإنّها لا تَصلح أنْ تكون الرسالة الخاتمة التي يعتنقها الناس وأنْ يؤمنوا ويتمسكوا بها .
وفي ذلك يقول الخطيب البغدادي (2) رحمه الله تعالى :" وكُلّ خبر
(1) يُرَاجَع : الفائق 4/370 وكشف الأسرار لِلبخاري مع أصول البزدوي 3/162 والتحرير مع التيسير 3/137 ومسلّم الثبوت 2/189 ، 190
(2) الخطيب البغدادي : هو الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي رحمه الله تعالى ، وُلِد =
واحد دل العقل أو نص الكتاب أو الثابت مِن الأخبار أو الإجماع أو الأدلة الثابتة المعلومة على صحته وخبر آخَر يعارضه فإنّه يجب اطراح ذلك المُعارِض والعمل بالثابت الصحيح اللازم ؛ لأنّ العمل بالمعلوم واجب على كُلّ حال " (1) ا.هـ .
ثانياً – طرق دفع التعارض :
اختلف الأصوليون في كيفية دفع التعارض على طرق ، حصرتُها في أربع :
الطريقة الأولى : طريقة الجمهور .
الطريقة الثانية : طريقة الحنفية .
الطريقة الثالثة : طريقة ابن حزم الظاهري (2) رحمه الله تعالى .
الطريقة الرابعة : طريقة ابن جزي (3) رحمه الله تعالى .
= ببغداد سَنَة 392 هـ ..
مِنْ مصنَّفاته : تاريخ بغداد ، شرف أصحاب الحديث ، التصحيف والوهم ، الكفاية في معرفة أصول عِلْم الرواية .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 463 هـ .
طبقات الفقهاء /235 وطبقات الشافعية 2/240 - 242
(1) الكفاية في عِلْم الرواية /608(1/39)
(2) ابن حَزْم الظاهري : هو علِيّ بن أَحْمَد بن سعيد بن حزْم الفارسي الأصل ثُمّ الأندلسي القرطبي رحمه الله تعالى ، الفقيه الحافظ المُتَكَلِّم الأديب ، أستاذ الفقه الظاهري ..
مِن مصنَّفاته : المُحَلَّى ، الإحكام في أصول الأحكام ، الإملاء في شَرْح الموطأ .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 456 هـ .
وفيات الأعيان 3/325 - 330 وطبقات الحُفّاظ /436 ، 437
(3) ابن جزّي : هو أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن جزّي الكلبي الغرناطي المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ محدِّث متكلِّم أديب نحويّ ، وُلِد بغرناطة سَنَة 693 هـ ..
مِن مصنَّفاته : تقريب الوصول إلى عِلْم الأصول ، القوانين الفقهية ، وسيلة المسلِم في تهذيب صحيح مسلِم ، النور المبِين في قواعد عقائد الدين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى شهيداً في موقعة طريف سَنَة 741 هـ .
الدرر الكامنة 3/356 وشجرة النور الزكية /213 والفتح المبين 2/154
ونفصِّل القول في كُلّ واحدة منها فيما يلي ..
الطريقة الأولى :
وهذه الطريقة هي التي التزمها الجمهور ، واختارها الشيرازي وإمام الحرمين وابن السمعاني والغزالي والفخر الرازي والباجي (1) وابن قدامة والبيضاوي والقرافي وابن السبكي والطوفي والفتوحي رحمهم الله تعالى ، ومِن الحنفية الإسمندي (2) والسمرقندي (3) رحمهما الله تعالى (4) .
وقد التزم أصحاب هذه الطريقة في دفع التعارض عدة مراحل مرتبة على النحو التالي :
المرحلة الأولى : الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن .
(1) الباجي : هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي الأندلسي المالكي الباجي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 403 هـ ..
مِن مصنَّفاته : إحكام الفصول ، كتاب الحدود ، تبيين المنهاج ، الإشارة ، المنتقى .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 474 هـ .
النجوم الزاهرة 5/144 وشجرة النور الزكية /120(1/40)
(2) الإسمندي : هو علاء الدين أبو الفتح محمد بن عبد الحميد بن الحَسَن الإسمندي السمرقندي الحنفي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 488 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الهداية في الكلام ، وبذْل النظر .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 563 هـ .
النجوم الزاهرة 5/379 ومعجم المؤلِّفين 10/130
(3) السمرقندي : هو علاء الدين أبو منصور مُحَمَّد بن أَحْمَد بن أبي أَحْمَد السمرقندي الحنفي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : اللباب ، تحفة الفقهاء ، الميزان .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببخارى سَنَة 539 هـ .
معجم المؤلِّفين 8/228
(4) يُرَاجَع : اللمع /46 والورقات /115 – 119 وقواطع الأدلة 3/29 والمستصفى /376 والمحصول 2/450 وإحكام الفصول /734 وروضة الناظر /413 ومنهاج الوصول مع شرحه 2/789 – 791 وشرح تنقيح الفصول /421 وشرح مختصر الروضة 3/732 وشرح الكوكب المنير 4/609 – 612 وبذل النظر /258 وميزان الأصول /689 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/362
الجمع بَيْن الدليليْن يمكن تحقيقه في صور أو وجوه متعددة ، وقفتُ منها لِلأصوليين على ثلاث : الأولى لِلغزالي رحمه الله تعالى ، والثانية لِبعض الشافعية ، والثالثة لِلخضري (1) رحمه الله تعالى ..
ونوجز القول في كُلّ واحدة منها فيما يلي ..
مراتب الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن عند الغزالي رحمه الله تعالى :
حصر الغزالي – رحمه الله تعالى - مراتب الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن في ثلاث :
المرتبة الأولى : الجمع بَيْن عامّ وخاصّ .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْر } (2) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ صَدَقَةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُق (3) } (4) ..
وَجْه التعارض : أنّ الحديث الأول أَوْجَب الزكاة في كُلّ ما سقت السماء ، والحديث الثاني لَمْ يوجبْها فيما دون خمسة أوسق ، فالأول عامّ ،(1/41)
(1) الخضري : هو الشيخ محمد بن عفيفي الباجوري المصري المعروف بـ" الخضري " رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ أديب مؤرِّخ ، مِن مواليد سَنَة 1289 هـ ، تخرَّج بمدرسة دار العلوم ، وعُيِّن قاضياً شرعيّاً في الخرطوم ، ثمّ مدرساً في مدرسة القضاء الشرعي بالقاهرة ، وأستاذاً لِلتاريخ الإسلامي في الجامعة المصرية ، فوكيلاً لِمدرسة القضاء الشرعي ، فمفتشاً بوزارة المعارف ..
مِن مصنّفاته : أصول الفقه ، تاريخ التشريع الإسلامي ، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة ودُفِن بها سَنَة 1927 م .
الأعلام لِلزركلي 6/269
(2) أَخْرَجه البخاري في كتاب الزكاة : باب العُشْر فيما يُسْقَى مِن ماء السماء أو بالماء الجاري برقم ( 1388 ) والترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله : باب ما جاء في الصدقة فيما يُسْقَى بالأنهار وغيْرها برقم ( 579 ) ، كلاهما عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما .
(3) الوسق : ما قَدْره ستّون صاعاً مِن تمْر أو نحْوه ، أو ما يساوي 130 كيلو جراماً ، والخمسة أوسق تُساوِي 653 كيلو جراما ..
يُراجَع : معجَم المصطلحات والألفاظ الفقهيّة 3/477 والفقه الإسلامي وأدلّته لِلزحيلي 3/1890
(4) أَخرَجه البخاري في كتاب الزكاة : باب ما أُدِّي زكاته فليس بكنز برقم ( 1317 ) ومسلِم في كتاب الزكاة برقم ( 1625 ) والترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله : باب ما جاء في صدقة الزرع والتمر والحبوب برقم ( 568 ) ، كُلّهم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .
والثاني مخصِّص له ؛ لأنّه حدَّد النصاب بخمسة أوسق ، واختار الغزالي – رحمه الله تعالى – جَعْلَه بياناً لِلحديث الأول .
المرتبة الثانية : أنْ يكون اللفظ المؤول قويّاً في الظهور بعيداً عن التأويل لا ينقدح تأويله إلا بقرينة .(1/42)
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة } (1) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلاً بِمِثْل } (2) ..
وَجْه التعارض : أنّ الحديث الأول كالصريح في نَفْي ربا الفضل ، والحديث الثاني صريح في إثبات ربا الفضل ، فيُجمَع بَيْنَهُمَا بجعل الأول في مختلِفي الجنس ؛ تخريجاً على سؤال خاصّ عن المختلفيْن أو حاجة خاصة حتى ينقدح الاحتمال .
المرتبة الثالثة : أنْ يتعارض عمومان فيزيد أحدهما على الآخَر مِن وجْه وينقص مِن وجْه .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه } (3) مع نَهْيه - صلى الله عليه وسلم - عن قَتْل النساء (4) ..
(1) أَخْرَجه مُسْلِم في كِتَاب المساقاة : باب بَيْع الطعام مِثْلاً بمِثْل برقم ( 2991 ) والنسائي في كِتَاب البيوع : باب بَيْع الفضة بالذهب وبَيْع الذهب بالفضة برقم ( 4505 ) وابن ماجة في كِتَاب التجارات : باب مَنْ قال : لا رِبَا إلا في النسيئة برقم ( 2248 ) ، كُلّهم عَنْ أسامة بن زَيْد رضي الله عَنْهُمَا .
(2) أَخْرَجَه مسلم في كتاب المساقاة : باب الصرف وبيع الذهب بالورِق نقداً برقم ( 2972 ) والنسائي في كتاب البيوع : باب بيع التمر بالتمر برقم ( 4483 ) وابن ماجة في كتاب التجارات : باب الصرف وما لا يجوز متفاضلاً يداً بيد برقم ( 2246 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(3) أَخْرَجه البخاري في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب لا يعذّب بعذاب الله برقم ( 2794 ) والترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله : باب ما جاء في المرتَدّ برقم ( 1378 ) والنسائي في كتاب تحريم الدم : باب الحُكْم في المرتَدّ برقم ( 3991 ) ، كُلّهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .(1/43)
(4) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب قتْل الصبيان في الحرب برقم ( 2791 ) ومُسْلِم في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب تحريم قتْل النساء والصبيان في الحرب برقم ( 3279 ) والترمذي في كتاب السَّيْر عن رسول الله : باب ما جاء في النهي عن قتْل النساء والصبيان برقم ( 1494 ) ، كُلّهم عن ابن عُمَر رضي الله عنهما .
وَجْه التعارض : أنّ الحديث الأول يوجِب قتْل كُلّ مرتدّ بما فيهم النساء والحديث الثاني يحرِّم قتل النساء جميعاً بما فيهم المرتدّات ، فيُجمَع بَيْنَهُمَا بجعل الحديث الثاني مخصِّصاً لِعموم الحديث الأول (1) .
أنواع الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن عند بعض الشافعية :
لقد حصر بعض الشافعية أنواع الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن في ثلاثة :
النوع الأول : أنْ يتبعض حُكْم كُلّ واحد مِن الدليليْن .
مثاله : إذا كانت هناك دار بَيْن اثنين وهي في يد كُلّ منهما وادعى كُلّ منهما مِلكيته لِهذه الدار ..
وهنا تَعارَض ادعاء كُلّ منهما ؛ لأنّ ادعاء المِلكية يقتضي وضع اليد على جميعها ، وليس كذلك ، ولِذَا يمكن الجمع بَيْنَهُمَا بقسمتها نِصْفَيْن لِكُلّ واحد نِصْفها .
النوع الثاني : أنْ يتعدد حُكْم كُلّ واحد مِن الدليليْن .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ صَلاَةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلاَّ فِي الْمَسْجِد } (2) مع تقريره - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ صلى في غَيْر المسجد مع كونه جاراً لِلمسجد ..
وَجْه التعارض : أنّ الدليل الأول نهى جارَ المسجد عن الصلاة إلا في المسجد ، والدليل الثاني أجازها ، لكنّ الدليل الأول محتمِل لِنَفْي الصحة ومحتمِل لِنَفْي الكمال ، فهو متعدد الحُكْم ، وحينئذٍ يُحْمَل على نَفْي الكمال ، ويُحْمَل التقرير على الصحة .
النوع الثالث : أنْ يكون كُلّ واحد مِن الدليليْن عامّاً .(1/44)
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاء } قيل :" بَلَى يَا رَسُولَ
(1) المستصفى /253 ، 254 بتصرف .
(2) أَخْرَجَه الحاكم في المستدرك 1/373 عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، والبيهقي في سُنَنه الكبرى 3/57 عن عَلِيّ كرَّم الله وجْهَه ، والدارقطني في سُنَنه 1/419 عن جابر - رضي الله عنه - .
اللَّه " قال - صلى الله عليه وسلم - { أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَد } (1) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَد } (2) ..
وَجْه التعارض : أنّ الدليل الأول مدح شهادة الرجل قَبْل أنْ يُسْتَشْهَد فيَكون مطلوباً شرعاً ، والدليل الثاني ذَمَّهَا فتَكون ممنوعةً شرعاً ، فالحُكْمَان تَعارَضَا – في الظاهر – لكنّ الجمع بَيْنَهُمَا ممكن بحملهما على واحد مِن تأويليْن :
التأويل الأول : أنْ يعمل بالأول في حقوق الله تعالى ، ويعمل بالثاني في حقوق العباد .
التأويل الثاني : أنّ الأول محمول على ما إذا شَهِد ولَمْ يعلم صاحِبُ الحقّ أنّ له شاهداً ، والثاني محمول على ما إذا عُلِم أنّ له الحقّ بشهادة ، فلا يجوز لِلشاهد أنْ يبدأ بالشهادة قبل أنْ يُسْتَشْهَد (3) .
وجوه الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن عند الشيخ الخضري رحمه الله تعالى :
حصر الشيخ الخضري – رحمه الله تعالى – وجوه الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن في أربعة :
الوجه الأول : الجمع بَيْن العامّيْن بالتنويع .
مثاله : قوله :" أعطوا الفقراء " مع قوله :" لا تعطوا الفقراء " ،
(1) أَخْرَجه مسلِم في كتاب الأقضية برقم ( 19 ) وعبد الرزاق في المصنَّف 6/364 والطبراني في الكبير 5/232 ، كُلّهم عن زيْد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - .
(2) أَخْرَجه البيهقي 5/387 وابن حبان 12/399 ، كلاهما عن ابن عُمَر رضي الله عنهما .(1/45)
(3) يُرَاجَع : الإبهاج 3/211 ، 212 ونهاية السول 3/158 ، 159 والفائق 4/339 وشرح المنهاج 2/790 ، 791 والبحر المحيط 6/133 واللمع /19 والمحصول 5/542 – 544 والورقات مع شرحها مع حاشية النفحات /116 وقواطع الأدلة 1/404 ، 405 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/415 ، 416 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /174 ، 175 وبلوغ المرام في قواعد العامّ /239 ، 240
ولَمْ يُعلَم أيّهما المتقدم ، فإنّا نَحمل الأمر على الفقراء المتعففين ، ونَحمل النهي عن الفقراء الذين يسألون الناس إلحافاً .
الوجه الثاني : الجمع بَيْن المطْلَقيْن بالتقييد .
مثاله : قوله :" أَعْطِ فقيراً " مع قوله :" لا تُعْطِ فقيراً " ، ولَمْ يُعلَم أيّهما المتقدم ، فنَحمل الأول على المتعفف ، ونَحمل الثاني على المتسول .
الوجه الثالث : الجمع بَيْن الخاصّيْن بالتقييد ، أو حَمْل أحدهما على المَجاز .
مثاله : قوله :" أَعْطِ زيداً " مع قوله :" لا تُعْطِ زيداً " ، ولَمْ يُعلَم أيّهما المتقدم ، فنَحمل الأول على المستقيم ، ونَحمل الثاني على المعوجّ أو غَيْر المستقيم .
الوجه الرابع : الجمع بَيْن العامّ والخاصّ بأنْ يخصّ العامّ به (1) .
مثاله : قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} (2) مع قوله تعالى {وَأُولَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} (3) ..
وَجْه التعارض : أنّ الدليل الأول جعل عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهُر وعشراً حاملاً كانت أم غَيْر حامل ، والدليل الثاني جعل عدة الحامل وضْع حَمْلِهَا ، فيُجمَع بَيْنَهُمَا بتخصيص عموم الآية الأولى : لِتصبح عدة المتوفى عنها زوجها الحامل وضْع حَمْلِهَا ، وغَيْر الحامل أربعة أشهُر وعشراً (4) .
وقد تَبِع الدكتور بدران أبو العينين الشيخ الخضري – رحمهما الله
(1) يُرَاجَع أصول الفقه لِلخضري /360(1/46)
(2) سورة البقرة مِن الآية 234
(3) سورة الطلاق مِن الآية 4
(4) يُرَاجَع : تفسير الطبري 2/512 وأحكام القرآن لِلجصاص 2/119 وتفسير القرطبي 3/175 وتفسير القرآن العظيم 1/298 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/416 وأدلة التشريع المتعارضة /165 166
تعالى - في ذلك ، إلا أنّه زاد عليها وحصرها في ستة وجوه : الأول بالتنويع ، والثاني بالتخصيص ، والثالث باختلاف الحال ، والرابع باختلاف الحُكْم ، والخامس بتوزيع الحُكْم ، والسادس بالتقييد (1) .
المرحلة الثانية : العمل بالناسخ وترك المنسوخ .
إذا لَمْ يمكن الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن بحثنا عن أسبقية أحدهما وتقدُّمه : فإنْ علمنا ذلك كان المتقدِّم منسوخاً وتُرِك العمل به والمتأخر ناسخاً ، وهو الذي عليه المعوَّل .
مثاله : ما رواه خالد بن الوليد (2) - رضي الله عنه - أنّه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول { لاَ يَحِلُّ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِير } (3) مع ما رواه جابر بن عبد الله (4) – رضي الله عنهما – قال :" أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لُحُومَ الْخَيْلِ ، وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُر " (5) ..
(1) يُرَاجَع هذه الأوجُه وأمثلتها تفصيلاً في أدلة التشريع المتعارضة /163 – 182
(2) خالد بن الوليد : هو الصحابي الجليل سيف الله أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي - رضي الله عنه - ، أحد أشراف قريش في الجاهلية ، أسلم سَنَة سبع بَعْد فتح خيبر ، شهد فتح مكة ، وحمل الرايةلارلق54 يوم مؤتة ، وصفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنّه سيف مِن سيوف الله ، حارب المرتدّين وهزمهم في اليمامة ، وقاد المسلمين في اليرموك وغَيْرها ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بحمص – وقيل : بالمدينة المنورة - سَنَة 21 هـ .
سير أعلام النبلاء 1/366 والإصابة 1/413(1/47)
(3) أَخْرَجَه النسائي في كتاب الصيد والذبائح : باب تحريم أكل لحوم الخيل برقم ( 4257 ) وأبو داود في كتاب الأطعمة : باب في أكل لحوم الخيل برقم ( 3296 ) وابن ماجة في كتاب الذبائح : باب لحوم البغال برقم ( 3189 ) .
(4) جابر بن عبد الله : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ابن كعب الأنصاري السلمي رضي الله عَنْهُمَا ، شَهِد بيعة العَقَبَة الثانية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير وشَهِد مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة غزوة ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 74 هـ ، وقيل : سَنَة 78 هـ .
أسد الغابة 1/351 والإصابة 1/434 ، 435 وشذرات الذهب 1/44
(5) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الأطعمة عن رسول الله : باب ما جاء في أكل لحوم الخيل برقم ( 1715 ) والنسائي في كتاب الصيد والذبائح : باب الإذن في أكل لحوم الخيل برقم ( 4254 ) .
وَجْه التعارض : أنّ الدليل الأول أفاد حرمة أكل لحوم الخيل ، والدليل الثاني أفاد حِلّ أكل لحوم الخيل ، فالحُكْمان متعارضان ولا يمكن الجمع بَيْنَهُمَا ، وقد ثبت تقدُّم الدليل الأول وتأخُّر الدليل الثاني ، فلِذَا كان الأول منسوخاً ؛ بدليل ما رواه جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال : " رُخِّصَ لَنَا فِي أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَنُهِينَا عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّة " (1) ، وعنه – أيضاً – قال :" نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ ، وَأَذِنَ فِي الْخَيْل " (2) .
ومِمَّا تقدَّم فقد رفعنا التعارض بَيْن الدليليْن بالعمل بالناسخ ، وهو حِلّ أكل لحوم الخيل (3) .
المرحلة الثالثة : التوقف لِطلب المرجِّح أو التساقط أو التخيير .(1/48)
اتفق أصحاب هذه الطريقة على ترتيب المرحلتيْن السابقتيْن مِن الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن ثُمّ العمل بالناسخ وتَرْك المنسوخ إنْ عُلِم المتقدم منهما مِن المتأخر ..
أمّا إذا علِم تاريخيهما ولَمْ يقبلا النسخ : فإنْ كانا معلوميْن لا يعمَل بهما ويتساقطا ويرجع إلى غَيْرهما ، وإنْ كانا مظنونيْن طلب الترجيح بَيْنَهُمَا ويعمل بالأقوى .
وإنْ علِم مقارنتهما معاً : فإنْ كانا معلوميْن تساقطا وترك العمل بهما ويرجع إلى غَيْرهما ، وإنْ كانا مظنونيْن طلب الترجيح بَيْنَهُمَا (4) .
(1) أَخْرَجَه الحاكم في المستدرك 4/235
(2) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الذبائح والصيد : باب لحوم الخيل برقم ( 5096 ) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل مِن الحيوان : باب في أكل لحوم الخيل برقم ( 3595 ) وأبو داود في كتاب الأطعمة : باب في أكل لحوم الخيل برقم ( 3294 ) .
(3) يُرَاجَع أدلة التشريع المتعارضة /58 ، 59
(4) يُرَاجَع : اللمع /19 ، 20 وشرح اللمع 2/391 والورقات مع شرحها مع حاشية النفحات /114 – 124 وشرح تنقيح الفصول /421 والمحصول 2/450 ، 451 والبحر =
وإنْ جهِل تاريخيهما : فإنّهم اختلفوا في المقدَّم حينئذٍ على أقوال ثلاثة :
القول الأول : الترجيح .
وهو اختيار الكثرة ، منهم : الشيرازي وإمام الحرمين وابن السمعاني والغزالي وابن قدامة والعبادي (1) رحمهم الله تعالى .
وفي ذلك يقول الشيرازي رحمه الله تعالى :" إذا تعارض خبران وأمكن الجمع بَيْنَهُمَا وترتيب أحدهما على الآخَر في الاستعمال فعل ، وإنْ لَمْ يمكن ذلك وأمكن نسخ أحدهما بالآخَر ، فإنْ لَمْ يمكن ذلك رجّح أحدهما على الآخَر بوجه مِن وجوه الترجيح " (2) ا.هـ .
ويقول الغزالي رحمه الله تعالى :" وإنْ عجزنا عن الجمع وعن معرفة المتقدم والمتأخر رجَّحنا وأخذنا بالأقوى " (3) ا.هـ .(1/49)
ويقول ابن قدامة رحمه الله تعالى :" فإنْ لَمْ يمكن الجمع ولا معرفة النسخ رجّحنا فأخذنا بالأقوى في أنفسنا " (4) ا.هـ .
ويقول العبادي رحمه الله تعالى :" وإنْ لَمْ يمكن الجمع بَيْنَهُمَا يتوقف فيهما إنْ لَمْ يعلم التاريخ إلى أنْ يظهر ترجيح أحدهما على الآخَر فيعمل به سواء كانا مظنونيْن أو معلوميْن " (5) ا.هـ .
ويقول إمام الحرمين رحمه الله تعالى :" فإنْ أمكن الجمع بَيْنَهُمَا يجمع ،
= المحيط 6/140 – 142 والمنهاج مع شرحه 2/789 – 791 والإبهاج 3/213 – 216 وشرح طلعة الشمس 2/191 – 192 وأصول الفقه لِلخضري /358 ، 359 وبلوغ المرام /242 ، 243
(1) العبّادي : هو شهاب الدين أحمد بن قاسم العبّادي القاهري الشافعي رحمه الله تعالى ، عالِم فقيه أصوليّ نحويّ ..
مِن مصنّفاته : الآيات البينات ( شرح جمع الجوامع ) ، حاشية على شرح الورقات .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة سَنَة 994 هـ .
شذرات الذهب 8/433 ، 434 ومعجم المؤلفين 2/48 ، 49
(2) اللمع /46
(3) المستصفى /376
(4) روضة الناظر /413
(5) الشرح الكبير لِِلعبادي /153 بتصرف .
فإنْ لَمْ يمكن الجمع بَيْنَهُمَا يتوقف فيهما إنْ لَمْ يعلم التاريخ ، فإنْ علِم التاريخ نسخ المتقدم بالمتأخر " (1) ا.هـ .
ويقول الباجي رحمه الله تعالى :" وذلك أنّ الخبريْن إذا وردا وظاهرهما التعارض ولَمْ يمكن الجمع بَيْنَهُمَا بوجه ولَمْ يعلم التاريخ فيجعل أحدهما ناسخاً والآخَر منسوخاً رجّح أحدهما على الآخَر بضرب مِن الترجيح " (2) ا.هـ .
ويقول ابن السمعاني رحمه الله تعالى :" فإنْ أمكن الجمع بَيْنَهُمَا فإنّه يجمع بَيْنَهُمَا ... فإنْ لَمْ يمكن وأمكن نسْخ أحدهما بالآخَر فإنّه يفعل ، فإنْ لَمْ يمكن رجّح أحدهما على الآخَر بوجه مِن وجوه الترجيح " (3) ا.هـ .
القول الثاني : التساقط أو الترجيح .
وهو اختيار البيضاوي رحمه الله تعالى ..(1/50)
وفي ذلك يقول :" إذا تعارض دليلان فالعمل بهما مِن وجْه أَوْلَى ... ، وإذا تعارض نصّان وتساويا في القوة والعموم وعلم المتأخر فهو ناسخ ، وإنْ جهل فالتساقط أو الترجيح " (4) ا.هـ .
القول الثالث : التساقط ثُمّ طلب دليل آخَر .
وهو اختيار البخاري (5) رحمه الله تعالى ..
وفي ذلك يقول :" إذا تحقق التعارض بَيْن النصيْن وتعذّر الجمع بَيْنَهُمَا
(1) الورقات مع حاشية النفحات /115 – 119
(2) إحكام الفصول /734
(3) قواطع الأدلة 3/29
(4) المنهاج مع شرحه 2/789 ، 791 بتصرف .
(5) علاء الدِّين البخاري : هو عبد العزيز بن أَحْمَد بن مُحَمَّد البخاري رحمه الله تعالى ، الفقيه الحنفي الأصولي ..
مِن مصنَّفاته : كشف الأسرار ، غاية التحقيق .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 730 هـ .
الفوائد البهيّة /94 والجواهر المضيئة 1/317
فالسبيل فيه الرجوع إلى طلب التاريخ ، فإنْ علِم التاريخ وجب العمل بالمتأخر ؛ لِكونه ناسخاً لِلمتقدم ، وإنْ لَمْ يعلم سقط حُكْم الدليليْن ... ، وإذا تساقطا وجب المصير إلى دليل آخَر يمكن به إثبات الحُكْم " (1) ا.هـ .
القول الرابع : التساقط ثم التخيير .
وهو اختيار الفتوحي رحمه الله تعالى ..
وفي ذلك يقول :" فإنْ تعذّر الجمع وعلم التاريخ فالثاني ناسخ إنْ قَبِله ، وإن اقترنا خيّر ، وإنْ جهل وقبله رجع إلى غَيْرهما ، وإلا اجتهد في الترجيح " (2) ا.هـ .
القول الخامس : التخيير بَيْنَهُمَا .
وهو اختيار الغزالي والإسمندي رحمهما الله تعالى (3) .
وفي ذلك يقول الغزالي رحمه الله تعالى :" فإنْ أشكل التاريخ فيطلب الحُكْم مِن دليل آخَر ويقدّر تدافع النصيْن ، فإنْ عجزنا عن دليل آخَر فنتخير العمل بأيّهما شئنا " (4) ا.هـ .
الطريقة الثانية :
لقد التزم الحنفية – الكثرة منهم – في دفع التعارض الواقع بَيْن الدليليْن مراحل أربع :
المرحلة الأولى : النسخ .
المرحلة الثانية : الجمع بَيْنَهُمَا أو الترجيح .(1/51)
المرحلة الثالثة : التساقط .
المرحلة الرابعة : الرجوع إلى ما دونهما مِن الأدلة (5) .
(1) كشف الأسرار 3/162 بتصرف .
(2) شرح الكوكب المنير 4/611 ، 612 بتصرف .
(3) يُرَاجَع : المستصفى /253 وبذل النظر /258
(4) المستصفى /253
(5) يُرَاجَع : التنقيح مع التلويح 2/217 ، 218 وكشف الأسرار لِلنسفي 2/87 ، 88 وأصول =
وفي ذلك يقول صدر الشريعة (1) رحمه الله تعالى :" ففي معارضة الكتاب والسُّنَّة يحمل ذلك على نسخ أحدهما الآخَر ... إنْ عِلْم التاريخ ، وإلا يطلب المخلص ويجمع بَيْنَهُمَا ما أمكن ... إنْ تيسر منها ، وإلا يترك ويصار مِن الكتاب إلى السُّنَّة ، ومنها إلى القياس وأقوال الصحابة - رضي الله عنهم - إنْ أمكن ذلك ، وإلا يجب تقرير الأصل " (2) ا.هـ .
ويقول ابن الهمام رحمه الله تعالى :" إذ حُكْمه [ أي التعارض ] النسخ إنْ علم المتأخر ، وإلا فالترجيح ثم الجمع ، وإلا تُرِكَا إلى ما دونهما على الترتيب إنْ كان ، وإلا قرّرت الأصول " (3) ا.هـ .
ويقول ابن عبد الشكور رحمه الله تعالى :" وحُكْمه النسخ إنْ علم المتقدم وإلا فالترجيح إنْ أمكن ، وإلا فالجمع بقدر الإمكان ، وإنْ لَمْ يمكن الجمع تساقطا ، فالمصير في الحادثة إلى ما دونهما مرتباً إنْ وجد " (4) ا.هـ .
الطريقة الثالثة :
وهذه الطريقة التزمها ابن حزم الظاهري – رحمه الله تعالى – في دفع تعارض الدليليْن حينما أوجب استعمال كُلّ منهما ..
وفي ذلك يقول :" إذا تعارض الحديثان أو الآيتان أو الآية والحديث فيما يظن مَن لا يعلم ففرْض على كُلّ مسلِم استعمال كُلّ ذلك ؛ لأنّه ليس
= البزدوي مع كشف الأسرار 3/162 – 167 والتحرير مع التيسير 3/137 ومسلّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/189 ، 190 والتقرير والتحبير 3/4 وعمدة الحواشي مع أصول الشاشي /305
(1) صدْر الشريعة الأصغر : هو عبد الله بن مسعود بن تاج الشريعة رحمه الله تعالى ، الإمام الحنفيّ الفقيه الأصولي الجدلي ..(1/52)
مِن مصنفاته : كتاب الوقاية ، التوضيح والتنقيح .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى في شرع آباد ببخارى سَنَة 747 هـ .
الفتح المبين 2/161 والفوائد البهيّة /109
(2) التنقيح 2/217 ، 218 بتصرف .
(3) مسلّم الثبوت 2/189 ، 190
(4) التحرير مع التيسير 3/137 بتصرف .
بعض ذلك أَوْلَى بالاستعمال مِن بعض ، ولا حديث بأوجب مِن حديث آخَر مثله ، ولا آية أَوْلَى بالطاعة لها مِن آية أخرى مثلها ، وكُلّ مِن عند الله عَزّ وجَلّ " (1) ا.هـ .
مثاله : أمْره - صلى الله عليه وسلم - ألاّ يَنفر أحد حتى يَكون آخِر عهْده بالبيت (2) مع إذنه - صلى الله عليه وسلم - لِلحائض أنْ تنفر قَبْل أنْ تودِّع (3) ، فوجب استثناء الحائض مِن جملة النافرين ، ولا نترك واحداً مِن النصيْن ، لكن يُستعملان معاً ، ولا نبالي أيّ النَّصَّيْن ورد أوّلاً أو لَمْ نعلم ذلك (4) .
الطريقة الرابعة :
وهي الطريقة التي اختارها ابن جزي – رحمه الله تعالى – في دفع التعارض ..
وقد بناها على ثلاث طرق مرتّبة على النحو التالي :
الأولى : العمل بالدليليْن المتعارضيْن ( الجمع بَيْنَهُمَا ) .
يرى ابن جزي – رحمه الله تعالى – في حالة التعارض بَيْن دليليْن أنْ ينظر المجتهد إلى إمكان الجمع بَيْنَهُمَا والعمل بهما على قدر الإمكان ولو مِن وجْه واحد ، وهذه الطريقة عنده أَوْلَى الطرق ؛ لأنّ فيها إعمالاً لِلدليليْن دون طرح أحدهما .
(1) الإحكام لابن حزم 2/185
(2) أَخْرَجَه مسلم في كتاب الحجّ : باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم ( 2350 ) وابن ماجة في كتاب المناسك : باب طواف الوداع برقم ( 3061 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والترمذي في كتاب الحجّ عن رسول الله : باب ما جاء مَن حجّ أو اعتمر فليكن آخِر عهْده بالبيت برقم ( 869 ) عن الحارث بن عبد الله بن أوس - رضي الله عنه - .(1/53)
(3) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الحجّ : باب إذا حاضت المرأة بَعْدما أفاضت برقم ( 1641 ) ومسلم في كتاب الحجّ : باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم ( 2353 ) وابن ماجة في كتاب المناسك : باب الحائض تَنفر قَبْل أنْ تودِّع برقم ( 3036 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(4) الإحكام لابن حزم 2/159 ، 160
الثاني : الترجيح .
وهذا الطريق يتمّ العمل به إذا لَمْ يمكن الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن فنبحث عن مرجِّح لأحدهما على الآخَر بوجه مِن وجوه الترجيح ، وحينئذٍ نعمل بالراجح ونترك المرجوح .
الثالث : النسخ .
إذا لَمْ يمكن الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن ولَمْ نتمكن مِن الترجيح بَيْنَهُمَا بحثنا عن تاريخيهما : فإنْ علمناه وكان أحدهما متقدماً والآخَر متأخراً كان المتأخر ناسخاً ، وإذا لَمْ نعلم تاريخيهما تساقط الدليلان ووجب التوقف (1) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على طرق دفع التعارض عند الأصوليين يتضح لنا ما يلي :
1- أنّ أصحاب الطريقة الأولى – وهم الجمهور – اتفقوا على مرحلتيْن مرتّبتيْن ، وهُمَا : الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن ، والعمل بالناسخ وتَرْك المنسوخ ..
واختلفوا بَعْد ذلك : فمنهم مَن قدَّم الترجيح ، وهم الكثرة ، ومنهم مَن أسقطهما وطلب دليلاً غَيْرهما ، ومنهم مَن خيّر بَيْنَهُمَا ، ومنهم مَن خيّر بَيْن التساقط أو الترجيح .
2- أنّ أصحاب الطريقة الثانية – وهم معظم الحنفية – رتّبوا مراحل دفع التعارض بأربع : النسخ ، ثُمّ الجمع بَيْنَهُمَا أو الترجيح ، ثُمّ التساقط ، ثُمّ الرجوع إلى ما دونهما مِن الأدلة .
3- أنّ الطريقة الثالثة التي التزمها ابن حزم – رحمه الله تعالى – توجب استعمال كُلّ واحد منهما .
(1) يُرَاجَع تقريب الوصول /462 - 465
4- أنّ طريقة ابن جزي – رحمه الله تعالى – تبدأ بالجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن ، وإلا فالترجيح ، وإلا فالنسخ ، وإلا فالتوقف .(1/54)
5- أنّ الطرق جميعها متفقة على طريقة واحدة : وهي الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن ، إلا أنّ ابن حزم – رحمه الله تعالى – أوجب العمل بكُلّ واحد منهما ..
غَيْر أنّهم اختلفوا في ترتيب الجمع بَيْن مراحل دفع التعارض : فالجمهور وابن جزي – رحمه الله تعالى – جعلوه المرحلة الأولى أو الطريق الأول ، والحنفية جعلوه المرحلة الثانية أو الطريق الثاني ، وابن حزم – رحمه الله تعالى – نص على أنّه الطريق الوحيد لِدفع التعارض .
6- أنّ ابن حزم – رحمه الله تعالى – لا ينفي العمل بالناسخ وترك المنسوخ ، وإنما يأخذ به إنْ تيقَّن ذلك ، فقال :" ولا يحلّ أنْ يقال فيما يصحّ وورد الأمر به " هذا منسوخ " إلا بيقين " (1) ا.هـ .
كما أنّه ذهب إلى الترجيح - وإنْ لَمْ يصرح به - في قوله :" الوجه الرابع : أنْ يكون أحد النَّصَّيْن حاظراً لِمَا أبيح في النص الآخَر بأسره ، والواجب في هذا النوع أنْ ننظر إلى النص الموافق لِمَا كنا عليه لو لَمْ يرد واحد منهما فنتركه ونأخذ بالآخَر " (2) ا.هـ .
7- أنّه إذا كان ابن حزم – رحمه الله تعالى – سلّم بالعمل بالناسخ المتيقَّن وعمل بالترجيح فإنّه يكون متفقاً مع الطريقتيْن السابقتيْن في ثلاث مراحل يدفع بها التعارض ، وهي : الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن ، والعمل بالناسخ ، والترجيح ، وهو منهج الطريقة الأولى ( الجمهور ) ، ولولا تصريحه بوجوب استعمال كُلّ واحد مِن الدليليْن لَمَا أفردنا له طريقة .
8- أنّ الطرق الثلاث : الأولى والثانية والرابعة متفقة على ثلاثة طرق
(1) الإحكام لابن حزم 2/167
(2) المرجع السابق .
لِدفع التعارض ، وهي : الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن والنسخ والترجيح مع اختلافهم في ترتيب هذه الطرق ، غَيْر أنّ ابن جزي – رحمه الله تعالى – أخَّر النسخ وقدَّم الترجيح .(1/55)
9- أنّ تأخير النسخ وتقديم الترجيح الذي ذهب إليه ابن جزي – رحمه الله تعالى – فيه نظر ؛ لأنّنا كيف نرجِّح بَيْن دليليْن متعارضيْن أحدهما متقدم والآخَر متأخر ؛ لأنّ العمل بالمتأخر – وهو الناسخ – واجب ..
ولِذَا وجب البحث عن تاريخ الدليليْن المتعارضيْن قبل الترجيح ، وهو ما ذهب إليه الجمهور والحنفية ، إلا أنّ الجمهور أخَّر النسخ بَعْد الجمع ، والحنفية قدَّموه .
10- أنّ الطرق الثلاث المتقدمة متفقة على التزام طرق ثلاثة : الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن والنسخ والترجيح ، مع اختلافهم في ترتيبها والطرق التي تليها .
11- أنّ الترجيح عند الطرق الثلاثة السالفة الذكر مسلَّم بأنّه أحد طرق دفع التعارض الواقع بَيْن الأدلة .
والأَوْلَى عندي إذا ما ورد دليلان متعارضان : إنْ أمكن أنْ نجمع بَيْنَهُمَا فعلنا ، وإنْ لَمْ يمكن رجعنا إلى تاريخيهما فنجعل المتأخر ناسخاً لِلمتقدم ، وإنْ لَمْ نعلم تاريخيهما رجّحنا بَيْنَهُمَا ، وهذا ما عليه الجمهور أصحاب الطريقة الأولى ..
لكني أرجِّح عند عدم التمكن مِن الترجيحِ التخييرَ بَيْنَهُمَا ، وليفعل المكلف أيّ واحد منهما ؛ حتى لا يخرج عن عهدة التكليف ، وهذا ما نُقِل عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - ..
وفي ذلك يقول ابن كثير (1) رحمه الله تعالى :" وقد يكون بحيث يمكن
(1) ابن كثير : هو أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن كثير بن ضوء البصري ثُمّ الدمشقي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 700 هـ ، كان إماماً فاضلاً عالِماً بالحديث والتاريخ والعربية والتفسير .. =
الجمع ولكن لا يظهر لِبعض المجتهدين ، فيتوقف حتى يظهر له وجْه الترجيح بنوع مِن أقسامه ، أو يهجم فيفتي بواحد منهما ، أو يفتي بهذا في وقْت وبهذا في وقْت كما يفعل أحمد في الروايات عن الصحابة " (1) ا.هـ .
= مِن مصنَّفاته : البداية والنهاية ، مختصَر تهذيب الكمال ، تفسير القرآن العظيم .(1/56)
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 774 هـ .
شذرات الذهب 6/230 - 232
(1) اختصار علوم الحديث /198 ويُرَاجَع فتح المغيث 1/77 ، 78
المطلب الثالث
العلاقة بَيْن التعارض والترجيح (1)
لقد بيَّنَّا فيما سبق – في دفع التعارض وطرقه عند الأصوليين – أنّ الكثرة منهم إنْ لَمْ يكن معظمهم اتفقوا على أنّ الترجيح واحد مِن مراحل دفع التعارض ، وأنّه لا بُدّ منه إذا لَمْ نتمكن مِن الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن أو معرفة تاريخيهما لِنعمل بالمتأخر ناسخاً والمتقدم منسوخاً .
ولَمّا كان الترجيح لا بُدّ فيه مِن طرفيْن متقابليْن أو متعارضيْن حتى نرجِّح بَيْنَهُمَا – سواء كان هذا التقابل في الأدلة أو المذاهب أو الأئمة – فإنّه لا بُدّ له مِن وجود التعارض أو تَوهُّمه .
والعكس ليس كذلك ، أي أنّ التعارض قد لا يحتاج إلى الترجيح ، خاصة إذا كان بَيْن الأدلة وتم دفعه بالجمع بَيْنَهُمَا أو بالعمل بالناسخ وترك المنسوخ .
ولِذَا فإنّ التعارض أساس لِلترجيح وأصْل له لا يوجد إلا به ، فهو مبنيّ عليه ، وأصبح التعارض والترجيح عند الأصوليين لِذلك متقابليْن تماماً كالمنطوق والمفهوم والمطلق والمقيد والعامّ والخاصّ ونحوها .
هذا .. وقد أورد البرزنجي (2) رحمه الله تعالى – وتَبِعه في ذلك
(1) سيأتي تعريف الترجيح مفصلاً – بإذن الله تعالى – في الفصل التالي .
(2) البرزنجي : هو محمد بن عبد الرسول بن عبد السيد بن عبد الرسول البرزنجي المدني الشافعي رحمه الله تعالى ، مفسِّر محدِّث أصوليّ أديب لغويّ بيانيّ صرفيّ ، وُلِد بشهرزور سَنَة 1040 هـ ، ورحل إلى همذان وبغداد ودمشق والقسطنطينية ومصر ، واستقر بالمدينة ودرس بها ..
مِن مصنّفاته : خالص التلخيص في مختصر تلخيص المفتاح ، الإشاعة في أشراط الساعة ، مرقاة الصعود في تفسير أوائل العقود ، أنهار السلسبيل في شرح أنوار التنزيل للبيضاوي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة سَنَة 1103 هـ .(1/57)
معجم المؤلفين 10/108
أستاذنا فضيلة الدكتور الحفناوي – في هذا المقام مذْهبيْن :
المذهب الأول : أنّ التعارض أصْل لِلترجيح .
وهو ما عليه جمهور الأصوليين .
وحُجّتهم : أنّه لولا وجود التعارض بَيْن الأدلة الشرعية لَمَا كانت هناك حاجة إلى الترجيح ، وأنّ الترجيح أحد مراحل دفع التعارض والتخلص منه فدلّ ذلك على أنّ التعارض أصْل لِلترجيح .
المذهب الثاني : أنّ التعارض ليس أصلاً لِلترجيح ؛ فقد يوجد بدونه .
وهو ما عليه بعض العلماء .
وحُجّتهم :
الأولى : أنّ التعارض مِن شروطه تساوي الدليليْن ، والترجيح لا بُدّ وأنْ يكون لأحدهما فضل وزيادة ، ولِذَا كان التعارض تساوي الدليليْن ، والترجيح عدم تساويهما ، وهذا هو التناقض ، والتناقض مردود ، وما أدى إليه كان كذلك .
الثانية : أنّ التعارض هو التناقض ، والتناقض تنأى عنه نصوص الشرع وأدلته ، والترجيح تفضيل أحد الدليليْن عن الآخَر ، وهو كثير في نصوص الشرع ، ولِذَا كان التعارض والترجيح متباينيْن (1) .
وأرى : أنّ هذا المذهب – الثاني – القائل أنّ التعارض ليس أصلاً لِلترجيح مردود وغَيْر مقبول ؛ لِمَا يلي :
1- أنّه لَمْ يُعرَف له قائل .
2- أنّ حُجّتيْه واهيتان ..
أمّا الأولى : فإنّ التناقض يكون إذا رفعنا المتساوييْن بنَفْس التساوي ، أمّا إذا وُجِدت زيادة في أحدهما فإنّها تكون سبباً لِتقديمه وترجيحه على
(1) يُرَاجَع : التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 1/97 ، 98 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /285 - 287
الآخَر .
وأمّا الثانية : فإنّا نسلِّم أنّ التناقض تنأى عنه نصوص الشرع وأدلته ؛ فليس بَيْنَهَا تعارض حقيقيّ ، والتعارض إنما هو في الظاهر أو في ذهن المجتهد ، ولِذَا كان لا بُدّ مِن إزالة هذا التعارض بوجوه أحدها الترجيح .
3- أنّ الكثرة مِن الأصوليين صرّحوا بقوة العلاقة بَيْن الترجيح والتعارض ..
أذكر منهم :(1/58)
الآمدي – رحمه الله تعالى – في قوله :" وقولنا " مع تعارضهما " احتراز عن الصالحيْن اللذيْن لا تعارُض بَيْنَهُمَا ؛ فإنّ الترجيح إنما يُطلب عند التعارض لا مع عدمه " (1) ا.هـ .
وصدر الشريعة – رحمه الله تعالى – في قوله :" وإنْ كان العمل بالأقوى واجباً لكنْ لا يسمَّى هذا " ترجيحاً " ؛ فالترجيح إنما يكون بَعْد المعارضة " (2) ا.هـ .
وعضد الدين والملة (3) – رحمه الله تعالى – في قوله :" بل لا بُدّ مِن اقتران أمْر بما به تقوى على معارضها ، فهذا الاقتران الذي هو سبب الترجيح هو المسمَّى بـ" الترجيح " في مصطلح القوم " (4) ا.هـ .
والبخاري – رحمه الله تعالى – في قوله :" لأنّه لَمّا كان [ الترجيح ] عبارةً عن فضل أحد المِثْلَيْن لا بُدّ مِن المماثلة وقيام التعارض " (5) ا.هـ .
(1) الإحكام 4/246
(2) التوضيح 2/215
(3) عضد الدين الإيجي : هو عبد الرحمن بن أَحْمَد بن عبد الغفار بن أَحْمَد الإيجي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بإيج مِن أعمال شيراز بفارس ..
مِن مصنفاته : شرْح مختصر ابن الحاجب في الأصول ، المواقف في أصول الدين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 756 هـ .
الفتح المبين 2/173 والدرر الكامنة 2/322
(4) شرح العضد مع المختصر 2/309
(5) كشف الأسرار 4/133
والزركشي – رحمه الله تعالى – في قوله :" الشرط الثاني : قبول الأدلةِ التعارضَ في الظاهر " (1) ا.هـ .
والفتوحي – رحمه الله تعالى – في قوله :" وأمّا الترجيح : فهو تقوية إحدى الأمارتيْن على الأخرى لِدليل ، ولا يكون إلا مع وجود التعارض ، فحيث انتفى التعارض انتفى الترجيح ؛ لأنّه فرعه لا يقع إلا مرتّباً على وجوده " (2) ا.هـ .
وبناءً على ما تقدّم فقد أفردتُ الفصل الأول في هذا البحث لأصْل الترجيح وسببه – وهو التعارض – دونما تفصيل أو إسهاب ؛ حتى لا أخرج عن منهجية البحث ؛ نظراً لأنّ موضوعي هو ترجيحات الأخبار .(1/59)
ولِذَا فقد أخذتُ مِن التعارض زاد المسافر وما يدعم حُجّتي في وقوع التعارض بَيْن الأدلة الشرعية ، ومِن ثَمّ وجوب دفع هذا التعارض بمراحله التي سلّم الجميع بأنّ الترجيح واحد منها .
(1) البحر المحيط 6/132
(2) شرح الكوكب المنير 4/616
المطلب الرابع
العجز عن الترجيح
إذا تعارض دليلان عند المجتهد وعجز عن الترجيح ولَمْ يجد دليلاً مِن موضع آخَر : فهل يتخير بَيْنَهُمَا أو يتوقف أو يتساقطا ؟
لِلأصوليين في ذلك سبعة مذاهب :
المذهب الأول : التخيير بَيْنَهُمَا .
وهو ما عليه الجبائي وابنه هاشم رحمهما الله تعالى ، ومنقول عن القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله تعالى .
المذهب الثاني : تساقطهما ، ويطلب الحُكْم مِن موضع آخَر ، ويرجع إلى العموم أو البراءة الأصلية .
وهو قول ابن كج (1) رحمه الله تعالى ، ونُسِب إلى أهل الظاهر ، وأنكر ابن حزم – رحمه الله تعالى – هذه النسبة ، ونسبه الهندي – رحمه الله تعالى - إلى الفقهاء .
المذهب الثالث : الوقف .
حكاه الغزالي – رحمه الله تعالى – وغَيْره .
المذهب الرابع : الأخذ بالأغلظ .
حكاه الماوردي والروياني رحمهما الله تعالى .
(1) ابن كج : هو القاضي أبو القاسم يوسف بن أحمد بن يوسف بن كج الدينوري الشافعي رحمه الله تعالى ، مِن فقهاء الشافعية ، صحب أبا الحسين القطان ، وكان يُضْرَب به المَثَل في حفظه لِمذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ..
مِن مصنّفاته : التجريد .
تُوُفِّي – رحمه الله تعالى – مقتولاً على يد العيارين بالدينور سَنَة 405 هـ .
وفيات الأعيان 7/65 وشذرات الذهب 3/177 ، 178
المذهب الخامس : التخيير إنْ وقع في الواجبات ، والتساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية إنْ وقع بَيْن حُكْمَيْن متنافييْن .
أورده الغزالي والهندي والزركشي والشوكاني رحمهم الله تعالى .
المذهب السادس : تقليد عالِم أكبر منه ، ويصير كالعامِّيّ لِعجزه .
حكاه إمام الحرمين رحمه الله تعالى .(1/60)
المذهب السابع : أنّه كالحُكْم قَبْل ورود الشرع ، فتجيء فيه الأقوال المشهورة .
حكاه الكيا الطبري (1) رحمه الله تعالى (2) .
والراجح عندي : ما عليه المذهب الخامس مِن التخيير بَيْنَهُمَا إنْ وقع التعارض في الواجبات ، والتساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية إنْ وقع بَيْن حُكْمَيْن متنافييْن .
(1) الكيا الهراسي : هو أبو الحَسَن عماد الدين علِيّ بن محمد بن علِيّ الطبري الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مفسِّر مُحَدِّث ..
مِن مصنَّفاته : شفاء المسترشدين ، أحكام القرآن .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 504 هـ .
طبقات الشّافعيّة /231 وشذرات الذهب 4/8
(2) يُرَاجَع : المستصفى /364 – 367 والفائق 4/370 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/359 والبحر المحيط 6/115 ، 116 وإرشاد الفحول /275
الفصل الثاني
تعريف الترجيح وشروطه وحُكْمه
وتعريف الخبر وأقسامه
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : تعريف الترجيح وشروطه وحُكْمه .
المبحث الثاني : تعريف الخبر وأقسامه .
المبحث الأول
تعريف الترجيح وشروطه وحُكْمه
وفيه مطالب :
المطلب الأول : تعريف الترجيح .
المطلب الثاني : أركان الترجيح وشروطه .
المطلب الثالث : محلّ الترجيح .
المطلب الرابع : حُكْم الترجيح .
المطلب الخامس : تعارض وجوه الترجيح .
المطلب الأول
تعريف الترجيح
أوّلاً – تعريف الترجيح لغةً :
الترجيح لغةً : التمييل والتغليب ، مِن :" رجح الميزان يرجَح ويرجُح ويرجِح رجحاناً " أيْ مال ، و" أرجح الميزان " أثقله حتى مال ، و" رجح الشيء بيده " وزنه ونظر ما ثقله (1) .(1/61)
وفي ذلك يقول السرخسي رحمه الله تعالى :" الترجيح لغةً : إظهار فضل في أحد جانبَي المعادلة وصفاً لا أصلاً ، فيكون عبارةً عن مماثلة يتحقق بها التعارض ثُمّ يظهر في أحد الجانبيْن زيادة على وجه لا تقوم تلك الزيادة بنَفْسها ، ومنه الرجحان في الوزن ؛ فإنّه عبارة عن زيادة بَعْد ثبوت المعادلة بَيْن كفَّي الميزان " (2) ا.هـ .
ثانياً – تعريف الترجيح اصطلاحاً :
عرَّف الأصوليون الترجيحَ تعريفاتٍ عدّةً ، أذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : لِلفخر الرازي رحمه الله تعالى .
عرَّف الفخر الرازي – رحمه الله تعالى – الترجيح بأنّه : تقوية طريق على آخَر لِيعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخَر (3) .
وقد نَحَا هذا التعريف كوكبة مِن الأصوليين ، منهم :
تاج الدين الأرموي – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية
(1) يُرَاجَع : لسان العرب 2/445 والصحاح 1/364 وتهذيب الصحاح 1/176 وتاج العروس 2/141 والقاموس المحيط 1/229 وكشف الأسرار لِلبخاري 4/135
(2) أصول السرخسي 2/249
(3) المحصول 2/443 ، 444
إحدى الأمارتيْن على الأخرى ليعمل بالأقوى (1) .
والبيضاوي – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية إحدى الأمارتيْن على الأخرى لِيعمل بها (2) .
والأصفهاني – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية إحدى الأمارتيْن بما يترجح به على الأخرى فيعلم الأقوى لِيعمل به وتطرح الأخرى (3) .
والجاربردي – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية إحدى الأمارتيْن على الأخرى لأجْل العمل بالأمارة التي هي أقوى (4) .
وابن السبكي – رحمهما الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية أحد الطريقيْن (5) .
والزركشي – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية إحدى الأمارتيْن على الأخرى بما ليس ظاهراً (6) .
والإسنوي – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية إحدى الأمارتيْن على الأخرى لِيعمل بها (7) .(1/62)
والفتوحي – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية إحدى الأمارتيْن على الأخرى لِلدليل (8) .
والشنقيطي – رحمه الله تعالى – الذي عرَّفه بأنّه : تقوية أحد الدليليْن
(1) الحاصل 2/967
(2) المنهاج مع شرحه 2/787
(3) شرح المنهاج 2/787
(4) السراج الوهاج 2/1029
(5) جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/360 ، 361
(6) البحر المحيط 6/130
(7) نهاية السول 3/156
(8) شرح الكوكب المنير 4/616
المتعارضيْن (1) .
وقريب مِن هذا التعريف : تعريف إمام الحرمين رحمه الله تعالى ، وهو : تغليب بعض الأمارات على بعض في سبيل الظن (2) .
وكذا تعريف الطوفي رحمه الله تعالى ، وهو : تقديم أحد طريقَي الحُكْم لاختصاصه بقوة في الدلالة .
واختار ابن بدران (3) – رحمه الله تعالى – تعريف الطوفي لِلترجيح (4) .
مناقشة هذا التعريف :
وقد نوقش هذا التعريف مِن وجوه :
الوجه الأول : أنّه جعل التقوية جنساً لِلتعريف ، والتقوية فعل الشارع أو المجتهد حقيقةً أو ما به التقوية مَجازاً ، والترجيح اصطلاحاً ليس كذلك ، وإنما هو نَفْس ما به الترجيح ، ولِذَا كان بَيْن التعريف وجنسه تنافٍ .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة : بأنّه ليس المراد مِن التقوية فعل الشارع أو المجتهد حقيقةً ، وإنما المراد بها البيان وإظهار القوة في أحد الدليليْن .
مناقشة هذا الجواب :
وقد رُدّ هذا الجواب : بأنّا سلّمنا أنّ المراد بالتقوية هو البيان وإظهار
(1) مذكرة أصول الفقه /317
(2) البرهان 2/1142
(3) ابن بدران : هو عبد القادر بن أَحْمَد بن مصطفى بن بدران الدمشقي الحنبلي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ أديب مؤرِّخ ..
مِن مصنَّفاته : نزهة الخاطر ، المدخل في الأصول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 1346 هـ .
الأعلام 4/37 ومعجم المؤلفين 5283
(4) البلبل /186 وشرح مختصر الروضة 3/676 والمدخل /395(1/63)
القوة في أحد الدليليْن ، ولكنّ هذا ليس استعمالاً حقيقيّاً لِلتقوية ، وإنما هو استعمال مَجازيّ ، واستعمال المَجاز لا بُدّ فيه مِن قرينة معيِّنة لِلمراد ، وهي غَيْر متحققة هنا (1) .
الوجه الثاني : أنّه غَيْر مانع مِن قيام غَيْر المجتهد بالترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة ، وهو ليس أهلاً لِذلك ، وكيف لا يدخل المجتهد في التعريف وهو مِن أهمّ أركان الترجيح ؟! (2) .
الوجه الثالث ( لِلباحث ) : أنّه استعمل لفظ ( طريق ) وأراد به الدليل ، وهو استعمال مَجازيّ ؛ لأنّ الطريق يَعُمّ الدليل وغَيْره ، ومحلّ الترجيح هو الأدلة الشرعية ..
ولِذَا حاول البعض بل الكثرة ممن قالت بهذا التعريف أنْ يعبِّروا بـ( الأمارة ) بدلاً مِن ( طريق ) قاصدين بها الدليل الظني ، وهو تعبير أضيَق نطاقاً مِن التعبير الأول ( طريق ) ، لكنّه مع ذلك سيظلّ مستوعباً الدليل وغَيْرَه وليس صريحاً في الدليل ، ولِذَا كان التعريف غَيْر مانع .
الوجه الرابع ( لِلباحث ) : أنّه لَمْ يتعرض لأصْل الترجيح وسببه : وهو التعارض ، الأمر الذي يجعله غَيْر مانع مِن دخول الترجيح بَيْن غَيْر المتعارضيْن .
وهروباً مِن الوجْهيْن : الأول والرابع مِن مناقشة هذا التعريف عرَّف الصفي الهندي – رحمه الله تعالى – الترجيح بأنّه : شيء يَحصل به تقوية أحد الطريقيْن المتعارضيْن على الآخَر فيعلم أو يظن الأقوى فيعمل به (3) .
ولكنّ هذا التعريف – مع سلامته مِن الوجْهيْن المذْكوريْن – لَمْ يَسْلَمْ
(1) يُرَاجَع : التعارض والترجيح عند الأصوليين /280 ، 281 والفائق 4/386 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 1/81 ، 82
(2) يُرَاجَع : التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 1/80 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /279 ، 280
(3) الفائق 4/388
مِن الوجْهيْن الآخَرين : الثاني والثالث .(1/64)
وقريب مِن تعريف الصفي الهندي – رحمه الله تعالى - تعريف التفتازاني رحمه الله تعالى ، وهو : بيان الرجحان أي القوة التي لأحد المتعارضيْن على الآخَر (1) .
التعريف الثاني : لِلبزدوي رحمه الله تعالى .
عرَّف البزدوي – رحمه الله تعالى – الترجيح بأنّه : فضْل أحد المِثْلَيْن على الآخَر وصفاً (2) .
واختاره الخبازي (3) والنسفي (4) والكراماستي (5) رحمهم الله تعالى (6) .
مناقشة هذا التعريف :
ويمكن مناقشة هذا التعريف مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ وجود الفضل في أحد المِثْلَيْن ليس كافياً لِلترجيح ، وإنما
(1) التلويح 2/216
(2) أصول البزدوي مع كشف الأسرار 4/133
(3) الخبّازي : هو جلال الدين أبو محمد عُمَر بن محمد بن عُمَر الخبّازي الخجندي الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، وُلِد سَنَة 629 هـ ..
مِن مصنَّفاته : شَرْح الهداية في الفقه ، المُغْنِي في أصول الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 691 هـ ، وقيل : سَنَة 671 هـ .
شذرات الذهب 5/419 والجواهر المضيَّة 1/398 والفتح المبين 2/82
(4) النسفي : هو أبو البركات حافظ الدين عبد الله بن أَحْمَد بن محمود النسفي رحمه الله تعالى ، الفقيه الحنفي الأصولي ..
مِن مصنَّفاته : تفسير النسفي ، منار الأنوار .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 710 هـ ببلدته أيذج ، وبها دُفِن .
الفتح المبين 2/112
(5) الكراماستي : هو يوسف بن حسين الكراماستي الرومي الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ متكلم ، تولى القضاء والتدريس ، وكان ناصراً لِلسُّنَّة محمود السيرة ..
مِن مصنَّفاته : الوجيز ، زبدة الوصول ، البيان في شرح التبيان ، شرح الهداية .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقسطنطينيّة سَنَة 899 هـ .
الفوائد البهيّة /227 وشذرات الذهب 7/365 والفتح المبين 3/58
(6) المغني /327 والمنار مع جامع الأسرار 4/1121 والوجيز لِلكراماستي /198(1/65)
لا بُدّ مِن مجتهد يكشف عن هذا الفضل في أحد الدليليْن لِيقدِّمه على الدليل الآخَر .
الوجه الثاني : أنّه يَعُمّ كُلّ مِثْلَيْن ، فيشمل الأدلة الشرعية وغَيْرها ، والترجيح لا يكون إلا بَيْن الأدلة الشرعية المتعارضة ، ولِذَا كان التعريف غَيْر مانع .
وهروباً مِن الوجه الثاني مِن المناقشة عرَّف السمرقندي – رحمه الله تعالى – الترجيح بـ: أنْ يكون لأحد الدليليْن زيادة قوة مع قيام التعارض ظاهراً (1) .
لكنّ هذا التعريف وإنْ سلم مِن الوجه الثاني مِن المناقشة فإنّه لَمْ يَسْلَمْ مِن الوجه الأول منها .
وقد حاول البخاري – رحمه الله تعالى – أنْ يقيد التعريف بقيود تسلمه مما نوقشت به هذه التعريفات ، فعرَّفه بأنّه : إظهار قوة لأحد الدليليْن المتعارضيْن لو انفردت عنه لا تكون حُجَّةً معارضة ..
وقال : ما عرَّفه البزدوي هو معنى الرجحان لا معنى الترجيح (2) .
ونحوه تعريف بعض الحنفية ، وهو : إظهار الزيادة لأحد المتماثليْن على الآخَر بما لا يستقلّ (3) .
لكنّ كليهما غَيْر مانع مِن ترجيح غَيْر المجتهد لِلأدلة حينما نَصَّا على الإظهار ولَمْ يَنُصَّا على المُظْهِر وهو المجتهد .
التعريف الثالث : لابن مفلح (4) رحمه الله تعالى .
(1) ميزان الأصول /730
(2) كشف الأسرار لِلبخاري 4/133 ، 134
(3) التحرير مع التيسير 3/153 ومسلّم الثبوت 2/204
(4) ابن مفلح : هو شَمْس الدِّين أبو عَبْد الله مُحَمَّد بن مفلح بن مُحَمَّد بن مفرج المَقْدِسي الحَنْبَلِي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، وُلِد بِبَيْت المَقْدِس سَنَة 708 هـ .
مِن مصنَّفاته : الفروع ، أصول الفقه ، الآداب الشَّرعيّة . =
عرَّف ابن مفلح – رحمه الله تعالى – الترجيح بأنّه : اقتران الأمارة بما تقوى به على مُعارِضها (1) .
ونَحْوه تعريف الآمدي رحمه الله تعالى ، وهو : اقتران أحد الصالحيْن لِلدلالة على المطلوب مع تَعارُضهما بما يوجِب العمل به وإهمال الآخَر (2) .(1/66)
مناقشة هذا التعريف :
وقد نوقش هذا التعريف مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ جنس التعريف – وهو ( اقتران ) – صفة لِلأدلة ، وهو في ذاته ليس كافياً لِلترجيح ، بل لا بُدّ مِن وجود مَن يميز هذا الاقتران لِيرجِّح بسببه بعض الأدلة على بعض .
الوجه الثاني : أنّ إيجاب العمل بالراجح لا يتحقق ما لَمْ يُعرَف كونه مُرَجّحاً ، وهو دور ، فلا يُقْبَل (3) .
الوجه الثالث ( لِلباحث ) : أنّه غَيْر مانع مِن دخول غَيْر الأدلة في الترجيح ومقصودنا هو الترجيح بَيْن الأدلة الشرعية ، والأمارة والصالح لِلدلالة على المطلوب ليس صريحاً في ذلك ؛ لأنّه يشمل الأدلة الشرعية وغيرها .
التعريف الراجح :
على ضوء ما تقدَّم مِن الوقوف على تعريفات الترجيح عند بعض الأصوليين – والتي لَمْ تسلَم جميعها مِن الاعتراض والمناقشة – أرى أنّ الأَوْلَى أنْ يُعَرَّف الترجيح بأنّه : تقديم المجتهد أحد الدليليْن المتعارضيْن لاختصاصه بقوة الدلالة .
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 763 هـ .
الدُّرَر الكامنة 4/26 وشذرات الذَّهَب 6/199 والفتح المُبِين 2/189
(1) شرح الكوكب المنير 4/616 والمختصر مع بيان المختصر 3/371
(2) الإحكام 4/245
(3) يُرَاجَع الفائق 4/387
شرح التعريف :
( تقديم ) : كالجنس في التعريف ، تشمل الترجيح وغَيْره ، كما يشمل تقديم المجتهد وغَيْر المجتهد .
( المجتهد ) : قيد أول ، خرج به تقديم غَيْر المجتهد وترجيحه ؛ فلا يُقْبَل لأنّه ليس أهلاً لِذلك .
( أحد الدليليْن ) : قيد ثانٍ ، خرج به تقديم الدليليْن جميعاً ؛ فليس ترجيحاً .
( المتعارضيْن ) : قيد ثالث ، خرج به تقديم أحد الدليليْن غَيْر المتعارضيْن ؛ فإنّ الترجيح لا يقع بَيْنَهُمَا ؛ لأنّ التعارض أصْل لِلترجيح .
( لاختصاصه بقوة الدلالة ) : قيد رابع ، قصد به بيان سبب ترجيح أحد الدليليْن المتعارضيْن ، وهو وجود هذه الصفة أو الميزة ، فإذا انعدمت انعدم الترجيح بانعدامها .(1/67)
المطلب الثاني
أركان الترجيح وشروطه
أوّلاً – أركان الترجيح :
بَعْد أنْ وقفنا فيما تقدَّم على تعريف الترجيح عند الأصوليين فإنه يمكن على ضوء التعريف الراجح استخراج أركان الترجيح التي لا بُدّ مِن وجودها لِتحققه ، ولا يتمّ الترجيح بتخلف واحد منها ..
فالترجيح لا بُدّ فيه مِن طرفيْن مرجَّح بَيْنَهُمَا ، وهُمَا : الراجح والمرجوح ، أي الدليلان المتعارضان .
ويلزم - كذلك – قائم بعملية الترجيح : وهو المرجِّح .
ثُمّ لا بُدّ مِن اختصاص أحد الدليليْن بقوة ليست في الدليل الآخَر .
ولِذَا فإنّ أركان الترجيح – عندي – محصورة في ثلاثة :
الركن الأول : مرجَّح بَيْنَهُمَا ( الراجح والمرجوح ) .
الركن الثاني : مرجَّح به ، وهو ما اختص به أحد الدليليْن مِن قوة .
الركن الثالث : مرجِّح ، وهو المجتهد .
أمّا اعتبار الترجيح ركناً رابعاً كما ذهب البعض (1) : ففي النَّفْس منه شيء ؛ لأنّ المرجِّح – وهو المجتهد – لا يُعتبَر ركناً في الترجيح إلا إذا رجَّح بَيْن الدليليْن المتعارضيْن .
ثانياً – شروط الترجيح :
لقد اشترط الأصوليون شروطاً لِلترجيح ، حصرتُها – مما وقفتُ عليه
(1) يُرَاجَع التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/123 ، 124
منها – فيما يلي :
الشرط الأول : أنْ يكون بَيْن الأدلة .
مما لا شكّ فيه أنّ الترجيح يجري بَيْن الأدلة ، ولكن محلّ النزاع بَيْن الأصوليين هو جريانه في الدعاوى والمذاهب .
وذكر الزركشي – رحمه الله – أنّ الدعاوى لا يدخلها الترجيح ، وانبنى عليه أنّه لا يجري في المذاهب ؛ لأنّها دعاوى محضة تحتاج إلى دليل .
ورجَّح رحمه الله تعالى دخول المذاهب في الترجيح باعتبار أصولها ونوادرها وبيانها ؛ فإنّ بعضها قد يكون أرجح مِن بعض ، ولِذلك جرى الترجيح في البينات .
كما اختلفوا في جريان الترجيح في العقائد (1) .
الشرط الثاني : تحقق التعارض بَيْن الأدلة .(1/68)
لا يكفي في الترجيح وجود الأدلة ، بل لا بُدّ مِن تقابلها وتعارضها ، وينبني على ذلك أنّه لا ترجيح بَيْن الأدلة غَيْر المتعارضة أو المتماثلة ، وكذلك لا ترجيح بَيْن القطعيات ؛ لأنّها تفيد علماً يقيناً ، ولا بَيْن قطعيّ وظنِّيّ ؛ لأنّ القطعي أقوى مِن الظني .
الشرط الثالث : أنْ يقوم دليل على الترجيح .
وهذا شرط على طريقة كثير مِن الأصوليين ، لكن الفقهاء يخالفونهم فيه ؛ لأنّهم اشترطوا عدم إمكان العمل بِكُلّ واحد مِن الدليليْن المتعارضيْن فإنْ أمكن العمل بواحد منهما امتنع الترجيح .
وكذلك يمتنع الترجيح إذا عملنا بِكُلّ واحد مِن الدليليْن جمعاً بَيْنَهُمَا ، ولا شك أنّ الإعمال أَوْلَى مِن الترك والتعطيل (2) .
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/131 ، 132 والمسودة /309 والمدخل /395 ، وسيأتي تفصيل القول في ذلك – بإذن الله تعالى – في المطلب التالي ( محلّ الترجيح ) .
(2) يُرَاجَع التعارض والترجيح عند الأصوليين /297
الشرط الرابع : وجود مزية في الدليل الراجح ( المرجَّح به ) .
هذه المزية هي التي بها يقدَّم أحد الدليليْن المتعارضيْن على الآخَر فتثقل كفَّته ، ويصبح مَن تحققت فيه دليلاً راجحاً والثاني مرجوحاً .
والأصوليون مع اتفاقهم على اشتراط هذه المزية في الدليل الراجح وكون المرجَّح به وصفاً تابعاً لكنهم اختلفوا في كون المرجَّح به دليلاً مستقلاًّ عن المرجَّح على مذْهبيْن :
المذهب الأول : لِجمهور الأصوليين والمحدِّثين .
وهؤلاء يرون جواز كون المرجَّح به وصفاً تابعاً كالترجيح لِلدليل المرجّح بقوة السند وأحوال الرواة ونحو ذلك ، كما يجوز عندهم كونه دليلاً مستقلاًّ يصلح لإثبات الحُكْم لولا التعارض ، فالمستقلّ – عندهم – أقوى مِن الوصف ، ولِذَا فهو أَوْلَى بالترجيح .
المذهب الثاني : لِلحنفية .(1/69)
ويرون عدم جواز كون المرجَّح به دليلاً مستقلاًّ ، واشترطوا في المرجَّح به أنْ يكون وصفاً تابعاً لِلدليل المرجّح غَيْر مستقلّ بنَفْسه : كالتواتر في المتواتر المرجَّح على خبر الواحد ؛ لأنّ الرجحان وصف ، والمستقلّ ليس وصفاً (1) .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور ؛ لأنّ المستقلّ أقوى مِن الوصف ، ولِذَا كان جديراً بذاته بالترجيح .
الشرط الخامس : أنْ لا يمكن العمل بِكُلّ واحد منهما .
فإنْ أمكن العمل بِكُلّ واحد منهما ولو مِن وجْه كان العمل به أَوْلَى مِن الترجيح الذي فيه تقديم الراجح على المرجوح وفيه ترْك لِلدليل الثاني ،
(1) يُرَاجَع : تعارض الأدلة الشرعية /70 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/135 وأصول السرخسي 2/249 والتوضيح والتنقيح مع التلويح 2/214 – 216 وأصول البزدوي 2/135 وتيسير التحرير 3/137 - 154 والتقرير التحبير 3/4
والإعمال أَوْلَى مِن الإهمال .
الشرط السادس : أنْ لا يعلم تأخر أحدهما .
فإنْ علِم تاريخ كُلّ مِن الدليليْن المتعارضيْن وكان أحدهما متقدماً والآخَر متأخراً كان المتقدم منسوخاً والمتأخر ناسخاً ، ولا تَعارُض بَيْنَهُمَا حينئذٍ .
الشرط السابع : أنْ يتساوى الدليلان في الثبوت .
ومِن ثَمّ فلا ترجيح بَيْن الكتاب وخبر الواحد ؛ لأنّه لا تَعارُض بَيْنَهُمَا .
الشرط الثامن : التساوي في القوة .
فلا ترجيح بَيْن السُّنَّة المتواترة وسُنَّة الآحاد ؛ لأنّ السُّنَّة المتواترة تقدَّم اتفاقاً .
الشرط التاسع : اتفاق الدليليْن المتعارضيْن في الحُكْم مع اتحاد الوقت والمحلّ والجهة .
فلا تَعارُض بَيْن النهي عن البيع – مثلاً – في وقْت النداء مع الإذن به في غيره ، وإذا انتفى التعارض فكذلك الترجيح مِن باب أَوْلَى ؛ لأنّه مبنيّ عليه (1) .(1/70)
(1) يُرَاجَع شروط الترجيح في : البحر المحيط 6/131 – 137 وإرشاد الفحول /273 وأدلة التشريع المتعارضة /70 ، 71 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /296 ، 297 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/128 - 135
المطلب الثالث
محلّ الترجيح
إنّ محلّ الترجيح أو مورده أو ما يجري فيه مرتبط – فيما أرى – بأصل الترجيح وسببه : وهو التعارض ..
وقد رأينا فيما تقدَّم – في جواز تعارُض الأدلة الشرعية – كيف أنّ الأصوليين اختلفوا في ذلك ..
فمنهم مَن منع تعارُضها مطلقاً .
ومنهم مَن أجاز تعارُضها مطلقاً .
والكثرة منهم فرَّقوا بَيْن الأدلة بحسب قوّتها : فمنعوا تعارض الدليليْن القطْعيّيْن ، وكذا الدليل القطعي مع الدليل الظني ، وحصروا التعارض بَيْن الأمارتيْن أو الدليليْن الظنييْن .
وإذا كان محلّ التعارض عند الكثرة مِن الأصوليين هو الدليليْن الظنييْن كان محلّ الترجيح هو الأدلة الظنية .
وفي ذلك يقول الغزالي رحمه الله تعالى :" اعلم أنّ الترجيح إنما يجري بَيْن ظنَّيْن ؛ لأنّ الظنون تتفاوت في القوة ، ولا يُتصور ذلك في معْلوميْن ؛ إذ ليس بعض العلوم أقوى وأغلب مِن بعض " (1) ا.هـ .
لكنّ الأصوليين اختلفوا في وقوع الترجيح في أمور ، منها :
1- القطعيات .
2- العقليات .
3- المذاهب .
4- الشهادة .
(1) المستصفى /375
ونفصل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..
1- الترجيح في القطعيات :
اختلف الأصوليون في الترجيح في الأدلة القطعية – تبعاً لاختلافهم في تعارضها – على مذْهبيْن :
المذهب الأول : عدم جواز الترجيح في القطعيات .
وهو ما عليه الكثرة مِن الأصوليين ، واختاره إمام الحرمين والغزالي والبيضاوي وابن الحاجب والآمدي والصفي الهندي وابن السبكي والزركشي والطوفي رحمهم الله تعالى (1) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، منها :(1/71)
الدليل الأول : أنّ الترجيح لا بُدّ وأنْ يكون موجِباً لِتقوية أحد الطريقيْن المتعارضيْن على الآخَر ، والمعلوم المقطوع به غَيْر قابل لِلزيادة والنقصان ، وإذا كان كذلك فلا يُطلب فيه الترجيح (2) .
الدليل الثاني : أنّ الترجيح إنما هو فرع لِلتعارض ، ولا يتطرق إلى الدليل إلا بَعْد تحقُّق التعارض ، والتعارض غَيْر واقع بَيْن الأدلة القطعية ، فكذلك الترجيح بَيْنَهَا (3) .
الدليل الثالث : أنّ الترجيح إنما يكون بَيْن متعارضيْن ، وهو غَيْر متصور في القطعي ؛ لأنّه إمّا أنْ يعارضه قطعيّ أو يعارضه ظنِّيّ ، وهو محال ..
أمّا معارضة القطعي لِلقطعي : فيلزم منها إمّا العمل بهما ، وهو جمْع
(1) يُرَاجَع : البرهان 2/1143 ، 1144 والمستصفى /375 والمنخول /427 ونفائس الأصول 8/3672 والمنهاج مع شرحه 2/788 والمختصر مع بيانه 3/371 ، 373 والإحكام لِلآمدي 4/247 والفائق 4/392 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/361 والبحر المحيط 6/132 والبلبل /187 ونهاية السول 3/156 ومناهج العقول 3/156 والإبهاج /224 والسراج الوهاج 2/1031 والحاصل 2/969 وتيسير الوصول 6/192
(2) الإحكام لِلآمدي 4/247 بتصرف .
(3) يُرَاجَع : الفائق 4/392 والمدخل /396 وإرشاد الفحول /274
بَيْن النقيضيْن في الإثبات ، أو امتناع العمل بهما ، وهو جمْع بَيْن النقيضيْن في النفي ، أو العمل بأحدهما دون الآخَر ، وهو ترجيح بلا مرجِّح .
وأمّا معارضة القطعي لِلظني : فلامتناع ترجُّح الظني على القطعي ، وامتناع طلب الترجيح في القطعي ، كيف وأنّ الدليل القطعي لا يكون في مقابلته دليل صحيح ؟! فلَمْ يبقَ سوى الطرق الظنية (1) .
المذهب الثاني : جواز الترجيح بَيْن الأدلة القطعية .
وهو ما عليه بعض الحنفية .(1/72)
واحتجّوا لِذلك : بأنّ التعارض حقيقةً ليس واقعاً في أدلة الشرع قطعيّةً كانت أم ظنِّيَّةً ، وإنما هو تعارُض ظاهريّ أو في ذهن المجتهد ، ولِذَا فإنّه يجوز تعارُض الأدلة القطعية كما جاز تعارض الأدلة الظنية ، وإذا جاز تعارُض الأدلة القطعية جاز الترجيح بَيْنَهَا (2) .
والراجح عندي : أنّنا إنْ نظرنا إلى التعارض الحقيقي في نصوص الشرع فلا تعارُض بَيْنَهَا قطعيّةً كانت أم ظنِّيّةً ، وإنْ نظرنا إلى الظاهر أو إلى ما يقع في ذهن المجتهد فإنّ الأدلة القطعية تستوي في ذلك مع الأدلة الظنية ، لكنْ لا يلزم مِن وجود التعارض وقوع الترجيح ؛ لأنّ الترجيح مرحلة ثالثة لِرفع التعارض بَعْد النسخ وإمكان الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن ، والتعارض الواقع بَيْن القطعيات غالباً ما يُدفَع بواحدة مِن المرْحلتيْن ..
وفي ذلك يقول الشيخ المطيعي (3) رحمه الله تعالى :" فتبيَّن بهذا أنّ
(1) الإحكام لِلآمدي 4/247 ، 248 بتصرف وشرح المنهاج 2/788 ، 789
(2) يُرَاجَع : التحرير مع التيسير 3/153 ومسلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/189
(3) المطيعي : هو الشيخ محمد بخيت بن حسين المطيعي المصري الحنفي رحمه الله تعالى ، وُلِد بمطيعة مِن أعمال أسيوط سَنَة 1271 هـ ، وتعلَّم بالأزهر ، وعمل بالقضاء الشرعي ، وعُيِّن مفتياً لِلديار المصرية ( 1333 – 1339 هـ ) ..
مِن مصنَّفاته : البدر الساطع ، القول المفيد في عِلْم التجويد ، نهاية السول ، سلم الوصول . =
الصحيح مِن مذهب الشافعية موافق لِمَا عليه الحنفية ، وأنّ القول بـ" الفَرْق بَيْن القطعي فلا يجوز وبين الظني فيجوز " خلاف الصحيح " (1) ا.هـ .
ويقول :" وأنّ الحقّ أنْ لا تَعارُض في الواقع ونَفْس الأمر ، لا فَرْق في ذلك بَيْن القطعي والظني ، وأنّهما يتعارضان في ظنّ المجتهد ؛ بناءً على ما قدّمناه مِن جهل التاريخ ونَحْوه ، وهذا لا فَرْق فيه بَيْن القطعي والظني أيضاً " (2) ا.هـ .(1/73)
الترجيح بَيْن القطعي والظني :
والترجيح بَيْن الدليل القطعي والدليل الظني يجري فيه الخلاف السابق فعند غَيْر الحنفية لا ترجيح بَيْنَهُمَا ؛ لأنّ التعارض لا يقع بَيْنَهُمَا ، وإنما يقدَّم الدليل القطعي على الظني ؛ لِقوّته .
وفي ذلك يقول الأصفهاني رحمه الله تعالى :" ولا تعارُض – أيضاً – بَيْن قطعيّ وظنِّيّ ؛ لانتفاء الظن بأحد الطرفيْن عند القطع بالطرف الآخَر ، بل التعارض إنما يقع بَيْن الظنيْن " (3) ا.هـ .
الترجيح بَيْن علّتيْن قطعيتيْن :
قاس الغزالي الترجيح بَيْن علّتيْن قطعيتيْن على الترجيح بَيْن نصّيْن قطْعيّيْن ؛ فكما أنّه لا يجوز الترجيح بَيْن النصيْن القطعييْن فكذلك لا يجوز بَيْن العلتيْن القطعيتيْن ..
وفي ذلك يقول رحمه الله تعالى :" وكما لا يجوز التعارض والترجيح بَيْن نصَّيْن قاطعيْن فكذلك في علتيْن قاطعتيْن ؛ فلا يجوز أنْ ينصب الله تعالى علّةً قاطعةً لِلتحريم في موضع وعلّةً قاطعةً لِلتحليل في موضع
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 1354 هـ .
الفتح المبين 3/181 – 187 والأعلام 6/274
(1) سلم الوصول 4/434
(2) سلم الوصول 4/435
(3) شرح المنهاج 2/789
وتدور بَيْنَهُمَا مسألة توجد فيها العلتان ونتعبد بالقياس ؛ لأنّه يؤدي إلى أنْ يجتمع قاطِع على التحريم وقاطِع على التحليل في فرع واحد في حقّ مجتهد واحد ، وهو محال " (1) ا.هـ .
وذهب بعض الحنابلة إلى أنّه لا يصحّ الترجيح بَيْن العلّتيْن إلا أنْ تكون كُلّ واحدة منهما طريقاً لِلحُكْم لو انفردت ؛ لأنّه لا يصحّ ترجيح طريق على ما ليس بطريق .
وفي " المسودة " أنّ الترجيح يقع بَيْن العلّتيْن إذا أمكن كوْنه طريقاً قَبْل ثبوت كونه طريقاً ، أمّا مع العلم بفساده فلا (2) .
2- الترجيح في العقليّات :
اختلف الأصوليون في جواز الترجيح في العقليات على مذاهب :
المذهب الأول : عدم جواز الترجيح في العقليات .(1/74)
وهو المشهور ، ونقله إمام الحرمين – رحمه الله - عن إطلاق الأئمة وحكاه الغزالي – رحمه الله تعالى – في " المنخول " عن الأستاذ (3) ، وقال : هذا إشارة منه إلى أنّها معارف ، ولا ترجيح في المعارف .
المذهب الثاني : جواز الترجيح في العقليات .
وهو اختيار الغزالي رحمه الله تعالى ؛ لأنّ العقائد عنده ليست علوماً ، والثقة بها مختلفة (4) .
(1) المستصفى /375
(2) يُرَاجَع : المسودة /383 وشرح الكوكب المنير 4/625
(3) أبو إسحاق الاسفراييني : هو ركْن الدين إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الاسفراييني رحمه الله تعالى ، الفقيه الشافعي ، وُلِد باسفرايين .
مِن مصنَّفاته : الجامع في أصول الدِّين والرَّدّ على المُلحِدين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بنيسابور سَنَة 418 هـ .
طبقات الفقهاء الشّافعيّة 1/312 - 314 والفتح المبين 1/240 ، 241
(4) يُرَاجَع : البرهان 2/1144 والمنخول /427 والإبهاج 3/224 وشرح تنقيح الفصول /420 والبحر المحيط 6/132 ، 133 والحاصل 2/969
المذهب الثالث : عدم جواز الترجيح في القطعي مِن العقليات .
وهو اختيار إمام الحرمين والفخر الرازي وتاج الدين الأرموي والصفي الهندي رحمهم الله تعالى (1) .
وفي ذلك يقول إمام الحرمين رحمه الله تعالى :" أطلق الأئمة القول بأنّ المعقولات لا ترجيح فيها ، وهذا سديد لا ننكره ، ولكنّا أوضحنا في الديانات أنّ العوامّ لا يكلَّفون بلوغَ الغايات ودَرْكَ حقائق العلوم في المعتقدات ، وإنما يكلَّفون تحصيل عقد متعلق بالمعتقد على ما هو به ... ، وإذا كان كذلك فالترجيحات عندهم في قواعد العقائد قد تجرى ؛ فإنّ عقودهم ليست علوماً ، ومأخذها كمأخذ الظنون في حقّ مَن يعلم أنّه ظانّ " (2) ا.هـ .(1/75)
ويقول الصفي الهندي رحمه الله تعالى :" المشهور أنّ العقليات لا يتطرق الترجيح إليها ، وهو غَيْر جارٍ على إطلاقه ؛ فإنّه يجري في الظني والتقليدي إنّ جُوِّز ذلك فيه ... ، نعم القطعي منها لا يقبل ، لكنه غَيْر مختصّ بها " (3) ا.هـ .
ويقول الأرموي رحمه الله تعالى :" لا ترجيح في العقليات ، وفيه تفصيل ؛ لأنّه إنْ أريد بالعقليات ( اليقينيات ) فكذلك ، وإن أريد به ما يعمّ التقليد فليس كذلك " (4) ا.هـ .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الثالث ؛ لأنّه جمع بَيْن المذْهبيْن المتقدميْن ؛ لأنّ الأول نفى الترجيح فيها مطلقاً ، والثاني جوَّزه مطلقاً ، أمّا الثالث فكان وسطاً بَيْنَهُمَا حينما نفاه في القطعيات وجوَّزه في غَيْرها ، ولأنّ العامة مكلَّفون بالاعتقاد لا بالعلم .
(1) يُرَاجَع : البرهان 2/1144 والمحصول 5/534 والحاصل 2/969 والفائق 4/393
(2) البرهان 2/1144 بتصرف .
(3) الفائق 4/393 بتصرف .
(4) الحاصل 2/969
3- الترجيح في المذاهب :
اختلف الأصوليون في جواز الترجيح في المذاهب الفقهية على مذْهبيْن :
المذهب الأول : عدم جواز الترجيح في المذاهب .
نقله إمام الحرمين – رحمه الله تعالى – عن الأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - ، واختاره الغزالي - رحمه الله تعالى - وبعض الحنابلة (1) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ المذاهب بَعْد استقرارها أصبح تعويل الناس عليها في طلب الأحكام حتى صارت كالشرائع والمِلَل المختلفة ، وحيث إنّ الترجيح لا يجري في الشرائع فكذلك المذاهب .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أنّ تعويل الناس على المذاهب في طلب الأحكام لا يُخْرِجها عن كوْنها ظنِّيّةً ، والظنيات تَقبل الترجيح .
الوجه الثاني : أنّا لا نسلِّم أنّ المذاهب صارت كالشرائع والمِلَل المختلفة حتى تأخذ حُكْمَهَا في عدم جريان الترجيح فيها .(1/76)
الوجه الثالث : سلَّمْنَا جدلاً أنّها صارت كالشرائع ، لكنْ لا نسلِّم أنّ الشرائع لا تَقبل الترجيح ؛ باعتبار ما اشتملت عليه مِن المصالح والمحاسن وإنْ كان طريق جميعها قاطعاً .
الدليل الثاني : أنّ الترجيح لو كان جارياً في المذاهب لاضطرب الناس ولَمَا استقر أحد على مذهب ، فلِذلك لَمْ يكن لِلترجيح فيه مدخل كالبينات .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ اللازم منه مستلزِم ، وكُلّ مَن ظهر له
(1) يُرَاجَع : البرهان 2/1145 والمنخول /427 والمسودة /309 وشرح مختصر الروضة 3/679
رجحان مذهب وجب عليه الدخول فيه ، كما يجب على المجتهدِ الأخذُ بأرجح الدليليْن .
الدليل الثالث : أنّ كُلّ مذهب مِن المذاهب قد يصيب في بعض المسائل ويخطئ في بعضها ، ولِذَا فالمذهبان لا يَقبلان الترجيح ؛ لأنّه قد يفضي إلى الترجيح بَيْن الخطأ والصواب في بعض الصور أو بَيْن خطأيْن أو صوابيْن ، والترجيح لا يدخل فيه الخطأ اتفاقاً ، فدلّ ذلك على عدم جواز الترجيح في المذاهب (1) .
المذهب الثاني : جواز الترجيح في المذاهب .
هذا المذهب نسبه الفتوحي إلى القاضي عبد الجبار (2) رحمهما الله تعالى ، وأورده المجد بن تيمية (3) والزركشي – رحمهما الله تعالى – لِلقاضي عبد الجبار عن بعض أصحابهم ( المعتزلة ) ، واختاره إمام الحرمين – رحمه الله تعالى – وليس على إطلاقه ، وإنما استثناءً مِن المذهب السابق ، واختاره الزركشي – رحمه الله تعالى – أيضاً (4) .
(1) شرح الكوكب المنير 4/622 – 624 بتصرف .
(2) القاضي عبد الجبار : هو أبو الحَسَن عبد الجبار بن أَحْمَد الهمداني رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مُتَكَلِّم معتزليّ ، وُلِد سَنَة 359 هـ ..
مِن تصانيفه : تفسير القرآن ، طبقات المعتزلة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالرّيّ سَنَة 415 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 11/54 ومعجم المؤلِّفين 5/78(1/77)
(3) المجد بن تيمية : هو أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحرّاني الحنبلي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، وُلِد سَنَة 590 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الأحكام الكبرى ، منتهى الغاية شرْح الهداية ، أرجوزة في عِلْم القراءات ، المسوَّدة ( وقد زاد فيها ولده عبد الحليم ، وحفيده أحمد ) .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بحران سَنَة 652 هـ .
شذرات الذهب 2/257 والفتح المبين 2/70 ، 71 ، 86 ، 134
(4) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/622 وشرح مختصر الروضة 3/683 ، 684 والمسودة /309 والبرهان 2/1145 والبحر المحيط 6/131
واحتجّ أصحاب هذا المذهب : بأنّ المذاهب آراء وأحكام مستندة إلى الأدلة الشرعية ، ولِذَا فإنّها تتفاوت في القوة والضعف تبعاً لِقوة الدليل وضَعْفه ، وإذا جاز الترجيح بَيْن الأدلة الشرعية جاز كذلك الترجيح بَيْن ما بُنِي عليها وأُخِذ منها : وهي أحكام المذاهب .
مناقشة هذا الدليل ( لِلباحث ) :
ويمكن مناقشة هذا الدليل : بأنّ هناك فَرْقاً بَيْن الترجيح بَيْن الأحكام المذهبية والترجيح بَيْن المذاهب الفقهية ..
أمّا الأولى ( وهي ما بُنِي عليه دليلكم ) : فإنّ الترجيح فيها جائز ؛ لأنّنا في الحقيقة لا نرجِّح بَيْن المذاهب ، وإنما بَيْن أحكام في المذاهب .
وأمّا الثانية ( وهي الترجيح بَيْن المذاهب ) : فهي التي يجب التوقف فيها ، ومنعها الأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - في المذهب الأول .
والأَوْلَى عندي : أنْ نفرِّق بَيْن الترجيح بَيْن المذاهب وبَيْن الترجيح بَيْن أحكام المذاهب ..
أمّا الأول : فلا يجوز ؛ لأنّه يفتح باب العصبية كما رأيْنَا مِن ترجيح مذهب إمام الحرمين الجويني – رحمه الله تعالى – مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - على غَيْره (1) .
وأمّا الثاني : فهو الأَوْلَى بمحلّ النزاع ، والأَوْلَى كذلك عندي بجواز الترجيح .(1/78)
وهذا المعنى الذي ذهبتُ إليه يُعَدّ جمعاً بَيْن المذْهبيْن أخذتُه وبنيتُه على كلام الفتوحي رحمه الله تعالى :" وهذا الوجه يشير قائله فيه إلى أنّ النزاع لفظيّ ، وهو أنّ مَن نفى الترجيح فإنما أراد لا يصحّ ترجيح مجموع مذهب على مذهب آخَر ؛ لِمَا ذُكِر ، ومَن أثبت الترجيح بَيْنَهُمَا أثبته باعتبار
(1) يُرَاجَع البرهان 2/1146 - 1156
مسائلها الجزئية ، وهو صحيح ؛ إذ يصحّ أنْ يقال : مذهب مالك (1) في أنّ الماء المستعمَل في رفع الحدث طهور أَرْجَح مِن مذهب الشافعي وأحمد في أنه غَيْر طهور ، وكذا في غَيْرها مِن المسائل " (2) ا.هـ .
4- الترجيح في الشهادة :
اختلف الأصوليون في جريان الترجيح في الشهادة على مذْهبيْن :
المذهب الأول : عدم جواز الترجيح في الشهادة .
وهو اختيار الغزالي والفتوحي وابن عبد الشكور رحمهم الله تعالى (3) .
وفي ذلك يقول الأول رحمه الله تعالى :" أهْل الإجماع لَمْ يرجِّحوا في الشهادة ، وقد رجَّحوا في الرواية ، وسببه : أنّ باب الشهادة مبنيّ على التعبد ، حتى لو أتى عشرة بلفظ الأخبار دون الشهادة لَمْ تُقبَل شهادة مائة امرأة ولا مائة عبْد على باقة بقل " (4) ا.هـ .
المذهب الثاني : جواز الترجيح في الشهادة .
وهو منسوب إلى الإمام مالك - رضي الله عنه - ، واختاره الآمدي رحمه الله تعالى .
وفي ذلك يقول الفخر الرازي رحمه الله تعالى :" وأمّا فضل الشهادة : فعند مالك – رحمه الله – يَحصل الترجيح فيها بكثرة الشهود " (5) ا.هـ .
ويقول الآمدي رحمه الله تعالى :" وأمّا المعقول : فلا نسلِّم امتناع
(1) الإمام مالك : هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي المدني - رضي الله عنه - ، إمام دار الهجرة ، أحد الأئمّة الأربعة ، وُلِد بالمدينة سَنَة 93 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الموطَّأ .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 179 هـ .
الأعلام 3/824 والفتح المبين 1/117 - 123(1/79)
(2) شرح الكوكب المنير 4/624 ويُرَاجَع المدخل /395
(3) يُرَاجَع : المستصفى /376 وشرح الكوكب المنير 4/621 وشرح العضد 2/310 والإبهاج 3/209 وتيسير التحرير 3/153 ومسلَّم الثبوت 2/204
(4) المستصفى /376
(5) المحصول 5/4540 ، 541
الترجيح في باب الشهادة ، بل عندنا يقدَّم قول الأربعة على قول الاثنين على رأي لنا " (1) ا.هـ .
والأَوْلَى عندي : عدم جواز الترجيح في الشهادة ، وهو ما عليه المذهب الأول ؛ لأنّ باب الشهادة مبنيّ على التعبد ، كما أنّ جريان الترجيح بَيْنَهَا يفتح باب الزيادة بَيْن الطرفيْن المتعارضيْن ؛ كُلٌّ يريد أنْ يدعم حُجَّتَه بكثرة الشهود ، فيزيد عليه الثاني وهَلُمّ جَرَّا ، الأمر الذي يؤدي إلى تعطيل المصالح وتطويل التقاضي والفصل بَيْن المتنازعين .
(1) الإحكام 4/247
المطلب الرابع
حُكْم الترجيح
الكثرة مِن الأصوليين تحدَّثوا عن حُكْم العمل بالدليل الراجح ، منهم : الجويني وابن الحاجب والآمدي والصفي الهندي والقرافي وابن السبكي – رحمهم الله تعالى - وبعض المعاصرين (1) .
وقلة منهم جمعوا بَيْن حُكْم الترجيح وحُكْم العمل بالدليل الراجح ، منهم : الغزالي والفتوحي والشوكاني رحمهم الله تعالى (2) .
ومنهم مَن عبَّر عن حُكْم الترجيح وأراد به حُكْم العمل به : كالبرزنجي رحمه الله تعالى (3) .
واتجاه القلة – عندي – هو الأوجه ؛ لِتعرضه لِحُكْم الترجيح ذاته أوّلاً ومِن ثَمّ حُكْم العمل به بَعْد ذلك ..
ولِذَا فإنّي أقسِّم الحديث في هذا المطلب إلى ما يلي :
1- حُكْم الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة .
2- حُكْم العمل بالدليل الراجح .
ونفصِّل القول في كُلّ واحد منهما فيما يلي ..
أوّلاً – حُكْم الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة :
سبق أنْ تعرضنا في دفع التعارض إلى بيان حُكْمه وهو الوجوب ،(1/80)
(1) يُرَاجَع : البرهان 2/1142 والمختصر مع بيان المختصر 3/371 والإحكام لِلآمدي 4/246 والفائق 4/389 وشرح تنقيح الفصول /420 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/361 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /290 وأدلة التشريع المتعارضة /65
(2) يُرَاجَع : المستصفى /374 ، 375 وشرح الكوكب المنير 4/618 ، 619 وإرشاد الفحول /273
(3) يُرَاجَع التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/144
خاصة في حقّ المجتهدين الذين يجب عليهم إزالة هذا التعارض – الظاهري في ذهن المجتهد – بَيْن الأدلة الشرعية ؛ حتى يمكن التزام الأحكام الواردة فيها وعدم التشكك فيها أو التهرب منها .
ولَمّا كان هذا الواجب – وهو إزالة أو دفع التعارض بَيْن الأدلة الشرعية – لا يتحقق إلا بمراحل سبق ذكرها – ومنها الترجيح بَيْن هذه الأدلة - كان الترجيح لِذلك واجباً ؛ مِن باب ( ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب ) .
وفي ذلك يقول الشيرازي رحمه الله تعالى :" إذا تعارض خبران ننظر فيهما : فإنْ أمكن الجمع بَيْنَهُمَا وترتيب أحدهما على الآخَر وجب الجمع واستعمال الخبريْن ، وإنْ لَمْ يمكن الجمع بَيْنَهُمَا وأمكن نسخ أحدهما الآخَرَ فعلى ما بيّنه في باب الأدلة التي يجوز التخصيص بها والتي لا يجوز ، وإنْ لَمْ يمكن ذلك وجب الرجوع إلى وجْه مِن وجوه الترجيح التي نذكرها " (1) ا.هـ .
ويقول الغزالي رحمه الله :" أمّا المقدمة الأولى : ففي بيان ترتيب الأدلة : فنقول : يجب على المجتهد في كُلّ مسألة أنْ يرد نظره إلى النفي الأصلي قَبْل ورود الشرع ثُمّ يبحث عن الأدلة السمعية المغيّرة ... ، فإنْ تَعارض قياسان أو خبران أو عمومان طلب الترجيح كما سنذكره ، فإنْ تَساويَا عنده توقَّف على رأي وتخيَّر على رأي آخَر كما سبق " (2) ا.هـ .(1/81)
ويقول الشوكاني رحمه الله تعالى :" وإذا ثبت أنّ المعتبَر في الأحكام الشرعية الأدلةُ الظنيةُ فقد تتعارض في الظاهر بحسب جلائها وخفائها ، فوجب الترجيح بَيْنَهُمَا والعمل بالأقوى " (3) ا.هـ .
(1) شرح اللمع 2/391
(2) المستصفى /374 ، 375 بتصرف .
(3) إرشاد الفحول /273
ومما تقدَّم يتضح أنّ الترجيح واجب في حقّ المجتهد ، لكن هذه النتيجة ليست مسلَّمةً أو متفَقاً عليها ، وإنما هناك مَن أَنكر الترجيح أو منعه ..
ولِذَا فإنّه يمكن حصر مذاهب الأصوليين في حُكْم الترجيح في مذْهبيْن :
المذهب الأول : وجوب الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة .
وهو ما عليه الكثرة مِن الأصوليين .
المذهب الثاني : منع الترجيح مطلقاً .
أورده الفتوحي – رحمه الله تعالى – نسبةً إلى قوم ، وحكاه القاضي أبو بكر الباقلاني عن الملقب بـ" البصري " وهو جُعْل (1) .
وقد بنيتُ حصري لِهذيْن المذْهبيْن لأقوال بعض الأصوليين في هذا المقام ..
منهم :
إمام الحرمين الجويني – رحمه الله – في قوله :" ولا ينكر القول به على الجملة مذكور ، وقَبِله منكرو القياس واستعملوه في الظواهر والأخبار وحكى القاضي عن الملقب بـ" البصري " – وهو جُعْل – أنّه أنكر القول بالترجيح ، ولَمْ أرَ ذلك في شيء مِن مصنفاته مع بحثي عنها " (2) ا.هـ .
والفتوحي – رحمه الله تعالى – في قوله :" فالترجيح فِعْل المرجِّح الناظر في الدليل ، وهو تقديم إحدى الأمارتيْن الصالحتيْن لِلإفضاء إلى معرفة الحُكْم ؛ لاختصاص تلك الأمارة بقوة في الدلالة ... ، وذكر أبو محمد البغدادي عن قوم منع الترجيح مطلقاً " (3) .
(1) جُعْل البصري : هو أبو عبد الله الحسين بن عَلِيّ البصري الحنفي الملقب بـ" جُعْل البصري " رحمه الله تعالى ، فقيه متكلِّم ، وُلِد سَنَة 293 هـ ، تتلمذ على الجبائي والكرخي رحمهم الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : الإيمان ، الإقرار ، نقْض كلام ابن الراوندي .(1/82)
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 369 هـ .
شذرات الذهب 3/68 وأصول الفقه تاريخه ورجاله /131 ، 132 والجواهر المضية 4/63
(2) البرهان 2/1142
(3) شرح الكوكب المنير 4/618
والراجح عندي : وجوب الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة في حقّ المجتهد ، وهو ما عليه أصحاب المذهب الأول ..
أمّا منع الترجيح مطلقاً : فإنّي أقول به في حقّ العامِّيّ الذي لا يملك قدراً مِن العلم يؤهله إلى ذلك ، ولا أعتقد أنّ أصحاب المذهب الثاني قصدوا ما قصدتُه .
أمّا مَن كان مِن أهل العلم ولَمْ يَبلغ درجة الاجتهاد : فأرى أنّ الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة في حقه جائز .
ومما تقدَّم أرى حصر حُكْم الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة في ثلاثة أحكام :
الحُكْم الأول : الوجوب في حقّ المجتهد .
الحُكْم الثاني : الجواز في حقّ العالِم الذي لَمْ يَبلغ درجة الاجتهاد .
الحُكْم الثالث : الحرمة في حقّ العامِّيّ الذي ليس مِن أهل العلم .
ثانياً – حُكْم العمل بالدليل الراجح :
اختلف الأصوليون في حُكْم العمل بالدليل الراجح على مذاهب :
المذهب الأول : وجوب العمل بالدليل الراجح ، مظنوناً كان أو معلوماً .
وهو ما عليه الكثرة مِن الأصوليين ، واختاره الشيرازي والغزالي والفخر الرازي وابن الحاجب والآمدي والصفي الهندي والزركشي والأصفهاني وابن السبكي رحمهم الله تعالى .
واستدلّوا لِذلك بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على العمل بالترجيح ..
فقد رجَّحوا خبر السيدة عائشة (1) – رضي الله عنها – في التقاء
(1) السَّيِّدَة عائشة : هي أمّ عبد الله الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق السيدة عائشة بنت أبي بَكْر عبد الله ابن عثمان ، أُمّ المؤمِنين ، وُلِدَت قَبْل الهجرة بتِسْع سنوات ، تَزَوَّجَها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْد الهجرة ..
تُوُفِّيَت رضي الله عنها بالمدينة سَنَة 58 هـ .
الإصابة 9/359 وشذرات الذهب 1/61 - 63(1/83)
الختانيْن (1) على خبر أبي هريرة - رضي الله عنه - (2) { الْمَاءُ مِنَ الْمَاء } (3) .
وقدَّموا خبر مَن روى مِن أزواجه - صلى الله عليه وسلم - أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يصبِح جُنُباً وهو صائم (4) على خبر أبي هريرة - رضي الله عنه - { مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً فَلاَ صَوْمَ لَه } (5) (6) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّه مُعارَض بالنص مِن الكتاب والسُّنَّة ..
أمّا الكتاب : فقوله تعالى {فَاعْتَبِرُوا يَأُولِى الأَبْصَر} (7) ، وهو أمر بالاعتبار مطلقاً مِن غَيْر تفصيل بَيْن راجح ومرجوح ، فكِلاَ الدليليْن داخل في النص وخاضع لِلنظر والاعتبار ، ومِن ثَمّ العمل بهما .
وأمّا السُّنَّة : فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى
(1) أَخْرَجَه ابن ماجة في كتاب الطهارة وسننها : باب ما جاء في وجوب الغُسْل إذا التقى الختانان برقم ( 600 ) وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 23767 ) .
(2) أبو هُرَيْرَة : هو الصّحابيّ الجليل عبد الرحمن بن صخْر الدّوسيّ - رضي الله عنه - ، أسلَم أول سَنَة سبْع عام خَيْبَر وشَهِدَهَا مع رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولازَمَه يَدُور معه حيث دار ، ولِذا حَفِظ عنه - صلى الله عليه وسلم - ما لم يُلْحَق به في كثْرته ، ورَوَى عنه أَكْثَر مِن ثمانمائة رَجُل ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 58 هـ .
طبقات ابن سعْد 2/362 والاستيعاب لابن عبد البر 4/1768 - 1772 والإصابة 4/202
(3) أَخْرَجَه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/54(1/84)
(4) أَخْرَجه مُسْلِم في كِتَاب الصيام : باب صحّة صَوْم مَنْ طَلع عليه الفجر وهو جُنُب برقم ( 1864 ) وأبو داود في كِتَاب الصوم : باب فِيمَنْ أَصْبَح جُنُباً في شَهْر رمضان برقم ( 2040 ) وأَحْمَد في باقِي مُسْنَد الأنصار برقم ( 22933 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة والسيدة أمّ سلمة رضي الله عنهما .
(5) أَخْرَجه الإمام أَحْمَد في باقِي مُسْنَد المُكْثِرين برقم ( 7083 ) .
(6) يُرَاجَع : شرح اللمع 2/391 والمستصفى /376 والمنخول /426 والمحصول 5/529 ، 530 والفائق 4/398 – 404 وبيان المختصر 3/372 ، 373 ولباب المحصول 2/742 ومنهاج الوصول مع نهاية السول 3/155 ، 156 والإبهاج 3/209 ومسلَّم الثبوت 2/204 ومناهج العقول 3/155 وإرشاد الفحول /273 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/415
(7) سورة الحشر مِن الآية 2
السَّرَائِر } (1) .
والدليلان المتعارضان كلاهما ظاهر ، فلا يجوز الحُكْم بواحد منهما دون الآخَر ، ولِذَا كان العمل بالدليل المرجوح جائزاً .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة بوجْهيْن :
الأول : أنّ الأمر بالاعتبار في الآية الكريمة لا ينافي القول بوجوب العمل بالترجيح ، وإنما غايته الأمر بالنظر والاعتبار ؛ فإنّ إيجاب أحد الأمْريْن لا ينافي إيجاب غَيْره .
الثاني : أنّا لا نسلِّم أنّ المرجوح ظاهر حتى نحكم به كما الراجح ؛ لأنّ الظاهر هو ما ترجَّح أحد طرفيْه على الآخَر ، وفي تعارُض الدليليْن نرى أنّ المرجوح مخالِف لِلراجح وغَيْر مساوٍ له في القوة ، وإذا كان كذلك فلا يكون المرجوح ظاهراً فيه .
الوجه الثاني : أنّ الترجيح غَيْر معتبَر في البينات ؛ فلا تقدَّم شهادة الأربعة على شهادة الاثنين ، والأمارات الظنية المتعارضة لا تزيد على البينات المتعارضة ، فلا يجوز الترجيح بَيْنَهَا كالبينات .(1/85)
(1) قال الحافظ ابن حجر :" هذا الحديث اسْتَنْكَره المزني فيما حكاه ابن كثير عنه في أدلة التنبيه ، وقال النسائي في سننه :" باب الحُكْم بالظاهر " ثُمّ أَوْرَد حديث أمّ سلمة الذي قَبْلَه ، وقد ثبت في تخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي سبب وقوع الوهم من الفقهاء في جعلهم هذا حديثاً مرفوعاً وأنّ الشافعي قال في كلام له :" وقد أمر الله نبيَّه أنْ يحكم بالظاهر والله متولي السرائر " ، وكذا قال ابن عبد البَرّ في " التمهيد " :" أجمعوا أنّ أحكام الدنيا على الظاهر ، وأنّ أمر السرائر إلى الله " ، وأغرب إسماعيل ابن عليّ بن إبراهيم بن أبي القاسم الجنزوي في كتابه " إدارة الأحكام " فقال :" إنّ هذا الحديث ورد في قصّة سنان والحضرمي اللذيْن اختصما في الأرض ، فقال المقضيّ عليه :" قَضَيْتَ عَلَيَّ وَالْحَقُّ لِي" فقال - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّمَا أَقْضِي بِالظَّاهِرِ ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِر } ، وفي الباب حديث عمر :" إِنَّمَا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُم " أخرجه البخاري ، وحديث أبي سعيد رفعه { إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاس } ، وهو في الصحيح في قصة الذهب الذي بعث به عَلِيّ ، وحديث أُمّ سلمة الذي قَبْله ، وحديث ابن عباس الذي بَعْده " .. تلخيص الحبير 4/191
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة بوجْهيْن :
الأول : أنّا لا نسلِّم عدم اعتبار الترجيح في البينات ؛ بل هناك مِن العلماء مَن قدَّم شهادة الأربعة على شهادة الاثنين .(1/86)
الثاني : سلَّمنا عدم اعتبار الترجيح في البينات إرجاعاً إلى ما كان متبَعاً في ذلك مِن إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - ، وقد أُلِف منهم اعتبار ذلك في باب تعارض الأدلة دون باب البينات (1) .
الدليل الثاني : أنّ العرف جرى على العمل بالراجح وترك المرجوح ، ولِذَا يُعَدّ التارك لِلراجح والآخذ بالمرجوح سفيهاً ، والعرف في الشرع معتبَر بمقتضى قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَناً فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَن } (2) ، ولذا كان العمل بالراجح واجباً ، وهو المدعى .
الدليل الثالث : أنّ العمل بالدليليْن المتعارضيْن ممتنع ؛ لأنّه جمْع بَيْن المتناقضيْن ، وترْكهما معاً ممتنع ؛ لأنّه مدعاة لِلتحلل مِن أحكام الشرع ، فلم يَبْقَ إلا العمل بواحد منهما ، فإنْ عمل بالمرجوح وترك الراجح كان تقديماً لِلضعيف على الأقوى دلالةً ، وهو غَيْر جائز ، فتَعيَّن العمل بالراجح وترْك المرجوح (3) .
الدليل الرابع : أنّ الأولين ومَن تَبِعهم أطبقوا على ترجيح دليل على آخَر ، وكانوا - رضي الله عنهم - إذا جلسوا يشتورون ( مِن المشاورة ) تعلَّق معظم كلامهم في
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/246 ، 247 والمستصفى /376 والفائق 4/390 وبيان المختصر 3/372 ، 373 وشرح المنهاج 2/788 والإبهاج 3/209 وأدلة التشريع المتعارضة /67 68 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /291 ، 292 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/148 ، 149
(2) أَخْرَجَه الإمام أحمد في مسند المكثرين مِن الصحابة برقم ( 3418 ) والحاكم في المستدرك 3/83 والطبراني في الأوسط 4/58 عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - .
(3) يُرَاجَع : الفائق 4/391 والمَراجع الثلاثة الأخيرة المتقدمة وإرشاد الفحول /274(1/87)
وجوه الرأي بالترجيح ، وهذا أُثْبِت بتواتر النقل في الأخبار والظواهر وجميع مسالك الأحكام ، فدلّ ذلك على أنّ الترجيح مقطوع به ويجب العمل بالدليل الراجح (1) .
المذهب الثاني : جواز العمل بالمرجَّح المظنون ، ولا يجب إلا بما رجح قطعاً .
وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله تعالى .
أدلة هذا المذهب :
استدل الباقلاني – رحمه الله تعالى – على أنّ الترجيح بالمظنون لا يجب العمل به بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ العمل بالمظنون فيه عرضة لِلخطأ والغلط ، وكلاهما مطلوب الابتعاد عنه وتركه ، وما كان سبباً فيه يأخذ حُكْمه ، ولِذَا فلا يجوز العمل بالمظنون ، وترك العمل بذلك في الظنون المستقلة لإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - ، فيبقى في غَيْرها على أصله ، ولِذَا جاز العمل بالمرجَّح المظنون ، ولا يجب إلا فيما رجح قطعاً .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّكم سلّمتم بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - في العمل بالظنون المستقلة بأنفسها ، فكيف تنفونه على الظنون غَيْر المستقلة بنفسها - وكلاهما مظنون - وقد انعقد الإجماع على وجوب العمل بالظن الذي لا يستقلّ كما انعقد على المستقلّ (2) ؟!
الدليل الثاني : أنّا لو قلنا " إنّ كُلّ مجتهد مصيب " فإنّ الترجيح لا يتحقق في المظنون ، بخلاف المقطوع ؛ فإنّ الحقّ واحد ، ولِذَا لا يجب العمل بالمظنون الراجح (3) .
(1) البرهان 2/1142 ، 1143 بتصرف والمحصول 2/444
(2) يُرَاجَع : الفائق 4/389 والبحر المحيط 6/130 ، 131 وشرح الكوكب المنير 4/619 ، 620
(3) يُرَاجَع الفائق 4/389 ، 390
مناقشة هذا الدليل ( لِلباحث ) :
ويمكن مناقشة هذا الدليل : بأنّكم بنيتم دليلكم على قاعدة ( كُلّ مجتهد مصيب ) ، وهي غَيْر مسلَّمة عندنا ، وإذا كان كُلّ مجتهد ليس مصيباً كان الترجيح متحققاً حينئذٍ في المظنون كما المقطوع ؛ لأنّ الحقّ واحد .(1/88)
الدليل الثالث : أنّ الترجيح بالبينات في الحكومات لا يجوز ؛ فإنّه لا يترجح بينة على بينة بعد استقلال كُلّ واحدة لو انفردت ، ولِذَا لا يجب العمل بالمظنون الراجح .
مناقشة هذا الدليل :
وقد ناقش إمام الحرمين الجويني – رحمه الله تعالى – هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ نفي الترجيح بالبينات في الحكومات ليس مسلَّماً عند الجميع ؛ فقد رجَّح مالك - رضي الله عنه - وطوائف مِن علماء السلف البينة على البينة ، وليس مِن الإنصاف إلزام مجتهد فيه على القول في مسألة مسلكها القطع .
الوجه الثاني : أنّ المجتهد إذا ظن أنْ لا ترجيح في البينة ورآها مستندةً إلى توقيفات تعبدية فإنّ هذا لا يعارض ما ثبت قطعاً تواتراً في الترجيح والعمل به ، وليس متعلق مثبِتي الترجيح تجويزاً ظنِّيّاً فينتقض بشيء أو يقاس على شيء (1) .
المذهب الثالث : التخيير بَيْن العمل وعدمه إنْ رجح أحدهما بالظن ، ولا يجب إلا بما رجح قطعاً .
هذا المذهب نسبه ابن السبكي إلى أبي عبد الله البصري رحمهم الله تعالى (2) ، وأورد إمام الحرمين وكذا الزركشي – رحمهما الله تعالى – أنّ
(1) البرهان 2/1143 بتصرف .
(2) يُرَاجَع جمع الجوامع مع شرح المحلي مع حاشية البناني 2/361
القاضي حكاه عن البصري الملقب بـ" جُعْل " (1) ، وذكر الغزالي – رحمه الله تعالى – أنّ القاضي عزاه إلى أبي الحسين البصري (2) بالرمز (3) ..
وأوردته الكثرة بصيغة التجهيل والتضعيف ، منهم :
الفخر الرازي - رحمه الله تعالى – في قوله :" الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح ، وأنكره بعضهم وقال : عند التعارض يلزم التخيير أو الوقف " (4) ا.هـ .
والقرافي – رحمه الله تعالى – في قوله :" الأكثرون اتفقوا على التمسك به ، وأنكره بعضهم وقال : يلزم التخيير أو التوقف " (5) ا.هـ .(1/89)
والأصفهاني – رحمه الله تعالى – في قوله :" وأنكره بعضهم وقال : عند التعارض لا نرجِّح ، بل يلزم التخيير أو التوقف " (6) ا.هـ .
تحقيق هذا المذهب :
بعد الوقوف على توثيقات نسبة هذا المذهب يتضح أنّ الكثرة لَمْ تنسبه إلى أحد ، وقلة نسبته إلى البصري بحكاية القاضي أبي بكر الباقلاني التي نقلها إمام الحرمين والغزالي والزركشي وابن السبكي – رحمهم الله تعالى – مع تضارب المراد ، كما يتضح أنّ الكثرة ممن أوردوا هذا المذهب نصوا على أنّه منكِر لِلترجيح ، وعند التعارض يلزم التخيير أو التوقف ، وقلة
(1) يُرَاجَع : البرهان 2/1142 والبحر المحيط 6/130
(2) أبو الحسين البصري : هو مُحَمَّد بن عَلِيّ بن الطَّيِّب البصري رحمه الله تعالى ، أحد أئمة المعتزلة ، وُلِد بالبصرة ورَحَل لِبغداد ..
مِن مصنفاته : المعتمد ، تَصَفُّح الأدلّة ، غرر الأدلّة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 436 هـ .
شذرات الذهب 3/259 والنجوم الزاهرة 5/38
(3) المنخول /426
(4) يُرَاجَع : المحصول 5/529 ونهاية السول 3/156
(5) شرح تنقيح الفصول /420
(6) شرح المنهاج 2/788
منهم خفَّفوا حدة نسبة إنكار الترجيح ، منهم ابن السبكي – رحمهما الله تعالى – الذي نُسِب إليه القول بوجوب العمل بما رجح قطعاً ، أمّا ما رجح بالظن كان له التخيير بَيْن العمل وعدمه .
وبناءً على ما تقدَّم إنْ حمَلْنا مذهب البصري على ما أورده ابن السبكي كان قريباً مِن مذهب الباقلاني رحمهم الله تعالى ؛ لاتفاقهما في وجوب العمل بما رجح قطعاً .
وإنْ حمَلناه على ما أوردته الكثرة : فإنّه مردود وغَيْر مقبول .
وفي ذلك يقول إمام الحرمين رحمه الله تعالى :" ولا ينكر القول به على الجملة مذكور ، وقَبِله منكرو القياس واستعملوه في الظواهر والأخبار وحكى القاضي عن الملقب بـ" البصري " – وهو جُعْل – أنّه أنكر القول بالترجيح ، ولَمْ أرَ ذلك في شيء مِن مصنفاته مع بحثي عنها " (1) ا.هـ .(1/90)
كما أنّ تضارُب المحكي عن القاضي الباقلاني في نسبته إلى البصري مرّةً وإلى أبي عبد الله مرّةً وإلى أبي الحسين مرّةً أخرى تقوِّي ضَعْف هذا المذهب .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليين وأدلتهم في حُكْم العمل بالدليل الراجح يتضح لنا ما يلي :
1- أنّ كثيراً مِن الأصوليين حصر النزاع بَيْن مذْهبيْن ، مع اتفاقهم في نسبة المذهب الأول إلى جمهور الأصوليين وعامّتهم ، واختلافهم في نسبة المذهب الثاني : فمنهم مَن نسبه إلى الباقلاني رحمه الله تعالى ، ومنهم مَن أورده مقابل مذهب الجمهور بصيغة " وأنكره قوم " .
2- أنّ إنكار الترجيح ليس مذهباً لِلباقلاني رحمه الله تعالى ، وليس مذهباً لِلبصري الذي نفاه عنه الجويني رحمهما الله تعالى ..
(1) البرهان 2/1142
وقد أوَّلتُ مذهب البصري لِيكون قريباً مِن مذهب الباقلاني رحمهما الله تعالى ، وبذا حصرتُ مذاهب الأصوليين في حُكْم العمل بالدليل الراجح في مذْهبيْن .
3- أنّ المذهب الأول – القائل بوجوب العمل بالدليل الراجح – يكفيه قوّةً وترجيحاً إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على العمل به ، كما أنّ أدلته سلمت جميعها مِن المناقشة والاعتراض ، كما أنّ أدلة المذهب الثاني لَمْ تَسلم جميعها مِن الاعتراض والمناقشة .
ولِذَا كان المذهب الأول – القائل بوجوب العمل بالدليل الراجح – هو الأَوْلَى بالقبول والاختيار .
وفي ذلك يقول ابن رشيق المالكي (1) رحمه الله تعالى :" المقدمة الثالثة : في دليل وجوب الترجيح واتباع الأرجح في الأخبار والعلل ، ودليل ذلك إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على طلب الأرجح والأوقع في النَّفْس في الرواية " (2) ا.هـ .
(1) ابن رشيق المالكي : هو أبو عَلِيّ الحسين بن عتيق بن الحسين بن رشيق المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، وُلِد سَنَة 549 هـ ، كان فقيهاً بمذهب الإمام مالك - رضي الله عنه - حتى أصبح شيخَ المالكية في وقْته ..(1/91)
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 632 هـ .
الديباج المذهب 1/333 ، 334
(2) لباب المحصول 2/742
المطلب الخامس
تعارُض وجوه الترجيح
إذا تعارض دليلان ووُجِد مع كُلّ واحد منهما مرجِّح كان الترجيحان متعارضيْن ، ونحتاج إلى مخلص بترجيح أحدهما على الآخَر ؛ دفعاً لِلتعارض الواقع بَيْنَهُمَا .
هذه المسألة انفرد بها الحنفية دون غَيْرهم ؛ لأنّ غَيْرهم لَمْ يُفرِدوها ، وإنما مارَسوها عمليّاً عند دراستهم لِترجيحات الأخبار ، والتي سيأتي تفصيل القول فيها بإذن الله تعالى .
مثاله : رواية ابن عباس (1) – رضي الله عنهما – في نكاح أم المؤمنين السيدة ميمونة بنت الحارث (2) – رضي الله عنها – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نكحها وهو مُحْرِم (3) مع رواية أبي رافع - رضي الله عنه - (4) أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نكحها
(1) ابن عباس : هو حَبْر الأُمَّة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عمّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، دعا له النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال { اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيل } ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالطّائف سَنَة 68 هـ .
الإصابة 2/330 وشذرات الذهب 1/75
(2) السَّيِّدَة ميمونة : هي أمّ المؤمِنين السيدة ميمونة بنت الحارث الهلاليّة رضي الله عنها ، وقيل : كان اسمها " برّة " فغَيَّره النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، تَزَوَّجها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - سَنَة 7 هـ ، روت ستّةً وأربعين حديثاً ..
تُوُفِّيَتْ رضي الله عنها بسرخس سَنَة 51 هـ .
أسد الغابة 7/271 والإصابة 4/411
(3) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الحجّ : باب تزويج المُحْرِم برقم ( 1706 ) ومسلم في كتاب النكاح : باب تحريم نكاح المُحْرِم وكراهة خطبته برقم ( 2527 ) والترمذي في كتاب الحجّ عن رسول الله : باب ما جاء في الرخصة في ذلك برقم ( 771 ) .(1/92)
(4) أبو رافع : هو الصحابي الجليل أسلم القبطي - رضي الله عنه - ، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، روى عنه ابنه عبيد الله وحفيده الفضل بن عبيد الله وعمرو بن الشريد رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالكوفة سَنَة 40 هـ .
حلية الأولياء 1/183 – 185 وسير أعلام النبلاء 2/16 ، 17
وهُمَا حلالان (1) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى بيَّنَت أنّ نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - لِلسيدة ميمونة – رضي الله عنها – كان في حالة الإحرام ، وأنّ الرواية الثانية أثبتت عكس ذلك ، وهنا تعارض الحُكْم في الروايتيْن ، ولا بُدّ مِن الترجيح بَيْنَهُمَا .
وجْه الترجيح لِكُلّ رواية منهما : أنّ رواية ابن عباس – رضي الله عنهما – قد رجحت بفقهه وضبطه ، ورواية أبي رافع - رضي الله عنه - قد رجحت لِلمباشرة حيث قال :" كُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا " ، وهذا تعارُض بَيْن الترجيحيْن ..
ولِذَا رجحت رواية ابن عباس – رضي الله عنهما – بأنّ الإخبار بالإحرام لا يكون إلا عن معاينة الهيئة الإحرامية ، فيكون العلم به أقوى .
كما رجحت رواية أبي رافع - رضي الله عنه - بموافقة صاحبة الواقعة ؛ حيث قالت رضي الله عنها :" تَزَوَّجَنِي وَنَحْنُ حَلاَلاَن " ، وصاحِب الواقعة أَعْرَف بحاله ، وهذا تعارُض ثانٍ بَيْن الترجيحيْن .
ولِذلك ذهب الحنفية إلى الجمع بَيْن الروايتيْن : فيُحمل قولها :" تَزَوَّجَنِي " مَجازاً عن الدخول لِعلاقة السببية العادية ؛ جمعاً بَيْن الحديثيْن .
وذهب غَيْر الحنفية إلى ترجيح ما رواه أبو رافع - رضي الله عنه - ؛ لأنّ صاحب القصة الواقعة أَعْرَف بحاله (2) .
تقديم الترجيح بالذات على الترجيح بالحال :
قدَّم الحنفيةُ الترجيحَ بالذات على الترجيح بالحال ؛ لِوجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ الحال يقوم بالغَيْر ، وما يقوم بالغير فله حُكْم العدم(1/93)
(1) أَخْرَجَه الدارمي في كتاب المناسك : باب في تزويج المُحْرِم برقم ( 1755 ) والإمام أحمد في مسند القبائل برقم ( 25942 ) .
(2) يُرَاجَع : التحرير مع التيسير 3/168 وفواتح الرحموت مع مسلَّم الثبوت 2/209 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /399
بالنظر إلى ما يقوم بنَفْسه .
الوجه الثاني : أنّ الذات أسبق وجوداً مِن الحال ، فيقع الترجيح به أوّلاً ، فلا يتغير بما يحدث بَعْد : كاجتهاد أمضى حُكْمَه .
مثاله : صوم واجب - كصوم شهر رمضان أو نذر معيَّن – ولَمْ يبيِّت النية مِن الليل ونواها قبل نصف اليوم ، وحينئذٍ يكون بعضه منويّاً بعد النية وبعضه لا وهو ما قَبْلها ..
وَجْه التعارض : أنّ فقدان النية في بعض الأجزاء مفسِد لها ، ولِذَا يفسد الكل ..
وأنّ وجود النية وتحققها في الأكثر يجعله صحيحاً ، فكذلك الكل .
وقد رجَّح الحنفيةُ الصحةَ ؛ لأنّ للأكثر حُكْم الكل ، والترجيح بالكثرة ترجيح بالوصف الذاتي .
ورجَّح الشافعيةُ الفسادَ ؛ لأنّ العبادة تقتضي النيةَ في الكل .
واعتبر الحنفية ترجيح الشافعية ترجيحاً بوصف عارِض : وهو وصْف العبادة ، ولِذَا فإنّهم قدَّموا الترجيح بالذات على الترجيح بالعرَض (1) .
(1) يُرَاجَع : التنقيح مع التوضيح 2/240 وكشف الأسرار لِلبخاري 4/164 ، 165 وتيسير التحرير 3/168 ومسلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/209 ، 210 وأدلة التشريع المتعارضة /288 ، 289 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /396
المبحث الثاني
تعريف الخبر وأقسامه
وفيه مطالب :
المطلب الأول : تعريف الخبر .
المطلب الثاني : أقسام الخبر عند الأصوليين .
المطلب الثالث : أقسام الخبر عند المحدّثين .
المطلب الرابع : ترجيحات الأخبار عند الأصوليين .
المطلب الخامس : ترجيحات الأخبار عند المحدّثين .
المطلب الأول
تعريف الخبر
الحديث في هذا المطلب يمكن تقسيمه على النحو التالي :
1- تعريف الخبر لغةً .
2- تعريف الخبر عند الأصوليين .(1/94)
3- تعريف الخبر عند المحدّثين .
4- تعقيب وترجيح .
ونفصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يأتي ..
أوّلاً – تعريف الخبر لغةً :
الخبر لغةً : النبأ ، وهو ما يُنقَل عن الغَيْر واحتمَل الصدق والكذب لِذاته ، وهو بمعنى العلم (1) .
ثانياً – تعريف الخبر عند الأصوليين :
الكثرة مِن الأصوليين عرَّفوا الخبر كأحد أقسام الكلام عندهم ، وبعضهم عرَّفه باعتباره ما نُقِل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ..
ونعرِّج على كُلّ منحى منهما فيما يلي ..
تعريف الخبر كأحد أقسام الكلام :
قسَّم الأصوليون الكلام إلى : أمر ونهي وخبر واستخبار (2) ..
وعرَّفوا الخبر بهذا الاعتبار بتعريفات عدة ، أذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : ما احتمل الصدق والكذب .
(1) يُرَاجَع : تاج العروس 3/166 ، 167 والقاموس المحيط 2/17 والكليات /414 ، 415
(2) يُرَاجَع : البرهان 1/196 – 198 والتبصرة /289 ونهاية السول 2/214
وهو تعريف الشيرازي ، واختاره الشوكاني رحمهما الله تعالى .
ونحوه تعريف إمام الحرمين الجويني رحمه الله تعالى ، وهو : ما يدخله الصدق والكذب .
وتعريف الغزالي وابن قدامة رحمهما الله تعالى ، وهو : القول الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب .
وتعريف ابن السمعاني رحمه الله تعالى ، وهو : كلام يدخله الصدق والكذب .
ونُسِب إلى أكثر المعتزلة والجبائيين وعبد الجبار رحمه الله تعالى (1) .
التعريف الثاني : كلام يفيد بنَفْسه إضافة أمر إلى أمر نفياً أو إثباتاً .
وهو تعريف أبي الحسين البصري رحمه الله تعالى (2) .
التعريف الثالث : الكلام الذي يفيد نسبة معلوم إلى معلوم آخَر محكوم عليه نفياً أو إثباتاً مع قصد المتكلِّمِ الدلالةَ عليها .
وهو تعريف الصفي الهندي رحمه الله تعالى (3) .
تعريف الخبر باعتباره ما نُقِل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :(1/95)
وهذا التعريف لَمْ أقف عليه صراحةً ، وإنما ورد غَيْرَ صريح عند كثير مِن الأصوليين وكأنّه مِن المسلَّمات عندهم .
وممن أشار إلى ذلك :
إمام الحرمين الجويني – رحمه الله تعالى – في قوله :" فإنْ قيل : لِمَ سَمَّى الأصوليون ما نقله الرواة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أخباراً ؟ " (4) ا.هـ .
(1) يُرَاجَع : اللمع /106 وإرشاد الفحول /42 والبرهان 1/564 والورقات مع حاشية النفحات /39 والمستصفى /39 وروضة الناظر /90 وقواطع الأدلة 2/230 والمعتمد 2/542 ومختصر المنتهى 2/45 والإحكام لِلآمدي 2/6
(2) يُرَاجَع المعتمد 2/544
(3) يُرَاجَع الفائق 3/342
(4) البرهان 1/565
والقاضي أبو يعلى – رحمه الله تعالى – في قوله :" وأمّا السُّنَّة : فعلى ضرْبيْن :
ضرب يؤخذ مِن النبي - صلى الله عليه وسلم - مشاهدةً وسماعاً : فهذا يجب على كُلّ أحد قبوله واعتقاده على ما جاء به مِن وجوب وندب وإباحة وحظر ، ومَن لَمْ يَقبله كَفَر ؛ لأنّه كذَّبه في خبره - صلى الله عليه وسلم - .
وضرب يؤخذ خبراً عنه : والكلام فيه في موْضعيْن : أحدهما في إسناده ، والآخَر في متنه " (1) ا.هـ .
والخطيب البغدادي – رحمه الله – أورد النص المتقدم أو نحوه (2) .
والشنقيطي (3) – رحمه الله تعالى – في نظمه كتاب " السُّنَّة " :
وهي ما انضاف إلى الرسول ... مِن صفة كليْس بالطويل
والقول والفعل وفي الفعل انحصر ... تقريره كذي الحديث والخبر (4)
ثالثاً – تعريف الخبر عند المحدِّثين :
اختلف المحدِّثون في تعريف الخبر ..
فالجمهور يرون أنّ الخبر مرادف لِلحديث ، فيطلَقان على المرفوع وعلى الموقوف وعلى المقطوع ، فيشمل ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة وعن التابعين رضي الله عنهم أجمعين .
(1) العدة 1/72
(2) يُرَاجَع : الفقيه والمتفقه 1/95 ، 96 والمدخل /199(1/96)
(3) الشنقيطي : هو عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي المغربي المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ أديب ..
مِن مصنّفاته : مراقي السعود ، نشر البنود ، شرح الروضة ، روضة النسرين في الصلاة والسلام على سيد المرسلين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 1230 هـ .
معجم المؤلفين 6/18
(4) مراقي السعود /272 ، 123
وقال بعضهم : الحديث : ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والخبر : ما جاء عن غَيْره ..
ومِن ثَمّ قيل لِمَن يشتغل بالتواريخ وما شاكلها " الأخباري " ، ومَن يشتغل بالسُّنَّة النبوية " المحدِّث " .
فبَيْنَهُمَا عموم وخصوص مطلق : فكُلُّ حديثٍ خبرٌ ، وليس كُلّ خبر حديثاً (1) .
رابعاً – تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على تعريف الخبر عند بعض الأصوليين وعند المحدّثين يتضح لنا ما يلي :
1- أنّ الخبر الذي عرّفه الأصوليون كأحد أقسام الكلام إنما قصدوا به ما يقابل الإنشاء ..
وهو قريب مِن تعريف البلاغيين إنْ لَمْ يكن هو ذاته ؛ فإنّهم قسّموا الكلام إلى : خبر وإنشاء ، والخبر عندهم : ما احتمل الصدق والكذب ، والإنشاء : ما ليس كذلك (2) .
2- أنّ الأصوليين الذين عرَّفوا الخبر بما تقدَّم قسَّموه إلى ثلاثة أقسام :
القِسْم الأول : خبر يُعلَم صدقه بيقين ، أو ما يجب تصديقه .
وجعلوا مِن هذا القِسْم خبر الله تعالى وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
القِسْم الثاني : خبر يُعلَم كذبه بيقين ، أو ما يجب تكذيبه .
القِسْم الثالث : خبر يحتمل الصدق والكذب ، أو ما يجب التوقف فيه (3) .
(1) يُرَاجَع : شرح نخبة الفكر /3 وتدريب الراوي 1/42 ، 43 وأصول الحديث /32 والتعريف بالحديث الشريف /42 والحدود الأنيقة /85 وقواعد في علوم الحديث /25 ، 26
(2) يُرَاجَع : تلخيص المفتاح مع شرح السعد 1/163 – 166 وهمع الهوامع شرح جمع الجوامع 1/12 والبلاغة الواضحة /137 - 139(1/97)
(3) يُرَاجَع : المستصفى /112 – 116 والبرهان 1/583 وقواطع الأدلة 2/232 ، 233 وشرح =
3- أنّ الخبر بالمعنى السابق – أي ما قابل الإنشاء – ليس مراداً في بحثي هذا ، وإنما المراد هو المعنى الأخصّ : أي ما نُقِل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو ما عليه جمهور المحدّثين ، وجعله مرادفاً لِلحديث ..
وحيث إنّي أبحث في رفع التعارض الواقع في السُّنَّة المطهرة يكون تعريف الخبر هو : ما نُقِل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غَيْر القرآن مِن قول أو فعل أو تقرير ، وهو تعريف السُّنَّة عند الأصوليين (1) .
وإذا كان كذلك فلِمَ سُمِّي بـ" الخبر " ؟
4- أنّ سرّ تسمية الخبر أورده إمام الحرمين – رحمه الله تعالى سؤالاً مفترضاً في هذا المقام بقوله :" لِمَ سمَّى الأصوليون ما نقله الرواة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أخباراً " ومعظمها أوامر ونَوَاهٍ ؟ " ..
ونقل – رحمه الله تعالى – الجواب عن هذا السؤال عن القاضي أبي بكر الباقلاني – رحمه الله تعالى – بوجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ حاصل جميعها آيل إلى الخبر ، فالمأمور به في حُكْم المخبر عن وجوبه ، وكذلك القول في النواهي ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ليس آمراً أو ناهياً على الاستقلال ، وإنما الآمر حقّاً هو الله تعالى ، وما ورد إلينا مِن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حُكْم الإخبار عن الله تعالى ، فهذا وجْه تسمية جميع المنقول " خبراً " .
الوجه الثاني : أنّها سمِّيَت بذلك لِنَقْل النَّقَلَة المتوسطين ، وهُمْ مخبرون عمن روى لهم ، والذين عاصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا لا يقولون إذا بلغهم
= تنقيح الفصول /354 ، 355 والإحكام لِلآمدي 2/10 – 14 والمسودة /233 وشرح المنهاج 2/521 – 540 وكشف الأسرار لِلبخاري 2/655 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 3/121 – 130(1/98)
(1) يُرَاجَع : شرح العضد 2/22 وإرشاد الفحول /33 والمدخل /199 والسُّنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي /65
أمْر :" أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، وإنما يقولون :" أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بكذا " أو :" نَهَى عَن كذا " ، ولِذَا كان اسم الخبر في المرتبة الثالثة إلى حيث انتهى (1) .
(1) البرهان 1/565 ، 566 بتصرف ويُرَاجَع الإبهاج 1/220
المطلب الثاني
أقسام الخبر عند الأصوليين
اختلف الأصوليون في تقسيم الخبر باعتبار سنده إلى مذْهبيْن :
المذهب الأول : تقسيم الخبر إلى قِسْمَيْن : متواتر ، وآحاد .
وهو ما عليه الجمهور (1) .
المذهب الثاني : تقسيم الخبر إلى ثلاثة أقسام : متواتر ، ومشهور ، وآحاد .
وهو ما عليه الحنفية (2) .
وهو قريب مِن تقسيم المحدِّثين لِلحديث باعتبار عدد نقلتِه (3) .
تعريف الأقسام الثلاثة :
القِسْم الأول : المتواتر .
وهو : ما رواه جَمْع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مِثْلهم مِن أول السند إلى منتهاه ، على أنْ لا يختلّ هذا الجمع في أيّ طبقة مِن طبقات السند .
(1) يُرَاجَع : اللمع /39 والعدة 1/72 والمستصفى /105 والفقيه والمتفقه 1/95 ، 96 وروضة الناظر /90 وإحكام الفصول /319 وقواطع الأدلة 2/234 والإحكام لِلآمدي 2/14 ومختصر التحرير /115 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/51 ، 52 والبلبل /49 وشرح تنقيح الفصول /349 – 356 وإرشاد الفحول /46 ومذكرة أصول الفقه /95
(2) يُرَاجَع : أصول الشاشي وعمدة الحواشي /269 – 271 والتوضيح مع التلويح 2/4 ، 5 وكشف الأسرار لِلبخاري 2/656 – 678 والتحرير مع التيسير 3/37 ومسلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/111 والتعريفات /129 ، 130 والمنار مع شرح إفاضة الأنوار /176 – 178 وأصول الفقه لِلخضري /214 ، 215
(3) يُرَاجَع أصول الحديث /315 – 317
وهو قطعيّ الثبوت ، ويجب العمل به ، ويكفر جاحده ، وهو أعلى مراتب النقل .(1/99)
وينقسم إلى قِسْمَيْن :
الأول : متواتر لفظيّ .
وهو : ما اتحد فيه لفْظ المخبر به .
نَحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار } (1) .
الثاني : متواتر معنويّ .
وهو : ما تغايرت ألفاظه مع الاشتراك في المعنى .
نَحْو : حديث الحوض (2) وسخاء حاتم (3) وشجاعة عَلِيّ - رضي الله عنه - (4) (5) .
(1) أَخْرَجَه البخاري في كتاب العلم : باب إثم مَن كذب على النبي برقم ( 104 ) عن الزبير ابن العوام - رضي الله عنه - ، ومسلم في المقدمة : باب تغليظ الكذب على رسول الله برقم ( 4 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، والترمذي في كتاب الفتن عن رسول الله : باب ما جاء في النهي عن سب الرياح برقم ( 2183 ) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - .
(2) قال المناوي :" قال القرطبي : أحاديث الحوض متواترة ؛ فقد رواه عن النبي أكثر مِن ثلاثين ، ورواه عنهم مِن التابعين أمثالهم ، ثم لم تزل تلك الأحاديث تتوالى وتشير الرواة إليها في جميع الأعصار إلى أن انتهى ذلك إلينا وقامت به حجة الله علينا ، فأجمع عليه السلف والخلف " ا.هـ ..
فيض القدير 3/398
(3) حاتم الطائي : هو أبو عديّ حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي القحطاني ، أحد أجواد الجاهلية ، فارس شاعر جواد ، وهو والد الصحابي الجليل عديّ بن حاتم - رضي الله عنه - ، كانت له مآثر وأمور عجيبة وأخبار مستغربة في كرمه ..
تُوُفِّي في السنة الثامنة بَعْد مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
البداية والنهاية 2/212 – 217 والأعلام 3/151(1/100)
(4) الإمام عَلِيّ : هو الصّحابيّ الجليل أبو الحَسَن عَلِيّ بن أبي طالب بن عبد المُطَّلِب كَرَّم الله وجْهه ابن عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أوَّل مَن أَسلَم مِن الصِّبيان ، وُلِد سَنَة 23 قَبْل الهجرة ، وتَرَبَّى في حِجْر المصطفَى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو رابِع الخلفاء الراشدين ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 40 هـ .
الفتح المبِين 1/60 - 65
(5) يُرَاجَع : أصول الحديث /316 ، 317 ومختصر التحرير /115 وشرح تنقيح الفصول /353 ونهاية السول 2/274 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 3/127
القِسْم الثاني : المشهور .
وهو : ما كان آحاد الأصل – بأنْ يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واحد أو اثنان أو عدد لَمْ يَبلغ حد التواتر – ثُمّ رواه جَمْع متواتر في القرن الثاني حتى وصل إلينا مع قبول الأُمَّة .
نَحْو : حديث { إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات } (1) وحديث { بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْس ... } (2) (3) .
وهو يوجب الطمأنينة عند الحنفية ، أي ظنّاً قريباً مِن اليقين ، فيجب العمل به ، لكن لا يكفر جاحده .
القِسْم الثالث : الآحاد .
وهو : ما رواه واحد أو اثنان فأكثر ما لَمْ يَبلغ حد التواتر حتى وصل إلينا .
مثاله : حديث { مَنِ اشْتَرَى شَاةً فَوَجَدَهَا مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ : إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا ، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا صَاعاً مِنْ تَمْر } (4) (5) .
وهو عند الجمهور مقابل المتواتر ، وعند الحنفية درجة دون المشهور
(1) أَخْرَجه البخاري في كتاب بَدْء الوحي : باب بَدْء الوحي برقم ( 1 ) وأبو داود في كتاب الطلاق : باب فيما عني به الطلاق والنِّيّات برقم ( 1882 ) وابن ماجة في كتاب الزهد : باب النِّيَّة برقم ( 4217 ) ، كُلّهم عن عُمَر بن الخطّاب - رضي الله عنه - .(1/101)
(2) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الإيمان : باب بُنِي الإسلام على خمس برقم ( 7 ) ومسلم في كتاب الإيمان : باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام برقم ( 21 ) والترمذي في كتاب الإيمان عن رسول الله : باب ما جاء بُنِي الإسلام على خمس برقم ( 2534 ) ، كُلّهم عن ابن عمر رضي الله عنهما .
(3) يُرَاجَع عِلْم أصول الفقه لِخَلاّف /41
(4) أَخْرَجَه النسائي في كتاب البيوع : باب النهي عن المصراة برقم ( 4413 ) وأحمد في باقي مسند المكثرين برقم ( 9547 ) ، كلاهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(5) يُرَاجَع أصول الفقه الإسلامي لِبري /46
كما أنّ المشهور دون المتواتر ..
فالمشهور يُعَدّ درجةً متوسطةً بَيْن المتواتر والآحاد ، أمّا عند الجمهور فإنّه خبر آحاد ؛ لأنّ كِلَيْهِمَا لَمْ يَبلغ درجة التواتر .
وخبر الواحد يوجِب العمل متى توافرت فيه شروط القبول ، ولا يوجب العلم يقيناً ، وعلى هذا جمهور علماء المسلمين (1) .
القطعي والظني مِن أقسام السُّنَّة :
القطعي مِن السُّنَّة إمّا أنْ يكون قطعيّ الورود أو قطعيّ الدلالة على الحُكْم : وهو النص الذي لا يحتمل تأويلاً ..
أمّا الأول ( وهو قطعيّ الورود ) : فهذا متحقق في السُّنَّة المتواترة فقط .
وأمّا الثاني ( وهو قطعيّ الدلالة على الحُكْم ) : فهذا قد يتحقق في أقسام السُّنَّة جميعها : المتواترة والمشهورة والآحاد .
والظني مِن السُّنَّة إمّا أنْ يكون ظنِّيّ الورود وإمّا أنْ يكون ظنِّيّ الدلالة على الحُكْم : وهو النص الذي يحتمل تأويلاً ..
أمّا الأول ( وهو ظنِّيّ الورود ) : فهذا متحقق في السُّنَّة المشهورة وخبر الآحاد .
وأمّا الثاني ( وهو ظنِّيّ الدلالة على الحُكْم ) : فهذا قد يتحقق في أقسام السُّنَّة جميعها : المتواترة والمشهورة والآحاد .
ومما تقدَّم تكون السُّنَّة المتواترة هي السُّنَّة القطعية الورود ، وما عداها فهي سُنَّة ظنية الورود (2) .(1/102)
(1) يُرَاجَع : أصول البزدوي مع كشف الأسرار 2/673 – 678 وفواتح الرحموت مع مسلَّم الثبوت 2/111 والمنار مع حاشية نسمات الأسحار /177 ، 178 وأصول الحديث /316 ، 317 وعلم أصول الفقه لِخلاّف /41 ، 42 وأصول الفقه لأبي زهرة /99 ، 100 وأصول الفقه الإسلامي لِبري /44 – 46
(2) يُرَاجَع : عِلْم أصول الفقه لِخلاّف /42 وأصول الفقه الإسلامي لِزكريا البري /51 ، 52
الترجيح بَيْن أقسام الخبر عند الأصوليين :
بَعْد الوقوف على أقسام الخبر عند الأصوليين يتضح لنا ما يلي :
1- أنّه لا ترجيح بَيْن المتواتر والمتواتر ؛ لأنّه لا تعارُض بَيْنَهُمَا ؛ فكلاهما قطعيّ الثبوت ، إلا على رأي مَن يجوِّز التعارض بَيْن القطْعيّيْن .
2- أنّه لا ترجيح بَيْن المتواتر وغَيْره - مشهوراً كان أم آحاداً - لأنّه لا تعارُض بَيْنَهُمَا ، فالمتواتر أقوى مِن المشهور والآحاد ، ولِذَا فإنّه عند التعارض يقدَّم عليهما .
3- أنّ الترجيح بَيْن أقسام الخبر – على رأي الجمهور – دائر بَيْن غَيْر المتواتر – مشهوراً كان أم آحاداً – لأنّهما محلّ التعارض ، ولِذَا جاز الترجيح فيهما في كُلّ واحد منهما .
المطلب الثالث
أقسام الخبر عند المحدّثين
قسَّم المحدّثون الخبرَ تقسيماتٍ عدّةً باعتبارات مختلفة ، منها تقسيمهم باعتبار عَدَد نَقَلَتِه ، وهو التقسيم السابق لِلحنفية ، ومنها تقسيمهم له مِن حيث القبول والرد ..
وقد آثرتُ إيراد هذين القِسْمَيْن لِعمق العلاقة بَيْنَهُمَا وبَيْن موضوع بحثي هذا .
إذا تقرر ذلك .. فإنّ المحدّثين قسّموا الحديث مِن حيث القبول والرد إلى ثلاثة أقسام : صحيح ، وحسن ، وضعيف .
والحديث الصحيح : هو الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ، ولا يكون شاذّاً ولا مُعَلاًّ ، ويُسَمَّى " الصحيح لِذاته " .
وأقسامه عندهم سبعة مرتَّبة على النحو التالي :
القِسْم الأول : أحاديث البخاري (1) ومسلم (2) ( المتفق عليه ) .(1/103)
(1) البخاري : هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي البخاري رحمه الله تعالى ، شيخ الإسلام وإمام الحفّاظ ، وُلِد سَنَة 194 هـ ، كان رأساً في الذكاء والعلم والورع والعبادة ، حفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتَيْ ألف غَيْر صحيح ..
مِن مصنّفاته : الجامع الصحيح ، التاريخ الكبير ، الأدب المفرد ، الضعفاء والمتروكين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 256 هـ .
تذكرة الحفّاظ 5/555 - 557
(2) مسلم : هو أبو الحُسَيْن مُسْلِم بن الحَجّاج بن ورد القُشَيْرِي النيسابوري رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 204 هـ ، روى عن يَحْيَى بن يَحْيَى النيسابوري وقتيبة بن سعيد وإسحاق بن راهويه ، وروى عنه الترمذي وابن خُزَيْمَة وأبو حامد الشرقي .
مِنْ مصنفاته : الجامع الصحيح ، الأسماء والكُنَى ، التاريخ ، الطَّبقات .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 261 هـ ، ودُفِن بنصرآباذ بنيسابور .
شذرات الذهب 1/144 ، 145 ووفيات الأعيان 5/194 ، 195
القِسْم الثاني : ما انفرد به البخاري عن مسلم .
القِسْم الثالث : ما انفرد به مسلم عن البخاري .
القِسْم الرابع : ما أخرجه الأئمة بَعْدهما على شرطهما .
القِسْم الخامس : ما خرج على شرط البخاري وحده .
القِسْم السادس : ما خرج على شرط مسلم وحده .
القِسْم السابع : ما أخرجه بقية الأئمة : كأبي داود (1) والترمذي (2) والنسائي (3) وغيرهم مِن أئمة الحديث (4) .
والحديث الحسن : هو ما عُرِف مَخْرَجُه واشتهر رجاله (5) .
وتعريفه قريب مِن تعريف الحديث الصحيح .
(1) أبو داود : هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني رحمه الله تعالى ، مِن أكابر أئمّة المُحَدِّثِين وعلمائهم بالنَّقْل والعِلَل ، وأحد أصحاب الصِّحاح السِّتَّة ، وُلِد بسجستان سَنَة 202 هـ ..
مِن مصنفاته : السُّنَن ، المراسيل ، النّاسخ والمَنْسُوخ .
تُوفِّي رحمه الله تعالى بالبصرة سَنَة 275 هـ .(1/104)
وفيات الأعيان 2/404 ، 405 والنجوم الزاهرة 3/73 وشذرات الذهب 1/167 ، 168
(2) الترمذي : هو أبو عيسى مُحَمَّد بن عيسى بن سورة السلمي رحمه الله تعالى ، فقيه محدِّث مؤرخ وُلِد سَنَة 210 هـ ، روى عن البخاري وقتيبة بن سعيد وإسحاق بن راهويه ، وروى عنه أبو العبّاس ابن محبوب والهيثم بن كليب الشاشي وأبو بكْر السَّمَرْقَنْدي .
مِن مصنفاته : الجامع الصحيح ( سُنَن الترمذي ) ، الشمائل المحمدية ، العِلَل .
تُوفِّي رحمه الله تعالى بتِرْمِذ سَنَة 279 هـ .
سير أعلام النبلاء 13/270 - 277 وشذرات الذهب 1/174 ، 175 ووفيات الأعيان 4/278
(3) النسائي : هو أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن عَلِيّ النسائي الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه محدِّث ، وُلِد بنيسابور سَنَة 215 هـ ..
مِن مصنّفاته : السُّنَن ، خصائص عَلِيّ ، عمل اليوم والليلة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمكة سَنَة 303 هـ .
النجوم الزاهرة 3/188
(4) يُرَاجَع : شرح نخبة الفكر /3 – 8 والباعث الحثيث /20 – 47 ومقدمة ابن الصلاح /7 ، 8 وتدريب الراوي 1/62 ، 63 ، 88 ، 91 ، 99 ، 122 ، 123 وأصول الحديث /317 ، 318 والمدخل /204 ، 205 ومنهاج الصالحين /47 وقواعد في علوم الحديث /31 – 36
(5) يُرَاجَع : مقدمة ابن الصلاح /15 وتدريب الراوي 1/153
وينقسم إلى قِسْمَيْن :
القِسْم الأول : الحسن لِذاته .
وهو : الحديث الذي كان أحد رواته خفّ حفظه عن حفظ العدل الضابط .
القِسْم الثاني : الحسن لِغَيْره .
وهو : الذي يأتي مِن طُرُق متعددة في مفرداتها ضَعْف يسير ، فيرتقي الحديث بها لِدرجة الحسن لِغَيْره (1) .
والحديث الحسن كما قال ابن الصلاح (2) رحمه الله :" عليه مدار أكثر الحديث ، وهذا الذي يَقبله أكثر العلماء ، ويستعمله عامة الفقهاء " (3) ا.هـ .
والحديث الضعيف : كُلّ حديث لَمْ يجتمع فيه صفات الحديث الصحيح ولا صفات الحديث الحسن .(1/105)
وينقسم الحديث الضعيف إلى أقسام عدة ، أذكر منها ما يلي :
1- المسند : ما اتصل إسناده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
2- المرسل : ما رفعه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن غَيْر ذِكْر الصحابي .
3- المرفوع : ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً أو فعلاً عنه .
4- الموقوف : وهو ما يختصّ بالصحابي ، ولا يُستعمَل فيمن دونه إلا مقيداً .
(1) يُرَاجَع منهاج الصالحين /48
(2) ابن الصلاح : هو تقيّ الدين أبو عمرو عثمان بن المفتي صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان ابن موسى الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي رحمه الله تعالى ، شيخ الإسلام ، أحد أعلام عِلْم الحديث والفقه والتفسير ، وُلِد سَنَة 577 هـ ..
مِنْ مصنَّفاته : المقدمة في علوم الحديث ، مُشْكِل الوسيط ، الفتاوى ، أدب المفتي والمستفتي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 643 هـ .
وفيات الأعيان 3/243 ، 244 وشذرات الذهب 3/221 ، 222
(3) مقدمة ابن الصلاح /15
5- المعضل : ما سقط مِن سنده اثنان فصاعداً ، ومنه ما يرسله تابع التابعي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
6- المعلق : ما حُذِف مِن مبدأ إسناده راوٍ فأكثر على التوالي .
7- المنقطع : ما سقط مِن إسناده رجل ( غَيْر الصحابي ) ، أو يُذكَر فيه رجل مبهم .
8- المدلس : أنْ يروي الراوي عمن عاصره ولَمْ يَلْقَه أو عمن لقيه ولَمْ يسمع منه على وجه يوهِم سماعه .
9- المعلل : ما كان ظاهره السلامة وعُرِفَت فيه علة بَعْد التفتيش .
10- المقلوب : إبدال لفظ بآخَر في سند الحديث أو متنه بتقديم أو تأخير ونحوه .
11- المضطرب : ما اختلفت روايات الحديث في متنه أو سنده ولا يمكن ترجيح أحدهما على الباقية .
12- المدرج : أنْ تزاد لفظة في متن الحديث مِن كلام الراوي .
13- الشاذ : ما رواه الراوي المقبول مخالِفاً لِرواية مَن هو أحفظ منه أو مَن هم أكثر عدداً .(1/106)
14- المنكر : ما شذ به الراوي الذي ليس بعدل ولا ضابط ؛ فإنّه لا يُرَدّ ولا يُقْبَل ، أو ما تفرَّد به الراوي الضعيف أو راوٍ فَحُش غلطه أو ظَهَر فسقه .
15- المتروك : ما كان في إسناده راوٍ متهم بالكذب .
16- الموضوع : هو الكذب المختلق المصنوع المنسوب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
(1) يُرَاجَع : الباعث الحثيث /47 – 96 ومقدمة ابن الصلاح /20 – 48 وتدريب الراوي 1/179 ومنهاج الصالحين /49 ، 50 وأصول الحديث /359 والسُّنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي /113 114 وتيسير مصطلح الحديث /69 – 112 وقواعد في علوم الحديث /31 - 36
الترجيح بَيْن أقسام الخبر عند المحدّثين :
بَعْد الوقوف على أقسام الخبر عند المحدّثين يتضح لنا ما يلي :
1- أنّ الترجيح لا يقع بَيْن الضعيف مِن جهة والصحيح والحسن مِن جهة ثانية ؛ لأنّه لا تعارُض واقع بَيْنَهُمَا ؛ حيث إنّ الصحيح والحسن كُلّ واحد منهما أقوى مِن الضعيف .
2- أنّ الترجيح واقع بَيْن الصحيح والحسن ؛ لِوقوع التعارض بَيْنَهُمَا أو في كُلّ واحد منهما .
3- أنّ الصحيح مرجَّح على غَيْره ، وأنّه أقسام : أعلاها ما اتفق عليه الشيخان .
وفي ذلك يقول الفتوحي رحمه الله تعالى :" فيقدَّم إجماع سابق ، وأعلاه متواتر نطقيّ فآحاد فسكوتيّ كذلك ، فالكتاب ومتواتر السُّنَّة ؛ لِقطعيتهما ، فيقدَّمان على باقي الأدلة لأنّهما قاطعان مِن جهة المتن ، أمّا المتواتران مِن السُّنَّة فمتساويان قطعاً ..
ثُمّ يقدَّم آحاد السُّنَّة على مراتبها ، وأعلاها الصحيح ثُمّ الحسن ثُمّ الضعيف ، وهو أصناف كثيرة ، وتتفاوت مراتب كُلّ مِن الصحيح والحسن والضعيف ، فيقدَّم مِن كُلّ ذلك ما كان أقوى " (1) ا.هـ .
4- أنّ البعض لا يحتجّ بالحديث الضعيف ويرى ترك العمل به ، وهو مذهب ابن حزم وظاهر مذهب الإماميْن البخاري ومسلم رحمهم الله تعالى .(1/107)
وذهب بعضهم إلى العمل به في فضائل الأعمال والمواعظ بشروط : أنْ لا يكون شديد الضَّعْف ، وأنْ يندرج تحت أصْل معمول به ، وأنْ لا يعتقد عند العمل به ثبوته ، بل يعتقد الاحتياط (2) .
وذهب الإمام أحمد - رضي الله عنه - إلى الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا
(1) شرح الكوكب المنير 4/600 – 604 بتصرف .
(2) يُرَاجَع : أصول الحديث /373 ، 374 وقواعد في علوم الحديث /37
لَمْ يكن في الباب شيء يدفعه .
ونصّ ابن القيم (1) – رحمه الله تعالى – على أنّ هذا هو مذهب الأئمة جميعهم في قوله :" الأصل الرابع : الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لَمْ يكن في الباب شيء يدفعه ، وهو الذي رجَّحه على القياس ، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به ...
ولِلضعيف عنده مراتب ، فإذا لَمْ يجد في الباب أثراً يدفعه ولا قول صاحب ولا إجماعاً على خلافه كان العمل به عنده أَوْلَى مِن القياس ..
وليس أحد مِن الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل مِن حيث الجملة فإنّه ما منهم أحد إلا وقد قدَّم الحديث الضعيف على القياس " (2) ا.هـ .
والراجح عندي : ما ذهب إليه الأئمة - رضي الله عنهم - مِن العمل بالحديث الضعيف والأخذ به إذا لَمْ يتقدمه دليل آخَر أقوى منه كتاباً أو حديثاً صحيحاً أو حسناً وبشرط : أنْ لا يكون شديدَ الضَّعْف ، وأنْ يندرج تحت أصْل معمول به .
(1) ابن القيم : هو شَمْس الدِّين أبو عبْد الله محمّد بن أبي بَكْر بن أيّوب بن سَعْد الزرعي الدمشقي الحنبلي رحمه الله تعالى ، سُمِّي بـ" ابن قَيِّم الجوزيّة " لأنّ والده كان قيِّماً على المَدْرَسَة الجوزيّة بدمشق ، وُلِد في دمشق سَنَة 691 هـ ..
مِنْ مصنَّفاته : أعلام الموقّعين ، الروح ، الطب النبوي ، مَدارج السّالكين ، زاد المَعاد .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 751 هـ .
شذرات الذهب 3/160(1/108)
(2) أعلام الموقعين 1/38 بتصرف ويُرَاجَع المدخل /116 ، 117
المطلب الرابع
ترجيحات الأخبار عند الأصوليين
بَعْد أنْ وقفنا على محلّ الترجيح وتبيَّن لنا أنّ الجمهور منعوا وقوع الترجيح في القطعيات ، وكذا بَيْن القطعي والظني ؛ لأنّه لا تعارُض واقع في الحالتيْن ، ولِذَا فإنّهم حصروا الترجيح في المظنون ..
وفي ذلك يقول إمام الحرمين رحمه الله تعالى :" فإذا ثبت أصْل الترجيح فلا سبيل إلى استعماله في مسالك القطع ، فإذا أجرى المتكلم في مسلك قطعيّ صيغةَ ترجيح أشعرَت بذهوله أو غباوته ..
وما يفضي إلى القطع لا ترجيح فيه ؛ فإنّه ليس بَعْد العلم بيان ولا ترجيح ، وإنما الترجيحات تغليبات لِطُرُق الظنون ، ولا معنى لِجريانها في القطعيات ؛ فإنّ المرجَّح أغلب في الترجيح وهو مظنون ، والمظنون غَيْر جارٍ في مسلك القطع ، فكيف يجري في القطعيات ترجيح ما لا يجري أصْله فيها ؟! " (1) ا.هـ .
وحيث إنّ القرآن الكريم والسُّنَّة المتواترة كلاهما مقطوع فإنّ الترجيح لا يجري فيهما ، وإن كان التعارض – في الظاهر – واقعاً وموجوداً في نصوصهما لكنّه مرفوع : إمّا بالجمع بَيْنَهُمَا ، نَحْو : عدَّة المطلقة الحائل المحددة بثلاثة قروء في قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوء} (2) فإنّه معارَض بقوله تعالى {وَأُولَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} (3) ؛ فقد
(1) البرهان 2/1143 ، 1144
(2) سورة البقرة مِن الآية 228
(3) سورة الطلاق مِن الآية 4
جعل عدة الحامل وضْع حَمْلِهَا ، ورفع هذا التعارض بجعل الحُكْم الأول ( العدة بالأقراء ) في غَيْر الحامل ، وجعل الحُكْم الثاني خاصّاً بالحامل ، وهو جمْع بَيْن النصّيْن المتعارضيْن .(1/109)
وقد يُرفع التعارض بالنسخ - عندما لا يمكن الجمع - مع معرفة المتأخر والمتقدم منهما ؛ فيكون المتأخر ناسخاً لِلمتقدم : كما في قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} (1) ؛ فإنّه معارَض بقوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا وَصِيَّةً لأَزْوَجِهِم مَّتَعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاج} (2) ؛ فالحُكْمان في عدة المتوفى عنها زوجها : الأول جعلها أربعة أشهر وعشراً ، والثاني جعلها حولاً كاملاً ، ولا يمكن الجمع بَيْنَهُمَا ، وكان الأول متأخراً ، فلِذَا كان ناسخاً لِلحُكْم الثاني ، لِتصبح عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً (3) .
وكذلك الحال إذا كان الدليلان المتعارضان أحدهما قطعيّ والآخَر ظنِّيّ لا ترجيح بَيْنَهُمَا ؛ لأنّ القطعي هو الأقوى ، فيقدَّم على الظني .
وإذا أخرجنا القطْعيّيْن والقطعي مع الظني مِن وقوع الترجيح فيهما فلَمْ يَبْقَ إلا المظنون محلاًّ لِلترجيح ، وهو متحقق في سُنَّة الآحاد والقياس .
وفي ذلك يقول ابن إمام الكاملية رحمه الله تعالى :" فالكتاب والإجماع لا يأتي فيهما الترجيح ..
أمّا الكتاب : فلأنّه لا ترجيح لأحد الآيتيْن على الأخرى عند تعارُضهما إلا بأنْ تكون إحداهما مخصِّصةً لِلأخرى أو ناسخة .
وأمّا الإجماع : فلأنّه لا تعارُض فيه كما مر .
(1) سورة البقرة مِن الآية 234
(2) سورة البقرة مِن الآية 240
(3) يُرَاجَع : أحكام القرآن لِلجصاص 5/354 وتفسير القرآن العظيم 1/271 ، 287 4/383
فالترجيح إنما يكون لأحد الخبريْن على الآخَر ، أو لأحد القياسيْن على الآخَر " (1) ا.هـ .(1/110)
ومما تقدَّم يتضح أنّ الترجيح بَيْن النصوص ( المنقول ) مقصور عند الأصوليين على السُّنَّة غَيْر المتواترة ، ولِذَا عنونَت كثرة منهم بـ" ترجيحات الأخبار " (2) ، وعليه بنيتُ عنوان بحثي هذا .
(1) تيسير الوصول 6/173 ، 174
(2) يُرَاجَع : إحكام الفصول /731 والمستصفى /376 والمحصول 2/453 والمنهاج مع شرحه 2/795 وروضة الناظر /413 وشرح تنقيح الفصول /422
المطلب الخامس
ترجيحات الأخبار عند المحدّثين
لَمّا كان جوهر موضوعنا ولُبّه هو الأخبار كان لا بُدّ لنا أنْ نرجع إلى المحدّثين ؛ لِنقف على موقع الترجيحات عندهم وكيف تعاملوا معها ..
وبَعْد الوقوف على بعض مراجع عِلْم مصطلح الحديث في هذا المقام اتضح لنا ما يلي :
1- أنّهم بحثوا الأحاديث المتعارضة تحت عنوان " اختلاف الحديث " أو " مختلف الحديث " ..
وفي ذلك يقول النووي (1) رحمه الله تعالى :" النوع السادس والثلاثون : معرفة مختلف الحديث وحُكْمه : هذا فن مِن أهمّ الأنواع ، ويضطر إلى معرفته جميع العلماء مِن الطوائف ، وهو أنْ يأتي حديثان متضادّان في المعنى ظاهراً فيوفِّق بَيْنَهُمَا أو يرجِّح أحدهما ..
وإنما يكمل به الأئمة الجامعون بَيْن الحديث والفقه والأصوليون الغواصون على المعاني " (2) ا.هـ .
ويقول شمس الدين السخاوي (3) رحمه الله :" مختلف الحديث : وهو
(1) النووي : هو محيي الدِّين أبو زكريّا يحيى بن شرف بن مري الحِزامي النووي الدمشقي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد في نوى مِن أعمال دمشق سَنَة 631 هـ ..
مِنْ مصنَّفاته : بستان العارفين ، رياض الصّالحين ، شرح صحيح مسلِم ، منهاج الطّالبين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بـ" نوى " سَنَة 676 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 8/395 - 400 وطبقات الفقهاء /268 ، 269
(2) التقريب 2/196(1/111)
(3) السخاوي : هو شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر السخاوي القاهري الشافعي رحمه الله تعالى ، نزيل الحرمين ، فقيه أصوليّ محدِّث فرضيّ مفسِّر ، وُلِد بالقاهرة =
مِن أهمّ الأنواع ، مضطر إليه جميع الطوائف مِن العلماء ، وإنما يكمل به مَن كان إماماً جامعاً لِصناعتَيِ الحديث والفقه غائصاً على المعاني الدقيقة " (1) ا.هـ .
ويقول الطحاوي (2) رحمه الله :" فإنّي نظرتُ في الآثار المروية عنه - صلى الله عليه وسلم - بالأسانيد المقبولة ... فوجدتُ فيها أشياءَ مما سقطت معرفتها والعلم بما فيها عن أكثر الناس ، فمال قلبي إلى تأملها وتبيان ما قدرتُ عليه مِن مُشْكِلها ومِن استخراج الأحكام التي فيها ، ومِن نفي الإحالات عنها " (3) ا.هـ .
2- أنّ بعضاً منهم أفرد مصنفاً في الأحاديث المتعارضة ..
ومما وقفتُ منها في ذلك ما يلي :
أ- اختلاف الحديث لِلإمام الشافعي - رضي الله عنه - .
ب- مشكل الآثار لِلطحاوي رحمه الله تعالى .
جـ- تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (4) رحمه الله تعالى .
= سَنَة 831 هـ ، لازم ابنَ حجر – رحمه الله تعالى – وأخذ عنه ..
مِن مصنّفاته : فتح المغيث ، الضوء اللامع ، القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة المنورة سَنَة 902 هـ .
شذرات الذهب 8/15 - 17
(1) فتح المغيث 1/75
(2) الطحاوي : هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الحجري المصري الطحاوي الشافعي ثُمّ الحنفي رحمه الله تعالى ، الإمام العلاّمة الحافظ الثبت الفقيه ، وُلِد بمصر سَنَة 237 هـ ..
مِن مصنَّفاته : أحكام القرآن ، اختلاف العلماء ، بيان السُّنَّة والجماعة ، حُكْم أراضي مكة المكرمة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 321 هـ .
تذكرة الحفّاظ 3/808 - 811
(3) مشكل الآثار 1/3 بتصرف .(1/112)
(4) ابن قتيبة : هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري رحمه الله ، وُلِد سَنَة 213 هـ ..
مِن مصنّفاته : غريب القرآن ، المعارف ، عيون الأخبار ، طبقات الشعراء ، جامع النحو .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 276 هـ .
وفيات الأعيان 3/42 - 44 وشذرات الذهب 1/169 ، 170
د- التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي (1) رحمه الله تعالى .
3- أنّ هذه المصنفات السابقة ونحوها قامت على الجمع بَيْن الروايات والأخبار المتعارضة أو الترجيح بَيْنَهَا .
4- أنّ كثيراً منهم نهج نهْجَ الجمهور في دفع التعارض مِن : الجمع بَيْن الخبريْن المتعارضيْن ، وإلا فالنسخ ، وإلا فالترجيح .
وفي ذلك يقول النووي رحمه الله تعالى :" والمختلف قِسْمان : أحدهما يمكن الجمع بَيْنَهُمَا ، فيتعين ويجب العمل بهما ، والثاني لا يمكن بوجه : فإنْ علمنا أحدهما ناسخاً قدَّمناه ، وإلا عملنا بالراجح " (2) ا.هـ .
ويقول الحافظ العراقي (3) – رحمه الله تعالى – في ألفيّته :
والمتن إنْ نافاه متْن آخَرْ ... وأمكن الجمع فلا تنافُرْ
كمتْن {لاَ يُورِد}(4) مع {لاَ عَدْوَى}(5) ... فالنفي لِلطبع وفِرْ عَدْوَا
(1) ابن الجوزي : هو أبو الفرج عبد الرحمن بن عَلِيّ بن محمد الجوزي القرشي البغدادي الحنبلي رحمه الله تعالى ، ، فقيه أصوليّ محدِّث حافظ مفسِّر واعظ أديب ، وُلِد سَنَة 508 هـ ..
مِن مصنّفاته : زاد المسير ، روح الأرواح ، الناسخ والمنسوخ ، صفة الصفوة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 597 هـ .
وفيات الأعيان 1/279 والبداية والنهاية 13/28 والفتح المبين 2/40 - 42
(2) التقريب 2/197 ، 198(1/113)
(3) العراقي : هو الحافظ زين الدين أبو الفضل عبد الرحيم بن الحُسَيْن بن عبد الرحمن بن أبي بَكْر العراقي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بمنشأة المهرانيّ ( موضع بالقاهرة حالياً ) سَنَة 725 هـ ، سُمِّي بـ" عبد الرَّحيم " تَيَمُّناً بالوليّ الصالح الشيخ عبد الرحيم القنائي ، وُلِّي قضاء المدينة المُنَوَّرة ، أَخَذ عن تقيّ الدين القنائي والتّقيّ السبكي وعلاء الدين التركماني وأبي الفتح الميدومي رحمهم الله تعالى ، وأَخَذ عنه ابن حَجَر العسقلاني ونور الدين الهيتمي وابنه وليّ الدين رحمهم الله تعالى .
مِن مؤلَّفاته : الألفيّة في الحديث ، تخريج أحاديث الإحياء ، المراسيل ، نُكَت ابن الصلاح .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 806 هـ .
طبقات الشافعية 4/29 – 33 وشذرات الذهب 4/55 - 57
(4) أَخْرَجَه مسلم في كتاب السلام : باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ... برقم ( 4117 ) وابن ماجة في كتاب الطب : باب مَن كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة برقم ( 3531 ) وأحمد في باقي مسند المكثرين برقم ( 9239 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، ولفظه { لاَ يُورِدُ الْمُمْرِضٌ عَلَى الْمُصِحّ } .
(5) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الطب : باب الطيرة برقم ( 5312 ) ومسلم في كتاب السلام : باب =
أو لا فإنْ نسْخ بَدَا فاعمل بهِ ... أو لا فرجِّح واعملنْ بالأشبهِ (1)
ويقول ابن كثير رحمه الله تعالى :" والتعارض بَيْن الحديثيْن قد يكون بحيث لا يمكن الجمع بَيْنَهُمَا بوجه : كالناسخ والمنسوخ ، فيصار إلى الناسخ ويُترَك المنسوخ ، وقد يكون بحيث يمكن الجمع ولكن لا يظهر لِبعض المجتهدين ، فيتوقف حتى يظهر له وجْه الترجيح بنوع مِن أقسامه " (2) ا.هـ .
5- أنّ بعضاً منهم تعرَّض لِلمرجّحات بَيْن الأخبار وتعاونوا في حصرها ..(1/114)
فذكر الحازمي (3) - رحمه الله تعالى – في " الاعتبار " خمسين وجهاً وأوصلها العراقي – رحمه الله تعالى – إلى مائة وعشرين وجهاً ، وقسمها السيوطي (4) – رحمه الله تعالى – إلى سبعة أقسام ، تحت كُلّ قِسْم منها وجوه عديدة (5) .
= لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ... برقم ( 4117 ) وأحمد في باقي مسند المكثرين برقم ( 9239 ) كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(1) ألفية الحديث 1/75
(2) اختصار علوم الحديث /196
(3) الحازمي : هو زين الدين أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان الحازمي الهمذاني الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 548 هـ ، قَدِم بغداد وأخذ مِن علمائها وصار مِن أحفظ الناس لِلحديث وأسانيده ورجاله ، مع زهْد وتعبُّد ورياضة وذِكْر ..
مِن مصنَّفاته : الناسخ والمنسوخ ، المؤتلف والمختلف ، سلسلة الذهب ، شروط الأئمة الخمسة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 584 هـ .
تذكرة الحفّاظ 4/1363 - 1365
(4) السيوطي : هو جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بَكْر بن مُحَمَّد بن سابق الدين السيوطي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 849 هـ ، فقيه أصوليّ مفسِّر محدِّث مؤرِّخ لغويّ صوفيّ ..
مِن مصنَّفاته : الإتقان في علوم القرآن ، الدُّرّ المنثور ، الأشباه والنظائر ، الحاوي لِلفتاوى .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 911 هـ .
الكواكب السائرة 1/226 والضوء اللامع 4/65
(5) يُرَاجَع : شرح نخبة الفكر /29 – 46 وتدريب الراوي 2/196 – 202 وفتح المغيث 1/76 ، 77 والباعث الحثيث /198
ومما تقدَّم تتضح مدى العلاقة بَيْن ترجيحات الأخبار عند الأصوليين وعند المحدّثين ، وأنّ كُلاًّ منهما أَوْلاَهَا عنايةً ورعايةً تليق بالذب عن السُّنَّة المطهرة ودفع التعارض الواقع – في الظاهر – بَيْن نصوصها .
الفصل الثالث
الترجيح العائد إلى السند
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : ( تمهيديّ ) .
المبحث الثاني : الترجيح العائد إلى الراوي .(1/115)
المبحث الثالث : الترجيح العائد إلى الرواية والمروي ووقْت الرواية .
المبحث الأول
( تمهيديّ )
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : أقسام ترجيحات الأخبار .
المطلب الثاني : أقسام الترجيح العائد إلى السند .
المطلب الأول
أقسام ترجيحات الأخبار
اختلف الأصوليون في حصرهم لأقسام ترجيحات الأخبار بَيْن مجمِل ومفصِّل ..
فمنهم مَن حصرها في قِسْمَيْن :
الأول : الترجيح العائد إلى الإسناد (1) .
الثاني : الترجيح العائد إلى المتن (2) .
وهو اختيار الشيرازي والباجي وابن السمعاني وابن الهمام وابن عبد الشكور رحمهم الله تعالى (3) .
ومنهم مَن حصرها في ثلاثة أقسام :
الأول : الترجيح العائد إلى السند .
الثاني : الترجيح العائد إلى المتن .
الثالث : الترجيح بأمور خارجية .
وهو اختيار الغزالي وابن عقيل (4) وأبي يعلى وابن قدامة والطوفي رحمهم الله تعالى (5) .
(1) الإسناد : مِن " السند " ، وهو سلسلة الرجال الموصلة لِلمتن .
(2) المتن : هو ألفاظ الحديث التي تتقوم بها المعاني .
(3) يُرَاجَع : اللمع /46 – 48 وإحكام الفصول /735 وقواطع الأدلة 3/30
(4) ابن عقيل : هو أبو الوفا علِيّ بن عقيل بن مُحَمَّد بن عقيل بن أَحْمَد البغدادي الظفري الحنبلي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : الفنون ، كفاية المفتي ، الواضح في أصول الفقه ، عمدة الأدلّة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 513 هـ .
الفتح المبين 2/12 والبداية والنهاية 12/184
(5) يُرَاجَع : المستصفى /376 والواضح 5/71 والعدة 3/1019 – 1056 وروضة الناظر /413 والبلبل /187
ومنهم مَن حصرها في أربعة أقسام :
الأول : الترجيح العائد إلى السند .
الثاني : الترجيح العائد إلى المتن .
الثالث : الترجيح العائد إلى مدلول اللفظ .
الرابع : الترجيح العائد إلى أمْر خارجيّ .
وهو اختيار ابن الحاجب والآمدي والتفتازاني والفتوحي والشوكاني رحمهم الله تعالى (1) .
ومنهم مَن حصرها في سبعة أقسام :(1/116)
الأول : الترجيح العائد إلى الإسناد .
الثاني : الترجيح العائد إلى وقْت الرواية .
الثالث : الترجيح بكيفية الرواية .
الرابع : الترجيح بحال ورود الخبر .
الخامس : الترجيح العائد إلى اللفظ .
السادس : الترجيح العائد إلى الحُكْم .
السابع : الترجيح العائد إلى الأمور الخارجية .
وهو اختيار الفخر الرازي رحمه الله تعالى ، وقريب منه اختيار البيضاوي والزركشي والأصفهاني والإسنوي رحمهم الله تعالى (2) .
ومِن الأصوليين مَن أورد ترجيحات الأخبار جملةً دون تقسيم لها ، فأورد نَحْو خمسين مرجّحاً ، وهو اختيار الصفي الهندي وابن السبكي رحمهم الله تعالى (3) .
(1) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع بيان المختصر 3/374 والإحكام لِلآمدي 4/251 والتلويح 2/230 وشرح الكوكب المنير 4/627 وإرشاد الفحول /276
(2) يُرَاجَع : المحصول 2/453 – 459 والمنهاج مع شرحه 2/795 – 799 والبحر المحيط 6/150 – 179 ونهاية السول 3/167 – 170 ومناهج العقول 3/165 – 170 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/420 – 432 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /307 – 380
(3) يُرَاجَع : الفائق 4/407 – 452 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/363 – 373
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على أقسام ترجيحات الأخبار عند الأصوليين يتضح لنا ما يلي :
1- أنّ حصر الأقسام في قِسْمَيْن فيه تضييق ومشقة ؛ لأنّه يمنع الترجيحَ بأمور خارجة عن الإسناد والمتن .
2- أنّ حصرها في سبعة أقسام فيه توسُّع وتفصيل لا حاجة إليه ؛ لأنّ بعضها راجِع إلى الإسناد وبعضها راجِع إلى المتن وبعضها راجِع إلى مدلول اللفظ وبعضها راجِع إلى أمْر خارجيّ .
3- أنّ الترجيح العائد إلى مدلول اللفظ وإنْ كان راجعاً إلى المتن أو اللفظ لكنّه جدير بإفراده بالبحث ؛ لِكثرة الصور التي تندرج تحته ، وهذا غَيْر متحقق عند الحاصرين في ثلاثة أقسام .(1/117)
4- أنّ الذين ذكروا المرجّحات سرداً بلا تقسيم لها حتى قاربت الخمسين قد خالفوا منهج مَن تقدَّمهم المبنيّ على التقسيم الذي ييسر على القارئ استيعابها وفهمها وحفظها .
5- أنّنا لو دققنا النظر في الأخبار المتعارضة لِنرجِّح بَيْنَهَا فسنرى أنّ الترجيح : إمّا أنْ يكون راجعاً إلى السند ، وإمّا أنْ يكون راجعاً إلى المتن وإمّا أنْ يكون راجعاً إلى مدلول اللفظ ، وإمّا أنْ يكون راجعاً إلى أمْر خارجيّ عمّا تقدَّم .
وهو ما ذهب إليه الفريق الثالث ، وهو الأَوْلَى عندي بالقبول والاختيار وعلى ضوئه سأسير فيما سيأتي – بإذن الله تعالى – في تقسيم المرجّحات .
المطلب الثاني
أقسام الترجيح العائد إلى السند
لَمّا كان الترجيح العائد إلى السند له وجوه أو صور كثيرة فإنّ بعض الأصوليين حاول أنْ يجمع الوجوه المتقاربة أو التي ترجع إلى عامل واحد حتى يسهل فَهْم هذه الوجوه واستيعابها ..
ومِن هؤلاء : فخر الدين الرازي – رحمه الله تعالى – الذي قسَّم الترجيح العائد إلى السند إلى أقسام أربعة :
الأول : حال الرواة أو كثرتهم .
الثاني : وقْت الرواية .
الثالث : كيفية الرواية .
الرابع : حال ورود الخبر ( وقْت ورود الرواية ) .
وتبعه في ذلك البيضاوي وشُرّاح منهاجه والزركشي رحمهم الله (1) .
ومنهم : الآمدي – رحمه الله تعالى – الذي قسَّم الترجيح العائد إلى السند إلى أربعة أقسام :
الأول : ما يعود إلى الراوي .
الثاني : ما يعود إلى نَفْس الرواية .
الثالث : ما يعود إلى المرويّ .
الرابع : ما يعود إلى المرويّ عنه .
واختاره التفتازاني والفتوحي رحمهما الله تعالى (2) .
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/453 – 459 والمنهاج مع شرحه 2/795 – 802 ونهاية السول 3/167 والبحر المحيط 6/150 – 163 ومناهج العقول 3/165
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/251 – 261 والتلويح 2/230 وشرح الكوكب المنير 4/628 - 657(1/118)
ومنهم : الأصفهاني – رحمه الله تعالى – الذي قسَّمه إلى ثلاثة أقسام :
الأول : حال الراوي .
الثاني : حال الرواية .
الثالث : حال المرويّ عنه (1) .
والأَوْلَى عندي : تقسيم الآمدي رحمه الله تعالى ؛ لأنّ الأقسام الثلاثة الأخيرة عند الفخر الرازي – رحمه الله تعالى – تندرج تحت القِسْم الثاني عند الآمدي رحمه الله تعالى ؛ لأنّها عائدة إلى نَفْس الرواية .
وتقسيم الأصفهاني – رحمه الله تعالى - لَمْ يجعل ما يعود إلى المرويّ قِسْماً ، والأَوْلَى جَعْلُه كما فعل الآمدي رحمه الله تعالى .
(1) يُرَاجَع بيان المختصر 3/376
المبحث الثاني
الترجيح العائد إلى الراوي
وفيه مطالب :
المطلب الأول : الترجيح بكثرة الرواة .
المطلب الثاني : الترجيح بعلوّ الإسناد .
المطلب الثالث : الترجيح بعِلْم الراوي .
المطلب الرابع : الترجيح بعدالة الراوي وورعه .
المطلب الخامس : الترجيح بذكاء الراوي وضبطه .
المطلب السادس : الترجيح بشهرة الراوي .
المطلب الأول
الترجيح بكثرة الرواة
الحديث في هذا المطلب يمكن تقسيمه على النحو التالي :
1- مذاهب الأصوليين وأدلتهم في الترجيح بكثرة الرواة .
2- تمهيد في بيان أثر الترجيح في الأحكام .
3- مثال الترجيح بكثرة الرواة .
ونفصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..
أوّلاً - مذاهب الأصوليين وأدلتهم في الترجيح بكثرة الرواة :
إذا تعارض خبران وكثر رواة أحدهما دون الآخَر : فهل يرجَّح الأول بكثرة رواته أم لا ؟
اختلف الأصوليون في ذلك على مذْهبيْن :
المذهب الأول : الترجيح بكثرة الرواة .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الشيرازي وإمام الحرمين وابن عقيل والغزالي وأبو يعلى والباجي وابن السمعاني وابن قدامة والفخر الرازي والصفي الهندي والآمدي وابن الحاجب والزركشي رحمهم الله تعالى (1) ، وهو قول الإمام مالك (2) والإمام الشافعي (3) والإمام أحمد - رضي الله عنهم - (4) .(1/119)
(1) يُرَاجَع : اللمع /46 والبرهان 2/1163 والواضح 5/76 والمستصفى /377 والعدة 3/1019 وإحكام الفصول /737 وقواطع الأدلة 2/32 وروضة الناظر /413 والمحصول 2/453 والفائق 4/407 والإحكام لِلآمدي 4/251 والمختصر مع بيانه 3/374 والبحر المحيط 6/150 وقواعد الأصول /41
(2) يُرَاجَع المسودة /305
(3) يُرَاجَع : الرسالة /433 والبحر المحيط 6/150
(4) يُرَاجَع : العدة 3/1019
أدلة هذا المذهب :
احتجّ أصحاب هذا المذهب على الترجيح بكثرة الرواة بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال :" صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِحْدَى صَلاَةِ الْعَشِيّ [ الظهر والعصر ] رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ (1) وَعُمَرُ (2) ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ ، فَقَالُوا :" أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ ؟ " ، وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - " ذَا الْيَدَيْنِ " (3) فَقَالَ :" يَا رَسُولَ اللَّهِ .. أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاَةُ ؟ " فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - { لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَر } ..
وفي رواية : سأل الصحابة وقال - صلى الله عليه وسلم - { أَحَقّاً مَا يَقُولُهُ ذُو الْيَدَيْن } قالوا :" نَعَم " ، فقام - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى ركْعتيْن ثُمّ سلَّم (4) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شك في استفهام ذي اليديْن لأنّه واحد ، ولِذَا
(1) أبو بَكْر الصِّدِّيق : هو الصّحابيّ الجليل عبد الله بن عثمان بن عامر التيمي رضي الله عنهما ، وُلِد بمكة سَنَة 51 قَبْل الهجرة ، أول مَن أَسْلَم مِن الرجال ، وأول الخلفاء الراشدين ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 13 هـ .
أسد الغابة 3/205 والإصابة 2/341(1/120)
(2) عُمَر بن الخطّاب : هو أبو حفْص الفاروق عُمَر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي القرشي - رضي الله عنه - ، وُلِد سَنَة أربعين قَبْل الهجرة ، مِن السابقين في الإسلام الذين أَعَزَّ الله بهم دينه ، تَوَلَّى الخلافة سَنَة 13 هـ ، وهو الخليفة الراشد الثاني ..
قُتِل - رضي الله عنه - شهيداً سَنَة 23 هـ .
شذرات الذهب 1/33 ، 34 والفتح المبين 1/54 - 57
(3) ذو اليديْن : هو رجل مِن بني سليم يقال له " الخرباق " - رضي الله عنه - ، شهد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، وعاش إلى أنْ روى عنه متأخرو التابعين ..
الإصابة 1/491 ، 492
(4) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الصلاة : باب تشبيك الأصابع في المسجد وغَيْره برقم ( 460 ) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة : باب السهو في الصلاة والسجود له برقم ( 896 ) والنسائي في كتاب السهو : باب ما يفعل مَن سلَّم مِن ركْعتيْن وتكلَّم برقم ( 1209 ) .
أراد أنْ يتقين مِن ذلك فسأل أصحابه - رضي الله عنهم - الذين أكدوا ما قاله ذو اليديْن - رضي الله عنه - فتقوَّى قول ذي اليديْن حينئذٍ ، مما يدلّ على وقوع الترجيح بكثرة الرواة (1) .
الدليل الثاني : ما رُوِي أنّ جدّةً أتت إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - تطلب حقها في الميراث فقال لها :" مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ ، وَمَا أَعْلَمُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئاً ، وَلَكِنِ ارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاس " ، فقال المغيرة ابن شعبة - رضي الله عنه - (2) :" حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاهَا السُّدُس " ، فقال له أبو بكر - رضي الله عنه - :" هَلْ مَعَكَ غَيْرُك ؟ " ، فشهد له محمد بن مَسْلَمَة - رضي الله عنه - (3) ، فأمضاه أبو بكر - رضي الله عنه - (4) ..
وهذا يدلّ على أنّ الخبر يقوى إسناده بزيادة عدد الرواة ويرجح به ، وهو المدعى (5) .(1/121)
الدليل الثالث : أنّ الجماعة أضبط وأكثر حفظاً ، ولِذَا يكون الشيء بَيْنَهَا أحفظ منه في الجماعة القليلة ؛ لأنّ الواحد لو نسي ذكَّره الآخَر ، تماماً
(1) يُرَاجَع : الواضح 5/77 والعدة 3/1021 وروضة الناظر /414 والإحكام لِلآمدي 4/251 ، 252 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /309
(2) المغيرة : هو الصحابي الجليل أبو عيسى المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي - رضي الله عنه - ، كان يقال له " مغيرة الرأي " لِذكائه ودهائه ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالكوفة سَنَة 50 هـ .
الطبقات الكبرى 4/284 – 286 والإصابة 6/197 - 199
(3) محمد بن مَسْلَمَة : هو الصحابي الجليل أبو عبد الرحمن محمد بن مَسْلَمَة بن سلمة الأوسي الأنصاري الحارثي - رضي الله عنه - ، وُلِد قَبْل البعثة باثنتين وعشرين عاماً ، شهد المشاهد كُلّها إلا تبوك ؛ فإنّه تخلَّف عنه بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - له أنْ يقيم في المدينة ، وهو أحد الذين قتلوا كعب بن الأشرف .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 46 هـ .
الاستيعاب 3/334 – 336 والإصابة 6/33 ، 34
(4) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الفرائض عن رسول الله : باب ما جاء في ميراث الجدّة برقم ( 2026 ) وأبو داود في كتاب الفرائض : باب في الجدّة برقم ( 2507 ) وابن ماجة في كتاب الفرائض : باب ميراث الجدّة برقم ( 2714 ) ، كُلّهم عن قَبِيصَة بن ذُؤَيْب الخزاعي - رضي الله عنه - .
(5) يُرَاجَع : المراجع السابقة وإحكام الفصول /737 ، 738
كما جعل الله عَزّ وجَلّ شهادة المرأة مقوِّيةً لِلمرأة الثانية في قوله تعالى {أَن تَضِلَّ إِحْدَهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَهُمَا الأُخْرَى} (1) ..
ولِذَا كان الخبر المرويّ عن الكثرة آكَد ؛ لِكونه أبعد عن السهو والغلط وأقرب إلى الضبط والحفظ (2) .
المذهب الثاني : عدم جواز الترجيح بكثرة الرواة .(1/122)
وهو ما عليه الحنفية وبعض المالكية (3) والشافعية ، وقول أبي حنيفة (4) وأبي يوسف (5) (6) والشافعي - رضي الله عنهم - في القديم (7) .
أدلة هذا المذهب :
استدلّ أصحاب هذا المذهب على عدم الترجيح بكثرة الرواة بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ خبر الجماعة الذي رواه الكثرة ما لَمْ ينتهِ إلى حد التواتر
(1) سورة البقرة مِن الآية 282
(2) يُرَاجَع : الواضح 5/78 والعدة 3/1022 وإحكام الفصول /738 وأدلة التشريع المتعارضة /120 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /310
(3) يُرَاجَع إحكام الفصول /737
(4) الإمام أبو حنيفة : هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن كاوس بن هرمز - رضي الله عنه - ، أول الأئمّة الأربعة وُلِد بالكوفة سَنَة 80 هـ ..
مِن مصنَّفاته : المخارج في الفقه واللغة .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 150 هـ .
الأعلام 9/4 والفتح المبين 1/106 - 110
(5) أبو يوسف : هو القاضي يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي الحنفي رحمه الله تعالى تلميذ الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - ، وُلِد بالكوفة سَنَة 113 هـ ، أوَّل مَن سُمِّي بـ" قاضي القضاة " ..
مِن تصانيفه : الخراج ، أدب القاضي ، الجوامع .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 181 هـ .
البداية والنهاية 10/180 والفتح المبين 4/13 ، 14 والأعلام 3/116
(6) يُرَاجَع : كشف الأسرار لِلبخاري 3/207 وأصول البزدوي 3/207 والتنقيح مع التوضيح 2/243 والتحرير مع التيسير 3/169 ومسلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/210
(7) يُرَاجَع البحر المحيط 6/150
لا يخرج عن كونه ظنّاً ، وكذلك خبر الواحد ؛ فقد أفاد الخبر في الحالتيْن الظَّنَّ ، ولا يجوز أنْ يرجّح أحد الظَّنَّيْن على الآخَر ، فدلّ ذلك على عدم الترجيح بكثرة الرواة .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :(1/123)
الوجه الأول : أنّا سلّمنا أنّ كُلّ واحد مِن الخبريْن لا يوجِب إلا الظن ، لكنّا لا نسلِّم تَساوي الظن فيهما ؛ فإنّ خبر الجماعة أقوى في الظن مِن خبر الواحد ، وتقديم الأقوى أَوْلَى .
الوجه الثاني : أنّا نقدِّم أحد الخبريْن لِكون راويه أتقن أو صاحب القصة ، وما ذلك إلا لأنّ الظن في هذا الخبر قد تَقوَّى به ، ولِذَا فقد رجح على الخبر الثاني (1) .
الدليل الثاني : أنّ الشهادة لا ترجح بكثرة العدد ؛ فشهادة الشاهديْن وشهادة الأربعة فأكثر سواء ولا فَرْق بَيْنَهُمَا ، فكذلك الأخبار لا ترجح بكثرة العدد (2) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أنّا لا نسلِّم مساواة الخبر لِلشهادة ؛ فالخبر يرجح بعلم الراوي وإتقانه ، وشهادة الأعلم والأتقن وغَيْرهما سواء .
الوجه الثاني : أنّ الشهادة منصوص عليها ، ولِذَا فلا يدخلها الاجتهاد ولا الترجيح ، وليس كذلك الخبر ؛ فإنّه غَيْر منصوص على العدد فيه ،
(1) يُرَاجَع : الواضح 5/78 ، 79 والعدة 3/1022 ، 1023 وإحكام الفصول /738 وأدلة التشريع المتعارضة /120 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /310 ، 311
(2) يُرَاجَع : أصول البزدوي مع كشف الأسرار 3/207 ، 208 وتيسير التحرير 3/169 ومسلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/210
ولِذَا كان ما رواه الأكثر أقوى في الظن ، فيقدَّم .
الوجه الثالث : أنّ الأصل – وهو عدم الترجيح بكثرة الشهود وعدالتهم – غَيْر مسلَّم عند الجميع ؛ فقد نُقِل عن بعضهم جواز الترجيح به ، وإذا انتفى الحُكْم في الأصل كان في الفرع أَوْلَى (1) .
الدليل الثالث : أنّ كثرة عدد المجتهدين في مسألة لا يوجِب قوّةً في اجتهادهم ، فكذلك كثرة عدد الرواة لا يوجب قوّةً لِهذا الخبر الذي رووه .
مناقشة هذا الدليل :(1/124)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ قياسكم الخبر على مسألة مجتهَد فيها قياس مع الفارق ؛ لأنّ العلم لا يقع باجتهاد المجتهدين أبداً دائماً ، وإنما يقع العلم إذا أجمعوا على الحُكْم المجتهَد فيه بإجماعهم دون اجتهادهم ..
والعلم الواقع بخبر التواتر إنما يقع بخبر العدد المخصوص دون سواه أمّا الخبر فإنّه يفيد ظنّاً لِمَن أخبره ، وكلما كثر عدد المخبرين قوي الأثر في النَّفْس وبَعُد عن التهمة والشك (2) .
والأَوْلَى عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائل بالترجيح بكثرة الرواة ؛ وذلك لِقوة أدلتهم المدعمة بالسُّنَّة وفِعْل الصحابة - رضي الله عنهم - ، ولأنّ الجماعة أكثر حفظاً وأقوى ضبطاً مِن الفرد ، كما أنّ أدلتهم سلمت مِن المناقشة والاعتراض ، وفي المقابل لَمْ تَسلَم أدلة المانعين مِن ذلك .
ومما يعضد ترجيحي : ما ذكره إمام الحرمين الجويني – رحمه الله تعالى – في قوله :" والوجه في هذا عندنا : أنّ المجتهدين إذا لَمْ يجدوا متمسكاً إلا بالخبر وتعارض في الواقعة خبران واستوى الرواة في العدالة والثقة وانفرد بنقل أحدهما واحد وروى الآخَرَ جَمْع فيجب العمل بالخبر
(1) يُرَاجَع : الواضح 5/79 والعدة 3/1023 وإحكام الفصول /738 ، 739 وشرح الكوكب المنير 4/633 وأدلة التشريع المتعارضة /121 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /310
(2) يُرَاجَع : الواضح 5/79 ، 80 والعدة 3/1023 وأدلة التشريع المتعارضة /121
الذي رواه الجمع ، وهذا مقطوع به ؛ فإنّا - على قطع – نعلم أنّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو تعارض لهم خبران كما وصفنا والواقعة في محلّ لا تقدير لِلقياس فيه ولا مضطرب لِلرأي لَمَا كانوا يعطلون الواقعة ، بل كانوا يرون التعلق بما رواه الجمع " (1) ا.هـ .(1/125)
وما ذكره الفتوحي – رحمه الله تعالى – في قوله :" ثُمّ اعلم أنّ الذي عليه الأربعة والأكثر أنّ السند ( يرجح بالأكثر رواةً ) ، وهو بأن تكون رواته أكثر مِن رواة غَيْره ؛ لأنّ العدد الكثير أبعد عن الخطأ مِن العدد القليل ؛ لأنّ كُلّ واحد مِن الكثير يفيد ظنّاً ، فإذا انضمّ إلى غَيْره قَوِي ، فيَكون مقدَّماً لِقوة الظن " (2) ا.هـ .
ثانياً – تمهيد في بيان أثر الترجيح في الأحكام :
لقد كان – وما زال – التوصل إلى الأحكام الشرعية واستنباطها أهمّ ثمار وغايات عِلْم أصول الفقه ، وكما قال الشاطبي رحمه الله تعالى :" كُلّ مسألة مرسومة في أصول الفقه لا يُبنَى عليها فروع فقهية أو أبواب شرعية أو لا تكون عوناً في ذلك فوضْعها في أصول الفقه عارية (3) ا.هـ .
ولِذَا فإنّ قواعد أصول الفقه تُعَدّ السراج الذي يهتدي به الفقهاء والمجتهدون إلى استنباط الأحكام الشرعية مِن الأدلة .
وهذا المنحى يؤكد ويثبت عمق العلاقة والرابطة بَيْن الأصول والفقه ..
فالفقه أو الأحكام التي تَصدر اعتباطاً أو عشوائيّاً دون التزام القواعد الأصولية أحكام باطلة ومردودة ؛ لأنّها صدرت عن هوى النَّفْس والشيطان .
وفي المقابل القواعد الأصولية التي لا تُبنَى عليها أحكام شرعية ولا يستفيد بها الفقهاء والمجتهدون في استخراج الأحكام الشرعية ما هي
(1) البرهان 2/1163
(2) شرح الكوكب المنير 4/628 ، 629
(3) الموافقات 1/17
إلا قواعد عرية عن الفائدة ، ووضْعها في هذا العلم مضيعة لِلجهد والوقت .
ومِن هذا المنطلق آثرتُ – كما هو منهجي في معظم مصنّفاتي الأصولية – أنْ أرصّع بحثي هذا بما يؤكد هذه العلاقة ويُظهِرها ظهوراً عمليّاً تطبيقيّاً ، أوضِّح مِن خلاله منهج الفقهاء في استخراج الأحكام الشرعية على ضوء القواعد الأصولية .
ثالثاً – مثال الترجيح بكثرة الرواة :
رفْع اليديْن في الصلاة(1/126)
النص الوارد فيه : ما رُوِي عن ابن عُمَر (1) عن أبيه – رضي الله عنهما – قال :" رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ ، وبَعْدَمَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ ، وَلاَ يَرْفَعُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْن " (2) .
وهذه الرواية معارَضة برواية البراء بن عازب - رضي الله عنه - (3) قال :" رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ يَرْفَعُ يَدَيْه " (4) ورواية ابن مسعود - رضي الله عنه - (5) :" أنّ
(1) ابن عُمَر : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن عُمَر بن الخطّاب القرشي العدوي رضي الله عنهما ، أحد الأعلام في العِلْم والعمل ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بمكة سَنَة 74 هـ .
الطبقات الكبرى 4/142 – 187 والتاريخ الكبير 5/125 وتذكرة الحُفّاظ 1/37
(2) أَخْرَجَه النسائي في كتاب التطبيق : باب تَرْك ذلك بَيْن السّجدتيْن برقم ( 1132 ) وأبو داود في كتاب الصلاة : باب رفع اليديْن في الصلاة برقم ( 619 ) وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها : باب رفع اليديْن إذا ركع وإذا رفع رأسه مِن الركوع برقم ( 848 ) .
(3) البراء بن عازب : هو الصحابي الجليل أبو عمارة البراء بن عازب بن الحارث الأوسي الأنصاري - رضي الله عنه - ، استصغره النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر فرَدّه ، غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالكوفة سَنَة 72 هـ .
الطبقات الكبرى 4/364 – 369 والإصابة 1/278
(4) أَخْرَجَه أبو داود في كتاب الصلاة : باب مَن لَمْ يَذكر الرفع عند الركوع برقم ( 640 ) والإمام أحمد في أول مسند الكوفيين برقم ( 17756 ) والدارقطني في سننه 1/293(1/127)
(5) ابن مسعود : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الرَّحْمن عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي =
النَّبِيَّ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ ثُمَّ لاَ يَعُود " (1) (2) .
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى أثبتت لِلنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة مواضع لِرفع اليديْن في الصلاة : عند تكبيرة الإحرام ، وقَبْل الركوع ، وبَعْده ..
والروايتان الأخيرتان أثبتتا موضعاً واحداً عند تكبيرة الإحرام .
وهنا تعارض الخبران ؛ لِعدم اتفاقهما في عدد مرات رفع اليديْن في الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا بُدّ مِن رفع هذا التعارض .
وجْه الترجيح بَيْن الخبريْن : رجَّح الجمهورُ الخبرَ الأولَ ؛ لأنّه أكثر رواةً مِن الخبريْن الأخيريْن ؛ فقد رواه جمع مِن الصحابة - رضي الله عنهم - بلغ ثلاثةً وثلاثين صحابيّاً ، وقيل : ثلاثة وأربعون ، وقيل : خمسون (3) .
أثر الترجيح بكثرة الرواة في هذا الفرع :
إنّ الجمهور الذين رجّحوا بكثرة الرواة قالوا : يُسَنّ رفع اليديْن في ثلاثة مواضع : عند تكبيرة الإحرام ، وقَبْل الركوع ، وبَعْده .
ولِلشافعي - رضي الله عنه - : إذا قام مِن التشهد الأول ؛ لِحديث ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه كان يفعله (4) .
أمّا الذين لَمْ يرجّحوا بكثرة الرواة – وهم الحنفية – فإنّهم يرون ندب
= المدني - رضي الله عنه - ، أوّل مَن جَهَر بالقرآن في مكة ، شَهِد المَشاهد كُلّها مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، كان صاحِبَ سِرّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ووسادِه وسواكِه ونَعْلَيْه وطهوره في السَّفَر ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 32 هـ ودُفِن بالبقيع .
المُنْتَظِم 5/29 والبداية والنهاية 5/336(1/128)
(1) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الصلاة : باب ما جاء أنّ النبي لَمْ يَرفع إلا في أول مرة برقم ( 238 ) والنسائي في كتاب التطبيق : باب الرخصة في ذلك برقم ( 1048 ) وأبو داود في كتاب الصلاة : باب مَن لَمْ يَذكر الرفع عند الركوع برقم ( 639 ) .
(2) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/150 وشرح الكوكب المنير 4/629 – 632 والإبهاج 3/219
(3) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/632 وفتح الباري 1/182 ، 183 والبحر المحيط 6/150 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /312
(4) أَخْرَجَه البخاري .. يُرَاجَع شرح النووي على صحيح مسلم 4/95
رفع اليديْن عند تكبيرة الإحرام فقط (1) .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور ، وهو ندب رفع اليديْن في المواضع الثلاثة ؛ لِكثرة رواة الخبر الذي نص على ذلك ، ويزاد الموضع الرابع عند القيام إلى الثلاثة .
(1) يُرَاجَع : التاج والإكليل 1/536 والمجموع 2/251 – 255 والإقناع 1/142 وشرح النووي على صحيح مسلم 4/95 ونيل الأوطار 1/250 والمغني لابن قدامة 1/295 وبدائع الصنائع 1/199 والهداية شرح البداية 1/51 ورحمة الأُمّة /31
المطلب الثاني
الترجيح بعلوّ الإسناد
الحديث في هذا المطلب يمكن تقسيمه على النحو التالي :
1- المراد بعلوّ الإسناد .
2- مذاهب الأصوليين في الترجيح بعلوّ الإسناد وأدلتهم .
3- مثال الترجيح بعلوّ الإسناد .
ونفصّل القول في كُلّ واحد منهما فيما يلي ..
أوّلاً – المراد بعلوّ الإسناد :
والمراد بعلوّ الإسناد : قلة الوسائط بَيْن الراوي لِلمجتهد وبَيْن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
واعتبر المحدّثون طلب الإسناد العالي سُنَّةً ..
وفي ذلك يقول عبد الله بن المبارك (2) رحمه الله تعالى :" الإسناد مِن الدين ؛ لولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء ، وطلب العلوّ فيه سُنَّة أيضاً ، ولِذلك استُحبَّت الرحلة فيه على ما سبق ذِكْرُه ..(1/129)
قال أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - :" طلب الإسناد العالي سُنَّة عمَّن سلف " (3) .
(1) تيسير التحرير 3/163
(2) ابن المبارك : هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي مولاهم المروزي رحمه الله تعالى ، الإمام الحافظ العلاّمة ، شيخ الإسلام فخر المجاهدين قدوة الزاهدين ، وُلِد سَنَة 118 هـ ، أَفْنَى عمره في الأسفار حاجّاً ومجاهداً وتاجراً ..
قال رحمه الله تعالى : حملتُ عن أربعة آلاف شيخ ، فرويتُ عن ألف منهم .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بهيت سَنَة 181 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/274 – 279 وسير أعلام النبلاء 8/378 – 421 وشذرات الذهب 1/295
(3) مقدمة ابن الصلاح /130 ويُرَاجَع : الباعث الحثيث /72 وشرح نخبة الفكر /31 وتدريب الراوي 2/159 ، 160
وقال الثوري (1) رحمه الله تعالى :" الإسناد سلاح المؤمن ، وطلب العلوّ فيه سُنَّة " (2) .
ثانياً – مذاهب الأصوليين في الترجيح بعلوّ الإسناد وأدلتهم :
اختلف الأصوليون في الترجيح بعلوّ الإسناد على مذْهبيْن :
المذهب الأول : جواز الترجيح بعلوّ الإسناد .
وهو ما عليه غَيْر الحنفية وأئمة الحديث (3) ، واختاره الفخر الرازي وابن الحاجب والآمدي والبيضاوي وابن السبكي والزركشي والفتوحي رحمهم الله تعالى (4) .
واحتجّوا لِذلك : بأنّه ما مِن راوٍ مِن رجال الإسناد إلا والخطأ جائز عليه ، فكلما كثرت الوسائط وطال السند كثرت مظان التجويز ، وكلما قلّت قلّت ، ولِذَا رجِّح بعلوّ الإسناد ؛ لِقلة الخطأ والنسيان (5) .
المذهب الثاني : عدم جواز الترجيح بعلوّ الإسناد .
وهو ما عليه الحنفية .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ قلة الوسائط ليست مقياساً أو دليلاً على قلة الخطأ
(1) سفيان الثوري : هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 96 هـ ، لُقِّب بـ" أمير المؤمِنين في الحديث " ..
مِن مصنَّفاته : مسنَد الثوري .(1/130)
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالبصرة سَنَة 161 هـ .
الطّبقات الكبرى لابن سعد 6/371 وطبقات الحُفّاظ 1/95
(2) تدريب الراوي 2/160
(3) يُرَاجَع : المحصول 2/453 والفائق 4/407 والإبهاج 3/219 والبحر المحيط 6/152 ومقدمة ابن الصلاح /130 وشرح نخبة الفكر /31 وتدريب الراوي 2/159
(4) يُرَاجَع : المحصول 2/453 ومختصر المنهاج مع بيان المختصر 3/375 والإحكام لِلآمدي 4/257 والمنهاج مع شرحه 2/795 وجمع الجوامع 2/363 والإبهاج 3/219 والبحر المحيط 2/152 وشرح الكوكب المنير 4/649
(5) يُرَاجَع المراجع السابقة .
والنسيان ؛ فقد تكون الوسائط القليلة كثيرة النسيان سيئة الفهم بمعنى الحديث والكثيرة قوية الحفظ قوية الذهن ، وفي هذه الحالة يكون ما رُوِي عن طريق الوسائط القليلة أَضْعَف بكثير مما رُوِي عن طريق الوسائط الكثيرة ، وتَرْك الأضعف أَوْلَى ، فدلّ ذلك على عدم جواز الترجيح بعلوّ الإسناد (1) .
مناقشة هذا الدليل ( لِلباحث ) :
ويمكن مناقشة هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ دليلكم مبنيّ على القلة أو الاستثناء في قولكم :" فقد تكون الوسائط القليلة كثيرة النسيان ... " ، وكلامنا مبنيّ على الكثرة والقاعدة العامة ، أمّا الشاذ أو القلة فلا اعتداد به .
الوجه الثاني : أنّ دليلكم مبنيّ على اعتبار قوة الذهن والحفظ لا قلة الوسائط ولا كثرتها ، والقلة عندنا قد تحققت فيها ما ذكرتم ، وحينئذٍ يكون تحقق تلك العلة أقوى في القلة ، وليس الكثرة كما ادعيتم .
ثالثاً – مثال الترجيح بعلوّ الإسناد :
ما رواه أبو محذورة - رضي الله عنه - (2) أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّمه الأذان والإقامة ، وذكر فيها الإقامة مثنى مثنى (3) ؛ فإنّه معارَض بما رواه أنس - رضي الله عنه - (4)
(1) يُرَاجَع : التحرير مع التيسير 3/163 وفواتح الرحموت مع مسلّم الثبوت 2/207 وأدلة التشريع المتعارضة /123(1/131)
(2) أبو محذورة : هو الصحابي الجليل أوس بن معير بن لوذان القرشي الجمحي - رضي الله عنه - ، أقام بمكة إلى أنْ مات بَعْد موت سمرة بن جندب - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 59 هـ ، وقيل : سَنَة 79 هـ .
سير أعلام النبلاء 3/117 ، 118 وشذرات الذهب 1/65
(3) أَخْرَجَه أبو داود في كتاب الصلاة : باب كيف الأذان برقم ( 422 ) والدارمي في كتاب الصلاة : باب الترجيع في الأذان برقم ( 1170 ) وأحمد في مسند المكيين برقم ( 14837 )
(4) أَنَس بن مالِك : هو الصحابي الجليل أبو حمزة أَنَس بن مالِك بن النَّضْر بن ضمضم الأنصاري - رضي الله عنه - ، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالبصرة سَنَة 92 هـ .
الطبقات الكبرى 7/17 - 25 والنجوم الزاهرة 1/224
قال :" أُمِرَ بِلاَلٌ (1) أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَيُوتِرَ الإِقَامَة " (2) (3) ..
وَجْه التعارض : أنّ الحديث الأول ندب التثنية في الإقامة ، والحديث الثاني ندب أنْ تكون وتراً وقصر التثنية على الأذان ، فالحُكْم فيهما متعارض ، ولِذَا وجب الترجيح بَيْنَهُمَا .
وَجْه الترجيح : أنّ غَيْر الحنفية رجّحوا رواية أنس - رضي الله عنه - على رواية أبي محذورة - رضي الله عنه - ؛ لأنّه بَيْن الراوي والنبي - صلى الله عليه وسلم - اثنان ، فهي أعلى سنداً مِن رواية أبي محذورة ؛ لأنّه بَيْن الراوي والنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة ..
أمّا الحنفية : فإنّهم لَمْ يرجّحوا بعلوّ السند كما تقدَّم .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في تثنية الإقامة وإفرادها على قوْليْن :
القول الأول : ندب وتر الإقامة .
وهو ما عليه غَيْر الحنفية ، وقال الإمام مالك - رضي الله عنه - : الإقامة كُلّها فرادى وكذا عند الإماميْن الشافعي وأحمد – رضي الله عنهما – إلا لفظ الإقامة فمثنى .
وهذا القول مبنيّ على ترجيح رواية أنس - رضي الله عنه - بعلوّ سندها .(1/132)
القول الثاني : ندب تثنية الإقامة .
وهو ما عليه الحنفية والهادوية (4) والثوري وابن المبارك رحمهما الله
(1) بلال : هو الصحابي الجليل أبو عبد الله بلال بن رباح الحبشي - رضي الله عنه - ، مولى أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - مِن السابقين الأولين في الإسلام ، وهو مؤذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، شهد جميع المَشاهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بداريا – وقيل : بدمشق ودُفِن بالباب الصغير – سَنَة 20 هـ عَنْ ثلاث وستين سَنَة .
الإصابة 1/326 والنجوم الزاهرة 1/74 ، 75 وشذرات الذهب 1/31
(2) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الأذان : باب بدء الأذان برقم ( 568 ) ومسلم في كتاب الصلاة : باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الصلاة برقم ( 569 ) والترمذي في كتاب الصلاة : باب ما جاء في إفراد الإقامة برقم ( 178 ) .
(3) يُرَاجَع : الإبهاج 3/219 والبحر المحيط 6/152
(4) الهادوية : إحدى طوائف الشيعة الزيدية ، سُمّوا بذلك نسبةً إلى يحيى بن الحسين بن القاسم =
تعالى .
وهو مبنيّ على ترجيح رواية أبي محذورة (1) .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور ؛ ترجيحاً بعلوّ سند رواية أنس - رضي الله عنه - .
= ( 245 هـ - 298 هـ ) الذي عُقِدَتْ له الإمامة في اليمن ، وانتشرت في اليمن والحجاز وما والاها ..
معجم المؤلفين 6/280
(1) يُرَاجَع : رحمة الأُمّة /27 وبداية المجتهد 1/132 ومغني المحتاج 1/136 ونيل الأوطار 2/22 والمبسوط لِلسرخسي 1/29 والتاج والإكليل 1/461 ومختصر خليل 1/24 والمغني لابن قدامة 1/244 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /314
المطلب الثالث
الترجيح بعلم الراوي
لقد حصر الأصوليون الترجيح العائد أو الراجع إلى عِلْم الراوي في وجوه عدة :
الوجه الأول : ترجيح رواية الفقيه .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما فقيهاً : فهل يرجح ذلك أم لا ؟(1/133)
أورد الفخر الرازي - رحمه الله تعالى - في هذا المقام مذْهبيْن :
المذهب الأول : عدم جواز الترجيح فيما كان مرويّاً باللفظ .
ونسبه إلى قوم .
وهؤلاء يرون الترجيح برواية الفقيه في خبريْن مرْويّيْن بالمعنى .
المذهب الثاني : جواز الترجيح برواية الفقيه مطلقاً .
وهو ما عليه الكثرة ، واختاره الفخر الرازي وابن الحاجب والصفي الهندي والآمدي والزركشي وابن السبكي والشوكاني رحمهم الله تعالى (1) .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ غَيْر الفقيه لا يستطيع أنْ يميز بَيْن ما يجوز وما لا يجوز ، فإنْ حضر المجلسَ وسمع كلاماً لا يجوز إجراؤه على ظاهره لَمْ يتمكن مِن إزالة هذا الإشكال ..
أمّا الفقيه : فإنّه قادر على ذلك ؛ لِتمكُّنه مِن تمييز ما يجوز وما لا يجوز ومعرفة سبب الورود ونَحْو ذلك .
ولِذَا رجحت رواية الفقيه على غَيْره (2) .
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/454 ومختصر المنتهى مع بيانه 3/374 والفائق 4/409 والإحكام لِلآمدي 4/253 والبحر المحيط 6/154 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/363 والإبهاج 3/220 وإرشاد الفحول /476
(2) المحصول 2/454 بتصرف .
والأَوْلَى عندي : ترجيح رواية الفقيه على غَيْره ؛ لِقدرته على معرفة الخبر الذي رواه وما يتعلق به مِن مقدمات وأحكام ، وهو ما ليس متحققاً في غَيْر الفقيه .
أمّا أصحاب المذهب الأول : فإنّهم رجّحوا رواية الفقيه في الخبريْن المرْويّيْن بالمعنى ، ولَمْ يرجّحوه في المروي باللفظ ..
والعلة في الترجيح واحدة ، وهي القدرة على معرفة الأحكام وأسباب الورود ، وهذه نحتاج إليها في المرويّ باللفظ والمرويّ بالمعنى على حدّ سواء ، ولِذَا كان تفريقهما بَيْن الخبريْن فيه نظر ؛ لِمَا تقدَّم .
الوجه الثاني : ترجيح رواية الأفقه .(1/134)
إذا تعارض خبران وكان راوي كُلّ واحد منهما فقيهاً إلا أنّ أحدهما أفقه مِن الآخَر رجّحْنا ما رواه الأفقه ؛ لأنّه أكثر تمكناً مِن الفقيه وأقوى منه قدرةً في حفظ الأحكام واستخراجها .
الوجه الثالث : ترجيح رواية العالِم بالعربية .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما عالِماً بالعربية وفروعها والآخَر ليس كذلك رجّحْنا رواية الأول ؛ لأنّ العلم باللغة العربية يمكِّن الراوي مِن التحفظ مِن مواضع الزلل ما لا يقدر عليه غَيْر العالِم بها .
الوجه الرابع : ترجيح رواية الأعلم بالعربية .
إذا تعارض خبران وكان راوي كُلّ واحد منهما عالِماً بالعربية إلا أنّ أحدهما أعلم مِن الآخَر وأقوى منه تمكناً فيها كانت رواية الأعلم هي الراجحة (1) .
الوجه الخامس : ترجيح رواية مَن مجالسته لِلعلماء أكثر .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما مجالسته لِلعلماء أكثر مِن
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/454 والفائق 4/409 ومختصر المنتهى مع بيانه 3/374 والإبهاج 3/220 والبحر المحيط 6/154 وإرشاد الفحول 6/154
الآخَر رجّحْنا الرواية الأولى ؛ لأنّ المُكْثِر مِن مجالسة العلماء لا شكّ يكون أكثر علماً وفقهاً وفهماً .
الوجه السادس : ترجيح رواية مَن مجالسته لِلمحدِّثين أكثر .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما أكثر مجالسةً لِلمحدّثين مِن الراوي الآخَر رجّحْنا الرواية الأولى ؛ لِكثرة اقتباسه مِن عِلْمهم وخُلُقهم ومعرفته طريق الرواية (1) .
الوجه السابع : الترجيح بكون طريق إحدى الروايتيْن أقوى .
إذا تعارض خبران وكان طريق رواية أقوى مِن الثاني رجّحنا الأول .
ومثاله : إذا روى ما يقلّ اللَّبس : كما إذا روى أنّه شاهد زيداً ببغداد وقْت السَّحَر ، والآخَر يروي أنّه شاهده وقْت الظهر بالبصرة كان طريق الثاني أقوى وأظهر ، أمّا الأول فإنّ الاشتباه فيه أكثر ، ولِذَا رجّحْنا الثاني (2) .
الوجه الثامن : الترجيح بكون الراوي صاحب القصة .(1/135)
مثاله : ما رواه أبو هريرة وابن عباس - رضي الله عنهم - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاء } (3) ؛ فإنّه معارَض بما روته السيدة عائشة – رضي الله عنها – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْل } (4) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى أوجبت الغُسل مِن نزول المنيّ سواء كان بجماع أم غَيْره ، والرواية الثانية أوجبت الغُسل مِن الجماع حتى ولو لَمْ ينزل ..
(1) يُرَاجَع شرح المنهاج 2/798
(2) يُرَاجَع : المعتمد 2/179 والمحصول 2/455 والمنهاج مع شرحه 2/795 ، 796 ونهاية السول 3/167 – 170 ومناهج العقول 3/165 – 170 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/421 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /318
(3) سبق تخريجه .
(4) سبق تخريجه .
فالحُكْم فيهما متعارض ؛ لأنّ الأولى لا توجب الغُسل مِن الجماع الذي لَمْ يتمّ فيه إنزال ، والثانية توجبه (1) .
وَجْه الترجيح : أنّ رواية السيدة عائشة – رضي الله عنها – هي المقدَّمة لِلترجيح ؛ لأنّها صاحبة القصة ، وهي بذلك أعلم ..
ومما يؤكد ذلك : ما ورد في إحدى الروايات :" فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاغْتَسَلْنَا " (2) .
ورجَّح الإمام الشافعي - رضي الله عنه - نسْخ خبر { الْمَاءُ مِنَ الْمَاء } بما رُوِي عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - (3) قال :" كَانَ الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ فِي أَوَّلِ الإِسْلاَمِ ، ثُمَّ تُرِكَ بَعْدَ ذَلِك " (4) (5) .
الأثر الفقهي :
اتفق الفقهاء على وجوب الغُسل إذا جامع الرجل امرأته وإن لَمْ يُنزِل ؛ ترجيحاً لِلرواية الثانية .
وحُكِي عن داود (6) – رحمه الله تعالى – أنّ الغُسل لا يجب إلا
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/454 ، 455 وشرح المنهاج 2/797 والفائق 4/410 والإبهاج 3/221 وقواعد الأصول /41 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /317(1/136)
(2) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغُسْل برقم ( 101 ) وابن ماجة في كتاب الطهارة وسننها : باب ما جاء في وجوب الغُسْل إذا التقى الختانان برقم ( 600 ) وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 24120 ) .
(3) سهل بن سعد : هو الصحابي الجليل أبو العباس سهل بن سعد بن مالك بن خالد الساعدي الأنصاري - رضي الله عنه - ، تُوُفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس عشرة سَنَةً ، وهو آخِر الصحابة موتاً بالمدينة ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 88 هـ .
الاستيعاب 2/95 ، 96
(4) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب ما جاء أنّ الماء مِن الماء برقم ( 103 ) وأبو داود في كتاب الطهارة : باب في الإكسال برقم ( 184 ) والإمام أحمد في مسند الأنصار برقم ( 20185 ) .
(5) يُرَاجَع اختلاف الحديث /91 ، 92
(6) داود الظاهري : هو أبو سليمان داود بن علِيّ بن داود بن خلف الأصفهاني الظاهري رحمه الله =
بالإنزال ؛ ترجيحاً لِلرواية الأولى (1) .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور مِن وجوب الغُسل بالجماع حتى ولو لم يُنْزِلْ .
ومثاله أيضاً : ما رواه ابن عباس – رضي الله عنهما – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نكح السيدة ميمونة وهو مُحْرِم (2) ؛ فإنّه معارَض بما روته السيدة ميمونة رضي الله عنها :" تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ حَلاَلاَنِ بِسَرِف (3) " (4) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى تُثبت عقد نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْرِم ، والرواية الثانية تُثبت أنّ عقد نكاحه - صلى الله عليه وسلم - مِن السيدة ميمونة – رضي الله عنها – وهو حلال ، فتَعارض الحُكْمان فيهما (5) .(1/137)
وَجْه الترجيح : أنّ رواية السيدة ميمونة – رضي الله عنها – هي المقدَّمة لِلترجيح ؛ لأنّها صاحبة القصة ، وهي التي عقد عليها ، فهي أدرى وأعلم بوقت عقدها .
= تعالى ، وُلِد بالكوفة ، كان شافعيّاً متعصِّباً في أول أمْره ..
مِن مصنَّفاته : الكافي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 270 هـ .
الفتح المبين 1/167 - 169
(1) يُرَاجَع : رحمة الأُمّة /16 والمغني لابن قدامة 1/131 وحاشية الطحطاوي /64 والأم 1/36 37 والتاج والإكليل 1/307
(2) سبق تخريجه .
(3) سَرِف : موضع على بُعْد ستة أميال مِن مكة ، وقيل : تسعة : وقيل : اثني عشر ..
يُرَاجَع معجم البلدان 3/212
(4) سبق تخريجه .
(5) يُرَاجَع : المستصفى /377 وبيان المختصر 3/377 ، 378 والإبهاج 3/221 وإحكام الفصول /742 وتيسير التحرير 3/167 وقواطع الأدلة 3/31 وروضة الناظر /415 والواضح 5/82 والعدة 3/1025 والإحكام لِلآمدي 4/252 ، 253 وشرح الكوكب المنير 4/638 639 وشرح العضد 2/310 والبحر المحيط 6/154 وشرح المحلي 2/365 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/421
ومنع الجرجاني (1) – رحمه الله تعالى – أنْ يكون هذا ترجيحاً ؛ لأنّ الحُكْم هنا عائد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد يكون الغَيْر أقرب إليه وأعرف بأحواله في نَفْسه مِن المرأة (2) .
وهذا مردود ؛ لأنّ ما ذكره الجرجاني – رحمه الله تعالى – أشدّ تحققاً في صاحبة القصة .
الأثر الفقهي :
ذهب الجمهور – خِلاف الحنفية – إلى أنّه لا يجوز لِلمُحْرِم عقد النكاح لِنَفْسه ولا لِغَيْره ؛ ترجيحاً لِرواية صاحبة القصة ، وأجاز الحنفية ذلك اعتماداً وترجيحاً لِرواية ابن عباس رضي الله عنهما .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور ؛ لأنّ صاحبة القصة أدرى وأعلم بوقت عقدها (3) .
الوجه التاسع : الترجيح بكون الراوي مباشراً لِلقصة أو سفيراً فيها أو أقرب عند سماعه .(1/138)
مثاله : ما رواه أنس - رضي الله عنه - أنّه سَمِع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول { لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجّا } (4) ؛ فإنّه معارَض بما رواه ابن عمر – رضي الله عنهما –
(1) الجرجاني : هو أبو عبد الله محمد بن يحيى بن مهدي الجرجاني الحنفي رحمه الله تعالى ، سكن بغداد ودرس بها ، كان مِن فقهاء الحنفية ، وله ترجيح في المذهب ..
مِن مصنَّفاته : القول المنصور في زيارة القبور .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 397 هـ .
تاريخ بغداد 3/433 والجواهر المضية 2/143 والأعلام 8/5
(2) يُرَاجَع العدة 3/1025 ، 1026
(3) يُرَاجَع : رحمة الأُمّة /108 والمغني لابن قدامة 3/158 والإقناع 1/261 وبدائع الصنائع 2/256 وتحفة الفقهاء 2/121
(4) أَخْرَجَه مسلم في كتاب الحجّ : باب الإفراد والقران بالحجّ والعمرة برقم ( 2168 ) والنسائي في كتاب مناسك الحجّ : باب القران برقم ( 2679 ) وأبو داود في كتاب المناسك : باب في الإقران برقم ( 1530 ) .
قال :" وَإِنِّي كُنْتُ تَحْتَ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَمَسُّنِي لُعَابُهَا أَسْمَعُهُ يُلَبِّي بِالْحَجّ " (1) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى تُثبت إحرام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجّ والعمرة قارناً ، والرواية الثانية تُثبت إحرامه - صلى الله عليه وسلم - بالحجّ مفرداً ، فالحُكْم فيهما متعارض (2) .
وَجْه الترجيح : أنّ الراوي في الروايتيْن كان مباشراً لِلقصة ، لكنّ مَن اعتقد في إحداهما أنّه أشدّ مباشرةً رجّح روايتَه ، والكثرة رجّحت روايات القران ؛ لأنّها تكاد تبلغ حد التواتر المعنوي (3) .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في أي النسك الثلاثة أفضل ..
فذهب الحنفية إلى تفضيل القران ؛ ترجيحاً لِلرواية الأولى .(1/139)
وذهب المالكية والشافعية إلى تفضيل الإفراد ، وذهب الحنابلة إلى تفضيل التمتع ؛ لأنّ كُلّ واحد مِن المُفْرِد والمتمتع يأتي بكُلّ واحد مِن النسكيْن بكمال أفعاله ، والقارن يقتصر على عمل الحجّ وحده ، فكان الإفراد والتمتع أفضل (4) .
ومثاله أيضاً : ما رواه ابن عباس – رضي الله عنهما – أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكح السيدة ميمونة – رضي الله عنها – وهو مُحْرِم (5) ؛ فإنّه معارَض بما رواه أبو رافع - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج السيدة ميمونة – رضي الله
(1) أَخْرَجَه البيهقي في السنن الكبرى 1/255 والطبراني في مسند الشاميين 1/165
(2) يُرَاجَع : العدة 3/1026 ومختصر المنتهى مع بيانه 3/374 ، 379 ، 380 والواضح 5/83 وفتح الباري 3/427 ، 428 وشرح المنهاج 2/797 وتيسير التحرير 3/164
(3) يُرَاجَع فواتح الرحموت 2/208
(4) يُرَاجَع : المهذب 1/200 وبداية المجتهد 1/245 والمغني لابن قدامة 3/122 والمبسوط 4/118 والموطأ 1/235 وبداية المبتدي /48 وحاشية ابن عابدين 2/529 ورحمة الأُمّة /104
(5) سبق تخريجه .
عنها – وهو حلال (1) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى تُثبت نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - لِلسيدة ميمونة – رضي الله عنها – وهو مُحْرِم ، والرواية الثانية تُثبت نكاحه - صلى الله عليه وسلم - لها وهو حلال ، فالحُكْمان فيهما متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الرواية الثانية – وهي رواية أبي رافع - رضي الله عنه - – هي الأَوْلَى بالترجيح ؛ لأنّه كان السفير بَيْنَهُمَا (2) .
(1) سبق تخريجه .(1/140)
(2) يُرَاجَع : سبل السلام 2/388 والمحصول 2/455 وبيان المختصر 3/376 ، 377 وقواطع الأدلة 3/31 وروضة الناظر /415 والواضح 5/82 والفائق 4/410 والعدة 3/1024 ، 1025 والإحكام لِلآمدي 4/252 وتيسير التحرير 3/167 والبحر المحيط 6/154 وشرح العضد 2/310 وشرح الكوكب المنير 4/638 وشرح المحلي 2/365 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/158 ، 159 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/421
المطلب الرابع
الترجيح بعدالة (1) الراوي وورعه
لقد حصر بعض الأصوليين الترجيح العائد إلى عدالة الراوي وورعه في وجوه :
الوجه الأول : ترجيح رواية مَن ظهرت عدالته بالاختبار .
فالخبر الذي يكون راويه عُرفت عدالته بالاختبار فإنّه يقدَّم ويرجَّح على الخبر الذي ليس كذلك ؛ إذ ليس الخبر كالمعاينة .
الوجه الثاني : ترجيح رواية مَن عمل بروايته .
إنْ عمل العدل بالرواية يُعَدّ تزكيةً وترجيحاً لها على الرواية التي لَمْ يعمل بها ؛ لأنّ الغالب مِن العدل أنّه لا يعمل برواية غَيْر العدل ، ولا كذلك في الرواية ؛ لأنّ كثيراً ما يروي العدل عمن لو سئل عنه لَجرحه أو توقف في حاله .
الوجه الثالث : ترجيح رواية مَن كانت تزكيته بصريح المقال .
إنّ الخبر المزكَّى راويه بصريح المقال مقدَّم وراجح على رواية المزكَّى بالرواية عنه أو بالعمل بروايته أو الحُكْم بشهادته ؛ لأنّ الرواية قد تكون عمن ليس بعدل ، وكذلك العمل بما يوافق الرواية والشهادة قد تكون بغَيْرها وهو موافق لها ، ولا يكون ذلك بهما ، ولا كذلك التزكية بصريح المقال .
الوجه الرابع : ترجيح رواية المزكَّى بالحُكْم بشهادته .
إذا كان أحد الخبريْن المتعارضيْن راويه مزكَّى بالحُكْم بشهادته والثاني
(1) العدالة : صفة راسخة في النَّفْس تَحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة فتحصل ثقة النَّفْس بصدقه .. أصول الحديث /238(1/141)
مزكَّى بالرواية عنه رجَّحْنا رواية الأول ؛ لأنّ الاحتياط في الشهادة فيما يرجع إلى أحكام الجرح والتعديل (1) أكثر منه في الرواية والعمل بها ، ولِذَا قُبِلَت رواية الواحد والمرأة دون شهادتهما (2) .
الوجه الخامس : ترجيح رواية مَن كان مزكّوه أكثر بحثاً .
الخبر الذي يكون راويه معدَّلاً بتزكية مَن كان أكثر بحثاً عن أحوال الرواة مقدَّم وراجح على الخبر الذي ليس كذلك .
الوجه السادس : ترجيح رواية مَن علم المزكّون بحاله .
إذا كان أحد الخبريْن المتعارضيْن راويه مزكَّى بالعلم بحاله كان راجحاً على الخبر الذي لَمْ يعلم المزكّون بحال راويه .
الوجه السابع : ترجيح رواية مَن ذُكِرَتْ أسباب تزكيته .
إذا كان راوي أحد الخبريْن مزكّى مع ذِكْر أسباب تعديله وتزكيته كان هذا الخبر راجحاً على الخبر الذي رواه مزكّى لَمْ تُذكَر أسباب تزكيته ؛ لأنّ ذِكْر هذه الأسباب يعطيه قوّةً وتمكناً في العدالة عن الآخَر .
الوجه الثامن : ترجيح رواية مَن علم المزكَّى بحاله .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما يعلم المزكَّى بحاله وراوي الخبر الثاني لَمْ يعلم المزكَّى بحاله كان الأول راجحا ً ؛ لِتحقُّق تلك الأفضلية وزيادة التوثيق التي تجعله يقدَّم على الآخَر .
الوجه التاسع : ترجيح رواية مَن كان المزكون له أكثر علماً .
(1) الجرح : وصف الراوي بما يقتضي رد حديثه وعدم قبول روايته ، أو هو ظهور وصف في الراوي يثلم عدالته أو يخلّ بحفظه وضبطه ..
والتعديل : وصف الراوي بصفات التزكية ، فتظهر عدالته ويُقْبَل خبره ..
يُرَاجَع : أصول الحديث /271 ، 272 ولمحات في أصول الحديث /326
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/254 والمحصول 2/455 ، 456 وشرح المنهاج 2/798 والفائق 4/408 وشرح الكوكب المنير 4/648 وإرشاد الفحول /277 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /318 - 320(1/142)
إنّ الخبريْن المتعارضيْن إذا تساوى المزكّون لِراوي كُلّ واحد منهما رجّحْنا رواية الأكثر علماً فيهما ؛ لِتمكُّنه مِن معرفة الرجال وتعديلهم .
الوجه العاشر : ترجيح رواية الأورع والأتقى .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما أورع وأتقى مِن الآخَر رجّحْنا روايته ؛ لأنّه أشد احتياطاً وتحرزاً مِن الكذب وأبعد مِن رواية ما يُشَكّ فيه .
الوجه الحادي عشر : ترجيح رواية غَيْر المبتدع .
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن ليس صاحب بدعة وراوي الخبر الثاني صاحب بدعة قدَّمْنا رواية الأول ؛ لأنّه أشد تمسكاً بالسُّنَّة مِن الثاني ، هذا إذا لَمْ تكن بدعته نَحْو كون الكذب كفراً أو كبيرة (1) .
الوجه الثاني عشر : ترجيح رواية مَن كثر المزكّون له .
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن معدَّلاً بتزكية جمع كثير فإنّه يرجَّح على الخبر الثاني الذي يكون راوية مزكّى بجمع أَقَلّ ؛ وذلك لِزيادة الظن بعدالته (2) .
مثاله : ما روته السيدة بُسْرَة بنت صفوان (3) – رضي الله عنها – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ } (4) ؛ فإنّه معارَض برواية قيس
(1) يُرَاجَع : المراجع السابقة والبحر المحيط 6/155 ، 156 وشرح العضد 2/311 وبيان المختصر 3/380 واللمع /47 وروضة الناظر /415 وقواطع الأدلة 3/35 والإبهاج 3/221 ، 222 وقواعد الأصول /41 والتحرير مع التيسير 3/163 وأصول الفقه لِزهير 4/421 ، 422
(2) شرح المنهاج 2/798 بتصرف ويُرَاجَع : المحصول 2/455 ومختصر المنتهى مع بيانه 3/374 ، 375 ، 380 والإحكام لِلآمدي 4/254 والفائق 4/408 وإرشاد الفحول /277(1/143)
(3) بُسْرَة بنت صفوان : هي الصحابية الجليلة أُمّ معاوية السيدة بُسْرَة بنت صفوان بن نوفل بن أسد القرشية الأسدية رضي الله عنها ، بِنْت أخي ورقة بن نوفل - رضي الله عنه - ، روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لها سابقة قديمة وهجرة ، وقيل : كانت مِن المبايعات .
الإصابة 4/252
(4) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب الوضوء مِن مسّ الذَّكَر برقم ( 77 ) والنسائي في كتاب الغُسْل والتيمم : باب الوضوء مِن مسّ الذَّكَر برقم ( 443 ) وأحمد في مسند القبائل برقم ( 26030 ) .
ابن طلق (1) عن أبيه (2) - رضي الله عنه - قال :" كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا بِرَجُلٍ ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ ، فَقَال { إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْك } (3) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى أوجبت الوضوء مِن مسّ الذَّكَر ، والرواية الثانية لَمْ تنقض الوضوء مِن مسّه ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ رواية بُسْرَة – رضي الله عنها – كَثُر المزكّون لها فقد روى هذا الحديث مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد (4) عن عروة بن الزبير (5) ، وكل واحد منهم متفق على عدالته ..
أمّا رواية طلق - رضي الله عنه - : فقد قَلّ المزكّون لها ، إضافةً إلى نكارة
(1) قيس بن طلق : هو قيس بن طلق بن عَلِيّ الحنفي رحمه الله تعالى ، ضعَّفه أحمد ويحيى في إحدى الروايتيْن عنه ، ووثَّقه العجلي ..
وقال ابن أبي حاتم :" سألتُ أبي وأبا زرعة عنه فقالا : ليس ممن تقوم به حُجَّة " .
وقال ابن القطّان : يقتضي أنْ يكون خبره حسناً لا صحيحاً .
ميزان الاعتدال 3/397 والإصابة 5/563
(2) طلق : هو الصحابي الجليل أبو عَلِيّ طلق بن عَلِيّ بن المنذر الحنفي السحيمي - رضي الله عنه - ، له صحبة ووفادة ورواية ، سكن البصرة وتُوُفِّي بها ..
الطبقات الكبرى 5/552 وأسد الغابة 1/1220 والإصابة 2/232 ، 233(1/144)
(3) أَخْرَجَه النسائي في كتاب الطهارة : باب تَرْك الوضوء مِن ذلك برقم ( 165 ) وأحمد في أول مسند المدنيين أجمعين برقم ( 15693 ) .
(4) عبد الله بن أبي بكر : هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني رحمه الله تعالى ، شيخ الإمام مالك والسفيانيْن - رضي الله عنهم - ، روى عن أنس - رضي الله عنه - وجماعة ، وكان كثيرَ العلم ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 135 هـ .
شذرات الذهب 1/192
(5) عروة بن الزبير : هو أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوّام القرشي الأسدي المدني رحمه الله تعالى ، مِن التابعين ، أحد فقهاء المدينة السبعة ، وُلِد في خلافة عثمان - رضي الله عنه - ، تفقَّه على أبيه وخالته السيدة عائشة وكثير مِن علماء الصحابة - رضي الله عنهم - ، وكان يقرأ ربع القرآن كُلّ يوم في المصحف ويقوم به في الليل ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى صائماً سَنَة 94 هـ .
تذكرة الحُفّاظ 1/62 ،63 وسِيَر أعلام النبلاء 4/423 – 433 وشذرات الذهب 1/103 ، 104
سندها (1) .
ولِذَا رجّحت رواية بسرة على رواية طلق رضي الله عنهما .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في نقض الوضوء مِن مس الذَّكَر على قوْليْن :
القول الأول : أنّه لا ينقض الوضوء .
وهو ما عليه الحنفية ؛ عملاً برواية طلق - رضي الله عنه - وترجيحاً لها ؛ لأنّهم لا يرجِّحون بكثرة الرواة .
القول الثاني : أنّه ينقض الوضوء .
وهو ما عليه الجمهور خِلاَف الحنفية ؛ عملاً برواية بسرة - رضي الله عنها – وترجيحاً لها بكثرة المزكّين كما تقدَّم .
والراجح عندي : نقض الوضوء مِن مس الذَّكَر ؛ ترجيحاً لِرواية بسرة على رواية طلق رضي الله عنهما ؛ لِكثرة المزكّين لها ، ولِكثرة رواتها ؛ فقد رُوِيَت عن سبعة عشر صحابيّاً ، أمّا رواية طلق : فقد رواها واحد (1) .(1/145)
(1) يُرَاجَع : إحكام الفصول /737 والإبهاج 3/222 والتحقيق في أحاديث الخلاف /176 – 180 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/171 ، 172 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /319
(2) يُرَاجَع : رحمة الأُمّة /11 وبدائع الصنائع 1/30 والتاج والإكليل 1/299 والمهذب 1/24 والمغني لابن قدامة 1/116 وسبل السلام 1/67 ، 68
المطلب الخامس
الترجيح بذكاء الراوي وضبطه (1)
لقد تفاوت الأصوليون في حصر الترجيحات العائدة إلى ذكاء الراوي وضبطه ..
وقد حصرتُ لهم في ذلك وجوهاً عدّةً ، أذكرها فيما يلي :
الوجه الأول : الترجيح بحفظ الراوي .
والترجيح بحفظ الراوي له صور أربع :
الصورة الأولى : ترجيح رواية مَن حفظ لفظ الحديث .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما حافظاً لِلفظ الحديث والآخَر معتمداً على المكتوب رجّحْنا الأول ؛ لأنّ الحافظ أَوْلَى ؛ لأنّه أبعد عن الشبهة ، إضافةً إلى ما يعتري الخط مِن نقص وتغيير .
وهذه الصورة محلّ نظر عند بعض المحدّثين الذين يقدّمون رواية مَن كان يكتب .
ومما يؤيد ذلك : ما رواه البخاري – رحمه الله تعالى – في كتابه في رفع اليديْن : روى حديث سفيان الثوري عن عاصم بن كليب (2) عن
(1) الضبط : تيقُّظ الراوي حين تحمُّله وفهمه لِمَا سمع وحفظه لِذلك مِن وقْت التحمل إلى وقْت الأداء ..
أصول الحديث /239
(2) عاصم بن كليب : هو عاصم بن كليب الجرمي الكوفي رحمه الله تعالى ، روى عن أبيه كليب ابن شهاب وأبي بردة وجماعة ، وروى عنه شعبة وعَلِيّ بن عاصم وطائفة ، كان مِن العبّاد الأولياء ، لكنّه مرجئ ، وثَّقه ابن معين وغَيْره ، وقال ابن المديني : لا يُحْتَجّ بما انفرد به ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 137 هـ .
ميزان الاعتدال 2/356(1/146)
عبد الرحمن بن الأسود (1) عن علقمة (2) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : " أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ " فلَمْ يرفع يديْه إلا في أول مرة ثُمّ لَمْ يعد " (3) ..
قال أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم (4) :" نظرتُ في كتاب عبد الله ابن إدريس (5) " قال عاصم :" فلَمْ أجد فيه " ثُمّ لَمْ يعد " ..
قال البخاري رحمه الله تعالى :" هذا أصحّ ؛ لأنّ الكتاب أثبت عند أهل العلم " (6) ا.هـ .
(1) عبد الرحمن بن الأسود : هو أبو حفص عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي رحمه الله تعالى ، مِن الطبقة الوسطة مِن التابعين ، روى عن السيدة عائشة وأبيه وعلقمة - رضي الله عنهم - ، وروى عنه حجّاج بن أرطأة وجابر بن يزيد وعاصم بن كليب رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 99 هـ .
الطبقات الكبرى 6/289 وسير أعلام النبلاء 5/11 ، 12
(2) علقمة : هو أبو شبل علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي رحمه الله تعالى ، خال إبراهيم النخعي وعَمّ الأسود بن يزيد رحمهم الله تعالى ، وُلِد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولحق بالجاهلية ( مِن المخضرمين ) ، سمع مِن كثير مِن الصحابة ، جوَّد القرآن وتفقَّه على ابن مسعود - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 62 هـ ، وقيل : سَنَة 72 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/48 ، 49 وسير أعلام النبلاء 4/53 – 61
(3) يُرَاجَع فتح الباري 2/175
(4) يحيى بن آدم : هو أبو زكريا يحيى بن آدم بن سليمان الأموي الكوفي رحمه الله تعالى ، مِن الطبقة الصغرى مِن التابعين ، روى عن سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك رحمهم الله تعالى ، وروى عنه الإمام أحمد وعصمة بن الفضل ومحمود بن غيلان رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بفم الصلح بفلسطين سَنَة 203 هـ .
الطبقات الكبرى 6/402 وسير أعلام النبلاء 9/522 - 529 وشذرات الذهب 1/8(1/147)
(5) عبد الله بن إدريس : هو أبو محمد عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود الأودي الزعافري الكوفي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 115 هـ ، روى عن الحسن بن الفرات وشعبة ابن الحَجّاج ويزيد بن أبي زياد رحمهم الله تعالى ، وروى عنه الإمام أحمد وإبراهيم بن مهدي وإسماعيل بن أبان رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالكوفة سَنَة 192 هـ .
الطبقات الكبرى 6/389 والنجوم الزاهرة 2/139 وشذرات الذهب 1/330
(6) يُرَاجَع نصب الراية 1/395
ومِن هذا يؤخذ ترجيح رواية عبد الله بن عمرو بن العاص (1) – رضي الله عنهما – على رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - .
ففي صحيح البخاري : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :" مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرَ حَدِيثاً عَنْهُ مِنِّي ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُب " (2) .
والرأي عندي : تقديم الحافظ للفظ الحديث المتمكن مِن ذلك على مَن كانت روايته معتمِدةً على الكتابة فقط ، أيْ أنّه لا يقدر على الرواية إلا بَعْد قراءة المكتوب ، وهنا قد يستوي مع غَيْره ممن ليسوا مِن أهل العلم ولا مِن المحدّثين ..
أمّا إنْ كان حافظاً لها وكاتباً لِمَا حفظه – كما هو الحال مع عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما – فهذا الذي ترجّح روايته ؛ لأنّه أشد ضبطاً وحفظاً .
الصورة الثانية : ترجيح رواية الأحفظ .
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن أقوى حفظاً لألفاظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - مِن راوي الخبر الثاني رجّحْنا الأول ؛ لأنّ الحُجَّة بالحقيقة ليست إلا في كلامه - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا أشد تحققاً في رواية الأحفظ (3) .
الصورة الثالثة : ترجيح رواية الأسرع حفظاً .
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن أسرع حفظاً وراوي الخبر(1/148)
(1) عبد الله بن عمرو : هو الصحابي الجليل أبو محمد عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي رضي الله عَنْهُمَا ، كان مِن فقهاء الصحابة ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بمِصْر سَنَة 65 هـ .
الطبقات الكبرى 4/261 وطبقات الفقهاء /32 وشذرات الذهب 1/73
(2) البحر المحيط 6/156 بتصرف ويُرَاجَع فتح الباري 2/219 ، 220
(3) يُرَاجَع : المحصول 2/456 ومختصر المنتهى مع بيان المختصر 3/374 وشرح المنهاج 2/799 والبحر المحيط 6/156 وشرح الكوكب المنير 4/636 وأدلة التشريع المتعارضة /128 ، 129
الثاني أبطأ حفظاً رجّحْنا رواية الأسرع حفظاً ؛ لأنّ سرعة الحفظ مِن أمارة الضبط والذكاء .
وقد ربط الصفي الهندي – رحمه الله تعالى – بَيْن سرعة الحفظ وسرعة النسيان في قوله :" فإنْ كان أحدهما أسرع حفظاً وأسرع نسياناً والآخَر أبطأ حفظاً وأبطأ نسياناً فَهُمَا متعارضان ، ويحتمل أنّ الثاني أَوْلَى لأنّه إنما يروي بَعْد حفظه ، فبقاؤه أغلب على الظن ، ولِذَا انتفاع هذا الطبع بعلمه أكثر ، ومَن هو أسرع حفظاً وأبطأ نسياناً أَوْلَى ، وعكسه آخِر المراتب " (1) ا.هـ .
ونستطيع مِن خلال كلام الصفي الهندي – رحمه الله تعالى – أنْ نقسِّم الرواة باعتبار سرعة الحفظ والنسيان إلى أصناف أربعة :
الأول : سريع الحفظ سريع النسيان .
الثاني : بطيء الحفظ بطيء النسيان .
الثالث : سريع الحفظ بطيء النسيان .
الرابع : بطيء الحفظ سريع النسيان .
وأَوْلاهما ترجيحاً عندي : هو الصنف الثالث الأسرع حفظاً والأبطأ نسياناً كما ذهب الصفي الهندي رحمه الله تعالى ؛ لأنّ تلك الصفة مِن أمارة الذكاء والضبط .
الصورة الرابعة : ترجيح رواية الأكثر حفظاً .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما أكثر حفظاًَ لألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الراوي الآخَر رجّحْنا رواية الأول (2) .
الوجه الثاني : ترجيح رواية المعروف بزيادة التيقظ وقلة الغلط .(1/149)
(1) الفائق 4/411 ويُرَاجَع البحر المحيط 6/156
(2) يُرَاجَع : الفائق 4/411 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /321
إذا كان الخبران المتعارضان راوي أحدهما معروفاً بزيادة التيقظ وقلة الغلط وراوي الخبر الثاني أقلّ منه في التيقظ وأزيد منه في الغلط رجَّحْنا رواية الأول ؛ لأنّ الثقة بروايته أكثر (1) .
الوجه الثالث : ترجيح رواية الأضبط والأكثر احتياطاً .
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن أضبط وأكثر احتياطاً مِن راوي الخبر الثاني رجَّحْنا الأول .
مثاله : أنْ يحتجّ المالكي بما روى مالك عن نافع (2) عن ابن عمر - رضي الله عنهم - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي مَمْلُوكٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَق } (3) ..
فيعارضه الحنفي بما روى سعيد بن أبي عروبة (4) عن قتادة (5) عن
(1) يُرَاجَع : روضة الناظر /415 والإحكام لِلآمدي 4/253
(2) نافع : هو أبو عبد الله نافع العدوي المدني رحمه الله تعالى ، مولى ابن عمر رضي الله عنهما ، حدّث عنه وعن كثير مِن الصحابة - رضي الله عنهم - ، أرسله عمر بن عبد العزيز – رحمه الله تعالى – لأهْل مصر يعلِّمهم السُّنَن ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 117 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/99 ، 100
(3) أَخْرَجَه مالك في كتاب العتق والولاء : باب مَن أعتق شِركاً له في مملوك برقم ( 1264 ) .
(4) سعيد بن أبي عروبة : هو أبو النضر سعيد بن أبي عروبة مهران اليشكري العدوي رحمه الله تعالى ، أحد الأعلام ، حدَّث عن الحسن – رحمه الله تعالى – وغَيْره ، وهو أول مَن صنَّف الأبواب بالبصرة ، كان ثقةً كثيرَ الحفظ ثُمّ اختلط في آخِر عمره ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 156 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/177 ، 178 وتهذيب التهذيب 4/63 – 66 وشذرات الذهب 1/239 ، 240(1/150)
(5) قتادة : هو أبو الخطاب قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي البصري رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 60 هـ ، فقيه مُفَسِّر ، كان ممَّن يُضرَب به المَثَل في العِلْم وقوّة الحِفْظ ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بواسط سَنَة 118 هـ .
طبقات ابن سعد 7/229 وسِيَر أعلام النبلاء 5/269 - 283
النضر بن أنس (1) عن بشير بن نَهِيك (2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبا [ أو : شِقْصاً ] لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِي (3) الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْه } (4) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأول بينَت أنّ مَن أعتق حصّةً له في عبْد عتق جميعه إنْ كان موسراً وإلا عتق منه بقدر ما هو موسر به ، والرواية الثانية بينَت أنّه إنْ لَمْ يكن له مال استسعى العبدَ في قيمته ..
فالرواية الأولى جعلت العتق فيما عتق ولَمْ تجوِّز استسعاءَ العبد ، والرواية الثانية جعلت له حقّ الاستسعاء فيه ، فالحُكْم فيهما مختلف ، فَهُمَا متعارضان .
وَجْه الترجيح : رجَّح الجمهور رواية ابن عمر – رضي الله عنهما - على رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - ؛ لأنّ سعيد بن أبي عروبة – رحمه الله تعالى -
(1) النضر بن أنس : هو أبو مالك النضر بن أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنهما ، ابن عمّ الصحابي الجليل أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، مِن الطبقة الوسطى مِن التابعين ، سمع أباه وزيد بن أرقم وابن عباس - رضي الله عنهم - ، وروى عنه قتادة وسعيد بن أبي عروبة وعاصم بن سليمان رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة بضع ومائة .
الطبقات الكبرى 7/191 وتقريب التهذيب 1/561 والإصابة 6/684(1/151)
(2) بشير بن نَهِيك : هو أبو الشعثاء بشير بن نهيك السدوسي رحمه الله تعالى ، روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وله عنه صحيفة ، وروى عنه أبو قلابة وقتادة والنضر بن أنس ، وثَّقه العجلي والنسائي وأحمد وغَيْرهم ، وذكره خليفة بن خياط في الطبقة الثانية مِن قرّاء البصرة ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى حوالي سنة 100 هـ .
الطبقات الكبرى 7/223 وتهذيب التهذيب 1/470
(3) استسعى فلاناً : استعمله على الصدقات وولاّه استخراجها مِن أربابها ..
واستسعى العبدَ : كلَّفه مِن العمل ما يؤدي به عن نَفْسه إذا أعتق بعضه لِيعتق به ما بقي ..
القاموس الفقهي /173
(4) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الشركة : باب تقويم الأشياء بَيْن الشركاء بقيمة عدل برقم ( 2312 ) ومسلم في كتاب العتق : باب ذِكْر سعاية العبد برقم ( 2760 ) والترمذي في كتاب الأحكام عن رسول الله : باب ما جاء في العبد يكون بَيْن الرجليْن فيعتق أحدهما برقم ( 1268 ) .
غَيْر متفَق على ضبطه ، كما أنّ هذه الرواية ( الثانية ) وردت عن طريق شعبة (1) وهشام (2) – رحمهما الله تعالى - دون ذِكْر ( الاستسعاء ) .
ورجَّح أبو حنيفة - رضي الله عنه - رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - .
أمّا الشوكاني – رحمه الله تعالى – فلَمْ يذهب إلى الترجيح ، وإنما جمع بَيْنَهُمَا ، وحمل الأولَ على أنّ مَن أعتق شِرْكاً له في عبد ولا مال له لَمْ يعتق إلا نصيبه ، ويبقى نصيب شريكه مملوكاً ، وحمل الثاني على اختيار العبد في الاستسعاء بما بقي ، وإلا كان بعضه حُرّاً وبعضه عبداً .
الأثر الفقهي :
ذهب الجمهور – ومعهم أبو يوسف ومحمد (3) رحمهما الله – إلى أنّ مَن أعتق حصته في عبد عتق عليه جميعه إنْ كان موسراً ، وإلا عتق بقدر ما هو موسر به ؛ بناءً على ترجيح رواية ابن عمر رضي الله عنهما .(1/152)
(1) شعبة : هو أبو بسطام شعبة بن الحَجّاج بن الورد الأزدي العتكي مولاهم الواسطي رحمه الله تعالى ، نزيل البصرة ، وُلِد سَنَة 82 هـ ، رأى أنسَ بنَ مالك وعمرَو بنَ سلمة رضي الله عنهما ، وسمع مِن أربعمائة مِن التابعين ..
قال فيه الثوري رحمه الله تعالى : شعبة أمير المؤمنين في الحديث .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالبصرة سَنَة 160 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/193 – 197 وتهذيب التهذيب 4/338 – 346 وشذرات الذهب 1/247
(2) هشام الدستوائي : هو أبو بكر هشام بن أبي عبد الله سنبر الربعي مولاهم البصري الحافظ الحُجّة رحمه الله تعالى ، كان يبيع الثياب المجلوبة مِن دستواء ( إحدى قرى الأهواز ) ، ولِذلك يقال له " صاحب الدستوائي " ، كان مِن أصحاب الحسن وابن سيرين ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 153 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/164 وطبقات الفقهاء لِلشيرازي /96
(3) محمد بن الحَسَن : هو أبو عبد الله محمد بن الحَسَن الشيباني رحمه الله تعالى ، وُلِد بواسط بالعراق ، اشتهر بالتَّبَحُّر في الفقه والأصول ، تَوَلَّى قضاء الرقة مِن قِبَل الخليفة هارون الرشيد ..
مِن مصنَّفاته : المبسوط في فروع الفقه ، الزيادات ، الآثار .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 186 هـ .
الأعلام 3/882 والفتح المبين 1/115
وذهب أبو حنيفة - رضي الله عنه - إلى أنّ لِشريكه الخيار : إنْ شاء أعتق أو استسعى أو ضمن شريكه ، فيعتق حينئذٍ بناءً على ترجيح رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - (1) .
الوجه الرابع : ترجيح رواية مَن لَمْ يضطرب لفظه .
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن لَمْ يضطرب لفظه وراوي الخبر الثاني قد اضطرب لفظه رجّحْنا رواية الأول ؛ لأنّه يدلّ على حفظه وضبطه ، وليس كذلك الراوي الآخَر (2) .(1/153)
مثاله : ما رواه عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديْه حذْوَ منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا كبَّر لِلركوع ، وإذا رفع رأسَه مِن الركوع رفعهما كذلك - أيضاً - وقال { سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ .. رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْد } ، وكان لا يفعل ذلك في السجود (3) ..
فإنّه معارَض بما رواه البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديْه إلى قريب مِن أذنيْه ثُمّ لا يعود (4) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى تُثبت رفع اليديْن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة مواضع في الصلاة ، والرواية الثانية تُثبته في موضع واحد ، فالحُكْم فيهما متعارض .
وَجْه الترجيح : أنّ الرواية الثانية فيها يزيد بن أبي زياد (5) – رحمه
(1) يُرَاجَع : الهداية 2/55 والتمهيد لابن عبد البر 14/274 – 277 وحاشية الدسوقي 4/369 ، 370 ومنهاج الطالبين /158 والمغني لابن قدامة 10/282 والسنن المأثورة /405 وشرح عمدة الأحكام 4/258 ومنار السبيل 2/102
(2) يُرَاجَع : اللمع /47 وقواطع الأدلة 3/35 والمسودة /308
(3) سبق تخريجه .
(4) سبق تخريجه .
(5) يزيد بن أبي زياد : هو أبو عبد الله يزيد بن أبي زياد ميسرة ( مولى ابن عياش المخزومي ) القرشي الهاشمي الشيعي رحمه الله تعالى ، روى عنه محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالكوفة سَنَة 136 هـ .
التاريخ الكبير 8/333 وميزان الاعتدال 4/423 - 425
الله تعالى – الذي روى الحديث مرّةً وذكر :" ثُمَّ لاَ يَعُود " ومرّةً لا يذكر ، فاضطرب لفظه ، ولِذَا رُجِّحَت الرواية الأولى (1) .
الوجه الخامس : ترجيح رواية الأشد تقصِّياً لِلحديث وأحسن نسقاً له .
إذا كان أحد الراوييْن في الخبريْن المتعارضيْن أشدَّ تقصِّياً لِلحديث وأحسن نسقاً له مِن الآخَر رجّحْنا روايته على رواية الثاني .(1/154)
مثاله : ما رواه جابر - رضي الله عنه - في إفراد الحجّ لِلنبي - صلى الله عليه وسلم - (2) ؛ فإنّه معارَض بحديث أنس - رضي الله عنه - الذي يُثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً (3) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى توضح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحجّ ، والرواية الثانية توضح أنّه قرنه مع العمرة ؛ فَهُمَا متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ جابراً - رضي الله عنه - تقصَّى صفة الحجّ مِن ابتدائه إلى انتهائه فدلّ ذلك على عنايته وحفظه وضبطه وعمله بظاهر الأمر وباطنه ، ولِذَا رجَّح البعض روايته (4) .
وفيه نظر ؛ لأنّ الإهلال بالقران وردت به روايات كثيرة صحيحة فوق العشرين حديثاً (5) .
الوجه السادس : ترجيح رواية الأتقن .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما أتقن مِن راوي الخبر الثاني رجّحْنا رواية الأتقن ؛ لأنّ الأتقن والأحفظ تسكن النَّفْس إلى روايته ، والظن بصحتها أغلب ؛ لأنّه يكون عن السهو والشبهة أبعد (6) .
(1) يُرَاجَع العدة 3/1029 ، 1030
(2) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الحجّ : باب مَن لبّى بالحجّ وسمّاه برقم ( 1468 ) ومسلم في كتاب الحجّ باب في المتعة بالحجّ والعمرة برقم ( 2136 ) وأحمد في باقي مسند المكثرين برقم ( 14304 ) .
(3) سبق تخريجه .
(4) يُرَاجَع : إحكام الفصول /742 ، 743 والعدة 3/1029 وشرح الكوكب المنير 4/636
(5) يُرَاجَع مختصر زاد المعاد /61
(6) يُرَاجَع الواضح 5/80 ، 81
الوجه السابع : ترجيح رواية مَن دام عقله .
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن سليم العقل دائماً وكان راوي الخبر الثاني مختلط العقل في بعض الأوقات ولا يُعرَف أنّه روى هذا الخبر حالَ سلامة عقله أو حالَ اختلاطه رجّحْنا رواية الأول ؛ لِتيقُّن نقله وحفظه (1) .
الوجه الثامن : ترجيح رواية مَن كان ذاكراً لِلرواية عن شيخه .(1/155)
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما حالَ روايته ذاكراً لِلرواية عن شيخه غَيْر معتمِد في ذلك على نسخة سماعه أو خط نَفْسه وكان راوي الخبر الثاني ليس ذاكراً لِلرواية عن شيخه وإنما يعتمد في ذلك على نسخة سماعه أو خط نَفْسه رجّحْنا رواية الأول ؛ لِكونه أبعد مِن السهو والغلط (2) .
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/456 وشرح المنهاج 2/799 والبحر المحيط 6/157 وتيسير التحرير 3/166 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/422 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /322
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/252 والمستصفى /377 وتيسير التحرير 3/166
المطلب السادس
الترجيح بشهرة الراوي
اختلف الأصوليون في حصر وجوه الترجيحات العائدة إلى شهرة الراوي ..
وقد حصرتُ ما وقفتُ عليه منها فيما يلي :
الوجه الأول : الترجيح بصحبة الراوي .
والترجيح بصحبة الراوي له صور عديدة ، حصرتُها فيما يلي :
الصورة الأولى : ترجيح رواية مَن طالت صحبته .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما أطول صحبةً لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وراوي الخبر الثاني دونه في ذلك رجّحْنا رواية الأول ؛ لِعلمه برواية الحديث وكثرة استيعابه لأفعال وأقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناتج عن طول الملازمة وكثرة المصاحبة له - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وقد تأكد ذلك مِن خلال أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - وأفعالهم ..
ومِن ذلك : ما رُوِي أنّ رجلاً جاء إلى زيد بن ثابت (2) – رضي الله عنهما – فسأله ، فقال له زيد - رضي الله عنه - :" عَلَيْكَ بِأَبِي هُرَيْرَةَ ؛ فَإِنِّي بَيْنَمَا أَنَا
(1) يُرَاجَع : اللمع /46 وقواطع الأدلة 3/33 والبحر المحيط 6/155 والمسودة /308 وشرح الكوكب المنير 4/647 وإرشاد الفحول /277(1/156)
(2) زيْد بن ثابت : هو الصحابي الجليل أبو سعيد زيْد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان الأنصاري الخزرجي النجاري المقرئ الفرضي - رضي الله عنه - ، مِن كُتّاب الوحي ، تعلَّم السريانية بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في نصف شهر ، وكان أحد أربعة جمعوا القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان أحد علماء الصحابة وقضاتهم ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 45 هـ ، وقيل سَنَة 54 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/30 – 32
وَأَبُو هُرَيْرَة وفلان فِي الْمَسْجِدِ نَدْعُو اللَّهَ وَنَذْكُرُهُ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا فَقَال { عُودُوا لِلَّذِي كُنْتُمْ فِيه } ..
قال زيد - رضي الله عنه - : فَدَعَوْتُ أَنَا وَصَاحِبِي ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِنَا ، وَدَعَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَال :" إِنِّي أَسْأَلُكَ مَا سَأَلَ صَاحِبَاكَ ، وَأَسْأَلُكَ عِلْماً لاَ يُنْسَى " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { آمِين } ، فَقُلْنَا :" يَا رَسُولَ اللَّهِ .. وَنَحْنُ نَسْأَلُكَ عِلْماً لاَ يُنْسَى " فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - { سَبَقَكُمْ بِهَا الْغُلاَمُ الدَّوْسِيّ } يعني أبا هريرة (1) .
ورُوِي أنّ عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما - قال له :" أَنْتَ كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَحْفَظَنَا لِحَدِيثِه " (2) (3) .
الصورة الثانية : ترجيح رواية أكابر الصحابة (4) .(1/157)
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن مِن أكابر الصحابة وراوي الخبر الثاني مِن صغارهم رجَّح الجمهورُ روايةَ الأول ؛ لأنّه أكثر قرباً وصحبةً لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأنّ الكبار مقدَّمون في ذلك على الصغار ؛ لِقوله - صلى الله عليه وسلم - { لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلاَمِ وَالنُّهَى } (5) (6) .
(1) أَخْرَجَه النسائي 3/440 والطبراني في الأوسط 2/54 والحميدي في مسنده 2/483
(2) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب المناقب عن رسول الله : باب مناقب أبي هريرة برقم ( 3771 ) وأحمد في مسند المكثرين مِن الصحابة : مسند عبد الله بن عمر برقم ( 4221 ) .
(3) يُرَاجَع : الإصابة 4/208 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/168 ، 169
(4) المراد بـ" أكابر الصحابة - رضي الله عنهم - " رؤساء الصحابة لا الأكابر بالسن ..
يُرَاجَع : المسودة /307 وشرح الكوكب المنير 4/642
(5) أَخْرَجَه مسلم في كتاب الصلاة : باب تسوية الصفوف وإقامتها ... برقم ( 655 ) والترمذي في كتاب الصلاة عن رسول الله : باب ما جاء لِيليَني منكم أولو الأحلام والنُّهَى برقم ( 211 ) كلاهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، والنسائي في كتاب الإمامة : باب مَن يلي الإمام ثُمّ الذي يليه برقم ( 798 ) عَنْ أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - .
(6) يُرَاجَع : العدة 3/26 والمحصول 2/457 والواضح 5/83 وشرح تنقيح الفصول /423 والإحكام لِلآمدي 4/253 والفائق 4/412 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/110 ، 111 وجمع الجوامع مع البناني 2/364(1/158)
وقيّد أبو حنيفة وأبو يوسف – رضي الله عنهما – ترجيح أكابر الصحابة إذا كانوا مِن فقهائهم ، فإنْ تحقَّق الفقه في صغار الصحابة قدِّمَت روايتهم ، ولِذَا رجَّحَا رواية ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - في مسألة " الهدم " أي هدم الزوج الثاني ما دون الثلاث مِن الطلاق حتى يملك الزوج الأول بالتزوج ثانياً بَعْد إبانة الثاني أو موته كمال التطليقات الثلاث كما كان يملك مِن قَبْل .
أمّا الجمهور ومحمد بن الحسن رحمه الله تعالى : فقد ذهبوا إلى عدم الهدم فيما دون الثلاث ، وهو مرويّ عن عمر وعَلِيّ رضي الله عنهما (1) .
والراجح عندي : أنّ هذه المسألة خارج محلّ نزاعنا - وهو خبر الآحاد - لأنّها راجعة إلى مذهب الصحابي والترجيح بَيْن أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - .
الصورة الثالثة : ترجيح رواية الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما أحد الخلفاء الراشدين رجّحْنا هذا الخبر على الخبر الذي لَمْ يَرْوِه واحد منهم ؛ وذلك لِقُرْبهم مِن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكثرة ملازمتهم له (2) .
الصورة الرابعة : ترجيح رواية مَن كانت له هجرة .
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن له هجرة وراوي الخبر الثاني ليس له هجرة قدِّمَت رواية مَن له هجرة .
وهذا ما ذهب إليه أبو الخطاب الكلوذاني (3) رحمه الله تعالى (4) ،
(1) يُرَاجَع : التحرير مع التيسير 3/163 ، 164 وفواتح الرحموت مع مسلَّم الثبوت 2/207 ، 208 وبدائع الصنائع 3/189 والهداية 2/11
(2) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/643 وإرشاد الفحول /277
(3) أبو الخَطّاب الكلوذاني : هو محفوظ بن أَحْمَد بن الحَسَن بن أَحْمَد الكلوذاني البغدادي الحنبلي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 432 هـ ، بَرَع في مذهب الحنابلة وعِلْم الخلاف والفرائض ..
مِن مصنَّفاته : الهداية في الفقه ، التهذيب في الفرائض .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 510 هـ .(1/159)
الفتح المبين 2/11
(4) يُرَاجَع : التمهيد 3/209 والمسودة /311 وشرح الكوكب المنير 4/647
ونسبه أبو الحسين البصري – رحمه الله تعالى - إلى قوم (1) .
الوجه الثاني : الترجيح بشهرة الراوي .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما مشهوراً بالعدالة والثقة – كأن كان مِن كبار الصحابة - رضي الله عنهم - أو مِن فقهائهم – وكان راوي الخبر الثاني ليس كشهرته كان الخبر الأول هو الراجح ؛ لأنّ شهرته تمنعه مِن الكذب (2) .
مثاله : ما رواه شعبة عن سُهَيْل (3) عن أبيه (4) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لاَ وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيح } (5) ..
فإنّه معارَض بما رواه بقية بن الوليد (6) عن محمد الخزاعي (7) عن
(1) يُرَاجَع المعتمد 2/181
(2) يُرَاجَع : شرح المنهاج 2/799 والمنهاج 2/795 ونهاية السول 3/168
(3) سُهَيْل : هو أبو يزيد سُهَيْل بن أبي صالح ذكوان السمان رحمه الله تعالى ، روى عن أبيه وسعيد ابن المسيب وعطاء بن السائب رحمهم الله تعالى ، وروى عنه حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة وشعبة بن الحَجّاج رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 138 هـ .
سير أعلام النبلاء 5/458 – 461 وشذرات الذهب 1/208
(4) ذكوان : هو أبو صالح ذكوان بن عبد الله السمان الزيات رحمه الله تعالى ، مِن الطبقة الوسطى مِن التابعين ، روى عن جابر وأبي سعيد الخدري وابن عباس والسيدة عائشة وغَيْرهم مِن الصحابة - رضي الله عنهم - ، ورَوَى عنه ابنه سهيل ورجاء بن حيوة وشعبة بن الحَجّاج وغَيْرهم رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة سَنَة 101 هـ .
الطبقات الكبرى 5/301 وسير أعلام النبلاء 5/36 ، 37 والنجوم الزاهرة 1/246(1/160)
(5) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب ما جاء في الوضوء مِن الريح برقم ( 69 ) وابن ماجة في كتاب الطهارة وسننها : باب لا وضوء إلا مِن حَدَث برقم ( 508 ) والإمام أحمد في باقي مسند المكثرين برقم ( 9712 ) .
(6) بقية : هو أبو محمد بقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي الحميري الحمصي رحمه الله تعالى ، أحد المشاهير الأعلام ، وُلِد سَنَة 110 هـ ، كان مِن أوعية العلم ، كان ثقةً في روايته عن الثقات ، وضعيف الرواية في روايته عن غير الثقات ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 197 هـ .
الطبقات الكبرى 7/469 وتذكرة الحفّاظ 1/289 ، 290 وسير أعلام النبلاء 8/518 - 534
(7) محمد الخزاعي : هو أبو عبد الله محمد بن راشد المكحولي الخزاعي الدمشقي رحمه الله تعالى ، =
الحسن (1) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - (2) أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لِرجل ضحك { أَعِدْ وُضُوءَك } (3) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى حصرت الوضوء مِن خروج الصوت أو الريح ، والرواية الثانية أوجبته مِن الضحك ، ولِذَا فَهُمَا متعارضان ؛ لأنّ الرواية الأولى ليس فيها الضحك .
وَجْه الترجيح : رجّحَت الكثرةُ الخبرَ الأولَ ؛ لأنّ روايه – وهو شعبة رحمه الله تعالى – مِن الأئمة المشهورين ، أمّا محمد الخزاعي رحمه الله تعالى – راوي الخبر الثاني – فليس مشهوراً ، بل كان مِن مجهولي مشايخ بقية رحمه الله تعالى .
الأثر الفقهي :
ذهب الجمهور إلى عدم نقض الوضوء بالضحك ؛ لأنّ راوي خبره ليس مشهوراً ، ولِمَا رواه جابر - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { الضَّحِكُ
= مِن كبار الأتباع ، روى عن مكحول ويحيى بن يحيى وسليمان بن موسى رحمهم الله تعالى ، وروى عنه بقية بن الوليد وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق بن همام رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالبصرة بَعْد سَنَة 160 هـ .(1/161)
تاريخ بغداد 5/271 – 273 وسير أعلام النبلاء 7/343 ، 344
(1) الحَسَن : هو أبو سعيد الحَسَن بن أبي الحسن يسار البصريّ رحمه الله تعالى ، مِن أكابر التابعين أُمّه خيرة مولاة السيدة أمّ سلمة رضي الله عنها ، نشأ بالمدينة ، أَدرَك مائةً وعشرين مِن الصحابة ، كان حُجّةً مأموناً عابداً ناسكاً شجاعاً ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 110 هـ عن 88 عاماً .
تذكرة الحفّاظ 1/71 ، 72 وشذرات الذهب 1/136
(2) عمران بن حصين : هو الصحابي الجليل أبو نجيد عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي - رضي الله عنه - ، أسلم وقْت إسلام أبي هريرة - رضي الله عنه - ، له أحاديث عدة ، أرسله عمر - رضي الله عنه - إلى البصرة لِيفقِّه أهْلَهَا في الدين ، كان ممن تُسَلِّم عليهم الملائكة ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 52 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/29 ، 30
(3) أَخْرَجَه ابن عديّ في الكامل 3/166
يَنْقُضُ الصَّلاَةَ وَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوء } (1) .
ورُوِي عدم النقض عن عروة وعطاء (2) والزهري (3) رحمهم الله تعالى ، وهو قول ابن مسعود وجابر وأبي موسى الأشعري (4) - رضي الله عنهم - .
وقالت الحنفية بنقض الوضوء بالقهقهة ، ورُوِي عن الحسن والنخعي (5) والثوري رحمهم الله تعالى .
واحتجّوا : بما رُوِي أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّي فجاء أعرابيّ في عيْنيْه سوء فوقع في بئر عليها خصفة ، فضحك بعض مَن خلْفه ، فلَمّا قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ قال { مَنْ قَهْقَهَ مِنْكُمْ فَلْيُعِدِ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ ، وَمَنْ
(1) أَخْرَجَه الدارقطني في سننه 1/173 والديلمي 2/431(1/162)
(2) عطاء : هو أبو مُحَمَّد عطاء بن أبي رباح القرشي المكي رحمه الله تعالى ، وُلِد في خلافة عثمان - رضي الله عنه - ، حَدَّث عَنْ جماعة مِن الصحابة منهم أبو هريرة والسيدة عائشة والسيدة أمّ سلمة - رضي الله عنهم - ، كان مِن أكابر علماء التابعين ، وكان مِن أحسن الناس صلاةً ..
تُوُفِّي رَحمه الله تعالى سَنَة 114 هـ .
طبقات ابن سعد 5/467 والبداية والنهاية 9/306 وشذرات الذهب 1/147 ، 148
(3) الزُّهْري : هو أبو بَكْر محمد بن مُسْلِم بن عُبَيْد الله بن عَبْد الله بن شهاب القرشي الزُّهْرِي رحمه الله تعالى ، تابعيّ جليل إمام حافظ ، أحد الأعلام مِنْ أئمّة الإسلام ، وُلِد سَنَة 58 هـ ، حدَّث عن صغار الصحابة - رضي الله عنهم - ، حفظ القرآن في ثمانين ليلةً ، كان مِن أسخى الناس وجنديّاً شجاعاً .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بأدامى بيْن فلسطين والحجاز سَنَة 124 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/108 – 113 والبداية والنهاية 9/353 - 361
(4) أبو موسى : هو الصحابي الجليل عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري التميمي - رضي الله عنه - ، مِن فقهاء الصحابة وقرّائهم ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالكوفة سَنَة 44 هـ ، وقيل : سَنَة 50 هـ .
الطبقات الكبرى 4/105 - 115 وسير أعلام النبلاء 2/380 - 402
(5) النخعي : هو أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي اليماني ثُمّ الكوفي رحمه الله تعالى ، أحد الأعلام الحُفّاظ وفقيه العراق ، روى عن علقمة ومسروق والأسود وطائفة ، كان لا يتكلم في العلم إلا أنْ يُسأل ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 96 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/73 ، 74 وطبقات الفقهاء لِلشيرازي /82 وطبقات الحفّاظ لِلسيوطي /29
تَبَسَّمَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْه } (1) .
وقد حاول الكاساني (2) – رحمه الله تعالى – الجمع بَيْن الأدلة بحمله حديث جابر - رضي الله عنه - على ما دون القهقهة .(1/163)
لكنّ الجمهور ردّوا رواية الأعمى ؛ لأنّها عن طريق أبي العالية (3) رحمه الله تعالى ، ووصف النووي – رحمه الله تعالى – رواية نقض الوضوء بالضحك بأنّها واهية باتفاق أهل الحديث (4) .
ولِذَا كان الراجح عندي : عدم نقض الوضوء بالضحك ، وهو ما عليه الجمهور ؛ لِقوة حُجّتهم ورجاحة أدلتهم .
الوجه الثالث : الترجيح بشهرة النسب .
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن مشهوراً بالنسب وراوي الخبر الثاني ليس كذلك كان خبر الأول هو الراجح ؛ لأنّ شهرة نسبه تعطيه زيادةً في التوثيق والصدق .
الوجه الرابع : الترجيح بعدم التباس اسم الراوي .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما لَمْ يلتبس اسمه باسم غَيْره مِن
(1) أَخْرَجَه الدارقطني 1/167 عن معبد الجهني - رضي الله عنه - ، وعبد الرزاق2/376 عنْ أبي العالية رحمه الله تعالى ، وأبو حنيفة /233 عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .
(2) الكاساني : هو علاء الدين أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي رحمه الله تعالى ، نُسِب إلى كاسان مِن تركستان ، فقيه أصوليّ ..
مِن مصنَّفاته : البدائع ، السلطان المبين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بحلب سَنَة 587 هـ .
الفوائد البهية /53
(3) أبو العالية : هو رفيع بن مهران الرياحي البصري رحمه الله تعالى ، تابعيّ فقيه مقرئ ، قرأ القرآنَ على أُبَيّ بن كعب وعمر وابن مسعود وغَيْرهم - رضي الله عنهم - ، وروى عنه قتادة ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 93 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/61 ، 62
(4) يُرَاجَع : المغني لابن قدامة 1/116 والمجموع 2/75 وبدائع الصنائع 1/33 والقوانين الفقهية /22 ومواهب الجليل 1/302
الضعفاء وكان راوي الخبر الثاني يلتبس اسمه باسم غَيْره مِن الضعفاء ويصعب تمييزه كان خبر الأول هو الراجح ؛ لأنّ الراوي الأول أبعد عن الشبهة والجرح (1) .(1/164)
مثاله : إذا وقع إسنادان متعارضان في أحدهما عمرو بن دينار (2) رحمه الله تعالى – الإمام المشهور - وفي الآخَر ثقة مثله في العلم والعدالة وصفات الترجيح كان الإسناد الذي فيه عمرو بن دينار مرجوحاً ؛ لالتباس اسمه مع عمرو بن دينار الكوفي (3) وكذا عمرو بن دينار البصري (4) رحمهما الله تعالى .
الوجه الخامس : ترجيح رواية صاحب الاسم الواحد .
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن صاحب اسم واحد وراوي
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/457 ومختصر المنتهى مع بيانه 3/374 – 380 والإحكام لِلآمدي 4/253 والمنهاج مع شرحه 2/795 – 799 والفائق 4/412 وجمع الجوامع مع حاشية البناني وشرح المحلي 2/263 والبحر المحيط 6/157 وشرح الكوكب المنير 4/647 والتحرير 3/165 وإرشاد الفحول /277 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /324
(2) عمرو بن دينار : هو أبو محمد عمرو بن دينار الأثرم الجمحي اليمني الصنعاني الإيناوي رحمه الله تعالى ..
قال شعبة :" ما رأيتُ في الحديث أثبت منه " .
وقال طاووس لابنه :" إذا قدمتَ مكة فجالِس عمرو بن دينار " .
قيل : إنّه سمع ابن عباس وجابر - رضي الله عنهم - وطائفة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمكة المكرمة سَنَة 126 هـ .
ميزان الاعتدال 1/260 والتاريخ الأوسط 1/302 ، 303 وشذرات الذهب 1/171
(3) عمرو بن دينار الكوفي : كنيته أبو خلدة ، لا يُعْرَف ، مِن شيوخ سيف بن عمر التميمي رحمه الله تعالى ، روى عنه سهم بن منجاب الكوفي رحمه الله تعالى ..
تهذيب الكمال 12/216 وميزان الاعتدال 3/259 وتهذيب التهذيب 4/229
(4) عمرو بن دينار البصري : هو أبو يحيى عمرو بن دينار البصري رحمه الله تعالى ، قهرمان آل الزبير ، ضعَّفه الإمام أحمد وأبو حاتم ويحيى بن معين ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 130 هـ .
سير أعلام النبلاء 5/307 ، 308 وميزان الاعتدال 3/259(1/165)
الخبر الثاني صاحب اسْميْن رجّحْنا رواية الأول ؛ لاحتمال أنْ يكون صاحب الاسْميْن مجروحاً بواحد منهما (1) .
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/457 والفائق 4/412 وشرح تنقيح الفصول /423 وجمع الجوامع مع شرح المحلي مع حاشية البناني 2/365
المبحث الثالث
الترجيح العائد إلى الرواية
والمروي ووقْت الرواية
وفيه مطالب :
المطلب الأول : الترجيح العائد إلى الرواية .
المطلب الثاني : الترجيح العائد إلى كيفية الرواية .
المطلب الثالث : الترجيح العائد إلى المروي .
المطلب الرابع : الترجيح العائد إلى وقْت الرواية .
المطلب الأول
الترجيح العائد إلى الرواية
لقد تعددت وجوه الترجيح العائد إلى الرواية عند الأصوليين ..
وقد حصرتُ ما وقفتُ عليه منها فيما يلي :
الوجه الأول : ترجيح المسند على المرسل .
اتفق العلماء على أنّ مراسيل الصحابة - رضي الله عنهم - مقبولة على الصحيح ؛ لِثبوت عدالتهم ، فهي كالمسندة ، حتى لو عارضها صحابيّ صرَّح بالسماع فَهُمَا سواء ، ويحتمل أنّه يتطرقه خِلاَف .
واختلفوا في غَيْر مراسيل الصحابة : هل يرجح المسند عليها أم لا ؟
على ثلاثة مذاهب (1) :
المذهب الأول : ترجيح المسند على المرسل .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الغزالي والباجي والفخر الرازي وأبو يعلى وابن عقيل والآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي والطوفي والزركشي رحمهم الله تعالى (2) .
واحتجّوا لِذلك بما يلي :
الدليل الأول : أنّ الراوي في المرسل عدالته معلومة لِرجل واحد ، وهو
(1) البحر المحيط بتصرف ويُرَاجَع البلبل /187(1/166)
(2) يُرَاجَع : المنخول /431 وإحكام الفصول /743 والمحصول 2/458 والعدة 3/1032 والواضح 5/86 والإحكام لِلآمدي 4/255 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/311 وبيان المختصر 3/381 والفائق 4/414 والبحر المحيط 6/162 والإبهاج 3/241 ونهاية السول 3/172 ومناهج العقول 3/171 وفواتح الرحموت 2/208 والبلبل /187 وإرشاد الفحول /278 وأدلة التشريع المتعارضة /135
الذي يروي عنه فقط ، أمّا الراوي في المسند فعدالته معلومة لِكُلّ الرواة ؛ لِتمكُّنهم مِن البحث عن أسباب جرحه وعدالته ، ولا شك أنّ رواية مَن ظهرت عدالته لِجمع أَوْلَى مِن رواية مَن لَمْ تظهر عدالته إلا لإنسان واحد ؛ لاحتمال أنْ يكون قد خفي حال الرجل على إنسان واحد ، ولكنْ يبعد أنْ يخفى حاله على الجمع ، فدلّ ذلك على أنّ المسند أَوْلَى بالترجيح مِن المرسل (1) .
الدليل الثاني : أنّ المسند لَمْ يختلف الفقهاء في وجوب العمل به ، والمرسل ليس كذلك ؛ فقد اختلف الفقهاء في وجوب العمل ، وتقديم ما اتفقوا على وجوب العمل به أَوْلَى مِن تقديم ما اختلفوا فيه ، فدلّ ذلك على ترجيح المسند على المرسل (2) .
المذهب الثاني : ترجيح المرسل على المسند .
وهو قول عيسى بن أبان (3) والجرجاني رحمهما الله تعالى .
واحتجّ لِذلك بما يلي :
الدليل الأول : أنّ الثقة لا يجزم بإسناد الحِلّ والحرمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويشهد به إلا وهو قاطع أو كالقاطع بذلك ، بخِلاَف المسند ؛ فإنّه لَمْ يحكم على ذلك الخبر بالصحة ، فلَمْ يزد على حكاية أنّ فلاناً زعم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك ، ولِذَا كان المرسل أَوْلَى بالترجيح مِن المسند .
الدليل الثاني : أنّ الحسن البصري - رضي الله عنه - قال :" إذا حدّثني نفر مِن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديث تركتُهم وقلتُ : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، وهذا دليل
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/458 والفائق 4/415(1/167)
(2) يُرَاجَع إحكام الفصول /743 ، 744
(3) عيسى بن أبّان : هو أبو موسى عيسى بن أبّان بن صدقة الحنفي البغدادي رحمه الله تعالى ، تَفَقَّه على محمد بن الحَسَن والحَسَن بن زياد ، تَوَلَّى قضاء البصرة عَشْر سنين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالبصرة سَنَة 221 هـ .
النجوم الزاهرة 2/235 والفوائد البهيّة /151 والأعلام 5/238
على فرط الوثوق ، فكان المرسل بذلك أَوْلَى بالترجيح مِن المسند .
مناقشة هذيْن الدليليْن :
وقد نوقش هذان الدليلان : بأنّ قول الراوي " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يُحمَل على ظنه ، وهو حاصل له فقط ، أمّا المسند فظنّ العدالة فيه حاصل لِلكُلّ ، وفي الإرسال لا يحصل إلا لِلواحد ، ولِذَا رجّحْنا المسند على المرسل (1) .
المذهب الثالث : أنّهما متساويان في الترجيح .
وهو قول القاضي عبد الجبار رحمه الله تعالى .
واحتجّ لِذلك : بأنّ عدالة الرواة في المسند معلومة لِكُلّ واحد منهم ، وفي المرسل حصل الجزم بها أو ظن قريب منها ، وإذا كانت العدالة متحققةً في المسند فهي كذلك في المرسل ، فَهُمَا - حينئذٍ – متساويان .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا سلَّمْنا تحقُّق العدالة فيهما ، لكنّ العدالة معلومة في الإسناد بالبحث والاختبار ، ولِذَا كان الظن فيه أكثر مِن المرسل (2) .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول مِن ترجيح المسند على المرسل ؛ لِقوة أدلته وسلامتها مِن المناقشة والاعتراض ، ولِعدم سلامة أدلة المذْهبيْن الثاني والثالث مِن ذلك .
مثال ترجيح المسند على المرسل : ما روى عكرمة (3) عن ابن عباس
(1) يُرَاجَع : المحصول لِلرازي 2/458 ، 459 والفائق 4/415 والعدة 3/1032 ، 1033 والواضح 5/86
(2) يُرَاجَع : الفائق 4/416 وكشف الأسرار لِلبخاري 3/14(1/168)
(3) عكرمة : هو أبو عبد الله عكرمة البربري المدني الهاشمي رحمه الله تعالى ، مولى ابن عباس رضي الله عنهما ، تعلَّم عليه وحمل عِلْمَه ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة سَنَة 107 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/95 ، 96
- رضي الله عنهم - أنّ بَرِيرَة (1) – رضي الله عنها – أُعْتِقَتْ ، وكان زوجها عبْداً أسود يقال له " مغيث " - رضي الله عنه - (2) كان لِبني فلان " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ وَرَاءَ مَاءٍ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى لِحْيَتِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { يَا عَبَّاسُ (3) .. أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَبُغْضِ بَرِيرَةِ مُغِيثا } " (4) ..
فإنّه معارَض بما رواه الأسود بن يزيد (5) – رحمه الله تعالى – عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنّ بريرة – رضي الله عنها – أُعْتِقَتْ ، فخيَّرَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان زَوْجُهَا حُرّاً (6) ..
(1) بَرِيرَة : هي الصحابية الجليلة السيدة بَرِيرَة مولاة السيدة عائشة رضي الله عنهما ، كانت مولاةً لِقوم مِن الأنصار – وقيل : لآل عتبة بن أبي لهب ، وقيل : لِبني هلال – فاشترتها السيدة عائشة وأعتقتها ، وكانت تخدمها قَبْل أنْ تشتريها .
سير أعلام النبلاء 2/297 – 304 والإصابة 4/251 ، 252
(2) مغيث : زَوْج بَرِيرة رضي الله عنهما ، وهو مَوْلَى أبي أحمد بن جحش الأسدي ، خَيَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَرِيرَة – رضي الله عنها – فاختارت فراقَه ، وكان يحبّها ، وكان يمشي في طُرُق المدينة وهو يبكي ، واستشفع إليها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت :" أَتَأْمُر ؟ " قال { لاَ ، بَلْ أَشْفَع } قالت :" لاَ أُرِيدُه " .
الطبقات الكبرى 8/260 والإصابة 3/451 ، 452(1/169)
(3) العباس : هو الصحابي الجليل أبو الفضل العباس بن عبْد المطلب بن هاشِم بن عبْد مناف القرشي - رضي الله عنه - ، عَمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وُلِد قَبْل عام الفيل بثلاث سنوات ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 32 هـ عَنْ 86 سَنَةً ، ودُفِن بالبقيع .
الطبقات الكبرى 4/5 - 32 وسير أعلام النبلاء 2/78 - 100
(4) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الطلاق : باب شفاعة النبي في زوج بريرة برقم ( 4875 ) والنسائي في كتاب آداب القضاة : باب شفاعة الحاكم لِلخصوم قَبْل فَصْل الحُكْم برقم ( 5322 ) وأبو داود في كتاب الطلاق : باب في المملوكة تُعْتَق وهي تَحْت حُرّ أو عبْد برقم ( 1904 ) .
(5) الأسود بن يزيد : هو أبو عمرو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي رحمه الله تعالى ، كان مخضرماً ، أدرك الجاهلية والإسلامية ، حدّث عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - ، ولازم ابنَ مسعود - رضي الله عنه - ، وكان يختم القرآن في كُلّ ليْلتيْن ، وكان يصلّي كُلّ يوم سبعمائة ركعة ، وحَجّ ثمانين حجّةً وعمرةً لَمْ يَجمع بَيْنَهُمَا ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 75 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/50 ، 51 وسير أعلام النبلاء 4/53 وشذرات الذهب 1/82
(6) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الرضاع : باب ما جاء في المرأة تُعتق ولها زوْج برقم ( 1075 ) =
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى تُثبت أنّ مغيثاً زوج بَرِيرة – رضي الله عنهما – كان عبداً ، والرواية الثانية تُثبت له الحرية ، فَهُمَا متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ رواية عكرمة – رحمه الله تعالى – خبر مسند ، ورواية الأسود بن يزيد – رحمه الله تعالى – خبر مرسل ؛ لأنّ النص على أنّه كان حُرّاً إنما هو مِن قول الأسود بن يزيد رحمه الله تعالى ، ولِذَا رجّحْنا المسند على المرسل (1) .
الوجه الثاني : ترجيح المسند بالاتفاق .(1/170)
إذا تعارض خبران مسندان لكنّ أحدهما متفَق على إسناده والآخَر مختلَف فيه رجّحْنا الأول ؛ لِشدة التوثيق فيه (2) .
الوجه الثالث : ترجيح المسند إلى كتاب مِن كتب المحدّثين .
لَمّا كان الخبر المسند إلى كتاب مِن كتب المحدّثين – وإنْ لَمْ يكن مِن كتبهم المشهورة بهم – يُبعِد احتمال تطرُّق التغيير أو الكذب إليه كان هو الأَوْلَى بالترجيح مِن الخبر الثابت بطريق الشهرة (3) .
الوجه الرابع : ترجيح المسند إلى كتاب موثوق بصحته .
يرجح المسند إلى كتاب موثوق بصحته – كمسلم والبخاري – على كتاب ليس كذلك : كسنن أبي داود (4) .
= وأبو داود في كتاب الطلاق : باب مَن قال : كان حُرّاً برقم ( 1908 ) وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 23021 ) .
(1) يُرَاجَع إحكام الفصول /744
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/256 وبيان المختصر 3/381 والفائق 4/413 وتيسير التحرير 3/166
(3) يُرَاجَع : بيان المختصر مع المختصر 3/375 – 382 وشرح العضد 2/311
(4) يُرَاجَع : بيان المختصر 3/381 وشرح الكوكب المنير 4/650 ، 651 والفائق 4/413 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/365 وإرشاد الفحول /278
الوجه الخامس : ترجيح المسند عنعنةً (1) .
إذا كان طريق أحد الخبريْن المتعارضيْن معنعناً إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطريق الخبر الثاني ليس كذلك – وإنما أحيل إلى كتاب معروف – رجّحْنا المسند عنعنةً ؛ لأنّه أشدّ توثيقاً مِن الآخَر (2) .
الوجه السادس : ترجيح مرسل التابعي .
إذا كان أحد الخبريْن المتعارضيْن مرسل تابعيّ والآخَر مرسل غَيْر التابعي رجّحْنا الخبر الأول ؛ لأنّ مرسل التابعي قد ترك فيه ذِكْر الصحابي ؛ لأنّ الظاهر رواية التابعي عن الصحابي ، وعدالة الصحابي ثابتة بالدليل ، أمّا غَيْره مِن التابعين ومَن بَعْدهم فليس كذلك (3) .
الوجه السابع : ترجيح المتواتر على غَيْره .(1/171)
إذا كان الخبران المتعارضان أحدهما متواتراً والآخَر ليس كذلك – مشهوراً كان أم آحاداً – كان المتواتر هو الأرجح ؛ لِتيقُّنه ، أمّا غَيْره فهو مظنون (4) .
الوجه الثامن : ترجيح الأعلى سنداً .
قد سبق تفصيل القول في هذا الوجه في مطلب مستقلّ عند الحديث عن الترجيح العائد إلى الراوي في مطلب الترجيح بعلوّ الإسناد .
(1) العنعنة : قول الراوي " عن فلان " مِن غَيْر بيان لِلتحديث أو الإخبار أو السماع ..
يُرَاجَع لمحات في أصول الحديث /284
(2) يُرَاجَع : بيان المختصر 3/381 والإحكام لِلآمدي 4/256 وشرح الكوكب المنير 4/650 والفائق 4/413 ومسلّم الثبوت 2/208
(3) يُرَاجَع : بيان المختصر 3/381 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/311 والفائق 4/417 والإحكام لِلآمدي 4/255 ، 256 وشرح الكوكب المنير 4/649
(4) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/254 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/311 وبيان المختصر 3/381 والبلبل /187
المطلب الثاني
الترجيح العائد إلى كيفية الرواية
لقد تعددت وجوه الترجيح العائد إلى كيفية الرواية عند الأصوليين ..
وقد حصرتُ ما وقفتُ عليه منها فيما يلي :
الوجه الأول : ترجيح المتفق على رفعه .
إذا تعارض خبران وكان أحدهما متفَقاً على رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخَر مختلف فيه رجّحْنا رواية الأول ؛ لأنّه أغلب على الظن (1) .
مثاله : ما رواه عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - (2) أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب } (3) ؛ فإنّه معارَض بما رواه جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { كُلُّ صَلاَةٍ لاَ يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ الإِمَام } (4) ..(1/172)
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب قراءة الفاتحة في الصلاة مطلقاً ، والخبر الثاني لَمْ يوجبها وراء الإمام ، فالحُكْم فيهما متعارض ؛
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/457 والإحكام لِلآمدي 4/257 وتيسير التحرير 3/166 وشرح المنهاج 2/801 ومسلّم الثبوت 2/208
(2) عبادة بن الصامت : هو الصحابي الجليل أبو الوليد عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه - ، شَهِد العَقَبة الأُولى والثانية ، وكان أحد النقباء ، وشَهِد المَشاهد كُلّها ، وهو أول مَن تَوَلَّى قضاء فلسطين ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالرملة سَنَة 34 هـ .
أسد الغابة 3/160 والإصابة 4/37
(3) أَخْرَجَه مسلِم في كتاب الصلاة : باب وجوب قراءة الفاتحة في كُلّ ركعة برقم ( 595 ) والترمذي في كتاب الصلاة : باب ما جاء أنَّه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب برقم ( 230 ) والنسائي في كتاب الافتتاح : باب إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة برقم ( 901 ) .
(4) أَخْرَجَه الدارقطني في سُنَنِه .. يُرَاجَع نصب الراية 2/18
لاختلافهما .
وَجْه الترجيح : رجَّح الكثير مِن العلماء خبر عُبادة - رضي الله عنه - ؛ لاتفاقهم على رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أمّا خبر جابر - رضي الله عنه - فإنّه موقوف (1) .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في حُكْم قراءة الفاتحة في حقّ المأموم على قوْليْن :
القول الأول : عدم وجوب قراءتها .
وهو ما عليه جمهور الحنفية والمالكية والحنابلة ، وهو قول الزهري والثوري وابن المبارك رحمهم الله تعالى .
واحتجّوا لِذلك : بقوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} (2) قال أُبَيّ بن كعب - رضي الله عنه - (3) :" لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَرَكُوا الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الإِمَام " ، وإمامهم كان رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فالظاهر أَنّه كان بأمره .(1/173)
وقال الإمام أحمد - رضي الله عنه - : أجمع الناس على أنّ هذه الآية في الصلاة .
واحتجّوا بحديث جابر - رضي الله عنه - المتقدم ، وحديث { مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَة } (4) .
القول الثاني : وجوب قراءتها .
(1) يُرَاجَع : الإبهاج 3/225 ، 226 والبحر المحيط 6/159 وشرح الكوكب المنير 4/652 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /328 – 330
(2) سورة الأعراف الآية 204
(3) أُبَيّ بن كعب : هو الصحابي الجليل أُبَيّ بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي النجاري - رضي الله عنه - ، أقرأ الصحابة وسيد القراء ، شهد بدراً والمَشاهد كُلَّهَا ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 19 هـ ، وقيل : سَنَة 22 هـ .
ولَمّا مات قال عُمَر - رضي الله عنه - :" الْيَوْمَ مَاتَ سَيِّدُ الْمُسْلِمِين " .
تذكرة الحفّاظ 1/16 ، 17
(4) أَخْرَجَه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها : باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا برقم ( 840 ) والبيهقي في السنن الكبرى 2/160 والدارقطني 1/323 عن جابر - رضي الله عنه - .
وهو قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - والليث (1) والأوزاعي (2) وأبي ثور (3) رحمهم الله تعالى .
واحتجّوا لِذلك : بحديث عُبادة - رضي الله عنه - المتقدم .
القول الثالث : استحباب قراءتها .
وهو محكيّ عن الأصم (4) والحسن بن صالح (5) رحمهما الله تعالى .
والراجح عندي : وجوب قراءتها على المأموم في الصلاة السرية ؛ لأنّ
(1) اللَّيْث : هو اللَّيْث بن سَعْد بن عَبْد الرَّحْمَن رحمه الله تعالى ، وُلِد في مِصْر سَنَة 94 هـ ..
قال عنه الإمام الشافعي : كان اللَّيْث أَفْقَه مِن مالك ، إلا أنّه ضَيَّعه أصحابه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 175 هـ .
طبقات ابن سعد 7/517 وشذرات الذهب 1/285(1/174)
(2) الأوزاعي : هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي رحمه الله تعالى ، مِن تابِعي التابعين وأئمّة الفقه والعِلْم والحديث ، كان أهْل الشام والمغرب على مذْهبه ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببيروت سَنَة 157 هـ .
وفيات الأعيان 2/310 وشذرات الذهب 1/241
(3) أبو ثور : هو إبراهيم بن خالد بن اليمان الكلبي البغدادي رحمه الله تعالى ، حَدَّث عن الإمام الشافعي وسفيان بن عيينة وغيْرهما ، كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وورعاً ، صنَّف الكتب وفرَّع على السُّنَن وذَبّ عنها ..
مِن مصنَّفاته : مبسوط في الفقه على ترتيب كُتُب الإمام الشافعي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 240 هـ .
تذكرة الحُفّاظ 2/512 ، 513 وسِيَر أعلام النبلاء 12/72 ، 73 وشذرات الذهب 2/93
(4) حاتم الأصمّ : هو أبو عَبْد الرحمن حاتم بن عنوان بن يوسف الأصمّ البلخي رحمه الله تعالى ، كان يقال له " لقمان هذه الأُمَّة " ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى برباط رأس سروند سَنَة 237 هـ .
شذرات الذهب 1/87 ، 88 ووفيات الأعيان 2/26 - 29
(5) الحسن بن صالح : هو أبو عبد الله الحسن بن صالح بن صالح بن حيّ الهمداني الثوري رحمه الله تعالى ، فقيه الكوفة وعابِدها ، حافظ متقن ، كان هو وأُمّه وأخوه يقسمون الليل ثلاثة أجزاء ، فماتت أُمّه فقَسمَا الليل سَهْمَيْن ، فمات أخوه فقام الحسنُ الليلَ كُلَّه ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 167 هـ .
سير أعلام النبلاء 1/361 – 372 وشذرات الذهب 1/262 ، 263
الأمر بالاستماع الوارد في الآية الكريمة واقع في جواب الشرط الذي هو القراءة ، وأكّد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - { فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } (1) .
أمّا في الصلاة الجهرية : فإنْ كان لِلإمام سكتة استحب لِلإمام قراءة الفاتحة فيها ، وإنْ لَمْ يكن له سكتة فلا تجب عليه قراءتها ..(1/175)
ولِذَا يُستحبّ لِلإمام أنْ يسكت بَعْد الفاتحة سكوتاً يمكن المأموم مِن قراءة الفاتحة فيها ؛ لِمَا روى سمرة - رضي الله عنه - (2) أنّه حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَكْتَتَيْن : سكتة إذا كبَّر ، وسكتة إذا فرغ مِن قراءة {الْمَغْضِوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين} (3) (4) .
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن (5) رحمه الله تعالى :" لِلإمام سكتتان ،
(1) أَخْرَجَه النسائي في كتاب الافتتاح : باب تأويل قوله عَزّ وجَلّ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} برقم ( 912 ) وأبو داود في كتاب الصلاة : باب الإمام يصلّي مِن قعود برقم ( 511 ) وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها : باب إذا قرأ الإمام فأنصِتوا برقم ( 837 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) سمرة : هو الصحابي الجليل أبو سليمان سمرة بن جندب بن هلال الفزاري - رضي الله عنه - ، مِن علماء الصحابة - رضي الله عنهم - ، كان مِن حلفاء الأنصار ، وكان عظيم الأمانة صدوقاً ، وكان شديداً على الخوارج ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 60 هـ .
سير أعلام النبلاء 3/183 – 186 والإصابة 2/79
(3) أَخْرَجَه أبو داود في كتاب الصلاة : باب السكتة عند الافتتاح برقم ( 660 ) وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها : باب في سَكْتَتَيِ الإمام برقم ( 836 ) وأحمد في أول مسند البصريين برقم ( 19362 ) .
(4) يُرَاجَع : المغني لابن قدامة 1/329 وبدائع الصنائع 1/110 ، 111 والتاج والإكليل 1/514 ومغني المحتاج 1/257 ، 258 ورحمة الأُمّة /33
(5) أبو سلمة بن عبد الرحمن : هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني رحمه الله تعالى ، حافظ ثقة ، وُلِد سَنَة بضع وعشرين مِن الهجرة ، روى عن أبيه وكثير مِن الصحابة - رضي الله عنهم - ، وروى عنه الشعبي والزهري ومحمد التميمي وغَيْرهم ..(1/176)
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة سَنَة 94 هـ .
سير أعلام النبلاء 4/287 – 292 وشذرات الذهب 1/105
فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب : إذا افتتح الصلاة ، وإذا قال {وَلا الضَّالِّين} " (1) .
الوجه الثاني : ترجيح المتفَق على لفظه .
إذا تعارض خبران وكان أحدهما اتفقت رواته على أنّه مِن لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخَر اختلفوا هل هو مِن لفظه أو مدرَج مِن لفظ غَيْره كان الأول هو الراجح ؛ لِكونه أضبط وأغلب على الظن بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (2) .
الوجه الثالث : ترجيح ما رُوِي بلفظه .
إذا كان أحد الخبريْن المتعارضيْن مرويّاً بلفظه والآخَر مرويّاً بمعناه رجّحْنا الأول ؛ لأنّه لا خِلاَف في قبوله ، أمّا الرواية بالمعنى فقد اختلفوا في جوازها ؛ لأنّها دون الأولى في الضبط .
وحكى الشريف المرتضى - رضي الله عنه - (3) أنّه إنْ كان راوي المعنى عارفاً فلا ترجيح لأحدهما على الآخَر ، وإلا قدِّم مَن روى اللفظ (4) .
الوجه الرابع : ترجيح ما ذُكِر معه سبب الرواية .
إذا تعارض خبران وذُكِر مع أحدهما سبب وروده ولَمْ يُذْكَرْ مع الآخَر
(1) يُرَاجَع الكافي 1/133
(2) يُرَاجَع البحر المحيط 6/159 ، 160
(3) الشريف المرتضى : هو عليّ بن الحسين بن موسى بن محمد القرشي الحسيني البغدادي - رضي الله عنه - ، مِن ولد موسى الكاظم - رضي الله عنه - ، وُلِد سَنَة 355 هـ ، فقيه أصوليّ مفسِّر ، ومِن المتبحرين في علم الكلام والأدب والشعر ، وهو جامع " نهج البلاغة " المنسوب إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ..
مِن مصنّفاته : الشافي في الإمامة ، الذخيرة في الأصول ، التنزيه ، إبطال القياس ، الاختلاف في الفقه ، المسائل الناصرية .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 436 هـ .
سير أعلام النبلاء 11/131 ولسان الميزان 4/256 ومعجم المؤلفين 7/81(1/177)
(4) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/159 والمحصول 2/458 والفائق 4/413 والإحكام لِلآمدي 4/257 والمنهاج مع شرحه 2/801 والإبهاج 3/226 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /330 ، 331
كان الأول هو الراجح ؛ لأنّ الراوي بذكر السبب يدلّ على أنّ له اهتماماً بمعرفة ذلك الحُكْم ، بخِلاَف الآخَر (1) .
مثاله : ترجيح رواية السيدة ميمونة – رضي الله عنها – في النكاح وهو حلال على رواية ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو ما ذهب إليه الإمام الشافعي - رضي الله عنه - .
وشرط تقديم الخبر المذكور معه سبب روايته : ألاّ يكون خاصّاً .. هكذا ذكر الزركشي – رحمه الله تعالى – في قوله :" أمّا إذا انطبق أحدهما على سبب خاصّ والآخَر مطلق فيقدَّم المطلق - كما قال الكيا - بناءً على أنّ العبرة بالعموم ..
قال : وقد يتصور بصورة ولا يكون في حقيقته : كما رُوِي أنّ امرأةً كانت تستعير المتاع فتجحده فقطعها النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) ، فقال قوم مِن المحدّثين : لَمّا ذكر الاستعارة والجحود دل على أنّ المستعير إذا جحد يُقطَع ..
قيل : هذا ظاهره ، لكن يحتمل أنْ يقال : إنما نقل الجحود والاستعارة لأنّه سبب لِموافقة ما يوجب القطع " (3) ا.هـ .
الوجه الخامس : ترجيح ما لَمْ ينكره راوي الأصل .
إذا تعارض راوي خبريْن وكان راوي الأصل في أحدهما لَمْ ينكر لِرواية الفرع وأنكر راوي الأصل في الآخَر رواية الفرع رجِّح الخبر
(1) يُرَاجَع : شرح المنهاج مع المنهاج 2/801 والمحصول 2/458 والإبهاج 3/226 والفائق 4/413 والبحر المحيط 6/160 وإرشاد الفحول /278 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /330(1/178)
(2) أَخْرَجَه مسلم في كتاب الحدود : باب قَطْع السارق الشريف وغَيْره ... برقم ( 3197 ) وأبو داود في كتاب الحدود : باب في الحدّ يُشْفَع فيه برقم ( 3802 ) كلاهما عن السيدة عائشة رضي الله عنها والنسائي في كتاب قطع السارق : باب ما يكون حرزاً وما لا يكون برقم ( 4804 ) عن ابن عُمَر رضي الله عنهما .
(3) البحر المحيط 6/60
الأول ؛ لأنّه لا خِلاَف في قبوله ، أمّا الآخَر فقد اختلفوا في ذلك (1) .
الوجه السادس : ترجيح ما أنكره الأصل إنكار نسيان وتوقُّف .
إذا كان الأصل في أحد الخبريْن المتعارضيْن منكِراً لِرواية الفرع عنه إنكار نسيان وتوقُّف وكان الأصل في الخبر الثاني منكِراً لِرواية الفرع إنكار تكذيب وجحود كان الخبر الأول هو الراجح ؛ لأنّ غلبة الظن بالرواية عنه أكثر مِن غلبة الظن بالثاني (2) .
مثاله : ما روى سفيان بن عيينة (3) عن عمرو عن أبي معبد (4) – رحمهم الله تعالى – عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال :" كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالتَّكْبِير " (5) ..
قال عمرو بن دينار رحمه الله تعالى :" ثُمّ ذكرتُه لأبي معبد بَعْد فقال : لَمْ أُحَدِّثْه " (6) .
(1) يُرَاجَع : المنهاج مع شرحه 2/801 والإحكام لِلآمدي 4/258 والفائق 4/413 وجمع الجوامع مع شرح المحلي مع حاشية البناني 2/365 وتيسير التحرير 3/165 ومسلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/206
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/258 ، 259 وشرح الكوكب المنير 4/658
(3) سفيان بن عيينة : هو أبو محمد سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي رحمه الله تعالى ، العلاّمة الحافظ شيخ الإسلام ، محدِّث الحرم ، وُلِد سَنَة 107 هـ ، حجّ سبعين حجّةً ، وكان مدلِّساً لكنْ مِن الثقات ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمكة سَنَة 198 هـ .
تذكرة الحفّاظ 1/262 – 265 وسير أعلام النبلاء 8/454 – 475(1/179)
(4) أبو معبد : هو نافذ المكي رحمه الله تعالى ، مولى ابن عباس رضي الله عنهما ، روى عنه عمرو بن دينار ويحيى بن عبد الله وحَجّاج بن أرطأة رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة سَنَة 104 هـ .
تهذيب الكمال 23/151 وتهذيب التهذيب 10/361
(5) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الأذان : باب الذِّكْر بَعْد الصلاة برقم ( 797 ) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة : باب الذِّكْر بَعْد الصلاة برقم ( 917 ) وأحمد في مسند بني هاشم برقم ( 1832 ) .
(6) الإبهاج 3/226
هل يترتب على إنكار الأصل لِرواية الفرع منع العمل بالخبر ؟ :
اختلف العلماء في حُكْم الخبر الذي نقله الراوي العدل عن شيخه فروجع الشيخ فيه فأنكره ..
على أقوال :
القول الأول : قبوله وإيجاب العمل به .
وهو قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - .
القول الثاني : منع العمل به .
وهو ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة وبعض المحدّثين .
القول الثالث : الرجوع إلى قول الشيخ المرويّ عنه .
فإنْ كذَّب ما رُوي عنه وجزم بذلك سقطت تلك الرواية وامتنع العمل بها .
وإنْ ردَّد قول الراوي عنه أو :" لستُ أذكر هذه الرواية " لَمْ يكن ذلك ردّاً لِلرواية إذا كان الراوي عن الشيخ موثوقاً به ، وحينئذٍ يعمل بهذا الخبر .
وهذا ما ذهب إليه القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله تعالى ، ونزل عليه مطلق قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (1) .
وأرى : إذا كان الراوي عن الشيخ غَيْر موثوق به وردد الشيخ المرويّ عنه قوله أو قال :" لستُ أذكر هذه الرواية " أنْ نتوقف فيها حتى تقوى أو ترجَّح بمرجِّح آخَر .
الوجه السابع : الترجيح بقراءة الشيخ عليه .
إذا كان الخبران المتعارضان أحدهما روايته بقراءة الشيخ عليه والآخَر بقراءته على الشيخ أو غَيْره كان الخبر الأول هو الراجح ؛ لأنّ قراءة الشيخ على الحاضرين أَوْلَى مِن قراءتهم على الشيخ ؛ لإمكان ذهول الشيخ(1/180)
(1) يُرَاجَع : البرهان 1/650 ، 651 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /332
في الثاني (1) .
الوجه الثامن : ترجيح رواية مَن لَمْ تختلف طرق رواياته .
إذا تعارض خبران وكان أحدهما لَمْ تختلف طرق الرواية عن راويه والآخَر اختلفت الرواية عنه : فهل نرجِّح الأول أم لا ؟
لهم في ذلك أقوال :
القول الأول : ترجيح الخبر الأول .
وهو لِبعض الشافعية والمالكية والحنابلة ، واختاره الباجي والغزالي وابن الحاجب وابن عقيل وأبو منصور (2) وابن برهان (3) رحمهم الله تعالى .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الاختلاف في طرق رواية الخبر أمارة الاضطراب وعدم الضبط ، والخبر الذي لَمْ تختلف طرق رواياته ليس كذلك ، فكان أَوْلَى بالترجيح .
القول الثاني : أنّهما يتساويان فيما اتفقا فيه ، ويسقط ما اختلفا فيه .
وهو لِبعض الأصوليين .
(1) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/311 وبيان المختصر 3/382 والفائق 4/413 وإرشاد الفحول /278
(2) أبو منصور : هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي البغدادي الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ نحويّ مُفَسِّر ..
من مصنَّفاته : تفسير القرآن ، التحصيل ، المِلَل والنِّحَل .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 429 هـ .
طبقات المفسِّرين 1/327 وطبقات الشّافعيّة الكبرى 5/136
(3) ابن برهان : هو أبو الفتح أحمد بن عَلِيّ بن محمد الوكيل رحمه الله تعالى ، الفقيه الشافعي الأصولي المُحَدِّث ، وُلِد ببغداد سَنَة 444 هـ ..
مِن مؤلَّفاته : البسيط في أصول الفقه ، الوجيز في أصول الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 520 هـ .
الفتح المبين 2/16
القول الثالث : تتعارض الروايتان وتتساقطان ، ويعمل برواية لَمْ تختلف .
وهو لِبعضهم أيضاً .
وذكر الزركشي – رحمه الله تعالى – أنّ القول الثالث راجِع في الحقيقة إلى الأول (1) .(1/181)
مثاله : حديث وائل بن حُجْر - رضي الله عنه - (2) أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضع ركْبتيْه ثُمّ يديْه ثُمّ جبْهته وأنفه (3) ، وقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - حديثاً مِثْل ذلك (4) ، وكلاهما معارَض بما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مِن النهي عن البروك بركَ الإبل في الصلاة ، أيْ وضع الركْبتيْن قَبْل اليديْن (5) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى طلبت وضع الركْبتيْن أوّلاً عند السجود ، والرواية الثانية نهت عن ذلك ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ رواية وائل بن حجر - رضي الله عنه - لَمْ يختلف الرواة عنه ،
(1) يُرَاجَع : اللمع /47 والواضح 5/85 وإحكام الفصول /743 والمستصفى /377 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/311 وبيان المختصر 3/382 والبحر المحيط 6/160 ، 161 وشرح الكوكب المنير 4/652 ، 653 والمسودة /306 ، 307
(2) وائل بن حُجْر : هو الصحابي الجليل أبو هنيدة وائل بن حُجْر بن سعد الكندي الحضرمي - رضي الله عنه - ، أحد الأشراف ، كان سيدَ قومه ، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبشَّر به النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبْل موته وأقطعه أرضاً ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - في خلافة معاوية - رضي الله عنه - .
سير أعلام النبلاء 2/572 – 574 والإصابة 3/628 ، 629
(3) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الصلاة : باب ما جاء في وضع الركْبتيْن قَبْل اليديْن في السجود برقم ( 248 ) والنسائي في كتاب التطبيق : باب أول ما يصل إلى الأرض مِن الإنسان في سجوده برقم ( 1077 ) والدارمي في كتاب الصلاة : باب أول ما يقع مِن الإنسان على الأرض إذا أراد أنْ يسجد برقم ( 1286 ) .
(4) أَخْرَجَه البيهقي في السنن الكبرى 2/100 وأبو يعلى 11/414 والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/255(1/182)
(5) أَخْرَجَه النسائي في كتاب التطبيق : باب أول ما يصل إلى الأرض مِن الإنسان في سجوده برقم ( 1079 ) وأبو داود في كتاب الصلاة : باب كيْف يضع ركْبتيْه قَبْل يديْه ؟ برقم ( 714 ) وأحمد في باقي مسند المكثرين برقم ( 8589 ) .
وانفرد خبره مِن المعارضة ، فهو أَوْلَى بالترجيح مِن رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - الثانية .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في أيّ الأعضاء نزولاً على الأرض عند السجود على قوْليْن :
القول الأول : وضع الركْبتيْن ثُمّ اليديْن ثُمّ الوجه ( الجبهة ثُمّ الأنف ) .
وهو ما عليه جمهور الحنفية والشافعية والحنابلة .
واحتجّوا : برواية وائل بن حجر - رضي الله عنه - .
القول الثاني : وضع اليديْن ثُمّ الركْبتيْن .
وهو ما عليه المالكية .
واحتجّوا : برواية أبي هريرة - رضي الله عنه - (1) .
وقد جمع الطحاوي – رحمه الله تعالى – بَيْن الروايتيْن ؛ لأنّ البعير ركبتاه في يديْه ، بخِلاَف بني آدم ؛ فرُكْبتهم في أرجلهم ، فالنهي عن أنْ يخرّ على ركْبتيْه اللتيْن في يديْه ، ولكنْ يخرّ لِسجوده على ذلك ، فيخرّ على يديْه اللتيْن ليس فيهما ركبتاه ، بخِلاَف ما يخرّ البعير على يديْه اللتيْن فيهما ركبتاه (2) .
وهو تأويل وجيه ، وأراه مقبولاً ومتفِقاً مع ما عليه الجمهور ، وهو ما أميل إليه وأرجِّحه .
ومثاله أيضاً : ما رُوِي عن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه نهى عن الصلاة بَعْد العصر حتى تغرب الشمس (3) ؛ فإنّه معارَض بما رُوِي عن
(1) يُرَاجَع : نور الإيضاح /48 ومختصر خليل 1/30 والقوانين الفقهية /46 والمهذب 1/75 ، 76 والكافي 1/137
(2) يُرَاجَع مشكل الآثار 1/65 ، 66
(3) أَخْرَجَه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقَصْرها : باب الأوقات التي نُهِي عن الصلاة فيها برقم =(1/183)
السيدة عائشة – رضي الله عنها- أنّها قالت :" مَا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَطُّ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلاَّ صَلَّى رَكْعَتَيْن " (1) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى نهت عن الصلاة بَعْد العصر ، والرواية الثانية تُثبت أداءها بَعْد العصر ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الرواية الأولى إسنادها سالِم مِن الاضطراب ، والرواية الثانية سندها شديد الاضطراب ؛ لأنّ هذا الخبر يُرْوَى عن السيدة عائشة رضي الله عنها ، ويُرْوَى عن السيدة عائشة والسيدة أم سلمة – رضي الله عنهما – غَيْر هذا ، ورُوِي عنها – رضي الله عنها – أنّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بَعْد العصر ، وهذا يدلّ على اضطراب الحديث وقلة حفظ ناقليه ، ولِذَا كان الخبر الأول هو الأَوْلَى بالترجيح (2) .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في حُكْم الصلاة بَعْد العصر على أقوال :
القول الأول : عدم جواز الصلاة مطلقاً إلا عَصْر يومه ؛ فإنّه يجوز أنْ يقضيه عند غروب الشمس إذا نسيه .
وهو قول الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - .
القول الثاني : جواز قضاء الصلوات المفروضة والنوافل التي لها سبب .
وهو قول الإمام الشافعي والإمام مالك رضي الله عنهما .
القول الثالث : جواز قضاء الفرائض والجنازة وركْعتَي الطواف وإعادة الجماعة ، وروايتان في النوافل التي لها سبب .
= ( 1367 ) والترمذي في كتاب الصلاة : باب ما جاء في كراهية الصلاة بَعْد العصر وبَعْد الفجر برقم ( 168 ) والنسائي في كتاب المواقيت : باب النهي عن الصلاة بَعْد الصبح برقم ( 559 ) .
(1) أَخْرَجَه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة : باب ما يصلَّى بَعْد العصر مِن الفوائت ونَحْوها برقم ( 558 ) والبيهقي في السنن الكبرى 2/458 وأبو عوانة في مسنده 2/263
(2) يُرَاجَع إحكام الفصول /743
وهو ما عليه الحنابلة (1) .(1/184)
والراجح عندي : ما عليه أصحاب القول الثاني ؛ جمعاً بَيْن النصوص .
الوجه التاسع : الترجيح برواية " حدَّثَنَا " .
إذا كان أحد الخبريْن المتعارضيْن برواية " حدَّثَنَا " والآخَر برواية " أخبَرَنَا " : فهل يرجَّح الأول أم لا ؟
لهم في ذلك قولان :
القول الأول : ترجيح الأول .
وحُجّتهم : أنّ " أخبَرَنَا " يحتمل أنّه قُرِئ عليه فغفل أو سها .
القول الثاني : أنّهما متساويان .
وحُجّتهم : أنّه كما يحتمل سهو الشيخ في " أخبرَنَا " يحتمل سهو الراوي في " حدَّثَنَا " .
هذان القولان أوردهما الزركشي رحمه الله تعالى ، ونسب الأول لِلسهيلي (2) رحمه الله تعالى ، وذكر القول الثاني بصيغة " وقيل " (3) .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب القول الأول ؛ لِوجاهة حُجّتهم ، ولِعدم تسليم تَساوي السهو عند الشيخ وعند الراوي ، مع التسليم باحتماله .
الوجه العاشر : الترجيح بالمناولة (4) .
(1) يُرَاجَع : بداية المجتهد 2/103 ، 104 والاختيار 1/41 والمنهاج مع مغني المحتاج 1/128 ، 129 والمقنع 1/186 – 188
(2) السهيلي : هو أبو القاسم وأبو زيْد وأبو الحسن عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ الخثعمي الأندلسي رحمه الله تعالى ، فقيه محدّث مفسِّر أصوليّ مؤرِّخ ، وُلِد سَنَة بضع وخمسمائة ..
مِن مصنّفاته : الروض الأُنُف ، كتاب الفرائض .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمراكش سَنَة 581 هـ .
تذكرة الحفّاظ 4/1348 – 1350 وشذرات الذهب 4/271 ، 272
(3) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/162 وإرشاد الفحول /278
(4) المناولة : إعطاء الشيخ أو المحدِّث تلميذَه شيئاً مِن مروياته لِيرويه عنه ..
يُرَاجَع : أصول الحديث /247 ولمحات في أصول الحديث /349(1/185)
إذا تعارض خبران وكانت رواية أحدهما بالمناولة والآخَر روايته بالإجازة (1) كانت الرواية التي بالمناولة هي الأَوْلَى بالترجيح ؛ لأنّ الإجازة غَيْر كافية ، والمناولة أنْ يقول :" خذ هذا الكتاب وحَدِّثْ به عني ؛ فقد سمعتُه مِن فلان " ، وعند ذلك فتكون إجازةً وزيادة ..
والإجازة تكون راجحةً على رؤية الخط في الكتاب ؛ لأنّ الخطوط مما تشتبه ، ولا احتمال في نسبة لفظه إليه بالإجازة .
والإجازة تكون أَوْلَى لو قال الشيخ :" هذا خطّي " ؛ لِظهور دلالة لفظ الشيخ على الرواية عمن روى عنه بقراءة خطه .
وإذا كانت الإجازة أَوْلَى مِن الرواية عن الخط والمناولةُ أَوْلَى مِن الإجازة كانت المناولة أَوْلَى مِن الرواية عن الخط (2) .
الوجه الحادي عشر : ترجيح ما يرويه عن حفظه وكتابه .
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن يرويه عن حفظه وكتابه وراوي الخبر الثاني يرويه عن أحدهما كان الراجح الخبر الأول ؛ لِبُعْده عن الزلل .
ورجَّح بعضهم ما رواه وسمعه وهو ذاكر له على مَن يرويه مِن كتاب فإنْ ذكَر أنّ جميع ما في كتابه سماعه فلا ترجيح (3) .
(1) الإجازة : إذْن الشيخ لِلطالب برواية بعض مروياته .. يُرَاجَع المرْجعيْن السابقيْن .
(2) الإحكام لِلآمدي 4/256 ، 257 بتصرف .
(3) يُرَاجَع البحر المحيط 6/162
المطلب الثالث
الترجيح العائد إلى المرويّ
لقد تعددت وجوه الترجيح العائدة إلى المرويّ عند الأصوليين ..
وقد حصرتُ ما وقفتُ عليه منها فيما يلي :
الوجه الأول : الترجيح بالسماع .
الترجيح بالسماع له صور ، حصرتُها فيما يلي :
الصورة الأولى : الترجيح بالسماع على احتماله .
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن سمعه مِن النبي - صلى الله عليه وسلم - وراوي الخبر الثاني يحتمل أنْ يكون سمعه منه - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل عدم سماعه كان الخبر الأول هو الراجح (1) .
الصورة الثانية : الترجيح بالسماع على السكوت .(1/186)
إذا كانت إحدى الروايتيْن المتعارضتيْن عن سماع مِن النبي - صلى الله عليه وسلم - والأخرى عمّا جرى في مجلسه أو زمانه - صلى الله عليه وسلم - وسكت عنها كانت الأولى هي الراجحة ؛ لأنّها أبعد عن الغفلة والذهول (2) .
الصورة الثالثة : الترجيح بالسماع على الكتاب .
إذا كانت رواية أحد الخبريْن المتعارضيْن عن سماع مِن النبي - صلى الله عليه وسلم - والرواية الأخرى مِن كتاب رجَّحْنا الرواية الأولى ؛ لأنّها أبعد عن الغلط
(1) يُرَاجَع : الواضح 5/83 وبيان المختصر 3/382 وشرح العضد مع مختصر المنتهى 2/311 والفائق 4/414 وشرح مختصر الروضة 3/729 والبحر المحيط 6/162 والتحرير مع التيسير 3/65 وشرح الكوكب المنير 4/653 ومختصر التحرير /258 ومسلّم الثبوت 2/208
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/257 ، 258 والمحصول 2/457 ، 458
والتصحيف (1) .
الصورة الرابعة : الترجيح بالسماع مِن غَيْر حجاب .
إذا كان أحد الخبريْن المتعارضيْن سمعه الراوي مِن النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاهاً مِن غَيْر حجاب والخبر الثاني سمعه راويه مِن وراء حجاب كان الخبر الأول هو الراجح ؛ لِزيادة التيقن بالسماع .
مثاله : رواية القاسم بن محمد (2) – رحمه الله تعالى – عن السيدة عائشة – رضي الله عنها – أنّ بريرة عُتقت وكان زوجها عبداً (3) ؛ فإنّها معارَضة برواية الأسود – رحمه الله تعالى – عن السيدة عائشة – رضي الله عنها – أنّها عُتقت وكان زوجها حُرّاً (4) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى تُثبت أنّ زوج بَرِيرة – رضي الله عنهما – عندما عُتقت كان عبداً ، والرواية الأخرى تُثبت أنّه كان حُرّاً ، فالخبران متعارضان .(1/187)
وَجْه الترجيح : أنّ القاسم بن محمد – رحمه الله تعالى – راوي الخبر الأول ابن أخي السيدة عائشة رضي الله عنها ، فكان يدخل على عمّته وسمع منها شفاهاً مِن غَيْر حجاب ، فتُقدَّم روايته على رواية الأسود رحمه الله تعالى ؛ لِسماعه مع الحجاب ، ولأنّ الرواية الأولى تحقَّق فيها زيادة
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/257 والواضح 5/84 ومختصر التحرير /258 وشرح الكوكب المنير 4/653
(2) القاسم بن محمد : هو أبو عبد الرحمن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّدّيق القرشي التيمي المدني رحمه الله تعالى ، سمع مِن عمّته السيدة عائشة وبعض الصحابة - رضي الله عنهم - ، وكان أعلم أهل زمانه بالسُّنَّة فقيهاً ثقةً ورعاً كثير الحديث ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 106 هـ .
تذكرة الحُفّاظ 1/96 ، 97 وشذرات الذهب 1/135
(3) أَخْرَجَه مسلم في كتاب العتق : باب الولاء لِمَن أعتق برقم ( 2765 ) والنسائي في كتاب الطلاق : باب خيار المرأة تُعتق وزوْجها مملوك برقم ( 3400 ) والإمام أحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 23695 ) .
(4) سبق تخريجه .
تيقُّن عين المسموع منه (1) .
الصورة الخامسة : الترجيح بالسماع بَعْد إسلامه .
إذا تعارض خبران وكان إسلام الراوييْن معاً – كإسلام خالد وعمرو (2) رضي الله عنهما – وعُلِم أنّ أحدهما سمع الخبر بَعْد إسلامه ولَمْ يُعلَم ذلك في الراوي الآخَر كان الخبر الذي عُلِم سماعه بَعْد إسلامه هو الراجح ؛ لِعدم تيقُّن سماع الراوي الآخَر (3) .
الوجه الثاني : الترجيح بالحضور .
إذا كان أحد الخبريْن المتعارضيْن جرى في حضرته - صلى الله عليه وسلم - ولَمْ ينكره والآخَر جرى في غيبته - صلى الله عليه وسلم - وعَلِم به ولَمْ ينكره كان الخبر الأول هو الراجح (4) .
الوجه الثالث : الترجيح بورود صيغة فيه .(1/188)
إذا كان أحد الخبريْن المتعارضيْن ورد فيه صيغة لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخَر ورد بفعله - صلى الله عليه وسلم - كان الأول هو الراجح ؛ لِقوة دلالة الصيغة وضَعْف الفعل (5) .
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/257 والبحر المحيط 6/161 ، 162 وشرح الكوكب المنير 4/639 640 ومختصر التحرير /257 وإرشاد الفحول /278
(2) عمرو بن العاص : هو الصحابي الجليل أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل بن هشام السهمي - رضي الله عنه - ، أَسْلَم بالحبشة وهاجَر إلى المدينة سَنَة 8 هـ ، وهو قائد جَيْش المسلِمين في فَتْح مِصْر في خلافة عُمَر بن الخطّاب - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بمِصْر سَنَة 42 هـ ، ودُفِن بسفح المقطم .
الطبقات الكبرى 7/493 والإصابة 4/650 - 653
(3) يُرَاجَع : المحصول 2/460 والبحر المحيط 6/158 ومسلّم الثبوت 2/208 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /337
(4) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/311 وبيان المختصر 3/382 وشرح الكوكب المنير 4/655 وتيسير التحرير 3/160 ومسلّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/205
(5) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/258 وبيان المختصر 3/382 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/311 وجمع الجوامع مع شرح المحلي 2/365 وشرح مختصر الروضة 3/729
الوجه الرابع : الترجيح بما خطره أعظم .
إذا كانت إحدى الروايتيْن المتعارضتيْن عمّا خطره مع السكوت عنه أعظم مِن خطر المسكوت عنه في الرواية الأخرى كانت الرواية الأولى هي الأرجح ؛ لِكون السكوت عنه أغلب على الظن في تقريره (1) .
الوجه الخامس : الترجيح بما لا تعمّ به البلوى .
إذا تعارض خبران أحدهما لا تعمّ به البلوى والآخَر تعمّ به البلوى رجَّحْنا الخبر الأول ؛ لأنّه أبعد مِن الكذب مما تعمّ به البلوى ؛ لأنّ تفرُّد الواحد بنقل ما تتوافر الدواعي على نقله يوهِم الكذب (2) .(1/189)
وفسّر أبو حامد الاسفراييني (3) – رحمه الله تعالى – ما تعمّ به البلوى بأنّه : كُلّ ما يُحتاج إلى معرفته (4) .
وقال الطوفي رحمه الله تعالى : ما يكثر التكليف به (5) .
وقال البخاري رحمه الله تعالى : ما تمسّ الحاجة إليه في عموم الأحوال (6) .
مثال ما تعمّ به البلوى : ما رُوِي عن ابن عمر رضي الله عنهما
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/258 وشرح الكوكب المنير 4/655
(2) يُرَاجَع : بيان المختصر 3/382 وشرح تنقيح الفصول /425 وشرح العضد 2/311 والتلويح 2/19 ومختصر التحرير /258 وشرح الكوكب المنير 4/657 وشرح مختصر الروضة 3/729 ومسلّم الثبوت 2/206
(3) أبو حامد الاسفراييني : هو أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الاسفراييني رحمه الله تعالى ، وُلِد باسفرايين سَنَة 344 هـ ، فقيه شافعيّ أصوليّ ..
مِن مصنَّفاته : شرْح مختصر المزني ، تعليقة في أصول الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 406 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 11/43 ، 44 والفتح المبين 1/236 ، 237
(4) البحر المحيط 4/347
(5) شرح مختصر الروضة 2/233
(6) كشف الأسرار 3/35
" كُنَّا نُخَابِرُ (1) أَرْبَعِينَ عَاماً لاَ نَرَى بِهِ بَأْساً ، حَتَّى أَتَانَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ (2) فَأَخْبَرَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ ، فَانْتَهَيْنَا " (3) (4) .
ومثاله أيضاً : الجهر بالبسملة ، ورفع اليديْن عند الهَوْي إلى الركوع والرفع منه .
ومما تقدَّم يكون الحديث الذي تعمّ به البلوى – كما ذهب الكيا الهراسي رحمه الله تعالى – الخبر الذي اشتهر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الكرّات – كالجهر بالبسملة – وكان الناقل منفرداً (5) .
وجمهور الأصوليين على قبول خبر الواحد فيما تعمّ به البلوى ، والحنفية يردّونه ولا يَقبلونه (6) .
(1) المخابرة : هي مزارعة الأرض على الثلث أو الربع .. التعريفات /264(1/190)
(2) رافع بن خديج : هو الصحابي الجليل أبو عبد الله رافع بن خَدِيج بن رافع الأنصاري الأوسي - رضي الله عنه - استصغره النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يوْم بدْر فرَدّه ، وأجازه يوْم أُحُد ، وشَهِد الخندق وغيْرها ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 74 هـ .
الإصابة 1/495 ، 496 والاستيعاب 1/495 وشذرات الذهب 1/82
(3) أَخْرَجه النسائي في كتاب الأيمان والنذور : باب ذِكْر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض برقم ( 3856 ) وابن ماجة في كتاب الأحكام : باب المُزَارَعة بالثلث والربع برقم ( 2441 ) وأحمد في مُسْنَد بني هاشم برقم ( 1983 ) .
(4) يُرَاجَع : روضة الناظر /124 والتمهيد لِلكلوذاني 3/86
(5) يُرَاجَع البحر المحيط 4/347 ، 348
(6) يُرَاجَع : البرهان 1/665 والتحصيل 2/143 والعدة 3/885 والتمهيد لِلكلوذاني 3/86 والمسودة /238 وشرح مختصر الروضة 2/233 وأصول السرخسي 1/368 والتوضيح مع التنقيح وه92/19 والواضح 4/389 وتيسير التحرير 3/112 وكشف الأسرار لِلبخاري 3/35
المطلب الرابع
الترجيح العائد إلى وقْت الرواية
لقد تعددت وجوه الترجيح العائد إلى وقْت الرواية عند الأصوليين ..
وقد حصرتُ ما وقفتُ عليه منها فيما يلي :
الوجه الأول : ترجيح الرواية في زمن البلوغ .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما لا يروي إلا في زمن البلوغ وراوي الخبر الثاني لا يروي إلا في زمن الصبا أو يروي بعضها في زمن الصبا والبعض الآخَر في زمن البلوغ كان الخبر الأول هو الراجح ؛ لأنّ خبر الأخير يحتمل أنْ يكون مما رواه في زمن الصبا وسامع الحديث لا يعلم ذلك ، ولِذَا قدِّم الأول ؛ لأنّ رواية البالغ لا خِلاَف فيها ، أمّا رواية الصبي فمحلّ خِلاَف (1) .
الوجه الثاني : ترجيح رواية مَن تحمَّلها (2) في زمن البلوغ .(1/191)
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن متحملاً لها في زمن البلوغ وراوي الخبر الثاني متحملاً لها في زمن الصبا كان الخبر الأول هو الراجح ؛ لِكثرة ضبط البالغ عن الصبي وزيادة احتياطه (3) .
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/457 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/364 وشرح الكوكب المنير 4/647 وكشف الأسرار لِلبخاري 3/48 وتيسير التحرير 3/164 والبحر المحيط 6/157 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/423
(2) التحمل : أخْذ الحديث عن الشيخ ..
والأداء : تحديث الشيخ بما تحمَّله ..
لمحات في أصول الحديث /340 ، 343
(3) يُرَاجَع : اللمع /46 والمحصول 2/457 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/310 ، 311 وبيان المختصر 3/380 والمنهاج مع شرحه 2/800 ، 801 والإحكام لِلآمدي 4/254 ومسلّم الثبوت 2/208 ومختصر التحرير /258 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/423
مثاله : ما رواه ابن عمر – رضي الله عنهما – أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَهَلّ بالحجّ أي مُفْرِداً ( أفرد بالحجّ حين أَحْرَم ) (1) ؛ فإنّه معارَض بما رواه أنس - رضي الله عنه - أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً ( يهلّ بالحجّ والعمرة جميعاً ) (2) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى تُثبت إهلاله - صلى الله عليه وسلم - بالحجّ مُفْرِداً ، والرواية الثانية تُثبت إهلاله - صلى الله عليه وسلم - بالحجّ والعمرة قارناً ، فَهُمَا متعارضان .
وَجْه الترجيح : رجَّح المالكية والشافعية رواية ابن عمر – رضي الله عنهما – المثبِتة لِلإفراد ؛ لأنّ تحمُّل أنس - رضي الله عنه - لِروايته كان في زمن الصبا ..
وفي ذلك يقول ابن عمر رضي الله عنهما :" إِنَّ أَنَساً كَانَ صَغِيراً يَتَوَلَّجُ عَلَى النِّسَاءِ وَهُنَّ مُتَكَشِّفَاتٌ ، وَأَنَا آخُذُ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسِيلُ عَلَيَّ لُعَابُهَا " (3) .(1/192)
والراجح عندي : قبول ترجيح الشافعية لِرواية ابن عمر – رضي الله عنهما – إذا لَمْ يقابلها أو يعارضها إلا رواية أنس - رضي الله عنه - ، أمّا إذا كان هناك روايات أخرى لِبعض الصحابة - رضي الله عنهم - تحمّلوها زمن البلوغ فإنّها تكون حينئذٍ أَوْلَى بالترجيح والتقديم .
وقد ذكر ابن القيم – رحمه الله تعالى – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَحْرَم قارناً ؛ لِبضعة وعشرين حديثاً صريحة صحيحة في ذلك (4) .
الوجه الثالث : الترجيح برواية متأخر الإسلام أو متقدمه .
اختلف الأصوليون عند تعارُض الخبريْن وكان راوي أحدهما متأخر الإسلام وراوي الآخَر متقدمه : أيهما يرجَّح ويقدَّم ؟
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
(3) يُرَاجَع : اللمع /46 والإبهاج 3/225 والبحر المحيط 6/157 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /326 - 328
(4) يُرَاجَع مختصر زاد المعاد /61
لهم في ذلك مذاهب ، حصرتُها فيما يلي :
المذهب الأول : ترجيح رواية متأخر الإسلام .
وهو ما عليه كثير مِن المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية ، واختاره الشيرازي وابن برهان وأبو يعلى وابن عقيل وابن السمعاني وابن الحاجب والبيضاوي والقرافي والزركشي وابن السبكي وابن عبد الشكور رحمهم الله تعالى (1) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : ما رُوِي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنّه قال :" كُنَّا نَأْخُذُ بِالأَحْدَثِ فَالأَحْدَثِ مِنْ أَوَامِرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " (2) .
الدليل الثاني : أنّ سماع المتأخر متحقق تأخره ، وسماع المتقدم يحتمل التقدم والتأخر ، وتقديم المتحقق أَوْلَى مِن تقديم المحتمل ، ولِذَا كان المتأخر سماعه أَوْلَى مِن المتقدم (3) .
الدليل الثالث : أنّ رواية متأخر الإسلام فيها يتحقق حفظ آخِر الأمْريْن مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس كذلك رواية المتقدم (4) .(1/193)
المذهب الثاني : ترجيح رواية متقدم الإسلام .
وهو اختيار الآمدي رحمه الله تعالى .
واحتجّ لِذلك : بأنّ المتقدم روايته أغلب على الظن ؛ لِزيادة أصالته في الإسلام وتحرُّزه فيه (5) .
(1) يُرَاجَع : إرشاد الفحول /277 واللمع /47 والعدة 3/1033 والواضح 5/86 وقواطع الأدلة 3/33 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/360 وبيان المختصر 3/374 – 380 والمنهاج مع شرحه 2/795 – 799 وشرح تنقيح الفصول /423 ، 424 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/364 ومسلّم الثبوت 2/208
(2) أَخْرَجه الدرامي 2/16 ومالك /294 وابن حبّان 8/329 والبيهقي 4/240
(3) يُرَاجَع : قواطع الأدلة 3/34 واللمع /47 وشرح تنقيح الفصول /424 والبحر المحيط 6/158
(4) يُرَاجَع شرح الكوكب المنير 4/644 ، 645
(5) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/253 وحاشية البناني 2/364
المذهب الثالث : ترجيح رواية متقدم الإسلام بشروط .
وهو اختيار الفخر الرازي والصفي الهندي والأستاذ أبي إسحاق رحمهم الله تعالى .
ووجْهتهم : أنّ المتقدم إذا كان موجوداً مع المتأخر لَمْ يمتنع أنْ تكون روايته متأخرةً عن رواية المتأخر ، وحينئذٍ لا ترجيح لِواحدة منهما ؛ لاحتمال أنْ تكون رواية المتقدم في الإسلام متأخرةً عن رواية المتأخر واحتمال أنْ تكون متقدمةً عليها ، ولا مرجِّح لأحدهما على الآخَر ..
وإنْ كان متقدم الإسلام قد علمنا موته قَبْل إسلام المتأخر أو علمنا أنّ أكثر روايات المتقدم متقدمة على رواية المتأخر كان رواية المتقدم حينئذٍ أَوْلَى بالترجيح ؛ لأنّ النادر يلحق بالكثير الغالب (1) .
وعليه .. فلا بُدّ مِن شرْطيْن لِتقديم رواية متقدم الإسلام :
الشرط الأول : العلم بموت متقدم الإسلام قَبْل متأخره .
الشرط الثاني : العلم بأنّ أكثر روايات متقدم الإسلام متقدمة على روايات متأخره .
المذهب الرابع : ترجيح رواية متأخر الإسلام إنْ جُهِل التاريخ ؛ لأنّه ناسخ .(1/194)
وهو قول الأستاذ أبي منصور رحمه الله تعالى .
ووجْهته : أنّ الجهل بتاريخ الراوييْن في الخبريْن يجعل رواية متأخر الإسلام ناسخاً لِرواية المتقدم ، كما نُسِخَت رواية طلق برواية أبي هريرة رضي الله عنهما ..
وإنْ عُلِم التاريخ في أحدهما وجُهِل في الآخَر نُظِر : فإنْ كان المؤرَّخ منهما في آخِر أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الناسخ لِمَا لا يُعلَم تاريخه .
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/460 والفائق 4/419 والبحر المحيط 6/158 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/423
وإنْ لَمْ يُعلَم التاريخ فيهما ولا في أحدهما واحتيج إلى نسْخ أحدهما بالآخَر :
فقيل : الناقل منهم عن العادة أَوْلَى مِن الموافق لها .
وقيل : المُحَرِّم أَوْلَى مِن المبيح ، وكذا الموجِب أَوْلَى .
فإنْ كان أحدهما موجِباً والآخَر محرِّماً لَمْ يقدَّم أحدهما على الآخَر إلا بدليل (1) .
المذهب الخامس : أنّهما سواء في الترجيح .
واختاره المجد والطوفي – رحمهما الله تعالى – مِن الحنابلة .
ووجْهتهم : أنّ كُلّ واحد مِن الراوييْن – المتقدم الإسلام والمتأخر – اختصّ بصفة وفضيلة ..
أمّا المتقدم : فإنّه اختصّ بأصالته في الإسلام .
والمتأخر : اختصّ بأنّه لا يروي إلا آخِر الأمْريْن مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ولِذَا كانا متساوييْن ، فلا نرجِّح رواية واحد منهما إلا بقرينة أو دليل آخَر يعضّدها ويقوّيها (2) .
والأَوْلَى عندي في هذا المقام : أنْ نَفصل بَيْن العلم بزمن الروايتيْن وبَيْن الجهل بزمنهما أو العلم بزمن واحدة منهما والجهل بزمن الأخرى ..
فإنْ علمنا زمن الروايتيْن كانت المتأخرة هي الراجحة ، سواء كان الراوي متقدم الإسلام أو متأخره .
ودليلنا في ذلك : قول ابن عباس رضي الله عنهما :" كُنَّا نَأْخُذُ بِالأَحْدَثِ فَالأَحْدَثِ مِنْ أَوَامِرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " (3) .(1/195)
وإذا لَمْ يمكن الجمع بَيْن الروايتيْن المتقدمتيْن – أي المعلوم زمن
(1) البحر المحيط 6/157 بتصرف .
(2) يُرَاجَع : المسودة /311 والبلبل /188 وشرح الكوكب المنير 4/644 والمدخل /398
(3) سبق تخريجه .
روايتهما – كانت الرواية المتأخرة ناسخةً لِلمتقدمة .
وإنْ جهلنا زمن الروايتيْن أو زمن واحدة منهما فلا نقدِّم رواية واحد منهما على الأخرى ؛ لأنّ كُلّ راوٍ منهما نال فضيلةً تجعله متساوياً مع الآخَر : فمتقدم الإسلام بالأسبقية ، ومتأخره بوقوفه على آخِر الأمْريْن مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ولِذَا أرى عند التساوي في هذه الحالة أنْ تتوقف على ترجيح رواية واحد منهما ، إلا إنْ تقوَّت بمرجِّح آخَر كانت هي المقدَّمة حينئذٍ .
مثاله : ما روته السيدة عائشة – رضي الله عنها – قالت :" كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْت " (1) ..
وفي رواية :" كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ (2) الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرِم " (3) ..
فإنّه معارَض بما رواه يعلى بن أمية - رضي الله عنه - (4) أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل متضمخ بطِيب فقال :" يَا رَسُولَ اللَّهِ .. كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِطِيب ؟ " فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه الوحي ثُمّ سُرِّي عنه فقال
(1) أَخْرَجَه مسلم في كتاب الحجّ : باب الطِّيب لِلمُحْرِم عند الإحرام برقم ( 2042 ) والنسائي في كتاب مناسك الحجّ : باب إباحة الطِّيب عند الإحرام برقم ( 2637 ) وأبو داود في كتاب المناسك : باب الطِّيب عند الإحرام برقم ( 1483 ) .
(2) الوبيص : البريق واللمعان .. يُرَاجَع لسان العرب 7/104(1/196)
(3) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الغسل : باب مَن تطيَّب ثُمّ اغتسل وبقي أثر الطِّيب برقم ( 263 ) ومسلم في كتاب الحجّ : باب الطِّيب لِلمُحْرِم عند الإحرام برقم ( 2048 ) والنسائي في كتاب مناسك الحجّ : باب إباحة الطِّيب عند الإحرام برقم ( 2645 ) .
(4) يَعْلَى بن أميّة : هو الصحابي الجليل أبو خَلَف يَعْلَى بن أميّة بن هَمّام التميمي المكّي - رضي الله عنه - ، أَسْلَم يَوْم الفتح ، شَهِد الطائف وتبوك ، كان عاملاً لِعُمَر - رضي الله عنه - على نجران ، وعلى اليَمَن لِعُثْمَان - رضي الله عنه - ، كان معروفاً بالسخاء والكرم .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 47 هـ .
سِيَر أعلام النُّبَلاَء 3/100 - 101 وتهذيب الكمال 22/378 - 380
{ أَيْنَ الَّذِي سَأَلَنِي عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفا } فالتمس الرجلَ فجيء به ، فقال { أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي الْعُمْرَةِ كُلَّ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّك } (1) ..
وَجْه التعارض : أنّ الرواية الأولى تُثبت تطيُّب النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبْل إحرامه والرواية الثانية تفيد حرمة ذلك ، فالحُكْم فيهما متعارض .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول روته السيدة عائشة رضي الله عنها ، والخبر الثاني رواه يعلى بن أمية - رضي الله عنه - ، ولا شكّ أنّ السيدة عائشة – رضي الله عنها – متقدمة الإسلام ، ولكن الجمهور لَمْ يرجِّحوا روايتها لِذلك ، وإنما لأنّه ثبت أنّ روايتها كانت في حُجَّة الوداع سَنَة عشر ، ورواية يعلى - رضي الله عنه - كانت بالجعرانة سَنَة ثمان ، وحيث تَيَقَّنَّا المتأخر مِن المتقدم كان المتأخر ناسخاً ، وهو ما عليه الجمهور .
الأثر الفقهي :
اتفق الجمهور على أنّ التطيب في البدن والثياب قَبْل الإحرام سُنَّة حتى وإنْ بقي أثره بَعْد الإحرام استناداً إلى ترجيح رواية السيدة عائشة رضي الله عنها .(1/197)
وذهب الإمام مالك - رضي الله عنه - إلى المنع مِن ذلك ، وهو مذهب ابن عمر رضي الله عنهما ؛ ترجيحاً لِرواية يعلى - رضي الله عنه - (2) .
والأَوْلَى عندي : ما عليه الجمهور ؛ لِقوة حُجّتهم ووجْهتهم .
ومثاله أيضاً : ما رواه ابن عباس – رضي الله عنهما – قال :" كَانَ
(1) أَخْرَجَه البخاري في كتاب المغازي : باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان برقم ( 3984 ) ومسلم في كتاب الحجّ : باب ما يباح لِلمُحْرِم بحجّ أو عمرة برقم ( 2019 ) وأحمد في مسند الشاميين برقم ( 17269 ) .
(2) يُرَاجَع : المغني لابن قدامة 3/120 والمبسوط 4/3 والهداية 1/137 وبداية المجتهد 1/329 وأثر الاختلاف في القواعد الأصولية /103 ، 104
النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ ، وَكَانَ يَقُول { التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ .. السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .. السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ .. أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه } " (1) ..
فإنّه معارَض بما رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { وَلَكِنْ إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ .. السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .. السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين } (2) ..(1/198)
وَجْه التعارض : أنّ رواية ابن عباس – رضي الله عنهما – بدأت بتعدد صفات التحيات { الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَات } ، ورواية ابن مسعود - رضي الله عنه - قدَّمَت لفظ الجلالة على هذه الصفات { التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَات } ، فالروايتان مختلفة ألفاظهما ، ولِذَا فَهُمَا متعارضتان (3) ..
وَجْه الترجيح : رجَّح الإمام الشافعي - رضي الله عنه - رواية ابن عباس – رضي الله عنهما – على رواية ابن مسعود - رضي الله عنه - ؛ لأنّها أكملها ، ولأنّها أجمع وأكثر لفظاً مِن غَيْرها .
وذكر البيهقي (4) – رحمه الله تعالى – سبب ترجيح رواية ابن عباس
(1) أَخْرَجَه مسلم في كتاب الصلاة : باب التشهد في الصلاة برقم ( 610 ) والترمذي في كتاب الصلاة : باب منه أيضاً برقم ( 267 ) والنسائي في كتاب التطبيق : باب نوع آخَر مِن التشهد برقم ( 1161 ) .
(2) أَخْرَجَه النسائي في كتاب السهو : باب تخيير الدعاء بَعْد الصلاة على النبي برقم ( 1281 ) وأبو داود في كتاب الصلاة : باب التشهد برقم ( 825 ) وأحمد في مسند المكثرين مِن الصحابة برقم ( 3892 ) .
(3) يُرَاجَع قواطع الأدلة 3/34 ، 35
(4) البيهقي : هو أبو بَكْر أحمد بن الحسين بن عَلِيّ الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بخسرو جرد مِن قُرَى بيهق بنيسابور .. =
رضي الله عنهما : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّمه وأقرانه مِن أحداث الصحابة - رضي الله عنهم - ، فيكون متأخراً عن تشهُّد ابن مسعود - رضي الله عنه - وأضرابه .
وأرى أنّ تعليل البيهقي – رحمه الله تعالى – ترجيح رواية ابن عباس – رضي الله عنهما – بكونه متأخراً فيه نظر ، حتى وإنْ سلَّمْنَا ذلك فلا يكون تأخُّر الإسلام سبباً لِلترجيح كما رجَّحْنا ، فالروايتان متساويتان .
الأثر الفقهي :
قدَّم الشافعية رواية ابن عباس رضي الله عنهما .
وقدَّم الحنفية والحنابلة رواية ابن مسعود - رضي الله عنه - (1) .(1/199)
وقدَّم المالكية رواية ابن عمر رضي الله عنهما ، وهي { بِسْمِ اللَّهِ .. التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الصَّلَوَاتُ الزَّكِيَّاتُ لِلَّهِ .. السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .. السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين } (2) ..
ونَحْوها رواية عمر - رضي الله عنه - ، وهي { التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ .. السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .. السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ .. أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه } (3) .
الوجه الرابع : الترجيح بالذكورة .
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما ذكراً وراوي الخبر الثاني
= مِن مصنَّفاته : السُّنَن الكبرى ، دلائل النُّبُوَّة ، شعَب الإيمان .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بنيسابور سَنَة 458 هـ .
شذرات الذهب 3/304 والفتح المبين 1/262 ، 263
(1) يُرَاجَع : الأم 1/117 والكافي لابن قدامة 1/140 ، 141 والهداية 1/51 والمجموع 3/401 واختلاف الحديث /70
(2) أَخْرَجَه الإمام مالك 1/91 والبيهقي 2/142 وعبد الرزاق 2/204
(3) يُرَاجَع : التحقيق في أحاديث الخلاف /399 – 401 والموطأ 1/90 ، 91 وحاشية الدسوقي 1/251 والتاج والإكليل 1/543
أنثى : هل نرجِّح الخبر الأول أم الثاني ؟
خِلاَف بَيْن الأصوليين محصور في أربعة مذاهب :
المذهب الأول : عدم تقديم أو ترجيح رواية الذَّكَر على رواية الأنثى .
وهو قول الكيا الطبري رحمه الله تعالى ، واختاره الصفي الهندي رحمه الله تعالى ، وظاهر كلام الفخر الرازي رحمه الله تعالى ..
وقال ابن السمعاني رحمه الله تعالى : وهو ظاهر المذهب .(1/200)
وحُجّتهم : أنّا لا ننكر تفاوتاً بَيْن الذكور والإناث في جودة الفهم وقوة الحفظ ، ومع هذا لَمْ يقل أحد إنّ رواية الذَّكَر تُقدَّم على رواية الأنثى ؛ لأنّ هذا أمْر يرجع إلى الجنس ، والترجيح إنما يكون بالنوع (1) .
المذهب الثاني : ترجيح رواية الذَّكَر في غَيْر أحكام النساء .
وهو اختيار بعض الحنفية وبعض الشافعية .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الذَّكَر أضبط لِلرواية وأحفظ لها مِن الأنثى ، أمّا فيما يتعلق بأحكامها وما يتعلق بالنساء فهي في ذلك أضبط مِن الذَّكَر ، ولِذَا قُدِّمَت رواية الذَّكَر في الأولى ، وقُدِّمَت رواية الأنثى في الثانية (2) .
المذهب الثالث : ترجيح رواية الذَّكَر مطلقاً .
وهو اختيار شيخ الإسلام زكريا الأنصاري (3) رحمه الله تعالى .
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/159 والفائق 4/418 وقواطع الأدلة 3/42 والمحصول 2/459 وإرشاد الفحول /277
(2) يُرَاجَع : جمع الجوامع مع شرح المحلي 2/364 والتحرير مع التيسير 3/166 ومسلّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/208 ، 209 والتقرير والتحبير 3/31 وأدلة التشريع المتعارضة /136
(3) زكريا الأنصاري : هو شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري السنيكي المصري الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مفسِّر حافظ ، وُلِد سَنَة 823 هـ ، ولي قضاء القضاة ..
مِن مصنّفاته : فتح الرحمن ، فتح العلاّم ، غاية الوصول ، منهج الطلاب . =
واحتجّ لِذلك : بأنّ الذَّكَر أضبط مِن الأنثى (1) .
المذهب الرابع : ترجيح رواية الذَّكَر إنْ كان الضبط معها أشدّ .
وهو اختيار أبي الحسين البصري رحمه الله تعالى .
وهو مذهب أراه قريباً مِن المذهب الأول ؛ لأنّه جعل المعيار في التفاضل أو الترجيح هو قوة الضبط .(1/201)
والأَوْلى عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائل بعدم ترجيح رواية الذَّكَر على رواية الأنثى ؛ لأنّ الترجيح ليس بالجنس ؛ فكم مِن نساء أضبط وأحفظ مِن رجال ، والعكس كذلك ، ولِذَا كان الترجيح راجعاً إلى النوع .
مثاله : ما رواه سمرة بن جندب - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكسوف ركْعتيْن : كُلّ ركعة بركوع وسجْدتيْن (2) ؛ فإنّه معارَض بما روته السيدة عائشة – رضي الله عنها – أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركْعتيْن : كُلّ ركعة بركوعيْن وسجْدتيْن (3) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أثبت أنّ صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف كانت ركْعتيْن : كُلّ ركعة بركوع ، والخبر الثاني أثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركْعتيْن : كُلّ ركعة بركوعيْن ، فاختلف عدد مرات الركوع فيهما ، فَهُمَا متعارضان .
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 926 هـ .
الأعلام 3/80 والفتح المبين 3/68 ، 69 وأصول الفقه تاريخه ورجاله /461 - 463
(1) يُرَاجَع غاية الوصول /143
(2) أَخْرَجَه النسائي في كتاب الكسوف : باب نوع آخَر برقم ( 1467 ) وأبو داود في كتاب الصلاة : باب مَن قال أربع ركعات برقم ( 1000 ) .
(3) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الجمعة : باب الصدقة في الكسوف برقم ( 986 ) ومسلم في كتاب الكسوف : باب صلاة الكسوف برقم ( 1499 ) والترمذي في كتاب الجمعة عن رسول الله : باب ما جاء في صلاة الكسوف برقم ( 514 ) .
وَجْه الترجيح : رجّح البعضُ الخبرَ الأولَ لأنّ راويه ذَكَر ، وهو ترجيح مردود ؛ لِمَا تقدَّم ، إضافةً إلى أنّ خبر السيدة عائشة – رضي الله عنها – قد رواه ابن عباس – رضي الله عنهما – في الصحيحيْن وعبد الله ابن عمر – رضي الله عنهما – في صحيح مسلم .
وبهذا استند بعض الحنفية إلى أنّ خبر السيدة عائشة – رضي الله عنها – ليس مرجَّحاً إلا لِمَن رواه مِن الذكور (1) .(1/202)
وهو ترجيح فيه نظر ؛ لأنّنا لَمْ نفرِّق بَيْن الذَّكَر والأنثى في الترجيح ، ولِذَا فالخبران متعادلان ويرجَّح أحدهما بقرائن أخرى ، وهذا ما تحقَّق – فيما أرى – في خبر السيدة عائشة رضي الله عنها .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في كيفية صلاة الكسوف على قوْليْن :
القول الأول : أنّها ركعتان : في كُلّ ركعة قيامان وركوعان وسجودان .
وهو ما عليه الأئمة : مالك والشافعي وأحمد - رضي الله عنهم - ؛ ترجيحاً لِصحة خبره وكثرة رواته .
القول الثاني : أنّها ركعتان كصلاة الصبح : كُلّ ركعة بقيام وركوع وسجوديْن .
وهو ما عليه الإمام أبو حنيفة - رضي الله عنه - (2) .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور ؛ لِكثرة رواة خبر السيدة عائشة - رضي الله عنها - وصحّته .
الوجه الخامس : الترجيح بالحرية .
(1) يُرَاجَع : تيسير التحرير 3/166 والتقرير مع التحبير 3/31 ومسلّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/209 وأدلة التشريع المتعارضة /136
(2) يُرَاجَع : بدائع الصنائع 1/280 ، 281 والمهذب 1/122 وحاشية الدسوقي 1/402 والكافي 1/238 ، 239 ورحمة الأُمّة /65
إذا كان راوي أحد الخبريْن المتعارضيْن حُرّاً وراوي الخبر الثاني عبداً فهل تُقَدَّم رواية الحُرّ على رواية العبد أم لا ؟
اختلف الأصوليون في ذلك على مذاهب :
المذهب الأول : الترجيح بالحرية .
وهو اختيار ابن السبكي والأنصاري رحمهم الله تعالى .
واحتجّا لِذلك : بأنّ الحُرّ لِشرف منصبه يحترز عمّا لا يحترز عنه الرقيق ، ولِذَا كانت روايته أَوْلَى بالترجيح والتقديم (1) .
المذهب الثاني : عدم الترجيح بالحرية .
وهو ما عليه بعض الأصوليين ، واختاره أبو الحسين البصري والصفي الهندي رحمهما الله تعالى ، وظاهر كلام الفخر الرازي رحمه الله تعالى ..
وقال ابن السمعاني رحمه الله تعالى : إنّه ظاهر مذهب الشافعية .(1/203)
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الحرية لا تأثير لها في قوة الخبر ، وحيث كانت كذلك فلا دخْل لها في الترجيح (2) .
والراجح عندي : عدم الترجيح بالحرية ؛ لأنّ الرق ليس مانعاً مِن تحمُّل الخبر ولا دخْل له في قوّته كما ذهب أصحاب المذهب الثاني .
الوجه السادس : ترجيح الخبر المدني (3) .
إذا تعارض خبران وكان أحدهما مدنيّاً والآخَر مكِّيّاً كان الخبر المدني
(1) يُرَاجَع : جمع الجوامع مع شرح المحلي 2/364 وغاية الوصول /143
(2) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/159 والفائق 4/418 والمعتمد 2/181 والمحصول 2/459 وقواطع الأدلة 3/42
(3) المراد بالمدني : ما ورد بَعْد الهجرة ، والمكي : ما ورد قَبْلها .
وقيل : المدني : ما نزل بالمدينة ، والمكي : ما نزل بمكة حتى وإنْ كان بَعْد الهجرة .
لكنّ الأول هو الأَوْلَى عندي .
يُرَاجَع : غاية الوصول /143 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/424
هو الراجح ؛ لأنّ أهل المدينة هم أهل مهبط الوحي ، وموضعهم موضع الناسخ ، ولهم العناية بما وقع عندهم ؛ لأنّ المدني متأخر عن الهجرة التي شُرعت معظم الأحكام الشرعية بَعْدها .
كما أنّ أهل المدينة رأوا أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسُنَّته التي مات عليها ، فَهُمْ أعرف بذلك مِن غَيْرهم (1) .
الوجه السابع : ترجيح الخبر الدّالّ على علوّ شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
إذا كان أحد الخبريْن المتعارضيْن يدلّ بقوة على علوّ شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخَر ليس كذلك كان الخبر الأول هو الراجح .
وعلَّل الفخر الرازي – رحمه الله تعالى – سر الترجيح بأنّ علوّ شأنه - صلى الله عليه وسلم - كان في آخِر أمْره .(1/204)
وهو تعليل غَيْر مقبول عندي وفيه نظر ؛ فلا أعتقد أنّ الفخر الرازي – رحمه الله تعالى – يعني مقابل هذه العبارة " لأنّ علوّ شأنه كان في آخِر أمْره " ، وإنما يعني أنّ الدين قد انتشر ودخلت الناس في دين الله أفواجاً ، فازداد شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علوّاً بذلك .
هذا .. وقد تابَع بعض الأصوليين (2) الفخر الرازي – رحمه الله تعالى – في تكرار عبارته الني بيَّنتُ رأيي فيها ، وليتهم نظروا إلى تخلص الفخر الرازي – رحمه الله تعالى – مِن هذا المأزق بقوله :" والأَوْلَى أنْ يفصَّل فيقال : إنْ دلّ الأول على علوّ الشأن والثاني على الضَّعْف ظهر تقديم
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/163 واللمع /47 وإحكام الفصول /742 وقواطع الأدلة 3/35 ، 36 والمحصول 2/459 والفائق 4/418 والمنهاج مع شرحه 2/802 ، 803 والإبهاج 3/227 ونهاية السول 3/173 ومناهج العقول 3/172 وشرح تنقيح الفصول /424 وتيسير التحرير 3/165 وشرح مختصر الروضة 3/728 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /332
(2) يُرَاجَع : المحصول 2/460 وشرح المنهاج 2/802 والإبهاج 3/227 ونهاية السول 3/172 ومناهج العقول 3/171 وغاية الوصول /143 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/424 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /333
الأول على الثاني ، أمّا إذا لَمْ يدلّ الثاني لا على القوة ولا على الضَّعْف فمِن أين يجب تقديم الأول عليه ؟! " (1) ا.هـ .
(1) المحصول 2/461
الفصل الرابع
الترجيح العائد إلى المتن
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : الترجيح العائد إلى العامّ والخاصّ .
المبحث الثاني : الترجيح العائد إلى المنطوق والمفهوم والحقيقة والمَجاز .
المبحث الأول
الترجيح العائد
إلى العامّ والخاصّ
وفيه مطالب :
المطلب الأول : ترجيح الخاصّ والعامّ .
المطلب الثاني : ترجيح المقيد وتعارُض صيغ العموم .
المطلب الثالث : ترجيح الأمر والنهي والخبر .
المطلب الأول
ترجيح الخاصّ والعامّ(1/205)
لقد تعددت وجوه الترجيح العائدة إلى الخاصّ والعامّ عند الأصوليين ..
وقد حصرتُ ما وقفتُ عليه منها فيما يلي :
الوجه الأول : ترجيح الخاصّ .
إذا تعارض نصّان أحدهما عامّ والآخَر خاصّ : فهل يرجح الخاصّ على العامّ ويقضى به عليه أم لا ؟
لِلأصوليين في ذلك مذهبان :
المذهب الأول : تقديم الخاصّ على العامّ .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الفخر الرازي والآمدي والبيضاوي والزركشي رحمهم الله تعالى (1) .
المذهب الثاني : إنْ عُلِم التاريخ كان المتأخر ناسخاً ، وإلا فالتوقف ، وإنْ كان موصولاً كان مخصصاً .
وهو ما عليه الحنفية وبعض المعتزلة (2) .
وإذا كان الجمهور يعنون بتقديم الخاصّ على العامّ تخصيصَ العموم وقَصْرَه على ما سوى أفراد الخاصّ – وهو عمل بالدليليْن المتعارضيْن وجمْع بينهما – فإنّ القول بترجيح الخاصّ حينئذٍ فيه نظر وغير مقبول ؛ لأنّ الترجيح لا نذهب إليه إلا إذا لم يمكن الجمع بين الدليليْن المتعارضيْن ..
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/462 والإحكام لِلآمدي 4/264 والمنهاج مع شرحه 2/803 ، 804 والبحر المحيط 6/165
(2) يُرَاجَع : ميزان الأصول /324 ، 325 وبذل النظر /232 – 234 وكشف الأسرار لِلنسفي 1/176 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /186
وفي ذلك يقول الشوكاني رحمه الله تعالى :" يقدَّم الخاصّ على العامّ كذا قيل ، ولا يختال أنّ تقديم الخاصّ على العامّ بمعنى العمل به فيما تناوله والعمل بالعامّ فيما بقي ليس مِن باب الترجيح ، بل مِن باب الجمع ، وهو مقدَّم على الترجيح " (1) ا.هـ .
الوجه الثاني : ترجيح العامّ الذي لم يخصص .
إذا تعارض نصّان أحدهما عامّ لم يخصص والآخَر عامّ دخله التخصيص : فهل يرجح العامّ الذي لم يخصص أم لا ؟
لِلأصوليين في ذلك مذاهب :
المذهب الأول : ترجيح العامّ الذي لم يخصص .(1/206)
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره ابن عقيل وابن الحاجب والرازي وأبو يعلى والبيضاوي والصفي الهندي وابن الهمام والفتوحي والطوفي رحمهم الله تعالى (2) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الأصوليين اختلفوا في العامّ بَعْد تخصيصه : هل يكون حُجّةً أم لا ؟
بخلاف العامّ الباقي على عمومه ؛ فليس محلاًّ لِلخلاف عندهم ، وما ليس محلاًّ لِلخلاف أَوْلَى بالتقديم مما هو محلّ لِلخلاف (3) .
الدليل الثاني : أنّ العامّ الذي لم يخصص حقيقة في العموم ، بخلاف العامّ الذي خُصِّص ؛ فليس كذلك ، والحمل على الحقيقة أَوْلَى ، ولذا وجب
(1) إرشاد الفحول /278
(2) يُرَاجَع : الواضح 5/88 والبرهان 2/1198 ، 1199 والمحصول 2/463 والعدة 3/1035 والمنهاج مع شرحه 2/803 ، 804 والفائق 4/422 وشرح الكوكب المنير 4/675 وشرح مختصر الروضة 3/706 والتحرير 3/159 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/312 – 314
(3) يُرَاجَع : الفائق 4/422 وبيان المختصر 3/389 وشرح مختصر الروضة 3/706 وشرح الكوكب المنير 4/675
ترجيح العامّ الذي لم يخصص (1) .
الدليل الثالث : أنّ العامّ الذي خُصِّص تطرَّق الضَّعْف إليه ، والذي لم يخصَّص لم يتطرق الضَّعْف إليه ، وما لم يتطرق إليه الضَّعْف أَوْلَى بالترجيح مما تطرَّق إليه (2) .
المذهب الثاني : ترجيح العامّ المخصوص على العامّ الذي لم يُخَصّ .
وهو اختيار ابن السبكي وابن المنير (3) رحمهم الله تعالى (4) .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ العامّ المخصوص قد قلّت أفراده حتى قارب النص لأنّ كُلّ عامّ لا بُدّ أنْ يكون نصّاً في أقلّ متناولاته ، فإذا قَرُب مِن الأقلّ بالتخصيص فقد قَرُب مِن التنصيص ، وما قَرُب مِن التنصيص أَوْلى بالترجيح مِن غيره ، ولذا وجب ترجيح العامّ المخصوص (5) .
المذهب الثالث : المساواة بينهما في الترجيح .
وهو اختيار ابن كج رحمه الله تعالى .(1/207)
واحتجّ لذلك : بأنّ حُكْم سماع الحادثة مِن العامّ الذي لم يخصَّص كالحُكْم عند سماعها مِن العامّ الذي خُصِّص ، فاستوى سماع اللفظ في الحالتيْن ، ولا فَرْق بين لفظ ولفظ ، وتقديم أحدهما على الآخَر يُعَدّ ترجيحاً بِلا مرجِّح ، بل هُمَا سواء في ذلك (6) .
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/463 والمنهاج مع شرحه 2/803 ، 804 والفائق 4/422
(2) يُرَاجَع : العدة 3/1035 والإحكام لِلآمدي 4/264
(3) يُرَاجَع : جمع الجوامع مع شرح المحلي مع حاشية البناني 2/367 والبحر المحيط 6/166
(4) ابن المنير : هو القاضي ناصر الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن منصور الجذامي الإسكندراني المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ لغويّ ، وُلِد سَنَة 620 هـ ..
مِنْ مصنَّفاته : التفسير لِلقرآن العظيم ، الاقتفا في فضائل المصطفى ، الانتصاف مِن الكشّاف .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالإسكندرية سَنَة 683 هـ .
شذرات الذهب 3/381 والنجوم الزاهرة 7/361 ، 362
(5) يُرَاجَع البحر المحيط 6/166
(6) يُرَاجَع المراجع السابقة .
والأَوْلى عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائلون بترجيح العامّ الذي لم يخصص على العامّ الذي خُصِّص ؛ لِقوة أدلتهم ، وفي المقابل ضَعْف حُجّة المذْهبيْن الآخَريْن ..
فالمذهب الثاني المقدِّم لِلعامّ المخصوص محتجّاً بقربه من النص حتى وإنْ سلَّمْنَا جدلاً بذلك فإنّ الضَّعْف تطرَّق إليه بهذا التخصيص ، كما أنّه لم يَعُدْ حقيقةً في العموم .
والمذهب الثالث المساوي بينهما في اللفظ ومِن ثَمّ الترجيح فإنّها مساواة فيها نظر وغير مسلَّمة ؛ لأنّ العامّ الذي لم يخصص ليس محلاًّ لِلخلاف في بقائه على عمومه ، كما أنه حقيقة في العموم ، ولم يتطرق الضَّعْف إليه .
الوجه الثالث : ترجيح العامّ الذي لزمه التخصيص .(1/208)
إذا تعارض نصّان أحدهما عامّ لزمه التخصيص والآخَر خاصّ ملزوم التأويل رجَّحْنَا العامّ الذي لزمه التخصيص على الخاصّ الملزوم التأويل ؛ لأنّ تخصيص العامّ كثير ، وتأويل الخاصّ ليس كذلك ، والكثير مقدَّم على غيره ..
ولأنّ الدليل لَمّا دلّ على عدم إرادة البعض تعيَّن كون الباقي مراداً ، وإذا دلّ على أنّ الظاهر الخاصّ أَقْوَى غير مراد لم يتعين لِهذا التأويل ، والمراد مقدَّم على غير المراد (1) .
الوجه الرابع : ترجيح الخاصّ مِن وجْه .
إذا تعارض نصّان أحدهما عامّ والآخَر خاصّ مِن بعض جهاته كان الراجح الخاصّ من بعض جهاته دون العامّ مطلقاً ؛ لأنّ احتمال تخصيصه أكثر مِن الخاصّ مِن وجْه ، فلا يدخله التخصيص مِن ذلك الوجه ، ولأنّ
(1) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/674 وروضة الناظر /260 والفائق 4/430 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/312 – 314 وبيان المختصر 3/388 ونهاية السول 3/219 والتيسير مع التحرير 3/159 وفواتح الرحموت مع مسلّم الثبوت 2/206
الخاصّ أَقْوَى دلالةً مِن العامّ ، فكذا كُلّ ما هو أقرب منه (1) .
الوجه الخامس : ترجيح الأقلّ تخصيصاً .
إذا تعارض نصّان أحدهما أقلّ تخصيصاً والآخَر أكثر تخصيصاً رجَّحْنَا الأقلّ تخصيصاً على الأكثر تخصيصاً ؛ لأنّ الضَّعْف في الأقلّ دونه في الأكثر (2) .
الوجه السادس : ترجيح العامّ المتنازع في تخصيصه .
إذا تعارض نصّان عامّان أحدهما متنازَع في تخصيصه والآخَر متفَق على تخصيصه كان الراجح العامّ المتنازَع في تخصيصه ؛ لأنّ حَمْل العموم الذي سلم مِن التخصيص على عمومه أَظْهَر (3) .
(1) يُرَاجَع : تيسير التحرير 3/159 وبيان المختصر 3/389 وشرح العضد 2/314 وروضة الناظر /260 والإحكام لِلآمدي 4/264 والورقات مع حاشية النفحات /122 وشرح الكوكب المنير 4/674 ، 675 وإرشاد الفحول /278
(2) يُرَاجَع شرح المحلي مع جمع الجوامع 2/367
(3) يُرَاجَع إحكام الفصول /749
المطلب الثاني(1/209)
ترجيح المقيد
وتعارُض صيغ العموم
لقد تعددت وجوه الترجيح العائدة إلى المقيد عند الأصوليين ، كما تعددت عندهم صور تعارُض صيغ العموم ..
ونفصّل القول في كُلّ واحد منهما فيما يلي ..
أوّلاً – ترجيح المقيد :
قلة مِن الأصوليين تعرَّضوا لِترجيح المقيد على المطلق ..
منهم ابن الحاجب – رحمه الله تعالى – في قوله :" وتخصيص العامّ على تأويل الخاصّ لِكثرته والخاصّ ولو مِن وجْه والعامّ لم يخصص على ما خُصّ ، والتقييد كالتخصيص " (1) ا.هـ .
وقال العضد رحمه الله تعالى :" الثامن عشر : تقييد المطلق كتخصيص العامّ ، فيقدَّم المقيد ولو مِن وجْه على المطلق ، والمطلق لم يخرج منه مقيد على ما أخرج منه " (2) ا.هـ .
وقال شمس الدين الأصفهاني رحمه الله تعالى :" وحُكْم المقيد والمطلق حُكْم الخاصّ والعامّ " (3) ا.هـ .
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى :" النوع السادس والعشرون : أنّه يقدَّم المقيد على المطلق " (4) ا.هـ .
(1) مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/312
(2) شرح العضد 2/314
(3) بيان المختصر 3/389
(4) إرشاد الفحول /279
إذا تقرر ذلك .. فإنّ حَمْل المطلق على المقيد أو ترجيح المقيد يرجع إلى اتحاد الحُكْم والسبب فيهما أو اختلافهما في حالات خمس ، نوجزها فيما يلي ..
الحالة الأولى : أنْ يختلفا حُكْماً وسبباً .
نَحْو : قوله تعالى في كفارة الظهار {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} (1) مع قوله تعالى في صفة الشاهد {وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُم} (2) ..
فالحُكْم الأول وجوب تحرير رقبة ، وهو مطلق ، وسببه الظهار .
والحُكْم الثاني اشتراط العدالة في الشاهد ، وهو مقيد ، وسببه حفظ الحقوق .
ولَمّا كان النصان مخْتلفيْن حُكْماً وسبباً فلم يُحمَل المطلق ( رقبة ) في الأول على المقيد ( العدالة ) في الثاني .(1/210)
ومثاله في السُّنَّة : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَء } (3) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ تَحَابُّوا } (4) ..
فالخبر الأول الحُكْم فيه حرمة جَرّ الثوب ، وسببه الكِبْر ، وهو مقيد بـ{ خُيَلاَء } .
والخبر الثاني الحُكْم فيه ندب إفشاء السلام ، وسببه المحبة والألفة بَيْن المسلمين ، وهو مطلق .
(1) سورة المجادلة مِن الآية 3
(2) سورة الطلاق مِن الآية 2
(3) أَخْرَجَه البخاري في كتاب اللباس : باب مَن جَرّ إزارَه مِن غير خيلاء برقم ( 5338 ) ومسلم في كتاب اللباس والزينة : باب تحريم جرّ الثوب خيلاء برقم ( 3887 ) والترمذي في كتاب اللباس عن رسول الله : باب ما جاء في كراهية جرّ الإزار ، كُلّهم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
(4) أَخْرَجَه مسلم في كتاب الإيمان : باب بيان أنّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون برقم ( 81 ) والترمذي في كتاب الأطعمة عن رسول الله : باب ما جاء في فضل إطعام الطعام برقم ( 1777 ) وأبو داود في كتاب الأدب : باب في إفشاء السلام برقم ( 4519 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
فالحُكْمان مختلفان سبباً وحُكْماً ، ولذا فلا يُحمَل المطلق على المقيد ، وإنما يبقى المقيد على تقييده والمطلق على إطلاقه .
الحالة الثانية : أن يتَّحدا حُكْماً وسبباً .
نَحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - في صدقة الفطر { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْد } (1) ؛ فإنّه معارَض بقوله - صلى الله عليه وسلم - { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنَ الْمُسْلِمِين } (2) ..
فالخبر الأول أوجب دفع الصدقة عن كُلّ حُرّ وعبْد ، فهو عامّ في العبد مسلِماً كان أم غير مسلِم .
والخبر الثاني أوجبها عن العبد المسلِم ، فهو مقيِّد لإطلاق الخبر الأول .(1/211)
وقد رجَّح الجمهور المقيدَ وحملوا المطلق على المقيد ، فلم يوجِبوا زكاة الفطر عن غير المسلِم .
أمّا الحنفية : فلم يَحملوا المطلق على المقيد ، وأوجبوا دفع زكاة الفطر عن غير المسلم (3) .
الحالة الثالثة : أنْ يختلفا حُكْماً ويتَّحدا سبباً .
نَحْو : قوله تعالى في التيمم {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم} (4) مع قوله تعالى في الوضوء {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق} (5) ..
(1) أَخْرَجَه النسائي في كتاب صلاة العيديْن : باب حثّ الإمام على الصدقة في الخُطبة برقم ( 1562 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والإمام أحمد في باقي مسند المكثرين برقم ( 7399 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) أَخْرَجَه الدارمي في كتاب الزكاة : باب في زكاة الفطر برقم ( 1602 ) وأحمد في مسند المكثرين مِن الصحابة برقم ( 5051 ) ، كلاهما عن ابن عمر رضي الله عنهما .
(3) يُرَاجَع : إحكام الفصول /266 والبحر المحيط 3/417 وإرشاد الفحول /279 وشرح طلعة الشمس 1/79 ، 80 والاختيار 1/123 والمغني لابن قدامة 3/56 ونيل الأوطار 4/179 – 181
(4) سورة النساء مِن الآية 43
(5) سورة المائدة مِنَ الآية 6
فالحُكْم في الأولى وجوب التيمم ، والأيدي فيها مطلقة .
والحُكْم في الثانية وجوب الوضوء ، والأيدي فيها مقيدة بغاية {إِلَى الْمَرَافِق} .
والسبب فيهما هو الحدث أو القيام إلى الصلاة .
والجمهور على أنّ المطلق لا يُحمَل على المقيد في هذه الحالة (1) .
الحالة الرابعة : اتحاد الحُكْم واختلاف السبب .
نَحْو : قوله تعالى في كفارة الظهار {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} (2) مع قوله تعالى في كفارة القتل الخطأ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَة} (3) ..(1/212)
فالحُكْم في الأولى وجوب عتق رقبة ، وهو مطلق ، وسببه الظهار .
والحُكْم في الثانية وجوب عتق رقبة مؤمِنة ، وهو مقيد ، وسببه القتل .
والجمهور يَحملون المطلق على المقيد في هذه الحالة ، فيوجبون في الظهار عتق رقبة مؤمِنة .
والحنفية لا يَحملونه ، فتجزئ عندهم في الظهار عتق رقبة غير مؤمِنة (4) .
الحالة الخامسة : اتحاد الحُكْم والسبب واحد .
نَحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - في زكاة الإبل { وَفِي خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ شَاة } (5) مع
(1) يُرَاجَع : شرح اللمع 2/108 والتمهيد لِلكلوذاني 2/179 ، 180 وبيان المختصر 2/351 والمنار مع كشف الأسرار 1/425 والتنقيح مع التوضيح 1/115 ومسلّم الثبوت 1/361
(2) سورة المجادلة مِن الآية 3
(3) سورة النساء مِنَ الآية 92
(4) يُرَاجَع : إحكام الفصول /281 وشرح تنقيح الفصول /267 والتبصرة /216 والمحصول لِلرازي 1/459 وأصول السرخسي 1/267 وتيسير التحرير 1/330
(5) أَخْرَجه الحاكم في المُسْتَدْرَك والنسائي في الديات وأبو داود في المراسيل عن عمرو بن حزم عن أبيه عن جدّه .. يُرَاجَع الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/251
قوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى { فِي خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ سَائِمَةٍ شَاة } (1) ..
فالخبر الأول أوجب الزكاة في خمس مِن الإبل ، وهو مطلق { شَاة } .
والخبر الثاني أوجبها في خمس مِن الإبل ، لكنّه مقيد { سَائِمَة } .
فالحُكْم فيهما واحد : وهو وجوب الزكاة ..
والإطلاق والتقييد في سبب الحُكْم : وهو نِصَاب الإبل .
والجمهور حملوا المطلق على المقيد ، فاشترطوا السوم فيها .
والحنفية لم يَحملوا المطلق على المقيد ؛ لِعدم حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة (2) عندهم (3) (4) .
ولَمّا كان تقييد المطلق أحد صور الجمع بَيْن الدليليْن فإنّ الترجيح بالتقييد محلّ نظر ؛ لأنّ شرط الترجيح : أنْ لا يمكن الجمع بَيْن الدليليْن المتعارضيْن (5) .(1/213)
ثانياً – ترجيح العامّ المطلق على العامّ الوارد على سبب :
إذا تعارض نصّان عامّان أحدهما مطلق والآخَر وارد على سبب رجَّحْنَا العامّ المطلق على العامّ الوارد على سبب ؛ لأنّ أمَارة التخصيص قد ظهرت في العامّ الوارد على سبب ، فيكون أَوْلَى بإلحاق التخصيص به (6) .
(1) أَخْرَجَه ابن حبان 14/501 والبيهقي 4/89 وأبو الحسن الهيثمي /202 عن عمرو بن حزم - رضي الله عنه - .
(2) مفهوم المخالفة : أنْ يكون المسكوت عنه مخالفاً في الحُكْم لِلمنطوق ..
يُرَاجَع : شرح العضد 2/173 وبيان المختصر 2/44
(3) يُرَاجَع : أصول البزدوي مع كشف الأسرار 2/523 ونور الأنوار مع كشف الأسرار 1/425 والتنقيح مع التوضيح 1/115 ، 116 وتيسير التحرير 1/334
(4) تُرَاجَع هذه الحالات الخمس تفصيلاً في المطلق والمقيد /403 – 428
(5) يُرَاجَع أدلة التشريع المتعارضة /169
(6) يُرَاجَع : العدة 3/1035 والبحر المحيط 6/166 وجمع الجوامع مع شرح المحلي 2/367 وإرشاد الفحول /278
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه } (1) ؛ فإنّه معارَض بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء (2) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب قتل كُلّ مَن بدَّل دينَه ، وهو عامّ في كُلّ مَن بدَّل دينَه : رجلاً كان أم امرأة ، والخبر الثاني حرَّم قتل النساء ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول الحُكْم فيه عامّ مطلق ، والخبر الثاني عامّ وارد على سبب ؛ لأنّ المنهيّ عن قتلها هي المرأة الحربية التي تقاتل أو تكون في صفوف المقاتلين غير المسلمين ، ولذا رجح العامّ المطلق ، وتُقتَل المرأة المرتدّة ؛ لأنّها داخلة في عموم الحُكْم (3) .
الأثر الفقهي :
اختلف العلماء في حُكْم قتل المرأة المرتدّة على أقوال ثلاثة :
القول الأول : وجوب قتل المرأة المرتدّة .
وهو قول الجمهور ؛ عملاً بعموم الخبر الأول .(1/214)
القول الثاني : أنّها لا تُقتَل ، وتُحبَس حتى تسلِم .
وهو قول الحنفية ، ورُوِي عن عبد الله بن عباس وعطاء والثوري - رضي الله عنهم - إعمالاً لِلخبر الثاني .
القول الثالث : أنّها تُسْتَرَقّ ولا تُقتَل .
وهو قول عَلِيّ والحسن وقتادة - رضي الله عنهم - ؛ لاسترقاق أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - نساءَ بني حنيفة .
والأَوْلى عندي : ما عليه أصحاب القول الأول القائل بوجوب قتل المرأة المرتدّة (4) .
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
(3) يُرَاجَع : العدة 3/1035 وشرح الورقات مع حاشية النفحات /123 ، 124
(4) يُرَاجَع : روضة الطالبين 7/295 وفتح الباري 1/280 وبداية المجتهد 2/318 وبلوغ المرام /316 - 319
ثالثاً – تعارُض صيغ العموم :
إنّ التعارض الواقع بَيْن عامّيْن أحياناً ما يكون مرجعه إلى صيغ العموم فيهما ..
ويمكن حصر صور تعارُض صيغ العموم في أربع صور :
الصورة الأولى : ترجيح العامّ الشرطي .
إذا تعارض نصّان عامّان صيغة أحدهما الشرط – كـ" مَن " و" ما " و" أيّ " – والآخَر نكرة في سياق النفي وغيرها – كالجمع المحلَّى بالألِف واللام والمضاف ونحوهما – رجَّحْنَا العامّ الشرطي ؛ لأنّ إلغاء العامّ الشرطي يوجِب إلغاء السببية الحاصلة بالشرط أيضاً ، وإلغاء العامّ غير الشرطي لا يوجب عند إلغائه مفسدةً أخرى ، ولذا كان ترجيحه هو الأَوْلَى .
الصورة الثانية : ترجيح الجمع المعرَّف .
إذا تعارض نصّان عامّان أحدهما جمع معرَّف والآخَر جمع منكر رجَّحْنَا الجمع المعرَّف ؛ لِوجْهيْن :
الأول : أنّ الجمع المنكر مختلَف في عمومه ، أمّا الجمع المعرَّف فهو محلّ اتفاق ، وما كان محلاًّ لِلاتفاق كان أَوْلى بالتقديم مما ليس كذلك .
الثاني : أنّ الجمع المنكر يدخله الإبهام ، والمعرَّف لا يدخله ، وما لا يدخله الإبهام أَوْلَى .(1/215)
وربما رجح المنكر بكونه دالاًّ على عدد أقلّ مِن الجمع المعرَّف ، فكان أقرب إلى الخصوص ، وحينئذٍ يكون أَوْلى بالتقديم والترجيح .
الصورة الثالثة : ترجيح اسم جمع معرَّف .
إذا تعارض نصّان عامّان أحدهما اسم جمع معرَّف والآخَر اسم جنس دخله الألِف واللام رجَّحْنَا اسم الجمع ؛ لإمكان حمل اسم الجنس على الواحد المعهود ، بخلاف الجمع المعرَّف ، فكان أَقْوَى عموماً ، ولذا كان أَوْلَى بالتقديم .
الصورة الرابعة : ترجيح " مَن " و" ما " .
إذا تعارض نصّان عامّان أحدهما مِن قبيل اسم الجنس المعرَّف والآخَر مِن قبيل " مَن " و" ما " رجَّحْنا " مَن " و" ما " ؛ لِعدم احتمالهما لِلعهد ، أمّا اسم الجنس فإنّه يحتمل ذلك ، وما لا يحتمل لِلعهد أَوْلى بالترجيح مما يحتمله (1) .
(1) تُرَاجَع صور تعارُض العموم في : الإحكام لِلآمدي 4/265 وروضة الناظر /260 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/312 ، 314 وبيان المختصر 3/389 وشرح الكوكب المنير 4/676 ، 677 والفائق 4/430 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/367 وتيسير التحرير 3/158 والبحر المحيط 6/166 ومسلّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/205 وإرشاد الفحول /279 والوجيز لِلكراماستي /203
المطلب الثالث
ترجيح الأمر (1) والنهي (2) والخبر
لقد تعددت وجوه الترجيحات العائدة إلى الأمر والنهي والخبر عند الأصوليين ..
وقد حصرتُ ما وقفتُ عليه منها فيما يلي :
الوجه الأول : ترجيح النهي على الأمر .
إذا تعارض خبران أحدهما فيه نهي والآخَر فيه أمر : فهل يرجح النهي على الأمر أم لا ؟
خلاف لِلأصوليين في ذلك على مذْهبيْن :
المذهب الأول : ترجيح النهي على الأمر .
وهو ما عليه الكثرة مِن الأصوليين ، واختاره ابن الحاجب والآمدي والصفي الهندي وابن السبكي والفتوحي والشوكاني رحمهم الله تعالى (3) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، أذكر منها ما يلي :(1/216)
الدليل الأول : أنّ المقصود مِن الأمر حصول المصلحة ، ومِن النهي دفع المفسدة ، ونظراً لأنّ دفع المفاسد أَوْلَى مِن جلب المصالح كان النهي عند تعارضه مع الأمر أَوْلى بالترجيح والتقديم .
الدليل الثاني : أنّ مَحامل النهي أقلّ مِن مَحامل الأمر ؛ فالنهي متردد بَيْن
(1) الأمر : القول الطالب لِلفعل .. منهاج الوصول مع شرحه 1/302
(2) النهي : القول الطالب لِلترك دلالةً أولية .. نهاية السول 2/53
(3) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/312 والإحكام لِلآمدي 4/259 والفائق 4/426 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/368 وشرح الكوكب المنير 4/659 وإرشاد الفحول /279 والوجيز لِلكراماستي /201
التحريم والكراهة ، والأمر متردد بَيْن الوجوب والندب والإباحة ( عند البعض ) ، ولَمّا كانت قلة المَحامل أَبْعَد عن الاضطراب كان النهي مقدَّماً على الأمر .
الدليل الثالث : أنّ الطلب في النهي أشدّ مِن الأمر ؛ لاقتضائه لِلدوام ، فلا يتحقق النهي إلا بدوام ترك المنهيّ عنه ، أمّا الأمر فإنّه يتحقق بفعل المأمور به مرّةً واحدةً ( إنْ كان الأمر والنهي كُلّ واحد منهما مطلقاً ) ، وما كان الطلب فيه أشدّ أَوْلى ، ولذا رجَّحْنَا النهي على الأمر (1) .
المذهب الثاني : التساوي بينهما .
وهو اختيار الفخر الرازي – رحمه الله تعالى – وجماعة ، منهم : البيضاوي والزركشي رحمهما الله تعالى (2) .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ كُلّ واحد مِن الأمر والنهي يشارك الإباحة مِن وجْه ويخالفها مِن وجْه آخَر ، وعليه فكُلّ واحد منهما ناقل مِن وجْه ومبقٍ مِن وجْه آخَر ، وإذا كانا كذلك فَهُمَا متساويان ، وترجيح أحد المتساوييْن على الآخَر بغير قرينة لا يجوز (3) .
مناقشة هذا الدليل :(1/217)
وأرى مناقشة هذا الدليل : بأنّنا سلَّمْنا تساوي الأمر والنهي مِن هذا الوجه ، لكن لا نسلِّم تساويهما في شدة الطلب وجلب المصالح ودفع المفاسد والمَحامل ، وحيث قد ثبت أنّ النهي أشدّ في الطلب وأنّ الطلب فيه دافِع لِلمفسدة كما أنّ مَحامله أقلّ ؛ لِكُلّ ذلك كان ترجيح النهي على الأمر
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/259 وبيان المختصر 3/384 وشرح الكوكب المنير 4/659 وشرح المحلي مع حاشية البناني 2/368 وأدلة التشريع المتعارضة /105 ، 106 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /367 ، 368
(2) يُرَاجَع : المنهاج مع شرحه 2/806 ، 807 والبحر المحيط 6/172
(3) يُرَاجَع : المحصول 2/468 وأدلة التشريع المتعارضة /105
أَوْلَى مِن التساوي الذي ذهب إليه أصحاب المذهب الثاني ، ويكون المذهب الأول عندي هو الأَوْلى بالقبول والاختيار .
مثاله : ما رواه نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهم - قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ ، فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَه } (1) مع ما رواه عَمّار بن ياسر (2) – رضي الله عنهما – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِم } (3) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول يوجِب الصيام بَعْد التاسع والعشرين ، وهو يوم الشك ، ولذا قال نافع رحمه الله تعالى :" فكان عبد الله - رضي الله عنه - إذا مضى مِن شعبان تسع وعشرون يبعث مَن ينظر : فإنْ رأى فذاك ، وإنْ لم يرَ أصبح مفطِراً " (4) ؛ لأنّ معنى التقدير له أنْ يصبح صائماً ..
والخبر الثاني حرَّم صيام يوم الشك .
فالحُكْمان متعارضان ، ولذا وجب الترجيح بينهما .
وَجْه الترجيح : رجَّح الجمهور الخبرَ الثانيَ ؛ لأنّه نهي وحظر ، كما(1/218)
(1) أَخْرَجَه مسلم في كتاب الصيام : باب وجوب صوم رمضان لِرؤية الهلال والفطر لِرؤية الهلال برقم ( 1797 ) وأبو داود في كتاب الصوم : باب الشهر يكون تسعاً وعشرين يوماً برقم ( 1976 ) وأحمد في مسند المكثرين مِن الصحابة برقم ( 4258 ) .
(2) عمّار بن ياسر : هو الصحابي الجليل أبو اليقظان عمّار بن ياسر بن مالك بن كنانة بن قيس ابن الحصين المذحجي العبسي رضي الله عنهما ، مِن السابقين إلى الإسلام ، وُلِد سَنَة 57 قَبْل الهجرة لقّبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بـ" الطَّيِّب المطيّب " ..
أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه تَقتله الفئة الباغية ، فقُتِل في موقعة صفين سَنَة 37 هـ .
أسد الغابة 4/143 والأعلام 2/807 والفتح المبين 1/79 - 81
(3) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الصوم عن رسول الله : باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك برقم ( 622 ) والنسائي في كتاب الصيام : باب صيام يوم الشك برقم ( 2159 ) وأبو داود في كتاب الصوم : باب كراهية صوم يوم الشك برقم ( 1987 ) موقوفاً على عمّار بن ياسر رضي الله عنهما .
(4) أَخْرَجَه الإمام أحمد في مسند المكثرين مِن الصحابة برقم ( 4258 ) وأبو نعيم في المسند المستخرج 3/147 والدارقطني في سُنَنِه 2/161
أنّ هناك روايةً صريحةً في إكمال العدة ثلاثين يوماً : وهي رواية ابن عباس رضي الله عنهما { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِين } (1) ، وحينئذٍ يكون هذا مفسراً ، وخبر النهي عن صوم بوم الشك مجملاً ، ولا تعارُض بينهما ؛ لِحمل المجمل على المفسر (2) .
ومثاله أيضاً : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ صَلاَةَ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْس } (3) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِس } (4) ..(1/219)
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول نهى عن الصلاة بَعْد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وبَعْد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ، والخبر الثاني أمر بالصلاة عند دخول المسجد ، فالأول محرِّم لِلصلاة في هذيْن الوقْتيْن ، والثاني نادب لِلصلاة عند دخول المسجد حتى في هذيْن الوقْتيْن ، فالحُكْم فيهما متعارض ، ولذا وجب الترجيح (5) .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول فيه نهي ، والثاني فيه أمر أو ندب ، والنهي مرجَّح على الأمر ، فلذا يرجح الخبر الأول ..
(1) أَخْرَجَه النسائي في كتاب الصيام : باب ذِكْر الاختلاف على عمرو بن دينار برقم ( 2095 ) وأبو داود في كتاب الصوم : باب مَن قال : فإنْ غُمّ عليكم فصوموا ثلاثين برقم ( 1982 ) وأحمد في مسند بني هاشم برقم ( 1881 ) .
(2) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/172 وأدلة التشريع المتعارضة /106 ، 107
(3) أَخْرَجَه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقَصْرها : باب الأوقات التي نُهِي عن الصلاة فيها برقم ( 1368 ) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، وأبو داود في كتاب الصلاة : باب مَنْ رخَّص فيها إذا كانت الشمس مرتفعةً برقم ( 1084 ) وأحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة برقم ( 105 ) كلاهما عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - .
(4) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الصلاة : باب إذا دخل أحدكم المسجد فلْيَرْكَعْ ركْعتيْن قَبْل أنْ يجلس برقم ( 425 ) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها : باب استحباب تحية المسجد بركْعتيْن برقم ( 1166 ) والترمذي في كتاب الصلاة : باب ما جاء إذا دخل أحدكم المسجد فلْيَرْكَعْ ركْعتيْن برقم ( 290 ) ، كُلّهم عن أبي قتادة السَّلَمِيّ - رضي الله عنه - .
(5) يُرَاجَع التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/200
لكنّ الفقهاء اختلفوا في هذه المسألة كما سبق توضيحه في مطلب الترجيح العائد إلى كيفية الرواية .
الوجه الثاني : ترجيح الأمر على الإباحة .(1/220)
إذا تعارض خبران أحدهما فيه أمر والآخَر فيه إباحة : فهل يرجح الأمر على الإباحة أم لا ؟
خلاف لِلأصوليين في ذلك على مذْهبيْن :
المذهب الأول : ترجيح الأمر على الإباحة .
وهو ما عليه الأكثر ، واختاره ابن الحاجب وابن السبكي والفتوحي والشوكاني رحمهم الله تعالى (1) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله - صلى الله عليه وسلم - { دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يُرِيبُك } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بترك ما فيه شك وتردُّد إلى ما كان خالياً مِن ذلك ، وحيث إنّ العمل بالأمر وفعل المأمور به أحوط كان المصير إليه واجباً ، ولذا كان ترجيح الأمر على الإباحة هو الأَوْلى .
الدليل الثاني : أنّ العمل بالإباحة وتقديم المبيح على الأمر فيه احتمال لِلضرر على تقدير الترك لو قدَّم الإباحة ، والعمل بالأمر ليس كذلك ، ولذا وجب ترجيح الأمر على الإباحة .
الدليل الثالث : أنّ العمل بالأمر حمل لِكلام الشارع على الحُكْم التكليفي والشرعي ، دون العمل بالإباحة ؛ فإنّه محمول على الحُكْم التكليفي مِن
(1) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/312 وشرح الكوكب المنير 4/659 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/368 ومختصر التحرير /259 وإرشاد الفحول /279 وتيسير التحرير 3/159
(2) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عَنْ رسول الله برقم ( 2442 ) والنسائي في كتاب الأشربة : باب الحثّ على تَرْك الشبهات برقم ( 5615 ) وأحمد في مسنَد أهْل البيت برقم ( 1630 ) ، كُلّهم عن الحَسَن بن عَلِيّ رضي الله عَنْهُمَا .
باب التغليب ، وما كان مؤكداً حَمْله على الحُكْم الشرعي كان أَوْلى مما حُمِل عليه تغليباً ، ولذا رجَّحْنَا الأمر على الإباحة (1) .
المذهب الثاني : ترجيح الإباحة على الأمر .
وهو اختيار الآمدي والصفي الهندي وابن حمدان (2) رحمهم الله تعالى .(1/221)
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ مدلول المبيح متّحد ، ومدلول الأمر متعدد ، وعليه فلا إجمال في الإباحة ؛ لِعدم الاختلاف في معناها ، بخلاف الأمر ، وما كان متّحد المدلول أَوْلى مِن متعدده ، ولذا رجَّحْنَا الإباحة على الأمر .
الدليل الثاني : أنّ العمل بالمبيح يلزم منه تأويل الأمر بصرفه عن محمله الظاهر إلى المحمل البعيد ، والعمل بالأمر يلزم منه تعطيل المبيح بالكلية ، ولَمّا كان التأويل أَوْلى مِن التعطيل فقد رجَّحْنَا لِذلك الإباحة على الأمر .
الدليل الثالث : أنّ العمل بالمبيح يمكن على تقديريْن : الأول مساواته لِلأمر والثاني رجحانه عليه ، والعمل بمقتضى الأمر متوقف على الترجيح ، وما يتمّ العمل به على تقْديريْن أَوْلى مما لا يتمّ العمل به إلا على تقدير واحد ، ولذا وجب ترجيح الإباحة على الأمر .
الدليل الرابع : أنّ العمل بالمبيح – بتقدير كون الفعل مقصوداً لِلمكلف – لا يختلّ لِكونه مقدوراً له ، والعمل بالأمر يوجِب الإخلال بمقصود الترك بتقدير كون الترك مقصوداً ، والعمل بما لا يوجِب الإخلال بمقصود الترك
(1) يُرَاجَع : الفائق 4/428 وبيان المختصر 3/384 وشرح الكوكب المنير 4/659
(2) ابن حمدان : هو نجم الدين أبو عبد الله أحمد بن حمدان بن شبيب بن حمدان الحراني الحنبلي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ أديب ، وُلِد بحران سَنَة 603 هـ ، ورحل في طلب العلم إلى القاهرة ودمشق والقدس ، وجالس المجدَ بن تيمية رحمه الله تعالى ، تولى القضاءَ بالقاهرة .
مِن مصنّفاته : الرعاية الكبرى في الفقه ، كتاب الوافي ، مقدمة في أصول الدين .
ذيل طبقات الحنابلة 2/331 وشذرات الذهب 5/428 ، 429
أَوْلى مما يوجِبه ، فدلّ ذلك على ترجيح الإباحة على الأمر (1) .(1/222)
والأَوْلى عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائلون بترجيح الأمر على الإباحة ؛ لأنّ فعل المأمور به أحوط وتبرئة لِلذمة ، وليس كذلك في الفعل المباح ؛ لأنّ فيه جواز الترك وعدم إتيان الفعل .
الوجه الثالث : ترجيح النهي ( الحظر ) على الإباحة .
إذا تعارض خبران أحدهما فيه نهي والآخَر فيه إباحة : فهل يرجح النهي على الإباحة أم لا ؟
خلاف لِلأصوليين في ذلك على مذاهب :
المذهب الأول : ترجيح النهي ( الحظر ) على الإباحة .
وهو ما عليه أكثر الأصوليين ، واختاره الشيرازي وابن عقيل وأبو يعلى وابن السمعاني وابن قدامة وابن الحاجب والبيضاوي والكراماستي والزركشي وابن السبكي والشوكاني رحمهم الله تعالى (2) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَا اجْتَمَعَ الْحَلاَلُ وَالْحَرَامُ إِلاَّ وَغَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلاَل } (3) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن لنا أنّ الحرام إذا اجتمع مع الحلال كانت الغلبة لِلحرام ، الأمر الذي يعني ترجيح الحرام وتقديم تركه على الفعل المباح .
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/259 ، 260 والفائق 4/427 ، 428 وشرح الكوكب المنير 4/659 ، 660
(2) يُرَاجَع : اللمع /48 والواضح 5/92 والعدة 3/1041 وقواطع الأدلة 3/39 وروضة الناظر /416 والمختصر مع شرح العضد 2/312 والمنهاج مع شرحه 2/806 ، 807 والوجيز /202 والبحر المحيط 6/170 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/369 وإرشاد الفحول /279
(3) أَخْرَجَه البيهقي في سُنَنه الكبرى 10/114 وعبد الرزاق في مصنفه ( يُرَاجَع نصب الراية لِلزيلعي 4/314 ) موقوفاً على عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - .
الدليل الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - { دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يُرِيبُك } (1) ..(1/223)
وَجْه الدّلالة : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بترك ما فيه شك في حِلِّه إلى ما ليس كذلك ، ولا يريب ترك الفعل إذا تردد بَيْن كونه حراماً أو مباحاً ، وإنّما الذي يريبه جواز فعله على القول بإباحته ، ولذا وجب ترجيح المحرّم على المبيح .
الدليل الثالث : ما رُوِي عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - أنّه قال في الأخْتيْن المَمْلُوكتيْن :" أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ ، وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى " (2) .
الدليل الرابع : أنّ ترك المباح لا إثم عليه ، وفعل المحظور يأثم به ، وإذا كان نفي العقاب والإثم ثابتاً في ترك المباح ومتحققاً في فعل المحظور كان العمل بالنص المحرِّم احتياطاً أَوْلى مِن ترك المباح (3) .
المذهب الثاني : ترجيح الإباحة على النهي .
وهو اختيار الآمدي رحمه الله تعالى ، ونسبه الزركشي إلى القاضي عبد الوهاب (4) رحمهما الله تعالى (5) .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ المبيح قد تقوَّى بالأصل وهو الإباحة المستلزمة
(1) سبق تخريجه .
(2) أَخرَجه الإمام مالك في كتاب النكاح : باب ما جاء في كراهية إصابة الأخْتَيْن بمِلْك اليمين برقم ( 988 ) .
(3) يُرَاجَع : المحصول 2/468 ، 469 والعدة 3/1041 والبحر المحيط 6/170 وشرح المنهاج 2/807 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/429 وأدلة التشريع المتعارضة /100 ، 101 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /363 ، 364
(4) القاضي عبد الوهاب : هو عبد الوهاب بن علِيّ بن نصْر بن أحمد بن الحسين بن هارون ابن مالك بن طوق الثعلبي البغدادي رحمه الله تعالى ، الفقيه المالكي ..
مِن مصنَّفاته : المعونة بمذهب عالِم المدينة ، شَرْح المدوَّنة ، التلقين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 422 هـ .
شذرات الذهب 3/233 وشجرة النور الزكية /103
(5) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/260 والبحر المحيط 1/170
لِنفي الحرج ، وليس كذلك المحرِّم ، ولذا وجب ترجيح المبيح على المحرِّم .(1/224)
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّنا سلَّمْنا أنّ الأصل في الأشياء الإباحة إذا لم يَرِدْ نص ، فإنْ ورد نص كان هو الأصل ، كما أنّ العمل بالنص المحرِّم أحوَط (1) .
المذهب الثالث : عدم ترجيح واحد منهما ؛ لِتساويهما .
وهو اختيار الغزالي والباجي وبعض المالكية رحمهم الله تعالى .
وقد نسب البعض (2) هذا المذهب إلى عيسى بن أبان وأبي هاشم رحمهما الله تعالى ، وفيها نظر ؛ لأنّ المنقول عنهما خلاف ذلك ، وسيأتي تفصيله بإذن الله تعالى .
واحتجّ أصحاب هذا المذهب بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الحظر والإباحة حُكْمان شرعيّان يفتقر في إثبات كُلّ واحد منهما إلى شرع ، فلا يجب أن يكون لأحدهما مزيّة على الآخَر ؛ لأنّهما في قوة واحدة ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخَر إلا بدليل أو قرينة (3) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا سلَّمْنَا أنّهما حُكْمان شرعيّان ، لكنْ لا نسلِّم أنّهما في قوة واحدة ولا مزيّة لأحدهما ؛ بل إنّ الحظر مقدَّم على الإباحة بأدلة سبق إيرادها في المذهب الأول (4) .
الدليل الثاني : أنّ مَنْ حرَّم ما أَحَلّ الله تعالى بمنزلة مَنْ أَحَلّ ما حرَّم الله
(1) يُرَاجَع : أصول الفقه لِلشيخ زهير 4/429 ، 430 وأدلة التشريع المتعارضة /101 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /364
(2) يُرَاجَع أصول الفقه لِلشيخ زهير 4/429
(3) يُرَاجَع : المستصفى /379 وإحكام الفصول /755
(4) يُرَاجَع أصول الفقه لِلشيخ زهير 4/429
تعالى ، فلا يجب الإقدام على واحد منهما إلا بدليل ، ولذا كان الحظر والإباحة متساوييْن (1) .
مناقشة هذا الدليل :
وهذا الدليل مناقَش بما نوقش به الدليل الأول .
المذهب الرابع : عدم ترجيح واحد منهما ، ويتساقطان .(1/225)
هذا المذهب نسبه القاضي أبو يعلى إلى عيسى بن أبان – رحمهما الله تعالى – في قوله :" وذهب عيسى بن أبان إلى أنّه لا يرجح بمثل هذا ، ويتعارضان ويسقطان ويصيران كأنّهما لم يَرِدَا ، ويرجع في حُكْم الحادثة إلى غير هذا الخبر " (2) ا.هـ .
وفي هذه النسبة نظر ؛ لأنّ الزركشي – رحمه الله تعالى – نسب إليه ترجيح الحظر (3) .
أدلة هذا المذهب :
الدليل الأول : أنّ تحريم المباح كإباحة المحظور ، فلم يكن لأحدهما مزيّة على الآخَر ، وإذا تساوى الدليلان المتعارضان تساقطا وطلبنا دليلاً آخَر غيرهما .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نسلِّم تساوي الحظر والإباحة ؛ وإنما الحظر راجح ؛ لِمَا ورد مِن أدلة في ذلك ، وأخذاً بالاحتياط .
الدليل الثاني : أنّ الشيء الواحد يستحيل أنْ يكون محظوراً على الواحد في وقت مباحاً له في ذلك الوقت ، كما يستحيل أنْ يكون الواحد بمكة وبغداد في يوم واحد ، وقد ثبت أنّ أربعةً لو شهدوا على رجل أنّه رُئِي
(1) يُرَاجَع إحكام الفصول /756
(2) العدة 3/1042
(3) يُرَاجَع البحر المحيط 6/171
يوم النحر بمكة وشهد أربعة آخَرون أنّه رُئِي في ذلك اليوم ببغداد فإنّ شهادة الجميع تسقط ، فكذلك الخبران المتعارضان بالحظر والإباحة لا ترجيح لِواحد منهما ، بل يسقطان .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ قياس الخبريْن على الشهادة قياس مع الفارق ؛ لأنّ الشهادة كانت على حقيقة الفعل الذي يستحيل وجوده في مكانيْن في زمان واحد ، أمّا الخبران بإباحة الشيء وحظره فيجوز أنْ يكون الشيء مباحاً في الأصل ثم يحظره الشرع بعد ذلك .(1/226)
الدليل الثالث : أنّه لو أخبر بطهارة الماء واحد وأخبر غيره بنجاسته ولم يكن لأحد المخبريْن مزيّة على الآخَر ولا كان لِلمخبَر رأي يعمل على الغالب منه فإنّهما يسقطان ويبقى الماء على أصْل الطهارة ، فكذلك تعارُض الحظر والإباحة يسقطان عند التعارض ويبقى الشيء على حُكْم الإباحة في الأصل .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل بما نوقش به الدليل السابق ، كما أنّ الأصل – وهو أنّ الماء يكون نجساً ثم يصير طاهراً – غير جائز (1) .
المذهب الخامس : اعتبار الأصل .
وهو قول سليم (2) والكيا كما ذكر الزركشي رحمهم الله تعالى ..
(1) العدة 3/1042 – 1044 بتصرف ويُرَاجَع : الواضح 5/93 ، 94 وأدلة التشريع المتعارضة /101 - 103
(2) سُلَيْم : هو أبو الفتح سُلَيْم بن أيوب بن سُلَيْم الرازي الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مُفَسِّر أديب لغويّ ..
مِن مصنَّفاته : ضياء القلوب ، التقريب ، الكافي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 447 هـ .
طبقات الشّافعيّة الكبرى 4/388 وشذرات الذهب 3/275
لكنّهما اختلفا :
فيرى سليم - رحمه الله تعالى - أنّه إنْ كان لِلشيء أصْل إباحة وحظر وأحد الخبريْن يوافق ذلك الأصل والآخَر بخلافه كان الناقل عن ذلك الأصل أَوْلى ..
وإنْ لم يكن له أصْل مِن حظر أو إباحة فوجهان : أحدهما ترجيح الحظر ، والثاني أنّهما سواء .
ويرى الكيا - رحمه الله تعالى - أنّه إنْ كانت الإباحة هي الأصل فالحظر أَوْلى ، وإنْ كان الحظر هو الأصل فالإباحة أَوْلى ، وإنْ لم يعلم الأصل فهو موضع التوقف .
وهُنَا رجَّح ابن أبان – رحمه الله تعالى – الحظر ، وقيل : إنّه مذهب الكرخي رحمه الله تعالى .
وقال أبو هاشم رحمه الله تعالى : يستحيل ورود الخبريْن في الحظر والإباحة ، ولا يمكن تقدير المستحيل .
واختاره الكيا رحمه الله تعالى (1) .
تعقيب وترجيح :(1/227)
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليين وأدلتهم في ترجيح النهي على الإباحة يتضح لنا ما يلي :
1- أنّ المذهب الأول المرجِّح لِلنهي على الإباحة قد استند إلى أدلة مِن السُّنَّة وأقوال الصحابة - رضي الله عنهم - ، إضافةً إلى أنّ ترك المحظور فيه احتياط ، وليس كذلك فعل المباح .
2- أنّ المذهب الثاني المرجِّح لِلإباحة والمذهب الثالث المساوِي بينهما والمذهب الرابع المساوي ثم المسقِط لهما كُلّ مذهب منها لم تَسلَم أدلته مِن
(1) يُرَاجَع البحر المحيط 6/170 ، 171
الاعتراض والمناقشة .
3- أن المذهب الخامس المبنيّ على اعتبار الأصل نرى أنّ سليم – رحمه الله تعالى – رجَّح الحظر إنْ كان هو الأصل وأحد الخبريْن وافقه ، وإنْ لم يكن هناك أصْل لِلخبريْن المتعارضيْن فوجهان : الحظر والتساوي ..
أمّا الكيا رحمه الله تعالى : فقد رجّح نقيض الأصل .
وإنْ لم يعلم : فمنهم مَن رجَّح الحظر ، ومنهم مَن أحال ورود الخبريْن .
وعليه .. فعند سليم – رحمه الله تعالى – الترجيح دائر بَيْن الإباحة والحظر والتساوي ، وعند الكيا – رحمه الله تعالى – دائر بَيْن الإباحة والحظر واستحالة ورود الخبريْن .
وتلك الاستحالة - التي ذهب إليها أبو هاشم وتبعه الكيا رحمهما الله تعالى – فيها نظر ؛ لأنّ ورود الخبريْن أحدهما حاظر والآخَر مبيح وارد وجائز ، والمستحيل هو الورود في خبر واحد .
كما أنّ هذا المذهب لم يأتِ بأدلة تقوِّي وجْهته وترفعه إلى درجة المذاهب الأولى التي دعَّمَت وجْهتها بالأدلة .
4- ومما تقدَّم أرى : أنّ المذهب الأَوْلى بالقبول والاختيار هو المذهب الأول المرجِّح لِلنهي أو الحظر على الإباحة .
الوجه الرابع : ترجيح الحظر على الندب .
إذا تعارض خبران أحدهما فيه ندب والآخَر فيه حظر رجَّحْنَا الحظر ؛ لأنّ الندب لِتحصيل مصلحة لِمَا تقدَّم في الأمر ، والحظر لِدفع مفسدة ، ودفع المفاسد أَوْلى مِن جلب المصالح (1) .(1/228)
الوجه الخامس : ترجيح الندب على الإباحة .
إذا تعارض خبران أحدهما فيه ندب والآخَر فيه إباحة : فهل يرجح الندب أم لا ؟
(1) يُرَاجَع شرح الكوكب المنير 4/681
مذهبان لِلأصوليين في ذلك :
الأول : ترجيح الندب على الإباحة .
وهو ما عليه الأكثر ، واختاره أبو الخطاب الكلوذاني وابن السبكي والفتوحي وابن الهمام رحمهم الله تعالى .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الندب طلب لِلفعل غير جازم ، والإباحة تخيير بَيْن الفعل والترك ، والاحتياط يستدعي تقديم المطلوب – ولو ندباً – على المخير فيه بَيْن الفعل والترك .
الثاني : ترجيح الإباحة على الترك .
وهو لِبعض الأصوليين .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الإباحة موافقة لِلأصل ، والندب ليس كذلك ، وما كان موافقاً لِلأصل أَوْلى بالترجيح (1) .
والراجح عندي : ترجيح الندب على الإباحة لِلاحتياط ، وهو ما عليه أصحاب المذهب الأول .
الوجه السادس : ترجيح الوجوب على الندب .
إذا تعارض خبران أحدهما فيه إيجاب والآخَر فيه ندب رجَّحْنَا ما فيه الإيجاب على الندب ؛ لأنّ الواجب طلب الفعل جزماً ، والندب طلبه على غير جهة الجزم ، وما كان طلبه جازماً أَوْلى ؛ لأنّه أحوط في العمل مما ليس جازماً (2) .
الوجه السابع : ترجيح الخبر .
لقد تتبعتُ ترجيح الخبر عند الأصوليين فوجدتُ له صوراً
(1) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/681 ، 682 والمسودة /384 وجمع الجوامع مع شرح المحلي 2/369 وتيسير التحرير 3/159
(2) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/682 وتيسير التحرير 3/159 وجمع الجوامع مع شرح المحلي 2/369
ثلاث :
الصورة الأولى : ترجيح الخبر على الأمر .
إذا تعارض نصّان أحدهما خبر والآخَر أمر رجَّحْنَا الخبر ؛ لِثلاثة أوجُه :
الوجه الأول : أنّ مدلول الخبر متّحد ، ومدلول الأمر متعدد ، فيكون لِلوجوب أو الندب أو الإباحة ، وما كان متّحد المدلول أَوْلى مِن متعدده ؛ لِبُعْده عن الاضطراب .(1/229)
الوجه الثاني : أنّ الخبر أقوى في الدلالة ، ولِهذا امتنع نسخه ( على بعض الآراء ) ، بخلاف الأمر ، وما كانت دلالته أقوى كان هو الأَوْلى بالترجيح والتقديم .
الوجه الثالث : أنّ العمل بالأمر يلزمه محذور الكذب في الخبر مِن كلام الشارع ، وهو فوق المحذور اللازم مِن فوات مقصود الأمر ، ولذا كان الخبر أَوْلى بالترجيح مِن الأمر .
الصورة الثانية : ترجيح الخبر على النهي .
إذا تعارض نصّان أحدهما خبر والآخَر فيه نهي كان الراجح هو الخبر لأنّ مدلول النهي – كالأمر – متعدد ، ولأنّ الخبر أقوى منه في الدلالة .
الصورة الثالثة : ترجيح الخبر على المبيح .
إذا تعارض نصّان أحدهما خبر والآخَر مبيح كان الخبر هو الراجح ؛ لأنّه أقوى منه في الدلالة ، ولأنّ العمل بالمبيح يلزمه محذور الكذب في خبر الشارع ، وهو باطل مردود (1) .
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/260 والفائق 4/429 ومختصر التحرير /259 وشرح الكوكب المنير 4/660 وجمع الجوامع مع شرح المحلي 2/368
المبحث الثاني
الترجيح العائد إلى المنطوق
والمفهوم والحقيقة والمَجاز
وفيه مطالب :
المطلب الأول : ترجيح منطوق اللفظ ومفهومه .
المطلب الثاني : ترجيح الدلالات .
المطلب الثالث : ترجيح ما اشتمل على زيادة أو ألفاظ متغايرة .
المطلب الرابع : الترجيح العائد إلى الحقيقة والمَجاز والمشترك .
المطلب الأول
ترجيح منطوق (1) اللفظ ومفهومه (2)
لقد تعددت وجوه الترجيحات العائدة على منطوق اللفظ ومفهومه عند الأصوليين ..
وقد حصرتُ ما وقفتُ عليه منها فيما يلي :
الوجه الأول : ترجيح اللفظ الفصيح .
إذا تعارض خبران أحدهما لفظه فصيح والآخَر ركيك اللفظ كان الفصيح هو الراجح ؛ لاستبعاد صدور اللفظ الركيك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنّه كان أبلغ العرب وأفصحهم ، ولذا فلا يكون هذا لفظه - صلى الله عليه وسلم - .(1/230)
ومنهم مَن قَبِل الركيك وحمله على أنّ الراوي رواه بلفظه هو لا بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وعلى القول بقبول الركيك بناءً على المحمل السابق كان التعارض واقعاً ومِن ثَمّ الترجيح ، وإنْ لم نَقبَل الركيك فلا مجال لِلترجيح حينئذٍ .
واختلفوا في ترجيح الأفصح على الفصيح على قوْليْن :
القول الأول : أنّ الأفصح يقدَّم على الفصيح ؛ لأنّ الظن بأنّه لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقوى .
وهذا القول نسبه الفخر الرازي – رحمه الله تعالى – إلى بعضهم ، وضعَّفه .
(1) المنطوق : ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق .. يُرَاجَع مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/171
(2) المفهوم : ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق ..
يُرَاجَع مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/171
القول الثاني : أنّ الأفصح لا يقدَّم على الفصيح ؛ لأنّ البليغ قد يتكلم بالأفصح والفصيح ، لا سيّما إذا كان مع ذوي لغة لا يعرفون سوى تلك اللغة الفصيحة بقصد إفهامهم .
وهو ما عليه الكثرة ، واختاره الفخر الرازي والزركشي والفتوحي والهندي والبيضاوي وابن جزي والشوكاني رحمهم الله تعالى .
نَحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لَيْسَ مِنَ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَر } (1) ؛ فقد أراد - صلى الله عليه وسلم - " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَر " ، فقد أبدل اللام ميماً جرياً على لغة الأشعريين الذين خاطبهم بلغتهم (2) .
وهذه قمة الفصاحة حينما يراعي المتكلم أو الخطيب لغة مَن يخاطبهم .
الوجه الثاني : ترجيح المنطوق .
إذا تعارض خبران أحدهما دالّ على الحُكْم بمنطوقه والآخَر دالّ على الحُكْم بمفهومه كان الخبر الدّالّ على الحُكْم بمنطوقه هو الأَوْلى بالترجيح ؛ لأنّ المنطوق أقوى دلالةً على الحُكْم مِن المفهوم .
هذا الترجيح مبنيّ على أنّ المفهوم حُجَّة ، أمَّا على رأي مَن لا يحتجّون به فلا وجْه لِلترجيح حينئذٍ (3) .(1/231)
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاة } (4) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { رُفِعَ
(1) أَخْرَجَه عبد الرزاق وأحمد والطبراني عن كعب بن عاصم الأشعري - رضي الله عنه - ..
يُرَاجَع نصب الراية 2/461
(2) يُرَاجَع : المحصول 2/461 ، 462 والبحر المحيط 6/165 وشرح الكوكب المنير 4/677 ، 678 والفائق 4/421 والمنهاج مع شرحه 2/803 وشرح تنقيح الفصول /424 والإبهاج 3/155 ونهاية السول 3/212 وإرشاد الفحول /278 وغاية الوصول /143 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/366 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/425 وأدلة التشريع المتعارضة /149 ، 150 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /337 ، 338
(3) يُرَاجَع : المحصول 2/464 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/186
(4) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله : باب ما جاء في زكاة الإبل والغَنَم برقم ( 564 ) وأبو داود في كتاب الزكاة : باب في زكاة السائمة برقم ( 1340 ) وابن ماجة في كتاب الزكاة : باب =
الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ : عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيق } (1) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب الزكاة في كُلّ أربعين شاة شاةً ويدخل فيه مال اليتيم والصبي ، والخبر الثاني – عند الحنفية – يدلّ على عدم وجوب الزكاة في أموال الصبي واليتيم ؛ لأنّ رفع القلم يستلزم عدم وجوب الزكاة في أموالهم ، فالحُكْم فيهما متعارض .(1/232)
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول دلّ منطوقه على وجوب الزكاة في كُلّ أربعين شاة شاةً سواء أكانت لِصبيّ أو بالغ أو مِلْكاً لِيتيم أم غيره ، وأنّ الخبر الثاني دلّ بمفهومه على عدم وجوب الزكاة في مال الصبي واليتيم ، ولذا رجح ما دلّ على الحُكْم بمنطوقه – وهو الخبر الأول – على ما دلّ على الحُكْم بمفهومه وهو الخبر الثاني ، وكانت الزكاة واجبةً في مال الصبي واليتيم (2) .
الأثر الفقهي :
اختلف العلماء في حُكْم الزكاة في مال الصبي واليتيم على قوْليْن :
القول الأول : وجوبها في مالهما ، ويخرجها الولي مِن مالهما .
وهو قول الأئمة مالك والشافعي وأحمد - رضي الله عنهم - ، ورُوِي عن جماعة مِن أكابر الصحابة - رضي الله عنهم - .
واحتجّوا لِذلك : بحديث { مَنْ وَلِيَ يَتِيماً لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ وَلاَ يَتْرُكْهُ
= صدقة الغَنَم برقم ( 1795 ) .
(1) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله : باب ما جاء فيمَن لا يجب عليه الحدّ عن عَلِيّ كَرَّم الله وجْهه برقم ( 1343 ) ، والنسائي في كتاب الطلاق : باب مَن لا يقع طلاقه من الأزواج برقم ( 3378 ) وأبو داود في كتاب الحدود : باب في المجنون يَسْرِق أو يصيب حَدّاً برقم ( 3822 ) كلاهما عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(2) يُرَاجَع التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/186 ، 187
حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَة } (1) ..
وفي رواية { ابْتَغُوا فِي مَالِ الْيَتَامَى لاَ تَأْكُلْهَا الصَّدَقَة } (2)
وإنّما تأكله الصدقة بإخراجها ..
القول الثاني : لا زكاة في مالهما .
وهو قول الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - .
واحتجّ الحنفية : بقوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (3) وهُمَا ليسا مِن أهل التطهير ؛ إذ لا ذنْب لهما ..
وحديث { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَث ... } (4) .(1/233)
القول الثالث : تجب الزكاة في مالهما ، ولا تخرج حتى يبلغ الصبي .
وهو محكيّ عن ابن مسعود والثوري والأوزاعي - رضي الله عنهم - (5) .
والقول الأول – عندي – هو الراجح ؛ لأنّ الزكاة متعلقة بالمال المزكَّى الذي أعطى الله تعالى لِلفقراء حقّاً فيه ، والقول بعدم وجوبها في مال الصبي واليتيم مع تحقُّق النِّصَاب وحولان الحوْل يفتح باباً لِلتهرب مِن الزكاة .
وهذا القول الراجح يتفق مع ترجيح منطوق الحديث الأول .
الوجه الثالث : ترجيح مفهوم الموافقة (6) .
(1) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله : باب ما جاء في زكاة مال اليتيم برقم ( 580 ) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
(2) أَخْرَجَه البيهقي في سُنَنِه الكبرى 4/107 عن يوسف بن ماهك رحمه الله تعالى .
(3) سورة التوبة مِن الآية 103
(4) سبق تخريجه .
(5) يُرَاجَع : بدائع الصنائع 2/814 – 816 وبداية المجتهد 1/321 والمهذب مع المجموع 5/296 297 والمغني لابن قدامة 3/622 وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 2/412 – 415 ورحمة الأمة /74
(6) مفهوم الموافقة : أنْ يكون المسكوت عنه موافقاً لِلحُكْم لِلمنطوق .. يُرَاجَع شرح العضد 2/172
إذا تعارض خبران أحدهما دالّ على الحُكْم بمفهوم الموافقة والآخَر دالّ على الحُكْم بمفهوم المخالفة : فهل يرجح الخبر الدّالّ على الحُكْم بمفهوم المخالفة أم لا ؟
اختلف الأصوليون في ذلك على مذْهبيْن :
المذهب الأول : ترجيح مفهوم الموافقة .
وهو اختيار ابن الحاجب والزركشي والفتوحي وابن السبكي رحمهم الله تعالى .
وحُجّتهم : أنّ دلالة اللفظ على مفهوم الموافقة أظهر مِن دلالته على مفهوم المخالفة ، ولأنّ دلالة مفهوم الموافقة متفق على دلالتها على المسكوت ، وليس كذلك مفهوم المخالفة (1) .
المذهب الثاني : ترجيح مفهوم المخالفة .
وهو اختيار الآمدي والصفي الهندي رحمهما الله تعالى .
واحتجّ الآمدي لِذلك بدليليْن :(1/234)
الدليل الأول : أنّ مفهوم المخالفة يفيد التأسيس ، ومفهوم الموافقة يفيد التأكيد ، والتأسيس أصْل ، والتأكيد فرْع ، والأصل مقدَّم على الفرع ، ولذا رجَّحْنَا مفهوم المخالفة على مفهوم الموافقة .
الدليل الثاني : أنّ مفهوم الموافقة لا يتمّ إلا بتقدير فَهْم المقصود مِن الحُكْم في محلّ النطق وبيان وجوده في محلّ السكوت ، وأنّ اقتضاءه لِلحُكْم في محلّ السكوت أشدّ ..
وأمّا مفهوم المخالفة : فإنّه لا يتمّ إلا بتقديرات أربعة :
الأول : عدم فَهْم المقصود مِن الحُكْم في محلّ النطق .
(1) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/312 – 314 وبيان المختصر 3/387 ، 388 والبحر المحيط 6/169 وشرح الكوكب المنير 4/671 ، 672 وجمع الجوامع مع شرح المحلي مع حاشية البناني 2/368 وتيسير التحرير 3/156
الثاني : كونه غير متحقق في محلّ السكوت .
الثالث : كونه أَوْلى بإثبات الحُكْم في محلّ السكوت .
الرابع : أن يكون له معارِض في محلّ السكوت .
وما لا يتمّ إلا بتقديرات أربعة يكون أَوْلى مما لا يتمّ إلا بتقدير واحد ، فدَلّ ذلك على ترجيح مفهوم المخالفة (1) .
والراجح عندي : ترجيح مفهوم الموافقة ؛ لأنّه أظهر دلالةً على الحُكْم مِن مفهوم المخالفة .
الوجه الرابع : ترجيح ما يجمع النطق والدليل .
إذا تعارض خبران أحدهما يجمع النطق والدليل والآخَر وُجِد فيه أحدهما كان الخبر الأول الجامع بَيْن النطق والدليل هو الأَوْلى بالترجيح ؛ لأنّ جَمْعَه بينهما أشدّ تيقظاً لِلبيان (2) .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { الشُّفْعَةُ (3) فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَة } (4) ؛ فهذا الخبر آكد وأظهر في البيان ؛ لأنّه جمع بَيْن إثباتها في المشاع ونفيها في المقسوم ، فهو آكد مِن خبر يتضمن إثباتها في المشاع ويسكت فيه عن المقسوم (5) .(1/235)
(1) الإحكام لِلآمدي 4/263 بتصرف ويُرَاجَع الفائق 4/425 ، 426
(2) يُرَاجَع : اللمع /47 والواضح 5/87 وقواطع الأدلة 3/37 والعدة 3/1043
(3) الشفعة لغةً : الضَّمّ ..
وشرعاً : حقّ تملُّك قهريّ يثبت لِلشريك القديم على الشريك الحادث فيما ملك بعوض ..
الإقناع 2/235
(4) أَخْرَجَه النسائي في كتاب البيوع : باب ذِكْر الشفعة وأحكامها برقم ( 4625 ) عن أبي سلمة - رضي الله عنه - والبخاري في كتاب الشفعة : باب الشفعة فيما لم يُقْسَم برقم ( 2097 ) وأبو داود في كتاب البيوع : باب في الشفعة برقم ( 3049 ) كلاهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .
(5) الواضح 5/87 ويُرَاجَع العدة 3/1043
المطلب الثاني
ترجيح الدلالات (1)
لقد تعددت وجوه الترجيح العائدة إلى دلالات اللفظ عند الأصوليين ..
وقد حصرتُ ما وقفتُ عليه منها فيما يلي :
الوجه الأول : ترجيح ما يتوقف عليه ضرورة صدق المتكلم .
إذا تعارض خبران كلاهما دالّ على الحُكْم بجهة الاقتضاء (2) إلا أنّ العمل بأحدهما في مدلوله ضرورة صدق المتكلم والآخَر لِضرورة وقوع الملفوظ به عقلاً أو شرعاً كان الراجح هو الأول ؛ لأنّ ما يتوقف عليه صدق المتكلم أَوْلى مما يتوقف عليه وقوعه عقلاً أو شرعاً (3) ؛ نظراً إلى بُعْد الكذب في كلام الشارع .
الوجه الثاني : يرجح في الإيماء (4) ما لولاه لَكان في الكلام عبث وحشو .
إذا تعارض خبران كلاهما دالّ على الحُكْم بجهة التنبيه والإيماء إلا أنّ
(1) الدلالة : فَهْم أمر مِن أمر ، أو كون أمر بحيث يُفهَم منه أمر آخَر فُهِم بالفعل أو لم يُفهَم ..
يُرَاجَع : مدخل إلى علم المنطق /41 ، 42 والمنطق الواضح /11
(2) الاقتضاء : هو المضمر المقصود الذي يتوقف عليه صدق الكلام أو صحته شرعاً أو عقلاً ..
يُرَاجَع الإمام في دلالة المفهوم على الأحكام /72(1/236)
(3) مثال ما توقف عليه صحة الكلام عقلاً : قوله تعالى {وَسْئَلِ الْقَرْيَة} ؛ فالمقدَّر : أهْل ؛ أي واسأل أهل القرية .
وقوله :" أَعْتِقْ عَبْدَك عني بمائة " ؛ فالتقدير : بع مني عبدك وأعتقه عني .
ومثال ما توقف عليه صحة الكلام شرعاً : قوله - صلى الله عليه وسلم - { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأ } أي الإثم والمؤاخذة ..
يُرَاجَع شرح طلعة الشمس 1/257
(4) دلالة الإيماء : هي اقتران اللفظ بحُكْم مضاف إلى وصف مناسب يُفْهَم منه عِلِّيَّته لِلحُكْم ..
يُرَاجَع الإمام في دلالة المفهوم على الأحكام /84
أحدهما لو لم يقدَّر كون المذكور فيه علّةً لِلحُكْم المذكور معه كان ذِكْرُه عبثاً وحشواً والآخَر مِن قَبِيل ما رتب فيه الحُكْم بفاء التعقيب كان الخبر الأول هو الأَوْلى بالترجيح ؛ نظراً لأنّ نفي العبث والحشو مِن كلام الشارع أَوْلى (1) .
الوجه الثالث : ترجيح دلالة الاقتضاء على دلالة الإشارة (2) .
إذا تعارض نصّان أحدهما يدلّ على الحُكْم اقتضاءً والآخَر يدلّ عليه إشارةً كان الأَوْلى ترجيح دلالة الاقتضاء ؛ لأنّه مقصود إيراد اللفظ صدقاً أو حصولاً ، ويتوقف الأصل عليه .
الوجه الرابع : ترجيح دلالة الاقتضاء على دلالة الإيماء .
إذا تعارض نصّان أحدهما دالّ على الحُكْم اقتضاءً والآخَر دالّ عليه إيماءً أو تنبيهاً رجَّحْنَا دلالة الاقتضاء ؛ لأنّ الإيماء وإنْ كان مقصوداً بإيراد اللفظ لكنّ الأصل لم يتوقف عليه كما هو الحال في دلالة الاقتضاء .
الوجه الخامس : ترجيح دلالة الاقتضاء على المفهوم .
إذا تعارض نصّان أحدهما دالّ على الحُكْم اقتضاءً والآخَر دالّ عليه بالمفهوم كان الأول أَوْلى بالترجيح ؛ لأنّ الاقتضاء مقطوع بثبوته ، والمفهوم مظنون ثبوته ، ولأنّ ما يعترض دلالة الاقتضاء مِن المبطلات أقلّ مما يعترض المفهوم (3) .(1/237)
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/262 ، 263 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/312 – 314 وبيان المختصر 3/387 وشرح الكوكب المنير 4/670 ، 671 ومختصر التحرير /260 وجمع الجوامع 2/367 ، 368 وتيسير التحرير 3/156
(2) دلالة الإشارة : هي المعنى المستفاد مِن اللفظ غير مقصود لِلمتكلم ولا سيق الكلام لأجْله وليس بظاهر مِن كُلّ وجْه .. يُرَاجَع الإمام في دلالة المفهوم على الأحكام /79
(3) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/262 ، 263 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/312 – 314 وبيان المختصر 3/387 وشرح الكوكب المنير 4/670 ، 671 ومختصر التحرير /260 وجمع الجوامع 2/367 ، 368 وتيسير التحرير 3/156
الوجه السادس : ترجيح دلالة المطابقة (1) .
إذا تعارض خبران أحدهما دالّ على الحُكْم بدلالة المطابقة والآخَر دالّ عليه بدلالة الالتزام (2) كان الخبر الذي دلّ على الحُكْم بدلالة المطابقة هو الأَوْلى بالترجيح ؛ لأنّ دلالة المطابقة أقوى وأضبط مِن دلالة الالتزام (3) .
الوجه السابع : ترجيح النص (4) على الظاهر (5) .
إذا تعارض خبران أحدهما نصّ والآخَر ظاهر كان النص هو الراجح لأنّ العمل بالأوضح والأقوى أَوْلى وأَحْرَى ، ولأنّ فيه جمعاً بَيْن الدليليْن بحمل الظاهر على احتماله الآخَر الموافق لِلنص (6) .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب } (7) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَة } (8) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب قراءة الفاتحة في كُلّ صلاة ، والخبر الثاني منع المأموم مِن قراءتها ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول ظاهر في نفي الجواز عن كُلّ صلاة لا تقرأ فيها فاتحة الكتاب ، مقتدياً كان أم منفرداً ..
(1) دلالة المطابقة : هي دلالة اللفظ على تمام مسمّاه ..(1/238)
يُرَاجَع : شرح طلعة الشمس 1/254 وإيضاح المبهم /6 ، 7
(2) دلالة الالتزام : هي دلالة اللفظ على جزء معناه ..
يُرَاجَع : حقائق الوصول 1/411 ومدخل إلى علم المنطق /43 – 45 وإيضاح المبهم /6 ، 7
(3) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/262 وحاشية السعد على شرح العضد 2/213 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/195
(4) النص : ما يدلّ عليه اللفظ دلالةً قطعيّة .. يُرَاجَع جمع الجوامع 1/236
(5) الظاهر : ما احتمل معْنييْن أحدهما أظهر مِن الآخَر .. يُرَاجَع العدة 1/140
(6) يُرَاجَع : حاشية نسمات الأسحار /92 والتلويح 1/236 وتيسير التحرير 3/154 ، 155 ومسلّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/204
(7) سبق تخريجه .
(8) سبق تخريجه .
والخبر الثاني نصّ ؛ لأنّه أشدّ وضوحاً في إفادة معناه مِن الأول ، وحيث إنّه أشدّ وضوحاً كان أَوْلى بالترجيح (1) .
الوجه الثامن : ترجيح المفسر (2) على النص .
إذا تعارض خبران أحدهما مفسر والآخَر نصّ كان المفسر هو الأَوْلى بالترجيح والتقديم ؛ لأنّه ازداد وضوحاً على النص .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَة } (3) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلاَة } (4) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب على المستحاضة أنْ تتوضأ لِكُلّ صلاة ، والخبر الثاني أوجب عليها الوضوء لِوقت كُلّ صلاة حتى ولو تعددت الصلاة في هذا الوقت ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول مسوق في مفهومه ، فكان نصّاً ، ولكنّه يحتمل التأويل بحمل اللام على أنّها لِلتوقيت ، والخبر الثاني لا يحتمل التأويل ، فيكون مفسراً ، وما لا يحتمل التأويل مرجَّح على ما لا يحتمله ، ولذا رجَّحْنَا المفسر على النص (5) .
(1) يُرَاجَع كشف الأسرار لِلبخاري 1/130(1/239)
(2) المفسر : اسم لِلمكشوف الذي يُعرف المراد به مكشوفاً على وجْه لا يبقى معه احتمال التأويل ..
يُرَاجَع أصول السرخسي 1/165
(3) أَخْرَجَه ابن حبّان والبخاري والترمذي ومسلم عن السيدة عائشة – رضي الله عنها - بروايات متقاربة .. يُرَاجَع الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/89
(4) قال الزيلعي :" غريب جدّاً " ا.هـ .. نصب الراية 1/204
وقال الحافظ ابن حجر :" لم أجده هكذا ، وإنّما في حديث أُمّ سلمة أنّ امرأةً سألَتْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن المستحاضة فقال { تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وتَسْتَثْفِرُ بِثَوْبٍ وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَة } ..
الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/89
(5) يُرَاجَع : كشف الأسرار لِلبخاري 1/134 والتلويح 1/236 وعلم أصول الفقه لِلشيخ عبد الوهاب خلاّف /169
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في وضوء المستحاضة على قوْليْن :
القول الأول : الوضوء لِكُلّ صلاة .
نسبه ابن رشد (1) – رحمه الله تعالى – إلى أكثر فقهاء الأمصار ، واختاره الإمام مالك - رضي الله عنه - في أحد قوْليْه ، ورواية ثانية عند الحنابلة .
واحتجّوا : بحديث السيدة فاطمة بنت أبي حبيش (2) رضي الله عنها : " إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَة ؟ " فقال لها - صلى الله عليه وسلم - { لاَ ؛ إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي } (3) ..
وفي بعض روايات هذا الحديث { وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاَة } (4) .
واستدلّوا أيضاً : بحديث { الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَة } (5) .
(1) ابن رشد : هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي الوليد الغرناطي المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه أديب أصوليّ حكيم ، وُلِد بقرطبة سَنَة 520 هـ ..(1/240)
مِنْ مصنَّفاته : مختصر المستصفى ، بداية المجتهِد ونهاية المقتصِد .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمراكش سَنَة 595 هـ ونُقِلَت جثّته إلى قرطبة .
النجوم الزاهرة 6/54 والفتح المبين 2/38 ، 39
(2) السيدة فاطمة بنت أبي حبيش : هي الصحابية الجليلة أُمّ مُحَمَّد السيدة فاطمة بنت أبي حبيش قيس ابن المطلب الأسدية القرشية رضي الله عنها ، كانت مِن المهاجرات ، روى عنها عروة بن الزبير وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة وغيرهم رحمهم الله تعالى ..
الطبقات الكبرى 8/245 والاستيعاب 1/612 والإصابة 8/61
(3) أَخْرَجَه مسلم في كتاب الحيض : باب المستحاضة وغُسْلها وصَلاتها برقم ( 501 ) والترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب ما جاء في المستحاضة برقم ( 116 ) والنسائي في كتاب الطهارة : باب ذِكْر الأقراء برقم ( 212 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(4) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الوضوء : باب غَسْل الدم برقم ( 221 ) وابن ماجة في كتاب الطهارة وسننها : باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدّت أيام أقرائها برقم ( 616 ) وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 23016 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(5) سبق تخريجه .
وعلى هذا القول يجب على المستحاضة أنْ تتوضأ لِكُلّ صلاة ، فرضاً كانت أم نفلاً .
القول الثاني : الوضوء لِوقت كُلّ صلاة .
وهو ما عليه الحنفية والشافعية والحنابلة .
واحتجّوا : بحديث السيدة حمنة بنت جحش (1) رضي الله عنها : فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِوَقْتِ كُلِّ صَلاَة (2) .
واحتجّوا أيضاً : بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلاَة } (3) (4) .
وعلى هذا القول على المستحاضة أنْ تتوضأ لِدخول وقت الصلاة ثم تصلّي بهذا الوضوء ما شاءت داخل الوقت مِن نفل أو قضاء أو نذر إضافةً إلى الفرض الذي دخل وقته .(1/241)
والراجح عندي : أنْ تتوضأ المستحاضة لِوقت كُلّ صلاة ، وهو ما عليه أصحاب القول الأول ؛ ترجيحاً لِلخبر المفسَّر على النص .
الوجه التاسع : ترجيح المُحْكَم (5) على المفسر .
إذا تعارض نصّان أحدهما مُحْكَم والآخَر مفسر كان المُحْكَم هو الأَوْلى
(1) السيدة حمنة بنت جحش : هي الصحابية الجليلة السيدة حمنة بنت جحش بن رئاب بن يعمر الأسدية رضي الله عنها ، أخت أُمّ المؤمنين السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها ، شهدت أُحُداً فكانت تسقي العطشى وتَحمل الجرحى وتداويهم ، روى عنها ابنها عمران بن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنهم - ..
الطبقات الكبرى 3/116 والاستيعاب 1/585 والإصابة 7/586
(2) سبق تخريجه .
(3) سبق تخريجه .
(4) يُرَاجَع : بداية المجتهد 1/69 ، 70 وبدائع الصنائع 1/143 والمنهاج مع مغني المحتاج 1/111 وشرح الزركشي 1/422 ، 423 والكافي في فقه أهل المدينة المالكي 1/189 والإنصاف 1/377 379
(5) المُحْكَم : هو ما أُحْكِم المراد به عن احتمال النسخ والتأويل .. يُرَاجَع أصول السرخسي 1/165
بالتقديم والترجيح ؛ لأنّه لا يحتمل النسخ ، أمّا المفسر فإنّه يحتمله (1) .
الوجه العاشر : ترجيح الخفي (2) على المشكل (3) .
إذا تعارض نصّان أحدهما خفيّ والآخَر مشكل كان الخفي هو الراجح لأنّ الخفي يدلّ على معناه دلالة ظاهرة ، ولكن في انطباق معناه على بعض الأفراد نوع غموض وخفاء ، أمّا المشكل فإنّ اللفظ لا يدلّ بصيغته على المراد منه (4) .
الوجه الحادي عشر : ترجيح ما يدلّ على معناه بلا واسطة .
إذا تعارض خبران أحدهما دالّ على معناه بلا واسطة والآخَر دالّ على معناه بواسطة كان الأول هو الأَوْلى بالتقديم والترجيح ؛ لأنّ عدم الواسطة يفيد غلبة الظن .(1/242)
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا } (5) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِل } (6) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أفاد صحة إنكاح المرأة نفسها مطلقاً بلا واسطة ، والخبر الثاني أفاد عدم صحة إنكاح المرأة نفسها إلا بإذن وليّها ، فالحُكْمان متعارضان .
(1) يُرَاجَع : التلويح 1/236 وتيسير التحرير 3/154 والوجيز /201
(2) الخفي : ما خفي مراده بعارض غير الصيغة .. يُرَاجَع المنار مع حاشية نسمات الأسحار /92
(3) المشكل : الكلام الداخل في أشكاله بحيث لا يُعرَف إلا بدليل يتميز به ..
يُرَاجَع شرح إفاضة الأنوار /94
(4) يُرَاجَع : تيسير التحرير 3/155 وعلم أصول الفقه لِخلاّف /170 ، 171
(5) أَخْرَجَه مسلم في كتاب النكاح : باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت برقم ( 2545 ) والترمذي في كتاب النكاح عن رسول الله : باب ما جاء في استئمار البكر والثيب برقم ( 1026 ) والنسائي في كتاب النكاح : باب استئذان البكر في نفسها برقم ( 3208 ) ، كُلّهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(6) أَخْرَجه الترمذي في كتاب النكاح عن رسول الله : باب ما جاء لا نكاح إلا بوليّ برقم ( 1021 ) وابن ماجة في كتاب النكاح : باب لا نكاح إلا بوليّ برقم ( 1869 ) وأحمد في باقي مُسْنَد الأنصار برقم ( 23236 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول أفاد الحُكْم بلا واسطة ، والخبر الثاني لا يفيده إلا بواسطة الإجماع ؛ إذ يقال : إذا بطل عند عدم الإذن بطل بالإذن ؛ لِلاتفاق بَيْن الإماميْن أبي حنيفة والشافعي – رضي الله عنهما – على عدم الفصل ، ولذا رجح الأول ؛ لِدلالته على المعنى بلا واسطة (1) .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في صحة نكاح المرأة نفسها بلا وليّ على أقوال :(1/243)
القول الأول : لا يصحّ نكاحها .
وهو ما عليه الشافعية والحنابلة .
وقيَّد الإمام مالك - رضي الله عنه - عدم الصحة بأنْ كانت ذات شرف وجمال ، فإنْ لم تكن كذلك صحّ نكاحها .
واحتجّوا : بحديث { لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيّ } (2) وحديث { لاَ تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلاَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا } (3) وبالحديث المتقدم .
القول الثاني : يصحّ نكاحها .
وهو قول الإمام أبي حنيفة وزفر (4) والشعبي (5) والزهري - رضي الله عنهم - .
(1) يُرَاجَع : الإبهاج 3/231 ونهاية السول 3/176 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /354 ، 355
(2) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب النكاح عن رسول الله : باب ما جاء لا نكاح إلا بوليّ برقم ( 1020 ) وأبو داود في كتاب النكاح : باب في الوليّ برقم ( 1785 ) وابن ماجة في كتاب النكاح : باب لا نكاح إلا بوليّ برقم ( 1871 ) ، كُلّهم عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - .
(3) أَخْرَجَه ابن ماجة في كتاب النكاح : باب لا نكاح إلا بوليّ برقم ( 1872 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(4) زفر : هو أبو الهذيل زفر بن الهذيل بن قيس العنبري رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 110 هـ ، صَحِب الإمامَ أبا حنيفة - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 158 هـ .
طبقات الفقهاء /141 ، 142 وشذرات الذهب 1/243
(5) الشعبي : هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن معبد الشعبي رحمه الله تعالى ، وُلِد في إمرة عُمَر ابن الخطّاب - رضي الله عنه - وتَتلمَذ على كبار الصحابة ، كان مِنْ أَفقَه التابعين وأفاضلهم وأحد الحُفّاظ .. =
وشرط بعضهم في الزوج : أنْ يكون كفؤاً لها .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، منها : قوله تعالى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوف} (1) وقوله تعالى {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه} (2) ؛ فقد أضيف النكاح والفعل إليهنّ ، وذلك يدلّ على صحة عبارتهنّ وعقدهنّ لأنفسهنّ .(1/244)
ورُوِي أنّ فتاةً جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت :" يَا نَبِيَّ اللَّهِ .. إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي مِنِ ابْنِ أَخٍ لَهُ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ ، وَأَنَا لَهُ كَارِهَة " فجعل الأمرَ إليها ، فقالت :" لاَ رَغْبَةَ لِي عَمَّا صَنَعَ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُعْلِمَ النِّسَاءَ أَنْ لَيْسَ لِلآبَاءِ مِنَ الأَمْرِ شَيْء " (3) .
القول الثالث : لا يصحّ إنْ كانت بِكْراً .
وهو قول داود رحمه الله تعالى .
ويمكن الاحتجاج له : بحديث { الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا ، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا ، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } (4) .
القول الرابع : يصحّ نكاحها بإذن وليّها .
وهو قول أبي ثور وأبي يوسف رحمهما الله تعالى (5) .
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 104 هـ .
تاريخ بغداد 12/227 وطبقات الحُفّاظ /32
(1) سورة البقرة مِن الآية 234
(2) سورة البقرة مِن الآية 230
(3) أَخْرَجَه النسائي في كتاب النكاح : باب البكر يزوجها أبوها وهي كارهة برقم ( 3217 ) وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 23892 ) كلاهما عن السيدة عائشة رضي الله عنها ، وابن ماجة في كتاب النكاح : باب مَن زوَّج ابنتَه وهي كارهة برقم ( 1864 ) عن بريدة - رضي الله عنه -
(4) أَخْرَجَه مُسْلِم في كِتَاب النكاح : باب استئذان الثَّيِّب في النكاح بالنطق والبِكْر بالسكوت برقم ( 2546 ) والنسائي في كِتَاب النكاح : باب استئمار الأب البِكْرَ في نَفْسِهَا برقم ( 3212 ) وأحمد في مسند بني هاشم برقم ( 1799 ) ، كُلّهم عَنِ ابن عَبّاس رضي الله عَنْهُمَا .
(5) يُرَاجَع : رحمة الأمة /201 ، 202 والاختيار 3/90 ، 91 ومغني المحتاج 3/147 وشرح الزركشي 5/8 ، 9 وفقه السُّنَّة 2/83 – 86(1/245)
والأَوْلى عندي : ما عليه أصحاب القول الأول مِن عدم صحة نكاح المرأة نفسها بلا وليّ ، وترجيح خبر { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِل } (1) مع أنّه دالّ على معناه بواسطة لكنّه مقرون بالتأكيد ؛ ففي بعض رواياته { فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِل } (2) ، وما كان مقروناً بالتأكيد كان أَوْلى بالترجيح مِن الخبر الذي ليس كذلك كما سيأتي تفصيله - بإذن الله تعالى – في مبحث الترجيح العائد إلى الحُكْم .
الوجه الثاني عشر : ترجيح الدّالّ على المراد مِن وجْهيْن .
إذا تعارض خبران أحدهما دالّ على المراد مِن وجْهيْن والآخَر دالّ على المراد مِن وجْه واحد كان الراجح الخبر الدّالّ على المراد مِن وجْهيْن لأنّ الظن الحاصل منه أَوْلى مِن مقابله (3) .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَم } ، وعليه فلا شفعة فيما قُسِم ، ثُمّ قال - صلى الله عليه وسلم - { فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شَفْعَة } (4) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِه } (5) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول حصر الشفعة فيما لم يُقْسَمْ ، والخبر الثاني أطلقها ، ولذا فإنّها تشمل ما قُسِم وما لم يُقْسَمْ ، فالحُكْمان متعارضان .
(1) سبق تخريجه .
(2) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب النكاح عن رسول الله : باب ما جاء لا نكاح إلا بوليّ برقم ( 1021 ) وابن ماجة في كتاب النكاح : باب لا نكاح إلا بوليّ برقم ( 1869 ) وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 23074 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(3) يُرَاجَع : المحصول 2/463 والفائق 4/423 والإحكام لِلآمدي 4/262 وشرح تنقيح الفصول /424 وتقريب الوصول /483 والمنهاج مع شرحه 2/803 ، 804 ونهاية السول 3/176 والبحر المحيط 6/167
(4) سبق تخريجه .(1/246)
(5) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب النكاح عن رسول الله : باب ما جاء في الشفعة لِلغائب برقم ( 1290 ) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول دلّ على المراد بوجْهيْن ، والخبر الثاني دلّ على المراد بوجه واحد ، ولذا رجح الخبر الأول لأنّه دلّ على المراد بوجْهيْن (1) .
الأثر الفقهي :
أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة لِلشريك الذي لم يقاسم ..
واختلفوا في إثبات الشفعة لِلجار على قوْليْن :
القول الأول : لا شفعة له .
وهو قول أكثر أهل العلم ، واختاره مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن المنذر (2) - رضي الله عنهم - ، ورُوِي عن عمر وعثمان (3) وعمر بن عبد العزيز (4) وسعيد بن المسيب (5) وسليمان بن يسار (6) والزهري - رضي الله عنهم - .
(1) يُرَاجَع البحر المحيط 6/167
(2) ابن المنذر : هو أبو بَكْر محمد بن إبراهيم بن المُنْذِر الشافعي النيسابوري رحمه الله تعالى ، أحد أعلام الشّافعيّة ، بَلَغ درجة الاجتهاد المُطْلَق ..
مِنْ مصنَّفاته : الإجماع ، إثبات القياس ، الإشراف على مذاهب أهْل العِلْم .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 309 هـ ، وقيل : سَنَة 318 هـ .
الفتح المُبِين 1/179 ، 180
(3) عثمان : هو الصحابي الجليل ذو النّوريْن عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أُمَيَّة القرشي الأموي - رضي الله عنه - ، ثالث الخلفاء الراشدين ، وُلِد بَعْد عام الفيل بِسِتّ سنين ، مِن السابقين في الإسلام ، تَزَوَّج بِنْتَيْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 23 هـ .
الإصابة 4/456 - 459
(4) عُمَر بن عَبْد العزيز : هو أبو حفص عُمَر بن عَبْد العزيز بن مروان بن الحَكَم الأموي القرشي - رضي الله عنه - ، وُلِد سَنَة 60 هـ ، تَوَلَّى الخلافة سَنَة 99 هـ ، لُقِّب بـ" خامس الخلفاء الراشدين " ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بدمشق سَنَة 101 هـ .(1/247)
الأعلام 5/23 ، 24 والفتح المبين 1/99 - 101
(5) سعيد بن المسيّب : هو أبو مُحَمَّد سَعِيد بن المُسَيَّب بن حزن بن أَبِي وَهْب بن عَمْرو المخزومي القُرَشِي رحمه الله تعالى ، مِنْ كِبَار التابعين ، وُلِد لِسَنَتَيْن مَضَتَا مِنْ خِلاَفَة عُمَر - رضي الله عنه - على الأرجح ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة سَنَة 93 هـ .
طبقات ابن سَعْد 5/119 - 143 ووفيات الأعيان 2/375 - 378
(6) سليمان بن يسار : هو أبو أيوب سليمان بن يسار المدني رحمه الله تعالى ، مولى السيدة ميمونة =
واحتجّوا : بحديث { إِنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَم } (1) .
وهذا القول متفِق مع ترجيح الخبر الدّالّ على المراد مِن وجْهيْن على الخبر الدّالّ على المراد مِن وجْه واحد .
القول الثاني : تثبت له الشفعة .
وهو قول الإمام أبي حنيفة وابن شبرمة (2) والثوري وابن أبي ليلى (3) - رضي الله عنهم - وأصحاب الرأي .
واحتجّوا : بحديث { الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِه } (4) .
وبما رواه الحسن عن سمرة – رضي الله عنهما – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّار } (5) .
= زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أحد الفقهاء السبعة ، كان إماماً مجتهداً رفيع الذِّكْر ، روى عن كثير مِن الصحابة : كابن عمر وأبي هريرة وابن عباس والسيدة عائشة والسيدة أُمّ سلمة والسيدة ميمونة - رضي الله عنهم - ، وروى عنه الزهري وقتادة وعمرو بن دينار وغيرهم رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 103 هـ .
سير أعلام النبلاء 4/444 – 448 والنجوم الزاهرة 1/252 وشذرات الذهب 1/134
(1) سبق تخريجه .
(2) ابن شبرمة : هو القاضي أبو شبرمة عبد الله بن شبرمة بن الطفيل الضبي الكوفي رحمه الله تعالى ، روى عن أنس وأبي وائل والشعبي - رضي الله عنهم - ، وروى عنه إبراهيم بن أدهم وسفيان بن عيينة وشريك بن عبد الله - رضي الله عنهم - ..(1/248)
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالكوفة سَنَة 144 هـ .
سير أعلام النبلاء 6/140 وشذرات الذهب 1/159 ، 160
(3) ابن أبي ليلى : هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى بن بلال الأنصاري الكوفي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 74 هـ ، أخذ عن الشعبي رحمه الله تعالى ، وأخذ عنه سفيان الثوري – رحمه الله تعالى – وغيره ، كان فقيهاً مجتهداً ومِن أصحاب الرأي ، تولى الفتيا والقضاء بالكوفة ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالكوفة سَنَة 148 هـ .
وفيات الأعيان 1/571 والأعلام 1/914 والفتح المبين 1/105
(4) سبق تخريجه .
(5) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الأحكام عن رسول الله : باب ما جاء في الشفعة برقم ( 1289 ) وأبو داود في كتاب البيوع : باب في الشفعة برقم ( 3052 ) وأحمد في أول مسند البصريين برقم ( 19230 ) ، كُلّهم عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - .
وبما رواه أبو رافع - رضي الله عنه - أنّ سعد بن مالك - رضي الله عنه - (1) ساومه بيتاً له بأربعمائة مثقال ، فقال :" لَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول { الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِه (2) } لَمَا أَعْطَيْتُك " (3) (4) .
والأَوْلى عندي : إثبات الشفعة لِلجار ، وهو ما عليه أصحاب القول الثاني ؛ لأنّه موافق لِلأصل العامّ في حسن التعامل مع الجار والوصية به في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - { مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُه } (5) .
ولذا فإنّ بيع الدار لِغير الجار تورث الشحناء والبغضاء في قلب الجار الذي كان يريدها له ، وهو ما يتنافى مع الوصية به .
الوجه الثالث عشر : ترجيح معقول المعنى .
إذا تعارض خبران أحدهما معقول المعنى والآخَر غير معقول المعنى(1/249)
(1) سعد بن مالك : هو الصحابي الجليل أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد الخدري الأنصاري رضي الله عنهما ، استشهد أبوه في أُحُد ، مِن أعيان الصحابة وفقهائهم ، شهد غزوة الخندق وبيعة الرضوان وغيرهما ، روى عنه سالم بن عبد الله وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وغيرهم - رضي الله عنهم - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 74 هـ .
سير أعلام النبلاء 3/168 – 172 والنجوم الزاهرة 1/192 وشذرات الذهب 1/81
(2) الصَّقَب : الجوار والقُرْب .. يُرَاجَع المعجم الوجيز /367
(3) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الحيل : باب في الهبة والشفعة برقم ( 6463 ) وأحمد في مسند القبائل برقم ( 25297 ) .
(4) يُرَاجَع : المبسوط لِلسرخسي 14/90 ، 91 وكتاب الكافي 1/436 وحاشية الدسوقي 3/474 والإقناع 2/236 والبحر الرائق 8/156 والهداية شرح البداية 4/24 والمغني لابن قدامة 5/178 179
(5) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الأدب : باب الوصاة بالجار برقم ( 5556 ) ومسلم في كتاب البِرّ والصلة والآداب : باب الوصية بالجار والإحسان إليه برقم ( 4757 ) كلاهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، وابن ماجة في كتاب الأدب : باب حقّ الجوار برقم ( 3663 ) عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
كان الخبر معقول المعنى هو الأَوْلى بالترجيح ؛ لأنّه أَدْعَى إلى الانقياد وأَفْيَد بالقياس عليه ، وغير معقول المعنى وإنْ كان أكثر ثواباً – لِكونه أشقّ على النفس – إلا أنّ مقصود الشارع بشرع ما هو معقول أتمّ مما ليس معقولاً ؛ لِمَا تقدَّم (1) .
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/271 ، 272 والفائق 4/446 وجمع الجوامع مع شرح المحلي 2/369
المطلب الثالث
ترجيح ما اشتمل على
زيادة أو ألفاظ متغايرة
وفيه وجهان :
الوجه الأول : ترجيح ما كان مشتملاً على زيادة لم ينفها الآخَر .(1/250)
إذا تعارض خبران أحدهما مشتمل على زيادة لم ينفها الخبر الآخَر والآخَر ليس كذلك : فهل يرجح الخبر المشتمل على الزيادة أم لا ؟
خلاف بَيْن الأصوليين في ذلك على مذْهبيْن :
المذهب الأول : ترجيح ما كان مشتملاً على زيادة لم ينفها الخبر الآخَر .
وهو ما عليه كافة المحققين ، وهو قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ، واختاره إمام الحرمين وابن عقيل وأبو يعلى والآمدي والصفي الهندي رحمهم الله تعالى (1) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة :
الدليل الأول : أنّ انفراد بعض الناقلين بالاطلاع على مزيد ليس بدعاً ، والناقل قاطع بالنقل ، فلا يعارض قطعه ذهول غيره ، وإذا ظهرت عدالة الراوي ولم يعارض نقله نقل يعارضه فلا يسوغ اتهام مثبت في نقله لِعدم غيره ، وإذا كان كذلك كان ترجيح الخبر المشتمل على زيادة لم ينفها الخبر الآخَر هو الأَوْلى (2) .
(1) يُرَاجَع : البرهان 1/622 والواضح 5/91 والعدة 3/1037 والإحكام لِلآمدي 4/272 والفائق 4/430
(2) البرهان 1/622 بتصرف .
الدليل الثاني : أنّ العمل بالزيادة غير موجِب لإبطال منطوق الآخَر فيما دلّ عليه ، وأنّ العمل بالخبر غير المشتمل على زيادة يفضي إلى إبطال الزيادة التي في الخبر الآخَر ، وما لا يفضي إلى إبطال المنطوق أَوْلى مما يفضي إلى ذلك ، فدلّ ذلك على ترجيح الخبر المشتمل على زيادة لم ينفها الخبر الآخَر (1) .
المذهب الثاني : عدم ترجيح ما كان مشتملاً على زيادة لم ينفها الخبر الآخَر .
هذا المذهب نسبه إمام الحرمين – رحمه الله تعالى – إلى الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - .
ولم أقف له على دليل أو حُجَّة ، ولذا كان الأَوْلى بالترجيح هو المذهب الأول القائل بترجيح الخبر الذي اشتمل على زيادة لم ينفها الخبر الآخَر ؛ لِقوة أدلته ووجاهتها وسلامتها مِن المناقشة والاعتراض .(1/251)
مثاله : ما روته السيدة عائشة – رضي الله عنها – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبِّر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً (2) مع ما رواه أبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان (3) - رضي الله عنهم - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبِّر أربعاً تكبيرَه على الجنائز (4) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول حصر تكبيرات صلاة العيد في سبع
(1) يُرَاجَع الإحكام لِلآمدي 4/272
(2) أَخْرَجَه أبو داود في كتاب الصلاة : باب التكبير في العيديْن برقم ( 970 ) .
(3) حذيفة بن اليمان : هو الصحابي الجليل حذيفة بن حسيل بن جابر بن عمرو بن ربيعة العبسي رضي الله عنهما ، صاحِب سِرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصاحِب السِّرّ المكنون في تمييز المنافقين ، وأَعْلَم الصّحابة بالفِتَن وحوادث آخِر الزمان .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدائن سَنَة 36 هـ .
أسد الغابة 1/390 والفتح المبين 1/82 ، 83
(4) أَخْرَجَه أبو داود في كتاب الصلاة : باب التكبير في العيديْن برقم ( 973 ) وأحمد في أول مسند الكوفيين برقم ( 18901 ) .
في الأولى وخمس في الثانية ، والخبر الثاني حصرها في أربع فقط ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول مشتمل على زيادة لم ينفها الخبر الثاني ، ولذا كان أَوْلى بالترجيح والتقديم (1) .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في عدد تكبيرات العيديْن بَعْد تكبيرة الإحرام - التي اتفقوا عليها – على أقوال ثلاثة :
القول الأول : ثلاث في الأولى ، وثلاث في الثانية .
وهو قول الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - ، وهو مرويّ عن عمر وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وحذيفة - رضي الله عنهم - .
وحُجّتهم : رواية أبي موسى وحذيفة – رضي الله عنهما – المتقدمة .
القول الثاني : ستّ في الأولى ، وخمس في الثانية .
وهو قول الإماميْن مالك وأحمد رضي الله عنهما .(1/252)
القول الثالث : سبع في الأولى ، وخمس في الثانية .
وهو قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - .
وكلاهما محتجّ برواية السيدة عائشة – رضي الله عنها – المتقدمة ، وبما رُوِي عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنّه قال :" شَهِدْتُ الأَضْحَى وَالْفِطْرَ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَكَبَّرَ فِي الأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ ، وَفِي الآخِرَةِ خَمْساً قَبْلَ الْقِرَاءَة " (2) (3) .
(1) يُرَاجَع : الواضح 5/91 والعدة 3/1037 – 1039 والفائق 4/430 ، 431
(2) أَخْرَجَه الإمام مالك في كتاب النداء لِلصلاة : باب ما جاء في التكبير والقراءة في صلاة العيديْن برقم ( 390 ) .
(3) يُرَاجَع : بدائع الصنائع 2/700 والاختيار 1/86 ومغني المحتاج مع المنهاج 1/310 ، 311 وبداية المجتهد 1/277 ، 278 وحاشية الدسوقي 1/397 والمغني لابن قدامة 2/380 ، 381 ورحمة الأمة /62
والأَوْلى عندي : الإتيان بسبع تكبيرات في الأولى - خلاف تكبيرة الإحرام - وخمس في الثانية بَعْد تكبيرة القيام في صلاة العيديْن ، وهو ما عليه القول الثالث القريب مِن القول الثاني ؛ لأنّ كلاهما متفق على عدد تكبيرات الركعة الثانية بَعْد تكبيرة القيام ..
واختلفا في بيان " سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَة " في الركعة الأولى : هل تدخل فيها تكبيرة الإحرام ولذا تصبح التكبيرات بدونها ستّاً في الأولى - وهو ما عليه القول الثاني – أم لا تدخل فيها ولذا يصبح عدد التكبيرات سبعاً بدونها وهو ما عليه القول الثالث ؟
وحيث إنّ القول الثاني لم يدخِل تكبيرة القيام في العدد في الركعة الثانية كان عليهم أن لا يُدخِلوا تكبيرة الإحرام في العدد في الركعة الأولى .
الوجه الثاني : ترجيح ما رُوِي بألفاظ متغايرة وعبارات مختلفة .(1/253)
إذا تعارض خبران أحدهما منقول بألفاظ متغايرة وعبارات مختلفة والآخَر مرويّ بلفظ واحد : فهل يقدَّم الخبر الأول المروي بألفاظ مختلفة أم الخبر الثاني المروي بلفظ واحد ؟
خلاف بَيْن الأصوليين في ذلك على مذْهبيْن :
المذهب الأول : ترجيح ما رُوِي بألفاظ متغايرة وعبارات مختلفة .
وهو اختيار الباجي رحمه الله تعالى .
واحتجّ لِذلك : بأنّ الخبر الذي ورد بألفاظ متغايرة مختلفة اللفظ متفقة المعنى يمنع تأويلها على غير هذا الوجه ويؤمَن فيها الغلط والسهو والتحريف ، وليس كذلك ما رُوِي بلفظ واحد ؛ فإنّه يحتمل التغيير والتحريف ويجوز عليه السهو والغلط ، وتقديم ما لا يحتمل الغلط والسهو والتحريف أَوْلى ، ولذا رجَّحْنَا الخبر الذي ورد بألفاظ متغايرة وعبارات مختلفة (1) .
(1) يُرَاجَع إحكام الفصول /752
المذهب الثاني : احتمال ترجيح كُلّ واحد منهما .
وهو اختيار ابن عقيل رحمه الله تعالى .
واحتجّ لِذلك : بأنّ ما رُوِي بألفاظ متغايرة وعبارات مختلفة راجِع إلى أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله في مواضع مختلفة ، بَيْدَ أنّه لا يختلف والمعنى ، ولذا فإنّه يحتمل الترجيح ..
وأنّ ما رُوِي بلفظ واحد يدلّ على ضبط رواته لِعدم الاختلاف فيه ، ولذا فإنّه يحتمل الترجيح .
ويحتمل أنْ يكون رواه بعضهم بالمعنى والآخَر باللفظ ، فاختلفت ألفاظه مِن هذا الوجه (1) .
والراجح عندي : اختيار الباجي رحمه الله تعالى ؛ لأنّ ورود الخبر بألفاظ متغايرة يمنع تأويلها ويؤمَن فيه الغلط والسهو والتحريف .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرة - رضي الله عنه - (2) عندما أحرم خلف الصف وحده ثم تقدَّم فدخل في الصف { زَادَكَ اللَّهُ حِرْصاً ، وَلاَ تَعُد } (3) ولم يأمره بالإعادة ، وروى ابن عباس – رضي الله عنهما – أنّه وقف عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) ، وصلَّت العجوز وراء أَنَس - رضي الله عنه - (5) ..
(1) يُرَاجَع الواضح 5/99(1/254)
(2) أبو بكرة : هو الصحابي الجليل نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي - رضي الله عنه - ، أسلم يوم الطائف ، روى عنه بنوه الأربعة والحسن البصري ومحمد بن سيرين رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالبصرة سَنَة 52 هـ .
سير أعلام النبلاء 3/5 – 10 والاستيعاب 4/1614 ، 1614 وشذرات الذهب 1/58
(3) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الأذان : باب إذا ركع دون الصَّفّ برقم ( 741 ) والنسائي في كتاب الإمامة : باب الركوع دون الصَّفّ برقم ( 861 ) وأبو داود في كتاب الصلاة : باب الرجل يركع دون الصَّفّ برقم ( 585 ) .
(4) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الأذان : باب ميمنة المسجد والإمام برقم ( 686 ) .
(5) يُرَاجَع الأُمّ 1/169
مع ما رواه وابصة بن معبد - رضي الله عنه - (1) أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه صلى خلف الصف وحده فقال له { أَعِدْ صَلاَتَكَ ؛ فَإِنَّهُ لاَ صَلاَةَ لِمُنْفَرِد } (2) ..
وَجْه التعارض : أنّ الروايات الثلاث الأولى لم تأمر المصلِّي المنفرد خلف الصف بالإعادة ، والرواية الأخيرة أمرته بالإعادة ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ عدم إعادة المصلِّي المنفرد خلف الصف وردت بألفاظ متغايرة ، وليس كذلك الأمر بالإعادة ، ولذا رجَّحْنَا ما ورد بألفاظ متغايرة (3) .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في حُكْم مَن صلّى منفرداً خلف الصف على قوْليْن :
القول الأول : تبطل صَلاته ، وعليه الإعادة .
وهو قول الإمام أحمد والنخعي والحسن بن صالح وإسحاق (4) وابن المنذر - رضي الله عنهم - .
(1) وابصة بن معبد : هو الصحابي الجليل أبو سالم وابصة بن معبد بن مالك بن عُبَيْد الأسدي - رضي الله عنه - ، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم سَنَة 9 هـ ، سَكَن الكوفة ثُمّ تحوَّل إلى الرقة ، روى عنه ولداه سالم وعمرو وعبد الله بن حبيب رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالرقة حوالي سَنَة 60 هـ .(1/255)
التاريخ الكبير 8/187 ، 188 والاستيعاب 1/495 والإصابة 6/590
(2) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الصلاة عن رسول الله : باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده برقم ( 213 ) وأبو داود في كتاب الصلاة : باب الرجل يصلي وحده خلف الصف برقم ( 584 ) وابن ماجة في كتاب الصلاة وإقامة السُّنَّة فيها : باب صلاة الرجل خلف الصف وحده برقم ( 994 ) .
(3) يُرَاجَع إحكام الفصول /752
(4) إسحاق : هو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي رحمه الله تعالى ، المعروف بـ" ابن راهويه " ، جالَس الإمامَ أَحْمَدَ - رضي الله عنه - ، وناظَر الإمامَ الشّافعيَّ - رضي الله عنه - ثُمّ صار مِن أتباعه وجَمَع كُتُبَه ، حَفِظ سبعين ألْف حديث ..
مِن مصنَّفاته : المُسْنَد ، التفسير .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بنيسابور سَنَة 238 هـ .
واحتجّوا : برواية وابصة بن معبد - رضي الله عنه - المتقدمة .
القول الثاني : لا تبطل صَلاته ، ولا يلزمه الإعادة .
وهو قول الحسن ومالك والأوزاعي والشافعي - رضي الله عنهم - وأصحاب الرأي .
واحتجّوا : بحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - المتقدم ، وفيه " لم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة " ، ولذا فيُكرَه وقوف المأموم فرداً .
وقد ندب البعض إعادة الصلاة له ؛ جمعاً بَيْن الدليليْن ، على أنّ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ضعَّف رواية وابصة - رضي الله عنه - ، وكان يقول في القديم :" لو ثبت لَقُلْتُ به " (1) .
ومما تقدَّم يتضح أنّ القول الثاني متفق مع ترجيح ما رُوِي بألفاظ متغايرة وعبارات مختلفة .
والراجح عندي في هذا المقام : حَمْل رواية وابصة - رضي الله عنه - على مَن تَعَمَّد الصلاة خلف الصف مع إمكانية الصلاة فيه ، أمّا مَن لم يجد فرجةً في الصف فصلَّى خلفه فصَلاته صحيحة مع الكراهة ، وإنْ أعاد فلا بأس ، لكنْ على سبيل الندب .(1/256)
(1) يُرَاجَع : المغني لابن قدامة 2/211 ، 212 ومغني المحتاج مع المنهاج 1/247 وبدائع الصنائع 1/159
المطلب الرابع
الترجيح العائد إلى
الحقيقة (1) والمَجاز (2) والمشترك (3)
لقد تعددت وجوه الترجيح العائدة إلى الحقيقة والمَجاز والمشترك عند الأصوليين ..
وقد حصرتُ ما وقفتُ عليه منها فيما يلي :
الوجه الأول : ترجيح الحقيقة على المَجاز .
إذا تعارض خبران أحدهما حقيقة والآخَر مَجاز فإمّا أنْ يكون المَجاز غالباً أو غير غالب ..
فإنْ كان المَجاز الذي هو مقابل الحقيقة غير غالب : قُدِّمَت الحقيقة عليه ؛ لِتبادر الذهن إليها ، ولأنّها مستقلّة بالإفادة ، دون المَجاز ؛ فإنّه يحتاج إلى القرينة (4) .
وإنْ كان المجاز هو الغالب : فقد اختلف الأصوليون في ترجيح الحقيقة عليه على مذاهب ثلاثة :
المذهب الأول : ترجيح المَجاز الغالب .
(1) الحقيقة : هي كُلّ لفظ إذا استُعمِل فيما هو موضوع له .. يُرَاجَع الكليات /361
(2) المَجاز : هو اللفظ المستعمل في غير ما وُضِع له لِعلاقة مع قرينة مانعة مِن إرادة المعنى الحقيقي .. يُرَاجَع البلاغة الواضحة /71
(3) المشترك : ما وُضِع لِمعنى كثير بوضع كثير : كالعين .. يُرَاجَع التعريفات /274
(4) يُرَاجَع : المحصول 2/462 ومختصر المنتهى 2/312 وبيان المختصر 3/385 والفائق 4/22 وشرح المنهاج 2/804 وتقريب الوصول /83 والبحر المحيط 6/166 وإرشاد الفحول /278 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/426
وهو ما عليه الكثرة ، واختاره الفخر الرازي وأبو يوسف والزركشي رحمهم الله تعالى (1) .
واحتجّوا لِذلك : بأنّنا لو قلنا :" فلان بحر " فإنّه يكون أقوى دلالةً مِن قولنا :" فلان سخيّ " ، فالأول " بحر " مَجاز غالب ، وهو أظهر دلالةً مِن الحقيقة ، ولذا رجح عليها .
المذهب الثاني : ترجيح الحقيقة .
وهو قول الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - .(1/257)
ويمكن الاحتجاج لهم : بأنّ الحقيقة دلالتها أظهر مِن المَجاز ، ولذا رجحت على المَجاز .
مناقشة هذا الدليل :
ويمكن مناقشة هذا الدليل وتلك الحُجَّة : بأنّ الحقيقة فعلاً دلالتها أظهر مِن المَجاز ، أمّا إذا عارضت المَجاز الغالب فإنّه حينئذٍ هو الأظهر دلالة .
المذهب الثالث : الوقف .
نسبه البعض (2) إلى جمهور الشافعية .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الحقيقة التي تعارض المَجاز الغالب كُلّ واحد منهما دلالته على الحُكْم أظهر ، ولذا فإنّهما متساويان ، ويجب التوقف في ترجيح أحدهما حتى تظهر قرينة مرجِّحة .
والراجح عندي : ما عليه المذهب الأول مِن ترجيح المَجاز الغالب على الحقيقة ؛ لأنّه أظهر دلالةً مِن الحقيقة (3) .
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/462 والبحر المحيط 6/166 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/426
(2) يُرَاجَع : أصول الفقه لِلشيخ زهير 4/426 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /343
(3) يُرَاجَع : المحصول 2/462 والبحر المحيط 6/166 وإرشاد الفحول /278 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/426 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /343 وأدلة التشريع المتعارضة /150 151
الوجه الثاني : ترجيح إحدى الحقيقتيْن .
وترجيح إحدى الحقيقتيْن له صور ، وقفتُ على ثلاث منها :
الصورة الأولى : ترجيح الحقيقة الأظهر في المعنى .
إذا تعارض نصّان كُلّ واحد منهما حقيقة وكان أحدهما أظهر في المعنى مِن الحقيقة الأخرى – إمّا لِكثرة ناقليه أو لِكون ناقله أقوى وأتقن – كانت الحقيقة الأظهر في المعنى هي الأَوْلى بالترجيح .
الصورة الثانية : ترجيح الحقيقة المتفَق عليها .
إذا تعارض نصّان كُلّ منهما حقيقة وكانت إحداهما متفَقاً عليها والأخرى مختلف فيها كانت الحقيقة المتفَق عليها هي الأَوْلى بالتقديم والترجيح .
الصورة الثالثة : ترجيح الحقيقة الأشهر .
إذا تعارض نصّان كُلّ منهما حقيقة إلا أنّ إحداهما أشهر مِن الحقيقة الأخرى رجَّحْنَا الحقيقة الأشهر على ما دونها (1) .(1/258)
الوجه الثالث : ترجيح الحقيقة الشرعية .
إذا تعارض نصّان أحدهما دالّ على الحُكْم بطريق الحقيقة الشرعية والآخَر دالّ على الحُكْم بطريق الحقيقة اللغوية : فهل نرجِّح الحقيقة الشرعية أم لا ؟
هنا تفصيل وجيه لِلفخر الرازي – رحمه الله تعالى – حينما فرَّق بَيْن اللفظ الذي صار شرعيّاً وبَيْن اللفظ الذي لم يثبت ذلك فيه ..
أمّا اللفظ الذي صار شرعيّاً : فحَمْله على معناه الشرعي أَوْلى مِن حَمْله على المعنى اللغوي .
وأمّا اللفظ الذي لم يثبت ذلك فيه : كأنْ دلّ أحد اللفْظيْن بوضعه
(1) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/667 والمحصول 2/462 والإحكام لِلآمدي 4/261 والفائق 4/422 ومختصر التحرير /259
الشرعي على حُكْم واللفظ الثاني بوضعه اللغوي على حُكْم وليس لِلشرع في هذا اللفظ اللغوي عُرْف شرعيّ : فترجيح الحقيقة اللغوية حينئذٍ أَوْلَى .
واحتجّ لِترجيح الحقيقة اللغوية في هذه الحالة : بأنّ هذا اللفظ اللغوي إذا لم ينقله الشرع فهو لغويّ عرفيّ شرعيّ ، وأمّا الثاني فهو شرعيّ وليس بلغويّ ولا عرفيّ ، والنقل على خلاف الأصل ، فكان اللغوي أَوْلى (1) .
الوجه الرابع : ترجيح الحقيقة العرفية .
إذا تعارض خبران أحدهما دالّ على الحُكْم بطريق الحقيقة اللغوية والآخَر دالّ على الحُكْم بطريق الحقيقة العرفية كان الخبر الدّالّ على الحُكْم بطريق الحقيقة العرفية هو الأَوْلى بالترجيح (2) .
الوجه الخامس : ترجيح المَجاز على المَجاز .
إنّ ترجيح المَجاز على المَجاز له صور عديدة ، حصرتُ منها ما يلي :
الصورة الأولى : ترجيح الأشهر .
إذا تعارض مَجازان أحدهما العلاقة بَيْنه وبَيْن الحقيقة أشهر مِن العلاقة بَيْن المَجاز الآخَر والحقيقة كان المَجاز الأول أَرْجَح .
الصورة الثانية : الترجيح بقوة مصححه .(1/259)
إذا تعارض مَجازان مصحح أحدهما أقوى مِن مصحح الآخَر – كإطلاق اسم الكُلّ على الجزء وبالعكس – فإنّ العلاقة المصححة في الأول أقوى مِن العلاقة المصححة في الثاني .
الصورة الثالثة : الترجيح بالقرب إلى الحقيقة .
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/462 وبيان المختصر 3/386 والإحكام لِلآمدي 4/261 ، 262 وشرح المنهاج 2/804 ومختصر المنتهى 2/362 والبحر المحيط 6/167 والفائق 4/422 وشرح الكوكب المنير 4/668 والوجيز لِلكراماستي /202 ومختصر التحرير /259 وتيسير التحرير 3/157 وإرشاد الفحول /278
(2) يُرَاجَع شرح المنهاج 2/804
إذا تعارض مَجازان وكان أحدهما أَقْرَب إلى الحقيقة والآخَر ليس كذلك رَجَّحْنَا الأول : كحمل نفي الذات على نفي الصحة ؛ فإنّه أقرب إليه مِن نفي الكمال .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب } (1) ؛ فنفي الصلاة له محملان : إمّا أنْ يُحمَل على عدم صحة الصلاة ، وإمّا أنْ يُحمَل على نفي الكمال أو الفضيلة ، ولَمّا كان نفي الصحة أقرب إلى الحقيقة كان هو الراجح عن نفي الكمال أو الفضيلة (2) .
الصورة الرابعة : الترجيح برجحان دليله .
إذا تعارض مَجازان ودليل أحدهما راجح على دليل المَجاز الآخَر – وذلك بأنْ تكون القرينة الصارفة في أحدهما قطعيّةً وفي الآخَر غير قطعية – كان المَجاز الأول هو الراجح .
الصورة الخامسة : الترجيح بشهرة الاستعمال .
إذا تعارض مَجازان أحدهما مشهور الاستعمال والآخَر ليس مشهور الاستعمال كان المَجاز المشهور الاستعمال هو الأَوْلى بالترجيح على المَجاز غير المشهور الاستعمال (3) .
الوجه السادس : ترجيح المَجاز على المشترك .
إذا تعارض نصّان أحدهما مَجاز والآخَر مشترك كان المَجاز هو الراجح على المشترك ؛ لِوجوه عدة :
الأول : أنّ الاشتراك يخلّ بالتفاهم ، والمَجاز ليس كذلك .
(1) سبق تخريجه .
(2) يُرَاجَع شرح المنهاج 2/804(1/260)
(3) يُرَاجَع : المحصول 2/463 ومختصر المنتهى 2/312 وبيان المختصر 3/385 ، 386 وشرح الكوكب المنير 4/663 ، 664 والإحكام لِلآمدي 4/261 والبحر المحيط 6/166 وتيسير التحرير 3/157 ومسلّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/205
الثاني : أنّ المشترك يحتاج إلى قرينتيْن بحسب معْنييْه ، والمَجاز يحتاج إلى قرينة واحدة .
نَحْو : " العين " ؛ فإنّه لفظ مشترك لفظيّ بَيْن الباصرة والجاسوس والجارية ، فلا يُستعمَل في واحدة منها إلا بقرينة .
ونَحْو : " الأسد " ؛ فإنّه يحتاج إلى قرينة في استعماله في الرجل الشجاع ، ولا يحتاج إليها عند استعماله في الحيوان المفترس .
الثالث : أنّ المَجاز أغلب وقوعاً في لغة العرب مِن المشترك ، والأغلب في الوقوع هو الراجح مما هو دونه (1) .
الوجه السابع : ترجيح ما قَلّ مَجازه .
إذا تعارض نصّان أحدهما كثر مَجازه والآخَر قلّ مَجازه كان الراجح هو الذي قلّ مَجازه ؛ لأنّ كثرة المَجاز تُضْعِفُه عن مقابله (2) .
الوجه الثامن : ترجيح غير المشترك .
إذا تعارض نصّان أحدهما مشترك والآخَر غير مشترك بل متّحد المدلول كان غير المشترك هو الراجح ؛ لاتحاد مدلوله وبُعْده عن الخَلَل .
الوجه التاسع : ترجيح مشترك قلّ مدلوله .
إذا تعارض نصّان أحدهما مشترك قلّ مدلوله والآخَر مشترك كثُر مدلوله كان الذي قلّ مدلوله هو الأَوْلى بالترجيح ؛ لِقلة اضطرابه وقُرْب استعماله فيما هو المقصود منه (3) .
الوجه العاشر : ترجيح المتواطئ (4) .
(1) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/664 ، 665 وبيان المختصر 3/386 والإحكام لِلآمدي 4/261 والوجيز لِلكراماستي /202 وإرشاد الفحول /279
(2) يُرَاجَع شرح الكوكب المنير 4/669
(3) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/260 ومختصر التحرير /259 وشرح الكوكب المنير 4/660
(4) المتواطئ : هو الكُلِّيّ الذي يكون حصول معناه وصدقه على أفراده الذهنية والخارجية على السوية .. يُرَاجَع التعريفات /257(1/261)
إذا تعارض نصّان أحدهما متواطئ والآخَر مشترك كان المتواطئ هو الأَوْلى بالتقديم والترجيح (1) .
الوجه الحادي عشر : ترجيح الصريح (2) على الكناية (3) .
إذا تعارض خبران أحدهما صريح في الحُكْم – أيْ دالّ على الحُكْم دلالةً بَيِّنَةً وظاهرةً – والآخَر دالّ عليه بطريق الكناية كان الأول – وهو الصريح – هو الأَوْلى بالترجيح ؛ لِظهور المراد منه ظهوراً بَيِّناً (4) .
الوجه الثاني عشر : ترجيح المستغني عن الإضمار .
إذا تعارض خبران أحدهما دالّ على المراد المستغني عن الإضمار والآخَر دالّ على المراد المفتقر إلى الإضمار كان الخبر الأول المستغني عن الإضمار هو الأَوْلى بالترجيح ؛ لأنّ الإضمار خلاف الأصل (5) .
(1) يُرَاجَع شرح الكوكب المنير 4/660
(2) الصريح : هو ما ظهر المراد منه لِكثرة استعماله فيه .. يُرَاجَع الكليات /562
(3) الكناية : هي ما خفي استعماله فيه وفي غيره .. يُرَاجَع الكليات /562
(4) يُرَاجَع : تيسير التحرير 3/155 وشرح إفاضة الأنوار مع حاشية نسمات الأسحار /141 – 143 والوجيز لِلكراماستي /201 وشرح طلعة الشمس 1/252
(5) يُرَاجَع : المحصول 2/462 والعدة 3/1035 ، 1036 والمنهاج مع شرحه 2/803 ، 804 وتقريب الوصول /481 وإحكام الفصول /747 وشرح تنقيح الفصول /424 والبحر المحيط 6/167 وإرشاد الفحول /278
الفصل الخامس
الترجيح العائد إلى المدلول (1)
أو أمر خارجيّ
وفيه مباحث :
المبحث الأول : الترجيح العائد إلى الناقل والمثبت والنافي .
المبحث الثاني : الترجيح العائد إلى الحُكْم .
المبحث الثالث : الترجيح العائد إلى أمر خارجيّ .
(1) أيْ ما دلّ عليه اللفظ مِن الأحكام الخمسة التي هي : الإباحة ، والكراهة ، والحظر ، والندب ، والوجوب .. يُرَاجَع شرح الكوكب المنير 4/679
المبحث الأول
الترجيح العائد إلى
الناقل والمثبت والنافي
وفيه مطالب :
المطلب الأول : ترجيح الناقل عن البراءة الأصلية .(1/262)
المطلب الثاني : ترجيح المثبت لِلحُكْم .
المطلب الثالث : ترجيح المثبت لِلطلاق والعتاق .
المطلب الرابع : ترجيح النافي لِلحدّ .
المطلب الأول
ترجيح الناقل عن البراءة الأصلية
إذا تعارض خبران موجب أحدهما البراءة الأصلية وموجب الثاني النقل عنها والإتيان بحُكْم جديد : فهل يرجح الناقل عن البراءة أم المقرر لها ؟
خلاف بَيْن الأصوليين على مذاهب :
المذهب الأول : ترجيح الناقل عن البراءة الأصلية ( الرافع لها ) .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الشيرازي وابن السمعاني والغزالي وابن قدامة وابن جزي والصفي الهندي وابن السبكي والفتوحي والقرافي والشوكاني رحمهم الله تعالى (1) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الخبر الناقل عن البراءة الأصلية لو رجَّحْنَاه لَكان متأخراً عنها فيكون ناسخاً لها ، أمّا لو رجَّحْنَا الخبر المبقي لِلبراءة الأصلية لأدى إلى تكرار النسخ ؛ لأنّه يقدَّر متأخراً فيكون ناسخاً لِلناقل لِلبراءة ، والناقل قد نسخ البراءة الأصلية لأنّه غير مقرر لها ، فيلزم مِن ذلك النسخ مرتيْن ، والأصل عدم النسخ وعدم تكراره ، وحيث إنّ تكرار النسخ خلاف الأصل كان ترجيح ما لم يتكرر النسخ فيه هو الأَوْلى ، وهو ما يتحقق في الخبر الناقل عن البراءة الأصلية .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نسلِّم أنّ ترجيح الخبر المقرر لِلبراءة
(1) يُرَاجَع : اللمع /47 والتبصرة /397 وقواطع الأدلة 3/39 والمنخول /448 وروضة الناظر /415 وتقريب الوصول /484 والفائق 4/433 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/368 وشرح الكوكب المنير 4/687 وشرح تنقيح الفصول /424 ، 425 وإرشاد الفحول /279(1/263)
الأصلية فيه تكرار لِلنسخ ؛ بل ليس فيه نسخ بالمرة ؛ لأنّ النسخ هو رفع الحُكْم الشرعي بطريق شرعيّ متراخٍ عنه ، والبراءة الأصلية ليست حُكْماً شرعيّاً ، ولذا رجح المقرر على الناقل ؛ لأنّه لا يلزم منه إلا نسخ واحد : وهو نسخ الحُكْم الناقل فقط .
الدليل الثاني : أنّ الخبر الناقل عن البراءة الأصلية يفيد فائدةً جديدةً ، أمّا الخبر المقرر لِلبراءة الأصلية فإنّما هو إقرار لها ولا يفيد فائدةً جديدةً ، وما يفيد فائدةً جديدةً أَوْلى بالترجيح والتقديم مما لا يفيد فائدةً جديدة .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ ترجيح الخبر الناقل يجعل الخبر المبقي لِلبراءة الأصلية غير مفيد ، وإذا كان الخبر المبقي لِلبراءة الأصلية غير مفيد كان لغواً ، وهو باطل .
الجواب عن هذه المناقشة :
ويمكن ردّ هذه المناقشة : بأنّا لا نسلِّم بأنّ الخبر المبقي أو المقرر لِلبراءة الأصلية غير مفيد ؛ بل إنّ فائدة الخبر في هذه الحالة نقْل الحُكْم مِن طريق العقل ( البراءة الأصلية ) إلى طريق الشرع ، وبذا يكون الحُكْم – حينئذٍ – مستفاداً مِن الشرع وليس مِن البراءة الأصلية (1) .
المذهب الثاني : ترجيح المقرر لِلبراءة الأصلية .
وهو اختيار الفخر الرازي والبيضاوي رحمهما الله تعالى .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ المقرر لِحُكْم الأصل ( البراءة الأصلية ) متأخر عن الناقل ؛ لأنّه لو لم يتأخر المقرر لِحُكْم الأصل عن الناقل لَمَا كانت له فائدة ؛ لِوروده حيث لا يحتاج إليه ، ولو جعل المقرر وارداً على الناقل
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/465 والفائق 4/433 – 435 والإبهاج 3/233 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/428 وأدلة التشريع المتعارضة /156 ، 157 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية /223 – 225 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /361 ، 362
لَكان وارداً حيث يحتاج إليه ، ولذا كان الخبر المقرر لِلبراءة الأصلية هو الأَوْلى بالترجيح (1) .(1/264)
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ العقل لا يستقلّ بمعرفة كون الفعل شرعيّاً ، وإنّما يصير شرعيّاً بتقريره ، فلم يكن وارداً حيث لا يحتاج إليه ؛ لأنّ الجواز المكيَّف بكونه شرعيّاً غير معلوم بالعقل وإنْ كان أصْله معلوماً به .
الوجه الثاني : أنّ كون المقرر وارداً حيث لا يحتاج إليه لا يعارض مفسدة زيادة النسخ ، فكان الناقل أَوْلى ؛ دفعاً لِزيادة المفسدة (2) .
المذهب الثالث : أنّ العمل بالناقل ليس ترجيحاً .
وهو قول القاضي عبد الجبار رحمه الله تعالى .
واستدلّ لِذلك بدليليْن :
الدليل الأول : أنّا نعمل بالناقل ترجيحاً له على المقرر على أنّه ناسخ ، والعمل بالناسخ ليس فيه خيار ولا ترجيح ، بل هو واجب العمل به ، ولذا وجب إخراجه عن باب الترجيح .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا نسلِّم أنّ العمل بالناسخ ليس فيه خيار ولا ترجيح ، لكنْ لا نسلِّم أنّ الناقل عن حُكْم الأصل متأخر وناسخ ، وإنّما نقول : الظاهر ذلك مع جواز خلافه ، فهو إذَنْ داخِل في باب الأَوْلى وهذا ترجيح .
الدليل الثاني : أنّه لو كان العمل بالناقل ترجيحاً لَوجب العمل بالمقرر عند
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/464 ، 465 والمنهاج مع شرحه 2/806 والإبهاج 3/233 ونهاية السول 3/178 ومناهج العقول 3/176
(2) الفائق 4/435 ، 436 بتصرف .
عدم الناقل ؛ لأنّ هذا حُكْم كُلّ خبريْن رجَّحْنَا أحدهما على الآخَر ، ومعلوم أنّه لولا الخبر الناقل لَكنّا إنَّمَا نَحكم بموجب الخبر الآخَر لِدلالة العقل لا لأجْل الخبر .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّه لولا الخبر الناقل لَعلمنا بموجب الخبر الآخَر لأجْله ، ألاَ ترى أنّا نجعله حُكْماً شرعيّاً ؟ ولذا لا يصحّ رفعه إلا بما يصحّ به النسخ ، ولولا أنّه بَعْد ورود الخبر صار شرعيّاً وإلا لَمَا كان كذلك (1) .(1/265)
والأَوْلى عندي : ما عليه الجمهور أصحاب المذهب الأول القائلون بترجيح الناقل عن البراءة الأصلية ؛ لإفادته فائدةً جديدةً ، وليس كذلك ترجيح المقرر لِحُكْم الأصل .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ } (2) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { هَلْ هُوَ إِلاَّ بَضْعَةٌ مِنْك } (3) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب الوضوء مِن مسّ الذَّكَر ، والخبر الثاني لم يوجبه مِن مسّ الذَّكَر ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول رافِع لِلبراءة الأصلية وناقل عنها ، والخبر الثاني مقرر لِلبراءة الأصلية ومبقٍ لها ، ولذا كان الناقل عن البراءة الأصلية أَوْلى بالترجيح عند الجمهور (4) .
(1) المحصول 2/466 بتصرف ويُرَاجَع الفائق 4/436
(2) سبق تخريجه .
(3) سبق تخريجه .
(4) يُرَاجَع : الإبهاج 3/233 ونهاية السول 3/178 وشرح الكوكب المنير 4/688 ومناهج العقول 3/176 وشرح المحلي 2/368 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/427 ، 428 وأدلة التشريع المتعارضة /157 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/223 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /361
المطلب الثاني
ترجيح المثبت لِلحُكْم
إذا تعارض خبران أحدهما مثبت لِلحُكْم والآخَر نافٍ له : فهل يقدَّم المثبت أم النافي ؟
خلاف بَيْن الأصوليين في ذلك على مذاهب :
المذهب الأول : ترجيح المثبت لِلحُكْم .
وهو ما عليه جمهور الفقهاء (1) والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية والمالكية ، وهو قول الإمام الشافعي والإمام أحمد رضي الله عنهما ، ونُقِل عن الإمام مالك - رضي الله عنه - (2) ، واختاره الشيرازي وابن السمعاني وابن عقيل وأبو يعلى والغزالي في " المنخول " وابن قدامة وابن الحاجب والزركشي وابن السبكي والفتوحي والشوكاني رحمهم الله تعالى (3) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، أذكر منها ما يلي :(1/266)
الدليل الأول : أنّ الخبر المثبت لِلحُكْم معه زيادة علم وإفادة ؛ لأنّه يخبر عن حقيقة ، أمّا النافي لِلحُكْم فقد اعتمد الظاهر ، والخبر الذي معه زيادة علم وإفادة مقدَّم على الخبر الذي دونه في ذلك ، ولذا رجَّحْنَا المثبت على
(1) يُرَاجَع البرهان 2/1200
(2) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/682 وكشف الأسرار لِلبخاري 3/198 وإحكام الفصول /753 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/314 ، 315
(3) يُرَاجَع : التبصرة /367 واللمع /47 وقواطع الأدلة 3/38 ، 39 والواضح 5/90 والعدة 3/1036 والمنخول /434 وروضة الناظر /415 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/314 والبحر المحيط 6/172 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/368 وشرح الكوكب المنير 4/682 والمسودة /310 وإرشاد الفحول /279
النافي (1) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نسلِّم أنّ الخبر المثبت لِلحُكْم فيه زيادة علم وإفادة عن الخبر النافي ؛ لأنّ كُلّ واحد منهما نفى ما أثبته الآخَر (2) .
الجواب عن هذه المناقشة :
ويمكن ردّ هذه المناقشة : بأنّنا في الجرح والتعديل نقدِّم قول الجارح على قول المعدِّل ؛ لأنّه يخبر عن حقيقة ، والمعدِّل يخبر معتمِداً على الظاهر ، فكذلك المثبت الذي هو إخبار عن حقيقة ، وهذه في ذاتها زيادة فائدة ليست في الخبر الثاني ( النافي ) (3) .
الدليل الثاني : أنّ الخبر المثبت لِلحُكْم يفيد التأسيس لإخباره عن حقيقة ، والخبر النافي له يفيد التأكيد لاعتماده الظاهر ، وما يفيد التأسيس أَوْلى مما يفيد التأكيد ، فدلّ ذلك على ترجيح الخبر المثبت لِلحُكْم على الخبر النافي له ، وهو المدَّعَى (4) .
الدليل الثالث : أنّ الخبر المثبت لِلحُكْم مفيد لِلحُكْم الشرعي إجماعاً ، والنافي له لا يفيد الحُكْم إجماعاً ، وما أفاد الحُكْم إجماعاً أَوْلى بالترجيح مما لا يفيده إجماعاً ، فدلّ ذلك على ترجيح الخبر المثبت على الخبر النافي .
مناقشة هذا الدليل :(1/267)
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ تقرير ما كان على ما كان مِن الشارع أكثر ، والإلحاق بالأكثر أَوْلى بالترجيح والتقديم .
(1) يُرَاجَع : الواضح 5/90 ، 91 وقواطع الأدلة 3/38 ، 39 والتبصرة /397 وروضة الناظر /415 ، 416 وكشف الأسرار لِلبخاري 3/198 وجمع الجوامع مع شرح المحلي 2/368
(2) يُرَاجَع إحكام الفصول /754
(3) يُرَاجَع كشف الأسرار لِلبخاري 3/198
(4) يُرَاجَع المرجع السابق .
الجواب عن هذا الوجه :
ويمكن ردّ هذا الوجه مِن المناقشة : بأنّا لا نسلِّم المقدمة - وهي أنّ الغالب مِن الشارع تقرير ما كان على ما كان – حتى نرجِّح الأكثر ، حتى وإنْ سلَّمْنا جدلاً بذلك فإنّ المثبت فيه زيادة علم وإفادة ، ولذا فهو أَوْلى بالترجيح .
الوجه الثاني : أنّ التقرير على العدم الأصلي حُكْم شرعيّ ، وإذا كان كذلك فلا وجْه لِترجيح المثبت عليه ، فلا فَرْق بينهما حينئذٍ .
الجواب عن هذا الوجه :
ويمكن ردّ هذا الوجه مِن المناقشة : بأنّا سلَّمْنَا أنّ التقرير على العدم الأصلي حُكْم شرعيّ ، لكنْ لا نسلِّم تَساوِي الخبريْن كما قدَّمْنَا في الجواب السابق .
الوجه الثالث : أنّ الحُكْم غير مقصود بالذات ، وإنّما الحكمة التي تترتب عليه ، وطالما أنّ الحكمة التي تترتب على الحُكْم هي المقصودة بالذات فإنّها متحققة في النفي كما هو الحال في الإثبات ، فلا وجْه لِترجيح أحدهما على الآخَر .
الجواب عن هذا الوجه :
ويمكن ردّ هذا الوجه مِن المناقشة : بأنّا سلَّمْنَا عدم الفَرْق بينهما مِن هذا الوجه ، لكنْ لا نسلِّم مساواتهما على الإطلاق ؛ لأنّ المثبت فيه زيادة علم وإفادة عن النافي (1) .
المذهب الثاني : ترجيح النافي لِلحُكْم .
وهو ما عليه بعض الحنفية (2) ، واختاره الآمدي رحمه الله تعالى .
واحتجّوا لِذلك : بأنّنا لو قدَّرْنَا تقدُّم النافي على المثبت لَكانت فائدته
(1) يُرَاجَع الفائق 4/440 ، 441(1/268)
(2) يُرَاجَع : كشف الأسرار لِلبخاري 3/198 وتيسير التحرير 3/161 ومسلّم الثبوت 2/206
التأكيد ، ولو قدَّرْنَا تأخُّره لَكانت فائدته التأسيس ، وما يفيد التأسيس أَوْلى مما يفيد التأكيد ، فدلّ ذلك على ترجيح النافي على المثبت (1) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نسلِّم أنّ تقدُّم النافي على المثبت يفيد التأكيد ؛ وإنّما يفيد كون النفي شرعيّاً ، وهو غير حاصل قبل (2) .
المذهب الثالث : أنّ النافي إنْ نقل لفظاً معناه النفي فَهُمَا سواء ، وإنْ لم يكن كذلك – بل أثبت أحدهما فعلاً أو قولاً ونفاه الآخَر بقوله ولم يقله أو لم يفعله – فالمثبت هو المقدَّم .
وهو اختيار إمام الحرمين الجويني رحمه الله تعالى .
ووجهة هذا المذهب : أنّ الخبر إنْ نفى صريحاً – قولاً أو فعلاً – فالمثبت أَوْلى ؛ لِزيادة العلم ، وإنْ لم ينفِ صريحاً فَهُمَا سواء ؛ لأنّ كُلّ واحد منهما مثبت ، فلا وجْه لِترجيح أحدهما على الآخَر (3) .
المذهب الرابع : أنّهما متساويان .
وهو ما عليه بعض المالكية ، واختاره الغزالي والباجي رحمهما الله ، وهو قول القاضي عبد الجبار وعيسى بن أبان رحمهما الله تعالى (4) .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الخبر المثبت معه زيادة علم وإفادة ، والخبر المعارِض النافي متأكد بالأصل ، ولذا فَهُمَا سواء ؛ لأنّ كُلّ واحد منهما مثبت ونافٍ ، فلا يقدَّم أحدهما على الآخَر .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا نمنع التساوي بينهما ؛ فإنّ اشتمال المثبت
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/271 ومنتهى السول 2/75
(2) يُرَاجَع الفائق 4/440
(3) يُرَاجَع : البرهان 2/1200 ، 1201 والبحر المحيط 6/173 والفائق 4/437
(4) يُرَاجَع : إحكام الفصول /753 ، 754 والمستصفى /378 والبحر المحيط 6/172 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار 3/198 والمنار مع حاشية نسمات الأسحار /195(1/269)
على زيادة علم راجح ؛ إذ نسيان ما جرى والذهول عنه أقرب مِن تخيل ما لم يجرِ جارياًَ (1) .
المذهب الخامس : أنّهما متساويان في صورتيْن : إنْ كان النفي مِن جنس ما يُعرَف بدليله أو كان مما يشتبه حاله لكنْ لَمّا عرف أنّ الراوي النافي اعتمد دليل المعرفة ، وإلا فالمقدَّم هو الإثبات .
وهو اختيار النسفي رحمه الله تعالى .
ونَحْوه اختيار صدر الشريعة رحمه الله تعالى ، وهو : التساوي إنْ كان النفي يُعرَف بالدليل ، وإلا فيقدَّم الإثبات (2) .
المذهب السادس : أنّهما متساويان إنْ أخبر النافي عن سبب علمه بالنفي .
وهو اختيار الكيا الهراسي – رحمه الله تعالى – وبعض الحنابلة (3) .
والراجح عندي : ما عليه الكثرة مِن ترجيح المثبت على النافي ( وهُمْ أصحاب المذهب الأول ) ؛ لِقوة أدلتهم ، وضَعْف أدلة المقابلين ..
غَيْر أنّي أرى تقييد هذا المذهب بما قيَّده به الزركشي – رحمه الله تعالى – في قوله :" وتَحصَّل أنّ المثبت يتقدم إلا في صور :
أحدها : أنْ ينحصر النفي فيضاف الفعل إلى مجلس واحد لا تكرار فيه ، فحينئذٍ يتعارضان .
الثانية : أنْ يكون راوي النفي له عناية به ، فيقدَّم على الإثبات كما قُدِّم حديث جابر - رضي الله عنه - في تَرْك الصلاة على قَتْلَى أُحُد (4) على حديث عقبة
(1) الفائق 4/439 بتصرف .
(2) يُرَاجَع : المنار مع شرح إفاضة الأنوار وحاشية نسمات الأسحار /195 ، 196 والتنقيح مع التوضيح 2/229
(3) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/684 والمسودة /311 والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد /199
(4) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الجنائز : باب الصلاة على الشهيد برقم ( 1257 ) والترمذي في كتاب الجنائز عن رسول الله : باب ما جاء في تَرْك الصلاة على الشهيد برقم ( 957 ) والنسائي في كتاب الجنائز : باب تَرْك الصلاة عليهم برقم ( 1929 ) .
ابن عامر - رضي الله عنه - (1) أنّه صلَّى عليهم (2) ؛ لأنّ أباه كان مِن جملة القتلى .(1/270)
الثالثة : أنْ يستند نفي النافي إلى علم " (3) .
مثاله : ما رواه بلال - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت وصلى (4) ، مع ما رواه أسامة - رضي الله عنه - (5) أنّه لم يصلّ (6) ، وكذا ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما (7) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أثبت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - داخل البيت ( الكعبة ) ، والخبر الثاني نفى ذلك ، فَهُمَا متعارضان .
(1) عقبة بن عامر : هو الصّحابيّ الجليل أبو حمّاد عقبة بن عامر بن عبس الجهنيّ - رضي الله عنه - ، مِن السابقين في الإسلام والهجرة ، شارَك في جَمْع القرآن ، أحد فقهاء الصحابة ، شَهِد فتْح مِصْر ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 58 هـ .
الطبقات الكبرى 4/342 ، 343
(2) أَخْرَجَه البخاري في كتاب المغازي : باب غزوة أُحُد برقم ( 3736 ) ومسلم في كتاب الفضائل : باب إثبات حوض نَبِيِّنَا وصِفَاته برقم ( 4249 ) وأبو داود في كتاب الجنائز : باب الميت يصلى على قبره بَعْد حين برقم ( 2806 ) .
(3) البحر المحيط 6/174 بتصرف .
(4) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الجمعة : باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى برقم ( 1101 ) والترمذي في كتاب الحجّ عن رسول الله : باب ما جاء في الصلاة في الكعبة برقم ( 800 ) وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 22794 )
(5) أسامة : هو الصحابي الجليل أبو محمد أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي رضي الله عنهما ، الحِبّ بن الحِبّ ، أمّره النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبْل موته على جيش فيه أبو بكر وعمر وأجلّة الصحابة - رضي الله عنهم - وهو ابن ثماني عشرة سَنَة ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 54 هـ .
الطبقات الكبرى 4/61 – 72 والإصابة 1/49 والنجوم الزاهرة 1/145
(6) أَخْرَجَه النسائي في كتاب مناسك الحجّ : باب موضع الصلاة مِن الكعبة برقم ( 2868 ) وأحمد في مسند الأنصار برقم ( 20759 ) .(1/271)
(7) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الصلاة : باب قول الله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَهِمَ مُصَلّى} برقم ( 383 ) والترمذي في كتاب الحجّ عن رسول الله : باب ما جاء في الصلاة في الكعبة برقم ( 800 ) والنسائي في كتاب مناسك الحجّ : باب التكبير في نواحي الكعبة برقم ( 2864 ) .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول مثبت لِصَلاته - صلى الله عليه وسلم - داخل البيت ، والخبر الثاني نافٍ لها ، والمثبت هو الأَوْلى بالترجيح (1) .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في حُكْم الصلاة داخل الكعبة على أقوال :
القول الأول : عدم جواز الصلاة مطلقاً داخل الكعبة .
وهو قول محمد بن جرير (2) وأصبغ بن الفرج المالكي (3) – رحمهما الله تعالى – وجماعة مِن الظاهرية ، وحُكِي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
واحتجّوا : بما رواه ابن عباس – رضي الله عنهما – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت ودَعَا في نواحيه كُلِّهَا ولَمْ يُصَلّ حتى خرج ، فلَمّا خرج ركع ركْعتيْن في قبل الكعبة وقال { هَذِهِ الْقِبْلَة } (4) .
وروى نَحْوَه أسامة بن زيد رضي الله عنهما (5) .
(1) يُرَاجَع : العدة 3/1036 والواضح 5/90 ، 91 والفائق 4/338 ، 439 وبيان المختصر 3/392 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/315 وشرح الكوكب المنير 4/682 – 684 والبحر المحيط 6/172 وبداية المجتهد 1/81
(2) ابن جرير الطبري : هو أبو جَعْفَر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالِب الطَّبَرِي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 224 هـ ، استوطَن بغداد وأقام بها ، ورَحَل إلى الآفاق في طلب العِلْم .
مِنْ مصنَّفاته : جامِع البيان في تفسير القرآن ، تاريخ الأُمَم والملوك ، تهذيب الآثار .
البداية والنهاية 11/156 - 158
(3) أصبغ بن الفرج : هو أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه محدِّث مناظر ، مِن أفقه المالكية وكبارهم بمصر ..(1/272)
مِن مصنّفاته : آداب القضاء ، غريب الموطأ ، الرد على أهل الأهواء .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 225 هـ .
وفيات الأعيان 1/79 والفتح المبين 1/151 ، 152
(4) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الصلاة : باب قول الله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَهِمَ مُصَلّى} برقم ( 383 ) .
(5) أَخْرَجَه مسلم في كتاب الحجّ : باب استحباب دخول الكعبة لِلحاجّ وغيره في الصلاة فيها برقم =
القول الثاني : جواز صلاة النفل داخل الكعبة دون الفرض .
وهو قول الإماميْن مالك وأحمد رضي الله عنهما .
وحُجّتهم : حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة (1) وبلال بن رباح - رضي الله عنهم - فأغلقها عليه ومكث فيها ..
قال :" فَسَأَلْتُ بِلاَلاً حِينَ خَرَجَ : مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ " فَقَالَ : " جَعَلَ عَمُوداً عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُوداً عَنْ يَمِينِهِ وَثَلاَثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ ثُمَّ صَلَّى " (2) .
القول الثالث : جواز الصلاة مطلقاً داخل الكعبة .
وهو قول جمور العلماء والأئمة أبي حنيفة والشافعي والثوري وابن حزم الظاهري - رضي الله عنهم - .
واحتجّوا : بحديث ابن عمر رضي الله عنهما (3) .
والقولان الثاني والثالث متفقان مع ترجيح الخبر المثبت لِلحُكْم على الخبر النافي .
والراجح عندي : جواز الصلاة مطلقاً – فرضاً كان أم نفلاً – داخل
= ( 2364 ) والنسائي في كتاب مناسك الحجّ : باب موضع الصلاة في البيت برقم ( 2860 ) وأحمد في مسند الأنصار برقم ( 20759 ) .
(1) عثمان بن طلحة : هو الصحابي الجليل عثمان بن طلحة بن أبي طلحة عبد الله العبدري الحجبي - رضي الله عنه - ، روى عنه عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير وغيرهم - رضي الله عنهم - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بمكة سَنَة 42 هـ .(1/273)
الطبقات الكبرى 5/448 وأسد الغابة 1/747 والنجوم الزاهرة 1/122
(2) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الصلاة : باب الصلاة بَيْن السواري في غير جماعة برقم ( 475 ) ومسلم في كتاب الحجّ : باب استحباب دخول الكعبة لِلحاجّ وغيره والصلاة فيها برقم ( 2358 ) والنسائي في كتاب القِبلة : باب مقدار ذلك برقم ( 741 ) .
(3) يُرَاجَع : المجموع لِلنووي 3/197 وبداية المجتهد 1/81 وشرح العمدة 4/500 ، 501 والمحلى 4/80 ، 81
الكعبة ، إلا إنْ كان المصلِّي فرضاً إماماً أو مأموماً ، ولا بُدّ أنْ يكون منفرداً ؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلّ إماماً داخل الكعبة .
والذي ذهبتُ إليه يُعَدّ قولاً وسطاً جامعاً لِلقوْليْن الثاني والثالث ، مع تقييد القول الثالث ؛ لأنّ حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أثبت صلاةً لِلنبي - صلى الله عليه وسلم - داخل الكعبة لكنّها لم تكن فرضاً ، ولم يثبت أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إماماً داخل الكعبة .
أمّا المنفرد : فليس هناك ما يمنعه مِن أنْ يصلِّي فرضاً أو قضاءً أو نذراً داخل الكعبة ؛ لِعدم وجود دليل في ذلك ، وإنّما وُجِد دليل على جواز الصلاة داخل الكعبة : وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - { وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدا } (1) ..
وفي ذلك يقول ابن حزم رحمه الله تعالى :" وباطن الكعبة أطيب الأرض وأفضلها ، فهي أفضل المساجد الفرض والنافلة " (2) ا.هـ .
ومثاله أيضاً : ما رواه ابن عمر – رضي الله عنهما – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَقنت (3) ، مع ما رواه أنس - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت (4) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأولى نفى القنوت مِن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والخبر الثاني أثبته ، فَهُمَا متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول نافٍ لِلقنوت ، والخبر الثاني مثبت له(1/274)
(1) أَخْرَجَه البخاري في كتاب التيمم : باب وقول الله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبا} برقم ( 323 ) والنسائي في كتاب الغُسْل والتيمم : باب التيمم بالصعيد برقم ( 429 ) كلاهما عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما ، والترمذي في كتاب السير عن رسول الله : باب ما جاء في الغنيمة برقم ( 1474 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) المحلى 4/81
(3) أَخْرَجَه ابن عديّ 2/9
(4) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الجمعة : باب القنوت قبل الركوع وبعده برقم ( 946 ) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة : باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين برقم ( 1086 ) والدارمي في كتاب الصلاة : باب في القنوت بعد الركوع برقم ( 1550 ) .
والمثبت مقدَّم على النافي (1) .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في حُكْم القنوت في الصلاة على أقوال :
القول الأول : ندب القنوت في صلاة الصبح .
وهو ما عليه المالكية والشافعية .
واحتجّوا لِذلك : بحديث أنس - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت شهراً يدعو عليهم ثُمّ تركه ، فأمّا في الصبح فلم يَزَلْ يَقنت حتى فارَق الدنيا (2) .
ويرى المالكية أنّه سِرّ وقَبْل الركوع ، أمّا الشافعية فيرون أنّه جَهْر وبَعْد الركوع .
وهذا القول متفق مع ترجيح المثبت لِلحُكْم .
القول الثاني : ندب القنوت في صلاة الوتر دون الصبح .
وهو ما عليه الحنفية والحنابلة ، وهو مرويّ عن ابن عباس وابن عمرو وابن مسعود وأبي الدرداء (3) - رضي الله عنهم - .
واحتجّوا لِذلك : بقول ابن مسعود - رضي الله عنه - :" مَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ إِلاَّ شَهْراً لَمْ يَقْنُتْ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَه " (4) .
وبما رواه عَلِيّ وابن مسعود وابن عباس وأُبَيّ بن كعب - رضي الله عنهم - أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يَقنت في الثالثة قَبْل الركوع (5) .(1/275)
(1) يُرَاجَع : الواضح 5/91 والعدة 3/1036 ، 1037
(2) أَخْرَجَه البيهقي في سننه الكبرى 2/201 والدارقطني 2/39 والضياء في المختارة 6/129
(3) أبو الدرداء : هو الصحابي الجليل أبو الدرداء عويمر بن مالك بن قيس الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بدمشق سَنَة 32 هـ .
طبقات الفقهاء /228 والنجوم الزاهرة 1/21
(4) أَخْرَجَه الطبراني في الكبير 10/69 والبزّار 5/15 والشاشي 1/336
(5) حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أَخْرَجَه ابن أبي شيبة والدارقطني والخطيب البغدادي ، وحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أَخْرَجَه أبو نعيم ، وحديث أُبَيّ بن كعب - رضي الله عنه - أَخْرَجَه النسائي وابن ماجة ..
يُرَاجَع تخريجات هذه الروايات في نصب الراية 2/74
القول الثالث : ندب القنوت في الوتر في النصف الأخير مِن رمضان .
وهو قول ابن سيرين (1) والزهري ومالك والشافعي - رضي الله عنهم - ، ورواية عن أحمد - رضي الله عنه - ، ورُوِي ذلك عَنْ عَلِيّ وأُبِيّ رضي الله عنهما .
واحتجّوا : بما رواه الحسن - رضي الله عنه - أنّ عُمَر - رضي الله عنه - جمع الناسَ على أُبَيّ ابن كعب - رضي الله عنه - فكان يصلِّي بهم عشرين ركعةً ولا يَقنت إلا في النصف الثاني (2) .
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنّه لا يقنت إلا في النصف الأخير مِن رمضان (3) (4) .
والقول الأول مثبت لِلقنوت في صلاة الصبح ، والقولان الآخَران ينفيانه ، ولذا كان هو الأَوْلى عندي بالقبول والترجيح .
(1) ابن سيرين : هو أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري البصري رحمه الله تعالى ، مولى أَنَس ابن مالِك - رضي الله عنه - ، وُلِد بالبصرة ، ونشأ بزّازاً يبيع الثياب ، سَمِع الحديث مِن كثير مِن الصحابة - رضي الله عنهم - ..
يُنسَب له كتاب في تعبير الرؤيا .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 110 هـ .
تاريخ بغداد 5/331 والبداية والنهاية 9/267(1/276)
(2) أَخْرَجَه أبو داود في كتاب الصلاة : باب القنوت في الوتر برقم ( 1217 ) والبيهقي في السنن الكبرى 2/498
(3) أَخْرَجَه البيهقي في السنن الكبرى 2/498 وابن أبي شيبة 2/98
(4) يُرَاجَع : الاختيار 1/55 ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 1/539 والمجموع 3/474 ، 475 والمغني لابن قدامة 2/151 – 154
المطلب الثالث
ترجيح المثبت لِلطلاق والعتاق
إذا تعارض خبران أحدهما مثبت لِلطلاق أو العتاق والآخَر نافٍ لَهُمَا : فهل يرجح المثبت أم النافي ؟
خلاف بَيْن الأصوليين في ذلك على مذاهب :
المذهب الأول : ترجيح المثبت لِلطلاق والعتاق .
وهو ما عليه الكثرة ، وقول الكرخي رحمه الله تعالى ، واختاره الفخر الرازي والبيضاوي وابن الحاجب والصفي الهندي والزركشي والفتوحي وابن الهمام وابن عبد الشكور رحمهم الله تعالى (1) .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ مِلْك النكاح ومِلْك اليمين مشروع على خلاف الأصل ، فزوالهما كذلك يكون على وفق الأصل ، والخبر المثبت لِلطلاق والعتاق موافق لِلأصل الذي هو عدم مِلْك البضع في النكاح والرقبة في العتق ، والخبر النافي موافق لِلدليل المثبت لِلمِلْك فيهما ، وما كان موافقاً لِلأصل أَوْلى بالترجيح ، ولذا رجَّحْنَا المثبت لِلطلاق والعتاق على النافي لهما (2) .
المذهب الثاني : ترجيح النافي لِلطلاق والعتاق .
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/469 والمنهاج مع شرحه 2/806 ، 807 والإبهاج 3/235 ونهاية السول 3/679 ومناهج العقول 3/178 والمختصر مع شرح العضد 2/315 وبيان المختصر 3/393 والفائق 4/446 والبحر المحيط 6/174 وشرح الكوكب المنير 4/691 والتيسير مع التحرير 3/161 ومسلّم الثبوت 2/206
(2) يُرَاجَع : المحصول 2/469 والفائق 4/446 وشرح المنهاج 2/807 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/430
وهو ما عليه بعض الأصوليين ، واختاره ابن السبكي رحمهما الله تعالى ، وظاهر كلام الآمدي رحمه الله تعالى .(1/277)
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الأصل عدم الطلاق والعتاق ، والخبر النافي يوافق هذا الأصل ، والخبر المثبت مخالف له ، وحيث إنّ الخبر النافي لِمثبت صحة النكاح والمِلك موافق لِلأصل كما أنّه يفيد فائدةً جديدةً فإنّه يكون أَوْلى بالترجيح مِن الخبر المثبت ، وهو المدَّعَى (1) .
المذهب الثالث : تساويهما .
نسبه الفخر الرازي – رحمه الله تعالى – إلى قوم فقال :" وقال قوم : يسوّى بينهما " (2) ، واختاره الغزالي رحمه الله تعالى (3) ، وظاهر كلام " الروضة " والقاضي عبد الجبار كما ذكر الفتوحي رحمهما الله تعالى (4) .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الخبر المثبت لِلطلاق والعتاق إثبات لِلشرع ؛ حيث نقله الراوي العدل ، وكذلك الخبر النافي لهما ، فَهُمَا متساويان ، وإذا تساويا فلا يجوز ترجيح أحدهما على الآخَر (5) .
والأَوْلى عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائلون بترجيح الخبر المثبت لِلطلاق والعتاق ؛ لأنّه موافق لِلأصل : وهو عدم مِلْك البضع في النكاح والرقبة في العتق .
(1) يُرَاجَع : الفائق 4/446 والإحكام لِلآمدي 4/273 والإبهاج 3/235 ، 236 وشرح المحلي على جمع الجوامع 2/368 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/431
(2) يُرَاجَع المحصول 2/469
(3) المستصفى /378
(4) يُرَاجَع شرح الكوكب المنير 4/691 ، 692
(5) يُرَاجَع : المستصفى /378 والفائق 4/446
المطلب الرابع
ترجيح النافي لِلحدّ
إذا تعارض خبران أحدهما نافٍ للحدّ والآخَر مثبت له : فهل يرجح النافي أم المثبت ؟
خلاف بَيْن الأصوليين في ذلك على مذاهب :
المذهب الأول : ترجيح النافي لِلحدّ .
وهو ما عليه الأكثر ، واختاره أبو الحسين البصري وابن السمعاني وابن الحاجب والبيضاوي والآمدي وابن السبكي والزركشي والفتوحي والشوكاني رحمهم الله تعالى (1) .
واستدلّوا لِذلك بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} (2) ..(1/278)
وَجْه الدّلالة : أنّ الله تعالى رحيم بعباده ، ولذا فإنّه يريد بهم اليسر ولا يريد العسر والمشقة بهم ، وترجيح الخبر المثبت لِلحدّ فيه مشقة ، الأمر الذي يتعارض مع هذه القاعدة القرآنية ، ولذا وجب ترجيح الخبر النافي لِلحدّ ؛ لأنّه يحقق اليسر الذي هو منهج الإسلام (3) .
(1) يُرَاجَع : المعتمد 2/185 وقواطع الأدلة 3/43 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/315 وبيان المختصر 3/392 والمنهاج مع شرحه 2/806 – 808 والإحكام لِلآمدي 4/272 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/369 والإبهاج 3/236 ونهاية السول 3/179 ومناهج العقول 3/178 والبحر المحيط 6/174 وشرح الكوكب المنير 4/689 وإرشاد الفحول /279
(2) سورة البقرة مِن الآية 185
(3) يُرَاجَع : شرح المحلي على جمع الجوامع 2/369 وتيسير التحرير 3/161 والتقرير والتحبير 3/42 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/220
الدليل الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - { ادْرَأُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَات } (1) ، وفي رواية { ادْرَأُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُم } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بدرء الحدود وتركها إذا كانت هناك شبهة ، والخبر النافي لِلحدّ حالة تعارُضه مع الخبر المثبت لا شكّ يورث شبهةً ، وطريق إسقاط الحدّ بسبب هذه الشبهة لا يتحقق إلا بترجيح الخبر النافي له على الخبر المثبت (3) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ خبر الواحد العدل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بشبهة ؛ بدليل أنّه ينتقل به عن حُكْم الأصل ، والذمم لا تُشغَل بالشبهات (4) .
الدليل الثالث : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لأَنْ يُخْطِئَ أَحَدُكُمْ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَة } (5) ..(1/279)
وَجْه الدّلالة : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الخطأ في نفي العقوبة أَوْلى مِن الخطأ في تحقيقها ، والخبر النافي لِلحدّ والعقوبة يحقق الغاية الأولى ، ولذا كان
(1) أَخْرَجَه أبو حنيفة في مسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما – وابن السمعاني عن عمر ابن عبد العزيز - رضي الله عنه - ، وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى – في تخريج أحاديث مسند الفردوس : " اشتهر على الألسنة ، والمعروف في كتب الحديث أنّه مِن قول عمر بن الخطّاب بغير لفظه " ا.هـ ..
يُرَاجَع كشف الخفاء 1/73
(2) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله : باب ما جاء في درء الحدود برقم ( 1344 ) عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(3) يُرَاجَع : المحصول 2/469 والفائق 4/448 والمنهاج مع شرحه 2/806 – 808 وشرح الكوكب المنير 4/689 وبيان المختصر 3/393 والإبهاج 3/236 وتيسير التحرير 3/161 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/221 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /373 ، 374
(4) الواضح 5/96 بتصرف .
(5) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله : باب ما جاء في درء الحدود برقم ( 1344 ) عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
أَوْلى بالترجيح والتقديم مِن الخبر المثبت لِلحدّ (1) .
الدليل الرابع : أنّ الحدّ ضرر ، ولذا فإنّ مشروعيته تكون على خلاف الأصل ، فإنْ تعارض خبران رجَّحْنَا ما كان على وفق الأصل ، والخبر النافي لِلحدّ على وفق الأصل ، والخبر المثبت له على خلاف الأصل ، وتقديم ما كان على وفق الأصل هو الأَوْلى ، فيرجح النافي لِلحدّ على المثبت (2) .
المذهب الثاني : ترجيح المثبت لِلحدّ .
وهو ما عليه بعض المتكلمين (3) ، واختاره ابن عقيل رحمه الله تعالى .(1/280)
واحتجّ لِذلك : بأنّ الخبر المثبت لِلحدّ فيه إثبات التشريع ، وهو مقدَّم على النفي ، والأصل الإسقاط ، فلا يجوز أنْ يبقى على الأصل مع وجود خبر العدل الناقل عن الأصل ، كما لو قامت البينة بإثبات سبب الحدّ وشهدت أخرى بنفيه ، ولذا كان المثبت لِلحدّ هو الأَوْلى بالترجيح (4) .
مناقشة هذا الدليل :
ويمكن مناقشة هذا الدليل : بأنّ دليلكم مبنيّ على أنّ النفي ليس تشريعاًَ فلا يجوز البقاء عليه ، لكنّ النفي – نعني الخبر النافي لِلحدّ – عندنا فيه إثبات التشريع تماماً كالخبر المثبت لِلحدّ ، وإذا تساويا في إثبات التشريع كان المتفق مع القواعد العامة مِن اليسر ودرء الحدود بالشبهات هو الأَوْلى بالترجيح والتقديم ، وهذا ما هو متحقق في الخبر النافي لِلحدّ وليس الخبر المثبت له .
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/272 وشرح الكوكب المنير 4/690 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/221
(2) يُرَاجَع : شرح المنهاج 2/807 ، 808 والإحكام لِلآمدي 4/272 والفائق 4/449
(3) يُرَاجَع : المحصول 2/469 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/219
(4) الواضح 5/95 ، 96 بتصرف .
المذهب الثالث : تساويهما في الترجيح .
وهو ما عليه أكثر الحنابلة ، واختاره الغزالي والقاضي عبد الجبار وأبو يعلى وابن قدامة والطوفي رحمهم الله تعالى .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الخبر المثبت لِلحدّ فيه إثبات التشريع ، والخبر النافي له كذلك فيه إثبات التشريع ، وإذا كان كُلّ مِن الخبريْن فيه إثبات التشريع فَهُمَا سواء في ذلك ، ولا يجوز ترجيح أحدهما على الآخَر لِشبهة ونَحْوها ؛ لأنّها لا تؤثّر في ثبوته شرعاً ؛ بدليل أنّه يثبت بخبر الواحد (1) .
مناقشة هذا الدليل :
ويمكن مناقشة هذا الدليل بما نوقش به دليل المذهب الثاني المتقدم .(1/281)
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائلون بترجيح الخبر النافي لِلحدّ على الخبر المثبت له ؛ لِقوة أدلتهم وسلامتها مِن المناقشة والاعتراض ، وفي المقابلة عدم سلامة أدلة المذْهبيْن الآخَريْن مِن المناقشة والاعتراض .
مثاله : ما رواه عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { خُذُوا عَنِّي : قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ مِائَةُ جَلْدَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْم } (2) مع ما رواه ابن عباس – رضي الله عنهما – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزاً (3) (4) ، وما رواه أبو هريرة وزيْد
(1) يُرَاجَع : العدة 3/1044 والمستصفى /378 وروضة الناظر /416 والبلبل /189 والمسودة /312 وشرح الكوكب المنير 4/690 ، 691
(2) أَخْرَجَه مسلم في كتاب الحدود : باب حدّ الزنا برقم ( 3199 ) وابن ماجة في كتاب الحدود : باب حدّ الزنا برقم ( 2540 ) وأحمد في باقي مسند الأنصار ( 21715 ) .
(3) ماعز : هو الصحابي الجليل ماعز بن مالك الأسلمي - رضي الله عنه - ، روى عنه ابنه عبد الله – رضي الله عنهما – حديثاً واحداً ..
الطبقات الكبرى 4/320 والاستيعاب 1/418 والإصابة 5/705
(4) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الحدود : باب هل يقول الإمام لِلمقرّ : لعلّك لمستَ ؟ لعلّك غمزتَ ؟ =
ابن خالد (1) – رضي الله عنهما – في حديث العسيف ( الأجير ) أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ : أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَام } ، ثُمّ قال { وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } (2) ..(1/282)
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب على الثيب الزاني الجلدَ والرجمَ ، والخبر الثاني أوجب عليها الرجم فقط ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول مثبت لِلجلد مع الرجم ، والخبر الثاني نافٍ لِلجلد ، ولذا رجح النافي لِلجلد ، وهو ما عليه الكثرة (3) .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في اجتماع الجلد مع الرجم في حقّ الزاني المحصن على قوْليْن :
القول الأول : وجوب الجلد قَبْل الرجم .
وهو إحدى الروايتيْن عند الإمام أحمد - رضي الله عنه - ، ورُوِي عن عَلِيّ وابن عباس وأُبَيّ بن كعب وأبي ذرّ (4) - رضي الله عنهم - ، وهو قول الحسن وإسحاق وداود
= برقم ( 6324 ) وأبو داود في كتاب الحدود : باب رجم ماعز بن مالك برقم ( 3838 ) وأحمد في مسند بني هاشم برقم ( 2092 ) .
(1) زيْد بن خالد : هو الصّحابيّ الجليل أبو زرعة زيْد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 78 هـ وقيل : سَنَة 68 هـ .
أسد الغابة 2/144 والإصابة 2/603
(2) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الصلح : باب إذا اصطلحوا على صُلْح جَوْر فالصلح مردود برقم ( 2498 ) ومسلم في كتاب الحدود : باب مَن اعترف على نفسه بالزنا برقم ( 3210 ) والترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله : باب ما جاء في الرجم على الثيب برقم ( 1353 ) .
(3) يُرَاجَع العدة 3/1044
(4) أبو ذرّ : هو الصحابي الجليل جُنْدَب بن جُنَادة بن سُفْيَان بن عُبَيْد الغفاري - رضي الله عنه - ، أَحَد الذين بادَروا إلى الإسلام ، وهو أول مَن حيَّا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بتحيّة الإسلام ، كان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ، روى عنه أبو زرعة وربعي بن حراش وسعيد بن المسيب رحمهم الله تعالى . =
وابن المنذر - رضي الله عنهم - .(1/283)
واحتجّوا : برواية عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - المتقدمة ، وما رُوِي أنّ عليّاً - رضي الله عنه - جلد زانيةً يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة ، وقال :" جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - " (1) .
وهذا القول متفق مع ترجيح الخبر المثبت لِلحدّ .
القول الثاني : وجوب الرجم بغير جَلْد .
وهو ما عليه جماهير العلماء والأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعي - رضي الله عنهم - ، وإحدى الروايتيْن عند الإمام أحمد - رضي الله عنه - ، ورُوِي عن عمر وعثمان وابن مسعود - رضي الله عنهم - ، وهو قول النخعي والزهري والأوزاعي وأبي ثور - رضي الله عنهم - .
واحتجّوا لِذلك : بالروايات المتقدمة في الرجم فقط ، وبما رواه جابر - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزاً ولم يجلده ورجم الغامدية ولم يجلدها ، وقال { اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } (2) ولم يأمره بجلدها (3) .
وهذا القول متفق مع ترجيح الخبر النافي لِلحدّ ، وهو الراجح عندي ؛ لأنّه مبنيّ على نفي جمع الجلد مع الرجم .. هذا مِن جهة ..
ومِن جهة ثانية أنّ خبر جابر - رضي الله عنه - اجتمع فيه القول والفعل ، وخبر عُبادة - رضي الله عنه - قول فقط ، وما اجتمع فيه القول والفعل كان مرجَّحاً – كما سيأتي بإذن الله تعالى – على ما كان قاصراً على القول فقط .
= تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالربذة بالشّام سَنَة 32 هـ .
الطبقات الكبرى 4/219 – 236 وسير أعلام النبلاء 2/46 – 59 وشذرات الذهب 1/39
(1) أَخْرَجَه الإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة برقم ( 898 ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) يُرَاجَع : الاختيار 4/84 والإفصاح 2/234 وبداية المجتهد 2/468 ومغني المحتاج 4/146 والمغني لابن قدامة 8/160
المبحث الثاني
الترجيح العائد إلى الحُكْم
وفيه مطالب :(1/284)
المطلب الأول : ترجيح الأخفّ .
المطلب الثاني : ترجيح الحُكْم الوضعي والمقصود به بيان الحُكْم .
المطلب الثالث : ترجيح المقرون بالمعارض والتهديد والتأكيد والقول والفعل .
المطلب الأول
ترجيح الأخفّ
إذا تعارض خبران أحدهما يفيد حُكْماً أخفّ والآخَر يفيد حُكْماً أثقل : فهل يرجح الأخفّ أم الأثقل ؟
خلاف بَيْن الأصوليين في ذلك على مذْهبيْن :
المذهب الأول : ترجيح الأخفّ .
وهو اختيار البيضاوي وابن الحاجب والصفي الهندي والفتوحي والشوكاني رحمهم الله تعالى ، ونسبه ابن السبكي إلى تاج الدين الأرموي رحمهم الله تعالى (1) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ الله تعالى يريد اليسر بعباده ولا يريد بهم العسر ، والأخذ بالحُكْم الأثقل فيه عسر ، واليسر في الأخذ بحُكْم الأخفّ ، ولذا وجب ترجيح الخبر الذي يفيد حُكْماً أخفّ على ما يفيد حُكْماً أثقل .
الدليل الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَار } (3) ..
(1) يُرَاجَع : المنهاج مع شرحه 2/802 ونهاية السول 3/173 ومناهج العقول 3/172 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/315 ، 316 والإبهاج 3/228 وبيان المختصر 3/393 والفائق 4/449 وشرح الكوكب المنير 4/692 وإرشاد الفحول /279
(2) سورة البقرة مِن الآية 185
(3) أَخْرَجَه ابن ماجة في كتاب الأحكام : باب مَن بنى في حقّه ما يضرّ بجاره برقم ( 2332 ) وأحمد في مسند بني هاشم برقم ( 2719 ) كلاهما عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وابن ماجة في كتاب الأحكام : باب مَن بنى في حقّه ما يضرّ بجاره برقم ( 2331 ) عن عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - .(1/285)
وَجْه الدّلالة : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى وقوع الضرر في الشريعة ، والأخذ بالحُكْم الأثقل يحقق الضرر المنفيّ وقوعه ، وحيث إنّ نفي وقوع الضرر لا يتحقق إلا بالأخذ بالحُكْم الأخفّ كان هو الأَوْلى بالترجيح والتقديم (1) .
الدليل الثالث : أنّ الخبر المتضمن لِلتخفيف أظهر تأخراً مِن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن الخبر المتضمن لِلتغليظ ، ولذا كان أَوْلى بالترجيح والتقديم (2) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نسلِّم أنّ التخفيف كان أظهر تأخراً ؛ لأنّ التغليظ ما كان إلا عند علوّ شأنه - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك متأخر ، ولذا كان التغليظ هو المتأخر وليس التخفيف (3) .
الجواب عن هذه المناقشة :
وأرى ردّ هذه المناقشة مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّنا إنْ حملنا التغليظ على التدرج في التشريع كان هو المتأخر كما ذهبتم ، وإنْ حملناه على غير المتدرج في التشريع فليس هو المتأخر ؛ لأنّ تحريم الكبائر بدرجاتها ثقيل على النفس ، ومع ذلك كان متقدماً تشريعها وليس متأخراً .
الوجه الثاني : أنّا لا نسلِّم أنّ التغليظ ما كان إلا عند علوّ شأنه - صلى الله عليه وسلم - ، ولا علاقة بَيْن تغليظ الأحكام وعلوّ شأنه - صلى الله عليه وسلم - إلا وفق قاعدة التدرج في التشريع .
الوجه الثالث : أنّ الأَوْلى تبديل هذه العبارة - " إلا عند علوّ شأنه - صلى الله عليه وسلم - " – إلا عند ظهور أمر الدعوة وتمكّنها ، أمّا شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - – كما قدَّمْنَا قَبْل ذلك – فهو مرفوع وعالٍ قَبْل الدعوة وبَعْدها ، وإنما ازداد علوّاً ورفعةً بَعْد
(1) يُرَاجَع : بيان المختصر 3/393 ، 394 وشرح الكوكب المنير 4/692
(2) يُرَاجَع : شرح المنهاج 2/802 ونهاية السول 3/173 ومناهج العقول 3/172
(3) يُرَاجَع المحصول 2/461
تكليفه - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة .
المذهب الثاني : ترجيح الأثقل .(1/286)
وهو اختيار الآمدي وابن السبكي رحمهم الله تعالى ، وظاهر كلام الفخر الرازي رحمه الله تعالى (1) .
وقد نسب أستاذنا فضيلة الشيخ محمد أبو النور زهير (2) – رحمه الله تعالى – هذا المذهب إلى ابن الحاجب رحمه الله تعالى (3) ، وهذه النسبة قد يكون مرجعها وأصلها قول ابن السبكي رحمهما الله تعالى :" وقد صرَّح الآمدي بما ذكرناه ، وقال احتمال تأخر التشديد ابن الحاجب " (4) ا.هـ .
وبالرجوع إلى " مختصر المنتهى " فقد رأينا النص صراحةً على ترجيح الأخفّ في قوله رحمه الله تعالى :" والأخفّ على الأثقل ، وقد يعكس " (5) ا.هـ .
كما نسب البرزنجي – رحمه الله تعالى – هذا المذهب إلى الجمهور (6) وفيها نظر أيضاً ؛ لأنّ القائلين بترجيح التغليظ ليسوا كثرةً ، وإنّما هُمْ قلة يَسهل حصرهم .
(1) يُرَاجَع : المحصول 2/461 والإحكام لِلآمدي 4/273 والإبهاج 3/228
(2) أبو النور زهير : هو أبو حسام الدِّين مُحَمَّد أبو النور زهير المالكيّ رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، أستاذ بجامعة الأزهر ووكيلها الأسبق ، وُلِد سَنَة 1327 هـ = 1906 م ..
تَتَلمَذ على يديْه أئمّة الأصول وفحولهم مِن أبناء الأزهر الشريف .
مِنْ مصنَّفاته : شرْح " منهاج الوصول " المعروف بـ" أصول الفقه " ، وهو مصنَّف يَمتاز بأنّه الأفضل منهجاً وأسلوباً وعَرْضاً ، مِمَّا جَعَلَه مرجعاً لا يَستغني عَنْه أيّ أصوليّ ، كَمَا أنّ له شرحاً على " تيسير التحرير " لابن الهمام تدريساً وإملاءً لِطُلاّب العِلْم .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 1407 هـ = 1987 م .
مقدِّمة كِتَاب ( أصول الفقه لِلشَّيْخ أَبِي النّور زهير ) لِلدكتور عَلِيّ جمعة .
(3) يُرَاجَع أصول الفقه لِلشيخ زهير 4/424
(4) الإبهاج 3/228
(5) مختصر المنتهى مع بيانه 3/391
(6) يُرَاجَع التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/227
واحتجّ أصحاب هذا المذهب بأدلة ، أذكر منها ما يلي :(1/287)
الدليل الأول : قوله - صلى الله عليه وسلم - { ... وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَصَبِك } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن لنا أنّ الأجر والثواب يكون على قدر التعب والمشقة ، ولَمّا كان الحُكْم الأثقل يحقق ذلك كان هو الأَوْلى بالترجيح والتقديم على الحُكْم الأخفّ (2) .
الدليل الثاني : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في أول أمره يغلظ في الأحكام – وإنّما يأخذ بالأخفّ – حتى كان في آخِر أيامه - صلى الله عليه وسلم - أخذ بالأثقل ، وحيث إنّ تشريع الأثقل هو المتأخر كان هو الأَوْلى بالتقديم والترجيح (3) .
مناقشة هذا الدليل :
ويمكن مناقشة هذا الدليل بما ناقشنا به الدليل الثالث في المذهب الأول .
والأَوْلى عندي بالقبول والترجيح : هو المذهب الأول القائل بترجيح الأخفّ ؛ لاتفاقه مع القواعد العامة لِلتيسير ورفع الحرج .
(1) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الحجّ : باب أجْر العمرة على قَدْر النَّصَب برقم ( 1662 ) ومسلم في كتاب الحجّ : باب بيان وجوه الإحرام وأنّه يجوز إفراد الحجّ والتمتع برقم ( 2120 ) وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 23030 ) عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(2) يُرَاجَع : بيان المختصر 3/394 وشرح العضد 2/316 والإحكام لِلآمدي 4/373
(3) يُرَاجَع : المحصول 2/461 والفائق 4/449 وشرح الكوكب المنير 4/692
المطلب الثاني
ترجيح الحُكْم الوضعي
والمقصود به بيان الحُكْم
لقد تعددت وجوه الترجيح العائدة إلى الحُكْم الوضعي والمقصود به بيان الحُكْم وعلّته عند الأصوليين ..
وقد حصرتُ ما وقفتُ عليه منها فيما يلي :
الوجه الأول : ترجيح الحُكْم الوضعي .
إذا تعارض خبران أحدهما دالّ على الحُكْم التكليفي والآخَر دالّ على الحُكْم الوضعي : فهل يقدَّم الحُكْم التكليفي أم الوضعي ؟
خلاف بَيْن الأصوليين في ذلك على ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول : ترجيح الحُكْم الوضعي .(1/288)
وهو اختيار الصفي الهندي والآمدي والزركشي وابن السبكي والشوكاني رحمهم الله تعالى .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الحُكْم الوضعي لا يتوقف على ما يتوقف عليه الحُكْم التكليفي مِن أهلية المخاطَب وفَهْمه وتمكُّنه ، ولذا كان أَوْلى بالترجيح لأنّ غير المتوقف مقدَّم على المتوقف (1) .
المذهب الثاني : ترجيح الحُكْم التكليفي .
وهو اختيار ابن الحاجب – رحمه الله تعالى – وبعض الحنفية .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الحُكْم التكليفي مقصود الشارع بالذات ، وأنّه أكثر
(1) يُرَاجَع : الفائق 4/447 والإحكام لِلآمدي 4/273 والبحر المحيط 6/175 وجمع الجوامع 2/369 وإرشاد الفحول /279
مثوبةً ، وأنّه الأكثر في الأحكام ، ولذا كان هو الأَوْلى بالترجيح على الحُكْم الوضعي (1) .
المذهب الثالث : أنّهما سواء .
وهو ظاهر كلام الحنابلة .. هكذا ذكر الفتوحي رحمه الله تعالى (2) .
والأَوْلى عندي : ما عليه أصحاب المذهب الثاني مِن ترجيح الحُكْم التكليفي ؛ لأنّه مقصود الشارع بالذات ، وحتى لا يخرج المكلف عن عهدة التكليف بـ" افعل " أو " لا تفعل " بتركه .
الوجه الثاني : ترجيح الموجب لِحُكْميْن .
إذا تعارض خبران أحدهما موجِب لِحُكْم واحد والآخَر موجِب لِحُكْمَيْن : فهل يرجح الموجِب لِحُكْمَيْن أم الموجِب لِحُكْم واحد ؟
لم أقف على مَن رجَّح الموجِب لِحُكْم واحد ، ورجَّح الموجِب لِحُكْمَيْن الصفي الهندي والزركشي والشوكاني رحمهم الله تعالى .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الخبر الموجِب لِحُكْمَيْن مشتمل على زيادة علم ينفيها الخبر الموجِب لِحُكْم واحد ، وفي تقدُّم الموجِب لِحُكْم واحد إبطال لِهذه الزيادة ، ولذا وجب ترجيح الخبر الموجِب لِحُكْمَيْن (3) .
وعند ابن عقيل وأبي يعلى – رحمهما الله تعالى – أنّ مُعارِض الخبر الموجِب لِحُكْمَيْن خبر يسقط أحدهما ، فيقدَّم الجامع بَيْن الحُكْمَيْن على المسقط لأحدهما ..(1/289)
وإسقاط أحد الحُكْمَيْن في الخبر المعارض يجعله موجِباً لِحُكْم واحد ومقابله موجِب لِحُكْمَيْن ، فيقدَّم الجامع لِلحُكْمَيْن ؛ لأنّه لا يسقط حُكْماً مِن
(1) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/315 ، 316 وبيان المختصر 3/393 والتيسير مع التحرير 3/161 وفواتح الرحموت مع مسلَّم الثبوت 2/205
(2) يُرَاجَع شرح الكوكب المنير 4/693
(3) يُرَاجَع : الفائق 4/446 والبحر المحيط 6/175 وإرشاد الفحول /279
أحكام الشريعة (1) .
والراجح عندي : ترجيح الخبر الموجِب لِحُكْمَيْن ؛ حتى لا يخرج المكلف عن عهدة التكليف حينما يترك واحداً منهما .
الوجه الثالث : ترجيح المقصود به بيان الحُكْم .
إذا تعارض خبران أحدهما قُصِد به بيان الحُكْم والآخَر لا يُقْصَد به ذلك كان الأَوْلى بالترجيح هو الخبر الأول المقصود به بيان الحُكْم ؛ لأنّه أبلغ في بيان الغرض وإفادة المقصود (2) .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُر } (3) مع ما رُوِي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه نهى عن افتراش جلود السباع (4) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول يدلّ على طهارة الجلود بَعْد دبغها ، والخبر الثاني نهى عن افتراش جلود السباع ، مما يدلّ على نجاسته وعدم طهارته بالدباغ ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول قُصِد به بيان حُكْم الطهارة ، والخبر الثاني لم يُقْصَدْ به ذلك ، وإنما يجوز أنْ يكون النهي لِلسرف أو التشبه بالأعاجم أو الخيلاء ، وما قُصِد به بيان الحُكْم أَوْلى بالترجيح (5) .
(1) يُرَاجَع : الواضح 5/97 والعدة 3/1046
(2) يُرَاجَع : اللمع /47 والواضح 5/89 والعدة 3/1035 والفائق 4/451 والإحكام لِلآمدي 4/276 وشرح مختصر الروضة 3/730 وإحكام الفصول /749 والبحر المحيط 6/168 وإرشاد الفحول /279(1/290)
(3) أَخْرَجه الترمذي في كتاب اللباس عن رسول الله : باب ما جاء في جلود المَيْتَة إذا دُبِغَت برقم ( 1650 ) والنسائي في كتاب الفرع والعتيرة : باب جلود المَيْتَة برقم ( 4168 ) وابن ماجة في كتاب اللباس : باب لِبْس جلود المَيْتَة إذا دُبِغَتْ برقم ( 3599 ) ، كُلّهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(4) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب اللباس عن رسول الله : باب ما جاء في النهي عن جلود السباع برقم ( 1693 ) والنسائي في كتاب الفرع والعتيرة : باب النهي عن الانتفاع بجلود السباع برقم ( 4180 ) وأبو داود في كتاب اللباس : باب في جلود النمور والسباع برقم ( 3603 ) عن أسامة بن عمير الهذلي - رضي الله عنه - .
(5) يُرَاجَع : إحكام الفصول /749 ، 750 والفائق 4/451
الوجه الرابع : ترجيح الخبر المشتمل على علة الحُكْم .
إذا تعارض خبران أحدهما مذكور فيه علة الحُكْم والآخَر لم تُذْكَرْ فيه علة الحُكْم كان الراجح الخبر الذي اشتمل على علة الحُكْم (1) ؛ لأنّ الحُكْم الذي تعرّض لِعلّته أفضى إلى تحصيل مقصود الشارع بسبب سرعة الانقياد وسهولة القبول ، ولِدلالته على الحُكْم مِن جهة لفظه ومِن جهة دلالته عليه بواسطة دلالته على العلة ، وما دلّ على الحُكْم بجهتيْن أَوْلى بالترجيح والتقديم (2) .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه } (3) مع ما رُوِي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه نهى عن قتل النساء والصبيان (4) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب قتل المرتدّ مطلقاً : رجلاً كان أم امرأةً ، والخبر الثاني نهى عن قتل النساء والصبيان مطلقاً : مرتدّات أم غير مرتدّات ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول قد ذكر فيه علة الحُكْم : وهي الرِّدَّة ، أمّا الخبر الثاني فلم يذكر علة الحُكْم ، ولذا كان الخبر الأول أَوْلى بالترجيح ويُحْمَل لفظ " النِّسَاء " على غير الحربية (5) .(1/291)
(1) يُرَاجَع : البرهان 2/1195 والمحصول 2/463 والمنهاج مع شرحه 2/803 – 805 والفائق 4/423 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/316 وبيان المختصر 3/395 والإبهاج 3/232 ونهاية السول 3/176 ومناهج العقول 3/175 والبحر المحيط 3/167 وشرح الكوكب المنير 4/703 والإحكام لِلآمدي 4/274 والتيسير مع التحرير 3/162 وشرح مختصر الروضة 3/730 ومسلّم الثبوت 2/206 وجمع الجوامع 2/366 وإرشاد الفحول /278 ، 279 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/427
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/274 وبيان المختصر 3/395 وشرح الكوكب المنير 4/703 وشرح المحلي على جمع الجوامع 2/366
(3) سبق تخريجه .
(4) سبق تخريجه .
(5) يُرَاجَع : الإبهاج 3/232 والبحر المحيط 6/167 وأدلة التشريع المتعارضة /152 ، 153 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/197 ، 198 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /355
الأثر الفقهي :
اتفق الفقهاء على وجوب قتل المرتدّ بمقتضى الأمر الوارد في الخبر الأول ..
واختلفوا في قتل المرأة المرتدّة على أقوال :
القول الأول : وجوب قتلها .
وهو قول الجمهور .
واحتجّوا : بعموم الخبر الأول { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه } (1) ؛ فهو عامّ في الذَّكَر والأنثى .
وأيضاً : بما رواه جابر بن عبد الله والسيدة عائشة - رضي الله عنهم - أنّ امرأةً يقال لها " أمّ مروان " ارتدّت عن الإسلام ، فبلغ أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر أنْ تستتاب : فإنْ تابت ، وإلا قُتِلَتْ (2) .
القول الثاني : حرمة قتلها ، وحبسها .
وهو قول الحنفية ، ورُوِي عن ابن عباس وعطاء والثوري - رضي الله عنهم - .
واحتجّوا بالخبر الثاني .
القول الثالث : أنّها لا تُقتَل ، وإنّما تُسْتَرَقّ .
وهو قول عَلِيّ والحسن وقتادة - رضي الله عنهم - .
واحتجّوا : بأنّ أبا بكر - رضي الله عنه - استرقّ نساءَ بني حنيفة وذراريهم .
وهو مردود : بأنّ الاسترقاق إنّما كان لِكفرهم لا لِكونهم مرتدّات (3) .(1/292)
والأَوْلى عندي بالقبول والاختيار : وجوب قتل المرأة المرتدّة كالرَّجُل لِقوة حُجّتهم ، وترجيحاً لِلخبر الأول المشتمل على علة الحُكْم .
(1) سبق تخريجه .
(2) أَخْرَجَه الدارقطني والبيهقي .. يُرَاجَع تلخيص الحبير 4/49
(3) يُرَاجَع : الأمر عند الأصوليين 2/689 – 692 وروضة الطالبين 7/295 وبداية المجتهد 2/459 وفتح الباري 12/280 والبحر المحيط 3/73 – 75 والاختيار 4/149 والمغني لابن قدامة 10/75 وسبل السلام 3/536
المطلب الثالث
ترجيح المقرون بالمعارض
والتهديد والتأكيد والقول والفعل
لقد تعددت وجوه الترجيح بالمعارض والتهديد والتأكيد والقول والفعل عند الأصوليين ..
وقد حصرتُ ما وقفتُ عليه منها فيما يلي :
الوجه الأول : ترجيح الخبر الذي ذكر معه معارضه .
إذا تعارض خبران أحدهما ذكر معه معارضه والآخَر لم يذكر معه معارضه كان الراجح الخبر الذي ذكر معه معارضه ؛ لأنّ اللفظ يدلّ على ترجيح ذلك على ضدّه ، ولأنّ تقديمه يقتضي النسخ مرّةً ، وتقديم ضدّه يقتضي النسخ مرّتيْن ، وما يقتضي النسخ مرّةً أَوْلى مما يقتضي النسخ مرّتيْن .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ؛ أَلاَ فَزُورُوهَا } (1) (2) فهذا الخبر ذكر فيه معارضه ، فإنّه يرجح على مقابله مِن خبر دالّ على تحريم زيارة القبور أو كراهتها مِن غير ذِكْر مُعارِض : نَحْو قوله - صلى الله عليه وسلم -
(1) أَخْرَجَه مسلم في كتاب الجنائز : باب استئذان النبي ربَّه في زيارة قَبْر أُمّه برقم ( 1623 ) والترمذي في كتاب الجنائز عن رسول الله : باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور برقم ( 974 ) والنسائي في كتاب الجنائز : باب زيارة القبور برقم ( 2005 ) ، كُلّهم عن بريدة بن الحصيب الأسلمي - رضي الله عنه - .(1/293)
(2) يُرَاجَع : المحصول 2/463 ، 464 والفائق 4/424 والمنهاج مع شرحه 2/803 – 805 والإبهاج 3/232 والبحر المحيط 6/168 ونهاية السول 3/176 ومناهج العقول 3/175 وإرشاد الفحول /279 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/427 وأدلة التشريع المتعارضة /152 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /356 ، 357
{ لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُور } (1) (2) .
الأثر الفقهي :
اختلف الفقهاء في حُكْم زيارة القبور على أقوال أربعة :
القول الأول : الوجوب .
وهو قول ابن حزم رحمه الله تعالى .
وحُجّته : قوله - صلى الله عليه وسلم - { أَلاَ فَزُورُوهَا } (3) ، والأمر لِلوجوب ، ولذا وجبت الزيارة ولو مرّةً في العمر .
القول الثاني : الندب في حقّ الرجال ، والكراهة في حقّ النساء .
وهو قول الجمهور .
وحُجّتهم : أنّ الأمر بزيارة القبور ورد بَعْد الحظر ومعلَّلاً بعلة ، وهي تذكُّر الآخرة ، وهو أمر مرغوب فيه شرعاً .
القول الثالث : الندب في حقّ الرجال والنساء .
وهو الأصحّ عند الحنفية .
واحتجّوا : بخبر أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرّ بامرأة تبكي عند قبر فقال { اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي } قالت :" إِلَيْكَ عَنِّي ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي " ولم تَعرفه فقيل لها :" إِنَّهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - " ، فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تَجِدْ عنده بوّابين ، فقالت :" لَمْ أَعْرِفْك " فقال { إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى } (4) ، ولم ينكر - صلى الله عليه وسلم - عليها الزيارة .
(1) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الجنائز عن رسول الله : باب ما جاء في كراهية زيارة القبور لِلنساء برقم ( 976 ) وأحمد في باقي مسند المكثرين برقم ( 8095 ) ، كلاهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) يُرَاجَع أدلة التشريع المتعارضة /152
(3) سبق تخريجه .(1/294)
(4) أَخْرَجَه البخاري في كتاب الجنائز : باب زيارة القبور برقم ( 1203 ) ومسلم في كتاب الجنائز : باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى برقم ( 1535 ) وأبو داود في كتاب الجنائز : باب الصبر عند الصدمة برقم ( 2717 ) ، كُلّهم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - .
وبرواية السيدة عائشة – رضي الله عنها – قالت :" كَيْفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا زُرْتُ الْمَقَابِر ؟ " قال - صلى الله عليه وسلم - { قُولِي : السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاَحِقُون } (1) .
وبما رُوِي أنّ السيدة فاطمة الزهراء (2) – رضي الله عنها – كانت تزور قبر عمّها حمزة - رضي الله عنه - (3) كُلّ جمعة فتصلِّي وتبكي عنده (4) .
وأنّ السيدة عائشة – رضي الله عنها – زارت قبر أخيها عبد الرحمن - رضي الله عنه - (5) فقيل لها :" قدْ نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ؟ " قالت :" نَعَمْ كَانَ نَهَى ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا " (6) .
القول الرابع : الإباحة .
(1) أَخْرَجَه مسلم في كتاب الجنائز : باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم ( 1619 ) والنسائي في كتاب الجنائز : باب الأمر بالاستغفار لِلمؤمنين برقم ( 2010 ) وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 24671 ) .
(2) السيدة فاطمة الزهراء : بنت الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - ، أُمّ الحسنيْن رضي الله عنهما ، وُلِدَت قَبْل البعثة بقليل ، تَزَوَّجها عَلِيّ - رضي الله عنه - في السَّنَة الثانية مِن الهجرة ..
تُوُفِّيَت بَعْد وفاة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بستّة أَشهُر سَنَة 11 هـ .
الإصابة 8/53 - 60(1/295)
(3) حمزة : هو الصحابي الجليل أبو عمارة حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي - رضي الله عنه - ، عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخوه مِن الرضاعة ، أسد الله ورسولِه ، أسلم في السَّنَة الثانية مِن البعث ..
استشهد - رضي الله عنه - يوم أُحُد سَنَة 3 هـ .
سير أعلام النبلاء 1/171 – 184 والاستيعاب 1/109 – 111 والإصابة 2/121 ، 122
(4) أَخْرَجَه الحاكم في المستدرك 1/533 والبيهقي في السن الكبرى 4/78
(5) عبد الرحمن بن أبي بكر : هو الصحابي الجليل أبو محمد عبد الرحمن بن أبي بكر الصِّدِّيق ابن أبي قحافة عثمان بن عامر التيمي - رضي الله عنهم - ، كان مِن الرماة الشجعان ، قَتَل يوم اليمامة سبعةً مِن كبارهم ، روى عنه ميمون بن مهران وابناه عبد الله وحفصة رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 53 هـ .
سير أعلام النبلاء 2/471 – 473 والاستيعاب 1/248 ، 249 وشذرات الذهب 1/59
(6) أَخْرَجَه الحاكم في المستدرك 1/532 والبيهقي في السنن الكبرى 4/78
وهو قول عند الشافعية ، واختاره القرطبي (1) والشوكاني رحمهما الله تعالى .
وحُجّتهم : أنّه أمر ورد بَعْد حظر ، فيكون لِلإباحة (2) .
والراجح عندي : ندب زيارة القبور في حقّ الرجال والنساء ؛ ترجيحاً لِلخبر الذي ذكر معه معارضه ، والندب أتى مِن قوله - صلى الله عليه وسلم - { فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَة } (3) ، والنساء يشتركن مع الرجال في طلب هذه الغاية وتحقيقها ، ولكن بشرط أنْ تراعي الآداب الشرعية حال زيارتها .
ومثاله أيضاً : ما رواه ابن عمر – رضي الله عنهما – قال :" نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الإِقْرَان [ الجمع بَيْن التّمرتيْن في الأكل ] " (4) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنِ الإِقْرَانِ فِي التَّمْرِ ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَوْسَعَ الْخَيْرَ ، فَأَقْرِنُوا } (5) .(1/296)
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول نهى عن الإقران في أكل التمر ، والخبر الثاني أباحه ، فالحُكْمان متعارضان .
(1) القرطبي : هو أبو عَبْد الله محمد بن أحمد بن أبي بَكْر القرطبي المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه مُفَسِّر ..
مِنْ مصنَّفاته : الجامع لأحكام القرآن ، التذكرة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 671 هـ .
شذرات الذهب 5/335 ومعجم المؤلِّفين 8/239
(2) يُرَاجَع : النسخ وأثره في الفقه الإسلامي /149 – 153 ونيل الأوطار 4/110 ، 111 والمغني لابن قدامة 2/565 – 570 ومغني المحتاج 1/365 والجامع لأحكام القرآن 20/116
(3) سبق تخريجه .
(4) أَخْرَجَه ابن ماجة في كتاب ما جاء في الجنائز : باب ما جاء في زيارة القبور برقم ( 1558 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وأحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة برقم ( 1173 ) عَنْ عَلِيّ كرَّم الله وجْهَه .
(5) أَخْرَجَه الروياني في مسنده 1/93 والديلمي في مسند الفردوس 3/283 عن بريدة بن الحصيب الأسلمي - رضي الله عنه - .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الثاني ذكر معه معارضه ، وهو صريح في نسخ النهي عن الإقران في أكل التمر ، ولذا كان أَوْلى بالترجيح مِن الخبر الأول الناهي عن الإقران (1) .
الوجه الثاني : ترجيح الخبر المقرون بنوع تهديد .
إذا تعارض خبران أحدهما مقرون بنوع تهديد والآخَر مجرَّد عنه كان الخبر الأول المشتمل على التهديد هو الأَوْلى بالترجيح ؛ لأنّه يدلّ على تأكيد الحُكْم الذي اشتمل عليه .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِم } (2) ؛ فإنّه خبر مقرون بالتهديد لِمَن صام يوم الشك ، ولذا فإنّه يرجح على غيره مما ليس مقروناً بالتهديد (3) .
الوجه الثالث : ترجيح الخبر المقرون بالتأكيد .(1/297)
إذا تعارض خبران أحدهما مقرون بالتأكيد والآخَر ليس مقروناً به كان الخبر المقرون بالتأكيد هو الأَوْلى بالترجيح ؛ لأنّ التأكيد يُبعد احتمال المَجاز والتأويل .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِل } (4) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا } (5) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أبطل إنكاح المرأة نفسها بغير إذن
(1) يُرَاجَع : الإبهاج 3/232 وأدلة التشريع المتعارضة /152 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /356 ، 357
(2) سبق تخريجه .
(3) يُرَاجَع : المحصول 2/464 والفائق 4/424 والبحر المحيط 6/168 والإبهاج 3/232 والمنهاج مع شرحه 2/803 – 806 ونهاية السول 3/176 ومناهج العقول /175 وجمع الجوامع 2/367 وإرشاد الفحول /279 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/427 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /356
(4) سبق تخريجه .
(5) سبق تخريجه .
وليّها ، والخبر الثاني أجاز إنكاح نفسها بغير إذن وليّها ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول مقرون بتأكيد البطلان ؛ حيث كرّر لفظ { بَاطِل } ، والخبر الثاني ليس كذلك ، ولذا رجَّحْنَا الخبر الأول ؛ لِكونه مقروناً بالتأكيد (1) .
الوجه الرابع : ترجيح الأقرب إلى الاحتياط .
إذا تعارض خبران أحدهما يوجب الاحتياط والآخَر يوجب نفي الاحتياط رجَّحْنَا الخبر الأول الذي يوجب الاحتياط ؛ لِكونه أقرب إلى تحصيل المصلحة ودفع المضرة (2) .
الوجه الخامس : ترجيح الخبر الذي قُضِي به على الآخَر .
إذا تعارض خبران أحدهما قد قُضِي به على الآخَر في موضع مِن المواضع والآخَر ليس كذلك كان الراجح الخبر الأول الذي قُضِي به على الآخَر ؛ لأنّ القضاء يدعم بحُكْمه فيقوى بالعمل (3) .(1/298)
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا } (4)
(1) يُرَاجَع : المعتمد 2/183 والمحصول 2/463 والإحكام لِلآمدي 4/262 والفائق 4/424 وشرح تنقيح الفصول /424 وجمع الجوامع مع شرح المحلي 2/367 والبحر المحيط 6/168 ومسلّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/205 وإرشاد الفحول /279 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/199 ، 200
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/277 واللمع /48 والبرهان 2/1199 ، 1200 وقواطع الأدلة 3/39 والواضح 5/92 والعدة 3/1040 والمسودة /383 والفائق 4/452 وشرح الكوكب المنير 3/706 ، 707
(3) يُرَاجَع : الواضح 5/88 واللمع /88 والعدة 3/1035 وتقريب الوصول /482 وإحكام الفصول /751
(4) أَخْرَجَه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة : باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها برقم ( 1104 ) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، والترمذي في كتاب الصلاة عن رسول الله : باب ما جاء في النوم عن الصلاة برقم ( 162 ) والنسائي في كتاب المواقيت : باب فيمَن نام عن الصلاة برقم ( 611 ) عن أبي قتادة - رضي الله عنه - .
مع ما رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه نهى عن الصلاة بَعْد الصبح حتى تطلع الشمس وبَعْد العصر حتى تغرب الشمس (1) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب الصلاة على النائم أو الناسي إذا ذكرها في أيّ وقت ، والخبر الثاني نهى عن الصلاة بَعْد الصبح وبَعْد العصر ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول قد قُضِي به على الخبر الثاني في عصر يوم وصبحه ، والخبر الثاني ليس كذلك ، ولذا وجب تقديمه وترجيحه عليه (2) .
الوجه السادس : ترجيح القول والفعل .
إذا تعارض خبران أحدهما قول وفعل والآخَر قول كان الخبر الأول الذي جمع بَيْن القول والفعل هو الأَوْلى بالترجيح ؛ لأنّه أقوى وأبلغ في البيان .(1/299)
وكذا إذا تعارض خبران أحدهما قول والآخَر فعل كان القول هو الراجح ؛ لأنّه أبلغ في البيان مِن الفعل (3) .
(1) سبق تخريجه .
(2) يُرَاجَع إحكام الفصول /751
(3) يُرَاجَع : اللمع /47 والبرهان 2/1201 والواضح 5/87 ، 88 وقواطع الأدلة 3/38 والعدة 3/1034 والإحكام لِلآمدي 4/266 والفائق 4/426 والبحر المحيط 6/177 وإرشاد الفحول /279
المبحث الثالث
الترجيح العائد إلى أمر خارجيّ
وفيه مطالب :
المطلب الأول : الترجيح بكثرة الأدلة .
المطلب الثاني : الترجيح بموافقة دليل آخَر .
المطلب الثالث : الترجيح بالعمل .
المطلب الرابع : ترجيح ما ينفي النقص عن الصحابة .
المطلب الأول
الترجيح بكثرة الأدلة
الحديث في هذا المطلب يمكن تقسيمه على النحو التالي :
1- منشأ الخلاف في هذه المسألة .
2- مذاهب الأصوليين .
3- أدلة المذاهب مع الترجيح .
4- تعقيب وترجيح .
ونفصّل القول في كل واحد منها فيما يلي ..
أوّلاً - منشأ الخلاف في هذه المسألة :
الخلاف في هذه المسألة راجع إلى تعريف الترجيح عند الحنفية وعند غيرهم ..
فغير الحنفية لَمّا عرّفوا الترجيح بأنّه :( تقوية إحدى الأمَارتيْن على الأخرى لِيعمل بها (1) ) – أو نَحْو هذا التعريف – كان المرجح به كُلّ ما يقوي إحدى الأمَارتيْن أو الدليليْن المتعارضيْن ، ذاتيّاً كان أم غير ذاتيّ أيْ وصفاً تابعاً أو مستقلاًّ ، ولذا جاز الترجيح عندهم بكثرة الأدلة .
وأمّا الحنفية : فإنّهم عرّفوا الترجيح بأنّه :( إظهار الزيادة لأحد المتماثليْن على الآخَر بما لا يستقلّ ) ، ولذا كان لا بُدّ لِلمرجَّح به عندهم أنْ يكون تابعاً بما لا يستقلّ (2) أو نَحْوه .
والشيء إنّما يتقوى بصفة توجد في ذاته لا بانضمام مثله إليه ،
(1) يُرَاجَع : المنهاج مع شرحه 2/787 ونهاية السول 3/156 وشرح الكوكب المنير 4/616
(2) يُرَاجَع مسلّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/204
ولذا فإنّ كثرة الأدلة لا يترجح بها (1) .(1/300)
ثانياً – مذاهب الأصوليين في الترجيح بكثرة الأدلة :
اختلف الأصوليون في الترجيح بكثرة الأدلة على مذْهبيْن :
المذهب الأول : جواز الترجيح بكثرة الأدلة .
وهو ما عليه الجمهور ، وقول الأئمة مالك والشافعي وأحمد ومحمد ابن الحسن - رضي الله عنهم - (2) ، واختاره تاج الدين الأرموي والبيضاوي والقرافي والصفي الهندي والجاربردي وابن السبكي والزركشي والفتوحي رحمهم الله تعالى (3) .
المذهب الثاني : عدم جواز الترجيح بكثرة الأدلة .
وهو ما عليه الحنفية ، وقول الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما (4) .
ونسب البخاري – رحمه الله – هذا المذهب إلى عامة الأصوليين فقال : " وذهب عامة الأصوليين إلى أنّ الترجيح لا يقع بكثرة الأدلة " (5) ا.هـ .
وتبعه في هذه النسبة الكاكي (6) – رحمه الله تعالى – فقال :" إنّ
(1) يُرَاجَع أدلة التشريع المتعارضة /83 ، 84
(2) يُرَاجَع : تيسير الوصول 6/205 وشرح الكوكب المنير 4/634 وفواتح الرحموت 2/210
(3) يُرَاجَع : الحاصل 2/969 والمنهاج مع شرحه 2/792 وشرح تنقيح الفصول /420 ونفائس الأصول 8/3675 والفائق 4/394 والسراج الوهاج 5/1036 وجمع الجوامع مع شرح المحلي مع حاشية البناني 2/361 والبحر المحيط 6/137 وشرح الكوكب المنير 4/634
(4) يُرَاجَع : فتح الغفار 3/52 والتوضيح مع التنقيح 2/241 والتحرير مع التيسير 3/169 ومسلّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/210
(5) كشف الأسرار 4/136
(6) الكاكي : هو قوام الدين محمد بن محمد بن أحمد الخجندي البخاري الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، أخذ الفقه عن علاء الدين البخاري رحمه الله تعالى ..
مِن مصنّفاته : جامع الأسرار ، معراج الدراية .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 749 هـ .
الفوائد البهية /186 والأعلام 7/365 والفتح المبين 2/163
الترجيح بكثرة الأدلة لا يصحّ عند عامة الأصوليين " (1) ا.هـ .(1/301)
وأرى أنّ هذه النسبة إلى عامة الأصوليين تحتاج إلى نظر .
ثالثاً – أدلة المذاهب :
أدلة المذهب الأول :
استدلّ أصحاب المذهب الأول - القائلون بجواز الترجيح بكثرة الأدلة - بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الدليليْن المتعارضيْن يفيد كُلّ منهما الظن ، فإذا تقوَّى أحدهما بدليل آخَر أفاد حينئذٍ ظنّيْن ، ولا شكّ أنّ الدليليْن يفيدان ظنّيْن ، بخلاف الدليل الواحد ، والظّنّان أقوى مِن ظنّ واحد ؛ لِكونه أقرب إلى القطع والعمل بالأقوى أَوْلى ، فدلّ ذلك على جواز الترجيح بكثرة الأدلة (2) .
الدليل الثاني : أنّ قول الواحد يفيد قدراً مِن الظن ، فإذا انضمّ إليه غيره وجب أنْ يفيد زيادةً عليه ، وإلا لزم أنْ يكون الشيء مع غيره كهو لا مع غيره ، وأنْ يجتمع على الأثر الواحد مؤثّران مستقلاّن ، وجواز أنْ لا يفيد التواتر القطع ، وجميع ذلك لا يجوز ، ولا بُدّ مِن تحقُّق زيادة فائدة إذا انضمّ غيره إليه ، فدلّ ذلك على جواز الترجيح بكثرة الأدلة (3) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ الخبر إذا عارضه الأقيسة قدِّم عليها بالإجماع ، ولو كان الترجيح بكثرة الأدلة لَمَا قدِّم عليها .
الجواب عن هذه المناقشة :
وقد رُدَّتْ هذه المناقشة : بأنّ هذه الأقيسة المعارضة لِلخبر إما أنْ
(1) جامع الأسرار 4/1122
(2) تيسير الوصول إلى منهاج الأصول 6/206 بتصرف ويُرَاجَع الحاصل 2/969
(3) الفائق 4/395 بتصرف ويُرَاجَع : شرح المنهاج 2/792 ونهاية السول 3/164 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/205 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /300
تتّحد أصولها أو لا تتّحد ..
فإن اتحدت : لم تتعدد الأقيسة ؛ لأنّها متّحدة حقيقةً ؛ لاتحاد الأصل في الجميع .
وإنْ لم تتّحد أصولها : فممنوع أنْ يقدَّم الخبر ؛ فإنّه هو المتنازَع فيه (1) .
الدليل الثالث : قوله تعالى {أَن تَضِلَّ إِحْدَهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَهُمَا الأُخْرَى} (2) ..(1/302)
وَجْه الدّلالة : أنّ الله تعالى جعل شهادة المرْأتيْن برجل واحد ، وبيَّن العلة في ذلك : وهي أنْ تذكِّر إحداهما الأخرى ، ولذا فإنّ الأولى قد تَقَوَّت بتذكرة الثانية ، وهذا دليل على أنّ الترجيح يجوز بكثرة الأدلة (3) .
مناقشة هذا الدليل ( لِلباحث ) :
ويمكن مناقشة هذا الدليل : بأنّا سلَّمْنَا أنّ شهادة المرأة الواحدة تتقوى بشهادة المرأة الثانية ، لكنّها لم تترجح بها ؛ لأنّ الشهادة الثانية أصْل ، ولا تتمّ ولا تُقْبَل الشهادة إلا باثنتين ، ولذا كان الاستدلال خارج محلّ النزاع ، ويكون مقبولاً إنْ وُجِدَتْ شاهدتان ثم أتت ثالثة أو رابعة مع أحد الطرفيْن المتنازعيْن ، وحينئذٍ يكون فيها الخلاف الواقع في جريان الترجيح في الشهادة وهل نقيسها على الأدلة أم لا ؟
أدلة المذهب الثاني :
استدلّ أصحاب المذهب الثاني – القائلون بعدم جواز الترجيح بكثرة الأدلة – بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الترجيح لا يكون إلا بَيْن دليليْن متعارضيْن وتَقَوَّى أحدهما بتابع لِذلك الدليل لا بمستقلّ بالتأثير ، والأدلة التي يتقوى بها بَعْد ذلك تُعَدّ مؤثّراً مستقلاًّ ، ولذا لا يجوز الترجيح بها : كالشهادة ؛ فإنّه
(1) يُرَاجَع شرح المنهاج 2/792 ، 793
(2) سورة البقرة مِن الآية 282
(3) يُرَاجَع أصول البزدوي مع كشف الأسرار 4/138 ، 139
لا ترجح إحدى الشهادتيْن المتعارضتيْن بَعْد استكمال نِصَابهما بزيادة لإحداهما في العدد على الأخرى (1) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ الأصل المقيس عليه – وهو الشهادة – ليس مسلَّماً جريان الترجيح فيه ؛ لأنّه يؤدي إلى عدم فصل الخصومات (2) .
الوجه الثاني ( لِلباحث ) : أنّ الترجيح بوصف تابع لِلمرجَّح ليس مسلَّماً عندنا ، وإنّما يجوز الترجيح بوصف تابع وغير تابع ، مستقلّ وغير مستقلّ وكون الوصف غير تابع أو مستقلاًّ أدعى لِتقوية الدليل وترجيحه .(1/303)
الدليل الثاني : أنّه لو جاز الترجيح بكثرة الأدلة لَقدَّمْنَا القياس المعارَض بخبر الواحد إذا تقوَّى بقياس آخَر يرافقه ، لكنّ خبر الواحد مقدَّم ، فدلّ ذلك على عدم جواز الترجيح بكثرة الأدلة .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ هذه الأقيسة المتعددة المعارضة لِخبر الواحد ليست في الحقيقة إلا قياساً واحداً إنْ كانت أصولها متّحدةً ..
أمّا إذا كانت الأقيسة الأخرى مخالفةً لِلقياس المعارِض لِخبر الواحد ومتّحدةً في الحُكْم فإنّ تقديم خبر الواحد – حينئذٍ – على القياس غير مسلَّم (3) .
الدليل الثالث : إجماع الصحابة – سوى ابن مسعود – - رضي الله عنهم - على عدم ترجيح ابن عمّ هو أخ لأُمّ على مَن هو ابن عمّ فقط مع وجود سبب
(1) يُرَاجَع : التحرير مع التيسير 3/169 ومسلّم الثبوت 2/210
(2) يُرَاجَع : الفائق 4/397 ، 398 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/136 ، 137
(3) يُرَاجَع : الفائق 4/397 ، 398 والإبهاج 3/231 ونهاية السول 3/164 ، 165 ومناهج العقول 3/164 والفصول /420 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /301 ، 302
الميراث ، فلا يكون الأول ( كونه ابن عمّ ) حاجباً لِلثاني ( كونه أخاً لأُمّ ) بل يستحقّ بكُلّ منهما مستقلاًّ نصيباً مِن الإرث ، وعدم جواز الترجيح هُنَا دليل على أنّ الأدلة لا تترجح بكثرتها (1) .
مناقشة هذا الدليل ( لِلباحث ) :
ويمكن مناقشة هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ هذا الحُكْم غير مسلَّم عند جميع الصحابة - رضي الله عنهم - حتى يكون إجماعاً ؛ فقد رأينا ابن مسعود - رضي الله عنه - يرى أنّ المال كُلّه لابن العمّ الذي هو أخ لأُمّ لِترجُّحه على التعصب بالأخوة ، وهذا شبيه لِلترجيح بكثرة الأدلة .(1/304)
الوجه الثاني : سلَّمْنَا – جدلاً – أنّ الصحابة - رضي الله عنهم - جميعهم لم يرجِّحوا ابن عمّ هو أخ لأُمّ على ابن عمّ فقط ، لكنّ عدم ترجيحهم في هذه الحالة مرجعه تعدُّد أسباب الميراث : هل يرجَّح بها أم لا ؟ وليس تعدُّد الأدلة الذي هو محلّ نزاعنا .
الوجه الثالث : أنّه قد ثبت أنّ الصحابة - رضي الله عنهم - رجَّحوا بعض الأخبار على بعض بكثرة الرواة ونَحْوها ، وهذا يكفي دليلاً على ترجيحهم بكثرة الأدلة .
رابعاً – تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليين وأدلّتهم في جواز الترجيح بكثرة الأدلة يمكن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ أدلة المذهب الأول قد سلمت جميعها مِن المناقشة والاعتراض ، وأدلة المذهب الثاني لم تسلم مِن المناقشة والاعتراض ، الأمر الذي يؤهل المذهب الأول لِلترجيح .
2- أنّ المذهب الأول - القائل بجواز الترجيح بكثرة الأدلة – أَوْلَى بالقبول
(1) يُرَاجَع : التوضيح مع التنقيح مع التلويح 2/242 ، 243 والمغني /329 وكشف الأسرار مع أصول البزدوي 4/140 ، 141 وتيسير التحرير 3/169 ومسلّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/210 وأدلة التشريع المتعارضة /87 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/138
والترجيح عندي ؛ لِمَا تَقَدَّم ، ولأنّ تقوية أحد الدليليْن المتعارضيْن بدليل آخَر عمل بظنّيْن في مقابل ظنّ واحد .
3- أنّ الترجيح قد وقع بكثرة الرواة ، فكذلك بكثرة الأدلة ..
وفي ذلك يقول تاج الدين الأرموي رحمه الله تعالى :" قال الشافعي : يجوز الترجيح بكثرة الدليل كترجيح الخبر بكثرة الرواة " (1) ا.هـ .
ويقول الصفي الهندي رحمه الله تعالى :" الترجيح بكثرة الأدلة جائز ، خلافاً لِلحنفية ، ومِن صورها الترجيح بكثرة الرواة " (2) ا.هـ .
(1) الحاصل 2/969
(2) الفائق 4/394
المطلب الثاني
الترجيح بموافقة دليل آخَر
إنّ الترجيح بَيْن خبريْن متعارضيْن بموافقة دليل آخَر لأحدهما دون الآخَر له صور عديدة :(1/305)
الصورة الأولى : ترجيح ما وافق ظاهر الكتاب .
إذا تعارض خبران أحدهما وافق الكتاب والآخَر لم يوافقه : فهل يرجح الأول لِموافقته ظاهر الكتاب أم لا ؟
خلاف لِلأصوليين في ذلك على مذْهبيْن :
المذهب الأول : ترجيح ما وافق ظاهر الكتاب .
وهو لِبعض العلماء كما ذَكَر إمام الحرمين رحمه الله تعالى (1) ، وهو قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - فيما أورده الزركشي رحمه الله تعالى :" وكان الشافعي يقول : ما وافق ظاهر الكتاب كانت النفوس أميَل إليه " (2) ا.هـ .
وهو اختيار ابن السمعاني والآمدي وابن قدامة والصفي الهندي وابن الحاجب والفتوحي والشوكاني رحمهم الله تعالى (3) .
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، حصرتُها فيما يلي :
الدليل الأول : أنّ الخبر الذي وافق ظاهر القرآن تأكد غلبة الظن بقصد مدلوله ، وما تأكد غلبة الظن بقصد مدلوله كان أقوى مما ليس كذلك ،
(1) يُرَاجَع البرهان 2/1182
(2) البحر المحيط 6/176
(3) يُرَاجَع : قواطع الأدلة 3/36 والإحكام لِلآمدي 4/274 وروضة الناظر /416 والفائق 4/450 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/316 وبيان المختصر 3/395 وشرح الكوكب المنير 4/694 695 وإرشاد الفحول /279
ولذا فإنّ النفوس تميل إليه ، فيكون أَوْلى بالترجيح والتقديم (1) .
الدليل الثاني : أنّ الظن الحاصل مِن الخبر الموافق لِظاهر القرآن حاصل مِن دليليْن ، والظن الحاصل مِن الخبر المعارض ولم يوافق ظاهر القرآن حاصل مِن دليل واحد ، والظن الحاصل مِن دليليْن أقوى مِن الظن الحاصل مِن دليل واحد ، ولذا كان الأول أَوْلى بالتقديم والترجيح (2) .
الدليل الثالث : أنّ العمل بالخبر الذي وافق ظاهر القرآن وإنْ أفضى إلى مخالفة مقابله وهو دليل واحد فالعمل بالخبر الذي لم يوافق ظاهر القرآن يلزم منه مخالفة دليليْن ، والعمل بما يلزم معه مخالفة دليل واحد أَوْلى مما يلزم منه مخالفة دليليْن ، ولذا رجَّحْنَا الخبر الذي وافق ظاهر القرآن (3) .(1/306)
المذهب الثاني : ترجيح ما خالف ظاهر الكتاب .
وهو اختيار القاضي أبي بكر رحمه الله تعالى .
واحتجّ لِذلك : بأنّ الخبر الذي يخالف ظاهر الكتاب لا يُنقَل ما نُقِل إلا عن زيادة الثبت ، وإذا كان كذلك كان هو الأَوْلى بالترجيح مِن الخبر الذي وافق ظاهر الكتاب (4) .
مناقشة هذا الدليل :
ويمكن مناقشة هذا الدليل : بأنّ ما علّلتم به ترجيح الخبر الذي خالف ظاهر القرآن هو ذاته متحقق في الخبر الذي وافق ظاهر القرآن ، ولذا فزيادة الثبت لا تُعَدّ مرجِّحاً ؛ لأنّها قد تتحقق في الخبريْن .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائلون بترجيح
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/274 والبحر المحيط 6/176 وبيان المختصر 3/395 وقواطع الأدلة 3/36 وأدلة التشريع المتعارضة /158 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/234
(2) يُرَاجَع شرح الكوكب المنير 4/694 ، 695
(3) يُرَاجَع الإحكام لِلآمدي 4/274
(4) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/176 والبرهان 2/1182
الخبر الذي وافق ظاهر الكتاب ؛ لأنّه أقوى في غلبة الظن التي بُنِيَتْ على دليليْن ، وليس كذلك الخبر الذي لم يوافق ظاهر الكتاب ، إضافةً إلى أنّ أدلة المذهب الأول لها وجاهتها وقوّتها وسلامتها مِن المناقشة والاعتراض وفي المقابل عدم سلامة دليل المذهب الثاني مِن المناقشة والاعتراض .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَان } (1) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { الْعُمْرَةُ تَطَوُّع } (2) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب العمرة والحجّ ، والخبر الثاني لم يوجب العمرة وإنّما ندب إليها ، فالحُكْمان متعارضان في حقّ العمرة .(1/307)
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول الموجب لِلعمرة موافق لِظاهر الكتاب في قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه} (3) ، والخبر الثاني ليس كذلك ، ولذا رجح الخبر الأول ؛ لِموافقة ظاهر الكتاب ، وتكون العمرة واجبة (4) .
الأثر الفقهي :
اختلف العلماء في حُكْم العمرة على قوْليْن :
القول الأول : وجوب العمرة .
وهو قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في الجديد والحنابلة ، ورُوِي عن جَمْع مِن الصحابة والتابعين ، منهم : عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وابن المسيب والحسن البصري والثوري - رضي الله عنهم - .
واحتجّوا : بقوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه} (5) ، وبالخبر الأول .
(1) أَخْرَجَه البيهقي في السنن الكبرى 4/350 وابن عديّ في الكامل 4/150 عن جابر - رضي الله عنه - .
(2) أَخْرَجَه ابن ماجة في كتاب المناسك : باب العمرة برقم ( 2980 ) عن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - .
(3) سورة البقرة مِن الآية 196
(4) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/175 وأدلة التشريع المتعارضة /158 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/234 ، 235
(5) سورة البقرة مِن الآية 196
القول الثاني : أنّها سُنّة مؤكدة .
وهو قول الحنفية والمالكية والإمام الشافعي - رضي الله عنه - في القديم ، ورُوِي عن ابن مسعود وجابر وأبي ثور والنخعي - رضي الله عنهم - .
واحتجّوا لِذلك : بما رواه جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما - قال : " أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْرَابِيٌّ فَقَال :" يَا رَسُولَ اللَّهِ .. أَخْبِرْنِي عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ ؟ " فَقَال { لاَ ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك } (1) .
كما احتجّوا بالخبر الثاني .(1/308)
والأَوْلى عندي بالقبول : ما عليه أصحاب القول الثاني مِن أنّ العمرة سُنَّة مؤكدة ؛ ترجيحاً لِلخبر الثاني الموافق لِظاهر الكتاب والسُّنَّة اللّذيْن يثبتان وجوب الحجّ في قوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} (2) وقوله - صلى الله عليه وسلم - { بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْس ... } (3) (4) .
ومثاله أيضاً : حديث السيدة عائشة رضي الله عنها :" كَانَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاَةَ لاَ يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَس (5) " (6)
(1) أَخْرَجَه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين برقم ( 13877 ) والبيهقي في السُّنَن الكبرى 4/348 وابن أبي شيبة في مصنَّفه 3/223
(2) سورة آل عمران مِن الآية 97
(3) سبق تخريجه .
(4) يُرَاجَع : الأمر عند الأصوليين 2/632 – 638 والمهذب 2/657 والمجموع 7/9 وبدائع الصنائع 2/226 والاختيار 1/157 والمغني لابن قدامة 3/173 وحاشية الدسوقي 2/2 والشرح الصغير 1/550 والجامع لأحكام القرآن 2/369 ونيل الأوطار 4/281 وتفسير آيات الأحكام 1/97 وسبل السلام 2/369
(5) الغلس : ظُلْمَة آخِر الليل إذا اختلطت بضوء .. المعجم الوسيط 2/658
(6) أَخْرَجَه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة : باب وقت الفجر برقم ( 544 ) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة : باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها برقم ( 1021 ) والترمذي في كتاب الصلاة عن رسول الله : باب ما جاء في التغليس بالفجر برقم ( 141 ) .
مع حديث رافع بن خَدِيج - رضي الله عنه - { أَسْفِرُوا (1) بِالْفَجْرِ ؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْر } (2) ..(1/309)
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول حدَّد صلاة الفجر وقت الغلس ، والخبر الثاني حدّد وقتها في الإسفار ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول المعجِّل بصلاة الفجر وقت الغلس موافق لِظاهر القرآن في قوله تعالى {حَفِظُوا عَلَى الصَّلَوَت} (3) ، ومِن المحافظة عليها إيقاعها في أول الوقت ، وكذلك قوله تعالى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُم} (4) ، والخبر الثاني ليس له ما يوافقه مِن ظاهر الكتاب ، ولذا كان الخبر الأول هو الأَوْلى بالترجيح (5) .
الأثر الفقهي :
اتفق الفقهاء على أنّ أول وقت الصبح طلوع الفجر الصادق ، وآخِره طلوع الشمس ، إلا ما رُوِي عن ابن القاسم (6) وعن بعض أصحاب الشافعي أنّ آخِر وقتها الإسفار .
(1) أسْفَر : مِن " سفر سفوراً " وضح وانكشف ، يقال " سَفَر الصبح " أضاء وأشرق ، ويقال " أَسْفَر بالصلاة " صلاّها في إسفار الصبح .. المعجم الوسيط 1/432 ، 433
(2) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب الصلاة عن رسول الله : باب ما جاء في الإسفار بالفجر برقم ( 142 ) وأحمد في مسند الشاميين برقم ( 16641 ) .
(3) سورة البقرة مِن الآية 238
(4) سورة آل عمران مِن الآية 133
(5) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/695 ، 696 وأدلة التشريع المتعارضة /158 ، 159 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/235 ، 236
(6) ابن القاسم : هو أبو عبْد الله عبْد الرحمن بن القاسم بن خالِد العتقي المصري رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 132 هـ ، صَحِب الإمامَ مالِكَ - رضي الله عنه - عشرين سَنَة ..
مِنْ مصنَّفاته : المُدَوَّنة في فروع المالكية .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمِصْر سَنَة 191 هـ .
طبقات الفقهاء /155 وشذرات الذهب 1/329
واختلفوا في وقتها المختار على قوْليْن :
القول الأول : الإسفار بها أفضل .
وهو قول الإمام أبي حنيفة وأصحاب الرأي والثوري - رضي الله عنه - .(1/310)
واحتجّوا : بحديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - المتقدم .
القول الثاني : التغليس بها أفضل .
وهو ما عليه أكثر العلماء ، واختاره الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود - رضي الله عنهم - .
واحتجّوا : بحديث السيدة عائشة – رضي الله عنها – المتقدم (1) .
والأَوْلى عندي : التغليس بصلاة الصبح والتعجيل بها ؛ لأنّ ذلك موافق لِظاهر نصوص القرآن التي ترغِّب في المسارعة بالخيرات وفعل الطاعات ، إضافةً إلى نصوص السُّنَّة التي ترغِّب في أداء الصلوات في أول وقتها ، ومنها في صلاة الصبح ما رواه أنس - رضي الله عنه - أنّه - صلى الله عليه وسلم - أسفر بالصبح مرّةً ثُمّ كانت صَلاته بَعْدُ بغلس حتى مات (2) (3) .
الصورة الثانية : ترجيح ما وافق السُّنَّة .
إذا تعارض خبران أحدهما وافق السُّنَّةَ والآخَر لم يوافق السُّنَّة كان الخبر الذي وافق السُّنَّة هو الراجح ؛ لأنّه حينئذٍ تقوَّى بما وافقه مِن السُّنَّة .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْل } (4) مع قوله - صلى الله عليه وسلم -
(1) يُرَاجَع : بداية المجتهد 1/115 ، 116 والاختيار 1/38 ونهاية المحتاج 1/371 ومغني المحتاج 1/234 والمغني لابن قدامة 1/385 ، 386
(2) لم أجد نصّ هذه الرواية عن أنس - رضي الله عنه - ، وإنّما المذكور في كتب السُّنَّة والتخريج أنّ ذلك مِن رواية أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - ..
يُرَاجَع في ذلك : سُنَن أبي داود : كتاب الصلاة : باب في المواقيت حديث رقم (333 ) وسُنَن البيهقي الكبرى 1/363 ونصب الراية 1/223
(3) يُرَاجَع سبل السلام 1/231
(4) سبق تخريجه .
{ الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا } (1) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول حرَّم النكاح بغير وليّ ، والخبر الثاني أجاز لِلمرأة أنْ تنكح نفسها ، فالحُكْمان متعارضان .(1/311)
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول مقوّى بقوله - صلى الله عليه وسلم - { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِل } (2) ، ولذا كان أَوْلى بالترجيح مِن الخبر الثاني (3) .
الصورة الثالثة : ترجيح ما وافق الإجماع .
إذا تعارض خبران أحدهما وافق الإجماعَ والآخَر لم يوافقه رجح الخبر الأول الموافق لِلإجماع (4) ؛ وذلك لأنّ تقديم الخبر الذي لم يوافق الإجماع فيه ترك لِشيْئيْن : وهُمَا الخبر المعارض والإجماع الموافق له ، وتقديم الخبر الموافق لِلإجماع فيه ترك لِشيء واحد : وهو الخبر المعارض ، وما كان فيه ترك شيء واحد أَوْلى بالترجيح مما فيه ترك لِشيْئيْن ، ولذا وجب ترجيح الخبر الموافق لِلإجماع (5) .
الصورة الرابعة : ترجيح ما وافق القياس .
إذا تعارض خبران أحدهما وافق القياسَ والآخَر لم يوافقه : فهل يرجح الخبر الذي وافق القياس أم لا ؟
خلاف لِلأصوليين في ذلك على مذْهبيْن :
المذهب الأول : ترجيح الخبر الذي وافق القياس .
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
(3) يُرَاجَع : التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/236 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /376
(4) يُرَاجَع : المستصفى /377 وروضة الناظر /416 والإحكام لِلآمدي 4/274 وشرح الكوكب المنير 4/695
(5) يُرَاجَع شرح الكوكب المنير 4/695
وهو ما عليه الجمهور والمحدّثون ، وقول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ، واختاره ابن عقيل وأبو يعلى والآمدي والزركشي وابن الهمام رحمهم الله تعالى (1) .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ أحد الخبريْن المتعارضيْن إذا اختصّ بما يوجب تغليب الظن تلويحاً كان مرجَّحاً على الخبر الثاني ، ومجرد التلويح لا يستقلّ دليلاً ، فإذا اعتضد أحد الخبريْن بما يستقلّ دليلاً كان أَوْلى بالترجيح ، ولذا رجَّحْنَا الخبر الذي وافق القياس على غيره (2) .
المذهب الثاني : عدم ترجيح واحد منهما .(1/312)
وهو ما عليه الحنفية ، وقول القاضي أبي بكر رحمه الله تعالى (3) ، وظاهر كلام إمام الحرمين – رحمه الله تعالى – في قوله :" إنّما يقدَّم الخبر إذا لم يعارضه خبر ، فإذا تعارضا افتقر أحدهما إلى التأكيد بما يغلبه على الآخَر ، فهذا منتهى القول ولا قطع ، والعمل بما اجتمع عليه الخبر والنظر " (4) ا.هـ .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الخبر مقدَّم في مراتب الأدلة على القياس ، فيستحيل ترجيح خبر على خبر بما يسقطه الخبر ، ومَن أحاط بمراتب الأدلة لم يتعلق بالقياس في واقعة فيها خبر صحيح ؛ فإنّ القياس مع الخبر الصحيح المستقلّ الواقع نصّاً في حُكْم اللغو الذي لا حاجة إليه ، وما يقدَّم على القياس إذا خالفه فهو مقدَّم عليه – أيضاً – إذا وافقه ، فالقياس إذَنْ
(1) يُرَاجَع : البرهان 2/1178 والواضح 5/102 ، 103 والعدة 3/1049 ، 1050 والإحكام لِلآمدي 4/374 والبحر المحيط 6/179 والتيسير مع التحرير 3/154 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/236 ، 237 وأدلة التشريع المتعارضة /53
(2) يُرَاجَع البرهان 2/1178
(3) يُرَاجَع : البرهان 2/1178 والتحرير مع التيسير 3/154 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/236 ، 237
(4) يُرَاجَع البرهان 2/1178
لا وَقْع له مع ثبوت الخبر ، والتعارض يوجب سقوط التعلق بالخبريْن ، فإذا سقطا فالتعلق بالقياس بَعْد سقوطهما (1) .
مناقشة هذا الدليل :
ويمكن مناقشة هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّا سلَّمْنَا أنّ الخبر مقدَّم على القياس في رتبته بَيْن الأدلة ، لكنْ لا نسلِّم أنّ القياس مع الخبر الصحيح في حُكْم اللغو الذي لا حاجة إليه وذلك لأنّكم سلَّمتم أنّ القياس دليل كالخبر مع فارق المرتبة ، وإذا كان كذلك فأيّهما يقدَّم عند التعارض : الدليل الذي تقوَّى بدليل آخَر أم الذي لم يَتَقَوَّ بغيره ؟ لا شكّ أنّ الأول هو الأَوْلى .(1/313)
الوجه الثاني : أنّ دليلكم أسقط الخبريْن المتعارضيْن وقدَّم القياس ، وهو مخالف لأصول مراتب الأدلة وشرط العمل بالقياس : وهو عدم وجود نصّ ..
صحيح أنّ الخبريْن متعارضان لكنّ العمل بأحدهما ممكن ، خاصّة فيما تقوَّى بالقياس الذي وافقه .
والأَوْلى عندي بالقبول والترجيح : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائلون بترجيح الخبر الذي وافق القياس ؛ لِسلامة وجهتهم وقوة حُجّتهم ، وعدم سلامة وجهة المذهب الثاني .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فِي فَرَسِهِ صَدَقَة } (2) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَار } (3) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول لم يوجب الزكاة في الفَرَس ، والخبر
(1) البرهان 2/1178 ، 1179
(2) أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب الزكاة : باب لا زكاة على المُسْلِم في عَبْده وفَرَسه برقم ( 1631 ) والنسائي في كتاب الزكاة : باب زكاة الخَيْل برقم ( 2422 ) وأحمد في باقي مُسْنَد المُكْثِرين برقم ( 7090 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(3) أَخْرَجَه البيهقي في السنن الكبرى 4/119 والدارقطني في سُنَنِه 2/125 والطبراني في الأوسط 7/338 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .
الثاني أوجبها في الخيل ، فالحُكْمَان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول وافق القياس على الحمير والبغال وسائر الحيوانات التي لا زكاة فيها ، والخبر الثاني ليس كذلك ، فيرجَّح الخبر الأول ؛ لأنّ ما لا تجب الزكاة في ذكوره ( الفَرَس ) لا تجب في إناثه ( الخيل ) (1) .
الأثر الفقهي :
اتفق الفقهاء على أنّ الخيل إذا كانت معدَّةً لِلتجارة ففي قيمتها الزكاة إذا بلغت نِصَاباً ..
ثم اختلفوا في زكاة الخيل إذا لم تكن لِلتجارة على قوْليْن :
القول الأول : عدم وجوب الزكاة فيها .(1/314)
وهو قول أكثر أهل العلم والأئمة مالك والشافعي وأحمد - رضي الله عنهم - .
واحتجّوا : بالخبر الأول المتقدم .
وهذا القول متفق مع ترجيح الخبر الذي وافق القياس .
القول الثاني : تجب الزكاة فيها .
وهو قول الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - إذا كانت سائمةً ذكوراً وإناثاً أو أناثاً ، أمّا إذا كانت ذكوراً منفردةً فلا زكاة فيها .
واحتجّ الحنفية لِذلك : بقوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَة} (2) ، والخيل مِن جملة الأموال ، ولذا وجبت الزكاة فيها .
واحتجّوا أيضاً : بالخبر الثاني المتقدم (3) .
والأَوْلى عندي : عدم وجوب الزكاة في الخيل ، وهو ما عليه أصحاب
(1) يُرَاجَع : العدة 3/1049 ، 1050 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/237
(2) سورة التوبة مِن الآية 103
(3) يُرَاجَع : الاختيار 1/108 ، 109 والإفصاح 1/200 ، 201 ومغني المحتاج 1/369 والمغني لابن قدامة 2/620
القول الأول ؛ لأنّ دليلهم وافق القياس ، وليس كذلك دليل القول الثاني ، إضافةً إلى أنّ الخبر الأول في المثال في حُكْم النهي ، والخبر الثاني أمر ، وإذا تعارضا رجَّحْنَا النهي على الأمر كما سبق تفصيله في مطلب ترجيح الأمر والنهي والخبر .
المطلب الثالث
الترجيح بالعمل
إنّ الترجيح بَيْن خبريْن متعارضيْن بالعمل له صور عديدة ، يمكن حصرها فيما يلي :
الصورة الأولى : الترجيح بعمل أهل المدينة .
إذا تعارض خبران أحدهما وافق عمل أهل المدينة والثاني ليس كذلك : فهل يرجح الخبر الذي وافق عمل أهل المدينة على غيره أم لا ؟
خلاف بَيْن الأصوليين في ذلك على مذْهبيْن :
المذهب الأول : ترجيح ما وافق عمل أهل المدينة .
وهو ما عليه المالكية والشافعية وبعض الحنابلة ، واختاره الغزالي والباجي وابن السمعاني والآمدي وابن جزي وابن الحاجب والصفي الهندي والزركشي وابن السبكي والقرافي والفتوحي رحمهم الله تعالى (1) .(1/315)
واحتجّوا لِذلك : بأنّ المدينة دار الهجرة ومهبط الوحي ، وأهلها يروون أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسُنَّته التي مات عليها ، ولذا فَهُمْ أَخْبَر بمواقع الوحي والتأويل مِن غيرهم ، ولذا كان عملهم – وإنْ لم يكن حُجَّةً كما يرى البعض – مقويّاً ومرجِّحاً لِلخبر المعارَض بخبر آخَر ليس موافقاً لِعمل أهل المدينة (2) .
(1) يُرَاجَع : المستصفى /377 وإحكام الفصول /742 وقواطع الأدلة 3/35 ، 36 والإحكام لِلآمدي 4/274 وتقريب الوصول /478 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/316 وبيان المختصر 3/395 والفائق 4/450 والبحر المحيط 6/179 وجمع الجوامع 2/370 وشرح تنقيح الفصول /423 وشرح الكوكب المنير 4/699
(2) يُرَاجَع : المستصفى /377 وقواطع الأدلة 3/35 ، 36 والإحكام لِلآمدي 4/274 وشرح الكوكب المنير 4/700
المذهب الثاني : عدم ترجيح ما وافق عمل أهل المدينة .
وهو ما عليه الحنفية وبعض الحنابلة ، واختاره أبو يعلى وابن عقيل والطوفي رحمهم الله تعالى (1) .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ ترجيح عمل أهل المدينة إمّا أنْ يكون راجعاً إلى نفس البلد وعينه ، وإمّا أنْ يكون راجعاً إلى أهله وهم الصحابة - رضي الله عنهم - ..
فإنْ كان راجعاً إلى البلد وعينه : فهو مردود ؛ لأنّ المكان لا اعتبار له .
ولذا فلم يَبْقَ إلا أنّه راجع إلى أهله وهم الصحابة - رضي الله عنهم - ، وحينئذٍ كان الخبر الذي عملت به الصحابة - رضي الله عنهم - حيث كانوا مِن البلاد مقدَّماً عند كُلّ عالِم بالحديث بلا فَرْق بَيْن مَن كان مِن أهل المدينة أو أهل الكوفة ونَحْوها ولو رجَّحْنَا ما عليه أهل المدينة على غيرها لَكان ترجيحاً بلا مرجِّح (2) .
مناقشة هذا الدليل :
ويمكن مناقشة هذا الدليل مِن وجْهيْن :(1/316)
الوجه الأول : أنّا لا نسلِّم بعدم اعتبار البلد وعينه ؛ لأنّ البلد الذي عايش الوحي ومَن نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - وسمع قوله وفعله - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره مِن البلدان ؛ لأنّ أهله هم أعرف بالسُّنَّة وآخِر ما مات عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
الوجه الثاني : أنّا لا ننكر أنّ الصحابة - رضي الله عنهم - الذين تفرَّقوا في البلاد حملوا سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنّا لا نطلق على البلاد التي حلّوا بها " عمل أهل الكوفة " – كما ذهب الحنفية – لأنّ الصحابة بها قلة ، وليس كما هو الحال بأهل المدينة التي جمعت كثرة الصحابة - رضي الله عنهم - ، وهذه واحدة تقوِّي عمل أهل المدينة على غيرها .
(1) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/700 والعدة 3/1052 والواضح 5/101 والمسودة /113 والبلبل /189
(2) يُرَاجَع الواضح 5/101 ، 102
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائلون بترجيح الخبر الذي وافق عمل أهل المدينة ؛ لأنّ أهلها أعرف الناس بالسُّنَّة ومواقع الوحي والتأويل مِن غيرهم .
مثاله : ما رواه أبو محذورة - رضي الله عنه - في الأذان :( اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ .. أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه ) (1) مع ما رُوِي عنه مِن طريق آخَر :( اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَر ) (2) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول أوجب تكبيرتيْن ، والخبر الثاني أوجب ثلاث تكبيرات ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول الموجب لِتكْبيرتيْن موافق لِعمل أهل المدينة ، والخبر الثاني ليس كذلك ، فرجح الأول لِموافقته عمل أهل المدينة (3) .
الصورة الثانية : ترجيح ما وافق عمل الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - .(1/317)
إذا تعارض خبران أحدهما وافق عمل الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - والآخَر ليس كذلك : فهل يرجح ما وافق عمل الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - أم لا ؟
لِلأصوليين في ذلك مذهبان :
المذهب الأول : ترجيح ما وافق عمل الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - .
وهو ما عليه الكثرة ، وقول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ، ورواية عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - ، واختاره الشيرازي وابن السمعاني وابن عقيل وأبو يعلى وابن الحاجب والآمدي والفتوحي وابن الهمام رحمهم الله تعالى (4) .
(1) سبق تخريجه .
(2) أَخْرَجَه النسائي في كتاب الأذان : باب كيْف الأذان ؟ برقم ( 627 ) وأبو داود في كتاب الصلاة : باب كيْف الأذان ؟ برقم ( 422 ) وابن ماجة في كتاب الأذان والسُّنَّة فيه : باب الترجيع في الأذان برقم ( 701 ) .
(3) يُرَاجَع : إحكام الفصول /742 والعدة 3/1052
(4) يُرَاجَع : اللمع /47 والبرهان 2/1176 وقواطع الأدلة 3/37 والواضح 5/100 =
واحتجّوا لِذلك بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله - صلى الله عليه وسلم - { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذ } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالتمسك بسُنَّة الخلفاء الراشدين ، وهذه تزكية لهم دون غيرهم ، وما ذاك إلا لأنّهم أحرص الناس على الدين وأعلمهم به ، ولذا وجب اتباع فتاواهم والاقتداء بهم ، والخبر الذي وافق عملهم يغلب على الظن قوَّته في الدلالة بهذا العمل ، وليس كذلك الخبر الذي لم يوافق عملهم ؛ لأنّ الأول قد تقوَّى بجهتيْن ، ولذا كان ترجيحه هو الأَوْلى (2) .(1/318)
الدليل الثاني : أنّ الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - لا يعملون عملاً يوافق أحد الخبريْن ويتركون الخبر الثاني إلا لِحُجَّة عندهم ، كما أنّه يدلّ على أنّه آخِر الأمْريْن ، ولذا وجب ترجيح الخبر الذي وافق عمل الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - (3) .
المذهب الثاني : عدم ترجيح ما وافق عمل الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - .
وهو إحدى الروايتيْن عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - (4) .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائلون بترجيح ما وافق عمل الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - ؛ لِقوة حُجّتهم المدعمة بالسُّنَّة الصحيحة ، ولِعدم وجود دليل لِلمذهب الثاني .
= والعدة 3/1050 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/316 وبيان المختصر 3/395 والإحكام لِلآمدي 4/274 وشرح الكوكب المنير 4/700 والمسودة /314 والتحرير مع التيسير 3/162 ومسلّم الثبوت 2/206 والمدخل /199
(1) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب العلم عن رسول الله : باب ما جاء في الأخذ بالسُّنَّة واجتناب البدع برقم ( 2600 ) وأبو داود في كتاب السُّنَّة : باب في لزوم السُّنَّة برقم ( 3991 ) وابن ماجة في المقدمة : باب اتباع سُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين برقم ( 42 ) ، كُلّهم عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - .
(2) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/700 ، 701 والإحكام لِلآمدي 4/274
(3) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/701 واللمع /47 وقواطع الأدلة 3/37 والواضح 5/101
(4) يُرَاجَع : المسودة /314 والبلبل /189
مثاله : ما روته السيدة عائشة – رضي الله عنها – أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبِّر في الفطر والأضحى : في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً (1) مع ما رواه أبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنهم - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبِّر في الأضحى والفطر أربعاً (2) ..(1/319)
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول نقل في تكبيرات العيد سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية ، والخبر الثاني نقلها أربعاً فيهما ، فالحُكْمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الأول عمل به الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - ، والخبر الثاني لم يعملوا به ، ولذا رجح الخبر الأول ؛ لأنّه وافق عمل الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - (3) .
الصورة الثالثة : ترجيح ما وافق عمل أو قول الشيْخيْن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
إذا تعارض خبران أحدهما وافق عمل أو قول الشيْخيْن أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – والآخَر ليس كذلك : فهل يرجح الخبر الأول أم لا ؟
خلاف بَيْن الأصوليين في ذلك على مذْهبيْن :
المذهب الأول : ترجيح ما وافق عمل أو قول الشيْخيْن أو أحدهما .
وهو ما عليه بعض الحنابلة ، واختاره ابن السبكي رحمهما الله تعالى (4) ونسبه إمام الحرمين – رحمه الله تعالى – إلى الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في قوله : " فإذا تعارض خبران صحيحان وعمل بأحدهما أئمة مِن الصحابة فقد رأى
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
(3) يُرَاجَع : العدة 3/1050 والتعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية 2/233 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /378
(4) يُرَاجَع : العدة 3/1052 والمسودة /314 وشرح الكوكب المنير 3/701 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/370
الشافعي ترجيح ذلك الخبر على الخبر الذي عارضه ولم يصحّ العمل به ، واستشهد بما رواه أنس في في نصب الغنم ؛ إذ عارضه ما رواه عَلِيّ فيها وعمل الشيْخيْن يوافق ما رواه أنس ، فقال : أقدِّم حديث أنس " (1) ا.هـ .
وكذلك نقل الفضل بن زياد (2) – رحمه الله تعالى – في الحديثيْن بإسناد صحيح :" ينظر إلى ما عمل أو قال الخلفاء بَعْده [ - صلى الله عليه وسلم - ] " يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما " (3) ا.هـ .(1/320)
وقال أيوب السختياني (4) رحمه الله تعالى :" إذا بلغك اختلاف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدتَ في ذلك أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – فشدّ يدك ؛ فإنّه الحقّ وهو السُّنَّة " (5) ا.هـ .
واحتجّوا لِذلك : بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي : أَبِي بَكْرٍ وَعُمَر } (6) (7) ..
(1) البرهان 2/1176
(2) الفضل بن زياد : هو أبو العباس الفضل بن زياد القطّان البغدادي رحمه الله تعالى ، أحد أصحاب الإمام أحمد - رضي الله عنه - وممن أكثر الرواية عنه ، كان مِن المقدَّمين عند الإمام أحمد - رضي الله عنه - ، روى عنه يعقوب ابن سفيان والحسن بن عبد الوهاب بن أبي العنبر وجعفر بن محمد الصندلي رحمهم الله تعالى ..
تاريخ بغداد 12/363 وطبقات الحنابلة 1/101
(3) العدة 3/1052
(4) أيوب السختياني : هو أبو بَكْر أيُّوب بن أبي تميمة كيسان العزي البصري السختياني رحمه الله تعالى ، مِن صغار التابعين ، سيد العلماء ، وُلِد سَنَة 68 هـ ، أَخَذ عن أبي سعيد الخدري وأَنَس ابن مالك وعمرو بن سلمة - رضي الله عنهم - ، وأَخَذ عنه حمّاد بن زيْد وأيوب بن موسى وسُفْيَان الثورِي - رضي الله عنهم - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - في الطّاعون بالبَصْرَة سَنَة 131 هـ .
سير أعلام النبلاء6/15 – 26 وحلية الأولياء 3/2 – 14 وشذرات الذهب 1/176
(5) شرح الكوكب المنير 4/701 ، 702 والمسودة /314
(6) أَخْرَجَه الترمذي في كتاب المناقب عَنْ رسول الله : باب في مناقب أبي بكر وعُمَر كليهما برقم ( 3595 ) وابن ماجة في المقدمة : باب في فضْل أبي بكر برقم ( 94 ) وأحمد في باقي مسنَد الأنصار برقم ( 22161 ) عَنْ حذيفة - رضي الله عنه - .
(7) يُرَاجَع شرح الكوكب المنير 4/701(1/321)
وَجْه الدّلالة : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالاقتداء بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وما ذاك إلا لِمكانتهما منه - صلى الله عليه وسلم - ومعرفتهما بالتشريع ، ولذا كان الخبر الموافق لِعملهما أو قولهما هو الأَوْلى بالقبول والترجيح .
المذهب الثاني : ترجيح ما وافق عمل الشيْخيْن أو قولهما ما لم يخالف العمل به واحد ممن ميَّزهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
هذا المذهب لم يُعرَف له قائل ، وإنّما أورده ابن السبكي – رحمهما الله تعالى – بصيغة التجهيل والتضعيف في قوله :" ورابعها : إنْ كان أحد الشيْخيْن مطلقاً ، وقيل : إلا أنْ يخالفهما معاذ (1) في الحلال والحرام أو زَيْد في الفرائض ونَحْوهما " (2) ا.هـ .
واحتجّوا لِذلك : بقوله - صلى الله عليه وسلم - { أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ ، وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ مُعَاذٌ ، وَأَقْضَاكُمْ عَلِيّ } (3) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ميَّز هؤلاء الصحابة الثلاثة - رضي الله عنهم - كُلّ واحد منهم بمزيّة وفضيلة ليست عند غيره مِن الصحابة - رضي الله عنهم - : فزيْد - رضي الله عنه - عالِم بالفرائض ، ومعاذ - رضي الله عنه - بالحلال والحرام ، وعَلِيّ - رضي الله عنه - بالقضاء ، فإذا خالف واحد منهما أحد الشيْخيْن فيما ميَّزه النَّصّ كان هو الأَوْلى بالتقديم والترجيح (4) .
(1) معاذ بن جبل : هو أبو عَبْد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري - رضي الله عنه - ، إمام العلماء ، شَهِد العقبة شابّاً أمرد ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالأردن سَنَة 18 هـ .
حلية الأولياء 1/228 وسير أعلام النبلاء 1/443 وطبقات الفقهاء /27
(2) جمع الجوامع 2/370
(3) أَخْرَجَه ابن ماجة في المقدمة : باب فضائل خبّاب برقم ( 151 ) عن أنس - رضي الله عنه - ، وأبو يعلى 10/141 عن ابن عمر رضي الله عنهما .(1/322)
(4) يُرَاجَع : شرح المحلي مع جمع الجوامع 2/370 ، 371 والتعارض والترجيح عند الأصوليين /379
الصورة الرابعة : ترجيح ما وافق أقضية الصحابة - رضي الله عنهم - .
هذه الصورة لم يتعرض لها كثير مِن الأصوليين ، وإنّما قلة منهم ، وقفتُ منهم على ما يلي :
الأول : إمام الحرمين رحمه الله تعالى ..
في قوله :" مسألة : في تقديم أحد الخبريْن على الآخَر بموافقة أقضية الصحابة - رضي الله عنهم - " ا.هـ (1) .
الثاني : ابن قدامة رحمه الله تعالى ..
في قوله :" أو يعمل به الخلفاء ، أو يوافقه قول صحابيّ : كموافقة خبر التغليس قولَه تعالى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُم} (2) " (3) ا.هـ .
الثالث : ابن السبكي رحمهما الله تعالى ..
في قوله :" وثالثها : في موافق الصحابي إنْ كان حيث ميَّزه النَّصّ : كزيْد في الفرائض " (4) .
الرابع : البناني (5) في حاشيته على شرح المحلّي رحمهما الله تعالى ..
في قوله :" قلتُ : لا شكّ أنّ حاصل القول الأول : الأصحّ أنّ الخبريْن المتعارضيْن إذا كان أحدهما موافقاً لِقول صحابيّ فإنّه يرجح بتلك الموافقة على الآخَر الذي لم يوافق صحابيّاً أصلاً ، والمفهوم منه أنّه لو كان كُلّ منهما موافقاً قول صحابيّ لم يمكن الترجيح المذكور ، فيصار إلى مرجوح
(1) البرهان 2/1168
(2) سورة آل عمران مِن الآية 133
(3) روضة الناظر /416
(4) جمع الجوامع 2/370
(5) البناني : هو أبو يزيد عبد الرحمن بن جاد الله البناني المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ..
مِن مصنَّفاته : حاشية على شرْح المحلّي على جَمْع الجوامع .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 1198 هـ .
الفتح المبين 3/134
آخَر إنْ وُجِد ، وإلا بقيا متعارضيْن ، فموضع هذا القول كوْن أحد الخبريْن موافقاً لِلصحابي والآخَر غير موافق صحابيّ أصلاً " (1) ا.هـ .(1/323)
وكان أكثرهم تفصيلاً إمام الحرمين – رحمه الله تعالى – الذي فرَّق بَيْن الخبر المتواتر وغيره وبَيْن إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على حُكْم وبَيْن قول طائفة منهم أو واحد منهم ، على النحو التالي :
الحالة الأولى : انعقاد إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على معارضة أحد الخبريْن المتواتريْن والمتعارضيْن ، فالتعلق بالإجماع أَوْلى ؛ لأنّ الأُمّة لا تجتمع على الضلالة ، ويتطرق إلى الخبر إمكان النسخ .
وهذه الحالة غير واقعة ، وتصويرها عسر .
أمّا إذا كانا خبر آحاد : فذهب الإمام مالك - رضي الله عنه - إلى تقديم أقضية الصحابة على الخبر الصحيح والنَّصّ الصريح ، ونقل ناقلون عنه تقديم ما صار إليه أهل المدينة .
وقال الإمام الشافعي - رضي الله عنه - :" لا نظر إلى الأعمال والأقضية إذا لم يتفق عليها أهل الإجماع ، والتعلق بالخبر أَوْلى " ؛ لأنّ الحُجّة عنده في الإجماع وليست أقوالهم حُجّة .
الحالة الثانية : إذا بلغ طائفةً مِن الصحابة - رضي الله عنهم - الخبر وعملوا بخلافه ذاكرين له فيقدَّم عملهم ؛ حَمْلاً له على العلم بورود النسخ ، وليس تقديماً لأقضيتهم على الخبر ، وإنّما هو تمسُّك بالإجماع .
الحالة الثالثة : إذا لم يبلغهم الخبر أو غلب على الظن أنّه لم يبلغهم فالتعلق بالخبر حينئذٍٍ .
وهذا هو ما ذهب إليه الإمام الشافعي - رضي الله عنه - .
الحالة الرابعة : إذا غلب على الظن أنّ الخبر بلغهم وتحقَّقْنَا أنّ عملهم مخالف له فالتوقف (2) .
(1) حاشية البناني على شرح المحلي 2/370
(2) البرهان 2/1168 - 1173
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على أقوال بعض الأصوليين في الترجيح بما وافق أقضية الصحابة - رضي الله عنهم - يتضح لنا ما يلي :
1- أنّ محلّ النزاع – كما ذكر البناني رحمه الله تعالى – هو تعارُض خبريْن أحدهما موافق لِعمل الصحابي والآخَر غير موافق له ..(1/324)
أمّا إذا كان كُلّ واحد منهما موافقاً لِعمل صحابيّ أو قضى به : فيصار إلى مرجوح آخَر إنْ وُجِد ، وإلا بقيا متعارضيْن .
2- أنّ الخبر الذي وافق قول الصحابي أو قضى به مرجَّح على الخبر الذي لم يوافق قوله أو عمله ، وهو اختيار ابن قدامة وابن السبكي رحمهم الله تعالى .
وذهب إمام الحرمين – رحمه الله تعالى – إلى التوقف إذا غلب على الظن أنّ الخبر بلغهم وتحقَّقْنَا أنّ عملهم مخالف له .
3- أنّ ظاهر كلام الإمام الشافعي - رضي الله عنه - – فيما نقله عنه إمام الحرمين رحمه الله تعالى – أنّه لا ترجيح إلا بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - ، لأنّ أقوالهم ليست حُجَّة ..
وفيه نظر مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ هذا الكلام معارَض بما ذكره إمام الحرمين – رحمه الله تعالى – في قوله :" فإذا تعارض خبران صحيحان وعمل بأحدهما أئمة مِن الصحابة فقد رأى الشافعي ترجيح ذلك الخبر على الخبر الذي عارضه ولم يصحّ العمل به " (1) ا.هـ ..
فالنّصّان متعارضان ، إلا إنْ حملنا الأول على الترجيح بأقضية الصحابة - رضي الله عنهم - ، وحملنا الثاني علىالترجيح بعمل الصحابة - رضي الله عنهم - ..
(1) البرهان 2/1176
وأرى أنّه لا فارق بينهما .
كما أنّه معارَض – أيضاً – بما نقله ابن السبكي – رحمهما الله تعالى – عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في قوله :" قال الشافعي : وموافق زيْد في الفرائض فمُعاذ فعَلِيّ ، ومُعاذ في أحكام غير الفرائض فعَلِيّ " (1) ا.هـ .
الوجه الثاني : أنّا سلَّمْنَا جدلاً أنّ أقوالهم ليست حُجّةً ، لكنْ لا نسلِّم أنّ أقوالهم كأقوال غيرهم ؛ وإنّما لهم خصوصية وأفضلية ليست لِغيرهم بمقتضى النصوص الواردة في الكتاب والسُّنَّة .
4- أنّ الراجح عندي : هو ترجيح الخبر الذي وافق عمل أو قضاء الصحابة - رضي الله عنهم - على معارِضه الذي لم يوافق ذلك .
الصورة الخامسة : ترجيح ما وافق عمل أكثر السلف .(1/325)
إذا تعارض خبران أحدهما عمل بمقتضاه أكثر السلف والآخَر ليس كذلك : فهل يرجح الخبر الأول أم لا ؟
اختلف الأصوليون في ذلك على مذْهبيْن .
لكنّ بعض الأصوليين – كالفخر الرازي والأصفهاني رحمهما الله تعالى – قيّدوا السلف بمَنْ لا يجب تقليدهم ، فإنْ كانوا ممن يجب تقليدهم فإنّ عملهم حينئذٍ يكون حُجّة (2) .
إذا تقرَّر ذلك .. فإنّ الأصوليين اختلفوا في ترجيح ما وافق عمل أكثر السلف ممن لا يجب تقليدهم على مذْهبيْن :
المذهب الأول : ترجيح ما وافق عمل أكثر السلف .
وهو قول الأكثرين (3) وعيسى بن أبان رحمه الله تعالى (4) ، واختاره
(1) جمع الجوامع 2/371
(2) يُرَاجَع : المحصول 2/470 وشرح المنهاح 2/809
(3) يُرَاجَع شرح الكوكب المنير 4/702
(4) يُرَاجَع المحصول 2/470
البيضاوي والآمدي والصفي الهندي وابن جزي والزركشي وابن السبكي والفتوحي رحمهم الله تعالى (1) .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ الأكثر عادةً ما يكون توفيقهم لِلصواب أكثر مِن توفيق الأقلّ له ، وإذا كان كذلك فإنّ الخبر الذي وافق عمل الأكثر مِن السلف هو الأَوْلى بالترجيح ؛ لأنّ العادة تَستبعد أنْ يكون عمل الأكثر على خطأ (2) .
المذهب الثاني : عدم ترجيح ما وافق عمل أكثر السلف .
وعليه جمع مِن الأصوليين ، وهو قول الكرخي والجبائي رحمهما الله تعالى ، واختاره الغزالي وابن حزم والشوكاني رحمهم الله تعالى (3) .
واحتجّوا لِذلك : بأنّا لو رجَّحْنَا بعمل أو قول أكثر السلف لَكان قولهم حُجّةً ، وليس كذلك ، لأنّه لا حُجَّة في قول الأكثر ، وإذا كان كذلك فإنّ الترجيح بعمل أكثر السلف مردود وغير مقبول (4) .
مناقشة هذا الدليل :
ويمكن مناقشة هذا الدليل : بأنّا سلَّمْنَا أنّ عمل أو قول أكثر السلف ليس حُجّةً ، لكنْ لا نسلِّم أنّه لا اعتبار له ؛ لأنّ العادة تَستبعد أنْ يكون عملهم على خطأ .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائلون بترجيح ما(1/326)
(1) يُرَاجَع : المنهاج مع شرحه 2/808 والإحكام لِلآمدي 4/274 والفائق 4/450 وتقريب الوصول /484 والبحر المحيط 6/178 وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/370 وشرح الكوكب المنير 4/702
(2) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/178 وشرح المنهاج 2/809 وشرح الكوكب المنير 4/702 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/431
(3) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/703 والبحر المحيط 6/178 والمستصفى /378 والإحكام لابن حزم 1/17 وإرشاد الفحول /279
(4) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/178 وشرح الكوكب المنير 4/703
وافق عمل أكثر السلف ؛ لأنّ توفيقهم لِلصواب عادةً ما يكون أكثر مِن توفيق الأقلّ .
الصورة السادسة : ترجيح ما فسَّره الراوي بفعله أو قوله .
إذا تعارض خبران فسّر أحدهما راويه بفعل أو قول ولم يفسّر راوي الخبر الثاني كان الخبر الأول الذي فسَّره راويه بفعله أو قوله هو الأَوْلى بالترجيح ؛ لأنّ ما فسّره راويه يكون الظن به أوثق ، كما أنّه قد اشتمل على فائدة زائدة ، لأنّ الراوي يكون أعلم وأعرف بما رواه (1) .
مثاله : حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – في خيار المجلس { الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مِا لَمْ يَتَفَرَّقَا } (2) ؛ فقد حُمِل على التفرق بالبدن ؛ لِمَا رُوِي عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنّه كان إذا أراد أنْ يوجِب البيع مشى قليلاً ثُمّ رجع (3) (4) .
(1) يُرَاجَع : شرح الكوكب المنير 4/709 والعدة 3/1053 والواضح 5/102 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/316 وبيان المختصر 3/397 والإحكام لِلآمدي 4/277 والفائق 4/452 والمسودة /307 وإرشاد الفحول /280
(2) أَخْرَجه النسائي في كتاب البيوع : باب ذِكْر الاختلاف على نافِع في لَفْظ حديثه برقم ( 4391 ) وأحمد في مُسْنَد العشرة المُبَشَّرين بالجَنَّة برقم ( 370 ) والبيهقي في السُّنَن الكبرى 5/268
(3) أَخْرَجَه البيهقي في السنن الكبرى 5/269 والشافعي في مسنده /137 والحميدي 2/290(1/327)
(4) يُرَاجَع : الواضح 5/103 والعدة 3/1054 وشرح الكوكب المنير 4/709 والمسودة /307
المطلب الرابع
ترجيح ما ينفي
النقص عن الصحابة - رضي الله عنهم -
إذا تعارض خبران أحدهما ينفي النقص عن الصحابة - رضي الله عنهم - والآخَر يضيفه إليهم كان الخبر الأول الذي ينفيه عنهم هو الأَوْلى بالترجيح (1) .
وقال الطوفي – رحمه الله – في هذا الوجه مِن الترجيح :" ضعيف في الترجيح ؛ لأنّ الصحابة مع كمالهم قد وقع مِن بعضهم الزنا وشرب الخمر وهو أعظم مِن ذلك ، لكنّ هذا – على ضَعْفه – محيل لِلرجحان " (2) ا.هـ .
مثاله : ما رواه جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال { الضَّحِكُ يَنْقُضُ الصَّلاَةَ وَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوء } (3) مع ما رُوِي عن أبي المليح (4) عن أبيه (5) قال : " بَيْنَا نَحْنُ نُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ ضَرِيرٌ فَوَقَعَ فِي حُفْرَةٍ
(1) يُرَاجَع : المستصفى /378 والعدة 3/1045 وإحكام الفصول /752 والإحكام لِلآمدي 4/277 والفائق 4/452 وتقريب الوصول /482 وشرح تنقيح الفصول /424 وشرح الكوكب المنير 4/707
(2) البلبل /189
(3) سبق تخريجه .
(4) أبو المليح : هو عامر بن أسامة بن عمير الهذلي رحمه الله تعالى ، مِن الطبقة الوسطى مِن التابعين ، روى عن أبيه وبريدة بن الحصيب والسيدة عائشة - رضي الله عنهم - ، وروى عنه قتادة وأبو قلابة وإبراهيم بن العباس رحمهم الله تعالى ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 112 هـ .
الطبقات الكبرى 7/219 والتاريخ الكبير 6/449 وسير أعلام النبلاء 5/94
(5) أبوه : هو الصحابي الجليل أسامة بن عمير بن عامر الهذلي - رضي الله عنه - ، نزيل البصرة ، مِن خطباء هذيل ، لم يروِ عنه غير ابنه أبو المليح رحمه الله تعالى ..
الطبقات الكبرى 7/44 والاستيعاب 1/25 والإصابة 1/50(1/328)
فَضَحِكْنَا مِنْهُ ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَة " (1) ..
وَجْه التعارض : أنّ الخبر الأول لم يجعل الضحك ناقضاً لِلوضوء وإنّما لِلصلاة فقط ، والخبر الثاني جعل الضحك ناقضاً لِكُلّ واحد منهما ، فالحُكمان متعارضان .
وَجْه الترجيح : أنّ الخبر الثاني فيه إضافة نقص وقسوة إلى الصحابة - رضي الله عنهم - مع ما كانوا عليه مِن الإقبال على الصلاة ، وضدّ ما وصفهم الله تعالى به مِن التعاطف والتراحم مع بعضهم {رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} (2) ، ولذا كان الخبر الأول الذي ينفي النقص عنهم هو الأَوْلى بالترجيح (3) .
(1) أَخْرَجَه الدارقطني في سننه 1/161 وابن عديّ في الكامل 2/302
(2) سورة الفتح مِن الآية 29
(3) يُرَاجَع : إحكام الفصول /753 والعدة 3/1045 والفائق 4/452 وشرح الكوكب المنير 4/70
الخاتمة
الحمد لله ربّ العالَمين ، حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده ، حمداً كما ينبغي لِجلال وجهه وعظيم سلطانه ..
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، مَن أراد به الخير فقَّهه في الدين وآتاه العلم والحكمة ؛ {يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرا} (1) ، ففَقِّهْنَا اللَّهُمّ في ديننا وآتِنَا مِن لدنك رحمةً وحكمةً وعلماً .
وأشهد أنّ سيدنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله ، أمرنا بالتمسك بسُنَّتِه قولاً وفعلاً وسلوكاً ومنهجاً ؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي ؛ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذ } (2) ، فاجعلنا اللَّهُمّ مِن المتمسكين بسُنَّتِه والداعين إلى شريعته حتى نَسعد بشفاعته ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبع هداه إلى يوم الدين ..
وبَعْدُ ..(1/329)
فلقد أكرمني الله – عَزّ وجَلّ – بالبحث والدراسة في هذا الموضوع الذي نال شرفه مِن نِسْبته واتصاله بالسُّنَّة المطهّرة التي هي المصدر الثاني مِن مصادر التشريع ، والحفاظ عليها والذَّبّ عنها واجب شرعيّ كالقرآن الكريم تماماً بتمام .
ولذا فإنّي – ولله الحمد والمنة – قد عايشتُ السُّنَّة المطهّرة – في أحد جوانبها الأصولية – ما يقارب الحَوْل ؛ أنقِّب عن التعارض – الظاهري – الواقع فيها لأرى كيْف دفعه العلماء وأزالوه بطرق الترجيح ..
(1) سورة البقرة مِن الآية 269
(2) سبق تخريجه .
وقد يسَّر الله تعالى لي البحث والدراسة في هذا الموضوع ، حتى جمعتُ بَيْن دفَّتَيْ هذا البحث ما يربو على مائة وخمسين وجهاً مِن وجوه الترجيح في الأخبار ، وليس ذلك فحسب ؛ بل إنّه جَلّ وعلا أرشدني إلى الوقوف على أمثلة عديدة ونماذج كثيرة لِلترجيحات بَيْن الأخبار المتعارضة كان لها عظيم الأثر في الفقه الإسلامي والأحكام الشرعية ، جمعتُ منها ما يقرب مِن نصف المائة منثورةً في ثنايا هذا البحث .
ويمكن في ختام هذا البحث حصر أهمّ النتائج - والتي أعتبرها موادّ أو قواعد أصوليّةً مبنيّةً على الراجح عندي – على النحو التالي :
1- أنّ الأصوليين والمحدّثين أَوْلَوْا ترجيحات الأخبار عنايةً ورعايةً تليق بالسُّنّة المطهّرة ، وذَوْداً عن حماها ودفعاً لِلتعارض الواقع – في الظاهر – بَيْن نصوصها .
2- أنّ التعارض : تقابُل دليليْن متساوييْن على وجْه يقتضي كُلّ واحد منهما خلاف ما يقتضيه الآخَر ..
والمعارَضة : مقابلة الحُجّتيْن المتساويتيْن على وجْه يوجب كُلّ واحد منهما ضدّ ما توجبه الأخرى .
والتعادل : كوْن الأمَارتيْن على وجْه لا يكون لأحدهما مزيّة على الآخَر .
وقد استعمل بعض الشافعية التعادلَ بدلاً مِن التعارض ، لكنّ التعارض أَعَمّ .(1/330)
3- يُشترَط في التعارض : المساواة بَيْن الدليليْن المتعارضيْن في الثبوت والقوة ، ومخالفة حُكْم كُلّ منهما لِلآخَر ، وأنْ يكون محلّ الحُكْميْن واحداً ، واتحاد الوقت فيهما ، وأنْ يكون بَيْن دليليْن أو بيّنتيْن أو أصْليْن .
4- أنّ الدليليْن المتعارضيْن إمّا أنْ يكونا منْقوليْن – قطعيّان أو ظنّيّان أو أحدهما قطعيّ والآخَر ظنِّيّ – وإمّا معْقوليْن وإمّا أنْ يكون أحدهما منقولاً
والآخَر معقولاً .
5- أقسام التعارض بَيْن الأدلة عشرة : الكتاب مع الكتاب ، والكتاب مع السُّنَّة ، والكتاب مع الإجماع ، والكتاب مع القياس ، والسُّنَّة مع السُّنَّة ، والسُّنَّة مع الإجماع ، والسُّنَّة مع القياس ، والإجماع مع الإجماع ، والإجماع مع القياس ، والقياس مع القياس .
6- لا يقع تعارُض حقيقيّ في نصوص الشرع ، وهذه حُجّة المانعين لِجوازه وأنّ التعارض الظاهري بَيْن النصوص أو في ظنّ المجتهد جائز ..
ويجب على العلماء المجتهدين دفع التعارض - الظاهري – بَيْن النصوص ؛ حتى لا تُتَّهَم النصوص الشرعية بالتناقض ومِن ثَمّ التشكك في الأحكام ومِن ثَمّ اتهام الشريعة بعدم الصلاحية .
7- يُدفَع التعارض الواقع بَيْن الدليليْن بالجمع بينهما إنْ أمكن ، وإلا رجعنا إلى تاريخيْهما : فنجعل المتأخر ناسخاً لِلمتقدم ، وإنْ لم نعلم تاريخيهما رجَّحْنَا بينهما ، وإنْ لم نتمكن مِن الترجيح فتخيير المكلف بينهما ؛ حتى لا يخرج عن عهدة التكليف .
8- التعارض أصْل لِلترجيح ؛ لأنّ الترجيح أحد مراحل دفع التعارض ، وعند العجز عن الترجيح يتخير المكلف إنْ كان التعارض في الواجبات ، وإنْ كان في حُكْميْن متنافييْن كان التساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية .
9- الترجيح لغةً : التغليب والتمييل ، مِن " رجح الميزان " ..
واصطلاحاً : تقديم المجتهد أحد الدليليْن المتعارضيْن لاختصاصه بقوة الدلالة .
وأركانه : مرجِّح ، ومرجَّح به ، ومرجح بينهما .(1/331)
10- شروط الترجيح : أنْ يكون بَيْن الأدلة ، وتحقُّق التعارض بينها ، وقيام دليل على الترجيح ، ووجود مزية في الدليل الراجح ، وأنْ لا يمكن العمل بِكُلّ واحد منهما ، وأنْ لا يعلم تأخُّر أحدهما ، وأنْ يتساوى الدليلان في الثبوت والقوة ، واتحادهما في الحُكْم مع اتحاد الوقت والمحلّ والجهة .
11- الترجيح في القطعي مِن العقليات لا يجوز ، وفي غيره يجوز ؛ لأنّ العامة مكلفون بالاعتقاد لا بالعلم ..
ولا ترجيح بَيْن المذاهب ؛ لأنّه يفتح باب العصبية ، أمّا بَيْن أحكام المذاهب فيجوز .
ولا يجوز في الشهادات ؛ لأنّ مبناها على التعبد .
12- وجوب الترجيح بَيْن الأدلة المتعارضة في حقّ المجتهد ، وجوازه في حقّ مَن لم يبلغ درجة الاجتهاد ، ومنعه مطلقاً في حقّ العامِّيّ الذي ليس مِن أهل العلم ..
كما يجب العمل بالدليل الراجح .
13- لا يجري الترجيح عند الجمهور إلا في المظنون ، ولذا كان محلّ الترجيح متحققاً في سُنَّة الآحاد والقياس ..
ومِن هنا كان الترجيح بَيْن النصوص مقصوراً عند الأصوليين على السُّنَّة غير المتواترة ، ومِن ثَمّ عنونت الكثرة بـ( ترجيحات الأخبار ) .
14- الخبر لغةً : النبأ ..
وعند الأصوليين : هو أحد أقسام الكلام .
وعرَّفه بعضهم : باعتبار ما نُقِل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والخبر عند جمهور المحدِّثين : مرادِف لِلحديث .
والترجيح : إمّا أنْ يكون راجعاً إلى السند ، أو المتن ، أو مدلول اللفظ أو أمْر خارجيّ ..
والترجيح العائد إلى السند أقسامه أربعة : لأنّه إمّا أنْ يعود إلى الراوي ، أو نفْس الرواية ، أو المرويّ ، أو المرويّ عنه .
15- الترجيح العائد إلى الراوي : إمّا أنْ يكون بكثرة الرواة ، أو بعلوّ الإسناد ، أو بعلم الراوي ، أو بعدالته وورعه ، أو بذكائه وضبطه ، أو بشهرته .(1/332)
16- الترجيح العائد إلى الرواية له وجوه ، منها : ترجيح المسند ، والمسند بالاتفاق ، والمسند إلى كتاب مِن كتب المحدّثين ، ومرسل التابعي والمتواتر ، والمسند عنعنةً ، والمسند إلى كتاب موثوق بصحّته ، والأعلى سنداً .
17- الترجيح العائد إلى الرواية له وجوه ، منها : ترجيح المتفق على رفعه ، والمتفق على لفظه ، وما رُوِي بلفظه ، وما ذُكِر معه سبب الرواية وما لم ينكره راوي الأصل ، وما أنكره الأصل إنكار نسيان وتوقُّف ، وبقراءة الشيخ عليه ، ورواية مَن لم تختلف طرق رواياته ، وبرواية " حدَّثَنَا " ، وبالمناولة ، وما يرويه عن حفظه وكتابه .
18- الترجيح العائد إلى المرويّ له وجوه ، منها : الترجيح بالسماع على احتماله ، وبالسماع على السكوت ، وبالسماع على الكتاب ، ومِن غير حجاب ، وبَعْد إسلامه ، وبالحضور ، وبورود صيغة فيه ، وما خطره أعظم ، وما لا تعمّ به البلوى .
19- الترجيح العائد إلى وقْت الرواية له وجوه ، منها : ترجيح الرواية في زمن البلوغ ، ومَن تحمَّلَهَا في زمنه ، ورواية متأخر الإسلام أو متقدمه وعدم الترجيح بالذكورة وكذا الحرية ، وترجيح الخبر المدني ، والدّالّ على علوّ شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
20- الترجيح العائد إلى المتن له وجوه ، منها : ترجيح الخاصّ ، والعامّ الذي لزمه التخصيص ، والخاصّ مِن وجْه ، والأقلّ تخصيصاً ، والعامّ المتنازع في تخصيصه ، والمقيّد ، والعامّ المطلق ، والعامّ الشرطي ،
والجمع المعرَّف ، واسم جمع معرَّف ، و" مَن " و" ما " ، والنهي على الأمر ، والأمر على الإباحة ، والنهي على الإباحة ، والحظر على الندب ، والندب على الإباحة ، والوجوب على الندب ، والخبر على الأمر ، والخبر على النهي ، والخبر على المبيح .(1/333)
21- الترجيح العائد إلى منطوق اللفظ ومفهومه له وجوه ، منها : ترجيح اللفظ الفصيح ، والمنطوق ، ومفهوم الموافقة ، وما يجمع النطق ، والدليل ، وما يتوقف عليه ضرورة صدق المتكلم ، وفي الإيماء ما لولاه لَكان في الكلام عبث وحشو ، ودلالة الاقتضاء ، والنَّصّ ، والمفسّر ، والمُحْكَم ، والخفيّ ، ودلالة المطابقة ، وما يدلّ على معناه بلا واسطة ، والدّالّ على المراد مِن وجْهيْن ، ومعقول المعنى ، وما اشتمل على زيادة ، وما رُوِي بألفاظ متغايرة وعبارات مختلفة .
22- الترجيح العائد إلى الحقيقة والمَجاز والمشترك له وجوه ، منها : ترجيح المَجاز الغالب ، والحقيقة الأظهر في المعنى ، والحقيقة المتفق عليها ، والحقيقة الأشهر ، وبقوّة مصحح المَجَاز ، ورجحان دليل المَجاز ، وشهرة الاستعمال ، والمَجاز على المشترك ، وما قلّ مَجازه ، والحقيقة الشرعية ، والحقيقة العرفية ، وغير المشترك ، ومشترك قلّ مدلوله ، والمتواطئ ، والصريح ، والمستغني عن الإضمار .
23- الترجيح العائد إلى المدلول له وجوه ، منها : ترجيح الناقل عن البراءة الأصلية ، والمثبت لِلحُكْم ، والمثبت لِلطلاق والعتاق ، والنافي لِلحدّ والأخفّ ، والحُكْم التكليفي ، والمقرون بالمعارض أو التهديد أو التأكيد ، وترجيح القول والفعل .
24- الترجيح العائد إلى أمْر خارجيّ له وجوه ، منها : الترجيح بكثرة الأدلة ، وبموافقة دليل آخَر مِن الكتاب أو السُّنَّة أو الإجماع أو القياس ،
وبعمل أهل المدينة ، وما وافق عمل الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - ، وما وافق عمل الشيْخيْن رضي الله عنهما ، وأقضية الصحابة ، وأكثر السلف ، وما فسّره الراوي بعمله ، وما ينفي النقص عن الصحابة - رضي الله عنهم - .
وختاماً ..(1/334)
فهذا بحثي حول ترجيحات الأخبار ، قَدْ بَذَلْتُ فيه قصارى جهْدي ووسْعي كي أُحقِّق الغاية المنشودة ، وأسأل الله تعالى أنْ أَكون قَدْ قارَبْتُهَا ، فكُلّ ما في هذا البحث مِنْ توفيق وتسديد فإنّما هو مِنْ فضْل الله تعالى ومَنِّه وإكرامه ، أمّا ما فيه مِنْ خَلَل أو زَلَل فما هو إلا مِنْ تشويش حصَل مِنِّي أو وهْم صدَر مِنْ سوء فهْمي وقِلّة إدراكي .
والمأمول مِنْ شيوخي وأساتذتي الأفاضل وزملائي الكرام وكُلّ مُطَّلِع على هذا المصنَّف ألاّ يَحرمني مِنْ دعائه الصّالح ونُصْحه الخالص لِوجْهه تعالى ، ورَحِم الله مَنْ رأَى عيباً فسَتَره أو زللاً فغَفَره ؛ فإنّه قَلّ أنْ يَخلُص مصنَّف مِن الهفوات أو ينجو مؤلَّف مِن العثرات .
واللهَ تعالى أسأل أنْ يُخَلِّص بحثي هذا مِن شوائب النفاق والرياء ، وأن يُلْبِسه ثوْب الإخلاص والنقاء ؛ عَلِّي أنال به الفوز والرضاء ، وأنْ يَجعل مِثْل ذلك في ميزان والدَيّ وأصحاب الحقوق عَلَيّ أساتذةً وشيوخاً وأهلاً وذُرِّيَّةً وإخوانا .
وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصَحْبه وسلَّم .
دكتور
إسماعيل محمد علي عبد الرحمن
أهمّ المراجع
أوّلاً : القرآن الكريم وعلومه
1- القرآن الكريم .
2- أحكام القرآن لِلجصاص .. دار إحياء التراث العربي – بيروت .
3- أحكام القرآن لِلشافعي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
4- تفسير القرآن العظيم لابن كثير .. دار الفكر - بيروت .
5- جامِع البيان في تفسير القرآن لِلطبري .. دار الفكر – بيروت .
6- الجامع لأحكام القرآن لِلقرطبي .. دار الشعب - القاهرة .
7- زاد المسير لابن الجوزي .. المكتب الإسلامي – بيروت .
8- فَتْح القدير لِلشوكاني .. دار الفكر – بيروت .
ثانياً : الحديث الشريف وعلومه
9- اختصار علوم الحديث لابن كثير .. مكتبة صبيح – القاهرة .
10- اختلاف الحديث لِلإمام الشافعي .. دار الكتب الثقافية – بيروت .(1/335)
11- أصول التخريج ودراسة الأسانيد لِلدكتور الطحان .. مكتبة المعارف
الرياض .
12- أصول الحديث .. علومه ومصطلحه لِلدكتور محمد عجاج الخطيب
دار المنارة – جدة .
13- ألفية الحديث لِلحافظ العراقي .. مكتبة القاهرة – مصر .
14- الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لأحمد شاكر .. مكتبة
صبيح – القاهرة .
15- تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة .. مكتبة الكليات الأزهرية –
القاهرة .
16- التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي .. دار الكتب العلمية –
بيروت .
17- تدريب الراوي شرح تقريب النواوي لِلسيوطي .. دار الكتب الحديثة
القاهرة .
18- التعريف بالحديث الشريف لِلدكتور محمد السعدي فرهود .. دار
الطباعة المحمدية - القاهرة .
19- التقريب والتيسير لِلنووي .. دار الكتب الحديثة – القاهرة .
20- تيسير مصطلح الحديث لِلدكتور الطحان .. مكتبة المعارف –
الرياض .
21- تلخيص الحبير لِلحافظ ابن حَجَر العسقلاني .. المدينة المنوّرة
1964 م .
22- الدراية في تخريج أحاديث الهداية لِلحافظ ابن حَجَر العسقلاني .. دار
المعرفة - بيروت .
23- سُبُل السلام لِلصنعاني .. دار الريان – القاهرة .
24- سُنَن ابن ماجة .. دار إحياء التراث العربي – بيروت .
25- سُنَن أبي داود .. دار الحديث – حمص 1969 م .
26- سُنَن الترمذي .. دار الفكر – بيروت .
27- سُنَن الدارقطني .. دار المحاسن – القاهرة .
28- سُنَن الدارمي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
29- السُّنَن الكبرى لِلبيهقي .. حيدر آباد – الهند 1355 هـ .
30- سُنَن النسائي .. دار الفكر – بيروت .
31- السُّنَن المأثورة لِلإمام الشافعي .. دار المعرفة – بيروت .
32- شَرْح صحيح مُسْلِم لِلنووي .. دار إحياء التراث العربي – بيروت .
33- شَرْح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد .. دار الكتب العلمية – بيروت .
34- شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لابن حجر العسقلاني ..
مكتبة الحلبي – القاهرة .(1/336)
35- صحيح ابن حبّان .. مؤسسة الرسالة - بيروت 1414 هـ .
36- صحيح البخاري .. دار الشعب – القاهرة .
37- فتح الباري بشرح صحيح البخاري لِلحافظ ابن حجر العسقلاني ..
دار المعرفة – بيروت .
38- فتح المغيث شرح ألفية الحديث لِلسخاوي .. مكتبة القاهرة .
39- قواعد في علوم الحديث لِظفر التهانوي .. مكتبة النهضة – حلب .
40- الكفاية في علم الرواية لِلخطيب البغدادي .. دار الكتب الحديثة –
القاهرة .
41- لمحات في أصول الحديث لِلدكتور محمد أديب صالح .. المكتب
الإسلامي – بيروت .
42- المُسْتَدْرَك لِلحاكم .. دار الكتاب العربي – بيروت .
43- مُسْنَد الإمام أَحْمَد .. دار صادر – بيروت .
44- مشكل الآثار لِلطحاوي .. دار صادر – بيروت .
45- المصنَّف لِلإمام عبد الرزاق .. المكتب الإسلامي – بيروت
1403 هـ .
46- المُعْجَم الأوسط لِلطبراني .. دار الحرميْن - القاهرة 1415 هـ .
47- المعجم الكبير لِلطبراني .. مكتبة العلوم والحِكَم - الموصل
1404 هـ .
48- مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث .. دار الكتب العلمية – بيروت .
49- منهاج الصالحين مِن أحاديث وسُنَّة خاتم الأنبياء والمرسلين لِعزّ
الدين بليق .. دار الفكر – بيروت .
50- الموطأ لِلإمام مالك .. دار إحياء التراث – بيروت 1400 هـ .
51- نَصْب الراية لِلزيلعي .. دار الحديث - مصر 1357 هـ .
52- نَيْل الأوطار لِلشوكاني .. دار الجيل - بيروت .
ثالثاً : أصول الفقه
53- الإبهاج في شرح المنهاج لِلسبكي وولده .. دار الكتب العلمية –
بيروت .
54- أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء لِلدكتور
مصطفى الخن .. مؤسسة الرسالة – بيروت .
55- إحكام الفصول لِلباجي .. دار الغرب الإسلامي - بيروت 1982 م .
56- الإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي .. دار الكتاب العربي - القاهرة .
57- الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم .. دار الكتب العلمية – بيروت
1404 هـ .(1/337)
58- أدلة التشريع المتعارضة لِبدران أبو العينين .. مكتبة شباب الجامعة
الإسكندرية .
59- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ مِن عِلْم الأصول لِلشوكاني .. مكتبة
الحلبي - القاهرة 1356 هـ .
60- أصول البزدوي ( كنز الوصول إلى معرفة الأصول ) .. دار الكتاب
العربي – بيروت 1411 هـ .
61- أصول السرخسي .. دار المعرفة – بيروت .
62- أصول الشاشي .. دار الكتاب العربي – بيروت .
63- أصول الفقه لأبي زهرة .. دار الفكر العربي - القاهرة .
64- أصول الفقه لِلخضري .. دار القلم – بيروت .
65- أصول الفقه الإسلامي لِزكريّا البري .. مكتبة نهضة الشرق -
القاهرة .
66- أصول الفقه لِمحمد أبو العينين بدران .. مؤسسة شباب الجامعة –
الإسكندرية .
67- أصول الفقه لأستاذنا فضيلة الشيخ محمد أبو النور زهير .. المكتبة
الفيصلية .. مكة المكرمة .
68- أصول الفقه لِمحمد سلام مدكور .. دار النهضة العربية – القاهرة .
69- أعلام الموقعين عَنْ رَبّ العالَمين لابن قيم الجوزية .. دار الحديث –
القاهرة .
70- الأمر عند الأصوليين وأثره في الفقه الإسلامي لِلدكتور إسماعيل
محمد علي عبد الرحمن .. رسالة دكتوراه بجامعة الأزهر .
71- البحر المحيط للزركشي .. أوقاف الكويت 1413 هـ .
72- بذل النظر لِلأسمندي .. دار التراث – القاهرة .
73- البرهان لإمام الحرميْن الجويني .. دار الأنصار – القاهرة
1400 هـ .
74- البلبل في أصول الفقه لِلطوفي .. مكتبة الإمام الشافعي – الرياض .
75- بلوغ السول في مدخل عِلْم الأصول لِلشيخ محمد حسنين مخلوف ..
مكتبة الحلبي – القاهرة .
76- بيان المختصر لِلأصفهاني .. جامعة أُمّ القُرَى - مكة المكرمة
1406 هـ .
77- التبصرة لِلشيرازي .. دار الفكر – دمشق 1403 هـ .
78- التحرير لابن الهمام ( مع تيسير التحرير ) .. مكتبة الحلبي - القاهرة
1350 هـ .
79- تسهيل الوصول إلى عِلْم الأصول لِلمحلاوي .. مكتبة الحلبي –
القاهرة .(1/338)
80- التعارض والترجيح بَيْن الأدلة الشرعية لِلبرزنجي .. دار الكتب
العلمية – بيروت .
81- التعارض والترجيح عند الأصوليين وأثرهما في الفقه الإسلامي
لأستاذنا فضيلة الدكتور محمد الحفناوي .. دار الوفاء – المنصورة .
82- تقريب الوصول إلى عِلْم الأصول لابن جزي .. مكتبة ابن تيمية –
القاهرة .
83- التقرير والتحبير لابن أمير الحاج .. دار الفكر – بيروت .
84- التلويح لِلتفتازاني ( مع التوضيح ) .. دار الكتب العلمية – بيروت .
85- التمهيد في أصول الفقه لِلكلوذاني .. جامعة أُمّ القُرَى – مكة المكرمة
1406 هـ .
86- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول لِلإسنوي .. مؤسسة الرسالة
بيروت 1404 هـ .
87- التنقيح لِصَدْر الشريعة .. دار الكتب العلمية – بيروت .
88- التوضيح شرح التنقيح لِصدر الشريعة .. دار الكتب العلمية – بيروت .
89- تيسير التحرير لأمير بادشاه .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1350 هـ .
90- تيسير الوصول إلى منهاج الأصول لابن إمام الكاملية .. مكتبة
الفاروق الحديثة – القاهرة .
91- جامع الأسرار في شرح المنار لِلكاكي .. دار الباز – مكة المكرمة .
92- جَمْع الجوامع لابن السبكي ( مع حاشية البناني ) .. مكتبة الحلبي -
القاهرة .
93- حاشية البناني مع شَرْح المحلِّي .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1356 هـ .
94- حاشية السّعد على شَرْح العضد .. المكتبة الأزهرية لِلتراث -
القاهرة .
95- حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
96- حاشية النفحات على الورقات لِلجاوي .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
97- الحاصل مِن المحصول لِتاج الدين الأرموي .. بنغازي – ليبيا .
98- الرسالة لِلإمام الشافعي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
99- روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة .. دار الزاحم - الرياض .
100- السراج الوهاج في شرح المنهاج لِلجاربردي .. دار المعراج
الدولية - الرياض .(1/339)
101- سلم الوصول لِشرح نهاية السول لِلشيخ محمد بخيت المطيعي ..
مكتبة عالم الكتب – بيروت .
102- السُّنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي لِلسباعي .. المكتب الإسلامي
بيروت .
103- شَرْح إفاضة الأنوار على مَتْن أصول المنار لِعلاء الدين الحصني ..
مكتبة الحلبي - القاهرة 1399 هـ .
104- شَرْح تنقيح الفصول لِلقرافي .. المكتبة الأزهرية لِلتراث – القاهرة
1414 هـ .
105- شَرْح العضد على مختصر ابن الحاجب .. مكتبة الكليات الأزهرية
القاهرة 1403 هـ .
106- الشرح الكبير على الورقات لابن قاسم العبادي .. مؤسسة قرطبة –
القاهرة .
107- شَرْح الكوكب المنير لِلفتوحي .. جامعة أُمّ القُرَى – مكة المكرمة
1400 هـ .
108- شَرْح اللمع لِلشيرازي .. مكتبة البخاري – بريدة .
109- شَرْح المحلِّي على جَمْع الجوامع ( مع حاشية البناني وحاشية
العطار ) .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
110- شَرْح مختصر الروضة لِلطّوفي .. مؤسسة الرسالة – بيروت .
111- شرح مراقي السعود لِلشنقيطي .. مطبعة المدني – القاهرة .
112- شَرْح المنهاج لِلأصفهاني .. مكتبة الرشد – الرياض 1401 هـ .
113- شرح نور الأنوار على المنار لِملا جيون الحنفي .. دار الكتاب
العربي – بيروت .
114- شرح الورقات لِلمحلِّي .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
115- العدة في أصول الفقه لِلقاضي أبي يَعْلَى .. ط الرياض بالسعودية .
116- عِلْم أصول الفقه لِلشيخ عبد الوهاب خلاّف .. دار التراث –
القاهرة .
117- عمدة الحواشي لِلكنكوهي ( مع أصول الشاشي ) .. دار الكتاب
العربي – بيروت .
118- غاية الوصول إلى دقائق عِلْم الأصول لأستاذنا د. جلال الدين
عبْد الرحمن ( الطبعة الثانية ) .
119- الفائق لِصفي الدين الهندي .. دار الاتحاد الأخوي – القاهرة .
120- فَتْح الغفّار بشَرْح المنار لابن نجيم .. مكتبة الحلبي - القاهرة
1355 هـ .
121- فواتح الرحموت بشرح مُسَلَّم الثبوت لِلأنصاري .. المطبعة(1/340)
الأميرية - بولاق .
122- القطع والظن عند الأصوليين لِلدكتور سعد الشتري .. دار الحبيب
الرياض .
123- قواطع الأدلَّة لابن السمعاني .. جـ2 دار الكتب العلمية ببيروت –
جـ5 مكتبة التوبة بالرياض .
124- قواعد الأحكام لِلعز بن عبد السلام .. مؤسسة الريان – بيروت .
125- قواعد الأصول ومعاقد الفصول لِصفي الدين الحنبلي .. دار
المعارف – القاهرة .
126- كَشْف الأسرار على أصول فَخْر الإسلام البزدوي لِعلاء الدين
البخاري .. دار الكتاب العربي – بيروت 1411 هـ .
127- كَشْف الأسرار لِلنسفي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
128- اللُّمَع لِلشيرازي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
129- لباب المحصول لابن رشيق .. دار البحوث والدراسات الإسلامية
دُبَيّ .
130- المحصول في عِلم الأصول لِلفخر الرازي .. دار الكتب العلمية –
بيروت .
131- مختصر التحرير في أصول الفقه لِلفتوحي ( ابن النجار ) .. دار
الزاحم – الرياض .
132- مختصر المنتهى لابن الحاجب .. مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة .
133- المدخل إلى مذهب الإمام أَحْمَد بن حنبل لابن بدران الدمشقي ..
مؤسسة الرسالة – بيروت .
134- مذكرة أصول الفقه لِلشنقيطي .. المكتبة السلفية – المدينة المنورة .
135- مراقي السعود لِلشنقيطي .. مطبعة المدني – القاهرة .
136- المستصفى مِن عِلم الأصول لِلإمام الغزالي .. مكتبة الباز - مكة
المكرمة .
137- مُسَلَّم الثبوت لابن عَبْد الشكور .. المطبعة الأميرية – بولاق .
138- المُسَوَّدة في أصول الفقه لآل تيمية .. دار الكتاب العربي – بيروت .
139- المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري .. دار الكتب
العلمية – بيروت 1403 هـ .
140- المغني لِلخبازي .. جامعة أُمّ القُرَى – مكة المكرمة .
141- المنار لِلنسفي ( مع كشف الأسرار ) .. دار الكتب العلمية –
بيروت .
142- مناهج العقول لِلبدخشي ( مطبوع مع نهاية السول ) .. دار الكتب
العِلْميّة - بيروت 1409 هـ .(1/341)
143- منتهى السول في عِلْم الأصول لِلآمدي ( مع نهاية السول ) ..
مكتبة صبيح – القاهرة .
144- المنخول لِلغزالي .. دار الفكر - بيروت .
145- منهاج الوصول إلى عِلْم الأصول لِلبيضاوي ( مطبوع مع شرح
المنهاج ) .. مكتبة الرشد – الرياض .
146- الموافقات في أصول الشريعة لِلشاطبي .. دار الفكر – بيروت .
147- ميزان الأصول لِلسمرقندي .. مكتبة الدوحة الحديثة – قطر
1404 هـ .
148- النسخ وأثره في الفقه الإسلامي لِلدكتور إسماعيل محمد علي
عبد الرحمن .. مكتبة الرحمة المهداة – المنصورة .
149- نفائس الأصول في شرح المحصول لِلقرافي .. دار الباز – مكة
المكرمة .
150- نهاية السول في شَرْح منهاج الوصول لِلإسنوي .. مكتبة صبيح -
القاهرة .
151- الواضح في أصول الفقه لابن عقيل .. مؤسسة الرسالة - بيروت .
152- الوجيز في أصول الفقه لِلدكتور عَبْد الكريم زيدان .. مؤسسة
الرسالة – بيروت .
153- الوجيز في أصول الفقه لِلكراماستي .. دار الهدى لِلطباعة –
القاهرة .
154- الورقات لإمام الحرمين الجويني ( مع حاشية النفحات ) .. مكتبة
صبيح – القاهرة .
رابعاً : الفقه وقواعده
155- الاختيار لِلموصلي .. دار الدعوة – مصر .
156- الإفصاح عَن مَعاني الصحاح لابن هبيرة الحنبلي .. المؤسسة
السعدية – الرياض .
157- الإقناع لِلشربيني الخطيب .. دار الفكر – بيروت .
158- الأُمّ لِلإمام الشافعي .. دار المعرفة – بيروت .
159- الإنصاف لِلمرداوي .. دار إحياء التراث العربي – بيروت .
160- بدائع الصنائع لِعلاء الدين الكاساني .. دار الكتاب العربي -
بيروت 1982 م .
161- بداية المبتدي لِلمرغيناني .. مكتبة صبيح – القاهرة .
162- بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد .. دار المعرفة – بيروت
1401 هـ .
163- التاج والإكليل لِلعبدري .. دار الفكر – بيروت .
164- تحفة الفقهاء لِلسمرقندي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
165- التمهيد لابن عبد البَرّ .. الأوقاف المغربية .(1/342)
166- حاشية ابن عابدين .. دار الفكر – بيروت .
167- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير .. دار الفكر - بيروت .
168- حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
169- الحدود الأنيقة لِلأنصاري .. دار الفكر المعاصر – دمشق .
170- رحمة الأُمَّة في اختلاف الأئمة لِمحمد الدمشقي العثماني الشافعي ..
مكتبة الحلبي – القاهرة .
171- روضة الطالبين وعمدة المتقين لِلنووي .. المكتب الإسلامي -
بيروت 1405 هـ .
172- شرح العمدة في الفقه لابن تيمية .. مكتبة العبيكان – الرياض .
173- الفقه الإسلامي وأدلته لِلزحيلي .. دار الفكر – دمشق .
174- الفقيه والمتفقه لِلخطيب البغدادي .. دار الكتب العلمية - بيروت
1400 هـ .
175- القاموس الفقهي لِسعدي أبو حبيب .. دار الفكر – بيروت .
176- القراءة خلف الإمام لِلبيهقي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
177- الكافي لابن عبد البَرّ .. دار الكتب العلمية – بيروت .
178- الكافي لابن قدامة .. المكتب الإسلامي – بيروت .
179- المبسوط لِلسرخسي .. دار المعرفة – بيروت .
180- المجموع لِلنووي .. دار الفكر - بيروت .
181- المُحَلَّى لابن حَزْم .. دار الفكر .
182- مختصر خليل .. دار الفكر – بيروت .
183- المُغْنِي لابن قدامة المقدسي .. دار الفكر – بيروت .
184- مُغْنِي المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لِلخطيب الشربيني ..
دار الفكر ببيروت – مكتبة الحلبي بالقاهرة .
185- المُقْنِع لابن قدامة .. المكتبة السلفية – القاهرة .
186- منار السبيل لابن ضويان .. مكتبة المعارف – الرياض .
187- منهاج الطالبين لِلنووي .. دار المعرفة – بيروت .
188- المُهَذَّب في فِقْه الإمام الشافعي لِلشيرازي .. دار الفكر – بيروت .
189- مواهب الجليل لِلمغربي .. دار الفكر – بيروت .
190- الهداية شرح البداية لِلمرغيناني .. المكتبة الإسلامية – بيروت .
خامساً : الفِرَق والعقائد والأديان(1/343)
191- البرهان في معرفة عقائد أهْل الأديان لِلسكسكي .. مكتبة المنار -
الأردن .
192- المِلَل والنِّحَل لِلشهرستاني .. دار المعرفة - بيروت 1404 هـ .
سادساً : اللغة والمعاجم ونَحْوها
193- البلاغة الواضحة لِعليّ الجارم ومصطفى أمين .. دار المعارف –
القاهرة .
194- تاج العروس لِلزبيدي .. المطبعة الخيرية .
195- التعريفات لِلجرجاني .. دار الكتاب المصري - القاهرة .
196- تلخيص المفتاح لِلخطيب القزويني .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
197- تهذيب الصحاح لِلزنجاني .. دار المعارف – القاهرة .
198- تهذيب اللغة لِلأزهري .. الدار المصرية لِلتأليف – القاهرة .
199- شرح السعد على تلخيص المفتاح .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
200- الصحاح لِلجوهري .. دار الكتاب العربي - بيروت .
201- القاموس المحيط لِلفيروذآبادي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
202- الكُلِّيّات لأبي البقاء الكفوي .. مؤسسة الرسالة – بيروت
1412 هـ .
203- لسان العرب لابن منظور .. دار إحياء التراث - بيروت .
204- المعجم الوجيز .. مجمع اللغة العربية .
205- المعجم الوسيط .. مجمع اللغة العربية ( الطبعة الثانية ) .
206- همع الهوامع لِلسيوطي ( مع شرح جمع الجوامع ) .. دار المعرفة
بيروت .
سابعاً : السيرة والتراجم والتاريخ وغَيْرها
207- الاستيعاب في معرفة الأصحاب لأبي عُمَر بن عَبْد البرّ .. دار
الجيل - بيروت .
208- أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الجزري .. مكتبة الحياة –
بيروت .
209- الإصابة في تمييز الصحابة لابن حَجَر العسقلاني .. مكتبة المثنى
بغداد .
210- أصول الفقه .. تاريخه ورجاله لِلدكتور شعبان محمد إسماعيل ..
دار المريخ – الرياض .
211- الأعلام لِلزركلي .. دار العِلْم لِلملايين – بيروت 1384 هـ .
212- البداية والنهاية لابن كثير .. مكتبة المعارف – بيروت 1985 م .
213- التاريخ الأوسط لِلإمام البخاري .. دار الصميعي – الرباط .(1/344)
214- تاريخ بغداد لِلخطيب البغدادي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
215- تاريخ الخلفاء لِلسيوطي .. مطبعة السعادة - مصر 1371 هـ .
216- تاريخ الطبري .. دار المعارف - القاهرة .
217- التاريخ الكبير لِلإمام البخاري .. دار الكتب العلمية - بيروت .
218- تذكرة الحفّاظ لِلذهبي .. دار إحياء التراث – بيروت .
219- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني .. دار صادر – بيروت .
220- تهذيب الكَمَال لأَبِي الحَجّاج المِزِّي .. مؤسَّسَة الرِّسَالة - بيروت
1400 هـ .
221- الجواهر المضية في طبقات الحنفيّة لِعبد القادر بن مُحَمَّد القرشي
الحنفي .. دار هجر - القاهرة .
222- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نُعَيّم الأصبهاني .. دار الكتب
العلميّة - بيروت .
223- الدُّرَر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حَجَر العسقلاني ..
حيدرآباد - الهند .
224- الديباج المُذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون
المالكي .. دار التراث - القاهرة .
225- سِيَر أعلام النبلاء لِلذهبي .. مؤسسة الرسالة – بيروت 1413 هـ .
226- السيرة النبوية لابن هشام .. مكتبة صبيح - القاهرة .
227- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لِلشيخ مُحَمَّد حسنين مخلوف
دار الفكر – بيروت .
228- شذرات الذهب في أخبار مَنْ ذهب لابن العماد الحنبلي .. دار
المسيرة - بيروت .
229- الضوء اللامع لأهْل القَرْن التاسع لِلسخاوي .. دار الكتاب
الإسلامي .
230- طبقات الحُفّاظ لِلسيوطي .. دار الكتب العلميّة - بيروت .
231- طبقات الحنابلة لأبي يَعْلَى .. دار إحياء الكتب العربية - القاهرة .
232- طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة .. عالم الكتب - بيروت .
233- طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي .. دار إحياء الكتب العربية -
القاهرة .
234- طبقات الفقهاء لِلشيرازي .. دار القلم – بيروت .
235- الطبقات الكبرى لابن سعْد .. دار الفكر - بيروت .(1/345)
236- طبقات المُفَسِّرين لِشمْس الدين الدّاودي .. دار الكتب العلمية –
بيروت .
237- الفتح المُبِين في طبقات الأصوليّين لِلشيخ عبد الله المراغي ..
عَبْد الحميد حنفي - القاهرة .
238- معجم البلدان لِلحموي .. دار صادر – بيروت .
239- معجم المؤلِّفين لِعُمَر رضا كحالة .. دار إحياء التراث العربي -
بيروت .
240- ميزان الاعتدال في نقد الرجال لِلذهبي .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
241- النجوم الزاهرة في ملوك مِصْر والقاهرة لابن تغربردي .. دار
المعرفة - بيروت .
242- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان .. دار صادر –
بيروت .
فهرس
الموضوع ... ص
المقدمة.......................................................... ... 3
الفصل الأول : التعارض : ... 11
المبحث الأول : تعريف التعارض وشروطه وأقسامه : ... 13
المطلب الأول : تعريف التعارض................................ ... 14
المطلب الثاني : العلاقة بَيْن التعارض والمعارضة والتعادل...... ... 18
المطلب الثالث : شروط التعارض................................ ... 21
المطلب الرابع : أقسام التعارض................................. ... 24
المبحث الثاني : تعارض الأدلة ودفعه : ... 29
المطلب الأول : حُكْم تعارض الأدلة الشرعية..................... ... 30
المطلب الثاني : دفع التعارض................................... ... 52
المطلب الثالث : العلاقة بَيْن التعارض والترجيح.................. ... 71
المطلب الرابع : العجز عن الترجيح............................. ... 75
الفصل الثاني : تعريف الترجيح وشروطه وحُكْمه ، وتعريف الخبر وأقسامه :
المبحث الأول : تعريف الترجيح وشروطه وحُكْمه : ... 77
المطلب الأول : تعريف الترجيح................................. ... 79
المطلب الثاني : أركان الترجيح وشروطه........................ ... 80
المطلب الثالث : محلّ الترجيح................................... ... 88(1/346)
المطلب الرابع : حُكْم الترجيح.................................... ... 92
المطلب الخامس : تعارض وجوه الترجيح....................... ... 103
115
الموضوع ... ص
المبحث الثاني : تعريف الخبر وأقسامه : ... 119
المطلب الأول : تعريف الخبر.................................... ... 120
المطلب الثاني : أقسام الخبر عند الأصوليين..................... ... 126
المطلب الثالث : أقسام الخبر عند المحدّثين....................... ... 131
المطلب الرابع : ترجيحات الأخبار عند الأصوليين............... ... 137
المطلب الخامس : ترجيحات الأخبار عند المحدّثين............... ... 140
الفصل الثالث : الترجيح العائد إلى السند : ... 145
المبحث الأول : ( تمهيديّ ) : ... 147
المطلب الأول : أقسام ترجيحات الأخبار.......................... ... 148
المطلب الثاني : أقسام الترجيح العائد إلى السند................... ... 151
المبحث الثاني : الترجيح العائد إلى الراوي : ... 153
المطلب الأول : الترجيح بكثرة الرواة............................ ... 154
المطلب الثاني : الترجيح بعلوّ الإسناد............................ ... 164
المطلب الثالث : الترجيح بعِلْم الراوي............................ ... 169
المطلب الرابع : الترجيح بعدالة الراوي وورعه.................. ... 177
المطلب الخامس : الترجيح بذكاء الراوي وضبطه................ ... 182
المطلب السادس : الترجيح بشهرة الراوي....................... ... 192
المبحث الثالث : الترجيح العائد إلى الرواية والمروي ووقْت الرواية :
المطلب الأول : الترجيح العائد إلى الرواية....................... ... 201
المطلب الثاني : الترجيح العائد إلى كيفية الرواية................. ... 202
المطلب الثالث : الترجيح العائد إلى المروي...................... ... 208
المطلب الرابع : الترجيح العائد إلى وقْت الرواية................. ... 222
227
الموضوع ... ص
الفصل الرابع : الترجيح العائد إلى المتن : ... 243(1/347)
المبحث الأول : الترجيح العائد إلى العامّ والخاصّ : ... 245
المطلب الأول : ترجيح الخاصّ والعامّ............................ ... 246
المطلب الثاني : ترجيح المقيد وتعارُض صيغ العموم............. ... 251
المطلب الثالث : ترجيح الأمر والنهي والخبر..................... ... 259
المبحث الثاني : الترجيح العائد إلى المنطوق والمفهوم والحقيقة والمَجاز :
المطلب الأول : ترجيح منطوق اللفظ ومفهومه.................... ... 275
المطلب الثاني : ترجيح الدلالات................................. ... 276
المطلب الثالث : ترجيح ما اشتمل على زيادة أو ألفاظ متغايرة.... ... 282
المطلب الرابع : الترجيح العائد إلى الحقيقة والمَجاز والمشترك... ... 296
الفصل الخامس : الترجيح العائد إلى المدلول أو أمر خارجيّ : ... 303
المبحث الأول : الترجيح العائد إلى الناقل والمثبت والنافي : ... 311
المطلب الأول : ترجيح الناقل عن البراءة الأصلية................ ... 313
المطلب الثاني : ترجيح المثبت لِلحُكْم............................ ... 314
المطلب الثالث : ترجيح المثبت لِلطلاق والعتاق.................. ... 318
المطلب الرابع : ترجيح النافي لِلحدّ.............................. ... 329
المبحث الثاني : الترجيح العائد إلى الحُكْم : ... 331
المطلب الأول : ترجيح الأخفّ................................... ... 337
المطلب الثاني : ترجيح الحُكْم الوضعي والمقصود به بيان الحُكْم............................................................ ... 338
المطلب الثالث : ترجيح المقرون بالمعارض والتهديد والتأكيد والقول والفعل...................................................
342
347
الموضوع ... ص
المبحث الثالث : الترجيح العائد إلى أمر خارجيّ : ... 355
المطلب الأول : الترجيح بكثرة الأدلة............................. ... 356
المطلب الثاني : الترجيح بموافقة دليل آخَر....................... ... 363(1/348)
المطلب الثالث : الترجيح بالعمل................................. ... 374
المطلب الرابع : ترجيح ما ينفي النقص عن الصحابة............. ... 387
الخاتمة.......................................................... ... 389
أهمّ المراجع..................................................... ... 396
الفهرس.......................................................... ... 412(1/349)