...
إبهاج العقول
في
علم الأصول
( الجزء الأول )
دكتور
إسماعيل محمد علي عبد الرحمن
رئيس قسم أصول الفقه
كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات
جامعة الأزهر ـ فرع المنصورة
المقدمة
الحمد لله الذي أَسبَغَ علينا نِعَمَه ظاهرةً وباطنةً ، وأَجَلّها نعمة الإيمان ثم الفقه في الأديان ..
وأشهد أن لا إله إلا الله العليم العلاَّم ، أعلى منازلَ أهل العلم والعرفان وخَصّهم بدرجات أهل القرب والرضوان ..
وأشهد أن سيدنا محمداً عبْده ورسوله ، خيْر مَن علَّم القرآن ، وبشَّر المتفقِّهين في الدين بإرادة الخير مِن الكريم المنَّان ، صلوات الله وسلامه عليه ما دامت الأزمان ، وعلى آله المطهّرين كما وَرَد في القرآن ، وصحبِه أهل البيعة والرضوان ، ومَن تَبِعَهم بإحسان .. أمّا بعد ..
فلقد أَكرمَني الله عز وجل بالاشتغال بعلم أصول الفقه تدريساً وتصنيفاً ومعايَشةً ملَكَت علَيّ لُبِّي وجوارحي ، حتى أصبحتُ مغْرماً بهذا العلم الذي لا غِنَى لِطالب العلم الشرعي عنه ، وكذلك المتحدثين في أحكام الشريعة والحلال والحرام ، وما أكثرهم في زماننا ، حتى صرنا نسمع مَن يحلل تأجير الأرحام ويبيح التماثيل المجسَّمة المنحوتة والأصنام ، أمثال هؤلاء ممن لم يَدرسوا عِلم أصول الفقه واجب علينا ـ نحن حَمَلة هذا العلم ـ أن نأخذ بأيديهم إلى جادة الصواب التي تتحقق بالوقوف على أصول الاجتهاد وقواعده في شريعتنا الغرّاء ..
هذا العلم الذي قد يسيء البعض ظنّاً بالأصوليين ويعتقد أنهم يبالغون ـ كعادة أهل كل علم ـ في فضله ومنزلته ، ولكنها الحقيقة التي يجب أن
نسلِّم بها أنه أحد علوم الشريعة التي لا يُسمَح لِمَن لم يتعلمه أن يقول : هذا حلال وهذا حرام ..
وكيف لا وهو كما قال حجة الإسلام الغزالي :" وأَشرَف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع ، وعِلم الفقه وأصوله مِن هذا القبيل " ا.هـ (1) .(1/1)
وقال في ذلك ـ أيضاً ـ تلميذه ابن برهان :" فاعلم ـ وفَّقَك الله وأعانك ـ أنّ أَجَلّ العلوم قدْراً وأعلاها شرفاً وذكراً عِلم أصول الفقه ، وذلك لأن الفقه أَجَلّ العلوم قدْراً وأسماها شرفاً وذِكراً ؛ لِمَا يتعلق به مِن مصالح العباد في المعاش والمَعاد " ..
ثم قال :" فإذا عرفتَ هذا وعرفتَ الفقه ومرتبته فما ظنك بأصوله التي منها استمداده وإليها استناده ؟ فمِنَ الواجب على كل مَن اشتغل بالفقه أن يَصرف صدراً مِن زمانه إلى معرفة أصول الفقه ؛ لِيَكون على ثقة مما دخل فيه قادراً على فهْم معانيه " ا.هـ (2) .
ومِن هذا المنطلق كان حرصي على أن أكون تابعاً لِهؤلاء الفحول وأمثالهم مِن علماء الأمة وفقهائها ، خاصةً الأصوليين منهم والذين اتضح لنا بعد البحث والدراسة أنهم ليسوا مذاهب كما هو الحال في الفقه ، وإنما هي طُرُق ومناهج ، أَشهَرُها : طريقة المتكلمين ، وطريقة الفقهاء ، وطريقة المتأخرين .
ولقد تأثر المصنِّفون في هذا العلم بهذه الطُّرُق ، حتى وجدْنا فريقاً منهم لا مكان عندهم لِلاستدلال العقلي أو الاعتراضات إلا القليل النادر ، وهذا
(1) المستصفى 1/3
(2) الوصول إلى الأصول 1/47 ، 48
هو الغالب عند الحنفية وبعض المصنِّفين مِن غيرهم ، وتَبِعَهم في ذلك مِن المعاصرين مَن صنَّفوا لِكليات الحقوق ، أمثال : الشيخ خلاّف وأبي زهرة والخضري وغيرهم ، رحمهم الله تعالى وجزاهم عنّا خير الجزاء ..(1/2)
ونرى فريقاً آخَر يَسلك طريقة المتكلمين مِن كثرة الاستدلال العقلي والمحاورة والاعتراضات والجواب عنها ، وقد تَوسَّع البعض في ذلك مِن إنشاء اعتراضات افتراضية ، ونَذكر منها ما أَورَدَه الآمدي في الواجب المخير مِن أحد عشر وجهاً لِلاعتراض والجواب عنها ( الإحكام 1/96 – 98 ) ، وكذلك ما أَورَده الأصفهاني في تعريف الحكم الشرعي مِن تسعة أوجه لِلاعتراض وأجاب عنها ( الكاشف 1/195 – 215 ) ، وما أَورَدَه ابن قيم الجوزية مِن ستة وأربعين وجهاً لِحُجية قول الصحابي مع الجواب عن الاعتراضات الواردة أو التي قد تَرِد ( أعلام الموقعين 4/409 – 431 ) ..
وهذا المنهج هو الغالب في الدراسة الجامعية بكليات الشريعة بالأزهر الشريف .
وأَذكر أنني حينما كنتُ طالباً بالدراسات العليا ، وكنا نَدرس بعض المسائل مِن كتاب " الإحكام " لِلآمدي كنا نتعجب ؛ لِكثرة محاوراته ومناقشاته الافتراضية التي أعيتْنا دراسةً وحفظاً ، ولِقِصَر فهْمنا يومها قلنا : ما الفائدة التي تَعود علينا مِن وراء هذه المحاورات الجدلية والتي ما هي في نظر البعض إلا سفسطة بِلا فائدة ؟!
ولكن الذي اتضح لي بعد الغوص في غمار هذا العلم والعمل في مجال الدعوة أنّا في حاجة ماسّة إلى تربية الدعاة وطلاب العلم الشرعي على فهْم قواعد الجدل والمناظرة والمحاورة ، والتي أَرسَى قواعدَها القرآنُ الكريم
في مواقف عدة ، خاصةً ما كانت مِن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - مع قومه والنمروذ وعبادة الكواكب ، وكذلك الأصل العامّ في الدعوة والجدل { وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَن } (1) .
وكيف لا نحتاج إلى أن نُعلِّم طالب العلم أسس النقاش والحوار ؛ لِيتمكن مِن الدعوة إلى الله والدفاع عن الحق ورَدّ خصومه وإبطال افتراءاتهم والتي تتكرر في كل زمان ومكان : كالطعن في السُّنَّة وإنكار الشفاعة واتهام الإسلام بالإرهاب ؟(1/3)
فأمثال هؤلاء لا تَكفي النصوص لِردعهم ، وإنما يجب توافُر الأدلة والحجج العقلية مع النقلية لدى الدعاة والمفكرين وأهل العلم ؛ حتى يُحِقّوا الحق ويُبطِلوا الباطل .
ولقد صنَّفتُ ـ بعون الله وتوفيقه ـ كتاباً لِلمبتدِئين في علم أصول الفقه خالياً مِن المناقشات والاعتراضات ، وهو المسمَّى بـ( بداية الوصول إلى علم الأصول ) ، وهو كتاب مُوَجَّه في الأصل لِغير المتخصِّصين أو لِلمبتدِئين منهم ، وهو مصنَّف لا يكفي لِتأهيل دارسِهِ أن يكون عالِماً بالأصول أو أصوليّاً ..
ومِن ثَمّ فقد شرح الله ـ عز وجلّ ـ صدري لِتأليف كتابٍ أصوليٍّ يحقق الغاية المتقدمة وفْق المنهج الذي صار عليه السابقون مِن أئمة الأصول بطُرُقِهم المتعدِّدة ، كما أنني رصَّعتُ جبين هذا المصنَّف ببعض الفروع الفقهية المستفيضة التي تغني الباحث عن الرجوع إلى مصادرها وأصْلِها لِلوقوف على حكْم الشرع وأقوال الفقهاء فيها ..
وقد رأيتُ تسميته بـ( إبهاج العقول في علم الأصول ) ، تابعاً في
(1) سورة النحل مِن الآية 125
تسميته لِلسبكي رحمه الله تعالى ، آملاً أن يحتوي بين عضدَيْه معظَم فصول الأصول ومسائله مقسمةً على أربعة أجزاء ، بادئاً بأولها في المقدمات وأركان الحكْم .
واللهَ تعالى أسأل أن يوفقني في تجميع مادته وتحسين صورته وتسديد رميته ، وأن يجعله خالصاً لِوجهه جلّ وعلا وذخراً لِي ولِوالدَيّ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليم ..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
دكتور
إسماعيل محمد علي عبد الرحمن
الفصل الأول
مقدمة عِلم أصول الفقه
ويحتوي هذا الفصل على المباحث التالية :
المبحث الأول : تعريف أصول الفقه .
المبحث الثاني : موضوع عِلم أصول الفقه وأركانه .
المبحث الثالث : استمداد عِلم الأصول .
المبحث الرابع : غاية عِلم الأصول وثمرته .
المبحث الخامس : فضل عِلم الأصول ومنزلته .(1/4)
المبحث السادس : نشأة عِلم الأصول وأول مَن صنَّف فيه .
المبحث السابع : طُرُق التصنيف عند الأصوليين .
المبحث الثامن : الفَرْق بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية ،
والفَرْق بين الأصولي والفقيه .
المبحث الأول
تعريف أصول الفقه
لقد عرَّف الأصوليون عِلم أصول الفقه بتعريفين :
الأول : باعتباره مركباً إضافيّاً .
والثاني : باعتباره لقبا أو علما على هذا الفن .
ونفصِّل القول في كل تعريف منهما :
التعريف الأول : تعريف أصول الفقه باعتباره مركباً إضافيّاً ..
وتعريف أصول الفقه باعتبار الإضافة يقتضي بيان وتعريف جزأَي الإضافة ، وهما : المضاف ( أصول ) والمضاف إليه ( الفقه ) .
تعريف الأصول :
والأصول له تعريفان : لغوي ، واصطلاحي .
تعريف الأصول لغةً :
والأصول في اللغة : جمْع " أصل " ..
وله عندهم معان عديدة :
1- أسفل الشيء .
2- منشأ الشيء .
3- ما يُبنَى عليه غيره حسيّاً : كابتناء السقف على الجدار ، وعقليّاً : كابتناء الحكْم على الدليل .
4- ما يستند وجود الشيء إليه ، فالأب أصْل لِلولد ، والنهر أصْل لِلجدول .
5- النسب .
6- الحسب .
7- العقل .
8- المحتاج إليه : كما يقال : الأصل في الحيوان الغذاء (1) .
تعريف الأصل اصطلاحاً :
والأصل في الاصطلاح يطلق على ستة معان :
الأول : الدليل ..
مثاله : قولنا :" الأصل في وجوب زكاة الزروع قوله تعالى { وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه } (2) " ، فالأصل هنا بمعنى الدليل ، أي الدليل على وجوب زكاة الزروع .
ومنه : قولهم :" والأصل في هذه المسألة الكتاب والسُّنَّة " أي الدليل عليها .
وهذا المعنى هو المراد هنا في التعريف .
الثاني : المقيس عليه ..
مثاله : قولنا :" الأصل في حرمة البانجو الخمر " أي المقيس عليه في الحكْم ؛ لاشتراكهما في العلة وهي الإسكار .
ومنه :" الأصل في حرمة ضرْب الوالدين التأفيف " أي المقيس عليه في الحكْم ؛ لاشتراكهما في العلة وهي الإيذاء .(1/5)
الثالث : المستصحب ..
مثاله : قولنا :" الأصل براءة الذمة " أي المستصحب ، فنَحكم بثبوت
(1) انظر : لسان العرب 11/16 والمصباح المنير 1/16 والتعريفات /43 والكليات /122 ، 123 والصحاح /29 والمعجم الوسيط 1/20 ونشر البنود 1/10 وحاشية البناني 1/32
(2) سورة الأنعام مِن الآية 141
الأمر في الزمان الثاني بناءً على أنه كان ثابتاً في الزمان الأول .
ومنه : الأصل في الأشياء الإباحة حتى يَدل الدليل على التحريم .
الرابع : الراجح ..
مثاله : قولنا :" الأصل في الكلام الحقيقة " أي الراجح ، فلو قال : " رأيتُ بحراً " دون قرينة تَصرفه عن حقيقته ـ وهو البحر المائي المعروف ـ حُمِل على أصله ، لكن إن وَرَدَت قرينة تَصرفه عن ذلك حُمِل على المجاز ـ بأن قال :" رأيتُ بحراً على المنبر " يعني بحراً في العلم ـ فلا يُحمَل على أصله حينئذٍ وهو الحقيقة ، وإنما يُحمَل على المجاز وهو كثرة العلم والتبحر فيه (1) .
الخامس : القاعدة الكلية ..
مثاله : قولنا : " الأصل في إساغة اللقمة بالخمر : الضرورات تبيح المحظورات " أي القاعدة الكلية التي تَفرَّعَ هذا الفرع عليها فينطبق عليه حكْمها (2) .
وعبَّر البعض بـ" القاعدة المستمرة " ، نحو : قولهم : " الأصل رفْع الفاعل " أي أن القاعدة العامة عند النحاة رفْع الفاعل .
ومنهم مَن قال " القاعدة العامة " ، نحو : قولهم :" إباحة الميتة لِلمضطر خلاف الأصل " أي خلاف القاعدة العامة وهي حرمة أكْلِها (3) .
(1) انظر الأصل في الاصطلاح في : مختصر المنتهى مع شرح العضد 1/25 والتلويح 1/16 ، 17 وشرح الورقات 1/163 ، 164 وشرح تنقيح الفصول /15 وشرح الكوكب الساطع 1/113 115 ونهاية السول 1/18 ، 19 والبحر المحيط 1/16 ، 17
(2) انظر : الأشباه والنظائر لِلسيوطي /84 وشرح مختصر الروضة 1/125 - 128 ونشر البنود 1/12 وإرشاد الفحول /17 وشرح طلعة الشمس 1/21(1/6)
(3) انظر : أصول الفقه لِلشيخ زهير 1/7 والوجيز لِزيدان /8
ولا شك أن هناك جامعاً مشتركاً بين القواعد الثلاث ، وهو أن جميعها قاعدة بمعنى " أصل " ، لكن المراد بالأولى ـ وهي القاعدة الكلية ـ قواعد الفقه الكلية وما تَفرَّع عنها .
السادس : مذهب العالِم في بعض القواعد ..
مثاله : قولهم :" إن فلاناً بنى على أصله في مسألة كذا " أي على مذهبه فيها (1) .
وهذه المعاني الاصطلاحية تلتقي جميعاً في المعنى اللغوي لِلأصل ، وهو : ما يُبنَى عليه غيره ، لكن المراد هنا هو الأصل بمعنى الدليل ..
وفي ذلك يقول ابن السمعاني :" فالأَوْلى أن يقال : إن الأصل كل ما يَثبت دليلاً في إيجاد حكْم مِن أحكام الدين " ا.هـ (2) .
تعريف الفقه :
والفقه له تعريفان : تعريف لغوي ، وتعريف اصطلاحي ..
تعريف الفقه لغةً :
والفقه لغةً : الفهم (3) ..
ومنه : قوله تعالى { وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورا } (4) .
والفقه في الأصل مصدر " فَقِهَ " بالكسر إذا فهم ، ويقال : فقه فهو فاقه و" فَقَهَ " بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم ، ويقال له أيضاً : فاقه ، و" فقُه "
(1) انظر شرح طلعة الشمس 1/21
(2) قواطع الأدلة 1/22
(3) انظر : مختار الصحاح /534 والمصباح المنير 2/479 والكليات /690
(4) سورة الإسراء الآية 44
بالضم إذا صار الفقه له سجيّةً وطبعاً ، يقال : فقُه فهو فقيه (1) .
ونقل بعض الأصوليين عن أهل اللغة معان عديدة لِلفقه ، منها :
1- العلم .
2- الشعر .
3- الطب .
4- المعرفة بقصد المتكلِّم .
5- فهْم غرض المتكلِّم مِن كلامه .
6- إدراك الأشياء الخفية .
7- استخراج الغوامض والاطلاع عليها (2) .
تعريف الفقه اصطلاحاً :
والفقه اصطلاحاً : ( العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب مِن أدلتها التفصيلية ) (3) .
شرح التعريف :(1/7)
( العلم ) : كالجنس في التعريف ، يشمل العلم بالأحكام والعلم بغيرها ..
والعلم : هو الاعتقاد الجازم المطابق لِلواقع عن دليل .
والجهل : هو الاعتقاد الجازم غير المطابق للواقع .
والشك : هو احتمال أمريْن فأكثر مِن غير ترجيح .
والظن : هو إدراك الطرف الراجح ، أو تجويز أمريْن أحدهما أظهر
(1) انظر : البحر المحيط 1/20 وشرح مختصر الروضة 1/132 وحاشية النفحات /14
(2) انظر : التلخيص 1/105 والمستصفى 1/4 والإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي 1/7 والمعتمد 1/4 وشرح اللمع 1/101 وشرح مختصر الروضة 1/131 وشرح تنقيح الفصول /16 ، 17 وشرح الكوكب المنير 1/40 ، 41
(3) أنيس الفقهاء /308
مِن الآخَر .
والوهم : هو إدراك الطرف المرجوح (1) .
( بالأحكام ) : قيد أول ، خرج به العلم بالذوات : كزيد ، والعلم بالصفات : كسواده ، والعلم بالأفعال : كقيامه ، فلا يسمى العلم بها فقهاً ..
وسيأتي تعريف الحكم لغةً واصطلاحاً بإذن الله تعالى .
( الشرعية ) : قيد ثان ، خرج به العلم بالأحكام العقلية ـ كالحسابيات والهندسة ـ والعلم بالأحكام الحسية ـ نحو : إحراق النار ـ والعلم بالأحكام اللغوية ، نحو : الفاعل مرفوع ..
وليس المراد العلم بجميع الأحكام الشرعية ؛ وإنما المراد العلم بجملة غالبة منها .
( العملية ) : قيد ثالث ، خرج به العلم بالأحكام العلمية ، وهي أصول الدين ـ علم العقيدة ـ : كالعلم بأن الله تعالى واحد ، وأنه يُرى في الآخرة .
( المكتسَب ) : قيد رابع ، خرج به علم الله تعالى ؛ فإنه ذاتي قديم .
( مِن أدلتها ) : قيد خامس ، خرج به عِلم الملائكة ، وعِلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحاصل بطريق الوحي ؛ فإنه لا يسمى " فقهاً " ، وإنما هو دليل يُبنَى عليه الحكم .
( التفصيلية ) : قيد سادس ، خرج به عِلم المقلِّد ؛ فإنه يُكتسَب مِن دليل إجمالي (2) ..(1/8)
(1) تقريب الوصول إلى علم الأصول /45 ، 46 بتصرف وانظر : شرح اللمع 1/85 - 89 وشرح الكوكب المنير 1/73 ، 74 والبحر المحيط 1/64 - 81 وقواطع الأدلة /37 - 39 ومختصر المنتهى 1/58 وشرح العضد 1/61
(2) انظر : البحر المحيط 1/21 ، 22 وحاشية البناني 1/42 - 44 وجمع الجوامع وشرح المحلي مع البناني 1/42 - 44 ونشر البنود /13 ، 14 والتمهيد للإسنوي /50 ، 51 وتقريب الوصول /43 وشرح مختصر الروضة 1/133 والضياء اللامع 1/135 - 145
ويرى الشيخ زهير ـ رحمه الله ـ أن هذا القيد إنما ذُكِرَ لبيان الواقع ، ولِيكون في مقابلة الأدلة الإجمالية في تعريف أصول الفقه ، وهو رأي أميل إليه وأرجحه ؛ لِوجاهته (1) .
مناقشة هذا التعريف :
وقد نوقش هذا التعريف مِن وجوه ، أهمها ما يلي :
الوجه الأول : أن المراد بالأحكام إما أن يكون العلم ببعضها أو العلم بجميعها ، فإن كان المراد هو العلم ببعضها كان التعريف غير مانع مِن دخول المقلِّد إذا كان عارفاً ببعض الأحكام ، فيصدق على علمه حد الفقه ، ولا يكون علمُه فقهاً ؛ لأن المقلِّد لا يسمَّى " فقيهاً " ..
وهذا الوجه مَبْنِيّ على أن " ال " في الأحكام لِلجنس ، أي مطلق الأحكام ، وأقلّه ثلاثة .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة مِن وجهين :
الأول : أنّا لا نسلِّم لكم تسمية المقلِّد العالِم ببعض الأحكام فقيهاً ؛ لأن " فعيلاً " صفة مبالَغة مأخوذة مِن " فَقُه " بضم القاف إذا صار الفقه له سجيّةً وطبعاً .
والثاني : أن المراد بالأدلة في التعريف الأمارات والتي تفيد الظن ، وحينئذٍ لا يخلو إما أن يكون المراد بالمقلِّد مَن كان عِلمه بالأحكام عن الأمارات المذكورة بالاستدلال أو غيره ..
فإن كان الأولَ فلا نسلِّم أنه لا يكون فقيهاً حتى يلزم عدم الاطراد .
وإن كان الثاني فلا نسلِّم صِدق الحد عليه حتى يلزم عدم الاطراد .
(1) أصول الفقه لِزهير 1/24(1/9)
ولِذا كان التعريف مطرداً ( مانعاً ) (1) .
الوجه الثاني : أنه لو كان المراد هو العلم بجميع الأحكام لكان التعريف غير جامع ( منعكس ) ، وذلك لِخروج بعض الفقهاء عنه ؛ فقد ثبت في حق كثير منهم :" لا أدري " ، ومنهم الإمام مالك الذي سُئِل في أربعين مسألةً فقال في ستٍّ وثلاثين منها :" لا أدري " ، ونَقَل النووي أنها ثماني وأربعون فقال في ستٍّ وثلاثين منها :" لا أدري " ، وحينئذٍ يخرج هؤلاء الأئمة الفقهاء عن الحد ولا يُسمَّى عِلمهم " فقهاً " ..
وهذا الوجه مَبْنِيّ على أن " ال " في الأحكام لِلعموم ، أي جميع الأحكام .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة : بأن المراد بالعلم بجميع الأحكام ليس إحضار جميعها بالفعل ، وإنما المراد هو التهيؤ لِلعلم بجميعها ، أو حصول المَلَكة التي يتمكن معها مِن النظر في الأحكام واستنباطها مِن الأدلة متى شاء ، وحينئذٍ لا يضر ثبوت :" لا أدري " ؛ لِتَحقُّق المَلَكة
(1) الاطراد : هو التلازم في الثبوت ، فكلما وُجِد المُعرِّف وُجِد المُعرَّف ، فلا يدخل فيه شيء مِن غير أفراد المحدود ، فيكون مانعاً .
الانعكاس : هو التلازم في الانتفاء ، فكلما انتفى المعرِّف انتفى المعرَّف ، فلا يخرج عنه شيء مِن أفراد المحدود ، فيكون جامعاً .
كتعريف الإنسان بـ" الحيوان الناطق " ، فهو تعريف مطرد ( مانع ) منعكس ( جامع ) .
أمّا تعريفه بـ" الحيوان الكاتب " فإنه غير جامع وغير منعكس ، وتعريفه بـ" الحيوان الماشي " غير مانع وغير مطرد .
وجَعَل القرافي الاطراد هو الجمع ، والانعكاس هو المنع ، وتَبِعه الطوفي ، لكن الأول هو الراجح عندنا ، واختاره الغزالي وابن الحاجب ..(1/10)
انظر : المستصفى 1/22 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 1/68 وشرح تنقيح الفصول /7 وشرح مختصر الروضة 3/412 وحاشية الشريف الجرجاني على مطالع الأنظار /28 وجمع الجوامع مع المحلي مع البناني 1/134 ، 135 والضياء اللامع 1/264 - 267 وإيضاح المبهَم /8
عنده (1) .
الوجه الثالث : أن الفقه مستفاد مِن الأدلة الظنية ؛ لِكونه مَبْنِيّاً على العمومات وأخبار الآحاد والأقيسة وغيرها مِن المظنونات ، والمستفاد مِن الظن يكون ظنيّاً ، وإذا كان الفقه ظنيّاً أو مظنوناً فكيف يُعرف بالعلم وهو مقابِله ولا يَصدق أحد المقابِليْن على الآخَر ؟
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة : بأنّا لا نسلِّم لكم أن الفقه مستفاد مِن الأدلة الظنية ، وإنما هو مستفاد مِن الأدلة القطعية ، والظن واقع في طريقه ، والمستفاد مِن القطعي قطعي ..
وبيانه : أن المجتهد إذا عرف دليل حكْم ـ نحو : حرمة النبيذ ـ وغلب على ظنه ثبوته حصل عنده مقدمتان قطعيتان :
الأولى : أن هذا الحكم ـ حرمة النبيذ ـ مظنون .
الثانية : أن كل مظنون يجب العمل به ؛ لانعقاد الإجماع على وجوب اتّباع الظن في الأحكام العملية ..
ودليل وجوب اتباع الظن ( الدليل القطعي ) : أن الظن بالشيء يستلزم الوهم بمقابله ..
وحينئذٍ إما أن يعمل بهما معاً ، فيلزم اجتماع النقيضيْن ، وهو مُحال .
وإما أن لا يعمل بواحد منهما ، فيلزم ارتفاع النقيضيْن ، وهو مُحال أيضاً .
وإما أن يعمل بالوهم دون الظن ، فيلزم ترجيح المرجوح على الراجح
(1) انظر : مختصر المنتهى مع شرح العضد 1/29 - 31 وبيان المختصر 1/27 - 29 والتلويح مع التوضيح 1/29 - 31 والكاشف عن المحصول 1/140 - 149 والإبهاج 1/33 ونهاية السول 1/27 - 35 ومناهج العقول 1/27 - 33
وهو مردود .
وإذا بطلَت الأقسام الثلاثة تَعيَّن القسم الرابع ، وهو العمل بالظن دون الوهم .(1/11)
ويلزم مما تَقدَّم أن الحكم ـ وهو حرمة النبيذ ـ يجب العمل به قطعاً ، أي نَعلم قطعاً أن اجتناب شرب النبيذ واجب عليه ، والفتوى بحرمته واجبة عليه .
ولِذا كان الحكم مقطوعاً به والظن في طريقه ، ولا وجه لِلاعتراض بتعريفه بالعلم (1) .
تعريف أصول الفقه باعتباره مركباً إضافيّاً :
بعد الوقوف على معنى جزأَي المركب والإضافي ( أصول الفقه ) يكون معناه بهذا الاعتبار هو : ( الأدلة التي يُبنَى عليها العلم بالأحكام الشرعية العملية ) ؛ لأن العلم بالأحكام مَبْنِيّ عليها ومستنبط منها ؛ إذ لا مجال للعقل في معرفة تلك الأحكام (2) .
التعريف الثاني لأصول الفقه : التعريف اللقبي أو العلمي ..
والمراد باللقبي أو العلمي هنا : أن لفظ ( أصول الفقه ) بمجموعه أصبح لقباً على هذا الفن وعلما عليه.
وأكتفي في هذا المقام بإيراد تعريفين :
الأول : لابن الحاجب .
والثاني : لِلبيضاوي .
(1) حقائق الأصول 1/105 - 107 بتصرف وانظر : المحصول 1/10 والتحصيل 1/167 ومنهاج الوصول مع الإبهاج 1/33 والتحرير مع التيسير 1/10 - 13 وفواتح الرحموت شرح مُسلَّم الثبوت 1/11 - 13 والتمهيد لِلإسنوي /51 وحاشية النفحات /14
(2) حقائق الأصول 1/93 بتصرف .
التعريف الأول : لابن الحاجب ..
وهو : ( العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية مِن أدلتها التفصيلية ) (1) .
شرح التعريف :
( العلم ) : كالجنس في التعريف ، يشمل العلم بالقواعد والعلم بغيرها .
( بالقواعد ) : قيد أول ، خرج به العلم بالجزئيات ، أو الدليل التفصيلي .
( التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام ) : قيد ثان ، خرج به العلم بالقواعد التي تُستنبَط منها الصنائع ، والعلم بالماهيات والصفات .
( الشرعية ) : قيد ثالث ، خرج به العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الاصطلاحية والعقلية .
( الفرعية ) : قيد رابع ، خرج به الأحكام الشرعية الأصولية
[ الأحكام الاعتقادية ] .(1/12)
( مِن أدلتها التفصيلية ) : أي التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام مِن أدلتها التفصيلية ، أي المذكورة على جهة التفصيل (2) .
مثال تطبيقي :
لقد توصل الأصوليون إلى القواعد الأصولية بالاستقراء والتتبع مِن خلال النصوص الشرعية أو اللغة العربية أو العقل (3) ، وهذه القواعد تُعَدّ
(1) مختصر المنتهى 1/18 ، 19 وبيان المختصر 1/14 ، 15 والمختصر في أصول الفقه /30 وشرح مختصر الروضة 1/120
(2) انظر : مختصر المنتهى 1/18 ، 19 وبيان المختصر 1/14 ، 15 وشرح الكوكب المنير 1/44 46 وشرح مختصر الروضة 1/120 - 122
(3) انظر الواضح في أصول الفقه /12 ، 13
أدلةً إجماليةً أو أدلةً كليةً ؛ لأنها ليست خاصةً بحكْمٍ جزئيٍّ معيَّن .
مثال هذه القواعد : ( الأمر لِلوجوب ) فإنه يشمل جميع الأوامر الشرعية ، وكذا ( النهي لِلتحريم ) ، و( خبر الواحد يفيد الظن ) ، و( المتواتر يفيد اليقين ) ..
فلو أَخذْنا ـ مَثَلاً ـ قوله تعالى { وَأَقِيمُوا الصَّلَوة } وهو أمْر شرعي لكنه بحكْم معيَّن ، وهو إقامة الصلاة ، فيكون دليلاً تفصيليّاً ، أو دليلاً جزئيّاً على حكْم إقامة الصلاة الذي يمكن لِلمجتهد التوصل إليه ، وذلك بجعل القاعدة الأصولية مقدمةً كبرى لِقياس مِن الشكل الأول ، موضوع الكبرى هو محمول الصغرى ، وهو المكرر ، فيحذف لِيتوصل إلى النتيجة على النحو التالي :
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَوة } [ موضوع ] أمر [ محمول ] مقدمة كبرى
والأمر [ موضوع ] للوجوب [ محمول ] مقدمة صغرى
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَوة } للوجوب نتيجة
فيكون حكْم إقامة الصلاة المفروضة واجبةً ، دليلها التفصيلي { وَأَقِيمُوا الصَّلَوة } ، ودليلها الإجمالي القاعدة الأصولية : ( الأمر لِلوجوب ) (1) .
التعريف الثاني : لِلبيضاوي ..
وهو : ( معرفة دلائل الفقه إجمالاً ، وكيفية الاستفادة منها ، وحال المستفيد ) .
شرح التعريف :
( معرفة ) : كالجنس في التعريف ، تشمل معرفة الدلائل ومعرفة(1/13)
(1) انظر : شرح العضد 1/20 ، 21 وحقائق الأصول 1/95 وتيسير التحرير 1/16 ومُسلَّم الثبوت 1/9 وحاشية البناني 1/22 وأصول الفقه للخضري /13 وعلم أصول الفقه لأبي النجا /12
غيرها ، والمعرفة مراد بها العلم (1) : كما في قوله تعالى { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ } (2) ، كما أن العلم قد يراد به المعرفة : كما في قوله تعالى { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُم } (3) .
( دلائل ) : جمع دليل ..
وهو في اللغة : المرشد والكاشف .
واصطلاحاً : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري مطلقاً ظنّاً أو قَطعاً .
وهو قيد أول ، خرج به معرفة غير الدلائل : كمعرفة الأحكام ؛ فإنها تسمى " فقهاً " .
( الفقه ) : قيد ثانٍ ، خرج به معرفة أدلة غير الفقه : كمعرفة أدلة التوحيد وأداة النحو ونحوها ..
وإضافة الدلائل إلى الفقه أفادت عموم الدلائل ، أي جميع أدلة الفقه ، وهي الأدلة الإجمالية ، نحو : الأمر لِلوجوب ، والنهي لِلتحريم ، وهي القواعد الأصولية ، كما يشمل الأدلة التفصيلية متفقاً عليها ـ وهي : كتاب وسنّة وإجماع وقياس ـ ومختلفاً فيها ، نحو : الاستصحاب والاستحسان وقول الصحابي ..
وعموم الدلائل أَخرَج معرفة بعض الدلائل : كمعرفة باب أصولي
(1) انظر المصباح المنير 2/404
(2) سورة المائدة مِن الآية 83
(3) سورة الأنفال مِن الآية 60
أو مسألة أو فصْل منه ، فلا يسمَّى العارف به " أصوليّاً " .
وليس المراد مِن معرفة الأدلة حِفْظها ، وإنما معرفة الأحوال المتعلقة بهذه الأدلة ، نحو : معرفة أن الأمر المطلَق عن القرينة يفيد الوجوب ، وأن النهي يفيد التحريم ..(1/14)
كما أنه ليس المراد بمعرفة الأدلة تَصوُّرها : كأن يعرف الكتاب بأنه كلام الله تعالى المنزل على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - المتعبَّد بتلاوته المتحدَّى بأَقصَر سورة منه ، وأن السّنّة هي أقوال وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقريراته ، وإنما المراد هو التصديق بأحوالها .
( إجمالاً ) : قيد ثالث ، خرج به علم الخلاف وعلم الفقه ؛ لأن محل بحثهما الأدلة التفصيلية ..
فعلْم الخلاف يبحث عن الأدلة التفصيلية لِتكون حجةً يدافع بها المتناظِر .
أمّا الفقيه فإنه يبحث فيها لِيستنبط الأحكام الشرعية .
( وكيفية الاستفادة منها ) : أي معرفة كيفية استخراج الأحكام مِن الأدلة ، ولن تتحقق تلك المعرفة إلا بالوقوف على دلالات الألفاظ والتعارض والترجيح ونحوها .
( وحال المستفيد ) : أي ومعرفة حال المستفيد ، وهو المجتهد القادر على استنباط الأحكام الشرعية مِن الأدلة ، ولِذا بَحَث الأصوليون الاجتهاد وشروط المجتهد والفتوى والمفتِي ، أمّا المقلِّد فليس مراداً لهم ، وإنما ذُكِر استطراداً لِمناسبة الكلام عن الاجتهاد والمجتهد (1) .
(1) انظر : حقائق الأصول 1/93 - 97 ومناهج العقول 1/18 - 20 ونهاية السول 1/20 - 24 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/9 - 15
الاعتراضات الواردة على تعريف البيضاوي :
ناقش الإسنوي هذا التعريف مِن وجوه ، أَذكر أَوجَهَها فيما يلي :
الوجه الأول : أن أصول الفقه هو معرفة الدلائل وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد ، والمعرفة تستدعي عارفاً ، فإن وُجِد وُجِدَت ، وإذا لم يوجَد لم توجَد ، مع أن أصول الفقه شيء ثابت سواء وُجِد العارف به أم لا ، ولِذا كان تعريفاً مبايِناً لِلمُعَرَّف ؛ لأنه يجعل أصول الفقه غير ثابت في نفسه ، وليس كذلك .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :(1/15)
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة : بأنّا لا نسلِّم لكم أن أصول الفقه باعتباره لقباً أو علماً شيء ثابت في نفسه ؛ لأنه لا يخرج عن المسائل أو التصديق بها أو المَلَكة الحاصلة مِن مزاولة تلك المسائل ، وجميعها متوقف على غيره يُوجَد بوجوده ، والثابت في نفسه هو أصول الفقه باعتباره مُرَكَّباً وهو الأدلة ، والتعريف إنما هو لِلّقب وليس لِلمركَّب ، فلا وجه لِلاعتراض .
الوجه الثاني : أن هذا التعريف غير جامع ؛ لأن عِلم الله تعالى بأصول الفقه ثابت ؛ لِعِلمه عز وجلّ بكل شيء ، ولا بد مِن إدخاله في الحد ، ولا يمكن إدخاله ؛ لأنه جعل المعرفة جنساً لِلتعريف ، والمعرفة لا تُطلَق على الله تعالى ؛ لأنها تستدعي سبْق الجهل ، وهو مُحال في حقه تعالى .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة : بأن عِلم الله تعالى بأصول الفقه ليس داخلاً في المعرَّف ، ولا يسمَّى " أصول فقه " ؛ لأن هذا مِن شأن الحوادث ، وإذا كان عِلْم الله تعالى ليس داخلاً في المعرَّف فلا مانع مِن
خروجه عن التعريف .
الوجه الثالث : أنه جَمَع " دليلاً " على " دلائل " ، وصوابه " أدلة " ؛ لأنه اسم جنس ، واسم الجنس إذا كان على وزن " فعيل " فإنه لا يُجمَع على " فعائل " ، ولِذا كان التعريف على خلاف القواعد الصرفية .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة مِن ثلاثة وجوه :
الأول : أن جمْع " دليل " على " دلائل " يحتمل أن يكون سماعاً لا قياساً ، نحو " وصيد " و" وصائد " ، وقد استعمله الإمام الشافعي في رسالته كثيراً .
الثاني : أنّا لا نسلِّم لكم أن " دليلاً " اسم جنس ، وإنما هو علم جنس لِمؤنث ، وإذا كان كذلك كان جمْعه قياساً : كجمْع " سعيد " ( اسم امرأة ) على " سعائد " .
الثالث : أن " دلائل " إنما هو جمْع " دلالة " بمعنى دليل ، وليس جمعاً لِـ" دليل " كما ذهبتم .(1/16)
الوجه الرابع : أن هذا التعريف غير مانع مِن دخول تَصوُّر دلائل الفقه في التعريف ؛ لأنه يصدق عليه أنه معرفة بها أي علم ؛ لأن العلم ينقسم إلى تصوُّر وتصديق ، وعِلم الأصول هو التصديق بالمسائل وليس تَصوُّرَها .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة : بأن المراد في التعريف بمعرفة الأدلة هو معرفة ما يَعرض لها مِن الأحوال : ككون الأمر لِلوجوب والنهي لِلتحريم ، وهذا يُعَدّ تصديقاً وليس تصوراً ، ولِذا في التصور لا يدخل فيه فيكون التعريف جامعاً مانعاً (1) .
(1) انظر : نهاية السول 1/24 - 26 وأصول الفقه لِلشيخ زهير /15 - 18
المبحث الثاني
موضوع عِلم أصول الفقه وأركانه
اختلف الأصوليون في موضوع أصول الفقه على مذاهب أربعة :
المذهب الأول : الأدلة الشرعية مِن حيث ثبوت الأحكام الشرعية بها ..
وهو مذهب الجمهور (1) .
المذهب الثاني : الأحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالأدلة ..
وهو اختيار الغزالي في " المستصفى " (2) .
المذهب الثالث : الأدلة الشرعية مِن حيث إثباتها الأحكام الشرعية ، والأحكام الشرعية مِن حيث ثبوتها بالأدلة الشرعية ..
وإليه ذهب بعض الأصوليين (3) .
المذهب الرابع : الأدلة والترجيح والاجتهاد ..
وهو اختيار نور الدين الأردبيلي (4) وابن قاسم العبادي (5) .
والذي أراه أن المذاهب كلها متفقة على أن موضوع علم الأصول
(1) انظر : شرح اللمع 1/109 والمستصفى 1/4 ، 5 والإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي 1/8 ، 9 والبحر المحيط 1/30 ومسلم الثبوت 1/16 ، 17 وشرح الكوكب المنير 1/36 ونهاية السول1/25 وتيسير التحرير 1/18 والتقرير والتحبير 1/32 ، 33
(2) المستصفى 1/4 ، 5
(3) انظر : التوضيح مع شرح التلويح 1/21 ، 22 وشرح طلعة الشمس 1/23 ، 24 وإرشاد الفحول /5 وحاشية النفحات /9
(4) حقائق الأصول 1/98
(5) انظر : تسهيل الوصول إلى علم الأصول /19 وغاية الوصول /46 ، 47(1/17)
هو الأدلة الإجمالية ، وهي الموصلة إلى الأحكام الشرعية بعد الترجيح ، ولا يتأتى ذلك إلا لِمجتهد ، فجميعها عندي هي موضوع علم الأصول ، وهو ما نَص عليه تعريف البيضاوي صراحةً ، وهو : ( معرفة دلائل الفقه إجمالاً ، وكيفية الاستفادة منها ، وحال المستفيد ) (1) .
أمّا موضوع عِلم الفقه فهو : أفعال العباد مِن حيث تَعلُّق الأحكام الشرعية بها (2) .
ومما تقدم يتضح أن أركان علم الأصول أربعة :
الأول : الأدلة الشرعية ( الإجمالية ) .
الثاني : الأحكام الشرعية .
الثالث : استخراج الأحكام مِن الأدلة .
الرابع : المجتهد .
وهذه الأركان سمّاها حجة الإسلام الإمام الغزالي " الأقطاب الأربعة التي يدور عليها علم الأصول " ، وهي : الثمرة والمثمر وطُرُق الاستثمار والمستثمر ، فالثمرة هي الأحكام ، والمثمر هي الأدلة ، وطُرُق الاستثمار هي وجوه دلالة الأدلة واستخراج الأحكام بعد الترجيح ، والمستثمر هو المجتهد (3) .
(1) منهاج الوصول مع الإبهاج 1/19
(2) انظر شرح الكوكب المنير 1/36
(3) المستصفى 1/7 بتصرف .
المبحث الثالث
استمداد عِلم الأصول
وعِلم الأصول مستمد مِن ثلاثة علوم :
الأول : عِلم الكلام ..
وذلك لِتَوقُّف الأدلة على معرفة الباري سبحانه وتعالى ؛ لِيمكن إسناد خطاب التكليف إليه ، وحجية الكتاب متوقفة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وثبوته متوقف على أن المعجزة تدل على دعوى الرسالة ، ومحلّ ذلك عِلْم الكلام .
الثاني : عِلم العربية ..
وذلك لأن أصلَيِ الأدلة ـ الكتاب والسُّنَّة ـ لغتهما العربية ، والاستدلال بهما يتوقف على معرفة اللغة مِن حقيقة ومجاز وعموم وخصوص وإطلاق وتقييد وغيرها مِن مباحث اللغة .
الثالث : الأحكام الشرعية ..
وأَطْلَقَ عليه البعض " عِلم الفقه " أو " عِلم الأحكام الشرعية " ، وهو اختلاف لفظي ، والمعنى واحد ..(1/18)
والمراد بالأحكام هنا ليس استنباطها ، وإنما المراد تَصوُّرها ؛ حتى يمكن بالاجتهاد إثباتها أو نفْيها ..
ففي الأصول نقول : الأمر للوجوب .
وفي الفقه نقول : الظهر واجب .
ولِذا كان لا بد مِن تَصوَّر الوجوب أولاً حتى نَحكم بثبوته أو نفْيه ، وهو التصديق الذي لا بد وأن يُقدّم بالتصور (1) (2) .
وفي ذلك يقول الأصفهاني :" أمّا استمداد الأصول مِن الأحكام فمِن جهة التصور ؛ لأنّ قصْد الأصولي يتوجه إلى معرفة كيفية استنباط الأحكام مِن الأدلة ، ولا شك أن معرفة كيفية استنباط الأحكام تتوقف على تَصوَّر الأحكام " ..
ثم قال :" وأمّا التصديق بالأحكام مِن حيث هي متعلقة بأفعال المكلَّفين على سبيل التفصيل فلا يَكون استمداد الأصول منه ؛ لأن التصديق بها مِن مسائل الفقه ، وهو يتوقف على الأصول ، فلو استمد منه لزم الدور " ا.هـ (3) .
(1) انظر : مختصر المنتهى وشرح العضد 1/32 - 35 والإحكام لِلآمدي 1/9 وبيان المختصر 1/30 - 32 والوصول إلى الأصول 1/53 - 56 وشرح الكوكب المنير 1/48 - 50 وإرشاد الفحول /5 ، 6
(2) التصور : هو إدراك المفرد أو حصول صورة الشيء في العقل مِن غير حكْم عليه بنفي أو إثبات كإدراك معنى زيد مِن غير حكْم عليه بشيء .
والتصديق : هو إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة : كإدراك وقوع القيام وعدمه في قولنا : " زيد قائم " أو " ليس قائماً " ..
انظر : تحرير القواعد المنطقية /7 وحاشية الجرجاني على التحرير /7 وشرح السلم /11 ، 12 وإيضاح المبهم /5 ، 6
(3) بيان المختصر 1/31 ، 32 بتصرف وانظر : مختصر المنتهى وشرح العضد 1/32 - 35 والإحكام لِلآمدي 1/9 وبيان المختصر 1/30 - 32 والوصول إلى الأصول 1/53 - 56 وشرح الكوكب المنير 1/48 - 50 وإرشاد الفحول /5 ، 6
المبحث الرابع
غاية عِلم الأصول وثمرته
وعِلم الأصول له فوائد عديدة ، أهمها :(1/19)
1- القدرة على استنباط الأحكام الشرعية مِن الأدلة السمعية ، فيتوصل المجتهد باجتهاده إلى معرفة حكْم الله تعالى مِن وجوب وندب وحظر وكراهة وإباحة وغيرها ، فيؤدي الواجب ، ويسارع إلى المندوب ، ويجتنب المحرَّم والمكروه ..
والأخذ بهذه الأحكام وغيرها سبب لِتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة (1) .
2- فهْم الأحكام الشرعية التي استنبطها المجتهدون ، والتي تَوصَّلوا إليها وفق قواعد منضبطة ، فلا دخْل لِرأي شخصي أو هوى نفس ، الأمرَ الذي يزيد النفس اطمئناناً بهذه الأحكام وثقةً بهؤلاء الأئمة المجتهدين .
3- أن عِلم الأصول مِن أكبر الوسائل لِحفظ الدين وصون أدلته وحُججه مِن شُبَه المنكِرين والرد على الفِرَق الضالة (2) .
4- أن صلاحية الشريعة لِكل زمان ومكان تقتضي استخراج الأحكام الشرعية لِمستجدات الأمور ومستحدثاتها وفْق قواعد راسخة منضبطة ، وعِلم أصول الفقه أحد أدوات الاجتهاد ، والذي به يتأكد هذا المبدأ ويتحقق .
(1) انظر : الإحكام لِلآمدي 1/9 ومختصر المنتهى 1/32 وبيان المختصر 1/29 والوصول إلى الأصول 1/52 وشرح الكوكب المنير 1/46 وحاشية النفحات /9 وشرح طلعة الشمس 1/24 وإرشاد الفحول /5
(2) انظر : غاية الوصول /47 - 51 والوصول إلى الأصول 1/53 هامش وأصول الفقه الإسلامي لِزكي الدين شعبان/13
المبحث الخامس
فضْل عِلم الأصول ومنزلته
لمّا كانت غاية عِلم الأصول هي العلم بأحكام الله تعالى أو الظن بها وما يستلزم ذلك مِن تعامل مع الأدلة ، وأفضلُها على الإطلاق كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن هذا العلم لِذلك علا قدراً وسما شرفاً بين العلوم الشرعية ..(1/20)
وفي ذلك يقول حجة الإسلام الغزالي :" وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع ، وعلم الفقه وأصوله مِن هذا القبيل ؛ فإنه يأخذ مِن صفو الشرع والعقل سواء السبيل ، فلا هو تصرّف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول ، ولا هو مَبْنِيّ على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد " ا.هـ (1) .
وقال ابن خلدون :" اعلم أن أصول الفقه مِن أعظم العلوم الشرعية وأجَلّها قدْراً وأكثرها فائدةً ، وهو النظر في الأدلة مِن حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف " ا.هـ (2) .
(1) المستصفى 1/3
(2) مقدمة ابن خلدون /501
المبحث السادس
نشأة عِلم الأصول وأول مَن صنَّف فيه
والحديث عن نشأة علم الأصول يستدعِي بيان قواعد الاجتهاد ، واستخراج الأحكام في عصر النبوة ، ثم عصر الصحابة ، ثم عصر التابعين .
أولاً - عصر النبوة :
وفي هذا العصر كان الصحابة - رضي الله عنهم - يَجتهدون في استنباط الحُكم الشرعي في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي غيبته ، فإن كان صواباً أَقَرَّه ، وإلا بَيَّن لهم وجه الصواب ، ولِذا كان المرجع في اجتهادهم هو السُّنَّة..
مثال ذلك : الرجلان اللذان كانا في سفر وفقدا الماء ، وتيمما ثم صليا وبعد الصلاة حضر الماء فتوضأ أحدهما وأعاد الصلاة ، ولم يُعِد الآخَر ، وعندما رجعا إلى المدينة عَرَضَا أمْرهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لِلذي أعاد الصلاة { لَكَ الأَجْرُ مَرَّتَيْن } ، وقال لِلذي لم يُعِد { أَصَبْتَ السُّنَّةَ ، وَأَجْزَأَتْك } (1) .
والصحابة عندما كانوا يجتهدون كانت لهم قواعد وأُسُس يسيرون عليها ..
ودليل ذلك : قول معاذ بن جبل - رضي الله عنه - (2) ، حينما أَرسَلَه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى
(1) رواه أبو داود والحاكم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .(1/21)
(2) انظر : تاريخ الفقه الإسلامي /15 ، 32 ، 33 وشريعة الله الخالدة /111 ، 112 ونظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي /54
اليمن ، فقال له { بِمَ تَقْضِي } ..
قال :" بِكِتَابِ اللَّه " .
قال { فَإِنْ لَمْ تَجِد } ..
قال :" فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّه " .
قال { فَإِنْ لَمْ تَجِد } ..
قال :" أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي وَلاَ آلُو " أي أقصِّر (1) .
وعلى ذلك كانت قواعد استنباط الأحكام ( أصول الفقه ) معروفةً لدى الصحابة وملتزَمةً في اجتهاداتهم ، غير أنها لم تُدوَّن في علم مستقل ؛ فقد كانوا أَعْلَمَ الناس بالأدلة والنصوص وأسباب نزولها والناسخ والمنسوخ مع تَمكُّنهم مِن اللغة وقوة قريحتهم وصفاء نفوسهم .
ثانياً - عصر الصحابة :
وفي هذا العصر كثرَت الفتوحات ، وجدَّت أحداث ووقائع لم تكن في عهد النبوة ، الأمرَ الذي استدعى الاجتهاد في بيان حكْم الشرع فيها ، فكان فقهاء الصحابة يرجعون أولاً إلى الكتاب ، ثم إلى السُّنَّة ، ثم إلى إجماع الصحابة ، وإلا كان اجتهادهم .
ولقد ظهرَت المدارس الفقهية في هذا العصر : فكانت مدرسة الحديث بالحجاز ، وعلى رأسها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، وكانت مدرسة الرأي بالعراق ، وعلى رأسها عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (2) .
ومِن المسائل التي اجتهد فيها الصحابة - رضي الله عنهم - : قتْل الجماعة بالواحد ،
(1) رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - .
(2) انظر : أصول الفقه تاريخه ورجاله /23 - 25 ونظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي /137 ، 138(1/22)
حينما قتلَت امرأة وخليلها ورجلٌ آخَر وخادمها غلاماً يقال له " أصيل " بصنعاء اليمن في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، ثم كُشِف الأمر فأُخِذ خليلها فاعترف ، فكَتَب علي - رضي الله عنه - بشأنهم إلى عمر - رضي الله عنه - فأَمَر بقتلهم جميعاً وقال : " وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ أَهْلَ صَنْعَاءَ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ لَقَتَلْتُهُمْ أَجْمَعِين " ..
ووافق علي والمغيرة وابن عباس - رضي الله عنهم - عمر - رضي الله عنه - في هذا الحكم ، وخالَف منهم الزبير - رضي الله عنه - وقضى بالدية دون القتل ..
ومنشأ الخلاف بين الفريقيْن : عدم وجود نَص في ذلك ، ولم يُؤثَر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - القضاء في مِثل هذه الحادثة ، فاجتهَد فيها الصحابة - رضي الله عنهم - على رأييْن كما تَقدَّم .
ومِن ذلك أيضاً : اجتهادهم في ميراث الجد مع الإخوة ..
فلهم رأيان :
الرأي الأول : أن الجد كالأب يحجبهم ..
وهو ما عليه أبو بكر وابن عباس والزبير ومعاذ وجماعة مِن الصحابة - رضي الله عنهم - .
والرأي الثاني : أنه لا يحجبهم ، ويرثون معه ؛ لِتساويهما في درجة القرب مِن الميت ، فكِلاهما يدلي إلى الميت عن طريق الأب .
ومِن فقهاء الصحابة منهم مَن تبحَّر في الفقه والعلم والفتوى ..
وقد ذَكَر ابن القيم ـ رحمه الله ـ أن الذين حُفِظَت عنهم الفتوى مِن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة ونيِّف وثلاثون نفْساً ما بين رجل وامرأة ، والمكثِرون منهم سبعة : عمر وعلي وابن مسعود وزيد وابن عباس وابن عمر وعائشة - رضي الله عنهم - (1) .
(1) انظر : أعلام الموقعين 1/10 والتشريع والفقه في الإسلام لِلقطان /253 ، 254 ، 259
ثالثا ــ عصر التابعين وما بعده :(1/23)
وفي هذا العصر كثرَت الحوادث ، واتسعَت رقعة الدولة الإسلامية ، ودخلَت شعوب كثيرة غير عربية الإسلام ، وفيه ظَهَر الأئمة المجتهدون الذين اقتفوا أثر الصحابة في استخراج الأحكام لِلوقائع المستجدة ، فكان مرجعهم في ذلك الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس وأقوال الصحابة - رضي الله عنهم - ، كما ظَهَر لِكل إمام منهج يسير عليه وتلاميذ يقومون به .
وكان مِن أئمة الفتوى والاجتهاد في هذا العصر :
فقهاء المدينة السبعة : ابن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم ابن محمد وخارجة بن زيد وأبو بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعبيد الله بن عبد الله ابن عتبة ، ولِذا قيل فيهم :
إذا قيل مَن في العلم سبعة أبحرٍ روايتهم ليست عن العلم خارجة
فقل هم عبيد الله عروة قاسمٌ سعيد أبو بكر سليمان خارجة
وكان منهم محمد بن شهاب الزُّهري ومالك بن أنس .
وفي مكة : كان عطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان ومجاهد ابن جبير وسفيان بن عيينة ومسلم بن خالد الزنجي ومحمد بن إدريس الشافعي .
وفي البصرة : كان الحسن البصري وابن سيرين ومسلم بن يسار وحمّاد بن سلمة والضحاك بن مخلد .
وفي الكوفة : كان علقمة بن قيس النخعي وشريح القاضي وإبراهيم النخعي وعامر الشَّعبي وسعيد بن جبير وحماد بن أبي سليمان وسفيان الثوري وأبو حنيفة ووكيع بن الجراح وأبو يوسف ومحمد بن الحسن .
وفي الشام : كان أبو إدريس الخولاني ومكحول وعمر بن عبد العزيز
ورجاء بن حيوة والأوزاعي .
وفي مصر : كان أشهب وابن القاسم والمزني والبويطي والليث .
وفي المغرب والأندلس : كان سمنون ويحيى بن يحيى .
وفي اليمن : كان مطرف بن مازن .
وفي بغداد : كان أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو ثور وأحمد بن حنبل وابن جرير (1) .(1/24)
وقد تَرتَّب على وجود هذه الكوكبة مِن الفقهاء وجود تلاميذ قاموا بعلم شيوخهم حتى ظهرَت المذاهب الفقهية التي كانت في أول أمْرِها كثيرةً أَوصَلَها البعض إلى خمسمائة ، ولكنّ معظَمَها قد انقرَض ، ومنها مذهب سفيان الثوري وأبي ثور وإسحاق بن راهويه ..
وأصبحَت المذاهب في القرن الرابع هم : الحنفية والشافعية والمالكية والحنالبة والثورية والراهوية والأوزاعية والمنذرية ، ولكن لم يصمد على البقاء منها سوى المذاهب الخمسة المشهورة عند أهل السُّنَّة والجماعة ، وهي : الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والظاهرية (2) .
أمّا الشيعة فقد كان لهم فقهاؤهم ومذاهبهم التي انفرَدوا بها .
أول مَن صنَّف في علم الأصول :
لقد اعتَبَر كثير من الأصوليين الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ أول مَن دوَّن قواعد في أصول الفقه ، في كتابه " الرسالة " ، وسُمِّيَت بذلك لأن عبد الرحمن بن مهدي المتوفى سنة 198 هـ ـ أحد أئمة الحديث في الحجاز ـ أَرسَلَ إلى الإمام الشافعي أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن ،
(1) انظر أعلام الموقعين 1/19 - 23
(2) انظر نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي لِلدكتور علي حسن عبد القادر /293
ويجمع فيه قبول الأخبار وحُجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ مِن القرآن والسُّنَّة ، فوضع له كتاباً ، وسموه بـ" الرسالة " (1) .
(1) انظر : تاريخ الفقه الإسلامي /81 - 85 ونظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي /266 ، 267 وأصول الفقه وتاريخه ورجاله /26
المبحث السابع
طُرُق التصنيف عند الأصوليين
لقد كانت " الرسالة " لِلإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ أول ما صُنِّف في هذا الفن ، فكانت مقدمةً تتلوها مصنَّفات أصولية عديدة ومناهج متنوعة ، حصَرها كثير مِن الأصوليين في طرق ثلاث : طريقة المتكلمين ، وطريقة الفقهاء ، وطريقة المتأخرين ..(1/25)
ولكني أرى أنّ طُرُق التصنيف عند الأصوليين خمس طرق ، فأضيف طريقتين إلى الطرق الثلاث السابقة ، وهما : طريقة تخريج الفروع على الأصول ، وطريقة الجمع بين القواعد الأصولية ومقاصد الشريعة والفروع الفقهية .
ونوجز القول في الطرق الخمس فيما يلي :
الطريقة الأولى : طريقة المتكلمين ..
سُمِّيَت بذلك لأن أول المشتغلين بها كانوا مِن علماء الكلام ، وتسمَّى " طريقة غير الحنفية أو الجمهور " ..
وتمتاز هذه الطريقة بما يلي :
1- تحرير المسائل وتحقيق القواعد الأصولية دون النظر إلى انطباقها على الفروع الفقهية .
2- كثرة الاستدلال العقلي .
3- عدم الاشتغال بتطبيق الفروع الفقهية على القواعد الأصولية (1) .
(1) انظر : أصول الفقه للخضري /8 وعلم أصول الفقه لخلاّف /22 وأصول الفقه لأبي =
ومِن أشهر الكتب التي صنِّفت على هذه الطريقة :
1- العُمَد لِلقاضي عبد الجبار المعتزلي المتوفى سنة 415 هـ .
2- المعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي المتوفى سنة 436 هـ .
3- البرهان لإمام الحرمين الجويني المتوفى سنة 487 هـ .
4- المستصفى لِحجة الإسلام الغزالي المتوفى سنة 505 هـ .
وقد جُمعت هذه الكتب الأربعة وآلت إلى كتابين ، هما :
5- المحصول لِفخر الدين الرازي المتوفى سنة 606 هـ .
6- الإحكام في أصول الأحكام لِسيف الدين الآمدي المتوفى سنة 631هـ .
أمّا الأول فقد لُخِّص واختُصر في ثلاث كتب ، هي :
7- الحاصل لِتاج الدين الأرموي المتوفى سنة 656 هـ .
8- التحصيل لِسراج الدين الأرموي المتوفى سنة 582 هـ .
9- تنقيح الفصول لِشهاب الدين القرافي المتوفى سنة 684 هـ .
وقد لُخِّص " الحاصل " في كتاب :
10- منهاج الوصول إلى علم الأصول لِلقاضي ناصر الدين البيضاوي المتوفى سنة 685 هـ .
وقد شرَح " المنهاج " كثيرون ، مِن أشهر هذه الكتب :
11- الإبهاج لِلسبكي المتوفى سنة 756 هـ وابنه تاج الدين المتوفى سنة 771 هـ .(1/26)
12- حقائق الأصول لِنور الدين الأردبيلي المتوفى سنة 749 هـ .
13- نهاية السول لِجمال الدين الإسنوي المتوفى سنة 772 هـ .
وأمّا " الإحكام في أصول الأحكام " لِلآمدي فقد اختُصِر في كتاب :
= زهرة /16 ، 17 وغاية الوصول /89 والفتح المبين 1/8 وعلم أصول الفقه لأبي النجا /15
14- مختصر المنتهى لابن الحاجب المتوفى سنة 646 هـ .
وهذا المختصر له شروح وحواشي ، منها :
15- شرح عضد الملة والدين المتوفى سنة 576 هـ .
16- حاشية سعد الدين التفتازاني المتوفى سنة 791 هـ .
17- حاشية السيد الجرجاني المتوفى سنة 816 هـ .
ومِن أشهر الكتب أيضاً :
18- العدة لِلقاضي أبي يعلى المتوفى سنة 458 هـ .
19- اللمع وشرحه لأبي إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ .
20ـ قواطع الأدلة لأبي المظفر السمعاني المتوفى سنة 489 هـ .
21- روضة الناظر لابن قدامة المتوفى سنة 620 هـ .
الطريقة الثانية : طريقة الفقهاء ..
وسُمِّيَت بذلك لأن الأصوليين غلب عليهم فيها جانب الفقه ، فأَكثَروا مِن الفروع الفقهية ، وتسمى هذه الطريقة أيضا بـ" طريقة الحنفية " ؛ لأن الحنفية هم الذين انتهجوها وساروا عليها .
وتمتاز هذه الطريقة بما يلي :
1- قلة الاستدلال العقلي .
2- تقرير القواعد الأصولية التي نُقِلَت عن أئمتهم والمعتمدة على الفروع الفقهية .
3- الاهتمام بتفريع المسائل الفقهية وتطبيقها على القواعد الأصولية (1) .
ومِن أشهر الكتب التي صُنِّفَت على هذه الطريقة :
1- أصول الفقه لأبي بكر أحمد بن على الجصاص المتوفى سنة 370 هـ .
(1) انظر : علم أصول الفقه لِخلاّف /22 وأصول الفقه لأبي زهرة /18 ، 19 والفتح المبين 1/9 =
2- تأسيس النظر لأبي زيد عبيد الله بن عمر الدبوسي المتوفى سنة 430 هـ .
3- أصول البزدوي لِفخر الإسلام علي بن محمد البزدوي المتوفى سنة 482 هـ .
4- أصول السرخسي لِشمس الأئمة أبي بكر محمد بن أحمد السرخسي المتوفى سنة 490 هـ .(1/27)
5- ميزان الأصول لِعلاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي المتوفى سنة 539 هـ .
6- المنار لِحافظ الدين عبد الله بن أحمد النسفي المتوفى سنة 790 هـ .
7- كشف الأسرار عن أصول البزدوي لِعلاء الدين عبد العزيز البخاري المتوفى سنة 730 هـ .
الطريقة الثالثة : طريقة المتأخرين ..
وهي الطريقة التي جَمَعَت بين طريقة المتكلمين وطريقة الفقهاء ، فقررَت القواعد الأصولية وأقامت الدليل عليها مع تطبيقها على الفروع الفقهية مِن خلال ربطها بها (1) .
ومِن أشهر المصنَّفات في هذه الطريقة :
1- بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والإحكام لابن الساعاتي المتوفى سنة 694 هـ .
2- التوضيح شرح التنقيح لصدر الشريعة المتوفى سنة 747 هـ .
3- جمْع الجوامع لتاج الدين السبكي المتوفى سنة 771 هـ .
= وعلم أصول الفقه لأبي النجا /15 وغاية الوصول /95 ، 96
(1) انظر : علم أصول الفقه لِخلاف /23 وأصول الفقه لأبي زهرة /19 وغاية الوصول /102
4- التحرير لِكمال الدين بن الهمام المتوفى سنة 861 هـ .
5- مُسلَّم الثبوت لِمحب الدين بن عبد الشكور المتوفى سنة 1119 هـ .
6- إرشاد الفحول لِلشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ (1) .
الطريقة الرابعة : طريقة تخريج الفروع على الأصول ..
وهي الطريقة التي قامت على بيان أثر القواعد الأصولية وما تَفرَّع عليها مِن فروع فقهية .
ومِن أشهر المصنَّفات في هذا المضمار :
1- تخريج الفروع على الأصول لِشهاب الدين الزنجاني المتوفى سنة 656 هـ .
2- مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول لِلشريف التلمساني المتوفى سنة 771 هـ .
3- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول لِجمال الدين الإسنوي المتوفى سنة 772 هـ .
4- القواعد والفوائد الأصولية لِلعلاء البعلي ( ابن اللحام ) المتوفى سنة 803 هـ .
الطريقة الخامسة : طريقة الجمع بين القواعد الأصولية ومقاصد الشريعة والفروع الفقهية ..(1/28)
وهذه الطريقة انفرَد بها الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي المتوفى سنة 790 هـ في كتابه " الموافقات " ..
(1) انظر : عِلم أصول الفقه لأبي النجا /16 وأصول الفقه للخضري /8 - 11 وغاية الوصول /103 ، 104
وأرى أن إدخال " الفروق " لِلقرافي في هذه الطريقة محل نظر (1) ؛ لأن محتوى الأخير مِن المقاصد لم يأتِ صريحاً إلا في " الفَرْق بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل " (2) ، فلا يقارَن بالمستوى الذي تَبَحَّرَ فيه الشاطبي في المقاصد .
وهذه الطريقة أميل إليها ؛ لأنها تعطي أفقاً أَوْسَعَ ومدارك أصولية أَشمل .
وقد سار على هذه الطريقة بعض الأصوليين المتأخرين ، مع عدم الإكثار مِن المناقشة والاعتراضات ..
ومِن هؤلاء :
1- الشيخ عبد الوهاب خلاف في " علم أصول الفقه " .
2- الشيخ محمد أبو زهرة في " أصول الفقه " .
3- الشيخ زكي الدين شعبان في " أصول الفقه الإسلامي " .
وسأحاول بإذن الله تعالى أن أسير قدْر استطاعتي على هذه الطريقة في هذا المؤلَّف ، مع بحْث بعض الفروع الفقهية بحثاً مستفيضاً ، أَذكر مِن خلاله عمْق العلاقة بين الفقه والأصول وأَثَر القواعد الأصولية في الأحكام الشرعية .
(1) وهو ما ذهب إليه الشيخ محمد حسنين مخلوف رحمه الله ، وتبعه في ذلك أستاذنا د./ جلال عبد الرحمن .. انظر : بلوغ السول /198 وغاية الوصول /105
(2) انظر الفروق 2/32
المبحث الثامن
الفَرْق بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية
وبين الأصولي والفقيه
والقاعدة عرّفها سعد الدين التفتازاني بأنها : حكْم كلي ينطبق على جزئياته ؛ ليتعرف أحكامها منه (1) .
ولقد حصر الجلال السيوطي القواعد الفقهية الكلية الكبرى في خمسة وهي :
1- الأمور بمقاصدها .
2- اليقين لا يُزال بالشك .
3- المشقة تجلب التيسير .
4- الضرر يُزال .
5- العادة مُحَكَّمَة (2) .
والفَرْق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية في أمور ، منها :(1/29)
1- القاعدة الأصولية أصْل في إثبات حكم جزئيتها ..
فقاعدة ( الأمر لِلوجوب ) ـ مَثَلاً ـ تشمل جميع الأوامر الشرعية التي وَرَدَت في الكتاب والسُّنَّة ، ولِذا فإن هذه النصوص تُعَدّ جزئياتٍ لِهذه القاعدة الأصولية .
أمّا القاعدة الفقهية فليست كذلك ؛ لأن حكْمها مستمد مِن حكْم
(1) شرح التلويح 1/20 والتعريفات /185
(2) انظر الأشباه والنظائر /4
جزئياتها ، ولِذا كانت متأخرة الوجود عن الجزئيات التي هي فروعها ؛ لأنها مَبْنِيّة على الجمع بين المسائل المتشابهة مِن الأحكام الفقهية (1) .
2- القاعدة الأصولية كلية تنطبق على جميع جزئياتها ..
أمّا القاعدة الفقهية فإنها كلية لا تنطبق على جميع جزئياتها ، وإنما على أغلبها ، ولِذا يدخلها الاستثناء (2) .
والفقيه : هو المجتهد الذي يُنتِج الفروع الفقهية عن أدلة صحيحة (3) .
أو هو : مَن بَذَل وسْعَه في نيل حكْم شرعي عملي بطريق الاستنباط (4) .
وقيل : مَن عرف جملةً غالبةً مِن الأحكام الشرعية الفرعية (5) .
والأصولي : هو العالِم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية .
وعلى ذلك يكون الأصولي غير الفقيه ، ولا يلزم مِن كونه أصوليّاً أن يكون فقيهاً ، ويلزم مِن كونه فقيهاً أن يكون أصوليّاً ؛ لِتَوقُّف معرفة الأحكام منها ـ أي الأدلة ـ على معرفة أصولها ..
وإذا تَقرَّر ذلك كان كل فقيه أصوليّاً ، وليس كل أصولي فقيهاً (6) .
العلاقة بين الأصول والفقه :
قال الزركشي في ذلك :" واعلم أن معرفة أصول الفقه تتوقف على
(1) انظر أصول الفقه لأبي زهرة /8
(2) انظر القواعد الفقهية /58 - 60
(3) البحر المحيط 1/23 وانظر غاية الوصول /554
(4) انظر البحر المحيط 6/197
(5) انظر شرح الكوكب المنير 1/42
(6) انظر : شرح الكوكب المنير 1/46 والضياء اللامع وجمع الجوامع 1/133 وبلوغ السول /172 173(1/30)
معرفة الفقه ؛ إذ يستحيل العلم بكونها أصول الفقه ما لم يتصور الفقه ؛ لأن المضاف إلى معرفة إضافةً حقيقيةً لا بد وأن يتعرف بها ، ولا يمكن التعريف إلا على تقدير سبْق معرفة المضاف إليه ، ولأن العلم بالمركَّب يتوقف على العلم بمفرداته ضرورةً " ا.هـ (1) .
(1) البحر المحيط 1/30
الفصل الثاني
الحاكم والحكم الشرعي
ويحتوي هذا الفصل على المباحث التالية :
المبحث الأول : الحاكم .
المبحث الثاني : تعريف الحكم الشرعي وأقسامه .
المبحث الثالث : الواجب وتقسيماته .
المبحث الرابع : أحكام الواجب .
المبحث الأول
الحاكم
لَمّا كان الحكم الشرعي لا بد فيه مِن حاكم ومحكوم به ومحكوم عليه وجب أن نبدأ بأعلاها وأشرفها ، وهو المُشَرِّع ومصدر الحكم ، ألا وهو الحاكم ..
والحاكم هو الله تعالى ، ورسله يبلِّغون أحكامه إلى خَلْقه ، والمجتهد وظيفته استنباط الحكم وإظهاره ، وليس إثباته ولا إنشاءه ..
ولكن هل يدرك العقل بذاته أحكام الشرع دون نبي مرسَل عن رب العزة جل وعلا ، وهو المسمى بالتحسين والتقبيح ؟
والتحسين الشرعي : هو الخطاب الذي لم يطلب الترك : بأن طلب فعلاً ، أو خيّر بين فِعل وترْك ، وإن تَعلَّق بفعل المكلَّف كان حسناً .
والتقبيح الشرعي : هو الخطاب الطالب للترك ، فإن تَعلَّق بفعل المكلَّف كان قبيحاً (1) .
تحرير محل النزاع في التحسين والتقبيح :
أَطلقَ العلماء الحسن والقبح على ثلاثة معان :
الأول : ما لاءم الطبع ونافره ، نحو : إنقاذ الغريق ، واتهام البريء .
الثاني : صفة الكمال والنقص ، نحو : العلم حسن ، والجهل قبيح .
الثالث : المدح والذم الشرعيان عاجلاً ، والثواب والعِقاب آجلاً .
ولا نزاع في أنهما بالإطلاقيْن الأوليْن عقليان ..
(1) أصول الفقه للشيخ زهير 1/60
أمّا الإطلاق الثالث فهو محل النزاع ، بمعنى هل يستقل العقل بمعرفة الحكم الشرعي دون ورود الشرع ؟
ثلاثة مذاهب في ذلك (1) :(1/31)
المذهب الأول : الحسن والقبح شرعيان ..
وهو مذهب الأشاعرة وأكثر الأئمة : كمالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وأهل السُّنَّة والفقهاء (2) وبعض الحنفية (3) .
وهؤلاء قالوا : الحسن ما أَمَر به الشارع ، والقبيح ما نهى عنه ، فلا تكليف ولا ثواب ولا عِقاب إلا بمقتضى الشرع .
وليس معنى ذلك أنهم يعطِّلون العقل ويلغون عمله كما قد يفهم البعض وإنما حدَّدوا وظيفته : بأنه وسيلة لاستنباط الأحكام ، وبه تُفهَم قواعد الشرع (4) .
واحتجوا بأدلة ، أَكتفِي منها بهذيْن الدليليْن :
الدليل الأول : قوله تعالى { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } (5) ..
وجه الدلالة : أن الله تعالى نَفَى العِقاب عن العبد إذا لم يرسِل إليه رسولاً يُبَلِّغ شرْعَه تعالى إليه ، ولو كان العقل مستقِلاًّ بمعرفة حسْن الأفعال وقُبْحَها لَمَا صَحّ نَفْي العذاب عنه ، ولكان التناقض بين دليل العقل والسمع ، وهو مُحال ؛ لِلإجماع على أن الشرع لم يَرِد بما ينافِي العقل ،
(1) انظر : البحر المحيط 1/143 وشرح مختصر الروضة 1/403 ، 404 وشرح المنار لابن ملك /47 ، 48 وغاية الوصول /7 وإرشاد الفحول /7
(2) انظر : البحر المحيط 1/136 وشرح الكوكب المنير 1/301 وحاشية نسمات الأسحار /45 (3) تيسير التحرير 1/151
(4) انظر البحر المحيط 1/138
(5) سورة الإسراء مِن الآية 15
فدل ذلك على أنه لا تحسين ولا تقبيح لِلعقل ، وإنما هو لِلشرع (1) .
الدليل الثاني : قوله تعالى { وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةُ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا } (2) ..(1/32)
وجه الدلالة : أن الله تعالى بَيَّن لِبني إسرائيل أنه أَرسَل إليهم موسى - عليه السلام - حتى يقيم عليهم الحُجَّة ويَقطَع عذْرَهم إذا جاءهم عذاب مِن الله تعالى بكفرهم فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير ، ولو كان العقل مستقلاًّ بتحسين الأفعال وقبْحِها لَمَا كان لهم أن يحتجوا بعدم إرسال الرسل فدل ذلك على أنه لا حسن إلا ما حسَّنه الشارع ، والقبيح كذلك (3) .
المذهب الثاني : الحسن والقبح عقليان ..
وهو مذهب المعتزلة والكرامية والبراهمة والخوارج وغيرهم (4) .
وهم يرون : أن العقل يمكنه إظهار الأحكام والاستقلال بإدراكها قبْل ورود الشرع ، فالأفعال عندهم حسنها وقبيحها لِذاتها .
وقسموها ثلاثة أقسام :
* قسم يهتدي العقل إلى حسنه وقبحه بالضرورة ..
نحو : حسن إنقاذ الغريق ، وقبح الكذب المضر .
* وقسم يدرك العقل حسنه وقبحه بالنظر والاستدلال ..
نحو : حسن الصدق المضر ، وقبح الكذب النافع .
* وقسم يدركه العقل بالسمع ، فلا يدرَك إلا بالشرع ..
نحو : حسن صوم آخِر يوم مِن رمضان ، وقبْح صوم أول شوال .
(1) انظر : شرح مختصر الروضة 1/406 ، 407 والبحر المحيط 1/139
(2) سورة القصص مِن الآية 47
(3) انظر : البحر المحيط 1/146 وتفسير القرآن العظيم 2/405
(4) الإحكام لِلآمدي 1/77 وانظر : المسوّدة /484 وشرح الكوكب المنير 1/302
فالشرع كاشِف عن حسن وقبح ذاتيين ، لا موجب لهما (1) .
وليس معنى إدراك العقل لِحسْن الفعل وقبْحه عند المعتزلة أن العقل هو الموجِب أو المُحَرِّم ، بل معناه : أن العقل أَدْرَكَ أن الله تعالى بحكمته البالغة كلف بترك المفاسد وتحصيل المصالح ، فالعقل أَدرَك الإيجاب والتحريم ، لا أنه أَوجَبَ وحرَّم ..
فالنزاع معهم في : أن العقل أَدركَ ذلك أم لا ؟ (2) ..
والمعتزلة قالوا بالتحسين والتقبيح العقلييْن ؛ لأن الأصلح عندهم واجب على الله تعالى بالعقل ، ففِعلُه حسن ، وترْكُه قبيح .(1/33)
والجمهور على أنه لا يجب على الله تعالى شيء (3) .
وقد اختلف المعتزلة القائلون بأن الحسن والقبح ذاتيان :
فقال القدماء : إن الحسن والقبح يَحصل لِلفعل مِن غير صفة توجيه ، بل بذاته .
وقال قوم : إنه يَحصل بصفة توجيه فيهما ، فمَثَلاً الزنا قبيح لأنه يشتمل على مفسدة اختلاط النسب .
وقال قوم : يَحصل بصفة توجيه قبْحه دون الفعل الحسن .
وقال أبو علي الجبائي : إن الأفعال حسنة وقبيحة بوجوه واعتبارات : كالمواقعة بين شخصيْن بِلا نكاح ولا مِلك ، فإنه إذا تَحقق الاشتباه مِن الجانبيْن يكون حسناً بهذا الاعتبار ، وإذا لم يتحقق كان قبيحاً ، وإذا تَحقق مِن جانب دون آخَر فهو حق في حق مَن اشتبه عليه ، قبيح في حق مَن
(1) انظر : المستصفى 1/56 ومختصر المنتهى 1/198 ، 199 وشرح العضد 1/201 وبيان المختصر 1/290
(2) شرح الكوكب المنير 1/303 وانظر شرح مختصر الروضة 1/405 ، 406
(3) شرح المنار لابن ملك /48
لم يشتبه عليه (1) .
واحتجوا بأدلة ، أكتفي منها بما يلي :
الدليل الأول : أن الحسن والقبح لو لم يكونا معلومَيْن قبل الشرع لاستحال أن يُعلَما عند وروده ، وذلك لأنهما إن لم يكونا معلومَيْن قبله فعند وروده بهما يكون وارداً بما لا يعقله المكلَّف ولا يَتصوره ، وهو تكليف بالمُحال ، فوجب أن يكونا معلومَيْن قبل وروده .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأن الموقوف على الشرع ليس تَصوُّر الحسن والقبيح ؛ فإنّا قبْل الشرع نتصور ماهية ترتُّب العِقاب والثواب والمدح والذم على الفعل ، ونتصور عدم هذا الترتب ، وإذا كان كذلك لم يكن تَصوُّر الحسن والقبح متوقفاً على الشرع كما ذهبتم ، وإنما المتوقف عليه هو التصديق ، فأين أحدهما مِن الآخَر (2) ؟(1/34)
الدليل الثاني : أن الله تعالى وبَّخ الكفار على ترْكِهم الاستدلال بعقولهم على وحدانيته وربوبيته بما يشاهدونه في الكون وفي أنفسهم ، كما خاطَب العقول كثيراً وأمَر بالاعتبار ، ولا يتحقق جميع ذلك إلا بالعقل ..
فدل ذلك على أن الحسن ما حسَّنَه العقل ، والقبيح كذلك .
ودليل ذلك مِن القرآن كثير ، منه : قوله تعالى { لايَتٍ لأُولِى الأَلْبَاب } (3) وقوله تعالى { لأُولِى النُّهَى } (4) وقوله تعالى { إِنَّ فِى ذَلِكَ
(1) انظر : بيان المختصَر 1/209 ، 291 وشرح العضد مع حاشية التفتازاني 1/202
(2) إرشاد الفحول /27 بتصرف .
(3) سورة آل عمران مِن الآية 190
(4) سورة طه مِن الآية 54 ، ومِن الآية 128
لأَيَتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون } (1) وقوله تعالى { وَقاَلُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَبِ السَّعِير } (2) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا سلَّمْنا لكم تَحقُّق ما تَقدَّم بالعقل ليس لأنه مَصدر لِلحسن والقبح ؛ فمصدر ذلك هو الشرع عندنا ، وإنما أَمَرَهم باستعمال عقولهم بالاعتبار والتوصل إلى وحدانيته جل وعلا ؛ لأن الله تعالى لم يَخلق شيئاً إلا فيه آية على وحدانيته ، ولم يترك خَلْقَه سدىً مع إكمال عقولهم ، ولو لم يجب عليهم الاستدلال بعقولهم بالنظر في هذه الأشياء لَخَرَج الأمر في ذلك عن وجه الحكمة ولَبَطلَت فائدة عقولهم وصاروا بمنزلة البهائم التي لا تكليف عليها ..
ولِذا فالعقول هنا ليست لِتَحكم على الأشياء والتصرفات فتُحسِّن وتُقبِّح ، وإنما هي آلة لِفهم الأحكام الشرعية ، وقد تدرك حسْن الأفعال وقبْحها قبل ذلك ، فيأتي الشرع مؤكِّداً لِمَا أَدركَتْه (3) .(1/35)
الدليل الثالث : أن حسْن الصدق النافع والإيمان وقبْح الكذب الضار والكفران معلوم بالضرورة لِكل عاقل بغير حاجة إلى شرْع أو عُرْف أو برهان ، فلو لم يكن حسْن هذه الأمور وقبْحها ذاتييْن لَمَا كان كذلك ، وإذا كان الحسن والقبح ذاتييْن في بعض الأفعال كان كذلك في الجميع ؛ إذ لا فارق بينهما ..
فدل ذلك على أن الحسن والقبح عقليان .
(1) سورة الرعد مِن الآية 4 ، سورة النحل مِن الآية 12 ، سورة الروم مِن الآية 24
(2) سورة الملك الآية 10
(3) انظر قواطع الأدلة 2/46
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نسلِّم لكم أنّ حسْن وقبْح ما ذكرتموه معلوم بالضرورة ، وإنما عُرِف ذلك مِن خلال عُرْف أو شرْع أو برهان ، ولو لم نقِف على حكْمِها مِن خلال هذه المصادر وعَرَضْنا هذه الأمور على أنفسنا لَمَا حصل لنا جزْم بحسْن هذه الأمور ولا قبْحها (1) .
المذهب الثالث : أن الحاكم هو الله جل وعلا ، والعقل قد يدرك حسْن الأفعال وقبْحها قبْل ورود الشرع ..
وإليه ذهب الماتريدية وأكثر الحنفية (2) وبعض الشافعية (3) والحنابلة (4) واختاره الزركشي (5) والشوكاني (6) .
واحتجوا : بأنه لَمّا كان لِلعقل حظ في معرفة حسْن الإيمان وقبْح الكفر وحسْن العدل والإحسان ومعرفة حسْن أصل العبادات دون هيئتها وشروطها وأوقاتها ومقاديرها التي يأتي بها الشرع ، فيكون الأمر بها بعْد ذلك دليلاً ومُعرِّفاً لِمَا ثَبَت حسْنه بالعقل وموجِباً لِمَا لم يعرف به .
تعقيب وترجيح :
بعد الوقوف على مذاهب الأصوليين في التحسين والتقبيح يمكن التوصل إلى ما يلي :
1- أن أدلة المذهب الثاني القائل بأن الحسن والقبح عقليان ـ وهم المعتزلة ـ
(1) بيان المختصر 1/306 بتصرف وانظر شرح العضد مع حاشية السعد 1/212
(2) انظر : التوضيح مع التلويح 1/327 ، 328 وكشف الأسرار لِلبخاري 1/389 ، 390 وتيسير التحرير 1/151 وميزان الأصول /177 ، 178
(3) انظر ميزان الأصول /177(1/36)
(4) انظر شرح الكوكب المنير 1/302
(5) انظر البحر المحيط 1/146
(6) انظر إرشاد الفحول /9
لم تَسْلَم مِن المناقشة والاعتراض ، الأمرَ الذي يُبعِده عن الترجيح والقبول .
2- أن الخلاف بين المذهبيْن الأول والثالث ـ أي بين الأشاعرة والحنفية ـ يرجع إلى أن الحسن مِن موجبات الأمر أم مِن مدلولاته ؟
فالحنفية قالوا : إنه مِن مدلولات الأمر .
والأشاعرة قالوا : إنه مِن موجِباته (1) .
3- أن المذهب الثالث ـ الحنفية ـ وافَقوا المعتزلة في أن العقول تدرك حسْن الأفعال وقبْحها بناءً على ما تدركه مِن نفْعها أو ضررها ..
وخالَفوهم في أن حكْم الله تعالى لا بد وأن يكون على وفق حكْم العقل فما حسَّنَه العقل مطلوب فِعلُه شرعاً ، وما قبَّحه مطلوب ترْكه شرعاً .
4- أن الحنفية وافَقوا الأشاعرة في أن حكْم الله تعالى لا يُعرَف إلا مِن جهة الشرع بواسطة رُسُلِه وكُتُبِه ..
وخالَفوهم في أن الحسن والقبح لِلأفعال شرعيان لا عقليان ، وفي أن الفعل لا يكون حسناً إلا بطلب الشارع لِفعله ، ولا يكون قبيحاً إلا بطلب الشارع لِترْكه (2) .
5- أن المذهب الأول قد سلمَت أدلته النقلية مِن المناقشة والاعتراض ، مما يؤهله لِلترجيح والاختيار ..
لكن الأَوْلى بالقبول عندي عدم إغفال جانب العقول المحيط بسياج الشرع ، فالحاكم هو الله تعالى ، والعقل آلة فهْم الأحكام ، ولكنه قد يدرِك حسْن الأفعال وقبْحها ، وهو ما عليه المذهب الثالث ..
وما أحسن قول الشوكاني في هذا المقام :" وإنكار مجرد إدراك العقل
(1) انظر كشف الأسرار لِلبخاري 1/389
(2) انظر عِلم أصول الفقه لِخلاّف /105(1/37)
لِكون الفعل حسناً أو قبيحاً مكابرة ومباهتة ، وأمّا إدراكه لِكون ذلك الفعل الحسن متعلقاً لِلثواب وكون ذلك الفعل القبيح متعلقاً لِلعِقاب فغير مُسلَّم ، وغاية ما تدركه العقول : أن هذا الفعل الحسن يُمدَح فاعله ، وهذا الفعل القبيح يُذم فاعله ، ولا تَلازُم بين هذا وبين كونه متعلقاً لِلثواب والعِقاب " ا.هـ (1) .
أثر قاعدة التحسين والتقبيح في الأحكام :
لقد فرَّع العلماء فروعاً على هذه القاعدة ، أكتفي منها بهذيْن الفرعيْن :
الفرع الأول : شكْر المنعِم ومعرفته .
الفرع الثاني : حكْم الأشياء قبل ورود الشرع .
وسنفصِّل الحديث في كل واحد منهما فيما يلي ..
(1) إرشاد الفحول /9
الفرع الأول
شكْر المنعِم ومعرفته تعالى
بدأ ابن السبكي في هذا الفرع بدايةً أرى مِن الفائدة ذِكْرها والوقوف عليها ، فقال :" هذان فرعان على قاعدة الحسن والقبح ، جرت عوائد الأصحاب بذِكْرهما بعد إبطال مذهب المعتزلة فيهما ؛ لِشدة سخافة مذهب المعتزلة بالنسبة إليهما ، ولِهذا يقال : إنهما على التنزل أي الافتراض والتكليف في النزول عن المذهب الحق الذي هو في الذروة إلى مذهبهم الباطل الذي هو في الحضيض " ا.هـ (1) .
والمنعِم هو الله سبحانه وتعالى .
ومذهب أهل السنة : أن شكْر المنعِم ومعرفته واجبان بالشرع دون العقل .
وذهب المعتزلة ومَن تَبِعَهم إلى : أنهما واجبان بالعقل .
والمراد بشكْر المنعِم شرعاً : هو اعتقاد المكلَّف أن ما به مِن نعمة فمِن الله ، وأنه المتفضِّل بذلك عليه .
وشكره : هو الثناء عليه بذكر آلائه وإحسانه ، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه .
والمراد بشكْر المنعِم عقلاً : أنه يجب على المكلَّف تجنب المستقبحات العقلية وفِعْل المستحسنات العقلية .
أدلة أهل السُّنَّة :
استدل أهل السُّنَّة على أنّ شكْر المنعِم واجب شرعاً بأدلة ، أكتفِي منها
(1) الإبهاج 1/139
بدليليْن :(1/38)
الدليل الأول : قوله تعالى { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } (1) ..
وجه الدلالة : أن الله تعالى نَفَى التعذيب عن كل إنسان لم تَبْلُغه الرسالة ، ولِذا فلا تكليف قبْلها ، ولو أوجبْنا شكْر المنعِم قبل الشرع لَحَصَل التعذيب بترْكِه ولم يتوقف على بعثة الرسل ..
فدل ذلك على أنّ شكْر المنعِم واجب شرعاً (2) .
مناقشة هذا الدليل :
ناقَش المعتزلة هذا الدليل مِن وجوه ، منها :
الوجه الأول : أن الآية ليس فيها دليل على نفْي العذاب في الآخرة ، وإنما نفت العذاب في الدنيا ، وترْك الواجب إنما يعاقَب عليه في الآخرة ، فلا تَصلُح الآية حُجةً لكم .
الجواب عن هذا الوجه :
وقد رُدّ هذا الوجه : بأنّا سلَّمْنا جدلاً أنها نفت عذاب الدنيا ، وهو لا شك أدنى مِن عذاب الآخرة ، ويَلزَم مِن نفْي الأدنى نفْي الأعلى وهو عذاب الآخرة .
الوجه الثاني : أن المراد بالرسول في الآية هو العقل ، ولِذا لا يُعذَّب المجنون ؛ لأن رسوله ـ وهو عقْلُه ـ ليس معه ، أمّا صاحب العقل فإنه يُعذَّب .
الجواب عن هذا الوجه :
وقد رُدّ هذا الوجه : بأن الأصل في الكلام الحقيقة ، والأصل في
(1) سورة الإسراء مِن الآية 15
(2) انظر : الكاشف عن المحصول 1/357 والإبهاج 1/140 ونهاية السول 1/160 ومناهج العقول 1/157
الرسول هو مَن أَرسَلَه الله تعالى بشرع إلى العباد وأُمِر بتبليغه ، ولم يقل أحد أن الرسول هو العقل .
الوجه الثالث : أنّ عدم العذاب لا يدل على عدم الوجوب ؛ لِجواز العفو عن المذْنِب التارك لِلفعل الواجب .
الجواب عن هذا الوجه :
وقد رُدّ هذا الوجه : بأن التعذيب لازم مِن لوازم الوجوب ؛ لأنهم أوجَبوا الثواب بفعل الواجبات والعِقاب بارتكاب المنهيات (1) .
الدليل الثاني : أنّ شكْر المنعِم لو وجب عقلاً لكان وجوبه إما لِفائدة أو لِغير فائدة :
فإن كان لِفائدة :(1/39)
فإما أن تَعود إلى المشكور وهو الله سبحانه وتعالى ، وهو مُحال ؛ لِتعاليه وتَنزُّهه سبحانه عن الفوائد والأغراض .
وإما أن تَعود إلى العبد الشاكر في الدنيا ، وهو باطل ؛ لأنه مشقة وكلفة وحرمان مِن الشهوات واللذات ، أو في الآخرة ، وهو باطل أيضاً ؛ لأن العقل لا يتمكن مِن معرفة ثواب الشكر في الآخرة دون إخبار مِن الشارع ، وهو غير متحقق ؛ لأن كلامنا قبل ورود الشرع .
وإن كان وجوب شكْر المنعِم لِغير فائدة لزم منه العبث ، وهو مُحال ، ولكان قبيحاً عقلاً .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نسلِّم أن في وجوب الشكر عقلاً عدم فائدة تَعود على العبد في الدنيا ، بل له فائدة ، وهي الأمن مِن احتمال
(1) انظر : نهاية السول 1/160 ، 161 ومناهج العقول 1/158
العِقاب في ترْك الشكْر الموجِب لِخوف النفس ، وهو احتمال لازم أن يَخطر على قلب العاقل ، والأمن مِن عظيم الفوائد .
الجواب عن هذه المناقشة :
وقد رُدَّت هذه المناقشة : بأنّا لا نسلِّم بأن هذا الاحتمال لازم الخطور بالبال حتى يَكون الأمن منه فائدةً ، وإن سلَّمْنا جدلاً بلزوم الخطور بالبال فهو مُعارَض باحتمال خطور العِقاب على الشكر بوجوه :
الأول : أن الإقدام على الشكر استعمال لِلأعضاء والقُوَى ، وهي مِلْك لله تعالى ، والتصرف في مِلْك الغير بغير إذن يستدعِي العِقاب عليه .
الثاني : أن القيام بالشكر على نِعَم الله تعالى كالاستهزاء بالمنعِم ، كمَن شَكَر مَلِكاً عظيماً على لقمة أَنعَمَ عليه بها أمام محفل كبير ، فربما يستحق الشاكر حينئذٍ العِقاب بسبب شكْرِه .
الثالث : أن الشكر ينبغي أن يكون على وجه يليق بالمشكور جل وعلا ، وربما لا يهتدي العقل إلى ذلك الوجه ، فيقع شكْرُه حينئذٍ على الوجه غير المطلوب ، فيُعاقَب بدلاً مِن أن يثاب (1) .
أدلة المعتزلة :
واستدل المعتزلة على أنّ شكْر المنعِم واجب عقلاً بأدلة ، أكتفِي منها بدليليْن :(1/40)
الدليل الأول : أنّ شكْر المنعِم لو وجب شرعاً لكان وجوبه إما لِفائدة أو لِغير فائدة :
فإن كان لِفائدة : فإمّا أن تَعود إلى المشكور ، وإمّا أن تَعود إلى الشاكر
(1) انظر : شرح العضد مع مختصر المنتهى 1/216 – 218 وبيان المختصر 1/314 – 316 والمستصفى 1/61 ، 62 وحقائق الأصول 1/268 - 273
وكلاهما لا يجوز ..
فدل ذلك على أنّ شكْر المنعِم غيْر واجب شرعاً .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أنّا لا نسلِّم لكم عدم الفائدة مِن وجوب شكْر المنعِم شرعاً ، وإنما له فوائد في الدنيا ـ وهي إظهار نعمة الله تعالى على العبد ـ وفي الآخرة ، وتلك الفائدة وإن لم يكن تَرتُّبها على الشكر واجباً على مذهب أهل السُّنَّة لكن الشارع أَخبَر بحصولها .
الوجه الثاني : أن الله تعالى له بحكْم المالكية أن يوجِب ما شاء على مَن شاء مِن غير فائدة ولا منفعة (1) .
الدليل الثاني : أن وجوب شكْر المنعِم تَقضِي به البديهة ومُقَرَّر في بداءة العقول ، وما كان كذلك لم يكن الاستدلال على نقيضه قادحاً فيه ، فيكون وجوب الشكر معلوماً بالضرورة .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا نسلِّم وجوب الشكر بداهةً في حق مَن يَسُرُّه الشكر ويسوءه الكفران ، أمّا في حق مَن ليس كذلك فغير مُسلَّم عندنا .
الجواب عن هذه المناقشة :
وقد رُدّت هذه المناقشة : بأن وجوب شكْر المنعِم معلوم بالضرورة ، وأنت مُكابِر في ذلك الإنكار .
(1) انظر : بيان المختصر 1/315 ونهاية السول 1/162 والمحصول 1/45 وحقائق الأصول /271 - 275
رد هذا الجواب :
وقد رُدّ هذا الجواب : بأني راجعتُ عقلي وذهني دونما تَعصُّب أو ميل فلم أجده قاطعاً بذلك في حق مَن لا يصح عليه النفع والضرر بل ولا ظانّاً (1) .(1/41)
والمذهب الراجح عندي هو أنّ شكْر المنعِم واجب شرعاً ، وهو ما عليه أهل السُّنَّة والجماعة ، والذي سَلمَت أدلتهم مِن المناقشة والاعتراض ؛ جرياً على أن الأصل أنه لا حَسَن إلا ما حسَّنه الشرع ..
أمّا أدلة المذهب الثاني فإنها لم تَسلَم مِن المناقشة والاعتراض ، ولِذا فإنها لا تَقْوَى على معارضة المذهب الأول (2) .
(1) انظر : المحصول 1/45 والكاشف عن المحصول 1/362 ، 363 ومناهج العقول 1/162 ، 163
(2) يراجَع شكْر المنعِم في : الإحكام لِلآمدي 1/83 ، 84 ومنتهى السول 1/20 ، 21 والمحصول 1/40 وشرح الكوكب المنير 1/308 ، 309 والمستصفى 1/63 وتيسير التحرير 1/165 ومُسلَّم الثبوت 1/47 والبحر المحيط 1/149 وشرح العضد 1/216 ونهاية السول 1/160 ، 161 والإبهاج 1/139 وشرح المحلي على جمع الجوامع مع البناني 1/60 ، 61 وغاية الوصول /7
الفرع الثاني
حكْم الأشياء قبل ورود الشرع
تحرير محل النزاع :
اتفق العلماء على أن الأفعال الاضطرارية ـ كالتنفس والأكل والشرب ـ لا يُمنَع الإنسان منها قبْل ورود الشرع ، ولا بد مِن القَطْع بجوازها إلا إذا جوَّزْنا تكليف ما لا يطاق (1) .
واختلفوا في حكْم الأفعال الاختيارية قبْل ورود الشرع على مذاهب :
المذهب الأول : لا حكْم لها .
المذهب الثاني : الإباحة .
المذهب الثالث : الحظر .
المذهب الرابع : الوقف .
ونفصِّل القول في كل واحد منها فيما يلي :
المذهب الأول : لا حكْم لها ..
وهو مذهب الأشاعرة .
واحتجوا بأدلة ، منها :
الدليل الأول : قوله تعالى { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } ..
وجه الدلالة : أن الله تعالى وَعَد الإنسانَ الذي لم يرسل إليه رسولاً بعدم العذاب ، وذلك يستلزم انتفاء الوجوب والحرمة قبل البعثة ؛ وإلا لَتَخَلَّف وعْد الله تعالى ، وهو مُحال ..
فدل ذلك على أنه لا حكْم لِلأشياء قبْل ورود الشرع (2) .
(1) انظر : الإبهاج 1/143
(2) انظر : الإحكام لِلآمدي 1/87(1/42)
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل بما نوقش به في شكْر المنعِم ، والعهد به قريب .
الدليل الثاني : أن الحكْم عندنا لا نأخذه إلا مِن الشرع ، وحيث إن الشرع لم يَرِدْ قبل بعثة رسول فلِذا فإن الأفعال قبل الشرع لا حكْم لها (1) .
المذهب الثاني : الإباحة ..
وهو ما عليه معتزلة البصرة وبعض الشافعية والمالكية والحنفية والحنابلة (2) .
واحتجوا بأدلة ، منها :
الدليل الأول : أن انتفاعنا بهذه الأشياء ليس فيه حظر يَعود علينا وعلى غيرنا ، كما أن الله تعالى خَلَق هذه الأعيان لِحكمة لا محالة ، ولا يمكن أن يَعود نفْعها إلى الله عز وجل ، فيؤول نفْعُها إلينا ، ولا يتحقق ذلك إلا بانتفاعنا بها .
الدليل الثاني : أنّا قد علمْنا أن العقل أباح الانتفاع بما فيه نفْعُنا ولا ضرر على أحد فيه : كالتنفس في الهواء وما جرى مجرى ذلك ، فكذلك لا مانع مِن إباحة كل ما فيه نفْع لنا وليس فيه ضرر على غيرنا وليس فيه وجه مِن وجوه القبح .
مناقشة هذا المذهب وتلك الأدلة :
وقد نوقش هذا المذهب بأدلته بما يلي :
1- أنّا لا نسلِّم لكم أن العقل هو الذي عَلِمْنا عن طريقه إباحة ما تَقدَّم ،
(1) انظر : الإحكام لِلآمدي 1/87 والمحصول 1/47 ومناهج العقول 1/166
(2) انظر : حقائق الأصول 1/277 ونهاية السول 1/166 ومناهج العقول 1/164 ، 165 والمحصول 1/154 ، 155
وإنما عَلِمْنا إباحة ذلك مِن الشرع بعد وروده (1) .
2- أنه مُعارَض بما استدل به القائلون بالحظر ، وهو أن الانتفاع بهذه الأشياء قبْل ورود الشرع يُعَدّ تصرفاً في مِلْك الغير بغير إذنه ، فيحرم (2) .
3- أن الإباحة إن فسرتموها بنفي الحرج عن الفعل والترك فلا نزاع معكم في هذه المعنى ..
وإن قصدتم بها التخيير بين الفعل والترك فهذا التخيير لِلفاعل إما أن يكون مِن نفسه وإما مِن غيره :(1/43)
فإن كان الأولَ فيلزم منه تسمية أفعال الله تعالى مباحةً لِنحقق ذلك في حقه جل وعلا ، وهو ممتنِع بالإجماع .
وإن كان الثاني فالمُخيِّر إما الشرع وإما العقل بالإجماع ، ولا شرْع قبْل ورود الشرع ، فيكون المخيِّر عندكم هو العقل ، وقد تكلمنا عن تحسين العقل فيما سبق (3) .
المذهب الثالث : الحظر ..
وهو ما عليه معتزلة بغداد وبعض الإمامية وبعض الشافعية (4) وبعض الحنابلة (5) ، ومحكي عن بعض المالكية (6) .
واحتجوا : بأن الانتفاع بالأشياء قبْل ورود الشرع يُعَدّ تصرفاً في مِلْك الغير بغير إذنه ، والتصرف في مِلْك الغير بغير إذنه ممنوع ومحظور .
(1) انظر : إحكام الفصول /685 وروضة الناظر /41
(2) انظر بيان المختصر 1/323
(3) الإحكام لِلآمدي 1/88 بتصرف .
(4) انظر البحر المحيط 1/155
(5) انظر روضة الناظر /41
(6) انظر البحر المحيط 1/156
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا نسلِّم لكم أن التصرف في مِلك الغير بغير إذنه ممنوع ومحظور ، لكن مَن الذي مَنَعَه ؟
إن كان الشرع فهو قبْلها لم يَرِد .
وإن كان العقل فهو عندنا ليس أهلاً لأن يُحسِّن ويُقَبِّح ويحَلِّل ويُحَرِّم (1) .
المذهب الرابع : الوقف ..
وهو قول الأشعري وبعض المعتزلة والظاهرية (2) ، واختاره الفخر الرازي وأتباعه (3) والباجي ، وعليه أكثر المالكية (4) .
سبب الوقف :
وسبب الوقف يختلف عند الأشاعرة عنه عند المعتزلة ..
أمّا عند الأشاعرة فله سببان :
الأول : عدم الحكْم ..
وهذا التفسير لا يَكون وقفاً بل قطعاً بعد الحكْم ، ولِذا فإنا نتوقف فيها ؛ لِعدم ورود الشرع .
وهذا الوقف قال فيه الآمدي : إنه حق .
الثاني : عدم العلم بالحكْم ..
وهذا التفسير يدل على أن هناك حكماً ولكنّا لا ندري هل هو الإباحة
(1) انظر : المحصول 1/49 ، 55 ومختصر المنتهى مع بيان المختصر 1/320 ، 321 وروضة الناظر /41
(2) انظر البحر المحيط 1/156(1/44)
(3) انظر : المحصول 1/47 والتحصيل 1/187 والمنهاج مع الإبهاج 1/142
(4) انظر إحكام الفصول /681
أم الوجوب أم الحظر أم غيرها ؟ فلِذا نتوقف عند تَعارُض الأدلة حتى يَظهر دليل مرجِّح .
والوقف بهذا المعنى والتفسير فاسد ؛ لأنه ليس هناك حكْم قبْل الشرع حتى تتعارض الأحكام فنتوقف فيها (1) .
وأمّا سبب الوقف عند المعتزلة :
فهو : عدمُ الدلالة على أحد الأحكام السابقة مِن حظر أو إباحة ، مع تجويز أن يكون العقل دليلاً بالوقف ؛ لِعدم الدليل (2) (3) .
والأَوْلى عندي أن يُفسَّر سبب الوقف بعدم الحكْم ؛ جرياً على الراجح بأنه لا حكْم إلا لِلشرع بعد وروده ، ولكن الأشياء قبْل ورود الشرع أرى أن الأصل فيها الإباحة بمعنى رفْع الحرج ، وليس التخيير بين الفعل والترك ؛ لِلأدلة التي دلت على ذلك مِن الكتاب والسُّنَّة ، أَذكر منها :
مِن الكتاب :
قوله تعالى { هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ جَمِيعا } (4) .
وقوله تعالى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَتِ مِنَ الرّزْق } (5) .
(1) انظر : بيان المختصر 1/323 ، 324 والإحكام لِلآمدي 1/89 والمحصول 1/47
(2) انظر البحر المحيط 1/156
(3) يراجَع هذا الفرع في : المعتمد 2/315 - 322 والبرهان 1/99 - 101 والمستصفى 1/63 65 وإحكام الفصول 681 - 687 والكاشف عن المحصول 1/368 - 381 وقواطع الأدلة 2/48 58 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 1/218 - 220 والمنهاج مع الإبهاج 1/142 - 145 والوصول إلى الأصول 1/73 ، 74 والتحصيل 1/186 - 189 وحقائق الأصول 1/275 - 286 ونهاية السول 1/164 - 175 ومناهج العقول 1/164 - 176 وشرح الكوكب المنير 1/422 - 429 وفواتح الرحموت مع مُسلَّم الثبوت 1/48 - 51 وجمع الجوامع مع شرح البناني 1/64 - 68
(4) سورة البقرة مِن الآية 29
(5) سورة الأعراف مِن الآية 32
ومِن السُّنَّة :(1/45)
قوله - صلى الله عليه وسلم - { مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ جُرْماً مَنْ سَأْلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فُحَرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِه } (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - { وَمَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْه } (2) (3) .
ومما يتفرع على هذا الفرع :
مَن مات ولم تَبلغه دعوة نبي ـ وهم أهل الفترة الذين عاشوا بين فترة رسالتين ـ فإنهم غير مكلَّفين ؛ لأنه لم يرسل إليهم رسول لِيُبَيِّن لهم ما حسَّنه الشرع فيأتوه ، وما قبَّحه الشرع فيتركوه ..
وهذا ما عليه جمهور الأشاعرة مِن المتكلمين والأصوليين والفقهاء الشافعية ..
وذهب فريق ـ منهم الإمام النووي ـ إلى أنهم مخاطَبون وإن لم تبلغهم دعوة نبي مرسَل لهم (4) ..
ونقلوا عن أبي حنيفة :" لو لم يبعث الله لِلناس رسولاً لَوَجَب عليهم معرفته بعقولهم " (5) ..
والذي أختاره هو ما عليه الجمهور ؛ لقوة حجتهم وأدلتهم ، منها : قوله تعالى { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } (6) وقوله تعالى { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهَ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَتِكَ
(1) رواه الشافعي في مسنده عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - .
(2) رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم عن سلمان - رضي الله عنه - .
(3) انظر : روضة الناظر /42 وشرح الكوكب المنير 1/326 ، 327
(4) انظر حاشية البناني 1/62 ، 63
(5) تيسير التحرير 1/151
(6) سورة الإسراء مِن الآية 15
مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى } (1) (2) .
(1) سورة طه الآية 134
(2) انظر : إرشاد الفحول /9 وأصول الفقه للخضري /25 ، 26
المبحث الثاني
تعريف الحكم الشرعي وأقسامه
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : تعريف الحكم الشرعي والاعتراضات الواردة عليه .
المطلب الثاني : أقسام الحكم الشرعي .
وفيما يلي نفصِّل القول في كل واحد منهما ..
المطلب الأول(1/46)
تعريف الحكْم الشرعي
والاعتراضات الواردة عليه
أولاً : تعريف الحكْم الشرعي
الحكْم لغةً :
والحكم في اللغة : مصدر " حَكَم حكْماً " إذا قضى .
كما يُطلَق على المنع ، نحو : قول جرير :
أبَنِي حنيفة احكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
أي امنعوا سفهاءكم .
ومنه الحكمة التي تمنع صاحبها عن أخلاق الأراذل والفساد .
كما يُطلَق على الفصل ، ومنه :" حكمتُ بين القوم " فصَلتُ بينهم " فأنا حاكم " (1) .
الحكم اصطلاحاً (2) :
عرَّف الأصوليون الحكم بتعريفات عدة ، أَذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : لِلفخر الرازي ..
وهو : ( الخطاب المتعلِّق بأفعال المكلَّفين بالاقتضاء أو التخيير ) (3) .
(1) انظر : المصباح المنير 1/144 ، 145 ومختار الصحاح /165 ، 166 والكليات /380 وشرح مختصر الروضة 1/247
(2) الحكم عند الفقهاء : هو ما ثبت بالخطاب أو مدلوله : كالوجوب والحرمة ..
انظر : التوضيح مع التلويح 1/23 وشرح الكوكب المنير 1/333
(3) المحصول 1/15
التعريف الثاني : لِلآمدي ..
وهو : ( خطاب الشارع المفيد فائدةً شرعية ) (1) .
التعريف الثالث : لابن الحاجب ..
وهو : ( خطاب الله تعالى المتعلِّق بأفعال المكلَّفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع ) (2) .
واختاره ابن الهجام (3) .
التعريف الرابع : لِلقرافي ..
وهو : ( خطاب الله تعالى القديم المتعلِّق بأفعال المكلَّفين بالاقتضاء أو التخيير ) (4) .
التعريف الخامس : لِلطوفي ..
وهو : ( خطاب الشرع المتعلِّق بأفعال المكلَّفين اقتضاءً أو تخييراً ) (5) .
والأَوْلى عندي تعريف ابن الحاجب ، وهو : ( خطاب الله تعالى المتعلِّق بأفعال المكلَّفين على جهة الاقتضاء أو التخيير أو الوضع ) (6) .
شرح التعريف :
( خطاب ) : مصدر " خاطب " ، والمراد هنا الكلام المتهيّأ لِفهْمه ، لا معنى المصدر الذي توجيه الكلام لِمخاطَب مِن إطلاق المصدر على اسم المفعول ..
(1) الإحكام لِلآمدي 1/90(1/47)
(2) مختصر المنتهى مع شرح العضد 1/220
(3) التحرير مع التيسير 2/129 ، 130
(4) شرح تنقيح الفصول /67
(5) شرح مختصر الروضة 1/255
(6) انظر مختصر المنتهى مع شرح العضد 1/220
وهو كالجنس في التعريف ، يَشمل خطاب الله تعالى وخطاب غيره .
( الله تعالى ) : قيد أول ، خرج به خطاب غير الله تعالى فلا يُسمَّى حكماً شرعيّاً ؛ فلا حكْم إلا لله تعالى ، فجميع الأحكام الصادرة مِن الإجماع أو القياس أو غيرها لا بد وأن يكون مرجعها الكتاب والسُّنَّة .
( المتعلِّق بأفعال المكلَّفين ) : والمراد بالتعلق الذي مِن شأنه أن يتعلق
فتَعلُّق الخطاب بفعل المكلَّف له شكلان :
الأول : قبل وجود المكلَّف ..
وهو التعلق القديم ، ولِذا كان تعلقاً معنويّاً ، أي إذا وُجِد المكلَّف مع تَحقُّق شروط التكليف فيه كان متعلِّقاً به .
والثاني : بعد وجود المكلَّف ..
وهو التعلق الحادث (1) .
و( أفعال ) جمْع " فِعل " ، وهو أعَمّ مِن فِعل القلب والجوارح ، فيشمل النية وعقائد الدين وغيرها .
و( المكلَّفين ) جمْع " مكلَّف " ، وهو البالغ العاقل .
وهو قيْد ثالث ، خرج به خمسة أشياء :
الأول : ما تعلَّق بذاته تعالى ..
نحو : قوله تعالى { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُو } (2) .
الثاني : ما تعلَّق بصفته تعالى ..
نحو : قوله عز وجل { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّوم } (3) .
(1) انظر حاشية البناني 1/48
(2) سورة آل عمران مِن الآية 18
(3) سورة البقرة مِن الآية 255 ، سورة آل عمران الآية 2
الثالث : ما تعلَّق بفِعله عز وجل ..
نحو : قوله تعالى { اللَّهُ خَلِقُ كُلّ شَىْء } (1) .
الرابع : ما تعلَّق بذات المكلَّفين ..
نحو : قوله تعالى { وَلَقَدْ خَلَقْنَكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَكُم } (2) .
الخامس : ما تعلَّق بالجماد ..
نحو : قوله تعالى { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَال } (3) (4) .(1/48)
( على جهة الاقتضاء أو التخيير أو الوضع ) : والاقتضاء افتعال مِن " قضى يقضي " إذا طلب وحكم ، فالاقتضاء هو الطلب ..
وهو قيد ثالث ، خرج به نحو قوله تعالى { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون } (5) ؛ فإنه خطاب لِلشارع متعلِّق بأفعال المكلَّفين لا على سبيل الاقتضاء أو التخيير ، لِذا لا يسمَّى حكماً شرعيّاً .
والطلب نوعان :
إما طلب فعل : وهو قسمان :
إما أن يكون طلب فعل جازم ، فهذا هو الإيجاب .
وإن كان طلباً لِلفعل طلباً غير جازم فهو المندوب .
وإما طلب ترْك : وهو قسمان :
إما أن يكون طلب ترْك جازم وهو الحرام .
(1) سورة الرعد مِن الآية 16 ، سورة الزمر مِن الآية 62
(2) سورة الأعراف مِن الآية 11
(3) سورة الكهف مِن الآية 47
(4) شرح الكوكب المنير 1/335 ، 336 بتصرف وانظر شرح مختصر الروضة 1/252 ، 253
(5) سورة الصافات الآية 96
وإما أن يكون طلباً لِلترك طلباً غير جازم وهو الكراهة .
( أو التخيير ) تكميل لِلحد ؛ لِتدخل فيه الإباحة ..
وهو : خطاب الله تعالى المتعلِّق بفعل المكلَّفين الذي خيَّرَه بين الفعل والترك .
( أو الوضع ) و" أو " هذه والسابقة لِلتنويع والتقسيم ..
والوضع هو : جعْل الشرع الشيء على نحو خاص : كجعله الطهارة شرطاً لِصحة الصلاة (1) .
(1) انظر : مختصر المنتهى مع شرح العضد 1/221 ، 222 وبيان المختصر 1/325 ، 326 ونهاية السول 1/42 ، 43 وشرح الكوكب المنير 1/333 - 342 وحقائق الأصول 1/116 وشرح مختصر الروضة 1/247 - 254
ثانياً : الاعتراضات الواردة على هذا التعريف
لقد تبيَّن مِن خلال دراسة هذا التعريف أن هناك اعتراضات وردَت عليه ، أَشهرُها اعتراضات المعتزلة الأربعة ، ولِذا فقد بدأتُ بها ثم أتبعتُها بأربعة أخرى ، لِيصبح مجموعها ثمانية اعتراضات ، أفصِّلها فيما يلي :
الاعتراض الأول : أنكم عرَّفتم الحكْم وهو حادث بـ" الخطاب " ، وخطاب الله تعالى قديم ، ولا يَجوز تعريف الحادث بالقديم ..(1/49)
أمّا قِدَم خطاب الله تعالى : فإنه مُسلَّم عندكم ـ يَعْنُون أهل السُّنَّة والجماعة ـ لأن كلام الله عندكم قديم .
وأمّا حدوث الحكْم فلِثلاثة أوجُه :
الأول : أن الحكم يوصف بالحادث : كقولنا :" حلَّت المرأة بعدما لم تكن حلالاً " و" حرمَت بعد أن لم تكن حراماً " ، وكلّ ما حصل ووقع بعد أن لم يكن حاصلاً يكون حادثاً ، وإذا ثبت ذلك كان الحكم حادثاً ؛ لأن كلاًّ مِن الحِلّ والحرمة حكْم شرعي .
الثاني : أن الحكم يقع صفةً لِفعل العبد ، فنقول :" وطء حلال " و" وطء حرام " ، والعبد حادث ، ففِعلُه حادث مِن باب أَوْلى ؛ لامتناع وجود الصفة قبل وجود الموصوف .
الثالث : أن الحكْم يكون معلَّلاً بالحادث : كقولنا :" حلَّت المرأة بالنكاح وحرمَت بالطلاق " ، فالحِل والحرمة معلَّل بالنكاح والطلاق الحادثيْن ، ومعلول الحادث حادث ؛ لامتناع تَقدُّم المعلول على العلة في الوجود .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد رُدّ هذا الاعتراض : بأنّا لا نسلِّم لكم حدوث الحكم وما ادعيتم ،
فهو باطل مِن وجوه ثلاثة :
الأول : أنّا لا نسلِّم لكم حدوث الحكم لِوصفه بالحادث كما ادعيتم ، وإنما الحدوث في التعلق ، فقولنا :" حلَّت المرأة بعدما لم تكن حلالاً " أي تَعلَّقَ الحِل بها بعد أن لم يكن متعلِّقاً ، وهذا لا يقتضي حدوث الحكم ، وإنما يقتضي حدوث التعلق ، ولا يلزم مِن حدوث التعلق حدوث المتعلق وهو الحكم .
الثاني : أن الحكم إذا وقع صفةً لِفعل لا يدل على حدوثه ، فقولنا :" وطء حلال " معناه وطءٌ تعلَّق الحِل به ، وهذا هو الحادث ، أمّا الحكم فهو أزلي ولِذا كان الحادث هو التعلق .
الثالث : أن الحادث الذي يعلَّل به الحكم لا يدل على حدوثه ؛ لأن هذه العلل شرعية ، والعلل الشرعية معرفات لا مؤثرات ، وكأن الله تعالى قال : إذا تزوج فلان بفلانة بشروطه فاعلموا أني حلَّلتُها له ..
فإذا وُجِد النكاح بتلك الشروط عرَفْنا أن الإحلال قديم أزلي .(1/50)
ويَجوز أن يكون الحادث معرِّفاً لِلقديم ؛ لأن العالَم يُعرِّفنا وجود الخالق جل وعلا ، فلِذا فلا يُعَدّ علةً له .
الاعتراض الثاني : أن هذا التعريف غير جامع ؛ لِخروج الأحكام الوضعية عنه ؛ لأنها خطاب الله تعالى لِلمكلَّفين ليست على سبيل الاقتضاء أو التخيير ، ومع ذلك تسمَّى أحكاماً شرعيّةً ؛ لأنها مستفادة مِن الشرع ، نحو : دلوك الشمس سبباً لِلصلاة ، والطهارة شرطاً لها ، والصحة والفساد والمانع .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد رُدّ هذا الاعتراض : بأنّا لا نسلِّم لكم أنّ ما ذكَرتم مِن الشروط
والأسباب والمانع والصحة والفساد أحكام ، وإنما هي أمارات وعلامات نَصَبَها الشارع لِمعرفة الأحكام ..
سلَّمْنا جدلاً أنها أحكام ، وحينئذٍ فإن الحد يَصدق عليها وهي داخلة في التعريف ؛ لأن المراد بدلوك الشمس أو موجبية الدلوك هو وجوب الصلاة عند دلوك الشمس أي زوالها ..
ونحوها الصحة ؛ فإنها داخلة تحت التخيير ؛ لأن المراد بصحة البيع ـ مثَلاً ـ إباحة الانتفاع بالمَبيع .
وإذا كان كذلك كان التعريف جامعاً لأفراد المعرَّف وشاملاً لِلحكم الوضعي .
ولِذا ـ وخروجاً مِن هذا الاعتراض ـ زاد ابن الحاجب في تعريف الحكم كلمة ( أو الوضع ) ، وكان لزاماً علينا بعد الزيادة المذكورة أن نرفع هذا الاعتراض ؛ لأنه لا وجه له حينئذٍ ، ولكنّا أوردناه حتى نقف على حقيقة اعتراضات المعتزلة على التعريف وكيفية توجيهها والجواب عنها .
الاعتراض الثالث : أن هذا التعريف غير منعكس ؛ لأن الحكم الشرعي قد وُجِد مِن غير المكلَّف : كجعل دلوك الشمس سبباً لِوجوب الصلاة ، وجعْل إتلاف الصبي سبباً لِوجوب الضمان ، وفيها حكْم شرعي ، وليس هو الخطاب المتعلِّق بأفعال المكلَّفين .
الجواب عن هذا الاعتراض :(1/51)
وقد رُدّ هذا الاعتراض : بأنّ دلوك الشمس وإتلاف الصبي أسباب لِلحكم الشرعي ومعَرِّفة له ، وهذه لا يشترَط فيها التكليف ، والدلوك العبد مكلَّف بأداء الصلاة عند تَحقُّقه ، والضمان في إتلاف الصبي إنما هو واجب على الولي البالغ العاقل مِن مال الصبي ، وليس متعلِّقاً بالصبي
حتى يكون اعتراضكم مقبولاً .
الاعتراض الرابع : أن هذا التعريف استُعمِل فيه كلمة ( أو ) (1) التي تفيد الترديد والتشكيك ، والتعريف ينافي ذلك ؛ لأن المراد به هو الإيضاح والتحديد .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد رُدّ هذا الاعتراض : بأنّا لا نسلِّم لكم أن ( أو ) في التعريف لِلترديد والتشكيك بمعنى أن الحد إما هذا أو ذاك ، وإنما معناها التقسيم والتنويع لِمتعلّق الحكْم ، وإذا كان كذلك لم يكن ذِكر ( أو ) في التعريف منافياً لِلتحديد .
الاعتراض الخامس : أن هذا التعريف غير جامع لأفعال القلب : كالإيمان والنية ؛ لأن الظاهر مِن قوله ( المتعلِّق بأفعال المكلَّفين ) أفعال الجوارح .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد رُدّ هذا الاعتراض : بأنّ المراد بالأفعال عموم الفعل قلباً وجارحاً وهذا هو الأصل فيه أن يُحمَل على إطلاقه طالما أنه لم يقيَّد ، ولِذا كان التعريف جامعاً لِلاثنين معاً .
الاعتراض السادس : أن هذا التعريف غير جامع ، وذلك لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأُولِي الأمر والسيد واجب الطاعة ، وحَكَم الشرع بطاعتهم مع
(1) ذَكَر السبكي ـ رحمه الله ـ في هذا المقام مدلول " أو " فقال :" واعلم أن مدلول " أو " إما شك : كقولك :" جاء زيد أو عمرو " ، وإما إبهام : كقوله تعالى { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَلٍ مُّبِين } ، وإما تبيّن قسمة : كقولك :" العَدد زوج أو فرد " ، وإما إباحة : كـ" جالس الحسن أو ابن سيرين " ، وإما تخيير : كـ" خذ درهماً أو ديناراً " ا.هـ ..
الإبهاج 1/45 وانظر شرح تنقيح الفصول /68(1/52)
أنه ليس بخطاب لِله تعالى .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد رُدّ هذا الاعتراض : بأنّ الله تعالى هو الذي أمَرَنا بطاعة مَن ذَكَرتم ، فطاعتهم بإيجابه تعالى ، فلا حكْم إلا حكْمه ، فهو تعالى مصْدر الأحكام ومنشؤها .
الاعتراض السابع : أن هذا التعريف غير جامع ـ أيضاً ـ لأنه يَلزم منه خروج خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، نحو : إباحة ما فوق الأربع ؛ إذ هي متعلِّقة بأفعال المكلَّفين ، فاللام هنا لِلاستغراق .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد رُدّ هذا الاعتراض : بأنّا لا نسلِّم لكم أن اللام في ( المكلَّفين ) لِلاستغراق ، وإنما هي لِلجنس ، فيكون المراد التعلق بفعل مِن أفعال المكلَّف ، وإلا لم يتحقق حكْم أصلاً ؛ لِعدم خطاب التعلق بالجميع .
الاعتراض الثامن : أن هذا التعريف غير جامع ؛ لِخروج الأحكام الثابتة بالسُّنَّة أو الإجماع أو القياس ؛ حيث إنها ليست بخطاب الله تعالى .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد رُدّ هذا الاعتراض : بأنّا لا نسلِّم لكم أن ما ذَكَرتم مثبتة لِلأحكام ، وإنما هي معرِّفات لها ، والأحكام ثابتة قبْلها ، كما أن خطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - خطاب الله تعالى ؛ لِقوله تعالى { وَمَا يَنطِقُّ عَنِ الْهَوَى } (1) ..
وكذلك الإجماع والقياس راجعان إلى خطابه تعالى ، ولِذا كان خطاب الله تعالى أعَمّ مِن أن يكون بغير واسطة وهو القرآن ، أو بواسطة وهو
(1) سورة النجم الآية 3
ما ذَكَرتم ، ولِذا كان التعريف جامعاً مانعاً (1) .
(1) انظر : الكاشف عن المحصول 1/215 - 233 وشرح تنقيح الفصول /69 ، 70 والمنهاج مع الإبهاج 1/44 - 50 والتلويح مع التوضيح 1/26 - 28 وشرح مختصر الروضة 1/255 - 257 والتحرير مع التيسير 1/131 - 133 وبيان المختصر 1/327
المطلب الثاني
أقسام الحكْم الشرعي
وبعد الوقوف على تعريف الحكم الشرعي يتضح أنه ينقسم إلى قسمين :
الأول : حكم تكليفي .
والثاني : حكم وضعي .(1/53)
أولاً : تعريف الحكم التكليفي
أولاً - تعريف التكليف :
والتكليف لغةً : مصدر " كلف " أي أمَره بما يشق عليه (1) .
واصطلاحاً : عرَّفه الأصوليون بتعريفات عدة ، أَذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : لِلباقلاني ..
وهو : ( إلزام ما على العبد فيه كلفٌ ومشقةٌ إما في فِعله أو ترْكه ) (2) .
وتَبِعه في ذلك إمام الحرمين ، فقال :" وسُمِّي " تكليفاً " لأنّ الفعل المطلوب مِن المكلَّف فيه كلفة ومشقة " (3) .
التعريف الثاني : لإمام الحرمين ..
وهو : ( إلزام الله عز وجلّ العبدَ ما على العبد فيه كلفة ) (4) .
(1) مختار الصحاح /602 وانظر المصباح المنير 2/537 ، 538
(2) التقريب والإرشاد 1/239
(3) انظر البرهان 1/101 ، 102
(4) التلخيص 1/134
التعريف الثالث : لابن قدامة ..
وهو : ( الخطاب بأمر أو نهْي ) (1) .
التعريف الرابع : لِلفتوحي ..
وهو : ( إلزام مقتضى خطاب الشرع ) (2) .
والأَوْلى عندي أن يُعرَّف التكليف بأنه : ( إلزام الشارعِ المكلَّفَ بما فيه مشقة إما في فِعلِه أو ترْكِه ) ، وهو قريب مِن تعريف الباقلاني .
وهذا التعريف يشمل أقسام الحكم التكليفي : الإيجاب ، والندب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة ..
وإطلاقه على الإباحة مِن باب التغليب (3) .
ثانياً - تعريف الحكْم التكليفي :
والحكم التكليفي هو : ( خطاب الله تعالى المتعلِّق بأفعال المكلَّفين على جهة الاقتضاء أو التخيير ) .
وسمي " تكليفاً " لأنه إلزام ما فيه كلفة ومشقة ، وإطلاقه على الإباحة مِن باب التغليب (4) ، ولِذا كان الحكم التكليفي شاملاً الإيجاب والندب والتحريم والكراهة والإباحة .
(1) روضة الناظر مع نزهة الخاطر 1/113
(2) شرح الكوكب المنير 1/483
(3) انظر البرهان 1/102
(4) انظر البرهان 1/101 ، 102
ثانياً : تعريف الحكم الوضعي
والحكم الوضعي هو : ( خطاب الله تعالى الذي اقتضى وضْع شيء سبباً لِشيء آخَر أو شرطاً أو رخصةً أو عزيمةً ... إلخ ) .(1/54)
وسمي " وضعياً " لأن الشارع هو الذي وضع هذه الأسباب لِلمسببات والشرط للمشروط وهكذا (1) .
أقسام الحكم التكليفي :
وأقسام الحكم التكليفي عند الجمهور ( غير الحنفية ) خمسة : إيجاب وندب ، وتحريم ، وكراهة ، وإباحة ..
وبعضهم جعلها : الواجب ، والمندوب ، والحرام ، والمكروه ، والمباح ..
فالتقسيم الأول باعتبار نص الشارع .
والتقسيم الثاني باعتبار تعلُّقه بفعل المكلَّف ، فالإيجاب يصبح واجباً ، والندب يصبح مندوباً ، والتحريم يصبح حراماً ، والكراهة تصبح مكروهاً والإباحة تصبح مباحاً (2) .
أمّا الحنفية فإنّ أقسام الحكْم التكليفي عندهم سبعة : الفرض ، والواجب ، والمندوب ، والحرام ، والمكروه تحريماً ، والمكروه تنزيهاً ، والمباح (3) .
الفَرْق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي والعلاقة بينهما :
أمّا الفروق بينهما فأهمها ثلاثة فروق :
الأول : أن الحكم التكليفي المقصودُ منه طلب الفعل مِن المكلَّف أو ترْكه
(1) انظر : البحر المحيط 1/127 وإرشاد الفحول /6 ، 7
(2) انظر : مُسلَّم الثبوت 1/59 وأصول الفقه لِزهير 1/50
(3) انظر : مُسلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/58 وفتح الغفار 3/66 وتيسير التحرير 2/129 ، 130 وأصول الفقه لِلخضري /34 وأصول الفقه لأبي زهرة /25
أو التخيير بينهما .
أمّا الحكم الوضعي فالمقصود منه ليس ما تَقدَّم ، وإنما هو بيان أن الشيء سبب أو شرط أو مانع ونحوها .
الثاني : أن الفعل المطلوب في الحكم التكليفي لا بد أن يكون في مقدور المكلَّف فعلاً أو تركاً .
أمّا الحكم الوضعي فقد يكونه مقدوراً لِلمكلَّف : كالسفر الذي هو سبب لِلرخصة ، وقد يكون غير مقدور : كزوال الشمس لِصلاة الظهر .
الثالث : أن خطاب التكليف يُشترَط فيه عِلْم المكلَّف وكوْنه مِن كسْبه مع القدرة عليه ـ كما تَقدَّم ـ : كالصلاة والصيام والحج ونحوه .(1/55)
أمّا خطاب الوضع فلا يُشترَط فيه شيء مِن ذلك ، إلا ما يُستثنَى في العقوبات : كمَن وطئ امرأةً أجنبيةً يظنها زوجته ..
وفي الأسباب الناقلة لِلِملك : كالبيع ، فلو تَلفَّظَ بلفظ ناقِل لِلملكية وهو لا يَعلم مقتضاه ـ لِعجمة أو إكراه ـ لم يَلزمه مقتضاه (1) .
وأمّا العلاقة بينهما فلها صورتان :
الصورة الأولى : اجتماعهما معاً ..
مثاله : الزنا ، فإنه حرام ، وهو حكم تكليف ، وهو ذاته سبب لِلحد ، ومِن هذا الوجه كان حكماً وضعيّاً .
ومثاله أيضاً : السرقة ، فإنها حرام ، وهو حكم تكليف ، وهي ذاتها سبب لِلحد ، ومِن هذا الوجه كانت حكماً وضعيّاً .
الصورة الثانية : انفرادهما ..
مثال انفراد خطاب الوضع : حوَلان الحول شرطاً لِوجوب الزكاة ،
(1) شرح مختصر الروضة 1/416 ، 417 بتصرف .
والبلوغ شرطاً لِلتكليف ، ورؤية الهلال لِوجوب الصيام .
ومثال انفراد خطاب التكليف : ترْك المنكرات واجتناب المحرَّمات (1) .
(1) انظر : الفروق 1/163 ، 164 وشرح الكوكب المنير 1/343 ، 344 وأصول الفقه الإسلامي لِزكي الدين شعبان /214 ـ 216
المبحث الثالث
الواجب وتقسيماته
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : تعريف الواجب .
المطلب الثاني : تقسيمات الواجب .
المطلب الثالث : بِمَ يتحقق الأداء ؟
وفيما يلي نفصِّل القول في كل واحد منها ..
المطلب الأول
تعريف الواجب
وهو في اللغة : الساقط ، ويطلق ـ أيضاً ـ على الثابت ، وكذا على اللازم (1) .
واصطلاحاً : ما يذم تاركه ويمدح فاعله ..
وقد يعرف بأنه : الفعل الذي طَلَبَه الشارع مِن المكلَّف ، على سبيل الحتم والإلزام .
والوجوب : هو الأثر المترتب على الإيجاب الذي هو خطاب الشارع الطالب لِلفعل طلباً جازماً (2) .
ومثال ذلك : قوله تعالى { وَأَقِيمُوا الصَّلَوة } ، فهذا الخطاب الطالب لإقامة الصلاة هو الإيجاب ، والأثر المترتب على هذا الإيجاب هو وجوب الصلاة ، وفعلها مِن المكلَّف هو الواجب .(1/56)
ولِذا فإنّا نقول : حكْم إقامة الصلاة المفروضة الوجوب ، ودليل ذلك الآية الكريمة ، وهي نص الشارع ، وهذا النص هو الإيجاب ، وحينما يتعلق بفعل المكلَّف تكون في حقه واجباً .
والفرض والواجب مترادفان عند غير الحنفية .
(1) انظر : مختار الصحاح /734 والمصباح المنير 2/648
(2) انظر : حاشية النفحات /18 ونهاية السول 1/54 - 56 والبحر المحيط 1/176 ومُسلَّم الثبوت 1/59 وأصول الفقه لِزهير 1/50 ، 51 وشرح التلويح 1/123 وأصول الفقه لِلبرديسي /49 - 57
وأمّا الحنفية فالفرض عندهم خلاف الواجب :
فالفرض : ما ثبت بدليل قطعي ..
نحو : قراءة القرآن في الصلاة ؛ فإنها ثابتة بمقتضى قوله تعالى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَان } (1) .
والواجب : ما ثبت بدليل ظني ..
نحو : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب } (2) (3) .
أثر هذا الاختلاف في الأحكام :
وقد ترتب على هذا الاختلاف آثار فقهية ، وهي :
1- أن منكِر الفرض عند الحنفية كافر ؛ لإنكاره ما ثبت عن الشارع بدليل قطعي ، نحو : إنكار الصلاة والزكاة ، ومَن أَنكَر الواجب فلا يكفر ؛ لأنه ثابت بدليل ظني ، نحو : صلاة الوتر وقراءة الفاتحة في الصلاة ..
وغير الحنفية يرون ما رآه الحنفية في حكم منكِر الفرض والواجب (4) .
2- مَن تَرَك قراءة الفاتحة في الصلاة فصلاته لا تبطل عند الحنفية ؛ لأن قراءتها واجبة ، بخلاف ترْك قراءة القرآن ، فإنه يبطلها ؛ لثبوتها بدليل قطعي ، والجمهور يبطلونها بترك قراءة الفاتحة ..
وجمهور الأصوليين يرون أن الخلاف بين الحنفية وغيرهم خلاف لفظيّ ، ولكنّا نرى أثراً فقهيّاً له كما تَقدَّم (5) .
(1) سورة المزمل مِن الآية 20
(2) رواه الستة وأحمد عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - .(1/57)
(3) انظر : أصول السرخسي 1/110 - 113 والمستصفى 1/66 والتحصيل 1/172 ، 173 والتلويح وشرح التوضيح 1/123 ، 124 ونشر البنود 1/28 وغاية الوصول /11
(4) انظر : شرح المنار لابن ملك /195 ، 196 وأصول الفقه لِزهير 1/55 وأصول الفقه لأبي زهرة /26
(5) شرح المحلي مع البناني 1/88
المطلب الثاني
تقسيمات الواجب
والواجب ينقسم تقسيمات عدة باعتبارات مختلفة ، نذكرها فيما يلي :
التقسيم الأول : باعتبار ذاته ..
والواجب باعتبار ذاته ينقسم إلى : معيَّن ، ومخيَّر ..
والواجب المعيَّن : هو الفعل الذي طلبه الشارع بعينه بِلا تخيير .
مثاله : العبادات المفروضة مِن صلاة وزكاة وصوم ... إلخ .
والواجب المخير : هو الذي طلبه الشارع مبهماً ضِمْن أمور معيَّنة .
مثاله : التخيير بين خصال كفارة اليمين في قوله تعالى { فَكَفَّرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّرَةُ أَيْمَنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُم } (1) ..
وسنفصِّل القول في الواجب المخيَّر في مطلب مستقل بإذن الله تعالى .
التقسيم الثاني : باعتبار فاعله ..
والواجب باعتبار الملزم بفعله ينقسم إلى : عيني ، وكفائي ..
والمقصود بالعيني : أنه واجب على الأعيان كلها .
والمقصود بالكفائي : أنه واجب على الكافة .
والواجب العيني : هو الفعل الذي طَلَبَه الشارع طلباً جازماً مِن كل مكلَّف بذاته ، أو مِن واحد معيَّن بخصوصه : كخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - ..
(1) سورة المائدة مِن الآية 89
ومثاله : أركان الإسلام وصلة الرحم والأضحية في حقه - صلى الله عليه وسلم - (1) ..
وحكْمه : أنه يجب الإتيان به على كل مكلَّف به ، ولا يسقط بفعل بعض المكلَّفين ، وإذا تَرَكه المكلَّف أَثِم ..
وهل تصح النيابة في أداء الواجب العيني ؟
والتكليفات في ذلك أقسام ثلاثة :(1/58)
قسم يَقبَل النيابة : وهي التكاليف المالية : كتوزيع الزكاة والكفارات .
وقسم لا يَقبَل النيابة : وهي العبادات البدنية الخالصة : كالصلاة والاعتكاف .
وقسم يَقبَل النيابة عند وجود العذر : وهي العبادات التي تحوي جانباً ماديّاً وآخَر ماليّاً : كالحج ، وأجاز الشافعية صوم الولي عن الميت (2) .
والسُّنَّة العينية : هي الفعل الذي طلبه الشارع طلباً غير جازم مِن كل مكلَّف بذاته ، أو مِن واحد معيَّن بخصوصه ..
مثالها : سُنَن الوضوء ، وسُنَن الصلاة ، وصوم النفل (3) .
والواجب الكفائي : هو ما طلبه الشارع حتماً مِن غير نظرٍ بالذات إلى فاعله .
ومثاله : تجهيز الميت والصلاة عليه ودفْنه ، وطلب العلم الشرعي وتَعلُّم الحِرَف والصناعات .
وسنفصِّل القول في الواجب الكفائي في مطلب مستقل بإذن الله تعالى .
(1) انظر : التمهيد للإسنوي /74 وشرح تنقيح الفصول /155 وغاية الوصول /260 والإبهاج 1/101 وأصول الفقه لِزهير 1/110 والأمر عند الأصوليين 1/381
(2) انظر : مباحث الواجب /490 ، 491 وأصول الفقه الإسلامي 1/60 ، 61
(3) انظر : المنثور في القواعد 2/210 ونهاية السول 1/125 والتمهيد للإسنوي /75 والأمر عند الأصوليين 1/389 والقواعد والفوائد /156
والسُّنَّة الكفائية : هي الفعل الذي طلبه الشارع طلباً غير جازم ، مع قَطْع النظر عن فاعله ..
مثالها : ابتداء السلام ، وذلك حينما تلْقى جماعةٌ واحداً أو جماعةً فسلَّم واحد منهم ، كان ذلك كافياً لأداء السُّنَّة ..
أمّا إذا كان رجلاً واحداً فلقي غيره أو جماعةً فيكون إلقاء السلام في حقه سُنَّة عين .
وأمّا رد السلام فهو فرْض كفاية على الجماعة ، وفرْض عين على الواحد (1) ..
ومثالها أيضاً : تشميت العاطس ، والأضحية عن أهل البيت على رأي الجمهور ، وعند الحنفية تجب على كل مسلم حر مقيم موسر (2) .
التقسيم الثالث : تقسيم الواجب باعتبار وقت أدائه ..(1/59)
والواجب بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسميْن : مطلَق ، ومقيَّد ..
فالواجب المطلق : هو الذي طلب الشارع فِعلُه بغير تحديد وقت لأدائه ويبرأ المكلَّف بفعله ، ولا إثم عليه في التأخير ، والمبادرة به أَوْلى .
مثاله : كفارة اليمين ، والنذر غير المحدَّد بوقت .
والواجب المقيد : هو الذي طلب الشارع فِعلَه في وقت محدَّد ، فإن خرج عنه بغير عذر كان آثماً .
والواجب المقيد إما أن يؤدَّى قبل وقته ، أو فيه دون إعادة ، أو مع الإعادة ، أو بعده ..
(1) انظر : التمهيد لِلإسنوي /75 والأشباه والنظائر لِلسيوطي /418 وشرح المحلي مع البناني /186 ونشر البنود 1/194 والضياء اللامع 1/328 والأمر عند الأصوليين 1/396
(2) انظر : بداية المجتهد 1/249 والاختيار 5/16
فالمحصلة أربعة أقسام (1) : تعجيل ، وأداء ، وإعادة ، وقضاء نفصِّلها فيما يلي :
الأول : التعجيل ..
وهو : وقوع الواجب قبل وقته ، حيث جوزه الشارع (2) ..
ومثاله : جمْع الصلاة تقديماً فيما رخَّصه الشارع ، وجواز تعجيل الزكاة ..
وهو ما ذهب إليه الجمهور (3) ؛ لِمَا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجَّل مِن عمه العباس - رضي الله عنه - صدقة سنتين (4) لِمَا رأى مِن حاجة فقراء المسلمين إلى ذلك .
الثاني : الأداء ..
وهو : الواجب الذي فُعِل في وقته المقدَّر له شرعاً (5) .
ووقت الأداء هذا ينقسم إلى : مضيَّق ، وموسَّع ..
فالواجب المضيَّق : هو الفعل الذي طلبه الشارع حتما في وقت لا يَسَع غيره .
ومثاله : صوم شهر رمضان ، فإن شهر رمضان لا يسع صياما آخر ولِذا كان مضيقا (6) .
والواجب الموسع : هو الفعل الذي طلبه الشارع حتماً في وقت يَسَع الفعل ويَسَع غيره مِن جنسه .
(1) انظر : بيان المختصر 2/74 وشرح الكوكب المنير 1/363 وغاية الوصول /214
(2) انظر : نهاية السول 1/90 وغاية الوصول /215
(3) انظر : المبسوط 3/24 وبداية المجتهد 1/274 والمهذّب 1/43 والمغني لابن قدامة 2/500(1/60)
(4) انظر السنن الكبرى لِلبيهقي 4/111
(5) انظر : مختصر المنتهى 1/232 والتمهيد لِلإسنوي /63 والمختصر في أصول الفقه /59
(6) انظر : المعتمد 1/124 ، 125 وفواتح الرحموت 1/69 وأصول الفقه لزهير 1/101
ومثاله : أداء الصلوات في أوقاتها المحدَّدة ببداية ونهاية .
وسنفصِّل القول في الواجب الموسَّع في مطلب مستقل بإذن الله تعالى .
وزاد الحنفية قسماً ثالثاً ، وهو : الواجب ذو الشبهين ، أي أنه يشبه المضيَّق مِن جهة ، ويشبه الموسَّع مِن جهة أخرى .
مثاله : الحج ؛ فإنه يشبه المضيَّق في أنه لا يَصِحّ في العام إلا حجّاً واحداً ، ويشبه الموسَّع في أن أداء أركان الحج لا تستغرق كل أوقاته ، بل الوقت يسعها ويسَع غيرها (1) .
أنواع الأداء عند الحنفية :
قسم الحنفية الأداء إلى ثلاثة أنواع :
الأول : أداء كامل .
الثاني : أداء قاصر .
الثالث : أداء شبيه بالقضاء .
ونفصِّل القول فيها فيما يلي :
النوع الأول : الأداء الكامل ..
وهو : الإتيان بالفعل المكلَّف به مستجمِعاً لِجميع الأوصاف المشروعة مِن الواجبات والسُّنَن والمندوبات .
مثاله :
في العبادات : أداء الصلاة المكتوبة جماعةً ، نحو : الصلوات المكتوبة ونظيرها صلاة العيديْن والتراويح والوتر في رمضان .
(1) انظر : كشف الأسرار لِلنسفي 1/116 ، 117 وكشف الأسرار لِلبخاري 1/449 وتيسير التحرير 2/188 والتقرير والتحبير 1/119 وشرح إفاضة الأنوار /54 وحاشية نسمات الأسحار /54 - 59 وشرح التوضيح مع التلويح 1/202 ، 203 وأصول الخضري /35 - 39
وفي المعاملات : تسليم المبيع على الوصف المنصوص عليه في العقد ومنه : رد المغصوب بوصفه وحالته التي كان عليها .
النوع الثاني : الأداء القاصر ..
وهو : الإتيان بالفعل المكلَّف به غير مستجمِع لِجميع الأوصاف المشروعة مِن الواجبات والسُّنَن والمندوبات .
مثاله :(1/61)
في العبادات : صلاة المنفرد ، أو صلاة المسبوق ، فإن أداءه قاصر وإن أدى بعضها بالجماعة ، ولكن قصوره دون الأول .
وفي المعاملات : تسليم المبيع غير مستوفٍ لأوصافه المذكورة في العقد ، ورد المغصوب بغير حالته التي غَصَبَه عليها : كما إذا غَصَب عبداً فارغاً فرَدَّه مشغولاً بجناية يستحق بها رقبته أو طرفه أو بدَيْن .
النوع الثالث : الأداء الذي يشْبِه القضاء ..
وهو : الإتيان بالفعل المكلَّف به جامعاً لِوجهَي الأداء الكامل والناقص .
مثاله :
في العبادات : صلاة اللاحق ، وهو مَن أَدرَك أول الصلاة مع الإمام وفاته الباقي : كمَن نام خلْف الإمام ولم ينتبه إلا بعد فراغ الإمام مِن صلاته ، أو سَبَقَه الحدث خلْف الإمام فتوضأ وجاء بعد فراغه وأَتَمَّ صلاتَه ..
ووجه شَبَهِ الأداء بالقضاء : أن المصلِّي فيما سَبَق انعقَد له الإحرام مع الإمام مِن أول صلاته ، والعزيمة في حقه الأداء مع الإمام ؛ لِكونه مقتدياً ، إلا أن ذلك قد فاته بعذر ، فلِذا جَعَل الشارع أداءه كالأداء مع الإمام ، فصار كأنه خلْف الإمام ، وهو حينئذٍ أداء بمِثله لا بعينه .
وصار شبيهاً بالقضاء لأنه يقضِي ما انعقد له ، أو ما التزَمَه مع الإمام .
ومِن هنا كان أداءً باعتبار الأصل ، قضاءً باعتبار الوصف ، وهو معنى أداء شبيه بالقضاء .
وفي المعاملات : إذا تَزوج امرأةً وجَعَل مَهْرَها عبْدَ غيرِه بعد تَملُّكِه ، فظَهَر أنه أبوها ، فاستحق حتى وجبَت قيمته ، ولم يقضِ لها القاضي حتى ملكه ثانياً .
أمّا كونه أداءً : فمِن حيث إنه عيْن حقها ، ويجب تسليمه إليها ، وتُجبَر على قبوله .
وأمّا كوْنه شبيهاً بالقضاء : فمِن حيث إنّ تبدّل الملك يوجِب تبدّل العين ؛ بدليل حديث بريرة { هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ ، وَلَنَا هَدِيَّة } (1) .
ومِن هنا كان العبد المتملَّك ثانياً كأنه مِثل ما استحقته بالتسمية لا عينه .
ولِهذا ينفذ تصرفاته وعِتقه دون عِتقها قبْل التسليم .(1/62)
ولو قُضِي على الزوج بقيمة العبد ثم ملكه الزوج ثانياً لا يَعود حق المرأة في العين ، فلا يُجبَر الزوج على التسليم ولا الزوجة على القبول (2) .
الثالث : الإعادة ..
وهي : إيقاع العبادة في وقتها بعد تقدم إيقاعها ، على خلل في الأجزاء ـ كمَن صلى بدون ركن ـ أو في الكمال : كصلاة المنفرد ، ثم
(1) رواه البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(2) انظر : التوضيح مع التلويح 1/313 - 321 وأصول السرخسي 1/48 - 55 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار 1/352 - 362 وكشف الأسرار لِلنسفي مع شرح نور الأنوار 1/70 - 75 وفتح الغفار 1/45 - 51 وشرح ابن ملك /38 - 40 وتيسير التحرير 2/302
أعادها مع الجماعة (1) .
الرابع : القضاء ..
وهو : فِعل العبادة بعد خروج وقتها (2) ..
أنواع القضاء عند الحنفية :
قسم الحنفية القضاء إلى أنواع ثلاثة :
الأول : قضاء بمِثل معقول .
الثاني : قضاء بمِثل غير معقول .
الثالث : قضاء شبيه بالأداء .
ونفصِّل القول فيها فيما يلي :
النوع الأول : القضاء بمِثل معقول ..
وهو : القضاء الذي تُعقَل فيه المماثَلة .
وهو قسمان :
القسم الأول : قضاء كامل ..
مثاله :
في العبادات : قضاء الفائتة في الجماعة .
وفي المعاملات : ضمان المغصوب المِثلِيّ مِن قليل أو موزون أو معدود .
القسم الثاني : قضاء قاصر ..
(1) انظر : شرح تنقيح الفصول /76 وشرح المحلي على جمع الجوامع مع البناني 1/118 والضياء اللامع 1/243
(2) انظر : شرح اللمع 1/235 والمحصول 1/27 وشرح تنقيح الفصول /73 وروضة الناظر /57
مثاله :
في العبادات : قضاء الصلاة الفائتة منفرِداً .
وفي المعاملات : ضمان المغصوب بالقيمة إذا لم يكن له مِثل ، أو كان له مِثل ولم يوجَد في الأسواق .
النوع الثاني : القضاء بمِثل غير معقول ..
وهو : القضاء بغير مِثله ، أي لا تدركه عقولنا .
مثاله :(1/63)
في العبادات : الفدية لِلصيام ، والمماثَلة بين الصيام والفدية لا تُعقَل بينهما لا صورةً ولا معنى .
وفي المعاملات : ضمان النفس والأطراف بالمال في حالة الخطأ ، فالمماثَلة بين الآدميّ والمال غير معقولة ؛ لأنه مالك ، والمال مملوك .
النوع الثالث : القضاء شبيه الأداء ..
مثاله :
في العبادات : قضاء تكبيرات العيد في الركوع عند أبي حنيفة ومحمد ـ رحمهما الله ـ إذا أَدرَك الإمامَ وخاف أن يرفع رأسه منه لو اشتغل بها فكبَّر لِلافتتاح ثم لِلركوع ثم أتى فيه بها ، خلافاً لأبي يوسف ..
وهنا يُعَدّ الإتيان بالتكبيرات في الركوع قضاءً باعتبار فوت موضعها وهو القيام ، لكنه شُبِّه بالأداء باعتبار أن الركوع شبه القيام باعتبار بقاء الاستواء في النصف الأسفل .
وفي المعاملات : إذا أَمهَر عبداً غير معيَّن كان العقد صحيحاً عند الحنفية ـ خلافاً لِلشافعي رحمه الله ـ لأن الجهالة في الوصف لا في الجنس : كتسمية ثوب أو دابة ..
أمّا كوْنه قضاءً : فلأن قيمة الشيء غيْره ، فتسليم قيمة العبد مِثل الواجب لا عيْنه .
وأمّا كونه أداءً : فلأن العبد لَمّا كان مجهول الوصف لا يمكن تسليمه إلا بتقويمه ، فصارت القيمة أصلاً مِن هذا الوجه ، ولِذا تُجبَر الزوجة على قبول قيمته (1) .
أمّا هل يستلزم القضاء أمراً جديداً أم لا ؟ فسيأتي تفصيل القول فيه في مطلب مستقل بإذن الله تعالى .
(1) انظر : أصول السرخسي 1/57 - 59 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار لِلبخاري 1/362 - 369 وتيسير التحرير 2/203 - 207 والتوضيح مع التلويح 1/316 - 324 وشرح ابن ملك /41 - 47 وفتح الغفار 1/52 - 56 وكشف الأسرار لِلنسفي مع نور الأنوار 1/76 - 85 وشرح إفاضة النور مع حاشية نسمات الأسحار /38 - 40
المطلب الثالث
بمَ يتحقق الأداء ؟
ويختلف إدراك الأداء تبعاً لاختلاف وقت المأمور به مِن حيث الضيق والتوسعة :(1/64)
فإن كان وقت المأمور به مضيّقاً فلا خلاف في أن المأمور به يجب إيقاعه في الوقت المحدَّد ، فلا يُقدَّم ولا يؤخَّر عنه : كصوم رمضان ..
وأرى منه وقت الجمعة ، وتُدرَك بركعة عند الجمهور ؛ لِقوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُه } (1) .
وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنها تدرَك بأقلّ .
وعلى رأي الجمهور يجب الظهر على مَن أَدرَك أقَلّ مِن ركعة ، وهو ما أميل إليه ؛ لِلنص الثابت في ذلك .
وإن كان وقت المأمور به موسّعاً ففيه خلاف :
فالجمهور يرون أن وقت الأداء هو الكل ، لا جزء منه بعينه (2) .
ويرى أكثر العراقيين مِن الحنفية أن وجوب الأداء يتعلق بآخِر الوقت .
واختلفوا في صفة المؤدَّى في أول الوقت :
فعند بعضهم هو نفْل يمنع لزوم الفرض .
وعند البعض الآخَر الوقوف على ما يظهر مِن حال آخِر الوقت (3) .
(1) رواه النسائي وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما .
(2) انظر : مغني المحتاج 1/280 والمغني لابن قدامة 2/159 والهداية 1/84 وتقرير الشربيني مع البناني 1/187 وغاية الوصول /215 ، 216 والشرح الصغير لِلدردير 1/381
(3) انظر أصول السرخسي 1/31 ، 32
وأمّا إذا تَضيَّق الوقت فقد اختلف العلماء في تحقق الأداء فيه ، وهذا الوقت إما أن يَسَع ركعةً أو دونها :
فإن أَدرَك ركعةً في هذا الوقت والباقي خارجه فالجمهور يرون إدراك الفرض بركعة يسجد فيها في الوقت ..
دليلهم : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَة } (1) .
وأمّا إذا أَدرَك دون الركعة في الوقت فقد ذهب بعض الشافعية إلى أنه يُعَدّ مدرِكاً لِلفرض وأن هذا البعض كإدراك ركعة (2) ، وهو رأْي أشهب مِن المالكية (3) وجمهور الحنفية (4) ..
أمّا الحنابلة فلهم روايتان :
إحداهما : لا يدركها .
والثانية : يدركها .(1/65)
قال القاضي : ظاهِر كلام أحمد أنه يكون مدرِكاً لها بإدراكه .
وقال أبو الخطاب : مَن أَدرَك مِن الصلاة مقدار تكبيرة الإحرام قبل أن يخرج الوقت فقد أَدرَكَها .
وسندُ القائلين بالإدراك لأقَلّ مِن ركعة : حديث { مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَه } (5) ، ولأن الإدراك إذا تَعلَّق
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) انظر : المهذب 1/191 ، 192 وشرح صحيح مسلم 5/105 ، 106 ومغني المحتاج 1/126 127
(3) الشرح الصغير 1/179 ، 180
(4) بدائع الصنائع 1/96
(5) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
به حكْم في الصلاة استوى فيه الركعة وما دونها (1) .
والجمهور يَعتبِرون مَن أَدرَك ركعةً في الوقت مؤدياً .
وقال بعض الشافعية : تكون الصلاة كلها قضاءً .
وقال بعضهم : ما وَقَع في الوقت أداء ، وما بعْدَه قضاء .
ولكن ظاهر النص مع الجمهور ، وهو ما أُرَجِّحه .
وأمّا إدراك ما دون الركعة فالجمهور يرون أن كلها قضاء .
وقال بعض الشافعية : إن إدراك بعض الركعة كإدراك الركعة ، فمَن قال هناك بالإدراك ـ الأداء ـ فكذلك هنا (2) .
وإني في هذا المقام أميل إلى القول بأن مَن أَدرَك بعض ركعة يُعتبَر مُدرِكاً ومؤدياً وسقطَت عنه المطالَبة بأدائه ..
ودليلي في ذلك : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَه } ، ولأن الإدراك ـ كما قال الخطابي ـ إذا تَعلَّقَ به حكْم في الصلاة استوى فيه الركعة وما دونها .(1/66)
وبناءً على القول الراجح عندي فيما دون الركعة يكون مَن أَدرَك الإمام قبل التسليمة الأولى في غير الجمعة مُدرِكاً لِلجماعة وإن كانت لا تُحسَب له ركعةً ؛ لِقوله - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا جِئْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا وَلاَ تَعُدُّوهَا وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَة } (3) ، وفي الصحيحيْن { فَمَا أَدْرَكْتُم ( أي مِن الصلاة مع الإمام ) فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا } (4) .
(1) انظر المغني لابن قدامة 1/386 ، 387
(2) انظر : شرح صحيح مسلم 5/105 ، 106 ومغني المحتاج 1/131
(3) رواه الدارقطني وابن خزيمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(4) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة وأبي قتادة رضي الله عنهما .
وهذا هو الصحيح عند الشافعية (1) ، وإليه ذهب الحنفية (2) وبعض المالكية (3) والحنابلة (4) .
(1) مغني المحتاج 1/231
(2) انظر بدائع الصنائع 1/96
(3) انظر بلْغَة السالك 1/319
(4) الشرح الكبير لِلمقدسي 2/10
المبحث الرابع
أحكام الواجب
ولِلواجب أحكام تحتاج إلى تفصيل ودراسة مستفيضة ، جمعتُ أَبرَزَها وأَشهَرَها في هذا المبحث الذي يحوي خمسة مطالب :
المطلب الأول : الواجب المخيّر .
المطلب الثاني : الواجب الكفائي .
المطلب الثالث : الواجب الموسّع .
المطلب الرابع : القضاء هل يستلزم أمراً جديداً ؟
المطلب الخامس : مقدمة الواجب .
ونفصِّل القول في كل واحد منها فيما يلي ..
المطلب الأول
الواجب المخيّر
وسوف يكون الكلام في الواجب المخَّير على النحو التالي :
أولاً : شروط التخيير .
ثانياً : تحرير محل النزاع .
ثالثاً : مذاهب الأصوليين في الواجب المخيّر .
رابعاً : أدلة المذاهب .
خامساً : تعقيب وترجيح .
سادساً : ما يتفرع على الواجب المخيّر .
وفيما يلي نفصِّل القول في كل واحد منها :
أولاً : شروط التخيير(1/67)
لقد ذكر الأصوليون شروطاً لِلتخيير ، أَذكر ما وقفتُ عليه منها فيما يلي :
1- أن يتمكن المكلَّف مِن الفعليْن : بأن يَقدر عليهما ، ويتميزان له .
2- أن يتساوى الفعلان في الصفة التي تَناوَلها العبد ، نحو : أن يكونا واجبيْن أو مندوبَيْن ، فلا تخيير بين واجب ومندوب (1) .
3- أن يكون وقتها ـ أي الأشياء المخيّر فيها ـ واحداً ، بأن يتأتى الإتيان لِكل واحد منها في وقت واحد بدلاً عن أغيارها .
(1) المعتمد 1/78 بتصرف .
4- أن لا يكون التخيير فيها بين أصل وفرْعه ولا بين مبْدَل وبدله : كالمسح على الخفيْن وغسل الرِّجليْن ، فليس في ذلك تخيير عندهم بالمعنى المصطلَح ؛ لأن المسح بدل (1) ..
وبيَّن الزركشي أن هذا البدل معلَّق على شرط ، ولِذا لا يَجوز التخيير فيه ، رادّاً بذلك على مَن جَعَل المسح على الخفين وغسْل الرِّجليْن مِن الواجب المخير ، فقال في ذلك :" دوام اللبس التخيير ، بل واجبه المسح ، فإن نَزَع فالغسل ، ولأن غسْل الرِّجل لا يكون إلا عند فوات جواز المسح على الخف ، إلا أن يقال : إن الرِّجل تُغسَل وهي في الخف " ا.هـ (2) .
ثانياً : تحرير محل النزاع
اتفق الأصوليون على أن الأمر بشيء معيَّن يقتضي إيجاب ذلك المعيَّن وأنه يجب الإتيان به ، ولا يَجوز العدول عنه إلى غيره .
ولكن اختلفوا في الأمر بواحد مِن أشياء معيَّنة على سبيل التخيير ..
مثل : قوله تعالى في كفارة اليمين { فَكَفَّرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّام } (3) فالأمر الضمني في الآية الكريمة ـ وهو : كَفِّروا ـ المستفاد مِن المصدَر في قوله تعالى { فَكَفَّرَتُه } قد تَعلَّقَ بواحد لا بعينه مِن أمور ثلاثة ، وهي : الإطعام أو الكسوة أو تحرير رقبة ، وقد عَطَف بعضها على بعض بلفظ يقتضي التخيير بينها (4) .(1/68)
(1) انظر : المعتمد 1/78 والبحر المحيط 1/197 – 199 وتقرير الشربيني مع البناني 1/175
(2) البحر المحيط 1/199
(3) سورة المائدة مِن الآية 89
(4) انظر : التمهيد لأبي الخطاب 1/335 ، 336 وتيسير التحرير 2/211 ، 212 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/89 ، 90
ولِذا كان الأمر بهذا الواحد المبهَم ضِمن أشياء معيَّنة هو محلّ الخلاف بين الأصوليين .
ثالثاً : مذاهب الأصوليين في الواجب المخيّر
اختلف الأصوليون في حكْم المأمور به على التخيير إلى عدة مذاهب :
المذهب الأول : أن الواجب منها واحد لا بعينه ..
وهو مذهب أهل السُّنَّة (1) ، وقال الباقلاني : إنه جماع السلف وأئمة الفقه (2) .
المذهب الثاني : أن الواجب جميع الخصال ، ويسقط بفعل واحد منها ..
وهو قول جمهور المعتزلة (3) ، واختاره الجبائي وابنه أبو هشام (4) ، وعليه الشيعة (5) ، واختاره الشريف المرتضى (6) والكرخي مِن الحنفية وابن خويز بن منداد مِن المالكية (7)
وقالوا : معنى وجوب الكل : أنه لا يَجوز لِلمكلَّف الإخلال بالجميع ، ولا يجب عليه الإتيان بالجميع ، بل لو فعل واحداً منها لَتأدى الواجب به وسقط به التكليف عنه ؛ فجميعها عندهم واجب على التخيير .
واختار أبو الحسين البصري أن الجميع واجب على البدل ، بمعنى أنه
(1) شرح الكوكب المنير 1/380
(2) انظر : شرح تنقيح الفصول /152 وشرح العضد 1/238
(3) انظر : المغني لِلقاضي عبد الجبار 17/122 ، 123 والتمهيد لأبي الخطاب 1/236 والبحر المحيط 1/187
(4) المعتمد 1/79
(5) مبادئ الوصول /102
(6) الذريعة لو /17
(7) انظر : إحكام الفصول /208 والبحر المحيط 1/187
لا يَجوز لِلمكلَّف الإخلال بجميعها ، ولا يَلزمه الجمع بينهما ، ويكون فِعل كل واحد منها موكولاً إلى اختياره ؛ لِتَساويها في وجه الوجوب (1) .(1/69)
وذهب بعض المعتزلة إلى أن المكلَّف لو أتى بالكل يثاب على كل واحد ثواب الواجب ، ولو تَرَك الكل يعاقَب على ترك كل واحد ، ولو أتى بواحد يسقط عنه الباقي (2) .
المذهب الثالث : أن الواجب واحد ، منها معيَّن عند الله تعالى غيْر معيَّن عندنا ..
وهذا المذهب ـ كما قال الفخر الرازي ـ :" يرويه أصحابنا عن المعتزلة ، ويرويه المعتزلة عن أصحابنا ، أي أن كلاًّ منهما يرمِي به الآخَر " ا.هـ (3) ، ولِذا يُسمَّى " قول التراجُم " ؛ لأن كلاًّ مِن المعتزلة والأشاعرة يَرجم به الآخَر .
وهذا المذهب الذي لم يُنسَب إلى أحد اتفقَت المعتزلة والأشاعرة على فساده ، ولم يَقُلْ به قائل (4) ..
ومع ذلك اتضح أن هناك ثلاث فِرَق تندرج تحت هذا المذهب :
الفرقة الأولى : وتقول : إن الواجب معيَّن عند الله تعالى ، ويتعين بفعل المكلَّف ..
حكاه أبو الخطاب في تمهيده (5) وابن السمعاني في " القواطع " (6)
(1) المعتمد 1/79
(2) حقائق الأصول 1/185
(3) المحصول 1/274
(4) انظر : المحصول 1/274 والمسوّدة /28 والإبهاج 1/87
(5) التمهيد لأبي الخطاب 1/337
(6) انظر : قواطع الأدلة لو /26
وأَغرَبَ ونَسَبَه إلى الأصحاب ، وذَكَر الزركشي أن الباجي قال : إنه قول معظَم أصحاب مالك (1) ..
وهذه النسبة لِلباجي محل نظر ؛ لأني لم أجد عند المالكية (2) ما يؤكد هذا القول ، بل الثابت عنهم أن الواجب واحد غير معروف ، وهو ما يَفعله المكلَّف ، قال الباجي في " المنتقَى " :" الجاري على أصولنا في الواجب المخيَّر أنه غير معيَّن ، ولِلمكلَّف تعيينه " ا.هـ (3) .
ولِذا فالمالكية يقولون قول الجمهور : بأن الواجب غير معيَّن ، ولم يثبت قولهم أنه معيَّن عند الله تعالى .
الفرقة الثانية : وتقول : إن الواجب معيَّن عند الله تعالى ، ويتعين باختيار المكلَّف ..
ونُسِب إلى بعض المعتزلة .(1/70)
والواجب على هذا القول يختلف تبعاً لاختلاف المكلَّفين فيما يختارونه فالواجب على كل مكلَّف هو ما يختاره (4) .
الفرقة الثالثة : وتقول : إن الواجب معيَّن عند الله تعالى ، فإن فَعَله المكلَّف فذاك ، وإن فَعَل غيره سقط عنه الواجب ؛ لأنه فَعَل ما يقوم مقامه ..
وقال بعضهم : وقع نقلاً ، وسقط الواجب به ..
(1) البحر المحيط 1/187
(2) انظر : جامع الفصول /208 وشرح تنقيح الفصول /152 ومختصر المنتهى 1/235
(3) الضياء اللامع 1/317
(4) انظر : مختصر المنتهى 1/235 وبيان المختصر 1/345 وجمع الجوامع مع البناني 1/229 ، 230 وشرح العضد 1/236 ومُسلَّم الثبوت 1/66 ، 67 وتيسير التحرير 1/212 والتقرير والتحبير 2/134 والضياء اللامع 1/317 ومباحث الحكم عند الأصوليين /85 ، 86 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/91 ، 92
ونُسِب إلى المعتزلة (1) .
رابعاً : أدلة المذاهب
أدلة المذهب الأول :
استدل أصحاب المذهب الأول ـ القائلون بأن الواجب واحد لا بعينه ـ بأدلة ، منها ما هو نقلي ، ومنها ما هو عقلي ..
الدليل النقلي : قوله تعالى { فَكَفَّرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة } (2) (3) ..
وجه الدلالة : أن الله تعالى أمَر الحانث في يمينه بأن يُكفِّر عنه بواحد مِن الإطعام أو الكسوة أو تحرير رقبة ، وخيَّرَه بينها ..
وأمارة ذلك : عطْف الخصال بكلمة { أَو } والتي تفيد هنا التخيير ، مما يدل على أن المأمور به بواحد منها لا بعينه .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهيْن :
الوجه الأول : لا نسلِّم لكم أن الآية دالة على التخيير بين خصال الكفارة ، وإنما هي إخبار عمّا يوجَد مِن الكفارة ..
وتقدير هذا الخبر : ما يوجَد مِن الكفارة هو إطعام مِن حانث ، أو كسوة مِن حانث آخَر ، أو تحرير رقبة مِن حانث آخَر ..
ولِذا كان استدلالكم بها في غير محله .(1/71)
الجواب عن هذا الوجه :
وقد رُدّ هذا الوجه : بأن اعتراضكم منقوض بإجماع الأمة على أن
(1) انظر المراجع السابقة .
(2) سورة المائدة مِن الآية 89
(3) انظر : المعتمد 1/79 ، 80 وبيان المختصر 1/347
الآية واردة في إيجاب كفارة اليمين وليست خبراً ، إلا إن أردتم خبراً تَضمَّن أمراً ، وهنا لا يكون لاعتراضكم معنى (1) .
الوجه الثاني : سلَّمْنا أن المراد بالآية إيجاب الكفارة ، لكن لا نسلِّم أنها دالة على تخيير كل حانث بين الخصال الثلاث ، وإنما المراد بها إيجاب الإطعام على البعض ، وإيجاب الكسوة على البعض ، وإيجاب تحرير رقبة على البعض ..
فكأنه قال : فكفارته إطعام عشرة مساكين لِبعضهم ، أو الكسوة لِلبعض الآخَر ، أو العتق لِلبعض الآخَر ..
وإذا كان كذلك فإن الآية لا تَصلح دليلاً لِمدّعاكم .
الجواب عن هذا الوجه :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة مِن وجوه :
الأول : أن الخطاب في قوله تعالى { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو } (2) خطاب لِلكفاية ، وليس فيه ما يدل على تخصيص بعضهم بإطعام أو كسوة أو تحرير رقبة .
الثاني : أنّ حمْل الآية على ما ذكرتم يحتاج إلى إضمارات كثيرة في الآية وهو خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلا لِدليل أو حاجة ، وهو غير متحقِّق في الآية الكريمة .
الثالث : أننا لو سلَّمْنا جدلاً أن المراد بالآية هو إيجاب كل خصلة مِن الخصال الثلاث على البعض ولم يبيِّن الله تعالى لنا أمارات كل صنف منها لكان الواجب حينئذٍ مجهولاً لِلمكلَّفين ولا يمكنهم فِعله ؛ لِعدم معرفتهم
(1) انظر الإحكام لِلآمدي 1/143 ، 145
(2) سورة المائدة مِن الآية 89
لِلقِسْم الذي ينتمون إليه ، وهذا نوع مِن التكليف بالمُحال ، وهو ممنوع في أمر الشرع (1) .(1/72)
الدليل العقلي : أن السيد إذا قال لِعبده :" أوجبتُ عليك خياطة هذا الثوب أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم ، أيَّهما فعلتَ فقد أتيتَ بالواجب ، وإن تركتَ الجميع عاقبتُك ؛ لِتركِك أحدهما ، ولستُ آمراً أن تجمع بينهما ، وإنما يكفيني واحد لا بعينه " كان هذا كلاماً معقولاً ، ولا يلزم منه مُحال (2) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أنه لم يوجِب عليه شيئاً .
الجواب عن هذا الوجه :
وقد رُدّ هذا الوجه : بأن لفْظ الإيجاب صريح في أمره ، كما أنه عرَّضَه لِلعِقاب بترك الجميع .
الوجه الثاني : أنه أَوجَبَ الجميع .
الجواب عن هذا الوجه :
وقد رُدّ هذا الوجه : بأنه صرَّح بنقيضه ، وهو :" لستُ آمراً أن تجمع بينهما " ، ولو أنه أَوجَبَ الجميع لَمَا سقط الواجب بفعل أحدهما .
الوجه الثالث : أنه أَوجَبَ واحداً بعينه .
الجواب عن هذا الوجه :
وقد رُدّ هذا الوجه : بأن كلمة " أو " هنا تفيد التخيير لا التعيين .
(1) انظر : المعتمد 1/80 والتمهيد لأبي الخطاب 1/34 والإحكام لِلآمدي 1/143 – 145
(2) انظر المستصفى 1/67 وشرح العضد 1/336 وروضة الناظر /32 وبيان المختصر 1/346 347 ونزهة الخاطر 1/95
وإذا كان كذلك كان الواجب على العبد أحدهما لا بعينه ، وهو المدَّعَى (1) .
أدلة المذهب الثاني :
استدل أصحاب المذهب الثاني ـ القائلون بأن الجميع واجب ، ويسقط بفعل واحد منها ، بأدلة ، أَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { فَكَفَّرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة } ..(1/73)
وجه الدلالة : أن الله تعالى خيَّر الحانثَ في يمينه بين الخصال الثلاث والتخيير يدل على التساوي ، وإذا كانت الخصال الثلاث متساوية الصفات عند الله تعالى بالنسبة إلى صلاح العبد فينبغي أن تكون جميعها واجبةً ؛ تسويةً بين المتساويات ، ومع وجوبها جميعاً فإن الواجب يتأدى بفعل واحد منها (2) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أنه لا يلزم مِن تَساوِي الصفات وجوب الجميع ؛ فقد يتساوى الجميع في الخطاب ولا يجب الجميع : كما لو قال :" اقتل رجلاً مِن المشركين " فإنّ كل رجل مِن المشركين يدخل في هذا الأمر بالقتل ، وليس فيه مزية لِبعض على بعض ، ولا يتعلق الوجوب بالجميع (3) .
الوجه الثاني : أن دليلكم مَبْنِيّ على وجوب الأصلح على الله تعالى ، وهو
(1) انظر : المستصفى 1/67 وروضة الناظر /32 وبيان المختصر 1/346 ، 347 ونزهة الخاطر 1/95
(2) انظر : المعتمد 1/79 – 81 والمستصفى 1/68 والعدة 1/306
(3) انظر : اللمع 1/241 والمستصفى 1/68 والإحكام لِلآمدي 1/144 ، 145
فاسد ؛ لأنه لا يجب في حقه تعالى شيء (1) .
الوجه الثالث : أنه إذا جاز أن ينوب بعض المخيَّر فيه عن سائره في الامتثال جاز أن ينوب عنه في الوجوب (2) .
الدليل الثاني : أن الواجب لو كان واحداً لا بعينه لَعيَّنَه الله تعالى لِلعبد ؛ لأن غيْر المعيَّن مجهول ويستحيل وقوعه ، فلا يُكلّف به ..
فدل ذلك على أن الواجب ليس مجهولاً ، وإنما هو جميع الخصال ، ويسقط بفعل واحد منها ، وهو المدَّعَى (3) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأن التكليف معلَّق على اختيار المكلَّف في واحد مِن ثلاثة ..
ولِذا كان الواحد معيَّناً مِن حيث هو واجب ، وهو مفهوم واحد مِن الثلاثة ، وكان غيرَ معيَّن مِن حيث عدم خصوصية واحد مِن الثلاثة بعينه ، وإذا كان الواحد معيَّناً مِن وجه لم تَبْقَ جهالة ، ولا مانع مِن التكليف به (4) .
أدلة المذهب الثالث :(1/74)
استدل أصحاب المذهب الثالث ـ القائلون بأن الواحد واحد معيَّن عند الله تعالى ـ بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أن المكلَّف لو أتى بجميع الخصال في وقت واحد فالامتثال
(1) انظر الإرشاد إلى قواطع الأدلة /247 – 256
(2) إحكام الفصول /210
(3) انظر : المعتمد 1/81 والتمهيد لأبي الخطاب 1/351 وشرح العضد 1/237 وفواتح الرحموت 1/67
(4) انظر المراجع السابقة .
إما بالكل ، فالكل واجب ، وهو باطل بالإجماع ..
أو بكل واحد ، فتجتمع مؤثرات ـ وهي الإطعام والكسوة والإعتاق ـ على أثر واحد وهو الامتثال ، وهو مُحال ، ولا يجوز أن يكون الامتثال بفعل واحد غير معيَّن ؛ إذ لا وجود لِمَا لا تَعيُّن له .
لم يبقَ إلا واحد معيَّن ، وهو المطلوب .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأن المكلَّف لو أتى بكل واحد مما خُيِّر فيه كان هذا الإتيان معرِّفاً لِلامتثال وعلاقةً له ، ولا مانع مِن اجتماع معرِّفات على معرّف واحد : كإفراد العالم لِلصانع (1) .
الدليل الثاني : أن الوجوب أمرٌ معيَّن ، فيستدعي محلاًّ معيَّناً ؛ لامتناع أن يكون غير المعيَّن محلاًّ لِلمعيَّن ..
فمحلّه : إمّا أن يكون الكل ، أو كل واحد ، أو واحداً معيَّناً ، وليس الكل ، ولا كل واحد ؛ وإلا وَجَب الكل ، فتَعيَّن الواحد المعيَّن ، وهو المطلوب .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نسلِّم ذلك ، بل إن الوجوب يستدعي أحد الخصال لا بعينه وإن كان لا يقع إلا في معيَّن ، وأحدها لا بعينه موجود وله تعيين مِن وجه ، وهو أنه أحد هذه الثلاث ، وذلك كالمعلول المعيَّن قبل الحَدَث ، فإنه يستدعي عليه مِن غير تعيين ، وهو إما البول أو اللمس أو غير ذلك مِن نواقض الوضوء .(1/75)
(1) انظر : المحصول 1/275 – 279 ومنهاج الوصول /9 ومعراج المنهاج 1/76 – 79 والإبهاج 1/88 – 90 وحقائق الأصول 1/191 – 195 ونهاية السول 1/106 – 111 ومنهاج العقول 1/105 – 112 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/97 ، 98 وغاية الوصول /282
خامساً : تعقيب وترجيح
بعد الوقوف على مذاهب الأصوليين وأدلتهم في الواجب المخيَّر أرى أنّ أَوْلاها بالقبول والترجيح هو المذهب الأول القائل بأن الواجب واحد لا بعينه ، وذلك لِمَا يلي :
1- أن الأدلة التي استند إليها المذهب الراجح معضَّدة بخير الأدلة وأَفضلِها وهو : الكتاب ، ثم الإجماع ، إضافةً إلى الدليل العقلي ، وجميعها قد سلمَت مِن المُعارِض الراجح .
2- أن الأدلة التي استند إليها المذهب الثاني قد رُدَّت جميعها ولم تَسلَم مِن الاعتراض والمناقشة .
3- أن المذهب الثالث مذهب لا يُعرَف له قائل ، وكلّ فريق مِن أهل السُّنَّة والمعتزلة يرمِي به الآخَر ، مع اتفاقهما على فساده :
عند أهل السُّنَّة : شرْط التكليف أن يَفهم المكلَّف ما كُلِّف به ، ولا يفهمه إلا إذا كان معلوماً عنده .
وعند المعتزلة : يجب أن يكون المكلَّف عالِماً بما كُلِّف به أيضاً ؛ لأن مدار الأحكام والتكليف على ما يدركه العقل وحسنه وما فيه مصلحة ، وهذه الأمور لا تُتصور إلا في فعل مخصوص معيَّن عند العبد .
ومِن هنا كان هذا القول منافياً لِقواعد الفريقين (1) .
4- ومع اتفاق الفريقين على فساده ، لكن المتكلمين ـ وجرياً على عادتهم ـ قد احتجّوا وافترَضوا لِهذا المذهب حُججاً وأدلةً ، وقد رُدَّت جميعها ؛ لِتبرهن أن المذهب الأول هو الأَوْلى بالقبول والترجيح .
5- أن الخلاف في هذه المسألة أراه خلافاً لفظيّاً وليس حقيقيّاً ..
(1) انظر سلم الوصول 1/141 ، 142
فالمذهب الأول يرى أن الواجب أحد الأمور لا بعينه ، والمكلَّف مخيَّر بينها بأن يأتي ما شاء منها ، ولا يسقط التكليف عنه إلا بفعله .(1/76)
والمذهب الثاني يرى أن الكل واجب على التخيير ..
ومعنى ذلك ـ كما قال أبو الحسين البصري ـ :" أنه لا يجوز الإخلال بأجمعها ، ولا يجب الجمع بين اثنين منها ؛ لِتَساويهما في وجه الوجوب " ا.هـ (1) .
فالمذهبان ـ كما أرى ـ يتفقان فيما يلي :
1- أن المكلَّف مخيَّر بين واحد مِن أمور معيَّنة : كخصال الكفارة ، وأيها فَعَل سَقَط به الواجب .
2- أنه لا يجوز الإخلال بجميعها ؛ وإلا كان آثماً .
3- أنه لا يجب الجمع بين اثنين منها ؛ لِتَساويها في الوجوب .
ويختلف المذهبان في تفسير وجوب الجميع :
فإن فسَّرْناه بأن كل واحدة مِن الخصال واجبة عليه وتَسقط بفعل واحدة منها كان الخلاف معنويّاً ..
وذَكَر الآمدي أن هذا منقول عن الجبائي وابنه (2) ، وقال بمعنوية الخلاف القاضي أبو الطيب الطبري ، وهو الذي يظهر مِن كلام الغزالي وابن فورك (3) .
وإن فسَّرْناه بأنه لا يَجوز الإخلال بجميعها وتَسقط بفعل واحد منها يختاره المكلَّف كان الخلاف لفظيّاً ..
(1) المعتمد 1/79
(2) الإحكام لِلآمدي 1/143
(3) البحر المحيط 1/191
وبه قال كثير مِن الأصوليين ، منهم البصري (1) والشيرازي (2) وابن برهان (3) وإمام الحرمين (4) والبخاري (5) .
كما أن الخلاف يكون معنويّاً إذا نسبْنا المذهب الثالث إلى أي المذهبيْن .
وأَذكر بعض أقوال الأصوليين التي تؤيد وجهتي :
قال إمام الحرمين :" وهذه المسألة أراها عريةً عن التحصيل ؛ فإن النقل ـ إن صح عنه ( أبي هاشم ) ـ فليس آيلاً في التحقيق إلى خلاف معنوي " ا.هـ (6) .
وقال ابن برهان :" والمسألة لفظية ، ليس فيها فائدة مِن جهة الفقه ، وذلك أنه يسلم لنا أن الجميع ليس بواجب ، على معنى أنه يعصي بترك الجميع ولا يعاقَب على الجميع ، ونحن نساعده على أنها متساوية في المصلحة ، فلا يبقى إلا إطلاق اسم الوجوب ، وذلك خلاف في العبارة ، وخط المعنى مُسلَّم مِن الجانبين " ا.هـ (7) .(1/77)
وقال القرافي :" وعند التحقيق تستوي المذاهب في هذه المسألة وتبقى لا خلاف فيها " ا.هـ (8) .
سادساً : ما يتفرع على الواجب المخيّر
لقد تَرتَّب على الخلاف في هذه المسألة آثار فقهية وتَفرَّعَ عليها فروع
(1) المعتمد 1/79
(2) شرح اللمع 1/240
(3) الوصول إلى الأصول 1/173
(4) البرهان 1/268
(5) كشف الأسرار لِلبخاري 2/277
(6) البرهان 1/268
(7) الوصول إلى الأصول 1/173
(8) شرح تنقيح الفصول /152
أكتفي منها في هذا المقام بفرعيْن :
الفرع الأول
إذا فَعَل جميع خصال الكفارة فإما أن يفعلها مرتَّبةً أو مجتمِعةً ..
فإن فَعَلها مرتَّبةً فالواجب هو الأول ، والباقي يُعَدّ له نفلاً .
وإن فَعَلها مجتمِعةً بأن وكَّل غيرَه في أداء جميع الخصال مِن إطعام وكسوة وعتق ففعلوها في وقت واحد ..
وهنا إما أن تتساوى هذه الخصال في الثواب والأجر أو لا ..
فإن تساوت في الثواب والأجر أثيبَ على واحد منها ثواب الواجب ، والباقي تُعَدّ له نافلةً .
وإن تفاوتَت في الأجر أثيبَ على أعلاها ؛ لأنه لو اقتصَر عليه لكان فيه ثواب الواجب ، فإضافة غيرِه إليه لا تُنقِصه ، وذلك قياساً على القول الراجح ، وهو أن الواجب أحدها لا بعينه ، وإن تَرَك الجميع عُوقِب على أقَلّها ؛ لأنه لو اقتصَر عليه أجزأه (1) .
(1) انظر : شرح اللمع 1/243 والبرهان /268 والمسوّدة /28 وجمع الجوامع /128 والتمهيد لِلإسنوي /81 والبحر المحيط 1/192 ، 193 والضياء اللامع 1/318 ، 319 وشرح المحلي مع البناني 1/179 ، 180 وشرح الكوكب المنير 1/383 ، 384
الفرع الثاني
إذا قال لِزوجتَيْه :" إحداكما طالق " ، أو أَعتَقَ أحد عبديْه ..
فإن قلنا :" الواجب مبهَم " فالطلاق حينئذٍ يكون مبهَماً ، فلا يقع إلا عند التعيين ، ولو اختار واحدةً منهما تعينَت لِلطلاق ووقع طلاقه ؛ جرياً على القول الراجح .
وإن قلنا :" الكل واجب " فقد وقع على واحدة منهما مِن حين اللفظ (1) .(1/78)
(1) انظر : روضة الطالبين لِلنووي 6/201 والإحكام لِلآمدي 1/146 والبحر المحيط 1/194 وبذل النظر /78
المطلب الثاني
الواجب الكفائي
وسوف يكون الكلام في الواجب الكفائي على النحو التالي :
أولاً : أقسام الواجب الكفائي .
ثانياً : حكْم الواجب الكفائي .
ثالثاً : مذاهب الأصوليين في الواجب الكفائي .
رابعاً : أدلة المذاهب مع الترجيح .
خامساً : تعيين الواجب الكفائي .
سادساً : حكْم إتمام الواجب الكفائي .
سابعاً : ما يتفرع على الواجب الكفائي .
ونفصِّل القول في كل واحد منها فيما يلي :
أولاً : أقسام الواجب الكفائي
لقد قسّم الأصوليون الواجب الكفائي إلى قسميْن :
الأول : باعتبار المصلحة وتَكرُّرها .
والثاني : باعتبار المصلحة الدينية والدنيوية .
وفيما يلي أُفصِّل القول فيهما :
أولاً – التقسيم الأول : باعتبار المصلحة وتَكرُّرها ..
والواجب الكفائي بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسميْن :
القسم الأول : ما لا تتكرر مصلحته بتكرار الفعل الواجب ، وإنما يحصل تمام المقصود بمَن أدى الفعل أولاً ، ولا مصلحة في أداء الفعل بعد ذلك ..
ومثاله : إنقاذ الغريق ، فالمصلحة هنا تتحقق بفعل أول منقِذ ، فمَن نَزَل البحر بعد ذلك مِن أجْل ذلك الغرض يُعتبَر نزوله عبثاً ولا مصلحة فيه ، ومِثله غسل الميت .
القسم الثاني : ما تتكرر مصلحته بتكرر فعله ، مع حصول تمام المقصود بمَن أدى الفعل أولاً ، فإذا أدى غيرُه ذلك الفعل مرةً ثانيةً كان في تَكررِه مصلحة ..
ومثاله : صلاة الجنازة .
وقد يَكون المكرِّر لِلفعل نفس الشخص : كالاشتغال بطلب العلم والجهاد (1) .
ثانياً – التقسيم الثاني : باعتبار المصلحة الدينية والدنيوية ..
والواجب الكفائي بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسميْن :
القسم الأول : الواجب الكفائي الديني ..
وهو : ما أَوجَبَ الشارعُ فِعلَه على الكافة لِمصلحة في الدين ..(1/79)
مِثل : تجهيز الميت والصلاة عليه ودفْنه ، فالشارع أَلزَمَ جماعة المسلمين بتجهيز الميت والصلاة عليه ودفْنه ، فإذا فَعَل البعض سَقَط الحرج عن الباقين ، وإذا تَرَكه الكل أَثِموا .
ومنه : الجهاد في سبيل الله إذا لم يدخل الكفار بلاد الإسلام ، فيكون حينئذٍ فرْض عين .
ومنه : طلبُ العلم ، والمراد هنا العلم الشرعي ، وهو قسمان :
* قِسم طلبُه فرضُ عين على كل مسلم ..
وهي : معرفة شرائع الإسلام وأركانه : كالصلاة وشروطها وأركانها
(1) انظر : شرح لب الأصول /28 وغاية الوصول /267
وما يجب عليه ، ومعرفة الحلال والحرام ..
وهذا العلم هو المقصود في الحديث { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِم } (1) .
* وقِسمٌ طلبُه فرْض كفاية ..
وهو : العلم بأحكام الفرائض واستنباط الأحكام الشرعية وما شاكَلَها ، فهذا مِن العلم المفروض على الكافة ، يسقط بفعل بعضهم .
وفيه يقول الإمام الشافعي :" فهذه درجة مِن العلم ليس تَبلغها العامة ، ولم يكلفها كل الخاصة " ا.هـ (2) .
القسم الثاني : الواجب الكفائي الدنيوي ..
وهو : ما أَوجَبَه الشرع على الكافة لِمصلحة دنيوية ، فإن فَعَله البعض تحققَت المصلحة ، وإذا تَرَكه الكل لَحِق الجميعَ الحرج والمشقة .
ومثاله : تَعلُّم الحِرَف والصناعات التي تَلزم الناس وتتحقق مصالحهم في الدنيا بها ..
ومنه : تعلُّم العلم غير الشرعي : كالهندسة والطب .
وفي ذلك يقول الغزالي :" والعلوم التي ليست شرعيةً منها ما هو فرْض كفاية ، وهو كل علم لا يُستغنَى عنه في قوام الدنيا : كالطب ؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان " ..
ثم قال :" وهذه العلوم التي لو خلا البلد عمَّن يقوم بها حرج أهل البلد ، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخَرين " ا.هـ (3) .
(1) رواه ابن ماجة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - .
(2) الرسالة لِلشافعي /360(1/80)
(3) إحياء علوم الدين لِلغزالي 1/17 وانظر : الأشباه والنظائر لِلسيوطي /414 – 416 والفقيه والمتفقه 1/46
ثانياً : حكْم الواجب الكفائي
والواجب الكفائي حكْمُه الوجوب على جميع المكلَّفين ، فإذا فَعَلَه البعض أجزأ وسقط الإثم عن الباقين ، وإذا لم يفعله أحد مِن المكلَّفين أَثِم الجميع .
والوجوب ههنا منوط بظن المكلَّف لا بالتحقيق ؛ لأن الظن مناط التعبد ، فإن ظن المكلَّف أن غيره قام بأداء الواجب الكفائي سقط الإثم عنه حتى ولو لم يفعله أحد ، وإن ظن أن غيره لم يفعله وجب عليه الإتيان به وصار فرْض عين عليه ولم يسقط عنه الإثم سواء قام به غيره أو لم يَقم ، وإن ظنت طائفة قيام غيرها به وظنت أخرى عكْسه سقط عن الأولى ووجب على الثانية (1) .
ثالثاً : مذاهب الأصوليين في الواجب الكفائي
قبل بيان مذاهب الأصوليين في هذه المسألة أرى أن أحرر أولاً محلّ النزاع ، فأقول :
لقد اتفق الأصوليون على أن الواجب الكفائي يجب الإتيان به ، ويتحقق المقصود منه بفعل البعض ويسقط الحرج والإثم عن الباقين .
كما اتفقوا على أن الجميع إذا تركوا الواجب الكفائي أَثِم الكل وليس بعضهم دون البعض .
ولكنهم اختلفوا في تعيين المخاطَب بالواجب الكفائي : هل هو جميع المكلَّفين أو بعضهم ؟ (2) على مذاهب ، أذكر ما وقفتُ عليه منها فيما
(1) انظر : المحصول 1/188 ومنهاج الوصول /11 وحقائق الأصول 1/218 ، 219 وشرح تنقيح الفصول /155 ونهاية السول 1/125 ، 126 والمسوّدة /30 والبحر المحيط 1/246 وشرح الكوكب المنير 1/367 ونشر البنود 1/190 ، 191 وغاية الوصول /263 ، 264
(2) انظر أصول الفقه لِلشيخ زهير 1/111
يلي :
المذهب الأول : أن الخطاب بالواجب الكفائي موجَّه إلى جميع المكلَّفين ..(1/81)
وهو مذهب الجمهور ، ونص عليه الشافعي في " الأم " فقال :" حق على الناس غسْل الميت والصلاة عليه ودفْنُه ، لا يسَع عامتهم ترْكُه ، وإذا قام به منهم مَن فيه كفاية أجزأ عنهم إن شاء الله تعالى " ا.هـ (1) .
وقال الإمام أحمد :" الغزو واجب على الناس كلهم ، فإذا غزا بعضُهم أجزأ عنهم " ا.هـ (2) .
واختار هذا المذهب مِن فحول الأصوليين الشيرازي (3) وأبو الحسين البصري (4) والجصاص (5) والغزالي (6) والآمدي (7) وابن الحاجب (8) وغيرهم (9) .
المذهب الثاني : أن الخطاب في الواجب الكفائي موجَّه إلى بعض المكلَّفين لا إلى جميعهم ..
وهؤلاء اختلفوا في هذا البعض :
فقال بعضهم : هو بعض مبهم ..
(1) الأم 1/274
(2) انظر شرح الكوكب المنير 1/375 ، 376
(3) انظر : شرح اللمع 1/283 واللمع /12
(4) المعتمد 1/138
(5) الفصول في الأصول 2/155
(6) المستصفى 1/68 ، 2/15
(7) الإحكام لِلآمدي 1/141 ومنتهى السول 1/23
(8) مختصر المنتهى 1/234
(9) انظر : بذل النظر /143 والمسوّدة /30 والإبهاج 1/100 والبحر المحيط 1/243 والضياء اللامع 1/324
وهو قول الفخر الرازي في " المحصول " (1) والبيضاوي (2) وابن السبكي (3) .
وقال بعضهم : هو بعض معيَّن ..
وهؤلاء اختلفوا أيضاً :
فبعضهم قال : هو معيَّن عند الله ، مبهم عندنا .
وبعضهم قال : البعض المعيَّن هم الذين قاموا به (4) .
وهذا القول ـ وهو إيجابه على بعض معيَّن ـ لم يُعرَف له قائل ، وإنما ذَكَره البعض قياساً على الكلام في الواجب المخيَّر ، والذي ثبت فيه اتفاق الجميع على فساد هذا القول وبطلان هذا المذهب .
المذهب الثالث : أن الخطاب موجَّه إلى إحدى الطوائف ، ومفهوم إحداها قدْر مشترك بينها ..
وهو قول القرافي (5) .
المذهب الرابع : أنه واجب على كل واحد ، ويسقط عنه بفعل غيره ..
وهو مذهب نَقَلَه إمام الحرمين عن القاضي (6) ، وذَكَرَه المحلي في مبادئه (7) .(1/82)
وهذا المذهب أرى به تناقضاً بين أوله وآخِره ؛ حيث أَوجَبَ في أوله
(1) المحصول 1/288
(2) منهاج الوصول /11
(3) جمع الجوامع /128
(4) انظر : الضياء اللامع 1/326 ونشر البنود 1/188
(5) شرح تنقيح الفصول /155
(6) انظر البحر المحيط 1/243
(7) مبادئ الوصول /105 ، 106
الواجب على كل واحد ، وإذا كان كذلك كان واجباً عينيّاً ، ثم ذَكَر في آخِره أنه يسقط عنه بفعل غيره ، وإذا سقط الواجب بفعل الغير كان واجباً كفائيّاً ، وهذا هو التناقض بعينه ، إلا أن يُحمَل وجوبه على كل واحد مِن حيث هو أحد المكلَّفين المخاطَبين بالواجب الكفائي لا مِن حيث ذاته ، وعلى هذا التأويل يكون هذا المذهب متفقاً مع المذهب الأول في وجوبه على الجميع مع اختلاف في لفظ العبارة .
وبعد أن تَبيَّن اتفاق المذهب الرابع مع الأول في وجوبه على الجميع تصبح المذاهب في هذه المسألة ثلاثة مذاهب :
الأول : القائل بوجوبه على الجميع .
والثاني : القائل بوجوبه على بعض غير معيَّن .
والثالث : القائل بالقدر المشترك .
رابعاً : أدلة المذاهب مع الترجيح
أدلة المذهب الأول :
استدل أصحاب المذهب الأول ـ القائلون بأن الخطاب موجَّه إلى جميع المكلَّفين ـ بأدلة ، أَذكر منها هذيْن الدليليْن :
الدليل الأول : قوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُم } (1) وقوله تعالى { وَقَتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَتِلُونَكُم } (2) وقوله تعالى { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } (3) ..
وجه الدلالة في هذه الآيات : أن الله تعالى أمَر بقتال المشركين ،
(1) سورة البقرة مِن الآية 216
(2) سورة البقرة مِن الآية 190
(3) سورة البقرة مِن الآية 191(1/83)
والخطاب في هذا الأمر موجَّه إلى جميع المكلَّفين ؛ حيث قال تعالى في الأولى { عَلَيْكُم } وفي الثانية { وَقَتِلُوا } وفي الثالثة { وَاقْتُلُوهُم } ، وجميعها تفيد العموم ، وحيث دلت الآيات على العموم كان الخطاب فيها موجَّهاً إلى كل فرد مِن أفراد المكلَّفين ، وكان القتال واجباً على جميعهم ، لكن الثابت أن بعضهم إذا قاتَل تَحقَّق الواجب وسقط الإثم عن الباقين مع أن الخطاب موجَّه إلى الجميع ..
فدل ذلك على أن الخطاب في الواجب الكفائي موجَّه إلى جميع المكلَّفين وليس إلى بعضهم ، وهو المدَّعَى (1) .
الدليل الثاني : أن الواجب الكفائي لو لم يكن واجباً على جميع المكلَّفين لَمَا أَثِم الجميع بتركه ، لكنهم جميعاً يأثمون بتركه ..
فدل ذلك على أنه موجَّه إلى الجميع ، وهو المطلوب (2) .
أدلة المذهب الثاني :
استدل أصحاب المذهب الثاني ـ القائلون بأن الخطاب في الواجب الكفائي موجَّه إلى بعض غير معيَّن ـ بأدلة ، أَذكر منها هذيْن الدليليْن :
الدليل الأول : قوله تعالى { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون } (3) ..
وجه الدلالة : أن الله تعالى أوجَبَ على بعض الأمة أن يتفقهوا في
(1) انظر : أصول الفقه لِلشيخ زهير 1/112 ، 113 وأصول الفقه الإسلامي لِلزحيلي 1/62 ، 63
(2) انظر : مختصر المنتهى 1/234 وشرح العضد وبيان المختصر 1/343 وتيسير التحرير 2/213 والتقرير والتحرير 2/135 ومُسلَّم الثبوت 1/61 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/113 وأصول الفقه الإسلامي لِلزحيلي 1/63
(3) سورة التوبة الآية 122
الدين ، وهو واجب على الكفاية في غير العلم الضروري ، وإذا تَوجه الخطاب إلى البعض في هذا الواجب الكفائي وجب في غيره كذلك ؛ لِعدم القائل بالفصل (1) .(1/84)
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأن الوجوب ليس مختصّاً بالبعض ، وإنما هو مختص بالجميع ؛ وإلا ما أَثِم الجميع بتركه ، فتأثيم الجميع بتركه أمارة على أن الخطاب موجَّه إلى الجميع ..
ومعنى الآية على ذلك : فلولا أسقط مِن كل فرقة طائفة منهم التفقه الذي أَوجَبَه الله تعالى على كل الفرقة .
وهذا الاحتمال وإن كان مرجوحاً لكن يجب حمْلُها عليه ؛ جمعاً بين الدليليْن (2) .
الدليل الثاني : أن الخطاب في الواجب الكفائي لو كان موجَّهاً إلى الجميع لَمَا سقط بفعل البعض ، لكنه يسقط بفعل البعض ..
فدل ذلك على أن الخطاب موجَّه إلى بعض المكلَّفين وليس إلى جميعهم وهو المدَّعَى .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأن ما ذكَرتم مجرد استبعاد ، ولا مانع مِن سقوط الواجب على الجميع بفعل البعض إذا حصل به الغرض : كسقوط ما على الكفيليْن بأداء أحدهما ؛ إذ المقصود وجود الفعل في الواقع ، وقد
(1) انظر : بيان المختصر 2/344 وحقائق الأصول 1/220 ومناهج العقول 1/126 والضياء اللامع 1/324 وحاشية العطار 1/239 والموافقات 1/119
(2) انظر : بيان المختصر 2/344 وحقائق الأصول 1/220
وُجِد (1) .
أدلة المذهب الثالث :
استدل القرافي على أن الواجب قدْر مشترك بين جميع الطوائف بما يأتي : قوله تعالى { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر } (2) وقوله تعالى { فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدّين } ..(1/85)
وجه الدلالة : أن الله تعالى أَوجَبَ في الآية الأولى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر ، كما أَوجَبَ في الثانية التفقه في الدين ، وكلاهما موجَّه إلى طائفة مِن المسلمين بغير تحديد لِواحدة منها دون الأخرى ، وإذا فَعَلَت إحداها هذا الواجب سقط الإثم عن الباقين ، فدل ذلك على أن الوجوب متعلِّق بالقدر المشترك ؛ لأن المطلوب فِعل إحدى الطوائف ، ومفهوم إحدى الطوائف قدر مشترك بينها ؛ لِصِدقِه على كل طائفة (3) .
مناقشة هذا الدليل :
وأرى مناقشة هذا الدليل : بأن القول بتعلق الوجوب بالقدر المشترك يجعل الواجب متعلقاً بواحد مبهم أو طائفة مبهمة مِن طوائف المكلَّفين ، وإذا كان كذلك فلَم يأثم الكل بتركه ، فدل تأثيم الكل بتركه على أن الخطاب بالواجب الكفائي موجَّه إلى جميع المكلَّفين ويسقط بفعل البعض ، وليس إلى القدر المشترك كما ادعيتم (4) .
(1) انظر : مختصر المنتهى 1/234 وبيان المختصر 2/343 والتحرير مع التيسير 2/213 ، 214 والتقرير والتحبير 2/135 ، 136 ومُسلَّم الثبوت 1/63 ، 64
(2) سورة آل عمران مِن الآية 104
(3) انظر : شرح تنقيح الفصول /15 والضياء اللامع 1/325 ونشر البنود 1/188
(4) انظر نشر البنود 1/188
ترجيح وتعقيب :
بعد بيان أدلة المذاهب في الواجب الكفائي أرى أن المذهب الأول ـ وهو الذي ذهب إليه الجمهور بأن الخطاب في الواجب الكفائي موجَّه إلى جميع المكلَّفين ـ هو الأَوْلى بالقبول والترجيح ؛ لِمَا يلي :
1- قوة أدلتهم ، وسلامتها مِن المناقشة .
2- عدم سلامة أدلة المذهبيْن الأخيريْن مِن المناقشة .
ومِن استعراض أدلة المذاهب يتضح أن المذهبين الأخيريْن القائليْن بعدم وجوبه على الجميع في الحقيقة ، فإنهم وإن قالوا بأن الوجوب متعلق بواحد مبهم لكنه متعلق بكل واحد على سبيل البدل ؛ لِعدم تعيين ذلك الواحد ، ولِذا يأثم الجميع بتركه ..
وهذا المعنى قريب مما ذهب إليه الجمهور ..
مع اختلافهم في تَعلُّق الوجوب :(1/86)
فعند الجمهور : الواجب متعلِّق بالجميع مِن حيث هم الجميع .
وعند الأخيريْن : الواجب متعلِّق بالجميع على سبيل البدل .
ولِذا رأى بعض الأصوليين أن النزاع في هذه المسألة نزاع لفظيّ ، منهم ابن السمعاني ونور الدين الأردبيلي :
فقال ابن السمعاني :" والخلاف عندي لفظيّ لا فائدة منه " ا.هـ (1) .
وقال نور الدين الأردبيلي :" وعند التحقيق يرجع النزاع لفظيّاً ؛ لاتفاقهم على أنه إذا قام به بعض سقط التكليف عن الجميع ، وإن لم يقم به أحد أَثِم الجميع " ا.هـ (2) .
(1) قواطع الأدلة لو /38
(2) حقائق الأصول 1/220
وإني أتفق مع القائلين بلفظية النزاع في هذه المسألة ؛ لاتفاق جميع المذاهب على أن فِعل البعض يجزئ ويسقط الإثم عن الباقين ، وأن الواجب الكفائي إذا تَرَكَه الجميع أثموا .
خامساً : تعيين الواجب الكفائي
عرَفْنا فيما سبق أن الخطاب في الواجب الكفائي موجَّه إلى جميع المكلَّفين ويسقط بفعل بعضهم ، ولكن هذا الواجب الكفائي قد ينقلب واجباً عينيّاً فيطالَب به مفرَدٌ بذاته في حالات ، وقفتُ على ثلاث منها ، وهي :
1- إذا ظن المكلَّف أن غيره لا يقوم بالواجب الكفائي ..
وهنا وجب عليه القيام به ، سواء قام غيره به أم لا : كما إذا وُجِد عالِم واحد يَصلح لِلقضاء أو الفتوى ، أو طبيب واحد في البلدة .
2- إذا دخل الكفار بلاد الإسلام ..
وهنا ينقلب الواجب الكفائي إلى واجب عينيّ ، فيكون الجهاد واجباً على كل أهل هذه البلدة ، ويجب عليهم حمْل السلاح والدفاع عن دينهم وأرضهم .
3- تَعيُّن الفرض الكفائي بتعيين الإمام ..
فإذا عيَّن الإمام جماعةً لِلجهاد كان الجهاد في حقهم واجباً عينيّاً على كل مَن حدَّدَه الإمام ، وكذا لو أَمَر شخصاً بتجهيز الميت تَعيَّنَ عليه (1) .
سادساً : حكْم إتمام الواجب الكفائي
ولِلأصوليين في حكْم إتمام الواجب الكفائي بعد الشروع فيه آراء :
الأول : أن الواجب الكفائي يتعين إتمامه ؛ قياساً على فرض العين(1/87)
(1) انظر : حقائق الأصول 1/218 والبحر المحيط 1/251 والضياء اللامع 1/237 وشرح الكوكب المنير 1/367 وأصول الفقه الإسلامي لِلزحيلي 1/64
إذا شُرِع فيه ؛ بجامع الفرضية في كل ..
واختاره ابن السبكي (1) ، وذَكَر الفتوحي أنه :" يؤخَذ لزومه بالشروع مِن مسألة حِفظ القرآن ؛ فإنه فرْض كفاية إجماعاً ، فإذا حَفِظَه إنسان وأَخَّر تلاوتَه مِن غير عذر حتى نَسِيَه فإنه يَحرُم على الصحيح مِن المذهب " ا.هـ (2) .
الثاني : أن الواجب الكفائي لا يتعين بالشروع فيه إن وُجِد مَن يقوم به ؛ لأن المقصود حصول الفعل مِن غير نظر بالذات إلى فاعله ، إلا فيما قام الدليل على وجوب إتمامه بالشروع : كصلاة الجنازة والاستمرار في صف القتال ..
واختاره ابن حلولو (3) .
الثالث : أن الواجب الكفائي لا يتعين بالشروع فيه مطلقاً ..
ذَكَره الزركشي (4) عن الغزالي .
مناقشة هذه الآراء :
وأناقش الرأي الأول : بأن قياسكم وجوب الإتمام في فرض الكفاية على فرض العين قياس مع الفارق ؛ لأن الخطاب في الأول موجَّه إلى جميع المكلَّفين ، وفي الثاني موجَّه إلى كل مكلَّف بذاته ، كما أنّ فِعل البعض في الأول يُسقِط الإثم عن الباقين ، وفِعل غير المكلَّف في الثاني لا يُسقِط الإثم عنه ، ولِذا كان قياسكم غير مقبول ، والقول بإتمام الواجب
(1) جمع الجوامع /128
(2) شرح الكوكب المنير 1/378 وانظر القواعد والفوائد /157
(3) الضياء اللامع 1/327 وانظر نشر البنود 1/419
(4) البحر المحيط 1/250 وانظر : سلاسل الذهب /116 ، 117 وشرح المحلي مع البناني 1/185 ، 186 وشرح لب الأصول /28 والقواعد والفوائد /157
الكفائي على إطلاقه فيه نظرٌ لِذلك .
وأرى مناقشة الرأي الثالث : بأن نفْيَكم الإتمام على إطلاقه مردود ؛ لِمَا ثبت بالدليل مِن وجوب إتمام الواجب الكفائي : كترْك الجهاد عند الزحف .(1/88)
وبعد مناقشة الرأييْن الأول والثالث لم يبقَ سالماً سِوى الرأي الثاني ، وهو ما أُرَجِّحُه ؛ لِقوة حجته ؛ لأن الإتمام على إطلاقه يجعله مُساوياً لِفرض العين ، وهو ليس كذلك كما بيَّنتُ ، ولكن إذا وُجِد دليل يوجِب الإتمام فهُنا يكون الإتمام واجباً :
فترْك الجهاد يوم الزحف ممنوع ، بل يُعَدّ كبيرةً مِن الكبائر بمقتضَى قوله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَرَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍَ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير } (1) .
أمّا صلاة الجنازة فلا يَجوز لِمَن شَرَع فيها ترْكُها ، مع أن الفريضة قد أُسقِطَت بمَن صلى أولاً ، لكن على الرأي الراجح المجوِّز لِتكرار الصلاة على الميت فإن الصلاة الثانية ـ والتي هي الأولى لِمَن يصلي ـ تُعَدّ فريضةً (2) ، والفريضة لا يَجوز ترْكُها بعد الشروع فيها ، فكذلك هنا في صلاة الجنازة .
سابعاً : ما يتفرع على الواجب الكفائي
لقد فرَّع الأصوليون على الواجب الكفائي فروعاً ، أَذكر فرعيْن منها ،
(1) سورة الأنفال الآيتان 15 ، 16
(2) انظر روضة الطالبين 1/130
وهُمَا :
1- إذا صلى على جنازة واحد ثم صلى أكثر مِن ذلك .
2- إذا سلّم شخص على جماعة فرَدَّ عليه أكثر مِن واحد (1) .
ونفصِّل القول فيهما فيما يلي :
الفرع الأول
إذا صلى على الجنازة واحد ثم صلى أحد بعد ذلك ـ فرداً كان أو جمعاً ـ فهل هذه الصلاة فريضة أم لا ؟
والحكْم هنا متفرِّع على القول بالمخاطَب في الواجب الكفائي :
فمَن قال : " إن المخاطَب جميع المكلَّفين " ـ وهم الجمهور ـ تَكون الصلاة الثانية فرضاً وليست نفلاً .
مناقشة هذا القول :(1/89)
وقد نوقش هذا القول : بأنه إذا كان الواجب الكفائي يسقط بفعل البعض فإنّ فعِل غيرِهم بعد ذلك يقع نفلاً
الجواب عن هذه المناقشة :
وقد أجيب عن هذه المناقشة : بأن فِعل البعض إنما أَسقَطَ الإثمَ رخصةً وتخفيفاً ، وفِعل الغير بعد ذلك يُعَدّ فريضةً ترغيباً لِلمكلَّفين ، ولأن ثواب الفرض يزيد عن ثواب النفل ، فكلّ مَن جاهَد أو طَلَب العلم يقع فِعلُه فرضاً وإن كان فيمن سَبَقَه كفاية ، وكذا إذا صلى على الجنازة طائفة ثم طائفة وَقَع فِعل الثانية فرضاً كالأُولى (2) .
ومَن قال : " إن المخاطَب في الواجب الكفائي بعض المكلَّفين " تكون
(1) انظر : التمهيد لِلإسنوي /75 – 78 والبحر المحيط 1/245
(2) انظر : روضة الطالبين 1/130 والإبهاج 1/101 والبحر المحيط 1/253
الصلاة الثانية على الجنازة نفلاً ..
وهو وجْه مَحكِيّ عن " الذخائر " لِلقاضي مجلي .
وهذا الوجه يجعل الزائد في الصلاة الواحدة يقع نفلاً ، ويلزم اطراده في الطائفة الثانية بطريق الأولى (1) .
مناقشة هذا القول :
وأناقش هذا القول : بأنّا لو سلَّمْنا أن الزائد في الصلاة الواحدة يُعَدّ نافلةً فلا يَلزم منه اطراده في الطائفة الثانية في صلاة الجنازة ؛ لأن الصلاة ينفل فيها ، أمّا صلاة الجنازة فلا ، ولِذا لا يُسَنّ إعادتها لِمَن صلاّها ، وتلك أمارة عدم جواز التنفل بها ، وإذا ثبت عدم جواز التنفل بها كانت صلاة غير الأول على الجنازة ـ فرداً كان أم جماعةً ـ تقع فرضاً لا نفلاً (2) .
(1) انظر التمهيد لِلإسنوي /77 ، 78
(2) انظر : روضة الطالبين 1/130 والشرح الكبير 1/354 ومغنِي المحتاج لِلشربيني 1/361
الفرع الثاني
إذا سلَّم شخص على جماعة فرَدّ عليه أكثر مِن واحد : فأي فرْد مِن هذه الجماعة حصَّل ثواب الواجب ؟
والجواب هنا ـ أيضاً ـ مَبْنِيّ على القول بالمخاطَب في الواجب الكفائي :(1/90)
فمَن قال : " المخاطب جميع المكلَّفين " ـ وهم الجمهور ـ يقع الجميع فرضاً ، ويثاب كل مَن رَدّ منهم ثواب الواجب .
ومَن قال : " المخاطَب بعض المكلَّفين " يقع رد واحد منهم واجباً ، وما زاد ـ وهو رَدُّ باقي الجماعة ـ يُعَدّ نافلةً لهم ..
وقد استند أصحاب هذا القول : إلى قياسهم هذا الفرع على الزائد على ما ينطبق عليه الواجب : كمسْح الرأس ، والذي كان لِلعلماء فيه قولان :
الأول : أنه لا يوصَف بالوجوب ؛ لأنه يَجوز ترْكُه ، ويقع هذا الزائد نفلاً ..
وعليه أكثر الأصوليين ، وهو اختيار الفخر الرازي (1) والبيضاوي (2) ومَن تَبِعه (3) .
الثاني : أن الزائد على الواجب يَكون واجباً ؛ لأن الواجب قد تأدى بالكل ويقع الزائد واجباً ..
وإليه ذهب الباقلاني وآخَرون (4) .
(1) المحصول 1/293
(2) منهاج الوصول /12
(3) انظر : حقائق الأصول 1/241 ومعراج المنهاج 1/97 ، 98 والإبهاج 1/116 ونهاية السول 1/140 والبحر المحيط 1/236 والقواعد والفوائد /256 ومنهاج العقول 1/139 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/125 ، 126
(4) غاية الوصول /319
مناقشة القول الثاني :
وأرى مناقشة هذا القول ـ القائل بأنّ رَدّ باقي الجماعة يقع نافلةً لهم ـ مِن وجوه :
الوجه الأول : أن هذا القياس فيه نظر ؛ لأن محلّ الخلاف في الأصل هو الواجب الذي لا يتقدر بقدْر معيَّن : كمسح الرأس ..
أمّا هنا ـ وهو الفرع ـ فالواجب يتحقق بأداء واحد مِن المكلَّفين ، ولِذا كان قياساً مع الفارق ، فلا يُقبَل .
الوجه الثاني : أن حصول الثواب لِواحد غير معيَّن لا يُعقَل ، بخلاف الثواب على الجزء المفروض في مسْح الرأس وما زاد فهو نفْل ؛ فإنه معقول .
الوجه الثالث : أن ثواب الفرض أَزيَد مِن ثواب النفل ، والناس يطمعون في زيادة الأجر والثواب ويحرصون عليها ، والقول بأنّ كلَّ مَن رَدَّ السلام مِن الجماعة يُعَدّ له فرضاً يحقق ذلك (1) .(1/91)
(1) انظر : حقائق الأصول 1/240 والتمهيد لِلإسنوي /87 – 90 والبحر المحيط 1/236 - 238
المطلب الثالث
الواجب الموسّع
وسيكون الكلام في الواجب الموسَّع على النحو التالي :
أولاً : تحرير محل النزاع .
ثانياً : مذاهب الأصوليين في الواجب الموسَّع .
ثالثاً : أدلة المثبِتين لِلواجب الموسّع .
رابعاً : أدلة المنكِرين لِلواجب الموسّع .
خامساً : حقيقة الخلاف في الواجب الموسَّع .
سادساً : ما يتفرع على الواجب الموسّع .
ونفصِّل القول في كل واحد منها فيما يلي :
أولاً : تحرير محل النزاع
اتفق الأصوليون على أن الواجب الموسّع إذا أدّاه المكلَّف في أول الوقت سقط به الواجب ورُفِع عنه الإثم والحرج (1) ..
كما اتفقوا على أن هذا الوقت سبب الواجب فيه ، أي علامة عليه وشرْط لِصحته ، فلا يجب قبل دخوله ، ولا يصح التعجيل به (2) .
واختلفوا في وقت وجوب الواجب الموسَّع ، أي في أي جزء مِن أجزاء الوقت يكون الخطاب موجَّهاً إلى المكلَّف : هل في أوله ؟ أم في آخِره ؟ أم في جميعه ؟ أم في الوقت الذي يتأدى فيه ؟
(1) انظر إحكام الفصول /215
(2) انظر أصول الخضري /35
خلاف بين الأصوليين أدى إلى ظهور مذاهب متعددة (1) ، أفصِّلها فيما يأتي ..
ثانياً : مذاهب الأصوليين في الواجب الموسَّع
لقد اختلفَت آراء الأصوليين وتعددَت مذاهبهم في تحديد وقت وجوب الواجب الموسَّع إلى عدة مذاهب ، أكتفي بذكْر أشهرها فيما يلي :
المذهب الأول : أن الوجوب متعلِّق بجميع الوقت ، بمعنى أن جميع أجزاء الوقت محلّ لأداء الواجب فيه ، وأن المكلَّف مخيَّر في إيقاع الفعل في أي جزء شاء مِن أجزاء الوقت ، مع جواز ترْك الواجب في أول الوقت بِلا بدل ..
وهو قول الجمهور (2) .
واختاره مِن الشافعية : إمام الحرمين (3) والغزالي في " المنخول " (4) والفخر الرازي (5) وابن السبكي (6) .(1/92)
(1) انظر : المعتمد 1/125 وإحكام الفصول /215 وشرح طلعة الشمس 1/42 وأصول الفقه لِلخضري /35 ومباحث الحكم /70
(2) انظر : المحصول 1/282 والمعالم /68 ومنهاج الوصول /10 وشرح اللمع 1/224 والإحكام لِلآمدي 1/146 ومختصر المنتهى 1/241 وإحكام الفصول /215 وشرح تنقيح الفصول /150 ومفتاح الأصول /56 وميزان الأصول /219 والفصول في الأصول 1/122 وأصول السرخسي 1/30 وكشف الأسرار لِلبخاري 1/458 والعدة 1/310 والمسوّدة /28 وشرح الكوكب المنير 1/369 والمعتمد 1/125 والمغنِي لِلقاضي عبد الجبار 17/119
(3) البرهان 1/237
(4) المنخول /121
(5) المحصول 1/282
(6) جمع الجوامع /228
ومِن المالكية : الباجي (1) وابن الحاجب (2) والقرافي (3) .
ومِن الحنفية : محمد بن شجاع (4) والدبوسي (5) والإسمندي (6) .
ومِن الحنابلة : أبو الخطاب (7) وأبو يعلى (8) والمجد بن تيمية (9) .
ومِن المعتزلة : أبو الحسين البصري (10) .
ونَسَب المجد بن تيمية (11) هذا المذهب إلى أبي علي وأبي هشام مِن المعتزلة ، ولكن الثابت في " المعتمد " (12) أنهما يشترطان العزم على الفعل .
المذهب الثاني : ويرى أن الوجوب متعلِّق بجميع الوقت ، غير أنه لا يجوز تأخيره عن أول الوقت إلا بشرط العزم على الفعل ..
وهو مذهب جمهور المتكلِّمين وكثير مِن الفقهاء وبعض المعتزلة ، واختاره الباقلاني (13) والآمدي (14) والبيضاوي (15) والنووي (16) وابن
(1) إحكام الفصول /215
(2) مختصر المنتهى 1/241
(3) شرح تنقيح الفصول /150
(4) انظر أصول السرخسي 1/30
(5) تقويم الأدلة /764
(6) بذل النظر /106
(7) التمهيد لأبي الخطاب 1/240
(8) العدة 1/310
(9) المسوّدة /28
(10) المعتمد 1/125
(11) المسوّدة /28
(12) المعتمد 1/125
(13) انظر : البحر المحيط 1/210 وغاية الوصول /291
(14) الإحكام لِلآمدي 1/147
(15) منهاج الوصول /10
(16) انظر البحر المحيط 1/210(1/93)
قدامة (1) والشريف المرتضى (2) وأبو علي وأبو هشام مِن المعتزلة (3) .
المذهب الثالث : ويرى أن الوجوب مختص بالجزء الأول ، والإتيان به في آخِر الوقت يُعَدّ قضاءً ..
ونَسَبَه البعض (4) إلى بعض الشافعية ..
وهذه النسبة ـ بعد البحث في مَراجع الشافعية ـ أرى أنها غير صحيحة ومما يؤكد ذلك ما يلي :
1- إنكار الشافعية لها ، حيث تبَرَّأ الكثير منهم منها ..
وأَذكر منهم على سبيل المثال :
تقي الدين السبكي في قوله :" وقد كثر سؤال الناس مِن الشافعية عنه فلم يعرفوه ، ولا يوجَد في شيء مِن كُتُب المذهب ، ولي حينٌ مِن الدهر أظن أن الوهم سَرَى إلى ناقِلِه مِن قول أصحابنا أن الصلاة تجب بأول الوقت وجوباً موسّعاً " ا.هـ (5) .
2- أن البعض التَبَس عليه قول الاصطخري بأن الذي يؤدي الصلاة بعد الوقت الذي فَعَلَه جبريل - عليه السلام - في الصبح والعصر والعِشاء ، وهو وقت الاختيار ، حينما صلى جبريل - عليه السلام - في اليوم التالي الصبح بالإسفار ، والعصر بمصير الظل مثليْه ، والعِشاء بالثلث ، وقال :" الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْن " (6) ..
(1) روضة الناظر /35
(2) الذريعة لو /25 وانظر مبادئ الوصول /104 ، 105
(3) انظر : المغنِي لِلقاضي عبد الجبار 17/121 والمعتمد 1/125
(4) انظر : التمهيد لأبي الخطاب 1/241 وشرح تنقيح الفصول /150 وشرح الكوكب المنير 1/370 ومُسلَّم الثبوت 1/74
(5) الإبهاج 1/96 وانظر البحر المحيط 1/213
(6) هذا جزء مِن حديث { أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْن } رواه الترمذي وأبو داود .
فاعتقَد الاصطخري أن ما زاد عنهما يُعَدّ قضاءً ، وهو قول ضعيف ؛ لأن قول جبريل - عليه السلام - محمول على وقت الاختيار ، وهو لا ينافِي التوسعة كما أن الوقت عند الاصطخري موسّع ، ولِذا كان قوله هذا مخالِفاً لِمذهبه واختياره في الواجب الموسَّع (1) .
المذهب الرابع : أن الواجب مختص بآخِر الوقت ..(1/94)
مع اختلافهم في المؤدَّى أولاً :
فمنهم مَن قال : هو نفْل يُسقِط الفرض ، وكان بمثابة تعجيل الزكاة قبل الحول ..
وهو قول بعض الحنفية (2) ، وحكاه الإسمندي عن الكرخي (3) .
ومنهم مَن قال : هو موقوف على حالة آخِر الوقت : فإن كان على صفة التكليف كان مجْزِئاً ، وإلا وَقَع ما فَعَله ندباً ..
وهو قول بعض الحنفية (4) ، ونَسَبَه الكثير مِن الأصوليين إلى الكرخي (5) وقال السمرقندي : إنها رواية مهجورة (6) ، وهو قول بعض المعتزلة (7) .
(1) انظر : البحر المحيط 1/213 ونهاية السول 1/122 وحقائق الأصول 1/207 ، 208 ومغنِي المحتاج 1/122 وروضة الطالبين 1/180
(2) انظر : أصول السرخسي 1/31 ، 32 والفصول 2/122 ، 123 وميزان الأصول /218 وكشف الأسرار لِلنسفي 1/119 وكشف الأسرار لِلبخاري 1/459
(3) بذل النظر /105
(4) انظر : أصول السرخسي 1/31 ، 32 والفصول 2/122 ، 123 وميزان الأصول /218 وكشف الأسرار لِلنسفي 1/119 وكشف الأسرار لِلبخاري 1/459
(5) انظر : شرح اللمع 1/225 ومختصر المنتهى 1/241 وبذل النظر /105 وحقائق الأصول 1/209 وجمع الجوامع /228 والبحر المحيط 1/215
(6) ميزان الأصول /218
(7) المعتمد 1/125
المذهب الخامس : أن الوجوب مختص بالوقت الذي يؤدّى فيه الفعل ، وإلا كان متعلِّقاً بآخِر الوقت ..
وهذا القول حكاه الجصاص عن الكرخي وارتضاه (1) ، ونَسَبَه ابن حلولو لِبعض المالكية (2) ، وقال الهندي والسبكي (3) : إنه المشهور عن الحنفية ، وليس كذلك ، وإنما هو رأْي لِبعض الحنفية .
هذا وقد صنَّف بعض الأصوليين (4) المذاهب في الواجب الموسَّع صنفيْن :
الصنف الأول : وهم المثبِتون لِلواجب الموسَّع .
والصنف الثاني : وهم المنكِرون لِلواجب الموسَّع .
ويندرج تحت الصنف الأول المذهبان الأولان ، ويندرج تحت الصنف الثاني المذاهب الثلاثة التالية ..(1/95)
وهو مَنحى أميل إليه ، ولِذا سأقسِّم أدلة المذاهب قسميْن : قسْم لِلمثبِتين ، وقسْم لِلمنكِرين ، وأفردتُ لأدلة كل قِسم مطلباً .
ثالثاً : أدلة المثبِتين لِلواجب الموسَّع
بعد الحديث عن مذاهب الأصوليين فيما تَقدَّم تَبيَّن أن المثبِتين لِلواجب الموسَّع مذهبان : المذهب الأول ، والمذهب الثاني ..
(1) الفصول في الأصول 2/123 وانظر : أصول السرخسي 1/32 وبذل النظر /106 وشرح اللمع 1/225 والمسوّدة /29 والبحر المحيط 1/215
(2) انظر الضياء اللامع 1/333
(3) الإبهاج 1/97 وانظر البحر المحيط 1/215
(4) انظر : شرح اللمع 1/225 والعدة 1/310 والتمهيد لأبي الخطاب 1/247 والمنخول /121 والإحكام لِلآمدي 1/147 ومختصر المنتهى 1/247 ومنهاج الوصول /10 وبحوث في أصول الفقه /81
وفيما يلي أستعرض أدلة كل منهما :
أدلة المذهب الأول :
استدل أصحاب المذهب الأول ـ القائلون بأن الوجوب متعلِّق بجميع أجزاء الوقت ، مع جواز ترْك الواجب في أول الوقت بِلا بدل ، أي لم يشترطوا العزم على الفعل ـ بأدلة مِن المنقول والمعقول ..
أولاً - الأدلة مِن النقل :
الدليل الأول : قوله تعالى { أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودا } (1) ..
وجه الاستدلال : أن الأمر بإقامة الصلاة أمْر عامّ لِجميع أجزاء الوقت ولا تعيين لِجزء منه لاختصاصه بوقوع الواجب فيه ؛ إذ لا دلالة لِلفظ عليها ، فلم يبقَ إلا أنه أراد به أن كل جزء منه صالِح لِوقوع الواجب فيه فيكون المكلَّف مخيَّراً في إيقاع الفعل في أي جزء شاء فيه وبغيرما عزْم على الفعل في الوقت التالي (2) .
مناقشة هذا الدليل :(1/96)
وقد نوقش هذا الدليل : بأن استدلالكم بالآية يجعل المكلَّف مخيَّراً بين أجزاء الوقت إلى أن يتضيق عليه آخِر الوقت يجب ، ومعناه أنه يحق له ترْك الفعل في الجزء الأول إلى الجزء الثاني ، وهذه أمارة الندب ، ولو كان فِعله في الجزء الأول واجباً لَمَا جاز ترْكُه ، ولِذا كان فِعلُه قبل الجزء الأخير نفْلاً سقط به الفرض ، ولا مانع عندنا مِن سقوط الفرض بأداء النفل : كتعجيل الزكاة قبل الحول ..
(1) سورة الإسراء الآية 78
(2) انظر : الإحكام لِلآمدي 1/147 وكشف الأسرار لِلبخاري 1/46 وشرح طلعة الشمس 1/42
وإذا كان كذلك كان استدلالكم بالآية حجةً عليكم لا لكم .
الجواب عن هذه المناقشة :
وقد أجيبَ عن هذه المناقشة مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أنّا نمنع أن جواز ترْك الفعل في الجزء الأول والتخيير فيه يدل على الندب ؛ لأن الندب يجوز ترْكُه مطلقاً ، والواجب ليس كذلك ، وقد سَبَق بيان الفَرْق بينهما في الجواب على الإشكال الموجَّه إلى تعبير الواجب الموسَّع .
الوجه الثاني : أن إسقاط الفرض بالنفل لم يَقُلْ به أحد ، فلو صلى ركعاتٍ عديدةً نافلةً عوضاً عن صلاة الظهر ـ مَثَلاً ـ فإنها لا تسقط عنه ، ومَن أَسقطَ فرْض الزكاة بتعجيلها إنما أسقَطوه لأنها مؤداة بنِيَّة تعجيل الفريضة لا بنِيَّة النفل (1) .
الدليل الثاني : حديث إمامة جبريل - عليه السلام - لِلنبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله له :" مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْت " ..
وجه الاستدلال : أن جبريل - عليه السلام - أَمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اليوم الأول في أول الوقت ، ثم أَمَّه في اليوم التالي آخِرَه ، وبيَّن أن الوقت المحدَّد لأداء الصلاة المفروضة هو ما بين الوقتيْن ، وهو متناوِل لِجميع أجزائه ، ففي أيها فَعَل أجزأ ، وليس تعيين الأجزاء لِلوجوب بأَوْلى مِن البعض الآخَر ، كما أنه لم يشترط عزماً على الفعل في الجزء الثاني (2) .(1/97)
(1) المستصفى 1/69 والإحكام لِلآمدي 1/148 ومنتهى السول 1/25 وأصول الفقه الإسلامي لِلزحيلي 1/54
(2) انظر : الإحكام لِلآمدي 1/147 وكشف الأسرار لِلبخاري 1/460 ونهاية السول 1/120 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/102 ، 103 وأصول الفقه الإسلامي لِلزحيلي 1/54
ثانياً - الدليل مِن العقل :
واستدلوا مِن العقل : بأن السيد إذا قال لِعبده :" خِطْ هذا الثوب في هذا اليوم : إما في أوله أو في وسطه أو في آخِره كيفما أردتَ ، وإذا خِطْتَهُ في أي جزء منه فقد امتثلتَ أمري " كان هذا القول معقولاً وصحيحاً فعلاً .
وهنا لا يخلو أن يقال : إن السيد لم يوجِب شيئاً على العبد ..
أو يقال : إنه أَوجبَ شيئاً مضيّقاً عليه ..
وهُما مُحالان .
فلم يبقَ إلا أن يقال : إنه أَوجَبَ عليه خياطة الثوب في ذلك اليوم وجوباً موسّعاً بغير تحديد لِجزء مِن الوقت معيَّن أو اشتراط العزم على الفعل في الجزء التالي (1) .
أدلة المذهب الثاني :
استدل أصحاب المذهب الثاني ـ القائلون بأن الواجب متعلِّق بجميع أجزاء الوقت وجوباً موسّعاً ، لكن لا يجوز ترْك الجزء الأول إلا بشرط العزم على الفعل في الوقت التالي ـ بأدلة ، أَذكر منها هذيْن الدليليْن :
الدليل الأول : أن العزم على فعل كل عبادة مِن أحكام الإيمان والفعل المطلوب في الواجب الموسّع كلاهما واجب ، فصار حُكْمُهما حكْم خصال الكفارة ، والجامع بينهما وجوب الكل وسقوط الواجب بفعل واحد منها ، فكذلك لو أتى بواحد مِن الفعل أو العزم على الفعل أجزأ ، وإذا تَرَكَهما أَثِم ..
فدل ذلك على أن العزم على الفعل لا بد منه لِمَن تَرَك الفعل في الوقت الأول .
(1) انظر : المستصفى 1/69 وكشف الأسرار 1/460
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهيْن :(1/98)
الوجه الأول : أنكم إن أردتم بالعزم على الفعل عدم إرادة الترك فهو مُسلَّم وخارج عن محل النزاع ؛ لأن العزم على فِعل كل واجب حكْم مِن أحكام الإيمان ، لا دخْل فيه لِلوقت ولا يَصلح بدلاً عن الفعل ، فالمؤمن يجب عليه أن لا يريد الترْك لِلواجب ، فلو أَخَلّ بالعزم بهذا المعنى كان عاصياً حتى ولو لم يدخل الوقت (1) .
الوجه الثاني : أن قياسكم التخيير بين الفعل والعزم عليه على التخيير مِن خصال الكفارة قياس مع الفارق ؛ لأن المقيس عليه ـ وهي الخصال ـ يسقط فيه الواجب بفعل واحد منها غير معيَّن ، وليس كذلك المقيس ـ وهو الفعل والعزم عليه ـ لأن العزم على الفعل في الجزء الأول بمقتضى القياس يكون مجزِئاً ويسقط به الواجب ، وهو ما لم يَقُل به أحد ، ولِذا فإنّا نَقطع أن فاعل الصلاة ممتثِل لِكونها صلاة بخصوصها لا لِكون أحد الأمرين مبهماً كما ادعيتم (2) ..
كما أن القياس مع الفارق يظهر جليّاً ـ أيضاً ـ في أن الواجب الموسَّع واحد لا تَعدُّد فيه ، وكذا وقت أدائه ، بخلاف الواجب المخيَّر ؛ فإنه واحد مبهَم مِن أشياء متعددة محصورة في عَدَد معيَّن : كخصال الكفارة بالنوع ، أمّا الواجب الموسَّع فإنه واحد بالشخص ، ولِذا كان القياس هنا قياساً مع الفارق ، فلا يَصِحّ (3) .
الدليل الثاني : أن الصلاة في أول الوقت واجبة ، ولو كان ترْكها في أول
(1) انظر : فواتح الرحموت 1/75 وحاشية الجرجاني على المختصر 1/242 ، 243
(2) انظر : شرح العضد 1/242 وبيان المختصر 1/361 ومناهج العقول 1/117
(3) انظر : سلم الوصول 1/177 ومباحث الواجب /651
الوقت جائزاً مِن غير عزم على فعلها لَلَزم ترْك الواجب بِلا بدل ، واللازم باطل ..
فدل ذلك على وجوب العزم على الفعل عند عدم الفعل في الجزء الأول (1) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجوه :(1/99)
الوجه الأول : أن العزم على الصلاة إما أن يكون مُساوِياً لِلصلاة في جميع الأمور المطلوبة أو لا يكون :
فإن كان الأول وجب أن يكون الإتيان بالعزم سبباً لِسقوط التكليف بالصلاة .
وإن كان الثاني امتنع جعْلُه بدلاً عن الصلاة .
الوجه الثاني : أن الأمر بالصلاة يقتضي أداءها في الوقت المحدَّد ليس إلا ولا دليل فيه على إيجاب العزم ، وما لا دليل عليه لا يكلَّف به ؛ وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق .
الوجه الثالث : أن العزم لو كان بدلاً عن الصلاة في الجزء الأول فلا يخلو إما أن يجب في الجزء الثاني أو لا يجب :
فإن وجب لزم تَعدُّد البدل مع اتحاد المبدل وهو الفعل ، وهو باطل ؛ لأن البدل تابِع لِلمُبدل ، وهو مطلوب مرةً واحدةً ، فالبدل كذلك .
وإن لم يجب العزم في الجزء الثاني كان الواجب متروكاً بِلا بدل ، ويلزم ـ أيضاً ـ التخصيص مِن غير مخصِّص .
(1) انظر : المعتمد 1/132 ومنهاج الوصول /10 وحقائق الأصول 1/203 ونهاية السول 1/120 ومناهج العقول 1/116
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد أجيبَ عن هذا الوجه مِن المناقشة : بأن العزم على الفعل ليس بدلاً عن الفعل مطلقاً ، وإنما هو صالح لِبدل عنه في ذلك الوقت المعيَّن ، فإذا أتى بالبدل في هذا الوقت سقط عنه الأمر بالأصل في هذا الوقت لا في جميع الأوقات ، وإذا كان كذلك كان العزم على الفعل بدلاً عن الفعل في الجزء الذي لم يفعل فيه (1) .
رد هذا الجواب :
وهذا الجواب مردود مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أنه يلزم على جوابكم تَعدُّد الأبدال ؛ لأن كل وقت يحتاج إلى عزْم على الفعل ، وكلما تعددَت الأوقات تعددَت الأبدال ، وتَعدُّد الأبدال مع اتحاد المبدل ـ وهو الفعل ـ باطل (2) .
الجواب عن هذا الرد :
وقد أجيبَ عن هذا الرد مِن وجهيْن :(1/100)
الأول : أن العزم عندهم إنما يجب في الجزء الأول وينسحب على بقية أجزاء الوقت ولا يجب تجديده : كانسحاب النية على العبادة الطويلة مع عزوبها ، وحينئذٍ لا يلزم تَعدُّد البدل ؛ لأن العزم أمر متحِدٌ مستمر (3) .
الثاني : أن الواجب عندهم في كل جزء إما العزم أو الفعل حتى آخِر
(1) المحصول 1/283 - 285 بتصرف وانظر : روضة الناظر /35 وحقائق الأصول 1/203 - 205
(2) انظر المراجع السابقة .
(3) انظر : البرهان 1/237 - 239 والتقرير والتحبير 1/119 وتيسير التحرير 1/193 ومعراج المنهاج 1/84 وحقائق الأصول 1/205 ونهاية السول 1/121 وأصول الشيخ زهير 1/104 ، 105 والإحكام لِلآمدي 1/149
الوقت ، فيتعين ، وإذا كان كذلك لم يلزم تَعدُّد البدل مع اتحاد المبدل ؛ لأن المبدل سيكون كذلك متعدداً ، وهو جائز (1) .
الوجه الثاني : أن جوابكم على الوجه الثالث مِن المناقشة ضعيف ، وذلك لأن الأمر لا يفيد التكرار عندنا ، وإنما يقتضي الفعل مرةً واحدةً ؛ وإلا صار العزم ـ وهو البدل ـ قائماً مقام الأصل في هذا الوقت ، كان قائماً مقامه في المرة الواحدة ، فيلزم تأدي الواجب وسقوط التكليف به ، وهو ما لم يَقُلْ به أحد (2) .
رابعاً : أدلة المنكِرين لِلواجب الموسّع
والمنكِرون لِلواجب الموسَّع قد حصرناهم فيما سبق في ثلاثة مذاهب .
وفيما يلي أَذكر أدلة كل مذهب منها ومناقشة ما يحتاج إلى ذلك ، مع بيان الراجح مِن المذاهب كلها :
أدلة المذهب الثالث :
استدل أصحاب هذا المذهب ـ القائلون بأن الواجب متعلِّق بأول الوقت فإن أَخَّره عنه كان قضاءً ـ بأدلة مِن المنقول والمعقول ..
الدليل الأول : مِن السُّنَّة ..
قوله - صلى الله عليه وسلم - { الصَّلاَةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ رِضْوَانٌ ، وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّه } (3) ..(1/101)
وجه الاستدلال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أن الصلاة في أول الوقت تجعل صاحبَها أهلاً لِرضوان الله تعالى ، وأن أداءها في آخِر الوقت يجعل العبد أهلاً لِعفو الله تعالى ، والعفو لا يكون إلا عن ذنب ..
(1) حقائق الأصول 1/205
(2) المحصول 1/285 بتصرف .
(3) رواه الدارقطني والترمذي والبيهقي عن أبي مخدورة - رضي الله عنه - .
فدل ذلك على أن الصلاة آخِر الوقت معصية وأنها تُعَدّ قضاءً ، وما ذاك إلا لأن الوجوب متعلِّق بأول الوقت (1) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أن هذا الحديث الذي استدللتم به فيه يعقوب بن الوليد ، وهو منكَر الحديث وكذَّبَه الإمام أحمد ، وإذا كان كذلك فلا يصح الاستدلال به لِهذه العلة .
الوجه الثاني : حتى لو سلَّمْنا جدلاً بصحة الحديث لا نسلِّم أن العفو لا يكون إلا عن ذنب ..
فقد يكون العفو عن خلاف الأَوْلى : كما في قوله تعالى { عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَا أَذِنتَ لَهُم } (2) .
وقد يكون العفو عن تقصير في أداء الواجب : كتأخير الصلاة عن أول الوقت بغير عذر ؛ فإنه يُعَدّ إهمالاً وتفريطاً مِن المكلَّف يحتاج بسببه إلى عفو الله تعالى .
وقد يحتاج العبد إلى عفو ربه حتى ولو كان خالياً مما تَقدَّم ، بل إنّ طلب العفو مِن الله تعالى معدود مِن مأثورات الدعاء التي خُتِمَت بها سورة البقرة { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا } (3) .
الوجه الثالث : أن الحديث وَرَد في معرض الترغيب والحث على الصلاة في أول الوقت ، ولا يُفهَم منه أبداً أن الصلاة آخِرَه تُعَدّ قضاءً ؛ لأن القضاء فِعْلُ العبادة بعد وقتها ، ونَصُّ الحديث صريح في أنها ـ أي
(1) انظر : نهاية السول 1/121 وسلم الوصول 1/171 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/106
(2) سورة التوبة مِن الآية 43
(3) سورة البقرة مِن الآية 286(1/102)
الصلاة ـ واقعة في وقتها المحدَّد إما في أوله أو في آخِرِه مع تفاوت الأجر في أدائها بحسب الوقت : فمَن أداها في أوله كان أهلاً لِرضوان الله تعالى ، ومَن أداها في آخِرِه كان أهلاً لِعفوه (1) .
الدليل الثاني : مِن المعقول ..
أن الوجوب لو لم يتعلق بأول الوقت لكان الآتي بالواجب فيه آتياً به في غير وقته ، لكنه يُعتبَر آتياً به في وقته بالإجماع ، ولو تَعلَّق بالوقت التالي لكان فِعلُه في الجزء الأول تقديماً لِلواجب على وقته ، وهو غير جائز ..
فدل ذلك على أن الوجوب متعلِّق بأول الوقت ، ومَن أَخَّرَه عن ذلك فقد أداه خارج وقته فيكون قضاءً (2) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أن الوجوب إذا كان متعلِّقاً بأول الوقت فإنه حينئذٍ يكون خارجاً عن محل النزاع الذي هو الواجب الموسَّع ، وهو بهذا التحديد يصير مضيَّقاً لا موسَّعاً .
الوجه الثاني : أن الإجماع منعقِد على أنّ مَن أدى الصلاة في آخِر الوقت فقد أَدرَك وقتَها ولا تُعَدّ قضاءً .
الوجه الثالث : أن الأمر الموجِب لِلصلاة إنما أفاد طلب فِعلها في زمن بيْن حدَّيْن بغيرما تمييز بين أدائها في أوله أو وسطه أو آخِره ، فلِلمكلَّف أن يتخير بيْن أجزائها : كتَخيُّره بين خصال الكفارة في الواجب المخيَّر (3) .
(1) انظر : سلم الوصول 1/171 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/106
(2) انظر : حقائق الأصول 1/205 ، 206 ومناهج العقول 1/118
(3) انظر المعتمد 1/127
أدلة المذهب الرابع :
استدل أصحاب هذا المذهب ـ القائلون بتَعلُّق الوجوب بآخِر الوقت ، مع اختلافهم في الواجب المؤدَّى أولاً : هل هو نفل سقط مع الفرض ؟ أو نتوقف في الحكْم حتى نتبين صفة المكلَّف آخِر الوقت ؟ ـ بأدلة ، أَذكر منها هذيْن الدليليْن :(1/103)
الدليل الأول : أن الوجوب لو تَعلَّقَ بأول الوقت لَمَا جاز ترْكُه ؛ لأن منْع الترك ذاتي الوجوب ، فلا يتحقق الوجوب بدونه ، لكنّ ترْكه جائز في أول الوقت ، ولا إثم في تأخيره ، فلا يكون محلاًّ لِلوجوب ، فيتعين تَعلُّق الوجوب بآخِر الوقت ؛ وإلا لزم انتفاء الوجوب في جميع أجزاء الوقت ، وهو باطل بالإجماع (1) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أن دليلكم يكون مقبولاً إذا تَعيَّن الوقت الأول لِلأداء ، أمّا إذا كان الوجوب متعلِّقاً بأي جزء مِن أجزاء الوقت فإن المكلَّف يكون مخيَّراً في أداء الفعل في أي واحد منها : كتخييره بين خصال الكفارة ، فلو تَرَك واحدةً منها لا يعصي إذا أتى بغيرها ، كذلك تارك الواجب الموسَّع في أول الوقت لا يعصي إذا أتى به آخِر الوقت (2) .
الوجه الثاني : أن ما قلتموه يوجِب إخراج الوقت عن كونه موسَّعاً ،
(1) حقائق الأصول 1/209 ، 210 بتصرف وانظر : العدة 1/314 ، 315 والتمهيد لأبي الخطاب 1/248 ومنهاج الوصول /10 ومعراج المنهاج 1/86 ، 87 وشرح العضد 1/242 ، 243 وبيان المختصر 1/362 ونهاية السول 1/122 ، 123 ومنهاج العقول 1/119 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/107
(2) انظر المراجع السابقة .
وقد وسَّعَه الله تعالى ، ولِمَا في تضييقه مِن الحرج على الناس وإلزامهم ترْك متصرفاتهم ومعائشهم بمراعاة أول الوقت (1) .
الدليل الثاني : أن الوجوب لو كان متعلِّقاً بأول الوقت لَمَا جاز تأخيره عنه ولكان المكلَّف عاصياً بالتأخير ، لكن المكلَّف لا يعصي بتأخير الأداء عن الوقت الأول ، وتلك أمارة عدم وجوبه ، وإذا كان الفعل مأموراً به وغير واجب أداؤه في الوقت الأول فإن تقديم الأداء في ذلك الوقت يكون نفلاً (2) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجوه :(1/104)
الوجه الأول : أنّا سلَّمْنا لكم جواز ترْك أداء المأمور به في الوقت الأول ، لكن لا نسلِّم لكم عدم تعلُّق الوجوب به ، بل الوجوب متعلِّق به وجوباً موسّعاً ، والذي لا ينافيه إلا الترك في جميع أجزاء الوقت ..
أمّا ترْكُه في بعضها والإتيان به في بعضها الآخَر فهو غير متنافٍ مع الواجب الموسّع (3) .
الوجه الثاني : أن المؤدي في الجزء الأول مِن الوقت إن كان أداؤه بنيَّة الفرض فقط سَقَط عنه الواجب بِلا خلاف ..
وإن أداه بنيَّة النفل فهل تجزئ عن الفريضة وتُسقِط الواجب عنه ؟
والجواب : أنه لا يجْزِئ ؛ لاختلاف النية ، ولِذا كان جعْل المقدَّم نفلاً على الوجهيْن غير جائز .
الوجه الثالث : أن بعض القائلين بتعلق الوجوب بآخِر الوقت جَعَل النفل هنا موقوفاً إلى آخِر الوقت لِنتبين صفة المؤدى : فإن كان على صفة
(1) إحكام الفصول /216
(2) انظر : شرح اللمع 1/227 والمعتمد 1/229 والتمهيد لأبي الخطاب 1/246 ، 247
(3) انظر مباحث الواجب /662
التكليف كان فرضاً ، وإلا عُدَّت نافلةً له : كمَن صلى الظهر في بيته يوم الجمعة إذا شهد الجمعة مع الإمام ، فإن صلاة الظهر تُعَدّ نافلةً ..
وهو ـ أيضاً ـ باطل ؛ لأن الصلاة المؤداة أولاً قد أُدِّيَت بنيَّة الفريضة ، فكيف تنقلب نافلةً ؟
كما أن المكلَّف ـ على هذا القول ـ لو صلى أي فرض في وقته الأول بنيَّة النفل ثم أَدرَكَ آخِر الوقت وهو على صفة التكليف لَمَا سقط عنه الفرض ؛ لأن المطلوب منه صلاة العصر ـ مَثَلاً ـ وهو لم يُصَلِّ إلا نافلةً ، وهي لا تجْزِئ عن الفريضة حتى ولو كان المؤدّى آخِر الوقت على صفة التكليف (1) .
أدلة المذهب الخامس :
استدل أصحاب هذا المذهب ـ القائلون بأن الوجوب متعلِّق بأي جزء مِن أجزاء الوقت ويتعين بفعل المكلَّف ـ بدليل واحد ، وهو :(1/105)
أن الوجوب متعلِّق بجميع أجزاء الوقت في الواجب الموسَّع بِلا فَرْق بين أوله أو وسطه أو آخِره بغير تحديد لِواحد منها ، فوجب أن يتعلق الوجوب بوقت منها غير معيَّن ، وهذا الوقت يتعين بأداء الواجب فيه : كما في كفارة اليمين ؛ فإن الواجب أحد الخصال بِلا تعيين ، وإذا فَعَل المكلَّف واحداً منها كان هو الواجب في حقه (2) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأن كفارة اليمين هي الحجة عليكم ، وذلك لأن المكلَّف الحانث يجب عليه أن يُكفِّر بواحد مِن الخصال وإن لم يكن معيَّناً ؛
(1) انظر أصول السرخسي 1/31
(2) انظر : الفصول في الأصول 1/123 – 127 وشرح اللمع 1/229 والتبصرة /62
لِوجود سبب الوجوب ، فكذلك في الواجب الموسَّع ؛ فإن الصلاة تكون واجبةً عليه عند دخول وقتها وإن كان مخيَّراً في أدائها في أي جزء مِن أجزاء وقتها ، وعندكم أن الصلاة لا تجب بدخول وقتها ، وإنما يقف ذلك على الفعل .
بعد الوقوف على أدلة مذاهب الأصوليين في الواجب الموسَّع أرى أن المذهب الأَوْلى بالقبول والاختيار هو المذهب الأول القائل بأن الوجوب متعلِّق بجميع أجزاء الوقت بغيرما تعيين ولا بدل ، وذلك لِمَا يلي :
1- قوة حجته وسلامة أدلته مِن المناقشة .
2- ضَعف أدلة المذاهب الأخرى وعدم سلامتها مِن المناقشة .
خامساً : حقيقة الخلاف في الواجب الموسَّع
اختلف الأصوليون في حقيقة الخلاف في هذه المسألة : هل هو لفظي يرجع إلى العبارة ؟ أم هو حقيقي يرجع إلى المعنى ؟
فمنهم مَن جَعَل الخلاف هنا حقيقيّاً يرجع إلى المعنى ، ومنهم مَن جَعَل الخلاف لفظيّاً يرجع إلى العبارة (1) .
والقائلون بلفظية الخلاف (2) وقد لاحظتُ أنهم اقتصَروا في حكْمهم على الخلاف بين الجمهور وبعض الحنفية ..(1/106)
وتأولوا وجهة القائلين بتعلق الوجوب بآخِر الوقت : بأنهم أرادوا أن الوقت الذي يتحتم فيه الإتيان بالفعل امتثالاً هو الجزء الأخير الذي يسعُ الفعل فقط ، وهم بذلك متفقون مع الجمهور ..
كما تأولوا وجهة القائلين بتعلق الوجوب بفعل المكلَّف : بأن الإتيان
(1) انظر البحر المحيط 1/217
(2) انظر : روضة الناظر مع نزهة الخاطر 1/86 وسلم الوصول 1/177 ومباحث الواجب /677
بالفعل امتثالاً شامل لِجميع الوقت ، وهو المعبَّر عنه عند الجمهور بـ" الواجب الموسَّع " وما يسمّونه هم بـ" الوجوب " بمعنى شَغل الذمة (1) .
مناقشة القائلين بلفظية الخلاف :
وأرى مناقشة هذا المنحى لدى بعض الأصوليين مِن عدة وجوه :
الوجه الأول : أن الخلاف في هذه المسألة ليس بين الجمهور والحنفية كما ذهب بعض الأصوليين حينما نسبوا إلى الحنفية إنكار الواجب الموسَّع (2) ، وهي نسبة في غير محلّها ؛ لأن جمهور الحنفية يقولون قول الجمهور ، وبعضهم فقط هم الذين خالَفوا ، وهؤلاء منهم مَن قال : إن الوجوب يتعلق بآخِر الوقت ، ومنهم مَن قال : إنه يتعلق بوقت الأداء ..
ولِذا لم يكن هناك خلاف في هذه الجزئية بين الجمهور والحنفية حتى يقول البعض بلفظيته (3) ؛ إلا إذا قصدوا اختلافهم في الوجوب ووجوب الأداء ، فيكون حكْمهم مقبولاً ، لكنه خارج محلّ الاستدلال .
وبيان ذلك : أن الحنفية خالَفوا الجمهور وفرَّقوا بين الوجوب ووجوب الأداء :
فالوجوب سببه الحقيقي هو الإيجاب القديم ، وسببه الظاهري هو الوقت .
ووجوب الأداء سببه الحقيقي تَعلُّق الطلب بالفعل ، وسببه الظاهري اللفظ الدالّ على ذلك (4) .
والفَرْق بينهما : أن الوجوب : هو اشتغال ذمة المكلَّف بالشيء ،
(1) انظر مباحث الواجب /678
(2) انظر : منهاج الوصول /10 وتخريج الفروع على الأصول لِلزنجاني /90
(3) مباحث الواجب /677
(4) شرح التوضيح 1/203
وسببه دخول الوقت ..(1/107)
ووجوب الأداء : هو لزوم تفريغ الذمة عمّا تَعَلَّقَ بها ، وسببه تَعلُّق الطلب بالفعل (1) .
فعندهم صلاة الظهر ـ مَثَلاً ـ تكون واجبةً بدخول وقتها الأول ، وتكون واجبة الأداء عندما يتمكن المكلَّف مِن فِعلها في أي جزء مِن أجزاء الوقت ، ويتعين فِعلُها في الوقت الأخير .
أمّا غير الحنفية فإن الوجوب عندهم لا ينفصل عن وجوب الأداء ، وأنه لا معنى لِلوجوب بدون وجوب الأداء ، فإذا تَحقَّق السبب ووُجِد المحل مِن غير مانع تَحقَّق وجوب الأداء ، وإن وُجِد في الوقت مانع شرعي أو عقلي ـ نحو : حيض أو نوم ـ فإن الوجوب عندهم يتأخر إلى زمان ارتفاع المانع (2) .
أمّا الحنفية فإنهم يقولون عند وجود هذا المانع : إنه أمارة الفَرْق بين الوجوب ووجوب الأداء ، عند وجود المانع لا شك قد وُجِد الوجوب بدخول أول الوقت ، ولكن بدون وجوب الأداء الذي أَوقَفَه المانع (3) .
فوقت الأداء عند الحنفية : هو الجزء الذي يقع فيه .
وعند غيرهم : هو الكل ، لا جزء منه بعينه ، ويتعين بالوقوع فيه (4) .
والخلاف في هذه الجزئية بين الحنفية وغيرهم أراه خلافاً لفظيّاً ؛ لأن الجميع متفقون على أن لِلمكلَّف أن يؤدي الواجب في أي جزء مِن أجزائه
(1) شرح التوضيح 1/203
(2) شرح التلويح 1/203 ، 204 بتصرف .
(3) انظر : شرح التوضيح 1/205 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار 1/451 - 454 وكشف الأسرار لِلنسفي 1/118
(4) انظر تقرير الشربيني مع البناني 1/187
وإذا أدّاه فقد سقط التكليف عنه ، وإذا أخَّرَه حتى ضاق الوقت تَعيَّن عليه ، ولِذا صرَّح السعد وغيره بأن الخلاف في هذه الجزئية خلاف لفظيّ (1) .
الوجه الثاني : أن بعض الحنفية القائلين بتعلق الوجوب بآخِر الوقت يَعتبِرون الواجب المؤدَّى قبل آخِر الوقت قد تأدى قبل وقته ..
ولِذا تَردَّدوا فيه : هل هو نفْل ؟ أم نتوقف في حكْمه إلى آخِر الوقت ؟(1/108)
وخلافهم مع الجمهور ـ ومعهم الحنفية ـ خلاف حقيقيّ ؛ لأن الوجوب عندهم يتعلق بدخول الوقت ، فيكون المؤدى فيه وبعده واجباً .
أمّا القائلون بتعلق الوجوب بالوقت المؤدى فيه الفعل فإنهم يتفقون مع الجمهور في أن المكلَّف يتخير الوقت بين أجزائه ؛ إلا الأخير فإنه يتعين عليه ، وإذا أدى الواجب في أي جزء سَقَط عنه ، ولِذا كان خلافهم مع الجمهور ـ كما أرى ـ لفظيّاً .
الوجه الثالث : أن المحقِّق لِلمذهبيْن الأخيريْن في الواجب الموسَّع يرى أن الخلاف بينهما وبين الجمهور لا يتأتى أن يكون لفظيّاً ..
وبيانه :
أن المذهب الثاني ـ وهو القائل باشتراط العزم على الفعل ـ يجعل تارك الفعل والعزم عليه في الجزء الأول آثماً حتى لو أداه في الوقت الثاني ، وهو مخالِف لِمَا عليه الجمهور مِن أن أداء الواجب في أي جزء مِن أجزاء الوقت يُعَدّ مُجْزِئاً ولا إثم على المكلَّف .
وأن المذهب الثالث ـ وهو القائل بأن الوجوب متعلِّق بأول الوقت ـ يكون قولهم مقبولاً ولا اعتبار لاختلافهم مع الجمهور إذا أرادوا أنه متعلِّق بأول الوقت تَعلُّق أفضلية واستحباب مع جواز أدائه في أي جزء آخَر مِن
(1) سلم الوصول1/172 ، 173 وانظر : شرح التلويح 1/304 ومباحث الواجب /679
الوقت ، ولكنهم جعلوا أداءه بعد الوقت الأول خروجاً عن الوقت المحدَّد له هو قضاء يأثم عليه المكلَّف إن كان بِلا عذر ، وهو مخالِف لِمَا عليه الجمهور ؛ لأن فِعل الواجب داخل الوقت المحدَّد له يُعَدّ أداءً سواء كان في الوقت الأول أو بعده ، فإن خرج عن وقته المحدَّد شرعاً كان قضاءً ..
الأمرَ الذي يجعل الخلاف مع الجمهور بين المذهبيْن خلافاً حقيقيّاً لا خلافاً لفظيّاً .
وعلى ضوء ما تَقدَّم يكون الخلاف في هذه المسألة ـ كما أرى ـ خلافاً معنويّاً بين الجمهور وغالِب المذاهب ، وقد يكون لفظيّاً في بعضها كما سبق توضيحه ..(1/109)
وأمارة معنوية الخلاف : ما تَفرَّع على هذه المسألة مِن فروع فقهية عديدة .
سادساً : ما يتفرع على الواجب الموسَّع
لقد فرَّع الأصوليون على الواجب الموسَّع فروعاً ، أكتفي بذكر فرعيْن منها ..
الفرع الأول
تأخير المكلَّف لأداء المأمور به في الواجب الموسَّع وموته أثناء الوقت ..
ويمكن تقسيم الحالات التي تندرج تحت هذا الفرع إلى حالتيْن :
الأولى : تأخير أداء المأمور به في الوقت المحدَّد ، مع غلبة ظن البقاء إلى آخِر الوقت .
الثانية : تأخير أداء المأمور به في الوقت المحدَّد ، مع غلبة ظن عدم البقاء إلى آخِر الوقت .
وأفصِّل الحديث في كل حالة منهما على حدة :
أولاً – الحالة الأولى :
وهي : تأخير أداء المأمور به في الوقت المحدد ، مع غلبة ظن البقاء إلى آخِر الوقت .
تحرير محل النزاع :
اتفق العلماء على أنه لا يجوز لِلمكلَّف أن يؤخِّر أداء الواجب عن وقته سواء كان موسّعاً أم مضيّقاً إلا مِن عذر .
كما اتفقوا ـ أيضاً ـ على أنه يجوز لِلمكلَّف في الواجب الموسَّع المحدَّد بوقت تأخير أداء المأمور به إلى آخِر الوقت إذا غَلَب على ظنه البقاء إلى آخِر الوقت (1) .
ولكنهم اختلفوا فيمَن مات فجأةً في أثناء ذلك الوقت قبل الأداء : فهل يُعَدّ عاصياً أم لا ؟
الجمهور قالوا : لا يُعَدّ عاصياً ، ولا إثم عليه ..
واحتجوا : بأن المكلَّف مخيَّر بين أجزاء الوقت في الواجب الموسَّع ، فيجوز له التأخير إلى آخِر الوقت المحدَّد ، وحيث إنه لم يصِل إلى آخِر الوقت فلا يعصي بموته أثناء الوقت ، وغَلَبَة ظن البقاء إلى آخِر الوقت نَفَت التقصير عنه ، فلا يكون آثماً (2) .
والمشترِطون لِلعزم قالوا : إنْ عَزَم على الامتثال في أول الوقت ثم مات فإنه لا يُعَدّ عاصياً (3) .
(1) انظر الضياء اللامع 1/336
(2) انظر : بيان المختصر 1/336 وحقائق الأصول 1/211 وجمع الجوامع /129 وشرح المحلي مع العطار 1/247 والضياء اللامع 1/336(1/110)
(3) انظر : المستصفى 1/70 والإحكام لِلآمدي 1/150 ومنتهى السول 2/26
والقائلون بتعلق الوجوب بأول الوقت قالوا : يُعَدّ عاصياً ؛ لأنه أَخَّر أداء المأمور به عن وقته المحدَّد الذي هو أول الوقت ، وقد فات .
والقائلون بتعلق الوجوب بآخِر الوقت قالوا : لا يُعَدّ عاصياً ؛ حيث لم يدرك الوقت المحدَّد شرعاً عندهم ، وهو آخِر الوقت .
وكذلك لا يُعَدّ عاصياً على رأي القائلين بتعلق الوجوب بفعل المكلَّف ما لم يتضيق عليه الوقت .
واشترط البعض سلامة العاقبة حتى لا يُعَدّ المكلَّف عاصياً (1) ، وهو شرْط باطل ..
وبيان وجه بطلانه : أن العاقبة ـ وهي نهاية المكلَّف وأجَله ـ مما استأثر الله تعالى بعلمه ، فهي مستورة عن المكلَّف ، ولو اشترطْنا عليه عندما يريد تأخير الواجب عن أول وقته أن يضمن حياته آخِر الوقت لَكُنّا قد كلّفْناه بما لا يطيق ، وهو تكليف بالمُحال ، والتكليف بالمُحال تنْأى عنه أحكام الشريعة ، فيكون باطلاً .
مناقشة وجه البطلان السابق :
وقد نوقش وجه بطلان اشتراط سلامة العاقبة مِن قِبَل المشترِط : بأنه إذا كانت العاقبة مستورةً عني وأنا أريد تأخير الواجب الموسَّع عن أول وقته : فهل يجوز لي التأخير مع جهل العاقبة أم لا ؟
فإن كان الجواب أنه يعصي فهو خلاف الإجماع ؛ لأن المكلَّف لم يفعل إلا ما أجازه الشرع له مِن تأخير الواجب عن أول وقته .
وإن كان الجواب أنه لا يعصي فلِمَ كان آثماً بالموت وهو أمْر ليس بيده ولا دخْل له فيه ؟
(1) انظر الفروق 2/77
وإن كان الجواب متوقفاً على علم الله تعالى :
فإن كان في عِلمه تعالى أنه سيموت قبل خروج الوقت فليس له التأخير .
وإن كان في عِلمه تعالى أنه سيموت آخِر الوقت فله التأخير ، وهو باطل أيضاً ؛ لأنه تكليف بالمُحال .
ولِذا كان لِلمكلَّف أن يقول : وما يدريني ماذا في علم الله تعالى ؟ وما فتواكم في حقي ؟
وهنا لا بد الحكْم بالجواز أو عدم الجواز .(1/111)
فالجمهور يرون جواز التأخير بشرط أن يَغلب على ظنه البقاء إلى آخِر الوقت ، سواء بقي فيه إلى آخِره أم مات قبله ، وإن مات قبله فلا إثم عليه (1) .
والمشترِطون لِلعزم يرون جواز التأخير بشرط العزم على الامتثال ، ولا يجوز عندهم العزم على التأخير إلا إلى مدة يغلب على ظنه البقاء إليها (2) .
والذي أراه راجحاً في هذه الحالة هو ما ذهب إليه الجمهور مِن أن المكلَّف إذا مات أثناء الوقت في الواجب الموسَّع وغلب على ظنه البقاء إلى آخِر الوقت فإنه لا يُعَدّ عاصياً ولا إثم عليه ، كما أن السلف لم يُؤَثِّموا مَن مات بعد انقضاء مقدار أربع ركعات ولم يؤدِّ الصلاة ، ولم ينسبوا إليه تقصيراً إذا اشتغل بالوضوء ونَهَض إلى المسجد فمات في الطريق ،
(1) انظر : الإحكام لابن حزم 1/317 والمستصفى 1/71 والإحكام لِلآمدي 1/150 ومنتهى السول 1/26 وروضة الناظر /35 وحقائق الأصول 1/211 ، 212 وبيان المختصر 1/336 ، 367 والبحر المحيط 1/220
(2) انظر : المستصفى 1/71 والإحكام لِلآمدي 1/150
ولِذا فإنّ مَن أثَّمَه قد خالَف ما عليه السلف وإجماع الأُمة (1) ..
ومَن اشترط العزم على الامتثال فإنه يَنقُصه الدليل ، وقد تَقدَّم مناقشة وجهته .
ثانياً – الحالة الثانية :
وهي : تأخير أداء المأمور به في الوقت المحدَّد ، مع غلبة ظن عدم البقاء إلى آخِر الوقت .
تحرير محل النزاع :
إذا أَخَّر المكلَّف أداء المأمور به عن أول الوقت في الواجب الموسَّع مع غلبة ظنه أنه لن يعيش إلى آخِر الوقت : كحلول جنون أو إغماء أو حيض لِعادة اقتضت ذلك (2) فالجميع متفقون على أنه إذا لم يشتغل به أول الوقت فإنه يُعَدّ عاصياً ، ولا يجوز له إخراج العبادة عن الوقت الذي غلب على ظنه أنه لا يبقى بعده ..
وعلَّلوا ذلك : بأن الوقت قد تَضيَّق عليه ، وترْك الواجب المضيَّق بغير عذر لا يجوز .(1/112)
وسِرّ تضييق الوقت : هو غلبة ظنه أنه لا يعيش إلى آخِر الوقت ، والتكليف في الفروع دائر مع الظن (3) .
ولكنهم اختلفوا فيما إذا عاش المكلَّف بعد الوقت الذي غلب على ظنه أنه لن يعيش إليه وفَعَل الواجب بعده : فهل يُعَدّ أداءً أم قضاءً ؟
(1) انظر البحر المحيط 1/220
(2) انظر : شرح المحلي مع العطار 1/246 وحاشية العطار 1/46
(3) انظر : بيان المختصر 1/463 ، 464 والتمهيد لِلإسنوي /64 وشرح المحلي مع العطار 1/246
اختلفوا في ذلك على رأييْن :
الرأي الأول : أنه يُعَدّ أداءً ..
وإليه ذهب الجمهور .
وحجتهم : أنه فَعَل الواجب في وقته المقدَّر له أولاً شرعاً .
فإن قيل : لِمَ أَثَّمتموه حين أخَّرَه عن الوقت الذي غلب على ظنه أنه لن يعيش إليه وهذا يكفي في جعل أدائه بعد ذلك قضاءً ؟
أجاب الجمهور : بأننا أثَّمناه بناءً على ظنه ، ولكن تَبيَّن بعد ذلك أنه ظنٌّ خاطئٌ ، وهو غير معتبَر ..
فالقاعدة أنه : لا عبرة بالظن البيّن خطؤه (1) .
الرأي الثاني : أنه يُعَدّ قضاءً ..
وهو قول القاضي أبي بكر ، ونَسَبَه السبكي لِلقاضي حسين مِن الشافعية (2) .
واحتج القاضي أبو بكر : بأن الوقت قد تَضيَّق على المكلَّف بسبب ظنه ، وتَحتم عليه أداء الواجب قبل المدة التي غلب على ظنه الموت فيها ولِذا كان عاصياً بالتأخير ..
فإذا أدى الواجب بعد هذا الوقت فإنه يكون مؤدياً له خارج وقته المحدَّد وهذا هو حد القضاء (3) .
(1) انظر : الأشباه والنظائر لِلسيوطي /157 والأشباه والنظائر لابن نجيم /161 والمستصفى 1/71 ومحاضرات فضيلة الشيخ جاد الرب رمضان ـ رحمه الله ـ لِلدراسات العليا في قواعد الفقه .
(2) انظر جمع الجوامع /129
(3) انظر : الإحكام لِلآمدي 1/150 ، 151 وبيان المختصر 1/364 ومنتهى السول 1/26 وشرح العضد 1/234
مناقشة هذا الدليل :
وأرى مناقشة هذا الدليل مِن وجهيْن :(1/113)
الوجه الأول : أنكم لو أردتم بالقضاء هنا وجوب نية القضاء فهو بعيد ولم يَقُلْ به أحد ؛ لأن المختار جواز استعمال نية القضاء والأداء كلٌّ مكان الآخَر ، فوجوب نية القضاء يكون بعيداً ، فالنزاع في التسمية ، وتسميته " أداءً " أَوْلى ؛ لأنه فعل في وقته المقدَّر له شرعاً أولاً (1) .
الوجه الثاني : أنكم بنيتم حكْمَكم على اعتبار الظن ، والظن عندنا معتبَر ما لم يتبين خطؤه ، فإن تَبيَّن خطؤه كان غير معتبَر ، وهنا قد تَبيَّن خطؤه عندما عاش بعد الوقت المحدَّد في ظنه ، ولِذا لم يَعُد الوقت مضيَّقاً ، وإنما يَعود إلى ما كان عليه قبل الظن الخاطئ مِن السعة ، وأداؤه بعد ذلك داخل الوقت لا خارجه (2) .
والذي أميل إليه في هذا المقام هو رأْي الجمهور ، والقائل بأنّ فِعل المكلَّف لِلواجب بعد غلبة الظن أنه لن يعيش آخِر الوقت يُعَدّ أداءاً ؛ لأنه تأدى فعلاً داخل وقته المحدَّد شرعاً ، أمّا الظن فإنه خاطئ ولا عبرة به .
(1) انظر : بيان المختصر 1/364 وشرح العضد 1/243
(2) انظر : الإحكام لِلآمدي 1/151 وبيان المختصر 1/365
الفرع الثاني
إذا حاضت المرأة آخِر الوقت ولم تُصَلِّ أوله فهل يلزمها القضاء أم لا ؟
وبناءً على الخلاف في الواجب الموسَّع أرى أن الحكم فيه يكون على النحو التالي :
على المذهب الأول : يلزمها القضاء ؛ لأن الصلاة وجبَت عليها مِن أول الوقت الخالي مِن حيضها ولم تؤدها فيه .
وعلى المذهب الثاني المشترِط لِلعزم : يلزمها ـ كذلك ـ القضاء حتى ولو عزمَت على الأداء في الوقت ، فالعزم عندهم ينفي الإثم ولا ينفي الفعل .
وعلى المذهب الثالث : عليها القضاء ؛ لأنها لم تؤدِّ الصلاة في أول الوقت ، وهو المحدّد لِلأول عندهم .
وعلى المذهب الرابع : لا قضاء عليها ؛ لأن الوجوب متعلِّق بآخِر الوقت ، وهي فيه لا صلاة عليها .(1/114)
وعلى المذهب الخامس : عليها القضاء ؛ لأن الوقت الذي لها اختيار أي جزء منه لِلصلاة فيه قد خرج بدون أن تؤديها فيه .
غير أن الخلاف حقيقةً في هذا الفرع قائم بين الحنفية وغير الحنفية :
فالحنفية يرون : أن الحائض إذا حاضت آخِر الوقت لم يلزمها القضاء وهذا الحكْم ليس راجعاً إلى قول بعضهم بتعلق الوجوب بآخِر الوقت ، وإنما هو مَبْنِيّ على أن الوجوب عند الحنفية ينفصل عن وجوب الأداء ، وقد تَقدَّم بيان الفَرْق بينهما ..
وحيث إن الحائض لم تؤدِّ الفعل المأمور به قبل حيضتها فتكون الصلاة
غير واجبة الأداء ؛ لأن هذا الواجب عندهم مرتبِط بفعل المكلَّف ، مع أنها واجبة ـ أي الذمة مشغولة بها ـ بدخول وقتها .
ومِن هنا ذهب جمهورهم إلى عدم القضاء (1) لا لأن الوجوب الموسَّع متعلِّق بآخِر الوقت كما قد يتوهم البعض (2) ؛ لأنه قول بعض الحنفية وليس جمهورهم .
كما أن هذا الحكم مَبْنِيّ عندهم على أن وجوب القضاء فرْع وجوب الأداء ، وحيث إن الأصل غير واجب الأداء فكذلك قضاؤه (3) .
أمّا غير الحنفية : فإنهم لا يُفرِّقون بين الوجوب ووجوب الأداء ، والوجوب عندهم في الواجب الموسَّع يتحقق بدخول أول الوقت ، مع تخيير المكلَّف في أدائه في أي أجزائه أراد ..
وعليه فمَن أَدرَك جزءاً مِن الوقت كان واجباً عليه أن يؤدي الواجب فيه ، فإن فات ولم يؤده فيه وجب عليه القضاء ولا يسقط عنه (4) .
(1) انظر : أصول السرخسي 1/31 والتحرير مع التفسير 2/194 وفواتح الرحموت 1/80 والتقرير والتحبير 1/118 وشرح التوضيح 1/203 وشرح التلويح 1/203
(2) تخريج الفروع على الأصول /93
(3) انظر تيسير التحرير 1/194
(4) انظر : نهج الطلاب /10 والتقرير والتحبير 1/118 والشرح الكبير لِلدردير مع حاشية الدسوقي 1/170
المطلب الرابع
القضاء هل يستلزم أمراً جديداً ؟
وسيكون الكلام في هذا المطلب على النحو التالي :
أولاً : تحرير محلّ النزاع .
ثانياً : منشأ الخلاف .(1/115)
ثالثاً : مذاهب الأصوليين في استلزام القضاء لأمر جديد .
رابعاً : أدلة المذاهب مع الترجيح .
خامساً : ما يتفرع على هذه المسألة .
ونفصِّل القول في كل واحد منها فيما يلي :
أولاً : تحرير محلّ النزاع
اتفق الأصوليون على أن الأمر المقيَّد بوقت يقع فيه ولم يُفعَل في وقته المحدَّد شرعاً لِعذر أو لِغير عذر فإنه واجب القضاء مع تأثيم مَن أخَّر بغير عذر (1) .
واختلفوا في قضاء الصلاة المفروضة :
فاتفقوا على أنه يجب قضاء الصلاة المكتوبة في حق الناسي والنائم ؛ بموجِب قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } (2) .
(1) انظر : المعتمد 1/135 والمحصول 1/324 والإحكام لِلآمدي 2/199 وبيان الختصر 2/74 وميزان الأصول /221
(2) رواه الترمذي وأبو داود عن أبي قتادة - رضي الله عنه - .
واختلفوا في قضاء الصلاة في حق التارك لها عمداً على قوليْن :
القول الأول : أنه آثم ، ويجب عليه القضاء ..
وإليه ذهب جمهور العلماء (1) .
وحجتهم : أن إيجاب القضاء على التارك المتعمِّد أَوْلى مِن إيجابه على الناسي .
القول الثاني : أنه آثِم ، ولا يجب عليه القضاء ..
وهو قول ابن حزم (2) ومَن تَبِعه (3) .
وهؤلاء تَمسَّكوا بظاهر النص الوارد ، وأنه اقتصر على بيان حكْم الناسي والنائم ، أمّا المتعمِّد فيمنعون قياسه على الناسي .
والذي أراه راجحاً وأَوْلى بالقبول أن يُلزَم التارك المتعمِّدَ لِلصلاة المفروضة بقضائها ، وهو ما ذهب إليه الجمهور ، وقياسهم المتعمِّد على الناسي قياس قوي يُلزِم المنكِر ..
قال النووي :" لأنه إذا وجب القضاء على المعذور فغيْرُه أَوْلى بالوجوب ، وهو مِن باب التنبيه بالأدنى على الأعلى " ا.هـ (4) .
كما اتفق الأصوليون على أن القضاء بِمثل غير معقول ـ كالفدية لِلصوم ـ لا يمكن إيجابه إلا بنص جديد .(1/116)
واختلفوا في القضاء بِمثل معقول ـ كالصلاة لِلصلاة ـ هل القضاء فيه واجب بالأمر الأول المقتضِي لِلأداء ؟ أم أن القضاء واجب بمقتضى أمْر
(1) انظر : مغنِي المحتاج 1/328 ، 329 والاختيار 1/63 - 65
(2) المحلَّى لابن حزم 1/400
(3) انظر : فقه السنة لِلشيخ سيد سابق 1/232 وبداية المجتهد 1/182
(4) شرح صحيح مسلم 5/183
مبتدأ (1) ؟
ثانياً : منشأ الخلاف
ومنشأ الخلاف في هذه المسألة ـ كما ذَكَره القرافي ـ مَبْنِيّ على قاعدتيْن :
الأولى : أن الأمر بالمركب أمْر بأجزائه .
والثانية : أن الأمر بالفعل في وقت معيَّن لا يكون إلا لِمصلحة تختص بذلك الوقت ؛ وإلا لكان تخصيص ذلك الفعل بذلك الوقت مِن بيْن سائر الأوقات ترجيحاً مِن غير مرجِّح .
فمَن لاحَظ القاعدة الأولى قال : الأمر في الوقت المعيَّن بالصلاة المعيَّنة يقتضي الأمر بشيئيْن : الصلاة ، وبكونها في ذلك الوقت ، فهو أمْر مرَكَّب ، فإذا تَعذَّر أحد جزأَي المرَكَّب بقي الجزء الآخَر وهو الفعل ، فيوقِعه في أي وقت شاء ، فيكون القضاء بالأمر الأول .
ومَن لاحَظ القاعدة الثانية قال : القضاء بأمر جديد ؛ لأنه إذا كان تَعيُّن الوقت لِمصلحة فقد لا يشاركه الزمن الثاني في تلك المصلحة ، وإذا شَكَكْنا في مشاركتهما في المصلحة فلا يُثبِت وجوب القضاء إلا أمر جديد (2) .
ثالثاً : مذاهب الأصوليين في استلزام القضاء لأمر جديد
اختلف الأصوليون في أن القضاء هل يستلزم أمراً جديداً ؟ على ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول : أن القضاء يستلزم أمراً جديداً غير الدليل الذي وجب به
(1) انظر : المعتمد 1/135 والمحصول 1/324 والإحكام لِلآمدي 2/199 وبيان المختصر 2/74 وميزان الأصول /221 وبذل النظر /109 وشرح المغنِي لابن إسحاق لو /27 ، 28 والتقرير والتحبير 1/125 وتيسير التحرير 1/210 وشرح طلعة الشمس 1/45
(2) انظر : شرح تنقيح الفصول /144 والبحر المحيط 2/404 ، 405 ونشر البنود 1/149
الأداء ..(1/117)
وعليه أكثر العلماء ، وإليه ذهب إمام الحرمين (1) والغزالي (2) ، واختاره الفخر الرازي (3) والآمدي (4) وابن الحاجب (5) ، وعند العراقيين مِن الحنفية (6) ، واختاره ابن عقيل وأبو الخطاب مِن الحنابلة (7) ، وعليه عامة المعتزلة (8) .
المذهب الثاني : أن القضاء إنما يجب بالأمر الأول ، ولا يستلزم أمراً جديداً ..
وهو قول جمهور الحنفية (9) ، منهم السرخسي (10) والبزدوي (11) والنسفي (12) ، واختاره بعض الحنابلة ، منهم القاضي أبو يعلى (13) وابن قدامة (14) والفتوحي (15) ، وعامة أصحاب الحديث ، وإليه ذهب
(1) البرهان 1/226
(2) المستصفى 2/11
(3) المحصول 1/325
(4) كشف الأسرار لِلبخاري 1/315
(5) مختصر المنتهى 2/92
(6) كشف الأسرار لِلبخاري 1/315
(7) التمهيد لأبي الخطاب 1/251 ، 252
(8) المعتمد 1/135 وكشف الأسرار لِلبخاري 1/314
(9) انظر : شرح المغنِي لابن إسحاق لو /27 وجامع الأسرار لو /8 وتيسير التحرير 2/200
(10) أصول السرخسي 1/45
(11) أصول البزدوي مع كشف الأسرار 1/313
(12) كشف الأسرار لِلنسفي 1/66
(13) العدة 1/293
(14) روضة الناظر /180
(15) شرح الكوكب المنير 3/50
القاضي عبد الجبار مِن المعتزلة (1) ، ونَسَبَه ابن السبكي (2) إلى أبي إسحاق الشيرازي ، وتَبِعَه صاحب " شرح طلعة الشمس " (3) ، وهذه النسبة فيها نظر ؛ لأن الثابت عن الشيرازي (4) هو اختيار المذهب الأول ، كما نَسَبه (5) أيضاً إلى الفخر الرازي ، وليس كذلك ؛ لأنه يقول بالمذهب الأول (6) .
المذهب الثالث : أن القضاء واجب بقياس الشرع ..
وهو قول انفرَد به أبو زيد الدبوسي ، فقال :" أيجب بتفويت الواجب مِثلُه قياساً مِن غير نَصّ ؟
فنقول : بأنه يجب ؛ لأن الله تعالى قد أَوجَبَ في باب الصيام والصلاة القضاء بالمِثل في الوقت الذي عُلِم سبباً لِشرعٍ مُطلَقٍ ، والصوم والصلاة عبادة ، فيقاس عليهما غيرهما " ا.هـ (7) .(1/118)
ثم قاس الدبوسي حق الله تعالى على حق العباد ؛ فإن الله تعالى أَوجَبَ علينا إعطاء صاحب الحق عيْن حقه أو مِثلَه لِيخرج مِن عهدة الواجب ، ولَمَّا كان ذلك في حقوق العباد ففي حقوق الله أَوْلى ؛ لأنه أَكرم (8) .
(1) المغنِي لِلقاضي عبد الجبار 17/121 وانظر البحر المحيط 2/402
(2) جمع الجوامع /143 وانظر : شرح الكوكب الساطع /639 وتشنيف المسامع لو /68
(3) شرح طلعة الشمس 1/45
(4) انظر : اللمع /9 والتبصرة /94 وشرح اللمع 1/230
(5) شرح طلعة الشمس 1/45
(6) المحصول 1/325
(7) تقويم الأدلة لِلدبوسي 2/139 رسالة دكتوراه تحقيق د./ صبحي محمد جميل بكلية الشريعة برقم 360
(8) تقويم الأدلة 2/140 بتصرف .
مناقشة هذا المذهب :
وأرى أن قول الدبوسي هذا ما هو إلا تخريج على مذهب جمهور الحنفية في أن القضاء لا يستلزم أمراً جديداً ، ولكنه خالَفهم في جعل القضاء واجباً بقياس الشرع ، والمحصِّلة فيهما واحدة ..
وأنه يقول قول جمهور الحنفية ـ كذا ذَكَر البخاري (1) ـ ولِذا لم يَعُدّه الأصوليون مذهباً مستقلاًّ ، وإنما أشار إليه البعض (2) باعتباره قولاً انفرد به الدبوسي بين الأصوليين .
وبعد بيان مَنْحَى هذا المذهب وأنه يلتقي مع المذهب الثاني تصبح مذاهب الأصوليين في هذه المسألة مذهبيْن ، وسأفصِّل أدلتهما فيما يلي ..
رابعاً : أدلة المذاهب مع الترجيح
بعد الوقوف على آراء الأصوليين في هذه المسألة في المطلب السابق تَبيَّن أن المشهور منها مذهبان ، أَذكر أدلتهما مع الترجيح فيما يلي :
أدلة المذهب الأول :
استدل أصحاب المذهب الأول ـ القائلون بأن القضاء يستلزم أمراً جديداً ـ بأدلة ، أَذكر منها هذيْن الدليليْن :
الدليل الأول : قوله تعالى { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَر } (3) ..
وجه الدلالة : أن الله تعالى أَوجَبَ قضاء الصوم على المريض
(1) كشف الأسرار لِلبخاري 1/314(1/119)
(2) انظر : الإحكام لِلآمدي 2/199 والوصول إلى الأصول 1/158 والبحر المحيط 2/403
(3) سورة البقرة مِن الآية 184
والمسافر ، وهو خلاف الأمر الأول الموجِب لِلصيام ابتداءً في قوله تعالى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه } (1) (2) ..
فلو كان القضاء واجباً بالأمر لكان خبر إيجابه على المريض والمسافر تأكيداً له ، وهي فائدة أَقَلّ مِن حمْل الخبر على التأسيس ، وحمْل كلام الشارع على التأسيس أَوْلى ؛ لِعِظَم فائدته ، ولا يكون إلا بجعل الأمر بالقضاء واجباً بالأمر الثاني لا أمر الإيجاب الأول ، وهو المدَّعَى .
الدليل الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } (3) ..
وجه الدلالة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَمَر النائمَ عن صلاة أو الناسي لها أن يأتي بها عند ذِكْرِها ، وهو أمْر مبتدأ خلاف الأمر الموجِب لِلأداء في قوله تعالى { وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَباً مَّوْقُوتا } (4) ..
فلو كان القضاء لا يستلزم أمراً جديداً لكان الأمر الموجِب لِلأداء كافياً ولكان الأمر الثاني تأكيداً لِلأول ، لكنّ حمْل الأمر الثاني على التأسيس أَوْلى ؛ لِكثرة فائدته ، وهو الأصل الذي يُحمَل كلام الشارع عليه ، فدل ذلك على أن الأمر بالقضاء يستلزم أمراً جديداً (5) .
(1) سورة البقرة مِن الآية 185
(2) انظر : أحكام القرآن لِلجصاص 1/183 ، 208 والجامع لأحكام القرآن 2/281 ، 282 ، 299 وأصول السرخسي 1/45 وشرح المغنِي لابن إسحاق لو /28 وشرح طلعة الشمس 1/45
(3) هذا الحديث سبق تخريجه .
(4) سورة النساء مِن الآية 103
(5) انظر : أصول السرخسي 1/45 والإحكام لِلآمدي 2/200 ، 201 وشرح المغنِي لابن إسحاق لو /28 وشرح طلعة الشمس 1/45
مناقشة هذيْن الدليليْن :(1/120)
وقد نوقش هذان الدليلان مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أن النَّصَّيْن ليس بهما دلالة على أمر جديد ، وإنما دَلاَّ على أنّ شرف الوقت غير مضمون أصلاً إذا لم يكن عامداً في الترك ، وبذا يكون الدليلان حجةً لِلمذهب الثاني (1) .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد أجيبَ عن هذا الوجه مِن المناقشة : بأن الله تعالى لَمّا أَمَرَنا بقضاء الصوم عَلِمْنا أن الأمر الأول لم يتناول وجوب القضاء ، ولو تناول ذلك لم يحتجْ إلى استئناف ، وكذلك في الحديث الشريف ..
فثبت عند التحقيق أن النَّصَّيْن تَضَمَّنَا أمراً جديداً ، فيكون حجةً لِلمذهب الأول (2) .
الوجه الثاني : أنّا لا نسلِّم أن النَّصّ لإيجاب القضاء ، وإنما هو إعلام ببقاء الواجب (3) .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد أجيبَ ... عن هذا الوجه مِن المناقشة : بأن بقاء الواجب الذي فات وقته لا يحتاج إلى دليل ، فالذمة مشغولة به ، وأَصبَحَ دَيْناً على العبد في ذمته ، أمّا أن يؤدَّى بأي كيفية وفي أي وقت آخَر فهذا الذي يحتاج إلى دليل موجِب خلاف الدليل الأول ، وهذا ما أكَّده وجه الاستدلال بالآية الكريمة والحديث النبوي ، فالأمر فيهما ليس إعلاماً ببقاء الواجب كما ذهب المعترِض ، وإنما هو أمْر بقضاء ما فات وقته بعذر .
(1) شرح التوضيح 1/162
(2) انظر : شرح اللمع 1/232 وتشنيف المسامع لو /68
(3) انظر : شرح التوضيح 1/162 وشرح التلويح 1/163
أدلة المذهب الثاني :
استدل أصحاب المذهب الثاني ـ القائلون بأن القضاء يجب بالأمر الأول ـ بأدلة ، أَذكر منها هذيْن الدليليْن :
الدليل الأول : أن الوقت لِلمأمور به كالأَجَل لِلدَّيْن ؛ فكما أن الدَّيْن لا يَسْقُط حينما لا يؤدَّى في أَجَلِه ويجب الأداء بعده فكذلك المأمور به إذا لم يؤدَّ في وقته ؛ فإنه لا يَسْقُط ، ويجب أداؤه بعد وقته بمقتضى الأمر الأول (1) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهيْن :(1/121)
الوجه الأول : أنه قياس في اللغة ، وهو باطل .
الوجه الثاني : أن قياس المأمور به على الدَّيْن قياس مع الفارق ؛ لأن الدَّيْن لو عُجِّل أجزأ ، بخلاف العبادة المأمور بها في وقت محدَّد لو عُجِّلَت لا تُجْزِئ عن الفرض ، كما أن تأخير العبادة عن وقتها بغير عذر يستوجب التأثيم والعِقاب ، وتأخير الدَّيْن لا إثم فيه ، ولِذا كان قياسكم مع الفارق ، فلا يُقْبَل (2) .
الدليل الثاني : أن القول بأن القضاء يجب بالأمر الثاني به تَناقُض ؛ لأن إيقاع الفعل بمقتضى الأمر الثاني يُعتبَر أداءً ؛ لأنه إيقاع لِلفعل في وقته المحدَّد ، فتسميته " قضاءً " حينئذٍ ليس لها معنى ، ولِذا كان القضاء واجباً بالأمر الأول ، وهو المدَّعَى (3) .
(1) انظر : تقويم الأدلة 2/140 والإحكام لِلآمدي 2/201 وبيان المختصر 2/76 وشرح العضد 2/92
(2) انظر : إحكام الفصول /217 ، 218 والإحكام لِلآمدي 2/202 وبيان المختصر 2/77 وشرح العضد 2/92
(3) انظر : شرح اللمع 1/234 والتمهيد لأبي الخطاب 1/254 والإحكام لِلآمدي 2/201 وشرح العضد 2/92
مناقشة هذا الدليل :
وأناقش هذا الدليل : بأنّا نُفَرِّق بين أمر مبتدأ وأمْر وَرَد استدراكاً لِمَا فات مِن مصلحة الفعل المأمور به أولاً ، ولِذا سُمِّي المأمور به ثانياً " قضاءً " ؛ لأنه أقيمَ مقام الفعل الذي أُمِر به في الوقت ولكن بأمرٍ مستأنَف (1) .
بيان المذهب الراجح :
بعد الوقوف على أدلة المذاهب في هذه المسألة يتضح أن أَوْلاها بالقبول والاختيار هو المذهب الأول القائل بأن القضاء يستلزم أمراً جديداً وهو ما ذهب إليه الجمهور ، وذلك لِمَا يلي :
1- سلامة أدلة المذهب الأول مِن المُعارِض الراجح .
2- أن أدلة المذهب الثاني قد رُدَّت جميعها لِضَعفها ، كما أن القول به يَجعل الفعل في الوقت وبعده سواءً ، وهو مُخالِف لِلنصوص الشرعية التي تؤكد عدم استواء الفعل في الوقتين ..(1/122)
ومِن ذلك : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ أَفْطَرَ يَوْماً مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلاَ مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَه } (2) ..
كما أن القول به ـ أي المذهب الثاني ـ يجعل قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا ، لَيْسَ لَهَا كَفَّارَةٌ إِلاَّ ذَلِك } (3) تحصيلاً لِحاصل ، ولم يَعُد سوى التأكيد ، لكنّ حمْلَه هنا على التأسيس أَوْلى ، ولا يكون إلا بجعل القضاء يستلزم أمراً جديداً .
(1) انظر المراجع السابقة .
(2) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(3) هذا الحديث سبق تخريجه .
خامساً : ما يتفرع على هذه المسألة
لقد فرَّع العلماء فروعاً على استلزام القضاء أمراً جديداً فروعاً فقهيةً عديدةً ، أَذكر منها هذيْن الفرعيْن :
الفرع الأول
ما إذا قال لِوكيله :" أَدِّ عني زكاة الفطر " فخرج الوقت : هل له أن يُخرِجها بعده ؟
فإن قلنا : " إن القضاء لا يستلزم أمراً جديداً " كان واجباً عليه إخراجها مع الإثم .
وإن قلنا : " إن القضاء يستلزم أمراً جديداً " لم يجب عليه إخراجها إلا إن وجدْنا أمراً بإخراجها بعد وقتها .
الفرع الثاني
إذا نذر أضحيةً ووكَّل شخصاً في ذبحها وأدائها إلى الفقراء فخرج وقتها ، فيُخرَّج على القاعدة :
إن قلنا : " إنه يستلزم أمراً جديداً " لم يجب القضاء .
وإن قلنا : " إنه لا يستلزم " وجب عليه القضاء (1) .
(1) انظر التمهيد لِلإسنوي /68
المطلب الخامس
مقدمة الواجب
وسيكون الكلام في مقدمة الواجب على النحو التالي :
أولاً : تعريف مقدمة الواجب ، والفَرْق بينها وبين مقدمة الوجوب .
ثانياً : أقسام مقدمة الواجب .
ثالثاً : مذاهب الأصوليين في مقدمة الواجب .
رابعاً : ما يتفرع على مقدمة الواجب .
وفيما يلي نفصِّل القول في كل واحد منها :
أولاً : تعريف مقدمة الواجب(1/123)
والفَرْق بينها وبين مقدمة الوجوب
أولاً - تعريف مقدمة الواجب :
والمقدمة في اللغة : مِن " قدم " أي سبق ، وهي بالكسر وقيل بفتحها أول الشيء ، يقال : " مقدمة الجيش " أوله ، وهي طائفة تسير أمامه ، والمقدمة في الإنسان ما استقبلك مِن الجبهة والجبين ، ومثله مقدمة الكتاب (1) .
وبعد الوقوف على التعريف السابق لِلواجب يكون معنى مقدمة الواجب : الأمور التي تلزم لِتحقيق الواجب قبل الدخول في حقيقته ، وهذا اللازم قد يكون سبباً أو شرطاً أو مانعاً على ما سيأتي تفصيله .
(1) انظر : لسان العرب 12/468 ، 469 والقاموس المحيط /1481 والمصباح المنير 2/66 وتهذيب الصحاح /773
ثانياً - الفَرْق بين مقدمة الوجوب ومقدمة الواجب :
والمراد بمقدمة الوجوب : ما يتوقف عليها نفس الوجوب ، نحو : البلوغ والعقل فإنه شرط للتكليف ، والاستطاعة لأداء الحج (1) .
وهذه المقدمة لا يطالَب بها المكلَّف بالاتفاق (2) ؛ ولِذا كان تعبير البعض بـ" مقدمة الوجوب " (3) تعبيراً لا أرتضيه ، والصواب : مقدمة الواجب .
ثانياً : أقسام مقدمة الواجب
وتنقسم مقدمة الواجب إلى قسمين :
القسم الأول : وهو ما يتوقف عليها وجود الواجب في الخارج ..
وهذه المقدمة قد تكون مطلوبةً مِن جهة الشارع ، نحو : توقف الصلاة على الطهارة ، أو مِن جهة العقل : كتوقف الحج على السفر إلى تلك البقاع المخصوصة .
القسم الثاني : وهو ما يتوقف عليها العلم بحصول الواجب ..
وهذا القسم له صورتان :
الصورة الأولى : أن يكون الواجب ملتبساً بغيره ، فيجب الإتيان بذلك الغير لِيحصل العلم بحصول الواجب : كمَن تَرَك صلاةً مِن الخمس ولم يَدْرِ عينها فإنه يجب عليه الإتيان بالصلوات الخمس ؛ ليتحقق الإتيان بالصلاة المتروكة .(1/124)
والصورة الثانية : أن يكون الواجب مميزا عن غيره ، لكن يمتنع الإتيان بالواجب عادةً إلا مع الإتيان بذلك الغير ؛ لاتصاله به ، نحو : ستر الفخذ فإنه واجب ؛ لأن ستر العورة مِن شروط الصلاة ، وعورة الرجل ما بين
(1) انظر : أصول الفقه لِلشيخ محمد رضا المظفر 2/269
(2) البحر المحيط 1/233
(3) انظر : مباحث الحكم عند الأصوليين لِمدكور /88 ، 89 وأصول الفقه الإسلامي لِلزحيلي 1/67
السرة والركبة ، ولا يمكن الإتيان به إلا بستر شيء مِن الركبة ، فوجب ستْر شيء منها (1) .
ثالثاً : مذاهب الأصوليين في مقدمة الواجب
أولاً - تحرير محل النزاع :
ما يتوقف عليه الواجب إما أن يكون سابقاً عليه ، وهو : السبب ، والشرط ، وانتفاء المانع ..
وإما أن يكون داخلاً فيه أي جزءاً منه وركناً .
أمّا المانع ـ كالدين الذي يمنع وجوب الزكاة ـ فلا يجب على المكلَّف نفْيه بالإجماع ليتحقق الواجب ، ولِذا لا يكون مرادا هنا .
وأمّا جزء الواجب أو ركنه ـ نحو : أركان الصلاة : كالأمر بالركوع والسجود ـ فلا خلاف في أن الأمر بالماهية ( الصلاة ) أمْر به ، فلا يكون داخلاً في مقدمة الواجب .
ولِذا لم يبق محلاًّ لِمقدمة الواجب سوى السبب والشرط ، فهُما محل النزاع (2) ..
واتفق الأصوليون على أن الواجب إذا كان مقيداً بسبب أو شرط فإن حصوله يكون واجبا بمقتضى هذا القيد ، نحو : قوله تعالى { أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْس } (3) (4) ..
(1) انظر : حقائق الأصول 1/233 ، 234 بتصرف وانظر : منهاج الوصول /11 والحاصل /284 ومعراج المنهاج 1/93 ، 94 والإبهاج 1/112 ، 113 ونهاية السول 1/135 ، 136 ومنهاج العقول 1/134 ـ 136 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/121 ، 122
(2) انظر : البحر المحيط 1/223 والإبهاج 1/112 ونشر البنود 1/163 وأصول الفقه لأبي زهرة /63
(3) سورة الإسراء من الآية 78
(4) انظر : الإحكام لِلآمدي 1/152 ، 153
وقسم بعضهم المأمور به المقيد إلى قسميْن :(1/125)
الأول : المأمور به المقترن بما يتوقف عليه وجوده ..
كأن يقال : صَلِّ بوضوء .
والثاني : المأمور به المقترن بما يتوقف وجوبه عليه ..
كالزكاة المقيد وجوبها بملك النصاب (1) .
والجميع متفقون على وجوب جميع ما سبق بمقتضى القيد الوارد في الأمر ، وأنه في هذه الحالة خارج محل النزاع ..
كما اتفقوا : على أن الشرط أو السبب إذا لم يكن مقدورا للمكلَّف فلا يكون واجبا عليه ، إلا على رأْي مَن يُجَوِّز التكليف بالمحال : كحضور الإمام الجمعة وتمام العدد فيها (2) .
ومما تَقدَّم يتضح أن محل النزاع له شرطان :
الأول : أن يكون مقدوراً لِلمكلَّف .
الثاني : أن يكون الواجب مطلقاً ..
وليس المراد بالمطلق هنا الإطلاق المطلق مِن كل وجه ، وإنما المراد به أن لا يكون مقيدا بما يتوقف عليه وجوده ، وإن كان مقيداً بما يتوقف عليه وجوبه : كوجوب الزكاة ، فإنها متوقفة على وجود النصاب ، وكذلك الأمر بالصلاة ، ومِثلها التكاليف الشرعية ، فإنها جميعا مقيدة بشروط وجوب : كالإسلام والبلوغ والعقل ، فهذه الشروط بالنسبة إلى هذه التكاليف تُعَدّ قيداً فيها ، ولكنها بالإضافة إلى غيرها ـ كالطهارة وستر العورة
(1) حاشية النفحات /60 بتصرف .
(2) انظر : الإحكام لِلآمدي 1/152 ، 153 وشرح الكوكب المنير 1/358
لِلصلاة تُعَدّ واجبةً مطلقاً (1) .
واختلف الأصوليون في أن الخطاب الدالّ على وجوب شيء هل يدل ـ أيضاً ـ على وجوب ما يتوقف عليه وجوده من شرط أو سبب ـ وهو ما يعرف بمقدمة الواجب ـ فتكون المقدمة واجبةً بما وجب به الواجب ؟ أو لا يكون دالاًّ ، ويكون وجوبه متلقى مِن دليل آخَر غير دليل الواجب المذكور ؟
ومثال ذلك : أمْر الشارع بغسل الوجه في الوضوء ، ولا يتحقق إلا بغسل جزء مِن الرأس ، فهل يكون غسل ذلك الجزء مِن الرأس واجباً بما وجب به غسل الوجه ؟
ثانياً - مذاهب الأصوليين في مقدمة الواجب (2) :
ولِلأصوليون في مقدمة الواجب أربعة مذاهب :(1/126)
المذهب الأول : أن إيجاب الشيء يدل على إيجاب ما لا يتم إلا به ، سبباً كان أو شرطاً ، سواء أكان السبب شرعيّاً أم عقليّاً أم عاديّاً ، وسواء أكان الشرط شرعيّاً أم عقليّاً أم عاديّاً ..
وإليه ذهب الجمهور (3) ، واختاره البصري (4) والشيرازي (5) .
(1) انظر : المستصفى 1/71 والمعالم /70 وشرح اللمع 1/245 ، 246 وحاشية السيد الجرجاني على المختصر 1/245 والضياء اللامع 1/342 وحاشية البناني 1/193
(2) انظر محل النزاع في : المعتمد 1/94 ، 95 والمحصول 1/289 والإحكام لِلآمدي 1/153 وشرح تنقيح الفصول /161 ومبادئ الوصول /106 وبيان المختصر 1/169 وحقائق الأصول 1/223 وبذل النظر /83 وحاشية البناني 1/193 ونشر البنود 1/163
(3) انظر : بذل النظر /83 والتحصيل 1/307 والإبهاج 1/108 ونهاية السول 1/130 والتحرير مع التيسير 2/215
(4) المعتمد 1/94
(5) شرح اللمع 1/245
المذهب الثاني : أن إيجاب الشيء يدل على إيجاب الشرط الشرعي فقط ..
وهو اختيار إمام الحرمين (1) وابن الحاجب (2) وابن القشيري (3) والطوفي (4) .
المذهب الثالث : أن إيجاب الشيء لا يدل على إيجاب ما لايتم إلا به ، سبباً كان أو شرطاً ، وسواء أكان السبب شرعيّاً أم عقليّاً أم عاديّاً، وسواء أكان الشرط شرعيّاً أم عقليّاً أم عاديّاً ..
وإليه ذهب أكثر المعتزلة (5) .
المذهب الرابع : أن إيجاب الشيء يدل على إيجاب السبب فقط ، شرعيّاً كان أو عقليّاً أو عاديّاً ..
وإليه ذهب الشريف المرتضى (6) ، ونَسَبَه القرافي إلى الواقفية (7) .
ثالثاً - أدلة المذاهب :
أدلة المذهب الأول :
استدل الجمهور على أن إيجاب الشيء يوجب ما لايتم إلا به ـ شرطاً
(1) البرهان 1/752
(2) مختصر المنتهى 1/44
(3) البحر المحيط 1/225
(4) شرح مختصر الروضة 1/335
(5) انظر : البحر المحيط 1/225 وحقائق الأصول 1/224 والإبهاج 1/109 ونهاية السول 1/131
(6) الذريعة /16(1/127)
(7) انظر : شرح تنقيح الفصول /161 والمحصول 1/189 والتحصيل 1/308 وحقائق الأصول 1/224 والإبهاج 1/109 ونهاية السول 1/131 والتمهيد لِلإسنوي /84 والضياء اللامع 1/34 ومُسلَّم الثبوت 1/95 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/120
كان أو سبباً ـ بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : لو لم يكن الخطاب الدالّ على إيجاب الفعل المأمور به دالاًّ على إيجاب شرطه لأدى إلى الباطل ، وهو ممنوع ..
فدل ذلك على أن إيجاب الشيء يقتضي إيجاب شرطه ، وهو المدَّعَى .
أمّا بيان وجه بطلان عدم إيجاب الشرط فمِن ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : لو لم يكن الشرط واجباً لَلَزم منه التكليف بالمشروط مِن غير تكليف بالشرط ، ولَجاز لِلمكلَّف أن يأتي بالمشروط بدون شرطه ، كما أن جواز ترك الشرط يجعل المشروط كذلك ، فيكون المشروط ( الواجب ) غير جائز الترك وجائز الترك ، وهذا هو التناقض بعينه ، وهو باطل (1) .
الوجه الثاني : أن الشرط لو لم يكن واجباً لكان الإتيان بدون شروطه صحيحاً ؛ لأن الشرط ليس مأموراً به ، والمكلَّف إنما أتى بما أُمِر به وهو المشروط ، ولزم عليه أن الشرط ليس شرطاً ؛ حيث عدم هنا ، ولم يلزم مِن عدمه عدم المشروط ، وقد وجد المشروط دون الشرط ، وهو محال (2) .
الوجه الثالث : لو لم يكن إيجاب الشرط واجباً لَلَزم منه تكليف المكلَّف بالمشروط وقت انعدام الشرط ، وهو لا قدرة له عليه ؛ لأن المشروط ينعدم بانعدام الشرط ، فيكون مكلَّفاً بما لا يطاق ، وهو باطل (3) .
(1) انظر : منهاج الوصول /11 وحقائق الأصول 1/226 والإبهاج 1/108 والتقرير والتحبير 2/137 ونهاية السول 1/133 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/117
(2) انظر : بيان المختصر 1/370 ، 371 وشرح العضد على المختصر 1/244 ونهاية السول 1/133
(3) انظر : المحصول 1/289 والمعالم /70 ونهاية السول 1/133 ومسلم الثبوت 1/95 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/118(1/128)
وإذا ثبت بطلان إيجاب المشروط دون إيجاب الشرط دل ذلك على أن الخطاب الدالّ على إيجاب المشروط دالّ على إيجاب الشرط ، وإذا دل الخطاب على إيجاب الشرط دل على إيجاب السبب مِن باب أَوْلى ، وذلك لأن الشرط يؤثر في المشروط مِن ناحية واحدة وهي العدم .
أمّا السبب فإنه يؤثر في المسبب مِن ناحيتي الوجود والعدم ؛ حيث يلزم مِن عدمه العدم ومِن وجوده الوجود .
وما يؤثر مِن ناحيتين يكون أقوى مما يؤثر من ناحية واحدة ، وإذا دل الخطاب على ما يؤثر في الواجب من ناحية واحدة كان إيجاب ما يؤثر في الواجب مِن جهتين مِن باب أَوْلى ..
فدل ذلك على أن الخطاب الدالّ على إيجاب الفعل المأمور به يقتضي إيجاب ما لا يتم إلا به ، سواء كان شرطاً أو سبباً ، وهو المدَّعَى (1) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لو سلَّمْنا لكم أنه يلزم مِن التكليف بالمشروط حال عدم الشرط المُحال ؛ لأن إيجاب الشيء قد يكون مختصّاً بوقت وجود الشرط ، وإذا كان كذلك فلا يلزم وجود المشروط بدون شرْطه ، وإنما ينتفي المشروط بانتفاء شرْطه .
الجواب عن هذه المناقشة :
وأجيب عن هذه المناقشة : بأن اعتراضكم في غير محل النزاع ، وهو إيجاب الشيء مطلقاً ، والواجب المطلق ظاهراً يقتضي وجوبه في كل وقت ، فتخصيصه بوقت وجود الشرط خلاف الظاهر ، ومخالَفة الظاهر
(1) انظر المراجع السابقة مع شرح المحلي مع البناني 1/193 ، 194 وحاشية البناني 1/195 وتقرير الشربيني مع البناني 1/193 ، 194
بغير دليل غير جائزة (1) .
مناقشة هذا الجواب :
وقد نوقش هذا الجواب : بأنكم جوَّزتم مخالَفة الظاهر حينما أوجبتم مقدمة الواجب مع أن ظاهر الأمر لا يدل عليه ، فلِمَ لا يجوز هنا ؟
فما هو جواب لكم هو جواب لنا .
الجواب عن هذه المناقشة :(1/129)
وقد ردت هذه المناقشة : بأنّا لا نسلِّم لكم أن إيجاب مقدمة الواجب مخالَفة لِلظاهر ؛ لأن مخالفة الظاهر هي : إثبات ما ينفيه اللفظ أو نفْي ما يثبته اللفظ ..
وإيجاب مقدمة الواجب لا تعرض لِلفظ الواجب لها لا بنفي ولا إثبات ، فلم يكن إيجابها لِدليل منفصل مخالَفةً لِلظاهر .
أمّا تخصيص الأمر بوقت وجود الشرط فإنه مخالفة لِلظاهر ؛ لأن الأمر يقتضي الوجوب مطلقاً ، فتقييده بوقت دون سواه مخالفة لِلظاهر (2) .
الدليل الثاني : لقد انعقد إجماع الأمة على إطلاق القول بوجوب تحصيل ما أوجَبَه الشارع ، وتحصيله إنما يتحقق بتعاطي الأمور الممكنة مِن الإتيان به ، والتي سبق حصْرها في الشروط والأسباب ، فوجب تحصيلها لِتحصيل ما أَوْجَبَه الشارع ؛ وإلا لزم التكليف بالمًحال ، وهو باطل .
(1) انظر : حقائق الأصول 1/227 ، 228 ونهاية السول 1/134 والإبهاج 1/111 ومعراج المنهاج 1/93
(2) انظر : المعتمد 1/96 وبذل النظر /84 والمحصول 1/290 والمعالم /70 وسلم الوصول 1/210 والتمهيد لِلكلوذاني 1/325
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أن القول بإيجاب الشرط زيادة على مقتضى الأمر ؛ لأن الأمر لم يقتضِ سوى إيجاب المشروط ، والزيادة على النص نسْخ ، ونسْخ مدلول النص لا يكون إلا بنص آخَر ، ولا نص ، فالقول بوجوب الشرط زيادة بغير نص ، وهو باطل .
الجواب عن هذه المناقشة :
وأجيب عن هذه المناقشة : بأن النسخ يكون لازماً لو كان ما قيل بوجوبه رافعاً لِمقتضى النص الوارد بالمشروط ، وليس كذلك ، فإن مقتضاه وجوبه ، وهو باق بحاله ، وإذا كان النص باقياً فادعاء النسخ ادعاء باطل (1) .
الوجه الثاني : أن الشرط لو كان واجباً لكان مقدوراً لِلمكلَّف ؛ حذراً مِن التكليف بما لا يطاق ، وما يجب غسْله مِن الرأس وإمساكه مِن الليل غير مقدور لِلمكلَّف ، ولِذا كان الشرط غير واجب .
الجواب عن هذا الوجه :(1/130)
وأجيب عن هذا الوجه مِن المناقشة : بأن اعتراضكم مَبْنِيّ على القول بأن كل واجب لا يُقدَّر بقدْر محدود فالزيادة على ما يطلَق عليه الاسم هل توصف بالوجوب ؛ لكون نسبة الكل إلى الوجوب نسبةً واحدةً ، فيكون الجميع واجباً ؟ أو أن الواجب أقَلّ ما يطلَق عليه الاسم ، والزيادة ندب ؟ والواجب عندنا أقَلّ ما يطلَق عليه الاسم ، وهو مقدور لِلمكلَّف ، فلا وجه لاعتراضكم .
(1) الإحكام لِلآمدي 1/154 بتصرف وانظر : منتهى السول 1/26 ومباحث الواجب /860
الوجه الثالث :
أن الشرط لو كان واجباً لكان مثاباً على فِعلِه ومعاقَباً على تَرْكه ، ولكن الثواب والعِقاب إنما هو على غسْل الوجه وترْكه ، وعلى صوم اليوم وترْكه ، لا على مسْح بعض الرأس وإمساك شيء مِن الليل ، وحيث إنه لا ثواب على فِعله ولا عِقاب على ترْكه فيكون غير واجب .
الجواب عن هذا الوجه :
وأجيب عن هذا الوجه مِن المناقشة : بأنّا نسلِّم لكم ما ذكرتموه مِن الثواب والعِقاب إذا كان المكلَّف قادراً على الإتيان بالفعل دون شرطه ؛ لأنه ليس بواجب ، ونمنع اعتراضكم إذا عجز المكلَّف عن الإتيان بالمشروط دون الشرط ، وحينئذ يثاب عليه ثواب إتيان الواجب ، ويعاقَب على تَرْكه عِقاب ترْك الواجب ، وما ذاك إلا لأن الواجب لا يتحقق إلا بمقدماته مِن شرط أو سبب (1) .
أدلة المذهب الثاني :
استدل ابن الحاجب لِمذهبه القائل بإيجاب الشرط الشرعي بدليليْن :
الأول : لإثبات وجوب الشرط الشرعي .
والثاني : لِنفْي إيجاب ما عدا الشرط الشرعي .
وأُفصِّلهما فيما يلي :
الدليل الأول : أن الشرط الشرعي لو لم يكن واجباً لكان الفعل المشروط مأتيّاً به على الوجه الأكمل ، وكان صحيحاً مُجزِئاً ؛ لأن المكلَّف أتى بما أُمِر به ، وهو لم يؤمر بغير الواجب ( المشروط ) ..
وحينئذ يكون الشرط الشرعي لا فائدة منه ؛ لأن المشروط لم ينعدم
(1) الإحكام لِلآمدي 1/104 ، 105 بتصرف وانظر منتهى السول 1/27(1/131)
بانعدامه ، وهذا ينفي حقيقة الشرطية المستلزِمة عدم المشروط عند عدم شرْطه ، وبذا لا يكون الشرط الشرعي شرطاً لِلفعل مطلقاً ـ وهو محال ـ فوجب أن يكون إيجاب الشيء مقتضِياً لإيجاب الشرط الشرعي ، وهو المدَّعَى (1) .
مناقشة هذا الدليل :
وأرى مناقشة هذا الدليل مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أنّ قصْركم إيجاب الشرط الشرعي ليتم الواجب به يُلزِمكم إيجاب السبب الشرعي لِيَتِمّ الواجب به أيضاً ؛ لأن العلة فيهما واحدة ، وهي أن السبب إنما عُرِفَت سببيته مِن الشارع كما عُرِفَت في الشرط ، فإيجابكم الشرط الشرعي دون السبب الشرعي فيه نقْض لِدليلكم (2) .
الوجه الثاني : أنكم سلَّمتم بإيجاب الشرط العقلي والعادي ؛ لأنه لا وجود لِمشروطه عقلاً أو عادةً بدونه ، وقلتم إن الشارع لا يقصدها بالطلب (3) ..
فإن أردتم أن الشارع لم يصرِّح بطلبها كما في الشرط فلا بأس ، ولكن ذلك لا يمنع تَوَقُّف الواجب عليها شرعاً .
وإن أردتم أنها غير مطلوبة لِلشارع فغير مُسلَّم ؛ لأن المكلَّف حينئذ يكون متعدياً بفعله ما ليس مطلوباً منه شرعاً ، فيأثم لِذلك ، وهو باطل قطعاً ؛ لأن المكلَّف لو ترك ضد المأمور به ـ وهو شرط عقلي ـ أو غسل جزء مِن الرأس لغسل الوجه في الوضوء ـ وهو شرط عادي ـ لَعُدَّ شرعاً
(1) انظر : مختصر المنتهى 1/244 وشرح العضد على المختصر 1/245 وحاشية السعد على المختصر 1/246 وبيان المختصر 1/370 ، 371 وحقائق الأصول 1/226 ، 227 ونهاية السول 1/133 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/121
(2) انظر : تقرير الشربيني مع العطار 1/253 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/121
(3) انظر : الضياء اللامع 1/345 ونشر البنود 1/166 وشرح المحلي مع العطار 1/253
مطيعاً ؛ لأن الواجب المأمور به لا يتم شرعاً بدونها ؛ ولِذا فإنها تُعتبَر مطلوبةً ضمناً في أمر الإيجاب .(1/132)
وما قيل في الشرط يقال في السبب ؛ لأن الجامع بينهما واحد ، وهو تَوقُّف المسبّب عليه ، كما أن السبب أقوى من الشرط كما تَقَدَّم ذِكره .
ومما تقدم يتبين أن الدليل المذكور حجة على هذا المذهب لا له ؛ لأن مقدمة الواجب ـ سبباً أو شرطاً ـ تُعَدّ مطلوبةً لِلشارع ، تَضَمَّنَها أمْر الإيجاب وإن لم يُشِر إليها صراحةً .
الدليل الثاني : وهو لنفي إيجاب ما عدا الشرط الشرعي ..
استدل ابن الحاجب بأن غير الشرط الشرعي لا يكون واجباً بإيجاب الواجب بدليل ، تقريره مِن ستة وجوه ، أكتفي منْها بثلاثة :
الوجه الأول : أنه لو استلزم الواجب وجوب غير الشرط مما لا يتم إلا به لزم تعقل الموجب أي الآمر لِغير الشرط ؛ لاستحالة إيجاب الشيء مع الذهول عنه ، والتالي باطل ؛ فإن الموجب لِلشيء قد يغفل عمّا يتوقف عليه ، فيلزم بطلان المقدم .
مناقشة هذا الوجه :
وقد نوقش هذا الوجه : بأنّا لا نسلِّم لزوم تعقل الموجب له ، وإنما يلزم ذلك أن لو كان الواجب بالأصالة ، أمّا إذا كان بالتبعية فلا ، سلَّمْنا لكنه منقوض بوجوب الشرط الشرعي .
الوجه الثاني : أنه لو استلزم الواجب وجوب غير الشرط الشرعي لم يكن تَعلُّق الوجوب الذي هو طلبُ الوجود مع منْع النقيض بالواجب الذي هو غير الشرط الشرعي لِذاته ؛ لِتَوقُّف تَعَلُّق الوجوب على تَعَلُّقه بملزومه ، والتالي باطل ؛ لأن الطلب لا يُعقَل تَعَلُّقُه بشيء غير المطلوب ، فيلزم
بطلان المقدم .
مناقشة هذا الوجه :
وقد نوقش هذا الوجه : بأنه إن أراد بتعلق الوجوب التعلق بالأصالة فلا نسلِّم انتفاء التالي ؛ فإنّ تعلُّق الوجوب بالمقدمات ليست بالأصالة بل بالفرعية ؛ لِتعلُّق الوجوب بملزومها أولاً ، وبواسطة الملزوم يتعلق بها ..
وإن أراد به التعلق الفرعي فممنوع ؛ لأن الوجوب الأول يتعلق بالشيء ثم نشأ منه الوجوب الثاني ، فتعلُّق الوجوب الثاني الفرعي بالمقدمات لِذاته وأيضاً فهو منقوض بوجوب الشرط الشرعي .(1/133)
الوجه الثالث : أنه لو استلزم الواجب وجوب غير الشرط لامتنع التصريح بعدم وجوبه ، لكن نحن نَقطَع بصحة إيجاب غسْل الوجه ـ مَثَلاً ـ مع التصريح بعدم وجوب غسْل شيء مِن الرأس .
مناقشة هذا الوجه :
وقد نوقش هذا الوجه : بأنّ غسْل جزء مِن الرأس ليس بواجب على كل أحد ؛ إذ الوجوب عندهم إنما يتحقق بالنسبة إلى العاجز عن الإتيان بغسل الوجه دون غسل جزء من الرأس لا القادر ، وعند ذلك فالملازمة ممنوعة في صورة القادر ، وبطلان اللازم في صورة العاجز .
أدلة المذهب الثالث :
استدل أصحاب المذهب الثالث ـ القائلون بأن الخطاب الدالّ على إيجاب الشيء لا يقتضي إيجاب ما يتوقف عليه ، سبباً كان أو شرطاً ـ بدليل واحد ، مفاده : أن الخطاب الطالب لِلفعل المأمور به لم يتعرض لإيجاب الشرط ولا لإيجاب السبب ، فالأمر لا يقتضي إلا تحصيل المقصد
أمّا الوسيلة ـ أي المقدمة ـ فلا ..
ولأنه إذا ترك المقصد ـ كصلاة الجمعة أو الحج ـ فإنه يعاقَب عليهما دون المشي إليهما ، وإذا لم يستحق عِقاباً عليه لم يكن واجباً ؛ لأن استحقاق العِقاب على الترك أمارة الوجوب ..
فدل ذلك على عدم وجوب مقدمة الواجب شرطاً كان أو سبباً ، وهو المدَّعَى (1) .
مناقشة هذا الدليل :
وأرى مناقشة هذا الدليل مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أنّا سلَّمْنا أنّ لفْظ الأمر لم يصرِّح بإيجاب المقدمة وأنه يقتضي تحصيل المقصد ، لكن لا نُسلِّم أنه لم يتضمن إيجاب مقدمة الواجب ، وذلك لأن وجوب المأمور به يقتضي وجوب ما لايتم إلا به ، وأن تحصيل المقصد مِن الأمر لا يتم إلا بالتمكن مِن أداء المأمور به ، ولن يحصل إلا بتحصيل مقدماته ..
فقوله : " توضأ " لفْظ لم يوجِب إلا فِعل الوضوء ، ولكن الوضوء لا يتم إلا بتحصيل الماء الذي يتوضأ به ؛ فكان وجوبه تابعاً لِوجوب الوضوء وإن لم يَرِدْ له ذِكْر في الأمر (2) .(1/134)
الوجه الثاني : أنّا نسلِّم لكم أن استحقاق العِقاب على الترك أمارة الوجوب لكنه الوجوب بالأصالة ، أمّا مقدمة الواجب فإنها واجبة بالتبعية ، ومع ذلك قد يأثم المكلَّف ويستحق العِقاب بتركها إذا ترتب على ترْكها ترْك الواجب ..
(1) انظر : المعتمد 1/96 والتمهيد لِلكلوذاني 1/324 وشرح تنقيح الفصول /164 ، 165
(2) انظر : المعتمد 1/96 والتمهيد لِلكلوذاني 1/324
فلو تَرَك ستْر العورة في الصلاة بغير عذْر كانت صلاته غير صحيحة ويُعَدّ المكلَّف عاصياً بذلك ، وما أدى إلى المعصية كان كذلك ، فثبت أن مقدمة الواجب واجبة ؛ وإلا لَمَا ترتب على ترْكها شيء .
أدلة المذهب الرابع :
استدل أصحاب المذهب الرابع ـ القائلون بإيجاب السبب دون الشرط ـ بدليل واحد ، حاصله : أن إيجاب المسبب يستلزم إيجاب سببه ، وإيجاب المشروط لا يستلزم إيجاب شرْطه ؛ لأن العلاقة بين السبب والمسبب أقوى مِن العلاقة بيْن الشرط والمشروط ، فالسبب يؤثر بطرفَي الوجود والعدم ، والشرط يؤثر بطرف الوجود فقط ، ولِذا لا يَلزم مِن استلزام إيجاب المسبب إيجاب سببه استلزام إيجاب المشروط إيجاب شرطه .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأن دليلكم مَبْنِيّ على الفَرْق بيْن السبب والشرط من حيث قوة ارتباط كل منهما بمسببه أو مشروطه ، وهو فَرْق ضعيف لا أثر له في الحكم ..
فالسبب والشرط متساويان بالنسبة لِلخطاب في أن كلاًّ منهما يتوقف عليه الواجب ولا يتم إلا به ، فإيجاب أحدهما دون الآخَر يُعَدّ ترجيحاً لأحد المتساوييْن بِلا مرجِّح ، وهو باطل (1) .
رابعاً - بيان المذهب الراجح :
بعد الوقوف على أدلة الأصوليين وحججهم في مقدمة الواجب أرى أن المذهب الأولى بالقبول والاختيار هو المذهب الأول القائل بأن إيجاب
(1) انظر : حقائق الأصول 1/229 ومنهاج العقول 1/129 وغاية الوصول /312 ، 313 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/120 وأصول الفقه لِلزحيلي 1/70(1/135)
الشيء يقتضي إيجاب ما لا يتم إلا به سبباً كان أو شرطاً ، وسواء أكان السبب شرعيّاً أم عقليّاً أم عاديّاً ، وسواء أكان الشرط شرعيّاً أم عقليّاً أم عاديّاً ، وذلك لِمَا يلي :
1- قوة حجته وسلامة أدلته مِن المناقشة ، وانعقاد إجماع الأمة على تحصيل ما لا يتم الواجب إلا به ..
يقول الآمدي :" انعقد إجماع الأمة على إطلاق القول بوجوب تحصيل ما أَوْجَبَه الشارع ، وتحصيله إنما هو بتعاطي الأمور الممَكِّنة من الإتيان به ، فإذا قيل : يجب التحصيل بما لا يكون واجباً كان متناقضاً " ا.هـ (1) .
2- أن المذهب الثاني الموجِب لِلشرط الشرعي فقط قد استند أصحابه إلى أدلة لم تَسْلَم مِن المناقشة ؛ لأنهم في إيجابهم لِلشرط الشرعي دون سواه كان هو الحجة عليهم لا لهم كما سبق توضيحه ..
يقول الأردبيلي :" وإذا ثبت ذلك في الشرط ففي السبب بطريق الأَوْلى فإن القائل بوجوب الشرط قائل بوجوب السبب من غير عكس " ا.هـ (2) .
3- وأمّا المذهب الثالث النافي لإيجاب مقدمة الواجب مطلقاً فقد استدلوا بدليل ضعيف لا ينهض على مواجهة أدلة المثبتين لِلمقدمة ـ وهم الجمهور ـ كما أنّ نَصّ الأمر الوارد وإن كان قاصراً على إيجاب المأمور به فلا شك أنه متضمن إيجاب ما لايتم إلا به ..
يقول الغزالي في " المستصفى " :" إذا وجب غسْل الوجه ولم يمكن إلا بغسل جزء من الرأس ، وإذا وجب الصوم ولم يمكن إلا بإمساك جزء مِن الليل قبل الصبح ، فيوصف ذلك بالوجوب ، ونقول : ما لا يتوصل إلى
(1) الإحكام لِلآمدي 1/154
(2) حقائق الأصول 1/227
الواجب إلا به ـ وهو فِعل المكلَّف ـ فهو واجب " ا.هـ (1) ..
ويقول في " المنخول " :" إذا ثبت أن صحة الصلاة موقوفة على الطهارة فالأمر المطلق بالصلاة الصحيحة أمْر بالطهارة ، خلافاً لِبعض العلماء ..(1/136)
ودليله : أن المأمور به لا يكون ممتثلاً إلا بفعل الطهارة ، فإذا وجبَت فلا مستند لِوجوبه إلا بالأمر بالصلاة ؛ فإنه مِن ضرورة الصلاة الصحيحة ، وهو كبعض أجزائها بعد أن ثبت أنه شرْطها " ا.هـ (2) .
4- وأمّا المذهب الرابع ـ وهم القائلون بإيجاب السبب دون الشرط ـ فقد نوقش دليلهم وتَبيَّنَ بطلانه ، وأن تفريقهم بين السبب والشرط ـ وهما متساويان في امتناع تَحقُّق الواجب بدون كل منهما ـ تفريق بغير دليل ، وترجيح بِلا مرجِّح ، وهو باطل .
رابعاً : ما يتفرع على مقدمة الواجب
أولاً - الفروع الفقهية المخرَّجة على مقدمة الواجب :
لقد تفرعَت على مقدمة الواجب فروع فقهية كثيرة ، أذكر منها هذيْن الفرعيْن :
الفرع الأول
إذا تَرَك صلاةً واحدةً مِن الصلوات الخمس المفروضة ثم نسيها فيجب عليه أداء الجميع .
وجْه تفريعه على القاعدة : أن أداء الصلاة المتروكة واجب عليه ، ولا يتمكن مِن أداء هذا الواجب إلا بأداء الصلوات الخمس ؛ ولِذا وجب
(1) المستصفى 1/71
(2) المنخول /117
أداؤها كمقدمة للواجب وهي الصلاة المتروكة (1) .
الفرع الثاني
إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار فيجب غسل الجميع وتكفينهم والصلاة عليهم .
وجْه تفريعه على هذه القاعدة : أن غسْل الميت المسلِم وتكفينه والصلاة عليه واجب على جماعة المسلمين ، ولا يتحقق أداء هذا الواجب إلا بغسل وتكفين والصلاة على مَن مات معهم مِن الكافرين ، ولِذا وجب غسْل الجميع وتكفينهم والصلاة عليهم ؛ لأن الواجب لا يتم إلا به ، والمسلمون بعد ذلك لهم الخيار : إما أن يصلوا على الجميع دفعةً واحدةً مع نية الصلاة على المسلمين منهم ، وإما أن يصلوا على كل واحد مع القول في النية : نصلي عليه إن كان مسلماً (2) .
ثانياً - بعض الفروع الفقهية التي فيها لبْس بيْن مقدمة الواجب ومقدمة الحرام :
الفرع الأول(1/137)
إذا اشتبهت منكوحة الرجل بأجنبية عنه ـ كأن عقد عليها ولم يرها ثم اختلطت بغيرها ـ وجب عليه الكف عنهما وحرمتا عليه ..
أمّا الأجنبية فوجوب الكف عنها بالأصالة .
وأمّا الزوجة فالكف عنها واجب ؛ لاشتباهها بالأجنبية (3) .
(1) انظر : المحصول 1/291 والبحر المحيط 1/230 والتمهيد لِلإسنوي /85 وحقائق الأصول 1/234
(2) التمهيد لِلإسنوي /85 ، 86 بتصرف .
(3) انظر : الإبهاج 1/113 ونهاية السول 1/137 والضياء اللامع 1/346 وحقائق الأصول 1/235 وتيسير التحرير 2/218 والتقرير والتحبير 2/138 وشرح المحلي مع =
وجْه اللبس في هذا الفرع : أن القول بحرمتهما يجعل الفرع مُخرَّجاً على قاعدة ما لايتم الحرام إلا به ( مقدمة الحرام ) .
وإن قلنا : التحريم بمعنى : وجوب الكف كان مُفَرَّعاً على القاعدة ( مقدمة الواجب ) ، فيكون الكف عن الأجنبية واجباً ، ولا يتحقق العلم به إلا بالكف عن الزوجة ، فوجب الكف عنها لأن الواجب لا يتم إلا به .
الفرع الثاني
معاملة مَن في ماله حرام
اختلف العلماء في حكْم معاملة مَن في ماله حرام على أقوال :
القول الأول : حرام ..
وقَطَع به ابن أبي الفرج في " المنتخب " ، وقال ابن عقيل :" وقد قال الإمام أحمد :" لا يعجبني أن يأكل منه " ، وسأل المروزي أبا عبد الله عن الذي يعامل بالربا يؤكل عنده ؟ قال :" لا ، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله (1) ، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوقوف عند الشبهة " ا.هـ (2) .
القول الثاني : إن زاد الحرام عن الثلث حرم الكل وإلا فلا ؛ لأن الثلث ضابط في مواضع .
القول الثالث : إن كان الأكثر الحرام حرم وإلا فلا ؛ إقامةً لِلأكثر مقام الكل ..
قَطَع به ابن الجوزي في " المنهاج " ..
= العطار 1/255 وحاشية البناني 1/197 والأشباه والنظائر لِلسيوطي /106 والمجموع المذهب 2/576 ، 577
(1) رواه مسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم .(1/138)
(2) في الحديث الذي رواه الشيخان { إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَام } .
ونقل الأثرم وغيره عن الإمام أحمد فيمَن وَرِث مالاً فيه حرام إن عرف شيئا بعينه رَدَّه ، وإن كان الغالب على ماله الفساد تنزه عنه ، أو نحو هذا.
القول الرابع : عدم التحريم مطلقاً ـ قَلّ الحرام أو كثر ـ لكن يُكْرَه ، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقِلَّته ..
جَزَم به في " المغني " (1) .
وجْه تفريع هذا الفرع على القاعدة : وهذا الفرع يكون مُفَرَّعاً على قاعدة ( مقدمة الواجب ) وكذا القاعدة الفقهية ( إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام ) إذا قلنا بتحريم الجميع لأنّ ترْك الحرام واجب ، ولا يتحقق إلا باجتناب الحلال وترْكه ؛ ولِذا كان اجتناب الحلال المخلوط بالحرام مقدمةً لِلواجب وهو ترْك الحرام ، وحينئذ يكون هذا الفرع نظير الفرع الأول .
أمّا على القول بكراهة التعامل مع مَن في ماله حرام فإنه يكون خارجاً عن القاعدتيْن ؛ وهو ما فَعَله السيوطي .
والذي أميل إليه وأرجحه في هذا المقام أن الحرام إن كان معروفاً بعينه ـ كأن عَلِم أن هذا المال مغصوب أو مسروق أو مقترَض بالربا ـ فلا يجوز له التعامل فيه ، وهنا يكون هذا الفرع خارجاً عن هذه القاعدة ؛ لأنه يمكن الإتيان بالواجب ـ وهو ترْك الحرام ـ بمفرده دون حاجة إلى مقدمات .
ويحرم التعامل ـ كذلك ـ مع مَن تيقن حرمة ماله كله : كأن كان تاجراً
(1) القواعد والفوائد الأصولية /94 ، 95 بتصرف وانظر : الأشباه والنظائر لِلسيوطي /107 والأشباه والنظائر لابن نجيم /112 ، 113 والمغني لابن قدامة 6/644
لِلمخدرات فقط أو رجلاً يعيش على الربا دائماً أو الرشوة .(1/139)
أمّا مَن اختلط ماله حرام بحلال ولم نعرف عيْن الحرام فله صورتان :
الأولى : أن يغلب الحرام على ماله ..
وهذا يُكْرَه التعامل معه إلا إن كانت هناك ضرورة .
الثانية : أن يَقِلّ الحرام ويندر ..
وحينئذٍ أرى أنه لا حرج مِن التعامل معه ؛ لأن كراهة التعامل معه تجلب المشقة والشدة على المسلمين ، و( المشقة تجلب التيسير ) .
الفصل الثالث
الحكْم التكليفي ( عدا الواجب )
والحكْم الوضعي
ويحتوي هذا الفصل على المبحثيْن التالييْن :
المبحث الأول : الأحكام التكليفية عدا الواجب .
المبحث الثاني : أقسام الحكْم الوضعي .
المبحث الأول
الأحكام التكليفية عدا الواجب
ويحتوي هذا المبحث على أربعة مطالب :
المطلب الأول : المندوب والمباح .
المطلب الثاني : الحرام والمكروه .
المطلب الثالث : تقسيم الحكْم باعتبار الحسْن والقبْح .
المطلب الرابع : تقسيمات المأمور به عند الحنفية .
ونفصِّل القول في كل منها فيما يأتي ..
المطلب الأول
المندوب والمباح
أولاً : المندوب
والمندوب لغةً : المطلوب والدعاء إلى الفعل (1) .
واصطلاحاً : ما يثاب على فعله ولا يعاقَب على ترْكه (2) .
وقد يعرّف : بأنه الفعل الذي طلبَه الشارع طلباً غير جازم .
وأمّا الندب : فهو خطاب الشارع الطالب لِلفعل طلباً غير جازم ..
فقوله تعالى { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرا } (3) يُعَدّ ندباً لِمكاتبة الرقيق ، وفِعلُ المكاتبة نفسه يكون مندوباً ، وحينما يتعلق بفعل المكلَّف يكون مندوباً كذلك .
ويسمَّى المندوب : سُنَّةً ، ونافلةً ، وتطوعاً ، ومستحبّاً ، ومرغباً فيه ..
وهذه الأسماء كلها مترادفة عند جمهور الأصوليين .
وقال القاضي حسين والبغوي مِن الشافعية :" السُّنَّة : ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمستحب : ما فَعَلَه مرة أو مرتيْن ، والتطوع : ما ينشئه الإنسان باختياره ولم يَرِد فيه نقْل " ا.هـ (4) .(1/140)
(1) انظر : مختار الصحاح /676 والمصباح المنير 2/597 وروضة الناظر /39
(2) الورقات مع حاشية النفحات /20 وانظر : الإبهاج 1/56 وشرح مختصر الروضة 1/353
(3) سورة النور مِن الآية 33
(4) انظر : الإبهاج 1/57 ، 58 وحقائق الأصول 1/140 وحاشية العطار 1/126 ، 127 وغاية الوصول /11 والمحصول 1/20 ، 21
والسُّنَّة عند الفقهاء : هي النافلة والمندوب ، أي ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن غير وجوب .
وعند الأصوليين : ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً أو فعلاً أو تقريراً .
وعند المحدِّثين : ما أُثِر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن قول أو فعل أو تقرير أو صفة أو سيرة .
وقد يستعملونها في مقابل البدعة ، وفي الصدر الأول على طريقة الخلفاء الراشدين (1) .
أقسام المندوب عند الحنفية :
والحنفية قسموا المندوب ( السُّنَّة ) إلى ثلاثة أقسام :
الأول : مندوب مؤكد فِعله ( سُنَّة مؤكدة أو سُنَّة الهدى ) ..
وهي : كل ما واظب عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مِن الأمور الدينية ، ولم يتركه إلا نادراً .
وهذه السُّنَّة ترْكها يوجِب إساءةً وكراهيةً : كالجماعة والأذان والإقامة ونحوها .
الثاني : مندوب مشروع فِعلُه ( سُنَّة النفل ) ..
وهي : التي لم يواظب عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما فَعَلَها مرةً أو أكثر وترَكها .
وهذه يثاب فاعلها ولا يلام تاركها ، نحو : صلاة أربع ركعات قبل العشاء ، وصوم يومَي الاثنين والخميس .
الثالث : مندوب زائد ( سنة الزوائد ) ..
(1) انظر : بحوث مِن السُّنَّة المطهرة 1/45 وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - 2/704 ومباحث في علوم الحديث /12 ، 13
وهي : كل ما فَعَله النبي - صلى الله عليه وسلم - بحسب العادة .
مِثل : الأكل والشرب وطريقته في النوم واللبس ونحوه .
وهذه يثاب فاعلها إن قَصَد الاقتداء ، ولا إثم على تاركها (1) .
أقسام المندوب ( السُّنَّة ) عند المالكية :(1/141)
والسُّنَّة عند المالكية أقسام ثلاثة :
الأول : السُّنَّة ..
وهي : ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأَمَر به دون إيجاب ، وأَظهَرَه في جماعة .
وبعض أصحاب مالك سمَّى السنة المؤكدة " واجبةً " ، فيقول : سُنَّة واجبة .
والمؤكَّد مِن السُّنَّة عندهم ما كثر ثوابه : كالوتر ونحوه .
الثاني : الرغيبة ..
وهي : ما رغَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - في فِعله بأن ذَكَر مقدار أجْره ، أو داوَم على فِعله بصفات النوافل لا بصفة السُّنَّة .
الثالث : النفل ..
وهو : ما فَعَله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يداوم عليه ، ولم يَذْكر مقداراً لأجره (2) .
أقسام المندوب ( السُّنَّة ) عند الشافعية :
ونُقِل عن بعض الشافعية ( القاضي حسين والبغوي ) أن السُّنَّة أقسام ثلاثة :
الأول : السُّنَّة ..
(1) انظر : شرح التنقيح 2/142 وشرح المنار لابن ملك /196 ، 197 وحاشية نسمات الأسحار /166 ، 167 وكشف الأسرار لِلبخاري 2/567 - 569
(2) انظر : نشر البنود 1/32 ، 33 والخرشي على مختصر خليل 2/2
وهي : ما واظب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فِعله .
الثاني : المستحَبّ ..
وهو : ما فَعَله - صلى الله عليه وسلم - مرةً أو مرتيْن .
الثالث : التطوع ..
وهو : ما ينشئه الإنسان باختياره مِن الأوراد (1) .
أقسام المندوب عند الحنابلة :
وقسم بعض الحنابلة المندوب إلى أقسام ثلاثة :
الأول : سُنَّة ..
وهي : ما يَعظُم أجْرُه .
الثاني : نافلة ..
وهي : ما يقل أجره .
الثالث : فضيلة ورغيبة ..
وهي : ما يتوسط فيها الأجر (2) .
حكْم المندوب :
والمندوب ـ كما تَقدَّمَ مِن تعريفه عند الأصوليين ـ لِحكْمه صفتان :
الأولى : الثواب على الفعل .
الثانية : عدم العِقاب على الترك .(1/142)
وهذه الصفة الأخيرة قد تكون سبباً لدى البعض لِترْك السُّنَّة ؛ فقد نرى مسلماً مصلِّياً يحرص على صلاة الفرض فقط ويَترك السُّنَن التابعة لها ، وقد نرى فريقاً آخَر لا يصلي الضحى أو الوتر أو لا يقوم شيئاً مِن الليل
(1) انظر : غاية الوصول /11 وشرح المحلي مع البناني 1/90 والبحر المحيط 1/284
(2) انظر شرح الكوكب المنير 1/404 ، 405
ولو بركعتيْن ، معتقِداً أنها جميعاً سُنَّة ولا عِقاب على ترْكها ، وقِس على ذلك المندوبات الفعلية والقولية مِن السواك والتيامن في المأكل والمشرب ... إلخ .
وأرى أن هذا فهْم خاطئ لِحقيقة السُّنَّة التي يُستحَب لِلمسلم أن يعض عليها بالنواجذ ، مع جواز ترْكها ، وليس دائماً كما يفعل المتقدمون .
أمّا عِلم أن التمسك بالسُّنَّة ( المندوب ) فله فوائد ، منها :
1- أنه أمارة محبة الله تعالى ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّه } (1) .
2- أنه وسيلة القُرْب مِن الله تعالى ؛ ففي الحديث القدسي { وَمَا زَالَ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّه } (2) .
3- أنه زاد يُكَمِّل نقْص العبادات المفروضة يوم القيامة .
ولِذا فإني مع المحذِّرين مِن ترْك السُّنَّة ، وهذا غير الراغب عنها دائماً ..
وفي ذلك يقول الشاطبي :" إذا كان الفعل مندوباً بالجزء كان واجباً بالكل : كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها ، وصلاة الجماعة ... "
وعلَّل ذلك بقوله :" لأنّ في ترْكها مضادة لإظهار شعائر الدين ، وقد توعد الرسول عليه الصلاة والسلام مَن داوَم على ترْك الجماعة ، فهمَّ أن يحرق عليهم بيوتهم " ا.هـ (3) .
وقال القاضي أبو يعلى وابن عقيل مِن الحنابلة أنه يأثم بترك السُّنَن أكثر عمره ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - { فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } (4) ولأنه متهم
(1) سورة آل عمران مِن الآية 31(1/143)
(2) رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(3) الموافقات 1/130 ، 131
(4) رواه البخاري ومسلم عن أنس - رضي الله عنه - .
أنه يعتقد غير سُنَّتِه ، واحتجَّا بقول الإمام أحمد فيمَن تَرَك الوتر :" رجل سوء " مع أنه سُنَّة . ا.هـ (1) .
أثر المندوب في الأحكام :
ومما يتفرع على المندوب : أنه هل يلزم بالشروع فيه أو لا ؟
خلاف بين فريقيْن :
الأول : أنه لا يلزم ، ولا يؤاخذ بقطعه ؛ لأنه غير لازم ..
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الإمام الشافعي .
الثاني : أن النفل يكون لازماً بالشروع فيه ..
وهو ما عليه الحنفية ، ونُقِل عن الإمام مالك .
وعليه فمَن شَرَع في نفل ثم أفسده يجب عليه القضاء على القول الثاني وعلى القول الأول لا قضاء عليه (2) .
وحُجة الأول : حديث { الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ ؛ إِنْ شَاءَ صَامَ ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَر } (3) .
وحجة الثاني : قوله تعالى { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَلَكُم } (4) ..
والراجح عندي هو الأول ، ويُحمل قوله تعالى على التنزيه ، أو أن المراد بالبطلان هو الردة ، أو لا تبطلوها بالرياء (5) .
(1) شرح الكوكب المنير 1/421
(2) انظر : جمع الجوامع مع البناني 1/90 ، 91 وشرح التوضيح 2/125 ونشر البنود 1/33 ، 34 وشرح الكوكب المنير 1/407 - 409 والمسوّدة /60
(3) رواه أحمد والترمذي والحاكم عن السيدة أم هانئ رضي الله عنها .
(4) سورة محمد مِن الآية 33
(5) انظر : غاية الوصول /10 وأصول الفقه لِزهير 1/50 ، 51
ثانياً : المباح
وهو لغةً : الاتساع ..
ويُطلَق بمعنى الإذن ، ومعنى الإعلان (1) .
واصطلاحاً : ما لا يثاب على فِعله ولا يعاقَب على ترْكه (2) .
وقد يعرف : بأنه الفعل الذي لا ثواب على فِعله ولا عِقاب على ترْكه .
وأمّا الإباحة : فهي خطاب الله تعالى المخيِّر لِلمكلَّف بين الفعل والترْك ..
وأثر الإباحة هو المباح (3) .(1/144)
ويسمى المباح : جائزاً ، وحلال طِلْق ، والمطلق ، والمطلوب (4) .
والجائز : يُطلَق على ما لا يمتنع شرعاً ، فيعُمّ غير الحرام ، ويُطلَق على المباح ، ويُطلَق على ما لا يمتنع عقلاً ، ويطلق على ما استوى فيه الأمران ، ويُطلَق على المشكوك فيه فيهما بالاعتبارين ..
وعلى ذلك كل مباح جائز ، وليس كل جائز مباحاً (5) .
مثال المباح : الوضوء مِن أكل لحم الغنم ، في حديث { إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ ، وَإِنْ شِئْتَ فَلاَ تَتَوَضَّأْ } (6) حينما سُئِل - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء مِن أكل لحم الغنم .
(1) انظر : المصباح المنير 1/65 ومختار الصحاح /82 ومنتهى السول 1/30
(2) الورقات مع حاشية النفحات /20 ، 21
(3) انظر : غاية الوصول /10 وأصول الفقه لزهير 1/50 ، 51
(4) انظر : المحصول 1/20 وشرح العضد 2/6 وحاشية النفحات /20
(5) انظر : مختصر المنتهى 2/5 ، 6 وشرح الكوكب المنير 1/428 - 230 والبحر المحيط 1/276
(6) رواه مسلم عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - .
والجمهور على أن الإباحة حكْم شرعيّ ، والمعتزلة لا يرون ذلك .
واختلف الأصوليون في أن المباح مأمور به أم لا ؟
فذهب الجمهور إلى أنه غير مأمور به ، وخالَف الكعبي فقال بأنه مأمور به ..
احتج الجمهور على أن المباح غير مأمور به : بأن الأمر طلبٌ يستلزم ترجيح الفعل على الترك ، وهو غير مقصور في المباح ..
كما احتجوا : بأن الأُمّة مُجْمِعة على انقسام الأحكام إلى وجوب وندْب وإباحة وغير ذلك ، فمَن أَنكَرَ المباحَ كان خارقاً لِلإجماع .
واحتج الكعبي وأتباعه مِن المعتزلة على أن المباح مأمور به : بأن المباح ترْك حرام ، وترْك الحرام واجب ، فالمباح واجب ..
وبيان أن المباح ترْك حرام : فلأنه ما مِنمباح إلا والتلبس به يستلزم ترْك مُحَرَّم بل مُحرَّمات : كشرْب الماء وأكْل الطعام ، ونحو ذلك يستلزم ترْك الزنا وشرْب الخمر وقَطْع الطريق وغير ذلك مِن المُحرَّمات .(1/145)
وأمّا أنّ ترْك الحرام واجب فواضح ؛ لِلاتفاق عليه .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنه لو كان الأمر كما ذكرتَ لكان المندوب واجباً ، بل الحرام إذا تُرِك به مُحَرَّم آخَر كان واجباً أيضاً ، وتكون الصلاة حراماً على هذه القاعدة إذا تركَ بها واجباً آخَر ، وهو مُحال (1) .
والراجح عندي ما عليه الجمهور ، وهو أن المباح غير مأمور به .
(1) الإحكام لِلآمدي 1/115 ، 116 بتصرف وانظر : شرح مختصر الروضة 1/387 – 390 وشرح الكوكب المنير 1/423 - 424
المطلب الثاني
الحرام والمكروه
أولاً : الحرام
وهو لغةً : ضد الحلال ..
ويُطلَق على المنع (1) .
واصطلاحاً : ما يثاب على ترْكه ويعاقَب على فِعله (2) .
أو هو : الفعل الذي طلب الشارع ترْكَه طلباً جازماً .
والتحريم : هو خطاب الله تعالى الطالب لِترْك الفعل طلباً جازماً .
ويُسمَّى الحرام : محظوراً ، وممنوعاً ، ومزجوراً ، ومعصيةً ، وذنباً وقبيحاً ، وسيئةً ، وفاحشةً ، وإثماً ، وعقوبة (3) .
أقسام الحرام :
قسم الحنفية الحرام إلى قسمين :
الأول : حرام لِعيْنِه ..
وهو : الفعل الذي حرَّمه الشارع ابتداءً ؛ لاشتماله على مفسدة راجعة لِذاته .
مثاله : شرْب الخمر وأكْل الميتة .
(1) انظر : مختار الصحاح /149 ، 150 والمصباح المنير 1/131 ، 132
(2) الورقات مع حاشية النفحات /21 ، 22
(3) انظر : المحصول 1/19 ، 20 وشرح اللمع 1/106 والتحصيل 1/174 وشرح الكوكب المنير 1/386 ، 387 والإبهاج 1/59 ، 60 والبحر المحيط 1/255 وغاية الوصول /10
الثاني : حرام لِغيْرِه ..
وهو : الفعل الذي كان مشروعاً في أصله ثم حرَّمه الشارع لِعارض اقتضى تحريمه .
مثاله : أكْل مال الغير (1) .
(1) انظر التلويح مع شرح التوضيح 2/125
ثانياً : المكروه
وهو لغةً : ضد المحبوب ، وما نفر منه الطبع والشرع ..
ويُطلَق على الشدة والمشقة (1) .
واصطلاحاً : ما يثاب على ترْكه ولا يعاقَب على فِعلِه (2) .(1/146)
أو هو : الفعل الذي طلب الشارع ترْكَه طلباً غير جازم .
والكراهة : هي خطاب الشارع الطالب لِترْك الفعل طلباً غير جازم .
إطلاقات المكروه :
ويطلق المكروه على إطلاقات عدة ، حصَرَها الآمدي في أربعة ، وهي :
1- الحرام ..
ومنه : قوله تعالى { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوها } (3) أي حراماً .
وهو كثير في استعمال الأئمة : كقول الإمام الشافعي :" أكره آنية العاج " ، وقول الإمام أحمد :" أكره المتعة ، والصلاة في المقابر " .
2- ترْك ما مصلحته راجحة ، وإن لم يكن منهيا عنه : كترك المندوبات .
3- ما نهي عنه نهْي تنزيه لا تحريم : كالصلاة في الأوقات والأماكن المخصوصة .
4- ما في القلب منه حزازة ، وإن كان غالب الظن حِلُّه : كأكل لحم
(1) انظر : الكليات /871 والمصباح المنير 2/532 ومختار الصحاح /594 ومنتهى السول 1/30
(2) الورقات مع حاشية النفحات /22
(3) سورة الإسراء الآية 38
الضبع (1) .
وزاد البعض إطلاقاً خامساً : وهو ترْك الأَوْلى : كالصلاة بِلا أذان ولا إقامة ، والأَوْلى أن يصلي بأذان وإقامة (2) .
وإذا أُطلِقَ لفْظ المكروه في اصطلاح الفقهاء انصرف إلى كراهة التنزيه ، ولا يُطلَق على غيره إلا لقيام دليل أو قرينة تدل على ذلك (3) .
أقسام المكروه عند الشافعية :
قسم الشافعية المكروه قسميْن :
الأول : المكروه ..
وهو : الفعل الذي طَلَب الشارع ترْكه طلباً غير جازم بنهي مخصوص .
مثاله : ترْك صلاة تحية المسجد ، والجلوس قبلها ، والنهي في ذلك وَرَد صريحاً في قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْن } (4) .
الثاني : خلاف الأَوْلى ..
وهو : الفعل الذي طَلَب الشارع ترْكَه طلباً غير جازم بنهي غير مخصوص ، وهو النهي عن ترْك المندوبات المستفاد مِن أوامرها ؛ إذ الأمر بالشيء يفيد النهي عن ترْكه .(1/147)
مثاله في الفعل : فِطْر المسافر الذي لا يتضرر بالصوم .
(1) الإحكام لِلآمدي 1/114 وانظر : حقائق الأصول 1/144 والبحر المحيط 1/296 ، 297 وشرح مختصر الروضة 1/384 ، 385 وإرشاد الفحول /6
(2) انظر : شرح مختصر الروضة 1/384 والبحر المحيط 1/296 ، 297
(3) انظر : شرح مختصر الروضة 1/384،385 والإبهاج 1/60
(4) رواه الستة وأحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
ومثاله في الترك : ترْك صلاة الضحى (1) .
وأمّا المتقدِّمون مِن الشافعية فإنهم يطلقون المكروه على القسمين ..
وقد يقولون في الأول " مكروهاً كراهةً شديدةً " ، كما يقال في قسم المندوب " سُنَّة مؤكَّدة " (2) .
أقسام المكروه عند الحنفية :
والمكروه عند الحنفية قسمان :
الأول : المكروه تحريماً ..
وهو : ما كان إلى الحرمة أقرب ، وهو ما ثبت بدليل ظني .
مثاله : البيع على البيع ، المنهي عنه في قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيه } (3) .
وهذا القسم عند الحنفية مقابل لِلواجب ؛ لِثبوته بدليل ظني .
والفَرْق بين الحرام والمكروه تحريماً :
أن الأول ثابت بدليل قطعي ، والثاني ثابت بدليل ظني .
ومنكِر الأول كافر ، ومنكِر الثاني لا يكفر ..
وكلاهما يشتركان في استحقاق العِقاب والذم بالترك ، غير أنه في المكروه تحريماً لا يستحق فاعله العِقاب بالنار ، ولكنه يتعلق به محذور : كحرمان الشفاعة .
وعند محمد : المكروه تحريماً حرام ثبتَت حُرْمته بدليل ظني .
الثاني : المكروه تنزيهاً ..
(1) انظر : جمع الجوامع مع حاشية البناني 1/80 ، 81 والإبهاج 1/60 ونشر البنود 1/23
(2) غاية الوصول /10
(3) رواه البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
وهو : ما كان إلى الحِلّ أقرب .
مثاله : أكْل لحوم الخيل ، وترْك السُّنَن المؤكَّدة .
وحكْمُه : أن فاعله لا يستحق العِقاب ولا الذم ، ولكنه خلاف الأَوْلى (1) .(1/148)
وأرى أنّ حكْم هؤلاء العلماء بكراهة ترْك السُّنَن إنما هو في حق مَن لم يداوم على ترْكها ، أمّا مَن داوَم على ترْك السُّنَّة فإنما هو رجل سوء رغب عن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومَن رغب عن سُنَّته - صلى الله عليه وسلم - فليس منه ، وهذه العاقبة تجعل هذا الفعل مكروهاً تحريماً لا تنزيهاً .
(1) انظر : شرح التوضيح مع التلويح 2/125 ، 126 وأصول الفقه لأبي زهرة /40 ، 41 وأصول الفقه لِلخضري /49 ، 50 والتعريفات /239
المطلب الثالث
تقسيم الحكْم باعتبار الحسْن والقبْح
إن الباحث عن الحسْن والقبح عند الأصوليين يرى أن الكثرة منهم (1) قد جعلوه مدخلاً ومقدمةً لِلحديث عن الحاكم ، بمعنى : هل الحكْم على الأشياء حسْناً أو قبحاً بمقتضى الشرع أم العقل ؟ وهو المعروف بـ" التحسين والتقبيح " ، وقد تَقدَّم الحديث فيه في مطلب " الحاكم " .
ومنهم مَن أَفرَدَه باعتباره تقسيماً لِلحكْم : كالفخر الرازي ومَن تَبِعَه (2) .
غيْر أني أرى أن الأَوْلى إيراد هذا التقسيم عقب الحكْم التكليفي ؛ لِيتضح لنا أيّ هذه الأحكام حسن وأيها قبيح ..
ولِذا قال إمام الحرمين :" ثم مِن أحكام الشرع التقبيح والتحسين ، وهُما راجعان إلى الأمر والنهي ، فلا يقبح شيء في حكْم الله تعالى لِعيْنِه كما لا يحسن شيء لِعيْنِه " ا.هـ (3) .
وقال الفخر الرازي :" الفعل إما أن يكون حسناً أو قبيحاً " ا.هـ (4) .
وقال السبكي :" الحكْم ينقسم بذاته إلى التحسين والتقبيح ، وتنقسم صفة الفعل الذي هو متعلّقُه إلى الحسن والقبح ، ويَتبع ذلك انقسام اسمه إلى
(1) انظر : المستصفى 1/56 ، 57 والوصول إلى الأصول 1/56 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 1/198 وشرح مختصر الروضة 1/402 والبحر المحيط 1/138
(2) انظر : المحصول 1/22 والتحصيل 1/180 ومنهاج الوصول مع الإبهاج 1/62 ونهاية السول 1/70 وحقائق الأصول 1/147
(3) البرهان 1/87
(4) المحصول 1/22
حسن وقبيح " ا.هـ (1) .(1/149)
إذا تَقرَّر ذلك فلْنُعرِّف التحسين والتقبيح والحسن والقبيح :
أمّا تعريف التحسين والتقبيح :
فالتحسين : هو الحكْم بالحسن .
والتقبيح : هو الحكْم بالقبيح (2) .
وأمّا تعريف الحسن والقبيح :
فإن تعريفهما يختلف عند أهل السُّنَّة عنه عند المعتزلة ، ونستعرضهما بإيجاز :
أولاً : تعريف الحسن والقبيح عند أهل السُّنَّة
أولاً - تعريف الحسن :
عرَّف أهل السُّنَّة الحسن بتعريفات عدة ، أَذكر منها :
الأول : ما يسوغ الثناء عليه ..
وهو لإمام الحرمين (3) .
ونحوه : ما يُمدَح فاعله ، أو ما أُمِرْنا بمدح فاعله (4) ..
وهذا التعريف منسوب لِلقاضي أبي بكر .
ولِذا فإن الحسن عندهم لا يشمل المباح ، وإنما يشمل الواجب والمندوب فقط .
الثاني : ما وافَق الأمر مِن الفعل ..
وهو لِلباقلاني أيضاً ، ولِذا فلا يشمل المباح ؛ لأنه ليس مأموراً به .
(1) الإبهاج 1/62
(2) انظر مطالع الأنظار مع طوالع الأنوار /400 ، 401
(3) انظر التلخيص 1/54
(4) انظر : الإرشاد /228 والإبهاج 1/62 ونهاية الإقدام 1/370
الثالث : ما كان مأذوناً فيه شرعاً (1) ..
ذَكَرَه الفخر الرازي .
واعترض عليه : بأنه لا يشمل أفعال الله تعالى (2) .
ويندرج فيه المباح ، واختاره ابن السبكي (3) .
الرابع : ما لم يَنْهَ عنه الشارع ..
وهو اختيار الفخر الرازي ومَن تَبِعه (4) .
ولِذا فإن المباح يدخل فيه ، وأَدخَل البعض فيه فِعل الله تعالى وفِعل غير المكلَّف .
أمّا فِعل الله تعالى فهو حسن باتفاق مَن به يُعتمَد ـ هكذا عبَّر السبكي ـ لِوجوب الثناء عليه (5) .
وذهب الأردبيلي إلى أنّ فِعل غير المكلَّف لم يدخل في المقسم ؛ لأنه ليس بمتعلّق لِلحكْم ، فلا يوصَف بالحسن ولا بالقبح .
والتعريف الرابع عندي هو الأَوْلى بالقبول والترجيح ؛ لِشموله الواجب والمندوب والمباح وفِعل الله تعالى (6) .
ثانياً - تعريف القبيح :
القبيح عند أهل السُّنَّة له تعريفات تقابل تعريف الحسن المتقدمة :(1/150)
الأول : ما لا يسوغ الثناء عليه ..
(1) الإنصاف /49
(2) المحصول 1/24
(3) جمع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/99
(4) انظر : المحصول 1/24 والمنهاج مع الإبهاج 1/62 ونهاية السول 1/70
(5) الإبهاج 1/70
(6) حقائق الأصول 1/147
ونحوه : ما يُذَمّ فاعله .
ويندرج تحته الحرام فقط .
الثاني : ما خالَف الأمر ..
ويندرج تحته الحرام والمكروه ؛ لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِس } (1) فيه أمْر بصلاة ركعتيْن تحية المسجد قبل الجلوس ، فمَن جَلَس قبل الصلاة فهو مُخالِف لِلأمر .
الثالث : ما ليس مأذوناً فيه ..
ويندرج تحته الحرام والمكروه .
الرابع : ما نهى عنه الشارع ..
ويندرج تحته الحرام والمكروه .
ولكن إمام الحرمين يرى أن المكروه ليس قبيحاً ، وهو رأْي أميل إليه وأرجحه ..
وفي ذلك يقول السبكي :" وأمّا المكروه فقال إمام الحرمين : إنه ليس بحَسَن ولا قبيح ؛ فإن القبيح ما يُذَمّ عليه ، وهو لا يُذَمّ عليه ، والحسن ما يسوغ الثناء عليه ، وهذا لا يسوغ الثناء عليه ، ولم أرَ أحداً يُعتمَد خالَف إمام الحرمين فيما قال إلا ناساً أدركناهم قالوا : إنه قبيح لأنه منهِيّ عنه ، والنهي أَعَمّ مِن نهي تحريم وتنزيه " ا.هـ (2) .
ومما تَقدَّم يمكن تقسيم الأحكام التكليفية باعتبار الحسْن والقبح إلى أقسام ثلاثة :
الأول : الحسن ، ويشمل : الواجب ، والمندوب ، والمباح على الراجح .
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي قتادة - رضي الله عنه - .
(2) الإبهاج 1/62
الثاني : القبيح ، وهو الحرام .
الثالث : ما ليس حَسَناً ولا قبيحاً ، وهو المكروه .
ثانياً : تعريف الحسن والقبيح عند المعتزلة
أولاً - تعريف الحسن :
عرَّف المعتزلة الحسن بتعريفيْن (1) :
التعريف الأول : ما لِلقادر عليه العالِم بحالِه أن يَفعله ..
فيندرج تحته الواجب والمندوب والمباح والمكروه وفِعل الله تعالى .(1/151)
التعريف الثاني : الفعل الواقع على صفة توجِب المدح ..
فيندرج تحته الواجب والمندوب ، دون المكروه والمباح ؛ إذ لا مدْح في فِعلِهما .
ثانياً - تعريف القبيح :
عرَّف المعتزلة القبيح بتعريفيْن مقابلَيْن لِتعريف الحسن :
الأول : ما ليس لِلقادر عليه العالِم بحالِه أن يفعله : كالكذب الضار ..
فينطبق هذا الحد على الحرام فقط .
الثاني : الفعل الواقع على صفة توجِب الذم ..
فينطبق هذا الحد ـ أيضاً ـ على الحرام فقط (2) .
ومما تَقدَّم كان الحرام قبيحاً في الحديْن ، والحسن في التعريف الثاني
(1) انظر : نهاية السول 1/70 ومناهج العقول 1/68 وحقائق الأصول 1/63
(2) يراجَع الحسن والقبيح في : التلخيص 1/153 - 156 والمستصفى 1/56 ، 57 والوصول إلى الأصول 1/56 والمحصول 1/22 - 24 والكاشف عن المحصول 1/299 ومنهاج الوصول مع الإبهاج 1/62 - 64 وحقائق الأصول 1/147 - 150 ونهاية السول 1/69 - 72 والتمهيد لِلإسنوي /61 ، 62 وشرح مختصر الروضة 1/402 ومطالع الأنظار مع طوالع الأنوار /400 ، 401 وجمع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/99 ، 100 ومناهج العقول 1/67 - 70
أَخَصّ مِن التعريف الأول ؛ لأنه لا يشمل المكروه والمباح .
وبعد هذا العرض الموجَز لِتقسيم الحكْم إلى حسن وقبيح يمكن تقسيم الأحكام على النحو التالي :
الأحكام الحسنة : وهذه تشمل : الواجب ، والمندوب ، وفِعل الله تعالى بالاتفاق ، والمباح على الراجح .
الأحكام القبيحة : وهذه تنطبق على : الحرام ـ أيضاً ـ بالاتفاق ، والمكروه عند البعض .
الأحكام التي ليست حسنةً ولا قبيحةً : وهي : المكروه عند إمام الحرمين .
مع التنويه إلى أن مرجع الحسن والقبح عندنا هو الشرع ، وأنّ مرجعه عند المعتزلة هو العقل كما تَقدَّم .
المطلب الرابع
تقسيمات المأمور به عند الحنفية
قسم الحنفية الحسن المأمور به إلى قسميْن :
القسم الأول : حسن لِعينه .
والقسم الثاني : حسن لِغيره .(1/152)
ونفصِّل القول فيهما فيما يلي :
القسم الأول : الحسن لِعينه ..
وهو : ما يدركه العقل بِلا واسطة .
وأنواعه ثلاثة :
النوع الأول : ما يَعرف العقل حسنه دون قرينة الشرع ..
وهو إما أن لا يَقبل السقوط أصلاً ووصفاً ..
نحو : الإيمان بالله تعالى وأصل العبادات ، فلو تَبدَّل لكان كفراً .
وإما أن يَقبل السقوط وصفاً لا أصلاً ..
نحو : الإقرار بالله تعالى ، فإنّ أصْله ساقط حالة الإكراه لا وصْفُه ، حتى لو قُتِل كان مأجوراً .
وهذا النوع مع كونه حسناً لِعينه هو حسن لِغيره أيضاً ، وهو ترْك لِضده ( القبيح ) مِن الكفر وترْك العبادات ، فيكون حسناً مِن وجهين .
النوع الثاني : ما يُعرَف حسنه بالشرع لا بالعقل ، وقد يكون مِن ممكناته ..
وهو إما أن يَقبل السقوط أصلاً ووصفاً بعذر : كالحيض مع الصلاة ..
وإما أن يَقبل السقوط وصفاً لا أصلاً : كالصلاة في الأوقات المكروهة .
النوع الثالث : الملحَق بالحسن لِعينه ..
وهو : ما كان حسنه لِمعنى في غير المأمور به .
نحو : الزكاة ، فحسْنها ليس لِذاتها ؛ لأنها تنقيص المال ، وكذلك الصوم تجويع لِلنفس ، والحج سفر ومشقة ، وإنما حسْنها بالغير ، وهو : دفْع حاجة الفقير ، وقهْر النفس ، وزيارة البيت ..
لكن الفقير والبيت لا يستحقان هذه العبادة ، والنفس مجبولة على المعصية ، فلا يَحسن قهْرُها ، فارتفع الوسائط ، فصارت تعبُّداً محضاً لله تعالى حتى شرط فيه الأهلية الكاملة .
القسم الثاني : الحسن لِغيره ..
وهو : ما يكون الحسن فيه لا لِذاته ، وإنما لِمعنى ثبت في غيره .
وهو أنواع :
النوع الأول : أن لا يتأدى ذلك الغير بنفس المأمور به ..
نحو : الوضوء ؛ فإنه عبادة ليست مقصودةً ، ولِذا فإنّ حسْنه ليس لِذاته وهو التبرد والنظافة ، وإنما لِلتوسل به إلى أداء الصلاة ..
ومنه : السعي لأداء الجمعة .
النوع الثاني : أن يتأدى ذلك الغير بنفس المأمور به ..(1/153)
نحو : الجهاد ؛ فإنه تعذيب لِلعباد وتخريب لِلبلاد ، وحسْنه لإعلاء كلمة الله ، وتتأدى به كإقامة الحدود .
النوع الثالث : أن يكون حسناً لِحسن في شرطه بعدما كان حسناً لِمعنى
في نفسه أو ملحَقاً به ..
نحو : القدرة التي يتمكن بها المأمور مِن أداء ما لزمه .
وهو نوعان :
الأول : مطلَق ..
وهو : أدنى ما يتمكن به المأمور مِن أداء ما لزمه بدنيّاً كان أو ماليّاً .
وهو شرْط في أداء كل أمر : كالوضوء والصلاة ..
والشرط توهم التمكن المذكور لا حقيقته ، حتى قلنا : إذا بلغ الصبي أو أَسلَم الكافر أو طهرَت الحائض آخِر الوقت مقدار ما يسَع التحريمة لزمه الصلاة .
الثاني : كامل ..
وهو : القدرة الميسِّرة لِلأداء ، أي الموجِبة لِتيسير الأداء على المكلَّف .
ودوام هذه القدرة الميسِّرة شرْط لِدوام الواجب ، لِذا بطلَت الزكاة والعشر والخراج بهلاك المال بعد التمكن مِن الأداء وبعد الحول ، خلافاً لِلشافعي ؛ فلا تسقط عنده ..
بخلاف الأولى ـ أي القدرة الممكنة ـ فإن بقاءها ليس شرطاً لِبقاء الواجب (1) .
(1) انظر : أصول السرخسي 1/60 - 64 وميزان الأصول /178 - 183 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار 1/393 - 431 والتنقيح مع التوضيح 2/328 - 335 وتيسير التحرير 1/173 ، 174 وشرح ابن ملك مع المنار /47 - 55 وإفاضة الأنوار مع حاشية نسمات الأسحار /45 - 52
المبحث الثاني
أقسام الحكْم الوضعي
وفيه تمهيد في أقسام الحكْم الوضعي ، وسبعة مطالب :
المطلب الأول : السبب .
المطلب الثاني : الشرط والمانع .
المطلب الثالث : الصحة والفساد .
المطلب الرابع : الرخصة والعزيمة .
المطلب الخامس : أحكام الرخصة .
المطلب السادس : العلة .
المطلب السابع : الركن والعلامة .
ونفصِّل القول في كل منها فيما يأتي ..
تمهيد في
أقسام الحكْم الوضعي
لقد اختلف الأصوليون في حصْر أقسام الحكْم الوضعي ..
ويمكن تقسيمهم إلى فريقيْن :(1/154)
الفريق الأول : وهم الجمهور ( غير الحنفية ) ..
وهؤلاء اختلَفوا في حصْر هذه الأقسام :
فمنهم مَن حصَرَها في ثلاثة فقط ، وهي : السبب ، والشرط ، والمانع ..
وهو اختيار الفخر الرازي (1) وابن الحاجب (2) والأنصاري (3) .
ومنهم مَن حصَرَها في أربعة ، وهي : السبب ، والشرط ، والمانع ، والعلة ..
وهو اختيار الفتوحي (4) .
ومنهم مَن حصَرَها في خمسة ، وهي : السبب ، والشرط ، والمانع ، والصحة والبطلان ، والعزائم والرخص ..
وهو اختيار الشاطبي (5) .
ومنهم مَن حصَرَها في ستة ، وهي : السبب ، والشرط ، والمانع ،
(1) انظر المحصول 1/24
(2) انظر مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/7 ، 8
(3) انظر فواتح الرحموت 1/61
(4) انظر شرح الكوكب المنير 1/438
(5) انظر الموافقات 1/187
والصحة ، والبطلان ، والعزيمة والرخصة ..
وهو اختيار الآمدي (1) والزركشي (2) .
الفريق الثاني : وهم الحنفية ..
وهؤلاء اختلَفوا ـ أيضاً ـ في حصْر الأقسام :
فأكثرهم حصَرَها في أربعة ، وهي : العلة ، والسبب ، والشرط ، والعلامة (3) .
وأضاف البعض خامساً ، وهو : الركن (4) .
ومما تَقدَّم يتضح أن الكثرة متفقة على السبب والشرط والمانع ، وغير الحنفية أضافوا الصحة والفساد والرخصة والعزيمة ، والحنفية أضافوا العلامة والركن والعلة ، ومعهم في العلة البعض مِن غيرهم (5) .
والراجح عندي حصْر أقسام الحكْم الوضعي في خمسة ، وهي في الحقيقة ستة كما رجَّح الآمدي والشاطبي ، وهي :
1- السبب .
2- الشرط .
3- المانع .
4- الصحة والبطلان .
5- العزيمة والرخصة .
(1) انظر الإحكام لِلآمدي 1/118 - 122
(2) انظر البحر المحيط 1/305 - 325
(3) انظر : أصول البزدوي مع كشف الأسرار لِلبخاري 4/283 - 278 والمنار مع كشف الأسرار 2/410 - 453
(4) انظر : التوضيح 2/273 والتحرير 2/128 وشرح طلعة الشمس 2/230
(5) انظر شرح مختصر الروضة 1/419(1/155)
ولكن لا بد مِن التنويه على جميع الأقسام الراجحة المتقدمة والمنفردة عند الحنفية وفْقَ المطالب التالية :
المطلب الأول : السبب .
المطلب الثاني : الشرط والمانع .
المطلب الثالث : الصحة والفساد .
المطلب الرابع : الرخصة والعزيمة .
المطلب الخامس : أحكام الرخصة .
المطلب السادس : العلة .
المطلب السابع : الركن والعلامة .
المطلب الأول
السبب
تعريف السبب لغةً :
السبب يطلق في اللغة على إطلاقات ، منها :
1- الطريق ..
نحو : قوله تعالى { وَءَاتَيْنَهُ مِن كُلّ شَىْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبا } (1) أي طريقاً .
2- الباب ..
نحو : قوله تعالى { لَعَلِّى أَبْلُغُ الأَسْبَبَ * أَسْبَبَ السَّمَوَت } (2) يريد أبوابها .
ومنه : قول زهير بن أبي سلمى :
ومَن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو نال أسباب السماء بسُلَّمِ
يعني : ومَن خاف الموت وتحصَّن وابتعَد عن الأسباب الموصلة إليه لا ينفعه حتى ولو نال أبواب السماء بسُلَّم ؛ أي صعد عليه فراراً منه .
3- الحبل ..
نحو : قوله تعالى { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمْ لْيَقْطَع } (3) أي بحبل إلى السقف .
(1) سورة الكهف 84 ، 85
(2) سورة غافر 36 ، 37
(3) سورة الحج مِن الآية 15
وفي الشريعة هو طريق إلى الشيء ( الحكم ) ، مَن سلكه وصل إليه فناله في طريقه ذلك لا بالطريق الذي سلك : كمَن سَلَك طريقاً إلى مصر بلغه مِن ذلك الطريق لا به لكن بمشيه (1) .
تعريف السبب اصطلاحاً :
والسبب اصطلاحاً : هو وصْف ظاهر منضبط ، دل الدليل السمعي على كونه معرِّفاً لِحكْم شرعي (2) لا مؤثراً فيه (3) ..
وعرّفه بعضهم : بأنه ما يلزم مِن وجوده الوجود ، ومِن عدمه العدم لِذاته (4) .
الأسباب علامات أم مؤثرات ؟
اتفق جمهور العلماء على أن الأحكام الشرعية قد تُعَلَّل بأسبابٍ بعضُها مِن غير أفعال المكلَّفين ـ كدلوك الشمس ؛ فإن الله تعالى جعله سبباً(1/156)
لإيجاب الصلاة ـ والبعض الآخَر مِن أفعالهم ، مثل : الزنا ؛ فإن الله تعالى جعله سبباً في إيجاب الجَلد ، والقتل العمد ؛ فإن الله تعالى جعله سبباً لإيجاب القصاص .
وقد اختلف العلماء في هذه الأسباب على مذاهب ثلاثة :
المذهب الأول : وهو ما عليه جمهور الأشاعرة ، واختاره البيضاوي ..
ويرى : أن هذه الأسباب علامات وأمارات على الأحكام ، فهي
(1) أصول البزدوي مع كشف الأسرار لِلبخاري 4/283 ، 284 بتصرف .
(2) الإحكام لِلآمدي 1/118 والبحر المحيط 1/306 ولب الأصول /13
(3) بيان المختصر 1/405
(4) شرح تنقيح الفصول /81
معرّفات لها ..
فدلوك الشمس معرّف لإيجاب الصلاة ، بمعنى أننا متى رأيْنا الدلوك عَلِمْنا أن الله تعالى أَوجَبَ الصلاة ، والزنا معرّف لإيجاب الحد ، بمعنى أننا متى رأيْنا شخصاً يزني عَلِمْنا أن الله تعالى أَوْجَبَ إقامة الحد عليه ، والقتل العمد العدوان معرّف لإيجاب القصاص ، بمعنى أننا متى رأيْنا شخصاً قَتَل شخصاً آخَر قتلاً عمداً عدواناً عَلِمْنا أن الله تعالى أَوجَبَ على الحاكم أن يقتص منه ..
فكلٌّ مِن الدلوك والزنا والقتل العمد العدوان لا تأثير له في هذه الأحكام وإنما المؤثِّر فيها هو الله تعالى ، ويقال مِثل ذلك في غيرها مِن الأسباب .
المذهب الثاني : لِلمعتزلة ..
ويقولون : إن هذه الأسباب مؤثّرة في الأحكام بذاتها ولكن بواسطة قوة أودعها الله فيها يكون بها التأثير ..
وهو مَبْنِيّ عندهم على أن العقل يدرك في الأفعال حسناً وقبحاً قبل أن يَرِد الشرع بأحكامها ، والشرع تابِع لِمَا أدركه العقل فيها ، فإذا أَدرَك العقلُ قبحاً في فعلٍ كان هذا الفعل قبيحاً عند الله تعالى ، وإذا أَدرَك العقلُ حسناً في فعل كان هذا الفعل حسناً عند الله تعالى ، ولا تجوز المخالفة ، فلا يكون قبيحاً عند الله ما حسّنه العقل ، كما لا يكون حسناً عند الله تعالى ما قبّحه العقل ..(1/157)
والأحكام عندهم حادثة ، فلا غرابة عندهم في أن تكون الأحكام الشرعية تابعةً لِمَا أدركه العقل مِن حسن أو قبح في العمل .
المذهب الثالث : لِلغزالي ..
ويرى أن هذه الأسباب مؤثّرة في الأحكام لكن لا بذاتها ، بل بجعل الله
تعالى ، بمعنى أن الله تعالى هو المؤثِّر في الأحكام بواسطة تلك الأسباب وليس المراد أن الله تعالى خَلَق قوةً في هذه الأسباب يكون بها التأثير كما تقول المعتزلة ، بل المراد أن الله تعالى ربَط بيْن الأسباب والمسببات ربطاً عاديّاً بحيث إذا وُجد السبب وُجد عنده المسبب ..
وهذا الرأي قد اعترض عليه البيضاوي باعتراضيْن :
الاعتراض الأول : أن الغزالي مِن الأشاعرة الذين يقولون بقِدَم الحكم ، فكيف يقول بتأثير الأسباب في الأحكام مع أن الأسباب حادثة ؟ لأنها لا تخرج عن كونها أفعالاً للمكلَّفين : كالزنا والقتل العمد العدوان ـ مثلاً ـ أو أشياء متصلة بالحوادث : كالدلوك بالنسبة لِلشمس ..
والحادث يمتنع أن يؤثِّر في القديم ؛ لِمَا يَلزم عليه مِن حدوث القديم ؛ لتأخر المعلول عن العلة أو مقاومته لها ، والعلة حادثة ، فالمعلول حادث كذلك ، أو وجود المعلول بدون علة ، فلا تكون العلة علةً ، وكلا الأمرين باطل ، فيكون القول بتأثير الأسباب في الأحكام باطلاً ؛ لأنه مَبْنِيّ على باطل .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد أجيب عن هذا الاعتراض : بأن الأسباب ليست مؤثِّرةً في الأحكام وإنما هي مؤثِّرة في تعلقات الأحكام بأفعال المكلَّفين ، وتَعَلُّق الحكْم بالفعل حادث عند الأشاعرة ، ولا مانع مِن أن يؤثِّر الحادث في الحادث .
الاعتراض الثاني : أن القول بتأثير الأسباب في الأحكام مَبْنِيّ على أن العقل يدرك في الأفعال حسناً وقبحاً بواسطتهما يكون الفعل حسناً أو قبيحاً ، والغزالي مِن الأشاعرة ، وهم لا يقولون بالتحسين والتقبيح العقلييْن ، فيكون القول بالتأثير باطلاً .
الجواب عن هذا الاعتراض :(1/158)
وقد أجيب عن هذا الاعتراض : بأن الغزالي وإن كان مِن الأشاعرة إلا أنه يقول بالتحسين والتقبيح العقلييْن ، بمعنى أن العقل يدرك في الفعل حسناً وقبحاً ، ولكن لا يرتب على ما أَدرَكَه العقلُ مِن الحسن والقبح حكماً في الفعل ، بل يقول أن الحكم مرجعه إلى الله تعالى ، فله أن يُقبِّح ما حسّنه العقل ، وأن يحسّن ما قبّحه ، فالله تعالى مختار يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ..
فهو يخالف المعتزلة ؛ لأنهم يرتبون أحكاماً في الفعل تكون تابعةً لِمَا أدركه العقل مِن الحسن والقبح ، ويخالف الأشاعرة ؛ لأنهم يقولون : إن العقل لا يدرك في الأفعال حسناً ولا قبحاً ، فالحسن ما حسّنه الشرع ، والقبيح عندهم ما قبّحه الشرع (1) .
والراجح عندي أن الأسباب مؤثّرة في الأحكام بجعل الله ، وأنه تعالى ربَط بيْن الأسباب والمسببات ربطاً بحيث يَلزم وجود المسبب إذا وُجد السبب ، وهو ما ذهب إليه حجة الإسلام الغزالي .
أقسام السبب
لقد قسم الأصوليون السبب إلى أقسام عدة ..
ويمكن حصْرها في تقسيمات غير الحنفية وتقسيمات الحنفية على النحو التالي :
أولاً - تقسيم السبب عند غير الحنفية :
لقد قسم غير الحنفية السبب تقسيماتٍ عدةً باعتبارات مختلفة ،
(1) أصول الفقه لِلعلاّمة الشيخ زهير 1/66 - 68 بتصرف .
حصرتُ منها ما يلي :
التقسيم الأول : باعتبار المشروعية وعدمها ..
وتنقسم الأسباب مِن حيث المشروعية وعدمها إلى : أسباب مشروعة وأسباب غير مشروعة ..
والأسباب المشروعة : هي التي وضعها الشارع لتحقيق مصالح العباد أو دفع المفاسد عنهم .
مثالها : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه أمر مشروع ؛ لأنه سبب لإقامة الدين وإظهار شعائر الإسلام وإخماد الباطل على أي وجه كان .
والأسباب الممنوعة : وهي التي ينشؤها المكلَّف باختياره مخالفةً لأمر الشارع ، وهذه الأسباب لا أثر لها شرعاً ولا يقع لها مقتضى ؛ لأنها أسباب لِلمفاسد .(1/159)
مثالها : الأنكحة الفاسدة ممنوعة وإن أدت إلى إلحاق الولد وثبوت الميراث ، والعاصي بسفره لا يقصر ولا يفطر ؛ لأن المشقة كأنها واقعة بفعله ؛ لأنها ناشئة عن سببه (1) .
التقسيم الثاني : باعتبار القدرة لِلمكلَّف وعدمها ..
والأسباب من حيث قدرة المكلَّف وعدمها تنقسم إلى : أسباب خارجة عن مقدور المكلَّف ، وأسباب داخلة تحت مقدور المكلَّف ..
مثال غير المقدور : زوال الشمس أو غروبها ، أو طلوع الفجر ؛ فإنه سبب في إيجاب الصلوات في تلك الأوقات ، وليس مقدوراً لِلمكلَّف .
ومثال المقدور : السفر الذي يُعَدّ سبباً لإباحة القصر والفطر ،
(1) انظر الموافقات 1/193 - 242
وعقْد الزواج ؛ فإنه سبب لحِل العشرة الزوجية .
التقسيم الثالث : باعتبار تَكرُّر الحكم بتكرره ..
والسبب بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسميْن :
القسم الأول : وهو ما يتكرر الحكم بتَكرُّره ..
نحو : دلوك الشمس لِوجوب صلاة الظهر ، ورؤية هلال رمضان لِوجوب الصيام ، والنصاب لِوجوب الزكاة .
القسم الثاني : وهو ما لا يتكرر الحكم بتكرره ..
نحو : وجوب معرفة الله تعالى عند تَكرُّر الأدلة الدالة على وجوده تعالى ، ووجوب الحج عند تَكرُّر الاستطاعة عند مَن يجعلها سبباً (1) .
التقسيم الرابع : باعتبار الوقتي والمعنوي ..
والسبب بهذا الاعتبار قسّمه ابن الحاجب إلى قسمَيْن :
القسم الأول : سبب وقتي ..
وهو : ما لا يستلزم في تعريفه لِلحكْم حكمةً باعثةً : كدلوك الشمس ، فإنه يعرّف وقت وجوب صلاة الظهر ولا يكون مستلزماً لِحكمة باعثة .
القسم الثاني : سبب معنوي ..
وهو : ما يستلزم حكمةً باعثةً في تعريفه للحكم الشرعي : كالإسكار ؛ فإنه جُعِل علةً لِتحريم الخمر ، والمِلك ؛ فإنه جُعِل سبباً لإباحة الانتفاع ، والضمان ؛ فإنه جُعِل سبباً لِمطالبة الضامن بالدَّيْن ، والعقوبات ؛ فإنه جُعِل سبباً لِوجوب القصاص أو الدية (2) .
(1) انظر البحر المحيط 1/306(1/160)
(2) انظر : بيان المختصر 1/406 ومُسلَّم الثبوت 1/61 وإرشاد الفحول /7
ثانياً - تقسيمات السبب عند الحنفية :
قسم الحنفية السبب إلى أقسام ثلاثة :
القسم الأول : سبب حقيقي ..
وهو : ما يكون طريقاً إلى الحكْم مِن غير أن يضاف إليه وجوب ولا وجود .
وحكْمه : أنه لا يضاف أثر الفعل إليه ، وإنما إلى العلة المتوسطة بين الحكْم والسبب .
مثاله : مَن دل إنساناً على مال شخص آخَر لِيسرقه ، فإن هذا الدالّ يكون سبباً حقيقيّاً لِلسرقة ؛ لأنها أفضت إليها ، مِن غير أن تكون موجِبةً له أو موجِدةً له ، ولا تأثير له في فِعل السارق أصلاً ، لكن تَخَلَّل بين الدلالة وبين السرقة علة غير مضافة إلى الدلالة ، وهي فِعلُ السارق المختار وقصْدُه ؛ إذ لا يلزم مِن الدلالة على السرقة وقوعها .
القسم الثاني : سبب مجازي ..
وهو : ما كان طريقاً لِلحكْم يفضي لا في الحال وإنما في المآل .
وخص باسم المجاز لأن التجوز بنقصان الحقيقة أَوْلى مِن التجوز بالزيادة المكمّلة عليها .
مثاله : اليمين بالله تعالى ، فإنه سبب مجازي لِلكفّارة ؛ لِعدم الإفضاء فيها إلى الكفارة إلا على تقدير الحنث ، فكان تجوّزاً مِن تسمية الشيء بما يؤول إليه .
القسم الثالث : سبب في حكم العلة ..
وهو : ما تضاف إليه العلة المتوسطة بينه وبين الحكْم ، فيصير لِلسبب حكْم العلل .
مثاله : سَوْق الدابة وقَوْدها ، فإن كل واحد منهما سبب لِتلَف ما يتلف وطأها في حالة السَوق والقَود ، وقد توسط بينه وبين التلف ، وهو علة له وهو فعل الدابة ، لكنه مضاف إلى السَّوْق والقود ؛ لأن الدابة لا اختيار لها في فِعلِها سيما إذا كان أحد سائقاً أو قائداً لها ، والعلة ليست صالحةً لِلحكْم فيضاف التلف إلى علة العلة فيما يرجع إلى بدل المحل ، وهو ضمان الدية والقيمة ، أو فيما يرجع إلى جزاء المباشرة ، فلا يكون مضافاً إليها (1) .
الفَرْق بين العلة والسبب والحكمة
والعلة لغةً : المرض (2)..(1/161)
واصطلاحاً : الوصف الظاهر المنضبط ، الذي بُنِي عليه الحكْم ، ورُبِط به وجوداً وعدماً .
ذهب بعض الأصوليين إلى أنه لا فَرْق بين العلة والسبب ، فكلٌّ منهما علامة على الحكْم ، وبُنِي عليه الحكم ورُبِط به وجوداً وعدماً ، وكلٌّ منهما لِلشارع حكمة في ربْط الحكْم به وبنائه عليه .
وفرَّق أكثر الأصوليين بين السبب والعلة مع أن كلاًّ منهما ـ عندهم ـ علامة على الحكْم ، ومرتبط به وجوداً وعدماً ، ولِلشارع حكمة في ربْط الحكْم به وبنائه عليه ، ولكن إذا كانت المناسبة في هذا الربط مما تدركه عقولنا سُمِّي الوصف " علةً " ، وسُمِّي أيضاً " سبباً " .
مثاله : السفر يُعَدّ علةً وسبباً لِقَصْر الصلاة .
وإن كان الوصف مما لا تدركه عقولنا سُمِّي " سبباً " فقط ، ولا يُسمَّى
(1) انظر : فتح الغفار 3/64 ، 65 وكشف الأسرار لِلبخاري مع أصول البزدوي 4/293 وما بعدها وغاية الوصول إلى دقائق علم الأصول /181 ، 182
(2) مختار الصحاح /475
" علة " .
مثاله : غروب الشمس يُعَدّ سبباً لإيجاب صلاة المغرب ، وليس علة .
وعلى ذلك تكون كل علة سبباً ، وليس كل سبب علة (1) .
وأمّا الحكمة : فهي المصلحة التي يراد بالحكم تَحقُّقها ، والمفسدة التي يراد به دفْعُها ..
والحكمة لا تَصلح معرِّفةً لِلحكم الشرعي في كل حال مِن الأحوال ؛ لأنها وصْفٌ ظاهرٌ غيْر منضبِط ، يختلف باختلاف البيئات وأنظار الناس .
وأمّا العلة : فهي وصْفٌ ظاهرٌ منضبطٌ معرِّفٌ لِلحكم (2) .
(1) علم أصول الفقه لِخلاّف /71 - 73 بتصرف وانظر : شرح الكوكب المنير 1/449 ، 450 وشرح المحلي مع البناني 1/95 وشرح مختصر الروضة 1/427 ، 428 وشرح التوضيح مع التلويح 1/145
(2) أصول الفقه الإسلامي لِلزحيلي 1/96
المطلب الثاني
الشرط والمانع
أولاً : الشرط
وهو لغةً : العلامة ..
ومنه : أشراط الساعة ؛ أي علاماتها (1) .(1/162)
واصطلاحاً : ما يَلزم عن عدمه العدم ، ولا يَلزم مِن وجوده وجود ولا عدم لِذاته (2) .
مثاله : الطهارة التي هي شرْط لِصحة الصلاة ، فيَلزم مِن عدمها عدم صحة الصلاة ، ولا يَلزم مِن وجودها وجوب الصلاة ولا عدمها .
الفَرْق بين الشرط والركن :
والفَرْق بين الشرط والركن : أن كلاهما يتوقف عليهما وجود الشيء إلا أن الركن هو ما يتوقف الشيء على وجوده وكان جزءاً مِن حقيقته أو ماهيته ، فالركوع ركن في الصلاة ؛ لأنه جزء منها ، وكذلك القراءة في الصلاة ركن ؛ لأنها جزء مِن حقيقة الصلاة ، والإيجاب والقبول في العقد ركنان ، لأنهما جزءان مِن الحقيقة ..
وأمّا الشرط فهو ما يتوقف عليه وجود الشيء وكان خارجاً عن حقيقته فالطهارة شرْط في الصلاة ، وهي أمْر خارج عن الحقيقة ، وحضور الشاهدَيْن في النكاح وتعيين العوضيْن في البيع مِن الشروط ؛ لأن كلاًّ
(1) الكليات /529 والمصباح المنير 1/309
(2) شرح تنقيح الفصول /83 وانظر غاية الوصول /13
منهما ليس مِن أجزاء العقد (1) .
أقسام الشرط
والشرط له تقسيمات ، وقفتُ منها على تقسيمات ثلاثة عند الجمهور ، وأقسام أربعة عند الحنفية ..
أولاً - تقسيمات الشرط عند الجمهور :
التقسيم الأول : باعتبار الحكم والسبب ..
والشرط مِن حيث الحكْم والسبب ينقسم إلى قسميْن : شرْط السبب ، وشرْط الحكْم .
وشرْط السبب : هو ما كان عدمه مخلاًّ بحكمة السبب ..
مثاله : القدرة على التسليم في باب البيع ، فإن ثبوت المِلك حكْم ، وصحة البيع سببه ، وإباحة الانتفاع حكمة صحة البيع ، والقدرة على التسليم شرْط صحة البيع ؛ لأن عدم القدرة على التسليم يستلزم عدم القدرة على الانتفاع الموجِب لاختلال إباحة الانتفاع .
وكذلك الإحصان ، فإنه شرْط في سببية الزنا لِوجوب الرجم ، فإذا عُدِم الإحصان عُدِم الحكْم بانعدامه .
وكذلك القتل العمد العدوان ، فإنه شرْط لِوجوب القصاص ..(1/163)
وشرْط الحكْم : هو ما كان عدمه مشتملاً على حكمة مقتضاها نقيض حكْم السبب مع بقاء حكمة السبب ..
مثاله : عدم الطهارة في الصلاة مع الإتيان بمسمَّى الصلاة (2) .
وكذلك حولان الحول بالنسبة لِوجوب الزكاة ، فعدمه يستلزم عدم
(1) أصول الفقه الإسلامي لِلزحيلي 1/100
(2) الإحكام لِلآمدي 1/121 بتصرف وانظر : منتهى السول 1/32 وبيان المختصر 1/407
وجوبها .
التقسيم الثاني : باعتبار الشرعية وعدمها ..
والشرط باعتباره شرعيّاً أو غيره ينقسم إلى أربعة أقسام :
الأول : شرْط شرعي ..
مثاله : الطهارة شرْط في صحة الصلاة .
الثاني : شرْط عقلي ..
مثاله : الحياة شرْط لِقيام العلم ووجوده .
الثالث : شرْط عادي ..
مثاله : الغذاء شرْط لِحياة الحيوان .
الرابع : شرْط لغوي ..
مثاله : إن دخلتِ الدار فأنتِ طالق (1) .
ومنهم مَن حصرها في قسمين : شرعي ، وجعلي ..
والشرط الجعلي : ما اشترطه المكلَّف في العقد ..
نحو : اشتراط الزوجة أن تسكن في قريتها ، أو اشتراط الزوج عدم خروج زوجته لِلعمل .
وشرْط هذا الشرط الجعلي ألاّ يكون منافياً لِحكْم العقد : كشرط البائع عدم انتفاع المشتري بالمبيع .
ولِلشرط الجعلي أنواع :
النوع الأول : الشرط المعلّق ..
وهو : كل شرْط يعلِّق الإنسان فيه تَصرُّفه على حصول أمْر مِن
(1) انظر : شرح الكوكب المنير 1/455 وشرح مختصر الروضة 1/431،432 والمختصر في أصول الفقه /66 وإرشاد الفحول /7 والكليات /531 والبحر المحيط 1/309 ، 310
الأمور .
ومقتضاه : أن لا يوجَد أثرٌ لِلعقد إلا إذا وُجد الشرط ، وهذا ينافي مقتضى العقد ، وهو أنّ حُكْمَه لا يتراخى عنه : كأن يعلِّق الإنسان تَصَرُّفَه على حصول أمْر بأحد أدوات التعليق : كـ" إن وإذا ومتى " ..
مِثل : إذا نجحتُ في الامتحان تصدقتُ على الفقراء بمبلغ كذا .
ولِهذا بطل البيع المعلَّق على شرْط ، أو الزواج المعلَّق على شرْط .
النوع الثاني : الشرط المقيِّد ..(1/164)
وهو : ما يقترن بالعقود والتصرفات مِن التزامات يشترطها الناس بعضهم على بعض .
وحُكْمُه : أنه يعدّل مِن آثار العقد الأصلية ..
مثال ذلك : أن يبيع الشخص لآخَر منزلاً على أن يسكنه سَنَةً ، أو يتزوج رجلٌ امرأةً على أن يقيم معها في منزل أبيها أو بشرط ألاّ يُخرِجها مِن القاهرة .
والخلاصة : أن الشرط الجعلي إذا اعتبره الشارع صار كالشرط الشرعي ، أي في الحكْم على صحة العقد ، وإذا لم يعتبره الشارع فلا يُعتبَر مِثله ..
وعلى هذا فالحكْم الشرعي في الشرط إنما هو قضاء الشارع على الوصف بكونه شرطاً ، لا نفْس الوصف المحكوم عليه .
النوع الثالث : شرط الإضافة ..
وهو : الذي يقصد به تأخير سريان أحكام العقد إلى زمن المستقبل : كالاتفاق على بدء الإجارة مِن يوم معيّن .
وحكْمه : أن العقد ينعقد في الحال سبباً لِلحكم في المستقبل ، فهو عقْد
قائم بين المتعاقدين منذ إنشاء الإضافة (1) .
التقسيم الثالث : باعتبار أصله ..
ينقسم إلى قسميْن : شرْط يرجع إلى خطاب التكليف ، وشرْط يرجع إلى خطاب الوضع .
مثال الأول : الطهارة للصلاة ، وهو في الأمر .
ومثاله في النهي : نكاح المُحَلّل ، الذي هو شرْط لِمراجعة الزوج الأول .
ومثال الثاني : الحول في الزكاة ، والإحصان في الزنا (2) .
ثانياً - أقسام الشرط عند الحنفية :
قسّم الحنفية الشرط إلى أقسام خمسة :
القسم الأول : شرْط محض ..
وهو : ما يتوقف وجود العلة على وجوده : كالطهارة لِلصلاة ، ودخول الدار في قوله :" إن دخلتِ الدار فأنتِ طالق " .
القسم الثاني : شرْط في حُكْم العلة ..
وهو : ما يقوم مقام العلة في إضافة الحكم إليه : كحفر البئر في الطريق ، فإنه شرْط لِتلف ما يتلف بالسقوط ، وذلك لأن علته هو السقوط وعلة السقوط الثقل ، والمشي سبب محض لِلسقوط ؛ لأنه مُفْضٍ إليه في الجملة ، وليس بعلة ؛ لأنه قد يوجد المشي فيه بِلا وقوع ، ولكن الأرض كانت مانعةً مِن تأثير العلة وهي الثقل .(1/165)
(1) أصول الفقه الإسلامي لِلزحيلي 1/101/102 بتصرف وانظر أصول الفقه الإسلامي لِزكي الدين شعبان /244 ، 245
(2) الموافقات 1/273 بتصرف .
القسم الثالث : شرْط له حكْم السبب ..
وهو : الشرط الذي يتخلل بيْنه وبيْن المشروط فِعْل فاعل مختار ، مِن غير أن يكون ذاك الفعل مضافاً إلى ذلك الشرط ، ويكون الشرط مقدماً عليه : كما إذا حَلّ قيْد عبدٍ حتى أبق لا يضمن ؛ فإنّ الحَلّ لمّا سبق الإباق الذي هو علة التلف صار كالسبب ، فإنه يتقدم على صورة العلة ، والشرط يتأخر عنها .
القسم الرابع : شرْط اسماً لا حكْماً ..
وهو : ما يفتقر الحكْم إلى وجوده ، ولا يوجَد عند وجوده ، فمِن حيث إنه يتوقف الحكْم عليه يُسمَّى شرطاً ، ومِن حيث إنه لا يوجَد الحكْم عنده لا يكون شرطاً حكْماً ..
وذلك كأول الشرطين في حكْمٍ تَعلَّق بهما ـ كقوله :" إن دخلتِ هذه الدار وهذه الدار فأنتِ طالق " ـ فإن دخولها لِلأولى شرْط اسماً لا حكْماً ؛ لأن الحكْم غير مضاف إليه وجوباً لا وجوداً عنده ، فإن دخلَت الداريْن وهي في نكاحه طُلِّقَت اتفاقاً ، وإن أبانها فدخلت الداريْن أو دخلَت إحداهما فأبانها فدخلَت الأخرى لم تطلَّق اتفاقاً ، وإن أبانها فدخلَت إحداهما ثم تزوجها فدخلَت الأخرى تُطلَّق .
القسم الخامس : شرْط هو العلامة ..
كالإحصان في الزنا (1) .
(1) انظر : فتح الغفار 3/82 - 84 وشرح المنار لابن ملك /326 - 329
ثانياً : المانع
تعريف المانع لغةً واصطلاحاً :
والمانع لغةً : الحائل من المنع ، وهو ضد الإعطاء (1) .
واصطلاحاً : ما يَلزم مِن وجوده عدم وجود الحكْم ، ولا يَلزم مِن عدمه وجود ولا عدم لِذاته (2) .
أقسام المانع
وينقسم المانع إلى قسمين :
الأول : مانع لِلحكْم ..
وهو : وصْف وجودي ظاهر منضبط ، مستلزم لِحكمة تقتضي نقيض حكْم السبب مع بقاء حكْم المسبب .
وسُمِّي " مانعاً لِلحكْم " لأن سببه مع بقاء حكمته لا يؤثِّر.(1/166)
مثاله : وجود النجاسة المُجمَع عليها في بدن المصلِّي أو ثوبه ، فإنه سبب لِعدم صحة الصلاة ، وهنا عُدِم شرْط وهو الطهارة ، ووُجِد مانع وهو النجاسة .
والثاني : مانع لِلسبب ..
وهو : وصْف يخل وجوده بحكمة السبب .
وسُمِّي " مانعا للسبب " لأن حكمته فُقِدَت مع وجود صورته فقط .
مثاله : الدَّين على مَن مَلَك نصاباً كاملاً ، فإن حكمة السبب ـ وهو الغني ـ مواساة الفقراء مِن فضْل ماله ، ولم يَدَع الدَّين في المال فضلاً
(1) انظر : المصباح المنير 2/580 ، 581 ومختار الصحاح /661
(2) انظر : شرح تنقيح الفصول /82 والبحر المحيط 1/310 وشرح الكوكب المنير 1/456 وشرح مختصر الروضة 1/436
يواسِي به (1) .
أقسام الموانع الشرعية :
الأول : ما يمنع ابتداء الحكم واستمراره : كالرضاع يمنع صحة النكاح ابتداءً ويَقطعه دواماً .
الثاني : ما يمنعه ابتداءً لا دواماً : كالعدة تمنع ابتداء النكاح لِغير مَن هي منه ، ولو طرأت على نكاح صحيح بوطء شبهة لم يقطعه ، وكذلك الرِّدة .
الثالث : ما يمنعه دواماً لا ابتداءً : كالكفر بالنسبة لملك الرقيق المسلم لا يمنع في الابتداء لتصويره بالإرث (2) ..
ومثَّل له الفتوحي بوجود الماء ، فإنه يمنع ابتداء التيمم ، فلو طرأ وجود الماء عليه في الصلاة فهل يبطل ؟ والصحيح أنه يبطله (3) .
بين الشرط والمانع
الشرط ينتفي الحكم لانتفائه ، والمانع ينتفي الحكْم لِوجوده .
الشرط وعدم المانع كلاهما يُعتبَر في ترتب الحكم ، فقد يلتبسان حتى إن بعض الفقهاء ـ كالغزالي ـ جعله مِن شرائط الصلاة ترك المناهي مِن الأفعال والكلام والأكل ونحوه ، وذكر النووي أنها ليست شروطاً وإن سُمِّيَت بذلك فمَجاز ، وإنما هي مبطلات .
والفَرْق بينهما : أن الشرط لا بد أن يكون وصفاً وجوديّاً ، وأمّا عدم(1/167)
(1) انظر : الإحكام لِلآمدي 1/120 ، 121 ومنتهى السول 1/32 وبيان المختصر 1/406،407 والبحر المحيط 1/310 ، 311 وشرح الكوكب المنير 1/457 ، 458 وشرح مختصر الروضة 1/436 وإرشاد الفحول /7 وأصول الفقه لِلخضري /65
(2) البحر المحيط 1/311
(3) شرح الكوكب المنير 1/464
المانع فعدميّ (1) .
(1) شرح الكوكب المنير 1/460 ، 461 بتصرف .
المطلب الثالث
الصحة والفساد
أولاً : الصحة
تعريف الصحة :
وهي لغةً : ضد السَّقَم (1) .
واصطلاحاً : موافقة الفعل ذي الوجهين وقوعاً الشرع .
والوجهان هما : موافقة الشرع لاستجماعه ما يُعتبَر فيه شرعاً ، ومخالفته لانتفاء ما يُعتبَر فيه شرعاً (2) .
والصحيح : هو الفعل الذي استوفى أركانه وشروطه الشرعية ، وتترتب عليه الآثار المقصودة شرعاً .
والصحة في العبادات عند المتكلمين : موافقة أمْر الشرع وإن وجب القضاء .
وعند الفقهاء : وقوعها على وجه يُسقِط القضاء .
والصحة في المعاملات : هي تَرتُّب آثارها عليها (3) .
والإجزاء عرَّفه المتكلمون بأنه : الأداء الكافي لِسقوط التعبد به ..
وعند الفقهاء : هو سقوط القضاء .
(1) مختار الصحاح /380
(2) شرح المحلي مع البناني 1/99
(3) انظر : مختصر المنتهى وشرح العضد 2/7،8 وشرح تنقيح الفصول /76 ، 77 وجمع الجوامع مع البناني 1/99 - 101 وحقائق الأصول 1/159 ، 160 ومناهج العقول 1/77 ، 78 وغاية الوصول /13 - 15 والبحر المحيط 1/312 ـ 314
وعليه فيكون الإجزاء مرادفاً لِلصحة ، وليس كذلك ؛ فالصحة أعَمّ مِن الإجزاء ، فيوصَف بها كلٌّ مِن العبادات والمعاملات ، فتقول : صلاة صحيحة ، وعقْد صحيح ..
وأمّا الإجزاء فيوصَف به العبادات دون المعاملات ، فتقول : صلاة مُجِزئةً ، وعقْد صحيح ، وليس مُجزِئاً (1) .
أثر الخلاف بين المتكلمين والفقهاء في معنى صحة العبادة :
ويظهر أثر الخلاف في هذا المقام فيمَن صلى على ظن الطهارة ، ثم تَبَيَّنَ له أنه مُحْدِث ..(1/168)
على رأي المتكلمين : صلاته صحيحة ؛ لموافقته الأمر ، وهو مأمور بالصلاة بطهارة معلومة أو مظنونة ، وأداء المكلَّف لها جَعَلَها صحيحةً في ظنه ، وسَقَط هذا الدليل ، واحتاج الوجوب إلى دليل جديد .
وعلى رأي الفقهاء : صلاته غير صحيحة ؛ لعدم سقوط القضاء ، فدليل الوجوب عندهم قائم حتى تؤدَّى الصلاة صحيحةً في نفس الأمر .
والفريقان متفقان على وجوب القضاء بعد تَيقُّن الحدث (2) .
وهل يُعَدّ امتثال المأمور به مستلزِماً لِلإجزاء أم لا ؟
هذا ما سنفصِّله فيما يأتي :
تحرير محل النزاع :
اتفق العلماء على أن الإتيان بالمأمور به على نوع مِن الخَلَل موجِب لِلقضاء إذا كان الخَلَل مؤثِّراً في الصحة وغير مُسقِط لِلأمر .
كما اتفقوا على أن الشارع يَجوز أن يأمر بعبادة في وقت ويأمر بفعل (1) انظر : البحر المحيط 1/319 ونهاية السول 1/81 ، 82 وتيسير التحرير 2/236 وشرح الكوكب المنير 1/468 ، 469 وحقائق الأصول 1/163 ، 164 وأصول الفقه لِزهير 1/75
(2) انظر : نهاية السول 1/80 وتيسير التحرير 2/235 والإحكام لِلآمدي 1/121
مِثلها في وقت آخَر ، ويكون هذا تشريعاً مبتدأً وأمراً جديداً .
كما اتفقوا على أن الإتيان بالمأمور به على الوجه المطلوب يحقق الامتثال وتَبْرأ به الذمة .. هذا إذا فسّرْنا الإجزاء بالامتثال .
أمّا إذا فسّرْنا الإجزاء بإسقاط القضاء فقد اختلَفوا في ذلك على مذاهب :
المذهب الأول : أن الإتيان بالمأمور به يستلزم الإجزاء ..
وهو مذهب الجمهور .
لأن الأمر عندهم يدل على شيئيْن :
الأول : شغْل الذمة عند عدم الفعل .
والثاني : براءتها عند حصول الفعل .
وعلى هذا يكون الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر به يستلزم الإجزاء .
المذهب الثاني : أن الإتيان بالمأمور به لا يستلزم الإجزاء ..
وهو قول القاضي عبد الجبار .
المذهب الثالث : أن الأمر موقوف على ما يُثبِته الدليل ..
وهو منسوب إلى الأشعري .(1/169)
المذهب الرابع : أنه يقتضي الإجزاء مِن حيث عُرْف الشرع ، ولا يقتضيه مِن حيث وضْع اللغة ..
وهو محكِي عن الشريف المرتضى .
والمذهبان الأولان هما المعتبَران عند الأصوليين ، ولِذا فإني سأكتفي بذكر أدلتهما ..
أدلة المذاهب :
أدلة المذهب الأول :
استدل الجمهور ـ القائلون بأن الامتثال يستلزم الإجزاء ـ بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة سنان بن عبد الله الجهني أَمَرَته أن يسأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمها توفِّيَت ولم تحجّ أيجزئ عنها أن تحج ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - { أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّهَا دَيْنٌ فَقَضَتْهُ عَنْهَا ، أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْ أُمِّهَا } قال :" نَعَم " قال { فَلْتَحُجَّ عَنْ أُمِّهَا } (1) .
وجه الدلالة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل سائلُ المرأةِ لو أنها قضت دَيْن أمها هل يُجْزِئ أم لا ؟ فأجاب أنه يُجْزِئ ، وما إقراره إلا لأنه فَهِم أن الامتثال يستلزم الإجزاء ، دل ذلك على أن الامتثال يستلزم الإجزاء .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأن المرأة أرادت أن تسأل : أيجزئ حجها عن أمها ؟ فتوقفَت عن ذلك في الحج ، وسألت عن الإجزاء ، دل ذلك على أن الإجزاء يحتاج إلى دليل .
الجواب عن هذه المناقشة :
وقد أجيب عن هذه المناقشة : بأنها لم تسأل عن الإجزاء حتى تحتاج إلى دليل ، وإنما سألَت عن جواز الإنابة في العبادات البدنية ، ومنها الحج أمّا إجزاء الامتثال فإنه أصْل مقرَّر سلَّمَت به في إجابتها (2) .
الدليل الثاني : أن امتثال الأمر لو لم يستلزم الإجزاء لَراجَع الصحابةُ
(1) رواه أحمد والبزار عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) انظر التمهيد لأبي الخطاب 1/317(1/170)
رضوان الله تعالى عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل أمْر شرعي صَدَر إليهم في دلالة إجزائه ، ولَكثرَت مراجعتهم ، ولَنُقِل ذلك إلينا تواتراً واستفاضةً ؛ لِتَوفُّر الدواعي ومساس الحاجة ..
وحيث لم يَرِد نقْل في ذلك ؛ فدل ذلك على أن الصحابة فَهِمُوا أن امتثال الأمر يستلزم الإجزاء ، وهو المدَّعَى (1) .
أدلة المذهب الثاني :
استدل القاضي عبد الجبار ومَن تَبِعه على أن الإتيان بالمأمور به لا يستلزم الإجزاء بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أن النهي لا يدل على فساد المنهيّ عنه ، وإنما يدل على القبح فقط ، وبطلانه وفساده موقوف على دليل آخَر ، وإذا كان النهي لا يدل على الفساد فكذلك الأمر لا يدل على الإجزاء (2) .
مناقشة هذا الدليل :
وأرى مناقشة هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أن هذا الدليل مَبْنِيّ على قاعدة التحسين والتقبيح العقلييْن والتي لا تتفق مع مذهب أهل السّنّة والجماعة ؛ فإن مرجع التحسين والتقبيح هو الشرع ، أمّا العقل فإنه لا يَصلح طريقاً لإدراك حكْم الله في أفعال المكلَّفين (3) ، وقد ثبت بطلان هذه القاعدة ، فما بُنِي عليها كان باطلاً .
الوجه الثاني : أنه قياس في اللغة ، وهو باطل .
(1) انظر بذل النظر /81
(2) انظر : المغني لِلقاضي عبد الجبار 17/136 وميزان الأصول /139 والمحصول 1/323 ، 324 والإحكام لِلآمدي 2/197 وشرح تنقيح الفصول /135
(3) انظر : الإبهاج 1/63 وإرشاد الفحول /7
الوجه الثالث : أنه قياس مع الفارق ؛ لأن النهي يمنع مِن الفعل ، أمّا الأمر فإنه يقتضي إيجاد الفعل والإتيان به على الوجه المطلوب شرعاً وإذا تَحقَّقَ هذا الامتثال كان مُجْزِئاً ، ولا يبقى الأمر بعد ذلك مقتضِياً لِشيء ، ولِذا كان قياساً مع الفارق ، فلا يُقبَل (1) .(1/171)
الدليل الثاني : أن الإتيان بالمأمور به لو استلزم الإجزاء ـ بمعنى سقوط القضاء ـ لكان المصلِّي لِظن الطهارة آثماً أو ساقطاً عنه القضاء إذا تَبيَّنَ الحدث بعد خروج الوقت ، لكنه ليس كذلك ..
فدل ذلك على أن الإتيان بالمأمور به لا يستلزم الإجزاء ( سقوط القضاء ) ، وهو المدَّعَى ..
وبيان وجْه تأثيمه : أنه مأمور بالصلاة مع يقين الطهارة ، ففَعَلَها مع ظنها فيأثم ؛ لأنه لم يمتثل ، والمعلوم أنه غير آثم .
وإن كفى الظن في الصلاة المأمور بها فقد أتى بالمأمور به ، فيكون القضاء ساقطاً عنه ؛ لأنه قد امتَثَل ، والمعلوم أنه غير ساقط عنه مع تيقُّن الحدث .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أن القضاء الذي وجب على المصلِّي مع ظن الطهارة إنما هو استدراك لِمصلحة ما أُمِر به أولاً مِن الصلاة مع الطهارة ، وليس واجباً عمّا أُمِر به مِن الصلاة المظنون طهارتها ؛ لأنه قد أتى بما أُمِر به على النحو الذي أُمِر به كما ادعيتم (2) .
(1) انظر : المعالم /74 ، 75 والإحكام لِلآمدي 2/75
(2) انظر : الإحكام لِلآمدي 2/197 وشرح العضد على المختصر 2/91 وفواتح الرحموت 1/394 وشرح طلعة الشمس 1/54
الوجه الثاني : أن المكلَّف هنا لم يأتِ بالصلاة مستوفياً لِشروطها الشرعية فلم يقع المأمور به ، وكلامنا في امتثال المأمور على الوجه المأمور به ، ولِذا كان استدلالكم في غير محل النزاع (1) .
بيان المذهب الراجح :
بعد عرْض مذاهب الأصوليين وأدلتهم في هذه المسألة يتضح أن المذهب الأَوْلى بالاختيار والترجيح هو المذهب الأول القائل بأن امتثال الأمر يستلزم الإجزاء ، وذلك لِمَا يلي :
1- قوة أدلة المذهب المختار ، وسلامتها مِن المناقشة .
2- ضَعْف أدلة المذهب الثاني ، وعدم سلامتها مِن المناقشة .
كما تَبيَّن مِن أقوال كثير مِن الأصوليين أن الخلاف في هذه المسألة لفظي ..(1/172)
وفي ذلك يقول الآمدي :" وإذا كان المأمور به قد فُعِل على جهة الكمال والتمام مِن غير نقْص ولا خَلَل فوجوب القضاء استدراكاً لِمَا قد حَصَل تحصيلٌ لِحاصل ، وهو مُحال ، ومَن ينفي القضاء إنما ينفيه بهذا التفسير ، وهذا مما يتعذر مع تحقيقه المنازعة فيه ، وإن كان لا ينكر إمكان ورود الأمر خارج الوقت بمِثل ما فَعَل أولاً ، غير أنه لا يسميه " قضاءً " ، ومَن سمّاه " قضاءً " فحاصل النزاع معه آيلٌ إلى اللفظ دون المعنى " ا.هـ (2) .
(1) انظر العدة 1/301
(2) الإحكام لِلآمدي 2/196 ، 197
ثانياً : الفساد
تعريف الفساد والبطلان :
والفساد لغةً : مأخوذ مِن " فسد اللحم " إذا أَنتَن ولا يمكن الانتفاع به .
والباطل : مِن " بَطل اللحم " إذا دوَّد وسوَّس وصار بحيث لا يمكن الانتفاع به (1) .
واصطلاحاً : مخالفة الفعل ذي الوجهين وقوعاً الشرع ..
هذا عند المتكلمين .
وعند الفقهاء : هو عدم سقوط القضاء .
والفساد في المعاملات : هو عدم تَرتُّب آثارها عليها .
والفساد والبطلان عند الجمهور مترادفان ، فكل فاسد باطل ، وكل باطل فاسد .
وذهب الحنفية إلى أن الفاسد خلاف الباطل :
فالفاسد عندهم : هو ما شُرِع بأصله دون وصْفه : كبيع صاع مِن قمح بصاعيْن منه ، فالبيع مشروع ، لكن الزيادة ربا ، فإن طرح الزيادة صح البيع .
والباطل : ما لم يُشرع بأصْله ولا بوصْفه : كبيع الملاقيح ( وهو ما في بطن الناقة ) (2) .
والخلاف بين الحنفية والجمهور لفظيّ ؛ لأن حاصله أن مخالفة الفعل ذي الوجهين الشرع بالنهي عنه لأصله كما تُسمَّى " بطلاناً " هل تسمَّى
(1) الكليات /692
(2) انظر : شرح العضد 2/7،8 والمحصول 1/26 ومنتهى السول 1/32 وروضة الناظر /56 والمختصر في أصول الفقه /67 وتغيير التنقيح /137 ومُسلَّم الثبوت 1/122 وتيسير التحرير 2/136،137 وشرح طلعة الشمس 2/215،216 وشرح التلويح 2/123(1/173)
" فساداً " ؟ أو لِوصفه كما تُسمَّى " فساداً " هل تُسمَّى " بطلاناً " ؟
فعند الحنفية لا تُسمَّى ، وعند الجمهور تُسمَّى (1) .
(1) حاشية النفحات /23 بتصرف .
المطلب الرابع
الرخصة والعزيمة
أولاً : الرخصة
تعريف الرخصة لغةً :
والرخصة في اللغة : التسهيل في الأمر والتيسير ، يقال :" رخص الشرع لنا في كذا ترخيصاً " ، و:" أرخص إرخاصاً " إذا يسّره وسهّله (1) .
تعريف الرخصة اصطلاحاً :
اختلف الأصوليون في تعريف الرخصة ، أذكر منها هذيْن التعريفيْن :
التعريف الأول : لِلآمدي ..
وهي : ( ما شُرع مِن الأحكام لِعذر مع قيام السبب المُحَرِّم ) (2) .
التعريف الثاني : لِلبيضاوي ..
وهي : ( الحكْم الثابت على خلاف الدليل لِعذر ) (3) .
والأَوْلى عندي أن تعرّف الرخصة بأنها : ( ما شُرع مِن الأحكام لِعذر خلاف حكْم سابق ؛ مع قيام السبب المُحَرِّم ) .
شرح التعريف :
( ما شُرع مِن الأحكام ) : كالجنس في التعريف ، يشمل الرخصة والعزيمة ..
(1) المصباح المنير 1/223 ، 224 وانظر : مختار الصحاح /259 والتعريفات /122
(2) الإحكام لِلآمدي 1/122
(3) انظر الإبهاج 1/81 ، 82
( لعذر ) : قيد أول ، خرج به العزيمة ، وهي : ما شُرع مِن الأحكام ابتداءً بغير عذر ، نحو : إقامة الصلاة كاملةً بغير قصر ..
( خلاف حكْم سابق ) : قيد ثان ، خرج به ما ثبت على وفْق الحكْم السابق ؛ فإنه لا يكون رخصةً بل عزيمة ، نحو : الصوم في الحضر ، فإنه موافق لِلأمر بالصيام في قوله تعالى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه } (1) ..
( مع قيام السبب المُحَرِّم ) : قيد ثالث ، خرج به ما رُفِع فيه سبب التحريم ، وحينئذٍ لا مخالفة بين حُكْمَيْن متقدِّم ومتأخِّر ، فتنتفي الرخصة ويكون عندنا حكْم واحد هو المتأخر بِلا معارَضة لِمتقدم ، وهو معنى العزيمة .
وأمّا أحكام الرخصة فسيأتي بإذن الله تعالى تفصيل القول فيها في مطلب مستقل .
(1) سورة البقرة مِن الآية 185(1/174)
ثانياً : العزيمة
أولاً - تعريف العزيمة لغةً :
والعزيمة في اللغة : مصدر " عزم على الشيء " ، و" عزمه عزماً " عقد ضميره على فعله .
والعزم : الصبر والجد .
ومنه : قوله تعالى { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل } (1) .
والعزم : القصد ..
ومنه : قوله تعالى { فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما } (2) .
والعزيمة : ما عزمت عليه ، وتُطلَق على الفريضة ، والجمع : عزائم وفي الحديث { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُه } (3) .
كما تطلَق العزيمة على الرقية (4) .
ثانياً - تعريف العزيمة اصطلاحاً :
عرّف الأصوليون العزيمة بتعريفات عدة ، أذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : لِلغزالي ..
وهو : ( ما لزم العباد بإيجاب الله تعالى ) (5) .
وتَبِعَه في ذلك بعض الأصوليين : كالآمدي والأصفهاني ..
فعرّفها الآمدي بأنها : ( ما لزم العباد بإلزام الله تعالى : كالعبادات
(1) سورة الأحقاف مِن الآية 35
(2) سورة طه مِن الآية 115
(3) رواه الإمام أحمد والبيهقي عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - .
(4) انظر : مختار الصحاح /455 والمصباح المنير 2/408 والكليات /650 والمعجم الوجيز /417 ، 418 والإحكام لِلآمدي 1/122 وحقائق الأصول 1/181 ، 182
(5) المستصفى 1/98
الخمس ونحوها ) (1) .
وعرّفها الأصفهاني بأنها : ( ما لزم العباد بإلزام الله تعالى ) (2) .
التعريف الثاني : لِلشاطبي ..
وهو : ( ما شُرع مِن الأحكام الكلية ابتداءً ) (3) .
التعريف الثالث : لابن قدامة ..
وهو : ( الحكْم الثابت مِن غير مخالَفة دليل شرعي ) (4) .
وعلى ضوء ما سبق يمكن تعريف العزيمة بأنها : ( الحكم الشرعي الثابت بدليل لم يعارض بدليل شرعي آخَر ) .
شرح التعريف :
( الحكم ) : كالجنس في التعريف ، يشمل الأحكام الشرعية وغيرها .
( الشرعي ) : قيْد أول ، خرج به الحكم العقلي .(1/175)
( الثابت بدليل ) : قيْد ثان ، ذُكِر توطئةً لِلقيد الثالث ليس إلا ؛ لأن الحكْم الشرعي لا بد له مِن دليل ، وهو يشمل الرخصة والعزيمة .
( لم يعارَض بدليل شرعي آخَر ) : قيد ثالث ، خرج به الرخصة ؛ لأنها حكْم ثابت بدليل على خلاف حكْم سابق لِعذر .
ثالثاً - أقسام العزيمة :
اختلف الأصوليون في تحديد أقسام العزيمة بين مُقِلّ ومُكثِر وما بينهما ..
(1) الإحكام لِلآمدي 1/122
(2) المستصفى 1/98
(3) الإحكام لِلآمدي 1/122
(4) مختصر المنتهى مع بيان المختصر 1/412
فمنهم مَن قَصَرها على الواجب فقط ، أو الواجب والحرام ..
وهذه أقسام العزيمة عند مَن عرّفها بأنها : ( ما لزم العباد بإيجاب الله تعالى ) : كالغزالي (1) والآمدي (2) والأصفهاني (3) .
ومنهم مَن قَصَرها على الواجب والمندوب ..
وهو ما ذهب إليه القرافي الذي عرّف العزيمة بأنها : ( طلبُ الفعل الذي لم يشتهر فيه مانع شرعي ) (4) .
ومنهم مَن قَصَرها على الفرض والواجب والسُّنَّة والنفل ..
وهم جمهور الحنفية (5) ..
ومنهم مَن قَصَرها على الواجب والمندوب والمباح والمكروه ..
وهو ما عليه الفخر الرازي ؛ لأنه جعل مورد التقسيم ـ أي الرخصة والعزيمة ـ الفعل الذي يجوز للمكلَّف الإتيان به ، بمعنى أنه لا يمتنع الإقدام عليه شرعاً ..
وهذا يتناول الواجب والمندوب والمباح والمكروه ، ولا يخرج عنه إلا المحظور (6) .
ومنهم مَن قَصَرها على الأحكام التكليفية : الفرض ، والواجب ، والمندوب ، والمباح ، والحرام ، والمكروه ..
(1) المستصفى 1/98
(2) الإحكام لِلآمدي 1/122
(3) مختصر المنتهى مع بيان المختصر 1/412
(4) شرح تنقيح الفصول /85
(5) انظر : تيسير التحرير 2/229 وشرح ابن ملك /195 والتقرير والتحبير 2/148 ، 149 والتوضيح مع التلويح 2/265 وأصول السرخسي 1/117 وغاية الوصول /232 ـ 234
(6) انظر : المحصول 1/29 وحقائق الوصول 1/178(1/176)
وهو ما عليه السمرقندي (1) والبيضاوي (2) ، واختاره ابن ملك (3) والتفتازاني (4) وابن السبكي (5) .
وهو ما أميل إليه وأرجحه .
(1) ميزان الأصول /55
(2) انظر منهاج الوصول مع حقائق الأصول 1/175 - 178
(3) شرح ابن ملك /195
(4) التلويح مع التوضيح 2/266
(5) انظر : جمع الجوامع مع البناني 1/124 وغاية الوصول /232 - 234
ثالثاً : منزلة الرخصة والعزيمة
في الأحكام الشرعية
اختلَف الأصوليون في كون الرخصة والعزيمة مِن أقسام الحكم الشرعي أم لا ؟ على مذهبيْن :
المذهب الأول : أنهما مِن أقسام الحكْم الشرعي ..
وهو ما عليه الكثرة مِن الأصوليين ..
إلا أنهم اختلَفوا في مكانهما في أقسام الحكم الشرعي إلى فريقيْن :
الفريق الأول : أنهما مِن الحكْم التكليفي ..
وهو ما اختاره البيضاوي وابن السبكي (1) وابن اللحام (2) والزركشي (3) .
وحجتهم : أن الرخصة والعزيمة يرجعان إلى الاقتضاء أو التخيير ، وهما أمارة التكليف في الحكم .
فالعزيمة اسم لِما طلَبه الشارع أو أباحه غير مَبْنِيّ على أعذار العباد ..
والرخصة اسم لِما أباحه الشارع بناءً على أعذار العباد (4) .
والفريق الثاني : أنهما مِن الحكْم الوضعي ..
وهو ما عليه الكثرة ، واختاره الغزالي (5) والآمدي (6) والفخر
(1) انظر منهاج الوصول مع الإبهاج 1/81 ، 82
(2) المختصر /68
(3) البحر المحيط 1/327 وانظر تشنيف المسامع 2/79
(4) انظر غاية الوصول /229
(5) المستصفى 1/98
(6) الإحكام للآمدي 1/118 - 122
الرازي (1) وابن الحاجب (2) والشاطبي (3) .
وحجتهم : أن الشارع هو الذي جعل العذر سبباً في تخفيف ترك الواجب : كالسفر بالنسبة للصلاة الرباعية ، كما أنه جعل الضرر سبباً مبيحاً لِلمحظور : كالضرورة مع حِلّ الميتة (4) .
المذهب الثاني : أنهما ليسا مِن أقسام الحكْم الشرعي ، وإنما مِن أقسام فِعل المكلَّف الذي هو متعلّق الحكْم الشرعي ..(1/177)
فالرخصة بمعنى المرخص فيه ، والعزيمة بمعنى المعزوم عليه ..
وهو ما عليه الآمدي وابن الحاجب (5) .
والراجح عندي ما ذهب إليه الكثرة مِن الأصوليين ، وهو أن الرخصة والعزيمة مِن أقسام الحكْم الشرعي .
ولكن هل هما حكم تكليفي أو وضعي ؟
فلو نظرْنا إلى الأصل والمنشأ كانا مِن أحكام الوضع ، وإن نظرنا إلى ما آل إليه الحكم كانا مِن أحكام التكليف .
ومع أن الخلاف ـ كما قال أستاذنا الدكتور جلال عبد الرحمن ـ خلاف لفظي ؛ لأن في كل منهما يوجد من الشارع جعل شيء سبباً في حكم تكليفي (6) إلا أنني مع الكثرة التي تحصر الأحكام التكليفية في خمسة أو سبعة وليس بينها الرخصة أو العزيمة ؛ لِتصبح الرخصة والعزيمة مِن
(1) المحصول 1/29
(2) مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/7 - 9
(3) الموافقات 1/300
(4) انظر غاية الوصول /229
(5) انظر : الإحكام لِلآمدي 1/118 - 122 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/7 - 9 وتشنيف المسامع 1/79
(6) غاية الوصول /229
أقسام الحكم الوضعي ، وهو ترجيح مبنيّ على الأصل فيهما ، وهو جعْل الشارع كلاًّ منهما سبباً لحكم شرعي .
المطلب الخامس
أحكام الرخصة
والحديث في هذا المطلب يمكن تقسيمه إلى أربعة أقسام :
الأول : أسباب الرخصة .
الثاني : أقسام الرخصة .
الثالث : أحكام الرخصة .
الرابع : ما يتفرع على الرخصة .
ونفصِّل القول في كل قسم منها فيما يلي :
أولاً : أسباب الرخصة
السبب الأول : الضرورة ..
والضرورة في اللغة : اسم مِن الاضطرار ، وهو الاحتياج إلى الشيء واضطره إليه : ألجأه وأحوجه فاضطُر بضم الطاء .
والاضطرار ـ بمعنى حمْل الإنسان على ما يَكرَه ـ ضربان :
اضطرار بسبب خارج : كمَن يُضرَب أو يُهدَّد لِينقاد .
اضطرار بسبب داخل : كمن اشتد جوعه فاضطر إلى أكل ميتة ..
ومنه : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ } (1) (2) .(1/178)
وعند الفقهاء : بلوغ المكلَّف حدّاً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارَب كالمضطر لِلأكل واللبس بحيث لو بقي جائعاً أو عرياناً لمات أو تلف منه
(1) سورة البقرة مِن الآية 173 ، سورة الأنعام مِن الآية 145 ، سورة النحل مِن الآية 115
(2) انظر الكليات /136 ، 576
عضو (1) .
وعند الأصوليين : الأمور التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا ، وهي الضروريات الخمس : حِفْظ الدين ، والعقل ، والنفس والنسل ، والمال ، بحيث إذا فُقِدَت لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة ، بل على فساد وتَهارُج وفوت حياة ، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين (2) .
والمراد بالضرورة هنا هو المعنى الفقهي :
لأن الأصوليين عرَّفوا الضروري أنه : ما لا يستقيم الحياة إلا به .
والفقهاء عرّفوا الضرورة بأنها : ما تلجئ المكلَّف إلى إتيان المحظور حفاظاً على الضروريات الخمس حتى تستقيم حياته ..
ولِذا فإنهما يلتقيان في غاية واحدة ، لكن الأول هو سبب الرخصة والمتفق مع المعنى اللغوي ، ولِذا قُدِّم على المعنى الأصولي .
أثر الضرورة :
والضرورة ترخص ما كان مُحَرَّماً على المضطر قبل حالة الاضطرار ، وأحكامها مفصَّلة في كتب الفقه والقواعد الفقهية تحت قاعدة ( الضرورات تبيح المحظورات ) ، ولِذا فمَن رام تفصيلاً فلْيَرجع إليها ؛ لأن مرادنا في هذا المقام هو بيان كيف تكون الضرورة سبباً لِلرخصة لِتُبيح ما كان مُحَرَّماً ، نحو : أكْل الميتة لِلمضطر ، وشرْب الخمر .
السبب الثاني : المرض ..
والمرض مِن أسباب الرخصة ورفْع الحرج ، قال تعالى { لَيْسَ عَلَى
(1) انظر : المنثور 2/319 والأشباه والنظائر لِلسيوطي /85
(2) انظر : المستصفى 1/287 والموافقات 2/8 - 11
الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَج } (1) ..
وهناك مِن الأحكام التي رخَّصها الشرع لِلمريض (2) :
1- الفطر في نهار رمضان .(1/179)
2- المسح على الجبيرة .
3- التيمم .
4- التخلف عن شهود الجماعات .
5- استقبال القِبلة وكيفية الصلاة (3) .
السبب الثالث : الإكراه ..
وهو : حمْل الغير على ما لا يرضاه مِن قول أو فِعل (4) .
والمراد بالإكراه هنا الإكراه بغير حق ، أمّا إن كان إكراهاً بحق ـ نحو إكراه المدين القادر على وفاء الدَّيْن ـ فإنه يكون مشروعاً ولا إثم
فيه (5) .
والإكراه قد يكون على فعل ، نحو : القتل بغير حق ، أو شرْب الخمر أو الزنا ..
وقد يكون إكراهاً على قول ، نحو : الكفر ـ أي التلفظ به ـ والقذف .
والإكراه سبب مِن أسباب الرخصة التي تبيح لِلمُكْرَه أن يأتي ما كان محظوراً عليه قبل الإكراه .
السبب الرابع : السفر ..
(1) سورة الفتح مِن الآية 17 ، سورة النور مِن الآية 61
(2) انظر : أحكام المرضى لِتاج الدين الحنفي والأشباه والنظائر لِلسيوطي /77
(3) انظر : أحكام المرضى لِتاج الدين الحنفي والأشباه والنظائر لِلسيوطي /77
(4) التحرير مع التيسير 2/307
(5) انظر الموسوعة الفقهية 6/104
والسفر بشروطه يكون سبباً لِرُخَص كثيرة ، حصرها الغزالي في سبع :
1- المسح على الخفيْن .
2- التيمم .
3- قَصْر الصلاة .
4- الجمع بين الصلاتين .
5- التنفل راكباً .
6- التنفل ماشياً .
7- الفطر (1) .
السبب الخامس : الحرج ..
والحرج في الشريعة مرفوع { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَج } (2) ..
ومظاهر ذلك عديدة وكثيرة ، منها : جميع الأحكام التي شُرعَت خلافاً لِلقاعدة العامة ( العزيمة ) تخفيفاً وتيسيراً على المكلَّفين ، نحو : المسح على الخفيْن ، والجمع في الحرب والمطر ، والتيمم والمسح على الجبيرة .
السبب السادس : الحاجة ..(1/180)
والقاعدة الفقهية : أن ( الحاجة تنزل منزلة الضرورة ) ، ولِذا جُوِّزَت على خلاف القياس سواء كانت عامةً ، نحو : مشروعية الإجارة والجعالة والقراض ( المضاربة ) ، فالعقد في الأولى وَرَد على منافع معدومة ، والعقد فيما بعدها فيه جهالة ، ونحوهما السلم ..
(1) انظر : إحياء علوم الدين 2/258 - 262 والأشباه والنظائر لِلسيوطي /77
(2) سورة الحج مِن الآية 78
أو كانت خاصةً ، نحو : لبْس الحرير لِمَرَض ، واقتناء الكلب لِلحراسة أو الصيد (1) .
ثانياً : أقسام الرخصة
أولاً - أقسام الرخصة عند الحنفية :
قسم الحنفية الرخصة إلى أقسام باعتباريْن مختلفيْن :
الأول : باعتبار الحقيقة والمَجاز .
الثاني : باعتبار الإسقاط والترفيه .
ونفصِّل القول فيهما فيما يلي :
التقسيم الأول : أقسام الرخصة باعتبار الحقيقة والمَجاز ..
إن الناظر في كتب الحنفية يرى أنهم نوَّعوا الرُّخَص بهذا الاعتبار أنواعاً أربعةً :
نوعان مِن الحقيقة أحدهما أحق مِن الآخَر .
ونوعان مِن المجاز أحدهما أتم مِن الآخَر في كونه مجازاً ..
ونفصّل القول في كل واحد منهما فيما يلي :
النوع الأول : ما استبيحَ مع قيام السبب المُحَرِّم ..
أي الفعل الذي يعامَل معاملة المباح في عدم المؤاخذة ، مع بقاء الوصف الذي كان عليه مِن قبل ، وهو أن يكون مُحَرَّماً في نفسه .
مثاله : إجراء كلمة الكفر والشرك على اللسان عند الإكراه ، فإنّ حرمة الشرك والكفر قائمة أبداً ؛ لأن المُحَرِّم له باقٍ ، وهو الأدلة على وجوب الإيمان بالله تعالى وعدم الشرك به ، ولكن الشارع رخَّص لِمَن
(1) انظر : قواعد الأحكام 2/139 والمنثور 2/24 - 26 والأشباه والنظائر لِلسيوطي /88 والأشباه والنظائر لابن نجيم /91 ، 92(1/181)
خاف على نفسه التلف عند الإكراه التلفظ بكلمة الكفر أو الشرك ، وامتناع العبد عن التلفظ بذلك عند الإكراه الذي يؤدي إلى القتل فإنه يكون حينئذٍ قد أَتلَفَ نفسَه صورةً بتخريب البنية ومعنىً بزهوق الروح .
أمّا إذا أجرَى كلمة الكفر على لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان فإنه لا يفوت ما هو الواجب معنىً ؛ لبقاء التصديق القلبي .
والإقرار الذي سبق منه بالإيمان قبل ذلك ليس تكراراً مطلوباً ؛ لأنه ليس ركناً في الإيمان ، وإنما المطلوب بقاؤه ، وهو باقٍ ، لكن التلفظ بكلمة الكفر أو الشرك يَلزَم منه بطلان ذلك الإقرار في حال البقاء ، فبطل حقه في الصورة مِن هذا الوجه ، مع بقاء المعنى وهو الإيمان (1) .
حكْم هذا النوع :
ويرى الحنفية أن الأَوْلى في هذا النوع مِن الرُّخَص الأخذ بالعزيمة وعدم الأخذ بالرخصة ، وإن أَخَذ بها فلا إثم عليه ، وإن صَبَر وأَخَذ بالعزيمة حتى قُتِل كان مأجوراً ؛ لأنه بَذَل نفسَه في دين الله لإعلاء دين الله عز وجل ، وهذا هو عين الجهاد (2) .
واستدلوا : بما رُوِي أن مسيلمة الكذاب أخذ رَجُليْن مِن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لأحدهما :" أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ " فقال :" نَعَم " فقال :" أتشهد أني رسول الله ؟ " فقال :" لاَ أَدْرِي مَا تَقُول " فقتله ..
وقال لِلآخَر :" أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ " فقال :" نَعَم " فقال : " أتشهد أني رسول الله ؟ " فقال :" نعم " فخلّى سبيله ، فبلغ ذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال { أَمَّا الأَوَّلُ فَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ ، وَأَمَّا الآخَرُ فَقَدْ
(1) انظر : أصول البزدوي مع كشف الأسرار لِلبخاري 2/576 ـ 578 وأصول السرخسي 1/118 وميزان الأصول /55 وفتح الغفار 2/74 ، 75 وفواتح الرحموت ومُسلَّم الثبوت 1/117
(2) انظر : أصول السرخسي 1/117 ومُسلَّم الثبوت 1/117 وفتح الغفار 2/76(1/182)
أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ ، فَلاَ إِثْمَ عَلَيْه } (1) .
النوع الثاني : ما استبيحَ بعذر مع قيام السبب المُحَرِّم الموجِب لِلحُرْمَة ، لكن الحكم ـ وهو الحرمة ـ متراخٍ عن السبب .
الفَرْق بين هذا النوع وما سبقه :
والفَرْق بين هذا النوع وما سبقه : أن الحكْم هنا متراخٍ عن السبب إلى زمان زوال العذر ، فمِن حيث إن السبب قائم كانت الرخصة حقيقةً ، ومِن حيث إن الحكْم متراخٍ غير ثابت في الحال كان هذا القسْم دون الأول : كالبيع بشرط الخيار مع البيع الباتّ ، والبيع بثمن مؤجل مع البيع بثمن حالّ ، فإن الحكم ـ وهو المِلك في المبيع والمطالبة بالثمن ـ ثابت في الباتّ متراخٍ عن السبب المقرون بشرط الخيار والأجل (2) .
مثاله : فِطْر المسافر والمريض ، فإن السبب الموجِب شرعاً وهو شهود الشهر قائم في حقهما ، والحكم وهو وجوب الصيام لكنه تراخى بمقتضى قوله تعالى { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَر } .
حكْم هذا النوع :
وحكْم هذا النوع : أن الأخذ بالعزيمة أَوْلى ، وهو الصوم ؛ لقيام السبب وهو شهود الشهر ، وهو غير مانع مِن التعجيل ؛ لأن التعجيل بعد تمام السبب مع تراخي الحكْم صحيح : كتعجيل الدَّيْن المؤجَّل (3) .
النوع الثالث : الإصر والأغلال التي كانت على مَن قبْلَنا ، وقد وَضَعَها الله تعالى عنّا ..
(1) رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق .
(2) انظر : كشف الأسرار لِلبخاري 2/582 ، 583 وفتح الغفار 2/77
(3) انظر : أصول السرخسي 1/119 وكشف الأسرار لِلبخاري 2/584 وفتح الغفار 2/77
قال تعالى { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } (1) ، وقال تعالى { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَلَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِم } (2) .
والإصر : هو الأمور التي تثبطهم وتقيدهم عن الخيرات وعن الوصول إلى الثوابات ..
وقيل : هو العهد المؤكد الذي يثبط ناقصه عن الثواب والخيرات .(1/183)
والأغلال : جمع غُلّ ، وهو مختص بما يقيّد به فيجعل الأعضاء وسطه ، وغُلَّ فلانٌ : قُيّد به (3) .
مثاله : قطْع موضع النجاسة مِن الثوب والجلد ، وأداء الرُّبْع في الزكاة وقتْل النفس عند إرادة التوبة ، وجزْم الحكْم بالقصاص في القتل عمداً كان أو خطأً ، وأن لا يطهّر مِن الجنابة والحدث غير الماء ، وعدم جواز الصلاة في غير دار العبادة ، وإحراق الغنائم وحرمة الأكل منها .
حكْم هذا النوع :
والرخصة في هذا النوع ليست رخصةً حقيقةً ؛ لانعدام السبب الموجِب لِلحرمة مع الحكْم بالرفع والنسخ أصلاً في حقنا ، ولِذا كانت الرخصة مجازاً ؛ لأن الأصل لم يبق مشروعاً في حقنا ، ولمّا كان الرفع لِلتخفيف علينا والتسهيل سُمِّيَت " رخصةً " مجازاً (4) .
النوع الرابع : ما يستباح تيسيراً لِخروج السبب مِن أن يكون موجِباً
(1) سورة البقرة مِن الآية 286
(2) سورة الأعراف مِن الآية 157
(3) انظر المفردات /19 ، 363
(4) انظر : تيسير التحرير 2/232 وأصول السرخسي 1/120 وفتح الغفار 2/77 وشرح ابن ملك /201
لِلحكْم مع بقائه في الجملة ..
ويسمَّى " رخصة إسقاط " أو ما سقط عن العباد بإخراج سببه مِن أن يكون موجِباً لِلحكْم في محل الرخصة مع كونه مشروعاً في الجملة .
ولو نظرْنا إليه مِن حيث إنه سقط في محل الرخصة كان نظير النوع الثالث ، فيكون مجازاً ؛ إذ ليس في مقابلته عزيمة .
ولو نظرْنا إليه من حيث إنه بقي مشروعاً في الجملة كان شبيهاً بالنوع الثاني ، وهو الترخص باعتبار عذر لِلعباد ، فكان بمعنى الرخصة فيه حقيقةً مِن وجه دون وجه (1) .
مثاله : السلم ، وهو بيع موصوف في الذمة بشروط ، وهو ثابت بقوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فَي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُوم } (2) .(1/184)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُم بِدَيْن } (3) الآية .. نزلت في السلم إلى أجَل معلوم (4) .
ونظراً لأن السلم بيع ما ليس موجوداً بعينه وقت العقد ، وهو منهي عنه ، ولكن رخص في السلم للحاجة وتخفيفاً على الناس بشروطه ؛ ففي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم (5) (6) .
(1) انظر : أصول السرخسي 1/121 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار 2/588 ، 589
(2) رواه الستة وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(3) سورة البقرة مِن الآية 282
(4) انظر تفسير القرآن العظيم 1/334
(5) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عمرو رضي الله عنهما .
(6) انظر : مغني المحتاج 2/102 وأنيس الفقهاء /218 ، 219
حكْم هذا النوع :
وحكْم هذا النوع : وجوب الأخذ بالرخصة في الموضع المشروع فيه الرخصة ، وهو حال الاضطرار في الأكل مِن الميتة ووقت السفر في قَصْر الصلاة ، حتى إنه لو تَرَك الأكلَ مِن الميتة حالة اضطراره حتى مات فإنه يُعَدّ حينئذٍ قاتلاً نفسه ؛ لأنه وجد سبيلاً لإحيائها بالأكل مِن الميتة ولم يفعل ، وقد قال الله تعالى { وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيما } (1) (2) .
التقسيم الثاني : أقسام الرخصة باعتبار الإسقاط والترفيه ..
لقد قسّم الحنفية الرخصة باعتبار الإسقاط والترفيه إلى قسميْن :
القسم الأول : رخصة الإسقاط ..
وهي : التي لم تبقَ العزيمة فيها مشروعةً ، ولِذا كان المشروع فيها هو الرخصة ، وأمّا العزيمة فقد سقط حكمها .
ومثالها : إباحة أكْل الميتة وشرْب الخمر عند الضرورة ، وقصْر الصلاة الرباعية في السفر .
القسم الثاني : رخصة الترفيه ..
وهي : التي تبقى معها العزيمة مشروعةً ، ولكن رخص في ترْكها تخفيفاً وترفيهاً عن المكلَّف .(1/185)
ومثالها : التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه مع اطمئنان القلب ، والإكراه على إتلاف مال الغير ، والإكراه على الإفطار في نهار رمضان (3) .
(1) سورة النساء مِن الآية 29
(2) انظر شرح طلعة الشمس 2/229
(3) انظر : حاشية نسمات الأسحار /173 وعلم أصول الفقه لخلاّف /130 ، 131 وغاية الوصول /253 ، 254
تعقيب وترجيح :
بعد الوقوف على أقسام الرخصة عند الحنفية وكيف أنهم قسموها إلى تقسيمين باعتبارين مختلفين فإنه يمكن تقرير النتائج التالية :
أولاً : أنّ رفْع الحكْم السابق على مَن كان قبلنا يُعَدّ نسخاً وليس رخصةً ، إلا أن الحنفية اعتبَروا وضْع الإصر والأغلال التي كانت على مَن قبلنا تخفيفاً وتيسيراً علينا رخصةً مجازيّةً ..
وهو إطلاق يحتاج إلى وقفة ، وفي النفس منه شيء ؛ لأنه يمكن أن يندرج تحت هذه الرخصة المجازية كل حكْم نُسِخ بحكْم أخَفَّ أو بغير حكْم تماماً ، نحو : رفْع تقديم الصدقة عند مناجاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يَقُلْ أحد أنّ رفْع هذا الحكْم في حقنا رخصة إلا إن قِسْناه على الرخصة المجازية عند الحنفية ، وإطلاق النسخ عليه أَوْلى مِن إطلاق الرخصة وإن كان فيه نوع مِن التخفيف والتيسير إلا أن الرخصة متعلِّقة بفعل المكلَّف ، وفي الأحكام السابقة فإنها قد رُفِعَت جميعها ولم تَعُدْ تتعلق بفعل المكلَّف ، فكيف تسمَّى " رخصة " ؟
ثانياً : أن النوع الرابع وهو الفعل الذي أبيحَ تيسيراً على المكلَّفين ، أو ما سقط عن العباد مع كونه مشروعاً ، ومثَّلوا له بالسلم وقصر الصلاة في السفر وشرب الخمر وأكل الميتة عند الضرورة والمسح على الخفين ..
ولو نظرْنا إلى هذه الأمثلة التي تخص هذا النوع فسنرى أنه يمكن إدراجها في النوع الأول ؛ لأن الفعل فيها أبيحَ لِعذر مع قيام السبب المُحَرِّم ، وحينئذٍ تكون الرخصة في النوع الرابع حقيقيةً وليست مجازية .(1/186)
ثالثاً : أن رخصة الإسقاط وهي التي لم تَبْقَ العزيمة فيها مشروعةً ، وهو تعريف أرى أنه لا ينطبق على بعض الأمثلة التي أَوردوها ؛ فإباحة الخمر
عند الضرورة وأكْل الميتة العزيمةُ فيهما غير مشروعة ، فلا تبقى حرمة الشرب أو الأكل مِن الميتة ، وإنما هي ساقطة عن المكلَّف في حالة الضرورة .
وأمّا قَصْر الصلاة في السفر والمسح على الخفين فإن العزيمة فيهما مشروعة ؛ لأن المسافر يجوز له الإتمام وكذا المسح على الخفين ، ولِذا فإنه يمكن اعتبار الرخصة هنا رخصة ترفيه وليست إسقاط .
وأمّا رخصة الترفيه وهي ما يبقى معها حكْم العزيمة ، وهي محصورة في الرخصة الحقيقية بنوعيها ، ولكن لو نظرْنا إلى معنى الترفيه ـ وهو التوسعة والتخفيف (1) ـ فسنرى أنه معنى يشمل كثيراً مِن أمثلة الرخص التي أَورَدَها الحنفية بأنواعها الأربعة عدا النوع الثالث ؛ فإنه إسقاط حقيقي ، وكذا إسقاط حرمة شرب الخمر وحرمة الأكل مِن الميتة .
أمّا باقي الأمثلة فإنه يمكن حَمْلُها على رخصة الترفيه ؛ لما فيها مِن التخفيف والتوسعة على المكلَّف .
ثانياً - أقسام الرخصة عند غير الحنفية :
لقد وقفتُ على تقسيمات لِلرخصة عند غير الحنفية باعتبارات مختلفة أذكر بعضها فيما يلي :
أقسام الرخصة عند العز بن عبد السلام :
قسّم العز بن عبد السلام الرخصة إلى أنواع ، وذَكَرها تحت عنوان : فصل في بيان تخفيفات الشرع ..
الأول : تخفيف الإسقاط ..
نحو : إسقاط الجمعات والصوم والحج بأعذار معروفة .
(1) انظر المصباح المنير 1/234
الثاني : تخفيف التنقيص ..
نحو : قصر الصلاة ، وتنقيص ما عَجَز عنه المريض مِن أفعال الصلوات : كتنقيص الركوع والسجود وغيرهما إلى القدْر الميسور مِن ذلك .
الثالث : تخفيف الإبدال ..(1/187)
نحو : إبدال الوضوء والغسل بالتيمم ، وإبدال القيام في الصلاة بالقعود والقعود بالاضطجاع والاضطجاع بالإيماء ، وإبدال العتق بالصوم ، ونحو : إبدال بعض واجبات الحج والعمرة بالكفارات عند قيام الأعذار .
الرابع : تخفيف التقديم ..
نحو : تقديم العصر إلى الظهر والعِشاء إلى المغرب في السفر والمطر ونحو : تقديم الزكاة على حولها والكفارة على حنثها .
الخامس : تخفيف الترخيص ..
نحو : صلاة المتيمم مع الحدث ، وصلاة المستجمر مع فضلة النجو ، ونحو : أكْل النجاسات لِلمداواة ، وشرْب الخمر لِلغصة ، والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه (1) .
أقسام الرخصة عند ابن السبكي :
قسّم ابن السبكي الرخصة إلى أربعة أقسام :
الأول : رخصة واجبة ..
نحو : أكْل الميتة لِلمضطر .
الثاني : رخصة مندوبة ..
نحو : القصر في السفر .
(1) انظر قواعد الأحكام 2/192 ، 193
الثالث : رخصة مباحة ..
نحو : السلم .
الرابع : رخصة خلاف الأَوْلى ..
نحو : فِطْر المسافر الذي لا يجهده الصوم (1) .
أقسام الرخصة عند الزركشي :
قسّم الزركشي الرخصة إلى تقسيميْن :
الأول : باعتبار حكْمها .
والثاني : باعتبار الكمال وعدمه .
قسّم الزركشي الرخصة باعتبار حكْمها إلى الأقسام التالية :
الأول : رخصة واجبة أصلها التحريم ..
نحو : أكل الميتة للمضطر .
الثاني : رخصة مستحبة أصْلها التحريم ..
نحو : القصر في السفر بعد ثلاثة أيام .
الثالث : رخصة مكروهة أصْلها التحريم ..
نحو : القصر دون ثلاثة أيام .
الرابع : رخصة مباحة أصْلها التحريم ..
نحو : التيمم عند وجود الماء بأكثر من ثمن المثل .
الخامس : رخصة مستحبة أصْلها الوجوب ..
نحو : إتمام الصلاة قبل ثلاثة أيام .
وتبعه في ذلك السيوطي (2) .
(1) انظر جمع الجوامع مع حاشية البناني 1/121
(2) انظر الأشباه والنظائر لِلسيوطي /82
ثالثاً : أحكام الرخصة
أولاً - حكْم الرخصة :
لقد سبق حصْر أقسام الرخصة باعتبار حكْمها في أربعة أحكام ، وهي :(1/188)
الأول : الوجوب ..
والرخصة الواجبة : هي التي ألزم الشارع المكلَّف الأخذ بها .
نحو : أكْل الميتة ولحْم الخنزير وشرْب الخمر لِلمضطر ، والتيمم عند فقْد الماء .
ووجوب الرخصة في هذا المقام يقرّبها مِن العزيمة ..
ولِذا قال ابن دقيق العيد :" وهذا يقتضي أن تكون عزيمةً ؛ لِوجود الملزوم والتأكيد ... " ..
قال :" ولا مانع أن يطلق عليه " رخصةً " مِن وجْه و" عزيمةً " مِن وجْه ؛ فمِن حيث قام الدليل المانع نسميه " رخصةً " ، ومِن حيث الوجوب نسميه " عزيمة " " ا.هـ (1) .
وقال الطوفي :" ويَجوز أن يقال : التيمم وأكْل الميتة كلٌّ منهما رخصة عزيمة باعتبار الجهتين ، وبالجملة فالنفس متعلق بها حقّان : حق الله سبحانه وتعالى ، وحق المكلَّف ، فكل تخفيف تَعلَّق بالحقيْن فهو بالإضافة إلى حق الله ـ سبحانه وتعالى ـ عزيمة ، وبالإضافة إلى حق المكلَّف رخصة " ا.هـ (2) .
وإني أتفق مع الشيخيْن الكريميْن ـ رحمهما الله تعالى ـ في أن الحكم في هذا المقام له وجهان باعتباريْن مختلفيْن ..
(1) البحر المحيط 1/238
(2) شرح مختصر الروضة 1/466 ، 467
ولكني لا أتفق معهما في جواز إطلاق لفْظ " العزيمة " هنا ؛ لأن الحكْم وإن كان فيه إلزام وطلبٌ حتميٌّ إلا أنه خلاف حكم سابق ، وهذا هو جوهر الرخصة .
الثاني : الندب ..
وهي : الرخصة التي طلبَ الشارع فِعلَها مع جواز ترْكها .
نحو : القصر في السفر والجمع في المطر .
الثالث : الإباحة ..
واعتبر الشاطبي أن الرخصة حكْمُها الإباحة مطلقاً مِن حيث هي رخصة ، وأن الإباحة المنسوبة إلى الرخصة بمعنى رفع الحرج ، وليست من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك (1) ..
وإني مع الشاطبي في تفسير معنى الإباحة التي هي حكم الرخصة ،(1/189)
ولكني لست معه في قصر حكم الرخصة على الإباحة ، إلا إن قصد بها أنها ترفع الحرج والحظر عن الفعل الذي كان محظوراً قبل الرخصة ثم رخص في فِعله ، مع تَفاوت في درجة إتيانه بين وجوب وندب وإباحة ، والإباحة عند البعض تكون مرادفةً لِلجواز (2) .
ومثالها في المعاملات : السلم والقراض والمساقاة والإجارة والعرايا التي صرَّحَت السُّنَّة بالترخيص فيها ؛ ففي الحديث { وَأُرَخِّصُ لَكُمْ فِي الْعَرَايَا } (3) .
(1) انظر الموافقات 1/307 ، 308
(2) المستصفى 1/74
(3) روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد عن أبي هريرة وزيد بن ثابت وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخّص في العرايا .
وفي العبادات : نحو : تعجيل الزكاة (1) ، وذلك فيما رواه علي - رضي الله عنه - أن العباس - رضي الله عنه - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تَحِلّ فرخَّص له في ذلك (2) .
ومنه أيضاً : المسح على الخفيْن (3) .
الرابع : خلاف الأَوْلى ..
وهي : التي يكون ترْكُها خيراً مِن فعلها .
نحو : الإفطار في السفر عند عدم التضرر بالصوم ، وترْك الاقتصار على الحَجَر في الاستنجاء .
وزاد الزركشي حكْماً خامساً ، وهو : الكراهة ، فقال :" الثالث : رخصة مكروهة أصْلها التحريم : كالقصر دون ثلاثة أيام " ا.هـ (4) .
وتَبِعَه السيوطي (5) ..
ولكنه صرَّح في " التشنيف " بأن الرخصة لا تجامع التحريم ولا الكراهة ، وهو ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُه } ..
ثم قال :" لكن في كلام الأصحاب ما يوهم مجيئها مع الرخصة : أمّا التحريم فإنهم قالوا : لو استنجى بذهب أو فضة أجزأه مع أن استعمال الذهب والفضة حرام ، والاستنجاء بغير الماء رخصة ..
وأمّا الكراهة فكالقصر في أقل مِن ثلاثة مراحل ، فإنه مكروه " ا.هـ (6) .
(1) انظر تشنيف المسامع 1/80(1/190)
(2) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي وغيرهم عن علي - رضي الله عنه - .
(3) انظر : مغني المحتاج 1/63 والكافي 1/71
(4) البحر المحيط 1/330
(5) الأشباه والنظائر /82
(6) تشنيف المسامع 1/83
وإني أتفق مع الكثرة في حكْم الرخصة مِن وجوب أو ندب أو إباحة أو خلاف الأَوْلى .
وأمّا كراهة القصر في سفر دون ثلاثة أيام أو في أقل مِن ثلاثة مراحل فلا أرى كراهةً في ذلك .
ويمكن أن تكون الرخصة مكروهةً : كما مثّل البعض (1) بالسفر لِلترخص (2) .
ثانياً - تتبُّع الرخص :
والحديث عن حكم تتبع الرخص يقتضي أن نفرِّق بين : تَتَبُّع الرخص الشرعية ، وتتبع رُخَص المذاهب الاجتهادية ، وتَتَبُّع زلات العلماء ..
أمّا تتبع الرخص الشرعية :
فإن الشرع رغَّب في الأخذ بها ، مع تفاوتٍ في طلبها بين وجوب وندب وإباحة ، وَرَد ذلك صريحاً في قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُه } (3) ..
ولِذا كان إتيان الرخصة وتَتبُّعها أمراً محموداً ومطلوباً ، ولا أعتقد أن هذا المعنى هو المراد عند إيرادهم التحذير مِن تَتبُّع الرخص ، وإنما مرادهم رُخَص المذاهب الاجتهادية ، والتي يتبع فيها العاميّ ( المقلد )
(1) انظر القواعد والفوائد الأصولية /101
(2) انظر حكْم الرخصة في : بيان المختصر 1/411 والكاشف 1/291 ومنهاج الوصول مع الإبهاج 1/81 - 83 وشرح تنقيح الفصول /85 ونهاية السول 1/95 وشرح الكوكب المنير 1/479 ، 480 والقواعد والفوائد /100 - 102 وشرح مختصر الروضة 1/465 والمختصر /68 وجمع الجوامع مع البناني 1/121 والوجيز /53 ، 54
(3) رواه أحمد في " المسند " والبيهقي في " السُّنَن " عن ابن عمر رضي الله عنهما والطبراني في الكبير عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - .(1/191)
غيرَ مجتهدي مذهبه لِخفةٍ ويسرٍ في أحكامهم ، ولِذا كان محل تَتبُّع الرخص في كتب الأصول هو باب الاجتهاد والتقليد (1) .
وأمّا تَتَبُّع رُخَص المذاهب الاجتهادية :
فإن المراد بالرخص هنا ليست حقيقتها ، وإنما هي التيسيرات والتخفيفات التي ينفرد بها مذهب دون آخَر ..
نحو : عدم نقض الوضوء مِن لمْس المرأة ، والاكتفاء بمسح بعض الرأس في الوضوء ..
ولِذا كانت تسميتها بـ" الرخص " تسميةً مجازيّةً لا حقيقية .
وقد اختلف العلماء في حكم تَتَبُّع رُخَص المذاهب الاجتهادية على قوليْن :
القول الأول : عدم جواز تَتَبُّع رُخَص المذاهب ..
وهو ما عليه الكثرة ، وحَكَى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسْق لا يَحِلّ ، واختاره الإمام أحمد والغزالي والنووي وابن القيم والسبكي والشاطبي .
فقد رُوِي عن الإمام أحمد قوله :" سمعتُ يحيى القطان يقول :" لو أن رجلاً عمل بكل رخصة بقول أهل المدينة في السماع ـ يعني الغناء ـ وبقول أهل الكوفة في النبيذ وبقول أهل مكة في المتعة لكان فاسقاً " ا.هـ (2) .
(1) انظر : المستصفى 2/391 وأعلام الموقعين 4/517 والموافقات 4/172 وتيسير التحرير 4/254 وشرح الكوكب المنير 4/577 والمسوّدة /218 وجمع الجوامع مع البناني 2/400 والبحر المحيط 6/325 وفواتح الرحموت 2/406
(2) المسوّدة /218 وانظر : المستصفى 2/391 والبحر المحيط 6/325 وأعلام الموقعين 4/519 وجمع الجوامع مع البناني 2/400 والموافقات 4/134 - 147
القول الثاني : جواز تَتَبُّع رُخَص المذاهب الاجتهادية ..
وهو اختيار ابن أبي هريرة (1) وابن الهمام (2) وابن عبد الشكور (3) وأبي إسحاق المروزي (4) ..(1/192)
ولِذا قال ابن الهمام :" ويتخرج منه ( أي مِن جواز اتّباع غير مقلده الأول وعدم التضييق عليه ) جواز اتّباع رُخَص المذاهب ، أي أخذه مِن المذاهب ما هو الأهون عليه فيما يقع مِن المسائل ، ولا يمنع منه مانع شرعي ؛ إذ لِلإنسان أن يَسلك المَسلَك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل " ا.هـ (5) .
وأمّا تَتَبُّع زلات العلماء ونوادرهم :
والمراد بزلات العلماء ونوادرهم : هي الفتاوى التي خالَفوا فيها النصوص الشرعية وخرقوا إجماع الأمة ، وهذه يحرم تَتَبُّعها والأخذ بها ..
ولقد حذَّر العلماء مِن فِعل ذلك :
فقال الأوزاعي :" مَن أَخَذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام " ا.هـ (6) .
وقال سليمان التيمي :" لو أخذتَ برخصة كل عالِم ـ أو قال : بزلة كل عالِم ـ اجتمع فيك الشَّرُّ كله ، وفي المعنى آثار عن علي وابن مسعود ومعاذ وسلمان - رضي الله عنهم - ، وفيه مرفوعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر " ا.هـ (7) .
(1) انظر : البحر المحيط 6/325 وروضة الطالبين 11/108 وشرح الكوكب المنير 4/579
(2) التحرير مع التيسير 4/254
(3) مُسلَّم الثبوت 2/406
(4) انظر جمع الجوامع مع البناني 2/400
(5) انظر : التحرير مع التيسير 4/254 ومُسلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/406
(6) البحر المحيط 6/326
(7) المسوّدة /519
وقد دخل القاضي إسماعيل على الخليفة العباسي المعتضد فدفع إليه كتاباً ، قال :" فنظرتُ فيه وقد جمع فيه الرخص مِن زَلَل العلماء وما احتج به كل منهم ، فقلتُ :" مُصنِّف هذا زنديق " فقال ـ أي المعتضد ـ : " لَمْ تَصِحّ هذه الأحاديث ؟ " قلت :" على ما رُوِيَت ، ولكن مَن أباح المُسكِر لم يُبِح المتعة ، ومَن أباح المتعة لم يُبِح المُسْكِر ، وما مِن عالِم إلا وله زلة ، ومَن جَمَع زَلَلَ العلماء ثم أخَذ بها ذهب دينه " ، فأمَر المعتضدُ بإحراق ذلك الكتاب (1) .
تعقيب وترجيح :
بعد الوقوف على حكْم تَتَبُّع الرخَص يمكن التوصل إلى ما يلي :(1/193)
1- أنّ تَتَبُّع الرخصة الشرعية والأخذ بها أمْرٌ على كل مسلم أن يحرص عليه ؛ لأنه مُحَبَّب شرعاً ..
ولكنّا نرى بعضاً مِن المسلمين يتعمدون عدم الأخذ بها ، وهم إما جَهَلَة بحكْم الرخصة وفضْلها ، وإما عالِمون بها ومع ذلك يتركون الأخذ بها اعتقاداً منهم أنه الأعظم أجراً والأفضل شرعاً ؛ لكثرة المشقة ..
2- أنّ تَتَبُّع تيسيرات المذاهب على إطلاقها لا يجوز ..
وإني مِن الذين يعشقون المذهبية في دراسة الفقه ، وأدافع عن التمسك بها ؛ لاعتبارات أهمها أنها مذاهب قاربَت أن تأخذ صفة الإجماع ، كما أن هؤلاء الأئمة ومَن تَبِعَهم قد تحققَت فيهم صفات وشروط ندر أن نراها عند الكثير مِن المتصدرين لِلإفتاء والاجتهاد في زماننا ..
ومع ذلك فإني أتبع إمامي الشافعي في الرضوخ والإذعان لِلدليل أيّاً كان موضعه ..
(1) البحر المحيط 6/326 ، 327
ولِذا أرى أنه لا مانع مِن الأخذ برُخَص المذاهب بشروط :
الأول : عدم وجود هوى نفس .
الثاني : وجود الدليل المرجِّح .
الثالث : أن لا يَجمع رُخَص المذاهب كلها .
الرابع : أن يكون الآخذ قادراً على تمييز الأدلة والترجيح بينها .
وهو ما أراه متحققاً فينا نحن رجال الأزهر ولله الحمد والمنة ، وكذلك مَن على شاكلتنا مِن خريجي الجامعات الإسلامية والكليات الشرعية في جميع بلدان الأمة الإسلامية .
ومما يشد عضدي في ذلك :
قول الإمام الشاطبي :" فإنّ ذلك يفضي إلى تَتَبُّع رُخَص المذاهب مِن غير استناد إلى دليل شرعي ، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسْق لا يَحِلّ " ا.هـ (1) ..
وقول الزركشي :" والثاني : يجوز ، وهو الأصح في الرافعي ؛ لأن الصحابة لم يوجبوا على العوامّ تعيين المجتهدين ؛ لأن السبب ـ وهو أهلية المقلِّد لِلتقليد ـ عامّ بالنسبة إلى أقواله ، وعدم أهلية المقلِّد مقتضٍ لِعموم هذا الجواب ووجوب الاقتصار على مفتٍ واحد ، بخلاف سيرة الأولين " ا.هـ (2) .(1/194)
3- أن تلفيق المذاهب ـ وهو الأخذ بتيسيراتها ـ شَرَط فيه البعض أن يكون على وجه لا يخرق إجماعهم (3) ..
ومثَّل له الشيخ عبد الله دراز ـ رحمه الله ـ بما إذا قَلَّد مالكاً في عدم
(1) الموافقات 4/134
(2) البحر المحيط 6/320
(3) انظر : الموافقات 4/148 والبحر المحيط 6/322
نقْض الوضوء بالقهقهة في الصلاة وأبا حنيفة في عدم النقض بمس الذكر وصلى ، فهذه صلاة مُجمَع منهما على فسادها ، وكمَن تَزوَّجَ بِلا صداق ولا ولي ولا شهود (1) ..
وإني لا أتفق مع الشيخ ـ رحمه الله ـ على فساد تلك الصلاة ؛ لِضَعْف دليل النقض بالقهقهة وقوة دليل النقض بمس الذكر .
وأمّا بطلان النكاح فإنه ليس لِلتلفيق ، وإنما لِقوة الأدلة التي تجعل العقد باطلاً .
4- أمّا زلات العلماء ونوادرهم فأرى أن نفرّق بين الزلة والنادرة :
لأن الزلة في نظري : ما خالفَت دليلاً شرعيّاً .
والنادرة : ما استندَت إلى دليل وسند شرعي وانفرَد بها بعض أهل العلم .
والزلة يحرم الأخذ بها لِمَن عَلِمَ وجهة زلتها وانحرافها ، وهي غالباً ما تكون فتاوى صدَرَت لِمصلحة دنيوية وهوىً نفسيّ ، يشم العلماء رائحة فسادها ونتنها على بُعد أميال ، ويلفظونها ويُحذِّرون الناس مِن الأخذ بها مهما علت مكانة صاحبها ، فالحق أعلى مِن الجميع ..
وأمّا النادرة فهي عندي لا بأس بها ، ولا مانع مِن الأخذ بها عند الحاجة ؛ تيسيراً وخروجاً مِن الحرج .
ومِن ذلك : عدم وقوع الطلاق أثناء الحيض ( البدعي ) عند ابن تيمية رحمه الله ، وكذلك عدم وقوع طلاق الغضبان الذي لا يعلم ما يقول ولا يريده عند ابن قيم الجوزية (2) ..
(1) شرح الموافقات 4/148
(2) انظر إغاثة اللهفان /38(1/195)
ولِذا فإني آخذ بمِثل هذه النوادر عندما يُغلَق أمامنا باب مرات الطلاق فنرجع ونسأل الزوجين عن كل حالة مِن حالات الطلاق الثلاث ، فإن وَجْدنا مَخرَجاً مِن هذيْن أفتيْنا به والنفس مطمئنة ؛ لِقوة الحجة وسمو الغاية ورفعاً لِلحرج في ضوء الإطار الشرعي الخالي مِن هوى النفس واتباع الشيطان .
ثالثاً - تَعاطي أسباب الرخص وإناطتها بالمعاصي :
لو تعاطى المكلَّف سبب الترخص حتى يتوصل به إلى الرخصة فهل يحل له ذلك أم لا ؟
ذكر الزركشي أنّ تَعاطي سبب الترخص لِقصْد الترخص لا يبيح :
كما إذا سلك الطريق الأبعد لِغرض القصر لم يقصر في الأصح ، وكما لو سلك الطريق القصير ومشى يميناً وشمالاً حتى بَلَغَت المرحلة مرحلتيْن ، وقريب مِن ذلك ما لو دخل المسجد في أوقات الكراهة لِقصْد صلاة التحية لا يَصِحّ (1) .
وإني مع الزركشي في أنّ تَعاطي سبب الرخصة لِلوصول إليها لا يصح ، ولكنّا سنرى صوَراً نضطر فيها إلى الأخذ بالرخصة مع تعاطي سببها : كما في حالة مَن تَعَمَّد كسْرَ يدِه أو رِجله حتى يأخذ برخصة التيمم والمسح على الجبيرة ، أو مَن أراق الماء الذي معه كي يأخذ برخصة التيمم ، وله أن يأخذ حينئذٍ بالرخصة مع الكراهة ..
ولِذا يقول ابن اللحام :" ومِن الرخَص ما هو مكروه : كالسفر لِلترخص قال صاحب " المحرر " :" يكره قصد المساجد للإعادة كالسفر لِلترخص " قلتُ : قصد الإعادة ليس برخصة حتى يقاس عليه قصْد السفر لِلترخص ،
(1) المنثور 2/170
وظاهر كلام صاحب " المحرر " لا فَرْق بين الصوم وغيره ، وقد ذَكَر غيره مِن الأصحاب لو سافر ليفطر أو يقصر حرما " ا.هـ (1) .
إناطة الرُّخَص بالمعاصي :
لقد اختلَف الفقهاء في جواز الأخذ بالرُّخَص إذا أنيطت بالمعاصي وكانت المعصية سبباً لها على قولين :
القول الأول : عدم جواز الأخذ بالرخص ..
وهو ما عليه جمهور العلماء والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد (2) .(1/196)
والقاعدة الفقهية عندهم : أن ( الرخص لا تناط بالمعاصي ) (3) .
القول الثاني : جواز الأخذ بالرُّخَص ..
وهو ما عليه أبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور والثوري (4) .
وهؤلاء لا يسلِّمون بالقاعدة الفقهية ( الرخص لا تناط بالمعاصي ) ، ولا علاقة عندهم بين المعصية والرخصة .
والراجح عندي أن الرُّخَص لا تناط بالمعاصي ، وهو ما عليه الجمهور ؛ لأن الرخصة منحة مِن الله تعالى لا ينالها إلا طائع ، وهي نوع مِن التخفيف والتيسير على المكلَّف ، والعاصي ليس أهلاً لِذلك ..
وهناك فَرْق بين كون المعاصي أسباباً لِلرُّخَص وبين مقارنة المعاصي لأسباب الرُّخَص :
أمّا الأولى فممنوعة ، ولا يَجوز الترخص بسببها .
(1) القواعد والفوائد /101 ، 102
(2) انظر : الهداية 1/88 وبداية المجتهد 1/168 والوجيز /47 وشرح المهذب 1/337 والميزان 1/314 والكافي 1/306
(3) انظر : الأشباه والنظائر لِلسيوطي /140 والمنثور في القواعد 2/167 والقواعد الفقهية /314
(4) انظر : بداية المجتهد 1/168 والهداية 1/88
وأمّا الثانية ـ وهي مقارنة المعاصي لأسباب الرُّخَص ـ فإنها لا تمتنع إجماعاً .
ولِذا كان هناك فَرْق بين المعصية بالسفر والمعصية فيه ، فمَن سافَر لِلزنا أو لِلتجارة في الحرام كان سفرُه معصيةً ، والرخصة منوطة به دائمة بدوامه ، فتحرم عليه ما دام على معصيته ..
ومَن سافر سفراً مباحاً ـ نحو : طلبِ العلم أو صلة لِرَحِم أو تجارة حلال ـ ثم عصى في سفره كان سفره مباحاً ، والرخصة في حقه جائزة لأنها منوطة بالسفر المباح ، ولِذا فيجوز له القصر والفطر (1) .
رابعاً : ما يتفرع على الرخصة
وقد فرَّع العلماء على الرخصة فروعاً كثيرةً ، أكتفي بذِكر فرعيْن منها :
الفرع الأول : الجمع في السفر .
الفرع الثاني : صلاة النافلة في السفر .
ونفصِّل القول في كل فرع منها فيما يلي ..
(1) انظر : الفروق 2/33 ، 34 والأشباه والنظائر لِلسيوطي /140
الفرع الأول
الجمْع في السفر(1/197)
إن الجمْع بين الصلاتيْن ـ الظهريْن ( الظهر والعصر ) والعشاءيْن ( المغرب والعشاء ) ـ مِن رُخَص الشريعة الغرّاء وتيسيراتها على المكلَّف حينما أباحت له جمْعَها إما تقديماً وإما تأخيراً في حالات ، منها : السفر ، والمرض ، والمطر .
أمّا الجمع في السفر : فقد اتفق العلماء على أنّ الجمع بيْن الظهر والعصر جمْعَ تقديم يوم عرفة سُنّة بعرفة ، وأنّ جمْع المغرب والعِشاء جمْعَ تأخير سُنّة بالمزدلفة (1) .
واختلفوا في حكْم الجمع في السفر في غير هذيْن الموضعيْن على أقوال :
القول الأول : جواز الجمع مطلقاً تقديماً وتأخيراً ..
وهو ما عليه الشافعية والحنابلة ، ورواية عن مالك ، ورُوِي عن كثير مِن الصحابة والتابعين (2) .
واحتجوا بأدلة ، منها : ما رواه معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أَخَّر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعاً ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار ، وإذا ارتحل قبل المغرب أَخَّر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب عَجَّل العشاء فصلاّها مع المغرب (3) .
(1) انظر بداية المجتهد 1/170 ، 171
(2) انظر : كفاية الأخيار 1/139 ومغني المحتاج 1/271 ، 272 والكافي 1/312 ، 313 والمغني مع الشرح الكبير 2/116 ، 117
(3) رواه الترمذي وأبو داود وأحمد .
القول الثاني : عدم الجواز مطلقاً ..
وهو ما عليه الحنفية ، وقول الحسن والنخعي .
واحتجوا : بأن الجمع لا يجوز إلا بعرفة والمزدلفة .
ورَدّوا أدلة القول الأول : بأن الجمع فيها كان صوريّاً ؛ أي تأخير الظهر وتقديم العصر ، وكذلك تأخير المغرب وتقديم العشاء ، وهذا ليس جمعاً حقيقيّاً ، ولِذا لا يجوز (1) .
الجواب عن هذا الدليل :(1/198)
وقد رَدّ الخطابي وغيره هذا الاستدلال : بأن الجمع رخصة ، فلو كان على ما ذكروه لَكان أعظَمَ ضيقاً مِن الإتيان بكل صلاة في وقتها ؛ لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامة ..
ومِن الدليل على أنّ الجمْع رخصة : قول ابن عباس رضي الله عنهما :" أَرَادَ أَنْ لاَ يُحْرِجَ أُمَّتَه (2) ..
وأيضاً فإن الأخبار جاءت صريحةً بالجمع في وقت إحدى الصلاتيْن ، وذلك هو المتبادر إلى الفهم مِن لفظ " الجمع " (3) .
القول الثالث : أن الجمع جائز لِلمسافر الذي جَدّ في السير ..
وهو المشهور عن مالك ، وقول الليث ، وقال ابن حبيب :" يختص بالمسافر " .
واحتجوا : بما رواه ابن عمر رضي الله عنهما :" كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْر " (4) .
(1) انظر : حاشية ابن عابدين 1/256 وفتح الباري 1/580
(2) أخرجه مسلم .
(3) فتح الباري 2/580 بتصرف .
(4) انظر : بداية المجتهد 1/172 وفتح الباري 1/580
القول الرابع : أن الجمْع جائز تأخيراً لا تقديماً ..
وهو مَرويّ عن مالك وأحمد (1) ، واختاره ابن حزم (2) .
واحتجوا : بما رواه أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عجل به السير يؤخر الظهرَ إلى وقت العصر فيجمع بينهما ، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق الأحمر (3) .
القول الخامس : أنّ الجمْع جائز لِصاحب العذر ..
وهو قول الأوزاعي (4) .
ويمكن الاحتجاج له : بأنّ الجمْع بيْن الصلاتيْن خلاف القاعدة ، ولا يجوز مخالفتها والأخذ بالرخصة إلا لِوجود عذْر شرعيّ ، وإلا حرم الجمع بينهما .
والراجح عندي جواز الجمع تقديماً وتأخيراً في حق المسافر في ثلاث حالات :
الأولى : إذا جَدّ به السير ؛ أي تلبس ركوب الدابة أو وسيلة النقل ـ كما هو الحال في عصرنا ـ ونزل في أثناء سفره استراحةً فله أن يجمع ويقصر .(1/199)
الثانية : إذا سافر عقب صلاة ، فإن كانت في منزله جَمَعَ بِلا قصْر ، وإن كان في محلّ سفره الذي قَصَده وأراد الرحيل عنه كان له الجمع والقصر .
الثالثة : وجود العذر ، ومنه نزوله في البلد الذي قَصَده مسافراً ولكن لِكثرة الزحام والتنقل لأداء حاجته يُرهَق إرهاقاً شديداً : كما هو الحال اليوم في نزيل المدن الكبرى كالقاهرة ، فله حينئذٍ أن يجمع ويَقصر
(1) انظر : بداية المجتهد 1/172 وفتح الباري 1/580
(2) انظر الكافي 1/311
(3) انظر فتح الباري 1/580
(4) انظر : فتح الباري 1/580 ونيل الأوطار 3/213
دفعاً لِلمشقة ورفعاً لِلحرج .
وفي غير تلك الحالات الأَوْلى عندي ترْك الجمْع لِلمسافر ؛ لِعدم مداومة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه في أسفاره ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة يصلي كلَّ فرض في وقته قصراً بِلا جمع .
ومَن قال بجواز الجمع مطلقاً في السفر فلا ينكَر عليه ؛ لِما رواه مالك مِن حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَخَّر الصلاةَ في غزوة تبوك خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ، ثم دخل ، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً (1) ..
ولِذا قال الشوكاني معقِّباً :" وكأنه - صلى الله عليه وسلم - فَعَل ذلك لِبيان الجواز ، وكان أكثرُ عادته ما دلّ عليه حديث أنس - رضي الله عنه - " (2) .
وفيما ذكره الشوكاني حول دليل الجواز ردٌّ على ما ذكره ابن القيم مِن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يجمع إذا جد به السير وإذا سار عقيب الصلاة (3) .
ومما تَقدَّم يَجوز لِلمسافر أن يجمع بين الصلاتيْن مع القصر جمْعَ تقديم أو جمْعَ تأخير ويؤذّن الأُولى منهما مع إقامتين ، وهو ما عليه الجمهور (4) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين (5) ، والأشهَر عند المالكية أن يؤذّن لِكل صلاة منهما (6) .(1/200)
ويشترط في جمْع التقديم أن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى أو في
(1) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
(2) نيل الأوطار 3/215
(3) زاد المعاد 1/133
(4) انظر : بدائع الصنائع 1/152 والمجموع 3/83 والمغني 1/421
(5) رواه ابن جرير عن جابر - رضي الله عنه - .
(6) انظر الحطاب 1/468
أثنائها على الأظهر عند الشافعية ، وإن كان تأخيراً نوى التأخير لِلجمْع في وقت الأولى ، وأن لا يفرق بين الصلاتين في الحالتين تفريقاً طويلاً يقطع الموالاة ، فإن كان يسيراً جاز : كحاجته إلى وضوء خفيف ، كما يشترط بقاء العذر حال افتتاح الأولى والفراغ منها وافتتاح الثانية تأخيراً (1) .
(1) انظر : مغني المحتاج 1/271 - 273 وكفاية الأخيار 1/139 والكافي 1/312 ، 313
الفرع الثاني
صلاة النافلة في السفر
اختلفَت الروايات التي وَرَدَت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة النافلة في السفر ..
فمنها ما هو مُثْبِتٌ لأدائها ، ومِن ذلك :
ما روته أم هانئ رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتْح مكة اغتسَل في بيتها فصلّى ثماني ركعات (1) .
وما رواه عليٌّ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتطوع في السفر (2) .
وما رُوِيَ مِن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتَيِ الفجر والوتر (3) .
وما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على بعيره (4) ، ولَمّا نام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الفجر حتى طَلعَت الشمس صلى ركعتَيِ الفجر قبلها (5) .
وهناك مِن الروايات ما هو نافٍ لأدائها ، ومِن ذلك :
1- ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما بقوله :" صَحِبْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ أَرَهُ يُسَبِّحُ فِي السَّفَرِ ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة } (6) " .
(1) رواه البخاري ومسلم .(1/201)
(2) انظر : المغني 2/68 وتحفة الأحوذي 3/69
(3) انظر المغني 2/68
(4) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة وأحمد والطبراني .
(5) رواه البيهقي وابن حبان وابن خزيمة والطبراني .
(6) رواه البخاري وأحمد .
2- ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال :" صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ لاَ يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ - رضي الله عنهم - (1) " .
3- ما رُوِي أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى قوماً يُسَبِّحون بعد الصلاة فقال :" لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحاً لأَتْمَمْتُ صَلاَتِي ، يَا ابْنَ أَخِي .. صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ ، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّه " ، وذكَر عمر وعثمان ، وقال : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة ... } (2) " (3) .
والتوفيق بين تلك الروايات ممكن ، وحمْل أحاديث أداء النافلة في السفر على الجواز ، وحَمْل أحاديث عدم الأداء على الأصل العامّ وهو التخفيف ، ولِذا كان لِلمسافر أن يترك صلاةَ النافلة التابعة لِلفرائض ..
ولكن هناك نافلتان لا يجوز له ترْكُهما ، ولْيَحرص عليهما ؛ ألاَ وهما سُنّة الفجر والوتر ؛ لِمَا ذكَره ابن القيم رحمه الله :" مِن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفره الاقتصار على الفرض ، ولم يُحفَظ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلّى سُنَّةَ الصلاة قبلها ولا بعدها إلا ما كان مِن الوتر وسُنّة الفجر ، فإنه لم يكن لِيَدَعهما حضَراً ولا سفراً " ا.هـ (4) .
(1) رواه البخاري والنسائي .
(2) رواه مسلم وابن ماجة .
(3) انظر : زاد المعاد 1/131 وفتح الباري 2/577 ، 578 والمغني 2/140 ، 141
(4) زاد المعاد 1/131
المطلب السادس
العلة
العلة لغةً : المرض ..(1/202)
ومنه سُمِّي المرض " علةً " والمريض " عليلاً " (1) .
واصطلاحاً : عرَّفها الحنفية بأنها : ما يضاف إلى الحكْم ابتداءً بِلا واسطة (2) .
أقسام العلة :
قسّم الحنفية العلة إلى أقسام ثمانية ، وقسَّمها الطوفي ـ وتَبِعَه الفتوحي ـ إلى ثلاثة ..
ونفصِّل القول فيهما فيما يلي :
أولاً - أقسام العلة عند الحنفية :
القسم الأول : علة اسماً وحكْماً ومعنى ..
مثالها : البيع المطلق لِلمِلك ..
فهو علة اسماً ؛ لأنه موضوع لِهذا الموجب مضاف إليه بغير واسطة .
وحكْماً ؛ لأنه يَثبت به الحكْم عند وجوده ولا يتراخى عنه .
ومعنى ؛ لأنه مؤثّر فيه وهو مشروع لأجْل هذا الموجب .
القسم الثاني : علة اسماً فقط ..
مثاله : تعليق الطلاق والعتاق بالشرط ..
(1) انظر مختار الصحاح /475
(2) انظر أصول البزدوي مع كشف الأسرار 4/285 ، 286
فهو علة اسماً ؛ لأنه موضوع في الشرع لِحكمه ، ويضاف الحكْم إليه عند وجود الشرط ، فيقال : هذا الطلاق واقع بالتطليق السابق .
وليس علةً حكْماً ؛ إذ الحكْم يتأخر عنه إلى وجود الشرط ..
ولا معنى ؛ إذ لا تأثير فيه قبْل وجود الشرط .
القسم الثالث : علة اسماً ومعنى ..
مثاله : البيع بشرط الخيار ، والبيع الموقوف ، ونصاب الزكاة قبْل مُضِيّ الحول ..
فهو علة اسماً ؛ لأنه موضوع في الشرع لِلمِلك .
ومعنى ؛ لأنه مؤثّر في ثبوت المِلك .
لكن الحكْم ـ وهو ثبوت المِلك ـ متراخٍ ، فلا يكون علةً حكْماً .
القسم الرابع : علة في حيز الأسباب ..
وهي : التي لها شبه بالأسباب .
مثاله : مرض الموت ..
فإنه علة الحجر على التبرع لِحق الوارث .
ويشبه السبب ؛ لأن الحكْم يَثبت به إذا اتصل به الموت .
ومِن هذا القسم كل ما هو علة العلة ؛ فإنه علة تشبه الأسباب : كالرمي فإنه علة القتل .(1/203)
واعتبَر بعض الحنفية هذا القسم إما عائداً إلى العلة اسماً ومعنىً لا حكْماً ـ كالمرض ـ وإما إلى العلة معنىً لا حكْماً ولا اسماً : كالتزكية لِشهود الزنا ؛ فإنها بدون التزكية لا توجب الرجم ، فكانت التزكية علة العلة ..
وعلى هذا الاعتبار تصبح الأقسام سبعة .
القسم الخامس : علة معنىً فقط ..
وهو : وصْف له شَبه العِلل .
مثاله : القدر مع الجنس علة الربا ، ولِذا كان لِكل واحد منهما شبهة العلة ، فيثبت به ربا النسيئة ؛ لأن في النسيئة شبهة الفضل ، فتثبت بشبهة العلة .
القسم السادس : علة معنىً وحكْماً ..
مثاله : آخِر وصفَيِ العلة : كـ" أنتِ طالق إن دخلتِ هاتيْن الداريْن " فإنها تُطلَّق ، إن وُجِد دخولهما في المِلك تُطَلَّق ، وإن وُجِدا في غيره لا تُطَلَّق ، ولو وُجِد الأول في المِلك دون الثاني لا تُطَلَّق اتفاقاً ، ولو وُجِد الأول في غير المِلك والثاني فيه تُطَلَّق عندهم ، خلافاً لِزفر رحمه الله .
وهي علة معنىً ؛ لأن الوصف الذي يوجَد آخِراً هو المؤثِّر في الحكْم .
وحكْماً ؛ لأن الحكْم يوجَد عنده .
وليس اسماً ؛ لأنه وُجِد وليس بموضوع لِلحكْم ، وإنما المجموع ، فلا يكون أحدهما علةً حقيقية .
القسم السابع : علة اسماً وحكْماً ..
مثاله : السفر والنوم لِلترخص والحدث ..
فالسفر علة لِلترخص اسماً ؛ لأن الشارع هو الذي وَضَعَها لِذلك .
وحكْماً ؛ لِثبوتها بنفس السفر متصلة به .
وليست معنىً ؛ لأن المؤثِّر في ثبوتها المشقة وليس نفس السفر .
وكذلك النوم ؛ المؤثِّر خروج النجس .
القسم الثامن : علة حكْماً ..
وهو : ما يتوقف الحكْم عليه ويتصل به مِن غير إضافة ولا تأثير .
مثاله : حفْر البئر (1) .
ثانياً – أقسام العلة عند غير الحنفية :
إن الناظر في كُتُب غير الحنفية يرى أنهم لم يُفرِدوا العلة بالدراسة لأنها أحد إطلاقات السبب ، وقد سبق بيان الفَرْق بينهما في مطلب السبب .(1/204)
لكن الزركشي بَيَّن أن السبب يُطلَق في لسان حَمَلة الشرع على أمور :
أحدها : ما يقابِل المباشرة ..
ومنه قول الفقهاء : إذا اجتمع السبب والمباشرة غلب المباشرة : كحفْر البئر مع التردية .
الثاني : علة العلة ..
كالرمي يسمَّى " سبباً " لِلقتل ، فالرمي علة لِلإصابة ، والإصابة علة لِلقتل ، فالرمي علة العلة ، وقد سمُّوه " سبباً " .
الثالث : العلة بدون شرْطها ..
كالنصاب بدون الحول ، يُسَمَّى " سبباً " لِوجوب الزكاة .
الرابع : العلة الشرعية ..
وهي : المجموع المرَكَّب مِن المقتضي والشرط وانتفاء المانع ووجود الأهل والمحل ، يُسمَّى " سبباً " (2) .
ثالثاً - أقسام العلة عند الطوفي :
قسّم الطوفي العلة باعتبار معْناها الشرعي إلى ثلاثة أقسام ، وتَبِعَه في
(1) انظر العلة عند الحنفية في : أصول السرخسي 2/312 - 318 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار لِلبخاري 4/313 - 336 والتوضيح مع التلويح 2/274 - 287 وكشف الأسرار لِلنسفي 2/422 – 434 وشرح ابن ملك والعيني على المنار /321 - 325 وفتح الغفار 3/75 - 80 وحاشية نسمات الأسحار مع شرح إفاضة الأنوار /243 0 246 والوجيز لِلكرامستي /99
(2) البحر المحيط 1/307 بتصرف .
ذلك الفتوحي :
الأول : ما أَوجَبَ الحْكم الشرعي لا محالة ..
وهو : المجموع المركَّب مِن مقتضى الحكْم وشرْطه ومحله وأهله تشبيهاً بأجزاء العلة العقلية .
مثاله : وجوب الصلاة حكْم شرعي ، ومقتضيه أمْر الشارع بالصلاة ، وشرْطه أهلية المصلِّي لِتَوجُّه الخطاب إليه بأن يكون عاقلاً بالغاً ، ومحله الصلاة ، وأهله المصلِّي .
الثاني : مقتضى الحكْم وإن تَخلَّفَ لِفوات شرْط أو وجود مانع ..
مثاله : مِلك النصاب المقتضِي لِوجوب الزكاة ، وإن لم يتحقق الوجوب إلا بعد حؤول الحول ، ولكن بمِلك النصاب انعقَد سبب الوجوب .
الثالث : حكمة الحكْم ..
وهو : المعنى المناسب الذي نشأ عنه الحكْم .(1/205)
مثاله : مشقة السفر التي هي علة استباحة القصر والفطر لِلمسافر (1) .
(1) شرْح مختصر الروضة 1/419 – 423 بتصرف وانظر شرح الكوكب المنير 1/439 - 444
المطلب السابع
الركن والعلامة
أولاً : الركن
تعريف الركن :
وهو لغةً : ما يُعتمَد عليه ، وركْن الشيء جانبُه ، وأركان الشيء أجزاء ماهيته (1) .
واصطلاحاً : ما يَقوم به الشيء ..
وهو قريب مِن المعنى اللغوي .
أنواع الركْن :
قسّم الحنفية الركن إلى نوعيْن :
الأول : ركْن أصلي ..
وهو : ما يَلزم مِن انتفائه انتفاء المركَّب ..
مثاله : انتفاء العَشرة بانتفاء الواحد ، وتكبيرة الإحرام في الصلاة المشروعة ؛ فإن الصلاة تنتفي بانتفائها .
الثاني : ركْن زائد ..
وهو : الجزء الذي إذا انتفى كان حكْم المركَّب باقياً بحسب اعتبار الشارع وجعل عدمه عفواً واعتبر المركَّب موجوداً حكْماً .
مثاله : الإقرار بالشهادتيْن ، فإنه ركْن لِتمام الإيمان .
(1) انظر المصباح المنير 1/237
كما مثَّلوا لِلنوعيْن بأعضاء الإنسان : فالرأس ركْن ينتفي الإنسان بانتفائه ، واليد ركْن لا ينتفي بانتفائه ولكن ينقص ، فالأول أصليّ ، والثاني زائد (1) .
(1) انظر الركن عند الحنفية في : التوضيح مع التلويح 2/273 ، 274 وشرح طلعة الشمس 2/230
ثانياً : العلامة
تعريف العلامة :
وهي لغةً : الأمارة : كالمنارة لِلمسجد (1) .
واصطلاحاً : ما يَكون عَلَماً على الوجود مِن غير أن يتعلق به وجوب ولا وجود ..
وقوله ( عَلَماً على الوجود ) : أي ما يدل على وجود الحكْم ، وهو احتراز عن السبب ؛ لأنه مُفْضٍ لا بعرف .
وقوله ( مِن غير أن يتعلق به وجوب ) : احتراز عن العلة .
وقوله ( ولا وجود ) : احتراز عن الشرط .
وعرَّفها البعض بأنها : الوصف الكاشف عن الحكْم مِن غير نظرٍ إلى تَعلُّق وجود أو وجوب .
أنواع العلامة :
والعلامة لها أنواع :
الأول : علامة محضة ، أي التي ليس فيها معنى الشرط ..(1/206)
وهي : التي تكون دلالةً على الوجود فيما كان موجوداً قبْله .
مثاله : تكبيرات الصلاة ، فإنها علامات الانتقال مِن ركْن إلى ركْن .
الثاني : علامة هي شرْط لِلوجود ..
وهي : التي يكون فيها معنى الشرط .
مثاله : الإحصان في الزنا ، فإنه علامة لِلرجم ، وهو عبارة عن كون الزاني حرّاً مسلِماً مكلَّفاً وطئ بنكاح صحيح مرة ..
وقد جُعِل علامةً لا شرْطاً ؛ لأن الزنا إذا تَحقَّقَ لا يتوقف انعقاده علةً
(1) انظر المصباح المنير 2/427
لِلرجم على إحصان يَحدث بعده ؛ إذ لو وُجِد الإحصان بعد الزنا لم يَثبت بوجوده الرجم .
وعدم كونه علةً وسبباً ظاهر ، فعُلِم أنه عبارة عن حال في الزاني يوجِب الرجم ، وهو معنى كونه علامة .
وجُعِل الإحصان علامةً لِلرجم عند بعض المتأخرين ، لكن الكثرة مِن الحنفية على أنه شرْط لِوجوب الرجم .
الثالث : علامة هي علة ..
مثاله : عِلَل الشرع ، فإنها بمنزلة العلامات لِلأحكام غير موجِبة بذواتها شيئاً ، فمِن حيث إنها لا توجب بذواتها شيئاً كانت أعلاماً (1) .
وفي ختام هذه الأحكام الوضعية فإنه لا مانع مِن اجتماعها في شيء واحد باعتبارات مختلفة ؛ فقد يكون الشيء الواحد ركناً باعتبار وعلةً باعتبار آخَر ، وكذا يكون سبباً وشرْطاً وعلامةً بحسب الاعتبارات ، فلا يُشكِل ذلك على مَن نظَر إلى تَعدُّدها (2) .
(1) انظر : أصول السرخسي 2/331 والتوضيح مع التلويح 2/308 - 310 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار لِلبخاري 4/373 - 378 وشرح نور الأنوار مع كشف الأسرار لِلنسفي 2/451 وشرح طلعة الشمس 2/234 ، 235 وفتح الغفار 3/84 ، 85 وشرح ابن ملك مع العيني /329 - 331
(2) انظر شرح طلعة الشمس 2/235
الفصل الرابع
المحكوم به والمحكوم عليه
ويحتوي هذا الفصل على المبحثيْن التالييْن :
المبحث الأول : المحكوم به .
المبحث الثاني : المحكوم عليه .
المبحث الأول
المحكوم به ( المحكوم فيه )(1/207)
والمحكوم به : هو الفعل المكلَّف به ، أي الذي تَعلَّق به حكْم الشارع .
ومنهم مَن عبَّر بـ" المحكوم فيه " (1) ، قال الآمدي :" الأصل الثالث في المحكوم فيه ، وهي الأفعال المكلَّف بها " ا.هـ (2) .
وفيه مطالب :
المطلب الأول : شروط الفعل المكلَّف به .
المطلب الثاني : التكليف بالمُحال .
المطلب الثالث : التكليف بالمشقة .
المطلب الرابع : أنواع القدرة عند الحنفية .
المطلب الخامس : الحقوق المكلَّف بها .
وفيما يلي نفصِّل القول في كل واحد منهما ..
(1) انظر : بيان المختصر 2/413 والمختصر في أصول الفقه /68 والإبهاج 1/170 وحقائق الأصول 1/330
(2) الإحكام لِلآمدي 1/124 وانظر مُسلَّم الثبوت 1/123
المطلب الأول
شروط الفعل المكلَّف به
اشترَط الأصوليون لِلفعل المكلَّف به شروطاً ، حصرتُها فيما يلي :
الشرط الأول : كوْنُه معلوم الحقيقة لِلمكلَّف ..
وهو شرْط لازم ؛ حتى يتصور منه قصْد الطاعة والامتثال بفعله ، والنية شرْط لِقبول الأعمال ؛ لِقوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات } (1) ..
وكيف ينوي على أداء فِعلٍ لا يَعلم حقيقته ؟!
وعليه فلا يصحّ التكليف بالصلاة دون عِلم بكيفية أدائها وشروطها وأركانها ، ولِذلك وضَّحها النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } (2) .
الشرط الثاني : كونُه معدوماً مِن حيث هو يمكن حدوثه ..
وهو ما عبَّر عنه الغزالي ـ رحمه الله ـ بقوله : صحة حدوثه ، فلا أمْر إلا بمعدوم يمكن حدوثه ؛ لأنه لو كان موجوداً ساعة الأمر لكان تحصيلاً لِلحاصل .
وهل يكون الحادث في أول حدوثه مأموراً به كما كان قبل الحدوث ؟ أو يخرج عن كونه مأموراً كما في الحالة الثانية مِن الوجود ؟
اختلَفوا في ذلك .
(1) رواه الستة عن عمر - رضي الله عنه - .
(2) رواه أحمد والبخاري ومسلم والحاكم عن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - .(1/208)
الشرط الثالث : كوْنُه حاصلاً بكسب العبد ..
فلا تسقط الصلاة عن الأب بصلاة ابنه مَثَلاً ، ولا يَجوز تكليف زيد كتابة عمرو وخياطته ، وإن كان حدوثه ممكناً لكنه ليس مقدوراً لِلمكلَّف .
وأمّا النيابة عن الغير فسيأتي تفصيل القول فيها ـ بإذن الله تعالى .
ولا يُعترَض على هذا الشرط بإلزام العاقلة دية خطأ وليها ؛ لأن ذلك مِن باب ربْط الحكْم بالسبب .
الشرط الرابع : كوْن التكليف بالفعل وبالكف ..
والراجح عندي هو إدخال الكف عن الفعل تحت التكليف ..
ودليل ذلك : ما أَورَدَه الزركشي مِن حديث { تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِك } (1) .
نعم لا يَحصل الثواب على الكف إلا مع النية والقصد دون الغفلة والذهول ، فلو أن سارقاً هَمَّ لِتنفيذ سرقته أو زناه لكنه قبْل بداية هذا الفعل المذموم ندم وكَفَّ عنه خوفاً مِن الله فهذا هو الذي قال - صلى الله عليه وسلم - في حقه { وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَفْعَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَة } (2) ..
وأمّا إن كان تَرْكُه لِهذه المعصية بسبب عدم إمكانية تَحقُّقها فهُنا لا ثواب على هذا الترك والكف عن المعصية .
الشرط الخامس : عِلْم المكلَّف أنه مأمور به مِن جهة الله تعالى ..
وذلك لازم لِتَصوُّره ، وتَصوُّره لازم لامتثاله ، والامتثال لا يتأتى إلا بقصد الطاعة والتقرب إلى الله جل وعلا .
الشرط السادس : كوْنُه مقدوراً لِلمكلَّف ..
(1) رواه ابن أبي الدنيا في الصمت عن أبي ذر - رضي الله عنه - .
(2) رواه أحمد وابن حبان والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
والقدرة على إتيان الفعل المكلَّف به لازمة لِحصوله ؛ لأنه مطلوب شرعاً ، وكل ما كان مطلوب الحصول يجب أن يكون متصوَّر الوقوع ، فالمكلَّف به يجب أن يكون متصور الوقوع ، وهو معنى كونه ممكِناً (1) .(1/209)
(1) انظر : المستصفى 1/86 وشرح العضد 2/13 وفواتح الرحموت 1/132 والبحر المحيط 1/385 وشرح مختصر الروضة 1/221 - 242 والمسوّدة /57 وشرح الكوكب المنير 1/490 وعِلم أصول الفقه لِخلاّف /135 - 140
المطلب الثاني
التكليف بالمُحال
اختلف الأصوليون في التكليف بالمُحال ، وقبل أن نوضح مذاهبهم في ذلك وأدلتهم نوضح الفَرْق بين التكليف المُحال والتكليف بالمُحال ، ثم نحرر محل النزاع ..
أولاً - الفَرْق بين التكليف المُحال والتكليف بالمُحال :
فرَّق الأصوليون بين التكليف المُحال والتكليف بالمُحال حينما جعلوا التكليف بالمُحال : الفعل غير المقدور عليه عادةً : كرفْع جبل أو جمْع بين ضديْن ، ولِذا فمحلّ الإحالة فيه راجع إلى الفعل المأمور به .
والتكليف المُحال : ما كان محلّ الإحالة فيه راجعاً إلى المكلَّف نفسه : كتكليف الغافل (1) .
ثانياً – تحرير محل النزاع :
قسّم ابن برهان المُحال ( المستحيلات ) إلى خمسة أقسام ، وتبعه الإسنوي في ذلك :
الأول : مُحال لِذاته ، ويُعبَّر عنه بـ" المستحيل عقلاً " ..
مثاله : الجمع بين الضديْن والنقيضيْن ، والحصول في حيزيْن في وقت واحد .
الثاني : مُحال عادةً ..
(1) انظر : الإبهاج 1/145 ونهاية السول 1/183 والشرح الكبير على الورقات 1/411 وحاشية العطار 1/81 وحاشية البناني 1/206 والبحر المحيط 1/394
مثاله : طيران الإنسان في الهواء ، وحمْل الجبل العظيم .
الثالث : مُحال لِطروء مانع ..
مثاله : تكليف المقيَّدِ العَدْوَ والزمْنِ المشي .
الرابع : مُحال لانتفاء القدرة عليه حالة التكليف مع القدرة حالة الامتثال ..
مثاله : التكاليف الشرعية كلها ..
لأنها ـ على رأي الأشعري ـ غير مقدورة قبل الفعل ، فالقدرة عنده لا تكون إلا مع الفعل .
الخامس : مُحال لِتَعلُّق العلم به ..
مثاله : إيمان الكافر الذي عَلِم الله تعالى أنه لا يؤمن .(1/210)
وقد حصر الإسنوي ـ رحمه الله ـ محل النزاع في الأقسام الثلاثة الأوائل .
أمّا الرابع فهو مُسلَّم لِلأشعري بمقتضى الأصل الذي أصَّلَه .
وأمّا الخامس فهو جائز واقع بالإجماع (1) إلا ما نُقِل عن بعض الثَّنَوِيَّة (2) مِن عدم جوازه .
والناظر في أقسام المُحال عند الإسنوي يرى أنه بعد استبعاد القسم
(1) انظر الوصول إلى الأصول 1/82 ، 83 ونهاية السول 1/197 ، 198
(2) الثَّنَوِيَّة : مذهب يقول بإلهيْن اثنين : إله لِلخير ، وإله لِلشر ، ويُرمَز لهما بالنور والظلام ، ويقولون ببقاء الدهر وبالتناسخ ..
يقول الشهرستاني في المِلَل والنِّحَل :" هؤلاء هم أصحاب الاثنين الأزلييْن ، يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان ، بخلاف المجوس ؛ فإنهم قالوا بحدوث الظلام وذَكَروا سبب حدوثه ، وهؤلاء قالوا بتساويهما في القِدَم واختلافهما في الجوهر والطبع والفعل والخير والمكان والأجناس والأبدان والأرواح " ا.هـ .
الرابع يمكن تقسيمه إلى قسميْن ، وهذا ما دَلّ عليه كلام الآمدي (1) ونَصّ عليه الطوفي (2) والزركشي (3) وغيرهما ..
القسم الأول : مُحال لِذاته ..
وهذا القسم تدخل فيه الأقسام الثلاثة الأُوَل عند الإسنوي .
القسم الثاني : مُحال لِغيره ..
وهو القسم الخامس عنده ..
وكيفية توجيه الإحالة لِلغير في إيمان الكافر : أن علة الإيمان هنا ليست لِذاته ، وإنما امتنع لِغيرِه ، وهو تَعلُّق عِلْم الله تعالى أنهم لا يؤمنون وليس امتناعاً لِذاته ؛ لأنه لو كان كذلك لَمَا وُجِد الإيمان مِن أحد ، كما هو الحال في الجمع بين الضدين .
وهذا القسم ـ وهو المُحال لِغيره ـ محلّ اتفاق أَوصَلَه الكثرة إلى إجماع على جوازه عقلاً ووقوعه سمعاً ، إلا ما وَقَع عن بعض الثنوية ..
فالتكليف بالإيمان مِمَّن عَلِم الله تعالى أنه لا يؤمن واقعٌ بالإجماع (4) .
ثالثاً - مذاهب الأصوليين في المُحال لِذاته :(1/211)
اختلف الأصوليون في التكليف بالمُحال لِذاته على ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول : جواز التكليف بالمُحال عقلاً وعدم وقوعه شرعاً ..
وهو ما عليه بعض الأصوليين ، واختاره إمام الحرمين (5) والغزالي (6)
(1) انظر الإحكام لِلآمدي 1/124
(2) انظر شرح مختصر الروضة 1/255
(3) انظر البحر المحيط 1/386
(4) انظر المراجع السابقة وشرح الكوكب المنير 1/485 وفواتح الرحموت مع مُسلَّم الثبوت 1/123
(5) البرهان 1/105
(6) المستصفى 1/87 والمنخول /24
والآمدي (1) والشاطبي (2) ، وعليه الحنفية (3) ، ونُقِل عن الأشعري (4) .
والقائلون بعدم الوقوع مِن غير المعتزلة ليس لِقبح التكليف بالمُحال أو لِمَفسَدة تنشأ عنه ولا لِصيغته ؛ إذ يجوز ـ كما قال الغزالي تابعاً إمام الحرمين ـ أن تَرِد صيغته ولكن لِلتعجيز لا لِلطلب : كقوله تعالى { كُونُوا قِرَدَةً خَسِئين } (5) (6) ، أو لإظهار القدرة : كقوله تعالى { كُن فَيَكُون } (7) لا بمعنى أنه طلب مِن المعدوم أن يكون بنفسه ، ولكن يمتنع لِمعناه .
واحتجوا بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (8) ..
وجه الدلالة : أن الله تعالى نَفَى إيقاع تكليف نفسٍ فوق طاقتها ووسعها وإذا كان كذلك كان التكليف فوق الوسع والطاقة ممنوعاً ، وحيث إن التكليف بالمُحال تكليف فوق الوسع والطاقة فإنه يكون غير جائز شرعاً .
الدليل الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - في المملوك { لاَ يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لاَ يُطِيق } (9) وقوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُم } (10) ..
وجه الدلالة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهَى السادة عن تكليف عبيدهم ما
(1) الإحكام لِلآمدي 1/142 ومنتهى السول 1/33
(2) الموافقات لِلشاطبي 2/107(1/212)
(3) ميزان الأصول /167 ، 168 وفواتح الرحموت شرح مُسلَّم الثبوت 1/123
(4) انظر البحر المحيط 1/389
(5) سورة البقرة مِن الآية 65 ، سورة الأعراف مِن الآية 166
(6) المستصفى 1/87 وانظر البرهان 1/104
(7) وَرَدَت في ثماني آيات ، منها : سورة البقرة مِن الآية 117 ، سورة آل عمران مِن الآية 47
(8) سورة البقرة مِن الآية 286
(9) رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(10) رواه ابن حبان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
لا يستطيعون القيام به وما لا يطيقونه ، والنهي لِلتحريم ، فيَكون تكليفهم بما لا يطيقون مُحَرَّم وممنوع ، وحيث إن التكليف بالمُحال تكليف فوق الطاقة فإنه يكون ممنوعاً شرعاً (1) .
المذهب الثاني : جواز التكليف بالمُحال عقلاً ووقوعه سمعاً ..
وهو ما عليه الأشعري ، ونَسَبَه الطوفي إلى أكثر الأشعرية واختاره هو (2) ، كما اختاره الفخر الرازي (3) والبيضاوي (4) وابن السبكي (5) .
واحتجوا بأدلة ، أذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه } (6) ..
وجه الدلالة : أن هذا دعاء وتضَرُّع إلى الله عز وجلّ بأن لا يكلفنا ما لا نَقدر على حَمْله مِن التكاليف ، ولو كان التكليف بالمُحال مُحالاً لَمَا كان لِلتضرع والدعاء محلّ ؛ لأن المُحال لا يُسأَل دفْعه ، فدلّ ذلك على وقوع التكليف بالمُحال ، وهو المدَّعَى .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أن الآية الكريمة والدعاء المذكور لا يدل على وقوع التكليف بالمُحال ، وإنما يدل على طلب عدم إيقاعه وتكليفهم به ؛ لأنهم
(1) تُراجَع الأدلة في : الإحكام لِلآمدي 1/24 وبيان المختصر 1/413 وشرح العضد مع المختصر 2/9 وحقائق الأصول 1/338 ومنتهى السول 1/33 ، 34 وشرح الكوكب المنير 1/486 - 488 ومُسلَّم الثبوت 1/123 وإرشاد الفحول /29
(2) شرح مختصر الروضة 1/229
(3) المحصول 1/302(1/213)
(4) منهاج الوصول مع نهاية السول 1/194
(5) جمع الجوامع مع البناني 1/206
(6) سورة البقرة مِن الآية 286
عَلِموا جواز التكليف بالمُحال فطَلَبوا نفْيَه .
الوجه الثاني : أن الآية الكريمة نفسها ـ والتي وَرَد فيها الدليل السابق محلّ الاستشهاد ـ صدرَت بما يوجِب حَمْل الدليل على أنه دعاء بعدم التكليف بالمُحال ، وذلك في قوله تعالى { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } ، والتكليف بالمُحال فوق الوسع والطاقة ..
فدل ذلك على أن التكليف بالمُحال غير واقع (1) .
الدليل الثاني : أنه لو لم يصحّ التكليف بالمُحال لَمَا وَقَع ، والتالي باطل ، وإذا بطل التالي فالمقدم مِثله باطل ، فدل ذلك على صحة التكليف بالمُحال ..
بيان الملازَمة : أن وقوع الشيء فرْع إمكانه ، فكل ما لا يكون ممكناً لا يكون واقعاً .
بيان انتفاء التالي : ( وقوع التكليف بالمُحال ) مِن وجوه ، أكتفي بوجهيْن منها :
الأول : أن العاصي مأمور ويمتنع منه الفعل ؛ لأن الله تعالى يعلم عدم وقوعه ، وكلّ ما عَلِم الله تعالى عدم وقوعه يمتنع وقوعه ؛ وإلا لزم جهْلُه تعالى الله عما يقولون علُوّاً كبيرا .
الثاني : أن الله تعالى أَخبَرَ بعدم إيمان الكافر في قوله تعالى { سَواءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُون } (2) ، وخبرُه تعالى لا يتخلف ، فإيمانهم مُحال وممتنع ، ومع اليقين بعدم إيمانهم فإنهم مطالَبون بالإيمان مكلَّفون به مع الإحالة .
(1) انظر : نزهة الخاطر مع روضة الناظر 1/124 - 128 والإحكام لِلآمدي 1/126 ، 127 وشرح مختصر الروضة 1/229 وشرح الكوكب المنير 1/486
(2) سورة البقرة مِن الآية 6
فدل ذلك على أن التكليف بالمُحال واقع ، وهو المدَّعَى .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهيْن :(1/214)
الوجه الأول : أن ما ذكرتموه مِن وجوهٍ لِنفْي التالي ـ والتي تؤكدون وقوع التكليف بالمُحال ـ جميعها لا يمتنع تَصوُّر وقوعها مِن المكلَّف ؛ لِجواز صدورها مِن المكلَّف بحسب الذات وإن امتنع لأمر خارجي : كتَعلُّق عِلم الله تعالى بعدم وقوعه ، وهذا هو المُحال لِغيره ، وهو خارج محلّ نزاعنا فالإجماع منعقِد على جوازه .
الوجه الثاني : أنه يلزم مِن دليلكم أن التكاليف كلها تكليف بالمُحال ، وهو باطل بالإجماع ، أمّا استلزام كون القدرة مع الفعل وكون الفعل مخلوقاً لله تعالى فظاهر ، وأمّا استلزام عِلم الله تعالى ذلك فلأنه لو وجب كل ما عَلِم الله تعالى وقوعَه وامتنع كل ما عَلِم الله تعالى عدم وقوعه لكانت الأفعال إما واجبةً أو ممتنِعةً ، والتكليف بهما تكليف بالمُحال (1) .
المذهب الثالث : عدم جواز التكليف بالمُحال عقلاً وامتناعُه شرعاً ..
وهو ما عليه أكثر المعتزلة ، واختاره ابن الحاجب (2) والشوكاني (3) وحُكِي عن نص الشافعي (4) .
واحتجوا بأدلة عقلية ، نكتفي منها بهذا الدليل : أنّ المُحال لا يَتصور
(1) بيان المختصر 1/417 - 421 بتصرف وانظر : مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/11 والمحصول 1/302 - 307 وإرشاد الفحول /30 والتحصيل 1/316 - 320 وشرح مختصر الروضة 1/229 - 241 وتشنيف المسامع 1/127
(2) مختصر المنتهى مع بيان المختصر 1/413 وشرح العضد مع المختصر 2/11
(3) إرشاد الفحول /29
(4) انظر : البحر المحيط 1/288 وشرح الكوكب المنير 1/486
العقل وجوده ، وكلّ ما لا يتصور العقل وجوده لا يَجوز عقلاً التكليف به ، فالمُحال لا يَجوز عقلاً التكليف به .
دليل الصغرى : أنّ العقل لا يَتصور إلا المعلوم المتميِّز ، وهذا التمييز صفة وجودية لا تَقوم بمعدوم ، والمُحال معدوم لا يتميز ، فيكون غير معلوم ، وإذا كان غير معلوم لم يكن متصوَّراً .(1/215)
ودليل الكبرى : أن غير المتصوَّر يكون مجهولاً ، والمجهول يستحيل طلبُه وإذا استحال طلبُه كان التكليف به ممنوعاً .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نسلِّم لكم الصغرى التي بُنِيَت على أن المُحال لا يَتصور العقل وجوده ؛ لأن المُحال لو كان غير متصوَّر لَمَا أَمكَنَ الحكْم عليه بأنه مُحال ؛ لأن الحكم على الشيء فرْعٌ عن تَصوُّره ، وحيث إنه قد حُكِم عليه بأنه مُحال فلزم أن يكون متصوَّراً .
الجواب عن هذه المناقشة :
وقد رُدَّت هذه المناقشة : بأنّا سلَّمْنا أن المُحال متصوَّر ذهناً بمقدار الحكْم عليه ، ومع هذا التصور الذهني فإنه ليس واقعاً ، فيستحيل التكليف به .
مناقشة هذا الجواب :
وقد نوقش هذا الجواب : بأنه يكفينا التصور الذهني في جواز التكليف به ، ولا يَلزم أن يُتصور واقعاً ؛ لأنّا لم نَقُلْ بوقوع التكليف به (1) .
تعقيب وترجيح :
بعد الوقوف على مذاهب الأصوليين وأدلتهم في حكْم التكليف بالمُحال
(1) أصول الفقه لِلشيخ زهير 1/180 بتصرف وانظر : بيان المختصر 1/414 – 417 وشرح الكوكب المنير 1/488 ، 489 وإرشاد الفحول /29
نرى أن الأصوليين اشترَطوا في التكليف القدرة على المكلَّف به ، وهو شرْط لا يستقيم التكليف بدونه ، ولِذا فالقول بجواز التكليف بما لا يطاق أو بالمُحال قول غير مقبول ومردود ، وهو ما عليه أصحاب المذهب الأول ، إضافةً إلى أن أدلة هذا المذهب لم تَسلَم مِن الاعتراض والمناقشة ..
وكذلك الذين منعوا التكليف بالمُحال عقلاً وشرعاً ـ وهو ما عليه أصحاب المذهب الثالث والذي لم تَسلَم أدلتهم مِن المناقشة ـ لا نُسلِّم لهم أن العقل يمنع التكليف بالمُحال ، وإنما هو جائز عقلاً ، مع تسليمنا بعدم وقوعه شرعاً .(1/216)
وإذا تَقرر ذلك كان المذهب الأَوْلى بالقبول والترجيح هو المذهب الثاني القائل بجواز التكليف بالمُحال عقلاً وعدم وقوعه شرعاً ، وإن وقع فإنه لا يكون مقصوداً لِذاته ، وإنما يكون المقصد ليس التكليف بإتيان الفعل المُحال ، وإنما لِلابتلاء والاختبار : سيدنا إبراهيم - عليه السلام - بذبح ولده سيدنا إسماعيل - عليه السلام - ، فالعادة تحيل ذبْح الوالد لِولده ، ولِذا كان مُحالاً لِذاته ، ومع هذه الاستحالة فقد وقع التكليف به في قوله تعالى { يَبُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّبِرِين } (1) ، ولم يتحقق هذا التكليف في الوجود مع التكليف به ، وهو محلّ نزاعنا .
وفي ذلك يقول الشاطبي :" ثبت في الأصول أن شرْط التكليف أو سببُه القدرة على المكلَّف به ، فما لا قدرة لِلمكلَّف عليه لا يصحّ التكليف به شرعاً وإن جاز عقلاً " ا.هـ (2) .
(1) سورة الصافات مِن الآية 102
(2) الموافقات 2/170
المطلب الثالث
التكليف بالمشقة
لقد بنى الشاطبي التكليف بالمشقة على الشرط السادس مِن شروط الفعل المكلَّف به ، وهو كوْنه مقدوراً لِلمكلَّف ..
فهل تُعَدّ المشقة في مقدور المكلَّف ؟
لِلإجابة عن هذا السؤال يجب التفريق بين نوعيْن مِن المشقة :
النوع الأول : مشقة غير معتادة .
النوع الثاني : مشقة معتادة .
ونفصِّل القول فيهما فيما يلي :
النوع الأول : مشقة غير معتادة ..
وهي : التكليف بالفعل الذي لا يستطيعه المكلَّف ولا يَقدر على إتيانه ـ نحو : حمْل جبل ـ أو يَقدر لكن فيه ضرر هالك يَلحقه ، نحو : صوم الدهر .
وهذا النوع يُسمَّى " التكليف بالمُحال " ؛ لأن التكليف فيه راجِعٌ إلى الفعل المأمور به .
أمّا التكليف المُحال ، وهو ما كان التكليف فيه راجعاً إلى المكلَّف نفسه نحو : تكليف الغافل والمجنون .(1/217)
والتكليف بالمشقة غير المعتادة لا يَجوز ، وكذلك التكليف بالأمور الجِبِلّية التي لا كسْب لِلمكلَّف فيها ولا اختيار : كالحب والبغض والحزن والفرح ..
والتكليف في هذه الحالة تكليف بما لا يطاق وما ليس مقدوراً لِلمكلَّف ، ولِذا فهو جائز شرعاً وغيْر واقع في أحكام الشريعة .
ونصوص الشريعة تؤكد عدم التكليف بها ، مِن ذلك :
قوله تعالى { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (1) .
وقوله تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر } (2) .
وقوله تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ أن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَنُ ضَعِيفا } (3) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَه } (4) .
ولقد شرع الله تعالى الرخص عند وجود الأعذار حتى لا يقع المكلَّف في المشقة التي تُلحِق به ضرراً ..
ومِن ذلك إباحة الفطر لِلمريض والمسافر ، ومِن هذا القبيل ما أباحه مِن المحظورات عند الضرورات .
كما حذَّر الإسلامُ المكلَّف مِن الإتيان بفعل أو عبادة فوق طاقته أو تُلحِق به ضرراً ، ولِذا نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال في الصيام وقيام الليل والترهب في قوله لِلثلاثة مِن الصحابة - رضي الله عنهم - الذين عزموا على ذلك { أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ ، لَكِنِّي أَصُومُ وأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقَدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } (5) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - { عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُون } (1) .
(1) سورة البقرة مِن الآية 286
(2) سورة البقرة مِن الآية 185
(3) سورة النساء الآية 28
(4) رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(5) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أنس - رضي الله عنه - .(1/218)
(6) رواه البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
الحالات التي كلَّف الشارع فيها بالمشقة غير المعتادة :
لقد كلَّف الشارع المكلَّفين بالمشقة التي تُلحِق به ضرراً قد يصِل إلى هلاكه ـ وذلك على سبيل فرْض الكفاية ـ في حالات ، منها :
الأولى : الجهاد في سبيل الله تعالى ، وقد يصِل أحياناً إلى فرْض العين .
الثانية : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر عندما يُعَرِّض الآمِر نفسَه لِلضرر { وَرَجُلٌ قَالَ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانِ جَائِرٍ فَقَتَلَه } (1) .
الثالثة : الاعتداء على حق مِن حقوق الله تعالى أو حقوق العباد : كمَن يُكره بالقتل لِيَقتل غيره ، فعليه أن يصبر .
مناقشة عدم التكليف بالمشقة غير المعتادة :
وقد نوقش عدم التكليف بالمشقة غير المعتادة : بأنّا لا نسلِّم لكم عدم التكليف بها ، وإنما الثابت نَصّاً التكليف بها ..
ودليل ذلك : قوله تعالى { وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُون } (2) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تَغْضَب } (3) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - { كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ ، وَلاَ تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِل } (4) ، فالأول أمْر بالموت ، والثاني نهْي عن الغضب ، والثالث أمْر بالاستسلام لِلقتل ، وجميعها تكاليف فيها مِن المشقة القاتلة غير المعتادة ..
ولِذا كان ادعاؤكم عدم وقوع التكليف بالمشقة غير المعتادة مردوداً وباطلاً .
(1) رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) سورة آل عمران مِن الآية 102
(3) رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(4) رواه أحمد والطبراني والدارقطني عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - .
الجواب عن هذه المناقشة :
وقد رُدّت هذه المناقشة : بأنّا لا نسلِّم لكم أن هذه النصوص تُثبِت تكليفاً بما لا يطاق ، وإنما هو تكليف بالمقدور :(1/219)
أمّا الأول : فليس تكليفاً بالموت على الإسلام ، وإنما هي تكليف بالسير على طريق الإيمان والثبات عليه حتى يأتيهم الموت وهُمْ على ذلك .
وأمّا الثاني : فليس نهياً عن الكف عن الغضب ؛ لأنه أمْر جِبِلِّي ، وإنما هو تكليف بالكف عمّا يَلحق الغضب ويَعقُبه مِن لزوم ضبْط النفس .
وأمّا الثالث فليس تكليفاً بالاستسلام لأن يقتلك غيرك ، وإنما هو تكليف بعدم الظلْم والعدوان .
النوع الثاني : المشقة المعتادة ..
وهي : التي يكون التكليف بالفعل المكلَّف به زيادةً على ما جرَت به العادات قبْل التكليف شاقّاً على النفس ، ولِذلك أُطلِقَ عليه لفْظ " التكليف " ، وهي المشقة .
نحو : الصلاة ، والصيام ، والحج ، وغيرها مِن العبادات .
والشارع لا شك قاصد لِهذه المشقة ؛ لأنها مشقة معتادة ، ولا تُسمَّى في العادة المستمرة " مشقةً " كما لا يسمَّى طلبُ المعاش بالتحرف وسائر الصنائع في العادة " مشقةً " ، وأهْل العقول وأرباب العادات يَعُدّون المنقطِع عنه كسلاً ويذمّونه لِذلك ، فكذلك المعتاد في التكاليف .
والشارع حينما كلَّف المكلَّف بالمشقة المعتادة فإنها ليست مقصودةً له لِذاتها ، وإنما مِن جهة ما فيها مِن المصالح التي تَعود على المكلَّف .
وقد اعتُرِض على هذا النوع باعتراضات ، منها : أن المشقة مقصودة لِلشارع ؛ بدليل أنه أَعطَى الثواب الزائد عليها ..
ومِن ذلك : قوله تعالى { وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - { أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَات } قالوا :" بَلَى يَا رَسُولَ اللَّه " قال { إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ ، وَكَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ .. فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ .. فَذَلِكُمُ الرِّبَاط } (2) .(1/220)
وأجاب الشاطبي رحمه الله : بأن الثواب حاصِل مِن حيث كانت المشقة لا بد مِن وقوعها لزوماً عن مجرد التكليف ، وبها حصل العمل المكلَّف بها ومِن هذه الجهة يَصِحّ أن تكون كالمقصودة لا أنها مقصودة مطلقاً ..
ودليل ذلك : أن الثواب يَحصل بسبب المشقات وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب : كما يثاب الإنسان على الصبر على المصائب والمشقات في قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّر اللَّهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِه } (3) .
ورتَّب الشاطبي ـ رحمَه الله ـ على ما تَقدَّم أن المشقة ليس لِلمكلَّف أن يَقصدها لِعِظَمِ أجْرِها ، وإنما له أن يَقصد العمل الذي يَعظُم أجْرُه لِعِظَم مشقته مِن حيث هو عمل .
وأرى أن الغاية فيهما واحدة ، هي : قصْد الأجر والثواب ، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَيَّن لِبني سلمة حينما أرادوا أن يبيعوا بيوتهم ويشتروا بدلاً
(1) سورة العنكبوت مِن الآية 69
(2) رواه مالك وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(3) رواه أحمد والبخاري ومسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما .
منها لِمقربة مِن المسجد ، فقال - صلى الله عليه وسلم - { بَنِي سَلَمَةَ .. دِيَارُكُمْ تَكْتُبُ آثَارَكُمْ ، دِيَارُكُمْ تَكْتُبُ آثَارَكُم } وفي رواية { إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خَطْوَةٍ دَرَجَة } (1) (2) .
(1) رواه أحمد ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .
(2) الموافقات 2/119 – 135 بتصرف وانظر : عِلم أصول الفقه لِخلاّف /137 – 140 وأصول الفقه لأبي زهرة /295 – 300
المطلب الرابع
أنواع القدرة عند الحنفية
قسم الحنفية القدرة التي يتمكن بها المكلَّف مِن أداء ما لزمه إلى نوعين :
النوع الأول : قدرة ممكنة أو حقيقية ..(1/221)
وهي : أدنى ما يتمكن به المأمور مِن أداء ما لزمه ، بدنيّاً كان ـ كالصلاة والصيام ـ أو ماليّاً ـ كالزكاة والصدقات ـ أو هما معاً : كالحج والجهاد .
وهذه القدرة مفسّرة بسلامة الآلات وصحة الأسباب ، وهي شرْط في أداء كل واجب فضلاً مِن الله تعالى ومنةً ، خلافاً لِلمعتزلة ؛ لأنه لا يجب على الله تعالى شيء ، فالأَصلَح غيْر واجب على الله تعالى .
وشرْط وجوب الأداء : كون القدرة على الأداء متوهم الوجود ، لا كونه متحقق الوجود ، أي لا يَلزم أن يكون الوقت الذي يَسَع أربع ركعات موجوداً متحقِّقاً في الحال ، بل يكفِي وهْمه ؛ لأن القدرة التي بُنِي عليها التكليف لا تسبق الفعل ، ولا بد مِن سبْق التكليف الفعل .
ولا يُشترَط بقاء هذه القدرة لِبقاء الواجب ؛ إذ التمكن على الأداء يستغني عن بقائها ، فلِذا لا تُشترَط لِلقضاء ..
فإذا مَلَك الزاد والراحلة فلم يحج فهَلَك المال لا يسقط عنه ؛ لأن الحج وجب بالقدرة الممكنة فقط ، والزاد والراحلة أَدنَى ما يتمكن به على هذا السفر غالباً ، والحج لا يجب أداؤه إلا بوجود الزاد والراحلة ؛ لأن التمكن
مِن السفر المخصوص بالحج لا يَحصل بدونهما غالباً .
ولا تجب الزكاة إلا بقدرة مالية ، حتى إذا هلك النصاب بعد الحول قبل التمكن مِن الأداء سقطَت بالإجماع .
وإذا بَلَغ الصبي أو أَسلَمَ الكفار أو طهرَت الحائض في آخِر الوقت مقدار ما يسَع تكبيرة الإحرام لزمه الصلاة ؛ لِتَوهُّم الامتداد في آخِر الوقت بوقف الشمس كما كان لِسليمان ـ عليه وعلى نبيِّنا أَفضَل الصلاة وأَتَمّ السلام ـ حيث عُرِضَت عليه بالعشي الصافنات الجياد فكادت الشمس تَغرب فضَرَب سوقَها وأعناقها ، فرَدَّ الله تعالى الشمس حتى صلى العصر وسخَّر له الريح مكان الخيل .
وقال زفر : لا يَلزمهم الأداء إلا أن يدركوا وقتاً صالحاً لِلأداء ؛ لِعدم الشرط وهو التمكن .
النوع الثاني : القدرة الميسِّرة ..
وهو : ما يوجب اليسر على الأداء .(1/222)
وهذا النوع زائد على الأول بدرجة رحمةً وكرامةً مِن الله تعالى .
ودوام هذه القدرة شرْط لِدوام الواجب ؛ لأنها شرْط في معنى العلة ومُغَيِّرة لِلواجب مِن العسر إلى اليسر تقديراً .
وهي كالنماء في الزكاة ، ولِهذا لا تجب الزكاة في هلاك النصاب بعد الحول بعد التمكن مِن الأداء ، فلم يبْقَ الوجوب ؛ لِعدم بقاء القدرة الميسِّرة .
ويرى الشافعي ـ رحمه الله ـ بقاء الوجوب وعدم سقوط الزكاة في هذه الحالة .
وقيَّدوا عدم الوجوب بالهلاك ؛ لأنها لا تَبطل بالاستهلاك ؛ لِتَعدِّيه على حق الفقراء .
وأرى أن الغاية فيهما واحدة ، وهي ضياع الزكاة وعدم وصولها لأصحابها وهم الفقراء ، ولِذا كان على الحنفية ألاّ يُفرِّقوا بين الهلاك والاستهلاك في ضياع الزكاة ، وأن يُسَلِّموا لِلشافعية بأنها في الحالتيْن حقٌّ لم يَصِلْ لِصاحبه ، فلا يسقط إلا بتلسيمه .
الفَرْق بين القدرتيْن في الحكْم :
والفَرْق بين القدرتيْن في الحكْم : أن القدرة الممكِّنة شرْط محض يتوقف أصْل التكليف عليها ، ولِذا فلا يُشترَط دوامها لِبقاء الواجب .
أمّا القدرة الميسِّرة فليسَت شرطاً محضاً حتى يتوقف التكليف عليها ، وإنما مغيِّرة لِصفة الواجب مِن مجرد الإمكان إلى صفة اليسر ، ولِذا كان بقاؤها شرطاً لِبقاء الواجب (1) .
(1) انظر : التوضيح مع التنقيح مع التلويح 1/370 - 374 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار لِلبخاري 1/408 - 431 وكشْف الأسرار لِلنسفي 1/99 - 109 وتيسير التحرير 2/144 - 148 وفتح الغفار 1/63 - 65 وشرح المنار لابن ملك /51 - 55 وحاشية نسمات الأسحار /49 - 52 والكليات /708
المطلب الخامس
الحقوق المكلَّف بها
لَمّا كان خطاب الشارع متعلِّقاً بفعل المكلَّف ـ وهو المحكوم به أو المحكوم فيه ـ فإنه قد ترَتَّب عليه حقوق لِله تعالى أو لِغيره ..(1/223)
ولِذا قال الشاطبي : كل حكْم شرعي ليس بخالٍ عن حق الله تعالى ، وهو جهة التعبد ، وفيه حق لِلعباد إمّا عاجلاً وإمّا آجلاً .
ولقد بحثتُ هذه الحقوق عند الأصوليين فوجدتُ أنّ أَكثَرَهم توسعاً فيها هم الحنفية (1) ، ثم نقّبتُ عن غيرهم فوجدتُ مَن نافَسَهم في ذلك : كالعز بن عبد السلام (2) ، وتبعه الزركشي (3) مِن الشافعية والشاطبي (4) والقرافي (5) والمكي (6) مِن المالكية .
ومِن خلال هذه الدراسة يمكن التوصل إلى أنّ معظَمهم قسموا الحقوق إلى أربعة أقسام :
الأول : حق الله تعالى الخالص .
الثاني : حق العباد الخالص .
(1) انظر : التوضيح مع التلويح 1/315 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار لِلبخاري 4/230 وتيسير التحرير 2/174
(2) انظر قواعد الأحكام 1/121
(3) انظر المنثور في القواعد 2/58
(4) انظر الموافقات 2/316
(5) انظر الفروق 1/140
(6) انظر تهذيب الفروق 1/157
الثالث : ما اجتمع فيه الحقان وحق الله تعالى هو الغالب .
الرابع : ما اجتمع فيه الحقان وغَلَب عليه حق العبد .
مع تَفاوُت في تفصيل ما يندرج تحتها .
كما رأيْنا انفراد العز بن عبد السلام في ذِكر حقوق البهائم والحيوان على الإنسان ، وكذا متعلقات الأحكام .
وعلى ضوء ما تَقدَّم فإنه يمكن لنا السير في هذا المطلب مقسَّماً على النحو التالي :
1- حقوق الله تعالى الخالصة .
2- حقوق العباد الخالصة .
3- ما اجتمع فيه الحقان وحق الله تعالى هو الغالب .
4- ما اجتمع فيه الحقان وحق العبد هو الغالب .
5- حقوق البهائم والحيوان .
6- متعلقات الأحكام عند العز بن عبد السلام .
ونفصِّل القول في كل واحد منها فيما يلي :
الحق الأول : حقوق الله تعالى الخالصة
والمراد بحق الله تعالى : كل فِعْل مطلوب مِن المكلَّف مختص بالله تعالى : كالعبادات أصولاً وفروعاً ، ومنه ما يتعلق بالصالح العامّ .(1/224)
ونُسِب هذا الحق لِله تعالى لِعِظَم خطرها وعموم نفْعها وتعظيماً لِشأنها لا أن الله تعالى منتفِع بها ، ولِذا ليس لِلإنسان أن يتنازل عن هذا الحق .
وهذه الحقوق وقفتُ منها على ثلاثة تقسيمات :
الأول : تقسيم الحنفية .
الثاني : تقسيم العز بن عبد السلام .
الثالث : تقسيم الزركشي .
ونفصِّل القول فيها فيما يلي :
التقسيم الأول : أقسام حقوق الله تعالى عند الحنفية ..
حصَر الحنفية حقوق الله تعالى في ثمانية حقوق :
الأول : عبادات خالصة ..
مثاله : الإيمان وفروعه ..
أمّا الإيمان فأصْلُه التصديق بالجَنان ، ويلحق به الإقرار باللسان وزوائد الأعمال .
وأمّا فروع الإيمان فهي العبادات : كالصلاة والصوم والحج والجهاد ، وسُمِّيَت " فروعاً " لأن صحتها مَبْنِيّة على حصول الإيمان ولا تُقبَل بدونه فلا صلاة لِمَن لا لإيمان له .
الثاني : عبادة فيها معنى المؤونة (1) ..
مثاله : صدقة الفطر ..
فهي عبادة ؛ لأنها صدقة ومطهرة لِلصائم مِن اللغو والرفث ، كما تُشترَط النية في أدائها ، وكلّها أمارات العبادة .
وفيها معنى المؤونة ؛ لأن وجوبها على المكلَّف بسبب رأس الغير كالنفقة كما وجب مؤنته .
ومعنى العبادة هنا راجح على المؤونة ، ولِذا لم يشترط لها كمال الأهلية المشروطة في العبادات الخالصة ، فوجبَت صدقة الفطر في مال الصبي والمجنون تغليباً لِجانب المؤونة ، خلافاً لِمحمد وزفر ؛ فإنهما غلَّبَا
(1) المؤونة : اسم لِمَا يتحمله الإنسان مِن ثقل النفقة التي ينفقها على مَن يليه مِن أهله وولده ..
التعريفات /210
جانب العبادة ، فلا تجب في مالهما (1) .
ومثالها عند الجمهور : الزكاة ؛ لأنها وجبَت على المكلَّف بسبب خارج عن ذاته ، وهو مِلْكُه لِلمال المستوفِي لِشروط الزكاة (2) .
الثالث : مؤونة فيها معنى القُرْبة ..
مثاله : زكاة الزروع والثمار ، والتي يجب فيها العشر أو نصف العشر ..(1/225)
والمؤونة فيه ؛ لأن سببه ـ العشر ـ الأرض النامية ، فباعتبار تَعلُّقه بالأرض هو مؤونة ، فيجب بسبب ما يخرج منها اعترافاً بفضل الله تعالى .
والقُربة ؛ لِوجوبها ابتداءً على المسلم ، كما أنها تُعطَى لأصناف محددة مع اشتراط النية في أدائها .
الرابع : مؤونة فيها معنى العقوبة ..
مثاله : الخراج على الأرض الزراعية ..
والمؤونة فيه ؛ لِتَعلُّقه بالأرض بسبب ما يخرج منها .
وأمّا العقوبة فلأن فيه معنى الذل والانقطاع بالزراعة عن الجهاد .
واعترَض البعض مِن المتأخِّرين على التمثيل بالخراج ، محتجِّين بأنّ وصْفَه بالعقوبة لا يتفق مع المقصود مِن وضعِه ؛ لأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اختار بقاء الأرض في أيدي أهلها مقابل هذا الخراج ، فكأنه وقف لِتلك الأراضي على مصالح المسلمين ، وهذه الغاية مِن تشريعه ، وليس
(1) انظر : التوضيح مع التلويح 2/318 وكشف الأسرار لِلبخاري 4/237 ، 238 وتيسير التحرير 2/176
(2) انظر أصول الفقه لِلخضري /30
عِقاب أصحاب هذه الأراضي (1) .
وقد مِلْتُ أولَ الأمر لِوجهتهم ورأيِهم ، لكني سألتُ نفسي : كيف فات ذلك فحولَ الحنفية وعلماءها ؟ الأمرَ الذي جعلني أعيد النظر وأدقق في هذه الجزئية مراتٍ ومراتٍ ، حتى أزال الله تعالى عني هذا اللبس ، واتضَح لنا ما يلي :
1- أنّ أرض الخراج تبقَى في يد أهلها حتى وإن أَسلَموا ، وتستمر خاضعةً لِحكْم الخراج مع إسلامهم ..
وفي ذلك يقول الصنعاني :" وأمّا الخراجية فمنها الأراضي التي فُتِحَت عنوةً وقهراً فمَنَّ الإمام عليهم وتَرَكَها في يد أربابها ، فإنه يضع على جماعتهم الجزية إذا لم يُسلِموا ، وعلى أراضيهم الخراج أَسلَموا أو لم يُسلِموا " ا.هـ (2) .
2- أن مالكي الأرض الخراجية حتى وإن أَسلَموا ليس واجباً عليهم الجهاد وإنما عليهم الاشتغال بالزراعة في أرضهم ..
ولِذا كان حرمانهم مِن الجهاد نوعاً مِن الذل ، وهو معنى العقوبة .(1/226)
وفي ذلك يقول البخاري :" فكان سبب وضْعِه ( الخراج ) الاشتغال بالزراعة ، وهو سبب الذل في الشريعة ؛ لِمَا في الاشتغال بالزراعة مِن عمارة الدنيا والإعراض عن الجهاد ، ولِكون الخراج متضمِّناً معنى العقوبة والذل لا يُبتدأ الخراج على المسلم " ا.هـ (3) .
(1) انظر : أصول الفقه لِلخضري /31 وأصول الفقه الإسلامي لِزكي الدين شعبان /258 ، 259 وأصول الفقه الإسلامي لِلزحيلي 1/154
(2) بدائع الصنائع 2/58
(3) كشف الأسرار لِلبخاري 4/239 بتصرف وانظر : التلويح مع التوضيح 2/318 وتيسير التحرير 2/178
ومما تَقدَّم كانت العقوبة في الخراج معنويةً ، وتمثيل الحنفية به عندي مقبول ووجيه .
الخامس : عقوبة فيها معنى العبادة ..
مثاله : الكفارات : ككفارة الظهار ، وكفارة اليمين ، وكفارة الفطر في نهار رمضان .
والعقوبة فيها ؛ لأنها وجبَت جزاء فِعل محظور .
وأمّا العبادة فلأنها تُدفَع لأصناف محدَّدة مع اشتراط النية في أدائها .
السادس : عقوبة كاملة ( وهي ما حَلَّ في نفس الجاني ) ..
مثاله : الحدود : كحد الزنا والسرقة وشرْب الخمر .
وهذه العقوبات حق لِله تعالى ؛ لأنها شُرِعَت لِصيانة الإنسان والأموال والعقول ، ولِذا لا يملك أحد إسقاطها أو التهاون في إقامتها .
ولم يفوض الشرعُ المكلَّفَ في إقامة شيء مِن العقوبات على نفسه أو غيره ، وإنما جَعَل ذلك حقّاً لِلإمام ( الحاكم ) خاصة .
السابع : عقوبة قاصرة ( وهي ما حَلّ في مال الجاني دون بدنه ) ..
مثاله : حرمان القاتل إرث المقتول ؛ فإن حرمانه حق لله تعالى ؛ لأن ما يجب لِغيره تعالى بالتعدي عليه فيه نفْع لِذلك الغير ، وهو هنا مقتول ، وليس في الحرمان نفْع لِلمقتول ، فتَعيَّنَ كونُه لله تعالى زجراً عن ارتكاب مِثل هذه الجرائم وحفظاً لِلنفس .
الثامن : حق قائم بذاته ..(1/227)
مثاله : خُمس الغنائم والمعادن ، فالغنائم كلها حق لله تعالى ، ولكنه عز وجل مَنَح المحارِبين أربعة أخماسها { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول } (1) ، وبقي الخُمس على مِلك الله تعالى حقّاً له ، ولِذا وجب أداؤه طاعةً ، وكذا المعادن وكلّ ما يُستخرَج مِن الأرض والبحار .
التقسيم الثاني : أقسام حقوق الله تعالى عند العز بن عبد السلام ..
قَسم العز بن عبد السلام حقوق الله تعالى إلى : المتفاوت ، والمتساوي ، والمختلَف فيه ..
أمّا الأول : وهو : تقديم حقوق الله تعالى بعضها على بعض عند تَعَذُّر جَمْعِها وعند تَيسُّره لِتفاوت مصالحها .
مثاله : تقديم الصلوات المفروضات على الصلوات المندوبات .
ومنها : تقديم النوافل المؤقَّتة التي شُرعَت فيها الجماعة ـ كالعيديْن والكسوفيْن ـ على الرواتب .
والثاني : ما تَساوَى مِن حقوق الرب جل وعلا ، فيتخير فيه العبد ..
مثاله : إذا كان عليه صوم أيام مِن رمضانيْن ، فإنه يتخير بينهما .
ومنها : إذا كان عليه شاتان منذورتان أو زكاتان ، فإنه يتخير .
والثالث : ما اختُلِف في تفاوته وتَساويه مِن حقوق الإله لاختلاف في تَساوي مصلحته وتَفاوتها ..
مثاله : العاري هل يصلي قاعداً مومياً بالركوع والسجود محافظةً على ستْر العورة ؟ أو يصلي قائماً مُتِمّاً لِركوعه وسجوده وقيامه لأنها أركان الصلاة والمحافظة عليها أَوْلى مِن المحافظة على ستْر العورة ؟
فيه خلاف ، والمختار عند العز إتمام الركوع والسجود .
والأَوْلى عندي الصلاة قاعداً ؛ ستراً لِلعورة وتأدباً لِلوقوف بين يدَيِ
(1) سورة الأنفال مِن الآية 41
الله عز وجل .
ومنها : إذا كان لابساً ثوباً طاهراً وهو في مكان نجس فهل يَبسط ثوبه ويصلي عليه تَوَقِّياً لِلنجاسة ؟ أو يصلي بثوبه على النجاسة تَوَقِّياً لِلعُرْي ؟ أو يتخير ؟
فيه أَوجُهٌ ثلاثة (1) .(1/228)
التقسيم الثالث : أقسام حقوق الله تعالى عند الزركشي ..
قسم الزركشي حقوق الله تعالى إلى أقسام ثلاثة :
الأول : عبادات محضة ..
يترتب عليها نيل الدرجات والثواب : كالصلاة والصيام والزكاة .
الثاني : عقوبات محضة ..
تتعلق بمحظورات هي عنها زاجرة .
الثالث : كفّارات ..
وهي مترددة بين العقوبة والعبادة ، وغالب الكفارات يكون عن المُحرَّمات (2) .
الحق الثاني : حقوق العباد الخالصة
وهو : ما كان نفْعُه راجعاً إلى المكلَّف ، فهو مختص بشخص معيَّن .
مثاله : حق الدية ومِلك البيع وحق استيفاء الدَّيْن .
وهذا الحق لِصاحبه أن يطلبه أو يُسقِطه أو يُحِلّه لِغيره .
وقد وقفتُ على ثلاثة تقسيمات لِحقوق العباد :
الأول : لِلعز بن عبد السلام .
(1) قواعد الإحكام 1/122 - 124 بتصرف وانظر المنثور 2/60 - 63
(2) المنثور 2/58 بتصرف .
والثاني : لِلشاطبي .
والثالث : لِمحمد المكي .
ونوجِز القول فيها فيما يلي :
التقسيم الأول : لِلعز بن عبد السلام ..
قسم العز بن عبد السلام حقوق العباد إلى تقسيميْن باعتباريْن مختلِفَيْن :
الأول : باعتبار حياتهم ومماتهم ..
وقَسَّم الحقوق بهذا الاعتبار إلى ضربَيْن :
الضرب الأول : حقوقهم في حياتهم .
الضرب الثاني : حقوقهم بعد مماتهم ، مِن أنواع إكرامهم وغسلهم وحمْلِهم وتكفينهم ودفْنِهم وتوجيههم إلى القِبلة والصلاة عليهم والدعاء لهم والزيارة والاستغفار .
والثاني : باعتبار التفاوت والتساوي ..
وقَسَّم الحقوق بهذا الاعتبار إلى قسمَيْن :
الأول : فيما يُقَدَّم مِن حقوق بعض العباد على بعض ؛ لِترجيح التقديم على التأخير في جلْب المصالح ودرْء المفاسد ..
مثاله : تقديم نفقة زوجه وكسوتها وسكناها على نفقة أصوله وكسوتهم وسكناهم .
ومنها : تقديم الأفاضل على الأراذل في الولايات .
الثاني : فيما يتساوى مِن حقوق العباد ، فيتخير فيه المكلَّف ؛ جمعاً بين المصلحتيْن ودفعاً لِلضرريْن ..(1/229)
مثاله : النفقات على الزوجات والعبيد والأولاد والآباء والأجداد
إذا وسعَتْهم النفقات .
ومنها : التسوية بين الزوجات في القسم والنفقات (1) .
التقسيم الثاني : لِلشاطبي ..
قسم الشاطبي التكاليف التي فيها حق العبد باعتبار النية إلى قسميْن :
الأول : ما يَصِحّ بدون نية ..
وهي : التي فهمْنا مِن الشارع فيها تغليب جانب العبد : كرَدّ الودائع والمغصوب ، والنفقات الواجبة .
الثاني : ما لا يَصِحّ إلا بِنِيَّة ..
وذلك : ما فهمْنا فيه تغليب حق الله تعالى : كالزكاة ، والذبائح ، والصيد (2) .
التقسيم الثالث : لِمحمد المكي ..
قسم المكي حق العبد إلى أقسام ثلاثة :
الأول : حق العبد على الله ..
وملزوم عبادته إياه أن يُدخِلَه الجنة ويُخلِّصه مِن النار .
الثاني : حق في الجملة ..
وهو : الأمر الذي يستقيم به أُولاه وأخراه مِن مصالحه .
مِثل : تحريم الخمر .
الثالث : حق العبد على غيره مِن العباد ..
وهو : ما له عليهم مِن الذمم والمَظالم : كالدَّيْن ، وثَمَن المبيع (3) .
(1) قواعد الأحكام 1/124 ، 125 بتصرف .
(2) الموافقات 2/316
(3) تهذيب الفروق 1/157
في ختام حقوق العباد يجب التنويه إلى أن هذه الحقوق الخالصة لهم لا بد وأن فيها حقّاً لله تعالى ، وكذلك حقوق الله تعالى الخالصة ؛ فإنها لا تخلو مِن مصلحة تَعود على المكلَّف إنْ عاجلاً أو آجلاً ..
وفي ذلك يقول الشاطبي :" إنّ كلّ حكْم شرعيّ ليس بخالٍ عن حق الله تعالى ، وهو جهة التعبد ، وإنّ كلّ حكْم شرعي ففيه حق لِلعباد إما عاجلاً وإما آجلاً " ا.هـ (1) .
الحق الثالث : ما اجتمع فيه الحقان وحق الله تعالى الغالب
مثاله : حدّ القذف ..
فإنه حق لِله تعالى ؛ لِتَعلُّقه بصيانة العِرض ودفْع العار المقذوف وإشاعة الفاحشة وانتشار الألفاظ المخِلّة بالآداب في المجتمَع الإسلامي .
وفيه حق لِلمقذوف ؛ لاتهامه في عِرضه ودِينه .(1/230)
لكنه غلب حق الله تعالى لِمَا تَقدَّم ، ولِذا فلا يحق لِلمقذوف إسقاط الحد أو التنازل عن حقه أو الصلح عليه ولا أن يتولى استيفاء الحد بنفسه .
الحق الرابع : ما اجتمع فيه الحقان وحق العبد الغالب
مثاله : القصاص مِن القاتل عمداً عدواناً ، وكذا عقوبات الدماء كلها بشكل عامّ قصاصاً كانت أم ديات ..
وحق الله تعالى فيه ؛ لأنه اعتداء على نفْس خَلَقها الله تعالى بغير حق وفيه صيانة لِلدماء وحِفظ لِلأنفُس ، وكلُّها مصالح تَعود بالنفع على المجتمع بأَسْره .
وحق العبد فيه ؛ لأنه اعتُدِي على شخصه ( المقتول ) ، وهو اعتداء على أولياء المقتول بحرمانهم مِن مورثهم واستمتاعهم بحياته .
(1) الموافقات 2/317 ، 318 بتصرف .
وهذا القصاص فيه شفاء لِصدورهم وإزالة حقْدِهم على القاتل ، ولَمّا كان القتل يتصل اتصالاً وثيقاً بشخص المجني عليه وبأوليائه ويمسّه ويمسّهم أكثر مما يمس المجتمع غلب حقهم ، فلأولياء القتيل العفو عن القاتل والتنازل عن الحكْم (1) .
الحق الخامس : حق البهائم والحيوان
أَورَدَ العز بن عبد السلام هذا الحق وحَصَرَه فيما يلي :
1- أن ينفِق عليها نفقة مِثلِها ولو زمنَت أو مرضَت بحيث لا يُنتفَع بها .
2- ألاّ يُحَمِّلها ما لا تطيق .
3- ألاّ يَجمع بينها وبين ما يؤذيها ـ مِن جنسها أو مِن غير جنسها ـ بكسر أو نطْح أو جرْح .
4- أن يُحسِن ذبْحها إذا ذبَحَها ، ولا يمزق جِلدَها ولا يَكسر عَظْمَها حتى تَبرد وتزول حياتها .
5- ألاّ يذبح أولادها بمرأى منها .
6- أن يفردها ويُحسِن مَباركها وأعطانها .
7- أن يَجمع بين ذكورها وإناثها في إبان إتيانها .
8- أن لا يخذف صيدها ولا يرميه بما يَكسِر عَظْمَه أو يُرْدِيه بما لا يحلل لحْمه (2) .(1/231)
(1) تراجَع الحقوق في : التوضيح مع التلويح 1/315 - 323 والبزدوي مع كشف الأسرار لِلبخاري 4/230 - 370 وتيسير التحرير 2/174 - 181 وقواعد الأحكام 1/121 - 128 والمنثور في القواعد 2/58 - 67 والفروق 1/140 - 142 والموافقات 2/316 - 320 وتهذيب الفروق 1/157 ، 158 وشرح طلعة الشمس 2/240 - 244 وأصول الفقه لِلخضري /29 - 32 وأصول الفقه لأبي زهرة /302 - 304 وأصول الفقه الإسلامي لِزكي الدين شعبان /256 - 262 وأصول الفقه الإسلامي لِلزحيلي 1/152 - 157 والوجيز في أصول الفقه لِزيدان /82 - 86
(2) قواعد الأحكام 1/121 بتصرف .
ولقد أَحسَنَ العز صنعاً حينما نَصَّ على هذا الحق الذي قد يظن البعض حينما يرى الغرب اليوم وغير المسلمين يرفعون شعار الرفق بالحيوان أنهم سَبَقُونا بذلك أو أن الحيوان قد أَخَذ عنايةً عندهم أَكثر مما عندنا ..
ويكفي أن نَرُدّ على هؤلاء : بأن شريعتنا جعلَت سقاية كلب عاطش سبباً في دخول رجل الجنة ؛ ففي الحديث { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ ، فَوَجَدَ بِئْراً فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ مِنْهَا ، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ ، فَقَالَ :" لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبُ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ بِي " ، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهَ مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَ بِفِيهِ ثُمَّ رَقَى فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ ، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْر } (1) ..
وفي المقابل حذرَت مِن تعذيب الحيوان أو إيذائه حينما جعلَت مصير حابس هرَّةٍ النارَ ؛ ففي الحديث { دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ ؛ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ ، حَتَّى مَاتَت } (2) .(1/232)
ولقد كان في أيام الإسلام السالفة أنواع مِن الوقف ما زالت يسجلها التاريخ باسم " وقْف الكلاب الضالة " لِينفق منها على كل كلب ضالّ ليس له صاحِب يطعمه .
متعلقات الأحكام عند العز بن عبد السلام
لَمّا كنتُ مشتغِلاً بالبحث في الحقوق وأقسامها وجدتُ بحثاً فريداً في هذا المقام لِلعز بن عبد السلام في كتابه " قواعد الأحكام " ، وهو منهج لم أَقِف عليه عند غيره ، ولِذا أردتُ أن أذَيِّل به هذا المطلب ؛ حتى
(1) رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) رواه البخاري ومسلم وابن ماجة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
لا يُحرَم مصنَّفي هذا مِن بَرَكة الفيوضات الإلهية التي بدت في هذا التقسيم السديد لِمتعلقات الأحكام ، والتي قسّمها إلى سبعة متعلقات ، وهي :
1- القلوب .
2- الأبدان .
3- الجوارح .
4- الحواس .
5- الأموال .
6- الأماكن .
7- الأزمان .
وسأوجِز ـ بإذن الله تعالى ـ الحديث في كل واحد منها فيما يلي :
الأول : القلوب ..
والقلوب يتعلق بها حقان : حقوق الله تعالى ، وحقوق العباد .
ومثالها : معرفة ذاته تعالى وصِفاته ، والرضا بالقضاء والتوبة ، أمّا تَعلُّقها بحقوق العباد فكلها وسائل كالنيات .
الثاني : الأبدان ..
وهو قسمان :
القسم الأول : المقاصد : كالقيام في الصلاة والطواف والاعتكاف والسعي .
القسم الثاني : الوسائل : كالمشي إلى الجماعات والجمعات ، والمشي إلى عيادة المريض .
الثالث : الجوارح ..
وجوارح الإنسان عديدة ، أهمها :
اللسان : فيتعلق به مِن الواجبات والمندوبات والمُحرَّمات والمكروهات
ما لا يتعلق بغيره مِن الجوارح : كالتلفظ بالإيمان والذكر وقراءة القرآن ، والتلفظ بالكفر وشهادة الزور .
الشفاه : ويتعلق بها التقبيل المحمود : كالحجر الأسود وتقبيل أيدي العلماء والوالدين والإمام العادل ، والمذموم : كتقبيل الأجنبيات .(1/233)
العيون : فيتعلق بها غسْلها مِن الأنجاس دون الأحداث .
الآذان : فيتعلق بها الأغسال الواجبة والمندوبة والمسح في الوضوء .
الوجوه : فيتعلق بها الإيجاب والندب : كالسجود على الجبهة والأطراف في الصلاة ، والبشاشة عند لقاء المسلم ، وتحريم سَتْرها على النساء في الإحرام .
الأيدي : فيتعلق بها كل بطْش أُمِر به في سبيل الله ، والرجم ، والجَلْد ، والرفع في التكبيرات .
الأرجُل : فيتعلق بها المشي إلى المساجد والجهاد والجنائز ، وفي الحرام : كالمشي إلى المُحرَّم .
الفروج : فيتعلق بها تحريم كشْفها إلا مِن عذر ، والختان ، وانتقاض الطهارة بمسّها .
الرابع : الحواس ..
وهي خمس :
حاسة البصر : ويتعلق بها الإيجاب : كالحراسة في سبيل الله تعالى ، والاستحباب : كالنظر إلى الكعبة ومخلوقات الله تعالى ، والتحريم : كالنظر إلى السوءات بغير عذر ، والكراهة : كنظر الإنسان إلى سوأته ، والإباحة : كالنظر إلى الزوجة والمناظر الحسنة .
حاسة السمع : ويتعلق بها الإيجاب : كالاستماع إلى الخُطَب الواجبة ،
والندب : كالاستماع إلى القرآن ودروس العلم ، والتحريم : كاستماع المحرَّمات ، والكراهة : كاستماع الملاهي المكروهات ، والإباحة : كاستعمال المباح : كأصوات الأطيار الطيبة ونشد الأشعار المطرِبة .
حاسة الشم : ويتعلق بها الإيجاب : كشَمّ الشهود بأمر الحاكم لِلشهادة ، والندب : كشمّ ما فيه شفاء مِن الأمراض ، والتحريم : كشمّ الطِّيب حالة الإحرام ، والكراهة : كشمّ الأدهان المُضِرّة ، والإباحة : كشمّ الطِّيب .
حاسة الذوق : فلا يذوق بها حراماً ولا مكروهاً ، ويذاق بها الطعام المندوب إلى أكْلِه : كطعام الولائم .(1/234)
حاسة اللمس : ويتعلق بها الإيجاب : كلمْس المصلَّى بالجباه ، والندب : كلمس المصلَّى بالأنوف والأَكُفّ وتقبيل الوالديْن وأكابر الأولياء والعلماء ، والتحريم : كلمس عورات الأجانب ، والكراهة : كلمس الفروج بالأيمان ، والإباحة : كلمس الزوجات .
الخامس : الأموال ..
والأموال تتعلق بها مصالح العباد في الدنيا والآخرة ، ولِذا أباح الشارعُ البيعَ والشراءَ والإجارةَ ونحوها ، كما أَوجَبَ الزكاة ، ونَدَب إلى الصدقات والوصايا ، وحرَّم الإسراف والتبذير وأخْذ الأموال إلا بحقها .
السادس : الأماكن ..
ويتعلق بالأماكن طاعات مالية : كالهدايا ودماء القربات : كدم التمتع والقران ، وبدنية : كالاعتكاف والمناسك : كالطواف والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ورمْي الجمار بمِنَى .
السابع : الأزمان ..
ويتعلق بها الطاعات : كالصلوات المفروضة في وقتها المحدَّد والصيام
المفروض في شهر رمضان ، والصيام المندوب : كصيام الاثنين والخميس والأيام البيض وعرفة وعاشوراء ، والحج في الأشهُر المعلومات (1) .
(1) انظر : قواعد الأحكام 1/143 - 172
المبحث الثاني
المحكوم عليه
والمقصود بالمحكوم عليه : المكلَّف الذي تَعلَّقَ به التكليف .
والحديث في هذا المقام يستدعي بيان ستة مطالب ، هي :
المطلب الأول : شروط المحكوم عليه .
المطلب الثاني : أقسام الأهلية وعوارضها .
المطلب الثالث : تكليف الغافل .
المطلب الرابع : تكليف المعدوم .
المطلب الخامس : تكليف الكفار .
المطلب السادس : الإكراه .
ونفصل القول في كل مطلب منها فيما يلي ..
المطلب الأول
شروط المحكوم عليه
لقد حَصَر الزركشي شروط المكلَّف في سبعة ، وهي :
الشرط الأول : الحياة ..
فالميت لا يكلَّف .
الشرط الثاني : كوْنُه مِن الثقلين ( الإنس والجن ) والملائكة ..
فلا تكليف على البهائم والجمادات .
الشرط الثالث : البلوغ ..
فالصبي لا يكلَّف ؛ لقصور فهْمِه عن إدراك معاني الخطاب .(1/235)
ودليله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ : عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيق } (1) ، فلا مؤاخذة ولا إثم عليه .
أمّا وجوب الضمانات والزكوات ونفقات الأقارب فإنها ليست متعلقةً بفِعل الصبي ، وإنما هي متعلقة بما له أو ذمته ، فليست أحكاماً تكليفيّةً ، وإنما هي أحكام وضعية ، مِن قبيل ربْط الأحكام بالأسباب ..
ولِذا تثبت هذه الحقوق في ذمة الصبي ، بمعنى مخاطبة الولي في الحال بالأداء ، ومخاطبة الصبي بعد البلوغ .
أمّا أمْر الصبي بالصلاة فإن الخطاب في قوله - صلى الله عليه وسلم - { مُرُوهُمْ بِالصَّلاَةِ
(1) رواه الترمذي وابن ماجة عن علي كرَّم الله وجهه .
وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْع } (1) فإنه موجَّه إلى الولي ؛ لأنه أهل التكليف (2) .
الشرط الرابع : العقل ..
فالمجنون لا يكلَّف إجماعاً .
الشرط الخامس : الفهم ..
فالإتيان بالفعل على سبيل القصد والامتثال يتوقف على العلم به ، ولا يتحقق ذلك إلا بالفهم ؛ ولِذا فيمتنع تكليف الغافل : كالنائم والناسي والسكران .
الشرط السادس : الاختيار ..
فيمتنع تكليف المُلجأ ، وهو مَن لا يجد مندوحةً عن الفعل ، مع حضور عقله : كمن يُلقَى مِن شاهق ، فهو لا بد له مِن الوقوع ، ولا اختيار له فيه ولا هو بفاعل له ، ومِثله المضطر والمُكْرَه .
الشرط السابع : عِلم المخاطَب بكونه مأموراً ..
أن يَعلم المخاطَب كوْنُه مأموراً قبْل زمَن الامتثال ؛ حتى يتصور منه قصْد الامتثال ، وإن لم يَعلم وجود شرْطه وتَمَكُّنه في الوقت (3) .
(1) رواه أبو داود والحاكم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .
(2) انظر : البحر المحيط 1/344 - 348 ومنتهى السول 1/36 والمستصفى 1/84 والإبهاج 1/56
(3) البحر المحيط 1/349 - 365 بتصرف .
المطلب الثاني
أقسام الأهلية وعوارضها(1/236)
والحديث في هذا المطلب يقتضي الحديث عن :
أولاً : أقسام الأهلية .
ثانياً : عوارض الأهلية .
أولاً : أقسام الأهلية
والأهلية ـ كما عرَّفها علاء الدين البخاري ـ هي : عبارة عن صلاحيته ـ أي الإنسان ـ لِوجوب الحقوق المشروعة له وعليه (1) .
وهُما قسمان : أهلية وجوب ، وأهلية أداء .
ونوجز القول فيهما فيما يلي :
أهلية الوجوب :
ومعناها : صلاحية الإنسان لِوجوب الحقوق المشروعة له ، وهذه تَثبت له بمقتضى إنسانيته .
وهي قسمان :
أ- ناقصة : وهذه تَثبت لِلجنين في بطن أمه .
ب- كاملة : وهذه تكون بانفصال الجنين حيّاً ، وبهذه الحياة وبمجرد وجوده كإنسان يكون أهلاً لأن تجب له حقوق : كميراث ووصية ، ويجب عليه بعض الحقوق ، نحو : النفقة .
(1) كشف الأسرار لِلبخاري 4/393
أهلية الأداء :
ومعناها : صلاحية الإنسان لِصدور الفعل منه على وجه يُعتَدّ به شرعاً .
ومناطها هو العقل وكماله ، فإن كمل كملَت ، وإن نقص نقصَت .
والإنسان مع هذه الأهلية له أدوار ثلاثة :
الدور الأول : مِن الولادة إلى سن التمييز ..
وهذا الصبي لا تصح منه التصرفات الشرعية ، وتثبت له أهلية الوجوب كاملة ، فيرث وتجب النفقة كاملةً ، فهو عديم أهلية الأداء ، ونظيره المجنون .
الدور الثاني : مِن سنِّ التمييز ( سبع سنين ) إلى البلوغ ..
وهذا الصبي ـ أيضاً ـ له أهلية وجوب كاملة ، أمّا أهلية الأداء فهي في حقه ناقصة .
الدور الثالث : البلوغ ..
وهذا الإنسان له أهلية كاملة في الوجوب ، وله أهلية كاملة ـ كذلك ـ في الأداء ، إلا أن يعترضها عارِضٌ مِن عوارض الأهلية فيُنقِصها .
أمّا الجنين في بطن أمه فإن له أهلية وجوب ناقصة ، فيَثبت له بعض الحقوق : كالوصية والميراث ، ولا يجب عليه شيء .
ومما تَقدَّم يتضح أن كلاًّ مِن أهلية الوجوب والأداء قسمان : ناقصة وكاملة ..
فأهلية الوجوب الكاملة : وهذه تَثبت لِكلّ إنسان ، فهو صالح لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات .(1/237)
وأهلية الوجوب الناقصة : وهذه تَثبت لِلجنين في بطن أمه ، فتثبت له
حقوق ، ولا تجب عليه واجبات .
وأهلية الأداء الكاملة : وهذه تَثبت لِكلّ بالغ عاقل .
وأهلية الأداء الناقصة : وهذه تَثبت لِلصبي المميِّز والمعتوه العاقل (1) .
(1) انظر : أصول السرخسي 2/332 - 353 وفواتح الرحموت 2/156 - 177 وشرح التوضيح مع التلويح 2/161 - 166 والوجيز /105 وشرح المنار لابن ملك /333 - 335 وشرح إفاضة الأنوار /250 ، 251 وعلم أصول الفقه لِخلاّف /143 - 145
ثانياً : عوارض الأهلية
والمراد بعوارض الأهلية هي : الأمور المعترضة على الأهلية ، فتمنع تَعَلُّق الأحكام بها ( الأهلية بنوعيها ) أو بأحدهما ، أو توجِب تغييراً في بعض أحكامهما .
وهذه العوارض قسمان : عوارض سماوية ، وعوارض مكتسبة ..
العوارض السماوية :
وهي : ما لم يكن لِلعبد فيها اختيار واكتساب .
وهي أحد عشر عارضاً :
الأول : الجنون ..
وهو : اختلاط العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادراً ، وهو مُسقِط لِلعبادات كلها ، دون حقوق العباد : كالديات والأمانات .
والجنون يُسقِط أهلية الأداء ، فلا تصح تصرفات المجنون ، وله أهلية الوجوب كاملة .
الثاني : الصِّغَر ..
وهو في أول أحواله كالجنون ، فإذا عقل بعد ذلك كان له أهلية أداء قاصرة .
وتصرفات الصبي المميِّز أقسام ثلاثة :
* تصرفات نافعة نفع محض ..
نحو : قبول الهبة والصدقة .
وهذه جائزة .
* وتصرفات ضارة ضرر محض ..
نحو : الهبة والعتق .
وهذه غير جائزة .
* وتصرفات مترددة بينهما ( النفع والضرر ) ..
نحو : النكاح والبيع .
وهذه تتوقف على إذن الولي ، ويسقط عنه التكليف والعهدة ، ولا تسقط عنه حقوق العباد .
الثالث : العته ..
وهو : آفة توجِب خَلَلاً في العقل ، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء ، وبعض آخَر يشبه كلام المجانين ، وكذا سائر أموره .(1/238)
والعته يُنقِص أهلية الأداء ، ويكون حكْم تصرفات المعتوه حكْم تصرفات الصبي المميِّز .
الرابع : النسيان ..
وهو : عدم الاستحضار في وقت حاجته ، ومنه السهو ..
وفي " التحرير " لا فَرْق بينهما لغةً ..
وقيل : السهو : زوال الصورة عن المدركة ، مع بقائها في الحافظة ..
والنسيان : زوالهما معاً ، فيحتاج حينئذٍ في حصولها إلى سبب جديد .
والنسيان لا ينافي وجوب الأداء في حقوق الله تعالى ، فمَن نسي صلاةً لا يسقط عنه وجوبها ، ويجب عليه قضاؤها عند ذِكرها .
لكن إن كان النسيان غالباً في حقوق الله تعالى ـ لِكثرته في الصيام أكلاً والتسمية في الذبيحة وسلام القَعدة الأولى ـ فإنه يُعَدّ مِن أسباب العفو في حقه تعالى ، فصومه وصلاته صحيحة ، وذبيحته جائزة فتؤكَل .
أمّا حقوق العباد فلا يُعَدّ النسيان سبباً لِلعفو منها ، وإنما يجب ضمان
ما أَتلَفَه الناسي ؛ لأنها حقوقهم محترمة لحقهم ، وليس فيها ابتلاء كما في حقوق الله تعالى .
الخامس : النوم ..
وهو : عجْز عن الإدراكات ، أي الإحساسات الظاهرة ـ إذ الحواس الباطنة لا تسكن في النوم ـ وعن الحركات الإرادية ، أي الصادرة عن قصد واختيار .
والنوم لا يُسقِط الوجوب ، وإنما يوجِب تأخير الخطاب لِوقت الأداء بِلا حرج ..
دليله : حديث { مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتَهَا } .
وعبارة النائم باطلة ؛ لِعدم الاختيار ، فلا يقع طلاقه أو رِدَّته أو عتْقه أو تَكلُّمه في صلاته .
السادس : الإغماء ..
وهو : تعطيل القُوَى المُدرِكة والمُحَرّكة حركةً إراديّةً بسبب مرض يَعرِض لِلدماغ أو القلب .
والإغماء فوق النوم في سلْب الاختيار وتَعطُّل القُوَى .(1/239)
وحكْمه : حكْم النوم مِن تأخير الخطاب وإبطال العبادات ، ويزيد الإغماء في أنه يُعَدّ حدثاً ، فتبطل الصلاة به ، ويمنع بناء ما بقي مِن الصلاة بعد الإقامة على ما قبله إذا وقع خلالها ، بخلاف النوم في الصلاة مضطجعاً ؛ فله البناء ، وفي الصوم والزكاة لا يُعتبَر ؛ لأنه يندر وجوده شهراً أو سَنَةً (1) .
(1) انظر : تيسير التحرير 2/266 وشرح التوضيح 2/177 وشرح الكوكب المنير 1/511
السابع : الرِّق ..
وهو : عجْز حُكْمِيّ عن الولاية والشهادة والقضاء ومالكية المال وغيرها .
والرقيق لا يكون أهلاً لِلولاية والشهادة والقضاء ، ولا يكون أهلاً لِلتملك والتصرفات المالية مِن بيع وشراء وهبة وغيرها (1) .
الثامن : المرض ..
وهو لا ينافي الأهلية ، لكنه لِمَا فيه مِن العجز شُرعَت العبادات فيه لِلقدرة الممَكِّنة ..
ولَمّا كان سبب الموت ـ وهو علة الخلافة ـ كان سبب تَعلُّق الوارث والغريم ، فيوجِب الحجْر إذا اتصل بالموت .
التاسع والعاشر : الحيض والنفاس ..
وهما لا يعدمان الأهلية ، إلا أنّ وجود أحدهما مانعٌ لِتَحقُّق شرْط الطهارة في الصلاة والصيام ، فيفوت الأداء بهما ، ويسقط أصْل الصلاة لِلحرج لا الصوم ، فيقضى هو لا هي .
الحادي عشر : الموت ..
وهو : عجْز ليس فيه جهة القدرة بوجه .
وهو ينافي أحكام الدنيا مما فيه تكليف ؛ لأنه يعتمد القدرة ، والموت ينافيها ، مع تفصيل في حكْم التصرفات والحقوق التي تعلقَت بالمكلَّف قبل وفاته (2) .
(1) انظر : شرح التوضيح 2/170 وشرح طلعة الشمس 2/251
(2) انظر : الوجيز /112 وشرح التوضيح 2/177 وشرح إفاضة الأنوار /256 ، 257 وشرح ابن العيني وشرح المنار لابن ملك /351
العوارض المكتسبة :
وهي : العوارض التي يكون لِلعبد فيها مدخل واختيار .
وهي قسمان :
القسم الأول : وهي : العوارض التي تكون مِن اكتساب المكلَّف واختياره .
وهي العوارض التالية :
الأول : الجهل ..(1/240)
وهو : اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به .
وأنواعه أربعة :
النوع الأول : جهْل باطل بِلا شبهة ، لا يَصلُح عذراً في الآخرة ..
نحو : الكفر مِن الكافر .
النوع الثاني : جهْل دون جهْل الكافر ، ولا يصلح عذراً في الآخرة ؛ لِلأدلة القطعية ..
نحو : جهْل صاحب الهوى في صفات الله تعالى وأحكام الآخرة .
النوع الثالث : جهْل يَصلح شبهة ..
نحو : الاجتهاد الصحيح ، بشرط أن لا يخالف الكتاب أو السُّنَّة .
النوع الرابع : جهْل يَصلح عذراً ..
نحو : جهْل مَن أَسلَمَ في دار الحرب ، فإنه يكون عذراً له في الشرائع (1) .
الثاني : السُّكْر ..
وهو : سرور يغلب على العقل بمباشرة أسبابه ، فيمنعه عن العمل
(1) انظر شرح التوضيح مع التلويح 2/182 - 185
بموجب عقله ، مِن غير أن يزيله .
والسُّكْر له طريقان :
الطريق الأول : طريق مباح ..
نحو : شرْب الدواء ، وشرْب المُكْرَه والمضطر .
وحكْمه حكْم الإغماء ، فيمنع صحة الطلاق والعتاق وسائر التصرفات .
الطريق الثاني : طريق محظور ..
وهو : شرْب المُسكِر متعمداً باختياره غير مضطر (1) .
وحكْم السكْر في هذه الحالة سيأتي تفصيل القول فيه ـ بإذن الله تعالى ـ في مطلب تكليف الغافل .
الثالث : الهزل ..
وهو : أن يراد بالشيء ما لم يوضَع له ولا ما صلح له اللفظ استعارة .
وحكْمه : أنه لا ينافي الأهلية ، أي أهلية صحة العبادة ووجوب الأحكام والرضا بالمباشرة ؛ لأن الهازل يتكلم بما هزل به عن اختيار ورضاء ، فتصح تصرفاته ، ومنها النكاح ..
بدليل : حديث { ثَلاَثٌ هَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالْيَمِين } وفي رواية { ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَة } (2) .
الرابع : السَّفه ..
وهو : خفة تعتري الإنسان فتَحمِله على العمل بخلاف موجب العقل والشرع ، مع قيام العقل حقيقة .
(1) انظر : الإبهاج 1/155 وشرح الكوكب المنير 1/505 والمسوّدة /35(1/241)
(2) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
وحكْمه : أنه لا ينافي الأهلية ، ولا يضع شيئاً مِن أحكام الشرع ، ولا يوجِب وضْع الخطاب بحال ..
وأَجمَعوا أنه يُمنَع مِن ماله في أول ما بلغ بالنص ؛ قال جل وعلا { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَلَكُم } (1) .
واختلَفوا في حكْم الحَجْر على السفيه (2) .
الخامس : السفر ..
وهو لا ينافي الأهلية بوجهٍ ولا شيئاً مِن الأحكام ، لكن الشارع جَعَلَه سبباً مِن أسباب التخفيف ، فرخَّص فيه : قصْر الصلاة الرباعية ، والجمع تقديماً وتأخيراً ، والفطر في حق الصائم ، مع تفصيل في شروط هذا السفر عند الفقهاء .
السادس : الخطأ ..
وهو : أن يفعل فعلاً مِن غير أن يقصد قصداً تامّاً : كما إذا رمى صيداً فأصاب إنساناً .
وحكْمه : أنه يَصلح عذراً في سقوط حق الله تعالى إذا حصل عن اجتهاد ، والمؤاخذة به جائزة عقلاً عند أهل السُّنَّة ، خلافاً لِلمعتزلة ..
ولِذا سُئِل سبحانه وتعالى عدم المؤاخذة به ، قال تعالى { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } (3) ؛ إذ الممتنع عقلاً لا يُسأَل عدمُه .
ولقد جَعَلَه الشارع عذراً في إسقاط حقه إذا اجتهد المجتهد ؛ ففي الصحيحين { إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ
(1) سورة النساء من الآية 5
(2) انظر : أصول البزدوي مع كشف الأسرار لِلبخاري 4/582 - 602 وشرح المنار لابن ملك /360
(3) سورة البقرة من الآية 286
فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْر } (1) .
وجَعَلَه الشارع شبهةً دارئةً في العقوبات فلا يؤاخَذ بحد ، وجَعَله سبباً لِلتخفيف في القتل فوجبت الدية ، ولِكونه عن تقصير في التثبت وجب به ما تَرَدَّدَ بين العبادة والعقوبة مِن الكفارة ، ويقع طلاقه عند الحنفية ، وينعقد بيعه فاسداً عندهم .(1/242)
أمّا حقوق العباد فإنه يضمن المتلفات فيها : كما لو رمى إلى شاة إنسان على ظن أنها صيد .
والمراد مِن قوله - صلى الله عليه وسلم - { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْه } (2) حكْم الآخرة ورفْع المؤاخذة والتأثيم ، لا حكْم الدنيا (3) .
القسم الثاني : وهي : العوارض التي تُكْتَسَب مِن غير ذلك المكلَّف ، فتقع مِن مكلَّف آخَر ، وهذا وجْه اكتسابها ..
وهذا القسم محصور في الإكراه ، وهو : حَمْل الغير على ما لا يرضاه مِن قول أو فعل (4) ..
وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيل القول فيه في مطلب مستقل .
(1) رواه الستة وأحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) رواه ابن ماجة وابن حبان والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(3) انظر : تيسير التحرير 2/305 - 307 وشرح المنار لابن ملك /369 وشرح التوضيح 2/195
(4) التحرير مع التيسير 2/307
المطلب الثالث
تكليف الغافل
والحديث في تكليف الغافل سيكون على النحو التالي :
أولاً : المراد بتكليف الغافل .
ثانياً : مَن ينطبق عليه وصْف الغافل .
ثالثاً : الأصل الذي فُرِّع عليه تكليف الغافل .
رابعاً : مذاهب الأصوليين في تكليف الغافل .
خامساً : أدلة المذاهب .
سادساً : تعقيب وترجيح .
سابعاً : ما يتفرع على تكليف الغافل .
أولاً : المراد بتكليف الغافل
معنى الغافل :
الغافل : اسم فاعل مِن " غفل " .
والغفلة لغةً : عدم إدراك الشيء مع وجود ما يقتضيه (1) ..
وغيبة الشيء عن بال الإنسان وعدمُ تَذكُّره له ..
وقد استُعمِل فيمن تَرَكه إهمالاً وإعراضاً : كما في قوله تعالى { وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُون } (2) (3) .
(1) انظر الكليات /506
(2) سورة الأنبياء مِن الآية 1
(3) انظر المصباح المنير 2/449 ، 450(1/243)
والغفلة عند الفقهاء : ضد الفطانة ، فالمغفَّل : مَن اختَلّ ضبْطُه وحفْظُه ، ولا يهتدي إلى التصرفات الرابحة ، فيُغبَن في البيوع ؛ لِسلامة قلبه وعدم استعماله القوة المنبِّهة مع وجودها (1) .
والغفلة عند الأصوليين : عدم الدراية والإدراك .
ولِذا عرَّف الجلال المحلِّيّ الغافل بأنه : مَن لا يدري : كالنائم والساهي (2) .
معنى تكليف الغافل :
وعلى ضوء ما تَقدَّم مِن بيان معنى التكليف وبيان معنى الغافل يكون معنى تكليف الغافل : إلزام الشارعِ المكلَّفَ الذي لا يدري ولا يَفهم خطابَ التكليف المقتضِي لِطلب الفعل أوْ ترْكه .
ثانياً : مَن ينطبق عليه وصْف الغافل
إذا كان الغافل هو الذي لا يدري ولا يَملك قدرةً على فهْم الخطاب فإنه يندرج تحته المجنون والصبي والناسي والساهي والنائم والمغمَى عليه والسكران وكلُّ مَن لا يَعلم المأمورَ به والمنهيَّ عنه ..
أمّا المجنون والصبي فإن جمهور الأصوليين ذهبوا إلى أنهما ليسا أهلاً لِلتكليف (3) .
وفي ذلك يقول الشيرازي :" الصبي والمجنون لا يدخلان في التكليف ؛
(1) انظر الموسوعة الفقهية 31/260
(2) انظر : شرح المحلي على جمع الجوامع مع البناني 1/68 والكوكب الساطع 1/76 وغاية الوصول /8
(3) انظر : الإحكام لِلآمدي 1/138 وكشف الأسرار لِلبخاري 4/437 ، 438 والتوضيح مع التلويح 1/349 وشرح مختصر الروضة 1/180 وشرح الكوكب المنير 1/449 وفواتح الرحموت 1/143 وشرح طلعة الشمس 2/248
لأن الشرع وَرَد برفع التكليف عنهما ، ولأن المجنون زائل العقل ، والتكليف مع زوال العقل مُحال " ا.هـ (1) .
ويقول الغزالي :" وشرْطُه ( المكلَّف ) أن يكون عاقلاً يفهم الخطاب ، فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة ، بل ولا خطاب المجنون والصبي الذي لا يميِّز ؛ لأن التكليف مقتضاه الطاعة والامتثال ، ولا يمكن ذلك إلا بقصد الامتثال ، وشرْط القصد العلم بالمقصود والفهم لِلتكليف " ا.هـ (2) .(1/244)
ويقول ابن السبكي :" اتفق الكل ـ حتى القائلون بجواز التكليف بما لا يطاق ـ على أنه يُشترَط في المأمور أن يكون عاقلاً يفهم الخطاب
أو يتمكن مِن فهمه ، فعلى هذا لا يَجوز أمْر الجماد والبهيمة ؛ لِعدم العقل والفهم وعدم استعدادهما ، ولا أمْر المجنون والصبي الذي لا يميِّز ؛ لِعدم العقل والفهم التامَّيْن " ا.هـ (3) .
ومما تَقدَّم يتضح أن المجنون والصبي لا ينطبق عليهما وصْف الغافل ؛ لِعدم تَحقُّق شرْط التكليف فيهما ، وهو العقل وفهْم الخطاب .
أمّا الناسي والنائم والمغمَى عليه والسكران فإنها أصناف تشترك مع الغافل في الصفة ، وهي عدم الإدراك .
ثالثاً : الأصل الذي فُرِّع عليه تكليف الغافل
لقد فرَّع كثير مِن الأصوليين (4) تكليف الغافل على التكليف بما لا يطاق أو التكليف بالمُحال ..
(1) شرح اللمع 1/265
(2) المستصفَى 1/83
(3) الإبهاج 1/154 بتصرف .
(4) انظر : الإبهاج 1/154 والتمهيد لِلإسنوي /112 وشرح العضد 2/15 ونهاية السول 1/183 وشرح المحلي مع البناني 1/70 ، 71
وفي ذلك يقول الفخر الرازي :" واعلم أن الكلام في هذه المسألة يتفرع على نفْي تكليف ما لا يطاق " ا.هـ (1) .
ويقول البيضاوي :" لا يُجوِّز تكليف الغافل مَن أحال تكليف المُحال " ا.هـ (2) .
ويقول الزركشي :" لا يَجوز تكليف الغافل : كالنائم والناسي ، ومنهم مَن جوَّزَه ، والخلاف ينبني على التكليف بالمُحال : فمَن أحاله مَنَع تكليف الغافل ، ومَن جوَّزه اختلف قوله فيه " ا.هـ (3) .
رابعاً : مذاهب الأصوليين في تكليف الغافل
أولاً – تحرير محلّ النزاع في تكليف الغافل :(1/245)
اتفق الأصوليون على أن الحُكم الوضعيّ لا يُشترَط فيه فهْم الخطاب أو العلم به ، كما لا يُشترَط فيه البلوغ والعقل ، فالصبي والمجنون والسكران والناسي مع أنهم ليسوا أهلاً لِلتكليف ولكنهم مخاطَبون بخطاب الوضع مِن باب ربْط المسببات بأسبابها : كإتلاف الصبي ، وإتلاف البهيمة حينما أُرسِلَت ليلاً فأتلَفَت الزرع ، فإنّ الصبي والبهيمة ليسا بمكلَّفيْن ، إنما جَعَل الشارع فِعلَهما سبباً لِوجوب الضمان على وليّ الصبي أو الصبي بعْد بلوغه مِن ماله في الحالتيْن ، وعلى مالِك البهيمة (4) .
كما اتفق الأصوليون على أن الصبي والمجنون ليسا أهلاً لِلتكليف ، ولا ينطبق عليهما وصْف الغافل ؛ لانعدام فهْم الخطاب أو العلم به ،
(1) المحصول 1/330 وانظر الكاشف 4/102
(2) منهاج الوصول مع الإبهاج 1/154
(3) سلاسل الذهب /140
(4) انظر : حقائق الأصول 1/307 ، 308 والإحكام لِلآمدي 1/139 وشرح الكوكب المنير 1/512 وشرح مختصر الروضة 1/181
ولِذا فالغافل عندهم يشمل غيرَهما مِن النائم والناسي والمغمَى عليه والسكران .
واختلَف الأصوليون في تكليف الغافل ( تكليف المُحال ) تبعاً لاختلافهم في التكليف بالمُحال :
فمَن أحال التكليف بالمُحال أحال تكليف الغافل .
ومَن جوَّز التكليف بالمُحال اختلَفوا في تكليف الغافل :
فمنهم مَن جوَّزه طرداً لِحقيقة البناء .
ومنهم مَن مَنَعه (1) .
ولِذا كان لِلأصوليين مذهبان في تكليف الغافل .
ثانياً – مذاهب الأصوليين في تكليف الغافل :
المذهب الأول : امتناع تكليف الغافل ..
وهو ما عليه الكثرة مِن الأصوليين ومَن أحال التكليف بالمُحال والمعتزلة وبعض مَن أجاز التكليف بالمُحال ..
واختاره الشيرازي (2) والباقلاني (3) وإمام الحرمين (4) والغزالي (5) وابن السمعاني (6) والفخر الرازي (7) والآمدي (8) وابن برهان (9) وابن
(1) انظر : سلاسل الذهب /140 والتمهيد /112
(2) شرح اللمع 1/265
(3) التقريب والإرشاد 1/242(1/246)
(4) التلخيص 1/135
(5) المستصفَى 1/84 والمنخول /28
(6) قواطع الأدلة 1/116
(7) المحصول 1/330
(8) الإحكام لِلآمدي 1/139
(9) الوصول إلى الأصول 1/88
قدامة (1) وابن الهمام (2) وابن عبد الشكور (3) .
المذهب الثاني : جواز تكليف الغافل ..
وهذا المذهب نُسِب قولاً مِن أحد قولَيِ الأشعري بناءً على أنه أجاز التكليف بالمُحال ..
واعتبَره السيوطي (4) قولاً مزيَّفاً وليس صحيحاً في حق الأشعري .
وفرَّق البعض بين جواز التكليف هناك بالمُحال ؛ لأن فائدته الابتلاء والاختبار ، وهنا في تكليف المُحال ( تكليف الغافل ) لا فائدة له (5) ..
ونَقل هذا المذهب ابن برهان (6) وابن السمعاني (7) وإمام الحرمين عن بعض الفقهاء (8) ، ونَسَبَه المجْد بن تيمية إلى أكثر الفقهاء (9) .
وبالرجوع إلى كُتُب الحنفية اتضح أنهم يرون أن الغافل ـ كالناسي والنائم والمغمَى عليه والسكران ـ مخاطَب بالتكليف ، وأن الغفلة لا تُنافِي الوجوب (10) .
(1) روضة الناظر مع نزهة الخاطر 1/115
(2) تيسير التحرير 2/245
(3) مُسلَّم الثبوت 1/143
(4) انظر شرح الكوكب الساطع 1/77
(5) انظر : نهاية السول 1/183 والتمهيد لِلإسنوي /112 وتشنيف المسامع 1/51 والكوكب الساطع 1/77
(6) الوصول إلى الأصول 1/88
(7) قواطع الأدلة 1/116
(8) التلخيص 1/135
(9) المسوّدة /37
(10) انظر : ميزان الأصول /188 ، 189 وكشف الأسرار لِلنسفي 2/486 والتوضيح شرح التنقيح 2/353 وإفاضة الأنوار مع حاشية نسمات الأسحار /253 - 261
خامساً : أدلة المذاهب
أدلة المذهب الأول :
استدل أصحاب المذهب الأول ـ القائلون بامتناع تكليف الغافل ـ بأدلة مِن المنقول والمعقول :
الدليل الأول : قوله - صلى الله عليه وسلم - { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ : عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيق } (1) ..(1/247)
وجه الدلالة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن لنا أن القلم مرفوع عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يَكبر ، وعن المجنون حتى يفيق ، ويَلزم مِن رفْع القلم عدمُ الكتابة ، ويَلزم مِن عدم الكتابة عدمُ الوجوب ، فتَكون الكتابة عبارةً عن الوجوب ، ويَلزم مِن هذا عدم تكليف هؤلاء الأصناف ومَن على شاكلتهم مِمَّن لا يَفهم خطاب التكليف : كالناسي والمغمَى عليه والسكران (2) ، والغافل لا يَفهم خطابَ التكليف ، ولِذا لا يَكون أهلاً لِلتكليف .
الدليل الثاني : أن مقتضَى التكليف إتيان المكلَّف الفعلَ المأمورَ به على جهة الامتثال لأمْر الشارع ، ولا يتأتى هذا الامتثال إلا إذا عَلِم المكلَّف أنّ الشارع أَمَره بذلك ، والغافل لا يَعلم ذلك ، فلا يُمكِنه حينئذٍ الإتيان
بالمأمور به على جهة الامتثال ، وإذا كان كذلك امتنع تكليفه ؛ لِعدم عِلمِه بما كُلِّف به .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أنّا لا نسلِّم لكم تَوقُّف الامتثال لأمْر الشارع وإتيان المأمور
(1) هذا الحديث سبق تخريجه .
(2) الكاشف عن المحصول 4/106 بتصرف وانظر : المحصول 1/330 والتحصيل 1/330
به على العلم به ؛ لِجواز أن يَصدر عنه هذا الفعل المأمور به دون عِلمِه بتكليفه .
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة : بأن صدور الفعل المأمور به مِن المكلَّف دون عِلمِه بالتكليف لا يُعَدّ مُجْزِئاً ولا يَكفي في حصول الامتثال إلا إن وُجِدَت معه النية ؛ لِقوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات } (1) ، ونية الفعل هو قصْد الامتثال به ، ولا يتأتى هذا إلا بعد العلم بما كُلِّف به .(1/248)
الوجه الثاني : أن دليلكم هذا مَبْنِيّ على وجوب تَقدُّم العلم قبْل الامتثال ، ولو صح ذلك لَلَزم منه عدم وجوب معرفة الله تعالى المأمور بها في قوله تعالى { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّه } (2) ، وهو باطل ..
وبيانه : أن الأمة أَجمعَت على وجوب معرفة الله تعالى ، والأمر بتحصيل معرفة الله تعالى إما أن يتوجه إلى المكلَّف قبْل حصولها وإما أن يتوجه إليه بعد حصولها ، وكلّ واحد منهما غيْر جائز :
أمّا الأول ـ وهو توجيه الأمر بالمعرفة قبل حصولها ـ : فهو غير جائز لِمَا ذكَرتم مِن امتناع تكليف الغافل ؛ لأنّ المكلَّف حينئذٍ جاهلٌ بمعرفة الله تعالى ، فلا يَكون عالِماً بالأمر ؛ إذ لو كان عالِماً بالأمر لَعلم الآمر قطعاً .
وإذا لم يَعرف الآمر لم يَعرف المأمور وقد كُلِّف به ، وذلك هو تكليف الغافل .
وأمّا الثاني ـ وهو توجيه الأمر بالمعرفة بعد حصولها ـ : فهو غير جائز أيضاً ؛ لأنه تحصيل لِلحاصل ، وهو مُحال .
(1) رواه البخاري ومسلم عن عمر - رضي الله عنه - .
(2) سورة محمد مِن الآية 19
الجواب عن هذا الوجه مِن المناقشة :
وقد رُدّ هذا الوجه مِن المناقشة : بأنّا لا نسلِّم لكم الأول ؛ لِجواز أن تَكون المعرفة حاصلةً بوجهٍ ما بالضرورة ، ويَكون التكليف وارداً بتحصيل المعرفة مِن غير ذلك الوجه ، فلا يَلزم منه تكليف الغافل ..
كما لا نسلِّم لكم تحصيل الحاصل لِلأمر بالمعرفة بعد حصولها ؛ لِنفْس السبب المتقدِّم (1) .
أدلة المذهب الثاني :
استدل أصحاب المذهب الثاني ـ القائلون بجواز تكليف الغافل ـ بأدلة ، نَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { لا تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون } (2) ..(1/249)
وجه الدلالة : أنّ الله تعالى نَهَى عن الصلاة حالة السُّكْر ، فالخطاب مُوَجَّه إلى السكران ، والسكران حالة سُكْرِه غافل لا يَفهم الخطاب ، وإذا تَوجَّهَ الخطاب إلى السكران حالة سُكْرِه دَلّ ذلك على جواز تكليف الغافل .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهْين :
الوجه الأول : أنّا لا نسلِّم لكم أن الخطاب مُوَجَّه إلى السكران فيَكون السكران منهيّاً عن الصلاة حالة سُكْرِه ، وإنما المراد النهي عن السكْر حالة إرادة الصلاة ..
وذلك نحو أن يقال :" لا تمُتْ وأنت ظالم " ، فإنه نهْي عن الظلم حالة
(1) انظر : الكاشف عن المحصول 4/109 ، 110 والمحصول 1/330 ، 331 والإبهاج 1/155 وحقائق الأصول 1/303 - 305
(2) سورة النساء مِن الآية 43
الحياة التي لا شك صائرة إلى الموت ، وليس نهياً عن الموت حالة الظلم .
الوجه الثاني : أن المراد بالسكرانِ الثملُ ، وهو الذي ظهرَت فيه مبادئ النشاط والطرب وما زال عقلُه ثابتاً ، وسُمِّي " سكراناً " لِمَا يؤول إليه غالباً ..
نحو : قوله تعالى { إِنِّى أَرَنِى أَعْصِرُ خَمْرا } (1) ..
وحكمة نهْيه عن الصلاة والحالة هذه : امتناع التثبت والخشوع في الصلاة ، ولِذا قال تعالى { حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون } أي حتى تَعلم علماً كاملاً ، وليس الغرض منه نفْي العلم عنه بالمرة .
وإذا كان كذلك فلا تَصلح الآية دليلاً على جواز تكليف الغافل كما ادعيتم .
الدليل الثاني : أنه لو لم يَصِحّ تكليف الغافل لَمَا وَقَع ؛ لأن الوقوع فرْع الجواز ، والتالي باطل ؛ لأنّ السكران لا يَفهم الخطاب ، وهو مكلَّف ..
وأمارة ذلك : أن الشارع اعتبَرَ طلاقَه وقتْلَه وإتلافَه .
مناقشة هذا الدليل :(1/250)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نسلِّم لكم وقوع تكليف الغافل لاعتبار الشارع طلاقَ السكران وقتْلَه وإتلافَه ؛ لأنّ هذا الاعتبار ليس مِن قَبِيل التكليف ، وإنما مِن قَبِيل خطاب الوضع الذي هو ربْط الأحكام بأسبابها : كإتلاف الصبي ؛ فإنّ فِعْلَه سبب لِوجوب الضمان مِن ماله يؤديها وليُّه أو الصبي بعد بلوغه (2) (3) .
(1) سورة يوسف مِن الآية 36
(2) انظر : مختصر المنتهى مع شرح العضد 2/15 وبيان المختصر 1/436 - 438
(3) انظر أدلة المذاهب في تكليف الغافل في : التلخيص 1/135 - 139 والمستصفَى 1/84 ، 85 والمنخول /28 - 30 والتقريب والإرشاد 1/242 – 248 والوصول إلى الأصول 1/88 - 90 =
سادساً : تعقيب وترجيح
بعد الوقوف على أدلة المذاهب في تكليف الغافل يتضح أن أدلة المذهب الأول سلمَت جميعُها مِن المناقشة والاعتراض ، وأن أدلة المذهب الثاني القائل بتكليف الغافل لم تَسلَم مِن المناقشة ، ولأنها بُنِيَت على أن السكران مُوَجَّه إليه الخطاب حال سُكْرِه في الآية الكريمة ، وليس كذلك ..
كما أنهم جعلوا اعتبار الشارع بعض تصرفات السكران تكليفاً ، وليس كذلك ، وإنما هو اعتبار خطاب الوضع ومِن باب ربْط الأحكام بأسبابها ..
ومما تَقدَّم أرى عدم جواز توجيه خطاب التكليف إلى مَن لا يَفهمه ( الغافل ) : كالناسي والنائم والمغمَى عليه والسكران ؛ لِعدم تَحقُّق شرْط التكليف فيه وهو فهْم الخطاب والعلم به ..
وليس ذلك لأنه يمتنع تكليفه كما ذهب أصحاب المذهب الأول ، وإنما هو مكلَّف لكن لا يصح توجيه الخطاب إليه وهو في هذه الحالة .
ودليل تكليفه : الأمر الوارد لِلنائم والناسي بأداء الصلاة بعد زوال
المانع مِن الأداء في قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصِلَّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لَيْسَ لَهَا كَفَّارَةٌ إِلاَّ ذَلِك } (1) .(1/251)
ولِذا إن كان أصحاب المذهب الأول يَقصدون بعدم تكليف الغافل عدَمَ صحة توجيه الخطاب إليه حال غفلته فإن الخلاف حينئذٍ يَكون لفظيّاً ، وغالِبُ ظني أنهم لا يَقصدون نفْيَ التكليف بالمرة ..
= وقواطع الأدلة 1/116 ، 117 والمحصول 1/330 - 333 والكاشف عن المحصول 4/102 - 115 والتحصيل 1/330 ، 331 ومختصر المنتهى مع شرح العضد 2/14 ، 15 وبيان المختصر 1/435 - 438 ومنهاج الوصول مع الإبهاج 1/154 - 160 وحقائق الأصول 1/301 - 309 ونهاية السول 1/181 - 185 وفواتح الرحموت بشرح مُسلَّم الثبوت 1/143 - 146
(1) رواه أحمد والترمذي والنسائي عن أنس - رضي الله عنه - .
ودليل ذلك : ما وَرَد على لسان بعض أئمة المانعين لِتكليف الغافل ، أَذكُر منهم :
1- الشيرازي ..
في قوله :" وأمّا السكران فلا يدخل في الخطاب ، وأمّا ما يَثبُت مِن الأحكام وحتى التصرفات لِثبوتها بالأدلة في حقِّه بعد الإفاقة ، أمّا في حالة السكْر فلا خطاب عليه " ا.هـ (1) .
2- الآمدي ..
في قوله :" فالغافل عمّا كُلِّف به والسكران المتخبِّط لا يَكون خطابه وتكليفه في حالة غفلته وسكْره أيضاً " ا.هـ (2) .
3- ابن السمعاني ..
في قوله :" وأمّا النائم فالأَوْلى أن يقال : لا تكليف عليه في حال النوم " ا.هـ (3) .
أمّا الحنفية ـ وهمُ القائلون بتكليف الغافل ـ فإنهم يَقصدون بتكليفه أن الغفلة لا تَمنع مِن أهليته لِلوجوب والخطاب ، ولكنها تَمنع الأداء .. وَرَد ذلك صريحاً على لسان بعضهم ، نَذكر منهم :
1- السمرقندي ..
في قوله :" وأمّا السكران فعند الصاحبيْن مخاطَب ، وعند الإمام ليس مخاطَباً حال سكْره " ا.هـ (4) .
2- النسفي ..
(1) شرح اللمع 1/265
(2) الإحكام لِلآمدي 1/140
(3) قواطع الأدلة 1/116
(4) ميزان الأصول /188 ، 189
في قوله :" النسيان والنوم والإغماء لا ينافِي الوجوب " ا.هـ (1) .
3- صدْر الشريعة ..(1/252)
في قوله :" ومنها النسيان ، وهو لا ينافِي الوجوب ، ومنها السكْر ، وهو لا ينافِي الخطاب " ا.هـ (2) .
والأَوْلى عندي في ذلك الخلاف السابق أن الغافل ليس مكلَّفاً بمعنى توجيه خطاب التكليف إليه حال غفلته ، وإنما هو مكلَّف بمعنى أن الغفلة لا تنفي الوجوب في حقه ، ولِذا فإنه يَكون مطالَباً بها بعد صحوِه مِن غفلته .
هذا فيما يتعلق بحُكْم تكليف الغافل ، أمّا تصرفات الغافل حال غفلته فهذا ما سنستعرض بعضه ـ بإذن الله تعالى ـ فيما يلي ..
سابعاً : ما يتفرع تكليف الغافل
لقد فرَّع الأصوليون على تكليف الغافل فروعاً كثيرةً ، أكتفي منها بذكر هذيْن الفرعيْن :
الفرع الأول : تكليف السكران .
الفرع الثاني : طلاق السكران .
(1) انظر كشف الأسرار مع المنار لِلنسفي 2/486 - 490
(2) انظر التوضيح شرح التنقيح 2/353 - 355 ، 389 ، 390
الفرع الأول
تكليف السكران
والحكْم في تكليف السكران مَبْنِيّ ومُفَرَّع على القاعدة الأم ـ وهي تكليف الغافل ـ والتي تَبيَّنَ لنا مِن خلال عرْضها آنفاً أن الأصوليين اختلَفوا فيها على فريقيْن : فريق يُكلِّف الغافل ، وفريق يَمنع تكليفَه .
والسكران لا شكّ غافل ؛ لأنه لا يَتحقق فيه شرْط التكليف وهو فهْم الخطاب والعلم به ، وكان لازماً أن يدخل حُكمُه في الخلاف السابق ونكتفي به ، لكنّا وجدْنا الكثرة مِن الأصوليين (1) أَفرَدوه بالبحث والذكر ؛ لِمَا يرتبط به مِن كثير مِن الأحكام دون غيره ممن ينطبق عليهم وصْف " غافل " ، وهو مَنحى له وجاهتُه عندي ..
ولِذا فإني ـ بإذن الله تعالى ـ سأوجِز فيما يلي ضابط السكْر ثم أبيِّن حكْم تكليف السكران :
أولاً – ضابط السكْر :
اختلَف الفقهاء في تحديد ضابط السكْر حتى يعطَى صاحبُه أحكام السكران ، ولهم في ذلك أقوال عدة ، أَذْكر منها ما يلي :
الأول : وهو ما عليه الجمهور ..
والضابط عندهم هو : اختلاط كلامه وكان غالبُه هذياناً ..(1/253)
ولِذا قال الإمام الشافعي :" هو الذي اختلط كلامُه المنظوم وانكشَف سرُّه المكتوم " (2) .
(1) انظر : الوصول إلى الأصول 1/88 والبرهان 1/105 والإحكام لِلآمدي 1/139 والتلخيص 1/135 وشرح اللمع 1/265 وميزان الأصول /188 والتوضيح مع التلويح 2/389 والتمهيد لِلإسنوي /112 والقواعد والفوائد الأصولية /36 وكشف الأسرار لِلنسفي 2/536 والمسوّدة /37
(2) انظر الأشباه والنظائر لِلسيوطي /217
الثاني : لأبي حنيفة والمزني وغيرهما ..
والضابط عندهم هو : عدم التفريق بين السماء والأرض ولا بين أمه وامرأته ، وذَكَر القرطبي أنه لا اختلاف في أنه كالمجنون (1) .
الثالث : لِلرافعي ..
والشارب عنده أحواله ثلاثة :
أولها : هزة ونشاط ولا يَزول عقلُه ..
فهذا ينفذ تصرفاته وطلاقه ؛ لِبقاء عقْلِه .
ثانيها : نهاية السكْر بأن يصير طافحاً ويَسقط كالمغشيّ عليه لا يتكلم ولا يكاد يتحرك ..
فلا ينفذ طلاقه ولا غيره ؛ لأنه لا عقْل له .
ثالثها : حالة متوسطة بينهما ، وهو ما اختلط أحواله ولا تنتظم أقواله وأفعاله مع بقاء تمييز وفهْم وكلام ..
وفيه قولان (2) .
ومما تَقدَّم أرى أن الراجح في ضابط السكْر هو اختلاط كلامه وكان غالبُه هذياناً ، وهو ما عليه الجمهور .
أمّا مَن أُغلِقَ عليه عقْلُه فهو لا شك سكران ، والحديث عن حُكمِه نفصِّله فيما يلي ..
ثانياً – تكليف السكران :
اتفق الفقهاء على أن السكْر إن كان سببه مباحاً فلا إثم عليه ، وأن السكران حينئذٍ ليس أهلاً لِلتكليف إلا فيما يتعلق بخطاب الوضع وضمان
(1) انظر : الجامع لأحكام القرآن 5/133 والأشباه والنظائر لابن نجيم /311
(2) انظر : العزيز 8/566 والأشباه والنظائر لِلسيوطي /216 والوجيز /289 والقواعد والفوائد الأصولية /37
المتلَفات (1) .
واختلَفوا في السكران الذي تَعدَّى بسكْرِه بأن كان سكْرُه مِن مُحَرَّم : هل يَكون أهلاً لِلتكليف أم لا ؟
لهم أقوال في ذلك :
القول الأول : أنه مكلَّف ..(1/254)
وهو ما عليه الحنفية (2) وبعض الشافعية (3) والمالكية (4) والحنابلة ، واختاره الشافعي ، ورواية عن أحمد الذي حَكَى عن الأول ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان يقول :" وجدتُ السكران ليس بمرفوع عنه القلم " (5) .
ويرى أصحاب هذا القول أن أقوال السكران وأفعاله داخلة تحت التكليف (6) .
وذهب الحنفية ـ أئمة هذا القول ـ إلى أن السكران كالصاحي في تصرفاته إلا في مسائل ، وهي : الردة ، والإقرار بالحدود الخالصة ، والإشهاد على شهادة نفْسه ، وتزويج الصغير والصغيرة بأقَلّ مِن مَهْر المِثْل أو أكثر ، والوكيل بالطلاق صاحياً إذا سَكِرَ فطَلَّق لم يَقع ، والوكيل بالبيع لو سَكِر فباع لم ينفذ على موكّله ولو غصب مِن صاحٍ ورَدَّه عليه
(1) انظر : الوجيز /289 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار 4/571 والروض المربع 6/485 والقواعد والفوائد الأصولية /37 وتيسير التحرير 2/245 وفتح الغفار 3/118 والتوضيح مع التلويح 2/389 والبحر المحيط 1/353
(2) انظر : ميزان الأصول /188 والتوضيح شرح التنقيح 2/389 وكشف الأسرار لِلنسفي 2/536
(3) انظر : التمهيد لِلإسنوي /113 والبحر المحيط 1/353
(4) انظر الجامع لأحكام القرآن 5/133
(5) انظر : القواعد والفوائد الأصولية /36 والمسوّدة /37
(6) قواطع الأدلة 1/116
وهو سكران (1) .
واحتجوا : بقوله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون } ..
وجه الدلالة : أن الله تعالى نَهَى المؤمنين أن يقربوا الصلاة وهُم سكارى ، وهذا الخطاب مُوَجَّه إليهم حال السكْر ، وتلك أمارة التكليف ، ولو لم يكن السكران مكلَّفاً لَمَا وُجِّه إليه الخطاب ، فدل ذلك على أن السكران مكلَّف كالصاحي في أقواله وأفعاله (2) .(1/255)
كما احتجوا أيضاً : بأن الإثم لا يبرر الإثم ، فمَن سَكِر وقَتَل أو سَرَق فقد ارتكب إثم السكْر وإثم القتل ، وقد يَكون السكْر سبباً في هذه الجرائم ، فالإقدام على السبب إقدام على المسبّب ما دام قد اختاره ..
كما أنهم قالوا : إن السكْران لم يوضَع عنه الخطاب وتَلزمُه أحكام الشرع ؛ لأن السكْر لا يزيل العقل ، لكنه سرور غَلَبَه بمباشَرة بعض الأسباب الموجِبة له (3) .
القول الثاني : أن السكران يمتنع تكليفه ..
وهو ما عليه المحقِّقون ، وأحد قوليْن عند الشافعية (4) والمالكية (5) ،
(1) انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم /310 ، 311
(2) انظر : أصول البزدوي مع كشف الأسرار لِلبخاري 4/574 ، 575 وشرح طلعة الشمس 2/264
(3) انظر : أصول البزدوي مع كشف الأسرار لِلبخاري 4/571 ، 577 ، 578 وأصول الفقه لأبي زهرة /323
(4) انظر التلخيص 1/135
(5) انظر أصول الفقه لأبي زهرة /324
واختاره ابن برهان (1) وإمام الحرمين (2) والغزالي (3) والشيرازي (4) والباقلاني (5) ، ونُقِل عن الإمام أبي حنيفة (6) والآمدي (7) ..
وحجتهم : أن السكران لا يَعقِل ، وتكليف مَن لا يَعقِل مُحال ، وأمّا نفوذ طلاقه ولزوم الغُرْم فذلك مِن قَبِيل ربْط الأحكام بالأسباب (8) .
هذا وقد ذَكَر البعض قولاً ثالثاً : أنه يَصلح بما عليه دون ما له مؤاخذةً وتغليظاً (9) .
ونَقل القرطبي عن الإمام مالك إلزامه ـ أي السكران ـ الطلاق والقود في الجراح والقتل ، ولم يُلزِمه النكاح والبيع (10) ، ولِذا فيُعَدّ قولاً رابعاً .
وهناك أقوال أُخَر ذَكَرها ابن اللحام (11) ، لكنها لم تَرْقَ جميعاً إلى منازَعة القوليْن المتقدِّميْن اللذيْن عليهما جمهرة العلماء والأصوليين ، ولِذا فإني اكتفيتُ بتفصيلهما .
تعقيب وترجيح :
بعد الوقوف على أقوال العلماء في تكليف السكران ـ والذي فُرِّع على
(1) انظر الوصول إلى الأصول 1/88
(2) انظر : البرهان 1/105 والتلخيص 1/135(1/256)
(3) انظر : المستصفى 1/84 والمنخول /28
(4) انظر شرح اللمع 1/265
(5) انظر التقريب والإرشاد 1/241
(6) انظر ميزان الأصول /188
(7) انظر الإحكام لِلآمدي 1/139
(8) انظر : المستصفى 1/84 ، 85 والتلخيص 1/135
(9) انظر : الوجيز مع العزيز 8/564 ، 567 والتمهيد لِلإسنوي /113
(10) انظر الجامع لأحكام القرآن 5/133
(11) انظر القواعد والفوائد الأصولية /36 ، 37
تكليف الغافل (1) ـ أرى أنّ السكران إن كان سكْرُه بِلا تَعَدٍّ فهو بالاتفاق غير مكلَّف ولا إثم عليه ، وإن كان سكْرُه بتعَدٍّ منه بَلَغ نهاية السكْر ـ كالمجنون أو لم يَبلغ ـ فإنه يَكون مكلَّفاً ليس بمعنى أن الخطاب يوجَّه إليه حالة سكْره ، وإنما هو مُلزَم بالتكاليف حالة سكْرِه ، ويجب عليه أداؤها مع تأثيمه .
أمّا صحة أقواله وأفعاله فإنها محلّ خلاف بين العلماء ..
وسأكتفي ببيان حُكْم طلاق السكران في الفرع التالي .
(1) انظر التمهيد لِلإسنوي /113
الفرع الثاني
طلاق السكران
اتفق العلماء على أن السكران إن كان سكْره بغير تَعَدٍّ منه ـ كأن كان مضطرّاً أو مُكرَهاً أو يقصد العلاج ـ فإنّ طلاقه لا يقع ، فهو في ذلك كالمجنون ..
وإن كان سكْره بتعَدٍّ منه ـ كأن شَرِب الخمر طائعاً بغير حاجة ـ فقد اختلَفوا في وقوع طلاقه على أقوال ثلاثة :
القول الأول : وقوع الطلاق ..
وهو ما عليه الكثرة مِن أهل العلم ، واختاره أبو حنيفة والثوري والأوزاعي والشافعي ، وفي رواية عن أحمد ، وهو مرويّ عن عمر وعلي ومعاوية وغيرهم مِن الصحابة - رضي الله عنهم - .
وحجّتهم : أن الصحابة جَعَلوا السكران كالصاحي في الحد بالقذف .
وهذا القول مُفَرَّع على أن الغافل مكلَّف .
القول الثاني : عدم وقوع طلاق السكران ..
وهو ما عليه بعض الحنفية والشافعية والحنابلة ، ورواية عن مالك وأحمد ، وهو مرويّ عن عثمان وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما ، واختاره الليث وأبو ثور والمزني (1) .(1/257)
وحجتهم : أن السكران زائل العقل ، فلا يَفهم ولا يَعقل ، وليس له قصْد صحيح ، فأَشبَهَ المجنونَ ، والمجنون طلاقه لا يقع ، فكذلك
(1) انظر : المغني لابن قدامة 8/256 ، 257 والعزيز 8/564 ، 565 والجامع لأحكام القرآن 5/133 وحاشية الدسوقي 2/365 ومغني المحتاج 3/279 والهداية 2/200 والوجيز /289 والقواعد والفوائد الأصولية /37
السكران .
وهذا القول مُفَرَّع على أن الغافل لا يُكلَّف .
القول الثالث : التوقف ..
وهو رواية عن أحمد .
وحجته : تَعارُض أدلة القوليْن المتقدِّميْن ، ولِذا فإنا نتوقف حتى يَرِد ما يرجِّح أحدَهما على الآخَر (1) .
والأَوْلى عندي بالقبول والترجيح هو عدمُ وقوع طلاق السكران ؛ لأنّ ضرر السكْر وعقوبته لن تَلحق السكران نفسَه فقط ، وإنما سيتعداه حينئذٍ لِيَلحق الضرر بزوجته وأولاده والأسرة كلها .
(1) انظر المغني لابن قدامة 8/256 ، 257
المطلب الرابع
تكليف المعدوم
والحديث في أمْر المعدوم قسمته إلى الأقسام الآتية :
أولاً : تحرير محل النزاع .
ثانياً : مذاهب الأصوليين وأدلتهم .
ثالثاً : علاقة هذه المسألة بعلم الأصول .
رابعاً : أمْر المعدوم والأمر بالمعدوم .
أولاً - تحرير محل النزاع
اتفق العلماء على أنه لا يكلَّف معدوم حال عدمه ، بمعنى أنه لا يُطلَب منه إيقاع الفعل المأمور به وهو معدوم ؛ لأنه مُحال وباطل بالإجماع ..
ووجْه بطلانه : أن تكليف الصبي والمجنون والغافل والسكران مُحال لِعدم فهمهم لِلتكاليف الشرعية ، والمعدوم أسوأ حالاً في هذا المعنى ؛ لِوجود أصْل الفهم في حقهم ، وعدمه بالكلية في حق المعدوم ، حتى أَنكَرَ ذلك جميع الطوائف (1) ، ولِذا فإن الخطاب لا يتعلق بالمكلَّف المعدوم تعلقاً تنجيزاً ـ أي يطلب منه الفعل ـ حال عدمه .(1/258)
ولكنهم اختلَفوا في التعلق الفعلي ـ المعنوي ـ ، وهو أن المعدوم الذي عَلِم الله تعالى أنه يوجد بشرائط التكليف هل يكون مأموراً بتقدير وجوده وتهيئته لِفهْم الخطاب ؟
(1) الإحكام لِلآمدي 1/202 وانظر : البرهان 1/274 والتمهيد لأبي الخطاب 1/352 وشرح الكوكب المنير 1/513
بمعنى أنه هل يجوز أن يكون الأمر موجوداً في الأزل والمأمور معدوماً ، فإذا وُجِد صار مكلَّفاً بذلك الطلب والاقتضاء القديم ؟
اختلف العلماء في ذلك :
فأهل السُّنَّة قالوا : المعدوم مكلَّف ومأمور .
والمعتزلة قالوا : ليس مأموراً ولا مكلَّفاً (1) .
والخلاف في ذلك يرجع إلى الخلاف في الكلام النفسي : فالمعتزلة أنكروه ، وأقرّه أهل السُّنَّة ..
مع اختلافهم في المعنى القائم بالنفس هل يسمَّى " كلاماً " أم لا ؟
فالحكْم عند أهل السّنّة قديم ؛ لأنه خطاب الله تعالى المتعلِّق بأفعال المكلَّفين على جهة الاقتضاء أو التخيير ، وخطابه تعالى كلامه الأزلي ، وكلامه قديم ، فيكون الحكْم قديماً كذلك .
وحيث إن الحكْم يتعلق بفعل المكلَّف تعلقاً أزليّاً والمكلَّف غير موجود أزلاً كان الحكْم متعلِّقاً بالمعدوم بالمعنى الذي قلناه .
أمّا المعتزلة فإنهم يقولون : الحكْم حادث ؛ لأنه الكلام اللفظي ، فلا يتعلق بالمكلَّف إلا بعد وجوده ..
ويقولون : ليس هناك صفة أزلية تُعرَف بصفة الكلام ، بل معنى كونه تعالى متكلِّماً أنه خَلَق الكلامَ في شجرة أو غيرها (2) .
وقال إمام الحرمين في هذا المقام :" وهذه المسألة إنما رُسِمَت لِسؤال المعتزلة ؛ إذ قالوا : لو كان الكلام أزليّاً لكان أمراً ، ولو كان أمراً لَتعلَّق
(1) انظر : الإحكام لِلآمدي 1/202 وبيان المختصر 1/439 والبحر المحيط 1/377 وتيسير التحرير 2/239
(2) أصول الفقه لِلشيخ زهير 1/160 وانظر : البحر المحيط 1/337 - 380 ونهاية السول 1/178 وغاية المرام /88 ولباب العقول /255(1/259)
بالمخاطَب في عدمه ، فإذا بَيَّنَّا أنه لا يمتنع ثبوت الأمر مِن غير ارتباط بمخاطَب فقد اندفع السؤال ، فآل الأمر إلى أن المعدوم مأمور على شرط الوجود " ا.هـ (1) .
ثانياً : مذاهب الأصوليين في أمر المعدوم وأدلتهم
أولاً - مذاهب الأصوليين في أمر المعدوم :
مما سبق يتضح أن الخلاف حقيقةً في هذه المسألة ينحصر بين مذهبين أفصل الحديث فيهما فيما يأتي :
المذهب الأول : أن المعدوم الذي تَعلَّقَ العلم بوجوده مأمور بالأمر الأزلي ..
وهو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة .
المذهب الثاني : أنه لا يجوز الحكم على المعدوم ..
وهو مذهب المعتزلة والكرّامية (2) ؛ لأنهم ينكرون قِدَم صفة الكلام ، وإليه ذهب بعض الشيعة .
ونَسَبَه البعض إلى أصحاب أبي حنيفة ..
وهذه النسبة لي فيها نظر ؛ لِمَا يلي :
أن الحنفية يفرّقون بين الوجوب ووجوب الأداء ، والوجوب سببه الحقيقي الإيجاب القديم ، ووجوب الأداء سببه الحقيقي تَعلُّق الطلب بالفعل
(1) البرهان 1/274 وانظر الوصول إلى الأصول 1/176
(2) الكرّامية : هم أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرّام ، يقولون بأن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد القلب ، كما أنهم يقولون بحدوث الصفات ، وينسبون جهة الفوقية إلى ذاته سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيرا ..
يقول الشهرستاني في المِلَل والنِّحَل :" نَصَّ أبو عبد الله على أن معبوده على العرش استقراراً ، وعلى أنه بجهة فوق ذاتاً ، وأَطلَقَ عليه اسم الجوهر " ا.هـ .
وحيث إن الأداء يكون واجباً في الوقت الذي يأتي فيه المكلَّف بالفعل ، وهو لم يأتِ بالنسبة لِلمعدوم ، وعلى ذلك فالمعدوم مخاطَب أزلاً بالفعل ، وهو سبب الإيجاب ، وغير واجب عليه الأداء إلا عند تمكُّنه مِن فعله بعد وجوده ..
فظن البعض مِن التفريق السابق لِلوجوب عند الحنفية أنهم يخالفون أهل السُّنَّة ويقولون قول المعتزلة : إن المعدوم غير مأمور ..(1/260)
وهو ظنٌّ خاطئ لا عِبرة به ، وخلافهم مع الجمهور لفظيّ لا أثر له ؛ لأن الجمهور شرطوا أن يكون المعدوم أهلاً لِلخطاب بعد وجوده ، وهو قريب مِن المعنى الذي ذهب إليه الحنفية في وجوب الأداء .
ثانياً - أدلة المذاهب :
أدلة المذهب الأول :
استدل أهل السُّنَّة أصحاب المذهب الأول على أن المعدوم مأمور بأدلة مِن النقل والعقل ، أكتفي منها بذِكْر هذيْن الدليليْن :
الدليل الأول : قوله تعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون } (1) ، وقوله تعالى { وَمَا ءَاتَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقاب } (2) ..
وجْه الدلالة فيهما : أن الله تعالى أَمَرَنا باتّباع النبي - صلى الله عليه وسلم - والتزام أمْره والتمسك بسُنَّتِه ، ولم نكن نحن موجودين عندما أَمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاتّباعنا لِهذه الأوامر مع عدم وجودنا عند صدورها منه - صلى الله عليه وسلم - دليل على أن
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة الحشر مِن الآية 7
المعدوم مأمور ، وإلا لَجاز لنا التحلل منها ، وهو باطل (1) ..
فإذا ثبت ذلك فإنه يجوز أن نكون مأمورين بأمر الله تعالى في الأزل مع كوننا معدومين في الأزل ؛ قياساً على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
مناقشة هذا الدليل :(1/261)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنكم بنيتم حجتكم على أن أمْر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمْر لنا وكنا معدومين ساعة أمره ، والأمر عندنا ليس كذلك ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو إلا مُبَلِّغ عن الله تعالى ومُخْبِر عنه تعالى بأنّ مَن سيوجَد مِن المكلَّفين وكان مستكمِلاً لِشروط التكليف فإن الله تعالى سيأمره بكذا ، وحينئذٍ لا يكون أمراً لِلمعدومين ، وإنما هو إخبار وتبليغ .
الجواب عن هذه المناقشة :
وقد أجيبَ عن هذه المناقشة : بأنّ أمْر الله تعالى في الأزل معناه : أن فلاناً إذا وُجِد فهو مأمور بكذا ، فهو بمثابة الإخبار عن المطلوب مِن المكلَّف ، وحينئذٍ لا يَكون هناك فَرْق بين الأمريْن كما ادعيتم .
رد هذا الجواب :
وقد يُرَدّ هذا الجواب : بأن الأمر بالمعنى الذي ذهبتم إليه آنفاً مُحال في حقه تعالى ، دون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ..
وبيان ذلك : أن الله تعالى لو أَخبَرَ في الأزل فهو إما أن يخبر نفسه أو يخبر غيره :
فإن أَخبَرَ نفسه ولا سامع يُبَلَّغ ولا مأمور يمتثل كان عبثاً وسفهاً .
وإن أَخبَر غيرَه فهو مُحال ؛ لأنه لم يكن في الأزل مَن يؤمَر أو يُخبَر
(1) انظر : التمهيد لأبي الخطاب 1/352 والمستصفى 1/5 والمحصول 1/328 والمسوّدة /45
(2) حقائق الأصول 1/295 وانظر الإحكام لِلآمدي 1/202
لِيَنقِل إلينا .
وكلاهما مُحال في حقه تعالى ، بخلافه في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كان بحضرته مَن ينقل الأمرَ إلينا ، فثبت الفَرْق بيْن الأمريْن ، ولِذا كان القياس فيهما مع الفارق لا يَصِحّ (1) .
الجواب عن هذا الرد :(1/262)
وأجيب عن هذا الرد : بأن الفَرْق الذي ذهبتم إليه بين الأمرَين مَبْنِيّ على قاعدتكم في التحسين والتقبيح العقلييْن ، وهي عندنا ـ أي أهل السّنّة ـ باطلة ، ولو سلَّمْنا جدلاً أن العقل يُقَبّح فإنه لا يُعَدّ سفهاً لدى العقلاء قيام طلب ممن سيوجَد : كأن يكون في النفس طلب التعلم مِن ابن سيولَد ، فكذلك لا عبث ولا سفه في قيام طلب الفعل بذاته تعالى ممن سيوجَد ؛ قياساً على الشاهد ، كما أن السفه إنما يكون في الأمر اللساني ، دون النفسي الذي تنكرونه ، وهذا يكفي لإسقاط ردكم .
الدليل الثاني : لو لم يتعلق الأمر بالمعدوم لم يكن التكليف أزليّاً ، واللازم باطل ..
أمّا الملازمة : فلأن حقيقة التكليف التعلق ؛ إذ لا تتحقق حقيقة التكليف إلا به ، فذا كان التعلق حادثاً كان التكليف كذلك حادثاً .
وأمّا بطلان اللازم : فلأن كلامه تعالى صفة قائمة بذاته ، فهو أزلي قديم ، فيمتنع قيام الحوادث بذاته تعالى ، وفيه الأمر والنهي والخبر وغيره والأمر والنهي تكليف ، وهو أزلي ، فدل على أن المعدوم مأمور ؛ وإلا
(1) انظر هذا الدليل ومناقشته في : المحصول 1/238 ، 239 والتحصيل 1/329 ، 330 ومنهاج الوصول /15 ومعراج المنهاج 1/127 - 129 وحقائق الأصول 1/295 - 297 والإبهاج 1/150 - 152 ونهاية السول 1/178 ، 179 ومناهج العقول 1/173 - 178 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 1/160 ، 161
لَكان التكليف حادثاً ، وهو مُحال في حقه تعالى (1) .
مناقشة هذا الدليل :
وقد ناقش المعتزلة هذا الدليل : بأنكم جعلتم الأمر والنهي أزليّاً ، ولو كان كذلك لكان له مُتَعَلّق موجود ؛ لأن كلاًّ منهما يستحيل بدون مُتَعَلّق موجود ، والتالي باطل ؛ لأن المتعلق غير موجود في الأزل ، فيَلزم بطلان المُقدّم (2) .
الجواب عن هذه المناقشة :(1/263)
وقد أجيبَ عن هذه المناقشة : بأنّا لا نسلِّم لكم أنه يستحيل وجود الأمر بدون متعلق موجود ؛ فإنه نفْس محلّ النزاع ، وما ذكرتموه مجرد استبعاد في محلّ النزاع ، والاستبعاد لا يدل على الامتناع ، كما أن هذا التعلق غير الموجود ثابت في عِلْم الله تعالى أزلاً ، فاعتراضكم غير سديد فلا يُقبَل .
أدلة المذهب الثاني :
احتجَّت المعتزلة على عدم جواز أمر المعدوم بأدلة ، أكتفي منْها بذِكْر الدليليْن التالييْن :
الدليل الأول : أن كلام الله تعالى عندكم ـ أي أهل السّنّة ـ أزلي قديم ، وهو واحد لا تَعدُّدَ فيه ، ولو قلنا بأمر المعدوم لَلزم منه تقسيم كلامه تعالى وتَعدُّده إلى أمْر ونهْي وخبر ، وتَعدُّد القديم مُحال ..
فدل ذلك على أن المعدوم لا يكون مأموراً ، وهو المُدَّعَى .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا نفرِّق بين التعدد بحسب الوجود والتعدد
(1) شرح العضد 2/15 بتصرف وانظر : بيان المختصر 1/441 وفواتح الرحموت 1/147
(2) بيان المختصر 1/440 ، 441 بتصرف وانظر شرح العضد 2/15
باعتبار المتعلقات :
أمّا الأول : فالجمهور متفقون على أنه غير واقع في الأزل .
وأمّا الثاني : وهو تَعدُّده باعتبار المتعلقات ـ التعلق الاعتباري ـ فهو جائز وواقع ، ومع وجوده فإنه لا يوجِب تعدداً وجوديّاً
فالكلام باعتبار مدْح الفعل وذم التارك يكون أمراً ، وباعتبار مدْح التارك وذم الفاعل يكون نهياً ، وباعتبار عدم تَعلُّقه بواحد مما سبق يكون خبراً ، تماماً مِثل الإبصار ، فإنه وصفٌ واحد لا يتعدد في الوجود بكثرة المبصرات ، وإنما يتعدد بتَعلُّقه ، والوصف واحد (1) .
الدليل الثاني : أنّ أمْر المعدوم يفيد أنه أهْل لِلتكليف ، وكيف يكون كذلك وهو معدوم لا يقع منه فِعْل ولا ترْك ؟ وإذا كان لا يَصِحّ أمْر العاجز بالصغر والجنون كان المعدوم مِن باب أَوْلى ..
فدل ذلك على أن المعدوم لا يَصِحّ أن يكون مأموراً .
مناقشة هذا الدليل :(1/264)
وقد نوقش هذا الدليل : بأن المعدوم غير مكلَّف حالة عدمه ، وإنما يتعلق التكليف به حين وجوده مستوفياً شروط التكليف ، وحينئذٍ يَصِحّ منه الفعل ؛ لأنه أدى ما أُمِر به .
أمّا العاجز ـ كالصغير والمجنون ـ فلا نسلِّم عدم صحة أمره ، بل يَصِحّ أمْره بشرط أن يزول العجز ، كما في أمْر المعدوم ..
ولِهذا قالوا : الصبي والمجنون مأموران بشرط البلوغ والعقل .
الجواب عن هذه المناقشة :
وقد أجاب المعتزلة عن هذه المناقشة : بأن القول بتكليف الصبي
(1) انظر : بيان المختصر 1/442 ، 443 وشرح العضد 2/16 ومُسلَّم الثبوت 1/150
والمجنون وأمْره بشرط البلوغ والعقل مُخالِف لِمَا ثبت في الحديث { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ : عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظ } (1) .
رد هذا الجواب :
وقد رُدّ هذا الجواب : بأنه لا تَعارُضَ بيْن النص وبيْن ما ذهبْنا إليه ؛
لأن المراد برفع القلم هنا هو رفْع المأثم ورفْع الإيجاب ؛ بدليل أنه قَرَن معه النائم ، وهو مكلَّف مأمور ، ولا يُلزَم بأداء الفعل إلا بعد استيقاظه (2) .
ثالثاً - بيان المذهب الراجح :
بعد بيان أدلة مذهب أهل السُّنَّة ومذهب المعتزلة في هذه المسألة يتضح أن مذهب أهل السُّنَّة والجماعة ـ القائل بأنّ أمْر المعدوم أمْر إيجاب على شرط الوجود ـ هو الأَوْلى بالقبول والاختيار ؛ لقوة حجته وسلامة أدلته مِن المناقشة ، واتساقه مع العقيدة الصحيحة فيما يتعلق بصفات الله تعالى وأن كلامه تعالى أزلي قديم ، وفي المقابل ظَهَر ضَعْف أدلة المعتزلة وعدم سلامتها مِن المناقشة .
ثالثاً : علاقة هذه المسألة بعِلم الأصول
ذهب بعض الأصوليين إلى أن هذه المسألة لا علاقة لها بعلم الأصول وإنما هي مِن صميم عِلم الكلام ..
وهو حكْم يحتاج إلى نظر ومراجَعة ؛ لِمَا يأتي :(1/265)
1- أننا نُسلِّم أنها مِن صميم علم الكلام ؛ لأن منشأ الخلاف فيها هو كلام
(1) هذا الحديث سبق تخريجه .
(2) التمهيد لأبي الخطاب 1/356 ، 357 بتصرف وانظر : المسوّدة /45 وشرح الكوكب المنير 1/515
الله تعالى هل هو حادث أم قديم ؟
ومِن ثَمّ ظهرَت فتنة خَلْق القرآن ، وقد انتهت هذه الفتنة ولله الحمد ولم يَعُدْ لها أثر ، ومع ذلك فأرى ضرورة تذكير طلاب العلم بها ؛ تحصيناً لِلأُمّة مِن فلتات وزلات المتنطعين القائلين مقالتهم ، وهنا يأتي دور أهل العلم الذين درسوا وتمرسوا على الدفاع عن حصون الإسلام ومعتقداته .
2- سلَّمْنا أن هذه المسألة مِن صميم عِلم الكلام ، لكن لا نُسلِّم أنه لا علاقة
لها بعلم الأصول ؛ لِمَا يلي :
أ- أن العلاقة وطيدة بين عِلْم الكلام وعِلْم الأصول ، خاصةً أن جمهرةً كبيرةً ممن أصَّلوا هذا العلم مِن علماء الكلام ، الأمرَ الذي جعل البعض يصبغ أسلوبه الأصولي بطابعه الكلامي .
ب- أن كثيراً مِن الأصوليين ذكروا هذه المسألة وبَيَّنوا لنا مدى حاجة الأصولي لِدراستها ؛ لارتباطها بالحكْم ، وهو خطاب الله تعالى بأفعال المكلَّفين ، والذي هو محلّ اهتمام الأصوليين ودراستهم ، وهنا في هذه المسألة يبحثون هل يتعلق الخطاب به قبل أن يوجَد أم لا ؟
جـ- أن اعتبار قول المعتزلة في هذه المسألة يجعلنا غير مخاطَبين بأوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأننا لم نكن موجودين ساعتها ، وهذا حكْم أصوليّ لا كلاميّ ..
وفي هذا يقول أبو الخطاب :" وفائدة هذه المسألة : أنه إذا احتج الآن علينا بآية أو خبر لزمَنا على الحد الذي كان يَلزمنا لو كنا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - موجودين ، وعندهم لا يلزمنا ذلك إلا بدليل (1) " .
وعلى ضوء ما تقدَّمَ أرى أن علاقة هذه المسألة بعلم الأصول وطيدة
(1) التمهيد لأبي الخطاب 1/353
مع ارتباطها الشديد بهذا الكلام ..(1/266)
وفي هذا يقول الشربيني في تقريره :" وبهذا ظهر فساد ما قيل : أن هذه المسألة لا يَظهَر تَعلُّقها بهذا الفن أصلاً ، وإنما هي مِن فروع المسائل الكلامية (1) " .
رابعاً : أمْر المعدوم والأمر بالمعدوم
لا شك أنّ أمْر المعدوم يغاير الأمر بالمعدوم ، ولِذا أردتُ أن أُوَضِّح الفَرْق بينهما ؛ لِلحاجة إليه في هذا المقام وخشية اللبس بينهما ..
فأقول : محلّ الأمر في أمْر المعدوم : هو المأمور الذي يُطلَب منه الفعل ويكون مكلَّفاً به بعد وجوده واستيفاء شروط التكليف .
أمّا محلّ الأمر في الأمر بالمعدوم : فهو المأمور به .
فهل يجوز الأمر بالشيء المعدوم حتى ولو وُجِد المكلَّف ؟
فيه خلاف ، والجمهور على أنه ـ العدم ـ شرْط في المكلَّف به ؛ لأنه إن كان موجوداً وأُمِر به فهو تحصيل حاصل ، وتحصيل الحاصل مُحال فالأمر بالموجود مُحال (2) ..
قال المجد بن تيمية :" لا يصح الأمر بالموجود عند أصحابنا والجمهور (3) " .
(1) تقرير الشربيني مع العطار 1/107
(2) انظر : بذل النظر /11 وروضة الناظر /52 والمختصر في أصول الفقه /69 وشرح الكوكب المنير 1/495
(3) المسوّدة /57
المطلب الخامس
تكليف الكفار
لا خلاف بين العلماء في أن الكفار مخاطَبون بأصول الشريعة ، فهُم مخاطَبون بأمر الإيمان ..
وإنما الخلاف في : أنهم مخاطَبون بفروع الشريعة ـ كالصلاة والصيام والزكاة ـ كما أنهم مخاطَبون بأصولها أم لا ؟ وهل يؤاخَذون عليها في الآخرة ، مع عدم حصول الشرط الشرعي وهو الإيمان ؟
اتفق الأصوليون على أنه جائز عقلاً ..
واختلَفوا في جوازه شرعاً على مذاهب :
المذهب الأول : أنهم يخاطَبون بفروع الشريعة مطلقاً في الأوامر والنواهي ..
وهو ما عليه الجمهور مِن الأشاعرة وأكثر المعتزلة والعراقيين مِن الحنفية .
ولا يشترط في التكليف بالفعل أن يكون شرْطه حاصلاً حالة التكليف ، بل لا مانع مِن ورود التكليف بالمشروط وتقديم شرْطه عليه ، وهو جائز عقلاً وواقع سمعاً .(1/267)
المذهب الثاني : أنهم غير مخاطَبين بفروع الشريعة ..
وهو ما عليه بعض الحنفية والقاضي عبد الجبار مِن المعتزلة ، وقال الإبياري : إنه ظاهرمذهب مالك ..
لأن حصول الشرط الشرعي شرْط في التكليف عندهم .
تحقيق مذهب الحنفية :
ذهب بعض الأصوليين إلى أن الحنفية يرون أن الكفار غير مخاطَبين بفروع الشرعية ..
ولكن بالرجوع إلى مَراجعهم اتضح لنا ما يلي :
أنهم يتفقون مع الجمهور في أن الكفار مخاطَبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات .
واختلَفوا معهم في حكْم الفروع في وجوب الأداء في أحكام الدنيا : فهل يعاقَبون على ترْك الأداء زيادةً على عقوبة الكفر ؟
العراقيون منهم يرون أنهم مخاطَبون بها ، وهم مع الجمهور .
والبخاريون يرون أنهم غير مخاطَبين (1) .
ولِذا فإطلاق المذهب على الحنفية كما فَعَل البعض (2) فيه نظر ، والأَوْلى أن يقول : بعض الحنفية في وجوب الأداء في أحكام الدنيا (3) .
وقد أَحسَنَ البيضاوي صنعاً حينما قال :" المسألة الثانية : الكافر مكلَّف بالفروع ، خلافاً لِلمعتزلة " ا.هـ (4) .
المذهب الثالث : أنهم مكلَّفون بالنواهي دون الأوامر ..
وهو ما عليه بعض الشافعية ..
لأن النواهي أليَق بالعقوبات الزاجرة .
المذهب الرابع : أنهم مخاطَبون بالأوامر فقط ..
(1) انظر : المنار مع كشف الأسرار 1/137 - 140 والتوضيح مع التلويح 1/402 - 407 وحاشية نسمات الأسحار /60 ، 61
(2) انظر : نهاية السول 1/207 ، 208 والبحر المحيط 1/397
(3) انظر مناهج العقول 1/204
(4) انظر : المنهاج مع نهاية السول 1/203 ومناهج العقول 1/204
حكاه ابن المرحل في " الأشباه والنظائر " ، ولَعلَّه ـ كما قال الزركشي ـ انقلَب مما قبله .
المذهب الخامس : أن المرتد مكلَّف ، دون الكافر الأصليّ ؛ لالتزام المرتد أحكامَ الإسلام ..
حكاه القاضي عبد الوهاب في " الملخّص " والطرطوشي في " العمد " .(1/268)
المذهب السادس : أنهم مكلَّفون بما عدا الجهاد ؛ لامتناع قتالهم أنفسَهم .
حكاه القرافي ، وقال :" ولا أَعرِف أيْن وجدتُه " ا.هـ .
المذهب السابع : الوقف ..
حكاه سليم الرازي عن بعض الأشعرية ، وحكاه الاسفراييني عن الأشعري .
المذهب الثامن : الحربيّ ليس مكلًّفاً ـ دون غيره ـ لِعدم التزامه بالأحكام ، بخلاف الذِّمِّيّ ..
ولم يُعرَف له قائل (1) .
وهذه المذاهب المتقدمة المشهورُ منها ثلاثة عند المتقدِّمين ، وهي الأُوَل ، وما عداها أمارة ضَعْفِه واحدة ، ولِذا سأكتفي ـ بإذن الله تعالى ـ بإيراد أدلة المذاهب المشهورة .
أدلة المذاهب :
أدلة المذهب الأول :
استدل أصحاب المذهب الأول بأدلة ، نذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : الآيات الآمرة بالعبادة ..
منها : قوله تعالى { يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم } (2) ، وقوله تعالى
(1) انظر البحر المحيط 1/397 - 403
(2) سورة البقرة مِن الآية 21
{ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت } (1) ..
وجْه الدلالة : أن الله تعالى خاطَب الناسَ جميعاً بالعبادة والحج فيما تَقدَّمَ ، فالخطاب هنا عامّ يشمل المسلِمَ والكافرَ ، وإذا كان كذلك كان الكفار مكلَّفين بالفروع ، والكفر غير مانع مِن التناول ؛ لإمكان إزالته : كالحدث المانع مِن الصلاة ، والجامع كوْن كلٍّ منهما مانعاً ممكِن الزوال ..
فدل ذلك على أنهم مكلَّفون بفروع الشريعة ، وهذا جانب الأوامر .
الدليل الثاني : الآيات الموعِدة بترْك الفروع ..
منها : قوله تعالى { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَوة } (2) ، وقوله تعالى { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين } (3) ..(1/269)
وجْه الدلالة : أن هذه الآيات بيَّنَت أن الكفار مع تعذيبهم على الكفر فإنهم يعترفون بترْكهم فروع الشريعة مِن زكاة وصلاة ، فلو لم يَكونوا مكلَّفين بها لَمَا تَوعَّدَهم الله تعالى بالعِقاب على ترْك الفروع ، واللازم باطل ..
فدل ذلك على أنهم مكلَّفون بفروع الشريعة ، وهذا جانب الترك أو النهي (4) .
أدلة المذهب الثاني :
استدل النافون لِتكليف الكفار بفروع الشريعة بأدلة ، أَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله - صلى الله عليه وسلم - { ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ
(1) سورة آل عمران مِن الآية 97
(2) سورة فُصِّلَت 6 ، 7
(3) سورة المثر الآيتان 42 ، 43
(4) انظر : المنهاج مع الإبهاج 1/176 - 182 ونهاية السول 1/207 - 209 ومناهج العقول 1/203 - 205 وشرح مختصر الروضة 1/207 - 209
فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ خَمْسَ صَلَوَات } (1) ..
وجْه الدلالة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ لِرسوله في الدعوة إلى الإسلام أن يبدأ أولاً بالشهادة ثم بالصلاة ، وهكذا باقي الفروع ، الأمرَ الذي يُرَتِّب الفروع على الأصل وهو الشهادة ( الإيمان ) ، فدل ذلك على أن الكفار غير مخاطَبين بفروع الشريعة ؛ وإلا لَمَا كان لِلترتيب فائدة (2) ..
وهذا دليل الحنفية القائلين بأن الكفار لا يخاطَبون بأداء العبادات التي تحتمل السقوط (3) .
مناقشة هذا الدليل :
ويمكن مناقشة هذا الدليل : بأنه حينما رتَّب الأولويات بالإيمان ثم الفروع إنما أراد تأكيد أهمية ومنزلة الإيمان الذي بدونه لا يُقبَل عمل ، وليس فيه ما يدل على عدم تكليفهم بالفروع .
والحق أن هذا الدليل حجة عليهم ؛ لأنّا نقول بتكليفه بالفروع بشرْط إتيانه أولاً بالإيمان .(1/270)
الدليل الثاني : أنه لو صَحَّ تكليفهم بالفروع لَصَحَّت منهم إذا أدّاها قبْل إيمانه حينما أُمِر بالحج أو الصلاة ـ مَثَلاً ـ وهو على كُفْرِه ؛ لأنه موافِق لِلأمر ، واللازم باطل بالاتفاق ؛ لأن الصلاة لا تُقبَل بدون إيمان ..
فدل ذلك على أن الكفار غير مخاطَبين بفروع الشريعة ؛ وإلا لكانت صَلاتهم مقبولة .
مناقشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأن هذه العبادة وتلك الصلاة تَصِحّ وتُقبَل
(1) رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) انظر مناهج العقول 1/207
(3) انظر كشف الأسرار مع المنار 1/138 - 140
إذا كانت مقترِنةً بشرْطها وهو الإيمان : كالمُحْدِث الذي تَصِحّ منه الصلاة إذا وُجِدَت الطهارة .
الجواب عن هذه المناقشة :
وقد رُدَّت هذه المناقشة : بأن قياسكم باطل ؛ لأن الصلاة لا تَصِحّ منه أبداً ؛ لأنه بعد الإيمان لم يبقَ في ذمته شيء ، فأي شيء يؤدِّي ؟ بخلاف الجُنُب والمُحْدِث (1) .
مناقشة هذا الجواب :
وأرى أن هذا الجواب مقبول ووجيه ..
ولِذا فالأَوْلى أن يكون القياس هكذا : كالمُحْدِث الذي وَجَبَت عليه الصلاة ولا تَصِحّ بعد الطهارة ، وحينئذٍ يَكون القياس صحيحاً .
أدلة المذهب الثالث :
استدل أصحاب هذا المذهب القائلون بالتفصيل ـ أي بتكليفهم بالنواهي دون الأوامر ـ بدليل واحد مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أن النهي هو ترْك المنهِيّ عن فِعلِه ، وهو ممكن مع الكفر .
الجواب عن هذا الوجه :
وقد أجيبَ عن هذا الوجه : بأن الكفر مانع مِن الترك كالفعل ؛ لأن ترْك هذه الفروع عبادة يثاب العبد عليها ، ولا تَصِحّ إلا بعد الإيمان ، ثم إن المكلَّف به في النهي هو الكف عن الشيء ، والكف فعلٌ كما عرفْنا في مبدأ الكلام عن المحكوم به .
الوجه الثاني : وهو دليل على أنهم غير مكلَّفين بالأوامر ، أن الصلا ة ـ مَثَلاً ـ لو كانت واجبةً لكانت مطلوبةً منهم ، ولكن لا يصحّ أن تكون(1/271)
(1) انظر فواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/130 ، 131
مطلوبةً منهم : أمّا في حالة الكفر فلِعدم صحتها ، ويستحيل مِن الشارع تطلب تعاطي الفاسد ، وأمّا بعد الإسلام فلِعدم وجوب قضائها عليهم كما بَيَّنَّا ، فإذا تَعذَّرَ الطلب تَعَذَّرَ الوجوب .
الجواب عن هذا الوجه :
وقد أجيب عن هذا الوجه : بأنّ زمَن الكفر يَصلح ظرفاً لِلتكليف لا لِلإيقاع ، أي أنه يكلَّف في زمَن الكفر بالإيقاع ، بمعنى أنه يُسلِم أولاً ثم يوقع ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - { الإِسْلاَمُ يَجُبُّ مَا قَبْلَه } (1) يقتضي سبْق التكليف به ولكن يسقط ترغيباً في الإسلام (2) .
والراجح عندي ما ذهب إليه الجمهور مِن أن الكفار مخاطَبون بفروع الشريعة مطلقاً ؛ لِقوة أدلتهم ، وعدم سلامة أدلة المعارِضين .
ثمرة الخلاف في تكليف الكفار بالفروع :
ومما تجب ملاحظته أن الشائع بين العلماء ألاّ ثمرةَ لِهذا الخلاف في أحكام الدنيا ، فلا يَصِحّ أداء هذه العبادة منهم ما داموا كفاراً ، وإذا أَسلَموا لا يطالَبون بالقضاء ، وإنما الخلاف في العِقاب الأخروي :
فعلى رأْي الجمهور : يستحق الكافر عِقابيْن : عِقاباً على ترْك الإيمان وعِقاباً على ترْك الفروع الدينية .
وأمّا على رأي النفاة : فيستحق عِقاباً واحداً على ترك الإيمان فقط .
والحقيقة أنّ لِلخلاف فوائد في الدنيا ، نذكر منها :
1- تنفيذ طلاق الكافر وعِتْقه وظهاره وإلزامه الكفارات وغير ذلك ،
(1) رواه أحمد والطبراني عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - .
(2) انظر : روضة الناظر 1/146 ونهاية السول 1/194 ومُسلَّم الثبوت 1/86 وإرشاد الفحول /11 وأصول الفقه الإسلامي لِلزحيلي 1/147 - 151
أي أنه يلتزم شرعاً بآثار هذه الأمور عند الجمهور ، خلافاً لِلحنفية ؛ لأنه غير مخاطَب بأحكام الفروع ..(1/272)
فالطلاق ـ مَثَلاً ـ سبب لِحرمة الزوجة عند الأولين ، أمّا عند الحنفية فليس سبباً لِلحرمة ، كذلك لا يَصِحّ عندهم ظهاره ؛ لأنه يعقب كفارةً ليس هو مِن أهلها .
2- إذا قَتَل الحربيُّ مسلماً ففي وجوب القَوَد أو الدية خلاف مَبْنِيّ على هذه القاعدة .
3- أن المرتد إذا أَسلَمَ لزمه قضاء الصلوات الفائتة في أيام الردة ، وكذا أيام الصيام الفائت في أيام الردة عند الجمهور ..
وعند أبي حنيفة لا يُلزَم بقضاء شيء ؛ لأن المرتد مُلْحَق بالكافر الأصلي في أنه لا يخاطَب بفروع الشريعة .
4- أن المسلِم إذا اجتمع عليه صلوات وزكوات فارتَد ثم أَسلَم لم تسقط عنه عند الجمهور ..
وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : يَسقط الجميع برِدَّته وبرئت ذمته .
5- إذا جوَّزْنا لِلكافر دخول المساجد إما مطلقاً ـ على رواية ـ أو لِمصلحة كما قيَّدها البعض ، أو بإذن مُسلِم كما قيَّدَها بعضهم ، أو بإذن مُسلِم لِمصلحة كما قيَّدَها بعضهم ، فلو كان جُنُباً فهل يجوز ؟
في المسألة وجهان بناهما بعضهم على المخاطَبة بالفروع وعدمِها (1) .
والحق الذي أميل إليه في هذا المقام أن الخلاف له ثمار ، وليس ثمرةً كما ذهب البعض ؛ بدليل هذه الفروع التي تفرعَت عليه ، ولِذا وجب علينا أن لا تعامَل هذه الجزئية معاملةً هامشيةً أو دراسة ما لا ثمرة له ؛ لأن هذا
(1) القواعد والفوائد الأصولية /47
التعبير في ختام بعض المسائل الأصولية " والخلاف لا ثمرة له " يصيب بعض المبتدئين في العلم بإحباط ، وإني لا أُفَرِّغ أي خلاف مَهْمَا قَلَّتْ فائدته مِن الثمرة والفائدة .
المطلب السادس
الإكراه
تعريف الإكراه :
والإكراه لغةً : حَمْل إنسان على أمْر لا يريده طبعاً أو شرعاً .
وشرعاً : اسم لِفِعل مَن يفعل الأمر لِغيره ، فينتفي به اختياره (1) .
وعرّفه بعضهم بأنه : حَمْل الشخص غيرَه على ما لا يرضاه مِن قول أو فعل .
أقسام الإكراه :
والإكراه له تقسيمان :(1/273)
الأول : مِن حيث المشروعية وعدمها .
والثاني : مِن حيث الإلجاء وعدمه .
ونفصِّل القول فيهما فيما يلي :
التقسيم الأول : الإكراه مِن حيث المشروعية وعدمها ..
والإكراه بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسمين :
الأول : إكراه مشروع ( بحق ) ..
وهو : الإكراه المشروع ، أي الذي لا ظلْم فيه ولا إثم ..
مثل : إكراه المرتد على الإسلام ، وإكراه المدين القادر على وفاء الدين .
الثاني : إكراه غير مشروع ( بغير حق ) ..
وهو : الإكراه ظلماً ، أو الإكراه المُحَرَّم ؛ لِتحريم وسيلته ، أو لِتحريم المطلوب به (1) .
التقسيم الثاني : الإكراه مِن حيث الإلجاء وعدمه ..
والإكراه بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسميْن : إكراه مُلجِئ ( تام ) ، وإكراه غير مُلجِئ ( قاصر ) ..
فالإكراه المُلجِئ : هو الذي لا يبقى لِلشخص معه قدرة ولا اختيار : كإلقاء الشخص مِن أعلى الجبل .
والإكراه غير المُلجِئ : هو الذي لا يبقى معه اختيار وإن بقيَت معه القدرة .
مِثل : أن يُكرِه شخصٌ غيرَه على قتْل آخَر فيقول له :" اقتل فلاناً وإلا قتلتُك " ، ويَعلم المُكْرَه أنه إن لم يَقتل ذلك الشخص قُتِل هو .
ويتحقق الإكراه بقتل النفس أو بذهاب عضو مِن الأعضاء أو بغير ذلك مما هو معروف في كتب الفروع .
وقد اتفق الأصوليون على أن الإكراه الملجئ يمنع التكليف بالمُكْرَه عليه ، كما يمنع التكليف بضده ؛ لأن مِن شروط التكليف أن يكون الفعل مقدوراً لِلمكلَّف ، إلا إذا قلنا : يجوز التكليف بما لا يطاق .
وقد قسّم الحنفية الإكراه غير الملجئ قسميْن :
إكراه يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار :
نحو : الإكراه ( التهديد ) بالحبس .
وإكراه لا يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار :
نحو : الإكراه ( التهديد ) بحبس الابن أو ابنة .
(1) انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 6/104
وحكْمه عندهم : أنه يَصِحّ التكليف ، ولا ينافي أهلية الخطاب .
مذاهب الأصوليين في الإكراه غير المُلجِئ ( القاصر ) :(1/274)
اختلف الأصوليون في ذلك على ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول : أنه لا يمنع التكليف ..
وهو ما عليه الجمهور .
واحتجوا : بأن الفعل مقدور لِلمكلَّف ، فهو إن شاء فَعَلَه ، وإن شاء تَرَكَه ، والمكلَّف متمكِّن مِن الفعل ببلوغه وعِلْمِه الخطاب ، فالمقتضِي لِلتكليف موجود وهو البلوغ والعقل وفهْم الخطاب ، والمانع ـ وهو عدم القدرة على الفعل ـ منتفٍ ، وبذلك يكون التكليف جائزاً ؛ لوجود المقتضِي وانتفاء المانع .
المذهب الثاني : أنه يمنع التكليف في عيْن المُكْرَه عليه دون نقيضه ..
وهو ما عليه المعتزلة .
واحتجوا : بأنّ فِعْل المُكْره له لا يسقط عنه التكليف به ؛ لأن فعل المأمور به في هذه الحالة لا يوجِب ثواباً عليه ؛ لكونه أتى به لِداعي الإكراه ، ولم يأتِ به لِداعي الطاعة ، وحيث كان الإتيان بالمأمور به لم يحقق الفائدة المقصودة منه امتنع التكليف به ؛ لِمَا فيه مِن العبث .
أمّا إن كان المُكْرَه عليه معصيةً ـ كالقتل أو السرقة أو الغصب ـ كان المُكْرَه مكلَّفاً بضد المُكْرَه عليه ؛ لأنّ ترْك المُكْرَه عليه في هذه الحالة أَبْلَغ في إجابة داعي الشرع ، والثواب عليه أَعْظَم ، فالإكراه في هذه الحالة لا يمنع مِن التكليف بضد المُكْرَه عليه .
مناقشة هذا الدليل :
ومما تقدّم يتبين أن المعتزلة لا ينكرون حرمة المُكْرَه عليه إذا كان
معصيةً ، بل يقولون بها ، ولِذلك يمنعون المُكْرَه مِن فعل هذه المعصية ويجعلونه مكلَّفاً بالضد ..
فاعتراض الباقلاني عليهم بأن الإجماع منعقِد على حرمة المُكْرَه عليه إذا كان معصيةً لا يضرهم في شيء ؛ لأنهم لم يخالفوا الإجماع ..
لِذلك قال بعض العلماء : إن القاضي الباقلاني أراد باعتراضه هذا أن المعتزلة منعوا التكليف بالمُكْرَه عليه لِكونه غير مقدور لِلمكلَّف ، فاستشكل عليهم أنهم كلفوا المُكْرَه على المعصية بفِعل الضد ..(1/275)
ومقتضى هذا أن يكون الضد مقدوراً للمكلَّف ؛ لأن الله تعالى لا يكلِّف العبدَ عندهم بالشيء إلا بعد خَلق القدرة فيه على ذلك الشيء ، ويَلزم مِن كون الضد مقدوراً لِلمكلَّف أن يكون المُكْرَه عليه مقدوراً لِلمكلَّف كذلك ؛ لأن القدرة على الشيء قدرة على ضده .
وبذلك لا يَصِحّ قولهم : إن المكرَه عليه غير مقدور لِلمكلَّف .
وعقَّب العلاّمة الشيخ أبو النور زهير على ذلك بقوله :" والذي أراه أن المعتزلة لم يمنعوا التكليف بالمُكْرَه عليه لِكونه غير مقدور للمكلَّف سواء أكان المُكْرَه عليه طاعةً أم معصيةً ، وإنما الذي مَنَعَهم مِن القول بالتكليف بالمُكْرَه عليه إذا كان طاعةً هو عدم الثواب عليه ؛ لكونه أتى به لِداعي الإكراه ، فتذهب فائدة التكليف به ، وذهاب فائدة التكليف تقضي بذهاب التكليف ، وبذلك لم يكن مكلَّفاً بالمُكْرَه عليه ، وبذلك يكون اعتراض الباقلاني على المعتزلة ليس له وجه عندي " ا.هـ .
وهو تعقيب عندي له وجاهته المقبولة .
المذهب الثالث : أن الآتي بالمُكْرَه عليه إن كان لِداعي الشرع فهو صحيح وإن كان لِداعي الإكراه فليس كذلك ..
وهو اختيار الغزالي (1) .
والراجح عندي هو ما عليه الجمهور ؛ لِقوّة حجته ، وحيث إنه مكلَّف على رأْي الجمهور ؛ فإن الأحكام الشرعية تثبت في حقه ، لكن خفف عليه بسبب الإكراه ، إذ جوّز له الترخص في كثير مِن الأحكام ، حتى في كلمة الشرك ، إذا كان قلْبُه مطمئناً بالإيمان ، قال تعالى { إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنُّ بِالإِيمَن } (2) (3) .
أثر الإكراه في الأحكام :
ومما يتفرع على الإكراه : لو أُكرِهَ على السرقة أو تَناوُل المُسْكِر ففَعَل فهل يجب عليه الحد أم لا ؟
في المسألة روايتان ذَكَرَهما القاضي أبو يعلى (4) .
********
( تم بعون الله وتوفيقه الجزء الأول ، ويليه الجزء الثاني مبتدئاً بدلالات الألفاظ على الحكْم ..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبِه وسلَّم )(1/276)
(1) أصول الفقه لِلشيخ أبي النور زهير 1/168 - 170 بتصرف .
(2) سورة النحل من الآية 106
(3) انظر : شرح طلعة الشمس 2/271 والمستصفى 1/90 ، 91 والبحر المحيط 1/355 - 360 وروضة الناظر /50 وشرح مختصر الروضة 1/194 وشرح الكوكب المنير 1/508 ، 509 وشرح المحلي مع البناني 1/74 - 76 والإبهاج 1/73
(4) القواعد والفوائد الأصولية /43 ، 44 وانظر التمهيد لِلإسنوي /124
أهم المراجع
أولاً : القرآن الكريم وعلومه
* القرآن الكريم .
* أحكام القرآن لابن العربي .. دار الكتب العلمية – بيروت 1988 م .
* أحكام القرآن لِلجصاص .. دار الكتب العلمية .
* أحكام القرآن لِلكيا الهراس .. دار الكتب العلمية – بيروت 1985 م .
* أنوار التنزيل وأسرار التأويل لِلبيضاوي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* تفسير القرآن العظيم لابن كثير .. دار البيان العربي - القاهرة .
* التفسير الكبير لِلفخر الرازي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* تفسير النسفي .. دار الكتاب العربي – بيروت .
* الجامع لأحكام القرآن لِلقرطبي .. دار الكتب العلمية .
* جامع البيان عن تأويل القرآن لِلطبري .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* صفوة التفاسير لِلصابوني .. دار القرآن الكريم – بيروت .
* طبقات المفسرين لِلسيوطي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* الكشاف لِلزمخشري .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* المفردات في غريب القرآن لِلأصفهاني .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* النكت والعيون لِلماوردي .. أوقاف الكويت .
ثانياً : الحديث الشريف
* الأحاديث القدسية .. دار الكتاب العربي – بيروت .
* الأدب المفرد لِلبخاري .. المكتبة الإسلامية – حمص .
* بلوغ المرام مِن أدلة الأحكام لابن حجر العسقلاني .. دار ابن كثير –
بيروت .
* جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير .. مكتبة الملاح .
* سُبُل السلام لِلصنعاني .. دار الشعب – القاهرة .
* سُنَن ابن ماجة .. دار إحياء التراث العربي – بيروت .(1/277)
* سُنَن أبي داود .. دار الحديث – حمص 1969 م .
* سُنَن الترمذي .. دار الفكر – بيروت .
* سُنَن الدارقطني .. دار المحاسن – القاهرة .
* سُنَن الدارمي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* السُّنَن الكبرى لِلبيهقي .. حيدر آباد – الهند 1355 هـ .
* سُنَن النسائي .. دار الفكر – بيروت .
* شرْح السُّنَّة لِلبغوي .. المكتب الإسلامي – بيروت .
* شرْح صحيح مسلم لِلنووي .. دار إحياء التراث العربي – بيروت .
* صحيح البخاري .. دار الشعب – القاهرة .
* فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني .. المكتبة
السلفية – القاهرة .
* كشف الخفاء لِلعجلوني .. دار إحياء التراث العربي – بيروت 1351 هـ .
* لسان الميزان لابن حجر العسقلاني .. مؤسسة الأعظمي – بيروت
1390 هـ .
* مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لِلهيثمي .. دار الكتاب العربي – بيروت .
* مسند الإمام أحمد .. دار صادر – بيروت .
* المستدرَك لِلحاكم .. دار الكتاب العربي – بيروت .
* الموطأ لِلإمام مالك .. دار النفائس – بيروت 1400 هـ .
* نصْب الراية في تخريج أحاديث الهداية لِلزيلعي .. المكتب الإسلامي –
بيروت 1393 هـ .
ثالثاً : أصول الفقه ورجاله
* الإبهاج في شرح المنهاج لِلسبكي وولده .. مكتبة الكليات الأزهرية –
القاهرة 1401 هـ .
* أثر الاختلاف في القواعد الأصولية د./ مصطفى الخشن .. مؤسسة
الرسالة – بيروت 1402 هـ .
* الإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم .. دار الكتب العلمية – بيروت
1404 هـ .
* إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق مِن عِلْم الأصول لِلشوكاني .. مكتبة
الحلبي - القاهرة 1356 هـ .
* أصول البزدوي ( كنز الوصول إلى معرفة الأصول ) .. دار الكتاب
العربي – بيروت 1411 هـ .
* أصول السرخسي .. دار المعرفة – بيروت .
* أصول الفقه لِلشيخ محمد أبي النور زهير .. المكتبة الأزهرية - القاهرة
1412 هـ .(1/278)
* أصول الفقه لِلشيخ محمد الخضري .. دار إحياء التراث العربي –
بيروت 1405 هـ .
* أصول الفقه الإسلامي د./ وهبة الزحيلي .. دار الفكر – دمشق
1406 هـ .
* أقسام الحكْم الوضعي لِشيخنا الفاضل د./ رمضان عبد الودود .. رسالة
دكتوراه بكلية الشريعة – جامعة الأزهر برقم 501
* الإمام في أدلة الأحكام لِلعز بن عبد السلام .. دار البشائر الإسلامية –
بيروت 1407 هـ .
* الأمر عند الأصوليين وأثره في الفقه الإسلامي .. رسالة دكتوراه
لِلدكتور إسماعيل محمد علي عبد الرحمن .
* البحر المحيط للزركشي .. أوقاف الكويت 1413 هـ .
* بذل النظر لِلإسمندي .. دار التراث – القاهرة 1412 هـ .
* البرهان لإمام الحرمين الجويني .. دار الأنصار – القاهرة 1400 هـ .
* بيان المختصر لِلأصفهاني .. جامعة أم القرى - مكة المكرمة 1406 هـ .
* التبصرة لِلشيرازي .. دار الفكر – دمشق 1403 هـ .
* التحرير لابن الهمام .. مكتبة الحلبي - القاهرة ( مع تيسير التحرير )
1350 هـ .
* التحصيل مِن المحصول لِلأرموي .. مؤسسة الرسالة – بيروت
1408 هـ .
* تخريج الفروع على الأصول لِلزنجاني .. مؤسسة الرسالة – بيروت
1404 هـ .
* تشنيف المسامع لِلزركشي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* تغيير التنقيح لابن كمال باشا .. استانبول – تركيا 1308 هـ .
* تقرير الشربيني على شرح المحلي .. مكتبة الحلبي - القاهرة ( مع
حاشية البناني ) 1356 هـ .
* التقرير والتحبير لابن أمير الحاج .. المكتبة العلمية – بيروت 1403 هـ .
* تقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي ( تحقيق د./ صبحي محمد جميل ) ..
رسالة دكتوراه بكلية الشريعة – جامعة الأزهر برقم 360
* التمهيد في أصول الفقه لِلكلوذاني .. جامعة أم القرى – مكة المكرمة
1406 هـ .
* التمهيد في تخريج الفروع على الأصول لِلإسنوي .. مؤسسة الرسالة –
بيروت 1404 هـ .
* التوضيح مع التلويح لِصدر الشريعة .. دار الكتب العلمية – بيروت .(1/279)
* تيسير التحرير لأمير بادشاه .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1350 هـ .
* جمع الجوامع مع حاشية البناني لابن السبكي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* حاشية البناني مع شرح المحلي .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1356 هـ .
* حاشية الجرجاني على شرح العضد .. المكتبة الأزهرية لِلتراث –
القاهرة 1403 هـ .
* حاشية الدمياطي على شرح الورقات .. مكتبة محمد على صبيح –
القاهرة .
* حاشية السعد على شرح العضد .. المكتبة الأزهرية لِلتراث - القاهرة .
* حاشية العطار على شرح المحلي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* حاشية نسمات الأسحار على شرح إفاضة الأنوار لابن عابدين .. مكتبة
الحلبي - القاهرة 1399 هـ .
* حقائق الأصول شرح منهاج الوصول لِلأردبيلي ( تحقيق د./ إسماعيل
محمد علي عبد الرحمن [ الجزء الأول ] ، د./ قاسم عبد الدايم [ الجزء
الثاني ] ) .. رسالة ماجستير بكلية الشريعة بالأزهر .
* الرسالة لِلإمام الشافعي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة .. دار الكتاب العربي – بيروت
1401 هـ .
* سلاسل الذهب لِلزركشي .. مكتبة ابن تيمية – القاهرة 1411 هـ .
* سلم الوصول لِشرح نهاية السول لِلشيخ محمد بخيت المطيعي .. مكتبة
عالَم الكتب – بيروت .
* شرح إفاضة الأنوار على متن أصول المنار لِعلاء الدين الحصني ..
مكتبة الحلبي - القاهرة 1399 هـ .
* شرح التلويح على التوضيح لِلتفتازاني .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* شرح تنقيح الفصول لِلقرافي .. المكتبة الأزهرية لِلتراث – القاهرة
1414 هـ .
* شرح التوضيح لِلتنقيح لِصدر الشريعة .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* شرح طلعة الشمس لِلسالمي .. وزارة التراث القومي – سلطنة عمان
1405 هـ .
* شرح العضد على مختصر ابن الحاجب .. مكتبة الكليات الأزهرية -
القاهرة 1403 هـ .
* شرح العيني لِلمنار .. المطبعة العثمانية – استانبول 1315 هـ .(1/280)
* شرح الكوكب الساطع لِلسيوطي ( تحقيق د./ محمود عبد المنعم ) ..
رسالة دكتوراه بكلية الشريعة – جامعة الأزهر برقم 3390
* شرح الكوكب المنير لِلفتوحي .. جامعة أم القرى – مكة المكرمة
1400 هـ .
* شرح لب الأصول لِشيخ الإسلام زكريا الأنصاري .. مكتبة الحلبي -
القاهرة 1360 هـ .
* شرح اللمع لِلشيرازي .. البخار – بريدة ( المملكة السعودية ) 1407 هـ .
* شرح المحلي على جمع الجوامع .. مكتبة الحلبي - القاهرة ( مع حاشية
البناني وحاشية العطار ) .
* شرح مختصر الروضة لِلطوفي .. مؤسسة الرسالة – بيروت 1407 هـ .
* شرح منار الأنوار لابن ملك .. المطبعة العثمانية – استانبول 1315 هـ .
* شرح المنهاج لِلبيضاوي .. مكتبة الراشد – الرياض 1401 هـ .
* شرح الورقات لِلعبادي .. مصورة عن مخطوطة بالمكتبة الظاهرية
بدمشق .
* شرح الورقات لِلجلال المحلي .. مكتبة محمد علي صبيح – القاهرة .
* الضياء اللامع شرح جمع الجوامع لابن حلولو .. دار الحرمين – القاهرة
1414 هـ .
* العدة في أصول الفقه لِلقاضي أبي يعلى .. السعودية .
* عِلْم أصول الفقه لِلشيخ عبد الوهاب خلاّف .. دار القلم – الكويت
1407 هـ .
* غاية الوصول إلى دقائق علم الأصول لأستاذنا الفاضل د./ جلال عبد
الرحمن .. مكتبة السعادة – القاهرة 1399 هـ .
* فتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1355 هـ .
* الفصول في الأصول لِلجصاص .. أوقاف الكويت 1405 هـ .
* فواتح الرحموت بشرح مُسَلَّم الثبوت لِلأنصاري .. دار الكتب العلمية –
بيروت .
* قواطع الأدلة لابن السمعاني .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* قواعد الأحكام لِلعز بن عبد السلام .. دار الريان – القاهرة .
* القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي لِعلاء الدين البخاري
دار الكتاب العربي – بيروت 1411 هـ .(1/281)
* كشف الأسرار لِلنسفي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* الكاشف عن المحصول لِلعجلي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* المحصول في عِلم الأصول لِلرازي .. دار الكتب العلمية – بيروت
1408 هـ .
* مختصر المنتهى لابن الحاجب .. المكتبة الأزهرية لِلتراث – القاهرة
( مع شرح العضد ) .
* المستصفى مِن عِلم الأصول لِلإمام الغزالي .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1403 هـ .
* مُسَلَّم الثبوت لابن عبد الشكور .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* المُسَوَّدة في أصول الفقه لآل تيمية .. دار الكتاب العربي – بيروت .
* المعالم في علم أصول الفقه لِلرازي .. دار عالَم المعرفة – القاهرة
1414 هـ .
* المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1403 هـ .
* معراج المنهاج لِلجزري .. مكتبة الحسين الإسلامية – القاهرة
1413 هـ .
* مفتاح الأصول في بناء الفروع على الأصول لِلشريف التلمساني ..
مكتبة السعادة – القاهرة 1401 هـ .
* المنار لِلنسفي .. دار الكتب العلمية – بيروت 1406 هـ .
* منتهى السول في عِلم الأصول لِلآمدي .. مكتبة محمد علي صبيح –
القاهرة .
* منهاج العقول شرح منهاج الوصول لِلبدخشي .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1405 هـ .
* منهاج الوصول إلى عِلم الأصول لِلبيضاوي .. مكتبة محمد علي صبيح
القاهرة .
* الموافقات في أصول الأحكام لِلشاطبي .. دار الفكر – بيروت .
* ميزان الأصول لِلسمرقندي .. مكتبة الدوحة الحديثة – قطر 1404 هـ .
* نشر البنود على مراقي السعود لِعبد الله الشنقيطي .. دار الكتب العلمية
بيروت 1409 هـ .
* نهاية السول في شرح منهاج الوصول لِلإسنوي .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1405 هـ .
* الواجب الموسَّع عند الأصوليين د./ عبد الكريم النملة .. دار الحرمين –
القاهرة .
* الوجيز في أصول الفقه د./ عبد الكريم زيدان .. مؤسسة الرسالة –
بيروت .(1/282)
* الورقات لإمام الحرمين الجويني .. مكتبة محمد علي صبيح – القاهرة .
* الوصول إلى الأصول لابن برهان .. مكتبة المعارف – الرياض
1404 هـ .
رابعاً : الفقه وقواعده ورجاله
* الأشباه والنظائر لابن نجيم .. دار الكتب العلمية – بيروت 1405 هـ .
* الأشباه والنظائر لِلسيوطي .. دار الكتب العلمية – بيروت 1403 هـ .
* الأم لِلإمام الشافعي .. دار الشعب – القاهرة .
* بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد .. دار المعرفة – بيروت
1401 هـ .
* حاشية الدسوقي على الشرح الكبير .. دار الفكر العربي – القاهرة .
* روضة الطالبين وعمدة المتقين لِلنووي .. المكتب الإسلامي - بيروت
1405 هـ .
* شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لِلشيخ محمد حسنين مخلوف ..
دار الفكر – بيروت .
* الشرح الكبير لأبي البركات الدردير .. دار الفكر العربي – القاهرة .
* شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك .. دار الفكر – بيروت
1401 هـ .
* فتح القدير لابن الهمام .. المطبعة الأميرية – القاهرة .
* الفروق لِلقرافي .. مكتبة عالَم الكتب – بيروت .
* الفقيه والمتفقه لِلحصني .. دار الكتب العلمية – بيروت 1400 هـ .
* القواعد لابن المقري .. جامعة أم القرى – مكة المكرمة .
* الكافي في فقه الإمام أحمد لابن قدامة المقدسي .. المكتب الإسلامي -
بيروت 1408 هـ .
* المبسوط لِلسرخسي .. دار الفكر العربي .. القاهرة .
* المغني لابن قدامة المقدسي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لِلخطيب الشربيني ..
مكتبة الحلبي - القاهرة 1377 هـ .
* المهذب في فقه الإمام الشافعي لِلشيرازي .. دار القلم – دمشق
1412 هـ .
* الموسوعة الفقهية ( مجموعة مِن العلماء والباحثين ) .. أوقاف
الكويت .
* نهاية المحتاج لِلرملي .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1357 هـ .
خامساً : العقيدة وأصول الدين
* إحياء علوم الدين لِلإمام الغزالي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .(1/283)
* الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين الجويني ..
مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت 1413 هـ .
* اعتقادات فِرَق المسلمين والمشركين لِلرازي .. مكتبة النهضة المصرية
1356 هـ .
* شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز .. المكتب الإسلامي – بيروت
1408 هـ .
* الفرق بين الفِرَق لِلبغدادي .. دار الآفاق الجديدة – بيروت 1393 هـ .
* قواعد العقائد لِلغزالي .. مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة 1390 هـ .
* المسائل الخمسون في أصول الدين لِلرازي .. دار العلم لِلملايين –
بيروت 1971 م .
* مطالع الأنظار شرح طوالع الأنوار لِلأصفهاني .. الهند .
* معالم أصول الدين لِلرازي .. مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة .
* مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري .. المكتبة العصرية – بيروت
1400 هـ .
* المِلَل والنِّحَل لِلشهرستاني .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
سادساً : علوم عربية ومنطقية وغيرها
* أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لِمحمد محيي الدين عبد الحميد ..
دار الجيل – بيروت 1369 هـ .
* تاج العروس لِلزبيدي .. دار الفكر - بيروت .
* تهذيب المنطق والكلام لِسعد الدين التفتازاني .. مكتبة الحلبي - القاهرة
1372 هـ .
* شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك .. مكتبة الحلبي - القاهرة
1384 هـ .
* القاموس المحيط لِلفيروزآبادي .. دار الجيل – بيروت .
* الكليات لأبي البقاء الكفوي .. مؤسسة الرسالة – بيروت 1412 هـ .
* لسان العرب لابن منظور .. دار الفكر – بيروت .
* مختار الصحاح لِزين الدين الرازي .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
* المصباح المنير لِلفيومي .. المكتبة العلمية – بيروت .
* معجم مقاييس اللغة لابن فارس .. دار الجيل – بيروت .
* مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام .. دار إحياء التراث العربي
بيروت .
* المفصل في علم العربية لِلزمخشري .. دار الجيل – بيروت .
سابعاً : التراجم والتاريخ وغيرها(1/284)
* الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني .. مكتبة المثنى –
بغداد .
* الإعلام لِلزركلي .. دار العلم لِلملايين – بيروت 1384 هـ .
* أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الجزري .. مكتبة الحياة – بيروت .
* البداية والنهاية لابن كثير .. مكتبة المعارف – بيروت 1985 م .
* بغية الوعاة لِلسيوطي .. مكتبة عيسى الحلبي – القاهرة 1384 هـ .
* تاريخ الطبري .. دار الكتب العلمية – بيروت 1411 هـ .
* السيرة النبوية لابن هشام .. مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة
1398 هـ .
* سِيَر أعلام النبلاء لِلذهبي .. مؤسسة الرسالة – بيروت .
* شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب لابن العماد الحنبلي .. دار المسيرة –
بيروت .
* كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لِحاجي خليفة .. مكتبة المثنى –
بغداد 1378 هـ .
* مقدمة ابن خلدون .. دار القلم – بيروت .
* المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي .. دائرة المعارف
العثمانية – حيدرآباد 1357 هـ .
* نور اليقين في سيرة سيد المرسَلين لِلشيخ محمد الخضري .. دار الجيل
بيروت .
* وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان .. دار صادر – بيروت .
فهرس
الموضوع ... صفحة
المقدمة........................................................ ... 3
الفصل الأول : مقدمة عِلم أصول الفقه : ... 9
المبحث الأول : تعريف أصول الفقه............................ ... 10
المبحث الثاني : موضوع عِلم أصول الفقه وأركانه............. ... 26
المبحث الثالث : استمداد عِلم الأصول.......................... ... 28
المبحث الرابع : غاية عِلم الأصول وثمرته..................... ... 30
المبحث الخامس : فضل عِلم الأصول ومنزلته.................. ... 31
المبحث السادس : نشأة عِلم الأصول وأول مَن صنَّف فيه...... ... 32
المبحث السابع : طُرُق التصنيف عند الأصوليين............... ... 38
المبحث الثامن : الفَرْق بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية(1/285)
والفَرْق بين الأصولي والفقيه................. ... 44
الفصل الثاني : الحاكم والحكْم الشرعي : ... 47
المبحث الأول : الحاكم : ... 48
أثر قاعدة التحسين والتقبيح في الأحكام : ... 56
الفرع الأول : شكْر المنعِم ومعرفته............................. ... 57
الفرع الثاني : حكْم الأشياء قبل ورود الشرع................... ... 63
المبحث الثاني : تعريف الحكم الشرعي وأقسامه : ... 70
المطلب الأول : تعريف الحكْم الشرعي والاعتراضات الواردة
الموضوع ... صفحة
عليه : ... 71
أولاً : تعريف الحكْم الشرعي................................... ... 71
ثانياً : الاعتراضات الواردة على هذا التعريف.................. ... 76
المطلب الثاني : أقسام الحكم الشرعي : ... 82
أولاً : تعريف الحكم التكليفي................................... ... 82
ثانياً : تعريف الحكم الوضعي.................................. ... 84
المبحث الثالث : الواجب وتقسيماته : ... 87
المطلب الأول : تعريف الواجب................................ ... 88
المطلب الثاني : تقسيمات الواجب.............................. ... 90
المطلب الثالث : بِمَ يتحقق الأداء ؟............................. ... 100
المبحث الرابع : أحكام الواجب : ... 104
المطلب الأول : الواجب المخيّر : ... 105
أولاً : شروط التخيير........................................... ... 105
ثانياً : تحرير محل النزاع...................................... ... 106
ثالثاً : مذاهب الأصوليين في الواجب المخيّر................... ... 107
رابعاً : أدلة المذاهب........................................... ... 110
خامساً : تعقيب وترجيح........................................ ... 116
سادساً : ما يتفرع على الواجب المخيّر......................... ... 118
المطلب الثاني : الواجب الكفائي : ... 121
أولاً : أقسام الواجب الكفائي.................................... ... 121(1/286)
ثانياً : حكْم الواجب الكفائي..................................... ... 124
الموضوع ... صفحة
ثالثاً : مذاهب الأصوليين في الواجب الكفائي................... ... 124
رابعاً : أدلة المذاهب مع الترجيح............................... ... 127
خامساً : تعيين الواجب الكفائي................................. ... 132
سادساً : حكْم إتمام الواجب الكفائي............................. ... 132
سابعاً : ما يتفرع على الواجب الكفائي......................... ... 134
المطلب الثالث : الواجب الموسّع : ... 139
أولاً : تحرير محل النزاع...................................... ... 139
ثانياً : مذاهب الأصوليين في الواجب الموسَّع................... ... 140
ثالثاً : أدلة المثبِتين لِلواجب الموسّع............................. ... 144
رابعاً : أدلة المنكِرين لِلواجب الموسّع........................... ... 151
خامساً : حقيقة الخلاف في الواجب الموسَّع..................... ... 157
سادساً : ما يتفرع على الواجب الموسّع........................ ... 161
المطلب الرابع : القضاء هل يستلزم أمراً جديداً ؟ : ... 170
أولاً : تحرير محلّ النزاع...................................... ... 170
ثانياً : منشأ الخلاف............................................ ... 172
ثالثاً : مذاهب الأصوليين في استلزام القضاء لأمر جديد........ ... 172
رابعاً : أدلة المذاهب مع الترجيح .............................. ... 175
خامساً : ما يتفرع على هذه المسألة............................ ... 180
المطلب الخامس : مقدمة الواجب : ... 181
أولاً : تعريف مقدمة الواجب ، والفَرْق بينها وبين مقدمة
الوجوب................................................. ... 181
الموضوع ... صفحة
ثانياً : أقسام مقدمة الواجب..................................... ... 182
ثالثاً : مذاهب الأصوليين في مقدمة الواجب.................... ... 183(1/287)
رابعاً : ما يتفرع على مقدمة الواجب........................... ... 198
الفصل الثالث : الحكْم التكليفي ( عدا الواجب ) والحكْم
الوضعي : ... 203
المبحث الأول : الأحكام التكليفية عدا الواجب : ... 204
المطلب الأول : المندوب والمباح : ... 205
أولاً : المندوب................................................. ... 205
ثانياً : المباح................................................... ... 211
المطلب الثاني : الحرام والمكروه : ... 213
أولاً : الحرام................................................... ... 213
ثانياً : المكروه................................................. ... 215
المطلب الثالث : تقسيم الحكْم باعتبار الحسْن والقبْح............. ... 219
أولاً : تعريف الحسن والقبيح عند أهل السُّنَّة.................... ... 220
ثانياً : تعريف الحسن والقبيح عند المعتزلة..................... ... 223
المطلب الرابع : تقسيمات المأمور به عند الحنفية............... ... 225
المبحث الثاني : أقسام الحكْم الوضعي : ... 228
تمهيد في أقسام الحكْم الوضعي................................ ... 229
المطلب الأول : السبب......................................... ... 232
المطلب الثاني : الشرط والمانع : ... 242
أولاً : الشرط.................................................. ... 242
الموضوع ... صفحة
ثانياً : المانع................................................... ... 248
المطلب الثالث : الصحة والفساد : ... 251
أولاً : الصحة.................................................. ... 251
ثانياً : الفساد................................................... ... 258
المطلب الرابع : الرخصة والعزيمة : ... 260
أولاً : الرخصة................................................ ... 260
ثانياً : العزيمة................................................. ... 262
ثالثاً : منزلة الرخصة والعزيمة في الأحكام الشرعية............ ... 266(1/288)
المطلب الخامس : أحكام الرخصة : ... 269
أولاً : أسباب الرخصة......................................... ... 269
ثانياً : أقسام الرخصة.......................................... ... 273
ثالثاً : أحكام الرخصة.......................................... ... 283
رابعاً : ما يتفرع على الرخصة : ... 294
الفرع الأول : الجمع في السفر................................. ... 295
الفرع الثاني : صلاة النافلة في السفر.......................... ... 300
المطلب السادس : العلة........................................ ... 302
المطلب السابع : الركن والعلامة : ... 307
أولاً : الركن................................................... ... 307
ثانياً : العلامة.................................................. ... 309
الفصل الرابع : المحكوم به والمحكوم عليه : ... 311
المبحث الأول : المحكوم به : ... 312
الموضوع ... صفحة
المطلب الأول : شروط الفعل المكلَّف به........................ ... 313
المطلب الثاني : التكليف بالمُحال............................... ... 316
المطلب الثالث : التكليف بالمشقة............................... ... 325
المطلب الرابع : أنواع القدرة عند الحنفية....................... ... 331
المطلب الخامس : الحقوق المكلَّف بها.......................... ... 334
المبحث الثاني : المحكوم عليه : ... 351
المطلب الأول : شروط المحكوم عليه........................... ... 352
المطلب الثاني : أقسام الأهلية وعوارضها : ... 354
أولاً : أقسام الأهلية............................................. ... 354
ثانياً : عوارض الأهلية........................................ ... 357
المطلب الثالث : تكليف الغافل : ... 365
أولاً : المراد بتكليف الغافل..................................... ... 365
ثانياً : مَن ينطبق عليه وصْف الغافل........................... ... 366
ثالثاً : الأصل الذي فُرِّع عليه تكليف الغافل..................... ... 367(1/289)
رابعاً : مذاهب الأصوليين في تكليف الغافل..................... ... 368
خامساً : أدلة المذاهب.......................................... ... 371
سادساً : تعقيب وترجيح....................................... ... 375
سابعاً : ما يتفرع على تكليف الغافل : ... 377
الفرع الأول : تكليف السكران.................................. ... 378
الفرع الثاني : طلاق السكران.................................. ... 384
المطلب الرابع : تكليف المعدوم : ... 386
الموضوع ... صفحة
أولاً : تحرير محل النزاع...................................... ... 386
ثانياً : مذاهب الأصوليين وأدلتهم............................... ... 388
ثالثاً : علاقة هذه المسألة بعلم الأصول......................... ... 394
رابعاً : أمْر المعدوم والأمر بالمعدوم............................ ... 396
المطلب الخامس : تكليف الكفار................................ ... 397
المطلب السادس : الإكراه...................................... ... 406
أهم المراجع................................................... ... 411
الفهرس....................................................... ... 424
رقم الإيداع بِدار الكتب
5114/2002
الترقيم الدّولي
977 - 5899 - 18 - 4(1/290)