الأفعال :
قال الماتن رحمه الله تعالى :
*فعل صاحب الشريعة لا يخلو إما أن يكون على وجه القربة والطاعة أو غير ذلك . فإن دل دليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص وإن لم يدل لا يختص به لأن الله تعالى يقول :" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا ، ومن أصحابنا من قال : يحمل على الندب ومنهم من قال : يتوقف عنه فإن كان على وجه غير القربة والطاعة فيحمل على الإباحة في حقه وحقنا . وإقرار صاحب الشريعة على القول الصادر من أحد هو قول صاحب الشريعة وإقراره على الفعل من أحد كفعله . وما فعل في وقته في غير مجلسه وعلم به ولم ينكره فحكمه حكم ما فعل في مجلسه . *
قال الشيخ مشهور حفظه الله : مبحث أفعال النبي صلى الله عليه وسلم مبحث جليل خصه أهل العلم بالتصنيف فأفرده غير واحد من الأقدمين والمعاصرين بكتب خاصة ومن أشهر هؤلاء في ما تذكر لنا كتب التراجم ذكر لنا مثلا ابن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري أن لأبي الحسن الأشعري كتاب اسمه أفعال الرسول لا نعرف له أثرا وأيضا ذكر النديم في كتابه الفهرست في أسماء الكتب أن للدولابي كتاب اسمه أفعال الرسول وهذا الكتاب لا نعرف له أثر أيضا ومن الكتب المخطوطة المحفوظة التي لا تزال لها أصول كتاب الحافظ الفقيه النحوي الأصولي المحدث المتفنن العلائي له كتاب سماه تفصيل الإجمال في تعارض الأقوال و الأفعال ( أي للنبي صلى الله عليه وسلم ) ومن الكتب طبعت من قريب كتاب أبي شامة المقدسي شيخ الإمام النووي وتلميذ ابن الصلاح له كتاب مطبوع بعنوان المحقق من علم الأصول فيما يتعلق في أفعال الرسول ومن الكتب المطبوعة في مجلدين كتاب العاقولي بعنوان الرصف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الفعل و الوصف .(1/1)
وأما المحدثون فقد ألف غير واحد في هذا الباب ومن أوعب وأمتن وأجود ما كتب في هذا الباب كتاب للأستاذ محمد سليمان الأشقر أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أطروحته للدكتوراه من جامعة الأزهر مطبوع في مجلدين وألف ايضا الأصولي الشهير المصري المقيم في مكة محمد العروسي عبد القادر له كتاب مطبوع في مجلد اسمه أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وألف ايضا محمود احمد عبد الله كتابا سماه أفعال النبي صلى الله عليه وسلم قدم الماتن الأفعال وخصها من الأخبار وبلا شك أن الأفعال قسم من أقسام الخبر المرفوع فالماتن لو أنه سلك الجادة و السابلة ( الطريق المسلوكة ) التي عرفت عند الأقدمين لكان أفضل .
معرفة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور المهمة التي تقرب إلى الله وتجعل الإنسان على بصيرة من أمره بحيث يحسن أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن يعرف الأشياء التي يقتدى بها النبي صلى الله عليه وسلم .
الأفعال من الفعل والفعل عند علماء المنطق : حركة البدن أو النفس .
فائدة : إذا أردنا أن نعرف مصطلحا من المصطلحات التي يكثر دورانها في كتب الأصول والمنطق والتفسير وعلم الحديث مثل العلم الضروري والماهية …الخ نرجع إلى بعض الكتب الخاصة بذلك مثل التعريفات للجرجاني أو كشاف اصطلاحات الفنون للتهاوني أو الكليات لأبي البقاء الكفوي أو الحدود للباجي أو التعريفات لابن الكمال أو التوقيف في مهمات التعريف للمناوي أو الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة لزكريا الأنصاري أو المفردات للأصفهاني أو الحدود لابن عرفة والرصاع شرح الحدود لابن عرفة ومن المستشرقين الذين كتبوا في هذا الباب المستشرق ( دوزي ) عمل عملين : الأول : معجم الملابس ؛ أخذ جميع الملابس الموجودة في تراثنا وفي أحاديث نبينا والآثار وكتب علمائنا وعرف بها واستفاد من التعريف من خلال الموجود في المتاحف من هذه الملابس .(1/2)
والعمل الثاني : تكملة للمعاجم العربية مطبوع منه إحدى عشر مجلدا ؛ أخذ الألفاظ الغريبة من خلال النظر في كتب الطب و الأدوية و الرحلات و الجغرافيا و التاريخ و الأدب فأخذ الكلمة الغريبة وعرضها على القواميس فالموجودة في القاموس تركها و الغير موجودة وضعها .
عرف الجرجاني الفعل في كتاب التعريفات بقوله :الفعل : هو الهيئة العارضة للمؤثر في غيره بسبب التأثير كالهيئة الحاصلة للقاطع بسبب كونه قاطعا .
ابن حزم له كتاب في الحدود مطبوع ضمن مجموعة رسائل لابن حزم التي جمعها إحسان عباس بعنوان رسائل لابن حزم ففي الجزء الخامس له كتاب اسمه التقريب فقال فيه : الفعل ينقسم إلى ما يبقى أثره بعد انقضائه كفعل الحراث و النجار وما لا يبقى أثره بعد انقضائه كفعل السابح والماشي و المتكلم .
فالفعل عند الأصوليين المتكلمين ليس هو الفعل عند أهل الصرف واللغة فمثلا : مات ،عاش، اسود ، ابيض ، كان ، صار هي أفعال عند الصرفيين وليست أفعالا عند الأصوليين لأنها نسبت إلى من لم يفعلها فالفعل عندهم يحتاج إلى فاعل أما إذا نسب الشيء إلى من لم يفعله فهذا فعل عند الصرفيين وليس بفعل عند الأصوليين .
الإمام الزركشي في كتابه البحر المحيط قسم السنة إلى أقسام كثيرة : قول وفعل وتقرير وما هم به صلى الله عليه وسلم والإشارة والكتابة والترك و التنبيه على العلة ، ولكنّ ما هم به وما أشار إليه والكتابة وما أقر بكتابه والترك والتنبيه على الفعل كلها من الأفعال ، فالحصر الصحيح عند الأصوليين أن السنة محصورة إما في القول أو الفعل .(1/3)
مثلا: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - الشهر هكذا وأشار ثلاثا وقبض مرة فهذا شرع بفعل الإشارة وكذلك سئل في حجته فقال له رجل ذبحت قبل أن أرمي فأشار بيده أي لا حرج فكان جوابه بفعله وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ويكثر الهرْج قيل يا رسول الله وما الهرج فقال هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل وكذلك حديث عائشة وهو عن أسماء بنت أبي بكر قالت أتيت عائشة حين خسفت الشمس فإذا الناس يصلون وإذا هي قائمة تصلي فقلت ما للناس لماذا يجتمعون في هذا الوقت فأشارت عائشة برأسها إلى السماء يعني خسوف وكذلك سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أوقات الصلاة فقال صل معنا هذين اليومين فصلى معه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بين هذين الوقتين وقت .فهذه بعض الأدلة التي تدل على أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة .
قول الماتن : صاحب الشريعة .
مسألة : هل يجوز أن نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الشريعة أو مشرع وهل يجوز أن نقول إن المفتي مشرع ؟
المشرع هو الله عز و جل لقوله تعالى " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا …" ولقول ابن مسعود في صحيح مسلم " إن الله شرع لكم سنن الهدى " أما النبي صلى الله عليه وسلم فهو المبلغ والعلماء و المفتون لكل اسمه ويجب ضبط هذه العبارات المفتي و العالم و القارئ و الحافظ و الفقيه .
وقول الماتن أنه صاحب الشريعة فهذا على سبيل التجوز وقال الإمام الشاطبي في هذه المسألة : إن المفتي شارع من وجه لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها و إما مستنبط من المنقول فالأول يكون فيه مبلغا والثاني يكون فيه قائما مقامه في إنشاء الأحكام ، انتهى كلامه(1/4)
قال الشيخ مشهور : يعجبني كلام بعض المعاصرين لما قال : كان المسلمون طوال تاريخهم يعطون علمائهم أسماء ذات دلالة مقصودة فيقولون المجتهد الفقيه ، القارئ ، الحافظ وهي كلمات تحمل معاني التبعية لا الاستقلال في أمر التشريع و الأحكام إذ الأمر كله لله تعالى وليس للناس إلا اتباع حكمه وبذل الوسع في تعريف أمره وتلمس الحق الذي يريده بما شرع لهم من طرق وسن لهم من قواعد ولهم أجرهم طالما كانوا في دائرة هذا الاجتهاد الصحيح ولو أخطئوا .
قال الشيخ مشهور : هنالك أفعال هي في حقيقتها أقوال أو أقوال أوهمت التعبير عنها بأنها فعل مثلا : ما ورد في الحديث : تشهد النبي صلى الله عليه وسلم ، سبح ، لبّى ، أثنى ، أمر ، نهى ، لعن ، دعا هذه كلها أقوال ؛ معنى سبح : قال سبحان الله فهذه أقوال لكن قد يفهم منها أنها أفعال وهذه حكمها حكم الأقوال و إن كانت أوهمت الفعل .
لو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يعمل عملا فهل يجوز لهذا الرجل المأمور بهذا العمل أن يتخلف عن أمره ؟ لا يجوز ، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر قال لرجل من أصحابه اذهب فأتنا بخبر القوم أو قال لرجل عليك بأن تسم هذه الدابة ( العلامة ) أو هذه النعم ( بقرة أو إبل ) فهل يجوز لهذا المأمور أن يتخلف ؟ لا يجوز له ذلك ، لماذا ؟ لأن الأمر بالنسبة إليه قول .فلما أمره النبي أن يفعل ففعل من غير وجود أي قرينة أخرى مجرد فعل هذا الرجل الذي امتثل فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، الراجح عند الأصوليين أنه يجب عليه أن يفعل وفعله بالنسبة يلحق بأصل فعله صلى الله عليه وسلم فكأنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بيده ففعله يكون بالنسبة إلينا سنة وليست بفريضة .
هل لهذا الأصل من ثمرة ؟نعم له ثمرة ، مثلا أخرج الإمام النسائي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببدنة فأشعر في سنامها من الشق الأيمن ثم سلت الدم عنها وقلدها نعلين "(1/5)
نحن قررنا من أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعل يكون واجبا على من أُمر عليه أن يمتثل وأما بالنسبة إلى سائر الأمة فيكون أصل الفعل سنة ويلحق بأصل فعله صلى الله عليه وسلم إذ لا يلزم من كل فعل ورد في السنة أن يكون قد قام به هو بنفسه وإنما قد يكون أوكل القيام به لغيره فلما نقول رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا فهذا لا يلزم منه أن النبي هو الذي رجم وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يد سارق رداء صفوان وهذا لا يلزم منه أنه هو الذي قطع لكن حكم قطع يد السارق ورجم الزاني واجب وهذا لا يناقض ما قررناه بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو من أوكل له الفعل من أصحابه هو على الاستحباب وذلك لأن حكم فعله صلى الله عليه وسلم أو فعل من أمره إن كان بيانا لمجمل فيأخذ حكم المجمل فإن ورد أمر قولي بهذا العمل فالفعل حكمه كحكم الأمر القولي فمثلا : قال الله تعالى " السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما " هذا أمر قولي يدلل على الوجوب وهذا الفعل بيان لمجمل فحكمه حكم الأصل المجمل
فاستفدنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع سارق رداء صفوان الوجوب لا لذات الفعل و إنما لورود الأمر بالقطع وهناك حد مجمع عليه عند أهل العلم من أن من فعله يدلل على الوجوب وهو إن كان فعله امتثالا لأمر قولي أي إن كان الله أمر بأمر وفعله النبي ولم يفعله إلا على جهة واحدة وعلى نحو واحد فيصبح فعله واجبا فمثلا لا يوجد نص قولي فيه تحديد مكان القطع لكن لم يعرف عن النبي قد قطع من غير الرسغ وكان هذا القطع امتثالا لأمر رباني قولي وداوم عليه(1/6)
والإشعار ( إشعار الهدي ) لم يأت أمر قولي بوجوبه وهو مشروع عند جماهير أهل العلم ووقع خلاف شديد عند الحنفية ونقل عن بعض أئمتهم أن الإشعار مثلى وبعض المشتغلين بعلم الحديث يقولون هذا لم يقله أئمتنا ومنهم من قال إن أئمتنا قالوا إن الإشعار مثلى لما رأوا غلو الناس فيه وإيذاء الحيوان وليس في هذا إنكار للإشعار الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الشاهد أنه أمر ببدنة فأشعرها .
قال ابن حزم في المحلى ج7 / ص110 : ليس في هذا الخبر أنه أمر بالإشعار ولو كان فيه لقلنا بإيجابه مسارعين وإنما فيه أمر ببدنة فأشعر في سنامها فمقتضاه أنه أمر بها فأدنيت إليه أي قربت منه فأشعر في سنامها لأنه هو الذي تولى بيده إشعارها .
يريد أن يقول ابن حزم لو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يشعرها لكان فعله بالنسبة إلينا أمرا واجبا لكن بما أن هذا الرجل لم يشعرها بيده وإنما النبي هو الذي أشعرها بيده أصبح حكم هذا الفعل مسنونا .
هل كل من أراد أن يشعر يجب عليه أن يأمر غيره بإحضار الدابة ؟ على مذهب ابن حزم الجواب نعم وعلى تأصيلنا وتقعيدنا الجواب لا فالرجل يمتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن فعله بالنسبة لنا يساوي فعل النبي بالنسبة إلينا أي لا يدلل على الوجوب أصالة بل على الندب وهذا مذهب جماهير الأصوليين .(1/7)
قال الشيخ مشهور : أفعال النبي صلى الله عليه وسلم إما أن تكون تعبدا أو جبلية فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر أي يوجد أشياء يفعلها بجبليته وهناك أفعال جبلية صرفة يفعلها الإنسان وتقع منه اضطرارا دون قصد منه وهناك أفعال فيها وصف جبلي خلقي للنبي صلى الله عليه وسلم مثل عرض المنكبين ولم يكن بالطويل ولا بالقصير و أكحل العينين فلا يجوز أن يقال لرجل عريض المنكبين أنت على السنة وكذلك هناك أفعال يفعلها هي مما فطر الله عليها البشر مثل الهواجس التي تخطر بالبال وحركات الجسم والنوم والأكل والشرب والوجود والسكنى والبلدة والقبيلة وهناك أفعال جبلية اختيارية صدرت منه على وجه فيه عادة وتكرار وله فيها سمت مثل طريقة النوم ومثل جبلية الطعام وهيئة اللباس وغطاء الرأس وهي في أصلها جبلية فلا بد للإنسان أن يلبس ويأكل ويشرب لكن صدرت منه على وجه فيه عادة راتبة له كأن يأكل جالسا ويشرب على دفعات وينام على شقه الأيمن هذه تدخل تحت فعله على وجه الطاعة و القربة والاقتداء بالنبي في هذه الأمور سنة ودل على ذلك عموم الآيات كقوله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا " هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثقيل على النفس ليس بمفرداته ولكن باجتماع هذه المفردات وبتكرارها والثبات عليها ومداومتها ولا يفلح أحد بأن يقتدي بالنبي إلا إذا توفرت فيه صفات ذكرها الله في الآية فالإنسان الذي يستشعر بمراقبة الله وقلبه مربوط بالجنة والنار يحسب حسابا للحسنة والسيئة ويكثر من ذكر الله وهذا بركة المراقبة أو سببها فمن كان هذا حاله فإن السنة على نفسه هنيئة مريئة وإلا فالسنة صعبة ثم أستغرب من حال كثير من الناس يأخذ شيئا من السنة ويدعو إليها بقوة وهو بعد لم يتطبع بهدي النبي صلى الله عليه وسلم بالجملة في سمته وهديه وحلمه و أناته لم توجد فيه بعد هناك حديث يجب نقف عنده طويلا وأن نحاسب(1/8)
أنفسنا عليه كثيرا حديث أنس قال صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات فلم يقل لي لشيء فعلته لم فعلته ولا شيء لم أفعله لِمَ لم تفعله " وكذلك إذا كان النبي كره شيئا ما كان يعنف ورئي ذلك في وجهه ونحن سلفيون في عقيدتنا ومنهجنا وأحكامنا وأخلاقنا هكذا ينبغي أن تكون السلفية ليست قولا يدّعى بل منهجا يطبق ومن ضمن منهج مهم جدا الذي ما ينبغي أن نغفل عنه التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أحواله والاقتداء بهديه ولا يكون الإنسان شتاما طعانا لعانا يغضب ويثور ولا يضع الأشياء في أماكنها على أتفه الأسباب .(1/9)
إذا الشيء الذي يفعله النبي وهو جبلي ولكنه اختياري وداوم على هيئة له وعلى وجه واحد محدد أو على أكثر من وجه ثابت عنه فهذا أمر يتعبد الله فيه ولاسيما إن علمنا أن أسلافنا قد فعلوا ذلك عبادة ، ودلل على ذلك قوله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" وقوله " واتبعوه لعلكم تفلحون " وقول النبي صلى الله عليه وسلم " خير الهدى هدى محمد" قال القاضي عياض في الشفا : إن سيرة السلف إنهم يحبون كل شيء يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في المباحات وشهوات النفس فهذا أنس بن مالك يقول " لما علمت أن النبي يحب القرع أحببته " ويقول حين رأى النبي يتتبع الدباء من حوالي القصعة قال فما زلت أحب الدباء إلى يومئذ " و الدباء حلوى كانت توضع على الطعام وهذا فيه دليل على جواز أن لا يأكل الإنسان مما يليه إن وجد في القصعة عدة أنواع ومن هذه الأنواع ما هو بعيد عنه ففي هذه الحالة مأذون له بفعل ذلك ولا يدخل تحت " كل مما يليك " وقد ورد عن الحسن بن علي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر أنهم أتوا سلمى خادمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلبوا منها أن تصنع لهم طعاما كان يحبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان ابن عمر يلبس النعال التي يلبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتتبع آثاره حتى في السفر حتى قال بعضهم لو رأيت ابن عمر وهو يتتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - لقلتم عنه إنه لمجنون وفي هذا إشارة إلا أن حتى الأفعال الجبلية التي جبل الله نبيه عليها إن فعلت على وجه التقرب و العبادة فهذا أمر حسن ويثاب صاحبه عليه ، أخرج أبو يعلى في مسنده بسنده إلى ثابت البناني عن أنس قال : كان شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شحمة أذنيه ثم نظر أنس فرآني فقال كشعر ثابت هذا قال فالله ما فرحت بمثلها " هذا شيء جبلي إلا أن الشيء الجبلي إن فعله الإنسان كلبس القلنسوة واقتدى بالنبي- صلى الله عليه وسلم - في سائر هيئاته التي لا(1/10)
ينفك عنها البشر والتي واظب عليها النبي- صلى الله عليه وسلم - وواظب عليها أصحابه فإن فعلت على وجه القربى فهذا الفعل سنة مستحبة ومال إلى هذا جمع من الأصوليين وذكرها أبو شامة في كتابه المحقق في علم الأصول وعللها ولكني عجبت من تمثيله قال : في الأفعال التي يكاد يقطع بخلوها من القربة كهيئة وضع أصابعه اليمنى في التشهد [ لكن هذه قربى لأنها في الصلاة فهذا ليس موفق فيه لأن الصلاة أصلها قربى فكل أفعال الصلاة قربى فيستحب المحافظة عليه والأخذ بها ما أمكن تدريبا للنفس الجموح وتمرينا لها على أخلاق صاحب الشرع لتعتاد ذلك فإن النفس مهما سومحت في اليسير تشوفت إلى المسامحة فيما فوقه ] ثم قال فهذا ونحوه هو الذي يظهر أن عبد الله بن عمر كان يلاحظه ويراقبه فأخذ نفسه بالمحافظة على جميع آثاره حتى قال نافع مولاه لو نظرت لابن عمر إذا اتبع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقلت مجنون " انتهى كلام أبو شامة .
مسألة : الأصل في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عام والأصل في فعله أنه للامتثال و الخصوصية تحتاج إلى دليل خاص .
خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتنى بها العلماء وألف في ذلك جمع من أهل العلم مثل : نهاية السول في خصوصيات الرسول- صلى الله عليه وسلم - ابن يحيى الكلبي وغاية السول في خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن الملقن والخصائص الكبرى للسيوطي وهو أوعبها وذكر أكثر من ألف خاصية جلها ضعيف أو موضوع وهذبه الشيخ عبد الله التليدي في كتاب سماه تهذيب الخصائص الكبرى وألف الشيخ أبو الحسن المصري مصطفى بن إسماعيل كتابا سماه كشف الغمة ببيان خصائص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمة .والشاطبي في الموافقات ذكر أربعين خاصية للنبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/11)
ومن الأشياء التي أعجبتني أن علماء الشافعية و المالكية اعتنوا عناية قوية بخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما في كتاب النكاح مثل النووي في الروضة و الرملي في نهاية المحتاج و الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير ويمدون النفس في ذلك ومن الذين مد النفس في ذلك الرافعي في الشرح العزيز شرح الوجيز ( وجيز الغزالي ) ومن الذين اعتنوا بأحاديث الشرح الكبير ابن الملقن في البدر المنير ولخصه ابن حجر في التلخيص الحبير وهو مطبوع باسم تلخيص الحبير وهذا خطأ لأن الحبير صفة للتلخيص وليس للملخص فقال ابن حجر فيه ج3 / ص117 : وذكرت ( أي خصائص النبي- صلى الله عليه وسلم -) في النكاح لكونها فيه أكثر ..الخ كلامه .
أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التي قيل فيها إنها خاصة به على دربين : درب الخصوصية تلمح فيه وتؤخذ بالاستنباط مثل : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ جريدة وشقها نصفين وجعلها على قبرين بقصد التخفيف من عذاب صاحبي القبرين " هذا فعل عند المحققين من العلماء خاص به ، أخذنا هذه الخصوصية بلوازم واستنباط وفهم وليس بالتنصيص وعلق الإمام البخاري في كتاب الجنائز أن بريدة بن الحصيب الأسلمي أوصى أن يوضع قبره جريدتان فهذا العمل لم يكن خاصا عند الصحابة ولعل بريدة عممه ومن قال بالخصوصية الخطابي وله كلام جميل جدا فقال : أن هؤلاء كانا يعذبان وما أدرانا أنهما يعذبان وأنهما سيخفف عنهما العذاب فهذه لوازم تعرف من خلالها الخصوصية .(1/12)
ودرب الخصوصية تؤخذ بالتنصيص والتصريح مثل قوله تعالى " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين " ولو كان في الأصل أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخصوصية لكان قوله تعالى خالصة لغوا وحاشاه ذلك سبحانه فدل قوله خالصة على أن أصل الفعل الذي يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - عام يشترك معه أمته والفعل ليس خاصا به لولا قوله خالصة وقول الله تعالى " فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج "فمن تبنى ولدا وكانت لهذا الولد امرأة فطلقها فله أن يتزوجها وهذا يدل على أن الأصل في فعله- صلى الله عليه وسلم - عام لأمته وكذلك لما سأل عمر بن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمه عن قبلة الصائم فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها أخبريه أني أقبل وأنا صائم فيدل ذلك على أن فعله عام وكذلك من الأدلة على ذلك قوله " صلوا كما رأيتموني أصلي " " خذوا عني مناسككم " وكذلك ثبت في البخاري أن ابن جريج سأل ابن عمر فقال له يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر من أصحابك يصنعها قال وما هي قال ابن جريج : لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ( الحجر الأسود والذي قبله ) في الطواف وتلبس النعال السبتية وتصبغ بالصفرة وإذا كنت في مكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل حتى يكون يوم التروية فقال عبد الله : إني رأيت رسول الله يفعلها فاستدلال ابن عمر يدلل على أن الأصل في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام للأمة وكذلك من الأدلة أنه من يُعَظم في الناس ومن كان كبيرا عالما في الناس فإن طباعهم أمرا مركوزا في مجاراته وحبه واتباعه والتأسي به ولذا من سنة الله التي لا تنفك عن الأفراد أن الصغير يحاكي الكبير والولد يحاكي الوالد والبنت تحاكي أمها والجاهل يحاكي العالم و الأمة المغلوبة تحاكي الأمة الغالبة ، وكذلك من الأشياء التي تدلل على الخاصية أن(1/13)
يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا وأن ينهى أمته عنه مثل : أمر لمن أسلم وتحته خمسة وبعضهم تحته عشرة من النسوة فقال : أمسك أربعا وفارق سائرهن وهذا منطوق دل على حرمة الزواج بأكثر من أربعة ولما رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عقد ودخل بأكثر من أربع علمنا أن أكثر من أربع خاصا به ، وكذلك أن يقع تعليل من قبله على فعل لا يتصور إلا أن يكون خاصا به كما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواصل اليومين والثلاثة في الصيام ونهى أمته عن هذه المواصلة وعلل ذلك بقوله إني أبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني فهذا خاص به .
ملاحظة : قولنا أنا أحب الأكل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل ونعبد بذلك فهذا غير صحيح لأن أصل الأكل والنوم والشرب مثلا لأن هذا فعل جبلي اضطراري فلا بد للإنسان من طعام وشراب ..الخ وأما قولنا : أحب القرع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبه وأحب الحلو البارد لأنه يحبه فهذا فعل جبلي اختياري الاقتداء به بنية الطاعة فيه أجر .
قررنا فيما مضى أن الترك فعل ومن بين التروك التي هي فعل السكوت فلو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يفعل فعلا وسكت عنه فهذا شرع وكذلك قررنا أن السنة لها ثلاثة أقسام : قول وفعل وتقرير.
قول الماتن : يحمل على الوجوب ( أي الفعل ) عند بعض أصحابنا . هذا كلام نسب إلى ابن سريج من علماء الشافعية ونسب إلى ابن أبي هريرة وإلى أبي علي بن خيرون وإلى أبي سعيد الإصطخري وكلهم من علماء الشافعية وهو رواية عن أحمد واختاره ابن السمعاني .
مسألة : هل كل فعل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل على الوجوب ؟ قال الله تعالى " وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا "(1/14)
أولا نقرر الآتي :وما أتاكم أي ما أعطاكم ، ما بلغكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، هذه الآية تشمل كل الدين ومن نباهة الإمام الشافعي وحذقه ودقة فهمه أنه جلس ذات يوم في بيت الله الحرام وقال للناس : سلوني يا أهل مكة فما منكم من أحد يسأل سؤالا إلا و أجيبه عنه من القرآن الكريم ( شيء عجيب ما من سؤال إلا والجواب من القرآن ) فقام إليه رجل وقال : يا أبا عبد الله لقد قتلت زنبورا ( جندب ) فما جزائي من كتاب الله ؟ فقرأ الإمام الشافعي قوله تعالى " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " ثم ذكر إسناده إلى العرباض بن سارية وذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عليكم بسنة الخلفاء المهديين الراشدين عضوا عليها بالنواجذ " ثم ذكر إسناده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن رجل قتل زنبورا فقال عمر لا شيء عليه فقال هذا جوابي على سؤالك من كتاب الله . إذا الآية عامة تشمل كل شيء أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد يقول قائل : الأصل في الأمر الوجوب وما آتانا به يشمل القول والفعل والتقرير فهذا واجب قلنا له : لا ليس هذا الأمر على هذا الإطلاق لأن الآية كما تعلمون من سورة الحشر والسياق في مال الفيء والله عز وجل يأمرهم بأن يقبلوا ما أعطاهم رسول الله من مال الفيء وأن يكفوا عما نهاهم عن أخذه ( والإيتاء هنا بمعنى الإعطاء ) والأمر بأخذ المال أمر إباحة وليس أمر إيجاب مثل الميراث ومن الملاحظ أن المال لما يعطى للإنسان من غير كسب ولا تعب فإن النفس تتشوف وتطمع فمال الميراث مثلا يتولى قسمته الله وهو مال يكسب بدون تعب ولو ترك للناس فالكل يطمع فيه كله ولا يقبل أن يأخذ نصيبه والله الذي خلق الإنسان ونفس الإنسان هو الذي تولى قسمة هذا المال وكذلك هذا المال الذي يؤخذ من الكفار من غير قتال يتولى قسمته الله ففي هذا السياق قال الله تعالى " وما آتاكم الرسول فخذوه .. " الآية أي لا تطمعوا في غيره هذا جواب(1/15)
على الآية أي لا صلة لها بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - على هذا التوجيه أي الشيء الذي أعطاكم إياه وكتبه لكم خذوه ولا تطمعوا في غيره ، والتوجيه الثاني للآية ما قاله ابن جريج : ما آتاكم الرسول من طاعتي فاقبلوه وما نهاكم عن معصيتي فاجتنبوه فالإيتاء هنا يكون بمعنى الأمر القولي بدليل أن الذي يقابله قول الله تعالى " وما نهاكم " فهنا النهي قول على هذا القول فتكون الآية أيضا لا صلة لها بالأفعال وإنما تكون صلتها بالأقوال بدليل أن قوله وما نهاكم عنه فانتهوا وهذا النهي لا يكون بالفعل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن المعاصي فإذا آتاكم بمعنى أمركم وهو يقابل نهاكم وفي هذا دليل على أن القول يتعدى إلينا فيكون بمعنى العطية وهذا يكون مثل قوله تعالى " خذوا ما آتيناكم بقوة " أي خذوا ما أمرناكم فإذا وما آتاكم هنا بمعنى ما أمرناكم مقابل نهيناكم وعلى أي حال من الأحوال لو سلمنا أن المؤتي في قوله تعالى وما آتيناكم يراد بهذا المؤتي الأفعال فهذا قولا واحدا لا يدل على وجوب جميع الأفعال بل على اتباعها على ما هي عليه من الأحكام وهنا مسألة مذكورة في كتب الأصول يطلقون عليها وجوب المساواة وبعضهم يطلق عليها القول بالمساواة فما كان واجبا في حقه - صلى الله عليه وسلم - فهو واجب في حقنا وما كان مندوبا في حقه فهو مندوبا في حقنا وما كان مباحا في حقه فهو مباح في حقنا ، وما آتاكم الرسول فخذوه على الحال الذي هو فيه والذي عليه فإن كان واجبا فواجب وإن كان مندوبا فمندوب وإلا لو أننا أطلقنا القول بالوجوب هكذا على عواهنه فبلا شك أن ذلك ليس بمراد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصص الأمر بل ربنا قال : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه "وفي هذا دلالة على الفرق بين عموم الأمر وعموم النهي فالأمر ليس واجبا بعمومه وإنما(1/16)
يجب الأمر على المسلم على قدر استطاعته وأما النهي فواجب الكف عنه بعمومه لأنه فعل سلبي فهو فعل لا يحتاج إلا إلى إرادة ، وقد أعجبني كلام لابن حزم يناقش فيه القائلين بعموم وجوب أفعاله - صلى الله عليه وسلم - ويمتاز ابن حزم من بين سائر الأصوليين إلى أنه عرض علم الأصول ليست على الطريقة المعهودة وأنه أيضا أعمل ذهنه في الآيات و الأدلة ، وقع في شطط في بعض الأحايين لكن بالجملة أتى بأشياء جميلة وجيدة فقال في كتابه الإحكام : وأما من ادعى أن أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فرض علينا أن نفعل مثلها فقد أغفل جدا( أي وقع في غفلة شديدة ) وأتى بما لا برهان على صحته وما كان هكذا فهو دعوى كاذبة لأن الأصل أن لا يلزمنا حكم حتى يأتي نص قرآن أو سنة بإيجابه وأيضا فإنه قول يؤدي إلى ما لا يعقل لو قلنا بوجوب جميع أفعاله على الأمة ولزمه أنه يجب على كل مسلم أن يسكن حيث سكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يجعل رجليه حيث جعلها وأن يصلي حيث صلى وأن يصوم فرض الأيام التي كان يصومها وأن يجلس حيث جلس وأن يتحرك مثل كل حركة كان يتحركها وأن يحرم الأكل متكئا وعلى خوان ( مائدة ) وأن يحرم الشبع من خبز البر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما شبع من خبز البر وأن يحرم أكل الخبز مأدوما ثلاثة أيام وأن يوجب أكل الدباء وتتبعه وهذا لا يقوله أحد فتبين بما ذكرنا أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - يستحيل أن تكون واجبة علينا إذ لم يأت على ذلك دليل بل قام الدليل والبرهان على أن ذلك غير واجب بالآية ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة …) الآية فكل من له أقل علم بالعربية فإنه يعلم أن ما قيل فيه هذا لك أنه غير واجب قبوله بل مباح له تركه إن أحب كالمواريث وما خيرنا فيه وإنما إن جاء بلفظ عليك كذا فهذا هو الملزم لنا ، فلما قال الله تعالى " لقد كان لكم …الآية كنا مندوبين إلى ذلك وكان مباح لنا أن لا نتأسى غير راغبين عن الإتساء به(1/17)
لكن عالمين أن الذي تركنا أفضل والذي فعلنا مباح كجلوس الإنسان وتركه أن يصلي تطوعا فليس إثما بذلك ولو صلى تطوعا لكان أفضل .ومن بديع كلامه في الرد على من زعم على أن الأصل في أفعاله الخصوص قوله : وبعضهم تعلق في هذه الأفعال بأنه خصوص له ومن فعل ذلك فقد تعرض لغضب رسول الله ومن تعرض لغضب رسول الله تعرض لغضب الله فقد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا إذ سألته امرأة الأنصاري والأنصاري عن قبلة الصائم فأخبر عليه السلام أني أفعل ذلك فقال قائل لست مثلنا يا رسول الله أنت قد غفر الله لك ذنبك فغضب رسول الله حينئذ غضبا شديدا وأنكر هذا القول فمن أضل ممن تعرض لغضب الله وغضب رسوله - صلى الله عليه وسلم - انتهى كلام ابن حزم .
إذا القول بوجوب أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كلها على الأمة أمر مستحيل وليس بممكن وإنما الأصل أنها على الندب والأصل فيها أنها مشروعة وأنها ليست على الخصوص .ومما ينبغي أن يعلم أن التأسي بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبلغ من التأسي بقوله لذا لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في صلح الحديبية أن يتحللوا من الإحرام أبوا فخشي عليهم الهلكة وكانت معه أم سلمة فأشارت عليه أن يركب ناقته وأن يحلل أمامهم ويرجع فلما فعل اقتدوا به . وأما من حيث القوة فالقول أقوى من الفعل ولذا القاعدة عند العلماء أن القول والفعل إن تعارضا نقدم القول إن تعذر الجمع بينهما .(1/18)
مثال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في العقيقة " عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة " وعق عن الحسن بكبش أملح وعن الحسين بكبش ، ففعله كبش وقوله كبشين ، فلما تعرض الشوكاني لهذه المسألة في نيل الأوطار قال : نوفق بين الفعل والقول فنقول القول فيه كمال السنة والفعل فيه أصل السنة فإن عق الأب عن ابنه بشاة واحدة فقد أتى بأصل السنة وإن عق بشاتين فقد أتى بكمال السنة وهذا كلام قوي لأن الأصل الجمع ولكن من يدرس طرق وأسانيد حديث عق بكبش يجد أقوى الطرق في سنن النسائي ولفظها : عق عن الحسن والحسين بكبشين أملحين فحينئذ تكون السنة القولية والفعلية مجتمعتين .(1/19)
وقد يكون الجمع بالتنبيه على أمر فيه خفاء مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - " من مس ذكره فليتوضأ " وجاءه رجل فسأله فقال :إن هو إلا بضعة منك " فإذا المس الذي يتوضأ منه الإنسان إن كان على نحو ليس كسائر أعضاء الإنسان ولا يكون ذلك كذلك إلا إن كان بشهوة هذا غير هذا لا صلة له بالفعل لكن هذا التنبيه و التنويه على المعنى .وكذلك في فعله في الشرب فشرب واقفا ولم يشرب واقفا إلا لعلة فشرب واقفا في عرفة ليبين للناس أنه مفطر ومع هذا ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشرب قائما وقال " من شرب واقفا فليستقيئ " ورأى رجلا يشرب واقفا فقال له أتحب أن يشرب معك هر قال :لا فقال له :كيف وقد شرب معك الشيطان " نقل النووي عن الجماهير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك حتى ينزل مرتبة النهي من الحرمة إلى الكراهية وهذا جمع ليس بحسن لأن الأصل أن نجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن فعل المكروه والأصوب من هذا أن نقول إن الأصل في الشرب قائما الحرمة إلا إن دعت الحاجة لشرب قائما فلا حرج . نقول فعله - صلى الله عليه وسلم - أبلغ في النفوس والأصل في فعله وقوله أن نجمع بينهما عند التعارض ، لأن الشرع علمنا أن الله عز وجل قد خص نبيه بأشياء و لم يخص آحاد من الناس بأشياء على الراجح والشريعة عامة ثابتة مستقرة خالدة فلما رأينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - له خصوصيات فجاءنا فعل وقول وقدمنا القول على الفعل بدليل استقراء الشريعة لعل هذا الفعل من خصوصياته ولذا العلماء لما يذكرون مسألة استقبال واستدبار القبلة فالنبي قال لنا في حديثه " لا تستقبلوا القبلة بول أو غائط ولكن شرقوا أو غربوا " وفي صحيح البخاري صعد ابن عمر على سطح بيت أخته حفصة قال : فنظرت فوقعت عيناي على النبي وهو يبول متجه القبلة بين لبنتين " هذا فعل خالف القول فالراجح من أقوال العلماء على ما قرره ابن القيم في مقدمة زاد المعاد أن الراجح(1/20)
حرمة استقبال واستدبار القبلة بول أو غائط لأن أبا أيوب الأنصاري قال : لما كنا في الشام وبنيت المراحيض كنا ننحرف ونستغفر وفي هذا دلالة على أنه لا فرق إن كان هناك بنيان أو لم يكن هنالك بنيان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله لم يفعله مشرعا فهذا العمل الذي نقله ابن عمر لم يتقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - التشريع للأمة ووقعت عيناي ابن عمر عليه بقدر الله ولكن الذي أراده منا بلسان عربي مبين قوله شرقوا وغربوا ، فالأصل أن نطيع قوله وأن نحمل فعله على أمر خاص ويتأكد ذلك بما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - " من تنخم تجاه القبلة تأتي نخامته يوم القيامة بي عينيه " فإذا كانت النخامة تأتي بين عينيه وهي أقل من البول والغائط إذا الأصل أن نجمع بين القول والفعل وإن لم نجد سبيلا للجمع نقدم القول على الفعل لأن الشرع علمنا أن لنبينا - صلى الله عليه وسلم - خصوصيات .
أنواع الأفعال : قال الشوكاني في إرشاد الفحول ج: 1 ص: 72(1/21)
اعلم أن أفعاله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلي سبعة أقسام : القسم الأول : ما كان من هواجس النفس والحركات البشرية كتصرف الأعضاء وحركات الجسد فهذا القسم لا يتعلق به أمر باتباع ولا نهي عن مخالفة وليس فيه أسوة ولكنه يفيد أن مثل ذلك مباح القسم الثاني: ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة كالقيام والقعود ونحوهما فليس فيه تأس ولا به اقتداء ولكنه يدل على الإباحة ثم الجمهور ونقل القاضي أبو بكر الباقلاني عن قوم انه مندوب وكذا حكاه الغزالي في المنخول وقد كان عبد الله ابن عمر رضي الله عنه يتتبع مثل هذا ويقتدي به كما هو معروف عنه منقول في كتب السنة المطهرة القسم الثالث : ما احتمل أن يخرج عن الجبلة إلي التشريع بمواظبته عليه على وجه معروف ووجه مخصوص كالأكل والشرب واللبس والنوم فهذا القسم دون ما ظهر فيه أمر القربة وفوق ما ظهر فيه أمر الجبلة على فرض انه لم يثبت فيه إلا مجرد الفعل واما إذا وقع منه صلى الله عليه وسلم الإرشاد إلى بعض الهيآت كما ورد عنه الإرشاد إلى هيئة من هيآت الأكل والشرب واللبس والنوم فهذا خارج عن هذا القسم داخل فيما سيأتي وفي هذا القسم قولان للشافعي ومن معه يرجع فيه إلى الأصل وهو عدم التشريع أو إلى الظاهر وهو التشريع والراجح الثاني وقد حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن اكثر المحدثين فيكون مندوبا القسم الرابع: ما علم اختصاصه به صلى الله عليه وسلم كالوصال والزيادة على اربع فهو خاص به لا يشاركه فيه غيره وتوقف إمام الحرمين في انه هل يمنع التأسي به أم لا وقال ليس عندنا نقل لفظي أو معنوي في أن الصحابة كانوا يقتدون به صلى الله عليه وسلم في هذا النوع ولم يتحقق عندنا ما يقتضي ذلك فهذا محل التوقف وفرق الشيخ أبو شامة المقدسي في كتابه في الأفعال بين المباح والواجب فقال ليس لأحد الاقتداء به فيما هو مباح له كالزيادة على الأربع ويستحب الاقتداء به في الواجب عليه كالضحى والوتر وكذا فيما هو محرم(1/22)
عليه كأكل ذي الرائحة الكريهة وطلاق من تكره صحبته والحق انه لا يقتدي به فيما صرح لنا بأنه خاص به كائنا ما كان إلا بشرع يخصنا فإذا قال مثلا هذا واجب علي مندوب لكم كان فعلنا لذلك الفعل لكونه ارشدنا إلى كونه مندوبا لنا لا كونه واجبا عليه وان قال هذا مباح لي أو حلال ولم يزد على ذلك لم يكن لنا أن نقول هو مباح لنا أو حلال لنا وذلك كالوصال فليس لنا أن نواصل هذا على فرض عدم ورود ما يدل على كراهة الوصال لنا أما لو ورد ما يدل على ذلك كما ثبت انه صلى الله عليه وآله وسلم واصل أياما تنكيلا لمن لم ينته عن الوصال فهذا لا يجوز لنا فعله بهذا الدليل الذي ورد عنه ولا يعتبر باقتداء من اقتدى به فيه كابن الزبير واما لو قال هذا حرام علي وحدي ولم يقل حلال لكم فلا بأس بالتنزه عن فعل ذلك الشيء أما لو قال حرام علي حلال لكم فلا يشرع التنزه عن فعل ذلك الشيء فليس في ترك الحلال ورع القسم الخامس: ما ابهمه صلى الله عليه وآله وسلم لإنتظار الوحي كعدم تعيين نوع الحج مثلا فقيل يقتدي به في ذلك وقيل لا قال إمام الحرمين في النهاية وهذا عندي هفوة ظاهرة فان إبهام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمول على انتظار الوحي قطعا فلا مساغ للإقتداء به من هذه الجهة القسم السادس: ما يفعله مع غيره عقوبة له فاختلفوا هل يقتدى به فيه أم لا فقيل يجوز وقيل لا يجوز وقيل هو بالإجماع موقوف على معرفة السبب وهذا هو الحق فإن وضح لنا السبب الذي فعله لأجله كان لنا أن نفعل مثل فعله ثم وجود مثل ذلك السبب وإن لم يظهر السبب لم يجز واما إذا فعله بين شخصين متداعيين فهو جار مجرى القضاء فتعين علينا القضاء بما قضى به القسم السابع: الفعل المجرد عما سبق فان ورد بيانا كقوله صلوا كما رأيتموني اصلي وخذوا عني مناسككم وكالقطع من الكوع بيانا لآية السرقة فلا خلاف انه دليل في حقنا وواجب علينا وان ورد بيان لمجمل كان حكمه حكم ذلك المجمل من وجوب وندب كأفعال(1/23)
الحج وافعال العمرة وصلاة الفرض وصلاة الكسوف .انتهى كلام الشوكاني
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - صلوا كما رأيتموني أصلي ، وصلاته كما نعلم فيها المسنون أي فيها السنة سنة الهيئة وسنة الأبعاض على مذهب الشافعية ، الصلاة عند الشافعية شروط وأركان و سنن والسنن قسمان : سنن أبعاض وسنن هيئات ويقولون من فاتته سنة الأبعاض يسجد للسهو ومن فاتته سنة الهيئات لا يسجد للسهو وعند غيرهم كالحنفية والمالكية والحنابلة يقولون الصلاة عبارة عن شروط وأركان وواجبات وسنن ويقولون من فاته الواجب يسجد للسهو فالواجبات عند غير الشافعية تعادل سنن الأبعاض عند الشافعية ويحسن بطالب العلم أن يحفظ سنن الأبعاض والواجبات في كل مذهب وقد اعتنى بها عناية جيدة ابن نجيم في رسالة له مطبوعة . والشاهد أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - صلوا كما رأيتموني أصلي ، هذا القول يشمل جميع الأفعال والأفعال ليست كلها سواء فهذه الأفعال إن وقعت مبينة بفعله فعلى البيان فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أشياء وجبرها بالسهو فهي ليست كالأركان وهي معنية تحت صلوا كما رأيتموني أصلي فإن لم يكن هنالك مجمل وبقيت أفعال مجردة لا تدخل تحت الأقسام السابقة فهنا وقع خلاف بين أهل العلم في حكمها هذه الأفعال المجردة علام تحمل أصالة ؟ على الوجوب أم على الندب أم على التوقيف ؟ هذا هو المعني بقول صاحب المتن فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا وهؤلاء الأصحاب مجموعة من الشافعية كأبي سعيد الأصطخري وابن سريج وابن خيران وابن أبي هريرة وقول الإمام أحمد وأكثر أصحابه . ومنهم من يحملها على الندب فقد قال إمام الحرمين في البرهان وفي كلام الشافعي ما يدل عليه وقال في التلخيص وإليه صار أصحاب الشافعي وهو رواية عن أحمد ونقله الشيرازي في التبصرة عن الصيرفي والقفال وأبي حامد من علماء الشافعية واختاره إمام الحرمين في البرهان وقال : الأصل فيه الندب .ومنهم من يتوقف فيه وهو قول(1/24)
الشيرازي والغزالي والرازي صاحب المحصول والصيرفي والدقاق من علماء الشافعية والكرخي من الحنفية ورواية أيضا عن أحمد وصحح هذه الرواية وصحح هذا الاختيار الباقلاني .
وجنح الشوكاني إلى القول بالوجوب وقال الوجوب أي وجوب اتباع الفعل أما عين الفعل فيبقى حكمه إما على الندب أو على السنية ، يعني بمعنى أننا لو أردنا أن نقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في فعل مجرد فلسنا مخيرين بأن نفعل في العبادة غير فعله وغير هيئته فالعبادة على صفة فعله أمر واجب وهذا صحيح لكن أصل العبادة لها أحكامها المقررة من الشريعة فنحن نقول مثلا الأخذ بخبر الآحاد واجب أي لا يجوز أن نعطله أو نقول ليس بحجة مع أن الحديث قد يدلل على المباح .
القول بأن الفعل المجرد يحمل على الوجوب هو الصواب على معنى أن من عبد الله عز وجل فهو ليس مخير بين أن يأخذ بهديه أم لا لكن التلبس بهذا الفعل يعرض على الشريعة فإن كان مسنونا و أردت أن تعبد الله فيه فيجب عليك أن تصلي ركعتي السنة على الهيئة التي صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن حكم الركعتين سنة إن لم تفعلهما فأنت لست آثما وليس هذا ببعيد عندي أن يكون هو المعنى بقول الله تعالى " وما آتاكم الرسول …" الآية أي خذوه بهيئته فيجب عليكم فأصبح للآية ثلاث توجيهات : الأول ، خاص بالأموال الثاني ، ما آتاكم بالأقوال الثالث ، الأقوال و الأفعال في طريقة وهيئة التعبد أما أصل الفعل فيختلف فما كان مندوبا فمندوب وما كان واجبا فواجب وهكذا .
قال الماتن : فإن كان ( أي الفعل ) على وجه غير القربة والطاعة فيحمل على الإباحة في حقه وحقنا .
إن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا على غير العبادة أي فعل جبلي فهذا المعنى يدلل على الإباحة في حقه وحقنا وهنا لفتة ينبغي أن نزيد إيضاحها وقد أومأت إليها وهي الأصل أن نجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فعل ما فيه عقاب أو عتاب وعن فعل المحرم و المكروه .(1/25)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أشياء كثيرة وفعلها وكثير من العلماء يحملون فعله من أجل إنزال النهي من الحرمة إلى الكراهة وهذا المسلك إن جاز فإنما يجوز عند المضايق وإلا الأصل أن نحمل نهيه على حالة و أن نحمل فعله على حالة أخرى ، مثال في الصحيحين نهى النبي- صلى الله عليه وسلم - أن يستلقي الرجل على ظهره في المسجد وأن يضع رجله فوق الأخرى وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك ، فبعض أهل العلم قالوا إن المراد بفعله أن يبين لنا أن ذاك النهي ليس حراما بل مكروه وهذا ليس بحسن والأحسن منه أن نقول : إن الاستلقاء على الظهر ووضع الرجل فوق الرجل مع احتمال كشف العورة حرام وإن أمنت كشف العورة فمباح يعني نتعلق بالمعاني والله أعلم .
فائدة : الغزالي بتشديد الزاي توفي 505 هجري وهو صاحب عقل عجيب جدا ومتفنن وكان ضعيفا في علم الحديث فراجت عليه أحاديث موضوعة كثيرة واشتغل بالفلسفة فألف كتابه إحياء علوم الدين ووقعت فيه طامات وأراد أن يتدارك ما وقع فيه فمات وهو يقرأ صحيح البخاري رحمه الله لكن له أشياء قال بها لا سيما في الإحياء مما جعلت بعض علماء المغاربة يحرق كتابه وبعضهم كان يسميه إماتة علوم الدين ففيه كاد أن يميل في بعض الأحايين أن الوحي ليس خاصا بذاك الزمن ، وأحسن من تكلم في الإحياء ابن تيمية وكلامه منثور في كتبه وكم بودي لو طبع الإحياء وبذيله كلام ابن تيمية فلو تتبع أحد الأشخاص أقوال الغزالي في كل كتب ابن تيمية وينزلها على الإحياء مع تعليقات العراقي التي سماها المغني عن الأسفار في تخريج أحاديث الإحياء فيكون النفع أكبر ولا سيما أن الإحياء مترجم لأكثر من لغة وكذلك علق على أحاديث الكتاب السبكي في طبقات الشافعية عند ترجمته لأبي حامد الغزالي فذكر الأحاديث التي لا أصل لها في الإحياء .(1/26)
فائدة : أولا :قول الصحابي في التفسير ليس حكمه حكم المرفوع خلافا لما قرره الحاكم في علوم الحديث ورد عليه ابن حجر في النكت على ابن الصلاح ، ثانيا : معظم الخلاف بين الصحابة والتابعين في التفسير هو خلاف تنوع وليس تضاد .
إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - :
قال الشيخ مشهور حفظه الله : كما أن فعله - صلى الله عليه وسلم - حجة فإن سكوته حجة ومن مقتضيات السكوت الإقرار فالنبي- صلى الله عليه وسلم - بعث مبلغا وقام بمهمته ونصح الأمة وبلغ وأشهد الله على أنه قام بذلك فقال في خطبة الوداع اللهم أني قد بلغت فاشهد ومن تبليغه أن لا يقر أحدا على حرام ولذا إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة وهو يؤيد ما قررناه سابقا من أن الترك فعل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما يقر يسكت فترك الأمر إن رأى منكرا مثلا فترك النهي عن المنكر فعل وسكوته فعل بدلالة أنه يترتب على سكوته إقرار وهذا الإقرار حجة .
قول الماتن: إقرار صاحب الشريعة …الخ
إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على الفعل من أحد كفعله فإن أقر قول أحد فكأنه قاله وإن أقر فعل أحد فكأنه فعله ، والمراد بصاحب الشريعة هو النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقول الماتن : ما فعل في وقته في غير مجلسه وعلم به ولم ينكره فحكمه حكم ما فعل في مجلسه " قال الشيخ مشهور : لو أن رجلا فعل فعلا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلغ هذا الفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي أقر وسكت فيصبح هذا الإقرار مثل الذي فعل في مجلسه .
هذا الإقرار إن أردنا أن ننوعه وأن نفصله فسنتكلم عنه بشيء من إسهاب ذاكرين بعض ما قد يشوش على حجية الإقرار من بعض الحوادث النادرة التي كانت أو وقعت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -…والإقرار ثلاثة أقسام :(1/27)
القسم الأول : أن يقع القول أو الفعل من غيره - صلى الله عليه وسلم - ويقره النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ هذا نوع من أنواع التروك أن النبي- صلى الله عليه وسلم - يترك الأمر أو يترك النهي ويقر ما يرى ويقر ما يسمع هذا النوع الذي بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل إلا على أنه مباح فقط فهو ليس بموجب لأحد ولا بنادب لأحد فمثلا : رجل فعل فعلا أو قال قولا والنبي- صلى الله عليه وسلم - أقر هذا الفعل وهذا القول فسكت فترك أي ترك النهي ففعله ، فهذا يدلل على الإباحة فحسب فلا يدلل على الوجوب ولا على الندب لأن الله عز وجل افترض على النبي- صلى الله عليه وسلم - التبليغ وأخبره أنه يعصمه من الناس وأوجب عليه أن يسن للناس ما نزل إليه ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن النبي رأى فعلا أو سمع قولا يغضب الله وسكت عنه فيصبح سكوته عن الفعل أو القول وتركه للإنكار من ضمن التبيين الذي بينه النبي- صلى الله عليه وسلم - فلو كان مندوبا لأرشدن إليه ولو كان واجبا لأمرنا به ولكن سكوته يدل على أن هذا الفعل فعله وتركه سيان ، الآن قد يشوش على هذا قصة ابن صياد ( أو ابن صاف ) :شاب يهودي أظهر الإسلام وكانت تصدر منه حركات غريبة يحاول أن تكون له صلة بالغيب وكان صورته صورة الدجال وشك بعض الصحابة فيه هل هو الدجال أم لا ووقع في زمنه فتنة عظيمة حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماعة معه دخلوا حديقة وكان فيها وكان يهمهم ويخرج أصواتا وكان النبي يتسمع عليه حتى يعرف حاله فرأته أمه ( رأت أم ابن صياد النبي ) فقالت: محمد محمد محمد فسكت فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - لو سمعته لعلمت حاله وسمعه يقول " دخ " يريد أن يتنبأ بالدجال فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - اخسأ فإنك لن تعد قدرك وأظهر هذا ابن صياد الإسلام وله قصة مع أبي سعيد الخدري في
صحيح مسلم ج: 4 ص: 2242(1/28)
عن أبي سعيد الخدري قال ثم خرجنا حجاجا أو عمارا ومعنا بن صائد قال فنزلنا منزلا فتفرق الناس وبقيت أنا وهو فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه قال وجاء بمتاعه فوضعه مع متاعي فقلت إن الحر شديد فلو وضعته تحت تلك الشجرة قال ففعل قال فرفعت لنا غنم فانطلق فجاء بعس فقال اشرب أبا سعيد فقلت إن الحر شديد واللبن حار ما بي إلا أن أكره أن أشرب عن يده أو قال آخذ عن يده فقال أبا سعيد لقد هممت أن آخذ حبلا فأعلقه بشجرة ثم أختنق مما يقول لي الناس يا أبا سعيد من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كافر وأنا مسلم أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عقيم لا يولد له وقد تركت ولدي بالمدينة أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل المدينة ولا مكة وقد أقبلت من المدينة وأنا أريد مكة قال أبو سعيد الخدري حتى كدت أن أعذره [قال الشيخ مشهور : طبعا الدجال لا يدخل مكة والمدينة عند بعثته أما في الأول يدخل بدليل أنه ثبت في الصحيحين أن النبي- صلى الله عليه وسلم - رأى الدجال يطوف حول الكعبة وهذه الرؤية من قبل النبي للدجال حق ورؤى الأنبياء حق فهو يمنع هذه الصفات عند بعثته ] ثم قال أما والله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن قال قلت له تبا لك سائر اليوم" لذا ذهب جماهير العلماء أنه دجال من الدجاجلة ووقع خلاف شديد بين أهل العلم هل هو الدجال الأكبر أم لا وقد ذكر ابن كثير في كتابه البداية والنهاية أنه فقد يوم الحرة وهذا يؤكد أنه الدجال عند من يرى ذلك الشاهد من هذه القصة أن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما كانا يقسمان بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ابن صياد هو الدجال والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقرهما لم ينههما ولم يأمرهما بأن يكفرا عن يمينهما فقد(1/29)
يقول قائل النبي أقر وهذا الإقرار لا يلزم منه تبعاته قلنا له نعم لكن ابن عمر وعمر حلفا على شيء غالب على ظنهما ومن حلف على شيء غالب على ظنه فتبرهن له فيما بعد أنه ليس على ما حسب وظن فلا شيء عليه .
النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذاك الوقت لم يكن قد أوحي إليه شيء حول ابن صياد فلما النبي أقرهما في هذه المسألة فإقراره أو عدمه في هذه المسألة من هذه الحيثية لا حجية فيها ، لماذا ؟ لأن المسألة قائمة على اجتهاد أصلا والنبي صلى الله عليه وسلم ينتظر الوحي وانتظار النبي الوحي في هذه الفترة لا يقتدى به في فترة انتظار النبي صلى الله عليه وسلم الوحي في فعله أو قوله كيف نتأسى بالنبي نحن والنبي يأتيه الوحي من عند ربه فانتظار النبي للوحي هذا من الأفعال الخاصة به صلى الله عليه وسلم إذاً بهذا التخريج يبقى إقراره حجة صلى الله عليه وسلم وهذه الصورة خاصة في انتظاره الوحي فالنبي - صلى الله عليه وسلم - سكت لأنه لم يوح إليه بعد شيء بشأن ابن صياد .
القسم الثاني : أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا : هذا القسم يحتاج إلى تأصيل وتفصيل وله ثمرة مهمة وبسبب عدم وضوح هذا الترك بجميع أقسامه في هذا الزمان يختلط الحابل بالنابل عند كثير من الناس .
القسم الثالث : إقرار الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ؛ هل إقرار الله للنبي حجة أم لا ؟ وهذه مسألة تحتاج كذلك إلى توضيح .(1/30)
حتى نحسن البناء والتفريع نتذكر تأصيل مسألة هل الترك فعل أم لا ؟ الترك فعل لأدلة كثيرة منها : " قال ربي إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " الآية والهجران ترك القراءة وهو فعل لأن الله جعله اتخاذا ومنها " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون " فتركهم النهي عن الإثم و أكل السحت عده الله صنعا ومنها ما ثبت في الحديث من قصة الرجل الذي كان له ابنة عم فطلب منها الزنا فرضيت لحاجتها للمال فلما أقبل إليه قالت اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فتركها وتوسل بهذا الترك بقوله " إن كنت قد فعلت ذلك من أجلك .." الشاهد قوله فعلت وهو ترك الزنا وعده فعلا واستجاب له الله ومنها الحديث " عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن " فعد ترك دفن النخامة من العمل السيء .
نقول كما أن النبي- صلى الله عليه وسلم - بين بفعله المجرد وبين بقوله المجرد وبين بفعله الذي يساعده القول فإنه أيضا بين لأمته أحكاما شرعية بتركه المجرد أحيانا وبتركه الذي يساعده القول أحيانا أخرى فإذا ترك النبي فعل وقد نستفيد من ترك النبي- صلى الله عليه وسلم - شيئا زائدا عن المباح بل إذا بين النبي- صلى الله عليه وسلم - الترك من أجل أن لا يفرض على الأمة فإن الأصل في تركه يكون سنة فقد يترك النبي سنة مخافة أن تصبح فرضا ولذا من بديع كلام الشاطبي رحمه الله في الموافقات قال : إن كان الفعل المندوب مظنة لاعتقاد الوجوب فبيانه بالترك أو بالقول الذي يجتمع إليه الترك .انتهى كلامه(1/31)
إن كان الفعل المندوب مظنة لاعتقاد الوجوب فبيانه من قبل النبي سنة فيكون بالترك أو بالقول الذي يجتمع مع الترك ومن هنا ينبغي أن ننظر إلى التروك التي تركها النبي- صلى الله عليه وسلم - بعين فيها اعتبار ولا سيما إن وجدنا النبي- صلى الله عليه وسلم - قد فعل شيئا وواظب عليه ولم يتركه في موضوع وترك ذاك الشيء في نوع آخر في عبادة أخرى فحينئذ يكون تركه واجبا ، مثال ذلك صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس ولم نعرف عنه صلى ولو مرة واحدة إلا بأذان فهو واجب وكذلك النبي- صلى الله عليه وسلم - صلى صلوات من غير أذان مثل صلاة العيد والكسوف والخسوف فالنبي فعل فعلا وواظب عليه في نوع وتركه في نوع آخر فالترك هنا واجب وعليه فعدم الأذان في صلاة العيد والكسوف والخسوف واجب وإن فعلنا أثمنا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :" ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأذان في العيدين مع وجود ما يكون مقتضيا وزوال المانع سنة كما أن فعله سنة وقال فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة كان ترك الأذان فيهما سنة وليس لأحد أن يزيد في ذلك بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة وأعداد الركعات " انتهى كلامه .
النبي- صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات الخمس بعدد معين من الركعات وما زاد عليها وواظب على هذه الركعات وفعله هذا هو امتثال وبيان لأجمال فيصبح فعله واجبا وكذلك الجهر في الصلاة فالنبي- صلى الله عليه وسلم - أسر في بعض الركعات وجهر في بعضها فلا يجوز لنا أن نترك أحواله ؛ فيقول لنا قائل هذا فعل من النبي - صلى الله عليه وسلم - والفعل يدلل على السنية قلنا له لو أننا صلينا الظهر جهرا نكون قد تركنا سنة فقط وهذا غير صحيح فترك النبي يكون أحيانا واجبا .(1/32)
نقول تروك النبي - صلى الله عليه وسلم - على أقسام كما قلنا وليست كلها في منزلة واحدة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إن ترك وأقر غيره من قول أو فعل رآه أو بلغه هذا لا يحمل إلا على الإباحة .
ولو ترك النبي- صلى الله عليه وسلم - شيئا فهو على أقسام :قسم مباح وقسم مسنون وقسم واجب فهذه الأقسام هي كالآتي :
أولا : الترك الداعي للجبلة البشرية لا يدلل في حقنا تحريم ولا على كراهة إن فعلناه مثل : ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل الضب وقال إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه " فترك أكل الضب حكمه الإباحة لأنه ترك جبلي لذا رأى خالدا يأكله على مائدته وسكت عنه ومثلا : ترك النبي التنشيف بعد الغسل في الحديث الثابت وهو حديث ميمونة لما جاءته بخرقة فردها ولم ينشف بها وثبت أنه استخدمها في حديث آخر فالنبي - صلى الله عليه وسلم - تركها لشيء للتبرد مثلا فالترك هنا لا يدلل على أن التنشيف مكروه فإن فعله دل على الجواز وتركه له لأمر جبلي قال ابن دقيق العيد في كتابه الإحكام : رد النبي - صلى الله عليه وسلم - المنديل واقعة حال ( أي حادثة لها ملابسات خاصة بها ) يتطرق إليها الاحتمال فيجوز أن لا يكون لكراهة التنشيف بل لأمر يتعلق بالخرقة أو غير ذلك " انتهى كلامه
ثانيا : الترك الذي قام دليل على إختصاصه به .
فهناك أشياء تركها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخصوصية به كالأفعال تماما مثل ترك أكل الصدقة فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - " إنا معشر آل محمد لا تحل لنا الصدقة " فلا يجوز لمحتاج منا أن يقول أنا لا آخذ الصدقة لأن النبي لم يأخذها لأن هذا شيء خاص به وبآله وكذلك ترك ما يشتبه أنه صدقة فثبت أنه مر النبي- صلى الله عليه وسلم - فوجد تمرة ملقاة فقال لو لا أني أخشى أنها من تمر الصدقة لأكلتها " .(1/33)
ثالثا : الترك بيانا أو امتثالا لمجمل معلوم الحكم . في هذا النوع يجب علينا أن نتقيد فيه بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما سميناه سابقا بمساواة التأسي ومعنى الآية " وما آتاكم الرسول …" المباح بحق النبي مباح في حقنا والواجب في حقه واجب في حقنا أي خذوا على النحو الذي أخذه فان أخذه على وجه السنية فتأخذه على وجه السنية وأما باعتبار وجوب اعتباره فهو أمر واجب ونعني بوجوب اعتباره أي أن لا يهمل وأن يكون مصدر في التحليل والتحريم فهذا أمر واجب .وما آتاكم الرسول فخذوه على اعتبار أن التشريع من كتاب الله وسنة رسوله فهذا الأخذ لهذا الإتيان واجب أما كحكم تكليفي ليس كل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم واجبا وعلماء الأصول يقولون هذا الأمر في حقه صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلينا مساواة التأسي أي نتأسى به بالمساواة وبعضهم قال وجوب التأسي وصاحب فواتح الرحموت يذكر أن الوجوب فقط بالاعتبار وأما من حيث الفعل في الأحكام بالمفردات فتكون بمساواة التأسي فالمباح في حقه نأخذه مباحا والمسنون نأخذه مسنونا والمفروض نأخذه مفروضا وهكذا القواعد بالقواعد المتبعة المعروفة عند أهل العلم وهناك نوع من أنواع التروك يكون امتثالا أو بيانا لأمر مجمل معلوم الحكم في القرآن مثل قوله تعالى عن المنافقين في خطاب الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم " ولا تصلي على أحد منهم مات أبدا " الآية النبي ترك الصلاة على المنافقين بعد الآية فحكم ترك النبي واجب بالآية امتثالا لأمر معلوم الحكم وكذلك لما حج النبي صلى الله عليه وسلم مع صحابته تحلل صحبه من إحرامهم والنبي ترك التحلل لأن النبي ساق الهدي وحج قارنا فالصحابة تحللوا والنبي لم يتحلل وقال اني لبدت رأسي وقلدت هدي فلا أحل حتى أنحر وقال لا يحل مني حرا حتى يبلغ الهدي محله وهذا امتثال لقول الله تعالى " ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله " فعله هذا في ترك التحلل واجب لأنه بيان(1/34)
وامتثال لأمر الله تعالى نهاه الله تعالى عن التحلل حتى يبلغ الهدي محله .
رابعا : الترك المجرد كما في الفعل المجرد ، أي ترك ليس امتثالا لأمر الذي حكمه معروف ولا ترك النبي بداعي الجبلة ، ولا ترك شيئا خاصا به ، فالترك المجرد إما أن يعلم الحكم في حقه صلى الله عليه وسلم ولو بالاستنباط فالذي تركه على سبيل السنة نتركه على سبيل السنة والذي تركه على سبيل الفرض نتركه على سبيل الفرض وهكذا فالذي يعلم حكمه نقتدي فيه ولذا يعجبني كلام الشوكاني في إرشاد الفحول " تركه- صلى الله عليه وسلم - للشيء كفعله له في التأسي به فيه ، " ترك النبي للتأسي كالفعل فكما نتأسى به في الفعل نتأسى به في الترك .
أو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه ولم يعلم حكمه فينظر هل تركه النبي للتعبد فإن تركه تعبدا فإن فعلناه يكون ذلك مكروها مثل ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - رد السلام حتى يتيمم هذه سنة إن الإنسان يذكر الله على كل أحواله وهو طاهر حتى في رد السلام . وإن تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه ليس فيه تعبدا هذا شبيه بالأمر الجبلي فالنبي جلس في ناحية هيئ له أن يجلس هنا ولم يهيئ له أن يجلس في غيرها أو سار في طريق من الطرقات وما سار في طريق آخر فالسير في هذا الطريق ليس سنة هذا أقرب ما يكون للفعل الجبلي لكن هنالك أمور ينبغي أن ينظر إليها بعين الاعتبار ونحن نتكلم عن الفعل المجرد هنالك ضوابط مهمة في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - لا بد أن ينظر إليها منها :[ 1 ] تكرار الترك : لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك شيئا وكرر الترك إلى يوم الدين ولا سيما إن كان تركه في نوع من أنواع العبادات وفعله في نوع آخر من جنس نوع العبادات وكان في هذا الذي تركه قد كرر هذا الترك ولم يفعله ولو مرة فحينئذ فعله تشريع لنا وهذا ما يسميه بعضهم بالاستقراء مثل صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم - على الراحلة ( الصلوات فرائض و سنن )(1/35)
والنبي صلى السنن على الراحلة وترك صلاة الفريضة على الراحلة وكرر الترك إلى مماته ولم يصلها ولو مرة فثبت في الصحيح عن ابن عمر كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه " وفي رواية للبخاري " إلا الفرائض " وفي رواية لمسلم " غير أنه لم يصل عليها المكتوبة " ودخول وقت الفريضة للمسافرين أمر كثير فترك الصلاة لها دائما مع فعل النوافل على الراحلة يشعر بالتفريق بين حكم الفريضة وحكم النافلة ، الذي أشعرنا بالتفريق التكرار وعدم انخرام الفعل فتكرار فعله للنافلة على الراحلة وعدم فعله الفريضة على الراحلة ولو مرة دل على وجوب صلاة الفريضة على الأرض مع عدم الإيماء إلا عند الضرورة ففي حديث عمران ابن حصين "صل قائما فإن لم تستطع فجالسا " يعني يومئ إيماء والعلماء ألحقوا بها الصلاة بالسفينة إذا كانت لا تستقر أما إذا كانت تستقر ويستطيع الإنسان أن يركع ويسجد فلا يجوز له أن يومئ . ويلحق بالصلاة بالسفينة الصلاة بالطائرة فإن كنت تستطيع أن تركع وتسجد في الطائرة فلا يجوز لك أن تومئ وإن كنت لا تستطيع إلا بالإيماء فبالإيماء ، واستفاد جماهير أهل العلم في بيان أن الوتر ليس فريضة لأنه ثبت أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على الراحلة وثبت عنه أنه لم يصل الفريضة على الراحلة وكان يتنفل على الراحلة فأصبحت الوتر تلحق بالنوافل .(1/36)
[ 2 ] : ينبغي أن ينظر للسبب : فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أشياء لأسباب متنوعة وهو على أقسام : الأول :ترك الفعل المستحب أحيانا خشية أن يفرض على أمته: وهذا من رحمته بنا قالت عائشة رضي الله عنها : إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم " وكذلك تركه قيام رمضان فقام ليلتين أو ثلاثة ثم تداعى الناس للقيام معه وفي هذا دلالة على أنه قيام رمضان في المساجد جماعة أحب من أدائها في البيوت خلافا لمطلق القيام فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تداعي الناس قال : إنه لم يخف علي مكانكم ولكن خشيت أن تفرض عليكم " لذا لما جمع عمر الرجال على أبي وجمع النساء على تميم الداري وقال نعمة البدعة هذه فهذا لا يدلل على أنه يوجد بدعة حسنة في الدين ولكن مقصود عمر الأمر الجديد الذي أذن فيه الشارع أو الذي أذن فيه النبي ولم يفعله لعلة وزالت العلة والتحق النبي بالرفيق الأعلى واستقر حكم صلاة القيام أنها مسنونة فجمع الناس عليها وإلا فالنبي- صلى الله عليه وسلم - أذن لنا بالصلاة فقال " من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتبت له قيام ليلة "(1/37)
الثاني : ترك الفعل المستحب خشية أن يظن البعض أنه واجب : وهو غير الأول ، فالأول خشية أن يفرض على الأمة والثاني خشية أن يظن البعض أنه واجب فهو يشابهه وليس مثله فالنبي- صلى الله عليه وسلم - من هديه أنه كان يتوضأ لكل صلاة ويوم فتح مكة صلى الخمس صلوات بوضوء واحد فقال عمر يا رسول الله فعلت اليوم شيئا لم تكن تفعله فقال عمدا فعلته يا عمر " فتعمد ترك المسنون حتى يعلم الناس في هذا الجمع أنه ليس بفريضة ، قال الطحاوي في مشكل الآثار : يحتمل أن يكون ذلك واجبا عليه ثم نسخ يوم فتح مكة ويحتمل أنه كان يفعله استحبابا ثم خشي أن يظن به الوجوب فتركه لبيان الجواز " قال الحافظ ابن حجر في الفتح " الثاني أقرب ، أي أن النبي ترك المسنون لئلا يظن الناس أنه واجب ، ويسن الاقتداء بالنبي في هذا القسم إن كان إنسانا مرموق أو كان عالما يقتدى به . قال الشاطبي في الموافقات " لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبية أن يواظب عليها مواظبة يفهم الجاهل منها الوجوب إذا كان منظورا إليه مرموقا أو مظنة لذلك "بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يعلم أنها غير واجبة مثل السجدة يوم الجمعة ؛ السنة أن يقرأ الإمام في صلاة الفجر يوم الجمعة في الركعة الأولى سورة السجدة ، نقل القرافي في الفروق عن شيخه المنذري قال " يسن للإمام في بعض الأحايين أن لا يقرأ في الركعة الأولى يوم الجمعة سورة السجدة لأن عوام أهل مصر يظنون أن الواجب في الركعة الأولى في صلاة فجر الجمعة أن يسجد الإمام ثلاث سجدات " .
الثالث : الترك لأجل المشقة التي تلحق بالأمة بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - :(1/38)
النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أشياء ولم يداوم عليها مخافة أن يلحق بالأمة المشقة مثل حديث ابن عباس في البخاري قال " ولم يمنعه - صلى الله عليه وسلم - أن يرمل في الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم إلا الرحمة بهم " فالنبي كان يرمل بثلاثة أشواط ويترك أربعا في أول قدوم الرمل ( الهرولة ) .ومما يلاحظ لا يستحب الرمل في الأشواط كلها لأن الأحكام قد استقرت وإن زال السبب .
من هذا النوع (عدم إلحاق المشقة )ترك النبي بعض الأشياء في أمثلة قد تقبل التخريج عليها وقد لا تقبل ذلك :
مثل ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ستر الفخذ عند وضع رجليه في الماء وهذا لا يدل على أن الفخذ ليس عورة فقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم - في حديث جرهد " غط فخذك فإن الفخذ عورة " لكن ترك النبي لستر فخذه لأنه كان في ماء ويلحقهم في ذلك شيء من المشقة فإن رفع الإنسان ثوبه وأمن الفتنة فهذا الترك لا حرج فيه فهذا الترك على هذا الحال يخرج على هذا المعنى والله أعلم .
الرابع : ترك المطلوب خشية حصول مفسدة أعظم منه : كقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة " ومثل ذلك تركه قتل المنافقين قال "لا أريد أن يقول الناس أن محمدا يقتل أصحابه " .
خامسا : تركه لبعض الأعمال على سبيل العقوبة : مثل تركه الصلاة على المدين ولم يصل على ماعز ولم ينه عن الصلاة عليه وتركه للصلاة على من قتل نفسه وهكذا .
سادسا : ترك الامتثال لأمر شرعي لمانع : كتركه لصلاة الفجر لما نام .
[ 3 ] : ينبغي أن يفرق بين تركه لشيء قام المقتضى عليه وتركه لشيء لم يقم المقتضى عليه :(1/39)
فإن كان هناك مقتضى لعمل والنبي - صلى الله عليه وسلم - والمقتضى قائم فتركه يصبح حجة ويجب التقيد بها ويتعبد الله به ومن فعل خلافه فهذه بدعة وأما إن لم يقم المقتضى على فعله في زمنه فحينئذ تعرض كل مسألة على الشريعة فمنها الذي يقبل ومنها الذي يرد . وهذا هو الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة .
ومن الأمثلة على تركه مع وجود المقتضى : تركه للأذان في صلاة العيد وجهره في بعض الصلوات دون بعض فالأذان للعيد بدعة والصلاة سرا في صلاة جهر بدعة .
ومن الأمثلة على تركه مع عدم وجود المقتضى : الأذان بمكبر الصوت مصلحة مرسلة لأنه لم يكن موجودا في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن المقتضى قائم لاستعماله فالنبي أمر من رأى الأذان أن يلقيه على من أندى منه صوتا وأرفع صوتا لذا الفقهاء يقولون يحسن بالمؤذن أن يكون صيِّتا أي ذو صوت مرتفع . وكذلك قراءة القرآن بالنظارات مصلحة مرسلة .وقد اعترض بعضهم على ذلك كما قال ابن القيم في الإعلام " إن قيل من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم فقال ابن القيم : فهذا سؤال بعيد جدا عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه ولو صح هذا السؤال وقبل لاستحب لنا الأذان في التراويح واستحب لنا الغسل لكل صلاة والحجة أنه من أين لكم أنه لم ينقل وانفتح باب البدعة …." انتهى كلامه
وقال ابن دقيق العيد في الأحكام عند حديث " أنه سجد للسهو " قال : سجد ولم يذكر التشهد بعد سجود السهو ولذا يستدل على عدم الفعل أن المقتضى قائم فلو فعله لنقل مثل التكبيرات لسجود التلاوة .(1/40)
فائدة : بعض الفقهاء يقولون نكبر في سجود التلاوة عند السجود وعند القيام وبعضهم يقولون نكبر عند السجود وعند القيام ونسلم وبعضهم يقولون لا نكبر لا عند السجود ولا عند القيام وهذا الأخير الأقرب للسنة لأنه لم يرد شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا سيما والمقتضى قائم ولكن لا نقول من كبر في سجود التلاوة أنها بدعة لأنه ثبت عن ابن مسعود أنه سجد وكبر فنقول إن كان الإمام بين عوام لا يفهمون السنة ولا يعظمونها يكبر وإلا فلا .
فائدة : سكوت الله تعالى عن النبي- صلى الله عليه وسلم - إقرار معتبر ولذا يوجد آيات عتاب في القرآن للنبي لما فعل خلاف الأولى فإن لم يعاتبه فيكون الشيء الذي فعله والذي قاله رضيه الله منه على أنه شرع له .وكذلك لو أن الصحابة فعلوا فعلا واشتهر وانتشر وأقرهم النبي- صلى الله عليه وسلم - عليه ولم ينزل الله فيه محذورا فهذا نوع من أنواع الإقرار كقول أبي سعيد " كنا نعزل والقرآن ينزل "أي كنا نعزل في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم - فالعزل جائز بإذن الزوجة ولكن ثبت عند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن العزل قال " ذلك الوأد الخفي " فهو فيه نوع كراهة لقول النبي المنفر لهذا العمل .(1/41)