أصول البزدوي (1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق النسم ورازق القسم مبدع البدايع وشارع الشرايع دينا رضيا ونورا مضيا وذكرا للأنام ومطية إلى دار السلام أحمده على الوسع والإمكان وأستعينه على طلب الرضوان ونيل أسباب الغفران وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأصلي عليه وعلى آله وأصحابه وعلى الأنبياء والمرسلين وأصحابهم أجمعين
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد أبو الحسن على بن محمد البزدوي رحمه الله العلم نوعان علم التوحيد والصفات وعلم الشرايع والأحكام والأصل في النوع الأول هو التمسك بالكتاب والسنة ومجانبة الهوى والبدعة ولزوم طريق السنة والجماعة الذي كان عليه الصحابة والتابعون ومضى عليه الصالحون وهو الذي كان عليه أدركنا مشايخنا وكان على ذلك سلفنا أعني أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد أو عامة أصحابهم رحمهم الله وقد صنف أبو حنيفة رضي الله عنه في ذلك كتاب الفقه الأكبر وذكر فيه إثبات الصفات وإثبات تقدير الخير والشر من الله وأن ذلك كله بمشيئته وأثبت الاستطاعة مع الفعل وأن أفعال العباد مخلوقة بخلق الله تعالى إياها كلها ورد القول بالأصلح وصنف كتاب العالم والمتعلم وكتاب الرسالة وقال فيه لا يكفر أحد بذنب ولا يخرج به من الإيمان ويترحم له وكان في علم الأصول إماما صادقا وقد صح عن أبي يوسف أنه قال ناظرت أبا حنيفة في مسألة خلق القرآن (1/3)
ستة أشهر فاتفق رأي ورأيه على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر وصح هذا القول عن محمد رحمه الله ودلت المسائل المتفرقة عن أصحابنا في المبسوط وغير المبسوط على أنهم لم يميلوا إلى شيء من مذاهب الاعتزال وإلى سائر الأهواء وأنهم قالوا بحقية رؤية الله تعالى بالأبصار في دار الآخرة وبحقية عذاب القبر لمن شاء وحقية خلق الجنة والنار اليوم حتى قال أبو حنيفة لجهم اخرج عني يا كافر وقالوا بحقية سائر أحكام الآخرة على ما نطق به الكتاب والسنة وهذا فصل يطول تعداده والنوع الثاني علم الفروع وهو الفقه وهو ثلاثة أقسام علم المشروع بنفسه والقسم الثاني إتقان المعرفة به وهو معرفة النصوص بمعانيها وضبط الأصول بفروعها والقسم الثالث هو العمل به حتى لا يصير نفس العلم مقصودا فإذا تمت هذه الأوجه كان فقيها وقد دل على هذا المعنى أن الله تعالى سمى علم الشريعة حكمة فقال يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وقد فسر ابن عباس رضي الله عنه الحكمة في القرآن بعلم الحلال والحرام وقال ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة أي بالفقه والشريعة والحكمة في اللغة هو العلم والعمل فكذلك موضع اشتقاق هذا الاسم وهو الفقه دليل عليه وهو العلم بصفة الإتقان مع اتصال العمل به قال الشاعر ... أرسلت فيها قرماذا اقحام ... طبا فقيها بذوات الابلام ...
سماه فقيها لعلمه بما يصلح وبما لا يصلح والعمل به فمن حوى هذه الجملة كان فقيها مطلقا وإلا فهو فقيه من وجه دون وجه وقد ندب الله تعالى إليه بقوله فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم وصفهم بالإنذار وهو الدعوة إلى العلم والعمل به وقال النبي صلى الله عليه و سلم خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا وقال إذا أراد الله بعبد خيرا يفقهه في الدين وأصحابنا هم السابقون في هذا الباب ولهم الرتبة العليا (1/4)
والدرجة القصوى في علم الشريعة وهم الربانيون في علم الكتاب والسنة وملازمة القدوة وهما أصحاب الحديث والمعاني أما المعاني فقد سلم لهم العلماء حتى سموهم أصحاب الرأي والرأي اسم للفقه الذي ذكرنا وهم أولى بالحديث أيضا ألا ترى أنهم جوزوا نسخ الكتاب بالسنة لقوة منزلة السنة عندهم وعملوا بالمراسيل تمسكا بالسنة والحديث ورأوا العمل به مع الإرسال أولى من الرأي ومن رد المراسيل فقد رد كثيرا من السنة وعمل بالفرع بتعطيل الأصل وقدموا رواية المجهول على القياس وقدموا قول الصحابي على القياس وقال محمد رحمه الله تعالى في كتاب أدب القاضي لا يستقيم الحديث إلا بالرأي ولا يستقيم الرأي إلا بالحديث حتى أن من لا يحسن الحديث أو علم الحديث ولا يحسن الرأي فلا يصلح للقضاء والفتوى وقد ملأ كتبه من الحديث ومن استراح بظاهر الحديث عن بحث المعاني ونكل عن ترتيب الفروع على الأصول انتسب إلى ظاهر الحديث وهذا الكتاب لبيان النصوص بمعانيها وتعريف الأصول بفروعها على شرط الإيجاز والاختصار إن شاء الله تعالى وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب حسبنا الله ونعم الوكيل أعلم أن أصول الشرع ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع والأصل الرابع القياس بالمعنى المستنبط من هذه الأصول أما الكتاب فالقرآن المنزل على رسول الله المكتوب في المصاحف المنقول عن النبي عليه السلام نقلا متواترا بلا شبهة وهو النظم والمعنى جميعا في قول عامة العلماء وهو الصحيح من قول أبي حنيفة عندنا إلا أنه لم يجعل النظم ركنا لازما في حق جواز الصلاة خاصة على ما يعرف في موضعه وجعل المعنى ركنا لازما والنظم ركنا يحتمل السقوط رخصة بمنزلة التصديق في الإيمان أنه ركن أصلي والإقرار ركن زائد على ما يعرف في موضعه إن شاء الله تعالى وإنما يعرف أحكام الشرع بمعرفة أقسام النظم والمعنى وذلك أربعة أقسام فيما يرجع (1/5)
إلى معرفة أحكام القسم الأول في وجوه النظم صيغة ولغة والثاني في وجوه البيان بذلك النظم والثالث في وجوه استعمال ذلك النظم وجريانه في باب البيان والرابع في معرفة وجوه الوقوف على المراد والمعاني على حسب الوسع والإمكان وإصابة التوفيق أما القسم الأول فأربعة أوجه الخاص والعام والمشترك والمأول والقسم الثاني أربعة أوجه أيضا الظاهر والنص والمفسر والمحكم وإنما يتحقق معرفة هذه الأقسام بأربعة أخرى في مقابلتها وهي الخفي والمشكل والمجمل والمتشابه والقسم الثالث أربعة أوجه أيضا الحقيقة والمجاز والصريح والكناية والقسم الرابع أربعة أوجه أيضا الاستدلال بعبارته وبإشارته وبدلالته وباقتضائه وبعد معرفة هذه الأقسام قسم خامس وهو وجوه أربعة أيضا معرفة مواضعها وأصل الشرع الكتاب والسنة فلا يحل لأحد أن يقصر في هذا الأصل بل يلزمه محافظة النظم ومعرفة أقسامه ومعانيه مفتقرا إلى الله تعالى مستعينا به راجيا أن يوفقه بفضله أما الخاص فكل لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد وانقطاع المشاركة وكل اسم وضع لمسمى معلوم على الانفراد وهو مأخوذ من قولهم اختص فلان بكذا أي انفرد به وفلان خاص فلان أي منفرد به والخاصة اسم للحالة الموجبة للانفراد عن المال وعن أسباب نيل المال فصار الخصوص عبارة عما يوجب الانفراد ويقطع الشركة فإذا أريد خصوص الجنس قيل إنسان لأنه خاص من بين سائر الأجناس وإذا أريد خصوص النوع قيل رجل وإذا أريد خصوص العين قيل زيد وعمرو فهذا بيان اللغة والمعنى ثم العام بعده وهو كل لفظ ينتظم جمعا من الأسماء لفظا أو معنى ومعنى قولنا من الأسماء المسميات هنا ومعنى قولنا لفظا أو معنى هو تفسير للانتظام يعني أن ذلك اللفظ إنما ينتظم الأسماء مرة لفظا مثل قولنا زيدون ونحوه أو معنى مثل قولنا من وما ونحوهما والعموم (1/6)
في اللغة هو الشمول يقال مطر عام أي شمل الأمكنة كلها وخصب عام أي عم الأعيان ووسع البلاد ونخلة عميمة أي طويلة والقرابة إذا توسعت انتهت إلى صفة العمومة وهو كالشيء اسم عام يتناول كل موجود عندنا ولا يتناول المعدوم خلافا للمعتزلة وإن كان كل موجود ينفرد باسمه الخاص وذكر الجصاص رحمه الله أن العام ما ينتظم جمعا من الأسماء أو المعاني وقوله أو المعاني سهو منه أو مأول لأن المعاني لا يتعدد إلا عند اختلافها وتغايرها وعند اختلافها وتغايرها لا ينتظمها لفظ واحد بل يحتمل كل واحد منها على الانفراد وهذا يسمى مشتركا وقد ذكر بعد هذا أن المشترك لا عموم له فثبت أنه سهوا ومأول وتأويله أن المعنى الواحد لما تعدد محله يسمى معاني مجاز الاجتماع محاله لكن كان ينبغي أن يقول والمعاني والصحيح أنه سهو وأما المشترك فكل لفظ احتمل معنى من المعاني المختلفة أو اسما من الأسماء على اختلاف المعاني على وجه لا يثبت إلا واحد من الجملة مراد به مثل العين اسم لعين الناظر وعين الشمس وعين الميزان وعين الركبة وعين الماء وغير ذلك ومثل المولى والقرء من الأسماء وهو مأخوذ من الاشتراك ولا عموم لهذا اللفظ وهو مثل الصريم اسم لليل والصبح جميعا على الاحتمال لا على العموم وهذا يفارق المجمل لأن المشترك يحتمل الإدراك بالتأمل في معنى الكلام لغة برجحان بعض الوجوه على البعض فقبل ظهور الرجحان سمي مشتركا فأما المجمل فما لا يدرك لغة لمعنى زائد ثبت شرعا أو لانسداد باب الترجيح لغة فوجب الرجوع فيه إلى بيان المجمل على ما نبين إن شاء الله تعالى وأما المأول فما ترجح من المشترك بعض وجوهه بغالب الرأي وهو مأخوذ من آل يؤل إذا رجع وأولته إذا رجعته وصرفته لأنك لما تأملت في موضوع اللفظ فصرفت اللفظ إلى بعض المعاني خاصة فقد أولته إليه وصار ذلك عاقبة الاحتمال (1/7)
بواسطة الرأي قال الله تعالى هل ينظرون إلا تأويله أي عاقبته وليس هذا كالمجمل إذا عرفت بعض وجوهه ببيان المجمل فإن يسمى مفسرا لأنه عرف بدليل قاطع فسمي مفسرا أي مكشوفا كشفا بلا شبهة مأخوذ من قولهم أسفر الصبح إذا أضاء إضاءة لا شبهة فيه وسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت النقاب فيكون هذا اللفظ مقلوبا من التفسير وهذا معنى قول النبي عليه السلام من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار أي قضى تأويله واجتهاد على أنه مراد الله تعالى لأنه نصب نفسه صاحب وحي وفي هذا إبطال قول المعتزلة في أن كل مجتهد مصيب لأنه يصير الثابت بالاجتهاد تفسيرا وقطعا على حقيته مرادا وهذا باطل وأما القسم الثاني فإن الظاهر اسم لكل كلام ظهر المراد به للسامع بصيغته مثل قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء فإنه ظاهر في الإطلاق وقوله تعالى وأحل الله البيع هذا ظاهر في الاحلال وأما النص فما ازداد وضوحا على الظاهر بمعنى من المتكلم لا في نفس الصيغة مأخوذ من قولهم نصصت الدابة إذا استخرجت بتكلفك منها سيرا فوق سيرها المعتاد وسمى مجلس العروس منصة لأنه ازداد ظهورا على ساير المجالس بفضل تكلف اتصل به من جهة الواضع ومثاله قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن هذا ظاهر في الإطلاق نص في بيان العدد لأنه سيق الكلام للعدد وقصد به فازداد ظهورا على الأول بأن قصد به وسيق له ومثله قوله تعالى وأحل البيع وحرم الربا فانه ظاهر للتحليل والتحريم نص للفصل بين البيع والربا لانه سيق الكلام لاجله فازداد وضوحا بمعنى من المتكلم لا بمعنى في صيغته واما المفسر فما ازداد وضوحا على النص سواء كان بمعنى في النص أو بغيره بأن كان مجملا نلحقه بيان قاطع فأسند به التأويل أو كان عاما نلحقه ما انسد به باب التخصيص مأخوذا مما ذكرنا وذلك مثل قوله تعالى فسجد الملائكة كلهم اجمعون فان الملائكة جمع عام محتمل للتخصيص (1/8)
فانسد باب التخصيص بذكر الكل وذكر الكل احتمل تأويل التفرق فقطعه بقوله اجمعون فصار مفسرا وحكمه الإيجاب قطعا بلا احتمال تخصيص ولا تأويل إلا أن يحتمل النسخ والتبديل فإذا ازداد قوة واحكم المراد به عن احتمال النسخ والتبديل سمى محكما من احكام البناء قال الله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات وذلك مثل قوله تعالى أن الله بكل شيء عليم واما الأربعة التي تقابل هذه الوجوه فالخفي اسم لكل ما اشتبه معناه وخفي مراده بعارض غير الصيغة لا ينال إلا بالطلب وذلك مأخوذ من قولهم اختفى فلان أي استتر في مصره بحيلة عارضة من غير تبديل في نفسه فصار لا يدرك إلا بالطلب وذلك مثل النباش والطراد وهذه في مقابلة الظاهر ثم المشكل وهو الداخل في أشكاله وامثاله مثل قولهم احرم أي دخل في الحرم واشتى أي دخل في الشتاء وهذا فوق الأول لا ينال بالطلب بل بالتامل بعد الطلب ليتميز عن اشكاله وهذا لغموض في المعنى أو لاستعارة بديعة وذلك يسمى غريبا مثل رجل اغترب عن وطنه فاختلط بأشكاله من الناس فصار خفيا بمعنى زائد على الأول ثم المجمل وهو ما ازدحمت فيه المعاني واشتبه المراد اشتباها لا يدرك بنفس العبارة بل بالرجوع إلى الاستفسار ثم الطلب ثم التأمل و ذلك مثل قوله تعالى وحرم الربا فإنه لا يدرك بمعاني اللغة بحال وكذلك الصلوة والزكوة وهو مأخوذ من الجملة وهو كرجل اغترب عن وطنه بوجه انقطع به اثره والمشكل يقابل النص والمجمل يقابل المفسر فإذا صار المراد مشتبها على وجه لا طريق لدركه حتى سقط طلبه ووجب اعتقاد الحقيه فيه سمى متشابها بخلاف المجمل فان طريق دركه متوهم وطريق درك المشكل قائم فأما المتشابه فلا طريق لدركه إلا التسليم فيقتضي اعتقاد الحقية قبل الاصابة وهذا معنى قوله وأخر متشابهات وعندنا أن لا حظ للراسخين (1/9)
في العلم من المتشابه لا التسليم على اعتقاد حقية المراد عند الله تعالى وان الوقف على قوله وما يعلم تأويله إلا الله واجب واهل الإيمان على طبقتين في العلم منهم من يطالب بالامعان في السير لكونه مبتلى بضرب من الجهل ومنهم من يطالب بالوقف لكونه مكرما بضرب من العلم فانزل المتشابه تحقيقا للابتداء وهذا اعظم الوجهين بلوى واعمهما نفعا وجدوى وهذا يقابل المحكم ومثاله المقطعات في اوائل السور ومثاله إثبات رؤية الله تعالى بالابصار حقا في الاخرة بنص القرآن بقوله وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة لانه موجود بصفة الكمال وان يكون مرئيا لنفسه ولغيره من صفات الكمال والمؤمن لاكرامه بذلك اهل لكن إثبات الجهة ممتنع فصار بوصفه متشابها فوجب تسليم المتشابه على اعتقاد الحقية فيه وكذلك إثبات اليد والوجه حق عندنا معلوم بأصله متشابه بوصفه وان يجوز ابطال الأصل بالعجز عن درك الوصف و إنما ضلت المعتزلة من هذا الوجه فانهم ردوا الاصول لجهلهم بالصفات فصاروا معطلة وتفسير القسم الثالث أن الحقيقة اسم لكل لفظ أريد به ما وضع له مأخوذ من حق الشيء يحق حقا فهو حق وحاق وحقيق والمجاز اسم لما أريد به غير ما وضع له مفعل من جاز يجوز بمعنى فاعل أي متعد عن اصله ولا ينال الحقيقة إلا بالسماع ولا تسقط عن المسمى ابدا والمجاز ينال بالتأمل في طريق ليعتبر به ويحتذى بمثاله ومثال المجاز من الحقيقة مثال القياس من النص واما الصريح فما ظهر المراد به ظهورا بينا زائدا أو منه سمى القصر صرحا لارتفاعه عن سائر الأبنية والصريح الخالص من كل شيء وذلك مثل قوله انت طالق والكناية خلاف الصريح وهو ما استتر المراد به مثل هاء المغايبة وسائر الفاظ الضمير اخذت من قولهم كنيت وكنوت ومنه قول الشاعر ... وانى لاكنو عن قذور بغيرها ... واعرب احيانا بها فاصارح ...
وهذه جملة يأتي تفسيرها في باب بيان الحكم وتفسير القسم الرابع (1/10)
أن الاستدلال بعبارة النص هو العمل بظاهر ما سيق الكلام له والاستدلال باشارته هو العمل بما ثبت بنظمه لغة لكنه غير مقصود ولا سيق له النص وليس بظاهر من كل وجه فسميناه إشارة كرجل ينظر ببصره إلى شيء ويدرك مع ذلك غيره بإشارة لحظاته ونظيره قوله تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إنما سيق النص لاستحقاق سهم من الغنيمة على سبيل الترجمة لما سبق واسم الفقراء إشارة إلى زوال ملكهم عما خلفوا في دار الحرب وقوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن سيق لإثبات النفقة وأشار بقوله تعالى وعلى المولود له إلى أن النسب إلى الآباء وإلى قوله عليه السلام أنت ومالك لأبيك وقوله وحمله وفصاله ثلاثون شهرا سيق لإثبات منة الوالدة على الولد وفيه إشارة إلى أن أقل مدة الحمل ستة أشهر إذا رفعت مدة الرضاع وهذا القسم هو الثابت بعينه وأما الثابت بدلالة النص فما ثبت بمعنى النص لغة لا اجتهادا ولا استنباطا مثل قوله تعالى فلا تقل لهما أف هذا قول معلوم بظاهره معلوم بمعناه وهو الأذى وهذا معنى يفهم منه لغة حتى شارك فيه غير الفقهاء أهل الرأي والاجتهاد كمعنى الإيلام من الضرب ثم يتعدى حكمه إلى الضرب والشتم بذلك المعنى فمن حيث أنه كان معنى لا عبارة لم نسمعه نصا ومن حيث أنه ثبت به لغة لا إستنباطا يسمى دلالة وأنه يعمل عمل النص وأما الثابت باقتضاء النص فما لم يعمل إلا بشرط تقدم عليه فإن ذلك أمر اقتضاء النص لصحة ما تناوله فصار هذا مضافا إلى النص بواسطة المقتضى وكان كالثابت بالنص وعلامته أن يصح به المذكور ولا يلغى عند ظهوره ويصلح لما أريد به فأما قوله تعالى وسأل القرية فإن الأهل غير مقتضى لأنه إذا ثبت لم يتحقق في القرية ما أضيف إليه بل هذا من باب الإضمار لأن صحة المقتضى إنما يكون لصحة المقتضى ومثاله الأمر بالتحرير (1/11)
للتكفير مقتض للملك ولم يذكر هذا البيان معرفة تفسير هذه الأصول لغة وتفسير معانيها وبيان ترتيبها والفصل الرابع في بيان أحكامها والله أعلم بالصواب باب معرفة أحكام الخصوص
اللفظ الخاص يتناول المخصوص قطعا ويقينا بلا شبهة لما أريد به الحكم ولا يخلو الخاص عن هذا في أصل الوضع وإن احتمل التغير عن أصل وضعه لكن لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان لكونه بينا لما وضع له من ذلك أن الله تعالى قال والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قلنا المراد به الحيض لأنا إذا حملنا على الإطهار انتقص العدد عن الثلاثة فصارت العدة قرئين وبعض الثالث وإذا حملنا على الحيض كانت ثلاثة كاملة والثلاثة اسم خاص لعدد معلوم لا يحتمل غيره كالفرد لا يحتمل العدد والواحد لا يحتمل الاثنين فكان هذا بمعنى الرد والإبطال ومن ذلك قوله تعالى واركعوا مع الراكعين والركوع اسم لفعل معلوم وهو الميلان عن الاستواء بما يقطع اسم الاستواء فلا يكون إلحاق التعديل به على سبيل الفرض حتى تفسد الصلاة بتركه بيانا صحيحا لأنه بين بنفسه بل يكون رفعا لحكم الكتاب بخبر الواحد لكنه ملحق به إلحاق الفرع بالأصل ليصير واجبا ملحقا بالفرض كما هو منزلة خبر الواحد من الكتاب ومن ذلك قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق وهذا فعل خاص وضع لمعنى خاص وهو الدوران حول البيت فلا يكون وقفه على الطهارة عن الحدث حتى لا ينعقد إلا بها عملا بالكتاب ولا بيانا بل نسخا محضا فلا يصح بخبر الواحد لكنه يزاد عليه واجبا ملحقا بالفرض كما هو منزلة خبر الواحد من الكتاب ليثبت الحكم بقدر دليله ومن ذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم فإنما الوضوء (1/12)
غسل ومسح وهما لفظان خاصان لمعنى معلوم في أصل الوضع فلا يكون شرط النية في ذلك عملا به ولا بيانا له وهو بين لما وضع له بل يجب أن يلحق به على الوصف الذي ذكرنا وبطل شرط الولاء والترتيب والتسمية كما ذكرنا وصار مذهب المخالف في هذا الأصل غلطا من وجهين أحدهما أنه حط منزلة الخاص من الكتاب عن رتبته والثاني أنه رفع حكم الخبر الواحد فوق منزلته ومن ذلك قوله تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره قال محمد والشافعي رحمهما الله قوله حتى تنكح كلمة وضعت لمعنى خاص وهو الغاية والنهاية فمن جعله محدثا حلا جديدا لم يكن ذلك عملا بهذه الكلمة ولا بيانا لأنها ظاهرة فيما وضعت له بل كان إبطالا ولكنها تكون غاية ونهاية والغاية والنهاية بمنزلة البعض لما وصف بها وبعض الشيء لا ينفصل عن كله فيلغوا قبل وجود الأصل والجواب أن النكاح يذكر ويراد به الوطوء وهو أصله ويحتمل العقد على ما يأتي في موضعه وقد أريد أن العقد هنا بدلالة إضافته إلى المرأة لأنها في فعل مباشرة العقد مثل الرجل فصحت الإضافة إليها وأما فعل الوطوء فلا يضاف إليها مباشرته أبدا لأنها لا يحتمل ذلك وإنما ثبت الدخول بالسنة على ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لامرأة رفاعة وقد طلقها ثلثا ثم نكحت بعبد الرحمن بن الزبير ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم تتهمه بالعنة وقالت ما وجدته إلا كهدبة ثوبي هذا فقال صلى الله عليه و سلم أتريدين أن تعودي إلى رفاعة فقالت نعم فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا حتى تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك وفي ذكر العود دون الانتهاء إشارة إلى التحليل وفي حديث آخر لعن الله المحلل والمحلل له فثبت الدخول زيادة بخبر مشهور يحتمل الزيادة بمثله وما ثبت الدخول بدليله إلا بصفة التحليل وثبت شرط الدخول بالإجماع ومن صفته التحليل وأنتم أبطلتم هذا الوصف عن دليله عملا بما هو ساكت (1/14)
وهو نص الكتاب عن هذا الحكم أعني الدخول بأصله ووصفه جميعا ومن ذلك قوله تعالى الطلاق مرتان الآية فالله تعالى ذكر الطلاق مرة ومرتين وأعقبهما بذكر الرجعة ثم أعقب ذلك الخلع بالمال بقوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به فإنما بدأ بفعل الزوج وهو الطلاق ثم زاد فعل المرأة وهو الافتداء وتحت الأفراد تخصيص المرأة به وتقرير فعل الزوج على ما سبق فإثبات فعل الفسخ من الزوج بطريق الخلع لا يكون عملا به بل يكون رفعا ومن ذلك قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا وقال الشافعي رحمه الله القطع لفظ خاص لمعنى مخصوص فأنى يكون إبطال عصمة المال عملا به فقد وقعتم في الذي أبيتم ومن ذلك قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم محصنين فإنما أحل الابتغاء بالمال والابتغاء لفظ خاص وضع لمعنى مخصوص وهو الطلب والطلب بالعقد يقع فمن جوز تراخي البدل عن الطلب الصحيح إلى المطلوب وهو فعل الوطىء كان ذلك منه إبطالا فبطل به مذهب الخصم في مسألة المفوضة ومثله قوله تعالى قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم والفرض لفظ خاص وضع لمعنى مخصوص وهو التقدير فمن لم يجعل المهر مقدارا شرعا كان مبطلا وكذلك الكناية في قوله تعالى ما فرضنا لفظ خاص يراد به نفس المتكلم فدل ذلك على أن صاحب الشرع هو المتولي للإيجاب والتقدير وأن تقدير العبد امتثال به فمن جعل إلى العبد اختيار الإيجاب والترك في المهر والتقدير فيه كان إبطالا لموجب هذا اللفظ الخاص لا عملا به ولا بيانا لأنه بين ومن ذلك قوله تعالى بعد هذا فإن طلقها فلا تحل له من بعد والفاء حرف خاص لمعنى مخصوص وهو الوصل والتعقيب وإنما وصل الطلاق بالافتداء بالمال فأوجب صحته بعد الخلع فمن وصله بالرجعى وأبطل وقوعه بعد الخلع لم يكن عملا به (1/18)
ولا بيانا والجواب أن ذلك ثبت بنص مقرون به عندنا وهو قوله تعالى جزاء بما كسبا لأن الجزاء المطلق اسم لما يجب لله تعالى على مقابلة فعل العبد وأن يجب لله تعالى يدل على خلوص الجناية الداعية إلى الجزاء واقعة على حقه ومن ضرورته تحول العصمة إليه ولأن الجزاء يدل على كمال المشروع لما شرع له مأخوذ من جزى أي قضى وجزاء بالهمزة أي كفى وكماله يستدعي كمال الجناية ولا كمال مع قيام حق العبد في العصمة لأنه يكون حراما لمعنى يكون في غيره ولا يلزم أن الملك لا يبطل لأن محل الجناية العصمة وهي الحفظ ولا عصمة إلا بكونه مملوكا فأما تعين المالك فشرط ليصير خصمه متعينا لا لعينه حتى إذا وجد الخصم بلا ملك كان كافيا كالمكاتب والمتولي الوقف ونحوهما فلذلك تحولت العصمة دون الملك ألا ترى أن الجناية يقع على المال والعصمة صفة للمال مثل كونه مملوكا فأما الملك الذي هو صفة للمالك كيف يكون محلا للجناية لينتقل وكيف ينتقل الملك وهو غير مشروع فأما نقل العصمة فمشروع كما في الخمر والله أعلم ومن هذا الأصل باب الأمر
فإن المراد بالأمر يختص بصيغة لازمة عندنا ومن الناس من قال ليس للمراد بالأمر صيغة لازمة وحاصل ذلك أن أفعال النبي صلى الله عليه و سلم عندهم موجبة كالأمر وهو قول بعض أصحاب مالك والشافعي رحمهما الله واحتجوا بقوله تعالى وما أمر فرعون برشيد أي فعله ولو لم يكن الأمر مستفادا بالفعل لما سمي به وقال عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي فجعلوا المتابعة لازمة واحتج أصحابنا رحمهم الله بأن العبارات إنما وضعت دلالات على المعاني المقصودة ولا يجوز قصور العبارات عن المقاصد والمعاني (1/19)
وقد وجدنا كل مقاصد الفعل مثل الماضي والحال والاستقبال مختصة بعبارات وضعت لها فالمقصود بالأمر كذلك يجب أن يكون مختصا بالعبارة وهذا المقصود أعظم المقاصد فهو بذلك أولى وإذا ثبت أصل الموضوع كان حقيقة فيكون لازمة إلا بدليل ألا ترى أن أسماء الحقايق لا يسقط عن مسمياتها أبدا وأما المجاز فيصح نفيه يقال للأب الأقرب أب لا ينفى عنه بحال ويسمى الجد أبا ويصح نفيه ثم ههنا صح أن يقال أن فلانا لم يأمر اليوم بشيء مع كثرة أفعاله وإذا تكلم بعبارة الأمر لم يستقم نفيه وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم حين خلع نعليه فخلع الناس نعالهم منكرا عليهم ما لكم خلعتم نعالكم وأنكر عليهم الموافقة في وصال الصوم فقال إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فثبت أن صيغة الأمر لازمة ولا ننكر تسميته مجازا لأن الفعل يجب به فسمي به مجازا والنبي عليه السلام دعا إلى الموافقة بلفظ الأمر بقوله صلوا كما رأيتموني أصلي فدل أن الصيغة لازمة ومن ذلك باب موجب الأمر
وإذا ثبت خصوص الصيغة ثبت خصوص المراد في أصل الوضع وهو قول عامة الفقهاء ومن الناس من قال أنه مجمل في حق الحكم لا يجب به حكم إلا بدليل زائد واحتجوا بأن صيغة الأمر استعملت في معان مختلفة للإيجاب مثل قوله تعالى أقيموا الصلاة وللندب مثل قوله وابتغوا من فضل الله وللإباحة مثل قوله وإذا حللتم فاصطادوا وللتقريع مثل قوله تعالى واستفزز من استطعت منهم وللتوبيخ مثل قوله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وإذا اختلفت وجوهه لم يجب العمل به إلا بدليل ولعامة العلماء أن صيغة الأمر لفظ خاص من تصاريف (1/20)
الفعل وكما أن العبارات لا تقصر عن المعاني فكذلك العبارات في أصل الوضع مختصة بالمراد ولا يثبت الاشتراك إلا بعارض فكذلك صيغة الأمر لمعنى خاص ثم الاشتراك إنما يثبت بضرب من الدليل المغير كسائر ألفاظ الخصوص ثم الفقهاء سوى الواقفية اختلفوا في حكم الأمر قال بعضهم حكمه الإباحة وقال بعضهم الندب وقال عامة العلماء حكمه الوجوب أما الذين قالوا بالإباحة قالوا إن ما ثبت أمرا كان مقتضيا لموجبه فيثبت أدناه وهو الإباحة والذين قالوا بالندب قالوا لا بد مما يوجب ترجيح جانب الوجود وأدنى ذلك معنى الندب إلا أن هذا فاسد لأنه إذا ثبت أنه موضوع لمعناه المخصوص به كان الكمال أصلا فيه فثبت أعلاه على احتمال الأدنى إذ لا قصور في الصيغة ولا في ولاية المتكلم والحجة لعامة العلماء الكتاب والإجماع والدليل المعقول أما الكتاب قوله تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وهذا عندنا على أنه أريد به ذكر الأمر بهذه الكلمة والتكلم بها على الحقيقة لا مجازا عن الإيجاد بل كلام بحقيقته من غير تشبيه ولا تعطيل وقد أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر ولو لم يكن الوجود مقصود بالأمر لما استقام قرينة للإيجاد بعبارة الأمر وقال ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره فقد نسب وأضاف القيام إلى الأمر وذلك دليل على حقية الوجود مقصودا بالأمر وقال الله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره وكذلك دلالة الإجماع حجة لأن من أراد طلب فعل لم يكن في وسعه أن يطلبه إلا بلفظ الأمر والدليل المعقول أن تصاريف الأفعال وضعت لمعان على المخصوص كساير العبارات فصار معنى المضي للماضي حقا لازما إلا بدليل وكذلك الحال واحتمال أن يكون من الاستقبال لا يخرجه عن موضوعه فكذلك صيغة الأمر لطلب المأمور به فيكون حقا لازما به على أصل الوضع ألا ترى أن (1/21)
الأمر فعل متعد لازمه ايتمر ولا وجود للمتعدي إلا أن يثبت لازمه كالكسر لا يتحقق إلا بالانكسار فقضية الأمر لغة أن لا يثبت إلا بالامتثال إلا أن ذلك لو ثبت بالأمر نفسه لسقط الاختيار من المأمور أصلا وللمأمور عندنا ضرب من الاختيار وإن كان ضروريا فنقل حكم الوجود إلى الوجوب حقا لازما بالأمر لا يتوقف على اختيار المأمور وتوقف الوجود على اختيار المأمور صيانة واحترازا عن الجبر فلذلك صار الأمر للإيجاب ولو وجب التوقف في حكم الأمر لوجب في النهي فيصير حكمهما واحدا وهو باطل وما اعتبره الواقفية من الاحتمال تبطل الحقايق كلها وذلك محال ألا ترى أنا لم ندع أنه محكم وإذا أريد بالأمر الإباحة أو الندب فقد زعم بعضهم أنه حقيقة وقال الكرخي والجصاص بل هو مجاز لأن اسم الحقيقة لا يتردد بين النفي والإثبات فلما جاز أن يقال إني غير مأمور بالنقل دل أنه مجاز لأنه جاز أصله وتعداه ووجه القول الآخر أن معنى الإباحة أو الندب من الوجوب بعضه في التقدير كأنه قاصر لا مغاير لأن الوجوب ينتظمه وهذا صح ويتصل بهذا الأصل أن الأمر بعد الخطر لا يتعلق بالندب والاباحة لا محالة بل هو للايجاب عندنا إلا بدليل استدلالا بأصله وصيغته ومنهم من قال بالندب والاباحة لقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا ولكن ذلك عندنا بقوله تعالى أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين لا بصيغته ومن هذا الأصل الاختلاف في الموجب باب موجب الأمر
في معنى العموم والتكرار قال بعضهم صيغة الأمر يوجب العموم والتكرار وقال بعضهم لا بل يحتمله وهو قول الشافعي وقال بعض مشايخنا لا يوجبه ولا يحتمله إلا أن يكون معلقا بشرط أو مخصوصا بوصف وقال عامة مشايخنا لا يوجبه ولا يحتمله بكل حال غير أن الأمر بالفعل يقع على اقل (1/22)
جنسه ويحتمل كله بدليله مثال هذا الأصل رجل قال لامرأته طلقي نفسك أو قال ذلك لاجنبي فإن ذلك واقع على الثلاث عند بعضهم وعند الشافعي يحتمل الثلاث والمثنى وعندنا يقع على الواحدة إلا أن ينوي الكل وجه القول الأول أن لفظ الأمر مختصر من طلب الفعل بالمصدر الذي هو إسم لجنس الفعل والمختصر من الكلام والمطول سواء واسم الفعل اسم عام لجنسه فوجب العمل بعمومه كسائر الفاظ العموم ووجه قول الشافعي هو ما ذكرنا غير أن المصدر اسم نكرة في موضع الاثبات فأوجب الخصوص على احتمال العموم إلا ترى أن نية الثلاث صحيحة وهو عدد لا محالة فكذلك المثنى إلا ترى إلى قول اقرع بن حابس في السؤال عن الحج العامنا هذا ام للأبد ووجه القول الثالث الاستدلال بالنصوص الواردة من الكتاب والسنة مثل قوله تعالى اقم الصلاة لدلوك الشمس وإن كنتم جنبا فاطهروا واحتج من ادعى التكرار بحديث الاقرع بن حابس حين قال في الحج العامنا هذا يا رسول الله ام للابد فقال عليه السلام بل للابد فلو لم يحتمل اللفظ لما اشكل عليه ولنا أن لفظ الأمر صيغة اختصرت لمعناها من طلب الفعل لكن لفظ الفعل فرد وكذلك ساير الاسماء المفردة والمصادر مثل قول الرجل طلقي أي أوقعي طلاقا أو افعلي تطليقا أو التطليق وهما اسمان فردان ليسا بصيغتي جمع ولا عدد وبين الفرد والعدد تناف وكما لا يحتمل العدد معنى الفرد لم يحتمل الفرد معنى العدد ايضا وكذلك الامر بسائر الافعال كقولك اضرب اى اكتسب ضربا او الضرب وهو فرد بمنزلة زيد وعمر وبكر فلا يحتمل العدد الا انه اسم جنس له كل وبعض فالبعض منه الذى هو اقله فرد حقيقة وحكما واما الطلقات الثلث فليست بفرد حقيقه بل هى اجزآء متعددة ولكنها فرد حكما لانها جنس واحد فصارت من طريق الجنس واحدا الا ترى انك اذا عددت الاجناس كان هذا باجزائه واحدا فصار واحدا من حيث هو جنس وله ابعاض كالانسان فرد من حيث هو آدمى ولكنه ذو أجزاء (1/23)
متعددة فصار هذا الاسم الفرد واقعا على الكل بصفة أنه واحد لكن الاقل فرد حقيقة وحكما من كل وجه وكان اولى بالاسم الفرد عند اطلاقه والآخر محتملا فأما ما بين الاقل والكل فعدد محض ليس بفرد حقيقة ولا صورة ولا معنى فلم يحتمله الفرد وكذلك سائر أسماء الاجناس إذا كانت فردا صيغة أو دلالة اما الفرد صيغة فمثل قول الرجل والله لا اشرب ماء أو الماء أنه يقع على الاقل ويحتمل الكل فأما قدرا من الاقدار المتخللة بين الحدين فلا فكذلك لا آكل طعاما أو ما يشبهه واما الفرد دلالة فمثل قول الرجل والله لا اتزوج النساء ولا اشتري العبيد ولا اكلم بني آدم ولا اشتري الثياب أن ذلك يقع على الاقل ويحتمل الكل لان هذا جمع صار مجازا عن اسم الجنس لانا إذا بقينا جمعا لغا حرف العهد اصلا وإذا جعلناه جنسا بقى اللام لتعريف الجنس وبقى معنى الجمع من وجه في الجنس و كان الجنس اولى قال الله تعالى لا يحل لك النساء وذلك لا يختص بالجمع فصار هذا وساير اسماء الجنس سواء وانما اشكل على الاقرع لانه اعتبر ذلك بسائر العبادات وعلى هذا يخرج أن كل اسم فاعل دل على المصدر لغة مثل قوله تعالى والسارق والسارقة لم يحتمل العدد حتى قلنا لا يجوز أن اراد بالاية إلا الإيمان لان كل السرقات غير مراد بالإجماع فصار الواحد مرادا وبالفعل الواحد لا يقطع إلا واحد وموجب الأمر مر على ما فسرنا يتنوع نوعين وهذا تنويع في صفة الحكم باب
يلقب بيان صفة حكم الأمر وذلك نوعان اداء وقضاء والاداء ثلثه انواع اداء كامل محض واداء قاصر محض وما هو شبيه بالقضاء والقضاء انواع ثلثة نوع بمثل معقول ونوع بمثل غير معقول ونوع بمعنى الاداء وهذه (1/24)
الأقسام تدخل في حقوق الله تعالى وتدخل في حقوق العباد ايضا و الاداء اسم لتسليم نفس الواجب بالأمر والقضاء اسم لتسليم مثل الواجب به كمن غصب شيئا لزمه تسليم عينه ورده فيصير به مؤديا وإذا هلك لزمه ضمانه فيصير به قاضيا وقد يدخل في الاداء قسم اخر وهو النفل على قول من جعل الأمر حقيقة في الاباحة والندب فأما القضاء فلا يحتمل هذا الوصف قال الله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى اهلها وقد يدخل احدى العبارتين في قسم العبارة الأخرى فسمى الاداء قضاء لان القضاء لفظ متسع وقد يستعمل الاداء في القضاء مقيدا لان الاداء خصوصا بتسليم نفس الواجب وعينه لان مرجع العبارة إلى الاستقصاء وشدة الرعاية كما قيل في الثلاثي منه ( ع ) الذئب يأدو للغزال يأكله أي يحتال ويتكلف فيختله واما القضاء فاحكام الشيء نفسه لا ينبىء عن شدة لرعاية واختلف المشايخ في القضاء ايجب بنص مقصود ام بالسبب الذي يوجب الاداء فقال بعضهم بنص مقصود لان القربة عرفت قربة بوقتها وإذا فاتت عن وقتها ولا يعرف لها مثل إلا بالنص كيف يكون لها مثل بالقياس وقد ذهب وصف فضل الوقت وقال عامتهم يجب بذلك السبب وبيان ذلك أن الله تعالى اوجب القضاء في الصوم بالنص فقال فعدة من ايام اخر وجاءت السنة بالقضاء في الصلاة قال النبي عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فان ذلك وقتها فقلنا نحن وجب القضاء في هذا بالنص وهو معقول فإن الاداء كان فرضا فإذا فات فات مضمونا وهو قادر على تسليم مثله من عنده لكون النفل مشروعا له من جنسه أمر بصرف ما له إلى ما عليه وسقط فضل الوقت إلى غير مثل والى غير ضمان إلا بالاثم إن كان عامدا للعجز فإذا عقل هذا اوجب القياس به (1/25)
في قضاء المنذورات المتعينة من الصلوة والصيام والاعتكاف وهذا اقيس واشبه بمسائل اصحابنا ولهذا قلنا في صلوة فاتت عن ايام التشريق وجب قضاؤها بلا تكبير لانه لا تكبير عنده في ساير الايام ثم لم يسقط ما قدر عليه بهذا العذر ويتفرع من هذا الأصل مسألة النذر بالاعتكاف في شهر رمضان إذا صامه ولم يعتكف أنه يقضي اعتكافه ولا يجري في رمضان اخر قالوا أن القضاء إنما وجب بالتفويت ابتداء لا بالنذر والتفويت سبب مطلق عن الوقت فصار كالنذر المطلق لكنا نقول إنما وجب القضاء في هذا بالقياس على ما قلنا لا بنص مقصود في هذا الباب وإذا ثبت هذا لم يكن بد من اضافته إلى السبب الأول لا ترى أنه يجب بالفوات مرة وبالتفويت أخرى إلا أن الاعتكاف الواجب مطلقا يقتضي صوما للاعتكاف اثر في ايجابه وانما جاء هذا النقصان في مسألة شهر رمضان بعارض شرف الوقت وما ثبت بشرف الوقت فقد فات بحيث لا يتمكن من اكتساب مثله إلا بالحيوة إلى رمضان آخر وهو وقت مديد يستوي فيه الحيوة والموت فلم يثبت القدرة فسقط فبقى مضمونا باطلاقه وكان هذا احوط الوجهين لان ما ثبت بشرف الوقت من الزيادة احتمل السقوط فالنقصان والرخصة الواقعة بالشرف لان يحتلم السقوط والعود إلى الكمال اولى وإذا عاد لم يتاد في الرمضان الثاني والاداء في العبادات يكون في الموقتة في الوقت وفي غير الموقتة أبدا على ما نبين انشاء الله تعالى والمحض ما يوديه الانسان بوصفه على ما شرع مثل الصلوة بالجماعة فأما فعل الفرد فأداء فيه قصور الا ترى أن الجهر عن المنفرد ساقط والشارع مع الإمام في الجماعة مؤد اداء محضا والمسبوق بعض الصلوة مؤد ايضا لكنه منفرد فكان قاصرا ومن نام خلف الإمام او احدث فذهب يتوضأ ثم عاد بعد فراغ الإمام فهذا مؤد اداء يشبه القضاء ألا ترى انهم قالوا في مسافر اقتدى بمسافر في الوقت ثم سبقه الحدث أو نام حتى فرغ (1/26)
الإمام ثم سبقه الحدث فدخل مصره للوضوء أو نوى الإقامة وهو في غير مصره والوقت باق أن يصلي ركعتين ولو تكلم صلى اربعا ولو كان الإمام لم يفرغ أو كان هذا الرجل مسبوقا صلى اربعا كما في المسألة الأولى واصل هذا أن هذا مؤد باعتبار الوقت لكنه قاض باعتبار فراغ الإمام لانه كأنه خلف الأمام لا انه في الحقيقة خلفه فصار قاضيا لما انعقد له احرام الإمام بمثله والمثل بطريق القضاء إنما يجب بالسبب الذي اوجب الأصل فما لم يتغير الأصل لم يتغير المثل فإذا لم يفرغ الإمام حتى وجد من المقتدي ما يوجب اكمال صلوته تمت صلوته بنية اقامته أو بدخول مصره لانه مؤد في الوقت فأما إذا فرغ الإمام ثم وجد ما ذكرنا فإنما اعترض هذا على القضاء دون الاداء فإذا لم يتغير الاداء لم يتغير القضاء كما إذا صار قضاء محضا بالفوات عن الوقت ثم وجد المغير وإذا تكلم فقد بطل معنى القضاء وعاد الأمر إلى الاداء فتغير بالمغير لقيام الوقت بخلاف المسبوق ايضا لأنه مؤد ولهذا قلنا في اللاحق لا يقرأ ولا يسجد للسهو بخلاف المسبوق لما بينا أنه قاض لما انعقد له احرام الجماعة واما القضاء فنوعان إما بمثل معقول كما ذكرنا واما بمثل غير معقول فمثل الفدية في الصوم وثواب النفقة في الحج باحجاج النائب لانا لا نعقل المماثلة بين الصوم والفدية لا صورة ولا معنى فلم يكن مثلا قياسا واما الصوم فمثل صورة ومعنى وكذلك ليس بين افعال الحج ونفقة الاحجاج مماثلة بوجه لكنا جوزناه بالنص قال الله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين أي لا يطيقونه وهذا مختصر بالإجماع وثبت في الحج بحديث الخثعمية انها قالت يا رسول الله أن أبي ادركه الحج وهو شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة أفيجزئني أن احج عنه فقال عليه السلام ارايت لو كان على ابيك دين فقضيته اكان يقبل منك فقالت نعم قال فدين الله احق ولهذا قلنا أن ما لا يعقل مثله (1/27)
يسقط كمن نقص صلوته في اركانها بتغيير ولهذا قال أبو حنيفة وابو يوسف رضي الله عنهما فيمن أدى في الزكاة خمسة دراهم زيوفا عن خمسة جياد انه يجوز ولا يضمن شيئا لان الجودة لا يستقيم اداؤها بمثلها صورة ولا بمثلها قيمة لانها غير متقومة فسقط اصلا واحتاط محمد رحمه الله في ذلك الباب فأوجب قيمة الجودة من الدراهم والدنانير ولهذا قلنا أن رمى الجمار لا يقضى والوقوف بعرفات والاضحية كذلك فإن قيل فإذا ثبت هذا بنص غير معقول فلم اوجبتم الفدية في الصلاة بلا نص قياسا على الصوم من غير تعليل قلنا لأن ما ثبت من حكم الفدية عن الصوم يحتمل أن يكون معلولا والصلاة نظير الصوم بل أهم منه لكنا لم نعقل واحتمل أن لا يكون معلولا وما لا ندركه لا يلزمنا العمل به لكنه لما احتمل الوجهين أمرناه بالفدية احتياطا فلئن كان مشروعا فقد تأدى وإلا فليس به بأس ثم لم نحكم بجوازه مثل حكمنا به في الصوم قطعا ورجونا القبول من الله تعالى في الصلاة فضلا وقال محمد رحمه الله في الزيادات في هذا يجزيه إنشاء الله كما إذا تطوع به الوارث في الصوم فإن قيل فالأضحية لا مثل لها وقد أوجبتم بعد فوات وقتها التصدق بالعين أو القيمة قلنا لأن التضحية ثبتت قربة بالنص واحتمل أن يكون التصدق بعين الشاة أو قيمتها أصلا لأنه هو المشروع في باب المال كما في سائر الصدقات إلا أن الشرع نقل من الأصل إلى التضحية وهو نقصان في المالية بإراقة الدم عند محمد وبإراقة الدم وإزالة التمول عن الباقي عند أبي يوسف على ما نبين في مسألة التضحية أيمنع الرجوع في الهبة أم لا فنقل إلى هذا تطييبا للطعام وتحقيقا لمعنى العيد بالضيافة إلا أنه يحتمل أن يكون التضحية أصلا فلم نعتبر هذا الموهوم في معارضة المنصوص المتيقن فإذا فات هذا المتيقن بفوت وقته وجب العمل بالموهوم مع الاحتمال (1/28)
احتياطا أيضا والدليل على أنه كان بهذا الطريق لا أنه مثل الأضحية أنه إذا جاء العام القابل لم ينتقل الحكم إلى الأضحية وهذا وقت يقدر فيه على أداء مثل الأصل فيجب الخلف كما في الفدية إلا أنه لما ثبت أصلا من الوجه الذي بينا ووقع الحكم به لم ينقض بالشك أيضا أما القضاء الذي بمعنى الأداء فمثل رجل أدرك الإمام في العيد راكعا كبر في ركوعه وهذا قد فات موضعه فكان قضاء وهو غير قادر على مثل من عنده قربة فكان ينبغي أن لا يقضي إلا أنه قضاء يشبه الأداء لأن الركوع يشبه القيام وهذا الحكم قد ثبت بالشبهة ألا ترى أن تكبير الركوع يحتسب منها وليس في حال محض القيام فاحتمل أن يلحق به نظائره فوجب عليه التكبير اعتبارا بشبهة الأداء احتياطا وكذلك السورة إذا فاتت عن الأوليين وجب في الآخريين لأن موضع القراءة جملة الصلوة إلا أن الشفع الأول يعين بخبر الواحد الذي يوجب العمل وقد بقي للشفع الثاني شبهة كونه محلا وهو من هذا الوجه ليس بفائت فوجب أداؤها اعتبارا لهذه الشبهة وإن كان قضاء في الحقيقة ولهذا لو ترك الفاتحة سقطت لأن المشروع من الفاتحة في الآخريين إنما شرع احتياطا فلم يستقم صرفها إلى ما عليه ولم يستقم اعتبار معنى الأداء لأنه مشروع أداء فيتكرر فلذلك قيل يسقط والسورة لم يجب قضاء لأنه ليس عنده في الآخريين قراءة سورة يصرفها إلى ما عليه وإنما وجب لاعتبار الأداء وأما حقوق العباد فهي تنقسم على هذا الوجه أما الأداء الكامل فهو رد العين في الغصب والبيع وأداء الدين والقاصر مثل أن يغصب عبدا فارغا ثم يرده مشغولا بالجناية أو يسلم المبيع مشغولا بالجناية أو الدين أو ما أشبه ذلك حتى إذا هلك في ذلك الوجه انتقض التسليم عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما هذا تسليم كامل لأن العيب لا يمنع تمام التسليم وهو عيب عندهما (1/29)
وأداء الزيوف في الدين إذا لم يعلم به صاحب الحق أداء بأصله لأنه جنس حقه وليس بأداء بوصفه لعدمه فصار قاصرا ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أنها إذا هلكت عند القابض بطل حقه أصلا لأنه لما كان أداء بأصله صار مستوفيا وبطل الوصف لأنه لا مثل له صورة ولا معنى ولم يجز أبطال الأصل للوصف إذ الإنسان لا يضمن لنفسه واستحسن أبو يوسف وأوجب مثل المقبوض إحياء لحقه في الوصف والأداء الذي هو في معنى القضاء مثل أن يتزوج رجل امرأة على أبيها وهو عبد فاستحق وجبت قيمته فإن لم يقض بقيمته حتى ملك الزوج الأب بوجه من الوجوه لزمه تسليمه إلى المرأة لأنه عين حقها في المسمى إلا أنه في معنى القضاء لأن تبدل الملك أوجب تبدلا في العين حكما فكان هذا عين حقها في المسمى لكن بمعنى المثل ولهذا قلنا أن الزوج إذا ملكه لا يملك أن يمنعها إياه لأنه عين حقها ولهذا قلنا أنه لا يعتق حتى يسلمه إليها أو يقضي به لها لأنه مثل من وجه وعليه قيمته فلا تملك إلا بالتسليم ولهذا قلنا إذا أعتقه الزوج أو كاتبه أو باعه قبل التسليم صح لأنه مثل من وجه وعليه قيمته ولهذا قلنا إذا قضى بقيمته على الزوج ثم ملكه الزوج أن حقها لا يعود إليه وهذه الجملة في نكاح كتاب الجامع مذكور ويتصل بهذا الأصل أن من غصب طعاما فأطعمه المالك من غير أن يعلمه لم يبرأ عند الشافعي لأنه ليس بأداء مأمور به لأنه غرور إذ المرء لا يتحامى في العادات عن مال غيره في موضع الإباحة والشرع لم يأمر بالغرور فبطل الأداء نفيا للغرور فصار معنى الأداء لغوا ردا للغرور قلنا نحن هذا أداء حقيقة لأنه عين ماله وصل إلى يده ولو كان قاصرا لتم بالهلاك فكيف لا يتم وهو في الأصل كامل فأما الخلل الذي ادعاه فإنما وقع لجهله والجهل لا يبطله وكفى بالجهل عارا فكيف يكون عذرا في تبديل إقامة الفرض اللازم والعادة المخالفة للديانة الصحيحة على ما زعم لغو لأن عين ماله وصل (1/30)
إلى يده أما القضاء بمثل معقول فنوعان كامل وقاصر أما الكامل فالمثل صورة ومعنى وهو الأصل في ضمان العدوان وفي باب القروض تحقيقا للجبر حتى كان بمنزلة الأصل من كل وجه وكان سابقا أما المثل القاصر فالقيمة فيما له مثل إذا انقطع مثله وفيما لا مثل له لأن حق المستحق في الصورة والمعنى إلا أن الحق في الصورة وقد فات للعجز عن القضاء به فبقي المعنى ولهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه فيمن قطع يد رجل ثم قتله عمدا أنه يقطع ثم يقتل إن شاء الولي لأنه مثل كامل وأما القتل المنفرد فمثل قاصر وقالا بل يقتله ولا يقطعه لأن القتل بعد القطع تحقيق لموجب القطع فصار أمر الجناية يؤل إلى القتل وقلنا هذا هكذا من طريق المعنى فأما من طريق الصورة في باب جزاء الفعل فلا ألا ترى أن القتل قد يصلح ما حيا أثر القطع كما يصلح محققا لأنه علة مبتدأة صالحة للحكم فوق الأول فخيرناه بين الوجهين ولهذا لا يضمن المثلى بالقيمة إذا انقطع المثل إلا يوم الخصومة عند أبي حنيفة رضي الله عنه لأن المثل القاصر لا يصير مشروعا مع احتمال الأصل ولا ينقطع الاحتمال إلا بالقضاء ولهذا لا يضمن منافع الأعيان بالإتلاف بطريق التعدي لأن العين ليس بمثل لها صورة ولا معنى أما الصورة فلا شك فيها وأما المعنى فلأن المنافع إذا وجدت كانت أعراضا لا تبقى زمانين وليس لما تبقى زمانين صفة التقوم لأن التقوم لا يسبق الوجود وبعد الوجود التقوم لا يسبق الاحراز والاقتناء والأعراض لا يقبل هذه الأوصاف إلا أن يثبت احرازها بولاية العقد حكما شرعيا بناء على جواز العقد فلا يثبت فى غير موضع العقد بل يثبت التقوم فى حكم العقد خاصة ولأن التقوم في حكم العقد ثبت لقيام العين مقامها وهذا أصح ألا ترى أن ضمان العقد فاسدا كان أو جايزا يجب بالتراضي فوجب بناء التقوم على التراضي وضمان العدوان يعتمد أوصاف العين والرجوع (1/31)
إليها يمنع التقوم على ما عرف ولأن التفاوت بين ما يبقى وتقوم العرض به وبين العرض القائم به تفاوت فاحش فلم يصلح مثلا له معنى بحكم الشرع في العدوان بخلاف ضمان العقود لأن العقود مشروعة فبنيت على الوسع والتراضي باعتبار الحاجة إليها وسقط اعتبار هذا التفاوت ألا ترى أن اعتبار هذا التفاوت في ضمان العقود يبطلها أصلا واعتباره في ضمان العدوان لا يبطله أصلا بل يؤخره إلى دار الجزاء لأنه بطل حكما لعجزنا به لا لعدمه في نفسه وإهدار التفاوت بوجب ضرر لازما للغاصب في الدنيا والآخرة ولم يحصل التمييز بين الجايز والفاسد لأن ذلك يؤدي إلى الحرج فلم يعتبر فيما شرع ضرورة وأما القضاء بمثل غير معقول فهو كغير المال المتقوم إذا ضمن بالمال المتقوم كان مثلا غير معقول مثل النفس تضمن بالمال لأن المال ليس بمثل للنفس لا صورة ولا معنى لأن الآدمي مالك والمال مملوك فلا يتشابهان بوجه ولهذا قلنا أن المال غير مشروع مثلا عند احتمال القصاص لأن القصاص مثل الأول صورة ومعنى وهو إلى الأحياء الذي هو المقصود أقرب فلم يجز أن يزاحمه ما ليس بمثل صورة ولا معنى وإنما شرع عند عدم المثل صيانة للدم عن الهدر ومنة على القاتل بأن سلمت له نفسه وللقتيل بأن لم يهدر حقه ولهذا قلنا نحن خلافا للشافعي أن القصاص لا يضمن لوليه بالشهادة الباطلة على العفو أو بقتل القاتل لأن القصاص ليس بمتقوم فلم يكن له مثل صورة ومعنى وإنما شرعت الدية صيانة للدم عن الهدر والعفو عن القصاص مندوب إليه فكان جائزا أن يهدر بل حسنا ولهذا قلنا أن ملك النكاح لا يضمن بالشهادة بالطلاق بعد الدخول وبقتل المنكوحة وبردتها لأنه ليس بمال متقوم وإنما يقوم بالمال بضع المرأة تعظيما لخطره وإنما الخطر للمملوك فأما الملك الوارد عليه فلا حتى صح إبطاله بغير شهود ولا ولى ولهذا (1/32)
لم يجعل له حكم التقوم عند الزوال لا أنه ليس بتعرض له بالاستيلاء بل إطلاق له ولا يلزم الشهادة بالطلاق قبل الدخول فإنها عند الرجوع يوجب ضمان نصف المهر لأن ذلك لم يجب قيمة للبضع ألا ترى أنه لم يجب مهر المثل تاما كما قال الشافعي لكن المسمى الواجب بالعقد لا يستحق تسليمه عند سقوط تسليم البضع فلما أوجبوا عليه تسليم النصف مع فوات تسليم البضع كان قصرا ليده عن ذلك المال فاشبه الغصب فأما القضاء الذي في حكم الأداء فمثل رجل تزوج امرأة على عبد بغير عينه أنه إذا أدى القيمة أجبرت على القبول وقيمة الشيء قضاء له لا محالة إنما يصار إليها عند العجز عن تسليم الأصل وهذا الأصل لما كان مجهولا من وجه ومعلوما من وجه صح تسليمه من وجه واحتمل العجز فإن أدى صح وإن اختار جانب العجز وجبت قيمته ولما كان الأصل لا يتحقق أداؤه إلا بتعيينه و لا تعيين إلا بالتقوم صار التقويم أصلا من هذا الوجه فصارت القيمة مزاحمة للمسمى بخلاف العبد المعين لأنه معلوم بدون التقويم فصارت قيمته قضاء محضا فلم يعتبر عند القدرة والله أعلم ومن قضية الشرع في هذا الباب أن حكم الأمر موصوف بالحسن عرف ذلك بكونه مأمورا به لا بالعقل نفسه إذ العقل غير موجب بحال وهذا الباب لتقسيمه والله الموفق باب بيان صفة الحسن للمأمور به
المأمور به نوعان في هذا الباب حسن لمعنى في نفسه وحسن لمعنى في غيره فالحسن لمعنى في نفسه ثلاثة أضرب ضرب لا يقبل سقوط هذا الوصف بحال وضرب يقبله وضرب منه ملحق بهذا القسم لكنه مشابه لما حسن لمعنى في غيره والذي حسن لمعنى في غيره ثلاثة أضرب أيضا (1/33)
فضرب منه ما حسن لغيره وذلك الغير قايم بنفسه مقصودا لا يتأدي بالذي قبله بحال وضرب منه ما حسن لمعنى في غيره لكنه يتأدي بنفس المأمور به فكان شبيها بالذي حسن لمعنى في نفسه وضرب منه حسن لحسن في شرطه بعد ما كان حسنا لمعنى في نفسه أو ملحقا به وهذا القسم سمى جامعا أما الضرب الأول من القسم الأول فنحو الإيمان بالله تعالى و صفاته حسن لعينه غير أنه نوعان تصديق هو ركن لا يحتمل السقوط بحال حتى انه متى تبدل بضده كان كفرا واقرار هو ركن ملحق به لكنه يحتمل السقوط بحال حتى انه متى تبدل بضده بعذر الاكراه لم يعد كفرا لان اللسان ليس معدن التصديق لكن ترك البيان من غير عذر يدل على فوات التصديق فكان ركنا دون الأول فمن صدق بقلبه وترك البيان من غير عذر لم يكن مؤمنا ومن لم يصادف وقتا يتمكن فيه من البيان وكان مختارا في التصديق كان مؤمنا إن تحقق ذلك وكالصلوة حسنت لمعنى في نفسها من التعظيم لله تعالى إلا إنها دون التصديق وهى نظير الإقرار حتى سقطت بأعذار كثيرة إلا أنها ليست بركن في الإيمان بخلاف الإقرار لان في الإقرار وجودا وعدما دلالة على التصديق والقسم الثالث الزكوة والصوم والحج فان الصوم صار حسنا لمعنى قهر النفس والزكوة لمعنى حاجة الفقير والحج لمعنى شرف المكان إلا أن هذه الوسايط غير مستحق لانفسها لان النفس ليست بجانية في صفتها والفقير ليس بمستحق لنفسه فصار هذا كالقسم الثاني عبادة خالصة لله حتى شرطنا لها اهلية كاملة أما الضرب الأول من القسم الثانى فمثل السعى الى الجمعة ليس بفرض مقصود انما حسن لاقامة الجمعة لان العبد يتمكن به من اقامة الجمعة وقد لا يتأدى به الجمعة وكذلك الوضوء عندنا من حيث هو فعل يفيد الطهارة للبدن ليس بعادة مقصودة لانه في نفسه تبرد وتطهر لكن إنما حسن لانه يراد به اقامة الصلوة (1/34)
ولا تتأدي به الصلوة بحال ويسقط بسقوطها وتستغني عن صفة القربة في الوضوء حتى يصبح بغير نية عندنا ومن حيث جعل الوضوء في الشرع قربة يراد بها ثواب الاخرة كساير القرب لا يتأدي بغير نية إلا أن الصلوة تستغني عن هذا الوصف في الوضوء والضرب الثاني الجهاد وصلوة الجنازة إنما صارا حسنين لمعنى كفر الكافر واسلام الميت وذلك معنى منفصل عن الجهاد والصلوة حتى أن الكفار ان اسلموا لم يبق الجهاد مشروعا أن تصور لكنه خلاف الخبر وإذا سار حق المسلم مقضيا بصلوة البعض سقط عن الباقين ولما كان المقصود يتأدى بالمأمور به بعينه كان شبيها بالقسم الأول وإما الضرب الثالث فنختص بالأداء دون القضاء وذلك عبارة عن القدرة التي يتمكن بها العبد من اداء ما لزمه وذلك شرط الأداء دون الوجوب واصل ذلك قول الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهو نوعان مطلق وكامل فأما المطلق منه فأدنى ما يتمكن به المأمور من اداء ما لزمه بدنيا كان أو ماليا وهذا فضل ومنة من الله تعالى عندنا وهذا شرط في اداء حكم كل أمر حتى اجمعوا أن الطهارة بالماء لا يجب على العاجز عنها ببدنه وعلى من عجز عن استعماله بنقصان يحل به أو بماء له في الزيادة على ثمن مثله وفي مرض يزداد به وكذلك الصلوة لا يجب أداؤها إلا بهذه القدرة والحج لا يجب اداؤه إلا بالزاد والراحلة لان تمكن السفر المخصوص به لا يحصل بدونهما في الغالب ولا يجب الزكوة إلا بقدرة مالية حتى إذا هلك النصاب بعد الحول قبل التمكن سقط الواجب بالإجماع ولهذا قال زفر في المرأة تطهر من حيضها أو نفاسها أو الكافر يسلم أو الصبي يبلغ في اخر الوقت أن لا صلوة عليهم إلا أن يدركوا وقتا صالحا للأداء لما قلنا لكن اصحابنا استحسنوا بعد تمام الحيض أو دلالة انقطاعه قبل تمامة بادراك وقت الغسل إنها تجب بادراك جزء يسير من الوقت يصلح للاحرام بها (1/35)
وكذلك في سائر الفصول لانا نحتاج إلى سبب الوجوب وذلك جزء من الوقت و نحتاج لوجوب الاداء إلى احتمال وجود القدرة لا إلى تحقق القدرة وجودا لان ذلك شرط حقيقة الاداء فأما سابقا عليه فلا لأنها لا تسبق الفعل إلا في الأسباب والآلات لكن توهم القدرة يكفى لوجوب الأصل مشروعا ثم العجز الحال دليل النقل إلى البدل المشروع عند فوات الأصل وقد وجد احتمال القدرة باحتمال امتداد الوقت عن الجزء الأخير بوقف الشمس كما كان لسليمان صلوات الله عليه وذلك نظير مس السماء فصار مشروعا ثم وبه النقل للعجز الحالي كمن هجم عليه وقت الصلوات وهو في السفر إن خطاب الأصل عليه يتوجب لاحتمال وجود الماء ثم بالعجز الحالي وينتقل إلى التراب والأمر المطلق في اقتضاء صفة الحسن يتناول الضرب الأول من القسم الأول لأن كمال الأمر يقتضي كمال صفة المأمور به وكذلك كونه عبادة يقتضي هذا المعنى ويحتمل الضرب الثاني بدليل وعلى هذا قال الشافعي رحمه الله وهو قول زفر لما تناول الأمر بعد الزوال يوم الجمعة بالجمعة دل ذلك على صفة حسنة وعلى أنه هو المشروع دون غيره حتى قالا لا يصح اداء الظهر من المقيم ما لم تفت الجمعة وقالا لما لم يخاطب المريض والعبد و المسافر بالجمعة بل بالظهر صار الظهر حسنا مشروعا في حقهم فإذا أدوها لم تنتقض بالجمعة من بعد وقلنا نحن لا خلاف في هذا الأصل لكن الشان في معرفته كيفية الأمر بالجمعة وليس ذلك على نسخ الظهر كما قلتم إلا ترى ان بعد فوات الجمعة يقضي الظهر ولا يصلح قضاء للجمعة ولا تفضي الجمعة بالإجماع فثبت انه عود إلى الأصل وثبت أن قضية الأمر اداء الظهر بالجمعة فصار ذلك مقرر إلا ناسخا فصح الأداء وأمر بنقضه بالجمعة كما أمر باسقاطه بالجمعة وانما وضع عن المعذور اداء الظهر بالجمعة رخصة فلم يبطل به العزيمة وانما قلنا أن الضرب الثالث من هذا القسم يختص (1/36)
بالأداء دون القضاء أما إذا فات الاداء بحال القدرة بتقصير المخاطب فقد بقى تحت عهدته وجعل الشرط بمنزلة القائم حكما لتقصيره واما إذا فات لا بتقصيره فكذلك لأن هذه القدرة كانت شرطا لوجوب الأداء فضلا من الله تعالى فلم يشترط لبقاء الواجب ولهذا قلنا لا يسقط بالموت في أحكام الآخرة ولهذا قلنا إذا ملك الزاد والراحلة فلم يحج حتى هلك المال لم يبطل عنه الحج وكذلك صدقة الفطر لا يسقط بهلاك المال لما ذكرنا وأما الكامل من هذا القسم فالقدرة الميسرة وهذه زايدة على الأولى بدرجة كرامة من الله تعالى وفرق ما بين الأمرين أن القدرة الأولى للتمكن من الفعل فلم يتغير بها الواجب فبقي شرطا محضا فلم يشترط دوامها البقاء الواجب وهذه لما كانت ميسرة غيرت صفة الواجب فجعلته سمحا سهلا لينا فيشترط بقاء هذه القدرة لبقاء الواجب لا لمعنى أنها شرط لكن لمعنى تبدل صفة الواجب بها فإذا انقطعت هذه القدرة بطل ذلك الوصف فيبطل الحق لأنه غير مشروع بدون ذلك الوصف ولهذا قلنا الزكاة تسقط بهلاك النصاب لأن الشرع علق الوجوب بقدرة ميسرة ألا ترى أن القدرة على الأداء تحصل بمال مطلق ثم شرط النماء في المال ليكون المؤدي جزأ منه فيكون في غاية التيسير فلو قلنا ببقاء الواجب بدون النصاب لا نقلب غرامة محضة فيتبدل الواجب فلذلك سقط بهلاك المال ولا يلزم أن النصاب شرط الابتداء الوجوب ولا يشترط لبقائه فإن كل جزء من الباقي يبقى بقسطه لأن شرط النصاب لا يغير صفة الواجب ألا ترى أن تيسير أداء الخمسة من المأتين وتيسير أداء الدرهم من الأربعين سواء لا يختلف لأنه ربع عشر بكل حال لكن الغنى وصف لا بد منه ليصير الموصوف به أهلا للإغناء إذ الإغناء من غير الغنى لا يتحقق كالتمليك من غير المالك والغنى بكثرة المال وليس للكثرة حد تعرف به وأحوال (1/37)
الناس فيه شتى فقدر الشرع بحد واحد فصار ذلك شرطا للوجوب لما كان أمرا زائدا على الأهلية بالعقل والبلوغ الأصلية وشرط الوجوب لا يشترط دوامه إذ الوجوب في واجب واحد لا يتكرر فأما قيام المال بصفة النماء فميسر للأداء فتغير به صفة الواجب فشرطنا دوامه وهذا بخلاف استهلاك النصاب فإنه لا يسقط الحق وقد صار غرما لأن النصاب صار في حق الواجب حقا لصاحب الحق فيصير المستهلك متعديا على صاحب الحق فعد قائما في حق صاحب الحق فصار الواجب على هذا التقدير غير متبدل ولهذا قلنا أن الموسر إذا حنث في اليمين ثم إذا عسر وذهب ماله انه يكفر بالصوم لأن الوجوب متعلق بالقدرة الميسرة الدليل عليه أن الشرع خيره عند قيام القدرة بالمال والتخير تيسير ولأنه نقل إلى الصوم لقيام العجز عند أداء الصوم مع توهم القدرة فيما يستقبل ولم يعتبر ما يعتبر في عدم سائر الأفعال وهو العدم في العمر كله لكنه اعتبر العدم الحالي ألا ترى انه قال فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام وتقدير العجز بالعمر يبطل أداء الصوم فعلم انه أراد به العجز الحالي وكذلك في طعام الظهار وسائر الكفارات فثبت أن القدرة ميسرة فكانت من قبيل الزكاة إلا أن المال ههنا غير عين فأي مال أصابه من بعد دامت به القدرة ولهذا ساوى الاستهلاك الهلاك ههنا لأن الحق لما كان مطلقا عن الوقت ولم يكن متعينا لم يكن الاستهلاك تعديا وصارت هذه القدرة على هذا التقدير نظير استطاعة الفعل التي لا تسبق الفعل ولهذا قلنا بطل وجوب الزكاة بالدين لأنه ينافي الغناء واليسر ولا يلزم أن الدين لا يمنع وجوب الكفارة وهو ينافي اليسر لأنه قال في كتاب الأيمان رجل له ألف درهم وعليه دين أكثر من ألف فكفر بالصوم بعد ما يقضي دينه بماله قال يجزئه ولم يذكر أنه إذا لم يصرف إلى دينه ما جوابه فقال بعض مشايخنا يجزيه التكفير (1/38)
بالصوم لما قلنا من فوات صفة اليسر به فيجعل المال كالمعدوم وقال بعضهم بل يجب بالمال ولا يجزئه الصوم بخلاف الزكاة والفرق أن الزكاة وجبت بصفة اليسر وبشرط القدرة وبغنى الإغناء يقول النبي صلى الله عليه و سلم أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم وبقوله لا صدقة إلا عن ظهر غنى فهذا الإغناء وجب عبادة شكر النعمة الغنى فشرط الكمال في سببه ليستحق شكره فيكون الواجب شطرا من الكامل والدين يسقط الكمال ولا يعدم أصله ولهذا أحلت له الصدقة فلم يجب عليه الاغناء ولهذا لا يتأدى الزكاة إلا بعين متقومة واما الكفارة فلا تستغني عن شرط القدرة وعن قيام صفة اليسر في تلك القدرة إلا إنها لم تشرع للاغناء ألا ترى انها شرعت ساترة أو زاجرة لا امرا أصليا للفقير إغناء له ألا ترى انه يتأدى بالتحرير وبالصوم ولا اغناء فيهما لكن المقصود به نيل الثواب ليقابل بموجب الجناية وما يقع به كفاية الفقير في باب الكفارة يصلح سببا للثواب ولذلك يتأدى بالإباحة ولا اغناء يحصل بها فإذا لم يكن الاغناء مقصودا لم يشترط صفة الغنى في المخاطب بها بل القدرة واليسر بها شرط وذلك لا ينعدم بالدين ويتبين أنها لم يجب شكرا للغنى بل جزاء للفعل فلم يشترط كمال صفة الغنى إنما شرط أدنى ما يصلح لطلب الثواب واصل المال كاف لذلك وعلى هذا الأصل يخرج سقوط العشر بهلاك الخارج لأنه وجب بشرط القدرة الميسرة لأن القدرة على أداء العشر تستغني عن قيام تسعة الأعشار لكنه شرط ذلك لليسر ولم يجب إلا بأرض نامية بالخارج فشرط قيامه لبقاء صفة اليسر وكذلك الخراج يسقط إذا اصطلم الزرع آفة لأنه إنما وجب بصفة اليسر ألا ترى انه لا يجب إلا بسلامة الخارج إلا انه بطريق التقدير بالتمكن لكون الواجب من غير جنس الخارج وبدليل أن الخارج إذا قل حط الخراج إلى نصف الخارج ولما كان كذلك سقط بهلاك الخارج حتى لا ينقلب غرما محضا وهذا مخالف (1/39)
للحج فانه إذا وجب بملك الزاد والراحلة لم يسقط بفوتهما لأنه وجب بشرط القدرة دون اليسر ألا ترى أن الزاد والراحلة أدنى ما يقطع به السفر ولا يقع اليسر إلا بخدم ومراكب وأعوان وليس بشرط بالإجماع فلذلك لم يكن شرطا لدوام الواجب وكذلك لا يسقط صدقة الفطر بهلاك الرأس وذهاب الغنى لانها لم تجب بصفة اليسر بل بشرط القدرة وقيام صفة الأهلية بالغنى ألا ترى أنها وجبت بسبب رأس الحر ولا يقع به الغنى ووجبت الغنى بثياب البذلة ولا يقع بها اليسر لأنها ليست بنامية فلم يكن البقاء مفتقر إلى دوام شرط الوجوب ولا يلزم أنها لا يجب عند قيام الدين وقت الوجوب لأن الدين يعدم الغنا الذي هو شرط الوجوب وبه يقع أهلية الاغناء بخلاف الدين على العبد فإنه لا يمنع لأنه لا يمنع قيام الغنى بمال آخر يفضل عن حاجته بالغناء مائتي درهم وبخلاف زكوة التجارة فإنها تسقط بدين العبد الذي هو للتجارة لأن الزكوة يقتضي صفة الغنى الكامل تعين النصاب لا بغيره والله أعلم هذا الذي ذكرنا هو في تقسيم صفة الأمر وصفة المأمور به في نفسه فأما ما يكون صفة قائمة بغيره وهو الوقت فلا بد من ترتيبه على الدرجة الأولى وهذا باب
تقسيم المأمور به في حكم الوقت العبادات نوعان مطلقة ومؤقتة أما المطلقة فنوع واحد وأما المؤقتة فأنواع نوع جعل الوقت ظرفا للمؤدي شرط للأداء وسببا للوجوب وهو وقت الصلوات إلا ترى أنه يفضل عن الأداء فكان ظرفا لا معيارا والأداء يفوت بفواته فكان شرطا والأداء يختلف باختلاف صفة الوقت ويفسد التعجيل قبله فكان سببا وهذا القسم أربعة أنواع نوع منها ما يضاف إلى الجزء الأول والثاني ما يضاف (1/40)
إلى ما يلي ابتداء الشروع من سائر أجزاء الوقت ونوع آخر ما يضاف إلى الجزء الناقص عند ضيق الوقت وفساده والنوع الرابع ما يضاف إلى جملة الوقت ودلالة كون الوقت سببا نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى والقسم الثاني من المؤقتة ما جعل الوقت معيارا له وسببا لوجوبه وذلك مثل شهر رمضان والقسم الثالث ما جعل الوقت معيارا له ولم يجعل سببا مثل أوقات صيام الكفارة والنذور والأصل في أنواع القسم الأول من المؤقتة أن الوقت لما جعل سببا لوجوبها وظرفا لأدائها لم يستقم أن يكون كل الوقت سببا لان ذلك يوجب تأخير الاداء عن وقته أو تقديمه على سببه فوجب أن يجعل بعضه سببا وهو ما يسبق الاداء حتى يقع الاداء بعد سببه وليس بعد الكل جزء مقدر فوجب الاقتصار على الادنى ولهذا قالوا في الكافر إذا ادرك الجزء الاخير بعد ما اسلم لزمه فرض الوقت وقد قال محمد رحمه الله في نوادر الصلاة في مسألة الحائض إذا طهرت وايامها عشرة أن الصلاة تلزمها إذا ادرك شيئا من الوقت قليلا كان ذلك أو كثيرا وإذا ثبت هذا كان الجزء السابق اولى أن يجعل سببا لعدم ما يزاحمه وبدليل أن الاداء بعد الجزء الأول صحيح ولولا أنه سبب لما صح ولما صار الجزء الأول سببا افاد الوجوب بنفسه وافاد صحة الاداء لكنه لم يوجب الاداء للحال لان الوجوب جبر من الله تعالى بلا اختيار من العبد ثم ليس من ضرورة الوجوب تعجيل الاداء بل الاداء متراخي إلى الطلب كثمن المبيع ومهر النكاح يجبان بالعقد ووجوب الاداء يتأخر إلى المطالبة وهو الخطاب فأما الوجوب فبالايجاب لصحة سببه لا بالخطاب ولهذا كانت الاستطاعة مقارنة للفعل وهو كثوب هبت به الريح في دار انسان لا يجب عليه تسليمه إلا بالطلب وفي مسألتنا لم يوجد المطالبة بدلالة أن الشرع خيره في وقت الاداء فلا يلزمه الاداء إلا أن يسقط خياره بضيق الوقت ولهذا قلنا (1/41)
إذا مات قبل آخر الوقت لا شيء عليه وهو كالنائم والمغمى عليه إذا مر عليهما جميع وقت الصلاة وجب الأصل وتراخي وجوب الاداء والخطاب فكذلك عن الجزء الأول وتبين أن الوجوب يحصل بأول الجزء خلافا لبعض مشايخنا وان الخطاب بالأداء لا يتعجل خلافا للشافعي رحمه الله ثم إذا انقضى الجزء الأول فلم يؤد انتقلت السببية إلى الجزء الثاني ثم كذلك ينتقل لما قلنا من ضرورة تقدم السبب على وقت الاداء وكان ما يلي الاداء به اولى لان ما وجب نقل السببية عن الجملة إلى الاقل لم يجز تقريره على ما سبق قبيل الاداء لأن ذلك يؤدي إلى التخطي عن القليل بلا دليل وإذا انتهى إلى اخر الوقت حتى تعين الاداء لازما ما استقرت السببية لما يلي الشروع في الاداء فإن كان ذلك الجزء صحيحا كما في الفجر وجب كاملا فإذا اعترض الفساد بطلوع الشمس بطل الفرض وان كان ذلك الجزء فاسد انتقص الواجب كالعصر يستأنف في وقت الاحمرار فإذا غربت الشمس وهو فيها لم يتغير لم يفسد ولا يلزم إذا ابتداء العصر في أول الوقت ثم مده إلى أن غربت الشمس قبل فراغه منها فإنه نص محمد أنه لا يفسد وقد كان الوجوب مضافا إلى سبب صحيح ووجهه أن الشرع جعل الوقت متسعا ولكن جعل له حق شغل كل الوقت بالأداء فإذا شغله بالأداء جاز إن اتصل به الفساد لأن ما يتصل من الفساد بالبناء جعل عفو لأن الاحتراز عنه مع الاقبال على الصلاة متعذر وقد روى هشام عن محمد رحمه الله فيمن قام إلى الخامسة في العصر أه يستحب له الاتمام لأنه من غير قصده ثبت فإذا اتصل به الفساد صار في الحكم عفوا فصار بمنزلة المؤدي في وقت الصحة بخلاف حالة الابتداء لأنه بقصده ثبت الفساد إذ الاحتراز عنه ممكن بأن يختار وقتا لا فساد فيه واما إذا خلا الوقت عن الاداء اصلا فقد ذهب الضرورة الداعية عن الكل إلى الجزء وهو ما ذكرنا من شغل الاداء فانتقل الحكم إلى ما هو الأصل وهو (1/42)
أن يجعل كل الوقت سببا فإذا فاتت العصر اصلا أضيف وجوبها إلى جملة الوقت دون الجزء الفاسد فوجبت بصفة الكمال فلم يجز داؤها بصفة النقصان ولا يلزم إذا اسلم الكافر في اخر وقت العصر ثم لم يؤد حتى احمرت الشمس في اليوم الثاني وقد نسى ثم تذكر فأراد أن يؤديها عند احمرار الشمس لأن هذا لا يروى ومن حكم هذا القسم أن وقت الاداء لما لم يكن متعينا شرعا والاختيار فيه للعبد لم يقبل التعين بتعيينه قصدا ونصا وانما يتعين ضرورة تعين الاداء وهذا لأن تعين الشرط أو السبب ضرب تصرف فيه وليس إلى العبد ولاية وضع الاسباب والشروط فصار إثبات ولاية التعيين قصدا ينزع إلى الشركة في وضع المشروعات وانما إلى العبد أن يرتفق بما هو حقه ثم يتعين به المشروع حكما ونظير هذا الكفارة الواجبة في الأيمان أن الحانث فيها بالخيار إن شاء اطعم عشرة مساكين وان شاء كساهم وان شاء حرر رقبة ولو عين شيئا من ذلك قصدا لم يصح وانما يصح ضرورة فعله لما قلنا ومن حكمه أن التأخير عن الوقت يوجب الفوات لذهاب شرط الاداء ومن حكم كونه ظرفا للواجب أنه لا ينفي غيره لأنه مشروع افعالا معلومة في ذمة من عليه فبقى الوقت خاليا وبقيت منافعه على حقه فلم ينتف غيرها من الصلوات ومن حكمه أن النية شرط ليصير ماله مصروفا إلى ما عليه ومن حكمه أن تعيين النية شرط لان المشروع لما تعدد لم يصر مذكورا بالاسم المطلق إلا عند تعيين الوصف ومن حكمة أه لما لزمه التعيين لما قلنا لم يسقط بضيق وقت الاداء لان التوسعة افادت شرطا زايدا وهو التعيين فلا يسقط هذا الشرط بالعوارض ولا بتقصير العباد واما النوع الثاني من الموقتة فما جعل الوقت معيارا له وسببا لوجوبه مثل شهر رمضان وانما قلنا أنه معيار له لأنه قدر وعرف به وسبب له وذلك شهود جزء من الشهر لما نذكر في باب السبب (1/43)
إن شاء الله ومن حكمه أن غيره صار منفيا لان الشرع لما اوجب شغل المعيار به وهو واحد فإذا ثبت له وصف انتفى غيره كالمكيل والموزون في معياره فانتفى غيره لكون غير مشروع قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ولما لم ينو غيره مشروعا لم يجز اداء الواجب فيه من المسافر لان شرع الصوم فيه عام الا ترى أن صوم المسافر عن الفرض يجزيه فيثبت أن مشروع في حقه إلا أن رخص له أن يدعه بالفطرو هذا لا يجعل غير الفرض مشروعا فانعدم فعله لعدم ما نواه وكذلك على قولهما إذا نوى النفل أو اطلق النية وكذلك المريض في هذا كله وقال أبو حنيفة رحمه الله الوجوب واقع على المسافر ولهذا اصح اداؤه بلا توقف إلا انه رخص له الترك قضاء لحقه و تخفيفا عليه فلما ساغ له الترخص بما يرجع إلى مصالح بدنه ففيما يرجع إلى مصالح دينه وهو قضاء ما عليه من الدين اولى وصار كونه ناسخا لغيره معلقا باعراضه عن جهة الرخصة وتمسكه بالعزيمة وإذا لم يفعل بقي مشروعا فصح اداؤه ولان الاداء غير مطلوب منه في سفره فصار هذا الوقت في حق تسليم ما عليه بمنزلة شعبان فقبل سائر الصيامات والطريق الأول يوجب أن لا يصح النفل بل يقع عن الفرض والثاني يوجب أن يصح وفيه روايتان عنه و أما إذا اطلق النية فالصحيح أن يقع عن رمضان لان الترخص والترك لا يتحقق بهذه العزيمة واما المريض فإن الصحيح عندنا فيه أن يقع صومه بكل حال عن الفرض لأن رخصته متعلقة بحقيقة العجز فيظهر بنفس الصوم فوات شرط الرخصة فيلحق بالصحيح فأما المسافر فيستوجب الرخصة بعجز مقدر بقيام سببه وهو السفر فلا يظهر بنفس الصوم فوات شرط الرخصة فلا يبطل الترخص فيتعدى حينئذ بطريق التنبيه إلى حاجته الدينية قال زفر رحمه الله ولما صار الوقت متعينا لهذا المشروع صار ما يتصور من الامساك في هذا الوقت مستحقا على الفاعل فيقع للمستحق (1/44)
بكل حال كصاحب النصاب إذا وهبه من الفقير بعد الحول وكأجير الواحد يستحق منافعه قلنا ليس التعيين باستحقاق لمنافع العبد لان ذلك لا يصلح قربة وانما القربة فعل يفعله العبد عن اختيار بلا جبر بل الشرع لم يشرع في هذا الوقت مما يتصور فيه الامساك قربة إلا واحدا فانعدم غير الفرض الوقتي لعدم كونه مشروعا لا باستحقاق منافعه كما ينعدم في الليل اصلا ولا استحقاق ثمة فإذا بقيت المنافع له لم يكن بد من التعيين لو يوجد لان عدم العزيمة ليس بشيء بخلاف هبة النصاب لانه عبادة تصلح مجازا عن الصدقة استحسانا وقال الشافعي رحمه الله لما كانت منافعه بقيت على ملكه وجب التعيين حتى يصير مختارا لا مجبورا ولو وضعنا عنه تعيين الجهة لصار مجبورا في صفة العبادة ولخلا معنى العبادة عن الاقبال والعزيمة وقلنا الأمر على ما قلت إلا أنه لما اتحد المشروع في هذا الوقت تعين في زمانه فأصيب بمطلق الاسم ولم يفقد بالخطأ في الوصف كالمتعين في مكانه فصار جوازه بهذه النية على أنه تعيين لا على أن التعيين عنه موضوع فكان هذا منا قولا بموجب العلة وقال الشافعي رحمه الله لما وجب التعيين شرطا بالإجماع وجب من اوله لاه أول اجزائه فعل مفتقر إلى العزيمة فإذا تراخى بطل فإذا اعترضت العزيمة من بعد لم يؤثر في الماضي بوجه لان اخلاص العبد فيما قد عمله لا يتحقق وانما هو لما لم يعمل بعد فإذا فسد ذلك الجزء فسد الباقي لأنه لا يتجزى ووجب ترجيح جانب الفساد احتياطا وهذا بخلاف التقديم لان التقديم واقع على جملة الامساك ولم يعترض عليه ما يبطله فبقى فأما المعترض فلا يحتمل التقدم الا ترى أن النية بعد نصف النهار لا يصح وألا ترى أن في الصوم الدين وجب الفصل بين هذين الوجهين وقلنا نحن أن الحاجة إلى النية لان يصير الامساك قربة وهذا الامساك واحد (1/45)
غير متجزي صحة وفسادا والثبات على العزيمة حال الاداء ساقط بالإجماع للعجز وحال الابتداء ساقط ايضا للعجز وصار حال الابتداء هنا نظير حال البقاء في الصلوة وحال البقاء نظير حال الابتداء في صلاة ثم العجز اطلق التقديم مع الفصل عن ركن العبادة وجعل موجود تقدير فصار له فضل الاستيعاب ونقصان حقيقة الوجود عند الاداء على حد الاخلاص والعجز الداعي إلى التأخير مومجود في جملة في جنس من يقيم بعد الصبح أو يفيق عن اغمائه وفي يوم الشك ضرورة لازمة لأن تقديم النية من الليل عن صوم الفرض حرام ونية النفل عندك لغو فقد جاءت الضرورة فلأن ثبت بها التأخير مع الوصل بالركن اولى ولهذا رجحان في الوجود عند الفعل وهو حد حقيقة الأصل ونقصان القصور عن الجملة بقليل يحتمل العفو فاستويا في طريق الرخصة بل هو ارجح وهذا الوجه يوجب الكفارة بالفطر فيه وروى ذلك عنهما ولما صح الاقتصار على البعض للضرورة وجب المصير إلى ما له حكم الكل من وجه خلفا عن الكل من وجه وهو أن يشترط الوجود في الاكثر لأن الاقل في مقابلته في حكم العدم ولا ضرورة في ترك هذا الكل تقديرا فلم نجوزه بعد الزوال ورجحنا الكثير على القليل لانه في الوجود راجح وبطل الترجيح على ما قلنا بصفة العبادة لانه حال بعد الوجود والكثرة والقلة من باب الوجود والوجود قبل الحال فوجب الترجيح به على ما يأتي بيانه في باب الترجيح ان شاء الله ولان صيانة الوقت الذي لا درك له اصلا على العباد واجب وهو معنى قول مشايخنا أن اداء العبادة في وقتها مع النقصان اولى فصار هذا الترجيح متعارضا وهذا الوجه يوجب أن لا كفارة فيه ويروي ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله ولم نقل بالاسناد ولا بفساد الجزء الأول مع احتمال طريق الصحة والامساك في أول النهار قربة مع قصور معنى الطاعة فيه (1/46)
لانه لا مشقة في الامساك في أول النهار فصار إثبات العزيمة فيه تقديرا لا تحقيقا وفاء لحقه وتوقيرا لحظة وعلى هذا الأصل قلنا أن صوم النفل مقدر بكل اليوم حتى فسد بوجود المنافي في اوله ولم يتأد إلا من اوله ولم يتأد بالنية في الآخر لان الصوم عرف قربة بمعيار ولم يعرف معياره إلا بيوم كامل فلم يجز شرع العبادة واما الامساك في أول يوم النحر فلم يشرع صوما ولكن ليكون ابتداء التناول من القرابين كراهية للاضياف أن يتناولوا من غير طعام الضيافة قبل طعامها ومن هذا الجنس الصوم لا المنذور في وقت بعينه لما انقلب بالنذر صوم الوقت واجبا لم يبق نفلا لانه واحد يقبل وصفين متضادين فصار واحدا من هذا الوجه فأصيب بمطلق الاسم ومع الخطأ في الوصف وتوقف مطلق الامساك فيه على صوم الوقت وهو المنذور لكنه إذا صامه عن كفارة أو قضاء ما عليه صح عما نوى لأن التعيين حصل بولاية الناذر وولايته لا تعدوه فصح التعيين فيما يرجع إلى حقه وهو أن لا يبقى النفل شرعا فأما في ما يرجع إلى حق صاحب الشرع وهو أن لا يبقى الوقت محتملا لحقه فلا فاعتبر في احتمال ذلك العارض بما لو لم ينذروا ما الوقت الذي جعل معيارا لا سببا فمثل الكفارات الموقتة باوقات غير متعينة كقضاء رمضان والنذر المطلق والوقت فيها معيار لا سبب ومن حكمها انها من حيث جعلت قربة لا تستغني عن النية وذلك في اكثر الامساك ومن حيث إنها غير متعينة لا يتوقف الامساك فيها إلا لصوم الوقت وهو النفل فأما على الواجب فلا لأنه محتمل الوقت وانما التوقف على الموضوعات الاصلية فأما على المحتمل فلا فلهذا كانت النية من اوله شرطا ليقع الامساك من اوله من العارض الذي يحتمله الوقت فأما إذا توقف على وجه فلا يحتمل إلى غيره ومن حكمه أنه لا فوات له لما لم يكن (1/47)
لانتقال الوقت متعينا وأما النوع الرابع من المؤقتة فهو المشكل منه وهو حج الإسلام ومعنى قولنا أنه مشكل أن وقته العمر وأشهر الحج في كل عام صالح لأدائه أم أشهر الحج من العام الأول وقت متعين لأدائه ولا خلاف في الوصف الأول حتى إذا أخر عن العام الأول كان مؤديا فأما الوصف الثاني فهو صحيح عند أبي يوسف في الحال واشهر الحج في هذا العام الذي لحقه الخطاب به بمنزلة وقت الصلاة فإذا أدرك العام الثاني صار ذلك بمنزلة العام الأول لا يصير كذلك إلا بشرط الإدراك وقال محمد رحمه الله موسعا يسع تأخيره عن العام الأول وقال الكرخي وجماعة من مشايخنا أن هذا يرجع إلى أن الأمر المطلق عن الوقت يوجب الفور أم لا مثل وجوب الزكوة وصدقة الفطر والعشر والنذر بالصدقة المطلقة فقال أبو يوسف على الفور وقال محمد رحمه الله على التراخي فكذلك الحج فأما تعين الوقت فلا والذي عليه عامة مشايخنا أن الأمر المطلق لا يوجب الفور بلا خلاف فأما مسئلة الحج مسئلة مبتداءة فذهب محمد رحمه الله في ذلك أن الحج فرض العمر بلا خلاف إلا أنه لا يتدي في كل عام إلا في وقت خاص فيكون وقته نوعا من أنواع اشهر الحج في عمره وإليه تعيينه كصوم القضاء القضاء وقته النهر دون الليالي والى العبد تعيينه فلا يتعين الذي يليه إلا بتعيينه بطريق الأداء ألا ترى انه متى اداه كان مؤديا ولو كان الأول متعينا لصار بالتأخير مفوتا والدليل عليه أنه بقي وقتا للنفل مع انه لم يشرع في مدة واحدة إلا حج واحد ولو تعين للفرض لما بقي النفل مشروعا كما في شهر رمضان فثبت انه غير متعين إلا بالأداء ومتى تعين بالأداء لم يبق النفل فيه مشروعا ولأبي يوسف رحمه الله أن أشهر الحج من العام الأول متعينة للأداء فلا يحل له التأخير عنها كوقت الظهر للظهر وإنما قلنا هذا لأن الخطاب للأداء لحقه في هذا (1/48)
الوقت وهذا واحد لا مزاحم له لأن المزاحمة لا يثبت إلا بإدراك وقت آخر وهو مشكوك لأنه لا يدركه إلا بالحياة إليه والحياة والممات في هذه المدة سواء في الاحتمال فلا يثبت الادراك بالشك فيبقى هذا الوقت متعينا بلا معارضة ويسير الساقط بطريق التعارض كالساقط بالحقيقة فيصير كوقت الظهر في التقدير بخلاف الصوم لأن تأخيره عن اليوم الأول لا يفوته والتعارض للحال غير قائم لأن الحياة إلى اليوم الثاني غالبة والموت في ليلة واحدة بالفجاءة نادر فلا يترك الظاهر بالنادر وإذا كان كذلك استوت الأيام كلها كأنه أدركها جملة فخير بينها ولا يتعين أولها ولا يلزم أن النفل بقي مشروعا لأنا إنما اعتبرنا التعيين احتياطا واحترازا عن الفوت فظهر ذلك حق المأثم لا غير فأما أن يبطل اختيار جهة التقصير والمأثم فلا ولا يلزم إذا أدرك العام الثاني لأنا إنما عينا الأول لوقوع الشك فإذا أدركه وذهب الشك صار الثاني هو المتعين وسقط الماضي لأن الماضي لا يحتمل الأداء بعد مضيه وفي إدراك الثالث شك فقام الثاني مقام الأول ومن حكم هذا الأصل أن وقت الحج ظرف له لا معيار ألا ترى أنه يفضل عن أدائه وان الحج افعال عرفت بأسمائها وصفاتها لا بمعيارها فأشبه وقت الظهر فلا يدفع غيره من جنسه ولهذا قلنا أن التطوع بالحج يصح ممن عليه حجة الإسلام كالنفل ممن عليه الظهر وقال الشافعي رحمه الله لما عظم أمر الحج استحسنا في الحجر عن التطوع صيانة له وإشفاقا عليه وهو نظير حجر السفيه فإن هذا من السفه ومثل هذا مشروع فإنه صح بإطلاق النية وصح أصله بلا نية ممن أحرم عنه أصحابه عند الإغماء وبإحرام الرجل عن أبويه لكنا نقول الحجر عن هذا يفوت الاختيار وهذا ينافي العبادة وقط لا يصح العبادة بلا اختيار لكن الاختيار في كل باب بما يليق به والإحرام (1/49)
عندنا شرط بمنزلة الوضوء فصح بفعل غيره بدلالة الأمر فأما الأفعال فلا بد من أن يتجرى على بدنه وجوازه عند الإطلاق بدلالة التعيين من المؤدي إذ الظاهر انه لا يقصد النفل وعليه حجة الإسلام فصار التعيين لمعنى في المؤدى لا في المؤدى فإذا نوى النفل فقد جاء صريح بخلافه فيبطل به بخلاف شهر رمضان لأنه متعين لا مزاحم له في وقته لا لمعنى في المؤدى وهذا كنقد البلد لما تعين لمعنى في المؤدى وهو تيسير إصابته دلالة بطل عند التصريح بغيره واما الأمر المطلق عن الوقت فعلى التراخي خلافا للكرخي على ما أشرنا إليه والله أعلم ومن هذا الأصل باب النهي
قال النهي المطلق نوعان نهي عن الأفعال الحسية مثل الزنا والقتل وشرب الخمر ونهي عن التصرفات الشرعية مثل الصوم والصلاة والبيع والاجارة وما أشبه ذلك فالنهي عن الأفعال الحسية دلالة على كونها قبيحة في أنفسها لمعنى في أعيانها بلا خلاف إلا إذا قام الدليل على خلافه وأما النهي المطلق عن التصرفات الشرعية فيقتضي قبحا لمعنى في غير المنهي عنه لكن متصلا به حتى يبقى المنهي مشروعا مع إطلاقا النهي وحقيقته وقال الشافعي رحمه الله بل يقتضي هذا القسم قبحا في عينه حتى لا يبقى مشروعا أصلا
بمنزلة القسم الأول إلا أن يقوم الدليل فيجب إثبات ما احتمله النهي وراء حقيقته على اختلاف الأصول وبيان هذا الأصل في صوم يوم العيد وأيام التشريق والربا والبيع الفاسد أنها مشروعة عندنا لأحكامها وعنده باطلة منسوخة لا حكم لها احتج الشافعي رحمه الله بان العمل بحقيقة كل قسم واجب لا محالة إذ الحقيقة أصل في كل باب والنهي في اقتضاء القبح حقيقة كالأمر في اقتضاء الحسن حقيقة ثم العمل بحقيقة الأمر واجب حتى (1/50)
كان حسنا لمعنى في عينه إلا بدليل فكذلك النهي في صفة القبح وهذا لأن المطلق من كل شيء يتناول الكامل منه ويحتمل القاصر والكمال في صفة القبح فيما قلنا فمن قال بأنه يكون مشروعا في الأصل قبيحا في الوصف يجعله مجازا في الأصل حقيقة في الوصف وهذا عكس الحقيقة وقلب الأصل وإذا ثبت هذا الأصل كان لتخريج الفروع وطريقان أحدهما أن ينعدم المشروع باقتضاء النهي والثاني أن ينعدم بحكمه وبيان ذلك أن من ضرورات كون التصرف مشروعا أن يكون مرضيا قال الله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا وللمشروعات درجات وأدناها أن يكون مرضية وكون الفعل قبيحا منهيا ينافي هذا الوصف وإن كان داخلا في المشيئة والقضاء والحكم كالكفر وسائر المعاصي فإنها بمشيئة الله وقضاء الله وحكمه توجد لا يرضاه فصار النهي عن هذه التصرفات نسخا بمقتضاه وهو التحريم السابق والثاني أن من حكم النهي وجوب الانتهاء وان يصير الفعل على خلاف موجبه معصية هذا موجب حقيقته وبين كونه معصية وبين كونه مشروعا وطاعة تضاد وتناف ولهذا لم يثبت حرمة المصاهرة بالزنا لأنها شرعت نعمة تلحق بها الأجنبية بالأمهات والزنا حرام محض فلم يصلح سببا لحكم شرعي هو نعمة وكذلك الغصب لا يفيد الملك لما قلنا ولا يلزم إذا جامع المحرم أو أحرم مجامعا أنه يبقى مشروعا مع كونه فاسدا لأن الاحرام منهي لمعنى الجماع وهو غيره لا محالة لكنه محظورة فصار مفسدا والاحرام لازم شرعا لا يحتمل الخروج باختيار العباد ففسد ولم ينقطع بجناية الجاني وكلامنا فيما ينعدم شرعا لا فيما لا ينقطع بجناية الجاني ولا يلزم الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها لأنه منهي عنه لمعنى في غيره وهو الضرر بالمرأة بتطويل العدة أو بتلبيس أمر العدة عليها ولهذا لم يكن سفر المعصية سببا للرخصة للنهي ولا يملك الكافر مال المسلم بالاستيلاء للنهي أيضا فلم يصلح سببا مشروعا (1/51)
ولا يلزم الظهار لأن كلامنا في حكم مطلوب تعلق بسبب مشروع له ليبقى سببا والحكم به مشروعا مع وقوع النهي عليه فأما ما هو حرام غير مشروع تعلق به جزاء زاجر عنه فيعتمد حرمة سببه كالقصاص ليس بحكم مطلوب بسبب مشروع بل جزاء شرع زاجر فاعتمد حرمة سببه ولنا ما احتج به محمد رحمه الله في كتاب الطلاق أن صيام العيد وأيام التشريق منهي والنهي لا يقع على ما يتكون وبيانه أن النهي يراد به عدم الفعل مضافا إلى اختيار العباد وكسبهم فيعتمد تصوره ليكون العبد مبتلي بين أن يكف عنه باختياره فيثاب عليه وبين أن يفعله باختياره فيلزمه جزاؤه والنسخ لإعدام الشيء شرعا لينعدم فعل العبد لعدم المشروع بنفسه ليصير امتناعه بناء على عدمه وفي النهي يكون عدمه بناء على امتناعه وهما في طرفي نقيض فلا يصح الجمع بحال والحكم الأصلي في النهي ما ذكرنا فأما القبح فوصف قائم بالنهي مقتضا به تحقيقا لحكمه فكان تابعا فلا يجوز تحقيقه على وجه يبطل به ما أوجبه واقتضاه فيصير المقتضى دليلا على الفساد بعد أن كان دليلا على الصحة بل يجب العمل بالأصل في موضعه والعمل بالمقتضى بقدر الإمكان وهو أن يجعل القبح وصفا للمشروع فيصير مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه فيصير فاسدا هذا غاية تحقيق هذا الأصل فأما الشافعي رحمه الله فقد حقق المقتضى وأبطل المقتضى وهذا في غاية المناقضة والفساد فإن قيل هذا صحيح في الأفعال الحسية لأنها لا تنعدم بصفة القبح فأما الشرعية فتنعدم لما قلنا فلا بد من إقامة الدلالة على أن المشروعات يحتمل هذا الوصف قيل له قد وجدنا المشروع يحتمل الفساد بالنهي كالاحرام الفاسد والطلاق الحرام والصلاة الحرام والصوم المحظور يوم الشك وما أشبه ذلك فوجب إثباته على هذا الوجه رعاية لمنازل المشروعات ومحافظة لحدودها وعلى هذا الأصول يخرج الفروع كلها منها أن البيع بالخمر منهي بوصفه وهو الثمن (1/53)
لأن الخمر مال غير متقوم فصلح ثمنا من وجه دون وجه فصار فاسدا لا باطلا ولا خلل في ركن العقد ولا في محله فصار قبيحا بوصفه مشروعا بأصله وكذلك إذا اشترى خمرا بعبد لأن كل واحد منهما ثمن لصاحبه فلم ينعقد في الخمر لعدم محله وانعقد في العبد لوجود محله وفسد بفساد ثمنه بخلاف الميتة لأنها ليست بمال ولا بمتقومة فوقع البيع بلا ثمن وهو غير مشروع وكذلك جلد الميتة لأنه ليس بمال ولا متقوم وكذلك بيع الربا مشروع بأصله وهو وجود ركنه في محله غير مشروع بوصفه وهو الفضل في العوض فصار فاسدا لا باطلا وكذلك الشرط الفاسد في البيع مثل الربا ولهذا قلنا في قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أن النهي يعدم الوصف من شهادته وهو الأداء ويبقى الأصل فيصير فاسدا ومنها صوم يوم العيد وأيام التشريق حسن مشروع بأصله وهو الإمساك لله تعالى في وقته طاعة وقربة قبيح بوصفه وهو الإعراض عن الضيافة الموضوعة في هذا الوقت بالصوم فلم ينقلب الطاعة معصية بل هو طاعة انضم إليها وصف هو معصية ألا ترى أن الصوم يقوم بالوقت ولا فساد فيه والنهي يتعلق بوصفه وهو أنه يوم عيد فصار فاسدا ومعنى الفاسد ما هو غير مشروع بوصفه مثل الفاسد من الجواهر وبيانه على وجه يعقل أن الناس أضياف الله تعالى يوم العيد والمتناول من جنس الشهوات بأصله طيب بوصفه فصار تركه طاعة بأصله معصية بوصفه على مثال البيع الفاسد ولهذا صح النذر به لأنه نذر بالطاعة وإنما وصف المعصية متصل بذاته فعلا لا باسمه ذكرا ولهذا قلنا في ظاهر الرواية لا يلزم بالشروع لأن الشروع فيه متصل بالمعصية فأمر بالقطع حقا لصاحب الشرع فصار مضافا إلى صاحب الشرع فبرئ العبد عن عهدته ومنها الصلاة وقت طلوع الشمس ودلوكها مشروعة بأصلها إذ لا قبح في أركانها وشروطها والوقت صحيح بأصله (1/55)
فاسد بوصفه وهو أنه منسوب إلى الشيطان كما جاءت به السنة إلا أن الصلاة لا توجد بالوقت لأنه ظرفها لا معيارها وهو سببها فصارت الصلاة ناقصة لا فاسدة فقيل لا يتأدى به الكامل ويضمن بالشروع والصوم يقوم بالوقت ويعرف به فازداد الأثر فصار فاسدا فلم يضمن بالشروع والنهي عن الصلاة في أرض مغصوبة متعلق بما ليس بوصف فلم تفسد فكذلك البيع وقت النداء وهو بخلاف بيع الحر والمضامين والملاقيح لأنه أضيف إلى غير محله فلم ينعقد فصار النهي مجازا عن النفي وهذه الاستعارة صحيحة لما بينهما من المشابهة ولا خلاف فيه إنما الكلام في حكم حقيقته وكذلك صوم الليالي لأن الوصال غير مشروع ولا ممكن والنهار هو المتعين لشهوة البطن غالبا فتعين للصوم تحقيقا للابتلاء فصار النهي مستعارا عن النفي ولا يلزم النكاح بغير شهود لأنه منفي بقوله عليه السلام لا نكاح إلا بشهود وكان نسخا وإبطالا وإنما يسقط الحد ويثبت النسب والعدة لشبهة العقد ولأن النكاح شرع لملك ضروري لا ينفصل عن الحل حتى لم يشرع مع الحرمة ومن قضية النهي التحريم فبطل العقد لمضادة ثبتت بمقتضى النهي بخلاف البيع لأنه وضع لملك العين والتحريم لا يضاده لأن الحل فيه تابع ألا ترى أنه شرع في موضع الحرمة وفيما لا يحتمل الحل أصلا كالأمة المجوسية والعبيد والبهائم وكملك الخمر وكذلك نكاح المحارم منفي لعدم محله فلفظ النهي في قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء مستعار عن النفي وأما استيلاء أهل الحرب فإنما صار منهيا بواسطة العصمة وهي ثابلاتة في حقنا دون اهل الحرب لانقطاع ولايتنا عنهم ولأن العصمة متناهية بتناهي سببهما وهو الاحراز فسقط النهي في حكم الدنيا وأما الملك بالغصب فلا يثبت مقصودا به بل شرطا لحكم شرعي وهو الضمان لأنه شرع جبرا ولا جبر مع بقاء الأصل على ملكه إذ الجبر يعتمد الفوات (1/56)
وشرط الحكم تابع له فصار حسنا لحسنه وإنما قبح لو كان مقصودا به وفي ضمان المدبر قلنا بزوال المدبر عن ملك المولى لكونه مالا مملوكا تحقيقا لشرط المشروع وهو وجوب الضمان ولا يدخل في ملك المشتري صيانة لحقه ولأن ضمان المدبر جعل مقابلا بالفايت وهو اليد دون الرقبة وهذا طريق جائز لكن لا يصار إليه عن المقابلة بالرقبة إلا عند العجز والضرورة فالطريق الأول واجب وهذا جائز وأما الزنا فلا يوجب حرمة المصاهرة أصلا بنفسه إنما هو سبب للماء والماء سبب للولد وجودا والولد هو الأصل في استحقاق الحرمات ولا عصيان ولا عدوان فيه ثم يتعدى منه إلى أطرافه ويتعدى إلى أسبابه وما يعمل بقيام مقامه غيره فإنما يعمل بعلة الأصل ألا ترى أن التراب لما قام مقام الماء نظر إلى كون الماء مطهرا وسقط وصف التراب فكذلك يهدر وصف الزنا بالحرمة لقيامه مقام ما لا يوصف بذلك في إيجاب حرمة المصاهرة وأما سفر المعصية فغير منهي لمعنى فيه لأنه من حيث أنه خروج مديد مباح وإنما العصيان في فعل قطع الطريق أو التمرد على المولى وهو مجاور له فكان كالبيع وقت النداء ولا يلزم على هذا النهي عن الأفعال الحسية لأن القول بكمال القبح فيها وهو مقتضى مع كمال المقصود ممكن على ما قلنا والنهي في صفة القبح ينقسم انقسام الأمر ما قبح لعينه وضعا مثل الكفر والكذب والعبث وما قبح ملحقا بالقسم الأول وهو بيع الحر والمضامين والملاقيح لأن البيع لما وضع لتمليك المال كان باطلا في غير محله وما قبح لمعنى في غيره وهو البيع وقت النداء الصلوة في أرض مغصوبة وما قبح لمعنى في غيره وهو ملحق به وصفا وذلك مثل البيع الفاسد وصيام يوم النحر والنهي عن الأفعال الحسية يقع على القسم الأول وعن الأمور المشروعة يقع على هذا القسم الذي قلنا أنه ملحق به وصفا (1/58)
باب معرفة أحكام العموم
العام عندنا يوجب الحكم فيما تناوله قطعا ويقينا بمنزلة الخاص فيما يتناوله والدليل على أن المذهب هو الذي حكينا أن ابا حنيفة رحمه الله قال أن الخاص لا يقضي عن العام بل يجوز أن ينسخ الخاص به مثل حديث العرنيين في بول ما يؤكل لحمه نسخ وهو خاص بقول النبي عليه السلام استنزهوا من البول ومثل قوله عليه السلام ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة نسخ بقوله ما سقته السماء ففيه العشر ولما ذكر محمد رحمه الله فيمن اوصى بخاتمه لانسان ثم بالفص منه الآخر بكلام مفصول أن الحلقة للأول والفص بينهما وانما استحقه الأول بالعموم والثاني بالخصوص وهذا قولهم جميعا وقالوا في رب المال والمضارب إذا اختلفا في العموم والخصوص أن القول قول من يدعي العموم ولولا استوائهما وقيام المعارضة بينهما لما وجب الترجيح بدلالة العقد وقد قال عامه مشائحنا أن العام الذي لم يثبت خصوصه لا يحتمل الخصوص بخبر الواحد والقياس هذا هو المشهور واختاره القاضي الشهيد في كتاب الغرر فثبت بهذه الجملة أن المذهب عندنا ما قلنا ولهذا قلنا أن قول الله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه عام لم يلحقه خصوص لان الناسى في معنى الذاكر لقيام الملة مقام الذكر فلا يجوز تخصيصه بالقياس وخبر الواحد وكذلك قوله ومن دخله كان امنا لم يلحقه الخصوص فلا يصح تخصيصه بالآحاد والقياس وقال الشافعي العام يوجب الحكم لا على اليقين وعلى هذا مسائله وقال بعض الفقهاء الوقف واجب في كل عام حتى يقوم الدليل وقال بعضهم بل يثبت به اخص الخصوص اما من قال بالوقف فقد احتج بأن اللفظ العام مجمل فيما أريد (1/59)
به لاختلاف اعداد الجمع ألا ترى انه يؤكد بما يفسره فيقال جاءني القوم اجمعون وكلهم فلما استقام تفسيره بما يوجب الاحاطة علم انه كان محتملا ألا ترى أن الخاص لا يؤكد بمثله يقال جاءني زيد نفسه لا جمعية لانه يحتمل المجاز دون البيان فلا يؤكد بالجميع وقد ذكر الجميع واريد به البعض مثل قوله تعالى الذين قال لهم الناس ان الناس قد اجمعوا لكم وانما هو واحد فلذلك وجب الوقف وجه القول الآخر ان الاخص وهو الثلاثة من الجماعة والواحد من الجنس متيقن فوجب القول ووجه قولنا والشافعي انه موجب لان العموم معنى مقصود بين الناس شرعا وعرفا فلم يكن له لفظ وضع له لان الالفاظ لا يقصر عن المعاني ابدا الا ترى أن من اراد أن يعتق عبيده كان السبيل فيه أن يعمهم فيقول عبيدي احرار والاحتجاج بالعموم من السلف متوارث وقد احتج ابن مسعود رضي الله عنه في الحمل أنه ينسخ ساير وجوه العدد بقوله واولات الاحمال اجلهن أن يضعن حملهن وقال انه اخرهما نزولا وصار ناسخا للخاص للخاص الذي في سورة البقرة فدل على ما قلنا انه موجب مثل الخاص واحتج على رضي الله عنه في تحريم الجمع بين الاختين وطئا بملك اليمين فقال احلتهما آية وهو قوله تعالى إلا على أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم وحرمتهما آية وهو قوله تعالى وان تجمعوا بين الأختين فصار التحريم اولى وذلك عام كله ثم قال الشافعي كل عام يحتمل إرادة الخصوص من المتكلم فتمكنت فيه الشبهة فذهب اليقين ولنا أن الصيغة متى وضعت لمعنى كان ذلك المعنى واجبا به حتى تقوم الدليل على خلافه وارادة الباطن لا تصلح دليل لانا نكلف دليلا درك الغيب فلا يبقى له عبرة أصلا والجواب عما احتج به طائفة أهل المقالة الأولى انا ندعى انه موجب لما وضع له لا انه محكم (1/61)
لما وضع له فكان محتملا أن يراد به بعضه فيصلح توكيده بما يحسم باب الاحتمال ليصير محكما كالخاص يحتمل المجاز فتوكيده بما يقطعه لا بما يفسره فيقال جاءني زيد نفسه لانه قد يحتمل غير المجيء مجازا باب العام إذا لحقه الخصوص
فان لحق هذا العام خصوص فقد اختلف فيه فقال أبو الحسن الكرخي لا يبقى حجة أصلا سواء كان المخصوص معلوما أو مجهولا وقال غيره إن كان المخصوص معلوما بقي العام فيما وراء المخصوص على ما كان وان كان مجهولا يسقط حكم العموم وقال بعضهم ان كان المخصوص معلوما بقي العام فيما ورائه على ما كان فأما إذا كان مجهولا فان دليل الخصوص يسقط فعلى قول الكرخي يبطل الاستدلال بعامة العمومات لما دخلها من الخصوص وعلى القول الثاني لا يصح الاستدلال بآية السرقة وآية البيع لان ما دون ثمن المجن خص من آية السرقة وهو مجهول وخص الربوا من قوله وحل الله البيع وحرم الربوا وهو مجهول وكذلك نصوص الحدود لان مواضع الشبهة منها مخصوصة وفيها ضرب جهالة واختلاف والصحيح من مذهبه أن العام يبقى حجة بعد الخصوص معلوما كان المخصوص أو مجهولا إلا أن فيه ضرب شبهة وذلك مثل قول الشافعي في العموم قبل الخصوص ودلالة صحة هذا المذهب اجماع السلف على الاحتجاج بالعموم ودلالة أن في ذلك شبهة إجماعهم على جواز التخصيص بالقياس والاحاد وذلك دون خبر الواحد حتى صحت معارضته بالقياس إما الكرخي فقد احتجبان ذلك الخصوص إذا كان مجهولا واجب جهالة في الباقي لان الخصوص بمزلة الاستثناء لانه يبين انه لم يدخل تحت الجملة كالاستثناء وإذا كان معلوما احتمل أن يكون (1/63)
معلولا وهو الظاهر لان دليل الخصوص نص قائم بنفسه فصلح تعليله ولا يدري أي القدر من الباقي صار مستثنيا فيصير بمنزلة جهالة المخصوص ووجه القول الثاني أن دليل الخصوص إذا كان مجهولا فعلى ما قلنا وان كان معلوما بقي العام موجبا في الباقي لان دليل الخصوص بمنزلة الاستثناء على ما قلنا فلا يؤثر في الباقي لان الاستثناء لا يحمل التعليل فكذلك هذا ووجه القول الآخر ان دليل الخصوص لما كان مستقلا بنفسه حتى لو تراخى كان ناسخا سقط بنفسه إذا كان مجهولا لان المجهول لا يصلح دليلا بخلاف الاستثناء لانه وصف قائم بالأول فأوجب جهالة فيه وهذا قائم بنفسه معارض للأول ودليل ما قلنا أن دليل الخصوص يشبه الاستثناء يحكمه لما قلنا انه يبين انه لم يدخل في الجملة ألا ترى انه لا يكون إلا مقارنا ويشبه الناسخ بصيغته لانه نص قائم بنفسه فلم يجز الحاقه بأحدهما بعينه بل وجب اعتباره في كل باب بنظيره فقلنا إذا كان دليل الخصوص مجهولا اوجب جهالة في الأول بحكمه إذا اعتبر بالاستثناء وسقط في نفسه بصيغته إذا اعتبر بالناسخ وحكمه قائم بصيغته فصار الدليل مشتبها فلم يبطله بالشك وكذلك إذا كان المخصوص معلوما لانه يحتمل أن يكون معلولا وعلى احتمال التعليل يصير مخصوصا من الجملة كأنه لم يدخل لا على سبيل المعارضة للنص فوجب العمل به فيصير قدر ما تناوله النص مجهولا هذا على اعتبار صيغة النص وعلى اعتبار حكمه لا يصح التعليل لانه شبيه بالاستثناء وهو عدم و العدم لا يعلل فدخلت الشبهة أيضا وقد عرف موجبا فلا يبطل بالاحتمال وهذا بخلاف الناسخ إذا ورد في بعض ما تناوله النص معلوما فان الحكم فيما بقي لا يتغير لاحتمال التعليل لان الناسخ إنما يعمل على طريق المعارضة لا على تبين انه لم يدخل (1/65)
تحت الصيغة فيصير العلة معارضة للنص واما ههنا فان التعلل يقع على ما وضع له دليل الخصوص وهو أن لا يدخل تحت الجملة فلا يصير معارضا للنص فإذا ثبت الاحتمال فلم يخرج عن الدلالة بالشك صار الدليل مشكوكا بأصله فأشبه دليل القياس فاستقام أن يعارضه القياس بخلاف ما ثبت بخبر الواحد لانه يقين بأصله فلم يصلح أن يعارضه القياس ونظير هذه الجملة من الفروع أن البيع إذا اضيف إلى حر وعبد بثمن واحد والى حي وميت وخمر وخل فهو باطل لان أحدهما لم يدخل تحت العقد فبقى الآخر وحده ابتداء بحصته و كذلك إذا قال بعت منك هذين العبدين بألف درهم إلا هذا بحصته من الألف فصارت هذه الجملة نظير الاسثناء وإذا باع عبدين فمات أحدهما قبل التسليم أو استحق أو وجد مدبرا ومكاتبا صح البيع في الباقي لان الآخر دخل في البيع وكذلك المدربر والمكاتب يدخلان في البيع وانما امتنع الحكم صيانة لحقهما فصار الآخر باقيا في العقد بحصته فصار هذا من قسم دليل النسخ ونظير دليل الخصوص مسئلة خيار الشرط قال في الزيادات في رجل باع عبدين بألف درهم على انه بالخيار في واحدهما أن البيع لا يصح حتى يعين الذي فيه الخيار ويسمي ثمنه فأما إذا اجمل الثمن ولم يعين الذي فيه الخيار أو عين أحدهما ولم يعين الآخر لم يجر البيع لان الخيار لا يمنع الدخول في الايجاب ويمنع الدخول في الحكم فصار في السبب نظير دليل النسخ وفي الحكم نظير الاستثناء فقيل لا بد من اعلام الثمن والمبيع لجواز البيع بمنزلة الحر والعبد وإذا وجد التعيين واعلام الحصة صح البيع ولم يعتبر الذي شرط فيه الخيار شرطا فاسدا في الآخر بخلاف الحر والعبد وما شاكل ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله أن يعتبر شرطا فاسدا في الآخر لا محالة فيفسد به البيع والله اعلم (1/66)
باب ألفاظ العموم
ألفاظ العموم قسمان عام بصيغته ومعناه وعام بمعناه دون صيغته أما العام بصيغته ومعناه فهو صيغة كل جمع مثل الرجال والنساء والمسلمين والمسلمات والمشركين والمشركات وما أشبه ذلك أما صيغته فموضوعه للجمع وأما معناه فكذلك وذلك شامل لكل ما ينطلق عليه وأدنى الجمع ثلثة ذكر ذلك محمد صريحا في كتاب السير في الأنفال وفي غيرها فصار هذا الإسم عاما متنا ولا جميع ما ينطلق عليه غيران الثلاثة أقل ما يتناوله فصار أولى ولهذا قلنا في رجل قال إن اشتريت عبيد فهو كذا أو أن تزوجت نساء إن ذلك يقع على الثلاثة فصاعد الما قلنا والكلمة عامة لكل قسم يتناوله وقد يصير هذا النوع مجاز عن الجنس إذا دخله لام المعرفة لأن لام المعرفة للعهد ولا عهد في أقسام المجموع فجعل للجنس ليستقيم فكان فيه عمل بالوصفين ولو عمل على حقيقتة بطل حكم اللام أصلا فصار الجنس اولى قال الله تعالى لا يحل لك النساء من بعد وقال اصحابنا فيمن قال إن تزوجت النساء اولى اشتريت العبيد فامرأته طالق أن ذلك يقع على الواحد فصاعدا لما قلنا انه صار عبارة عن الجنس فسقطت حقيقة الجمع واسم الجنس يقع على الواحد على انه كل الجنس إلا ترى انه لولا غيره لكان كلا فان آدم صلوة الله عليه كان كل الجنس للرجال وحواء رضي الله عنها وحدها كانت كل الجنس للنساء فلا يسقط هذه الحقيقة بالمزاحمة فصار الواحد للجنس مثل الثلاثة للجمع فكما كان اسم الجمع واقعا على الثلاثة فصاعدا كان اسم الجنس واقعا على الواحد فصاعدا وكان كمن حلف لا يشرب الماء انه يقع على القليل على احتمال الكل واما العام بمعناه دون صيغته (1/67)
فأنواع منهما ما هو فرد وضع للجمع مثل الرهط والقوم ونحو ذلك مثل الطائفة والجماعة فصيغة رهط وقوم مثل زيد وعمرو ومعناهما الجمع ولما كان فرد بصيغته جمعا بمعناه كان اسما للثلاثة فصاعدا إلا الطائفة فانهما اسم للواحد فصاعدا كذلك قال ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة أن يقع على الواحد فصاعدا لانه نعت فرد صار جنسا بعلامة الجماعة ومن ذلك كلمة من وهي يحتمل الخصوص والعموم قال الله تعالى ومنهم من يستمعون إليك ومنهم من ينظر إليك واصلها العموم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من دخل دار ابي سفيان فهو آمن وقال اصحابنا رحمهم الله فيمن قال لعبده من شاء من عبيدي العتق فهو حر فشاؤا جميعا عتقوا فأما إذا قال من شئت من عبيدي عتقه فاعتقه فقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله للمأمور ان يعتقهم جميعا لان كلمة من عامة وكلمة من لتمييز عبيده من غيرهم مثل قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يعتقهم إلا واحدا منهم لأن المولى جمع بين كلمة العموم والتبعيض فصار الأمر متناولا بعضا عاما وإذا قصر عن الكل بواحد كان عملا بهما وهذا حقيقة التبعيض وكذلك قوله من شاء من عبيدي عتقه فهو حر يتناول البعض إلا انه موصوف بصفة عامة فسقط بها الخصوص وهذه الكلمة يحتمل الخصوص لأنها وضعت مبهمة في ذوات من يعقل مثاله ما قال في السير الكبير من دخل منكم هذا الحصن أولا فله من النفل كذا فدخل واحد فله النفل وإن دخل اثنان معا فصاعدا بطل النفل لأن الأول اسم للفرد السابق فلما قرنه بهذه الكلمة دل ذلك على الخصوص فتعين به احتمال الخصوص وسقط العموم فلم يجب النفل إلا لواحد متقدم ولم يوجد وقسم آخر وهي كلمة كل وهي للإحاطة على سبيل الإفراد قال الله تعالى كل نفس ذائقة الموت ومعنى الإفراد أن يعتبر كل مسمى منفردا ليس معه (1/68)
غيره وهذا معنى ثبت بهذه الكلمة لغة فيما أضيفت إليه كأنها صلة حتى لم تستعمل مفردة وهي تحتمل الخصوص أيضا وهي مثل كلمة من إلا أنها أنها عند العموم تخالفها في إيجاب الإفراد فإذا دخلت على النكرة أوجبت العموم مثل قول الرجل كل امرأة أتزوجها فهي طالق ولا تصحب الأفعال إلا بصلة فإذا وصلت أوجبت عموم الأفعال مثل قول الله سبحانه وتعالى كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها وعلى هذا مسائل أصحابنا وبيان ما قلنا من الفرق بين كلمة كل ومن فيما قاله محمد في السير الكبير من دخل منكم هذا الحصن أولا فله من النفل كذا فدخل جماعة بطل النفل ولو قال كل من دخل منكم هذا الحصن أو لا فله كذا فدخل عشرة معا وجب لكل رجل منهم النفل كاملا على حياله لما قلنا انه يوجب الإحاطة على سبيل الإفراد فاعتبر كل واحد منهم على حياله وهو أول في حق من تخلف من الناس وفي كلمة من وجب اعتبار جماعتهم وذلك ينافي الأولية ولو دخل العشرة فرادى في مسألة كل كان النفل للأول لأنه هو الأول من كل وجه وهي تحتمل الخصوص فسقط عنها الإحاطة وصارت للخصوص وقسم آخر كلمة الجميع وهي عامة مثل كل إلا إنها يوجب الاجتماع دون الانفراد فصارت بهذا المعنى مخالفة للقسمين الأولين ولذلك صارت مؤكدة لكلمة كل وبيان ذلك في قول محمد في السير الكبير جميع من دخل هذا الحصن أولا فله كذا فدخل عشرة منهم أن لهم نفلا واحدا بينهم جميعا بالشركة ويصير النفل واجبا لأول جماعة يدخل فان دخلوا فرادى كان للأول لأن الجميع يحتمل أن يستعار بمعنى الكل وقسم آخر كلمة ما وهي عامة في ذوات ما لا يعقل وصفات من يعقل تقول ما في الدار جوابه شاة أو فرس وتقول ما زيد و جوابه عاقل أو عالم وقال أصحابنا فيمن قال لأمته إن كان ما في بطنك غلاما فأنت حرة فولدت غلاما وجارية لم تعتق لأن الشرط أن يكون جميع (1/69)
ما في البطن غلاما قال الله تعالى لله ما في السموات وما في الأرض وكذلك كلمة الذي في مسائل اصحابنا وهذه في احتمال الخصوص مثل من كلمة وعلى هذا يخرج قول الرجل لأمرأته طلقي نفسك من الثلاث ما شئت أن على قولهما تطلق نفسها ثلاثا وعند أبي حنيفة رحمه الله واحدة أو اثنتين لما قلنا في الفصل الأول ويجوز ان يستعار كلمة ما بمعنى من وهذه كلمات موضوعة غير معلولة وقسم أخر النكرة إذا اتصل بها دليل العموم لأن النكرة تحتمل ذلك إذ اتصل بها دليله مثل ما قلنا في كلمة كل ودلائل عمومها ضروب وبيان ذلك أن النكرة في النفي تعم وفي الاثبات تخص لأن النفي دليل العموم وذلك ضروري لا لمعنى في صيغة الاسم وذلك انك إذا قلت ما جاءني رجل فقد نفيت مجيء رجل واحد نكرة ومن ضرورة نفيه نفي الجملة ليصح عدمه بخلاف الاثبات لان مجيء رجل واحد لا يوجب مجيء غيره ضرورة فهذا ضرب من دلائل العموم وضرب آخر إذا دخل لام التعريف فيما لا يحتمل التعريف بعينه لمعنى العهد وذلك مثل قول الله تعالى والعصر أن الانسان لفي خسر أي هذ الجنس وكذلك قول الله والسارق والسارقة والزانية والزاني ومثاله قول علمائنا رحمهم الله المرأة التي أتزوج طالق واصل ذلك أن لام المعرفة للعهد وهو أن تذكر شيئا ثم تعاوده فيكون ذلك معهودا قال الله كما ارسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول أي هذا الذي ذكرنا فيكون الثاني هو الأول ومثاله قول علمائنا فيمن اقر بألف مقيدا بصك ثم اقر به كذلك أن الثاني هو الأول وإذا كان كل واحد منهما نكرة كان الثاني غير الأول عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يتحد المجلس فيصير دلالة على معنى العهد عند أبي يوسف ومحمد يحمل الثاني على الأول وان اختلف المجلس لدلالة العادة على معنى العهد وذلك معنى قول ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى فإن مع العسر يسرا لن يغلب عسر واحد يسرين لأن العسر اعيد من معرفة واليسر اعيد نكرة (1/70)
إن صحت هذه الحكاية عنه وفيه نظر عندنا بل هذا تكرير مثل قوله تعالى اولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى وإذا تعذر معنى العهد حمل على الجنس ليكون تعريفا له مثل قولك فلان يحب الدينار أي هذا الجنس إذ ليس فيه عين معهودة وذلك مثل قوله انت طالق الطلاق وضرب آخر من دلائل العموم إذا اتصل بها وصف عام مثل قول الرجل والله لا أكلم احدا إلا رجلا كوفيا ولا اتزوج امرأة إلا امرأة كوفية والله لا اقربكما إلا يوما اقربكما فيه أن المستثنى في هذا كله يكون عاما لعموم وصفه والنكرة تحتمل ذلك ومن هذا الضرب كلمة أي وهي نكرة يراد بها جزء مما تضاف اليه على هذا إجماع أهل اللغة قال الله تعالى ايكم يأتيني بعرشها ولم يقل يأتونني ويقال أي الرجل اتاك وقال محمد رحمه الله أي عبيدي ضربك فهو حر فضربوه فإنهم يعتقون ولم يقل ضربوك فتثبت إنها كلمة فرد لكنها متى وصفت بصفة عامة عمت بعمومها كساير النكرات في موضع الاثبات وإذا قال أي عبيدي ضربك فقد وصفها بالضرب وصارت عامة وإذا قال أي عبيدي ضربته فقد انقطع الوصف عنها فلم يعتق إلا واحد وعلى ذلك مسائل اصحابنا وكذلك إذا قال ايكم حمل هذه الخشبة فهو حر وهي لا يحملها واحد فحملوا عتقوا وان كان يحملها واحد فحملوا كلهم فرادى عتقوا وإذا اجتمعوا على ذلك لم يعتقوا لأن المراد به فيما يخف حمله انفراد كل واحد منهم في العادة لإظهار الجلادة واما النكرة المفردة في موضع الاثبات فإنها تخص عندنا ولا تعم إلا إنها مطلقة وقال الشافعي رحمه الله هي توجب العموم ايضا حتى قال في قول الله تعالى فتحرير رقبة إنها عامة تتناول الصغيرة والكبيرة والبيضاء والسوداء والكافرة والمؤمنة والصحيحة والزمنة وقد خص منها الزمنة بالإجماع فصح تخصيص الكافرة منها بالقياس بكفارة القتل قلنا نحن هذه مطلقة (1/71)
لا عامة لانها فرد فيتناول واحدا على احتمال وصف دون وصف والمطلق يحتمل التقييد وذلك مانع من العمل بالمطلق فصار نسخا وقد جعل وجوب التحرير جزاء الأمر فصار ذلك سببا له فيتكرر مطلقا بتكرره وصار مقيدا بالملك لاقتضاء التحرير الملك لا على جهة الخصوص ولم يتناول الزمنة لان الرقبة اسم للبنية مطلقا فوقعت على الكامل من الذي هو موجود مطلق فلم يتناول ما هو هالك من وجه وكذلك التحرير المطلق لا يخلص فيما هو هالك من وجه فلم يدخل الزمن فأما أن يكون مخصوصا فلا وصار ما ينتهي اليه الخصوص نوعان الواحد فيما هو فرد بصيغته أو ملحق بالفرد واما الفرد فمثل الرجل والمرأة والانسان والطعام والشراب وما اشبه ذلك أن الخصوص يصح إلى أن يبقى الواحد واما الفرد بمعناه فمثل قوله لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد أنه يصح الخصوص حتى يبقى الواحد واما ما كان جمعا صيغة ومعنى مثل قوله ان اشتريت عبيد أو ان تزوجت نساء أو ان اشتريت ثيابا فان ذلك يحتمل الخصوص إلى الثلاثة والطائفة يحتمل الخصوص إلى الواحد بخلاف الرهط والقوم وهذا لان ادنى الجمع ثلاثة نص محمد رحمه الله في السير الكبير وعلى هذا عمت مسائل اصحابنا رحمهم الله وقال بعض أصحاب الشافعي أن ادنى الجمع اثنان لما روي عن النبي عليه السلام انه قال الاثنان فما فوقهما جماعة ولان اسم الاخوة ينطلق على الاثنين في قوله تعالى فإن كان له اخوة فلأمه السدس وفي المواريث والوصايا يصرف الجمع إلى المثنى بالإجماع ويستعمل المثنى استعمال الجمع في اللغة يقال نحن فعلنا في الاثنين وقال الله تعالى فقد صغت قلوبكما ولا خلاف أن الإمام يتقدم إذا كان خلفه اثنان وفي المثنى اجتماع كما في الثلاثة ولنا قول النبي عليه السلام الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب ولنا ايضا دليل من قبل الإجماع ودليل من قبل المعقول إما من قبل الإجماع فإن أهل (1/72)
اللغة مجمعون على أن الكلام ثلاثة اقسام احاد ومثنى وجمع وعلى ذلك بنيت احكام اللغة فللمثنى صيغة خاصة لا يختلف وللواحد ان بنية مختلفة وكذلك الجمع ايضا يختلف ابنيته وليس للمثنى إلا مثال واحد وله علامات على الخصوص واجمع الفقهاء أن الإمام لا يتقدم على الواحد فثبت أنه قسم منفرد واما المعقول فإن الواحد إذا اضيف اليه الواحد تعارض الفردان فلم يثبت الاتحاد ولا الجمع واما الثلاثة فإنما يعارض كل فرد اثنان فسقط معنى الاتحاد اصلا وقد جعل الثلاثة في الشرع حدا في ابلاء الاعذار فأما الحديث فمحمول على المواريث والوصايا أو على سنة تقدم الإمام في الجماعة أن يتقدم على المثنى كما يتقدم على الثلاث وفي المواريث ثبت الاختصاص بقوله تعالى فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك والحجب يبتني على الارث ايضا والوصية يبتني عليه ايضا والثاني قلنا أن الخبر محمول على ابتداء الإسلام حيث نهى الواحد عن المسافرة واطلق الجماعة على ما روينا فإذا ظهر قوة المسلمين قال الاثنان فما فوقهما جماعة واما الجماعة فإنها تكمل بالإمام حتى شرطنا في الجمعة ثلاثة سوى الإمام واما قوله فقد صغت قلوبكما فلان عمة اعضاء الانسان زوج فالحق الفرد بالزوج لعظم منفعته كأنه زوج وقد جاء في اللغة خلاف ذلك وقوله نحن فعلنا لا يصلح إلا من واحد يحكي عن نفسه وعن غيره كأنه تابع فلم يستقم أن يفرد الصيغة فاختير لهما الجمع مجازا كما جاز للواحد أن يقول فعلنا كذا والله اعلم واما المشترك فحكمه الوقف بشرط التأمل ليترجح بعض وجوهه للعمل به واما المأول فحكمه العمل به على احتمال السهو والغلط والله اعلم بالصواب باب معرفة احكام القسم الذي يليه
وهو الظاهر والنصر والمفسر والمحكم وحكم الظاهر وجوب العمل (1/73)
بالذي ظهر منه وكذلك حكم النص وجوب العمل بما وضح واستبان به على احتمال تأويل هو في حيز المجاز وحكم المفسر وجوب العمل على احتمال النسخ وحكم المحكم وجوب العمل به من غير احتمال لما ذكرنا من تفاوت معاني هذه الالقاب لغة وانما يظهر تفاوت هذه المعاني عند التعارض ليصير الادنى متروكا بالاعلى وهذا يكثر امثلته في تعارض السنن والاحاديث ومثاله من مسائل اصحابنا باب ذكره في - كتاب الإقرار في الجامع رجل قال لاخر لي عليك ألف درهم فقال الآخر الحق اليقين الصدق كان كل ذلك تصديقا ولو قال البر الصلاح لم يكن تصديقا ولو جمع بين البر والحق أو البر واليقين أو البر والصدق حمل البر على الصدق والحق واليقين فجعل تصديقا ولو جمع بين الحق أو اليقين أو الصدق والصلاح جعل ردا ولم يكن تصديقا وحاصل ذلك أن الصدق والحق واليقين من اوصاف الخبر وهي نصوص ظاهرة لما وضعت له من دلالة الوجود للمخبر عنه فيكون جوابا على التصديق وقد يحتمل الابتداء مجازا أي الصدق اولى بك مما تقول واما البر فاسم موضوع لكل نوع من الاحسان لا اختصاص له بالجواب فصار بمعنى المجمل فلم يصلح جوابا بنفسه وإذا قارنه نص أو ظاهر وهو ما ذكرنا حمل عليه واما الصلاح فلفظ لا يصلح صفة للخبر مجال وهو محكم في هذا المعنى فإذا ضم اليه ما هو ظاهر أو نص وجب حمل النص الذي هو محتمل على الحكم الذي لا يحتمل فلم يكن تصديقا وصار مبتدئا فتر حج البعض على البعض عند التعارض ومثاله ايضا قولنا فيمن يزوج امرأة إلى شهر انه متعة لان التزوج نص لما وضع له فكان محتملا أن يراد به المتعة مجازا فأما قوله إلى شهر فمحكم في المتعة لا يحتمل النكاح مجازا فحمل المحتمل على المحكم وضد الظاهر الخفي وحكمه النظر فيه ليعلم أن اختفاءه لمزية أو نقصان فيظهر المراد ومثاله أن النص اوجب القطع على (1/74)
السارق ثم احتيج إلى معرفة حكم النباش والطرار وقد اختصا باسم خفي به المراد وطريق النظر فيه أن النباش اختص به لقصور في فعله من حيث هو سرقة لان السرقة اخذ المال على وجه المسارقة عن عين الحافظ الذي قصد حفظه لكنه انقطع حفظه بعارض والنباش هو الاخذ الذي يعارض عين من لعله يهجم عليه وهو لذلك غير حافظ ولا قاصد وهذا من الأول بمنزلة التبع من المتبوع وكذلك معنى هذا الاسم دليل على خطر المأخوذ وهذا الذي دل عليه اسم النباش في غاية القصور والهوان والتعدية بمثله في الحدود خاصة باطل واما الطرار فقد اختص به لفضل في جنايته و حذق في فعله لان الطر اسم لقطع الشيء عن اليقظان بضرب فترة وغفلة يعتريه وهذه المسارقة في غاية الكمال وتعدية الحدود في مثله في نهاية الصحة والاستقامة وقد سبق بيان احكام سائر الأقسام في هذا الفصل باب احكام الحقيقة والمجاز والصريح والكناية
قال حكم الحقيقة وجود ما وضع له أمرا كان أو نهيا خاصا أو عاما وحكم المجاز وجود ما استعير له خاصا كان أو عاما وطريق معرفة الحقيقة التوقيف والسماع بمنزلة النصوص وطريق معرفة المجاز التأمل في مواضع الحقايق واما في الحكم فهما سواء إلا عند التعارض فإن الحقيقة اولى منه ومن أصحاب الشافعي من قال لا عموم للمجاز وبيان ذلك أن النبي عليه السلام قال لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء فاحتج الشافعي رحمه الله بعمومه وابى أن يعارضه حديث ابن عمر في النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين والصاع بالصاعين لان الصاع مجاز عما يحويه ولا عمولة فإذا ثبت المطعوم به مراد سقط غيره قال لان الحقيقة اصل الكلام والمجاز ضروري يصار اليه توسعة ولا عموم لما ثبت ضرورة تكلم البشر والصحيح ما قلنا لان المجاز أحد نوعي الكلام (1/75)
فكان مثل صاحبه لان عموم الحقيقة لم يكن لكونه حقيقة بل لدلالة زائدة على ذلك إلا ترى أن رجلا اسم خاص فإذا زدت عليه لام التعريف من غير معهود ذكرته انصرف إلى تعريف الجنس فصار عاما بهذه الدلالة فالصاع نكرة زيد عليه لام التعريف وليس في ذلك معهود ينصرف اليه فانصرف إلى جنس ما أريد به ولو أريد به عينه لصار عاما فإذا أريد به ما يحله ويجاوره مجازا كان كذلك لوجود دلالته إلا ترى أنه استعير له ذلك بعينه ليعمل في ذلك عمله في موضعه كالثوب يلبسه المستعير كان اثره في دفع الحر والبرد مثل عمله إذا لبس بحق الملك إلا انهما تتفاوتان لزوما وبقاء والمجاز طريق مطلق لا ضروري حتى كثر في كتاب الله تعالى وهو افصح اللغات والله سبحانه وتعالى على عن العجز والضرورات ومن حكم الحقيقة انه لا تسقط عن المسمى بحال وإذا استعير لغيره احتمل السقوط يقال للوالد اب ولا ينفي عنه بحال ويقال للجد اب مجازا ويصح أن ينفي عنده لما بينا أن الحقيقة وضع وهذا مستعار فكانا كالملك والعارية إلا أن يكون مهجورا فيصير ذلك دلالة لاستثناء كما قلنا فيمن حلف لا يسكن الدار فانتقل من ساعته وكمن حلف لا يقتل وقد كان جرح ولا يطلق وقد كان حلف وكمن حلف لا يأكل من الدقيق لا يحنث بالاكل من عينه وعند بعض مشائخنا وإذا خلف لا يأكل من هذا الشجر فأكل عين الشجر لم يحنث ايضا ومن احكام الحقيقة والمجاز استحالة اجتماعهما مرادين بلفظ واحد لما قلنا أن أحدهما موضوع والآخر مستعار منه فاستحال اجتماعهما كما استحال أن يكون الثوب على رجل لبسه ملكا وعارية معا ولهذا قلنا فيمن اوصى لمواليه وله موال اعتقهم ولمواليه موال اعتقوهم أن الثلث للذين اعتقهم وليس لموالي معتقية شيء لان معتقيه مواليه حقيقة بأن انعم عليهم وصار ذلك كاولاده لاحيائهم بالاعتاق فأما موالي الموالي فمواليه مجازا لانه لما اعتق الأولين فقد اثبت لهم مالكية (1/76)
الاعتاق فصار ذلك مسببا لاعتقاهم فنسبوا اليه بحكم السببية مجازا والحقيقة ثابتة فلم يثبت المجاز إلا ترى أن الاسم المشترك لا عموم له مثل الموالي لا يعم الاعلين والاسفلين حتى أن الوصية للموالي وللموصي موال اعتقهم وموال اعتقوه باطلة وهذه معان يحتملها الاسم احتمالا على السواء إلا إنها لما اختلف سقط العموم فالحقيقة والمجاز وهما مختلفان ودلالة الاسم عليها متفاوتة اولى أن لا يجتمعا ولهذا قلنا في غير الخمر انه لا يلحق بالخمر في الحد لان الحقيقة اريدت بذلك النص فبطل المجاز ولهذا قلنا في قوله تعالى أو لامستم النساء أن المس باليد غير مراد لان المجاز مراد بالإجماع وهو الوطئ حتى حل للجنب التيمم فبطل الحقيقة ولهذا قيل فيمن اوصى لاولاد فلان أو لابنائه وله بنون وبنو بنين جميعا أن الوصية لابنائه دون بني بنيه لما قلنا فإن قيل قد قالوا فيمن حلف أن لا يضع قدمه في دار فلان أن يحنث إذا دخلها حافيا أو منتعلا وفيمن قال عبدي حر يوم يقدم فلان أنه أن قدم ليلا أو نهارا عتق عبده وفي السير الكبير قال في حربي استأمن على نفسه وابنائه انه يدخل فيه البنون وبنو البنين وفيمن حلف لا يكن دار فلان أن يقع على الملك والاجارة والعارية جميعا قيل له وضع القدم مجاز عن الدخول لانه موجبه والدخول مطلق فوجب العمل باطلاق المجاز وعمومه وكذلك اليوم اسم للوقت ولبياض النهار ودلالة تعين أحد الوجهين أن ينظر إلى ما دخل عليه فان كان فعلا يمتد كان النهار اولى به لانه يصلح معيارا له وإذا كان لا يمتد كان الظرف اولى وهو الوقت ثم العمل بعموم الوقت واجب فلذلك دخل الليل والنهار بخلاف قوله ليلة يقدم فلان فأنه لا يتناول النهار لانه اسم للسواد الخالص لا يحتمل غيره مثل النهار اسم للبياض الخالص لا يحتمل غيره واما اضافة الدار فإنما يراد به نسبة السكنى اليه فيستعار الدار للسكنى (1/77)
فوجب العمل بعموم نسبة السكنى وفي نسبة الملك نسبة السكنى موجودة لا محالة فيتناوله عموم المجاز واما مسألة السير ففيها رواية أخرى بعد ذلك الباب أنه لا يتناولهم ووجه الرواية الأولى أن الامان لحقن الدم فبنى على الشبهات وهذا الاسم بظاهره يتناولهم لكن بطل العمل به لتقدم الحقيقة عليه فبقى ظاهر الاسم شبهة فان قيل قد قال أبو يوسف ومحمد فيمن حلف لا يأكل من هذه الحنطة أن يحنث أن آكل من عينها أو ما يتخذ منها وفيه جمع بينهما وكذلك قالا فيمن حلف لا يشرب من الفرات أن يحنث أن كرع أو اغترف وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله فيمن قال لله على أن اصوم رجب أنه إن نوى اليمين كان نذرا ويمينا وهو جمع بينهما قيل له إما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فقد عملا باطلاق المجاز وعمومه لان الحنطة في العادة اسم لما في باطنها ومن اكلها أو ما يتخذ منها فقد أكل ما فيها والشرب من الفرات مجاز للشرب من الماء الذي يجاور الفرات وينسب اليه وهذه النسبة لا ينقطع بالاواني لما ذكرنا في الجامع فصار ذلك عملا بعمومه لا جمعا بين الحقيقة والمجاز واما مسألة النذر فليس بجمع بل هو نذر بصيغته ويمين بموجبه وهو الايجاب لان ايجاب المباح يصلح يمينا بمنزلة تحريم المباح وصار ذلك كشرى القريب تملك بصيغته وتحرير بموجبه فهذه مثله وطريق الاستعارة عند العرب الاتصال بين الشيئين وذلك بطريقين لا ثالث لهما الاتصال بينهما صورة أو معنى لان كل موجود من الصور له صورة ومعنى لا ثالث لهما فلا يتصور الاتصال بوجه ثالث إما المعنى فمثل قولهم للبليد حمار وللشجاع أسد لاتصال ومشابهة في المعنى بينهما واما الصور فمثل تسمية المطر سماء قالوا ما زلنا نطاء السماء حتى اتيناكم أي المطر لاتصال بينهما صورة لان كل عال عند العرب سماء والمطر من السحاب ينزل وهو سماء عندهم فسمى باسمه وقول الله عز و جل أو جاء (1/78)
أحد منكم من الغائط وهو لمطمئن من الأرض يسمى الحدث بالغائظ لمجاورته صورة في العادة وقال تعالى إني أراني أعصر خمرا أي عنبا لأتصال بينهما ذاتا لأن العنب مركب بثفله ومائه وقشره فسلكنا في الأسباب الشرعية والعلل هذين الطريقين في الاستعارة وهو الاستعارة بالاتصال في الصورة وهو السببية والتعليل لأن المشروع ليس بصورة تحس فصار الاتصال في السبب نظير الصور فيما تحس والاتصال في معنى المشروع كيف شرع اتصال هو نظير القسم الآخر من المحسوس ولا خلاف بين الفقهاء إن الاتصال بين اللفظين من قبل حكم الشرع يصلح طريقا للاستعارة فإن ليس بحكم يختص باللغة لان طريق الاستعارة القرب والاتصال وذلك ثابت بين كل موجودين من حيث وجدا والمشروع قائم بمعناه الذي شرع له وسببه الذي تعلق به فصحت به الاستعارة ولان حكم الشرع متعلقا بلفظ شرع سببا أو علة يثبت من حيث يعقل إلا واللفظ دال عليه لغة والكلام فيما يعقل ولا استعارة فيما لا يعقل ألا ترى أن البيع لتمليك العين شرعا ولذلك وضع لغة فكذلك ما شاكله وهذا في مسائل اصحابنا لا يحصى وقال الشافعي رحمه الله أن الطلاق يقع بلفظ التحرير مجازا والعتاق يقع بلفظ الطلاق مجازا ولم يمتنع أحد من ائمة السلف عن استعمال المجاز فقد انعقد نكاح النبي عليه السلام بلفظ الهبة مجازا مستعارا لا انه العقد هبة لان تمليك المال في غير المال لا يتصور وقد كان في نكاحه وجوب العدل في القسم والطلاق والعدة ولم يتوقف الملك على القبض فثبت أنه كان مستعارا ولا اختصاص للرسالة بالاستعارة ووجوه الكلام بل الناس في وجوه التكلم سواء فثبت أن هذا فصل لا خلاف فيه غير أن الشافعي رحمه الله أبي أن ينعقد النكاح إلا بلفظ النكاح أو التزويج لأنه عقد شرع لامور لا يحصى من مصالح الدين والدنيا ولهذا شرع بهذين اللفظين وليس فيهما (1/79)
معنى التمليك بل فيهما إشارة إلى ما قلنا فلم يصح الانتقال عنه لقصور اللفظ عن اللفظ الموضوع له في الباب وهذا معنى قولهم عقد خاص شرع بلفظ خاص وهذا كلفظ الشهادة لما كان موجبا بنفسه بقوله اشهد لم يقم اليمين مقامه وهو أن يقول احلف بالله لانه موجب لغيره فلم يصلح الاستعارة وكذلك عقد المفاوضة لا ينعقد إلا بلفظ المفاوضة عندكم كذلك حكى عن الكرخي لان غيره لا يؤدي معناه ولهذا لم يجوزوا رواية الاحاديث بالمعاني والجواب أن لفظ البيع والهبة وضع لملك الرقبة وملك الرقبة سبب لملك المتعة لان ملك المتعة يثبت به تبعا فإذا كان كذلك قام هذا الاتصال مقام ما ذكرنا من المجاورة التي هي طريق الاستعارة فصحت الاستعارة بهذا الاتصال بين السببين والحكمين والجواب عما قال أن هذه الأحكام من حيث هي غير محصورة جعلت فروعا وثمرات للنكاح وبنى النكاح على حكم الملك له عليها لانه أمر معقول معلوم ألا ترى أن المهر يلزم بالعقد لها ولو كان ما ذكرت اصلا وهو مشترك لما صح ايجاب العوض على أحدهما و لهذا كان الطلاق بيد الزوج لهذا كان الطلاق بيد الزوج لأنه هو المالك وإذا كان كذلك قلنا لما شرع هذا الحكم بلفظ النكاح والتزويج ولا يختصان بالملك وضعا ولغة فلان يثبت بلفظ التمليك والبيع والهبة وهي للتمليك وضعا اولى وانما صلح الايجاب بلفظ النكاح والتزويج وان لم يوضعا للملك لانهما اسمان جعلا علما لهذا الحكم والعلم يعمل وضعا لا بمعناه بمنزلة النص في دلائل الشرع وانما يعتبر المعاني لصحة الاستعارة على نحو ما يستعمل للقياس فلما ثبت الملك بهما وضعا صحت التعدية إلى ما هو صريح في التمليك فان قيل فهلا صحت استعارة النكاح للبيع والمناسبة التي ذكرتم قائمة لانها تقوم بالطرفين جميعا لا محالة لا يناسب الشيء غيره إلا وذلك يناسبه كالاخوين قيل له الاتصال من هذا الوجه على نوعين أحدهما اتصال الحكم بالعلة (1/80)
والثاني اتصال الفرع بما هو سبب محض ليس بعلة وضعت له فالأول يوجب الاستعارة من الطرفين لان العلة لم يشرع إلا لحكمها والحكم لا يثبت إلا بعلته فاستوى الاتصال فعمت الاستعارة ولهذا قلنا فيمن قال أن ملكت عبدا فهو حر فملك نصف عبد ثم باعه ثم ملك النصف الباقي لم يعتق حتى يجتمع الكل في ملكه ولو قال ان اشتريت عبدا عتق النصف الباقي وان لم يجتمع وفي العبد المعين يستويان وان قال عنيت بالملك الشراء كان مصدقا في الحكم والديانة وان قال عنيت بالشراء الملك كان مصدقا في الديانة لانه استعار الحكم لسببه في الفصل الأول واستعار السبب لحكمه في الثاني واما الاتصال الثاني فيصلح طريقا للاستعارة من أحد الطرفين وهو أن يستعار الأصل للفرع والسبب للحكم لان هذا الاتصال ثابت في حق الفرع لافتقاره ولا يصح أن يستعار الفرع للاصل لان هذا الاتصال في حق الأصل معدوم لاستغنائه وهذا كالجملة الناقصة إذا عطفت على الجملة الكاملة توقف أول الكلام على اخره لصحة آخره وافتقاره فأما الأول فتام في نفسه لاستغنائه وعلى هذا الأصل قلنا أن ألفاظ العتق تصلح أن يسعار للطلاق لانها وضعت لازالة ملك الرقبة وذلك يوجب زوال ملك المتعة تبعا لا قصدا على نحو ما قلنا فصحت الاستعارة وقال الشافعي رحمه الله يصح أن يستعار الطلاق للعتق لانهما في المعاني يتشابهان لان كل واحد منهما اسقاط بني على السراية واللزوم والمناسبة في المعاني من اسباب الاستعارة مثل المناسبة في الاسباب وقلنا لا يصح هذه الاستعارة لما قلنا في المسألة الأولى أن اتصال الفرع بالاصل في حق الأصل في حكم العدم ولا تصح الاستعارة للمناسبة في المعاني من الوجه الذي قلنا لان طريق الاستعارة من قبل المعاني المشاكلة في المعاني التي هي من قبيل الاختصاص الذي به يقوم الموجود فأما بكل معنى فلا وهذا الطريق من الخصم نظير طريقه في اوصاف النص أن (1/81)
التعليل بكل وصف صحيح من غير أثر خاص وقلنا نحن هو باطل لأن الابتلاء يسقط فكذلك الاستعارة يقع بمعنى له أثر الاختصاص ألا ترى أن العرب تسمي الشجاع أسد للاشتراك في المعنى الخاص وهو الشجاعة فأما بكل وصف فلا لأن ذلك يبطل الامتحان ويصير الموجودات في الأحكام كلها متناسبة ولا مناسبة بينهما من هذا الوجه لأن معنى الطلاق ما وضع له اسمه وما احتمله محله وهو رفع القيد لأن الاطلاق عبارة عنه والنكاح لا يوجب حقيقة الرق ولا يسلب المالكية وإنما يوجب قيدا فلا يحتمل إلا إطلاق القيد وأما الاعتاق فإثبات القوة الشرعية لأن ذلك معناه لغة يقال عتق الطير إذا قوى وطار عن وكره ومنه عتاق الطير ويقال عتقت البكر إذا أدركت وهذا شائع في كلام العرب وكذلك الرق ثابت على الكمال وسلطان المالكية ساقط فصبح الاعتاق إثباتا وليس بين إزالة القيد لتعمل القوة الشرعية عملها وبين إثباتها بعد العدم مشابهة كما ليس بين احياء الميت وبين إطلاق الحي مشابهة فما هذا إلا كمن استعار الحمار للذكي والأسد للجبان فإن قيل اليس لا يصح أن يستعار البيع للإجازة كما لا يستعار الإجارة للبيع وملك المنفعة تابع لملك الرقبة قيل له قد قال بعض مشايخنا أن البيع لا ينعقد بلفظ الإجارة والإجارة ينعقد به وذلك يتصور في الحر تقول بعت نفسي منك شهرا بدرهم لعمل كذا وهذا جائز فأما إذا قال بعت منك منافع هذه الدار شهرا بكذا لم يجز كذا ذكره في أول كتاب الصلح وهذا ليس لفساد الاستعارة لكن لفساد في المحل لأن المنفعة لا يصلح محلا للإضافة لأن ذلك معدوم ليس في مقدور البشر حتى لو أضاف إليها الإجارة لم يجز فكذلك ما يستعار لها ولكن العين يقام مقامها في حق الإضافة في الأصل فكذلك فيما يستعار لها وصار هذا كالبيع يستعار للنكاح في غير محله وهي المحرم من النساء فيثبت أن فساده الإضافة إلى غير محله ومن أحكام هذا القسم أيضا المجاز حلف عن الحقيقة في حق التكلم لا في حق الحكم عند أبي حنيفة (1/82)
رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو خلف عن الحكم بيانه فيمن قال لعبده وهو أكبر سنا منه هذا ابني لم يعتق عندهما لأن هذا الكلام لم ينعقد لما وضع له أصلا فصار لغوا لا حكم له فلا يجب العمل بمجازه لأنه خلف عنه في إثبات الحكم ومن شرط الخلف أن ينعقد السبب للأصل على الاحتمال وامتنع وجوده بعارض كمن حلف ليمسن السماء أن اليمين انعقدت للبر لاحتمال وجوده فانعقدت للكفارة خلفا عنه فأما الغموس فلم ينعقد للحكم الأصلي فلا ينعقد لخلفه وهذا نظير مسألة الغموس وقال أبو حنيفة رحمه الله أن المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم لا في الحكم بل هو في الحكم أصل ألا ترى أن العبارة تتغير به دون الحكم فكان تصرفا في التكلم فتشترط صحة الأصل من حيث انه مبتدأ وخبر موضوع للإيجاب بصيغته وقد وجد ذلك فإذا وجد وتعذر العمل بحقيقته وله مجاز متعين صار مستعار الحكمة بغير نية كالنكاح بلفظ الهبة وقالا لفظ الهبة ينعقد لحكمه الأصلي في الحرة لأن احتمال بيع الحرة وهبتها مثل احتمال مس السماء وأما هذا فمستحيل بمرة وقال أبو حنيفة رحمه الله هذا تصرف في التكلم فلا يتوقف على احتمال الحكم كالاستثناء فإن من قال لامرأته أنت طالق ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين أنه تقع واحدة ذكره في المنتقى وإيجاب ما زاد على الثلث من طريق الحكم باطل لكن من طريق التكلم صحيح والاستثناء تصرف في التكلم بالمنع فصح فكذلك هذا لما كان تصرفا في التكلم صحت الاستعارة به لحكم حقيقته وان لم ينعقد لإيجاب تلك الحقيقة ومن حكم الحقيقة عتقه من حين ملكه فجعل إقرارا به فعتق في القضاء بخلاف النداء لأنه لاستخصار المنادى بصورة الاسم لا بمعناه فإذا لم يكن المعنى مطلوبا لم يجب الاستعارة لتصحيح معناه بخلاف قوله يا حر فإنه يستوي نداؤه وخبره لأنه موضوع للتحرير فصار عينه قائما مقام معناه فصار المعنى مطلوبا بكل حال ومن حكم هذا الباب أن العمل بالحقيقة (1/83)
متى أمكن سقط المجاز لأن المستعار لا يزاحم الأصل وذلك مثل قولنا في الإقراء أنها الحيض لأن القرء للحيض حقيقة وللطهر مجاز من قبل أنه مأخوذ من الجمع وهو معنى حقيقة هذه العبارة لغة وذلك صفة الدم المجتمع فأما الطهر فإنما وصف به بالمجاورة مجازا ولأن معنى القرء الانتقال يقال قراء النجم إذا انتقل والانتقال بالحيض لا بالطهر فصارت الحقيقة أولى وكذلك العقد لما ينعقد حقيقته وللعزم مجاز وكذلك النكاح للجمع في لغة العرب على ما عرف الاجتماع في الوطئ ويسمى العقد به مجازا لأنه سببه حتى يسمى الوطؤ جماعا فكانت الحقيقة أولى وأمثلة هذا أكثر من أن يحصى ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في الدعوى في رجل له أمة ولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فقال المولى أحد هؤلاء ولدي ثم مات قبل البيان أنه يعتق من كل واحد ثلثة ولا يعتبر ما يصيب كل واحد من قبل أمه حتى يعتق الثالث كله ونصف الثاني كما قال أبو يوسف رحمه الله لأن إصابته من قبل أمه في مقابلة إصابته من قبل نفسه بمنزلة المجاز من الحقيقة وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى وإذا كانت الحقيقة متعذرة أو مهجورة صير إلى المجاز بالإجماع لعدم المزاحمة أما المتعذر فمثل الرجل حلف لا يأكل من هذه النخلة أو الكرمة انه يقع على ما يتخذ منه مجازا بخلاف ما إذا حلف لا يأكل من هذه الشاة أو من هذا اللبن أو من هذا الرطب فإنه يقع على عينه لأن الحقيقة قائمة وكذلك إذا حلف لا يأكل من هذا الدقيق وقع على ما يتخذ منه لأن الحقيقة متعذرة وكذلك لو حلف لا يشرب من هذا البئر لم يقع على الكرع وهو حقيقة لما قلنا واختلفوا فيما إذا أكل عين الدقيق أو تكلف فكرع من البئر فقيل لما كان متعذرا لم يكن مرادا فلا يحنث وقيل بل الحقيقة لا تسقط بحال فيحنث والأول أشبه لأن أصحابنا قالوا فيمن حلف لا ينكح فلانة وهي أجنبية أنه يقع على العقد فإن زنى بها لم يحنث فاسقطوا حقيقته واما المهجورة فمثل من حلف لا يضع قدمه في دار فلان أن الحقيقة مهجورة (1/84)
والمجاز هو المتعارف وهو الدخول فحنث كيف دخل ومثاله أن التوكيل بالخصومة صرف إلى جواب الخصم مجازا فيتناول الانكار والإقرار بإطلاقه لأن الحقيقة مهجورة شرعا والمهجور شرعا مثل المهجور عادة ألا ترى أن من حلف لا يتكلم هذا الصبي لم يتقيد بصباه لأن هجران الصبي مهجور شرعا وعلى هذه الجملة يخرج قولهم في رجل قال لعبده ومثله يولد لمثله وهو معروف النسب من غيره هذا ابني انه يعتق عملا بحقيقته دون مجازه لأن ذلك ممكن فالنسب قد يثبت من زيد ويشتهر من عمرو فيكون المقر مصدقا في حق نفسه وإليه اشار محمد رحمه الله في الدعوى والعتاق أن الأم تصير أم ولد له وقال في الجامع في عبد له ابن ولابنه ابنان فقال المولى في صحته أحد هؤلاء ولدي ثم مات وكلهم يصلح ابنا له انه يعتق من الأول ربعه ومن الثاني ثلثه ومن كل واحد من الآخرين ثلاثة أرباعه وعلى قياس ذلك الجواب لو كان لابن العبد ابن واحد وكلهم يولد لمثله انه يعتق من الأول ثلثه ومن الثاني نصفه ومن الثالث كله لاحتمال النسب ولو كان تحرير العتق من كل واحد ثلثه وأما في الأكبر سنا منه فلأبي حنيفة رحمه الله طريقان أحدهما أنه إقرار بالحرية فيجب أن يصير مقرا بحق الأم أيضا لأنه يحتمل الإقرار والثاني أنه تحرير مبتداء من قبل أن الإقرار بالنسب لو ثبت ثبت تحريرا مبتدأ حتى قلنا في كتاب الدعوى في رجلين ورثا عبدا ثم ادعى أحدهما أنه ابنه غرم لشريكه كأنه أعتقه لأن ثبوت النسب مضاف إلى خبره لأن المخبر به قائم بخبره فإذا كان كذلك جعل مجازا عن التحرير وحق الأم لا يحتمل الوجود بابتداء تصرف المولى لأنه ليس في وسع البشر إثبات أمومية الولد قولا لأنها من حكم الفعل فلم يثبت بدونه وقد يتعذر الحقيقة والمجاز معا إذا كان الحكم ممتنعا لأن الكلام وضع لمعناه فيبطل إذا (1/85)
استحال حكمه ومعناه وذلك أن يقول الرجل لامرأته هذه بنتي وهي معروفة النسب وتولد لمثله أو أكبر سنا منه فإن الحرمة لا تقع به أبدا عندنا خلافا للشافعي رحمه الله لأن الحقيقة في الأكبر سنا منه متعذر وفي الأصغر سنا تعذر إثبات الحقيقة مطلقا لأنه مستحق ممن اشتهر منه نسبها وفي حق المقر متعذر أيضا في حكم التحريم لأن التحريم الثابت بهذا الكلام لو صح معناه مناف للملك فلم يصلح حقا من حقوق الملك وكذلك العمل بالمجاز وهو التحريم في الفصلين متعذر لهذا العذر الذي أبليناه فلا يمكن أن يجعل النسب ثابتا في حق المقر بناء على إقراره لأن الرجوع عنه صحيح والقاضي كذبه ههنا فقام ذلك مقام رجوعه بخلاف العتاق لأن الرجوع عنه لا يصح ومن حكم هذا الباب أن الكلام إذا كانت له حقيقة مستعملة ومجاز متعارف فالحقيقة أولى عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله العمل بعموم المجاز أولى وهذا يرجع إلى ما ذكرنا من الأصل أن المجاز عندهما خلف عن الحقيقة في الحكم وفي الحكم للمجاز رجحان لأنه ينطلق على الحقيقة والمجاز معا فصار مشتملا على حكم الحقيقة فصار أولى ومن أصل أبي حنيفة انه خلف في التكلم دون الحكم فاعتبر الرجحان في التكلم دون الحكم فصارت الحقيقة أولى مثاله من حلف لا يأكل من هذه الحنطة يقع على عينها دون ما يتخذ منها عند أبي حنيفة رحمه الله لما قلنا وعندهما يقع على مضمونها على العموم مجازا وكذلك إذا حلف لا يشرب من الفرات يقع على الكرع خاصة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يقع على شرب ماء مجاور الفرات وذلك لا ينقطع بالأواني لأنها دون النهر في الإمساك باب جملة ما يترك به الحقيقة
وهو خمسة أنواع قد تترك بدلالة الاستعمال والعادة وقد تترك بدلالة (1/86)
اللفظ في نفسه وقد تترك بدلالة سياق النظم وقد تترك بدلالة ترجع إلى المتكلم وقد تترك بدلالة في محل الكلام أما الأول فمثل الصلاة فإنها اسم للدعاء قال الله تعالى وصل عليهم أي ادع ثم سمى بها عبادة معلومة مجازا لما إنها شرعت للذكر قال الله تعالى وأقم الصلاة لذكري وكل ذكر دعاء وكالحج فإنه قصد في اللغة فصار اسما لعبادة معلومة مجازا لما فيه من قوة العزيمة والقصد بقطع المسافة وكذلك نظائرها من العمرة والزكاة حتى صارت الحقيقة مهجورة وإنما صار هذا دلالة على ترك الحقيقة لأن الكلام موضوع لاستعمال الناس وحاجتهم فيصير المجاز باستعمالهم كالحقيقة ومثاله ما قال علماؤنا رحمهم الله فيمن نذر صلاة أو حجا أو المشي إلى بيت الله أو أن يضرب بثوبه حطيم الكعبة أن ذلك ينصرف إلى المجاز المتعارف ومثاله كثير وقالوا فيمن حلف لا يأكل رأسا أنه يقع على المتعارف استحسانا على حسب ما اختلفوا ويسقط غيره وهو حقيقة وكذلك لو حلف لا يأكل بيضا أنه يختص ببيض الأوز والدجاجة استحسانا ولو حلف لا يأكل طبيخا أو شواء انه يقع على اللحم خاصة استحسانا وكل عام سقط بعضه كان شبيها بالمجاز على ما سبق وهذا ثابت بدلالة العادة لا غير وأما الثابت بدلالة اللفظ في نفسه فمثل قوله حلف لا يأكل لحما أنه لا يقع على السمك وهو لحم في الحقيقة لكنه ناقص لأن اللحم يتكامل بالدم فما لا دم له قاصر من وجه فخرج عن مطلقه بدلالة اللفظ وكذلك قول الرجل كل مملوك لي حر له يتناول المكاتب وكل امرأة لي طالق لا يتناول المبتوتة المعتدة لما قلنا فصار مخصوصا وللمخصوص شبه بالمجاز ومن هذا القسم ما ينعكس وذلك مثل رجل حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله بأكل الرطب والرمان والعنب وقالا يحنث لأن الاسم مطلق فيتناول الكامل منه وقال أبو حنيفة الفاكهة اسم للتوابع لأنه من التفكه مأخوذ وهو التنعم (1/87)
قال الله تعالى انقلبوا فكهين أي ناعمين وذلك أمر زائد على ما يقع به القوام وهو الغذاء فصار تابعا والرطب والعنب قد يصلحان للغذاء وقد يقع بهما القوام والرمان قد يقع به القوام لما فيه من معنى الأدوية وإذا كان كذلك كان فيها وصف زائد والاسم ناقص مقيد في المعنى فلم يتناول الكامل وكذلك طريقه فيمن حلف لا يأكل إداما انه يقع على ما يتبع الخبز لأن الإدام اسم للتابع فلم يجز أن يتناول ما هو أصل من وجه وهو اللحم والجبن والبيض وعند محمد يحنث في ذلك كما في المسألة الأولى وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان في هذه المسألة واما الثابت بسياق النظم فمثل قول الله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا تركت حقيقة الأمر والتخيير بقوله عز و جل إنا أعتدنا للظالمين نارا وحمل على الإنكار والتوبيخ مجازا ومثاله ما قال محمد رحمه الله في السير الكبير في الحربى إذا استأمن مسلما فقال له أنت آمن كان أمانا فإن قال أنت آمن ستعلم ما تلقى لم يكن أمانا ولو قال انزل إن كنت رجلا لم يكن أمانا ولو قال لرجل طلق امرأتي إن كنت رجلا أو إن قدرت أو اصنع في مالي ما شئت إن كنت رجلا لم يكن توكيلا ولو قال رجل لرجل لي عليك ألف درهم فقال الرجل لك علي ألف درهم ما أبعدك لم يكن إقرارا وصار الكلام للتوبيخ بدلالة سياق نظمه وأما الثابت بدلالة من قبل المتكلم فمثل قول الله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك انه لما استحال منه الأمر بالمعصية والكفر حمل على إمكان الفعل وإقداره عليه مجازا لأن الأمر للإيجاب فكان من المعنيين اتصال ومثاله من دعى إلى غذاء فحلف لا يتغذى انه يتعلق به لما في غرض المتكلم من بناء الجواب عليه وكذلك امراة قامت لتخرج فقال لها زوجها أن خرجت فأنت طالق انه يقع على الفور لما قلنا ومثاله كثير واما الثابت بدلالة محل الكلام فمثل قوله تعالى وما يستوي الأعمى والبصير (1/88)
سقط عمومه وذلك حقيقة لان محل الكلام وهو المخبر عنه لا يحتمله لان وجوه الاستواء قائمة فوجب الاقتصار على ما دلت عليه صيغة الكلام وهو التغاير في البصر وكذلك كاف التشبيه لا يوجب العموم لما قلنا من قيام المغايرة من وجوه كثيرة حتى إذا قيل زيد مثلك لم يثبت عمومه إلا أن يقبل المحل العموم مثل قول علي رضي الله عنه في أهل الذمة إنما بذلوا الجزية ليكون دماؤهم كدمائنا واموالهم كأموالهم فان هذا عام عندنا لان المحل يحتمله ومن هذا الباب قول النبي عليه السلام انما الاعمال بالنيات ورفع عن امتي الخطأ والنسيان سقطت حقيقته لان المحل لا يحتمله من قبل أن غير الخطأ غير مرفوع بل هو متصور فسقط حقيقة وصار ذكر الخطأ والعمل مجازا عن حكمه وموجبه وموجبه نوعان مختلفان أحدهما الثواب في الاعمال التي تفتقر إلى النية والمأثم في الحرمات والثاني الحكم المشروع فيه من الجواز والفساد وغير ذلك وهذا أن معنيان مختلفان ألا ترى أن الجواز والصحة يتعلق بركنه و شرطه والثواب أو المأثم يتعلق بصحة عزيمته فان من توضاء بما نجس ولم يعلم حتى صلى ومعنى على ذلك ولم يكن مقصرا لم يجز في الحكم لفقد شرطه واستحق الثواب لصحة عزيمته وإذا صارا مختلفين صار الاسم بعد صيرورته مجازا مشتركا فسقط العمل به حتى يقوم الدليل على أحد الوجهين فيصير مأولا وكذلك حكم المأثم على هذا فصار هذا كاسم المولى والقرء وساير الاسماء المشتركة ومن الناس من ظن أن التحريم المضاف إلى الاعيان مثل المحارم والخمر مجاز لما هو من صفات الفعل فيصير وصف العين به مجازا وهذا غلط عظيم لأنه التحريم إذا أضيف إلى العين كان ذلك إمارة لزومه وتحققه فكيف يكون مجازا لكن التحريم نوعان تحريم يلاقي نفس الفعل مع كون المحل قابلا كأكل مال الغير والنوع الثاني أن يخرج المحل في الشرع من أن يكون قابلا لذلك الفعل فينعدم الفعل (1/89)
من قبل عدم محله فيكون نسخا ويصير الفعل تابعا من هذا الوجه فيقام المحل مقام الفعل فينسب التحريم اليه ليعلم أن المحل لم يجعل صالحا له وهذا في غاية التحقيق من الوجه الذي يتصور في جانب المحل لتوكيد النفي فأما أن يجعل مجازا ليصير مشروعا بأصله فغلط فاحش ومما يتصل بهذا القسم حروف المعاني فإنها تنقسم إلى حقيقة ومجاز وشطر من مسائل الفقه مبنى على هذه الجملة وهذا الباب لبيان ما يتصل بها من الفروع والله اعلم باب حروف المعاني
ومن هذه الجملة حروف العطف وهي اكثرها وقوعا واصل هذا القسم الواو وهي عندنا لمطلق العطف من غير تعرض لمقارنة ولا ترتيب وعلى هذا عامة أهل اللغة وأئمة الفتوى وقال بعض أصحاب الشافعي أن الواو يوجب الترتيب حتى قالوا في قول الله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق يوجب الترتيب واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه و سلم بدا بالصفاء في السعي وقال تبدأ يما بدأ الله عز و جل يريد به قوله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله ففهم وجوب الترتيب ووجوب الترتيب بقوله تعالى اركعوا واسجدوا هذا حكم لا يعرف إلا باستقراء كلام العرب وبالتأمل في موضوع كلامهم كالحكم الشرعي إنما يعرف من قبل اتباع الكتاب والسنة والتأمل في أصول الشرع وكلاهما حجة عليه ودليل لما قلنا أما الأول فإن العرب تقول جاءني زيد وعمرو وفيفهم منه اجتماعهما في المجيء من غير تعرض للقرآن أو الترتيب في المجيء ولان الفاء يختص بالأجزئة ولا يصلح فيها الواو حتى أن من قال لامراته أن دخلت الدار وانت طالق طلقت في الحال ولو احتمل الواو الترتيب لصلح للجزاء كالفاء وقد صارت الواو للجمع في قول الناس جاءني الزيد وان اصله جاءني زيد (1/90)
وزيد وزيد وقالوا لا تآكل السمك وتشرب البن معناه لا تجمع بينهما من غير تعرض لمقارنة أو ترتيب في الوجود ولو استعمل الفاء مكانة لبطل المراد ومثله قول الشاعر ... لاتنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ...
أي لا تجمع بينهما فهذه البيان الوضع وأما الثاني فلان كلام العرب أسماء وأفعال وحروف والأصل في كل قسم منها أن يكون موضوعا لمعنى خاص كذلك التكرار وقد وجدنا حروف العطف وغيرها موضوعة لمعان يتفرد كل قسم بمعناه فالفاء للترتيب ومع للقرآن وثم للتعقيب والتراخي فلو كان الواو للترتيب لتكررت الدلالة وليس ذلك بأصل لكن الواو لما كانت أصلا في الباب كان ذلك دلالة على أنها وضعت لمطلق العطف على احتمال كل قسم من اقسامه من غير تعرض لشيء منها ثم انشعبت الفروع إلى سائر المعاني وهذا كما وضع لكل جنس اسم مطلق مثل الانسان والتمر ثم وضعت لانواعها أسماء على الخصوص وصارت الواو فيما قلنا نظير اسم الرقبة في كونه مطلقا غير عام ولا مجمل ولهذا قلنا أن حكم النص في آية الوضوء التحصيل من غير تعرض لمقارنة أو ترتيب وقد ظن بعض اصحابنا أن الواو للمقارنة وليس كذلك وزعم بعضهم أنها عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله للمقارنة لانهما قالا فيمن قال لامرآته قبل الدخول بها أن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق إنها إذا دخلت طلقت ثلثا وانها عند أبي حنيفة رحمه الله تطلق واحدة فدل انه جعلها للترتيب وليس كذلك بل اختلافهم راجع إلى ذكر الطلقات متعاقبة يتصل الأول بالشرط على التمام والصحة ثم الثاني والثالث ما موجبة فقال أبو حنيفة رحمه الله موجبه الافتراق لان الثاني اتصل بالشرط بواسطة والثالث بواسطتين والاول بلا واسطة فلا يتغير هذا الأصل بالواو لانه لا يتعرض (1/91)
للقران وقالا موجبه الاجتماع والاتحاد لان الثاني جملة ناقصة فشاركت الأول وهو في الحال تكلم بالطلاق وليس بطلاق فصح التحصيل والترتيب في التكلم لا في صيرورته طلاقا كما إذا حصل التعليق بشروط يتخللها ازمنة كثيرة فان الترتيب لا يجب به وإذا كان موجب الكلام ما قلنا لم يتغير بالواو لانها لا تتعرض للترتيب لا محالة ولا توجبة فلا يترك المقيد بالمطلق وإذا تقدمت الاجزية فقد اتحد حال التعليق فصار موجب الكلام الاجتماع والاتحاد فلم يترك بالواو ولما قلنا فان قيل فقد قال اصحابنا فيمن قال لامرته انت طالق وطالق وطالق قبل الدخول إنها تبين بواحدة وهذا من باب الترتيب وقال في النكاح من الجامع فيمن زوج امتين من رجل بغير اذن مولاهما وبغير اذن الزوج ثم اعتقهما المولى معا انه لا يبطل نكاح واحدة منهما ولو اعتقهما في كلمتين منفصلتين بطل نكاح الثانية فان قال هذه حرة وهذه حرة متصلا بواو العطف بطل نكاح الثانية وهذا أيضا من باب الترتيب وقال في هذا الباب فيمن زوج رجلا اختين في عقدتين بغير اذن الزوج فبلغه فأجازهما معا بطلا وان جازه متفرقا بطل الثاني وان قال اجزت نكاح هذه وهذه بطلا كأنه قال اجزتهما وهذا من باب المقارنة وقال في كتاب الإقرار من الجامع فيمن هلك عن ثلاثة اعبد قيمتهم سواء وعن ابن لا وارث له غيره فقال الابن اعتق أبي في مرض موته هذا وهذا وهذا فان اقر به في كلام متصل عتق من كل واحد ثلثه وإن سكت فيما بين ذلك عتق الأول ونصف الثاني وثلث الثالث هذا من باب القران قيل له أما في المسئلة الأولى فقد قال مالك بن انس انه تقع الثلث وجعلها للقران لكنه غلط لما قدمنا والواو للعطف المطلق ولذلك لم يقع الثاني لان الأول وقع قبل التكلم بالثاني لما لم يكن الكلام نصا على المقارنة ولم يقف على التكلم بالباقي فسقطت ولايته لفوات محل (1/92)
التصرف لا لخلل في العبارة وكذلك في مسئلة انكاح الامتين لان عتق الأولى يبطل محلية الوقف في حق الثانية لانه لا حل للامة في مقابلة الحرة حال التوقف فبطل الثاني قبل التكلم بعتقها ثم لم يصح التدارك لفوات المحل في حكم التوقف ولان الواو لا تتعرض للمقارنة فأما في نكاح الأختين فان صدر الكلام توقف على اخره لا لاقتضاء واو العطف لكن لان صدر الكلام وضع لجواز النكاح وإذا اتصل به آخره سلب عنه الجواز فصار آخره في حق اوله بمنزلة الشرط والاستثناء في قول الرجل انت طالق ان شاء الله وصدر الكلام يتوقف عليه بشرط الوصل لما نبين في باب البيان أن شاء الله فكذلك هذا وهذا لا يوجد في قول الرجل انت طالق وطالق وطالق قبل الدخول لان صدر الكلام لا يتغير بآخره فلم يتوقف وكذا في مسئلة انكاح الامتين لا يتغير صدور الكلام بآخره لان عتق الثانية ان ضم إلى الأول لم يتغير نكاح الأولى عن الصحة إلى الفساد وعن الوجود إلى العدم وكذلك في مسئلة الإقرار صدر الكلام يتغير بآخره الا ترى أن موجب صدره عتقه بلا سعاية وإذا انضم الآخر الى الأول تغير الصدر عن عتق إلى رق عند أبي حنيفة رحمه الله لان المستسعى مكاتب عند أبي حنيفة وعندهما يتغير عن براءة إلى شغل بدين السعاية فلذلك وقف صدره على اخره ولهذا قلنا أن قول محمد في الكتاب وينوي من عن يمينه من الرجال والنساء والحفظة انه لا يوجب ترتيبا وكذلك قوله أن الصفا والمروة لا يوجب ترتيبا أيضا ألا ترى أن المراد بالآية إثبات انهما من الشعائر ولا يتصور فيه الترتيب وإنما ثبت السعي بقوله تعالى أن يطوف بهما غير ان السعي لا ينفك عن ترتيب والتقديم في الذكر يدل على قوة المقدم ظاهرا وهذا يصلح للترجيح فرجح به فصار الترتيب واجبا بفعله لا نبض الآية وهذا كما قال اصحابنا رحمهما الله في الوصايا بالقرب النوافل انه يبدا بما بدا (1/93)
به الميت لان ذلك دلالة على قوة الاهتمام وصلح للترجيح فأما قول الرجل لفلان على مائة ودرهم ومائة وثوب ومائة وشاة ومائة وعبد فليس ينثني على حكم العطف بل على اصل اخر يذكر في باب البيان أن شاء الله وقد تدخل الواو على جملة كاملة بخبرها فلا تجب به المشاركة في الخبر مثل قول الرجل هذه طالق ثلاثا وهذه طالق أن الثانية تطلق واحدة فسمى بعضهم هذه واو الابتداء أو واو النظم وهذا افضل من الكلام وانما هي للعطف على ما هو اصلها لكن الشركة في الخبر كانت واجبة لافتقار الكلام الثاني إذا كان ناقصا فأما إذا كان تاما فقد ذهب دليل الشركة ولهذا قلنا أن الجملة الناقصة تشارك الأولى فيما تم به الأولى بعينه حتى قلنا في قول إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق أن الثاني يتعلق بذلك الشرط بعينه ولا يقتضي الاستبداد به كأنه إعادة وانما يصار إلى هذه الضرورة استحالة الاشتراك فأما عند عدم استحالة الاشتراك في الخبر الأول هو الأصل مثل قولك جاءني زيد وعمرو ان الثاني يختص بمجيء على حدة لأن الاشتراك في مجيء واحد لا يتصور فصار الثاني ضروريا والأول أصليا ومن عطف الجملة قول الله تعالى وأولئك هم الفاسقون في قصة القذف ومثل قوله تعالى يختم على قلبك ويمح الله الباطل ومثل قوله تعالى والراسخون في العلم وقد يستعار الواو للحال وهذا معنى يناسب معنى الواو لأن الإطلاق يحتمله قال الله عز و جل حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها أي إذا جاؤها وأبوابها مفتوحة واختلف مسائل أصحابنا على هذا الأصل فقالوا في رجل قال لعبده أد الي ألفا وأنت حر أن الواو للحال حتى لا يعتق إلا بالأداء وكذلك من قال لحربى انزل وانت آمن لم يأمن حتى ينزل فيكون الواو للحال وقالوا فيمن قال لامرأته أنت طالق وأنت مريضة أو وأنت تصلين أو مصلية انه لعطف الجملة حتى تقع الطلاق في الحال على (1/94)
احتمال الحال حتى إذا نوى بها واو الحال تعلق الطلاق بالمرض والصلاة وقالوا في المضاربة إذا قال رجل لرجل خذ هذا المال مضاربة واعمل به في البز ان هذا الواو لعطف الجملة للحال حتى لا تصير شرطا بل تصير مشهورة ويبقى المضاربة عامة واختلفوا في قول المرأة لزوجها طلقني ولك ألف درهم فحمله أبو يوسف ومحمد على المعاوضة حتى إذا طلقها وجب له الألف وحمله أبو حنيفة رحمه الله على واو عطف الجملة حتى إذا طلقها لم يجب له شيء ولأبي يوسف ومحمد طريقان أحدهما أن الواو قد يستعار للباء كما استعير له في باب القسم على ما نبين إن شاء الله عز و جل فحمل على هذا المجاز بدلالة حال المعاوضة لأن حال الخلع حال المعاوضة كما قيل في قول الرجل لآخر احمل هذا الطعام إلى منزلي ولك درهم انه يحمل على الباء أي بدرهم والثاني أن الواو للحال بدلالة حال المعاوضة أيضا ليصير شرطا وبدلا ونظيره قوله أد إلي الفا وانت حر وانزل وأنت آمن بخلاف خذ هذا المال واعمل به فإنه لا معنى للباء هنا وإنما حمل في مسألة الخلاف على الحال لدلالة المعاوضة ولم يوجد وكذلك في قوله أنت طالق وأنت مريضة وقال أبو حنيفة رحمه الله الواو في الحقيقة للعطف فلا تترك إلا بدليل ولا تصلح المعاوضة دلالة لأن ذلك في الطلاق أمر زائد ألا ترى أن الطلاق إذا دخله العوض كان يمينا من جانب الزوج فلم يستقم ترك الأصل بدلالة هي من باب الزوائد بخلاف الإجارة لأنها شرعت معاوضة أصلية كسائر البيوع وقولها ولك ألف ليست بصيغة الحال أيضا لأن الحال فعل أو اسم فاعل واما قوله أد ألفا وأنت حر فصيغته للحال وصدر الكلام غير مفيد إلا شرطا للتحرير فحمل عليه قوله أنت طالق مفيد بنفسه وقوله انت مريضة جملة تامة لا دلالة فيها على الحال لكنه يحتمل ذلك فصحت نيته واما قوله أد ألفا لا يصلح ضريبة فصلح (1/95)
دلالة على الحال وقوله واعمل به في باب المضاربة لا يصلح حالا للأخذ فبقى قوله خذ هذا المال مضاربة مطلقا وقوله انزل وأنت آمن فيه دلالة الحال لأن الأمان إنما يراد إعلاء الدين وليعاين الحربى معالم الدين ومحاسنه فكان الظاهر فيه الحال ليصير معلقا بالنزول إلينا والكلام يحتمل الحال واما الفاء فإنه للوصل والتعقيب حتى أن المعطوف بالفاء يتراخى عن المعطوف عليه بزمان وأن لطف هذا موجبه الذي وضع له ألا ترى أن العرب تستعمل الفاء في الجزاء لأنه مرتب لا محالة وتستعمل في أحكام العلل كما يقال جاء الشتاء فتأهب لأن الحكم مرتب على العلة ويقال أخذت كل ثوب بعشرة فصاعدا أي كان كذلك فازداد الثمن صاعدا مرتفعا ولما قلنا أن وجوه العطف منقسمة على صلاته فلا بد من أن يكون الفاء مختصا بمعنى هو موضوع له حقيقة وذلك هو التعقيب ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لآخر بعت منك هذا العبد بكذا فقال الآخر فهو حرانه قبول للبيع ولو قال هو حرا ووهو حر لم يجز البيع قال مشايخنا فيمن قال لخياط انظر إلى هذا الثوب أيكفيني قميصا فنظر فقال نعم فقال فاقطعه فقطعه فإذا هو لا يكفيه أنه يضمن كما لو قال فإن كفاني قميصا فاقطعه فقطعه فإذا هو لا يكفيه أنه يضمن ولذلك قالوا فيمن قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فدخلت الدار وهي غير مدخول بها أنه يقع على الترتيب فتبين بالأولى ولذلك اختص الفاء بعطف الحكم على العلل كما يقال أطعمته فأشبعته أي بهذا الإطعام وقال النبي عليه السلام لن يجزى ولد والده حتى يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه فدل ذلك على أن كونه معتقا حكم للشرى بواسطة الملك ولهذا قلنا فيمن قال إن دخلت هذه الدار فهذه الدار فعبدي حر أن الشرط أن يدخل (1/96)
الأخيرة بعد الأولى من غير تراخي وقد تدخل الفاء على العلل أيضا إذا كان ذلك مما يدوم فتصير بمعنى التراخي كما يقال أبشر فقد أتاك الغوث وقد نجوت ونظيره ما قال علماؤنا في المأذون فيمن قال لعبده أد إلى ألفا فأنت حر انه يعتق للحال وتقديره أد إلى ألفا فإنك قد عتقت لأن العتق دائم فأشبه المتراخي وقالوا في السير الكبير انزل فأنت آمن أنه آمن نزل أو لم ينزل لما قلنا فلم يجعل بمعنى التعليق كأنه أضمر الشرط لأن الكلام صح بدون الإضمار وإنما الإضمار ضروري في الأصل ولهذا قلنا فيمن قال لفلان على درهم فدرهم أنه يلزمه درهمان لأن المعطوف غير الأول ويصرف الترتيب إلى الوجوب دون الواجب أو يجعل مستعارا بمعنى الواو وقال الشافعي لزمه درهم لأن معنى الترتيب لغو فحمل على جملة مبتدأة لتحقيق الأول فهو درهم كما قال الشاعر
... والشعر لا يسطعيه من يظلمه ... يريد أن يعربه فيعجمه ...
وقوله ليبين لهم فيضل الله من يشاء إلا أن هذا لا يصلح إلا بإضمار فيه ترك الحقيقة والحقيقة أحق ما أمكن وأما ثم فللعطف على سبيل التراخي وهو موضوعه لختص بمعنى ينفرد به واختلف أصحابنا في أثر التراخي فقال أبو حنيفة رضي الله عنه هو بمعنى الانقطاع كأنه مستأنف حكما قولا بكمال التراخي وقال أبو يوسف ومحمد رحمة الله عليهما التراخي راجع إلى الوجود فأما في حكم التكلم فمتصل بيانه فيمن قال لامرأته قبل الدخول أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار قال أبو حنيفة رحمه الله الأول يقع ويلغو ما بعده كأنه سكت على الأول ولو قدم الشرط تعلق الأول ووقع الثاني ولغا الثالث كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق طالق طالق وقال أبو يوسف ومحمد يتعلقن جميعا وينزلن على الترتيب سواء قدم الشرط أو أخر ولو كانت مدخولا (1/97)
بها نزل الأول والثاني وتعلق الثالث إذا أخر الشرط وإذا قدمه تعلق الأول ونزل الباقي عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يتعلق الكل ذكره في النوادر وقد يستعار ثم بمعنى واو العطف مجازا للمجاورة التي بينهما قال الله تعالى ثم كان من الذين آمنوا ثم الله شهيد على ما يفعلون ولهذا قلنا في قول النبي صلى الله عليه و سلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر يمينه أنه يحمل على حقيقة لأن العمل به ممكن لأنا نعمل بحقيقة موجب الأمر فيجعل الكفارة واجبة بعد الحنث وروى فليكفر يمينه ثم ليأت بالذي هو خير فحملنا هذا على واو العطف لأن العمل بحقيقته غير ممكن وهو موجب الأمر لأن التكفير قبل الحنث غير واجب فكان المجاز متعينا تحقيقا لما هو المقصود وإذا صح بأن يستعار ثم للواو فالفاء به أولى لأن جوازه بالفاء أقرب ولهذا قال مشايخنا فيمن قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق ولم يدخل بها أن هذا على الاختلاف مثل ما اختلفوا في الواو إلا أن الحقيقة أولى فلذلك اخترنا الاتفاق في هذا وإذا قدم الجزاء بحرف الفاء فعلى هذا أيضا وأما بل فموضوع لاثبات ما بعده والإعراض عما قبله على سبيل التدارك يقال جاءني زيد بل عمرو ولهذا قال زفر رحمه الله فيمن قال لفلان على ألف درهم بل ألفان أنه يلزمه ثلاثة آلاف لأنه أثبت الثاني وأبطل الأول لكنه غير مالك إبطال الأول فلزماه كما لو قال لامرأته أنت طالق واحدة لا بل ثنتين إنها تطلق ثلاثا وقلنا نحن إنما وضعت هذه الكلمة للتدارك وذلك في العادات بأن ينفى انفراده ويراد بالجملة الثانية كما لها بالأولى وهذا في الإخبار ممكن كرجل يقول سنى ستون بل سبعون زيادة عشر على الأول فأما الإنشاء فلا يحتمل تدارك الغلط وقع ثلاث تطليقات حتى إذا قال كنت طلقت أمس امرأتي واحدة بل (1/98)
ثنتين أو لا بل ثنتين وقعت ثنتان لما قلنا ولهذا قلنا فيمن قال لامرأته أنت طالق واحدة لا بل ثنتين أو بل ثنتين ولم يدخل بها أنها تطلق واحدة لأنه قصد إثبات الثاني مقام الأول ولم يملك لأنها بانت ولهذا قالوا جميعا فيمن قال لامرأته قبل الدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة لا بل ثنتين أو بل ثنتين إنها إذا دخلت طلقت ثلاثا لان هذا لما كان لابطال الأول واقامة الثاني مقامه كان من قضيته اتصاله بذلك الشرط بلا واسطة لكن بشرط ابطال الأول ليس في وسعه ابطال الأول ولكن في وسعه افراد الثاني بالشرط ليتصل به بغير واسطة كأنه قال لا بل انت طالق ثنتين أن دخلت الدار فيصير كالحلف باليمينيين وهذا بخلاف العطف بالواو عند أبي حنيفة رحمه الله لو قال أن دخلت الدار فأنت طالق واحدة وثنتين ولم يدخل بها إنها تبين بالواحدة لان الواو للعطف على تقدير الأول فيصير معطوفا على سبيل المشاركة فيصير متصلا بذلك الشرط بواسطة ولا يصير منفردا بشرطه لان حقيقة الشركة في اتحاد الشراط فيصير الثاني متصلا به بواسطة الأول فقد جاء الترتيب و يتصل بهذا أن العطف متى تعارض له شبهان اعتبر اقواهما لغة فإن استويا اعتبر اقربهما مثاله ما قال في الجامع أنت طالق أن دخلت الدار لا بل هذه لامرأة أخرى أنه جعل عطفا على الجزاء دون الشرط لأن لو عطفناه على الشرط كان قبيحا لأنه ضمير مرفوع متصل غير مؤكد بالضمير المرفوع المنفصل وهو التاء في قوله دخلت وذلك قبيح قال الله تعالى اسكن أنت وزوجك الجنة فأكده وذلك أن الفاعل مع الفعل كشيء واحد وإذا كان ضميره لا يقوم بنفسه تأكد الشبه بالعدم فقبح العطف بخلاف ضمير المفعول لانه منفصل في الأصل لانه يتم الكلام بدونه على ما ذكرنا نظيره انت طالق أن ضربتك لا بل هذه ينصرف (1/99)
إلى الثانية فإذا عطفناه على الجزاء كان معطوفا على ضمير مرفوع منفصل وذلك احسن فلذلك قدمناه وأما إذا استويا فمثاله ما ذكرنا في الاقرار ان لفلان على ألف درهم إلا عشرة دراهم ودينار أن الدينار صار داخلا في الاستثناء وصار مشروطا مع العشرة لا مع الألف لما ذكرنا أن عطفه على كل واحدة منهما صحيح فصار ما جاوره اولى وأما لكن فقد وضع للاستدراك بعد النفي تقول ما جاءني زيد لكن عمرو فصار الثابت به إثبات ما بعده فأما نفي الأول فيثبت بدليله بخلاف كلمة بل غير أن العطف إنما يستقيم عند اتساق الكلام فإذا اتسق الكلام تعلق النفي بالاثبات الذي وصل به وإلا فهو مستأنف مثاله ما قال علماؤنا في الجامع في رجل في يده عبد فأقر انه لفلان فقال فلان ما كان لي قط لكنه لفلان آخر فإن وصل الكلام فهو للمقر له الثاني وان فصل يرد على المقر لأنه نفي عن نفسه فاحتمل أن يكون نفيا عن نفسه اصلا فيرجع إلى الأول ويحتمل أن يكون نفيا إلى غير الأول فإذا وصل كان بيانا أنه نفاه إلى الثاني وإذا فصل كان مطلقا فصار تكذيبا للمقر وقالوا في المقضى له بدار بالبينة إذا قال ما كانت لي قط لكنها لفلان وقال فلان أنه باعني بعد القضاء أو وهبني أن الدار للمقر له وعلى المقضى له القيمة للمقضى عليه لانه نفاها عن نفسه إلى الثاني ايضا حيث وصل به البيان إلا انه بالاسناد صار شاهدا على المقر له فلم تصح شهادته على ما بينا في شرح الجامع وقال في نكاح الجامع في امة تزوجت بغير اذن موليها بمائة درهم فقال المولى لا اجيز النكاح ولكن اجيزه بمائة وخمسين أو أن زدتني خمسين أن هذا فسخ للنكاح وجعل لكن مبتدأ لأن الكلام غير متسق لانه نفي فعل واثباته بعينه فلم يصلح للتدارك وفي قول الرجل لك على ألف درهم قرض فقال المقر له لا ولكنه غصب الكلام متسق فيصح الوصل لبيان انه نفي السبب لا لواجب واما أو فإنها تدخل (1/100)
بين اسمين أو فعلين فيتناول أحد المذكورين هذا موضوعها الذي وضعت له يقال جاءني زيدا أو عمرو أي أحدهما ولم يوضع للشك وليس الشك بأمر مقصود يقصد بالكلام وضعا لكنها وضعت لما قلنا فان استعملت في الخبر تناولت أحدهما غير معين فافضى الى الشك وإذا أستعملت في الأبتداء والأنشاء تناولت أحدهما للتخير لان الابتداء لا يحتمل الشك فعلمت أن الشك إنما جاء من قبل محل الكلام وعلى هذا قلنا في قول الرجل هذا حرا وهذا وهذه طالق أو هذه انه بمنزلة قوله احدكما وهذا الكلام أن شاء يحتمل الخبر فاوجب التخيير على احتمال أنه بيان حتى جعل البيان أن شاء من وجه واظهار من وجه على ما ذكرنا في مسائل العتاق في الجامع والزيادات ولهذا قلنا فيمن قال وكلت فلانا أو فلانا ببيع هذا العبد أنه صحيح ويبيع ايهما شاء لأن اوفى موضع الابتداء تخيير والتوكيل صحيح استحسانا وايهما باعه صح وكذلك إذا قال وكلت به أحد هذين وكذلك إذا قال بع هذا أو هذا انه صحيح ويبيع ايهما شاء لأن اوفى موضع الابتداء للتخيير والتوكيل أن شاء والتخيير لا يمنع الامتثال وقلنا في البيع والاجارة إذا دخلت اوفى المبيع اوفى الثمن فسد العقد إلا أن يكون من له الخيار معلوما في اثنين أو ثلاثة فيصح استحسانا لانه إذا لم يكن معلوما اوجب جهالة ومنازعة وإذا كان من له الخيار معلوما لم يوجب منازعة لكنه يوجب خطر فاحتمل في الثلث استحسانا وقال أبو يوسف ومحمد في المهر إذا دخله أو أن التخيير إذا كان مفيدا اوجب التخيير مثل قوله في الجامع تزوجتك على ألف حالة أو الفين إلى سنة أو ألف درهم أو مائة دينار أن للزوج أن يعطي أي المهرين شاء وإذا لم يفد التخيير مثل ألف أو الفين لزمه الاقل إلا أن يعطي الزيادة لان النكاح لما (1/101)
لم يفتقر إلى التسمية اعتبرت التسمية بالإقرار بالمال مفردا وبالوصايا وببدل الخلع والعتق والصلح عن القود وصار من يستفاد من جهته اولى بالبيان والتخيير لانه هو الموجب وقال أبو حنيفة رحمه الله يصار إلى مهر المثل لان الثابت بطريق التخيير وغير معلوم إلا بشرط الاختيار فلا ينقطع الموجب المتعين بخلاف العتق والخلع والصلح عن القود لانه لا يعارضه موجب متعين لانه جائز بغير عوض فأما النكاح فلا ينعقد إلا بمهر المثل وعلى هذا قلنا في قول الله تعالى فإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة أن الواجب واحد من هذه الجملة يتعين باختيار من طريق الفعل لما ذكرنا إنها ذكرت في موضع الانشاء فأوجب التخيير على احتمال الاباحة حتى إذا فعل الكل جاز فأما أن يكون الكل واجبا فلا على ما زعم بعض الفقهاء وكذلك قولنا في كفارة الحلق وجزاء الصيد فأما قوله تعالى أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فقد جعله بعض الفقهاء للتخيير فأوجبوا التخيير في كل نوع من انواع قطع الطريق وقلنا نحن هذه ذكرت على سبيل المقابلة بالمحاربة والمحاربة معلومة بأنواعها عادة بتخويف أو اخذ مال أو قتل أو قتل واخذ مال فاستغنى عن بيانها واكتفى باطلاقها بدلالة تنويع الجزاء فصارت أنواع الجزاء مقابلة بأنواع المحاربة فأوجب التفصيل والتقسيم على حسب احوال الجناية وتفاوت الاجزية وقد ورد بيان على هذا المثال بالسنة في حديث جبريل عليه السلام حين نزل بالحد على أصحاب أبي بردة على التفصيل فأما فيما سبق فلا أنواع للجناية على حسب اختلاف الاجزية فأوجب التخيير وهذا الان مقابلة الجملة بالجملة يوجب التقسيم لا محالة والجناية بأنواعها لا تقع إلا معلومة فكذلك الجزاء حتى قال أبو حنيفة (1/102)
رحمه الله فيمن اخذ المال وقتل أن الإمام بالخيار أن شاء قطعه ثم قتله أو صلبه وإن شاء قتله ابتداء أو صلبه لان الجناية يحتمل الاتحاد والتعدد فكذلك الجزاء ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فيمن قال لعبده ودابته هذا حرا وهذا انه باطل لانه اسم لاحدهما غير عين وذلك غير محل للعتق وقال أبو حنيفة رضي الله عنه هو كذلك لكن على احتمال التعيين حتى لزمه التعيين في مسئلة العبدين والعمل بالمحتمل اولى من الاهدار فجعل ما وضع لحقيقته مجازا عما يحتمله وان استحالت حقيقته كما ذكرنا من اصله فيما مضى وهما ينكران الاستعارة عند استحالة الحكم لان الكلام للحكم وضع على ما سبق ولهذا قلنا فمن قال هذا حرا وهذا وهذا أن الثالث يعتق ويخير بين الاوليين لان صدر الكلام تناول أحدهما عملا بكلمة التخيير والواو وتوجب الشركة فيما سيق له الكلام فصير عطفا على المعتق من الأولين كقوله أحدكما حر وهذا ثم قد يستعار هذه الكلمة للعموم بدلا له تقترن فيصير شبيها بواو العطف لا عينه فمن ذلك إذا استعملت في النفي صارت بمعنى العموم قال الله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا إي لا هذا ولا هذا أو قال أصحابنا في الجامع في رجل قال والله لا أكلم فلانا أو فلانا أن معناه فلانا ولا فلانا حتى إذا كلم أحدهما يحنث ولو كلمهما لم يحنث إلا مرة واحدة ولا خيار له في ذلك حتى أنه لو استعمل هذا في الإيلاء بانتا جميعا ووجه ذلك إن كلمة أو لما تناولت احد المذكورين كان ذلك نكرة وقد قامت فيها دلالة العموم وهو النفي على ما سبق فلذلك صار عاما ما إلا إنها اوجبت العموم على الأفراد لما أن الأفراد اصلها حتى إن من قال لا تطع فلانا أو فلانا فأطاع أحدهما كان عاصيا ولو قال وفلانا لم يكن عاصيا حتى يطيعهما وإذا حلف رجل لا يكلم فلانا وفلانا لم يحنث حتى يكلمهما ولو قال أو فلانا حنث إذا كلم (1/103)
أحدهما لان الواو للعطف على سبيل الشركة والجمع دون الأفراد ومن ذلك إذا استعملت في موضع الاباحة تصير عامة لان الاباحة دليل العموم فعمت بها النكرة كما يقال جالس الفقهاء والمحدثين أي أحدهما أو كليهما أن شئت وفرق ما بين التخيير والاباحة أن الجمع بين الامرين في التخيير يجعل المأمور مخالفا وفي الاباحة موافقا وانما يعرف الاباحة من التخيير بحال تدل عليه وعلى هذا قال اصحابنا في الجامع فيمن حلف لا يكلم أحدا إلا فلانا أو فلانا أن له أن يكلمهما جميعا وكذلك قال لا اقر بكن إلا فلانة أو فلانة فليس بمولى منهما وقالوا فيمن قال قد برىء فلان من كل حق لي قبله الا دراهم أو دنانير ان له أن يدعى المالين جميعا لان هذا موضع الاباحة فصار عاما ألا ترى انه استثنى من الخطر فكان إباحة وقال محمد رحمه الله بكل قليل او كثر على معنى الاباحة أي بكل شيء منه قليلا كان أو كثيرا وكذلك داخل فيها أو خارج أي داخلا أو خارجا ويجوز الواو فيهما وكذلك احكام هذه الكلمة في الأفعال ان دخلت في الخبر افضت إلى الشك وان دخلت في الابتداء أوجبت التخيير مثل قول الرجل والله لادخلن هذه الدار أو لادخلن هذه الدار أو لا ادخل هذه الدار أو لا ادخل هذه الدار أن له الخيار ولها وجه اخر هنا وهو أن يجعل بمعنى حتى أو إلا أن وموضع ذلك أن يفسد العطف لاختلاف الكلام ويحتمل ضرب الغاية وذلك مثل قول الله عز و جل ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أي حتى يتوب عليهم أو إلا أن في بعض الاقاويل لان العطف لم يحسن الفعل على اسم وللمستقبل على الماضي فسقطت حقيقته واستعير لما يحتمله وهو الغاية لان كلمة أو لما تناولت أحد المذكورين كان احتمال كل واحد منهما متناهيا بوجود صاحبه فشابه الغاية من هذا الوجه فاستعير للغاية والكلام يحتمله لانه للتحريم وهو يحتمل الامتداد وكذلك يقال (1/104)
والله افارقك أو تقتضينى حقى معناه حتى تقتضيني حقى أو لا أن تقتضيني حقى وهذا كثير في كلام العرب لا يحصى وعلى هذا قال اصحابنا فيمن قال والله لا ادخل هذه الدار وادخل هذه الدار الأخرى أن معناه حتى ادخل هذه فان دخل الأولى اولا حنث وان دخل الاخيرة أولا انتهت اليمين وتم البر لما قلنا أن العطف متعذر لاختلاف الفعلين من نفي واثبات والغاية صالحة لان أول الكلام حظر وتحريم فلذلك وجب العمل بمجازه والله اعلم باب حتى
هذه كلمة اصلها للغاية في كلام العرب هو حقيقة هذا الحرف لا يسقط ذلك عنه الا مجازا ليكون الحرف موضوعا لمعنى يخصه وقد وجدناها تستعمل للغاية لا يسقط عنها ذلك فعلمنا إنها وضعت له فأصلها كمال معنى الغاية فيها وخلوصها لذلك بمعنى إلى كقول الله عز و جل حتى مطلع الفجر وتقول اكلت السمك حتى رأسها أي إلى رأسها فانه بقي أي بقي الرأس وهذا على مثال ساير الحقايق ثم قد يستعمل للعطف لما بين العطف و الغاية من المناسبة مع قيام معنى الغاية تقول جاءني القوم حتى زيد ورأيت القوم حتى زيد فزيد إما افضلهم واما ارذلهم ليصلح غاية إلا ترى إلى قولهم استنت الفصال حتى القرعى فجعل عطفا هو غاية فكانت حقيقة قاصرة وعلى هذا اكلت السمكة حتى رأسها بالنصب أي اكلته ايضا وقد تدخل على جملة مبتدأة على مثال واو العطف إذا استعملت لعطف الجمل وهي غاية مع ذلك فان كان خبر المبتدأ مذكورا فهو خبره وإلا فيجب إثباته من جنس ما قبله تقول ضربت القوم حتى زيد غضبان فهذه جملة مبتدأة هي غاية معنى ومن ذلك اكلت السمكة حتى رأسها إلا أن الخبر غير مذكور (1/105)
هنا فيجب اثباته من جنس ما سبق على احتمال أن ينسب اليه أو إلى غير اعني حتى رأسها مأكول أو مأكول غيري ومواضعها في الأفعال أن يجعل غاية بمعنى إلى أو غاية هي جملة مبتدأة وعلامة الغاية أن يحتمل الصدر الامتداد وان يصلح الآخر دلالة على الانتهاء فإن لم يستقم فللمجازاة بمعنى لام كي وهذا إذا صلح الصدر سببا ولم يصلح الآخر غاية وصلح جزاء وهذا نظير قسم العطف من الاسماء فان تعذر هذا جعل مستعارا للعطف المحض وبطل معنى الغاية وعلى هذا مسائل اصحابنا في الزيادات ولهذه الجملة ما خلا المستعار المحض ذكر في كتاب الله تعالى قال الله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقال حتى تغتسلوا هي بمعنى إلى وكذلك حتى تستأنسوا ومثله كثير وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وقال وزلزلوا حتى يقول الرسول بالنصب على وجهين أحدهما إلى أن يقول الرسول فلا يكون فعلهم سببا لمقالة الرسول وينتهي فعلهم عند مقالته على ما هو موضوع الغايات إنها اعلام الانتهاء من غير اثر والثاني وزلزلوا لكي يقول الرسول فيكون فعلهم سببا لمقالته وهذا لا يوجب الانتهاء وقرىء حتى يقول بالرفع على معنى جملة مبتدأة أي حتى الرسول يقول ذلك فلا يكون فعلهم سببا ويكون متناهيا به وقال محمد في الزيادات في رجل قال لرجل عبدي حر ان لم اضربك حتى تصيح أو حتى تشتكي يدي أو حتى يشفع فلان أو حتى تدخل الليل أن هذه غايات حتى إذا قلع قبل الغايات حنث لان الفعل بطريق التكرار يحتمل الامتداد في حكم البر والكف عنه محتمله في حكم الحنث لا محالة وهذه الأمور دلالات الاقلاع عن الضرب فوجب العمل بحقيقتها فصار شرط الحنث الكف عنه قبل الغاية ولو قال عبدي حر ان لم آتك حتى تغذيني فأتاه فلم يغذه لم يحنث لان قوله حتى تغذيني لا يصلح دليلا على الانتهاء بل هو داع إلى (1/106)
زيادة الاتيان والاتيان يصلح سببا والغذاء يصلح جزاء فحمل عليه لان جزاء السبب غايته فاستقام العمل به فصار شرط بره فعل الاتيان على وجه يصلح سببا للجزاء بالغذاء وقد وجد ولو قال عبدي حران لم آتك حتى اتغذ عندك كان هذا للعطف المحض لان هذا الفعل احسان فلا يصلح غاية للاتيان ولا يصلح اتيان سببا لفعله ولا فعله جزاء لاتيان نفسه فإذا كان كذلك حمل على العطف المحض وكذلك أن لم آتك حتى اغذيك فصار كأنه قال أن لم آتك فاتغذ عندك حتى إذا أتاه فلم يتغذ ثم تغذى من بعد غير متراخ فقد بر وان لم يتغذ اصلا حنث وهذه استعارة لا يوجد لها ذكر في كلام العرب ولا ذكرها أحد من ائمة النحو واللغة فيما اعلم لكنها استعارة بديعة اقترحها اصحابنا على قياس استعارات العرب لان بين العطف والغاية مناسبة من حيث يوصل الغاية بالجملة كالمعطوف وقد استعملت بمعنى العطف مع قيام الغاية بلا خلاف فاستقام أن يستعار للعطف المحض إذا تعذرت حقيقته وهذا على مثال استعارات اصحابنا في غير هذا الباب وينبغي أن يجوز على هذا جاءني زيد حتى عمرو وهذا غير مسموع من العرب وإذا استعير للعطف استعير لمعنى الفاء دون الواو لأن الغاية تجانس التعقيب باب حروف الجر
إما الباء فلإلصاق هو معناه بدلالة استعمال العرب وليكون معنى تخصه هو له حقيقة ولهذا اصحبت الباء الاثمان فيمن قال اشتريت منك هذا العبد بكر من حنطة ووصفها أن الكر ثمن يصح الاستبدال به بخلاف ما إذا اضاف العقد إلى الكر فقال اشتريت منك كر حنطة ووصفها بهذا العبد أنه يصير سلما لا يصح إلا مؤجلا ولا يصح الاستبدال به (1/107)
لأنه إذا أضاف البيع إلى العبد فقد جعله أصلا والصقه بالكر فصار الكر شرطا يلصق به الأصل وهذا أحد الأثمان التي هي شروط واتباع ولذلك قلنا في قول الرجل إن أخبرتني بقدوم فلان فعبدي حر انه يقع على الحق لان ما صحبه الباء لا يصلح مفعول الخبر
ولكن مفعول الخبر محذوف بدلالة حرف الإلصاق كما يقول بسم الله أي بدأت به فيكون معناه إن أخبرتني أن فلانا قدم فإنه يتناول الكذب أيضا لأنه غير مشغول بالباء فصلح مفعولا وإن ما بعدها مصدر ومعناه إن أخبرتني خبرا ملصقا بقدومه والقدوم اسم لفعل موجود بخلاف قوله إن أخبرتني قدومه ومفعول الخبر كلام لا فعل فصار المفعول الثاني التكلم بقدومه وذلك دليل الوجود لا موجب له لا محالة ولهذا قالوا في قول الرجل أنت طالق بمشيئة الله وبإرادته انه بمعنى الشرط لأن الإلصاق يؤدي معنى الشرط ويفضي إليه وكذلك أخواتها على ما قال في الزيادات وقال الشافعي بالباء للتبعيض في قول الله تعالى وامسحوا برؤسكم حتى أوج بمسح بعض الرأس وقال مالك رحمه الله الباء صلة لأن المسح فعل متعد فيؤكد بالباء كقوله تعالى تثبت بالدهن فيصير تقديره وامسحوا رؤسكم وقلنا أما القول بالتبعيض فلا أصل له في اللغة والموضوع للتبعيض كلمة من وقد بينا أن التكرار والاشتراك لا يثبت في الكلام أصلا وإنما هو من العوارض فلا يصار إلى الغاء الحقيقية والاقتصاد على التوكيد إلا بضرورة بل هذه الباء للإلصاق وبيان هذا أن الباء إذا دخلت في آلة المسح كان الفعل متعديا إلى محله كما تقول مسحت الحائط بيدي فيتناول كله لأنه أضيف إلى جملته ومسحت رأس اليتيم بيدي وإذا دخل حرف الإلصاق في محل المسح بقي الفعل متعديا إلى الآلة وتقديره وامسحوا أيديكم برؤوسكم أي الصقوها برؤوسكم فلا تقتضي (1/108)
استيعاب الرأس وهو غير مضاف إليه لكنه يقتضي وضع آلة المسح وذلك لا يستوعبه في العادات فيصير المراد به أكثر اليد فصار التبعيض مرادا بهذا الشرط فأما الاستيعاب في التيمم مع قوله فامسحوا بوجوهكم وأيديكم فثابت بالسنة المشهورة أن النبي عليه السلام قال فيها ضربتان ضربة للوجه وضربة للذراعين فجعلت الباء صلة وبدلالة الكتاب لأنه شرع خلفا عن الأصل وكل تنصيف يدل على بقاء الباقي على ما كان وعلى هذا قول الرجل إن خرجت من الدار إلا بإذني أنه يشترط تكرار الإذن لأن الباء للإلصاق فاقتضى ملصقا به لغة وهو الخروج فصار الخروج الملصق بالإذن الموصوف به مستثنى فصار عاما فأما قوله إلا أن آذن لك فإنه جعل مستثنى بنفسه وذلك غير مستقيم لأنه خلاف جنسه فجعل مجازا عن الغاية لأن الاستثناء يناسب الغاية وأما على فإنها وضعت لوقوع الشيء على غيره وارتفاعه وعلوه فوقه فصار هو موضوعا للإيجاب والإلزام في قول الرجل لفلان علي ألف درهم أنه دين إلا أن يصل به الوديعة فإن دخلت في المعاوضات المحضة كانت بمعنى الباء إذا استعملت في البيع والإجارة والنكاح لأن اللزوم يناسب الإلصاق فاستعير له وإذا استعملت في الطلاق كانت بمعنى الشرط عند أبي حنيفة رحمه الله حتى أن من قالت له امرأته طلقني ثلاثا على ألف درهم فطلقها واحدة لم يجب شيء وعندهما يجب ثلث الألف كما في قولها بألف درهم وقال أبو حنيفة رحمه الله كلمة على للزوم على ما قلنا وليس بين الواقع وبين ما لزمها مقابلة بل بينهما معاقبة وذلك معنى الشرط والجزاء فصار هذا بمنزلة حقيقة هذه الكلمة وقد أمكن العمل به لأن الطلاق وإن دخله المال فيصلح تعليقه بالشروط حتى أن جانب الزوج يمين فيصير هذا منها طلبا لتعليق المال بشرط الثلث فإذا خالف لم يجب وفي (1/109)
المعاوضات المحضة يستحيل معنى الشرط فوجب العمل بمجازه قال الله تعالى حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق وقال يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا واما من فللتبعيض هو اصلها ومعناها الذي وضعت له لما قلنا وقد ذكرنا مسائلها في قوله اعتق من عبيدي من شئت وما يجري مجراه ومسائل كثيرة واما إلى فلانتهاء الغاية لذلك وضعت ولذلك استعملت في الآجال وإذا دخلت في الطلاق في قول الرجل انت طالق إلى شهر فإن نوى التنجيز وقع وإن نوى الإضافة تأخر وإن لم يكن له نية وقع للحال عند زفر رحمه الله لأن إلى للتأجيل والتأجيل لا يمنع الوقوع وقلنا أن التأجيل لتأخير ما يدخله وهنا دخل على أصل الطلاق فأوجب تأخيره والأصل في الغاية إذا كان قائما بنفسه لم يدخل في الحكم مثل قول الرجل من هذا البستان إلى هذا البستان وقول الله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل إلا أن يكون صدر الكلام يقع على الجملة فيكون الغاية لإخراج ما وراءها فيبقى داخلا بمطلق الاسم مثل ما قلنا في المرافق ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في الغاية في الخيار انه يدخل وكذلك في الآجال في الإيمان في رواية حسن ابن زياد عنه وقال في قوله لفلان على من درهم إلى عشرة لم يدخل العاشر لأن مطلق الاسم لا يتناوله وقالا يدخل لأنه ليس بقائم بنفسه وكذلك هذا في الطلاق وإنما دخلت الغاية الأولى للضرورة وأما في فللظرف وعلى ذلك مسائل أصحابنا رحمهم الله ولكنهم اختلفوا في حذفه وإثباته في ظروف الزمان وهو أن تقول أنت طالق غدا أو في غد وقالا هما سواء وفرق أبو حنيفة بينهما فيما إذا نوى آخر النهار على ما ذكرنا في موضعه أن حرف الظرف إذا سقط اتصل الطلاق بالغد بلا واسطة فيقع في كله فيتعين أوله فلا يصدق في التأخير وإذا لم يسقط حرف الظرف صار مضافا إلى جزء منه مبهم فيكون نيته بيانا لما أبهمه فيصدقه القاضي وذلك مثل قول الرجل (1/110)
إن صمت الدهر فعلى كذا أنه يقع على الأبد وإن صمت في الدهر يقع على ساعة وإذا أضيف إلى المكان فقيل أنت طالق في مكان كذا وقع للحال إلا أن يراد به إضمار الفعل فيصير بمعنى الشرط وقد يستعار هذا الحرف للمقارنة إذا نسب إلى الفعل فقيل أنت طالق في دخول الدار لأنه لا يصلح ظرفا وفي الظرف معنى المقارنة فجعل مستعارا بمعناه فصار بمعنى الشرط وعلى هذا مسائل الزيادات أنت طالق في مشيئة الله وإرادته وأخواتهما فإن الطلاق لا يقع كأنه قال إن شاء الله إلا في علم الله لأنه يستعمل في المعلوم ولا يصلح شرطا بل يستحيل وإذا قال أنت طالق في الدار وأضمر الدخول صدق فيما بينه وبين الله تعالى فيصير بمعنى ما قلنا وعلى هذا قال لفلان علي عشرة دراهم يلزمه عشرة دراهم لأنه لا يصلح للظرف فيلغوا إلا أن ينوى به معنى مع أو واو العطف فيصدق لما قلنا أن في الظرف معنى المقارنة فيصير من ذلك الوجه مناسبا لمع وللعطف فيلزمه عشرون وكذلك قوله أنت طالق واحدة في واحدة فهي واحدة وإن نوى معنى مع وقعا قبل الدخول وإن نوى الواو وقعت واحدة ومن ذلك حروف القسم وهي الباء والواو والتاء وما وضع لذلك وهو ايم الله تعالى وما يؤدي معناه وهو لعمر الله فأما الباء فهي للإلصاق وهي دلالة على فعل محذوف معناه اقسم أو احلف بالله وكذلك في سائر الأسماء والصفات وكذلك في الكنايات تقول بك لافعلن كذا وبه لافعلن كذا فلم يكن لها اختصاص القسم واما الواو فإنها استعيرت بمعنى الباء لأنها تناسب صورة ومعنى أما الصورة فإن صورتها وجودها من مخرجها بضم الشفتين مثل الباء واما المعنى فإن عطف الشيء على غيره نظير إلصاقه به فاستعير له إلا انه لا يحسن إظهار الفعل ههنا تقول والله ولا تقول احلف والله لأنه استعير للباء توسعة لصلات القسم فلو صح (1/111)
الإظهار لصار مستعارا بمعنى الإلصاق فيصير الاستعارة عامة في بابها وإنما الغرض بها الخصوص لباب القسم الذي يدعو إلى التوسعة ويشبه قسمين ولا يدخل في الكناية أعني الكاف ثم استعير التاء بمعنى الواو توسعة لشدة الحاجة إلى القسم لما بين الواو والتاء من المناسبة فإنهما من حروف الزوائد في كلام العرب مثل التراث لغة في الوارث والتورية وما أشبه ذلك ولما صار ذلك دخيلا على ما ليس بأصل انحطت رتبته عن رتبة الأول والثاني فقيل لا تدخل إلا في اسم الله لأنه هو المقسم به غالبا فجاز تالله ولم يجز تالرحمن وتالرحيم وقد يحذف حرف القسم تخفيفا فيقال الله لأفعلن كذا لكنه بالنصب عند أهل البصرة وهو مذهبنا وبالخفض عند أهل الكوفة وقد ذكر في الجامع ما يتصل بهذا الأصل مثل قول الرجل والله الله والله الرحمن والرحيم على ما ذكرنا في الجامع وأما أيم الله فاصله أيمن الله وهو جمع يمين وهذا مذهب أهل الكوفة وأما مذهب أهل البصرة وهو قولنا أن ذلك صلة وضعت للقسم لا اشتقاق لها مثل صه ومه وبخ والهمزة للوصل ألا ترى أنها توصل إذا تقدمه حرف مثل سائر حروف الوصل ولو كان لبناء الجمع وصيغة لما ذهب عند الوصل والكلام فيه يطول وأما لعمر الله فإن اللام فيه للابتداء والعمر البقاء ومعناه لبقاء الله هو الذي اقسم به فيصير تصريحا لمعنى القسم بمنزلة قول الرجل جعلت هذا العبد ملكا لك بألف درهم أنه تصريح لمعنى البيع فيجري مجراه فكذلك هذا ومن هذا الجنس أسماء الظروف وهي مع وبعد وقبل وعند أما مع فللمقارنة في قول الرجل أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة انه يقع ثنتان معا قبل الدخول وقيل للتقديم حتى أن من قال لامرأته أنت طالق قبل دخولك الدار طلقت للحال ولو قال لامرأته قبل الدخول أنت (1/112)
طالق واحدة قبلها واحدة تقع ثنتان ولو قال قبل واحدة تقع واحدة وبعد للتأخير وحكمها في الطلاق ضد حكم قبل لما ذكرنا أن الظرف إذا قيد بالكناية كان صفة لما بعده وإذا لم يقيد كان صفة لما قبله هذا الحرف أصل هذه الجملة وعند للحضرة حتى إذا قال لفلان عندي ألف درهم كان وديعة لأن الحضرة تدل على الحفظ دون اللزوم والوقوع عليه وعلى هذا قلنا إذا قال أنت طالق كل يوم طلقت واحدة ولو قال عند كل يوم أو مع كل يوم طلقت ثلاثا وكذلك إذا قال أنت طالق في كل يوم ولو قال أنت علي كظهر أمي كل يوم فهو ظهار واحد ولو قال في كل يوم أو مع كل يوم أو عند كل يوم يتجدد عند كل يوم ظهار وهذا لما قلنا أنه إذا حذف اسم الظرف كان الكل ظرفا واحدا فإذا أثبته صار كل فرد بانفراده ظرفا على نحو ما قلنا في مسألة الغد ومن هذا الباب حروف الاستثناء واصل ذلك إلا ومسائل الاستثناء من جنس البيان فنذكر في بابه ان شاء الله تعالى ومن ذلك غير وهو من الاسماء يستعمل صفة للنكرة ويستعمل استثناء تقول لفلان علي درهم غير دانق بالرفع صفة للدرهم فيلزمه درهم تام ولو قال غير دانق بالنصب كان استثناء يلزمه درهم إلا دانقا وكذلك قال لفلان على دينار غير عشرة بالرفع لزمه دينار ولو نصبه فكذلك عند محمد وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله يلزمه دينار إلا قدر قيمة عشرة دراهم منه وما يقع من الفصل بين البيان والمعارضة نذكره في باب البيان ان شاء الله وسوى مثل غير وذلك في الجامع أن كان في يدي دراهم إلا ثلاثة أو غير ثلاثة أو سوى ثلاثة على ما ذكرنا ومن ذلك حروف الشرط وهي أن وإذا وإذا ما ومتى ومتى ما وكل وكلما ومن وما وانما نذكر في هذا الكتاب من هذا الجمل ما يبتنى عليه مسائل اصحابنا على الاشارة واما حرف ان فهو الأصل في هذا الباب وضع للشرط وانما يدخل على كل أمر معدوم على (1/113)
خطر ليس بكائن لا محالة تقول ان زرتني اكرمتك ولا يجوز ان جاء غد اكرمتك واثره أن يمنع العلة عن الحكم أصلا حتى يبطل التعليق وهذا يكثر امثلته وعلى هذا قلنا إذا قال الرجل لامرأته ان لم اطلقك فأنت طالق ثلاثا إنها لا تطلق حتى يموت الزوج فيطلق في أخر حياته لان العدم لا يثبت إلا بقرب موته كذلك إذا ماتت المرأة طلقت ثلاثا قبل موتها في اصح الروايتين واما إذا فإن مذهب أهل اللغة والنحو من الكوفيين فيها إنها تصلح للوقت و للشرط على السواء فيجازي بها مرة ولا يجازي بها اخرة فإذا جوزي بها فإنما يجازي بها على سقوط الوقت عنها كأنها حرف شرط وهو قول أبي حنيفة رحمه الله واما البصريون من أهل اللغة والنحو فقد قالوا إنها للوقت وقد تستعمل للشرط من غير سقوط الوقت عنها مثل متى فإنها للوقت لا يسقط عنها ذلك بحال والمجازاة بها لازمة في غير موضع الاستفهام والمجازاة بإذا غير لازمة بل هي في حيز الجواز والى هذا الطريق ذهب أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بيانه فيمن قال لامرأته إذا لم اطلقك فأنت طالق في قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقع الطلاق حتى يموت أحدهما مثل قوله ان لم اطلقك وقال أبو يوسف يقع كما فرغ من اليمين مثل متى لم اطلقك لان إذا اسم للوقت بمنزلة سائر الظروف وهو للوقت المستقبل وقد استعملت للوقت خالصا فقيل كيف الرطب إذا اشتد الحر أي حينئذ ولا يصلح ان هنا ويقال اتيك إذا اشتد الحر ولا يجوز أن اشتد الحر لان الشرط يقتضي خطر أو ترددا هو اصله وإذا تدخل للوقت على أمر كائن أو منتظر لا محالة كقوله إذا الشمس كورت وتستعمل للمفاجأة قال الله تعالى إذا هم يقنطون وإذا كان كذلك كان مفسر من وجه ولم يكن مبهما فلم يكن شرطا إلا انه قد يستعمل فيه مستعارا مع قيام معنى الوقت مثل متى مع أن المجازاة في متى الزم ومع هذا لم يسقط عنه حقيقته وهو الوقت فهذا اولى فصار الطلاق مضافا إلى زمان خال (1/114)
عن ايقاع الطلاق الا ترى أن من قال لامرأته انت طالق إذا شئت لم يتقدر بالمجلس مثل متى بخلاف أن ولا يصح طريق أبي حنيفة رحمه الله عليه إلا أن يثبت ان إذا قد يكون حرفا بمعنى الشرط مثل أن وقد ادعى ذلك أهل الكوفة واحتج الفراء لذلك بقول الشاعر ... استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل ...
وانما معناه وان تصبك خصاصة بلا شبهة وإذا ثبت هذان الوجهان في إذا على التعارض اعني معنى الشرط الخالص ومعنى الوقت وقع الشك في وقوع الطلاق فلم يقع بالشك ووقع الشك في انقطاع المشية بعد الثبوت فيما استشهدا به فلا تبطل بالشك وكذلك إذا فاما متى فأسم للوقت المبهم بلا اختصاص فكان مشاركا لان في الابهام فلزم في باب المجازاة وجزم بها مثل أن لكن مع قيام الوقت لان ذلك حقيقتها فوقع الطلاق بقوله انت طالق متى لم اطلقك عقيب اليمين وقوله متى شئت لم يقتصر على المجلس وكذلك متى ما وقد سبق تفسير كلما وكذلك من وما يدخلان في هذا الباب لا بها مهما والمسائل فيهما كثيرة خصوصا في من وقد روي عن أبي يوسف ومحمد فيمن قال انت طالق لو دخلت الدار أن بمنلزة قوله أن دخلت الدار لان فيها معنى الترقب فعمل عمل الشرط وكذلك قول الرجل انت طالق لولا صحبتك وما اشبه ذلك غير واقع لما فيه من معنى الشرط وذكر في السير الكبير بابا بناه على معرفة الحروف التي ذكرنا آمنوني على عشرة من أهل الحصن قال ذلك رأس الحصن ففعلنا وقع عليه وعلى عشرة غيره والخيار اليه ولو قال آمنوني وعشرة فكذلك إلا أن الخيار إلى امام المسلمين ولو قال بعشرة فمثل قوله وعشرة ولو قال في عشرة وقع على تسعة سواه والخيار إلى الإمام ولو قال آمنوا لي عشرة على عشرة لا غير ولرأس الحصن أن يدخل نفسه فيهم والخيار فيهم اليه وذلك يخرج على هذه الاصول ومن ذلك كيف وهو سؤال (1/115)
عن المحال وهو اسم للحال فإن استقام وإلا بطل ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله في قوله الرجل أنت حر كيف شئت أنه ايقاع وفي الطلاق أنه يقع الواحدة ويبقى الفضل في الوصف والقدر وهو الحال مفوضا بشرط نية الزوج وقال ما لا يقبل الإشارة فحاله ووصفه بمنزلة أصله فتعلق الأصل بتعلقه وأما لم فاسم للعدد الذي هو الوقع وحيث اسم لمكان مبهم دخل على المشية والله أعلم باب الصريح والكناية مثل قوله الرجل بعث واشتريت ووهبت لأنه ظاهر المراد وحكم تعلق الحكم بعين الكلام وقيامه مقام معناه حتى استغنى عن العزيمة وكذلك الطلاق والعتاق وحكم الكناية أن لا يجب العمل به إلا بالنية لانه مستتر المراد وذلك مثل المجاز قبل أن يصير متعارفا ولذلك سمى أسماء الضمير كناية مثل انا وانت ونحن وسمى الفقهاء ألفاظ الطلاق التي لم يتعارف كنايات مثل الباين والحرام مجازا لا حقيقة لان هذه كلمات معلومة المعاني غير مستترة لكن الابهام فيما يتصل به ويعمل فيه فلذلك شابهت الكنايات فسميت بذلك مجازا ولهذا الابهام احتيج إلى النية فإذا وجدت النية وجب العمل بموجباتها من غير أن يجعل عبارة عن الصريح ولذلك جعلناها بواين وانقطعت بها الرجعة إلا في قول الرجل اعتدى لان حقيقتها الحساب ولا اثر لذلك في النكاح والاعتداد يحتمل أن يراد به ما يعد من غير الاقراء فإذا نوى الاقراء فزال الابهام وجب بها الطلاق بعد الدخول اقتضاء وقبل الدخول جعل مستعارا محضا عن الطلاق لانه سببه فاستعير الحكم لسببه فلذلك كان رجعيا وكذلك قوله استبرىء رحمك وقد جاءت السنة أن النبي عليه السلام قال لسودة بنت زمعة اعتدى ثم راجعها وكذلك انت واحدة يحتمل نعتا للطلقة (1/116)
ويحتمل صفة للمرأة فإذا زال الابهام بالنية كان دلالة على الصريح لا عاملا بموجبه والاصل في الكلام هو الصريح واما الكناية ففيها قصور من حيث يقصر عن البيان إلا بالنية والبيان بالكلام هو المراد فظهر هذا التفاوت فيما يدرا بالشبهات وصار جنس الكنايات بمنزلة الضرورات ولهذا قلنا أن حد القذف لا يجب إلا بتصريح الزنا حتى أن من قذف رجلا بالزنا فقال له آخر صدقت لم يحد المصدق وكذا إذا قال لست بزان يريد التعريض بالمخاطب لم يحد وكذلك في كل تعريض لما قلنا بخلاف من قذف رجلا بالزنا فقال آخر هو كما قلت حد هذا الرجل وكان بمنزلة الصريح لما عرف في كتاب الحدود والله اعلم باب وجوه الوقوف على احكام النظم
وهو القسم الرابع وذلك اربعة وجه الوقوف بعبارته واشارته ودلالته و اقتضائه أما الأول فما سيق الكلام له واريد به قصدا والاشارة ما ثبت بنظمه مثل الأول إلا أن غير مقصود ولا سيق الكلام له وهما سواء في ايجاب الحكم إلا أن الأول احق عند التعارض من ذلك قوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن سيق الكلام لايجاب النفقة على الوالد وفيه إشارة إلى أن النسب إلى الاباء لانه نسب اليه بلام الملك وفيه إشارة إلى أن للاب ولاية التمليك في مال ولده وانه لا يعاقب بسببه كالمالك بمملوكه لانه نسب اليه بلام الملك وعليه تبنى مسائل كثيرة وفيه إشارة إلى انفراد الاب بتحمل نفقة الولد لانه اوجبها عليه بهذه النسبة ولا يشاركه أحد فيها فكذلك في حكمها وفيه إشارة إلى أن الولد إذا كان غنيا والوالد محتاجا لم يشارك الولد أحد في تحمل نفقة الوالد لما قلنا من النسبة بلام التمليك وفيه إشارة إلى أن النفقة تستحق بغير الولاد وهي نفقة ذوي الأرحام (1/117)
خلافا للشافعي رحمه الله لقوله عز و جل وعلى الوارث مثل ذلك وذلك بعمومه يتناول الأخ والعم وغيرهما ويتناولهم بمعناه لانه اسم مشتق من الارث مثل الزاني والسارق وفيه إشارة إلى أن من عدا الوالد يتحملون النفقة على قدر المواريث حتى أن النفقة يجب على الام والجد ثلاثا لقوله عز و جل وعلى الوارث مثل ذلك وهو اسم مشتق من معنى فيجب بناء الحكم على معناه وفي قوله رزقهن وكسوتهن إشارة إلى أن اجر الرضاع يستغنى عن التقدير بالكيل والوزن كما قال أبو حنيفة رضي الله عنه ومن ذلك قوله تعالى وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الاسود من الفجر سياق الكلام لاباحة هذه الأمور في الليل ونسخ ما كان قبله من التحريم و فيه إشارة إلى استواء الكل في الحظر لانه قال ثم أتموا الصيام أي الكف عن هذه الجملة فكان بطريق واحد فلم يكن للجماع اختصاص ولا مزية وفيه إشارة إلى أن النية في النهار منصوص عليه لقوله تعالى ثم أتموا الصيام بعد اباحة الجملة إلى طلوع الفجر وحرف ثم للتراخي فتصير العزيمة بعد الفجر لا محالة لان الليل لا ينقضي إلا بجزء من النهار إلا انا جوزنا تقديم النية على الفجر بالسنة فأما أن يكون الليل اصلا فلا وفي اباحة اسباب الجنابة إلى اخر الليل إشارة إلى أن الجنابة لا تنافى الصوم فيمن اصبح جنبا ومن ذلك قوله تعالى فإطعام عشرة مساكين الآية سياقها لايجاب نوع من هذه الجملة على سبيل التخيير وفيه إشارة إلى أن الأصل في جهة لإطعام الاباحة والتمليك ملحق به لان الاطعام فعل متعد مطاوعه طعم يطعم وهو الاكل فالاطعام جعله اكلا كسائر الأفعال إذا تعدت بزيادة الهمزة لم تبطل وضعها وحقيقتها فإذا لم يكن مطاوعه ملكا لم يكن متعديه تمليكا هذا واضح جدا فمن جعل التمليك اصلا كان تاركا حقيقة الكلام ومعنى الحاق التمليك به خلافا لبعض الناس أن الاباحة جزء من (1/118)
التمليك في التقدير والتمليك كله لان حوايج المساكين كثيرة يصلح الطعام لقضاء كل نوع منها إلا أن الملك سبب لقضائها فأقيم الملك مقامها فصار التمليك بمنزلة قضائها كلها باعتبار الخلافة عنها ومن هذه الحوايج الاكل فصار النص واقعا على الذي هو جزء من هذه الجملة فاستقام تعديته إلى الكل الذي هو مشتمل على هذا المنصوص عليه وعلى غيره فيكون عملا بعينه في المعنى وهذا بخلاف الكسوة لان النص هناك تناول التمليك لانه جعل الفعل في الأول كفارة وهو الطعام وجعل العين في الثاني كفارة وهو الثوب لان الكسوة بكسر الكاف اسم للثوب وبفتح الكاف اسم للفعل فوجب أن يصير العين كفارة المنفعة وانما يصير كذلك بالتمليك دون الاعارة فصار النص هنا واقعا على التمليك الذي هو قضاء لكل الحوائج في المعنى فلم يستقم التعدية إلى ما هو جزء منها وهو مع ذلك قاصر لأن الإعارة في الثياب منقضية قبل الكمال والاباحة في الطعام لازمة لامر دل فعل الاكل فيها فهما في طرفي نقيض مع التفاوت الذي بينا وكان قول الشافعي رحمه الله في قياس الطعام بالكسوة في الفرع والاصل معا غلطا وفيه إشارة إلى أن المساكين صاروا مصارف بحوائجهم فكان الواجب قضاء الحوائج لا اعيان المساكين ثبتت هذه الاشارة بالفعل وهو الاطعام لان اطعام الطاعم الغني لا يتحقق كتمليك المالك لا يتحقق ومن قضية الاطعام الحاجة إلى الطعم وثبتت ايضا بالنسبة إلى المساكين لان اسمهم ينبىء عن الحاجة فدل ذلك على أن اطعام مسكين واحد في عشرة ايام مثل اطعام عشرة مساكين في ساعة لوجود عدد الحوائج كاملة فان قيل هذا لا يوجد في كسوة مسكين عشرة اثواب في عشرة ايام وقد جوزتم ذلك ولا حاجة إلا بعد ستة اشهر أو نحو ذلك قيل له هذا الذي تقول حاجة اللبوس وهو غلط لان النص تناول التمليك على ما قلنا وقد اقمنا التمليك مقام قضاء الحوايج كلها والثوب (1/119)
قائم إذا اعتبرت اللبوس وإذا اعتبرت جملة الحوايج صارها لكافي التقدير فكان يجب أن يصح الاداء على هذا متواترا غير أن الحاجات إذا قضيت لم تكن بد من تجددها ولا تجدد إلا بالزمان وادنى ذلك يوم لجملة الحوائج حتى قال بعض مشايخنا يجوز الاداء في يوم واحد إلى مسكين واحد العشرة كلها في عشر ساعات لما قلنا إلا انه غير معلوم فكان اليوم اولى و كذلك الطعام في حكم التمليك مثل الثوب والاباحة لا يصح إلا في عشرة ايام ولا يلزم إذا قبض المسكين كسوتين من رجلين فصاعدا جملة انه يجوز لان اداء كل واحد في غيره في حكم العدم فلم يوخذ بالتفريق واما دلالة النص فما ثبت بمعنى النظم لغة وانما نعني بهذا ما ظهر من معنى الكلام لغة وهو المقصود بظاهر اللغة مثل الضرب اسم لفعل بصورة معقولة ومعنى مقصود وهو الايلام والتأفيف اسم لفعل بصورة معقولة ومعنى مقصود وهو الاذى والثابت بهذا القسم مثل الثابت بالاشارة والعبارة إلا أنه عند التعارض دون الاشارة حتى صح إثبات الحدود والكفارات بدلالات النصوص ولم يجز بالقياس لانه ثابت بمعنى مستنبط بالرأي نظرا لا لغة حتى اختص بالقياس الفقهاء واستوى أهل اللغة كلهم في دلالات الكلام مثاله انا اوجبنا الكفارة على من افطر بالاكل والشرب دلالة النص دون القياس وبيانه أن سؤال السائل وهو قوله واقعت امرأتي في شهر رمضان وقع عن الجناية والمواقعة عينها ليست بجناية بل هو اسم لفعل واقع على محل مملوك إلا أن معنى هذا الاسم لغة من هذا السائل هو الفطر الذي هو جناية وانما اجاب رسول الله عليه السلام عن حكم الجناية فكان بناء على معنى الجناية من ذلك الاسم والمواقعة آلة الجناية فأثبتنا الحكم بذلك المعنى بعينه في الاكل لانه فوقه في الجناية لان الصبر عنه اشد والدعوة اليه اكثر فكان اقوى في الجناية على نحو ما قلنا في الشتم مع التأفيف فمن حيث أنه ثابت (1/120)
بمعنى النص لا بظاهره لم نسمه عبارة ولا إشارة ومن حيث انه ثابت بمعنى النص لغة لا رأيا سميناه دلالة لا قياسا ومن ذلك أن النص في عذر الناسي ورد في الاكل والشرب وثبت حكمه في الوطئ دلالة لان النسيان فعل معلوم بصورته ومعناه أما صورته فظاهره وأما معناه انه مدفوع اليه خلقة وطبيعة وكان ذلك سماويا محضا فأضيف إلى صاحب الحق فصار عفوا هذا معنى النسيان وهو كونه مطبوعا عليه فعلمنا بهذا المعنى في نظيره فان قيل هما متفاوتان لان النسيان يغلب في الاكل والشرب لان الصوم يحوجه إلى ذلك ولا يحوجه إلى الواقعة بل يضعفه عنها فصار كالنسيان في الصلوة لم يجعل عذرا لانه نادر قلنا للأكل والشرب مزية في اسباب الدعوة وفيه قصور في حاله لانه يغلب البشر واما المواقعة فقاصرة في اسباب الدعوة ولكنها كاملة في حالها الان هذه الشهوة تغلب البشر فصار سواء فصح الاستدلال و من ذلك قال النبي عليه السلام لا قودا إلا بالسيف وأراد به الضرب بالسيف ولهذا الفعل معنى مقصور وهو الجناية بالجرح وما يشبهه والحكم جزاء يبتنى على المماثلة في الجناية وكان ثابتا بذلك المعنى واختلف فيه قال أبو حنيفة رحمه الله وذلك المعنى هو الجرح الذي ينقص البينة ظاهرا وباطنا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله معناه ما لا تطيق البنية احتماله فتهلك جرحا كان او لم يكن حتى قالا يجب القود بالقتل بالحجر العظيم لانا نعلم أن القصاص وجب عقوبة وزجرا عن انتهاك حرمة النفس وصيانة حياتها وانتهاك حرمتها بما لا تطيق حمله ولا تبقى معه فأما الجرح على البدن فلا عبرة به إنما البدن وسيلة فما يقوم بغير الوسيلة كان اكمل والجواب لابي حنيفة عن هذا أن معنى الجناية هو ما لا تطيق النفس احتماله لكن الأصل في كل فعل الكمال والنقصان بالعوارض فلا يجب (1/121)
الناقص أصلا بل الكامل يجعل أصلا ثم تعدى حكمه إلى الناقص أن كان من جنس ما يثبت بالشبهات فأما أن يجعل الناقص أصلا خصوصا فيما يدرأ بالشبهات فلا وههنا الكامل فيما قلنا ما ينقص البنية ظاهرا وباطنا هو الكامل في النقض على مقابلة كمال الوجود وقولهما أن البدن وسيلة وهم وغلط لانا نعني بهذا الجناية على الجسم لكنا نعني به الجناية على النفس التي هي معنى الانسان خلقه فالقصاص مقابل بذلك إما الجسم ففروع واما الروح فلا يقبل الجناية ومعنى الانسان خلقه بدمه وطبايعه فلا يتكامل الجناية عليه إلا بجرح يريق دما ويقع على معناه قصدا هذا اولى خصوصا في العقوبات ومن ذلك أن ابا يوسف ومحمد اوجبا حد الزنا باللواطة بدلالة النص لان الزنا اسم لفعل معلوم ومعناه قضاء الشهوة بفسح الماء في محل محرم مشتهى مشتهى وهذا المعنى بعينه موجود في اللواطة وزيادة لانه في الحرمة فوقه وفي سفح الماء فوقه وفي الشهوة مثله وهذا معنى الزنا لغة والجواب عن هذا أن الكامل اصل في كل باب خصوصا في الحدود والكامل في سفح الماء ما يهلك البشر حكما وهو الزنا لان ولد الزنا هالك حكما لعدم من يقوم بمصالحه فأما تضييع الماء فقاصر لانه قد يحصل بالعزل ولا تفسد الفراش وكذلك الزنا كامل بحاله لانه غالب الوجود بالشهوة الداعية من الطرفين واما هذا الفعل فقاصر بحاله لان الداعى اليه شهوة الفاعل فأما صاحبه فليس في طبعه داع اليه بل الطبع مانع ففسد الاستدلال بالكامل على القاصر في حكم يدرأ بالشبهات والترجيح بالحرمة باطل لان الحرمة المجردة بدون هذه المعاني غير معتبرة لايجاب الحد إلا ترى أن شرب البول لا يوجب الحد مع كمال الحرمة ومن ذلك أن الشافعي رحمه الله قال وجبت الكفارة بالنص في الخطأ من القتل مع قيام العذر وهو الخطأ (1/122)
لان الخطاء عذر مسقط حقوق الله تعالى وكذلك وجبت الكفارة في اليمين المعقودة إذا صارت كاذبة فلأن يجب في الغموس وهي كاذبة من الأصل اولى فصارت دلالة عليه لقيام معنى النص لكن قلنا هذا الاستدلال غلط لان الكفارة عبادة فيها شبه بالعقوبات لا تخلو الكفارة عن معنى العبادة و العقوبة فلا يجب إلا بسبب دائر بين الحظر والاباحة والقتل العمد كبيرة بمنزلة الزنا والسرقة فلم يصلح سببا كالمباح المحض لا يصلح سببا مع رجحان معنى العبادة في الكفارة وكذلك الكذب حرام محض واما الخطاء فدائر بين الوصفين واليمين عقد مشروع والكذب غير مشروع ولا يلزم إذا قتل بالحجر العظيم فانه يوجب الكفارة عند أبي حنيفة رحمه الله ذكره الطحاوي لانه فيه شبه الخطاء وهي مما يحتاط فيها فثبت بشبهة السبب كما تثبت بحقيقته وذكره الجصاص في احكام القران وقد جعله في الكتاب شبه العمد في ايجاب الدية على العاقلة فكان نصا على الكفارة وإذا قتل مسلم حربيا مستأمنا عمدا الم تلزمه الكفارة مع قيام الشبهة لان الشبهة في محل الفعل فاتبرت في القود لأنه يقبل بالمحل من وجه حتى نافى الدية فأما الفعل فعمد محض خالص لا تردده فيه والعقوبة جزاء للفعل المحض وفي مسئلة الحجر الشبهة في نفس الفعل فعم القود و الكفارة ولهذا قلنا أن سجود السهو لا يجب بالعمد ولا يصلح أن يكون السهو دليلا على العمد لما قلنا خلافا فالشافعي أيضا وقلنا نحن أن كفارة الفطر وجبت على الرجل بالموافقة نصا ومعنى الفطر فيه معقول لغة فوجبت الكفارة على المرأة أيضا استلال به واما المقتضي فزيادة على النص ثبت شرطا لصحة المنصوص عليه لما لم يستغن عنه وجب تقدميه لتصحيح المنصوص عليه فقد اقتضاه النص فصار المقتضي بحكمه حكما للنص بمنزلة الشراء اوجب الملك والملك اوجب العتق في القريب فصار الملك بحكمه حكما للشراء (1/123)
فصار الثابت به بمنزلة الثابت بنفس النظم دون القياس حتى أن القياس لا يعارض شيئا من هذه الأقسام والثابت بهذا يعدل الثابت بالنص إلا عند المعارضة به واختلفوا في هذا القسم قال اصحابنا رحمهم الله لا عموم له وقال الشافعي رحمه الله فيه بالعموم لانه ثابت بالنص فكان مثله وقلنا أن العموم من صفات النظم والصيغة وهذا أمر لا نظم له لكنا انزلناه منظوما شرطا لغيره فيبقى على اصله فيما وراء صحة المذكور ومثال هذا الأصل اعتق عبدك عني بألف درهم انه يتضمن البيع مقتضى العتق وشرطا له حتى يثبت بشروط العتق لما كان تابعا له ولو جعل بمنزلة المذكور كما قال الخصم لتثبت بشروط نفسه ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله انه لو قال اعتق عبدك عني بغير شيء انه يصح عن الأمر ويثبت الملك بالهبة من غير قبض لانه ثابت مقتضى بالعتق فيثبت بشروطه فيستغنى عن التسليم كما استغنى البيع عن القبول وهو الركن فيه فالاستغناء عن القبض وهو شرط اولى وهذا كما قال اعتق عبدك هذا عني بألف درهم ورطل من خمر انه يصح ويعتق عنه و أن لم يوجد التسليم والبيع الفاسد مثل الهبة لما قلنا وقال أبو حنيفة ومحد رحمهما الله يقع العتق عن المأمور لأن القبض والتسليم بحكم الهبة لم يوجد العتق يتلف على ملك المولى في يد نفسه وذلك غير مقبوض للطالب ولا للعبد ولا هو محتمل له وقوله أن القبض يسقط باطل لان ثبوت المقتضى بهذا الطريق مشروع وانما يسقط به ما يحتمل السقوط والقبض والتسليم في الهبة شرط لا يحتمل السقوط بحال ودليل السقوط يعمل في محله واما القبول في البيع فيحتمل السقوط إلا ترى أن الكل يحتمل السقوط فينعقد بالتعاطي فالشطر اولى ومن قال لاخر بعتك هذا الثوب بكذا فاقطعه فقطعه ولم يتكلم صح وكذلك البيع الفاسد مشروع مثل الصحيح فاحتمل سقوط القبض عنه فصح اسقاطه (1/124)
بطريق الاقتضاء ومثاله ما قلنا إذا قال الرجل لامرأته بعد الدخول اعتدى ونوى الطلاق وقع مقتضى الأمر بالاعتداد ولهذا لم يصح نية الثلاث ولهذا كان رجعيا ومثال خلاف الشافعي إن أكلت فعبدي حر وان شربت ونوى خصوص الطعام أو الشراب لم يصدق عندنا ومن قال إن خرجت فعبدي حر ونوى مكانا دون مكان لم يصدق عندنا ومن قال إن اغتسلت فعبدي حر ونوى تخصيص الأسباب لم يصدق عندنا لما قلنا ولو قال إن اغتسل الليلة في هذه الدار فعبدي حر فلم يسم الفاعل ونوى تخصيص الفاعل لم يصدق عندنا بخلاف قوله إن اغتسل أحد أو إن اغتسلت غسلا وقد يشكل على السامع الفصل بين المقتضى وبين المحذوف على وجه الاختصار وهو ثابت لغة وآية ذلك أن ما اقتضى غيره ثبت عند صحة الاقتضاء وإذا كان محذوفا فقدر مذكورا انقطع عن المذكور مثل قوله تعالى واسأل القرية أن الأهل محذوف على سبيل الاختصار لغة لعدم الشبهة إلا ترى انه متى ذكر الأهل انتقلت الإضافة عن القرية إلى الأهل والمقتضى لتحقيق المقتضى لا لنقله ومثله قوله عليه السلام رفع الخطاء والنسيان لما استحال ظاهره كان الحكم مضمرا محذوفا حتى إذا ظهر المضمر انتقل الفعل عن الظاهر وكذلك قوله عليه السلام الأعمال بالنيات فلم يسقط عموم الحديث من قبل الاقتضاء لكن لأن المحذوف من الأسماء المشتركة على ما مر وما حذف اختصارا وهو ثابت لغة كان عاما بلا خلاف لأن الاختصار أحد طريقي اللغة فأما الاقتضاء فأمر شرعي ضروري مثل تحليل الميتة بالضرورة فلا يزيد عليها ولهذا قلنا فيمن قال لامرأته أنت طالق ونوى به الثلاث أن نيته باطلة لأن المذكور نعت المرأة والطلاق الواقع مقدم عليه اقتضاء لكنه ضروري لا عموم له لأن المذكور وهي المرأة بأوصافها وقد نوى عموم ما لم يتكلم به والعلم من أوصاف النظم ولم يكن المصدر ههنا ثابتا لغة لأن النعت (1/125)
يدل على المصدر الثابت بالموصوف لغة ليصير الوصف من المتكلم بناء عليه فأما أن يصير الوصف ثابتا بالواصف بحقيقته تصحيحا لوصفه فأمر شرعي ليس بلغوي وكذلك ضربت بناء على مصدر ماض وطلقتك يوجب مصدرا من قبل التكلم فكان شرعيا واما البائن وما يشبه ذلك فمثل طالق من حيث أنه نعت مقتض للواقع غير أن البينونة يتصل بالمرأة للحال ولاتصالها وجهان انقطاع يرجع إلى الملك وانقطاع يرجع إلى الحل فتعدد المقتضى بتعدد المقتضى على الاحتمال فصح تعيينه واما طالق لا يتصل بالمرأة للحال لأن حكمه في الملك معلق بالشرط وحكمه في الحل معلق بكمال العدد وإنما حكمه للحال انعقاد العلة وذلك غير متبوع فلم يتنوع المقتضى إلا بواسطة العدد فيصير العدد أصلا وإذا قال لامرأته طلقي نفسك صحت نية الثلاث لأن المصدر ههنا ثابت لغة لأن الأمر فعل مستقبل وضع لطلب الفعل فكان مختصرا من الكلام على سائر الأفعال فصار مذكورا لغة فاحتمل الكل والأقل كسائر أسماء الأجناس وأما طلقت فنفس الفعل ونفس الفعل في حال وجوده لا يتعدد بالعزيمة وذلك مثل قول الرجل إن خرجت فعبدي حر أنه تصح نية السفر لأن ذكر الفعل لغة ذكر المصدر فأما المكان فثابت اقتضاء ففسدت نية مكان دون مكان ولا يلزم إذا حلف لا يساكن فلانا ونوى السكنى في بيت واحد أنه يصح والمكان ثابت اقتضاء لأن تعيين المكان لغو حتى لا تصح نيته لو نوى بيتا بعينه لكن نية جمل البيوت تصح لأنه راجع إلى تكميل فعل المساكنة لأنها مفاعلة وإنما يتحقق بين اثنين على الكمال إذا جمعهما بيت واحد لكن اليمين وقعت على الدار وهذا قاصر عادة فصح نية الكامل والمساكنة ثابتة لغة فصح تكميلها ولا يلزم عليه رجل قال لصغير هذا ولدي فجاءت أم الصغير بعد موت المقر وصدقته وهي أم معروفة أنها تأخذ الميراث وما ثبت الفراش إلا قتضى لأن النكاح (1/126)
ثبت بينهما مقتضى النسب فكان مثل ثبوت البيع في قوله اعتق عبدك عنى بألف درهم ولكن المقتضى غير متنوع فيصير في حال بقائه مثل النكاح المعقود قصدا أو الثابت بدلالة النص لا يحتمل الخصوص ايضا لان معنى النص إذا ثبت كونه علة لا يحتمل أن يكون غير علة واما الثابت باشارة النص فيصلح أن يكون عاما يخص ومن الناس من عمل بالنصوص بوجوه اخر هي فاسدة عندنا من ذلك انهم قالوا أن النص على الشيء باسمه العلم يدل على المخصوص قالوا وذلك مثل قوله عليه السلام الماء من الماء فهم الأنصار رضي الله عنهم من ذلك ان الغسل لا يجب بالاكسال لعدم الماء وقلنا نحن هذا باطل وذلك كثير في الكتاب والسنة قال الله تعالى ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم والظلم حرام في كل وقت ولأنه يقال له أن أردت أن هذا الحكم غير ثابت في غير المسمى بالنص فكذلك عندنا لأن حكم النص في غيره لا يثبت به بل بعلة النص وإن عني أنه لا يثبت فيه يكون النص مانعا فهذا أغلط ظاهر لأن النص لم يتناوله فكيف يمنع ولأنه لا يجاب الحكم في المسى فكيف يجول النفي وهو ضده وقد 2اجمع الفقهاء على جواز التعليل ولو كان لخصوص الاسم اثر بالمنع في غيره لصار التعليل على مضادة النص وهو باطل واما الماء من الماء فان الاستدلال منهم كان بلام المعرفة وهي لاستغراق الجنس وتعريفه و عندنا هو كذلك فيما يتعلق بعين الماء غير أن الماء يثبت عيانا مرة وتارة دلالة ومن ذلك ما حكى عن الشافعي أن الحكم إذا اضيف إلى مسمى بوصف خاص كان دليلا على نفيه عند عدم ذلك الوصف وعندنا هذا باطل ايضا وذلك مثل قول الله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن أن وصف كون المرأة من نسائنا يوجب أن لا يثبت عند عدمه وذلك في الزنا وذلك مثل قوله عليه السلام في خمس من الابل السائمة (1/127)
شاة وهذه المسألة بناء على مسألة التعليق بالشرط على مذهبه لان التعليق عنده يوجب الوجود عند وجوده والعدم عند عدمة والوصف بمعنى الشرط بيانه أن الشرط لما دخل على ما هو موجب لولا هو صار الشرط مؤخرا ونافيا حكم الايجاب والوصف لولا هو لكان الحكم ثابتا بمطلق الاسم ايضا فصار اللوصف اثر الاعتراض بمنزلة الشرط فالحق به بخلاف العلة لانها لابتداء الايجاب لا للاعتراض على ما يوجب فصار بمنزلة الاسم العلم فيتعلق بها الوجود ولم يوجب العدم عند عدمها ولنا أن اقصى درجات الوصف إذا كان مؤثرا أن يكون علة الحكم مثل السارق والزاني ولا اثر للعلة في النفي ومثال هذا ايضا قوله تعالى من فتياتكم المؤمنات فهذا لا يوجب تحريم نكاح الأمة الكتابية عندنا لما قلنا ولا يلزم على هذا الأصل ما قال اصحابنا في كتاب الدعوى في امة ولدت ثلاثة اولاد في بطون مختلفة فادعى المولى نسب الاكبر أن نسب من بعده لا يثبت فجعل تخصيصه نفيا لولا ذلك لثبت لانهما ولدا ام ولده وقال في الشهادات والدعوى إذا قال شهود الميراث لا نعلم له وارثا في ارض كذا أن هذه الشهادة لا تقبل عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وجعل النفي في مكان كذا اثباتا في غيره إما في المسألة الأولى فلم يثبت النفي بالخصوص لكن لان التزام النسب عند ظهور دليله واجب شرعا والتبري عند ظهور دليله واجب ايضا والالتزام بالبيان فرض صيانة عن النفي فصار السكوت عند لزوم البيان لو كان ثابتا نفيا حملا لامره على الصلاح حتى لا يصير تاركا للفرض وفي مسألة الشهادات زاد الشهود مالا حاجة اليه وفيه شبهة وبالشبهة ترد الشهادات وبمثلها لا يصح إثبات الأحكام وقال أبو حنيفة رحمه الله هذا سكوت في غير موضع الحاجة لان ذكر المكان غير واجب وذكر المكان يحتمل الاحتراز عن المجازفة ومن ذلك أن القرآن في النظم يوجب القرآن في الحكم عند بعضهم مثل قول بعضهم في قوله تعالى واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أن القرآن يوجب أن لا يجب (1/128)
على الصبي الزكاة وقالوا لان العطف يوجب الشركة واعتبروا بالجملة الناقصة وقلنا نحن أن عطف الجملة على الجملة في اللغة لا يوجب الشركة لان الشركة إنما وجبت بينهما لافتقار الجملة الناقصة إلى ما تتم به فإذا تم بنفسه لم تجب الشركة إلا فيما يفتقر اليه وهذا أكثر في كتاب الله تعالى من أن يحصى ولهذا قلنا في قول الرجل أن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي هذا حر ان العتق يتعلق بالشرط وان كان تاما لان في حكم التعليق قاصر وعلى هذا قلنا في قول الله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أن قوله فاجلدوهم جزاء وقوله ولا تقبلوا وان كان تاما ولكنه من حيث أنه يصلح جزاء واحدا مفتقرا إلى الشرط فجعل ملحقا بالأول إلا ترى أن جرح الشهادة ايلام كالضرب وألا ترى أنه فوض إلى الأئمة فأما قوله وأولئك هم الفاسقون فلا يصلح جزاء لان الجزاء ما يقام ابتداء بولاية الأمام فأما الحكاية عن حال قايمة فلا فاعتبر تمامها بصيغتها فكان في حق الجزاء في حكم الجملة المبتدأة مثل قوله تعالى ويمح الله الباطل ومثل قوله ونقر في الأرحام ما نشاء ويتوب الله على من يشاء والشافعي رحمه الله قطع قوله ولا تقبلوا لهم مع قيام دليل الاتصال وكل ذلك غلط وقلنا نحن بصيغة الكلام أن القذف سبب والعجز عن البينة شرط بصفة التراخي والرد حد مشارك للجلد لانه عطف بالواو والعجز عطف بثم ومن ذلك قول بعضهم أن العام يختص بسببه وهذا عندنا باطل لان النص ساكت عن سببه والسكوت لا يكون حجة إلا ترى أن عامة الحوادث مثل الظهار واللعان وغير ذلك وردت مقيدة بأسباب ولم تختص بها وهذه الجملة عندنا على اربعة اوجه الوجه الأول ما خرج مخرج الجزاء فيختص بسببه والثاني مما لا يستقل بنفسه والثالث ما خرج مخرج الجواب واحتمل الابتداء والرابع ما زيد على قدر الجواب فكان ابتاء يحتمل البناء إما الأول فمثل ما روى عن النبي عليه السلام أنه سها (1/129)
فسجد وروى أن ماعزا زنى فرجم والفاء للجزاء فتعلق الأول على ما مر بيانه وان الثاني فمثل الرجل يقول لآخر اليس لي عليك كذا فيقول بلى أو يقول كان كذا فيقول نعم يجعل اقرارا وكذلك إذا قال اجل هذا اصل بلى ونعم أن يكون بلى بناء على النفي في الابتداء مع الاستفهام ونعم لمحض الاستفهام واجل يجمعهما وقد يستعملان في غير الاستفهام على ادراج الاستفهام أو مستعارا لذلك وقد ذكر ذلك محمد في كتاب الإقرار في نعم من غير الاستفهام ايضا واما الثالث فمثل قول الرجل لرجل تغد معي فيقول الآخر ان تغديت فعبدي حر انه يتعلق به وكذلك إذا قيل انك تغتسل الليلة في هذه الدار من جنابة فقال أن اغتسلت فعبدي حر هذا خرج جوابا فتضمن اعادة السؤال الذي سبق وقد يحتمل الابتداء ولو قال أن اغتسلت الليلة أو في هذه الدار فعبدي حر صار مبتدئا احتراز عن الغاء الزيادة فان عنى به الجواب صدق فيما بينه وبين الله تعالى فيصير الزيادة توكيدا وامثلته كثيرة ومن ذلك أن الشافعي رحمه الله جعل التعليق بالشرط موجب العدم وعندنا العدم لم يثبت به بل بقي المعلق على اصل العدم وحاصله أن المعلق بالشرط عندنا لم ينعقد سببا وانما الشرط يمنع الانعقاد وقال الشافعي رحمه الله هو مؤخر ولذلك ابطل تعليق الطلاق والعتاق بالملك وجوز تعجيل النذر المعلق وجوز تعجيل كفارة اليمين وقال في قول الله فمن لم يستطع منكم طولا أن تعليق الجواز بعدم طول الحرة يوجب الفساد عند وجوده وقال لان الوجوب يثبت بالإيجاب لولا الشرط فيصير الشرط معدما ما وجب وجوده لولا هو فيكون الشرط مؤخرا لا مانعا ولا يلزم أن تعجيل البدن في الكفارات لا يجوز على قوله لان الوجوب بالسبب حاصل ووجوب الاداء متراخي بالشرط والمال يحتمل الفصل بين وجوبه ووجوب أدائه واما البدني فلا يحتمل الفصل فلما تأخر الاداء لم يبق الوجوب ولنا أن الايجاب لا يوجد (1/130)
إلا بركنه ولا يثبت إلا في محله كشرط البيع لا يوجب شيئا وبيع الحر باطل ايضا وههنا الشرط حال بينه وبين المحل فبقى غير مضاف اليه وبدون الاتصال بالمحل لا ينعقد سببا إلا ترى أن السبب ما يكون طريقا والسبب المعلق يمين عقدت على البر والعقد على البر ليس بطريق إلى الكفارة لانه لا يجب إلا بالحنث وهو نقص العقد فكان بينهما تناف فلا يصلح سببا وتبين أن الشرط ليس بمعنى الاجل لان هذا داخل على السبب الموجب فمنعه عن اتصاله بمحله فصار كقوله انت مني لم يتصل بقوله حر لم يعمل فصار الحكم معدوما بعد الشرط بالعدم الاصلي كما كان قبل اليمين وهذا بخلاف البيع بخيار الشرط لان الخيار ثمة داخل على الحكم دون السبب حقيقة وحكما إما الحقيقة فلان البيع لا يحتمل الخطر وانما يثبت الخيار بخلاف القياس نظرا فلو دخل على السبب لتعلق حكمه لا محالة ولو دخل على الحكم لنزل سببه وهو مما يحتمل الفسخ فيصلح التدارك به بان يصير غير لازم بادنى المخطرين فكان اولى واما هذا فيحتمل الخطر فوجب القول بكمال التعليق في هذا الباب واما الحكم فان من حلف لا يبيع فباع بشرط الخيار حنث ولو حلف لا يطلق فحلف بالطلاق لم يحنث وإذا بطلت العلقة صار ذلك الايجاب علة كأنه ابتداء ولهذا صح تعليق الطلاق قبل الملك به ولهذا لم يجز تعجيل النذر المعلق وتعجيل الكفارة وهو كالكفارة بالصوم وفرق باطل لانا قد بينا أن حق الله في المالي فعل الاداء لا عين المال إنما يقصد عين المال في حقوق العباد واما في حقوق الله تعالى فلا لان العبادة فعل لا مال وانما المال آلته قال زفر ولما بطل الايجاب لم يشترط قيام المحل لبقائه فإذا حلف بالطلاق الثلاث ثم طلقها ثلاثا لم يبطل اليمين وكذلك العتق وانما شرط قيام الملك لان حال وجود الشرط متردد فوجب الترجيح بالحال فإذا وقع الترجيح بالملك في الحال صار زوال الحل في المستقبل من حيث أنه لا ينافي وجوده عند وجود الشرط لا محالة وزوال (1/131)
الملك في المستقبل سواء إلا ترى أن التعليق بالنكاح يجوز وان كان الحل للحال معدوما فلو كان التعليق يتصل بالمحل لما صح تعليق الطلاق في حق المطلقة ثلاثا بنكاحها وطريق اصحابنا لا يصح إلا أن يثبت للمعلق ضرب اتصال بمحله ليشترط قيام محله واما قيام هذا الملك فلم يتعين لما بينا أنه ليس بتصرف في الطلاق ليصح باعتبار الملك والطريق في ذلك أن تعليق الطلاق له شبه بالإيجاب وبيانه أن اليمين تعقد للبر ولا بد من كون البر مضمونا ليصير واجب الرعاية فإذا حلف بالطلاق كان البر هو الأصل وهو مضمون بالطلاق كالمغصوب يلزمه رده ويكون مضمونا بالقيمة فيثبت شبهة وجوب القيمة فكذلك ههنا تثبت شبهة وجوب الطلاق وقدر ما يجب لا يستغني عن محله فأما تعليق الطلاق بالنكاح فتعليق بما هو علة ملك الطلاق فيصير قدر ما ادعينا من الشبهة مستحقا به فتسقط هذه الشبهة بهذه المعارضة ومسألة تعليق الطلاق بالنكاح بعد الثلاث منصوصة في كتاب الطلاق وفي الجامع ايضا نص في نظيره وهو العتاق وابعد من هذه الجملة ما قال الشافعي رحمه الله من حمل المطلق على المقيد في حادثة واحدة بطريق الدلالة لان الشيء الواحد لا يكون مطلقا ومقيد مع ذلك والمطلق ساكت والمقيد ناطق فكان اولى كما قيل في قوله عليه السلام في خمس من الابل شاة وكما قيل في نصوص العدالة وإذا كانا في حادثتين مثل كفارة القتل وساير الكفارات فكذلك ايضا لان قيد الإيمان زيادة وصف يجري مجرى التعليق بالشرط فيوجب النفي عند عدمه في المنصوص وفي نظيره من الكفارات لانها جنس واحد بخلاف زيادة الصوم في القتل فإنه لم يلحق به كفارة اليمين والطعام في اليمين لم يثبت في القتل وكذلك اعداد الركعات ووظائف الطهارات وأركانها ونحو ذلك لان التفاوت ثابت باسم العلم وهو لا يوجب إلا الوجود وعندنا لا يحمل مطلق على (1/132)
مقيدا أبدا لقوله تعالى لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم فنبه أن العمل بالإطلاق واجب وقال ابن عباس رضي الله عنهما ابهموا ما ابهم الله و اتبعوا ما بين الله وهو قول عامة الصحابة رضي الله عنهم في امهات النساء ولان المقيد اوجب الحكم ابتداء فلم يجز المطلق لان غير مشروع لا لان النص نفاه لما قلنا أن الاثبات لا يوجب نفيا صيغة ولا دلالة ولا اقتضاء فيصير الاحتجاج به احتجاجا بلا دليل وما قلنا عمل بمقتضى كل نص على ما وضع له الاطلاق من المطلق معنى متعين معلوم يمكن العمل به مثل التقييد فترك الدليل إلى غير الدليل باطل مستحيل ولا نسلم له أن القيد بمعنى الشرط إلا ترى أن قوله من نسائكم معرف بالاضافة فلا يكون القيد معرفا ليجعل شرطا ولانا قلنا أن الشرط لا يوجب نفيا بل الحكم الشرعي إنما يثبت بالشرع ابتداء فأما العدم فليس بشرع ولانا أن سلمنا له النفي ثابتا بهذا القيد لم يستقم الاستدلال به على غيره إلا إذا صحت المماثلة وقد جاءت المفارقة في السبب وهو القتل فان اعظم الكبائر وفي الحكم صورة ومعنى حتى وجب في اليمين التخيير ودخل الطعام في الظهار دون القتل فبطل الاستدلال فان قال انا اعدي القيد الزائد ثم النفي يثبت به قيل له أن التقييد بوصف الإيمان لا يمنع صحة التحريم بالكافرة لما قلنا لكن لانه لم يشرع وقد شرع في الملطق لما اطلق فصارت التعدية لمعدوم لا يصلح حكما شرعيا فكان هذا ابعد مما سبق وهذا أمر ظاهر التناقض فأما قيد الاسامة فلم يوجب نفيا عندنا لكن السنة المعروفة في ابطال الزكوة عن العوامل اوجبت نسخ الاطلاق وكذلك قيد العدالة لم يوجب النفي لكن نص الأمر بالتثبت في نبأ الفاسق اوجب نسخ الاطلاق وكذلك قيد التتابع في كفارة القتل والظهار لم يوجب نفيا في كفارة اليمين بل ثبت زيادة على المطلق بحديث مشهور وهو قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (1/133)
ولا يلزم عليه ما قلنا في صدقة الفطر أن النبي عليه السلام قال ادوا عن كل حر وعبد مطلقا وقال في حديث اخر عن كل حر وعبد من المسلمين وعملنا نحن بهما بخلاف كفارة اليمين فإنا لم نجمع بين قراءة عبد الله بن مسعود وبين المعروفة ليجوز الأمر أن والفرق بينهما أن النصين في كفارة اليمين وردا في الحكم والحكم هو الصوم في وجوده لا يقبل وصفين متضادين فإذا ثبت تقييده بطل اطلاقه وفي صدقة الفطر دخلن النصان على السبب ولا مزاحمة في الاسباب فوجب الجمع وهذا نظير ما سبق انا قلنا أن التعليق بالشرط لا يوجب النفي فصار الحكم الواحد معلقا ومرسلا مثل نكاح الأمة تعلق بعدم طول الحرة بالنص وبقي مرسلا مع ذلك لان الارسال والتعليق يتنافيان وجودا فأما قبل ابتداء وجوده فهو معلق أي معدوم يتعلق بالشرط وجوده ومرسل عن الشرط أي محتمل للوجود قبله والعدم الاصلي كان محتملا للوجود ولم يتبدل العدم فصار محتملا للوجود بطريقين وذلك جائز في كل حكم قبل وجوده بطريقين وطرق كثيرة وقد قال الشافعي رحمه الله أن صوم كفارة اليمين غير متتابع ولم يحمله على الظهار والقتل وهذا متناقض فان قال أن الأصل متعارض لاني وجدت صوم المتعة لا يصح إلا متفرقة قيل له ليس كذلك فان صوم السبعة قبل ايام النحر لا يجوز لانه لم يشرع لا لان التفريق واجب إلا ترى انه اضيف إلى وقت بكلمة إذا فكان كالظهر لما اضيف إلى وقت لم يكن مشروعا قبله وذلك معنى ما ذكرناه في موضعه واحكام هذه الأقسام ينقسم إلى قسمين إلى العزيمة والرخصة وهذا باب العزيمة والرخصة
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه العزيمة في الأحكام الشرعية اسم لما هو اصل منها غير متعلق بالعوارض سميت عزيمة لانها من حيث كانت اصولا كانت (1/135)
في نهاية التوكيد حقا لصاحب الشرع وهو نافذ الأمر واجب الطاعة والرخصة اسم لما بنى على اعذار العباد وهو ما يستباح بعذر مع قيام المحرم والاسمان معا دليلان على المراد إما العزم فهو القصد المتناهي في التوكيد حتى صار العزم يمينا وقال الله تعالى ولم نجد له عزما أي لم يكن له قصد مؤكد في العصيان وقال جل ذكره كما صبر اولو العزم من الرسل واما الرخصة فتنبئ عن اليسر والسهولة يقال رخص السعر إذا تيسرت الاصابة لكثرة الاشكال و قلة الرغائب والعزيمة اربعة اقسام فريضة وواجب وسنة ونفل
فهذه اصول الشرع وان كانت متفاوتة في انفسها اما الفرض فمعناه التقدير والقطع في اللغة قال الله تعالى سورة انزلناها وفرضناها أي قدرناها وقطعنا الأحكام فيها قطعا والفرائض في الشرع مقدرة لا تحتمل زيادة ولا نقصان أي مقطوعة ثبتت بدليل لا شبهة فيه مثل الإيمان والصلاة والزكاة والحج وسميت مكتوبة وهذا الاسم يشير إلى ضرب من التخفيف ففي التقدير والتناهي يسر ويشير إلى شدة المحافظة و الرعاية واما الواجب فإنما اخذ من الوجوب وهو السقوط قال الله تعالى فإذا وجبت جنوبها ومعنى السقوط أن ساقط علما هو الوصف الخاص فسمى به أول لما لم يفد العلم صار كالساقط عليه لا كما يحمل ويحتمل أن يؤخذ من الوجبة وهو الاضطراب سمي به لإضطرابه وهو في الشرع اسم لما لزمنا بدليل فيه شبه مثل تعيين الفاتحة وتعديل الاركان والطهارة في الطواف وصدقة الفطر والاضحية والوتر والسنة معناها الطريق والسنن الطرق ويقال سن الماء إذا صبه وهو معروف الاشتقاق وهو في الشرع اسم للطريق المسلوك في الدين والنفل اسم للزيادة في اللغة حتى سميت الغنيمة نفلا لانها غير مقصودة بل زيادة على ما شرع له الجهاد وسمي ولد الولد نافلة لذلك واما الفرض فحكمه اللزوم علما (1/136)
وتصديقا بالقلب وهو الإسلام وعملا بالبدن وهو من اركان الشرايع ويكفر جاحده ويفسق تاركه بلا عذر واما حكم الوجوب فلزومه عملا بمنزلة الفرض لا علما على اليقين لما في دليله من الشبهة حتى لا يكفر جاحده ويفسق تاركه إذا استخف بأخبار الآحاد فأما متأولا فلا وانكر الشافعي رحمه الله هذا القسم والحقه بالفرائض فقلنا انكر الاسم فلا معنى له بعد اقامة الدليل على أنه يخالف اسم الفريضة وانكر الحكم بطل انكاره ايضا لان الدلائل نوعان ما لا شبهة فيه من الكتاب والسنة وما فيه شبهة وهذا أمر لا ينكر وإذا تفاوت الدليل لم ينكر تفاوت الحكم وبيان ذلك أن النص الذي لا شبهة فيه اوجب قراءة القرآن في الصلاة وهو قوله تعالى فاقروا ما تيسر من القران وخبر الواحد وفيه شبهة تعين الفاتحة فلم يجز تغير الأول بالثاني بل يجب العمل بالثاني على أنه تكميل لحكم الأول مع قرارا الأول وذلك فيما قلنا وكذلك الكتاب اوجب الركوع وخبر الواحد اوجب التعديل وكذلك الطواف مع الطهارة فمن رد خبر الواحد فقد ضل عن سواء السبيل ومن سواه بالكتاب والسنة المتواترة فقد اخطأ في رفعه عن منزلته ووضع الاعلى عن منزلته وانما الطريق المستقيم ما قلنا وكذلك السعي في الحج والعمرة وما أشبه ذلك وكذلك تأخير المغرب إلى العشاء بالمزدلفة واجب ثبت بخبر الواحد وإذا صلى في الطريق أمر بالاعادة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله عملا بخبر الواحد فان لم يفعل حتى طلع الفجر سقطت الاعادة لان تأخير المغرب إنما وجب إلى وقت العشاء وقد انتهى وقت العشاء فانتهى العمل فلا يبقى الفساد من بعد إلا بالعلم وخبر الواحد لا يوجبه ولا يعارض حكم الكتاب فلا يفسد العشاء وكذلك الترتيب في الصلوات واجب بخبر الواحد فإذا ضاق الوقت أو كثرت الفوائت فصار معارضا بحكم الكتاب بتغيير الوقتية سقط العمل به وثبت الحطيم من البيت بخبر الواحد (1/137)
فجعلنا الطواف واجبا لا يعارض الأصل وحكم السنة أن يطالب المرء بإقامتها من غير افتراض ولا وجوب لأنها طريقة أمرنا بإحيائها فيستحق اللائمة بتركها إلا أن السنة عندنا قد تقع على سنة النبي عليه السلام وغيره وقال الشافعي رحمه الله مطلقها طريقة النبي صلى الله عليه و سلم وقال ذلك في ارش ما دون النفس في النساء انه لا يتنصف إلى الثلث لقول سعيد بن المسيب رضي الله عنه السنة وقال ذلك في قتل الحر بالعبد وعندنا هي مطلقة لا قيد فيها فلا يقيد بلا دليل وكان السلف يقولون سنة العمرين والسنن نوعان سنة الهدى وتاركها يستوجب إساءة وكراهية والزوائد وتاركها لا يستوجب إساءة كسير النبي عليه السلام في لباسه وقيامه وقعوده وعلى هذا مسائل باب الأذان من كتاب الصلاة اختلفت فقيل مرة يكره ومرة أساء ومرة لا بأس به لما قلنا وإذا قيل تعبد فذلك من حكم الوجوب واما النفل فما يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه ولذلك قلنا أن ما زاد على القصر من صلاة السفر نفل والنفل شرع دائما فلذلك جعلناه من العزايم ولذلك صح قاعدا وراكبا لأنه ما شرع بلازم العجز لا محالة فلازم اليسر وهذا القدر من جنس الرخص وقال الشافعي رحمه الله لما شرع النفل على هذا الوصف وجب أن يبقى كذلك غير لازم وقد غيرتم أنتم وقلت إنما لم يفعل بعد فهو مخير فيه فبطل المؤدى حكما له كالمظنون وقلنا نحن أن ما أداه فقد صار لغيره مسلما إليه وحق غيره محترم مضمون عليه إتلافه ولا سبيل إليه إلا بإلزام الباقي وهما أمران متعارضان أعني المؤدى وغير المؤدى فوجب الترجيح لما قلنا بالاحتياط في العبادة وهو كالنذر صار لله تعالى تسمية لا فعلا ثم وجب لصيانته ابتداء الفعل فلان يجب لصيانة ابتداء الفعل بقاؤه أولى والسنن كثيرة في الصلاة والحج وغير ذلك واما الرخص فأربعة نوعان من الحقيقة أحدهما أحق من الآخر ونوعان من المجاز أحدهما أتم من الآخر (1/139)
أما أحق نوعى الحقيقة فما استبيح مع قيام المحرم وقيام حكمه جميعا فهو الكامل في الرخصة مثل المكره على إجراء كلمة الكفر أنه يرخص له إجراءها والعزيمة في الصبر حتى يقتل لأن حرمة الكفر قائمة لوجوب حق الله تعالى في الإيمان لكنه رخص لعذر وهو أن حق العبد في نفسه يفوت بالقتل صورة ومعنى وحق الله تعالى لا يفوت معنى لأن التصديق باق ولا يفوت صورة من كل وجه لأن الأداء قد صح وليس التكرار ركن لكن في إجراء كلمة الكفر هتك لحقه ظاهرا فكان له تقديم حق نفسه كرامة من الله وإن شاء بذل نفسه حسبة في دينه لإقامة حقه فهذا مشروع قربة فبقى عزيمة وصار بها مجاهدا وكذلك الذي يأمر بالمعروف إذا خاف القتل رخص له في الترك لما قلنا من مراعاة حقه وإن شاء صبر حتى يقتل وهو العزيمة لأن حق الله تعالى في حرمة المنكر باق وفي بذل نفسه إقامة المعروف لأن الظاهر أنه إذا قتل تفرق جمع الفسقة وما كان غرضه إلا تفريق جمعهم فبذل نفسه لذلك فصار مجاهدا بخلاف الغازى إذا بارز وهو يعلم أنه يقتل من غير أن ينكى فيهم لأن جمعهم لا يتفرق بسببه فيصير مضيعا لدمه لا محتسبا مجاهدا وكذلك فيمن أكره على إتلاف مال غيره رخص له لرجحان حقه في النفس فإذا صبر حتى قتل كان شهيدا لقيام الحرمة وهو حق العبد وكذلك إذا أصابته مخمصة فصبر عن مال غيره حتى مات وكذلك صائم أكره على الفطر ومحرم أكره على جناية وما أشبه ذلك من العبادات والحقوق المحترمة وأمثلته كثيرة وأما القسم الثاني فما يستباح بعذر مع قيام السبب موجبا لحكمه غير أن الحكم متراخ مثل المسافر رخص له أن يفطر بناء على سبب تراخي حكمه فكان دون ما اعترض على سبب حل حكمه وإنما يكمل الرخصة بكمال العزيمة لكن السبب لما تراخى حكمه من غير تعليق كان القول بالتراخي بعد تمام السبب رخصة فأبيح له الفطر وكانت العزيمة أولى عندنا لكمال (1/140)
سببه ولتردد في الرخصة حتى صارت العزيمة تؤدي معنى الرخصة من وجه فلذلك تمت العزيمة على ما نبين في آخر هذا الفصل إن شاء الله تعالى وقد أعرض الشافعي عن ذلك فجعل الرخصة أولى اعتبارا لظاهر تراخى العزيمة إلا أن يضعفه الصوم فليس له أن يبذل نفسه لإقامة الصوم لأنه يصير قتيلا بالصوم فيصير قاتلا نفسه بما صار به مجاهدا وفي ذلك تغيير المشروع فلم يكن نظير من بذل نفسه لقتل الظالم حتى أقام الصوم حقا لله تعالى لأن القتل مضاف إلى الظالم فلم يصر الصابر مغيرا للمشروع فصار مجاهد أو إما أتم نوعي المجاز فيما وضع عنا من الإصر والأغلال فإن ذلك يسمى رخصة مجازا لأن الأصل ساقط لم يبق مشروعا فلم يكن رخصة إلا مجازا من حيث هو نسخ تمحض تخفيفا وأما القسم الرابع فما سقط عن العباد مع كونه مشروعا في الجملة فمن حيث سقط الاصل كان مجازا ومن حيث بقي مشروعا في الجملة كان شبيها بحقيقة الرخصة فكان دون القسم الثالث مثاله ما روى أن النبي عليه السلام رخص في السلم وذلك أن أصل البيع أن يلاقى عينا وهذا حكم باق مشروع لكنه سقط في باب السلم أصلا تخفيفا حتى لم يبق تعيينه في السلم مشروعا ولا عزيمة وهذا لأن دليل اليسر متعين لوقوع العجز عن التعيين فوضع عنه أصلا وكذلك المكره على شرب الخمر أو الميتة أو المضطر إليهما رخصة مجازا لأن الحرمة ساقطة حتى إذا صبر صار آثما لأن حرمته ما ثبتت إلا صيانة لعقله ودينه عن فساد الخمر ونفسه عن الميتة فإذا خاف به فوات نفسه لم يستقم صيانة البعض بفوات الكل فسقط المحرم وكان إسقاطا لحرمته فإذا صبر لم يصر مؤديا حق الله تعالى فكان مضيعا دمه إلا أن حرمة هذه الأشياء مشروعة في الجملة ومن ذلك ما قلنا في قصر الصلاة بالسفر أنه رخصة إسقاطا حتى لا يصح أداؤه من المسافر وإنما جعلناها إسقاطا استدلالا بدليل الرخصة ومعناها أما الدليل فما روى (1/141)
أن عمر رضي الله عنه قال انقصر ونحن آمنون فقال النبي عليه السلام أن هذه صدقه تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته سماه صدقة والتصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد وإن كان المتصدق من لا يلزم طاعته كولىالقصاص إذا عفا فممن تلزم طاعته أولى واما المعنى فوجهان أحدهما أن الرخصة لليسر وقد تعين اليسر في القصر بيقين فلا يبقى الاكمال إلا مؤنة محضة ليس فيها فضل ثواب لان الثواب في اداء ما عليه فالقصر مع مؤنة السفر مثل الاكمال كقصر الجمعة مع إكمال الظهر فوجب القول بالسقوط أصلا والثاني أن التخيير إذا لم يتضمن رفقا كان ربويته وانما للعباد اختيار الارفق فإذا لم يتضمن رفقا كان ربوبية ولا شركة له فيها ألا ترى أن الشرع تولى وضع الشرائع جبرا بخلاف التخيير في أنواع الكفارة ونحوها لانه يختار الارفق عنده ولهذا لم نجعل رخصة الصوم اسقاطا لان النص جاء بالتأخير بقوله تعالى فعدة من ايام اخرل بالصدقة بالصوم وانما اسقاط البعض من هذا نظير التاخير والحكم هو التاخير واليسر فيه متعارض لان الصوم في السفر لشق عليه من وجه لسبب السفر ويخف عليه من وجه بشركة المسلمين وهي من اسباب اليسر والتأخير إلى ايام الاقامة يتعذر من وجه وهو الانفراد ويخف من وجه وهو الوفق بمرافق الاقامة والناس في الاختيار متفاوتون فصار التخيير لطلب الرفق فصار الاختيار ضروريا وللعبد اختيار ضروري فأما مطلق الاختيار فلا لانه الهى وصار الصوم اولى لانه أصل وقد يشتمل على معنى الرخصة لما قلنا وهو الذي وعدناه في أول هذا الفصل وانما تمسك وكذلك من قال أن دخلت الدار فعلى صيام سنة ففعل وهو الشافعي في هذا الباب بظاهر العزيمة كما هو دابه في درك حدود الفقه والله اعلم ولا يلزم رجل اذن لعبده في الجمعة انه أن شاء صلى اربعا وهو الظهر وان شاء صلى ركعتين لان الجمعة هي الأصل عند الآذن ولانهما (1/142)
مختلفان فاستقام طلب الرفق كمعسر كان له أن يصوم سنة أو يكفر بصيام ثلثة أيام عند محمد رحمه الله وهو مروى في النوادر عن أبي حنيفة رضي الله عنه فأما في ظاهر الرواية فيجب الوفاء لا محالة لان ذلك مختلف في المعنى أحدهما قربة مقصودة والثاني كفارة وفي مسئلتنا هما سواء فصار كالمدبر إذا جنى لزم مولاه الاقل من الارش ومن القيمة من غير خبار بخلاف العبد لما قلنا ولا يلزم أن موسى عليه السلام كان مخيرا بين أن يرعى ثماني حجج أو عشر فيما ضمن من المهر لان الثمانية كانت مهرا لازما والفضل كان برا منة ويتصل بهذه الجملة معرفة حكم الأمر والنهي في ضد ما نسبا اليه وهذا تابع غير مقصود في جنس الأحكام فاخرناه باب حكم الأمر والنهي في اضدادهما
اختلف العلماء في الأمر بالشيء هل حكم في ضده إذا لم يقصد ضده بنهي فقال بعضهم لا حكم له فيه أصلا وقال الجصاص رحمه الله يوجب النهي عن ضده أن كان له ضد واحد أو اضداد كثيرة وقال بعضهم يوجب كراهة ضده وقال بعضهم يقتضي كراهة وهذا اصح عندنا واما النهي عن الشيء فهل له حكم في ضده فعلى هذا أيضا قال الفريق الأول لا حكم له فيه وقال الجصاص رحمه الله أن كان له ضد واحد كان أمرا به وان كان له اضداد لم يكن أمرا بشيء منها و قال بعضهم يوجب أن يكون ضده في معنى سنة واجبة وعلى القول المختار يحتمل أن يقتضي ذلك احتج الفريق الأول بان كل واحد من القسمين ساكت عن غيره وقد بينا أن السكوت لا يصلح دليلا إلا ترى انه لا يصلح دليلا لما وضع له فيما لم يتناوله إلا بطريق التعليل فلغير ما وضع له اولى واحتج الجصاص رحمه الله بأن الأمر بالشيء وضع لوجوده ولا وجوده له مع الاشتغال بشيء من اضداده فصار ذلك من ضرورات حكمه واما النهي فانه للتحريم ومن (1/143)
ضرورته فعل ضده إذا كان له ضد واحد كالحركة والسكون فأما إذا تعدد الضد فليس من ضرورة الكف عنه اتيان كل اضداده إلا ترى أن المأمور بالقيام إذا قعد أو نام أو اضطجع فقد فوت المأمور به والمنهى عن القيام لا يفوت حكم النهي بأن يقعد أو ينام أو يضطجع قال واجمع الفقهاء رحمهم الله أن المرأة منهية عن كتمان الحيض بقوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في ارحامهن ثم كان ذلك امرا بالاظهار لان الكتمان ضده واحد وهو الاظهار واتفقوا أن المحرم منهى عن لبس المخيط ولم يكن مأمورا بلبس شيء متعين من غير المخيط واحتج الفريق الثالث بأن الأمر على ما قال الجصاص رحمه الله إلا انا اثبتنا بكل واحد من القسمين ادنى ما يثبت به لان الثابت لغيره ضرورة لا يساوي المقصود بنفسه واما الذي اخترناه فبناء على هذا وهو أن هذا لما كان أمرا ضروريا سميناه اقتضاء ومعنى الاقتضاء ههنا انه ضروري غير مقصود فصار شبيها بما ذكرنا من مقتضيات احكام الشرع واما قوله تعالى ولا يحل لهن أن يتمكن فليس بنهي بل نسخ له أصلا مثل قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد فلا يصير الأمر ثابتا بالنهي بل لان الكتمان لم يبق مشورعا لما تعلق باظهاه من احكام الشرع فصار بهذه الواسطة أمر أو هذا مثل قوله الانكاح إلا بشهور وفائدة هذا أن التحريم إذا لم يكن مقصودا بالأمر لم يعتبر إلا من حيث يفوت الأمر فإذا لم يفوته كان مكروها كالأمر بالقيام ليس بنهي عن القعود قصدا حتى إذا قعد ثم قام لم تفسد صلوته بنفس القعود ولكنه يكره ولهذا قلنا أن المحرم لما نهى عن لبس المخيط كان من السنة لبس الإزار والرداء ولهذا قلنا أن العدة لما كان معناها النهي عن التزوج لم يكن الأمر بالكف مقصودا حتى انقضت الاعداد منها بزمان واحد بخلاف الصوم لان الكف وجب بالأمر مقصودا به ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله أن من سجد على مكان نجس لم تفسد صلاته لانه غير مقصود بالنهي (1/144)
وانما المقصود بالأمر فعل السجود على مكان طاهر وهذا لا يوجب فواته حتى إذا اعادها على مكان طاهر جاز عنده ولهذا قال أبو يوسف أن احرام الصلاة لا ينقطع بترك القرائة في مسائل النفل لانه أمر بالقرائة ولم ينه عن تركها قصدا فصار الترك حراما بقدر ما يفوت من الفرض وذلك لهذا الشفع فأما احتمال شفع اخر فلا ينقطع به ولا يلزم أن الصوم يبطل بالاكل لان ذلك الفرض ممتد فكان ضده مفوتا أبدا ولهذا قلنا أن السجود على مكان نجس يقطع الصلاة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو ظاهر الجواب لان السجود لما كان فرضا صار الساجد على النجس بمنزلة الحامل مستعملا له بحكم الفرضية والتطهير عن حمل النجاسة فرض دائم في اركان الصلاة في المكان ايضا فيصير ضده مفوتا للفرض ولهذا قال محمد رحمه الله أن احرام الصلاة ينقطع بترك القراءة في النفل لان القراءة فرض دائم في التقدير حكما على ما عرف فينقطع الاحرام بانقطاعه بمنزلة اداء الركن مع النجاسة وقال أبو حنيفة رحمه الله الفساد بترك القراءة في ركعة ثابت بدليل محتمل فلم يتعد إلى الاحرام وإذا ترك في الشفع كله فقد صار الفساد مقطوعا به بدليل موجب للعلم فتعدى إلى الاحرام ولهذا قال في مسافر ترك القراءة أن احرام الصلاة لا ينقطع وهو قول أبي يوسف رحمه الله لان الترك متردد محتمل للوجود لاحتمال نية الاقامة فلم يصلح مفسدا فصار هذا الباب اصلا يجب ضبطه يبتنى عليه فروع يطول تعدادها والله اعلم بالحقائق باب بيان اسباب الشرائع
اعلم أن الأمر والنهي على الأقسام التي ذكرناها إنما يراد بها طلب الأحكام المشروعة واداؤها وانما الخطاب للأداء ولهذه الأحكام اسباب تضاف اليها شرعية وضعت تيسيرا على العباد وانما الوجوب بإيجاب الله تعالى (1/145)
لا اثر للاسباب في ذلك وانما وضعت تيسيرا على العباد لما كان الايجاب غيبا فنسب الوجوب إلى الاسباب الموضوعة وثبت الوجوب جبرا لا اختيار للعبد فيه ثم الخطاب بالأمر والنهي للأداء بمنزلة البيع يجب به الثمن ثم يطالب بالأداء ودلالة صحة هذا الأصل إجماعهم على وجوب الصلاة على النايم في وقت الصلاة والخطاب عنه موضوع ووجوب الصلاة على المجنون إذا انقطع جنونه دون يوم وليلة وعلى المغمى عليه كذلك والخطاب عنهما موضوع وكذلك الجنون إذا لم يستغرق شهر رمضان كله والاغماء والنوم وان استغرقه لا يمتنع بهما الوجوب ولا خطاب عليهما بالإجماع وقد قال الشافعي رحمه الله بوجوب الزكاة على الصبي وهو غير مخاطب وقالوا جميعا بوجوب العشر وصدقة الفطر عليه فعلم بهذه الجملة أن الوجوب في حقنا مضاف إلى اسباب شرعية غير الخطاب وانما يعرف السبب بنسبة الحكم اليه وتعلقه به لان الأصل في اضافة الشيء إلى الشيء أن يكون سببا له حادثا به وكذلك إذا لازمه فتكرر بتكرره دل أنه مضاف اليه فإذا ثبت هذه الجملة قلنا وجوب الإيمان بالله تعالى كما هو باسمائه وصفاته مضاف إلى ايجابه في الحقيقة لكنه منسوب إلى حدث العالم تيسيرا على العباد وقطعا بحجج المعاندين و هذا سبب يلازم الوجوب لانا لا نعني بهذا أن يكون سببا لوحدانية الله وانما نعني به أنه سبب لوجوب الإيمان الذي هو فعل العباد ولا وجوب إلا على من هو أهل له ولا وجود لمن هو اهله على ما اجري سنته إلا والسبب يلازمه لأن الانسان المقصود به وغيره ممن يلزمه الإيمان به عالم بنفسه سمى عالما لانه جعل علما على وجوده ووحدانيته ولهذا قلنا أن ايمان الصبي صحيح و أن لم يكن مخاطبا ولا مأمورا لأنه مشروع بنفسه وسببه قائم في حقه دائم لقيام دوام من هو مقصود به وصحة الاداء تبتني على كون المؤدي مشروعا بعد قيام سببه ممن هو اهله لا على لزوم ادائه كتعجيل الدين المؤجل واما الصلاة (1/146)
فواجبة بإيجاب الله تعالى بلا شبهة وسبب وجوبها في الظاهر في حقنا الوقت الذي تنسب وجوبها اليه و ما بين هذا وبين قول من قال أن الزكاة تجب بإيجاب وملك المال سببه والقصاص يجب بإيجابه والقتل العمد سببه فرق وليس السبب بعلة و الدليل عليه إنها اضيفت إلى الوقت قال الله تعالى اقم الصلاة لدلوك الشمس فالنسبة باللام اقوى وجوه الدلالة على تعلقها بالوقت وكذلك يقال صلاة الظهر والفجر وعلى ذلك اجماع الأمة ويتكرر بتكرر الوقت ويبطل قبل الوقت اداؤه ويصح بعد هجوم الوقت وان تأخر لزومها فقد تقدم ذكر احكام هذا القسم فيما يرجع إلى الوقت وسبب وجوب الزكاة ملك المال الذي هو نصابه لانه في الشرع مضاف إلى المال والغنا وتنسب اليه بالإجماع ويجوز تعجيلها بعد وجد ما يقع به الغنى غير أن الغنى لا يقع على الكمال واليسر الا بمال وهو نام ولا نماء إلا بالزمان فاقيم الحول وهو المدة الكاملة لاستنماء المال مقام النماء وصار المال الواحد بتجدد النماء فيه بمنزلة المتجدد بنفسه فيتكرر الوجوب بتكرر الحول على انه متكرر بتكرر المال في التقدير وسبب وجوب الصوم ايام شهر رمضان قال الله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه أي فليصم في ايامه والوقت متى جعل سببا كان ظرفا صالحا للأداء و الليل لا يصلح له فعلم أن اليوم سببه بدلالة نسبته اليه وتعلقه به وتعليق الحكم بالشيء شرعا دليل على انه سببه هذا هو الأصل في الباب وقد تكرر بتكرره ونسب اليه فقيل صوم شهر رمضان وصح الاداء بعده من المسافر وقد تأخر الخطاب به ولهذا وجب على صبي يبلغ في بعض شهر رمضان وكافر يسلم بقدر ما ادركه لأن كل يوم سبب لصومه بمنزلة كل وقت من اوقات الصلاة وقد مرت احكام هذا القسم وسبب وجوب صدقة الفطر على كل مسلم غنى رأس يمونه بولايته عليه ثبت ذلك بقول النبي عليه السلام أدوا عن كل حر و (1/147)
عبد وبقوله عليه السلام ادوا عمن تمونون وبيانه أن كلمة عن لانتزاع الشيء فتدل على أحد وجهين إما أن يكون سببا ينتزع الحكم عنه أو محلا يجب الحق عليه فيؤدي عنه وبطل الثاني لاستحالة الوجوب على العبد والكافر والفقير فعلم به أنه سبب ولذلك يتضاعف الوجوب بتضاعف الرؤوس واما وقت الفطر فشرطه حتى لا يعمل السبب إلا لهذا الشرط وانما نسبت إلى الفطر مجازا والنسبة تحتمل الاستعارة فأما تضاعف الوجوب فلا يحتمل الاستعارة و بيان قولنا أن الاضافة تحتمل الاستعارة ظاهر لان الشيء يضاف إلى الشرط مجازا فأما تضاعف الوجوب فلا يحتمل الاستعارة لان الوجوب إنما يكون بسبب أو علة لا يكون بغير ذلك وهذا لا يتصور فيه الاستعارة وكذلك وصف المؤنة يرجح الرأس في كونه سببا وقد بينا معنى المؤنة فيه في موضعه وسبب وجوب لحج البيت لانه ينسب اليه ولم يتكرر قال الله تعالى ولله على الناس حج البيت واما الوقت فهو شرط الاداء بدلالة انه لا يتكرر وبتكرره غير أن الاداء شرع متفرقا منقسما على امكنة وازمنة يشتمل عليها جملة وقت الحج فلم يصلح تغيير الترتيب كما لا يصلح السجود قبل الركوع فلذلك لم يجز طواف الزيارة قبل يوم النحر والوقوف قبل يوم عرفة واما الاستطاعة بالمال فشرط لا سبب لما ذكرنا انه لا ينسب اليه ولا يتكرر بتكرره ويصح الاداء دونه من الفقراء ألا ترى إنها عبادة بدنية فلا يصلح المال سببا لها ولكنها عبادة هجرة وزيارة فكان البيت سببا لها وسبب وجوب العشر الأرض النامية بحقيقة الخارج لان العشر ينسب إلى الأرض وفي العشر معنى مؤنة الأرض لانها اصل وفيه معنى العبادة لان الخارج للسبب وصف وصار السبب بتجدد وصفة متجددا في التقدير فلم يجز التعجيل قبل الخارج لان الخارج بمعنى السبب لوصف العبادة فلو صح التعجيل لخلص معنى المؤنة فلما صارت الأرض نامية اشبه تعجيل زكاة السائمة والابل العلوفة ثم اسامها وكذلك سبب الخراج إلا أن النماء معتبر (1/148)
في الخراج تقديرا لا تحقيقا بالتمكن به من الزراعة فصار مؤنة باعتبار الأصل وعقوبة باعتبار الوصف لان الزراعة عمارة الدنيا واعراض عن الجهاد فكان سببا لضرب من المذلة ولذلك لم يجتمعا عندنا وسبب وجوب الطهارة الصلاة لانها تنسب اليها وتقوم بها وهو شرطها فتعلق بها حتى لم يجب قصدا لكن عند إرادة الصلوة والحدث شرطه بمنزلة سائر شروط الصلاة ومن المحال أن يجعل الحدث سببا إلا يرى أن ازالة له وتبديل فلا يصلح سببا له واما اسباب الحدود والعقوبات فما نسب اليه من قتل وزنا وسرقة وسبب الكفارات ما نسب اليه من أمر دائر بين حظر واباحة مثل الفطر وقتل الخاطئ وقتل الصيد واليمين ونحوها وقتل العمد واليمين الغموس واشباه ذلك لا يصلح سببا للكفارة ويفسر ذلك في موضعه أن شاء الله عز و جل وسبب المعاملات تعلق البقاء المقدور بتعاطيها والبقاء معلق بالنسل والكفاية وطريقها اسباب شرعية موضوعة للملك والاختصاص باب بيان اقسام السنة
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه اعلم أن سنة النبي عليه السلام جامعة للامر و النهي والخاص والعام وسائر الأقسام التي سبق ذكرها وكانت السنة فرعا للكتاب في بيان تلك الأقسام باحكامها فلا نعيدها وانما هذا الباب لبيان وجوه الاتصال وما يتصل بها فيهما يفارق الكتاب وتختص السنن به وذلك اربعة اقسام قسم في كيفية الاتصال بنا من رسول الله عليه السلام وقسم في الانقطاع وقسم في بيان محل الخبر الذي جعل حجة فيه وقسم في بيان نفس الخبر فأما الاتصال برسول الله عليه السلام فعلى مراتب اتصال كامل بلا شبهة واتصال فيه ضرب شبهة صورة واتصال فيه شبهة صورة ومعنى واما المرتبة الأولى فهو المتواتر وهذا (1/149)
باب المتواتر
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه الخبر المتواتر الذي اتصل بك من رسول الله صلى الله عليه و سلم اتصالا بلا شبهة حتى صار كالمعاين المسموع منه وذلك أن يرويه قوم لا يحصى عددهم ولا يتوهم تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين اماكنهم ويدوم هذا الحد فيكون اخره وأوسطه كطرفيه وذلك مثل نقل القرآن والصلوات الخمس واعداد الركعات ومقادير الزكوات وما اشبه ذلك وهذا القسم يوجب علم اليقين بمنزلة العيان علما ضروريا ومن الناس من انكر العلم بطريق الخبر اصلا وهذا رجل سفيه لم يعرف نفسه ولا دينه ولا دنياه ولا امه ولا اباه مثل من انكر العيان وقال قوم أن المتواتر يوجب علم طمأنينة لا يقين ومعنى الطمأنينة عندهم ما يحتمل أن يتخالجه شك أو يعتريه وهم قالوا أن المتواتر صار جمعا بالآحاد وخبر كل واحد منهم محتمل والاجتماع يحتمل التواطؤ وذلك كاخبار الموجوس قصة زرادشت اللعين واخبار اليهود صلب عيسى عليه السلام وهذا قول باطل نعوذ بالله من الزيغ بعد الهدى بل المتواتر يوجب علم اليقين ضرورة بمنزلة العيان بالبصر والسمع بالاذن وصنعا وتحقيقا إما الوضع فأنا نجد المعرفة بابائنا بالخبر مثل المعرفة باولادنا عيانا ونجد المعرفة بانا مولودون نشأنا عن صغر مثل معرفتنا به في اولادنا ونجد المعرفة بجهة الكعبة خبرا مثل معرفتنا بجهة منازلنا سواء واما التحقيق فلان الخلق خلقوا على همم متفاوتة وطبايع متباينة لا تكاد تقع امورهم إلا مختلفة فلما وقع الاتفاق كان ذلك لداع اليه وهو سماع أو اختراع وبطل الاختراع لان تباين الاماكن وخروجهم عن الاحصاء مع العدالة يقطع الاختراع فتعين الوجه الآخر والطمأنينة على ما فسره المخالف إنما يقع بغفلة من المتأمل لو تأمل (1/150)
حتى تأمله لوضح له فساد باطنه فلما اطمأن بظاهره كان أمرا محتملا فأما أمر يوكد باطنه ظاهره ولا يزيد التأمل إلا تحقيقا فلا كالداخل على قوم جلسوا للمأتم يقع له العلم به عن غفلة عن التأمل ولو تأمل حق تأمله لوضح له الحق من الباطل فأما العلم بالمتواتر فلما يجب عن دليل اوجب علما بصدق المخبر به لمعنى في الدليل لا لغفلة من المتأمل وصحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم وBهم كانوا قوما عدولا ائمة لا يحصى عددهم ولا يتفق اماكنهم طالت صحبتهم واتفقت كلمتهم بعد ما تفرقوا شرقا وغربا وهذا يقطع الاختراع ولما تصور الخفاء مع بعد الزمان ولهذا صار القرآن معجزة لانهم عجزوا عن ذلك واشتغلوا ببذل الارواح فكان خبرهم في نهاية البيان قاطعا احتمال الوضع يقينا بلا شبهة إذ لو كان شبهة وضع لما خفي مع كثرة الاعداء واختلاط أهل النفاق قال الله تعالى وفيكم سماعون لهم وذلك مثل سلامة كتاب الله تعالى عن المعارضة وعجز البشر عن ذلك إذ لو كان ذلك لما خفي مع كثرة المتعنتين وهذا مثله فأما إخبار زرادشت فتخييل كله فأما ما روى أنه ادخل قوائم الفرس في بطن الفرس فإنما رووا انه فعل ذلك في خاصة الملك و حاشيته وذلك آية الوضع والاختراع إلا أن ذلك الملك لما رأى شهامته تابعه على التزوير والاختراع فكان العلم به لغفلة المتأمل دون صحة الدليل وكذلك أخبار اليهود مرجعها إلى الآحاد فانهم كانوا سبعة نفر دخلوا عليه واما المصلوب فلا يتأمل عادة مع تغير هيأته وعلى انه القى على واحد من أصحاب عيسى عليه السلام شبهه كما قص الله تعالى ولكن شبه لهم وذلك جائز استدراجا ومكرا على قوم متعنتين حكم الله تعالى عليهم بانهم لا يؤمنون فكان محتملا مع أن الرواة أهل تعنت وعداوة فبطلت هذه الوجوه بالمتواتر والله اعلم فصار منكر المتواتر ومخالفه كافرا (1/151)
باب المشهور من الأخبار
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه المشهور ما كان من الآحاد في الأصل ثم انتشر فصار ينقله قوم لا يتوهم تواطؤهم على الكذب وهم القرن الثاني بعد الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم وأولئك قوم ثقات ائمة لا يتهمون فصار بشهادتهم وتصديقهم بمنزلة المتواتر حجة من حجج الله تعالى حتى قال الجصاص أن أحد قسمي المتواتر وقال عيسى بن ابان أن المشهور من الأخبار يضلل جاحده ولا يكفر مثل حديث المسح على الخفين وحديث الرجم وهو الصحيح عندنا لان المشهور بشهادة السلف صار حجة للعمل به كالمتواتر فصحت الزايادة به على كتاب الله تعالى وهو نسخ عندنا وذلك مثل زيادة الرجم والمسح على الخفين والتتابع في صيام كفارة اليمين لكنه لما كان في الأصل من الآحاد ثبت به شبهة فسقط به علم اليقين ولم يستقم اعتباره في العمل فاعتبرناه في العلم لانا لا نجد وسعا في رد المتواتر وانما يشك فيه صاحب الوسواس و نحرج في رد المشهور لانه لا يمتاز عن المتواتر إلا بما يشق دركه لكن العلم بالمتواتر كان لصدق في نفسه فصار يقينا والعلم بالمشهور لغفلة عن ابتدائه وسكون إلى حاله فسمى علم طمأنينة والاول علم اليقين باب خبر الواحد
وهو الفصل الثالث من القسم الأول وهو كل خبر يرويه الواحد أو الاثنان فصاعدا لا عبرة للعدد فيه بعد أن يكون دون المشهور والمتواتر وهذا يوجب العمل ولا يوجب العلم يقينا عندنا وقال بعض الناس لا يوجب العمل لانه لا يوجب العلم ولا عمل إلا عن علم قال الله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وهذا لان صاحب الشرع موصوف بكمال القدرة فلا ضرورة له في التجاوز (1/152)
عن دليل يوجب علم اليقين بخلاف المعاملات لانها من ضروراتنا وكذلك الرأي من ضروراتنا فاستقام أن يثبت غير موجب علم اليقين وقال بعض أهل الحديث يوجب علم اليقين لما ذكرنا أنه اوجب العمل ولا عمل من غير علم وقد ورد الآحاد في احكام الآخرة مثل عذاب القبر ورؤية الله تعالى بالابصار ولا حظ لذلك إلا العلم قالوا وهذا العلم يحصل كرامة من الله تعالى فثبت على الخصوص للبعض دون البعض كالوطئ تعلق من بعض دون بعض ودليلنا في أن خبر الواحد يوجب العمل واضح من الكتاب والسنة والإجماع والدليل المعقول إما الكتاب قال الله تعالى وإذ اخذ الله ميثاق الذين اوتوا الكتاب لتبينه للناس وكل واحد إنما يخاطب بما في وسعه ولو لم يكن خبرة حجة لما أمر ببيان العلم وقال جل ذكره فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وهذا في كتاب الله اكثر من أن يحصى واما السنة فقد صح عن النبي عليه السلام قبوله خبر الواحد مثل خبر بريرة في الهدية وخبر سلمان في الهدية والصدقة وذلك لا تحصى عدده ومشهور عنه أنه بعث الأفراد إلى الآفاق مثل علي ومعاذ وعتاب بن اسيد ودحية وغيرهم رضي الله عنهم وهكذا أكثر من أي يحصى وأشهر من ان يخفى وكذلك أصحابه رضي الله عنهم عملوا بالآحاد وحاجوا بها قد ذكر محمد رحمه الله في هذا غير حديث في كتاب استحسان واختصرنا على هذه الجملة لوضوحها واستفاضتها وأجمعت الأمة على قبول أخبار الآحاد من الوكلاء والرسل والمتضاربين وغيرهم وأما المعقول فلان الخبر يصير حجة بصفة الصدق والخبر يحتمل الصدق والكذب وبالعدالة بعد أهلية الأخبار يترجح الصدق وبالفسق الكذب فوجب العمل برجحان الصدق ليصير حجة للعمل ويعتبر احتمال السهو والكذب لسقوط علم اليقين وهذا لان العمل صحيح من غير علم اليقين الا ترى أن العمل بالقياس صحيح بغالب الرأي وعمل الحكام بالبينات (1/154)
صحيح بلا يقين فكذلك هذا الخبر من العدل يفيد علما بغالب الرأي وذلك كاف للعمل وهذا اضرب علم فيه اضطراب وكان دون علم الطمأنينة واما دعوى علم اليقين به فباطل بلا شبهة لان العيان يرده من قبل انا قد بينا أن المشهور لا يوجب علم اليقين فهذا اولى وهذا الان خبر الواحد محتمل لا محالة ولا يقين مع الاحتمال ومن انكر هذا فقد سفه نفسه واضل عقله وإذا اجتمع الآحاد حتى تواترت حدث حقيقة الخبر ولزوم الصدق باجتماعهم وذلك وصف حادث مثل إجماع الأمة إذا ازدحمت الاراء سقطت الشبهة فأما الآحاد في احكام الاخرة فمن ذلك ما هو مشهور ومن ذلك ما هو دونه لكنه يوجب ضربا من العلم على ما قلنا وفيه ضرب من العمل أيضا وهو عقد القلب عليه إذ العقد فضل على العلم والمعرفة وليس من ضروراته قال الله تعالى وجحدوا بهما واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقال تعالى يعرفونه كما يعرفون ابنائهم فصح الابتلاء بالعقد كما صح بالعمل بالبدن ولهذا جوزنا القول بالنسخ قبل العمل وقبل التمكن من العمل والله اعلم وإذا ثبت أن خبر الواحد حجة قلنا انه منقسم وهذا باب تقسيم الراوي الذي جعل خبره حجة
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه وهو ضربان معروف ومجهول والمعروف نوعان من عرف بالفقه والتقدم في الاجتهاد ومن عرف بالرواية دون الفقه والفتيا وأما المجهول فعلى وجوه إما أن يروي عنه الثقات ويعملوا بحديثه ويشهدوا له بصحه حديثه أو يسكتوا عن الطعن فيه أو يعارضوه بالطعن والرد أو اختلف فيه او لم يظهر حديثه بين السلف فصار قسم المجهول على خمسة اوجه إما المعروفون فالخلفاء الراشدون وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وابو موسى ألاشعري وعايشة (1/158)
رضي الله عنهم وغيرهم ممن اشتهر بالفقه والنظر وحديثهم حجة أن وافق القياس أو خالفه فان وافقه تأيد به وان خالفه ترك القياس به وقال مالك رحمه الله فيما يحكى عنه بل القياس مقدم عليه لان القياس حجة باجماع السلف وفي اتصال هذا الحديث شبهة والجواب أن الخبر يقين بأصله وانما دخلت الشبهة في نقله والرأي محتمل بأصله في كل وصف على الخصوص فكان الاحتمال في الرأي أصلا وفي الحديث عارضا لان الوصف في النص كالخبر والرأي والنظر فيه كالسماع والقياس عمل به والوصف ساكت عن البيان والخبر بيان بنفسه فكان الخبر فوق الوصف في الابانة والسماع فوق الرأي في الاصابة ولهذا قدمنا خبر الواحد على التحري في القبلة فلا يجوز التحري معه واما رواية من لم يعرف بالفقه ولكنه معروف بالعدالة والضبط مثل أبي هريرة وانس بن مالك رضي الله عنهما فان وافق القياس عمل به وان خالفه لم يترك إلا بالضرورة وانسداد باب الرأي ووجه ذلك أن ضبط حديث النبي عليه السلام عظيم الخطر وقد كان النقل بالمعنى مستفيضا فيهم فإذا قصر فقه الراوي عن درك معاني حديث النبي عليه السلام واحاطتها لم يؤمن من ان يذهب عليه شيء من معانية بنقله فيدخله شبهة زائدة يخلو عنها القياس فيحتاط في مثله وانما نعني بما قلنا قصورا عند المقابلة بفقه الحديث فأما الازدراء بهم فمعاذ الله من ذلك فان محمدا رحمه الله يحكي عن أبي حنيفة رضي الله عنه في غير موضع انه احتج بمذهب انس بن مالك رضي الله عنه وقلده فماظنك في أبي هريرة رضي الله عنه حتى أن المذهب عند اصحابنا رحمهم الله في ذلك انه لا يرد حديث امثالهم إلا إذا انسد باب الرأي والقياس لانه إذا انسد صار الحديث ناسخا للكتاب والحديث المشهور ومعارضا للاجماع وذلك مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه في المصراة أن انسد فيه باب الرأي فصار ناسخا الكتاب والسنة المعروفة معارضا (1/159)
للاجماع في ضمان العدوان بالمثل والقيمة دون التمر وفي وجوه اخر ذكرناها في موضعها واما المجهول فإنما نعني به المجهول في رواية الحديث بان لم يعرف إلا بحديث أو بحديثين مثل وابصة بن معبد وسلمة بن المحبق ومعقل بن سنان فان روى عنه السلف وشهدوا له بصحة الحديث صار حديثه مثل حديث المعروف بشهادة أهل المعرفة وان سكتوا عن الطعن بعد النقل فكذلك لان السكوت في موضع الحاجة إلى البيان بيان ولا يتهم السلف بالتقصير وان اختلف فيه مع نقل الثقات عنه فكذلك عندنا مثل حديث معقل بن سنان أبي محمد الأشجعى في حديث يروع بنت واشق الاشجعية انه مات عنها هلال بن أبي مرة ولم يكن فرض لها ولا دخل بها فقضى لها رسول الله صلى الله عليه و سلم بمهر مثل نسائها فعمل بحديثه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورده على رضي الله عنه لما خالف رأيه وقال ما نصنع بقول اعرابي بوال على عقبيه ولم يعمل الشافعي رحمه الله بهذا القسم لانه خالف القياس عنده وعندنا هو حجة لأنه وافقةالقياس عندنا وإنما يترك إذا خالف القياس وقد روى عنه الثقات مثل عبد الله بن مسعود وعلقمة ومسروق ونافع بن جبير والحسن فثبت بروايتهم عدالته مع انه من قرن العدول فلذلك صار حجة وساعده عليه أناس من اشجع منهم أبو الجراح وغيره فأما إذا كان ظهر حديثه ولم يظهر من السلف إلا الرد لم يقبل حديثه وصار مستنكرا لا يعمل به على خلاف القياس وصار هذا غير حجة يحتمل أن يكون حجة على العكس من المشهور انه حجة يحتمل شبهة عند التأمل واما إذا لم يظهر حديثه في السلف فلم يقابل برد ولا قبول لم يترك به القياس ولم يجب العمل به لكن العمل به جائز لان العدالة اصل في ذلك الزمان ولذلك جوز أبو حنيفة رحمه الله القضاء بظاهر العدالة من غير تعديل حتى أن رواية مثل هذا المجهول في زماننا لا تحل العمل به لظهور الفسق (1/160)
فصار المتواتر يوجب علم اليقين والمشهور علم طمأنينة وخبر الواحد علم غالب الرأي والمستنكر منه يفيد الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا والمستتر منه في حيز الجواز للعمل به دون الوجوب والله اعلم ومثال المستنكر مثل حديث فاطمة بنت قيس أن النبي عليه السلام لم يجعل لها نفقة ولا سكنى فقد رده عمر رضي الله عنه فقال لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا صلى الله عليه و سلم بقول امراة لا ندري اصدقت ام كذبت احفظت ام نسيت قال عيسى بن ابان فيه انه اراد بالكتاب والسنة القياس وقد رده غيره من الصحابة أيضا وكذلك حديث بسرة بنت صفوان في مس الذكر هذا القسم وانما جعل خبر العدل حجة بشرائط في الراوي وهذا باب بيان شرائط الراوي
التي هي من صفات الراوي وهي اربعة العقل والضبط والاسلام والعدالة إما العقل فهو شرط لان المراد بالكلام ما يسمى كلاما صورة ومعنى ومعنى الكلام لا يوجد إلا بالتمييز والعقل لانه وضع للبيان ولا يقع البيان بمجرد الصوت والحروف بلا معنى ولا يوجد معناه إلا بالعقل وكل موجود من الحوادث فبصورته ومعناه يكون فلذلك كان العقل شرطا ليصير الكلام موجودا واما الضبط فإنما يشترط لان الكلام إذا صح خبرا فانه يحتمل الصدق والكذب والحجة هو الصدق فأما الكذب فباطل والكلام في خبر هو حجة فصار الصدق والاستقامة شرطا للخبر ليثبت حجة بمنزلة المعرفة والتمييز لاصل الكلام والصدق بالضبط يحصل فأما العدالة فإنما شرطت لان كلامنا في خبر مخبر غير معصوم عن الكذب فلا يثبت صدقه ضرورة بل الاستدلال والاحتمال وذلك بالعدالة وهو الانزجار عن محظورات دينه ليثبت به رجمان الصدق في خبره واما الإسلام فليس بشرط (1/163)
لثبوت الصدق لان الكفر لا ينافي الصدق ولكن في هذا الباب يوجب شبهة يجب بها رد الخبر لان الباب باب الدين والكافر ساع لما يهدم الدين الحق فيصير منهما في باب الدين فثبت بالكفر تهمة زائدة لا نقصان حال بمنزلة الاب فيما يشهد لولده ولهذا لم يقبل شهادة الكافر على المسلم لما قلنا من العداوة ولانقطاع الولاية باب تفسير هذه الشروط وتقسيمها
قال الشيخ رضي الله عنه إما العقل فنور يضيء به طريق يبتدأ به من حيث ينتهي اليه درك الحواس فيبتدئ المطلوب للقلب فيدركه القلب يتأمله بتوفيق الله تعالى وانه لا يعرف في البشر إلا بدلالة اختياره فيما يأتيه ويذره ما يصلح له في عاقبته وهو نوعان قاصر لما يقارنه ما يدل على نقصانه في ابتداء وجوده وهو عقل الصبي لان العقل يوجد زائدا ثم هو بحكم الله تعالى وقسمته متفاوت لا يدرك تفاوته فعلقت احكام الشرع بادني درجات كماله واعتداله واقيم البلوغ الذي هو دليل عليه مقامة تيسيرا والمطلق من كل شيء يقع على كماله فشرطنا لوجوب الحكم وقيام الحجة كمال العقل فقلنا أن خبر الصبي ليس بحجة لان الشرع لما لم يجعله وليا في أمر دنياه ففي أمر الدين اولى وكذلك المعتوه واما الضبط فان تفسيره سماع الكلام كما يحق سماعه ثم فهمه بمعناه الذي أريد به ثم حفظه ببذل المجهود له ثم الثبات عليه بمحافظة حدوده ومراقبته بمذكراته على اساءة الظن بنفسه إلى حين ادائه وهو نوعان ضبط المتن بصيغته ومعناه لغة والثاني أن يضم إلى هذه الجملة ضبط معناه فقها وشريعة وهذا اكملها و المطلق من الضبط يتناول الكامل ولهذا لم يكن خبر من اشتدت غفلته خلقة أو مسامحة و مجازفة حجة لعدم القسم الأول من الضبط ولهذا قصرت رواية من لم يعرف (1/165)
بالفقه عند معارضة من عرف بالفقه في باب الترجيح وهو مذهبنا في الرجيح ولا يلزم عليه أن نقل القرآ ن ممن لا ضبط له جعل حجة لأن نقله في الأصل إنما ثبت بقوم هم أئمة الهدى وخير الورى ولأن نظم القرآن معجز يتعلق به أحكام على المخمصوص مثل جواز الصلوة وحرمة التلاوة على الحائض والجنب فاتبره في نقله نظمه وبنى عليه معناه فأما السنة فإن المعنى أصلها والنظلم غير لازم فيها ولأن نقل القرآن ممن لا يضبط الصيغة بمعناها إنما يصح إذا بذلك مجودة واستفرغ وسعه ولو فعل ذلك في السنة لصار ذلك حجة إلا أنه لما عدم ذلك عادة شرطنا كمال الضبط ليصير حجة ومعنى قولها أن يسمعه حق سماعه أن الرجل قد ينتهي إلى المجلس وقد مضى صدر من الكلام فربما يخفي على المتكلم هجومه ليعيد عليه ما سبق من كلامه فعلى السامع الاحتياط في مثله ثم قد يزدرى السامع بنفسه فلا يراها ألا لتبليغ الشريعة فيقصر في بعض ما ألقى إليه ثم يفضي به فضل الله تعالى إلى ان يتصد لإقامة الشريعة وقد قضر في بعض ما لزمه فلذلك شرطنا مراقبته وأما العدالة فإن تفسيرها الاستقامة يقال طريق عدل للجادة وجائر للبينات وهي نوعان أيضا قاصر وكامل أما لقاصر فما ثبت منه بظاهر الإسلام واستدال العقل لأن الأصل حالة الإستقامة لكن هذا الأصل لا يفارقه هوى يضله ويصده عن الاستقامة وليس لكما الاستقامة حديد رك مداه لأنها بتقديره الله تعالى ومشيئته يتفاوت فاعتبر في ذلك ما لا يؤدي إلى إلى الحرج والمشقة وتضييع حدود الشريعة وهو وجهان جهة الدين والعقل على طريق الهدى والشهوة فقيل من ارتكب كبيرة سقطت عدالته وصار متهما بالكذب وإذا أصر على ما دون الكبيرة كان مثلها في وقع التهمة وجرح العدالة فأما من ابتلى بشيء من غير الكبائر من غير اسرار فدل كامل العدالة وخيره حجة في إقامة الشريعة والمطلق من العدالة ينصرف إلى أكمل الوجهين فلهذا لم يجعل (1/166)
خبر الفاسق والمستور حجة وقال الشافعي رحنه الله لما لم يكن خير المستور حجة فخبر المجهول أولى والجواب أن خبر المجهول من الصدر الأول مقبول عندنا على الشرط الذي قلنا بشهادة النبي عليه السلام على ذلك القرن بالعدالة وأما الإيمان والإسلام فإن تفسيره التصديق والإقرار بالله سبحانه وتعالى كما ه بصفاته وقبول شرايعه وأحكامه وهو نوعان ظاهر بنشوه بين المسلمين وثبوت حكم الإسلام بغيره من الوالدين وثابت بالبيان بأن يصف الله تعالى كما هو إلا أن هذا كمال يتغذر شرطه لأن معرفة الخلق بأوصافه على التفسير متفاوتة وإنما شرط الكمال بما لا حرج فيه وهو أن يثبت التصديق والإقرار بما قلنا اجمالا وإن عجز عن بيانه وتفسيره ولهذا قلنا أن الواجب أن يستوصف المؤمن فيقال أو كذا فإذا قال نعم فقد طهر كمال اسلامه ألا ترى أن النبي عليه السلام استوصف فيما يروى عنه عن ذكر الجمل دون التفسير نوعان بذلك أمرنا بالكتاب والسنة قال الله تعالى يا ايها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهادرات فامتحنوهن الله اعلم بأيمانهن وكان النبي عليه السلام يمتحن الأعراب بعد دعوى الإيمان إلا أن تظهر امارته فيجب التسليم له كما قال النبي عليه السلام إذا رأيتم الرجل يعتاد الجماعة فشاهدوا له بالإيمان وقال النبي عليه السلام من صلى صلواتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فاشهدوا له بالإيمان فأما من استوصف فجهل فليس مؤمن كذلك قال محمد في الجامع الكبير في الصغيرة بين أبوين مسلمين إذا لم تصف الإيمان حتى أدركت فلم تصفه أنها تبين من زوجها وإذا ثبت هذه الجملة كان الأعمى والمحدود في القذف والمرأة والعبد من أهل الرواية وكان خبرهم حجة بخلاف الشهادات في حقوق الناس لأنها تفتقر إلى تمييز زائد ينعدم بالعمى وإلى ولاية كاملة متعدية ينعدم بالرق وتقصر بالأنوثة وبحد القذف (1/167)
على ما عرف فأما هذا فليس من باب الولاية لوجهين أحدهما أن ما يلزم السامع من خبر المخبر بأمور الدين فإنما يلزمه بالتزامه طاعة الله ورسوله كما يلزم القاضي الفصل والقضاء والسماع بالتزامه لا بالزام الخصم والثاني أن خبر المخبر في الدين يلزمه أولا ثم يتعدى إلى غيره ولا يشترط بمثله قيام الولاية بخلاف الشهادة في مجلس الحكم وقد ثبت عن أصحاب رسول الله رواية الحديث ممن ابتلى بذهاب البصر وقبول رواية النساء والعبيد ورجوعهم إلى قول عايشة رضي الله عنها وقبول النبي عليه الصلوة والسلام خبر بريرة وسلمان وغيرهما والله اعلم إما المرتبة الثانية (1/169)
باب بيان قسم الانقطاع
وهو نوعان ظاهر وباطن إما الظاهر فالمرسل من الأخبار وذلك اربعة أنواع ما ارسله الصحابي والثاني ما ارسله القرن الثاني والثالث ما ارسله العدل في كل عصر والرابع ما ارسل من وجه واتصل من وجه اخر أما القسم الأول فمقبول بالإجماع وتفسير ذلك أن من الصحابة من كان من الفتيان قلت صحبته فكان يروي عن غيره من الصحابة فإذا اطلق الرواية فقال قال رسول الله عليه السلام كان ذلك منه مقبولا وان احتمل الارسال لان من ثبتت صحبته لم يحمل حديثه الا على على سماعه بنفسه إلا أن يصرح بالرواية عن غيره واما ارسال القرن الثاني والثالث 2فحجة عندنا وهو فوق المسند كذلك ذكره عيسى ابن ابان وقال الشافعي رحمه الله لا يقبل المرسل إلا أن يثبت اتصاله من وجه اخر ولهذا قبلت مراسيل سعيد بن المسيب لاني وجدتها مسانيد وحكى أصحاب مالك بن انس عنه انه كان يقبل المراسيل ويعمل بها مثل قولنا احتج المخالف بان الجهل بالراوي جهل بصفاته التي بها يصح روايته لكنا نقول لا باس بالارسال استدلالا بعمل الصحابة والمعنى المعقول إما عمل الصحابة فان أبي هريرة لما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من اصبح جنبا فلا صوم له فردت عائشة رضي الله عنها قال سمعته من الفضل بن عباس فدل ذلك على انه كان معروفا عندهم ولما روى ابن عباس أن النبي عليه السلام قال لا ربا إلا في النسيئة فعوض في ذلك بربا النقد قال سمعته من اسامة بن زيد وقال البراء بن عازب رضي الله عنه ما كل ما نحدث سمعنا من رسول الله عليه السلام وانما حدثنا عنه لكنا لا نكذب واما المعنى فهو أن كلامنا في ارسال (1/171)
من لو اسند عن غيره قبل اسناده ولا يظن به الكذب عليه فلان لا يظن به الكذب على رسول الله عليه السلام اولى والمعتاد من الأمر أن العدل إذا وضح له الطريق واستبان له الاسناد طوى الأمر وعزم عليه فقال قال رسول الله عليه السلام وإذا لم يتضح له الأمر نسبه إلى من سمعه لتحمله ما تحمل عنه فعمد أصحاب ظاهر الحديث فردوا اقوى الامرين وفيه تعطيل كثير من السنن إلا انا اخرناه مع هذا عن المشهور لان هذا ضرب مزية للمراسيل بالاجتهاد فلم يجز النسخ بمثله بخلاف المتواتر والمشهور فأما قوله أن الجهالة تنافي شروط الحجة فغلط لان الذي ارسل إذا كان ثقة تقبل اسناده لم يتهم بالغفلة عن حال من سكت عن ذكره وانما علينا تقليد من عرفنا عدالته لا معرفة ما ابهمه إلا ترى انه إذا اثنى على من اسند اليه خيرا ولم يعرفه بما يقع لنا العلم به صحت روايته فكذلك هذا واما ارسال من دون هؤلاء فقط اختلف فيه فقال بعض مشايخنا يقبل ارسال كل عدل وقال بعضهم لا يقبل إما وجه القول الأول فما ذكرنا واما الثاني فلان الزمان زمان فسق فلا بد من البيان إلا أن يروي الثقات مرسله كما رووا مسنده مثل ارسال محمد بن الحسن وامثاله واما الفصل الاخير فقد رد بعض أهل الحديث الاتصال بالانقطاع وعامتهم على أن الانقطاع يجعل عفوا بالاتصال من وجه اخر واما الانقطاع الباطن فنوعان انقطاع بالمعارضة وانقطاع لنقصان وقصور في الناقل إما الأول فإنما يظهر بالعرض على الاصول فإذا خالف شيئا من ذلك كان مردودا منقطعا وذلك اربعة اوجه ايضا ما خالف كتاب الله والثاني ما خالف السنة المعروفة والثالث ما شذ من الحديث فيما اشتهر من الحوادث وعم به البلوى فورد مخالفا للجماعة والرابع أن يعرض عنه الأئمة من أصحاب النبي عليه السلام إما الأول فلان الكتاب ثابت بيقين فلا يترك بما فيه شبهة ويستوي في ذلك الخاص والعام والنص والظاهر حتى أن العام من الكتاب لا يخص بخبر الواحد عندنا خلافا للشافعي رحمه الله و لا يزاد على الكتاب بخبر الواحد عندنا ولا يترك الظاهر من الكتاب ولا ينسخ بخبر الواحد وإن كان نصا لان المتن أصل والمعنى فرع له والمتن من الكتاب فوق المتن من السنة لثبوته ثبوتا بلا شبهة فيه فوجب الترجيح به قبل المصير إلى المعنى وقد قال النبي عليه السلام تكثر لكم (1/173)
الأحاديث من بعدي فإذا روى لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله تعالى فاقبلوه وما خالفوه فردوه فلذلك نقول أنه لا يقبل خبر الواحد في نسخ الكتاب ويقبل فيما ليس من كتاب الله على وجه لا ينسخه ومن رد أخبار الآحاد فقد أبطل الحجة فوقع في العمل بالشبهة وهو القياس أو استصحاب الحال الذي ليس بحجة أصلا ومن عمل بالآحاد على مخالفة الكتاب ونسخه فقد أبطل اليقين والأول فتح باب الجهل والإلحاد والثاني فتح باب البدعة وإنما سواء السبيل فيما قاله أصحابنا في تنزيل كل منزلته ومثال هذا مس الذكر أنه يخالف الكتاب لأن الله تعالى مدح المتطهرين بالاستنجاء بقوله تعالى فيه رجال رجال يحبون أن يتطهروا والمستنجي يمس ذكره وهو بمنزلة البول عند من جعله حدثا ومثل حديث فاطمة بنت قيس الذي روينا في النفقة أنه يخالف الكتاب وهو قوله تعالى اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم الآية ومعناه وأنفقوا عليهن من وجدكم وقد قلنا أن الظاهر من الكتاب أحق من نص الآحاد وكذلك مما خالف الكتاب من السنن أيضا حديث القضاء بالشاهد واليمين لأن الله تعالى قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم ثم فسر ذلك بنوعين برجلين بقوله من رجالكم وبقوله فرجل وامرأتان ومثل هذا إنما يذكر لقصر الحكم عليه ولأنه قال ذلك أدنى أن لا ترتابوا ولا مزيد على الأدنى ولأنه انتقل إلى غير المعهود وهو شهادة النساء ولو كان الشاهد واليمين حجة لكان مقدما على غير المعهود وصار ذلك بيانا على الاستقصاء وقال في آية أخرى أو آخران من غيركم فنقل إلى شهادة الكافر حين كانت حجة على المسلمين وذلك غير معهود في موت المسلمين ووصاياهم فيبعد أن يترك المعهود ويأمر بغيره ولأنه ذكر في ذلك يمين الشاهد بقوله فيقسمان بالله ويمين الخصم في الجملة مشروع فأما يمين الشاهد فلا صار النقل إلى يمين الشاهد في غاية البيان بأن يمين المدعى ليست بحجة وأمثال هذا كثير ومثله خبر المصراة وكذلك ما خالف السنة المشهورة أيضا لما قلنا انه فوقه فلا ينسخ به وذلك مثل حديث الشاهد واليمين لأنه خالف المشهور وهو قوله البينة على المدعى واليمين على من أنكر يعنى المدعى عليه ومثل حديث سعد بن وقاص رضي الله عنه في بيع التمر بالرطب مخالف لقوله عليه السلام التمر بالتمر بزيادة مماثلة هي ناسخة للمشهور باعتبار جودة ليست من المقدار (1/175)
إلا أن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله عملا به على أن اسم التمر لا يتناول الرطب في العادة كما في اليمين واما القسم الثالث فلان الحادثة إذا اشتهرت وخفي الحديث كان ذلك دلالة على السهو لان الحادثة إذا اشتهرت استحال أن يخفي عليهم ما يثبت به حكم الحادثة إلا ترى انه كيف اشتهر في الخلف فإذا شذ الحديث مع اشتهار الحادثة كان ذلك زيافة وانقطاعا وذلك مثل حديث الجهر بالتسمية ومثل حديث مس الذكر وما اشبه ذلك واما القسم الاخير فلان الصحابة رضي الله عنهم هم الاصول في نقل الشريعة فاعراضهم يدل على انقطاعه وانتساخه وذلك أن يختلفوا في حادثة بارائهم ولم يحاج بعضهم في ذلك بحديث كان ذلك زيافة لان استعمال الرأي والأعراض عن النص غير سايغ وذلك مثل حديث الطلاق بالرجال والعدة بالنساء لان الصحابة اختلفوا ولم يرجعوا اليه وكذلك اختلفوا في زكاة الصبي ولم يرجعوا إلى قوله ابتغوا في اموال اليتامى خيرا كيلا تأكلها الزكاة فهذا انقطاع باطن معنوي اعرض عنه الخصم وتمسك بظاهر الانقطاع كما هو دأبه واما القسم الآخر فأنواع اربعة خبر المستور وخبر الفاسق وخبر الصبي العاقل والمعتوه والمغفل والمساهل وخبر صاحب الهوى إما خبر المستور فقد قال في كتاب الاستحسان انه مثل الفاسق فيما يخبر من نجاسة الماء وفي رواية الحسن هو مثل العدل وهذه الرواية بناء على القضاء بظاهر العدالة والصحيح ما حكاه محمد أن المستور كالفاسق لا يكون خبره حجة جتى يظهر عدالته وهذا بلا خلاف في باب الحديث احتياطا إلا في الصدر الأول على ما قلنا في المجهول واما خبر الفاسق فليس بحجة في الدين اصلا لرجحان كذبة على صدقه وقد قال محمد رحمه الله في الفاسق إذا اخبر بحل أو حرمة أن السامع يحكم رأيه فيه لان ذلك أمر خاص لا يستقيم طلبه وتلقيه من جهة العدول فوجب التحري في خبرة فأما هنا فلا ضرورة في المصير إلى روايته وفي العدول كثرة وبهم غنية إلا أن الضرورة في حل الطعام والشراب غير لازمة لان العمل بالاصل ممكن وهو أن الماء طاهر في الأصل فلم يجعل الفسق هدرا بخلاف خبر الفاسق في الهدايا وجه والوكالات ونحوها لان الضرورة ثمه لازمة وفيه اخر نذكره في باب محل الخبر أن شاء الله تعالى واما الصبي والمعتوه فقد ذكر محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان بعد ذكر العدل والفاسق والكافر وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان فقال بعضهم هما مثل العدل المسلم البالغ و الصحيح (1/177)
انهما مثل الكافر لا يقوم حجة بخبرهما ولا يفوض أمر الدين اليهما لما قلنا أن خبرهما لا يصلح ملزما بحال لان الولاية المتعدية فرع للولاية القائمة وليس لهما ولاية ملزمة في حق انفسهما وانما هي مجوزة فكيف يثبت متعدية ملزمة وانما قلنا إنها متعدية ملزمة لان ما يخبر عنه الصبي من امور الدين لا يلزمه لانه غير مخاطب فيصير غيره مقصودا بخبره فيصير من باب الالزام بمنزلة خبر الكافر بخلاف العبد لما قلنا والمعتوه مثل الصبي نص على ذلك محمد في غير موضع من المبسوط إلا ترى أن الصحابة تحملوا في صغرهم ونقلوا في كبرهم وقد قال محمد في الكافر يخبر بنجاسة الماء انه لا يعمل بخبره ويتوضأ به فان تيمم واراق الماء فهو احب الي وفي الفاسق جعل الاحتياط اصلا ويجب أن يكون كذلك في رواية الحديث فيما يستحب من الاحتياط وكذلك رواية الصبي فيه يجب أن يكون مثل رواية الكافر دون الفاسق المسلم إلا ترى أن الفاسق شاهد عندنا بخلاف الصبي والكافر غير شاهد على المسلم اصلا فصار الصبي المسلم والكافر البالغ في امور الدين سواء والفاسق فوقهما حتى انا نقول في خبره بنجاسة الماء إذا وقع في قلبه أنه صادق يتيمم من غير اراقة الماء فان اراق الماء فهو احوط للتيمم واما في خبر الكافر إذا وقع في قلب السامع صدق بنجاسة الماء توضأ به ولم يتيمم فان اراق ثم تيمم فهو افضل وكذلك الصبي والمعتوه لان الذي يلي هذا العطف في كتاب الاستحسان الكافر وفي رواية الحديث يجب أن يكون كذلك في حكم الاحتياط خاصة واما المغفل الشديد الغفلة وهو مثل الصبي و المعتوه فأما تهمة الغفلة فليس بشيء ولا يخلو عامة البشر عن ضرب غفلة إذا كان عامة حاله التيقظ واما المساهل فإنما نعني به المجازف الذي لا يبالي من السهو والخطأ والتزوير وهذا مثل المغفل إذا اعتاد ذلك فقد يكون العادة الزم من الخلقة واما صاحب الهوى فان اصحابنا رحمهم الله عملوا بشهادتهم إلا الخطابية لان صاحب الهوى وقع فيه لتعمقه وذلك يصده عن الكذب فلم يصلح شبهة وتهمة إلا من يتدين بتصديق المدعي إذا كان ينتحل بنحلته فيتهم بالباطل والزور مثل الخطابية وكذلك من قال بالإلهام انه حجة يجب أن لا تجوز شهادته ايضا واما في باب السنن فان المذهب المختار عندنا أن لا يقبل رواية من انتحل الهوى والبدعة ودعا الناس اليه على هذا ائمة الفقه والحديث كلهم لان الحاجة والدعوة إلى (1/179)
الهوى سبب داع إلى التقول فلا يؤتمن على حديث رسول الله عليه السلام وليس كذلك الشهادة في حقوق الناس لان ذلك لا يدعو إلى التزوير في ذلك فلم ترد شهادته فإذا صح هذا كان صاحب الهوى بمنزلة الفاسق في باب السنن والاحاديث واما المرتبة الثالثة باب بيان محل الخبر
وهو الذي جعل الخبر فيه حجة وذلك خمسة أنواع ما يخلص حقا لله تعالى من شرايعه مما ليس بعقوبة والثاني ما هو عقوبة من حقوقه والثالث من حقوق العباد ما فيه الزام محض والرابع من حقوق العباد ما ليس فيه الزام والخامس من حقوق العباد ما فيه الزام من وجه دون وجه فأما الأول فمثل عامة شرائع العبادات وما شاكلها وخبر الواحد فيها حجة على ما قلنا من شرائطه وأما في القسم الثاني فإن أبا يوسف قال فيما روى عنه أنه يجوز اثبات العقوبات بالآحاد وهو احتيار الجصاص واختيار الكرخي أنه لا يجوز ذلك وجه القوه الأول خبر الواحد يفيد من العلم ما يصلح العمل به في إقامة الحدود كما في البينات في مجالس الحكم وكما يجوز اثباتها بدلالة النص ووجه القول لآخر أن اثبات الحدود بالشبهات لا تجوز فإذا تمكن في الدليل شبهة لم يجز كما لو يجز بالقياس فأما البينة فإنما صارت حجة بالنص بالنص الذي لا شبهة فيه في اللواطة بالقياس ولا بالخبر الغريب من الآحاد واما القسم الثالث فلا يثبت إلا بلفظ الشهادة والعدد عند الإمكان وقيام الاهلية بالولاية مع سائر شرائط الأخبار لما فيها من محض الالزام وتوكيدا لها لما يخاف فيها من وجوه التزوير والتلبيس صيانة للحقوق المعصومة وذلك مما يطول ذكره والشهادة بهلال الفطر من هذا القسم واما القسم الرابع فيثبت بأخبار الآحاد بشرط التمييز دون العدالة وذلك مثل الوكالات والمضاربات والرسالات في الهدايا والاذن في التجارات وما اشبه ذلك وقبل فيها خبر الصبي والكافر ولهذا قلنا في الفاسق إذا اخبر رجلا أن فلانا وكلك بكذا فوقع في قلبه صدق حل له العمل به وذلك لوجهين أحدهما عموم الضرورة الداعية إلى سقوط شرط العدالة والثاني أن الخبر غير ملزم فلم يشرط شرط الالزام بخلاف امور الدين مثل طهارة (1/181)
الماء ونجاسته ولهذا الأصل لم تقبل شهادة الواحد بالرضاع في النكاح وفي ملك اليمين وبالحرية لما فيه من الزام حق العباد ولهذا لم يقبل خبر الواحد العدل في موضع المنازعة لحاجتنا إلى الزام وقبلنا في موضع المسالمة وعلى ذلك بنى محمد مسايل في اخر كتاب الاستحسان مثل خبر الرجل أن فلانا كان غصب مني هذا العبد فاخذته منه لم يقبل ولو قال تاب فرده على قبل خبره ولهذا قبلنا خبر الفاسق في إثبات الآذن للعبد ولهذا قلنا خبر المخبر في الرضاع الطارئ على النكاح أو الموت أو الطلاق إذا اراد الزوج أن ينكح اختها أو ارادت المرأة نكاح زوج اخر لانه مجوز غير ملزم وامثلته اكثر من أن يحصى والشهادة بهلال رمضان من هذا القسم واما القسم الخامس فمثل عزل الوكيل وحجر المأذون ووقوع العلم للبكر البالغة بانكاح وليها إذا سكتت ووقوع العلم بفسخ الشركة والمضاربة ووجوب الشرايع على المسلم الذي لم يهاجر ففي هذا كله إذا كان المبلغ وكيلا أو رسولا ممن اليه الابلاغ لم يشترط فيه العدالة لانه قائم مقام غيره وإذا اخبره فضولي بنفسه مبتديا فان ابا حنيفة قال لا يقبل فيه الا خبر الواحد العدل وفي الاثنين كذل عند بعضهم وقال بعضهم لا يشترط العدالة في المثنى ولفظ الكتاب في الاثنين محتمل قال حتى يخبره رجل واحد عدل أو رجلان ولم يشترط العدالة فيهما نصا ويحتمل أن يشترط سائر شرائط الشهادة إلا العدد عند أبي حنيفة رحمه الله أو العدد ما سائر الشرائط غير العدالة فلا يقبل خبر العبد والصبي و المرأة فأما عندهما فان الكل سواء لانه من باب المعاملات ولكن ابا حنيفة رحمه الله قال انه من جنس الحقوق اللازمة لانه يلزمه حكما بالعزل والحجر فيلزمه فيه العهدة من لزوم عقد أو فساد عمل ومن وجه يشبه سائر المعاملات لان الذي يفسخ يتصرف في حقه كما يتصرف في حقه بالاطلاق فشرطنا فيه العدد أو العدالة لكونها بين المنزلتين بخلاف المخبر إذا كان رسولا لما قلنا وفي شرط المثنى من غير عدالة على ما قله بعض مشايخنا فائدة لتوكيد الحجة والعدد اثر في التوكيد بلا اشكال والله اعلم والتزكية من القسم الرابع عند أبي حنفية وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد هو من جنس القسم الثالث على ما عرف والله اعلم باب بيان القسم الرابع من اقسام السنة
وهو الخبر لهذا الباب قسمان قسم رجع إلى نفس الخبر وقسم رجع إلى معناه فأما نفس الخبر (1/182)
فله طرفان طرف السامع وطرف المبلغ وكل واحد منهما على قسمين عزيمة ورخصة إما الطرف الذي هو طرف السامع فان العزيمة في ذلك ما يكون من جنس الاسماع الذي لا شبهة فيه والرخصة ما ليس فيه اسماع إما الاسماع الذي هو عزيمة فاربعة اقسام قسامان في نهاية العزيمة و أحدهما احق من صاحبه وقسمان اخران يخلفان القسمين الأولين هما من باب العزيمة ايضا لكن على سبيل الخلافة فصار لهما شبه بالرخصة إما القسمان الاولان فما يقرأه عليك من كتاب أو حفظ وانت تسمعه وما تقرأ عليه من كتاب أو حفظ وهو يسمع فتقول له اهو كما قرأت عليك فيقول نعم قال عامة أهل الحديث أن القسم الأول على المنزلتين إلا ترى إنها طريقة الرسول عليه السلام وهو المطلق من الحديث المشافهة وقال أبو حنيفة أن ذلك كان احق من رسول الله عليه السلام لانه كان مأمونا عن السهو وما كان يكتب وكلامنا فيمن يجري عليه السهو ويقرأ من المكتوب دون المحفوظ وهما في المشافهة سواء لان اللغة لا يفصل بين بيان المتكلم بنفسه وبين أن يقرأ عليه فيستفهم فيقول نعم إلا ترى انهما سواء في اداء الشهادات وهذا لان نعم كلمة وضعت للاعادة اختصارا على ما مر والمختصر لغة مثل المشبع سواء وما قلناه احوط لان رعاية الطالب اشد عادة وطبيعة فلا يؤمن على الذي يقرأ الغلط ويؤمن الطالب في مثله فأنت على قرأتك اشد اعتمادا منك على قراءته وانما يبقى احتمال الغفلة منه عن ما قرأته عليه وهذا اهون من ترك شيء من المتن أو السند حتى أن الرواية إذا كانت عن حفظ كان ذلك الوجه احق كما قلتم واما الوجهان الآخران فاحدهما الكتاب والثاني الرسالة إما الكتاب فعلى رسم الكتب ويقول فيه حدثنا فلان إلى أن يذكر متن الحديث ثم يقول فإذا بلغك كتابي هذا وفهمته فحدث به عني لهذا الاسناد وهذا من الغائب مثل الخطاب إلا ترى أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يرى الكتاب تبليغا يقوم به الحجة وكتاب الله تعالى اصل الدين وكذلك الرسالة على هذا الوجه إلا ترى أن تبليغ الرسول عليه السلام كان الارسال ايضا وذلك بعد أن يثبتنا بالحجة والمختار في القسمين الأولين أن يقول السامع حدثنا لان ذلك يستعمل في المشافهة قال في الزيادات فيمن قال أن كلمت فلانا أو حدثت به انه يقع على المكالمة مشافهة وفي القسمين الآخرين المختار أن يقول اخبرنا لان الكتاب والرسالة ليسا بمشافهة إلا ترى انا نقول اخبرنا الله وانبأنا ونبأنا بالكتاب والرسالة ولا نقول (1/183)
حدثنا ولا كلمنا إنما ذلك خاص لموسى صلوات الله عليه قال الله تعالى وكلم الله موسى تكليما ولهذا قلنا فيمن حلف لا يحدث بكذا ولا يكلم به انه لا يحنث بالكتاب والرسالة بخلاف ما حلف لا يخبر بكذا أن يحنث بذلك واما الرخصة فما الاسماع فيه وهو الاجازة والمناولة وكل ذلك على وجهين إما أن يكون المجاز له عالما بما في الكتاب أو جاهلا به فان كان عالما به قد نظر فيه وفهم ما فيه فقال له المجيز أن فلانا قد حدثنا بما في هذا الكتاب على ما فهمته باسانيده هذه فأنا أحدثك منه واجزت لك الحديث به فيصح الاجازة على هذا الوجه إذا كان المستجيز مأمونا بالضبط والفهم ثم المستحب في ذلك أن يقول اجاز لي فلان ويجوز أن يقول حدثني أو اخبرني والاولى أن يقول اجاز لي ويجوز اخبرني لان ذلك دون المشافهة وإذا لم يعلم بما فيه بطلت الاجازة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وصح في قياس قول أبي يوسف رحمه الله واصل ذلك في كتاب القاضي إلى القاضي والرسائل أن علم ما فيهما شرط لصحة الاشهاد عندهما خلافا لأبي يوسف وانما جوز ذلك أبو يوسف فيما كان من باب الاسرار في العادة حتى لا يجوز في الصكوك وكذلك المناولة مع الاجازة مثل الاجازة المفردة سواء فيحتمل أن لا يجوز في هذا الباب ويحتمل الجواز بالضرورة وانما يجوز عنده إذا أمن الزيادة والنقصان والاحوط قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويحتمل أن يكون قول أبي يوسف مثله ايضا لان السنة اصل في الدين وامرها عظيم وخطبها جسيم وفي تصحيح الاجازة من غير علم ومعرفة رفع الابتلاء وحسم لباب المجاهدة وفتح لباب التقصير والبدعة وإنما ذلك نظير سماع الصبي الذي ليس من أهل التحمل و ذلك أمر يتبرك به لا طريق تقوم به الحجة فكذلك ههنا واما من جلس مجلس السماع وهو يشتغل عنه بنظر في كتاب غير الذي يقرأ أو يخط بقلم أو يعرض عنه بلهو ولعب أو يغفل عنه بنوم وكسل فلا ضبط له ولا امانة وتخاف عليه أن يحرم حظة و العياذ بالله ولا يقوم الحجة بمثله ولا يتصل الاسناد بخبره إلا ما يقع من ضرورة فانه عفو وصاحبه معذور وإذا صح السماع وجب الحفظ إلى وقت الاداء وذلك نوعان ايضا تام وما دونه عند المقابلة فالأول عزيمة مطلقة والثاني رخصة انقلبت عزيمة إما الأول فالحفظ من غير واسطة الخط وهذا فصل خص به رسول الله عليه السلام لقوة نور القلب استغنى عن الخط وكانوا لا يكتبون من قبل ثم صارت الكتابة سنة في الكتاب والحديث صيانة للعلم لفقد العصمة من النسيان (1/185)
وهذا باب الكتابة والخط
وهذا يتصل بما سبق ذكره من باب الضبط وهو نوعان ما يكون مذكرا وهو الأصل الذي انقلب عزيمة و ما يكون إماما لا يفيد تذكره إما الذي يكون مذكرا فهو حجة سواء كان خطه أو خط رجل معروف أو مجهول لان المقصود هو الذكر والاحتراز عن النسيان غير ممكن وانما كان دوام الحفظ لرسول الله عليه السلام مع قوله تعالى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله واما إذا كان الخط إماما لا يذكره شيئا فان ابا حنيفة كان يقول لا يحل الرواية بمثله بحال لان الخط للقلب بمنزلة المرأة للعين والمرأة إذا لم تفد للعين دركا كان عدما فالخط إذا لم يفد للقلب ذكرا كان هدرا وانما يدخل الخط في ثلاثة فصول فيما يجب القاضي في ديوانه مما لا يذكره وما يكون في السنن والاحاديث وما يكون في الصكوك وروى بشر بن الوليد عن أبي حنيفة رحمهما الله عن أبي يوسف انه لم يعمل به في ذلك كله وروى عن أبي يوسف انه يعمل به في ديوان القاضي وروى ابن رستم عن محمد انه يعمل بالخط في الكل والعزيمة في هذا كله ما قاله أبو حنيفة ولهذا قلت رواياته والرخصة فيما قالا فصارت الكتابة للحفظ عزيمة وبلا حفظ رخصة والعزيمة نوع واحد والرخصة أنواع ما يكون بخط موثقا بيده لا يحتمل تبديلا كذلك ما يوجد بخط معروف لرجل ثقة موثق بيده وما يكون بخط مجهول وذلك كله ثلاثة أنواع في الحديث والصكوك وديوان القاضي إما أبو يوسف فقد عمل به في ديوان القاضي إذا كان تحت يده للامن عن التزوير وعمل به في الاحاديث أن كان لهذا الشرط واما إذا لم يكن في يده لم يحل العمل به في الديوان لان التزوير في بابه غالب لما يتصل بالمظالم وحقوق الناس واما في باب الحديث فان العمل به جايز إذا كان خطا معروفا يخاف عليه التبديل في غالب العادة ويؤمن فيه الغلط لان التبديل فيه غير متعارف والمحفوظ بيد الأمبين مثل المحفوظ بيده واما في الصكوك فلا يحل العمل به لانه تحت يد الخصم إلا أن يكون في يد الشاهد وكذلك قول محمد رحمه الله إلا في الصكوك فانه جوز العمل به وان لم يكن في يده استحسانا توسعة على الناس إذا احاط علما بأنه خطة ولم يلحقه شك وشبهة والغلط في الخط نادر بقي فصل وهو ما يحدث بخاطبيه أو خط رجل معروف في كتاب معروف فيجوز ان تقول وجدت بخط أبي أو بخط فلان لا يزيد عليه فأما الخط المجهول فعلى وجهين إما أن يكون مفردا وذلك باطل واما أن يكون مضمونا إلى جماعة (1/187)
لا يتوهم التزوير في مثله والنسبة تامة يقع بها التعريف فيكون كالمعروف والله اعلم واما طرف التبليغ فقسمان ايضا عزيمة ورخصة إما العزيمة فالتمسك باللفظ المسموع واما الرخصة فالنقل إلى اللفظ يختار الناقل وهذا باب شرط نقل المتون
قال بعض أهل الحديث لا رخصة في هذا الباب واظنه اختيار ثعلب من ائمة اللغة قالوا الان أن النبي صلى الله عليه و سلم قال نضر الله أمرا سمع مني مقالة فوعاها واداها كما سمعها ولانه صلى الله عليه و سلم مخصوص بجوامع الكلم سابق في الفصاحة والبيان فلا يؤمن في النقل التبديل والتحريف وقال عامة العلماء لا بأس بذلك في الجملة رخصة لاتفاق الصحابة على قولهم امرنا رسول الله عليه السلام بكذا ونهانا عن كذا ومعروف عن ابن مسعود وغيره قال رسول الله عليه السلام كذا أو نحوا منه أو قريبا منه وفي تفصيل الرخصة جواب عما قال وهذا لان النظم من السنة غير معجز وانما النظم لمعناه بخلاف القرآن والسنة في هذا الباب أنواع ما يكون محكما لا يشتبه معناه ولا يحتمل غير ما وضع له ظاهر يحتمل غير ما ظهر من معناه من عام يحتمل الخصوص أو حقيقة يحتمل المجاز ومشكل أو مشترك لا يعمل به إلا بتأويل ومجمل أو متشابه وقد يكون من جوامع الكلم التي اختص بها رسول الله عليه السلام قال عليه السلام فيما يحكي من اختصاصه واوتيت جوامع الكلم فهي خمسة اقسام إما الأول فلا بأس لمن له بصر بوجوه اللغة أن ينقله إلى لفظ يؤدي معناه لانه إذا كان محكما مفسرا أمن فيه الغلط على أهل العلم بوجوه اللغة فثبت النقل رخصة وتيسيرا وقد ثبت في كتاب الله ضرب من الرخصة مع أن النظم معجز قال النبي صلى الله عليه و سلم انزل القرآن على سبعة احرف وانما ثبت ذلك ببركة دعوة النبي عليه السلام غير أن ذلك رخصة اسقاط وهذه رخصة تخفيف وتيسير مع قيام الأصل على نحو ما مر تقسيمه في باب العزيمة والرخصة واما القسم الثاني فلا رخصة فيه إلا لمن حوى إلى علم اللغة فقه الشريعة والعلم بطريق الاجتهاد لانه إذا لم يكن كذلك لا يؤمن عليه أن ينقله إلى ما لا يحتمل ما احتمله اللفظ المنقول من خصوص أو مجاز ولعل المحتمل هو المراد ولعله يزيده عموما فيخل بمعانيه فقها وشريعة واما القسم الثالث فلا يخل فيه النقل لانه لا يفهم معناه إلا بتأويل وتأويله على غيره ليس بحجة واما (1/188)
الرابع فلا يتصور فيه النقل لما مر أن المجمل ما لا يفهم مراده إلا بالتفسير والمتشابه ما انسد علينا باب دركه وابتلينا بالكف عنه واما الخامس فإنه لا يؤمن فيه الغلط لإحاطة الجوامع بمعان قد يقصر عنها عقول ذوي الألباب وكل مكلف بما في وسعه وذلك مثل قول النبي عليه السلام الخراج بالضمان وذلك أكثر من أن يحصي ويعد ومن مشايخنا من لم يفصل بين الجوامع وغيرها لكن هذا أحوط في الوجهين عندنا والله اعلم بالصواب باب تقسيم الخبر من طريق المعنى
وهو خمسة أقسام ما هو صدق لا شبهة فيه وهو خبر الرسول عليه السلام وذلك هو المتواتر منه وقسم فيه شبهة وهو المشهور وقسم محتمل ترجح جانب صدقه وهو ما مر من أخبار الآحاد وقسم محتمل عارض دليل رجحان الصدق منه ما أوجب وقفه فلم يقم به الحجة وذلك مثل ما سبق من أنواع ما يسقط به خبر الواحد والقسم الخامس الخبر المطعون الذي رده السلف وأنكروه وهذا القسم نوعان نوع لحقه الطعن والنكير من راوي الحديث ونوع آخر ما لحقه ذلك من جهة غير الراوي وهذا باب ما يلحقه النكير من قبل الراوي
ولهذا النوع أربعة أقسام ما انكره صريحا والثاني أن يعمل بخلافه قبل أن يبلغه أو بعد ما بلغه أو لا يعرف تاريخه والقسم الثالث أن يعين بعض ما احتمله الحديث من تأويل أو تخصيص والرابع أن يمتنع عن العمل به إما إذا أنكر المروي عنه الرواية فقد اختلف فيه السلف فقال بعضهم لا يسقط العمل به وقال بعضهم ليسقط العمل به وهذا أشبه وقد قيل أن قول أبي يوسف أن يسقط الاحتجاج به وقال محمد رحمه الله لا يسقط وهو فرع اختلافهما في شاهدين شهدا على القاضي بقضية وهو لا يذكرها فقال أبو يوسف رحمه الله لا تقبل وقال محمد تقبل أما من قبله فقد احتج بما روى في حديث ذي اليدين أن النبي عليه السلام لم يقبل خبره حيث قال أقصرت الصلاة أم نسيتها فقال كل ذلك لم يكن فقد قال بعض ذلك قد كان وقال لأبي بكر وعمر أحق ما يقول ذو اليدين فقالا نعم فقبل شهادتهما على نفسه بما لم يذكر ولأن النسيان محتمل من المروى عنه بخلاف الشهادة لأنها لا تصح إلا بتجميل الأصول فلذلك (1/191)
بطلت بإنكارهم والحجة للقول الثاني ما روى عن عمار بن ياسر أنه قال لعمر أما تذكر حيث كنا في أبل فاجنبت فتمعكت في التراب فذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام فقال إنما كان يكفيك ضربتان فلم يذكره عمر فلم يقبل خبره مع عدالته وفضله ولا ناقد بينا أن خبر الواحد يرد بتكذيب العادة فتكذيب الراوى وعليه مداره أولى وحديث ذي اليدين ليس بحجة لأن النبي عليه السلام ذكره فعمل بذكره وعلمه وهو الظاهر من حاله فما كان تقر على الخطاء والحاكي يحتمل النسيان بان سمع غيره فنسيه وهما في الاحتمال على السواء ومثال ذلك حديث ربيعة عن سهيل بن أبي صالح في الشاهدين واليمين أن سهيلا سئل عن رواية ربيعة عنه فلم يعرفه وكان يقول حدثني ربيعة عنى ومثل حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه السلام أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها نكاحها باطل رواه سليمان بن موسى عن الزهري وسأل ابن جريج عن الزهري عن هذا الحديث فلم يعرفه فلم يقم به الحجة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ومثال ذلك أن ابا يوسف أنكر مسائل على محمد حكاها عنه في الجامع الصغير فلم يقبل شهادته على نفسه حين لم يذكر وصحح ذلك محمد واما إذا عمل بخلافه فان كان قبل روايته وقبل أن يبلغه لم يكن جرحا لان الظاهر أنه تركه بالحديث إحسانا للظن به واما إذا عمل بخلافه بعده مما هو خلاف بيقين فإن ذلك جرح فيه لأن ذلك إن كان حقا فقد بطل الاحتجاج به وإن كان خلافه باطلا فقد سقط به روايته إلا أن يعمل ببعض ما يحتمله الحديث على ما نبين إن شاء الله تعالى وإذا لم يعرف تاريخه لم يسقط الاحتجاج به لأنه حجة في الأصل فلا يسقط بالشبهة وذلك مثل حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام قال أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فهو باطل ثم إنها زوجت بنت عبد الرحمن وهو غائب وكان ذلك بعد الرواية فلم يبق حجة ومثل حديث ابن عمر في رفع اليدين في الركوع سقط برواية مجاهد أنه قال صحبت ابن عمر سنين فلم أره يرفع يديه إلا في تكبيرة الافتتاح واما عمل الراوي ببعض محتملاته فرد لسائر الوجوه لكنه لم يثبت الجرح بهذا لأن احتمال الكلام لغة لا يبطل بتأويله وذلك مثل حديث ابن عمر المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا وحمله على افتراق الأبدان والحديث محتمل افتراق الأقوال وهو معنى المشترك لأنهما معنيان مختلفان والاشتراك لغة لا يسقط بتأويله ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه من بدل دينه فاقتلوه وقال ابن عباس رضي الله عنه لا تقتل المرتدة فقال الشافعي رحمه الله لا يترك عموم الحديث بقوله وتخصيصه والامتناع عن العمل به مثل العمل بخلافه لأن الامتناع حرام مثل (1/193)
العمل بخلافه والله أعلم بالصواب باب الطعن يلحق الحديث من قبل غير راويه
وهذا على قسمين قسم من ذلك ما يلحقه من الطعن من قبل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وقسم منه ما يلحقه من قبل أئمة الحديث وما يلحقه من قبل الصحابة فعلى وجهين أما أن يكون من جنس ما يحتمل الخفاء عليه أو لا يحتمله والقسم الثاني على وجهين أيضا أما أن يقع الطعن مبهما بلا تفسير أو يكون مفسرا بسبب الجرح فإن كان مفسرا فعلى وجهين أيضا إما أن يكون السبب مما يصلح الجرح به أولا يصلح فإن صلح فعلى وجهين أما أن يكون ذلك مجتهدا في كونه جرحا أو متفقا عليه فإن كان متفقا عليه فعلى وجهين أيضا أما أن يكون الطاعن موصوفا بالاتقان والنصيحة أو بالعصبية والعداوة أما القسم الأول فمثال ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام فقد حلف عمر أن لا ينفي أحدا أبدا وقال علي رضي الله عنه كفى بالنفي فتنة وهذا من جنس ما لا يحتمل الخفاء عليهما لأن إقامة الحدود من حظ الايمة ومبناه على الشهرة وعمر وعلي رضي الله عنهما من ايمة الهدى فلو صح لما خفى وهذا لأنا تلقينا الدين منهم فيبعد أن يخفى عليهم فيحل ذلك على الانتساخ وكذلك لما امتنع عمر من القسمة في سواد العراق علم أن القسمة من رسول الله عليه السلام لم يكن حتما وقال محمد بن سيرين في متعة النساء هم شهدوا بها وهم نهوا عنها وما عن رأيهم رغبة ولا في نصحهم تهمة فإن قيل ابن مسعود لم يعلم بأخذ الركب بل عمل بالتطبيق ولم يوجب جرحا قلنا لأنه لم ينكر الوضع لكنه رأى رخصة ورأى التطبيق عزيمة والعزيمة أولى إلا أن ذلك رخصة إسقاط عندنا ومثال القسم الآخر ما روى عن أبي موسى الأشعري أنه لم يعمل بحديث الوضوء على من قهقه في الصلاة ولم تكن جرحا لأن ذلك من الحوادث النادرة فاحتمل الخفاء وأما الطعن من أئمة الحديث فلا يقبل مجملا لأن العدالة في المسلمين ظاهرة خصوصا في القرون الأولى فلو وجب الرد بمطلق الطعن لبطلت السنن إلا يرى أن شاهدا الحكم ضيق من هذا ولا يقبل فيها من المزكى الجرح المطلق فهذا أولى وإذا فسره بما لا يصلح جرحا لم يقبل وذلك مثل من طعن في أبي حنيفة رحمه الله أنه دس ابنه ليأخذ كتب استاذه حماد وهذا دلالة اتقانه لأنه كان لا يستجيز الرواية إلا عن حفظ وإتقان و (1/196)
لا يأمن الحافظ الزلل وإن جد حفظه وحسن ضبطه فالرجوع إلى كتب الأستاذ آية إتقانه لا جرح فيه ومن ذلك طعنهم بالتدليس وذلك أن تقول حدثني فلان عن فلان من غير أن يتصل الحديث بقوله حدثنا أو أخبرنا وسموه عنعنة لأن هذا يوهم شبهة الإرسال وحقيقته ليس بجرح على ما مر شبهته أولى ومن ذلك طعنهم بالتلبيس على من كنى عن الراوى ولم يسمه ولم ينسبه مثل قول سفيان الثوري حدثني أبو سعيد وهو يحتمل الثقة وغير الثقة ومثل قول محمد بن الحسن رحمه الله حدثني الثقة من أصحابنا من غير تفسير لأن الكناية عن الراوى لا بأس به صيانة عن الطعن فيه وصيانة للطاعن واختصار وليس كل من اتهم من وجه ما يسقط به كل حديثه مثل الكلبي وامثاله ومثل سفيان الثوري مع جلال قدره وتقدمه في العلم والورع وتسميته ثقة شهادة بعدالته فأنى يصير جرحا ووجه الكناية أن الرجل قد يطعن فيه بباطل فيحق صيانته وقد يروى عمن هو دونه في السن أو قرينه أو هو من أصحابه وذلك صحيح عند أهل الفقه وعلماء الشريعة وإن طال سنده فيكنى عنه صيانة عن الطعن بالباطل وإنما يصير هذا جرحا إذا استفسر فلم يفسر ومن ذلك ما لا يعد ذنبا في الشريعة مثل ما طعن الجاهل في محمد بن الحسن رحمه الله لأنه سأل عبد الله بن المبارك أن يقرأ عليه أحاديث سمعها فأبى فقيل له فيه فقال لا تعجبني أخلاقه لأن هذا إن صح فليس به بأس لأن أخلاق الفقهاء تخالف أخلاق الزهاد لأن هؤلاء أهل عزلة وأولئك أهل قدوة وقد يحسن في منزل القدوة ما يقبح في منزل العزلة وينعكس ذلك مرة وقد قال فيه عبد الله بن المبارك لا يزال في هذه الأمة من يحمي الله به دينهم ودنياهم فقيل له ومن ذلك اليوم فقال محمد بن الحسن الكوفى ومثال ذلك من طعن بركض الدابة مع أن ذلك من أسباب الجهاد كالسباق بالخيل والإقدام ومثل طعن بعضهم بالمزاح وهو أمر ورد الشرع به بعد أن يكون حقا لا باطلا إلا أن يكون أمرا يستفزه الخفة فيتخبط ولا يبالي ومن ذلك الطعن بالصغر وذلك لا يقدح بعد ثبت الاتقان عند التحمل والبلوغ والعدالة عند الرواية مع ما تقدم ذكره وذلك مثل حديث ثعلبة ابن صعير العذرى في صدقة الفطر أنها نصف صاع من حنطة ألا ترى أن رواية ابن عباس لصغره لم تسقط ولذلك قدمناه على حديث أبي سعيد الخدري في صدقة الفطر أنها صاع من حنطة لأنهما استويا في اتصال وهذا ثبت متنا من حديث أبي سعيد وقد انضاف إلى ذلك رواية ابن عباس أيضا ومن ذلك (1/198)
الطعن بأن من لم يحترف رواية الحديث لم يصح حديثه لأن العبرة لصحة الاتقان وهذا مثل طعن من طعن في أبي بكر صديق رضي الله عنه أنه لم يحترف الحديث وان كان قد فعله من هو دونه في المنزلة فكذلك في كل عصر إذا صح الإتقان سقطت العادة وقد قبل النبي عليه السلام خبر الأعرابي على رؤية الهلال ولم يكن اعتاد الرواية وقد يقع الطعن بسبب هو مجتهد مثل الطعن بالإرسال ومثل الطعن بالاستكثار من فروع مسائل الفقه فلا يقبل فأن وقع الطعن مفسرا بما هو فسق وجرح لكن الطاعن متهم بالعصبية والعداوة لم يسمع مثل طعن الملحدين في اهل السنة ومثل طعن من ينتحل مذهب الشافعي رحمه الله على بعض اصحابنا المتقدمين رحمة اللطه عليهم واما وجوه الطعن على الصحة فكثيرة قد تبلغ ثلاثين فصاعدا أو اربعين وقد ذكرنا بعضه فيما تقدم وهذا الكتاب لا يسعها ومن طلبها في مظانها وقف عليها أن شاء الله تعالى وهذه الحجج التي ذكرنا وجوهها من الكتاب والسنة لا تتعارض في انفسها وضعا ولا تتناقص لان ذلك من امارات العجز والحدث تعالى الله عن ذلك وانما يقع التعارض بينهما لجهلنا بالناسخ من المنسوخ فلا بد من بيان هذه الجملة والله أعلم وهذا باب المعارضة
وإذا ثبت أن التعارض ليس بأصل كان الأصل في الباب طلب ما يدفع التعارض وإذا جاء العجز وجب إثبات حكم التعارض وهذا الفصل اربعة اقسام في الأصل وهو معرفة التعارض لغته و شرطه وركنه وحكمه شريعة إما معنى المعارضة لغة فالممانعة على سبيل المقابلة يقال عرض إلى كذا أي استقبلني بصد ومنع سميت الموانع عوارض وركن المعارضة تقابل الحجتين على السواء لا مزية لاحدهما في حكمين متضادين فركن كل شيء ما يقوم به واما الشرط فاتحاد المحل والوقت مع تضاد الحكم مثل التحليل والتحريم وذلك أن التضاد لا يقع في محلين لجواز اجتماعهما مثل النكاح يوجب الحل في محل والحرمة في غيره وكذلك في وقتين لجواز اجتماعهما في محل واحد في وقتين مثل حرمة الخمر بعد حلها وحكم المعارضة بين آيتين المصير إلى السنة وبين سنتين نوعان المصير إلى القياس واقوال الصحابة رضي الله عنهم على الترتيب في الحجج أن امكن لان الجهل بالناسخ يمنع العمل بهما وعند العجز يجب تقرير الاصول وإذا ثبت أن الأصل في وقوع المعارضة الجهل بالناسخ والمنسوخ (1/200)
اختص ذلك بالكتاب والسنة فكان بين آيتين أو قرائتين في آية أو بين سنتين أو سنة وآية لان السنخ في ذلك كله سايغ على ما نبين أن شاء الله تعالى وأما بين قياسين أو قولي الصحابة رضي الله عنهم فلا لأن القياس لا يصلح ناسخا وقول الصحابي بناء على رأية فحل محل القياس ايضا بيان ذلك أن القياسين إذا تعارضا لم يسقطا بالتعارض ليجب العمل به بالحال بل يعمل المجتهد بأيهما شاء بشهادة قلبه لأن تعارض النصين كان لجهلنا بالناسخ والجهل لا يصلح دليلا شرعيا لحكم شرعي وهو الاختيار واما تعارض القياسين فلم يقع من قبل الجهل من كل وجه لان ذلك وضع الشرع في حق العمل فأما في الحقيقة فلا من قبل أن الحق في المجتهدات واحد يصيبه المجتهد مرة ويخطئ أخرى إلا انه لما كان مأجورا على عمله وجب التخيير لاعتبار شبهة الحقيقة في حق نفس العمل بشهادة القلب لأنه دليل عند الضرورة لاختصاص القلب بنور الفراسة واما فيما يحتمل النسخ فجهل محض بلا شبهة ولان القول بتعارض القياسين يوجب العمل بلا دليل هو الحل وتعارض الحجتين من الكتاب والسنة يوجب العمل بالقياس الذي هو حجة ومثال ذلك أن المسافر إذا كان معه اناءان في أحدهما ماء نجس و في الاخر طاهر وهو لا يدري عمل بالتيمم لانه طهور مطلق عند العجز وقد وقع العجز بالتعارض فلم يقع الضرورة فلم يجز العمل بشهادة القلب ولو كان معه ثوبان نجس وطاهر لا ثوب معه غيرهما عمل بالتحري لضرورة الوقوع في العمل بلا دليل وهو الحال وكذلك من اشتبهت عليه القبلة ولا دليل معه اصلا عمل بشهادة قلبه من غير مجرد الاختيار لما قلنا أن الصواب واحد منها فلم يسقط الابتلاء بل وجب العمل بشهادة قلبه وإذا عمل بذك لم يجز نقضه إلا بدليل فوقه يوجب نقض الأول حتى لم يجز نقض حكم امضى بالاجتهاد بمثله لان الأول ترجح بالعمل به ولم ينقض التحري باليقين في القبلة لان اليقين حادث ليس بمناقض بمنزلة نص نزل بخلاف الاجتهاد أو إجماع انعقد بعد امضاء حكم الاجتهاد على خلافه واما العمل به في المستقبل على خلاف الأول فنوعان أن كان الحكم المطلوب به يحتمل الانتقال من جهة إلى جهة حتى انتقل من بيت المقدس إلى الكعبة وانتقل من عين الكعبة إلى جهتها فصلح التحري دليلا على خلاف الأول وكذلك في سائر المجتهدات في المشروعات القابلة للانتقال والتعاقب واما الذي لا يحتمله فرجل صلى في ثوب على تحري طهارته حقيقة أو تقديرا ثم تحول رأيه فصلى في ثوب أخر على تحري أن هذا طاهر وان الأول نجس لم يجز (1/201)
ما صلى في الثاني إلا أن يتيقن بطهارته لأن التحري الأول أوجب الحكم بطهارة الأول ونجاسة الثاني وهذا وصف لا يقبل الانتقال من عين إلى عين فبطل العمل به ومثال القسم الثاني من القسم الرابع سؤر الحمار والبغل لأن الدلايل لما تعارضت ولم يصح القياس شاهدا لأنه لا يصلح لنصب الحكم ابتداء وجب تقرير الأصول فقيل أن الماء عرف طاهر فلا يصير نجسا بالتعارض فقلنا أن سؤر الحمار طاهر وهي منصوص عليه في غير موضع وكذلك عرقه ولبن الآتان ولم يزال الحدث به عند التعارض ووجب ضم التميم إليه فسمى مشكلا لما قلنا لا أنه يعنى به الجهل وكذلك الجواب في الخنثى المشكل وكذلك جوابهم وفي المفقود ومثال ما قلنا في الفرق بين ما يحتمل المعارضة بين ما لا يحتملها أيضا الطلاق والعتاق في محل متهم يوجب الاختيار لأن وراء الابهام محلا يحتمل التصرف فصلح الملك فيه دليلا لولاية الاختيار فإذا طلق عينا ثم نسى لم يجز الخيار بالجهل وإذا عرفت ركن المعارضة وشرطها وجب أن تبني عليه كيفية المخلص عن المعارضة على سبيل العدم من الأصل وذلك خمسة أوجه من قبل الحجة ومن قبل الحكم ومن قبل الحال ومن قبل الزمان صريحا ومن قبل الزمان دلالة إما من قبل نفس الحجة فإن لا يعتدل الدليلان لأن فلا يقوم المعارضة مثل الحكم يعارضه المجمل والمتشابه من الكتاب والمشهود من السنة يعارضه خبر الواحد لأن ركنها اعتدال الدليلين وأمثلة هذا كثيرة لا تحصى وأما الحكم فإن الثابت بهما إذا اختلف عند التحقيق سقط التعارض مثل قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والمراد به الغموس وقال لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان والغموس داخل في هذا اللغو لأن المؤاخذة المثبتة مطلقة وهي في دار الجزاء والمؤاخذة المنفية مقيدة بدار الابتلاء فصح الجمع وبطل التدافع فلا يصح أن يحمل البعض على البعض ومثاله كثيرا وأما الحال فمثل قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن بالتخفيف ومعناه انقطاع الدم وبالتشديد قرىء ومعناه الاغتسال وهما معنيان متضادان ظاهرا لا ترى أن الحيض لا يجوز أن يمتد إلى الاغتسال مع امتداده إلى انقطاع الدم لأن امتداد الشيء إلى غاية واقتصاره دونها معاضدان لكن التعارض يرتفع باختلاف الحالين بأن يحمل الانقطاع على العشرة فهو الانقطاع التام الذي لا تردد فيه ولا يستقيم التراخي إلى الاغتسال لما فيه من بطلان التقدير ويحمل الاغتسال على ما دون مدة الانقطاع والتناهي لأن ذلك هو المفتقر إلى الاغتسال فينعدم به التعارض وكذلك قوله فامسحوا برؤسمن ولأرجلكم إلى الكعبين (1/202)
بالخفض والنصب متعارضان ظاهرا فإذا حملنا النصب على ظهور القدمين والخفض على حال الاستتار بالخفين لم يثبت التعارض فصح ذلك لان الجلد اقيم مقام بشرة القدم فصار مسحه بمنزلة غسل القدم واما صريح اختلاف الزمان فبان يعرف التاريخ فيسقط التعارض ويكون آخرهما ناسخا وذلك مثل قول ابن مسعود رضي الله عنه في المتوفي عنها زوجها إذا كانت حاملا إنها تعتد بوضع الحمل وقال من شاء بأهلته أن سورة النساء القصري واولات الاحمال اجلهن نزلت بعد التي في سورة البقرة وأراد به قوله تعالى والذين يتوفون منكم الآية وكان ذلك ردا على من قال بأبعد الاجلين وأما الذي يثبت دلالة فمثل النصين تعارضا في الحظر والاباحة أن الحاظر يجعل آخرا ناسخا دلالة لانا نعلم انهما وجدا في زمانين ولو كان الحاظر اولا كان ناسخا للمبيح ثم كان المبيح ناسخا فتكرر النسخ وإذا تقدم المبيح ثم الحاظر لم يتكرر فكان المتيقن اولى وهذا بناء على قول من جعل الاباحة اصلا ولسنا نقل لهذا في اصل الوضع لان البشر لم يتركوا سدى في شيء من الزمان وانما هذا بناء على زمان الفترة قبل شريعتنا وذلك ما روى عن النبي عليه السلام أنه حرم الضب وروى انه اباحه وحرم لحوم الحمر الاهلية وروى انه اباحه وكذلك الضيع وما يجري مجرى ذلك انا نجعل الحاظر ناسخا واختلف مشايخنا فيما إذا تعارض نصان أحدهما مثبت والآخر ناف مبق على الأمر الأول فقال الكرخي المثبت اولى وقال عيسى بن ابان يتعارضان وقد اختلف عمل اصحابنا المتقدمين في هذا الباب فقد روى أن بريرة اعتقت وزوجها حر وهذا مثبت وروى إنها اعتقت وزوجها عبد وهذا مبق على الأمر الأول واصحابنا اخذوا بالمثبت وروى أن النبي عليه السلام تزوج ميمونة وهو حلال بسرف وروى انه تزوجها وهو محرم واتفقت الروايات أن النكاح لم يكن في الحل الاصلي إنما اختلفت في الحل المعترض على الاحرام فجعل اصحابنا العمل بالنافي اولى من العمل بالمثبت وروى أن النبي عليه السلام رد ابنته زينب رضي الله عنها على زوجها بنكاح جديد وروى أنه ردها بالنكاح الأول واصحابنا عملوا فيه بالمثبت وقالوا في كتاب الاستحسان في طعام أو شراب اخبر رجل بحرمة والآخر بحله أو طهارة الماء ونجاسته واستوى المخبر أن عند السامع أن الطهارة اولى ولم يعملوا بالمثبت وقالوا في الجرح والتعديل إذا تعارضا أن الجرح اولى وهو المثبت فلما اختلف عملهم لم يكن بد من اصل جامع وذلك أن نقول أن النفي لا يخلو من اوجه إما أن يكون مما يعرف بدليله أو لا يعرف بدليله أو يشتبه حالة فان كان من جنس ما يعرف بدليله كان (1/204)
مثل الاثبات وذلك مثل ما قال محمد رحمه الله في السير الكبير في رجل ادعت عليه امرأته إنها سمعته منه يقول المسيح ابن الله فقال الزوج إنما قلت المسيح ابن الله قول النصارى أو قالت النصارى المسيح ابن الله لكنها لم تسمع الزيادة فالقول قوله أن شهد شاهدان انا سمعناه يقول المسيح ابن الله ولم نسمع منه غير ذلك ولا ندري انه قال غير ذلك ام لا لم تقبل الشهادة وكان القول قوله ايضا وان قال الشاهدان نشهد انه قال ذلك ولم يقل غير ذلك قبلت الشهادة ووقت الحرمة وكذلك في الطلاق إذا ادعى الزوج الاستثناء فقد قبلت الشهادة على محض النفي لان هذا نفي طريق العلم به ظاهر وذلك أن كلام المتكلم إنما يسمع عيانا فيحيط العلم بأنه زاد عليه شيئا أو لم يزد لان ما لا يسمع فليس بكلام لكنه دندنة وإذا وضح طريق العلم وظهر صار مثل الاثبات واما ما لا طريق لاحاطة العلم به فإنه لا يقبل فيه خبر المخبر في مقابلة الاثبات مثل التزكية لان الداعي إلى التزكية في الحقيقة هو أن لم يقف المزكي منه على ما يجرح عدالته وقل ما يوقف من حال البشر على أمر فوقه في التزكية والجرح يعتمد الحقيقة فصار اولى وان كان امرا يشتبه فيجوز أن يعرف المخبر بدليله و يجوز أن يعتمد فيه ظاهر الحال وجب السؤال والتأمل في المخبر فإن ثبت انه بنى على الحال لم يقبل خبره لانه اعتمد ما ليس بحجة وما يشاركه فيه السامع وإذا اخبر عن دليل المعرفة حتى وقف عليه كان مثل المثبت في التعارض فحديث نكاح ميمونة من القسم الذي يعرف بدليله لان قيام الاحترام يدل عليه احوال ظاهرة من المحرم فصار مثل الاثبات في المعرفة فوقعت المعارضة فوجب المصير إلى ما هو من اسباب الترجيح في الرواة دون ما يسقط به التعارض في نفس الحجة وهو أن يجعل رواية من اختص بالضبط والاتقان اولى وهو رواية ابن عباس رضي الله عنه انه تزوجها وهو محرم لانه فسر القصة فصار اولى من رواية يزيد بن الاصم لانه لا يعدله في الضبط والاتقان وحديث بريرة وزينب من القسم الذي لا يعرف الا بناء على ظاهر الحال فصار الاثبات اولى ومسألة الماء والطعام والشراب من جنس ما يعرف بدليله لان طهارة الماء لمن استقصى المعرفة في العلم به مثل النجاسة وكذلك الطعام واللحم والشراب ولما استويا وجب الترجيح بالاصل لانه لا يصلح علة فيصلح مرجحا ومن الناس من رجح بفضل عدد الرواة واستدل بما قال محمد رحمه الله في مسائل الماء والطعام والشراب أن قول الاثنين اولى لان القلب يشهد بذلك لمزية في الصدق إلا أن هذا خلاف السلف فإنهم (1/208)
لم يرجحوا بزيادة العدد وكذلك لا يجب الترجيح بالذكورة والحرية في باب رواية الأخبار ولكنهم لا يسلمون هذا إلا في الأفراد فأما في العدد فإن خبر الحرين اولى وكذلك رواية الرجلين كما في مسألة الماء إلا أن هذا متروك باجماع السلف وهذه الحجج بجملتها يحتمل البيان فوجب الحاقه بها وهذا باب البيان
البيان في كلام العرف عبارة عن الاظهار وقد يستعمل في الظهور قال الله تعالى علمه البيان وهذا بيان للناس وقال ثم أن علينا بيانه والمراد بهذا كله الاظهار والفصل وقد يستعمل هذا مجاوزا و غير مجاوز والمراد به في هذا الباب عندنا الاظهار دون الظهور ومنه قول النبي عليه السلام أن من البيان لسحرا أي الاظهار والبيان على اوجه بيان تقرير وبيان تفسير وبيان تغيير وبيان تبديل وبيان ضرورة فهي خمسة اقسام إما بيان التقرير فتفسيره أن كل حقيقة يحتمل المجاز أو عام يحتمل الخصوص والحق به ما قطع الاحتمال كان بينا تقرير وذلك مثل قوله الله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون لان اسم الجمع كان عاما يحتمل الخصوص فقرره بذكر الكلم ومثله ولا طائر يطير بجناحيه وذلك مثل أن يقول الرجل لامرأته انت طالق وقال عنيت به الطلاق من النكاح وإذا قال لعبد انت حر وقال عنيت به العتق عن الرق والملك وهذا البيان يصح موصولا ومفصولا لما قلنا انه مقرر واما بيان التفسير فبيان المجمل والمشترك مثل قوله تعالى واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة والسارق والسارقة ونحو ذلك ثم يلحقه البيان بالسنة وذلك مثل قول الرجل لامرأته انت باين إذا قال عنيت به الطلاق صح وكذلك في سائر الكنايات ولفلان علي ألف درهم وفي البلد نقود مختلفة فان بيانه بيان تفسير ويصح هذا موصولا ومفصولا هذا مذهب واضح لاصحابنا حتى جعلوا البيان في الكنايات كلها مقبولا وان فصل قال الله تعالى ثم أن علينا بيانه وثم للتراخي وهذا لان الخطاب بالمجمل صحيح لعقد القلب على حقية المراد به على انتظار البيان إلا ترى أن ابتلاء القلب بالمتشابه للعزم على حقيقة المراد به صحيح في الكتاب والسنة من غير انتظار البيان فهذا اولى وإذا صح الابتلاء حسن القول بالتراخي واختلفوا في خصوص العموم فقال اصحابنا لا يقع الخصوص متراخيا وقال الشافعي رحمه الله يجوز متصلا ومتراخيا وقال علماؤنا فيمن اوصى بهذا الخاتم لفلان وبفصه لفلان غيره موصولا أن (1/209)
الثاني يكون خصوصا للأول فيكون الفصل الثاني وإذا فصل لم يكن خصوصا بل صار معارضا فيكون الفص بينهما وهذا فرع لما مر أن العموم عندنا مثل الخصوص في ايجاب الحكم قطعا ولو احتمل الخصوص متراخيا لما اوجب الحكم قطعا مثل العام الذي لحق الخصوص وعنده هما سواء ولا يوجب واحد منهما الحكم قطعا بخلاف الخصوص الذي مر وليس هذا باختلاف في حكم البيان بل ما كان بيانا محضا صح القول فيه بالتراخي لأن البيان المحض من شرطه محل موصوف بالاجمال والاشتراك ولا يجب العمل مع الاجمال والاشتراك فيحسن القول بتراخي البيان ليكون الابتلاء بالعقد مرة بالفعل مع ذلك أخرى وهذا مجمع عليه وما ليس ببيان خالص محض لكنه تغييرا وتبديل ويحتمل القول بالتراخي بالإجماع على ما نبين أن شاء الله تعالى وانما الاختلاف أن خصوص دليل العموم بيان أو تغيير فعندنا هو تغيير من القطع إلى الاحتمال فيفيد بالوصل مثل الشرط والاستثناء وعنده ليس بتغير لما قلنا هو تقرير فصح موصولا ومفصولا إلا ترى انه يبقى على اصله في الايجاب وقد استدل في هذا الباب بنصوص احتجنا إلى بيان تأويلها منها أن بيان بقرة بني اسرئيل وقع متراخيا وهذا عندنا تقييد المطلق وزيادة على النص فكان نسخا فصح متراخيا لما نبين في بابه أن شاء الله تعالى واحتج بقوله في قصة نوح عليه السلام فاسلك فيها من كل زوجين اثنين واهلك أن الاهل عام لحقه خصوص متراخ بقوله انه ليس من اهلك والجواب أن البيان كان متصلا به بقوله إلا من سبق عليه القول وذلك هو ما سبق من وعد اهلاك الكفار وكان ابنه منهم ولان الاهل لم يكن متنا ولا للابن لأن أهل الرسل من اتبعهم وامن بهم فيكون أهل ديانة لأهل نسبه إلا أن نوحا عليه السلام قال فيما حكى عنه أن بنى من اهلى لانه كان دعاه إلى الإيمان فلما انزل الله تعالى لاية الكبرى حسن ظنه به وامتد نحوه رجاؤه فبنى عليه سؤاله فلما وضح امره اعرض عنه وسلم للعذاب وهذا سايغ في معاملات الرسل عليهم السلام بناء على العلم البشري إلى أن ينزل الوحى كما قال الله تعالى وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها اياه فلما تبين انه عدو لله تبرا منه واحتج بقوله تعالى انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ثم لحقه الخصوص بقوله أن الذين سبقت لهم منا الحسنى متراخيا عن الأول وهذا الاستدلال باطل عندنا لان صدر الاية لم يكن متنا ولا لعيسى والملائكة عليهم السلام لان كلمة ما لذوات غير العقلاء لكنهم كانوا متعنتين فزاد في البيان اعراضا عن تعنتهم (1/211)
احتج بقوله انا مهلكوا أهل هذه القرية وهذا عام خاص منه آل لوط متراخيا وهذا أيضا غير صحيح لان البيان كان متصلا به إما في هذه الاية فلانه قال أن اهلها كانوا ظالمين وذلك استثناء واضح وقال في غير هذه الاية إلا آل لوط انا لمنجوهم اجمعين إلا امرأته غير أن إبراهيم عليه السلام اراد إلا كرام للوط بخصوص وعد النجاة أو خوفا من أن يكون العذاب عاما وذلك مثل قوله رب أرني كيف تحي الموتى واحتج بقوله ولذي القربى انه خص منه بعض قرابة النبي عليه السلام بحديث ابن عباس في قصة عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهم ولهذا عندنا من قبيل بيان المجمل لان القربى مجمل وكان الحديث بيانا له أن المراد قربى النصرة لا قربى القرابة واجماله أن القربى يتناوله غير النسب ويتناول وجوها من النسب مختلفة والله اعلم بالصواب باب بيان التغير
بيان التغيير نوعان التعليق بالشرط والاستثناء وانما يصح ذلك موصولا ولا يصح مفصولا على هذا اجمع الفقهاء وانما سميناه بهذا الاسم إشارة إلى اثر كل واحد منهما وذلك أن قول القائل انت حر لعبده علة العتق نزل به منزلة وضع الشيء في محل يقر فيه فإذا حال الشرط بينه وبين محله فتعلق به بطل أن يكون ايقاعا لان الشيء الواحد يكون مستقرا في محله ومعلقا مع ذلك فصار الشرط مغيرا له من هذا الوجه ولكنه بيان مع ذلك لان حد البيان ما يظهر به ابتداء وجوده فأما التغيير بعد الوجود فنسخ وليس ببيان ولما كان التعليق بالشرط لابتداء وقوعه غير موجب والكلام كان يحتمله شرعا لان التكلم بالعلة ولا حكم لها جائز شرعا مثل البيع بالخيار وغيره سمى هذا بيانا فاشتمل على هاذين الوصفين فسمى بيان تغيير وكذلك الاستثناء مغيرا للكلام لان قول القائل لفلان على ألف درهم فالالف اسم علم لذلك العدد لا يحتمل غيره وإذا قال إلا خمسمائة كان تغيير البعض إلا ترى أن التعليق بالشرط والاستثناء لو صح كل واحد منهما متراخيا كان ناسخا ولكنه إذا اتصل منع بعض التكلم لا أن رفع بعد الوجود فكان بيانا فسمي بيان تغيير ومنزلة الاستثناء مثل منزلة التعليق بالشرط إلا أن الاستثناء يمنع انعقاد التكلم ايجابا في بعض الجملة أصلا والتعليق يمنع الإنعقاد لأحد الحكمين أصلا وهو الايجاب ويبقى الثاني وهو الاحتمال فلذلك كانا من قسم واحد فكانا (1/212)
من باب التغيير دون التبديل واختلفوا في كيفية عمل كل واحد منهما فقال اصحابنا الاستثناء يمنع التكلم بحكمه بقدر المستثنى فيجعل تكلما بالباقي بعده وقال الشافعي رحمه الله أن الاستثناء يمنع الحكم بطريق المعارضة بمنزلة دليل الخصوص كما اختلفوا في التعليق على ما سبق وقد دل على هذا الأصل مسائلهم فصار عندنا تقدير قول الرجل لفلان على ألف درهم إلا مائة لفلان على تسعمائة وعنده إلا مائة فإنها ليست على وبيان ذلك انه جعل قوله تعالى إلا الذين تابوا فلا تجلدوهم واقبلوا شهادتهم وأولئك هم الصالحون غير فاسقين وكذلك قال في قول النبي عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء أن معناه بيعوا سواء بسواء فبقى صدر الكلام عاما في القليل و الكثير لان الاستثناء عارضه في المكيل خاصة وخصوص دليل المعارضة لا يتعدى مثل دليل الخصوص في العام وذلك مثل قوله تعالى إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده هذا دليل معارض لبعض الصدور وهو في حق من يصح منه العفو فبقى فيما لا معارضة فيه وقال في رجل قال لفلان على ألف درهم إلا ثوبا انه يسقط من الألف قدر قيمته لان دليل المعارضة يجب العمل به على قدر الإمكان وذلك ممكن في القيمة واحتج في المسئلة بالإجماع ودلالته وبالدليل المعقول إما الإجماع فان أهل اللغة اجمعوا أن الاستثناء من الاثبات نفي ومن النفي إثبات وهذا إجماع على أن للاستثناء حكما وضع له يعارض به حكم المستثنى منه واما الثاني فلان كلمة التوحيد لا اله إلا الله وهي كلمته وضعت للتوحيد ومعناه النفي والاثبات فلو كان تكلما بالباقي لكان نفيا لغيره لا اثباتا له فصح لما كانت كلمة التوحيد أن معناها إلا الله فانه اله وكذلك لا عالم إلا زيد فانه عالم واما الثالث فأنا نجد الاستثناء لا يرفع التكلم بقدره من صدر الكلام وإذا بقى التكلم صيغة بقى بحكمه فلا سبيل إلى رفع التكلم بل يجب المعارضة بحكمه فامتناع الحكم مع قيام التكلم سائغ فأما انعدام التكلم مع وجوده مما لا يعقل واحتج اصحابنا رحمهم الله بالنص والإجماع والدليل المعقول أيضا إما النص فقوله تعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وسقوط الحكم بطريق المعارضة في الايجاب يكون لا في الأخبار فبقاء التكلم بحكمه في الخبر لا يقبل الامتناع بمانع واما الإجماع فقد قال أهل اللغة قاطبة أن الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا وإذا ثبت الوجهان وجب الجمع بينهما فقلنا انه استخراج وتكلم بالباقي بوضعه واثبات ونفي باشارته على ما نبين أن شاء الله تعالى (1/213)
واما الدليل المعقول فوجوه أحدها أن يمنع الحكم بطريق المعارضة استوى فيه البعض والكل كالنسخ والثاني أن دليل المعارضة ما يستقل بنفسه مثل الخصوص والاستثناء قط لا يستقل بنفسه وانما يتم بما قبله فلم يصح معارضا لكنه لما كان لا يجوز الحكم ببعض الجملة حتى يتم كما لا يجوز ببعض الكلمة حتى ينتهي احتمل وقف أول الكلام على اخره حتى يتبين باخره المراد باوله وهذا الابطال مذهب الخصم والثالث لتصحيح ما قلنا وبيان ذلك أن وجود التكلم ولا حكم له أصلا ولا انعقاد له بحكمه أصلا سائغ مثل الامتناع بالمعارض بالإجماع مثل طلاق الصبي واعتاقه وانما الشأن في الترجيح وبيانه أن الاسثناء متى جعل معارضا في الحكم بقي التكلم بحكمه في صدر الكلام ثم لا يبقى من الحكم إلا بعضه وذلك لا يصلح حكما لكل التكلم بصدره إلا ترى أن الالف اسم علم له لا يقع على غيره ولا يحتمله لا يجوز أن يسمى التسع مائة ألفا بخلاف دليل الخصوص لانه إذا عارض العموم في بعض بقى الحكم المطلوب وراء دليل الخصوص ثابتا بذلك الاسم بعينه صالحا لان يثبت به كاسم المشركين إذا خص منه نوع كان الاسم واقعا على الباقي بلا خلل ولهذا قلنا أن العام إذا كان كلمة فرد واسم جنس صح الخصوص إلى أن ينتهي بالفرد وإذا كانت صيغة جمع انتهى الخصوص إلى الثلاثة لا غير فلذلك بطل أن يكون معارضا فجعل تكلما بالباقي بحقيقته وصيغته وكان طريقا في اللغة يطول مرة ويقصر أخرى وجعل الايجاب والنفي بإشارته بيانه أن الاستثناء بمنزلة الغاية للمستثنى منه إلا ترى أن الأول ينتهي به وهذا لان الاستثناء يدخل على نفي أو إثبات والاثبات بالعدم ينتهي والعدم بالوجود ينتهي وإذا كان الوجود غاية الأول أو العدم غاية لم يكن بد من إثبات الغاية لتناهي الأول وهذا ثابت لغة فكان مثل صد الكلام إلا أن الأول ثابت قصدا وهذا لا فكان إشارة ولذلك اختير في التوحيد لا اله إلا الله ليكون الاثبات إشارة و النفي قصدا لان الأصل في التوحيد تصديق القلب فاختير في البيان الاشارة اليه والله اعلم والاستثناء نوعان متصل ومنقطع إما المتصل فهو الأصل وتفسيره ما ذكرنا وأما المنفصل فما لا يصح استخراجه من الأول لان الصد لم يتناوله فجعل مبتدأ مجازا قال الله تعالى فانهم عدو لي إلا رب العالمين أي لكن رب العاملين وكذلك لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما وقوله إلا الذين تابوا استثناء منقطع لان التائبين غير داخلين في صد الكلام فكان معناه إلا أن يتوبوا ويحمل الصدد على عموم الأحوال بدلالة الثنيا فكأنه قال وأولئك (1/214)
هم الفاسقون بكل حال إلا حال التوبة وكذ بصحيح لما قلنا من الأصل وجعل استثناء منقطعا فلم ينقص من الألف شيئا وقال أبو حنيفة وابو يوسف رحمهما الله هو صحيح لان المقدورات جنس واحد في المعنى لانها تصلح ثمنا ولكن الصور مختلفة فصح الاستثناء في المعنى وقد قلنا أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا معنى لا صورة فإذا صح الاستخراج من طريق المعنى بقي في القدر المستثنى تسمية الدراهم بلا معنى وذلك هو معنى حقيقة الاستثناء فلذلك بطل قدره من الأول بخلاف ما ليس بمقدر من الاموال لان المعنى مختلف فلم يصح استخراجه والله اعلم وعلى هذا الأصل قلنا فيمن قال لفلان علي ألف درهم وديعة انه يصح موصولا لان بيان مغير لان الدراهم تصلح ان تكون عليه حفظاالا انه تغير للحقيقة فصح موصولا وكذلك رجل قال اسلمت إلى عشرة دراهم في كذا لكن لم اقبضها أو اسلفتني أو اقرضتين أو اعطيتني ففي هذا كله يصدق بشرط الوصل استحسانا لان حقيقة هذه العبارات للتسليم وقد تحتمل العقد فصار النقل إلى العقد بيانا مغيرا وإذا قال دفعت إلى عشرة دراهم أو نقدتني لكني لم اقبض فكذلك عند محمد لان النقد والدفع بمعنى الاعطاء لغة فيجوز أن يستعار للعقد ايضا وقال أبو يوسف رحمه الله لا يصدق لانهما اسمان مختصان للتسليم والفعل واما الاعطاء فهبة فيصلح أن يستعار للعقد وإذا اقر بالدراهم فرضا أو ثمن بيع وقال هي زيوف صح عندهما موصولا لان الدراهم نوعان جياد وزيوف إلا أن الجياد غالبة فصار الآخر كالمجاز فصح التغيير اليه موصولا وقال أبو حنيفة لا يقبل وان وصل لان الزيافة عارضة وعيب فلا يحتمله مطلق الاسم بل يكون رجوعا كدعوى الاجل في الدين ودعوى الخيار في البيع وإذا قال لفلان علي ألف درهم من ثمن جارية باعينها لكني لم اقبضها لم يصدق عند أبي حنيفة إذا كن به المقر له في قوله لم اقبضها وصدقه في الجهة أو كذبه في الجهة وادعى المال وقالا أن صدقه في الجهة صدق وان فصل لانه إذا صدقه فيها ثبت البيع فيقبل قول المشتري انه لم يقبض وعلى (1/215)
المدعي البينة وان كذبه فيها صدق إذا وصل لان هذا بيان مغير من قبل أن الأصل في البيع وجوب المطالبة بالثمن وقد يجب الثمن غير مطالب به بأن يكون المبيع غير مقبوض فصار قوله غير أني لم اقبضها مغير للاصل ولما كان كون المبيع غير مقبوض أحد محتمليه لا من العوارض كان بيانا مغيرا فصح موصولا ولابي حنيفة رضي الله عنه أن هذا رجوع وليس ببيان لان وجوب الثمن مقابل بمبيع لا يعرف اثره دلالة قبضه والثابت بالدلالة مثله إذا ثبت بالصريح فإذا رجع لم يصح وهذا فصل يطول شرحه وعلى هذا الأصل ايداع الاصبر الذي يعقل قال أبو يوسف هو من باب الاستثناء لان إثبات اليد والتسليط نوعان الاستحفاظ وغيره فإذا نص على الايداع كان مستثنى والاستثناء من المتكلم تصرف على نفسه فلا يبطل لعدم الولاية بل لا يثبت إلا الاستحفاظ ثم لا ينفذ الاستحفاظ لعدم الولاية فيصير كالمعدوم وقال أبو حنيفة ومحم رحمهما الله ليس هذا من باب الاستثناء لان التسليط فعل يوجد من المسلط فلا يصح استثناء ما وراء الاستحفاظ منه والفعل مطلق لا عام والمستثنى من خلاف جنسه فيصير ذلك من باب المعارضة فلا بد من تصحيحه شرعا ليعارضه ولم يوجد وصار هذا مثل قول الشافعي رحمه الله في الاستثناء على هذا الأصل قال اصحابنا رحمهم الله في - كتاب الشراكة في رجل قال لأخر بعت منك بألف هذا العبد إلا نصفه أن البيع يقع على النصف بألف ولو قال أن لي نصفه يقع على النصف بخمسمائة لان الاستثناء تكلم بالباقي وانما دخل في المبيع لافي الثمن فيصير المبيع نصفا فيبقى كل الثمن وقوله على أن لي نصفه شرط معارض لصدد الكلام فيكون موجبه أن يعارض هذا الايجاب الأول فيصير العقد واقعا للبايع والمشتري فيصير بايعا من نفسه ومن المشتري و البيع من نفسه صحيح بحكم إذا افاد وفي الدخول فائدة حكم التقسيم فيصير داخلا ثم خارجا ليخرج بقسط من الثمن مثل من اشترى عبدين بألف درهم أحدهما ملك المشتري أن الثمن ينقسم عليهما الاتربي أن شراء مال المضاربة يصح بمباشرة رب المامل وعلى هذا الأصل رجل وكل وكيلا بالخصومة على أن لا يقر عليه أو غير جائز الإقرار بطل هذا الشرط عند أبي يوسف لان على قوله الإقرار يصير مملوكا للوكيل لقيامه مقام الموكل لا لانه من الخصومة حتى لا يختص بمجلس الخصومة فيصير ثابتا بالوكالة حكما لا مقصودا فلا يصح استثناؤه ولا ابطاله بالمعارضة إلا بنقض الوكالة وقال محمد رحمه الله استناؤه جائز والخصم أن لا يقبل هذا الوكيل لان الخصومة تناولت الإقرار عملا بمجازها على ما عرف وانقلب (1/216)
المجاز هنا بدلالة الديانة حقيقة وصارت الحقيقة كالمجاز فإذا استثنى الإقرار وقيد التوكيل كان بيانا مغيرا فصح موصولا وعلى هذا يجب أن لا يصح مفصولا إلا أن يعزله اصلا لانه عمل بحقيقة اللغة فيصح فلم يكن استثناء في الحقيقة وعلى هذا يصح مفصولا وهو اختيار الخصاف واختلف في استثناء الانكار والاصح انه على هذا الاختلاف على الطريق الأول لمحمد رحمه الله باب بيان الضرورة
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه وهذا نوع من البيان يقع بما لم يوضع له وهذا على اربعة اوجه نوع منه ما هو في حكم المنطوق ونوع منه ما يثبت بدلالة حال المتكلم ونوع منه ما يثبت ضرورة الدفع ونوع منه ما ثبت بضرورة الكلام إما النوع الأول فمثل قول الله تعالى وورثه ابواه فلأمه الثلث صدر الكلام اوجب الشركة ثم تخصيص الام بالثلث دل على أن الاب يستحق الباقي فصار بيانا لقدر نصيبه بصدر الكلام لا بمحض السكوت ونظير ذلك قول علمائنا رحمهم الله في المضاربة أن بيان نصيب المضارب والسكوت عن نصيب رب المال صحيح اللستغناء عن البيان و بيان نصيب رب المال و السكوت عن نصيب المضارب صحيح استحسانا على انه بيان بالشركة الثابتة بصدر الكلام وعلى هذا حكم المزارعة ايضا وعلى هذا إذا اوصى رجل لفلان و فلان بألف لفلان منها اربع مائة كان بيانا أن الست مائة للباقي وكذلك إذا اوصى لهما بثلث ماله على أن لفلان منه كذا واما النوع الثاني فمثل السكوت من صاحب الشرع صلى الله عليه و سلم عند أمر يعاينه عن التغيير يدل على الحقيقة عليه ويدل في موضع الحاجة إلى البيان على البيان مثل سكوت الصحابة رضوان الله عليهم عن تقويم منفعة البدن في ولد المغرور وما اشبه ذلك وسكوت البكر في النكاح يجعل بيانا لحالها التي توجب ذلك وهو الحياء والنكول جعل بيانا لحال في الناكل وهو امتناعه عن اداء ما لزمه مع القدرة عليه وهو اليمين وقلنا في امة ولدت ثلاثة اولاد في بطون مختلفة انه إذا ادعى اكبرهم كان نفيا للباقين بحال منه وهو لزوم الإقرار لو كانوا منه واما الثالث فمثل المولى يسكت حين يرى عبده يبيع ويشتري فجعل اذنا دفعا للغرور عن الناس وكذلك سكوت الشفيع جعل ردا لهذا المعنى فأما الرابع فمثل قول علمائنا رحمهم الله في رجل قال لفلان علي مائة ودينارا ومائة ودرهم ن العطف جعل بيانا للأول (1/217)
وجعل من جنس المعطوف وكذلك لفلان على مائة وقفيز حنطة وقال الشافعي رحمه الله القول قوله في المائة لانها مجملة فاليه بيانها والعطف لا يصلح بيانا لانه لم يوضع له كما إذا قال مائة وثوب وشاة و مائة وعبد ووجه قولنا أن هذا يجعل بيانا عادة ودلالة إما العادة فلان حذف المعطوف عليه في العدد متعارف ضرورة كثرة العدد وطول الكلام يقول الرجل بعت منك هذا بمائة وعشرة دراهم و بمائة وعشرين درهما وبمائة ودرهم ودرهمين على السواء وليس كذلك حكم ما هو غير مقدر لانه لا يثبت دينا في الذمة ثبوت الأول واما الدلالة فلان المعطوف مع المعطوف عليه بمنزلة شيء واحد كالمضاف مع المضاف اليه والمضاف اليه للتعريف فإذا اصلح العطف للتعريف صح الحذف في المضاف اليه بدلالة العطف والعطف إذا كان من المقدرات صلح للتعريف فجعل دليلا على المضاف اليه وإذا لم يكن مقدرا مثل الثوب والفرس لم يصلح للتعريف فلم يصلح دليلا على المحذوف واتفقوا في قول الرجل لفلان عي أحد وعشرون درهما أن ذلك كله دراهم لان العشرون مع الآحاد معدود ومجهول فصح التعريف بالدرهم وكذلك إذا قال أحد وعشرون شاة أو ثوبا واجمعوا في قوله لفلان على مائة وثلاثة دراهم فصاعد أن المائة من الدراهم لان الجملتين جميعا اضيفتا إلى الدراهم فصار بيانا و كذلك إذا قال مائة وثلاثة اثواب وثلاثة شياه وقد قال أبو يوسف رحمه الله في قوله لفلان علي مائة وثوب أو مائة وشاة انه يجعل بيانا لان العطف دليل الاتحاد مثل الاضافة فكل جملة تحتمل القسمة فإنها تحتمل الاتحاد فذلك جعل بيانا بخلاف قوله مائة وعبد والله اعلم بالصواب باب بيان التبديل وهو النسخ
قال الشيخ الأمام الكلام في هذا الباب في تفسير نفس النسخ ومحله وشرطه والناسخ والمنسوخ إما النسخ فانه في اللغة عبارة عن التبديل قال الله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما ينزل فسمى النسخ تبديلا ومعنى التبديل أن يزول شيء فيخلفه غيره يقال نسخت الشمس الظل لانها تخلفة شيئا فشيئا هذا اصل هذه الكلمة وحقيقتها حتى صارت تشبه الابطال من حيث كان وجود يخلف الزوال وهو في حق صاحب الشرع بيان محض لمدة الحكم المطلق الذي كان معلوما عند الله تعالى إلا أن اطلقه فصار ظاهرة البقاء في حق البشر فكان تبديلا في حقنا بيانا محضا في حق صاحب الشرع وهو كالقتل (1/218)
بيان محض للاجل لانه ميت باجله بلا شبهة في حق صاحب الشرع وفي حق القاتل تغيير وتبديل و النسخ في احكام الشرع جائز صحيح عند المسلمين اجمع وقالت اليهود لعنهم الله بفساده وهم في ذلك فريقان قال أحدهما انه باطل عقلا وقال بعضهم هو باطل سمعا وتوقيفا وقد انكر بعض المسلمين النسخ لكنه لا يتصور هذا القول من مسلم مع صحة عقد الإسلام إما من رده توقيفا فقد احتج أن موسى صلوات الله عليه قال لقومه تمسكوا بالسبت مادامت السموات والأرض وان ذلك مكتوب في التوراة انه بلغهم بما هو طريق العلم عن موسى صلوات الله عليه أن لا نسخ لشريعة واحتج أصحاب القول الآخر أن الامر يدل على حسن المأمور به والنهي عن الشيء يدل على قبحه والنسخ يدل على ضده ففي ذلك ما يوجب البدأ والجهل بعواقب الأمور ودليلنا على جوازه ووجوده سمعا وتوقيفا أن احدا لم ينكر استحلال الاخوات في شريعة آدم صلوات الله عليه واستحلال الجزء لآدم صلوات الله عليه وهي حواء التي خلقت منه و أن ذلك نسخ بغيره من الشرائع والدليل المعقول أن النسخ هو بيان مدة الحكم للعباد وقد كان لك غيبا عنهم وبيان ذلك انا إنما نجوز النسخ في حكم مطلق عن ذكر الوقت يحتمل أن يكون موقتا ويحتمل البقاء والعدم على السواء لان النسخ إنما يكون في حياة النبي عليه السلام والأمر المطلق في حياته للايجاب لا للبقاء بل البقاء باستصحاب الحال على احتمال العدم بدليله لا أن البقاء بدليل يوجبه لان الأمر لم يتناول البقاء لغة فلم يكن دليل النسخ متعرضا لحكم الدليل الأول بوجه إلا ظاهرا بل كان بيانا للمدة التي هي غيب عنا وهي الحكمة البالغة بلا شبهة بمنزلة الاحياء والايجاد أن حكمه الحياة والوجود لا البقاء بل البقاء لعدم اسباب الفناء بابقاء هو غير الايجاد وله اجل معلوم عند الله فكان الافناء والامانة بيانا محضا فهذا مثله هذا حكم بقاء المشروع في حياة النبي عليه السلام فإذا قبض الرسول عليه السلام من غير نسخ صار البقاء من بعد ثابتا بدليل يوجبه فصار بقاء يقينا لا يحتمل النسخ بحال فإذا غاب الحي بقيت حياته لعدم الدليل على موته فكذلك المشروع المطلق في حياة النبي عليه السلام واما دعواهم التوقيف فباطل عندنا لان ثبت عندنا تحريف كتابهم فلم يبق حجة باب بيان محل النسخ
محل النسخ حكم يحتمل بيان المدة والوقت وذلك بوصفين أحدهما أن يكون في نفسه محتملا للوجود (1/219)
والعدم فإذا كان بخلافه لم يحتمل النسخ والثاني أن لا يكون ملحقا به ما ينافي المدة والوقت إما الأول فبيانه أن الصانع بأسمائه وصفاته قديم لا يحتمل الزوال والعدم فلا يحتمل شيء من اسمائه وصفاته النسخ بحال واما الذي ينافي النسخ من الأحكام التي هي في الأصل محتملة للوجود والعدم فثلاثة تأبيد ثبت نصا وتأبيد ثبت دلالة وتوقيت إما التأبيد صريحا فمثل قول الله تعالى خالدين فيها ابدا أو مثل قوله جل وعلا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة يريد بهم الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه و سلم والقسم الثاني مثل شرائع محمد عليه السلام التي قبض على قرارها فإنها مؤبدة لا تحتمل النسخ بدلالة أن محمدا صلى الله عليه و سلم خاتم النبيين لا نبي بعده ولا نسخ إلا بوحي على لسان نبي والثالث واضح والنسخ فيه قبل الانتهاء باطل لان النسخ في هذا كله بدأ وظهور الغلط لا بيان المدة والله يتعالى عن ذلك فصار الذي لا يحتمل النسخ اربعة اقسام في هذا الباب والذي هو محل النسخ قسم واحد وهو حكم مطلق يحتمل التوقيت لم يجب بقاؤه بدليل يوجب البقاء كالشراء يثبت به الملك دون البقاء فينعدم الحكم لانعدام سببه لا بالناسخ بعينه فلا يؤدي إلى التضاد والبدأ ولا يصير الشيء الوحد حسنا وقبيحا في حال واحدة بل في حالين فإن قيل أن الأمر بذبح الولد في قصة ابراهيم عليه السلام نسخ فصار الذبح بعينه حسنا بالأمر وقبيحا بالنسخ قيل له لم يكن ذلك بنسخ للحكم بل ذلك الحكم بعينه ثابتا والنسخ هو انتهاء الحكم ولم يكن بل كان ثابتا إلا أن المحل الذي اضيف اليه لم يحله الحكم على طريق الفداء دون النسخ وكان ذلك ابتلاء استقر حكم الأمر عند المخاطب وهو ابراهيم صلوات الله عليه في آخر الحال على أن المتبغى منه في حق الولد أن يصير قربانا بنسبة حسن الحكم اليه مكرما بالفدأ الحاصل لمعرة الذبح مبتلا بالصبر والمجاهدة إلى حال لمكاشفة وانما النسخ بعد استقرار المراد بالأمر لا قبله وقد سمي فداء في الكتاب لا نسخا فيثبت أن النسخ لم يكن لعدم ركنه والله اعلم بالصواب باب بيان الشرط
وهو التمكن من عقد القلب فأما التمكن من الفعل فليس بشرط عندنا وقالت المعتزلة انه شرط و حاصل الأمر أن حكم النص بيان المدة لعمل القلب والبدن جميعا أو لعمل القلب بانفراده وعمل القلب هو المحكم في هذا عندنا والآخر من الزوائد وعندهم هو بيان مدة العمل بالبدن قالوا إلا أن العمل (1/220)
بالبدن هو المقصود بكل نهى وبكل أمر نصا يقال افعلوا كذا ولا تفعلوا فيقتضي حسنه بالأمر لا محالة وقبحه بالنهي وإذا وقع النسخ قبل الفعل صار بمعنى البدأ والغلط والحجة لنا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بخمسين صلاة ليلة المعراج ثم نسخ ما زاد على الخمس فكان ذلك بعد العقد لانه صلى الله عليه و سلم اصل هذه الامة فصح النسخ بعد وجود عقده ولم يكن ثمه تمكن من الفعل ولان النسخ صحيح بالإجماع بعد وجود جزء من الفعل أو مدة يصلح للتمكن من جزء منه وان كان ظاهر الأمر يحتمل كله لان الادنى يصلح مقصودا بالابتلاء فكذلك عقد القلب على جنس المأمور به وعلى حقيقته يصلح أن يكون مقصودا منفصلا عن الفعل إلا ترى أن الله ابتلانا بما هو متشابه لا يلزمنا فيه إلا اعتقاد الحقية فيه فدل ذلك على أن عقد القلب يصلح اصلا ولان الفعل لا يصير قربة إلا بعزيمة القلب و عزيمة القلب قد تصير قربة بلا فعل والفعل في احتمال السقوط فوق العزيمة فإذا كان كذلك صلح أن يكون مقصودا دون الفعل إلا يرى أن عين الحسن لا يثبت بالتمكن من الفعل وقول القائل افعلوا على سبيل الطاعة أمر بعقد القلب لا محالة فيجوز أن يكون أحد الامرين مقصودا لازما والآخر يتردد بين الامرين والله اعلم باب تقسيم الناسخ
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه الحجج اربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس إما القياس فلا يصلح ناسخا لما نبين أن شاء الله تعالى واما الإجماع فقد ذكر بعض المتأخرين انه يصح النسخ به والصحيح أن النسخ به لا يكون إلا في حياة النبي صلى الله عليه و سلم والإجماع ليس بحجة في حياته لانه لا إجماع دون رأيه والرجوع اليه فرض وإذا وجد منه البيان كان منفردا بذلك لا محالة وإذا صار الإجماع واجب العمل به لم يبق النسخ مشروعا وانما يجوز النسخ بالكتاب و السنة وذلك اربعة اقسام نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة ونسخ السنة بالكتاب ونسخ الكتاب بالسنة وذلك كله جائز عندنا وقال الشافعي رحمه الله بفساد القسمين الآخرين واحتج بقوله تبارك وتعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وذلك يكون بين الايتين والسنتين فأما في القسمين الآخرين فلا واحتج بقوله تعالى قل ما يكون لي أن ابدله من تلقاء نفسي فثبت أن السنة لا تنسخ (1/221)
الكتاب واحتج بقوله صلى الله عليه و سلم إذا روى لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فان وافق الكتاب فاقبلوه وألا فردوه وقال ولان في هذه صيانة الرسول صلى الله عليه و سلم عن شبهة الطعن لانه لو نسخ القرآن به أو سنته كما نسخت بالكتاب لكان مدرجة إلى الطعن فكان التعاون به اولا وقد احتج بعض اصحابنا في ذلك بقوله تبارك وتعالى كتب عليكم إذا حضر احدكم الموت أن ترك خير الوصية للوالدين والاقربين في الاية فرض هذه الوصية ثم نسخت بقول النبي صلى الله عليه و سلم لا وصية لوارث وهذا الاستدلال غير صحيح لوجهين أحدهما أن النسخ إنما ثبت بآية المواريث وبيانه انه قال من بعد وصية يوصى بها أو دين فرتب الميراث على وصية نكرة و الوصية الأولى كانت معهودة فلو كانت تلك الوصية باقية مع الميراث ثم نسخت بالسنة لوجب ترتيبه على المعهود فصار الاطلاق نسخا للقيد كما يكون القيد نسخا للاطلاق والثاني أن النسخ نوعان أحدهما ابتداء بعد انتهاء محض والثاني بطريق الحوالة كما نسخت القبلة بطريق الحوالة إلى الكعبة وهذا النسخ من القبيل الثاني وبيانه أن الله تعالى فوض الايصاء في الاقربين إلى العباد بقوله تعالى الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف ثم تولى بنفسه بيان ذلك الحق وقصره على حدود لازمة تعين بها ذلك الحق بعينه فتحول من جهة الايصاء إلى الميراث والى هذا اشار بقوله يوصيكم الله في اولادكم أي الذي فوض اليكم تولى بنفسه إذ عجزتم عن مقاديره الايصاء إلا ترى إلى قوله لا تدرون ايهم اقرب لكم نفعا وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم أن الله تعالى اعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث أي بهذا الفرض نسخ الحكم الأول وانتهى ومنهم من احتج بأن قول الله تعالى فامسكوهن في البيوت نسخ باثبات الرجم بالسنة إلا انا قد روينا عن عمران الرجم كان مما يتلى ولان قوله جل وعلا أو يجعل الله لهن سبيلا مجمل فسرته السنة واحتج بعضهم بقوله تبارك وتعالى وان فاتكم شيء من ازواجكم إلى الكفار الاية هذا حكم نسخ بالسنة وهذا غير صحيح لان هذا كان فيمن اردت امرأته ولحقت بدار الحرب أن يعطي ما غرم فيها زوجها المسلم معونة له وفي ذلك اقوال مختلفة وقد قيل أنه غير منسوخ أن كان المراد به الاعانة من الغنيمة فيكون معنى قوله تعالى فعاقبتم أي عنمتم ومن الحجة الدالة أن التوجه إلى الكعبة في الابتداء أن ثبت بالكتاب فقد نسخ بالسنة الموجبة للتوجه إلى بيت المقدس والثابت بالسنة من التوجه إلى بيت المقدس نسخ بالكتاب (1/222)
والشرايع الثابتة بالكتب السالفة نسخت بشرعيتنا وما ثبت ذلك إلا بتبليغ الرسول عليه السلام وترك رسول الله آية في قراءته فلما اخبر به قال الم يكن فيكم أبي فقال بلى يا رسول الله لكني ظننت إنها نسخت فقال عليه السلام لو نسخت لاخبرتكم وانما ظن النسخ من غير كتاب يتلى ولم يرد عليه وقالت عائشة ما قبض رسول الله حتى اباح الله تعالى له من النساء ما شاء فكان نسخا للكتاب بالسنة وصالح رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل مكة على رد نسائهم ثم نسخ بقوله تعالى فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار والدليل المعقول أن النسخ لبيان مدة الحكم وجائز للرسول بيان حكم الكتاب فقد بعث مبينا وجائز أن يتولى الله تعالى بيان ما اجرى على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم ولان الكتاب يزيد بنظمه على السنة فلا يشكل انه يصلح ناسخا واما السنة فإنما ينسخ بها حكم الكتاب دون نظمه والسنة في حق الحكم وحي مطلق يوجب ما يوجبه الكتاب فإذا بقي النظم من الكتاب وانتسخ الحكم منه بالسنة كان المنسوخ مثل الناسخ لا محالة ولو وقع الطعن بمثله لما صح ذلك في الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة بل في ذلك اعلاء منزلة رسول الله صلى الله عليه و سلم وتعظيم سنته و الله اعلم وظهر انه ليس بتبديل من تلقاء نفسه لانه جل وعلا قال وما ينطق عن الهوى واما الحديث فدليل على أن الكتاب يجوز أن ينسخ السنة وتأويل الحديث أن العرض على الكتاب إنما يجب فيما اشكل تاريخه أو لم يكن في الصحة بحيث ينسخ به الكتاب فكان تقديم الكتاب إولى فأما قوله جل وعلا نأت بخير منها أو مثلها فان المراد بالخيرية ما يرجع إلى العباد دون النظم بمعناه فكذلك المماثلة على انا قد بينا أن نسخ حكم الكتاب بالسنة خارج عن هذه الجملة ونسخ السنة بالسنة مثل قول النبي صلى الله عليه و سلم أني كنت نهيتكم عن زيارة القبور إلا فزوروها فقد اذن لمحمد في زيارة قبر أمه وكنت نهيتكم عن لحوم الاضاحي أن تمسكوها فوق ثلاثة ايام فامسكوها ما بدا لكم وكنت نهيتكم عن النبيذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فان الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه ونسخ خبر الواحد مثله جائز ايضا ويجوز أن يكون حكم الناسخ اشق من حكم المنسوخ عندنا لان الله تبارك وتعالى نسخ التخيير في صوم رمضان بعزيمة الصيام ونسخ الصفح والعفو عن الكفار بقتال الذين يقاتلون فقال وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ثم نسخه بقتالهم كافة بقوله و قاتلوا المشركين كافة والناسخ اشق ههنا وقال بعضهم لا يصح إلا بمثله أو بأخف لقوله تعالى (1/224)
ما نسخ من آية أو نسها نات بخير منها أو مثلها والجواب أن ذلك فيما يرجع إلى مرافق العباد وفي الاشق فضل ثواب الآخرة والله اعلم باب تفصيل المنسوخ
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه المنسوخ أنواع أربعة التلاوة والحكم والحكم دون التلاوة والتلاوة بلا حكم ونسخ وضقه في الحكم إما نسخ التلاوة والحكم جميعا فمثل صحف أبراهيم عليه السلام قال الله اما ببصر فيها القلوب او بموت العلماء و كان هذا جائز فى القرآن فى حياة النبي عليه السلام قال الله تبارك و تعالى سنقرئك فلا تنسى الاما شاء الله و قال جل جلاله ما ننسخ من أية او ننسها فاما بعد و فاته فلا لقوله تعالى سنقرئك فلا تنسى الاما شاء الله و قال جل جلاله ما ننسخ من أية او ننسها فاما عبد و فاته فلا لقوله تعالى أنا إنزلنا الذكر و إنا له حافظون اي نحفظه منزلا لا يلحقه تبديل صيانة للدين الى آخر الدهر و أما القسم الثاني و الثالث فصحيحان عند عامة الفقهاء و من الناس من أنكر ذلك فقال لان النص لحكمه فلا يبقى بدونه و الحكم بالنص ثبت فلا يبقى بدونه ولعامة العلماء أن الايذاء باللسان وامساك الزواني في البيوت نسخ حكمه وبقيت تلاوته وكذلك الاعتداد بالحول ومثله كثير ولان للنظم حكمين جواز الصلاة وما هو قائم بمعنى صيغة وجواز الصلاة حكم مقصود بنفسه وكذلك الاعجاز الثابت بنظمه حكم مقصود فبقى النص لهذين الحكمين ودلالة انهما يصلحان مقصودين ما ذكرنا أن من النصوص ما هو متشابه لا يثبت به إلا ما ذكرنا من الاعجاز وجواز الصلاة فلذلك استقام البقاء بهما وانتهى الآخر واما نسخ التلاوة وبقاء الحكم فمثل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه في كفارة اليمين فصيام ثلاثة أيام متتابعات لكمنه صح عنه الحاقه عنده بالمصحف ولا تهمة في روايته وجب الحمل على انه نسخ نظمه وبقى حكمه وهذا لان للنظم حكما يتفرد به وهو ما ذكرنا فيصلح أن يكون هذا الحكم متناهيا أيضا ويبقى الحكم بلا نظم وذلك صحيح في اجناس الوحي واما القسم الرابع فمثل الزيادة على النص فإنها نسخ عندنا وقال الشافعي انه تخصيص وليس بنسخ وذلك زيادة النفي على الجلد وزيادة قيد الإيمان في كفارة اليمين والظهار قال لان الرقبة عامة في الكافرة والمؤمنة فاستقام فيها الخصوص وانما النسخ تبديل وفي قيد الإيمان تقرير لا تبديل وكذلك في شرط النفي تقرير للجلد لا تبديل فلم يكن نسخا وليس الشرط أن يكون الزيادة تخصيصا لا محالة بل ليس نسخا بكل حال ولنا (1/226)
أن النسخ بيان مدة الحكم وابتداء حكم اخر والنص المطلق يوجب العمل باطلاقه فإذا صار مقيدا صار شيئا اخر لان التقييد والاطلاق ضدان لا يجنمعان وإذا كان هذا غير الأول لم يكن بد من القول بانتهاء الأول وابتداء الثاني وهذا لانه متى مقيدا صار المطلق بعضه و ما للبعض حكم الوجود كبعض العلة وبعض الحد حتى أن شهادة القاذف لا تبطل ببعض الحد عندنا لانه ليس بحد فثبت أن هذا نسخ بمنزلة نسخ جملته فأما التخصيص فتصرف في النظم ببيان أن بعض الجملة غير مراد بالنظم مما يتناوله النظم والقيد لا يتناوله الاطلاق إلا ترى أن الاطلاق عبارة عن العدم والتقييد عبارة عن الوجود فيصير إثبات نص بالمقايسة أو بخبر الواحد ولان المخصوص إذا لم يبق مراد بقى الباقي ثابتا بذلك النظم بعينه فلم يكن نسخا وإذا ثبت قيد الإيمان لم يكن المؤمنة ثابته بذلك النص الأول بنظمه بل بهذا القيد فيكون للاثبات ابتداء ودليل الخصوص للاخراج لا للاثبات ولا يشكل أن النفي إذا الحق بالجلد لم يبقى الجلد حدا ولهذا لم نجعل قراة الفاتحة فرضا لانه زيادة ولم نجعل الطهارة في الطواف شرطا لانه زيادة ولهذا قال أبو حنيفة وابو يوسف رحمهما الله أن القليل من المثلث لا يحرم لانه بعض المسكر وليس لبعض العلة حكم العلة بوجه وكذلك الجنب والمحدث لا يستعملان الماء القليل عندنا لانه بعض المطهر فلم يكن مطهرا كاملا ولان دليل النسخ ما لو جاء مقارنا كان معارضا والقيد يعارض الاطلاق بمنزلة سائر وجوه النسخ ونظير هذا الأصل اختلاف الشهود في قدر الثمن أن البيع لا يثبت لان الزيادة على الثمن يجعل الأول بعضه وقد صار كلا من وجه فصار غيرين ولم يكن للبعض حكم الوجود والله اعلم باب افعال النبي صلى الله عليه و سلم
وهي اربعة اقسام صباح ومستحب وواجب وفرض وفيها قسم اخر وهو الزلة لكن ليس من هذا الباب في شيء لانه لا يصلح للاقتداء ولا يخلو عن بيان مقرون به من جهة الفاعل أو من الله تبارك وتعالى كما قال جل وعز وعصى آدم وقال جل وعز حكاية عن موسى من قتل القبطى قال هذا من عمل الشيطان والزلة اسم لفعل غير مقصود في عينه لكنه اتصل الفاعل (1/227)
به عن فعل مباح قصده فزل بشغلة عنه إلى ما هو حرام لم يقصده أصلا بخلاف المعصية فإنها اسم لفعل حرام مقصود بعينه واختلفوا في سائر افعال النبي صلى الله عليه و سلم مما ليس بسهو ولا طبع لان البشر لا يخلو عما جبل عليه فقال بعضهم يجب الوقف فيها وقال بعضهم بل يلزمنا اتباع فيها وقال الكرخي نعتقد فيها الاباحة فلا يثبت الفضل إلا بدليل ولا يثبت المتابعة منا اياه فيها لا بدليل وقال الجصاص مثل قول الكرخي إلا انه قال علينا اتباعه لا نترك ذلك إلا بدليل وهذا اصح عندنا إما الواقفون فقد قالوا أن صفة الفعل إذا كانت مشكلة امتنع الاقتداء لان الاقتداء في المتابعة في اصله ووصفه فإذا خالفه في الوصف لم يكن مقتديا فوجب الوقف إلى أن يظهر إما الاخرون فقد احتجوا بالنص الموجب لطاعة الرسول عليه السلام قال الله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن امره والنصوص في ذلك كثيرة واما الكرخي فقد زعم أن الاباحة من هذه الأقسام هي ثابته بيقين فلم يجز إثبات غيره إلا بدليل ووجب إثبات اليقين كمن وكل رجلا بماله يثبت الحفظ به لانه يقين وقد وجدنا اختصاص لرسول ببعض ما فعله ووجدنا الاشتراك أيضا فوجب الوقف فيه أيضا ووجه القول الآخر أن الاتباع اصل لانه امام يقتدي به كما قال تعالى لابراهيم أني جاعلك للناس امام فوجب التمسك بالاصل حتى يقوم الدليل على غيره هذا الذي ذكرنا تقسيم السنن في حقنا وهذا باب تقسيم السنة في حق النبي صلى الله عليه و سلم
ولولا جهل بعض الناس والطعن بالباطل في هذا الباب لكان الأولى منا الكف عن تقسيمه فانه هو المتفرد بالكمال الذي لا يحيط به إلا الله تعالى والوحي نوعان ظاهر وباطن إما الظاهر فثلاثةاقسام ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه بعد علم بالمبلغ بآية قاطعة وهو الذي انزل عليه بلسان الروح الامين عليه السلام والثاني ما ثبت عنده ووضح له باشارة الملك من غير بيان بالكلام كما قال النبي صلى الله عليه و سلم أن روح القدس نفث في روعى أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها إلا فاتقوا الله واجملوا في الطلب والثالث ما تبدي لقلبه بلا شبهة ولا مزاحم ولا معارض بالهام من الله تعالى بان أراه بنور عنده كما قال جلو علا لتحكم بين الناس بما اراك (1/228)
الله فهذا وحي ظاهر كله مقرون بما هو إبتلاء اعني به الابتلاء في درك حقيتة بالتأمل وانما اختلف طريق الظهور وهذا من خواص النبي صلى الله عليه و سلم حتى كان حجة بالغة وانما يكرم غيره بشيء منها لحقه على مثال كرامات الالياء واما الوحي الباطن فهو ما ينا لباجتهاد الرأي بالتأمل في الأحكام المنصوصة واختلف في هذا الفصل فابى بعضهم أن يكون هذا من حظ النبي صلى الله عليه و سلم وانما له الوحي الخالص لا غير وانما الرأي والاجتهاد لامته وقال بعضهم كان له العمل في احكام الشرع بالوحي والرأي جميعا والقول إلا صح عنددنا هو القول الثالث وهو أن الرسول مأمور بانتظار الوحي فيما لم يوحي اليه من حكم الواقعة ثم العمل بالراي بعد انقضاء مدة الانتظار واحتج الأول بقول الله تعالى وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى ولان الاجتهاد محتمل للخطأ ولا يصلح لنصب الشرع ابتداء لان الشرع حق الله تعالى فاليه نصبه بخلاف امر الحروب لانه يرجع إلى العباد يدفع او جر فصح اثباته بالراي ووجه القول الآخر أن الله تبارك وتعالى أمر بالاعتبار عاما بقوله فاعتبروا يا أولي الابصار وهو عليه السلام حتى الناس بهذا الوصف وقال الله تبارك وتعالى ففهمنا ها سليمن وذ لك عبارة عن الرأي من غير نص وكذلك قوله تبارك وتعالى لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه جواب بالراي وقال النبي صلى الله عليه و سلم للخثعمية ارايت لو كان على ابيك دين فقضيته إما كان تقبل منك قالت نعم قال فدين الله احق وقال لعمر وقد سأله عن القبلة للصائم ارايت لو تمضمضت بماء ثم محجته اكان تضرك وهذا قياس ظاهر وقال فيمن اتى اهله انه يوجر فقيل ايوجر أحدنا في شهوته فقال ارايت لو وضعه في حرام إما كان باثم وقال في حرمة الصدقه على بني هاشم ارايت لو تمضمضت بماء ثم محجته اكنت شاربه وهذا قياس واضح في تحريم الاوساخ بحكم الاستعمال ولان الرسول صلى الله عليه و سلم اسبق الناس في العلم حتى وضح له ما خفى على غيره من المتشابه فحال أن يخفى عليه معاني النص وإذا وضح له لزمه العمل به لان الحجة للعمل شرعت إلا أن اجتهاد غيره يحتمل الخطأ واجتهاده لايحتمل ولا يحتمل القرار على الخطاء فإذا اقره الله تعالى على ذلك دل على انه مصيب بيقين وذلك مثل امور الحرب وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يشاور في سائر الحوادث عند عدم النص مثل مشاورته في امور الحرب إلا ترى انه شاورهم في اسارى بدر فاخذ براي أبي بكر وكان ذلك هو الرأي عنده (1/230)
فمن عليهم حتى نزل قوله لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم وكما شاور سعد ابن معاذ وسعد بن عبادة يوم الاحزاب في بذل شطر ثمار المدينة ثم اخذ برايهما وكذلك اخذ براي اسيد بن حضير في النزول على الماء يوم بدر وكان يقطع الامر دونهم فيما اوحي اليه في الحرب كما في سائر الحوادث والجهاد محض حق الله تعالى ما بينه وبين غيره فرق وكان يقول لابي بكر وعمر رضي الله عنهما قولا فاني فيما لم يوح إلى مثلكما ولا يحل المشورة مع قيام الوحي وانما الشورى في العمل بالراي خاصة إلا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم معصوم عن القرار على الخطاء إما غيره فلا يعصم عن القرار على الخطاء فإذا كان كذلك كان اجتهاده ورايه صوابا بلا شبهة إلا انا اخترنا تقديم انتظار الوحي لانه مكرم بالوحي الذي يغنيه عن الرأي وعلى ذلك غالب احواله في أن لا يخلي عن الوحي والرأي ضروري فوجب تقديم الطلب لاحتمال الاصابة غالبا كالتيمم لا يجوز في موضع وجود الماء غالبا إلا بعد الطلب وصار ذلك كطلب النص النازل الخفي بين النصوص في حق سائر المجتهدين ومدة الانتظار على ما يرجو نزوله إلا أن يخاف الفوت في الحادثة والله اعلم ومما يتصل بسنة نبينا صلى الله عليه و سلم شرايع من قبله وانما اخرناه لانه اختلف في كونه شريعة له وهذا باب شرايع من قبلنا
قال بعض العلماء يلزمنا شرايع من قبلنا حتى يقوم الدليل على النسخ بمنزلة شرايعتنا قال بعضهم لا يلزمنا حتى يقوم الدليل وقال بعضهم يلزمنا على انه شريعتنا والصحيح عندنا أن ما قص الله تعالى منها علينا من غبر انكار أو قصة رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير انكار فانه يلزمنا على انه شريعة رسولنا عليه السلام احتج الاولون بقوله تبارك وتعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم افتده والهدى اسم يقع عن الإيمان والشرايع ولانه ثبت حقيقة دينا لله تبارك وتعالى و دين الله تعالى حسن مرضى عنده قال الله تبارك وتعالى لانفرق بين أحد من رس وقال مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فصار الأصل هو الموافقة واحتج أهل المقالة الثانية بقول الله تبارك وتعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا لان الأصل في الشرايع الماضية الخصوص في (1/232)
المكان ألا ترى إنها كانت يحتمل الخصوص في المكان رسولين بعثا في زمان واحد في مكانين إلا أن يكون أحدهما تبعا للآخر كما قال في قصة إبراهيم عليه السلام فأمن له لوط وكما كان هارون لموسى عليهما السلام فكذلك في الزمان أيضا فصار الاختصاص في شرائعهم أصلا إلا بدليل واحتج أهل المقالة الثالثة بأن النبي صلى الله عليه و سلم كان أصلا في الشرائع وكانت شريعته عامة لكافة الناس وكان وارثا لما مضى من محاسن الشريعة ومكارم الأخلاق قال الله تبارك وتعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ورأى رسول الله صلى الله عليه و سلم في يد عمر رضي الله عنه صحيفة فقال ما هي فقال التوراة فقال أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى والله لو كان موسى حيا لما رسعه إلا اتباعي فصار الأصل الموافقة والألفة لكن بالشرط الذي قلنا ومعروف لا ينكر من فعل النبي صلى الله عليه و سلم العمل بما وجده صحيحا فيما سلف من الكتب غير محرف إلا أن ينزل وحي بخلافه فثبت أن هذا هو الأصل إلا أن التحريف من أهل الكتاب كان ظاهرا وكذلك الحسد والعداوة والتلبيس كثير منهم ووقعت الشبهة في نقلهم فشرطنا في هذا أن يقص الله تعالى أو رسوله عليه السلام من غير إنكار احتياطا في باب الدين وهو المختار عندنا من الأقوال بهذا الشرط الذي ذكرنا قال الله تبارك وتعالى ملة أبيكم إبراهيم وقال قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا فعلى هذا الأصل يجري هذا وقد احتج محمد رحمه الله في تصحيح المهايأة والقسمة بقول الله تعالى ونبئهم أن الماء قسمة بينهم وقال لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فاحتج بهذا النص لإثبات الحكم به في غير المنصوص عليه بما هو نظيره فثبت أن المذهب هو القول الذي اخترناه والله أعلم وما يقع به ختم باب السنة باب متابعة أصحاب النبي عليه السلام والاقتداء بهم
قال أبو سعيد البردعي تقليد الصحابي واجب يترك به القياس قال وعلى هذا أدركنا مشايخنا وقال الكرخي لا يجب تقليده إلا فيما لا يدرك بالقياس وقال الشافعي رحمه الله لا يقلد أحد منهم ومنهم من فضل في التقليد فقلد الخلفاء رضي الله عنهم وقد اختلف عمل أصحابنا في هذا الباب فقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله أن اعلام قدر رأس المال ليس بشرط وقد روى عن ابن عمر (1/234)
رضي الله عنهما خلافه وقال أبو حنيفة وابو يوسف رحمهما الله في الحامل أنها تطلق ثلاثا للسنة وقد روى عن جابر وابن مسعود خلافه وقال أبو يوسف ومحمد في الأجير المشترك أنه ضامن ورويا ذلك عن علي وخالف ذلك أبو حنيفة بالرأي وقد اتفق عمل أصحابنا بالتقليد فيما لا يعقل بالقياس فقد قالوا في أقل الحيض أنه ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام ورووا ذلك عن أنس وعثمان بن أبي العاص الثقفي وافسدوا شراء ما باع بأقل مما باع عملا بقول عائشة رضي الله عنها في قصة زيد بن أرقم رضي الله عنه أما فيما لا يدرك بالقياس فلا بد من العمل به حملا لذلك على التوقيف من رسول الله عليه الصلاة و السلام لا وجه له غير هذا إلا التكذيب وذلك باطل فوجب العمل به لا محالة فأما فيما يعقل بالقياس فوجه قول الكرخي أن القول بالرأي من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم مشهور واحتمال الخطأ في اجتهادهم كائن لا محالة فقد كان يخالف بعضهم بعضا وكانوا لا يدعون الناس إلى أقوالهم وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول أن أخطأت فمن الشيطان وإذا كان كذلك لم يجز تقليد مثله بل وجب الاقتداء بهم في العمل بالرأي مثل ما عملوا وذلك معنى قول النبي عليه السلام أصحابي كالنجوم الخبر ومن ادعى الخصوص احتج بقول النبي صلى الله عليه و سلم اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر وبما روى في هذا الباب من اختصاصهم مما دل على ما قلنا ووجه قول أبي سعيد أن العمل برأيهم أولى لوجهين أحدهما احتمال السماع والتوقيف وذلك أصل فيهم مقدم على الرأي وقد كانوا يسكتون عن الأسناد ولاحتمال فضل إصابتهم في نفس الرأي فكان هذا الطريق هو النهاية في العمل بالسنة ليكون السنة بجميع وجوهها وشبهها مقدما على القياس ثم القياس بأقوى وجوهه حجة وهو المعنى الصحيح بأثره الثابت شرعا فقد ضيع الشافعي عامة وجوه السنن ثم مال إلى القياس الذي هو قياس الشبه وهو ليس بصالح لإضافة الوجوب إليه فما هو إلا كمن ترك القياس وعمل باستصحاب الحال فجعل الاحتياط مدرجة إلى العمل بلا دليل فصار الطريق المتناهي في أصول الشريعة وفروعها على الكمال هو طريق أصحابنا بحمد الله إليهم انتهى الذين بكماله وبفتواهم قام الشرع إلى آخر الدهر بخصاله لكنه بحر عميق لا يقطعه كل سابح والشروط كثيرة لا يجمعها كل طالب وهذا الاختلاف في كل ما ثبت عنهم من غير خلاف بينهم ومن غير أن يثبت انه بلغ غير قائله فسكت (1/236)
مسلما له فأما إذا اختلفوا في شيء فإن الحق في أقوالهم لا يعدوهم عندنا على ما نبين في باب الإجماع إن شاء الله تعالى ولا يسقط البعض بالبعض بالتعارض لأنهم لما اختلفوا ولم تجر المحاجة بالحديث المرفوع سقط احتمال لتوقيف وتعين وجه الرأي والاجتهاد فصار تعارض أقوالهم كتعارض وجوه القياس وذلك يوجب الترجيح فإن تعذر الترجيح وجب العمل بأيها شاء المجتهد على أن الصواب واحد منها لا غير ثم لا يجوز العمل بالثاني من بعد إلا بدليل على ما مر في باب المعارضة وأما التابعي فإن كان لم يبلغ درجة الفتوى في زمان الصحابة ولم يزاحمهم في الرأي كان أسوة سائر أئمة الفتوى من السلف لا يصح تقليده وإن ظهر فتواه في زمن الصحابة كان مثلهم في هذا الباب عند بعض مشايخنا لتسليمهم مزاحمته إياهم وقال بعضهم بل لا يصح تقليده وهو دونهم لعدم احتمال التوقيف فيه وجه القول الأول إن شريحا خالف عليا في رد شهادة الحسن وكان علي يقول له في المشورة قل أيها العبد إلا بظر وخالف مسروق ابن عباس في النذر بنحر الولد ثم رجع ابن عباس إلى فتواه ولأنه بتسليمهم دخل في جملتهم رضي الله عنهم أجمعين باب الإجماع
الكلام في الإجماع في ركنه وأهلية من ينعقد به وشرطه وحكمه وسببه وأما ركنه فنوعان عزيمة ورخصة أما العزيمة فالتكلم منهم بما يوجب الإتفاق منهم أو شروعهم في الفعل فيما كان من بابه لأن ركن كل شيء ما يقوم به أصله والأصل في نوعي الإجماع ما قلنا وأما الرخصة فإن يتكلم البعض ويسكت سائرهم بعد بلوغهم وبعد مضي مدة التأمل والنظر في الحادثة وكذلك في الفعل وقال بعض الناس لا بد من النص ولا يثبت بالسكوت وحكى هذا عن الشافعي رحمه الله قال لأن عمر رضي الله عنه شاور الصحابة في مال فضل عنده وعلي ساكت حتى قال له ما تقول يا ابا الحسن فروى له حديثا في قسمة الفضل فلم يجعل سكوته تسليما وشاورهم في املاص المرأة فأشار وأبان لا غرم عليه وعلى ساكت فلما سأله قال أرى عليك العزة ولأن السكوت قد يكون مهابة كما قيل لابن عباس رضي الله عنهما ما منعك أن تخبر عمر بفولك في العول فقال درته وقد يكون للتأمل فلا يصلح حجة ولنا أن شرط النطق منهم جميعا (1/239)
متعذر غير معتاد بل المعتاد في كل عصر أن يتولى الكبار الفتوى ويسلم سائرهم ولانا إنما نجعل السكوت تسليما بعد العرض وذلك موضع وجوب الفتوى وحرمة السكوت لو كان مخالفا فإذا لم يجعل تسليما كان فسقا أو بعد الاشتهار والاشتهار ينافي الخفاء فكان كالعرض وذلك ايضا بعد مضي مدة التأمل وذلك ينافي الشبهة فتعين وجه التسليم واما سكوت على فإنما كان لان الذين افتوا بامساك المال وبان لا غرم عليه في املاص المرأة كان حسنا إلا أن تعجيل الامضاء إلى الصدقة والتزام الغرم من عمر صيانة عن القيل والقال ورعاية لحسن الثناء وبسط العدل كان احسن فحل السكوت عن مثله وبعد فإن السكوت بشرط الصيانة عن الفوت جائز تعظيما للفتيا وذلك إلى آخر المجلس وكلامنا في السكوت المطلق فأما حديث الدرة فغير صحيح لان الخلاف والمناظرة بينهم اشهر من أن يخفى وكان عمر رضي الله عنه الين للحق واشد انقيا داله من غيره وان صح فتأويله ايلاء العذر في الكف عن مناظرته بعد ثباته على مذهبه وعلى هذا الأصل يخرج ايضا انهم إذا اختلفوا عني أصحاب النبي عليه السلام كان اجماعا على أن ما خرج من اقوالهم فباطل وكل عصر مثل ذلك ايضا ومن الناس من قال هذا سكوت ايضا بل اختلافهم يسوغ الاجتهاد من غير تعيين ولكنا نقول أن الإجماع من المسلمين حجة لا يعدوه الحق والصواب بيقين وإذا اختلفوا على اقوال فقد اجمعوا على حصر الأقوال في الحادثة ولا يجوز أن يظن بهم الجهل فلم يبق إلا ما قلنا وكذلك إذا اختلف العلماء في كل عصر على اقوال فعلى هذا ايضا عند بعض مشايخنا وقد قيل أن هذا بخلاف الأول إنما ذلك للصحابة خاصة رضي الله عنهم اجمعين وكذلك ما خطب به بعض الصحابة من الخلفاء فلم يعترض عليه فهو إجماع لما قلنا والله اعلم باب الاهلية
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه اهلية الإجماع إنما تثبت باهلية الكرامة وذلك لكل مجتهد ليس فيه هوى ولا فسق إما الفسق فيورث التهمة ويسقط العدالة وبأهلية اداء الشهادة وصفة الأمر بالمعروف ثبت هذا الحكم وأما الهوى فان كان صاحبه يدعو الناس اليه فسقطت (1/242)
عدالته بالتعصب الباطل وبالسفه وكذلك أن مجن به وكذلك أن غلا حتى كفر به مثل خلاف الروافض والخوارج في الامامة فانه من جنس العصبية وصاحب الهوى المشهور به ليس من الأمة على الاطلاق فأما صفة الاجتهاد فشرط في حال دون حال إما في اصول الدين الممهدة مثل نقل القرآن ومثل امهات الشرايع فعامة المسلمين داخلون مع الفقهاء في ذلك الإجماع فأما ما يختص بالرأي والاستنباط وما يجري مجراه فلا يعتبر فيه إلا أهل الرأي والاجتهاد وكذلك من ليس من أهل الرأي والاجتهاد من العلماء فلايعتبر في الباب إلا فيما يستعنى عن الرأي ومن الناس من زاد في هذا وقال لا جماع إلا للصحابة لانهم هم الاصول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال بعضهم لا يصح إلا من عترة الرسول عليهم السلام فهم المخصوصون بالعرق الطيب المجبولون على سواء السبيل ومنهم من قال ليس ذلك إلا أهل المدينة فهم أهل حضرة النبي صلى الله عليه و سلم إلا أن هذه امور زائدة على الاهلية وما ثبت به الإجماع حجة لا يوجب الاختصاص بشيء من هذا وانما هذا كرامة الأمة ولا اختصاص للامة بشيء من هذا والله اعلم باب شروط الإجماع
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه قال اصحابنا رحمهم الله انقراض العصر ليس بشرط الصحة الإجماع حجة وقال الشافعي رحمه الله الشرط أن يموتوا على ذلك لاحتمال رجوع بعضهم لكنا نقول ما ثبت به الإجماع حجة لا فصل فيه وانما ثبت مطلقا فلا صح الزيادة عليه وهو نسخ عندنا ولان الحق لا يعد والإجماع كرامة لهم لا لمعنى يعقل فوجب ذلك بنفس الإجماع فإذا رجع بعضهم من بعد لم يصح رجوعه عندنا وقال الشافعي يصح لانه ما كان ينعقد إجماعهم إلا به كذلك لا يبقى إلا به ولكنا نقول بعد ما ثبت الإجماع لم يسعه الخلاف وصار يقينا كرامة وفي الابتداء كان خلافه مانعا عندنا وقال بعض الناس لا يشترط اتفاقهم بل خلاف الواحد لايعتبر ولا خلاف الاقل لان الجماعة احق بالاصابة وأولى بالحجة قال النبي عليه السلام عليكم بالسواد الاعظم والجواب أن النبي عليه السلام جعل إجماع الأمة حجة فما بقي منهم (1/243)
أحد يصلح للاجتهاد والنظر مخالفا لم يكن اجماعا وانما هذا كرامة تبثتت على الموافقة من غير أن يعقل به دليل الاصابة فلا يصلح ابطال حكم الأفراد وقد اختلف أصحاب النبي عليه السلام و ربما كان المخالف واحدا و ربما قل عددهم في مقابلة الجمع الكثير و تأويل قولهعليه السلام عليكم با لسواد الا عظيم هو عاقة المؤمنين و كلهم ممن هوامه مطلقا و اختلفوا في شرط آخر وهو ان الجماع كل عصر حجة فيما سبق فيه الخلاف من السلف على بعض اقوالهم و فيما يسبق الخلاف من الصدر الاول فقد صح عن محمد رحمه الله ان قضاء القاضي ببيع امهات الاولادلا باطل و ذكر الكرخي عن أبي حنفية رحمه الله ان قضاء القاضي ببيع امهات الاولاد لا ينقض فقال بعض حنيفة رحمه الله جعل الاختلاف الأول مانعا من الإجماع المتأخر وقال بعضهم بل تأويل قول أبي حنيفة أن هذا إجماع مجتهد وفيه شبهة فينفذ قضاء القاضي ولا ينقض عند الشبهة إما من اثبت الخلاف فوجه قوله أن المخالف الأول لو كان حيا لما انعقد الإجماع دونه وهو من الأمة بعد موته إلا ترى أن خلافه اعتبر بدليله لا لعينه ودليله باق بعد موته ولان في تصحيح هذا الإجماع تضليل بعض الصحابة مثل قول عبد الله بن عباس في العول وقد قال فيمن قال لامرأته أنت خلية برية بتة باين ونوى الثلاث ثم وطئها في العدة لا يحل لقول عمر رضي الله عنه إنها رجعية ولم يقل به أحد عند نية الثلاث ووجه القول الآخر ان دليل كون الإجماع حجة هو اختصاص الأمة بالكرامة بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وذلك إنما يتصور من الاحياء في كل عصر فأما قوله أن الدليل باق فهو كذلك لكنه فسخ كنص يترك بخلاف القياس فأما التضليل فلا يجب لان الرأي يومئذ كان حجة لفقد الإجماع فإذا حدث الأجماع انقطع الدليل للحال وذلك كالصحابة إذا اختلفوا بالرأي فلما عرضوا ذلك على النبي عليه السلام فرد قول البعض لم ينسب صاحبه إلى الضلال وكصلاة أهل قباء بعد نزول النص قبل بلوغهم وانما اسقط محمد رحمه الله الحد بالشبهة ومن شرط اجتماع من هو داخل في اهلية الإجماع وبعض مشايخنا شرط الاكثر والصحيح ما قلنا لانه إنما صار حجة كرامة تثبت على اتفاقهم فلا تثبت بدون هذا الشرط (1/244)
باب حكم الإجماع
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه حكمه في الأصل أن يثبت المراد به حكما شرعيا على سبيل اليقين ومن أهل الهوى من لم يجعل الإجماع حجة قاطعة لان كل واحد منهم اعتمد ما لا يوجب العلم لكن هذا خلاف الكتاب والسنة والدليل المعقول إما الكتاب فإن الله تعالى قال ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى فأوجب هذا أن يكون سبيل المؤمنين حقا بيقين وقال كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر والخيرية توجب الحقية فيما اجمعوا وقال وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس والوسط العدل وذلك يضاد الجور والشهادة على الناس تفتضي الاصابة والحقية إذا كانت شهادة جامعة للدنيا والاخرة وقال النبي صلى الله عليه و سلم لا يجتمع امتي على الضلالة وعموم النص ينفي جميع وجوه الضلالة في الإيمان والشرايع جميعا وأمر النبي صلى الله عليه و سلم ابا بكر ليصلي بالناس فقالت عائشة أن رجل رقيق فمر عمر ليصلي بالناس قال النبي عليه السلام أبى الله ذلك والمسلمون وسئل عن الخميرة يتعاطها الجيران فقال مارآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن واما المعقول فلان رسولنا عليه السلام خاتم النبين باقية الى آخر الدهر و امته ثابته على الحق الى ان تقوم الساعة قال النبي عليه السلام ظاهرين حتى تقوم الساعة وقال حتى تقاتل آخر عصابة من امتي الدجال وانما المراد بالامة من لا يتمسك بالهوى و البدعة ولو جاز الخطأ على جماعتهم وقد انقطع الوحي بطل وعد الثبات على الحق فوجب القول بأن إجماعهم صواب بيقين كرامة من الله تعالى صيانة لهذا الدين وهذا حكم متعلق باجماعهم صيانة للدين وذلك جائز مثل القاضي يقضي في المجتهد برأيه فيصير لازما لا يرد عليه نقض وذلك فوق دليل الاجتهاد صيانة للقضاء الذي هي من اسباب الدين ولا ينكر في المحسوس والمشروع أن يحدث باجتماع الأفراد مالا يقوم به الأفراد والله اعلم فصار الإجماع كآية من الكتاب أو حديث متواتر في وجوب العمل والعلم به فيكفر جاحده في الأصل قال الشيخ الأمام ثم هذا على (1/245)
مراتب فاجماع الصحابة مثل الاية والخبر المتواتر واجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الحديث وإذا صار الإجماع مجتهدا في السلف كان كالصحيح من الآحاد والنسخ في ذلك جائز بمثله حتى إذا اثبت حكم باجماع عصر يجوز أن يجتمع أولئك على خلافه فينسخ به الأول ويجوز ذلك و أن لم يتصل به التمكن من العمل عندنا على ما أمر ويستوى في ذلك أن يكون في عصرين أو عصر واحد اعني به في جواز النسخ والله اعلم بالصواب باب بيان سببه
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه وهو نوعان الداعي والناقل إما الداعي فيصلح أن يكون من إخبار الآحاد أو القياس وقال بعضهم لا بد من جامع اخر مما لا يحتمل الغلط وهذا باطل عندنا لان ايجاب الحكم به قطعا لم يثبت من قبل دليله بل من قبل عينه كرامة للامة وادامة للحجة وصيانة وتقرير الهم على المحجة ولو جمعهم دليل موجب يوجب علم اليقين لصار الإجماع لغوا فثبت أن ماقاله هذا القائل حشو من الكلام واما السبب الناقل الينا فعلى مثال نقل السنة فقد ثبت نقل السنة بدليل قاطع لا شبهة فيه وقد ثبت بطريق فيه شبهة فكذا هذا إذا انتقل الينا إجماع السلف باجماع كل عصر على نقله كان في معنى نقل الحديث المتواتر وإذا انتقل الينا بالافراد مثل قول عبيدة السلماني ما اجتمع أصحاب النبي عليه السلام على شيء كاجتماعهم على محافظة الاربع قبل الظهر وعلى اسفار الصبح وعلى تحريم نكاح الاخت في عدة الاخت وسئل عبد الله بن مسعود عن كبير الجنازة فقال كل ذلك قد كان إلا أني رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم يكبرون اربعا وكما روي في توكيد المهر بالخلوة وكان هذا كنقل السنة بالآحاد وهو يقين بأصله لكنه لما انتقل الينا بالآحاد اوجب العمل دون علم اليقين وكان مقدما على القياس فهذا مثله ومن الفقهاء من أبي النقل بالآحاد في هذا الباب وهو قول لاوجه له ومن انكر الإجماع فقد ابطل دينه كله لان مدار اصول الدين كلها ومرجعها إلى إجماع المسلمين وصلى الله على نبيه محمد وآله اجمعين (1/247)
باب القياس
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه الكلام في هذا الباب ينقسم إلى اقسام اولها الكلام في تفسير القياس والثاني في شرطه والثالث في ركنه و الرابع في حكمه والخامس في دفعه ولا بد من معرفة هذه الجملة لان الكلام لا يصح إلا بمعناه ولا يوجد إلا عند شرطه ولا يقوم إلا بركنه ولم يشرع إلا لحكمه ثم لا يبقى إلا الدفع باب تفسير القياس
للقياس تفسير هو المراد بظاهر صيغته ومعنى هو المراد بدلالة صيغته ومثاله الضرب هو اسم لفعل يعرف بظاهرة ولمعنى يعقل بدلالته على ما قلنا إما الثابت بظاهر صيغته فالتقدير يقال قس النعل بالنعل أي احذه به وقدره به وذلك أن يلحق الشيء بغيره فيجعل مثله ونظيره وقد يسمى ما يجري بين اثنين من المناظرة قياسا وهو مأخوذ من قايسته قياسا وقد يسمى هذا القياس نظرا مجازا لانه من طريق النظر يدرك وقد يسمى اجتهاد الان ذلك طريقه فسمى به مجازا وأما المعنى الثابت بدلالة صيغته فهو انه مدرك في احكام الشرع ومفصل من مفاصل وهذه جملة لا تعقل إلا بالبسط والبيان وبيان ذلك أن الله تعالى كلفنا العمل بالقياس بطريق وضعه على مثال العمل بالبينات فجعل الاصول شهود فهي شهود الله ومعنى النصوص هو شهادتها وهو العلة الجامعة بين الفرع والاصل ولا بد من صلاحية الاصول وهو كونها صالحة للتعليل كصلاحية الشهود بالحرية والعقل والبلوغ ولا بد من صلاح الشهادة كصلاح شهادة الشاهد بلفظة الشهادة خاصة وعدالته واستقامته للحكم المطلوب فكذلك هذه الشهادة ولا بد من طالب للحكم على مثال المدعي وهو القايس ولا بد من مطلوب وهو الحكم الشرعي ولا بد من مقضي عليه وهو القلب بالعقد ضرورة والبدن بالعمل اصلا أو الخصم في مجلس النظر والمحاجة ولا بد من حكم هو بمعنى القاضي وهو القلب وإذا ثبت ذلك بقي للمشهود عليه ولاية الدفع كما في سائر الشهادات هذا مذهب عامة أصحاب النبي عليه السلام وهو مذهب (1/248)
عامة التابعين الصالحين وعلماء الدين رضي الله عنهم اجمعين فانهم اتفقوا على أن القياس بالرأي على الاصول الشرعية لتعدية احكامها إلى مالا نص فيه مدرك من مدارك احكام الشرع لا حجة لاثباتها ابتداء وقال أصحاب الظواهر من أهل الحديث وغيرهم أن القياس ليس بحجة العمل به باطل وهو قول داود الاصبهاني وغيره واختلف هؤلاء فقال بعضهم لا دليل من قبل العقل اصلا والقياس قسم منه وقال بعضهم لا عمل لدليل العقل إلا في الأمور العقلية دون الشرعية وقال بعضهم وهو دليل ضروري ولا ضرورة بنا اليه لا مكان العمل باستصحاب الحال واحتج من ابطل القياس بالكتاب والسنة والمعقول إما الكتاب فقول الله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وقوله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ومن جعل القياس حجة لم يجعل الكتاب كافيا وأما السنة فقول النبي عليه السلام لم يزل أمر بني اسرائيل مستقيما حتى كثرت فيهم اولاد السبايا فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا واضلوا وما المعقول فلمعنى في الدليل ولمعنى في المدلول إما الدليل فشبهة في الأصل لان النص لم ينطق بشيء من الاوصاف علة للحكم والحكم المطلوب حق الله تعالى فلا يصح اثباته بما هو شبهة في الأصل مع كمال قدرة صاحب الحق واما الذي في المدلول فلأن المدلول طاعة الله تعالى ولا يطاع الله تعالى بالعقول والاراء إلا ترى أن من الشرايع مالا يدرك بالعقول مثل المقدرات ومنها ما يخالف المعقول ولا يلزم أمر الحروب ودرك الكعبة وتقويم المتلفات إما على الأول فلانها من حقوق العباد إما غير القبلة فلا يشكل واما القبلة فاصلة معرفة اقاليم الأرض وذلك حق العباد فبنى على وسعهم واما على الثاني فلان هذه الأمور إنما يعقل بوجوه محسوسه إلا ترى أن قيم المتلفات ومهور النساء وامور الحرب تعقل بالاسباب الحسية وكذلك القبلة وكان يقينا بأصله على مثال الكتاب والسنة وحصل بما قلنا المحافظة على المنصوص بمعاينها ولان العمل بالاصل في مواضع القياس ممكن وذلك دليل دعينا إلى العمل به قال الله تعالى قل لا اجد فيما اوحى ألي محرما على طاعم يطعمه الاية وليس كذلك ما ذكرنا من امور الحرب وغيرها لان العمل بالاصل غير ممكن وكذلك أمر القبلة فعملنا بالاجتهاد للضرورة ولا يلزم عليه الاعتبار بمن مضى من القرون في المثلات والكرامات لان ذلك أمر يعقل بالحس (1/249)
والعيان وعلى لك يحمل ما ورد في الكتاب من الأمر بالاعتبار على أمر الحرب يحمل مشاورة النبي عليه السلام ولعامة العلماء وائمة الهدى الكتاب والسنة والدليل المعقول وهذا اكثر من أن يحصى و اوضح من أن يخفى وانما نذكر طرفا منه تبركا واقتداء بالسلف قال الله تعالى فاعتبروا يا اولي الابصار والاعتبار رد الشيء إلى نظيره والعبرة البيان قال الله تعالى أن كنتم للرؤيا تعبرون أي تبينون والقياس مثله سواء فان قيل إنما يصح الاعتبار بامر ثابت بالنص دون الرأي وهو أن يذكر سبب هلاك قوم أو نجاتهم وكذلك عندي ههنا اذ1 ذكرت العلة نصا مثل قول النبي في الهرة إنها من الطوافات والجواب ما نبين أن شاء الله وقال الله تعالى أن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون يعقلون ونحو ذلك وقال جل ذكره ولكم في القصاص حياة وهو افناء و اماته في الظاهر لكنه حياة من طريق المعنى بشرعه واستيفائه إما الأول فان من تأمل في شرع القصاص ضده ذلك عن مباشرة سببه فيبقى حيا ويسلم المقصود بالقتل عنه فيبقى حيا فيصير حياة لهما أي بقاء عليهما واما في استيفائه فلان من قتل رجلا صار جريا على اوليائه وصاروا كذلك عليه فلا يسلم لهم حياة إلا أن يقتل القاتل فيسلم به حياة اولياء القتيل الأول والعشائر فصاروا احياء معنى وهذا لا يعقل إلا بالتأمل واما السنة فاكثر من أن يحصى من لك ما روى عن النبي صلى الله عليه و سلم حين بعث معاذا إلى اليمن قال بم تقضي قال بما في كتاب الله قال فان لم تجد في كتاب الله قال اقضي بما قضى به رسول الله قال فإن لم تجد فيما قضى به رسول الله قال اجتهد برأيي قال الحمد لله الذي وفق رسول رسوله و هذا نصل صحيح وقد روينا ما هو قياس بنفسه من النبي عليه السلام وعمل أصحاب النبي عليه السلام في هذا الباب ومناظرتهم ومشاورتهم في هذا الباب اشهر من أن يخفى على عاقل مميز فان طعن طاعن فيهم فقد ضل عن سواء السبيل ونابذ الإسلام ومن ادعى خصوصهم فقد ادعى أمر إلا دليل عليه بل الناس سواء في تكليف الاعتبار واما المعقول فهو أن الاعتبار واجب بنص القرآن وهو النظر والتأمل فيما اصاب من قبلنا من المثلات باسباب نقلة عنهم لنكف عنها احترازا عن مثله من الجزاء وكذلك التأمل في حقائق اللغة لاستعارة غيرها لها سايغ والقياس نظيره بعينه لان الشرع شرع احكاما بمعاني اشار اليها كما انزل مثلات (1/250)
بأسباب قصها ودعانا إلى التأمل ثم الاعتبار وبيان ذلك في الأصل في قول الله تعالى هو الذي اخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر فالاخراج من الديار عقوبة بمعنى القتل والكفر يصلح داعيا اليه وأول الحشر دلالة على تكرار هذه العقوبة وقوله تعالى ما ظننتم أن يخرجوا دليل على أن اصابة النصرة جزاء التوكل وقطع الحيل وان المقت والخذلان جزاء النظر إلى القوة والاغترار بالشوكة إلى ما لا يحصى من معاني النص ثم دعانا إلى الاعتبار بالتأمل في معاني النص للعمل به فيما لا نص فيه وكذلك في مسألتنا هذه ومثال ذلك في مسألة الربا وذلك أن النبي عليه السلام قال الحنطة بالحنطة أي بيعوا الحنطة بالحنطة بالحنطة لان الباء كلمة الصاق فدال على اضمار فعل مثل قولك بسم الله فدل عليه قوله لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء ودل عليه حديث عبادة بن الصامت أن النبي عليه السلام قال لا تبيعوا الذهب بالذهب والورق بالورق إلا سواء بسواء والحنطة بالحنطة الاسواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو استزاد فقد اربى والحنطة اسم علم لميكل معلوم وقد قوبل بجنسه وقوله مثلا بمثل حال لما سبق والاحوال شروط أي بيعوا بهذا الوصف والأمر للايجاب يكون والبيع مباح فلا بد من صرف الأمر إلى الحال التي هي شرط والمراد بالمثل القدر لما روي في حديث اخر كيل بكيل فثبت بصيغة الكلام و قوله والفضل اسم لكل زيادة وقوله ربا اسم لزيادة هي حرام وهو فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال والمراد بالفضل الفضل على القدر لان الفضل لا يتصور إلا بناء على المماثلة ليكون فضلا عليها والمراد بالمماثلة القدر بالنص فكذلك الفضل عليها لا محالة وصار حكم النص وجوب التسوية بينهما في القدر ثم الحرمة بناء على فوات حكم الأمر هذا حكم هذا النص عرفناه بالتأمل في صيغة النص فوجب علينا التأمل فيما هو داع إلى هذا الحكم مما هو ثابت بهذا النصل وهو ايجاب المماثلة عند البيع بجنسها وإذا تأملنا وجدنا الداعي إلى هذا القدر والجنس لان ايجاب التسوية بين هذه الاموال يقتضي أن تكون امثالا متساوية و لن تكون امثالا متساوية إلا بالجنس والقدر لان كل موجود من المحدث موجود بصورته و معناه فإنما يقوم المماثلة بهما فالقدر عبارة عن امتلاء المعيار بمنزلة الطول والعرض فصار به يحصل المماثلة صورة والجنس عبارة عن مشاكلة المعاني فيثبت به المماثلة معنى وسقطت (1/252)
قيمة الجودة بالنص وهو قوله جيدها ورديؤها سواء تبرها وعينها سواء وبالإجماع فيمن باع قفيزا جيدا بقفيز ردى وزيادة فلس أنه لا يصح ولما عرف أن ما لا ينتفع به إلا بهلاكه فمنفعة في ذاته ولما صارت أمثالا بالقدر والجنس وسقطت اعتبار القيمة للجودة شرطا لا علة لأن العدم لا يصلح علة صارت المماثلة ثابتة بهذين الوصفين وصار سائر الأعيان فضلا على هذين المتماثلين بالكيل والجنس بواسطة المماثلة فصار شرط شيء منها في البيع بمنزلة شرط الخمر ففسد به البيع فهذا أيضا معقول من هذا النص ليس بثابت بالرأي فلم يبق من بعد إلا الاعتبار وهو أنا وجدنا الأرز والجص والدخن وسائر المكيلات والموزونات أمثالا متساوية فكان الفضل على المماثلة فيها فضلا خاليا عن العوض في عقد البيع مثل حكم النص بلا تفاوت فلزمنا إثباته على طريق الاعتبار وهو كما ذكرنا من الأمثلة ما بينها وبين هذه الجملة افتراق وحصل بما قلنا إثبات الأحكام بظواهرها تصديقا وإثبات معانيها طمأنينة وشرحا للصدور ثبت به تعميم أحكام النصوص وفي ذلك تعظيم حدودها ولزمنا بهذا الأصل محافظة النصوص بظواهرها ومعانيها ومحافظة مت تضمنته من المعاني التي تعلقت بها أحكامها جمعا بين الأصول والفروع معا وهو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال وما للخصم إلا التمسك بالجهل وصار تعليق الحكم بمعنى من المعاني ثابتا بحجة فيها ضرب شبهة وفي التعيين احتمال وجائز وضع الأنساب للعمل على هذا الوجه كالنصوص المحتملة بصيغها من الكتاب والسنة وصار الكتاب تبيانا لكل شيء من هذا الوجه لأن ما ثبت بالقياس يضاف إليه فكان أولى من العمل بالحال التي ليست بحجة فإذا تعذر العمل بالقياس صير إلى الحال وثبت أن طاعة الله تعالى لا يتوقف على علم اليقين فصل في تعليل الأصول
قال الشيخ الإمام واختلفوا في هذه الأصول فقال بعضهم هي غير شاهدة أي غير معلولة إلا بدليل وقال بعضهم هي معلولة بكل وصف يمكن إلا بمانع وقال بعضهم هي معلولة لكن لا بد من دليل مميز وهذا أشبه بمذهب الشافعي رحمه الله والقول الرابع قولنا أنا نقول هي معلولة شاهدة إلا بمانع ولا بد من دلالة التمييز ولا بد قبل ذلك من قيام الدليل على أنه للحال (1/253)
شاهد وعلى هذا اختلافا في تعليل الذهب والفضة بالوزن وأنكر الشافعي رحمه الله التعليل فلا يصح الاستدلال بأن النصوص في الأصل معلولة إلا بإقامة الدليل في هذا النص على الخصوص أنه معلول احتج أهل المقالة الأولى بأن النص موجب بصيغته وبالتعليل ينتقل حكمه إلى معناه وذلك كالمجاز من الحقيقة فلا تترك إلا بدليل ألا ترى أن الأوصاف متعارضة والتعليل بالكل غير ممكن وبكل وصف محتمل فكان الوقف أصلا واحتج أهل المقالة الثانية بأن الشرع لما جعل القياس حجة ولا يصير حجة إلا بأن يجعل أوصاف النص علة وشهادة صارت الأوصاف كلها صالحة فصلح الإثبات بكل وصف إلا بمانع مثل رواية الحديث لما كان حجة و الأجتماع متعذر صارت رواية كل عدل لا يترك الا بمانع فكذلك هذا ولما صار القياس دليلا صار التعليل والشهادة من النص أصلا فلا يترك بالاحتمال وإنما التعليل لاثبات حكم الفرع فأما النص فيبقى موجبا كما كان ووجه القول الثابت أنه لما ثبت القول بالتعليل وصار ذلك أصلا بطل التعليل بكل الأوصاف لأنه ما شرع إلا للقياس مرة وللحجر أخرى عند الشافعي وهذا يسد باب القياس أصلا فوجب التعليل بواحد من الجملة فلا بد من دليل يوجب التمييز لأن التعليل بالمجهول باطل والواحد من الجملة هو المتيقن بعد سقوط الجملة لكنه مجهول قلنا نحن أن دليل التمييز شرط على ما نبين إن شاء الله تعالى لكنا نحتاج قبل ذلك إلى قيام الدلالة على كون الأصل شاهدا للحال لانا قد وجدنا من النصوص ما هو غير معلول فاحتمل هذا أن يكون من تلك الجملة لكن هذا الأصل لم يسقط بالاحتمال ولم يبق حجة على غيره وهو الفرع بالاحتمال أيضا على مثال استصحاب الحال ولا يلزم عليه أن الاقتداء بالنبي عليه السلام واجب مع قيام الاختصاص في بعض الأمور لأن الاقتداء بالنبي عليه السلام إنما صار واجبا لكونه رسولا وإماما وهذا لا شبهة فيه فلم يسقط العمل بما دخل من الاحتمال في نفس العمل فأما هنا فإن النص نوعان معلول وغير معلول فيصير الاحتمال واقعا في نفس الحجة ولأن الشرع ابتلانا بالوقف مرة وبالاستنباط أخرى كل ذلك أصل فلما اعتدلا لم يستقم الاكتفاء بأحد الأصلين فأما الرسول عليه السلام فإنما بعث للاقتداء لا معارض لذلك فلم يبطل بالاحتمال ومثال هذا الأصل قولنا في الذهب والفضة أن حكم النص في ذلك معلول فلا يسمع (1/254)
منا الاستدلال بالاصل وهو أن التعليل اصل في النصوص بل لا بد من اقامة الدلالة على أن هذا النص بعينه معلول ودلالة ذلك أن هذا النص تضمن حكم التعيين بقوله يدا بيد وذلك من باب الربا ايضا إلا ترى أن تعيين أحد البدلين شرط جواز كل بيع احترازا عن الدين وتعيين الآخر واجب طلبا للاستواء بينهما احترازا عن شبهة الفضل الذي هو ربا وقد قال النبي عليه السلام إنما الربا في النسيئة وقد وجدنا هذا الحكم متعديا عنه حتى قال الشافعي رحمه الله في بيع الطعام بالطعام أن التقايض شرط وقلنا جميعا فيمن اشترى حنطة بعينها بشعير بغير عينه حالا غير مؤجل انه باطل وان كان موصوفا لما قلنا ووجب تعيين رأس مال السلم بالإجماع وإذا ثبت التعدي في ذلك ثبت انه معلول فلا تعدي بلا تعليل بالإجماع فقد صح التعدي ولم يكن الثمنية مانعة وإذا ثبت فيه ثبت في مسألتنا لانه هو بعينه بل ربا الفضل اثبت منه وقال الشافعي رحمه الله أن تحريم الخمر معلول فلا بد من اقامة الدليل عليه ولا دليل عليه من قبل النص بل الدليل دل على خلافه فان النص اوجب تحريم الخمر لعينها وليست حرمة سائر الاشربة ونجاستها من باب التعدي لكنه ثبت بدليل فيه شبهة احتياطا ومثال هذا الشاهد لما قبلت شهادته مع صفة الجهل بحدود الشرع بطل الطعن بالجهل وصح الطعن بالرق فكذلك ههنا متى وجدنا النص شاهدا مع ما ذكر من الطعن بطل الطعن ومتى وقع الطعن في الشاهد بما هو جرح وهو الرق لم يجز الحكم بظاهر الحرية إلا بحجة فكذلك هنا لا يصح العمل به مع الاحتمال إلا بالحجة والله اعلم باب شروط القياس
قال الشيخ الأمام وهي اربعة اوجه أن لا يكون الأصل مخصوصا بحكمه بنص اخر وان لا يكون حكمه معد ولا به عن القياس وان يتعدى الحكم الشرعي الثابت بالنص بعينه إلى فرع هو نظيره ولا نص فيه وان يبقى الحكم في الأصل بعد التعليل على ما كان قبله إما الأول فلانه متى ثبت اختصاص بالنص صار التعليل مبطلا له وذلك باطل لانه لا يعارضه واما الثاني فلان حاجتنا إلى إثبات الحكم بالقياس فإذا جاء مخالفا للقياس لم يصح (1/255)
إثباته به كالنص النافي لا يصلح للاثبات واما الثالث فلان القياس محاذاة بين شيئين فلا ينفعل إلا في محله وهو الفرع والاصل معا وانما التعليل لاقامة حكم شرعي وفي هذه الجملة خلاف واما الرابع فلما قلنا أن القياس لا يعارض النص فلا يتغير به حكمه مثال الأول أن الله تعالى شرط العدد في عامة الشهادات وثبت بالنص قبول شهادة خزيمة وحده لكنه ثبت كرامة له فلم يصح ابطاله بالتعليل وحل للنبي صلى الله عليه و سلم نسوة أكراما له فلم يصح تعليله و كذلك ثبت بالنص ان البيع يقتضى محى مملوكا مقدورا و جوز السلم في الدين بالنص و هو قوله صلى الله عليه و سلم من اسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم الى اجل معلوم و ماثبت بهذا النص الا مؤجلا فلم يستقم ابطال الخصومات بالتعليل و قال الشافعي رحمه الله لما صح نكاح النبي عليه السلام بلفظة الهبة على سبيل الخصوص بقوله خاصة لك بطل التعليل و قلنا بل الاختصاص في سلامته بغير عوض و في اختصاصه بان لا تحل لاحد بعدة قال الله تعالى و أزواجه امهاتكم و قال قد علمنا ما فرض عليهم في ازواجهم وهذا مما يعقل كرامة فأما الاختصاص باللفظ فلا وقد ابطلنا التعليل من حيث ثبت كرامة وكذلك ثبت للمنافع حكم التقوم والمالية في باب عقود الاجارة بالنص مخالفا للقياس المعقول لان التقوم والتمول يعتمد الوجود ليصلح الاحراز والتقوم عبارة عن اعتدال المعاني وبين العين والمنافع تفاوت في نفس الوجود فلا يصح ابطال الخصوص بالتعليل ومثال الثاني من الشروط أن آكل الناسي معدول به عن القياس وهو فوات القربة بما يضاد ركنها هو القياس المحض وثبت حكم النسيان بالنص معدولا به عن القياس لا مخصوصا من النص فلم يصح التعليل للقياس وهو معدول عنه فيصير التعليل حينئذ لضد ما وضع له ولم يثبت هذا الحكم في مواقة الناسي بالتعليل بل بدلالة النص لانهما سواء في قيام الركن بالكف عنهما إلا ترى أن معنى الحديث لغة أن الناسي غير جان على الصوم ولا على الطعام فكان الجماع مثله بدلالة النص على ما مر وكذلك ترك التسمية على الذبيح ناسيا يجعل عفوا بالنص معدولا عن القياس فلا يحتمل التعليل وكذلك حديث الاعرابي الذي قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم كل انت واطعم عيالك كان الاعرابي مخصوصا بالنص فلم يحتمل التعليل (1/256)
فأما المستحسنات فمنها ما ثبت بقياس خفي لا معدولا واما الأصل إذا عارضه اصول فلا يسمى معدولا لان التعليل لا يقتضي عددا من الاصول ولكنه مما يصلح للترجيح على مثال ما قلنا في عدد الرواة واما الثالث فأعظم هذه الوجوه فقها واعمها نفعا وهذا الشرط واحد تسمية وجملة تفصيلا من ذلك أن يكون الحكم المعلول شرعيا إلا لغويا ولهذا قلنا أن من علل بالرأي لاستعمال ألفاظ الطلاق في باب العتاق كان باطلا لأن الاستعارة من باب اللغة لا تنال إلا بالتأمل في معاني اللغة فكذلك جواز النكاح بألفاظ التمليك واستعارة كلمة النسب للتحرير وكذا التعليل بشرط التمليك في الطعام في كفارة اليمين باطل عندنا لأن الإطعام اسم لغوي وكذلك الكسوة فلا يكون ما يعقل بالكسوة حكما شرعيا ليصح تعديته بالتعليل إلى غيره بل يجب العمل بحقيقة الإطعام وهو أن يصير المرء طاعما ثم يصح التمليك بدلالة النص فأما الكسوة فاسم لما يلبس لا لمنافع اللباس فبطل التعليل من كل وجه وكذلك التعليل لإثبات اسم الزنا للواطة واسم الخمر لسائر الأشربة واسم السارق للنباش باطل لما بينا والثاني من هذه الجملة التعدية فإن حكم التعليل التعدية عندنا فبطل التعليل بدونه وقال الشافعي رحمه الله هو صحيح من غير شرط التعدية حتى جوز التعليل بالثمنية واحتج بأن هذا لما كان من جنس الحجج وجب أن يتعلق به الإيجاب مثل سائر الحجج ألا يرى أن دلالة كون الوصف علة لا تقتضي تعدية بل يعرف ذلك بمعنى في الوصف ووجه قولنا أن دليل الشرع لا بد من أن يوجب علما أو عملا وهذا لا يوجب علما بلا خلاف ولا يوجب عملا في المنصوص عليه لأنه ثابت بالنص والنص فوق التعليل فلايصح قطعه عنه به فلم يبق للتعليل حكم إلا التعدية إلى الفروع فإن قال أن حكم النص ثابت بالعلة كان باطلا لأن التعليل لا يصلح لتغيير حكم النص فكيف لإبطاله فإن قيل إن التعليل بما لا يتعدى يفيد اختصاص النص به قيل له هذا يحصل بترك التعليل على أن التعليل بما لا يتعدى لا يمنع التعليل بما يتعدى فيبطل هذه الفائدة ومن هذه الجملة أن يكون المتعدي حكم النص بعينه من غير تغيير لما ذكرنا أن ثمرة التعليل التعدية لا غير فأما التغيير فلا فإذا كان التعليل مغيرا كان باطلا ومن ذلك ما قلنا أن السلم الحال باطل لأن من شرط جواز البيع أن يكون المبيع موجودا (1/259)
مملوكا مقدورا والشرع رخص في السلم بصفة الأجل وتفسيره نقل الشرط الأصلي إلى ما يخلفه وهو الأجل لأن الزمان يصلح للكسب الذي هو من أسباب القدرة فاستقام خلفا عنه وإذا كان النص ناقلا للشرط وكانت رخصة نقل لم يستقم التعليل للإسقاط والإبطال لأنه تغيير محض ومن ذلك قولهم في الخاطئ والمكره أن فعلهما لا يكون فطرا لعدم القصد كفعل الناسي وهذا تعليل باطل لأن بقاء الصوم مع النسيان ليس لعدم القصد لأن فوات الركن يعدم الأداء وليس لعدم القصد أثر في الوجود مع قيام حقيقة العدم ألا ترى أن من لم ينو الصوم لأنه لم يشعر بشهر رمضان لم يكن صائما والقصد لم يوجد لكنه لم يجعل فطرا بالنص غير معلول على ما قلنا وعلى هذا الأصل سقط فعل الناسي لأن النسيان أمر جبل عليه الإنسان فكان سماويا محضا فنسب إلى صاحب الحق فلم يصلح لضمان حقه فالتعدية إلى الخطأ وهو تقصير من الخاطئ أو إلى المكره وهو من جهة غير صاحب الحق من وجه يكون تغييرا لا تعدية ومن ذلك أن حكم النص في الربا تحريم متناه وقد أثبت الخصم فيما لا معيار له غير متناه ومن ذلك قولهم في تعيين النقود في المعاوضات أنه تصرف حصل من أهله مضافا إلى محله مفيدا في نفسه فيصح كتعيين السلع هذا تغيير لحكم الأصل لأن حكم الشرع في الأعيان أن البيع يتعلق به وجوب ملكها لا وجودها وحكم البيع في جانب الأثمان وجودها ووجوبها معا بدلالة ثبوتها في الذمة ديونا بلا ضرورة وبدلالة جواز الاستبدال بها وهي ديون ولم تجعل في حكم الأعيان فيما وراء الرخصة وبدلالة أنه لم يجبر هذا النقص بقبض ما يقابله فإذا صح التعيين انقلب الحكم شرطا وهذا تغيير محض وقال الشافعي الحكم في كفارة اليمين والظهار أنه تحرير في تكفير فكان الإيمان من شرطه وهذا تغيير بقيد الإطلاق مثل إطلاق المقيد هذا وما أشبهه تغيير للحكم في الفروع وقد صح ظهار الذمي عند الشافعي فصار تغييرا للحرمة المتناهية بالكفارة في الأصل إلى إطلاقها في الفرع عن الغاية ومن ذلك ما قلنا إلى فرع هو نظيره فأما إذا خالفه فلا وذلك مثل ما قلنا في تعدية الحكم من الناسي في الفطر إلى الخاطىء والمكره أن ذلك ثبت منة والعذر في الخاطىء والمكره دون العذر في الناسي فصار تعدية إلى ما ليس بنظيره وعدى حكم التيمم إلى الوضوء في شرط النية وليس بنظيره لأن التيمم تلويث وهذا تطهير و (1/260)
غسل وقال الشافعي رحمه الله أنتم عديتم حرمة المصاهرة من الحلال إلى الحرام وليس بنظيره في إثبات الكرامة فقلنا ما عدينا من الحلال إلى الحرام لأن الوطئ ليس بأصل في التحريم حلالا كان أو حراما وإنما الأصل هو الولد المستحق لكرامات البشر فلما خلق من المائين تعدى إليهما الحرمات كأنهما صارا شخصا واحدا فصار آباؤه وأبناؤه كآبائها وأبنائها وأمهاتها وبناتها مثل أمهاته وبناته ثم تعدى ذلك إلى سببه وهو الوطئ فصار عاملا بمعنى الأصل فلم يجز تخصيصه لمعنى في نفسه وهو الحل ولا إبطال الحكم بمعنى في نفسه وهو الحرمة وصار هذا مثل قولنا في الغصب أنه من أسباب الملك تبعا لوجوب الضمان لا أصلا فثبت بشروط الأصل فكان هذا الأصل مجمعا عليه في الحرمات التي بنيت على الاحتياط فأما النسب فما بنى على مثله من الاحتياط فوجب قطعه عند الاشتباه ولا يلزم على هذا أن هذه الحرمة لا تتعدى إلى الأخوات والخوة ونحوهم لأن التعليل لا يعمل في تغيير الأصول وهو امتداد التحريم وهذا مما يكثر أمثلته ولا تحصى ومن ذلك قولنا ولا نص فيه لأن التعدية إليه بمخالفة النص مناقضة حكم النص بالتعليل وهو باطل والتعدية بموافقة النص لغو من الكلام لأن النص يغني عن التعليل ومثال ذلك قول الشافعي في كفارة القتل العمد واليمين الغموس وشرط الإيمان في مصرف الصدقات اعتبارا بالزكاة ومثل شرط التمليك في طعام الكفارات وشرط الإيمان في رقبة كفارة اليمين والظهار وهذا كله تعدية إلى ما فيه نص بتغييره بالتقييد وأما الشرط الرابع وهو أن يبقى حكم النص على ما كان قبل التعليل فلأن تغيير حكم النص في نفسه بالرأي باطل كما أبطلناه في الفروع وذلك مثل قول الشافعي في طعام الكفارة بشرط التمليك أنه تغيير لحكم النص بعينه لأن الإطعام اسم لفعل يسمى لازمه طعما وهو الأكل على ما قلنا ومثل قوله في حد القذف أنه لا يبطل الشهادة وهذا تغيير لأن النص يوجب أن يكون حكم القذف إبطال الشهادة حدا وقد أبطله فجعل بعض الحد حدا لأن الوقت من الأبد بعضه وأثبت الرد بنفس القذف دون مدة العجز وهو تغيير وزاد النفي على الجلد وهو تغيير وجعل الفسق مبطلا للشهادة والولاية وهو تغيير لأن حكم الفسق بالنص التثبت والتوقف دون الإبطال ومثله كثير وقال الشافعي أنتم غيرتم حكم النص بالتعليل في مسائل منها أن نص الربا (1/261)
يعم القليل والكثير وهو قوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام فخصصتم منها القليل والنص اوجب الشاة في الزكاة بصورتها ومعناه فابطلتم الحق عن صورتها بالتعليل والحق المستحق مراعى بصورته ومعناها كما في حقوق الناس واوجب لنص الزكاة للاصناف والمسمين بقوله تعالى إنما الصدقات وقد ابطلتموه يجواز الصرف إلى صنف واحد بطريق التعليل واوجب الشرع التكبير لافتتاح الصلاة وعين الماء لغسل العين النجس وقد ابطلتم هذا الواجب بالتعليل والجواب أن هذا وهم أن الأول فلان المخصوص إنما ثبت بصيغة النص وذلك لان المستثنى منه إنما يثبت على وفق المستثنى فيما استثنى من النفي كما قال في الجامع أن كان في الدار لا زيد فعبدي حران المستثنى منه بنوادم ولو قال الاحمار كان المستثنى منه الحيوان لان المستثنى حيوان ولو قال الامتاع كان المستثنى منه كل شيء وههنا استثنى الحال بقوله عليه لسلام الاسواء بسواء واستثناء الحال من الاعيان باطل في الحقيقة فوجب أن يثبت عموم صدره في الاحوال بهذه الدلالة وهو حال التساوي والتفاضل والمجازفة ثم استثنى منه حال التساوي ولن يثبت اختلاف الاحوال إلا في الكثير فصار التغيير بالنص مصاحبا بالتعليل لا به واما الزكاة فليس فيها حق واجب للفقير يتغير بالنص لان الزكاة عبادة محضة فلا تجب للعباد بوجه وانما الواجب لله تعالى وانما سقط حقه في الصورة باذنه بالنص لا بالتعليل لانه وعد رازق الفقراء ثم اوجب مالا مسمى على الاغنياء لنفسه ثم امرنا بانجاز المواعيد من ذلك المسمع و ذلك لا يحتمله مع اختلاف المواعيد إلا بالاستبدال كالسلطان يجير لاوليائه بمواعيد كتبها باسمائهم ثم أمر بعض وكلائه بان ينجزها من مال بعينه كان اذنا بالاستبدال فصار تغييرا مجامعا للتعليل بالنص لا بالتعليل وانما التعليل لحكم الشرعي وهو كون الشاة صالحة للتسليم إلى الفقير وهذا حكم شرعي فبيانه أن الشاة تقع لله تعالى بابتداء قبض الفقير قربة مطهرة فتصير من الاوساخ كالماء المستعمل قال النبي عليه السلام يا بني هاشم أن الله تعالى كره لكم اوساخ الناس وعوضكم منها بخمس الخمس وقد كانت النار تنزل في الامم الماضية فتحرق المتقبل من الصدقات واحلت لهذه الأمة بعد أن ثبت خبثها بشرط الحاجة والضرورة كما تحل الميته بالضرورة وحرمت على الغني فصار صلاح الصرف إلى (1/262)
الفقير بعد الوقوع لله تعالى بابتداء اليد ليصير مصروفا إلى الفقير بدوام يده حكما شرعيا في الشاة فعللناه بالتقويم وعديناه إلى سائر الاموال على موافقة سائر العلل ولما ثبت أن الواجب خالص حق الله تعالى كان اللام في قوله تعالى للفقراء لام العاقبة أي يصير لهم لعاقبته أو لأنه اوجب لهم بعد ما صار صدقة وذلك بعد الاداء إلى الله تعالى فصاروا على هذا التحقيق مصارف باعتبار الحاجة وهذه الاسماء انساب الحاجة وهم بجملتهم للزكاة مثل الكعبة للصلاة وكل صنف منهم مثل جزء من الكعبة واستقبال جزء من الكعبة جائز كإستقبال كلها فكذلك هنا وكان قول الشافعي رحمه الله تغييرا بان جعل الزكاة حقا للعباد وهو خطاء عظيم واما التكبير فمااوجب لعينه بل الواجب تعظيم الله بكل جزء من البدن واللسان منه لانها من ظاهر البدن من وجه فوجب فعلها والثناء اله فعلها فصار حكم النص أن يجعل التكبير اله فعله لكونه ثناء مطلقا فعد يناه إلى سائر الاثنية مع بقاء حكم النص وهو كون التكبير ثناء صالحا للتعظيم وانما ادعينا هذا دون أن يكون التكبير بعينه واجبا لانا وجدنا سائر الاركان افعالا توجد من البدن ليصير البدن فاعلا فكذلك اللسان وكذلك استعمال الماء ليس بواجب بعينه لان من القى الثوب النجس سقط عنه استعمال الماء لكن الواجب ازالة العين النجس والماء الته فإذا عدينا حكمه إلى سائر ما يصلح اله بقى حكم النص بعينه وهو كون الماء اله صالحة للتطهير وهو حكم شرعي وهو انه لا ينجس حاله الاستعمال هذا حكم شرعي في المزيل والطهارة في محل العمل فعديناه إلى نظيره ولا يلزم أن الحدث لا يزول بسائر المايعات لان عمل الماء لا يثبت في محل الحدث إلا باثبات المزال وذلك أمر شرعي ثبت في محل الغسل غير معقول عند استعمال الماء الذي يوجد مباحا لايبالي بخبثه ولم يستقم اثباته في اوان استعمال سائر المايعات بالراي وهو مما لا يعقل مع أن سائر المايعات يلحقنا الحرج بجبثهما لأنها اموال لا توجد مباحة غالبا ولا يلزم أن الوضوء صح مع هذا بغير النيه لان التغيير ثبت في محل العمل بوجه لا يعقل فبقى الماء عاملا بطبعه من الوجه الذي يعقل وهذه حدود لا يهتدي لدركها إلا بالتأمل والانصاف وتعظيم حدود الشرع وتوفير السلف رحمهم الله منه من الله وفضلا (1/264)
باب الركن
قال الشيخ الأمام ركن القياس ما جعل علما على حكم النص مما اشتمل عليه النص وجعل الفرع نظيرا له في حكمه بوجوده فيه وهو جائز أن يكون وصفا لازما مثل الثمنية جعلنها علة الزكاة في الحلى والطعام جعله الشافعي علة للربوا ووصفا عارضا و اسما كقول النبي عليه السلام فى المستحاضة انه دم عرق انفجر و هو اسم علم انفجر صفة عارضة غير لازمة وعللنا بالكيل وهو غير لازم ويكون جليا وخفيا ويجوز أن يكون حكما كقول النبي عليه السلام في التى سالته عن الحج ارايت لو كان على ابيك دين وهذا حكم وكقولنا في المدبر انه مملوك تعلق عتقه بمطلق موت المولى وهذا حكم أيضا ويجوز أن يكون فردا وعددا كما في باب الربا ويجوز أن يكون في النص وهذا لا يشكل ويجوز في غيره إذا كان ثابتا به كما جاء في الحديث انه رخص في السلم وهو معلول باعلام العاقد وليس في النص والنهي عن بيع الابق معلول بالجهالة أو العجز عن التسليم وليس في النص وعلل الشافعي رحمه الله في نكاح الأمة على الحرة بارقاق جزء منه وليس في النص لكنه ثابت به وانما استوت هذه الوجوه لان العلة إنما تعرف صحتها باثرها وذلك لا يوجب الفصل واتفقوا أن كل اوصاف النص بجملتها لا يجب أن يكون علة واختلفوا في دلالة كونه علة على قولين فقال أهل الطرد انه يصير حجة بمجرد الاطراد من غير معين يعقل وقال ائمة الفقه من السلف والخلف انه لا يصير حجة إلا بمعنى يعقل وهذا المعنى هو صلاح الوصف ثم عدالته وذلك على مثال الشاهد لابد من صلاحه بما يصير به اهلا للشهادة ثم عدالته ليصح منه اداء الشهادة ثم لا يصح الاداء إلا بلفظ خاص واتفقوا في صلاحه انه إنما يراد به ملا ئمته ولك أن يكون على موافقة ما جاء عن السلف من العلل المنقولة لانه أمر شرعي فتعرف منه ولا يصح العمل به قيل الملاء كما لا يصح العمل بشهادة قبل الاهلية لكن لا يجب العمل به إلا بد العدالة والعدالة عندنا هي الاثر وانما نعني بالاثر ما جعل له اثر في الشرع وقال بعض أصحاب الشافعي عدالته بكونه مخيلا ثم العرض على الاصول احتياطا سلامته عن المناقضة والمعارضة وقال بعض اصحابه بل عدالته بالعرض على الاصول فان لم يرده (1/265)
اصل مناقضا ولا معارضا صار معدلا وانما يعرض على اصلين فصاعدا فعلى القول الأول يصح العمل به قبل العرض وعلى الثاني لا يصح لانه به يصير حجة وعلى القول الأول صار حجة بكونه مخيلا وانما النقص جرح والمعارضة دفع واحتج أهل المقاله الأولى أن الاثر معنى لا يعقل فنقل عنه إلى شهادة القلب وهو الخيال وهو كالتحري جعل حجة بشهادة القلب عند تعذر العمل بسائر الادلة ثم العرض بعد ذلك للاحتياط بخلاف الشاهد لانه يتوهم أن يعترض فيه بعد اصل الاهلية ما يبطل الشهادة فسق أو غيره فأما الوصف فلا يحتمل مثله فإذا كان ملائما غير ناب صار صالحا وإذا كان مخيلا كان معدلا ووجه القول الآخر انه إذا كان على مثال العلل الشرعية كان صالحا كالشاهد ثم قد يحتمل أن يكون مجروحا فلا بد من العرض على المزكين وهم الاصول هنا وادنى ذلك اصلان ولا يعتبر وراء ذلك لان التزكية بالاحتمال لا يرد ووجه قولنا انا احتجنا إلى إثبات مالا يحس ولا يعاين وهو الوصف الذي جعل علما على الحكم في النص مالا يحس فإنما يعلم باثره الذي ظهر في موضع من المواضع إلا ترى انا نتعرف صدق الشهادة باحترازه عن مخطور دينه وذلك مما يعرف بالبيان و الوصف بوجه مجمع عليه على ما بين فوجب المصير اليه كالاثر الدال على غير المحسوس واما الخيال أمر باطل لانه ظن لا حقيقة له ولانه باطن لا يصلح دليلا على الخصم ولا دليلا شرعيا ولانه دعوى لا ينفك عن المعارضة لان كل خصم يحتج بمثله فيما يدعيه على خصمه لانه أن كان يقول عندي كذا فالخصم يعارضه بمثله فيقول عندي كذا و دلائل الشرع لا يحتمل لزوم المعارضة كما لا يحتمل لزوم المناقضة واما العرض على الاصول فلا يقع به التعديل لان الاصول شهود لا من كون واني لها التزكية من غير درك الاحوال الشاهد ومعاينة وهل يصح التزكية من لا خبر له ولا معرفة له بالشهود فأما فرقهم بان الشاهد مبتلى بالطاعة منهي عن المعصية فيتوهم سقوط شهادته بخلاف الوصف فليس يصحيح لان الوصف مع كونه ملائما يجوز أن يكون غير علة بذاته بل يجعل الشرع اياه علة فكان الاحتمال في المعترض على اصله إلا ترى أن الوصف لا يبقى علة مع الرد مع قيام الملائمة والجواب عن كلامه أن الاثر معقول من كل محسوس لغة وعيانا ومن كل مشروع معقول دلالة (1/266)
على ما بينا وانما يظهر ذلك بامثلته وذلك مثل قول النبي عليه السلام في الهرة إنها ليست بنجسة وانما هي من الطوافين عليكم تعليل للطهارة بما ظهر اثره وهو الضرورة فإنها من اسباب التخفيف وسقوط الحظر بالكتاب قال الله تعالى فمن اضطر في مخصمه غير متجانف لاثم فان الله غفور رحيم والطوف من اسباب الضرورة فصح التعليل به لما يتصل به من الضرورة ومثل قوله للمستحاضة انه دم عرق انفجر توضأي لكل صلاة اوجب بهذا النص الطهارة بالدم بمعنى النجاسة ولقيام النجاسة اثر في التطهير وعلقه بالانفجار وله اثر في الخروج لانه غير معتاد والانفجار آفة ومرض لازم فكان له اثر في التخفيف في قيام الطهارة مع وجوده في وقت الحاجة ومثل قوله لعمر رضي الله عنه وقد سأله عن القبلة للصائم فقال ارايت لو تمضمضت بماء فمججته اكان يضرك تعليل بمعنى مؤثر لان الفطر نقيض الصوم والصوم كف عن شهوة البطن والفرج وليس في القبلة قضاءها لا صورة ولا معنى مثل المضمضة و قال في تحريم الصدقة على بني هاشم ارايت لو تمضمضت بماء ثم مججته اكنت شاربه فعلل بمعنى مؤثر وهو أن الصدقة مطهرة للاوزار فكانت وسخا كالماء المستعمل واختلف أصحاب النبي عليه السلام في الحد فضربوا بالامثال مثل فروع الشجر وشعوب الوادى والانهار و الجداول واحتج ابن عباس رضي الله عنهما فيه بقرب أحد طرفي القرابة وهذه امور معقولة باثارها وقد قال عمر رضي الله عنه لعبادة بن الصامت حين قال ما ارى النار تحل شيئا أليس بكون خمرا ثم يصير خلافنا كله فعلل بمعنى مؤثرهو تغير الطباع وقال أبو حنيفة رحمه الله في اثنين اشتريا عبدا وهو قريب أحدهما انه لا يضمن لشريكه لانه اعتقه برضاه وللرضاء اثر في سقوط العدوان وقال محمد الله في ايداع الصبي لانه سلطه على استهلاكه وقال الشافعي رحمه الله في الزناء لا يوجب حرمة للمصاهرة لانه أمر رجمت عليه والنكاح أمر حمدت عليه وهذه اوصاف ظاهرة الاثار وقال الشافعي في النكاح لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال لانه ليس بمال ولذلك اثر في هذا الحكم لان هذا المال هو المبتذل فاحتج فيه إلى الحجة الضرورية واما ما ليس بمال فغير مبتذل فيجب اثباته بالحجة الاصلية وليزداد خطره على ما هو مبتذل وعلى هذا الأصل جرينا في الفروع فقلنا (1/267)
في مسح الرأس انه مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف لان معنى المسح معنى مؤثر في التخفيف في فرضه حتى لم يستوعب محله ففي سنته اولى فاما قول الخصم انه ركز في الوضوء غير مؤثر استهلاكه لان اصله اباحة الطعام في ابطال التخفيف وعللنا في ولاية المناكح بالصغر والبلوغ وهو المؤثر لانها ما شرعت إلا حقا للعاجز كالنفقة فصح التعليل بالعجز والقدرة للوجود والعدم ولم يكن للبكارة والثيابة في ذلك اثر وقلنا في صوم رمضان انه عين وهذا مؤثر لان النية في الأصل للتعيين والتمييز وذلك يحتاج إلى ذكره عند المزاحمة دون الانفراد وعلل بأنه فرض ولا اثر للفرضية إلا في اصابة المأمور وهذا اكثر من أن يحصى فان قيل التعليل بالاثر لا يكون قياسا لأنه لا يكون قياسا بالأصل إلا بأصل قلنا مجمع عليه مثل قولنا في ايداع الصبي انه سلطة على استهلاكه لان اصله باحة الطعام نسمى ما لاأصل له علة شرعية لا قياسا والصحيح انه قياس على ما قلنا لكنه مسكوت لوضوحه والله تعالى اعلم باب بيان المقالة الثانية وتقسيم وجوهه وهو الطرد
اعلم بان الاحتجاج بالطرد احتجاج بما ليس بدليل ولا حجة ومن عدل عن طريق الفقه إلى الصورة افضى به تقصيره إلى أن قال لا دليل على الحكم يصلح دليل وكفى به فسادا والكلام في الباب قسمان قسم في بيان الحجة والثاني في تقسيم الجملة وقد اتفق أهل هذه المقالة أن الاطراد دليل الصحة لكنهم اختلفوا في تفسيره فقال بعضهم هو الوجود عند الوجود في جميع الاصول وزاد بعضهم العدم مع العدم أيضا وزاد بعضهم ان يكون النص قائما في الحالين ولا حكم له واحتجوا جميعا بان دلائل صحة القياس لا تخص وصفا دون وصف وكل وصف بمنزلة نص من النصوص لان علل الشرع امارات غير موجبة فلا حاجة بنا إلى معنى يعقل والجواب أن الشرع جعل الأصل شاهدا ذلك لا تقتضي الشهادة بكل كما جعل كامل الحال من الناس شاهدا ثم لم يوجب تمييزا فامام قوله إنها امارات فكذلك في حق الله فأما في حق العباد فانهم مبتلون بنسبة الأحكام إلى العلل كما نسبت الاجزئة إلى افعالهم ونسب الملك الي البيع والقصاص إلى (1/268)
القتل وما يجري مجراه فكانت غير موجبة في الأصل ولكنها جعلت موجبة شرعا في حقنا على ما يليق بها وهي النسبة اليس وجب القصاص على القاتل وقد مات القتيل باجله وإذا كان كذلك لم يكن بد من التمييز بين العلل والشروط ومجرد الاطراد لا يميز وكذلك العدم عند عدمه لانه يزاحمه الشرط فيه ولان نهاية الطرد الجهل لانه يقال له وما يدريك انه لم يبق اصل مناقض أو معارض وهل ثبت ذلك لك إلا بان وقفت عن الطلب وقد كان يتأتى لك ذلك قبل الطرد واما العدم فليس بشيء فلا صلح دليلا وكيف يصلح مع الأحتمال ان يثبت بعلة اخرى فلا يصح شرط عدم الا ترى انم مثل هذا لا يوجد في علل السلف و اما من شرط ان يكون النص قائما في الحالين ولا حكم له فقد احتج باية الوضوء و بقول النبي صلى الله عليه و سلم لا يقضي القاضي و هو غضبان انه معلول بشغل القلب لانه يحل له القضاء و له القضاء و هو غضبان عند فراغ القلب ولا يحل القضاء عند شغله بغير الغضب الا وان هذا شرط لا يكاد يوجد إلا نادرا في بعض الأصول ظاهرا فكيف يجعل أصلا وذلك غير مسلم ايضا لان الحدث لمم يثبت في باب الوضوء بالتعليل بل بدلالة النص و صيغته اما الصيغة فلان ذكر التيمم بالتراب الذي هو بدل عن الماء معلقا بالحدث وكذلك ذكر الغسل وهو اعظم الطهرين فقال جل ذكره وان كنتم جنبا فاطهروا وقال إن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا والنص في البدل نص في الأصل لانه يفارقه بحاله لا بسببه واما الدلالة فقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة أي من مضاجعكم وهو كناية عن النوم والنوم دليل الحدث وهذا النظم والله اعلم لان الوضوء مطهر فدل على قيام النجاسة فاستغنى عن ذكره بخلاف التيمم والوضوء متعلق بالصلاة والحدث شرطه فلم يذكر الحدث ليعلم انه سنة وفرض فكان الحدث شرطا لكونه فرضا لا لكونه سنة فأما الغسل فلا يسن لكل صلاة بل هو فرض خالص فلم يشرع إلا مقرونا بالحدث وكذلك الغضب معلول بشغل القلب وقط لا يوجد الغضب بلا شغل ولا يحل القضاء إلا بعد سكونه وانما التعليل للتعدية واما تقسيم هذه الجملة فان أول اقسامه الاطراد وجودا أو وجودا وعدما والذي يليه الاحتجاج (1/269)
باستصحاب الحال والذي يليه الاحتجاج بالنفي والعدم والذي يليه الاحتجاج بتعارض الاشباه والذي يليه الاحتجاج بما لا يستقل إلا بوصف يقع به الفرق والذي يليه أن يكون الوصف مختلفا ظاهر الاختلاف والذي يليه مالا يشك في فساده والذي يليه الاحتجاج بان لا دليل إما الأول فلان الاطراد لا يثبت بهذه الاكثرة الشهود اوكثرة اداء الشهادة وصحة الشهادة لا تعرف بكثرة العدد لا بتكرير العبارة بل بأهليةالشاهد وعدالته واختصاص ادائه ولان الوجود قد يكون اتفاقا والعدم قد يقع لانه شرطه إلا ترى أن وجود الشيء ليس بعلة لبقائه فكيف يصلح علة للوجود في غيره بنفسه وكذلك وجود الحكم ولا علة لا يصلح دليلا لجواز وجوده بغيره ووجود العلة ولا حكم بنفسه و يصلح مناقضا لجواز ان يقف الحكم لفوت وصف من العلة بنفسه فلا يكون مناقضة وقد دل عليه التعليل تخصيصا على ما نبين أن شاء الله تعالى إلا أن هذا نهج العلل ظاهرا فكان مقدما في اقسامه ثم التعليل بالنفي مثل قول الشافعي رحمه الله في النكاح لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال لانه ليس بمال وفي الاخ لا يعتق لانه ليس بينهما بعضية ولا يلحق المبتوتة طلاق لانه لا نكاح بينهما ويجوز اسلام المروى في المروى لانهما مالان ما لم يجمعهما طعم ولا ثمنية و هذا في الظاهر جرح على مثال العلل لكنه لما كان عدما لم يكن شيئا فلا يصلح حجة للاثبات إلا ترى أن استقصاء العدم لا يمنع الوجود من وجه آخر إلا أن يقع الاختلاف في حكم سبب معين وفي حكم ثبت دليله بالإجماع واحدا لا ثاني له مثل قول محمد في ولد الغصب لانه لم يغصب الولد ومثل قوله فيما لا خمس فيه من الؤلؤ لانه لم يوجف عليه المسلمون لان ذلك لم يوجد بغيره فأما قوله ليس بمال فلا يمنع قيام وصف له اثر في صحة الاثبات بشهادة النساء مع الرجال وهو أن النكاح من جنس ما لا يسقط بالشبهات بل هو من جنس ما يثبت بها فصار فوق الاموال في هذا بدرجة وكذلك في اخواتها على ما عرف وأما الاحتجاج باستصحاب الحال فصحيح عند الشافعي وذلك في كل حكم عرف وجوبه بدليله ثم وقع الشك في زواله كان استصحاب حال البقاء على ذلك موجبا بعد الاحتجاج به على الخصم وعندنا هذا لا يكون حجة للايجاب لكنها حجة دافعة على ذلك دلت مسائلهم فقد قلنا (1/270)
في الصلح على الانكار أنه جائز ولم نجعل براءة الذمة وهي اصل حجة على المدعي بل صار قول المدعي معارضا لقوله على السواء والشافعي رحمه الله جعله موجبا حتى تعدى إلى المدعي فابطل دعواه وابطل الصلح وقلنا في الشقص إذا باع من الدار فطلب الشريك الشفعة فانكر المشتري ملك الطالب فيما في يده أن القول قوله فلا تجب الشفعة إلا ببينة وقال الشافعي يجب بغير بينة وكذلك رجل قال لعبده أن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر فمضى اليوم ثم اختلفا ولا يدري ادخل ام لا فان القول قول المولى عندنا لما ذكرنا واحتج بان الحكم إذا ثبت بدليله قي بذلك الدليل ايضا إلا يرى أن حكم النص يبقى به بعد وفاة النبي عليه السلام حتى تعذر نسخه واحتج باجماعهم على أن من تيقن بالوضوء لم يلزمه وضوء اخر ولزمه اداء الصلاة بما علمه وان شك في الحدث وإذا علم بالحدث ثم شك في الوضوء يبقى الحدث ولو ثبت ملك الشفيع بإقرار المشتري انه كان له اوانه اشتراه من فلان وفلان كان يملكه وجب الشفعة وانما يبقى ملكه لعدم ما يزيله ومع ذلك قد صلح حجة موجبة وكذلك لو شهد شهود المدعي أن هذا الشي كان ملكا له صار حجة موجبة ولنا أن الدليل الموجب لحكم لا يوجب بقاءه كالايجاد لا يوجب البقاء حتى صح الافناء وهذا لان ذلك بمنزلة اعراض تحدث فلا يصلح أن يكون وجود شيء علة لوجود غيره إلا يرى أن عدم الملك لا يمنع الملك وعدم الشراء لا يمنع حدوث الشراء ووجود الملك لا يمنع الزوال وهذا لا يشكل إلا يرى أن النسخ في دلائل الشرع إنما صح لما ذكرنا ولما صارت الدلائل موجبة قطعا بوفاة النبي عليه السلام على تقرير لم تحتمل النسخ لبقائها بدليل وجب واما فصل الطهارة والملك بالشراء وما اشبه ذلك فلا يشبه هذا الباب وذلك من جنس ما بقي بدليله لان حكم الشراء الملك المؤبد كذلك حكم النكاح وكذلك حكم الوضوء والحدث إلا ترى انه لا يصح توقيته صريحا لكنه يحتمل السقوط بالمعارضة على سبيل المناقضة فقبل المعارض له حكم التأبيد فكان البقاء بدليله وكلامنا فيما ثبت بقاؤه بلا دليل كحياة المفقود وكذلك الأمر المطلق في حياة الرسول عليه السلام إنما يتناول حكما يحتمل التوقيت فيصير في البقاء احتمال فأما حكم الطهارة وحكم الحدث فلا يحتمل التوقيت ولذلك قلنا جميعا في رجل اقر بحرية عبد ثم اشتراه انه صحيح على اختلاف الاصلين أما (1/271)
عندنا فلما أن قول كل واحد من العاقدين لا يعد وقائله ولو لم يجز البيع لعدا قائله وعلى قوله قول البايع رجع إلى ما عرف بدليله وهو الملك فصار حجة على خصمه واما قول المشتري انه حر فليس يرجع إلى اصل عرف بدليله فلم يكن حجة على خصمه واما الاحتجاج بتعارض الاشباه فمثل قول زفر ان غسل المرافق في الوضوء يس بفرض لان من الغايات ما يدخل ومنها ما لا يدخل فلا يدخل بالشك وهذا عمل بغير دليل لان الشك أمر حادث فلا يثبت بغير علة ولانه يقال له اتعلم أن هذا من أي القسمين فان قال لا ادري فقد جهل وان قال نعم لزمه التأمل والعمل بالدليل واما الذي لا يستقل إلا بوصف يقع به الفرق فباطل مثل قول بعض أصحاب الشافعي في مس الذكر أنه حدث لانه مس الفرج فكان حدثا كما إذا مسه وهو يبول وليس هذا بتعليل لا ظاهرا ولا باطنا ولا رجوعا إلى اصل وكذلك قولهم هذا مكاتب فلا يصح التكفير باعتاقه كما إذا أدى بعض البدل لان اداء بعض البدل عوض ما نع عندنا فلا يبقى إلا الدعوى واما الذي كون مختلفا فمثل قولهم فيمن ملك اخاه انه شخص يصح التكفير بأعتاقه فلا يعتق في الملك كابن العم وقولهم في الكتابة الحالة إنه عقد كتابة لا يمنع من التكفير فكان فاسدا كالكتابة بالخمر وهذا في نهاية الفساد لان الاختلاف في ذلك ظاهر فلا يبقى وصف اصلا واما الذي لا يشكل فساده فمثل قول بعضهم أن السبع أحد عددي صوم المتعة فكان شرطا لجواز الصلاة كالثلاث يريد به قراءة الفاتحة ولان الثلاث أحد عددي مدة المسح فلا يصح به الصلاة كالواحد ولان الثلاث أو الاية ناقص العدد عن السبع فلا يتأدى به الصلاة كالواحد لان الثلاث أو الاية ناقص العدد عن السبع فلا يتأدى به الصلاة كما دون الاية ولان هذه عبادة لها تحليل وتحريم فكان من اركانها ماله عدد سبعة كالحج وكما قال بعض مشايخنا أن فرض الوضوء فعل يقام في اعضائه لم يكن النية شرطا في ادائه قياسا على القطع قصاصا أو سرقة وهذا مما لا يخفى فساده واما الاحتجاج بلا دليل فقد جعله بعضهم حجة للنافي وهذا باطل بلا شبهة لان لا دليل بمنزلة لارجل في الدار وهذا لا يحتمل وجوده فلا دليل كيف احتمل وجود وكيف صار دليلا ولا يلزم (1/272)
ما ذكر محمد رحمه الله في العنبر انه لا خمس فيه لانه لم يرد فيه الاثر لانه قد ذكر أنه بمنزلة السمك والسمك بمنزلة الماء ولا خمس في الماء يعني أن القياس ينفيه ولم يرد اثر يترك به القياس ايضا فوجب العمل بالقياس وهو انه لم يشرع الخمس إلا في الغنيمة ولم يوجد و لان الناس يتفاوتون في العلم والمعرفة بلا شبهة فقول القائل لم يقم الدليل مع احتمال قصوره عن غيره في درك الدليل لا يصلح حجة ولهذا صح هذا النوع من صاحب الشرع بقوله تعالى قل لا اجد فيما اوحي إلى محرما على طاعم يطعمه لانه هو الشارع فشهادته بالعدم دليل قاطع على عدمه إذ لا يجري عليه السهو ولا يوصف بالعجز فأما البشر فان صفة العجز يلازمهم والسهو يعتريهم ومن ادعى انه يعرف كل شيء نسب إلى السفه أو العته فلم يناظر ومن شرع في العمل بلا دليل اضطر إلى التقليد الذي هو باطل والله اعلم بالصواب باب حكم العلة
فأما الحكم الثابت بتعليل النصوص فتعدية حكم النص إلى ما لا نص فيه ليثبت بغالب الرأي على احتمال الخطأ وقد ذكرنا أن التعدية حكم لازم عندنا جائز عند الشافعي وإذا ثبت ذك قلنا أن جملة ما يعلل له اربعة أقتسام إثبات الموجب أو وصفه وأثبات الشرط أو صفه واثبات الحكم أو وص هو تعدية حكم معلوم بسببه وشرطه باوصاف معلومة والتعليل للاقسام الثلاثة الأول باطل لان التعليل شرع مدركا لاحكام الشرع على ما بينا وفي إثبات الموجب وصفته إثبات الشرع وفي إثبات الشرط وصفته ابطال الحكم ورفعه وهذا نسخ ونصب احكام الشرع بالرأي باطل وكذلك رفعها وما القياس إلا الاعتبار بأمر مشروع فيبطل التعليل لهذه الأقسام جملة وبطل التعليل لنفيها ايضا لان نفيها ليس بحكم شرعي فبطلت هذه الوجوه كلها فلم يبق إلا الرابع فأما تفسير القسم الأول فمثل قولهم في الجنس بانفراده انه يحرم النسيئة فهذا خلاف وقع في الموجب للحكم فلم يصح اثباته بالرأي ولا نفيه به إنما يجب الكلام فيه بإشارة النص أو دلالته أو اقتضاءه وكذلك (1/273)
اختلافهم في السفر انه مسقط لشطر الصلاة ام لا لا يصح التكلم فيه بالقياس بل بما ذكرنا فقلنا في مسألة الجنس انا وجدنا الفضل الذي لا يقابله عوض في عقد المعاوضة محرما بما ذكر من العلة ووجدنا هذا حكما يستوي شبهته بحقيقته حتى لا يجوز البيع مجازفة لاحتمال الربا وقد وجدنا في النسيئة شبهة الفضل وهو الحلول الفضل وهو الحلول المضاف إلى صنع العباد وقد وجدنا شبهة العلة وهو أحد وصفي العلة فاثبتناه بدلالة النص وكذلك فعلنا في السفر لان النبي عليه السلام قال أن الله تعالى تصدق عليكم فاقبلوا صدقته وذلك اسقاط محض فلا يصح رده ولان القصر تعين تخفيفا بخلاف الفطر في السفر ولان التخيير على وجه لا يتضمن رفقا بالعبد ونفعا من صفات الالوهية دون العبودية على ما عرف فهذه دلالات النصوص واما صفة السبب فمثل صفة السوم في الأنعام ايشترط للزكاة ام لا ومثل صفة الحل في الوطئ لاثبات حرمة المصاهرة ومثل اختلافهم في صفة القتل الموجب للكفارة وفي صفة اليمين الموجبة للكفارة واما اختلافهم في الشرط فمثل اختلافهم في شرط التسمية في الذبيحة ومثل صوم الاعتكاف ومثل الشهود في انكاح ومثل شرط النكاح لصحة الطلاق عند الشافعي والاختلاف في صفة مثل صفة الشهود في النكاح رجال ام رجال ونساء عدول لا محالة ام شهود موصوفون بكل وصف وكقولنا أن الوضوء شرط بغير نية واما الاختلاف في الحكم فمثل اختلافهم في الركعة الواحدة و في صوم بعض اليوم وفي حرم المدينة و مثل اشعار البدن و اما الصفة فمثل الاختلاف في صفة الوتر وفي صفة الاضحية وفي صفة العمرة وفي صفة حكم الرهن بعد اتفاقهم انه وثيقة لجانب الاستيفاء وكاختلافهم في كيفية وجوب المهر وفي كيفية حكم البيع انه ثابت بنفسه ام متراخ إلى قطع المجلس ولا يلزم اختلاف الناس بالرأي في صوم يوم النحر لانهم لم يختلفوا أن الصوم مشروع في الايام وانما اختلفوا في صفة حكم النهي وذلك لا يثبت بالرأي وانما أنكرنا هذه الجملة إذا لم يوجد في الشريعة اصل يصح تعليله فأما إذا وجد فلا بأس به إلا يرى انهم اختلفوا في التقابض في بيع الطعام بالطعام وتكلموا فيه بالرأي لانا وجدنا لاثباته اصلا وهو الصرف ووجدنا لجوازه بدونه (1/274)
اصلا وهو بيع سائر السلع فإذا وجد مثله في غيره صحت التعدية إلا ترى أن من ادعى ايجاب التسمية في الذبيحة شرطا بالقياس لم يجد له اصلا ومن اراد ايجاب الصوم في الاعتكاف شرطا بالقياس لم يجد له أصلا ايضا وهذا باب لا يحصى عدد فروعه فاقتصرنا فيه على الاشارة إلى الجمل واما النوع الرابع فعلى وجهين في حق الحكم وهما القياس والاستحسان والله اعلم (1/275)
باب القياس والاستحسان
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه وكل واحد منهما على وجهين إما أحد نوعي القياس فما ضعف اثره والنوع الثاني ما ظهر فساده واستترت صحته واثره واحد نوعي الاستحسان ما قوي اثره وان كان خفيا والثاني ما ظهر اثره وخفي فساده وانما الاستحسان عندنا أحد القياسين لكنه يسمى به إشارة إلى انه الوجه الأولى في العمل به وان العمل بالاخرة جائزكما جاز العمل بالطرد وان كان الاثر اولى منه و الاستحسان اقسام وهو ما ثبت بالاثر مثل السلم والاجارة وبقاء الصوم مع فعل الناسي ومنه ما ثبت بالإجماع وهو الاستصناع ومنه ما ثبت بالضرورة وهو تطهير الحياض والابار والاواني وانما غرضنا هنا تقسيم وجوه العلل ي حق الأحكام و لما صارت العلة عندنا علة باثرها سمينا الذي ضعف اثرها قياسا وسمينا الذي قوى اثرها استحسانا أي قياسا مستحسنا وقدمنا الثاني وان كان خفيا على الأول وان كان جليا لان العبرة لقوة الاثر دون الظهور والجلاء إلا يرى أن الدنيا ظاهرة والعقبى باطنة وقد ترجح الباطن بقوة الاثر هو الدوام والخلود والصفوة وتأخر الظاهر لضعف اثره وكالنفس مع القلب والبصر مع العقل فسقط حكم القياس بمعاوضة الاستحسان لعدمه في التقدير مثال ذلك أن سؤر سباع الطير في القياس نجس لانه سؤر ما هو سبع مطلق فكان كسؤر سباع البهائم وهذا معنى ظاهر الثر لانهما سواء في حرمة الأكل و في الاستحسان هو طاهر لان السبع ليس الاختلاف في صفة الوتر وفي صفة الاضحية بنجس العين بدليل جواز الانتفاع به شرعا وقد ثبت نجاسته ضرورة تحريم لحمه فاثبتنا حكما بين الحكمين وهو النجاسة المجاورة فيثبت صفة النجاسة في رطوبته ولعابه وسباع الطير يشرب بالمنقار على سبيل الأخذ ثم الابتلاع و العظم طاهر بذاته خال عن مجاورة النجس إلا يرى أن عظم الميت طاهر فعظم (1/276)
الحي اولى فصار هذا باطنا ينعدم ذلك الظاهر في مقابلته فسقط حكم الظاهر لعدمه وعدم الحكم لعدم دليله لا يعد من باب الخصوص على ما نبين في باب ابطال تخصيص العلل أن شاء الله عز و جل واما الذي ظهر فساده واستترت صحته واثره فهو القياس الذي عمل به علماؤنا رحمهم الله قابله استحسان ظهر اثره واستتر فساده فسقط العمل به مثاله انهم قالوا فيمن تلا آية السجدة في الصلاة انه يركع بها قياسا لان النص قد ورد به قال الله تعالى وخر راكعا وفي الاستحسان لا يجوز لان الشرع امرنا بالسجود والركوع خلافه كما في سجود الصلاة فهذا اثر ظاهر فأما وجه القياس فمجاز محض لكن القياس اولى بأثره 2الباطن والاستحسان متروك لفساده الباطن وبيانه أن السجود لم يجب عند التلاوة قربة مقصودة إلا ترى أنه غير مشروع مستقبلا بنفسه وانما الغرض مجرد ما يصلح تواضعا عند هذه التلاوة و الركوع في الصلاة يعمل هذا العمل بخلاف الركوع في غير الصلاة وبخلاف سجود الصلاة فصار الاثر الخفي مع الفساد الظاهر احق من الاثر الظاهر مع الفساد الباطن وهذا قسم عز وجوده فأما القسم الأول فاكثر من أن يحصى وفرق ما بين المستحسن بالاثر أو الإجماع أو الضرورة وبين المستحسن بالقياس الخفي أن هذا يصح تعديته بخلاف الأقسام الأولى لانها غير معلولة إلا ترى أن الاختلاف في الثمن قبل قبض المثمن لا يوجب يمين البائع قياسا لان المشتري لا يدعي عليه شيئا وانما البائع هو المدعي وفي الاستحسان يجب اليمين عليه لانه ينكر تسليم المبيع بما يدعيه المشتري ثمنا وهذا حكم قد تعدى إلى الوارثين والى الاجارة وما اشبه ذلك واما ما بعد القبض فلم يجب يمين البائع إلا بالاثر بخلاف القياس عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فلم يصح تعديته إلى الوارث والى حال هلاك السلعة وانما انكر على اصحابنا بعض الناس استحسانهم لجهلهم بالمراد وإذا صح المراد على ما قلنا بطلت المنازعة في العبارة وثبت انهم لم يتركوا الحجة بالهوى والشهوة وقد قال الشافعي رحمه الله في بعض كتبه استحب كذا وما بين اللفظين فرق والاستحسان افصحهما واقواهما والاستحسان بالاثر ليس من باب خصوص العلل ايضا على ما نبين أن شاء الله (1/277)
وقولنا في بيان حكم العلة انه ثابت في الفرع بغالب الرأي على احتمال الخطاء راجع إلى فصل من احكام العلل لانه لا يثبت به الحكم قطعا وتبتني عليه مسائل احوال المجتهدين باب معرفة احوال المجتهدين ومنازلهم في الاجتهاد
والكلام فيه في شرطه وحكمه إما شرطه فان يحوي علم الكتاب بمعانيه ووجوهه التي قلنا وعلم السنة بطرقها ومتونها ووجوه معانيها وان يعرف وجوه القياس على ما تضمنه كتابنا هذا واما حكمه فالاصابة بغالب الرأي حتى قلنا أن المجتهد يخطئ ويصيب وقالت المعتزلة كل مجتهد مصيب فالحاصل أن الحق في موضع الخلاف واحد او متعدد فعندنا الحق واحد وقال بعض الناس وهو المعتزلة الحقوق متعددة وكل مجتهد مصيب فيما أدى اليه اجتهاده وثم اختلف من قال بالحقوق فقال بعضهم باستوائها في المنزلة وقال عامتهم بل واحد من الجملة احق واختلف أهل المقالة الصحيحة فقال بعضهم أن المجتهد إذا اخطأ كان مخطئا ابتداء وانتهاء وقال بعضهم بل هو مصيب في ابتداء اجتهاده لكنه مخطئ انتهاء فيما طلبه وهذا القول الآخر هو المختار عندنا وقد روي ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله انه قال كل مجتهد مصيب و الحق عند الله تعالى واحد ومعنى هذا الكلام ما قلنا احتج من ادعى الحقوق بان المجتهدين جميعا لما كلفوا اصابة الحق ولا يتحقق ذلك على ما في وسعهم إلا أن يجعل الحق متعددا وجب القول بتعدده تحقيقا لشرط التكليف كما قيل في المجتهدين في القبلة انهم جعلوا مصيبين حتى تادى الفرض عنهم جميعا ولا يتأدى الفرض عنهم إلا باصابة المأمور به مع احاطة العلم بخطأ من استدبر الكعبة وجائز تعدد الحقوق في الحظر والاباحة عنه قيام الدليل كما صح ذلك عند اختلاف الرسل وعلى اختلاف الزمان فكذلك عند اختلاف المكلفين ومن قال باستواء الحقوق قال لان دليل التعدد لم يوجب التفاوت ووجه القول الآخر أن استوائها يقطع التكليف لانها إذا استوت اصيبت بمجرد الاختيار من غير امتحان وسقطت درجة العلماء وبطلت الدعوة وسقطت وجوه النظر الاثري (1/278)
أن الاختلاف في اختيار وجوه كفارة اليمين باطل وان اختياره بمجرد العزيمة صحيح بلا تأمل فلذلك وجب القول بان بعضها احق ووجه قولنا أن الحق واحد أن المجتهد يصيب مرة ويخطىء أخرى قال الله تعالى ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وإذا اختصر سليمان صلوات الله وسلامه عليه بالفهم وهو اصابة الحق بالنظر فيه كان الآخر خطاء وقال النبي عليه السلام لعمرو بن العاص احكم على انك أن اصبت فلك عشر حسنات وان اخطأت فلك حسنة وقال ابن مسعود على حكم الله فلا تنزلوهم أن اصبت فمن الله وان اخطأت فمني ومن الشيطان والله تعالى ورسوله منه بريئان وقال النبي صلى الله عليه و سلم إذا حاصرتم حصنا فأرادوكم أن تنزلوهم على حكم الله فانكم لا تدرون ما حكم الله فيهم وهذا دليل على احتمال الخطأ ولان تعدد الحقوق ممتنع استدلالا بنفس الحكم وسببه إما السبب فلانا قلنا أن القياس تعدية وضع لدرك الحكم فما ليس بمتعدد لا يتعدى متعددا لانه يصير تغييرا حينئذ فيوجب ذلك أن يكون الحق متعددا بالنص بعينه وهذا خلاف الإجماع إلا ترى لو توهمنا غير معلوم لم يكن حكمة متعددا وذلك مما يحتمله صيغته بيقين فلا يتعدد بالتعليل وفيه تغيير ويصير الفرع به مخالفا للاصل واما الاستدلال بنفس الحكم فهو أن الفطر والصوم وفساد الصلاة وصحتها وفساد النكاح وصحته ووجود الشيء وعلمه وقيام الحظر والاباحة في شيء واحد تستحيل اجتماعه ولا صلح المستحيل حكما شرعيا وصحة التكليف يحصل بما قلنا من صحة الاجتهاد واصابته ابتداء وقال أبو حنيفة رحمه الله في مدعي الميراث إذا لم يشهد شهوده انا لا نعلم له وارثا غيره أني لا اكفل المدعي وهذا شيء احتاط به القضاة وهو جور سماه جورا وهو اجتهاد لانه في حق المطلوب مائل عن الحق وهو معنى الجور والظلم وقال محمد رحمه الله في المتلاعنين ثلاثا إذا فرق القاضي بينهما نفذ الحكم وقد اخطأ السنة ودليل ما قلنا من المذهب لاصحابنا في أن المجتهد يخطئ ويصيب في كتب اصحابنا اكثر من أن يحصى واما مسألة القبلة فان المذهب عندنا في ذلك أن المتحري يخطئ و يصيب ايضا كغيره من المجتهدين إلا ترى انه قال في كتاب الصلاة في قوم صلوا (1/279)
جماعة وتحروا القبلة واختلفوا فمن علم منهم حال امامه وهو مخالفه فسدت صلاته لانه مخطئ للقبلة عنده ولو كان الكل صوابا والجهات قبلة لما فسدت ولما كلفوا التحري والطلب كالجماعة إذا صلوا في جوف الكعبة واما قوله أن المخطئ للقبلة لا يعيد صلاته فلانه لا يكلف اصابة الكعبة يقينا بل كلف طلبه على رجاء الاصابة لكن الكعبة غير مقصودة بعينها وانما المقصود وجه الله تعالى واستقبال القبلة ابتلاء فإذا حصل الابتلاء بما في قلبه من رجاء الاصابة وحصل المقصود وهو طلب وجه الله سقطت حقيقته إلا ترى أن جواز الصلاة وفسادها من صفات العمل والمخطئ في حق نفس العمل مصيب فثبت أن مسألة القبلة ومسألتنا سواء وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله كلف المتحري اصابة حقيقة الكعبة حتى إذا اخطأ اعاد صلواته فاما من جعله مخطئا ابتداء و انتهاء فقداحتج بما روينا من اطلاق الخطأ في الحديث وبقول النبي صلى الله عليه و سلم في اسارى بدر حين نزل قوله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم الاية لو نزل بنا عذاب ما نجا إلا عمر واحتج اصحابنا بحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه وبقول الله تعالى وكلا آتينا حكما وعلما والحكم والعلم إما أريد به العمل فأما اصابة المطلوب فمن أحدهما وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه للمسروق والاسود كلا كما أصاب و صنيع مسروق احب لي فيما سبق من ركعتي المغرب ولان كل مجتهد يكلف بما وسعه فاستوجب الأجر على ابتداء فعله و حرم الصواب و الثواب في آخره اما بتقصير منه او حرمانا من الله تعالى ابتداء و أما قصة بدر فقد عمل النبي صلى الله عليه و سلم بإشارة ابي بكر الصديق رضي الله عنه فكيف يكون الخطأ الا أن هذا كان رخصة و المراد بالاية على حكم العزيمة لولا الرخصة فالمخطىء في هذا الباب لا يظلل ولا يعاتب الا ان يكون طريق الصواب بينا فيعاتب وانما نسبنا القول بتعدد الحقوق الى المعتزلة لقولهم الى المعتزلة لقولهم بوجوب الاصلح و في تصويب كل مجتهد وجوب القول بالاصلح وبان يلحق الولي بالنبي وهذا عين مذهبهم والمختار من العبارات عندنا أن يقال أن المجتهد يصيب ويخطئ على تحقيق المراد به احترازا عن الاعتزال ظاهرا وباطنا و على هذا ادركنا مشائخنا وعليه مضى اصحابنا المتقدمون والله اعلم ولو كان كل (1/280)
مجتهد مصيبا لسقطت المحنة وبطل الاجتهاد ويتصل بهذا الأصل مسألة تخصيص العلل وهذا باب فساد تخصيص العلل
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه من اصحابنا من اجاز تخصيص العلل المؤثرة و ذلك بأن يقول كانت علتي توجب لكنه لم توجب لمانع فصار مخصوصا من العلة بهذا الدليل واحتج بان التخصيص غير المناقضة لغة وهذا ظاهر لانه بيان انه لم يدخل لا نقض ولا ابطال وقد صح الخصوص على الكتاب والسنة دون المناقضة قال ولان المعدول عن القياس بسنة أو إجماع أو ضرورة أو استحسان مخصوص منه بالإجماع ولان الخصم ادعى أن هذا الوصف علة فإذا وجد ولا حكم له احتمل أن يكون العدم لفساد العلة فيتناقض واحتمل أن يكون العدم لمانع فوجب أن يقبل بيانه أن ابرز مانعا وألا فقد تناقض ولذلك لا يقبل مجرد قوله خص بدليل لاحتمال الفساد بخلاف النصوص لانها لا يحتمل فساد أو بني على هذا تقسيم الموانع وهي خمسة حسا وحكما مانع يمنع انعقاد العلة ومانع يمنع تمام العلة ومانع يمنع حكم العلة ومانع يمنع تمام الحكم ومانع يمنع لزوم الحكم وذلك في الرامي إذا انقطع وتره وانكسر فوق سهمه فلم ينعقد علة وإذا حال بينه وبين مقصده حائط منع تمام العلة حتى لم يصل إلى المحل ومانع يمنع ابتداء الحكم وهو أن يصيبه فيدفعه بترس أو غيره والذي يمنع تمام الحكم أن يجرحه ثم يداويه فيندمل والذي يمنع لزومه أن يصيبه فيمرض به ويصير صاحب فراش ثم يصير له كطبع خامس فيأمن منه غالبا بمنزلة من ضربه الفالج فيصير مفلوجا كان مريضا فإن امتد فصار طبعا صار في حكم الصحيح ومثاله من الشرعيات البيع إذا اضيف إلى حر لم ينعقد وإذا اضيف إلى مال غير مملوك للبايع منع تمام الانعقاد في حق المالك وخيار الشرط يمنع ابتداء الحكم وخيار الرؤية يمنع تمام الحكم وخيار العيب يمنع لزوم الحكم واما الدليل على صحة ما ادعينا من ابطال خصوص (1/281)
العلل تفسير الخصوص ما مر ذكره أن دليل الخصوص يشبه الناسخ بصيغته و يشبه الاستثناء بحكمه وإذا كان كذلك وقع التعارض بين النصين فلم يفسد أحدهما بصاحبه ولكن النص العام لحقه ضرب من الاستعارة بان أريد به بعضه مع بقائه حجة على ما مر وهذا إلا يكون في اعلل أبدا لان ذلك يؤدي إلى تصويب كل مجتهد ويوجب عصمة الاجتهاد عن الخطاء والمناقضة وفي ذلك قول بالاصلح لكن الحكم إنما يمتنع الزيادة وصف أو نقصانه الذي نسميه مانعا مخصصا وبزيادته أو نقصانه يتبدل العلة فيجب أن يضاف العدم إلى عدم العلة لا إلى مانع اوجب الخصوص مع قيام العلة وفرق ما بيننا وبينهم في العلل المؤثرة انهم ينسبون عدم الحكم إلى مانع مع قيام العلة فصار كدليل الخصوص في بعض ما تناوله العام مع قيام دليل العموم ونحن ننسب العدم إلى عدم العلة لان العلة ينعدم وصف العلة أو زيادتها والعدم بالعدم ليس من باب الخصوص وهذا طريق اصحابنا في الاستحسان لان القياس أن ترك بالنص فقد عدم حكم العلة لعدمها لان العلة لم تجعل علة في مقابلة النص فبطل حكمها لعدمها لا مع قيامها بدليل الخصوص بخلاف النصين لان أحدهما لا يفسد صاحبه فوجب القول بالخصوص وكذلك إذا عارضه إجماع أو ضرورة لم يبق الوصف علة لان في الضرورة اجماعا ايضا والإجماع مثل الكتاب والسنة واما إذا عارضه استحسان اوجب عدم الأول لما ذكرنا في باب الاستحسان فصار عدم الحكم لعدم العلة فلم يكن من باب الخصوص وكذلك نقول في سائر العلل المؤثرة وبيان ذلك في قولنا في الصائم إذا صب الماء في حلقه يفسد الصوم لانه فات ركنه ويلزم عليه الناسي فمن اجاز الخصوص قال امتنع حكم هذا التعليل ثمة لمانع وهو الاثر وقلنا نحن العدم لعدم هذه العلة لان فعل الناسي منسوب إلى صاحب الشرع فسقط عنه معنى الجناية وصار الفعل عفوا فبقى الصوم لبقاء ركنه لا لمانع مع فوات ركنه ومثل قولنا في الغصب انه لما صار سبب ملك بدل المال وجب أن يكون سبب ملك المبدل واما المدير فإنما امتنع حكم هذه العلة فيه لمانع وهو أن المغصوب لا يحتمل الانتقال فكان هذا (1/282)
تخصيصا وهذا باطل وانما الصحيح ما قلنا أن الحكم عدم لعدم هذه العلة وهو كون الغصب سبا لملك بدل العين المغصوبة لان ضمان المدبر ليس ببدل عن العين المغصوبة لكنه بدل عن اليد الفائتة لما قلنا انه ليس بمجل النقل فالذي جعل عندهم دليل الخصوص جعلناه دليل العدم وهذا اصل هذا الفضل فاحفظه واحكمه ففيه فقه كثير ومخلص كبير وانما يلزم الخصوص على العلل الطردية لانها قائمة بصيغتها والخصوص يرد على العبارات دون المعاني الخالصة ومن ذلك قولنا في الزنا يوجب حرمة المصاهرة انه حرث للولد فأقيم مقامه ولما خلق الولد من مائهما أو اجتمعا على الوطئ جاءت بينهما شبهة البعضية بواسطة الولد صارت بناتها و امهاتها كبناته وامهاته وآباؤه كآبائها وابنائها فلزم على هذا انه لم يحرم الاخوات والعمات والخالات فقال أهل المقالة الأولى انه مخصوص بالنص مع قيام العلة وقلنا نحن بل العلل صارت عللا شرعا لا بذواتها وهي لم تجعل علة عند معارضة النص وفي هذا معارضة لان حكم النص يزداد بامتداد الحرمة إلى الاخوات وغيرهن فلا يبقى علة عند معارضة النص فيكون عدم الحكم لعدم العلة وليس هذا من باب الخصوص في شيء وهذا واضح جدا ومن احكم المعرفة واحسن الطوية سهل عليه تخريج الجمل على هذا الأصل أن شاء الله تعالى باب وجوه دفع العلل
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه العلل قسمان طردية ومؤثرة وعلى كل قسم ضروب من الدفع إما العلل المؤثرة فان دفعها بطريق فاسد وبطريق صحيح واما الفاسد فاربعة اوجه المناقضة وفساد الوضع وقيام الحكم مع دم العلة والفرد بين الفرع والاصل إما المناقضة فلما قلنا أن الصحيح من العلل ما ظهر اثره الثابت بالكتاب والسنة وذلك لا يحتمل المناقضة لكنه إذا تصور مناقضة وحب تخريجه على ما قلنا من عدم الحكم لعدم العلة لا لمانع يوجب الخصوص مثل قولنا مسح في (1/283)
وضوء فلا يسن تكراره كمسح الخف لا يلزم الاستنجاء لانه ليس بمسح بل ازالة للنجاسة إلا ترى الحدث إذا لم يعقب اثر لم يسن مسحه وهذا يذكر في اخر هذا الفصل على الاستقصاء أن شاء الله تعالى وكذلك فساد الوضع لا يتصور بعد ثبوت الاثراذ لا يوصف الكتاب والسنة والإجماع بالفساد واما عدم العلة وقيام الحكم فلا بأس به لاحتمال علة أخرى إلا ترى أن العكس ليس بشرط لصحة العلة لكنه دليل مرجح واما الفرق فإنما فسد لوجوه ثلاثة أحدها أن السائل منكر فسبيله الدفع دون الدعوى فإذا ذكر في الأصل معنى اخر انتصب مدعيا ولان دعواه ذلك بالمعنى الذي لا يصلح للتعدية إلى هذا الفرع لا يمنع التعليل بعلة متعدية فلم يبق لدعواه اتصال بهذه المسألة ولان الخلاف في حكم الفرع ولم يصنع بما قال في الفرع إلا أن ارانا عدم العلة وعدم العلة لا يصلح دليلا عند مقابلة العدم على ما مر ذكره فلأن لا يصلح دليلا عند مقابلة الحجة اولى واما القسم الصحيح فوجهان الممانعة والمعارضة باب الممانعة
قال الشيخ الأمام وهي اساس النظر لان السائل منكر فسبيله أن لا يتعدى حد المنع والانكار وهي اربعة اوجه الممانعة في نفس الحجة والمانعة في الوصف الذي جعل علة الموجود في الفرع والاصل ام لا والممانعة في شروط العلة والممانعة في المعنى الذي به صار دليلا أما الأول فلأن من الناس من يتمسك بما لا يصح دليلا مثل قول الشافعي رحمه الله في النكاح انه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال لانا قد قلنا أن الاحتجاج بالنفي والتعليل به باطل وكذلك من تمسك بالطرد واما الممانعة في الوصف فلأن التعليل قد يقع بوصف مختلف فيه مثل قولنا في ايداع الصبي انه مسلط على الاستهلاك ومثل قولنا في صوم يوم النحر انه منهى وان النهي يدل على التحقق لان هذا نسخ عند الخصم والنهي عن الشرعي لا يدل على التحقيق عنده ومثل قول الشافعي رحمه الله في الغموس إنها معقودة وذلك اكثر من أن يحصى و إما الممانعة في (1/284)
الشرط فقد ذكرنا شروط التعليل وانما يجب أن يمنع شرطا منها هو شرط بالإجماع وقد عدم ف يالفرع والاصل مثل قول الشافعي في السلم الحال انه أحد عوضي البيع فثبت حالا ومؤجلا كثمن البيع فيقال له لا خلاف من أن شرط التعليل أن لا يغير حكم والنص أن لا يكون الأصل معدولا به عن القياس بحكمه وأنا لا نسلم هذا الشرط ههنا والممانعة في المعنى الذي به صار دليلا فهو ما ذكرنا من الاثر لان مجرد الوصف بلا اثر ليس بحجة عنده فلا يصح الاحتجاج به من الخصم على من لا يراه دليلا حتى يبين اثره وسبيله في هذا كله الانكار و إنما يعتبر الانكار معنى لا صورة مثل قولنا في المودع يدعي الرد أن القول قوله وهو مدع صورة والله تعالى اعلم باب المعارضة
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه وليس للسائل بعد الممانعة إلا المعارضة وهي نوعان معارضة فيها مناقضة ومعارضة خالصة إما المعارضة التي فيها مناقضة فالقلب هو نوعان ويقابله العكس وهو نوعان لكن العكس ليس من هذا الباب واما القلب فله معنيان في اللغة يقوم بكل واحد منهما ضرب من الاعتراض إما الأول فان يجعل الشيء منكوسا اعلاه اسفله واسفله اعلاه ومثاله من الاعتراض أن يجعل المعلول علة والعلة معلولا لان العلة اصل والحكم تابع فإذا قلبته فقد جعلته منكوسا وكان هذا معارضة فيها مناقضة لان ما جعله المعلل علة لما صار حكما في الأصل واحتمل ذلك فساد الأصل فبطل القياس وانما يصح هذا فيما يكون التعليل بالحكم فأما بالوصف المحض فلا يرد عليه القلب مثاله قولهم الكفار جنس يجلد بكرهم مائة فيرجم ثيبهم كالمسلمين ومثل قولهم القرائة تكررت في الأوليين فكانت فرضا في الاخريين كالركوع والسجود فقلنا المسلمون إنما جلد بكرهم مائة لان ثيبهم ترجم وانما تكرر الركوع والسجود فرضا في الاولين لانه تكرر فرضا في الاخريين والمخلص عن هذا أن يخرج الكلام مخرج الاستدلال لان الشيء يجوز أن يكون دليلا على شيء وذلك دليل عليه ايضا وانما يصح المخلص إذا ثبت انهما نظيران مثل التوأم (1/285)
وذلك قولنا مايلتزم بالشروع إذا صح كالحج فقالوا الحج إنما يولي عليها في مالها فيولي عليها في نفسها كالبكر الصغيرة فقالوا إنما يولى على البكر في مالها لانه يولى عليها في نفسها فقلنا النذر لما وقع لله تعالى على سبيل التقرب اليه تسبيبا لزمته مراعاته بابتداء المباشرة وهو منفصل عن النذر وبالشروع حصل فعل القربة فلان يجب مراعاته بالثبات عليه اولى وكذلك الولاية شرعت للعجز والحاجة على من هو قادر على قضاء الحاجة والنفس والمال والثيب والبكر فيه سواء فأما الجلد والرجم فليسا بسواء في انفسهما وفي شروطهما ايضا حتى افترقا في شرط الثيابة وكذلك القرائة والركوع والسجود ليس ابسواء لان القراءة ر4كن زائد تسقط بالاقتداء عندنا وتسقط لخوف فوت الركعة عنده ومن عجز عن الأفعال لم يصلح الذكر اصلا بخلاف الأفعال وكذلك الشفع الأول و الثاني ليسا بسواء في القراءة إلا ترى أن أحد شطري القرائة سقط عنه وهو السورة ويسقط أحد وصفيه وهو الجهر فلم يجهر بحال ففسد الاستدلال واما النوع الثاني منه فهو قلب الشيء ظهر البطن و ذلك أن يكون الوصف شاهدا عليك فقلبته فجعلته شاهدا لك و كان ظهره اليك فصار وجهه اليك فنقض كل واحد منهما صاحبه فصارت معارضة فيها مناقضة بخلاف المعارضة بقياس اخر لانه يوجب الاشتباه إلا بترجيح ولا يوجب تناقضا إلا أن هذا لا يكون إلا بوصف زائد فيه تقرير للأول وتفسيره فكان دون القسم الأول مثاله قولهم في صوم رمضان انه صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية كصوم القضاء فقلنا لما كان صوما فرضاص استغنى عن تعيين النية بعد تعينه كصوم القضاء فقلنا لما كان صوما فرضا استغنى عن تعين النية بعد تعينه كصوم القضاء لكنه إنما يتعين بالشروع وهذا تعين قبل الشروع ومثل قولهم في مسح الرأس انه ركن في الصوم فيسن بثلاثة كغسل الوجه فيقال لهم لما كان ركنا في الوضوء وجب أن لا يسن تثليثه بعد اكماله بزيادة على الفرض كغسل الوجه وبيانه أن مسح الرأس يتأدى بالقليل فيكون استيعابه تكميلا للفرض في محله بزيادة عليه بمنزلة التكرار في الوجه واما العكس فليس من هذا الباب لكنه لما استعمل في مقابلة القلب الحق به وهو نوعان أحدهما يصلح لترجيح العلل والثاني معارضة فاسدة واصله رد الشيء على سننه الأول (1/286)
مثل عكس المرآة إذا رد نور البصر بنوره حتى انعكس فابصر نفسه كان له وجها في المرآة وذلك مثل قولنا ما يلتزم بالنذر يلتزم بالشروع كالحج وعكسه الوضوء وهذا وما اشبهه مما يصلح لترجيح العلل على ما نذكره أن شاء الله تعالى والنوع الثاني أن رد على خلاف سننه مثل قولهم هذه عبادة لا يمضي في فاسدها فلا تلتزم بالشروع كالوضوء فيقال لهم لما كان كذلك وجب أن يستوي فيه عمل النذر والشروع كالوضوء وهذا ضعيف من وجوه القلب لانه لما جاء بحكم آخر ذهبت المناقضة ولذلك لم يكن من هذا الباب في الحقيقة ولانه لما جاء بحكم مجمل لا يصح من السائل إلا بطريق الابتداء ولان المفسر اولى ولان المقصود من الكلام معناه والاستواء مختلف في المعنى سقوط من وجه وثبوت من وجه على التضاد وذلك مبطل للقياس واما المعارضة الخالصة فخمسة أنواع في الفرع ثلاثة وفي الأصل إما التي في الفرع ما وجوهها المعاضة بضد ذلك الحكم فيقع بذلك محض المقابلة فيمتنع العمل وينسد الطريق إلا بترجيح مثاله قولهم أن المسح ركن في وضوء فيسن تثليثه كالغسل فيقال انه مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف والثاني معارضة بزيادة هي تفسير للأول وتقرير له فمثل قولنا أن المسح ركن في الوضوء فلا يسن تثليثه بعد اكماله كالغسل وهذا أحد وجهي القلب على ما قلنا إما الثالث فما فيه نفي لما اثبته الأول أو إثبات لما نفاه لكن بضرب تغيير مثل قولنا في الثيب اليتيمة إنها صغيرة فتنكح كالتي لها اب فقالوا هي صغيرة فلا يولى عليها بولاية الاخوة كالمال وهذا تغير للأول لان التعليل لاثبات الولاية لا لتعيين الولي إلا أن تحت هذه الجملة نفي للأول لان ولاية الاخوة إذا بطلت بطل سائرها بناء عليها بالإجماع واما الرابع فالقسم الثاني من قسمي العكس على ما بينا ففيه صحة من وجة وعلى ذلك قلنا الكافر يملك بيع العبد المسلم فيملك شراءه كالمسلم فقالوا بهذا المعنى وجب أن يستوي ابتداءه وقراره كالمسلم واما الخامس فالمعارضة في حكم غير الأول لكن فيه نفي للأول ايضا مثل قول أبي حنيفة في التي نعى اليها زوجها فنكحت وولدت ثم جاء الأول حيا أن الأول احق بالولد لانه صاحب فراش صحيح فان عارضه الخصم (1/287)
بأن الثاني صاحب فراش فاسد فيستوجب به نسب الولد كرجل تزوج امرأة بغير شهود فولدت فهذه المعارضة في الظاهر فاسدة لاختلاف الحكم إلا أن النسب لما لم يصح اثباته من زيد بعد ثبوته من عمر وصحت المعارضة بما يصلح سببا لاستحقاق النسب فاحتاج الخصم إلى الترجيح بان فراش الأول صحيح ثم عارضه الخصم بان الثاني شاهد والماء ماؤه فتبين به فقه المسألة وهو أن الصحة والملك احق بالاعتبار من الحضرة لان الفاسد شبهة فلا يعارض الحقيقة فيفسد الترجيح واما المعارضات في الأصل فثلاثة معارضة بمعنى لا يتعدى وذلك باطل لعدم حكمه ولفساده لوافاه تعدية والثاني أن يتعدى إلى اصل مجمع عليه لانه لا ينفي العلة الأولى والثالث أن يتعدى إلى معنى مختلف فيه ومن أهل النظر من جعل هذه المعارضة حسنة لاجماع الفقهاء على أن العلة أحدهما فصارتا متدافعتين بالإجماع فيصير إثبات الأخرى ابطالا من طريق الضرورة والجواب أن الإجماع انعقد على فساد أحدهما لمعنى فيه لا لصحة الآخر كالكيل والطعم والصحيح أحدهما لا غير لكن الفساد ليس لصحة الآخر لكن لمعنى فيه يفسده فلإثبات الفساد لصحة الآخر باطل فبطلت المعارضة وكل كلام صحيح في الأصل يذكر على سبيل المفارقة فاذكره على سبيل الممانعة كقولهم في اعتاق الراهن انه تصرف من الراهن يلاقي حق المرتهن بالأبطال وكان مردودا كالبيع فقالوا ليس كالبيع لانه يحتمل الفسخ بخلاف العتق والوجه فيه أن نقول أن القياس لتعدية حكم النص دون تغييره وأنا لا نسلم وجود هذا الشطر هنا وبيانه أن حكم الأصل وقف ما يحتمل الرد والفسخ وانت في الفرع تبطل اصلا مالا يحتمل الرد والفسخ وكذلك أن اعتبره باعتاق المريض لان حكم الإجماع ثمه توقف العتق ولزوم العتاق وانت قد عديت البطلان اصلا فان ادعى في الأصل حكما غير ما قلنا لا نسلم ومثل قولهم قتل ادمى مضمون فيوجب المال كالخطأ لان ثمة المثل غير مقدور عليه وسبيله ما قلنا أن لا نسلم قيام شرط القياس وتفيسره أن حكم الأصل شرع المال خلفا عن القودوانت جعلته مزاحما له وقد بينا أن المناقضة لا ترد على العلل المؤثرة بعد صحة اثرها وانما تبين ذلك بوجوه اربعة وهذا (1/288)
باب بيان وجوه دفع المناقضة
قال الشيخ الأمام رضي الله عنه وحاصل ذلك أن المجيب متى امكنه الجمع بين ما ادعاه علة وبين ما يتصور مناقضة بتوفيق بين بطلت المناقضة كما يكون ذلك في المناقضات في مجلس القضاء بين الدعوى والشهادة وبين الشهادات انه متى احتمل التوفيق وظهر ذلك بطل التناقض إما الأول فبالوصف الذي جعله علة و الثاني بمعنى الوصف الذي به صار الوصف علة وهو دلالة اثره والثالث بالحكم المطلوب بذلك الوصف والرابع بالغرض المطلوب بذلك الحكم إما الأول فظاهر مثل قولنا في مسح الرأس انه مسح فلا يسن تثليثه كمسخ الخف ولا يلزم الاستنجاء لانه ليس بمسح ولكنه ازالة النجاسة إلا ترى انه إذا احدث فلم يتلطخ به بدنه لم يكن الاستنجاء سنة كذلك قولنا في الخارج من غير السبيلين انه خارج من الانسان فكان حدثا كالبول ولا يلزم عليه إذا لم يسل لانه ظاهر وليس بخارج لان تحت كل جلدة رطوبة وفي كل عرق دما فإذا زايله الجلد كان ظاهرا إلا خارجا إلا ترى انه لا يجب به الغسل بالإجماع واما الدفع بمعنى الوصف فإنما صح لان الوصف لم يصر حجة بصيغته وانما صار حجة بمعناه الذي يعقل به وذلك ضربان أحدهما ثابت بنفس الصيغة ظاهرا والثاني بمعناه الثابت به دلالة على ما ذكرناه فيما سبق فكان ثابتا به لغة فصح الدفع به كما صح بالقسم الأول فكان دفعا بنفس الوصف وهذا احق وجهي الدفع لكن الأول اظهر فنبدأ به وذلك مثل قولنا مسح في الوضوء فلم يكن التكرار فيه مسنونا كمسخ الخف ولا يلزم الاستنجاء لان معنى المسح تطهير حكمي غير معقول والتكرار لتوكيد التطهير فإذا لم يكن مراد بطل التكرار إلا ترى انه يتأدى ببعض محله بخلاف الاستنجاء لانه لازالة عين النجاسة في التكرار توكيده إلا ترى انه لا يتأدى ببعضه فصار ذلك نظير الغسل ولهذا معنى ثابت باسم المسح لغة وكذلك قولنا انه نجس خارج فكان حدثا كالبول ولا يلزم إذا لم يسل لان ما سال منه نجس أوجب تطهيرا حتى وجب غسل ذلك الموضع فصار بمعنى البول وهذا غير خارج إذا لم يسل (1/289)
حتى لم يتعلق به وجوب التطهير واما الدفع بالحكم فمثل قولنا في الغصب انه سبب لملك البدل فكان سببا لملك المبدل ولا يلزم المدبر لانا جعلناه سببا فيه ايضا لكنه امتنع حكمه لمانع كالبيع يضاف اليه ومثل قولنا في الجمل الصائل أن المصول عليه اتلفه لاحياء نفسه والاستحلال لاحياء المهجة لا ينافي عصمة المتلف كما إذا اتلفه دفعا للمخمصة ولا يلزم مال الباغي وما يجري مجراه لان عصمته لم تبطل بهذا المعنى فكان طردا لا نقضا وكذلك متى قلنا في الدم انه نجس خارج فكان حدثا لم يلزم دم الاستحاضة لانه حدث ايضا لكن عمله امتنع لمانع واما الرابع فمثل قولنا نجس خارج ولا يلزم دم المستحاضة ودم صاحب الجرح السائل الدائم لان غرضنا التسوية بين هذا وبين الخارج من المخرج المعتاد وذلك حدث فإذا لزم صار عفوا لقيام وقت الصلاة فكذلك هذا وكذلك قولنا في التأمين انه ذكر فكان سبيله الاخفاء ولا يلزم عليه الاذان وتكبيرات 2الأمام لان غرضنا أن اصل الذكر الاخفاء وكذلك اصل الاذان والتكبيرات إلا أن في تلك الاذكار معنى زائدا وهو إنها اعلام فلذلك اوجب فيها حكما عارضا إلا ترى أن المنفرد والمقتدى لا يجهر بالتكبير ومن صلى وحده اذن لنفسه وهذا معنى قول مشائخنا في الدفع انه لا يفارق الأصل لكن ما قلناه ابين في وجوه الدفع و إذا قامت المعارضة كان السبيل فيه الترجيح وهذا باب الترجيح
قال الشيخ الأمام الكلام في هذا الباب اربعة اضرب أحدها في تفسير الترجيح ومعناه لغة وشريعة والثاني في الوجوه التي تقع بها الترجيح والثالث بيان المخلص في تعارض وجوه الترجيح والرابع في الفاسد من وجوه الترجيح إما الأول فان الترجيح عبارة عن فضل أحد المثلين على الآخر وصفا فصار الترجيح بناء على المماثلة وقيام التعارض بين مثلين يقوم بهما التعارض قائما بوصف هو تابع لا يقوم به التعارض بل ينعدم في مقابلة أحد ركني التعارض واصل ذلك رجحان الميزان وذلك أن يستوي الكفتان (1/290)
بما يقوم به التعارض من الطرفين ثم ينقسم إلى أحدهما شيء لا يقوم به التعارض ولا يقوم به الوزن لولا الأصل فسمى ذلك رجحانا كالدانق ونحوه في العشرة فأما الستة والسبعة إذا ضم إلى احدى العشرتين فلا إلا يرى أن ضد الترجيح التطفيف و ذلك بنقصان في الوزن والكيل بوصف لا يقوم به التعارض ولا ينفي اصل التعارض وذلك معنى الترجيح شرعا إلا يرى انا جوزنا فضلا في الوزن في قضاء الديون قال النبي عليه السلام للوزان زن وارجح ولم يجعله هبة فان كان ذلك اكثر مما يقع به الترجيح وكان من قبيل ما يقع التعارض بصفة التطفيف صار هبة وكان باطلا ولهذا قلنا أن الترجيح لا يقع بما يصلح أن يكون علة بانفراده كرجل قام شاهدين على عين و اقام اخر اربعة لم يترجح لان ذلك علة و انما يقع بوصف لا يصلح لا ثبات الحكم بانفراده انضم إلى مثلها فلم يصلح وصفا وانما يقع الترجيح بوصف مؤكد لمعنى الركن ولذلك لم يقع الترجيح بشاهد ثالث على الشاهدين لانه لا يزيد الحجة قوة ولا الصدق توكيدا و لهذا قالوا ان القياس لا يترجح بقياس آخر ولا الحديث بحديث آخر و القياس بالنص ولا نص الكتاب بنص آخر انما يترجح النص بقوة فيه على ما مر ذكره حتى صار الحديث المشهور اولى من الغريب لان الشهرة توجب قوة في اتصاله بالرسول عليه السلام وكذلك إذا جرح رجل رجلا جراحة وجرحه أخر جراحات فمات منها و ذلك خطاءان الدية تجب نصفين ولا يترجح صاحب الجراحات حتى يجعل وحده قاتلالان كل جراحة تصلح علة معارضة فلم تصلح و صفا يقع به الترجيح و كذلك قلنا نحن في الشفيعين في الشقص الشايع المبيع بسهمين متفاوتين انهما سواء في استحقاقه لان كل جزء من اجزاء السهم علة صالحة الاستحقاق الجملة فقامت المعارضة بكل جزء وان قل فلم يصلح شيء منه وصفا لغيره فقد وافقنا الشافعي على هذا لانه لم يرجح صاحب الكثير ايضا لكنه جعل الشفعة من مرافق الملك كالثمر والولد فجعله منقسا على قدر الملك وكان هذا منه غلطا بان جعل حكم العلة متولدا من العلة ومنقسما على اجزائها واجمع الفقهاء في ابني عم أحدهما زوج المرأة أن التغصيب لا يترجح بالزوجية بل يعتبر كل واحد علة بانفراده وقال عامة (1/291)
الصحابة رضي الله عنهم في ابني عم أحدهما أخ لأم أن السدس له بالأخوة والباقي بينهما بالتعصيب خلافا لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولم يجعلوا الأخوة مرجحة لما كانت علة بانفرادها لا يصلح وصفا لأنها أقرب من العمومة بخلاف الأخوة لأم فإنها جعلت وصفا للأخوة لأب لأن هذه الجهة تابعة والمنزل واحد وإنما يجب طلب الرجحان من الأوصاف مثل العدالة في الشاهد وما يجري مجراها وأما القسم الثاني فعلى أربعة أوجه الترجيح بقوة الأثر والترجيح بقوة ثباته على الحكم المشهود به والترجيح بكثرة أصوله والترجيح بالعدم عند عدمه أما الأول فلأن الأثر معنى الحجة فمهما قوى كان أولى لفضل وصف في الحجة على مثال الاستحسان في معارضة القياس وهو كالخبر لما صار حجة بالاتصال ازداد قوة بما يزيده قوة في ذلك المعنى بضبط الراوى وإتقانه وسلامته عن الانقطاع على ما مر ذكره وليس كذلك فضل عدالة بعض الشهود على عدالة بعض لأنه ليس بذي حد ولا متنوع بل هو التقوى ولا وقوف على حدوده مثاله ما قلنا في طول الحرة أنه لا يمنع الحر من نكاح الأمة وقال الشافعي رحمه الله يمنع لأنه يرق ماءه على غنية وذلك حرام على كل حر كالذي تحته حرة وهذا وصف بين الأثر وقلنا أنه جائز لأنه نكاح بملكه العبد بإذن مولاه إذا دفع إليه مهرا يصلح للحرة والأمة جميعا وقال تزوج من شئت فيملكه الحر كسائر الأنكحة وهذا أقوى الأثر لأن الحرية من صفات الكمال وأسباب الكرامة والرق من أسباب تنصيف الحل فيجب أن يكون الرقيق في النصف مثل الحر في الكل فأما أن يزداد أثر الرق ويتسع حله فلا وهذا أثر ظهرت قوته ويزداد وضوحا بالتأمل في أحوال البشر ألا يرى أنه حل لرسول الله عليه السلام التسع أو إلى ما لا يتناهى لفضله وشرفه فأما ما ذكر من الأثر فضعيف بحقيقته لأن الأرقاق دون التضييع وذلك جائز بالعزل باذن الحرة فالا رقاق اولى و ضعيف باحواله فان نكاح الأمة جائز لمن يملك سرية يستغنى بها عنه ومن ذلك قولهم في نكاح الأمة الكتابية أنه لا يجوز للمسلم لأن الرق من الموانع وكذلك الكفر فإذا اجتمعا الحق بالكفر الغليط ولأن الضرورة انقضت بإحلال الأمة المسلمة (1/292)
وقلنا نحن لا بأس به لأنه دين يصح معه نكاح الحرة فكذلك نكاح الأمة كدين الإسلام وهو نكاح يملكه العبد المسلم وهذا أثر ظهرت قوته لما قلنا أن أثر الرق في التنصيف فيما يقبله كما قيل في الطلاق والعدة والقسم والحدود وذلك يختص بما يقبل العدد من الأحكام ونكاح المرأة في نفسه مقابلا بالرجال ليس بمتعدد فلا يحتمل التنصيف لكنه ذو أحوال متعددة وهي التقدم والتأخر والمقارنة فصح متقدما ولم يصح متأخرا قولا بالتنصيف وبطل مقارنا لأنه لا يحتمل التنصيف فغلب التحريم كالطلاق الثلاث والإقراء أنها صارت ثنتين بالرق لما قلنا فهذا وصف قوى أثره ولذلك قلنا في الحر إذا نكح أمة على أمة أنه صحيح كالعبد إذا فعله وضعف أثر وصفه لأن الرق ليس من أسباب التحريم لكنه من أسباب التنصيف كرق الرجال لم يحرم على الرجل شيئا حل للحر لكنه أثر في التنصيف قد جعلت الرق من أسباب فضل الحل وهذا عكس المعقول ونقض الأصول ودين الكتابي ليس من أسباب التحريم أيضا وأثرهما مختلف أيضا فلا يصلح أن يجعلا علة واحدة وغير مسلم له أن يكون نكاح الأمة في حكم الجواز ضروريا لكنه في حكم الاستحباب مثل نكاح الحرة الكتابية لما قلنا من سقوط حرمة الأرقاق ومثاله أيضا ما قال الشافعي في إسلام أحد الزوجين أنه من أسباب الفرقة عند انقضاء العدة لا بنفسه فكذلك الردة سوى بينهما وهذا وصف ضعيف الأثر لا يخفى على أحد وقلنا نحن أن الإسلام ليس من أسباب الفرقة لأنه من أسباب العصمة وبقاء الآخر على ما كان ليس من أسبابه أيضا بالإجماع فوجب إثبات الحكم مضافا إلى سبب جديد وهو فوات أغراض النكاح مضافا إلى امتناع الآخر عن أداء الإسلام حقا للذي أسلم وهو سبب ظاهر الأثر كما في اللعان والإيلاء والجب والعنة واما الردة فمنافية لأنها من أسباب زوال العصمة وذلك أمر بين ولا يلزم إذا ارتدا معا لأنا أثبتنا حكمه بنص آخر وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم والقياس ليس بحجة في معارضة الإجماع ولأن حال الإتفاق دون حال الإختلاف فلم يصح التعدية إليه في تضاد حكمين وضعف أثر قوله أن الرد غير منافية بدلالة ارتدادهما لأنا وجدنا اختلاف الدين يمنع ابتداء النكاح والإتفاق على (1/293)
الكفر لا يمنع ومثاله قوله في مسح الرأس أنه ركن في الوضوء وهذا ضعيف الأثر لأن الركنية لا يؤثر في التكرار ولا يختص به فقد سن تكرار المضمضة واثر المسح في التخفيف بين لا شبهة فيه قوى لا ضعف فيه وهذا أكثر من أن يحصى وأما الثاني وهو قوة ثباته على الحكم المشهود به فلأن الأثر إنما صار أثرا لرجوعه إلى الكتاب والسنة والإجماع فإذا ازداد ثباتا ازداد قوة بفضل معناه وذلك في قولنا في مسح الرأس أنه مسح فهذا أثبت في دلالة التخفيف من قولهم ركن في دلالة التكرار ألا ترى أن الركن وصف عام في الوضوء وفي أركان الصلاة وغيرها وهي الركوع والسجود وكان من قضية الركن إكماله بالإطاله في الركوع والسجود لا تكراره ووجدنا في الباب ما ليس ركن ويتكرر وهو المضمضة والاستنشاق وأما أثر المسح في التخفيف فثابت لازم لا محالة في كل ما لا يعقل تطهيرا كالتيمم ومسح الخف ومسح الجبائر ومسح الجوارب وكذلك قولنا في صوم رمضان أنه متعين أولى من قولهم صوم فرض لأن الفرضية لا توجب إلا الامتثال به والتعيين لا محالة وذلك وصف خاص في الباب واما التعيين فلازم حتى تعدى إلى الودايع والغصوب ورد البيع الفاسد وعقد الإيمان ونحوها فكان أولى وكذلك قولنا في المنافع أنها لا تضمن مراعاة لشرط ضمان العدو أن بالاحتراز عن الفضل أولى من قولهم أن ما يضمن بالعقد يضمن بالاتلاف تحقيقا للجبر وإثبات المثل تقريبا وإن كان فيه فضل لأنه فضل على المتعدي أو إهدار على المظلوم ولأنه إهدار وصف أو إهدار أصل فكان الأول أولى لأن التقييد بالمثل واجب في كل باب كما في الأموال كلها والصيام والصلاة وغيرها ووضع الضمان في المعصوم أمر جائز مثل العادل يتلف مال الباغي والحربي يتلف مال المسلم والفضل على المتعدي غير مشروع وهذا لأنه وإن قل فإنه حكم شرعي ينسب إلى صاحب الشرع بغير واسطة ونسبة الجور إليه بدون واسطة فعل العبد باطل وان لا يضمن مضاف إلى عجزنا عن الدرك وذلك سائغ حسن ولأن الوصف وإن قل فائت أصلا بلا بدل والأصل إن عظم فائت إلى ضمان في دار الجزاء فكان تأخرا والأول إبطالا والتأخير أهون من (1/294)
الإبطال وهذا كذلك في عامة الأحكام فأما ضمان العقد فباب خاص فكان ما قلناه أولى وأما الثالث وهو كثرة الأصول فهو من جنس الأشهاد في السنن وهو قريب من القسم الثاني في هذا الباب وأما الرابع فهو العكس الذي ذكرناه وهو أضعف وجوه الترجيح لأن العدم لا يتعلق به الحكم لكن الحكم إذا تعلق بوصف ثم عدم عند عدمه كان ذلك أوضح لصحته فصلح أن يدخل في أقسام الترجيح وذلك قولنا في مسح الرأس أنه مسح وهو ينعكس بما ليس بمسح وقولهم ركن لا ينعكس لأن المضمضة تتكرر وليس بركن وكذلك قولنا في الآخوة أنها قرابة محرمة للنكاح لإيجاب العتق أحق من قولهم يجوز وضع زكاة أحدهما في الآخر لأن ما قلنا ينعكس في بني الأعمام وقولهم لا ينعكس لأن وضع الزكاة في الكافر لا يحل ولا يجب به عتق وكذلك قولنا في بيع الطعام أنه مبيع عين فلا يشترط قبضه أولى في قولهم ما لأن لو قوبل كل واحد منهما بجنسه حرم ربا الفضل لأنه ينعكس ببدل الصرف ورأس مال السلم لأنه دين بدين ولا ينعكس تعليله لأن بيع السلم لم يشمل أموال الربا ومع ذلك وجب فيه القبض احترازا عن الكالئ بالكالئ وأما القسم الثالث فإن الأصل في ذلك أن كل موجود مما يحتمل الحدوث موجود بصورته ومعناه الذي هو حقيقة وجوده ويقوم به أحواله الحادثة على وجوده فإذا تعارض ضربا ترجح أحدهما في الذات والثاني في الحال على مضادة الوجه الأول كان الرجحان في الذات أحق منه في الحال لوجهين أحدهما أن الذات أسبق من الحال فيصير كاجتهاد أمضى حكمه لا يحتمل النسخ بغيره ولأن الحال قائمة فلو اعتبرنا على مضادة الأول كان ناسخا للأول مبطلا له والتبع لا يصلح مبطلا للأصل ناسخا له وهذا عندنا والشافعي خفى عليه هذا الحد وهو معذور في منزل لقدم والمصيب في مراكز الزلل مأجور وبيانه فيما هو موضع افجماع قولنا في ابن ابن الأخ لأب وأم أو لأب أنه أحق بالتعصيب من العم لأن هذا راجح في ذات القرابة والعم راجح بحالة وكذلك العمة لأم مع الخال لأب وام احق بالثلثين والثلث للخال لأنها راجحة في ذات القرابة والخال راجح بحالة وابن الأخ (1/295)
لأب وأم أحق من ابن الأخ لأب لاستوائهما في الذات فيترجح بالخال وابن ابن الأخ لأب وأم لا يرث مع ابن الأخ لأب للرجحان في الذات ومثله كثير وعلى هذا قال أصحابنا رحمهم الله في مسائل صنعة الغاصب في الخياطة والصياغة والطبخ والشيء ونحوها أنه ينقطع حق المالك لأن الصنعة قائمة بذاتها من كل وجه ولا يضاف حدوثها إلى صاحب العين وأما العين فهالكة من وجه وهي من ذلك الوجه مضاف إلى صنعة الغاصب فصارت الصنعة راجحة في الوجود وقال الشافعي رحمه الله صاحب الأصل أحق لأن الصنعة باقية بالمصنوع تابعة له والجواب عنه ما قلنا أن البقاء حال بعد الوجود فإذا تعارضا كان الوجود أحق من البقاء وكذلك على هذا قلنا في صوم رمضان وكل صوم عين أنه يجوز بالنية قبل انتصاف النهار لأنه ركن واحد تعلق جوازه بالعزيمة فإذا وجدت العزيمة في البعض دون البعض تعارض فرجحنا بالكثرة وقال الشافعي رحمه الله بل ترجح الفساد احتياطا في العبادة والجواب ما ذكرنا أن هذا يؤدي إلى نسخ الذات بالحال وعلى هذا قال أبو حنيفة رحمه الله في رجل له خمس من الإبل السائمة مضى من حولها عشرة أشهر ثم ملك ألف درهم ثم تم حول الإبل فزكاها ثم باعها بألف درهم أنه لا يضمها إلى الألف التي عنده لكنه يستأنف الحول فإن وهبت له ألف أخرى ضمها إلى الألف الأولى لأنها اقرب فإن تصرف في ثمن الإبل فربح ألفا ضم الربح إلى أصله وإن كان بعد عن الحول ولا يعتبر الرجحان بالاحتياط في الزكاة لما قلنا أن الألف الربح متصل بأصله ذاتا متصل بالألف الأخرى حالا وهي القرب إلى مضى الحول والذات أحق من الحال والله أعلم وإنما ذكرنا من هذه الأقسام أمثلة معدودة لتكون أصلا لغيرها من الفروع وأما الرابع فعلى أربعة أوجه ترجيح القياس بقياس آخر وما يجري مجراه على ما قلنا ةالثاني الترجيح بغلبة الأشباه مثل قولهم أن الأخ يشبه الولد بوجه وهو المحرمية ويشبه ابن العم بسائر الوجوه مثل وضع الزكاة وحل الحليلة وقبول الشهادة ووجوب القصاص من الطرفين فكان أولى وهذا باطل لأن كل شبه يصلح قياسا قيصير كترجيح القياس بقياس آخر والثالث الترجيح بالعموم مثل قولهم أن الطعم حق لأنه يعم القليل والكثير وهذا باطل (1/296)
لأن الوصف فرع النص والنص العام والخاص سواء عندنا وعندكم الخاص يقضى على العام فكيف صار العام أحق من الذي هو فرعه ولأن التعدي غير مقصود عندكم فبطل الترجيح وعندنا صار علة بمعناه لا بصورته والعموم صورة والرابع الترجيح بقلة الأوصاف فيقال ذات وصف أحق من ذات وصفين وهذا باطل لأن العلة فرع النص والنص الذي خص نظمه بضرب من الإيجاز والاختصار والنص الذي أشبع بيانه سواء وإنما الترجيح في هذا الباب بالمعاني التي مر ذكرها فأما بالصور فلا والقلة والكثرة صورة ولم يعتبر ذلك في الذي جعل نظمه حجة ففي هذا أولى باب وجوه دفع العلل الطردية
وهو القسم الثاني من هذا الباب وذلك اربعة اوجه القول بموجب العلة لانه رفع الخلاف فهو احق بالتقديم ثم الممانعة ثم بيان فساد الوضع ثم المناقضة إما القول بموجب العلة فالتزام ما يلزمه المعلل بتعليله وانه يلجيء أصحاب الطرد إلى القول بالمعاني الفقهية وذلك مثل قولهم في مسح الرأس انه ركن في وضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه فقال لهم عندنا يسن تثليثه لان فرضه يتادى بقدر الربع عندنا وعندكم باقل منه فما يجاوزه إلى استيعابه فتثليث وزيادة إذ ليس مقتضى التثليث اتحاد المحل لا محالة إلا ترى أن من دخل ثلاثة دور كان ثلاث دخلات بمنزلها في دار واحد وإذا كان كذلك فقد ضم إلى الفرض امثاله فكان تثليثا وزيادة فان غير العبارة فقال وجب أن يسن تكراره لم يسلم ذلك في الأصل لان التكرار في الأصل غير مسنون ولكن المسنون تكميله وهو الأصل في الاركان وتكميله باطالته في محله أن امكن بمنزلة اطالة القيام والركوع والسجود ولكن الفرض لما استغرق محله اضطررنا إلى التكرار خلفا عن الأصل والاصل ههنا مقدور عليه في مسح الرأس لا لإتساع محله فبطل الخلف وظهر بهذا فقه المسئلة وهو أن لا اثر للركنية في التكرار أصلا كما في أركان الصلاة ولا اثر لها في التكميل لا محالة لا ترى أن مسح الرأس يشاركه مسح الخف في الاستيعاب سنة وهو رخصة وكذلك المضمضة فأما المسح (1/297)
فله اثر في التخفيف لا محالة لانه لا يؤدي لطهر معقول فلما كان كذلك كان الاطالة فيه سنة لا التكميل بالتكرار إلا يرى أن التكميل بالتكرار ربما يلحقه بالمحظور وهو الغسل فكيف يصلح تكميلا واما الغسل فقد شرع الطهر معقول فكان التكرار تكميلا ولم يكن محظورا فقد أدى القول بموجب العلة إلى الممانعة وهذا كله بناء على أن الفرض في المسح يتادى ببعض الرأس لا محالة وذلك غير مسلم على مذهبهم بل الفرض يتادى بكله ولكن الشرع رخص في الحط إلى ادنى المقادير وذلك كالقرأة عندكم وان طالت كانت فرضا وقد يتأدى بآية واحدة وإذا كان كذلك لم يلزمه شيء من هذه الوجوه والجواب عنه أن هذا خلاف الكتاب قال الله تعالى وامسحوا برؤسكم أرجلكم وقد بينا في ابواب حروف المعاني أن الاستيعاب غير مراد بالنص فصار البعض هو المراد ابتداء بالنص فصار أصلا لا رخصة فصار اسيعابه تكميلا للفرض والفضل على نصاب التكميل بدعة بالإجماع ومن ذلك قولهم في صوم رمضان انه صوم فرض لايصح إلا بتعين النية فقلنا نحن بموجبه لان هذا الوصف يوجب التعيين لكنه لا يمنع وجود ما يعنيه فيكون اطلاقه تعيينا ولانه لا يصح عندنا إلا بتعيين النية لانا إنما نجوزه باطلاق النية على انه تعيين ومن ذلك قولهم باشر نقل قربة لا بمضى في فاسدها فلا يلزم القضاء بالافساد كما قيل في الوضوء فقلنا لهم لا يجب القضاء عندنا بالافساد حتى انه يجب إذ فسد لاباختياره بان وجد المتيمم في النفل ماء لكنه بالشروع يصير مضمونا عليه وفوات المضمون في ضمانه يوجب المثل فان قيل وجب أن لا يلزمه القضاء بالشروع ولابافساد قلنا عندنا القربة بهذا الوصف لا تضمن وانما تضمن بوصف انه يلتزم بالنذر وذلك مثل قولهم العبد مال فلا يتقدر بدله بالقتل كالدابة وعندنا لا يتقدر بدله بهذا الوصف بل بوصف الادمية وهذا كلام حسن إلا يرى أن الموجود قد يكون ببعض صفاته حسنا و ببعض صفاته رديا فيجوز ان تكون القربة مضمونة بوصف خاص غير مضمون بسائر الاوصاف ومن ذلك قولهم اسلم مذروعا في مذروع فجاز ونحن نقول بهذا الوصف لا يفسد عندنا وذلك لا يمنع وجود الفساد بدليله كما إذا قرن به شرط (1/298)
فاسد وكذلك قولهم في المختلعة إنها منقطعة النكاح فلا يلحقها الطلاق كمنقضية العدة ونحن نقول بموجبه لان الطلاق لا يلحقها بهذا الوصف بل بوصف إنها معتدة عن نكاح صحيح ومن ذلك قولهم تحرير في تكفير فلا يقع به التكفير إلا بالأيمان المحررو نحن نقول هذا الوصف يوجب الإيمان عندنا لكن قيام الموجب لا يمنع معارضة ما يسقطه وهو اطلاق صاحب الشرع الذي هو صاحب الحق كالدين يسقط وكذلك قولهم في السرقة إنها اخذ مال الغير بلا تدين فيوجب الضمان قلنا نحن نقول به لكن لا يمنع اعتراض ما يسقطه كالابراء فكذلك استفاء الحد
الفصل الثاني
وهو الممانعة وهي اربعة اوجه ممانعة في نفس الوصف والثاني في نفس الحكم و الثالث في صلاحه للحكم والرابع في نسبه الحكم إلى الوصف إما الأول فمثل قولهم عقوبة متعلقة بالجماع فلا بجب بالاكل كحد الزنى وهذا غير مسلم عندنا لان كفارة الفطر متعلقة بالفطر دون الجماع ومن ذلك قولهم في بيع التفاحة بالتفاحة انه بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فيبطل كبيع الصبرة بالصبرة لانا نقول مجازفة ذات أو وصف فلا بد من القول بالذات ثم نقول مجازفة في الذات بصورته أو بمعياره فلا بد من القول بالمعيار لان المطعوم بالمطعوم كيلا بكيل جائز وان تفاوتا في الذات فان قال لا حاجة إلى هذا لم نسلم له المجازفة مطلقة فيضطر إلى إثبات أن الطعم علة لتحريم البيع بشرط الجنس مع أن الكيل الذي يظهر به الجواز لا يعدم إلا الفضل على المعيار ومن ذلك قولهم في التثبيت الضغيرة إنها تثبت ترجى مشورتها فلا تنكج إلا برأيها كالثيب البالغة لانا نقول برأي حاضرأم برأي مستحدث فأما الحاضر فلم يوجد في الفرع واما المستحدث فلا يوجد في الأصل فان قال لا حاجة إلى هذا قلنا له عندنا لا تنكح إلا برأيها لان راي الولى رأيها فان قال بأيهما كان انتقض بالمجنونة لان لها رأيا مستحدثا أيضا لان الجنون يحتمل الزوال لا محالة فيظهر به فقه المسئلة وهو أن الولاية ثابتة فلا يمنعها إلا الرأي (1/299)
القائم فأما المعدوم قبل الوجود فلا يحتمل أن يكون شرطا مانعا إو دليلا قاطعا وهذا الذي ذكرنا امثله ما يدخل في الفرع وفيه قسم اخر وهو ما يدخل في الأصل مثل قولهم في مسح الرأس انه طهارة مسح فيسن تثليثه كالاستنجاء فتقول أن الاستنجاء ليس بطهارة مسح بل طهارة عن النجاسة الحقيقة فيضطر إلى الرجوع إلى فقه المسئلة وهو بيان يتعلق به التكرار في أحدهما يحقق غرضه وفي الثاني يفسده ويلحقه بالمحظور وهذا اكثر وهو الغسل و ما يتعلق به التخفيف و هو المسح و هما في طرفى نقيض التكرار من أن يحصى واما الممانعة في الحكم فمثل قولهم في مسح الرأس انه ركن في ضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه فنقول أن غسل الوجه لا يسن تثليثه بل يسن تكميله بعد تمام فرضه وقد حصل التكميل ههنا ولكن التكرار صير اليه في الغسل لضرورة أن الفرض استغرق محله وهذا المعنى معدوم في هذا أو لان المشروع في الأصل وجب بالضرورة لما قلنا من الاركان لكن التكرار اطالته لا تكراره كما في غيره ومثل قولهم في صوم رمضان انه صوم فرض فلا يصح إلا بتعيين النية يقال له بعد التعيين أو قبله فان قال بعده لم نجده في الأصل فصحت الممانعة فان قال قبله لم نجده في الفرع فصحت الممانعة أيضا فان قال لا حاجة لي إلى هذا قلنا عندنا لا يصح بالتعيين غيران اطلاقه تعيين ومثل قولهم في بيع التفاحة بالتفاحة انه بيع مطعوم بجنسه مجازفة فيحرم كالصبرة بالصبرة يقال له يحرم حرمة موقتة أو مطلقة فان قال موقته لم نجدها في الفرع لعدم المخلص وان قال مطلقة لم نجدها في الأصل لان الحرمة عندنا في الأصل متناهية فصحت الممانعة ومثله ما قلنا في قولهم ثيب ترجى مشورتها فلا تنكح كرها يقال له ما معنى الكره فلا بد من أن يقال عدم رايها فيقال في الأصل عدم الرأي غير مانع لكن الرأي القائم المعتبر مانع ولم يوجد في الفرع رأي معتبر ومثله قوله ما يثبت مهر دينا يثبت سلما كالمقدور فيقال ثبت معلوما بوصفه ام بقيمتة فان قال بوصفه لم يسلم في الفرع وان قال بقيمة لم يسلم في الفرع وان قال لا حاجة لي إلى هذا قلنا بل اليه حاجة لبيان استوائهما في طريق الثبوت وهما مختلفان أحدهما يحتمل جهالة الوصف والثاني لا يحتمله عندنا ومثل قولهم في بيع الطعام بالطعام أن القبض شرط لما قلنا كالاثمان لان عندنا الشرط (1/300)
في الاثمان التعيين لا القبض ومثله قولهم فيمن اشترى اباه ينوي عن الكفارة أن العتيق اب فصار كالميراث فيقال لهم ما حكم العلة فان قال وجب أن لا يجزىء عن الكفارة قيل له ماذا لا يجزىء وانما سبق ذكر اسبق ذكر العتيق والاب وذلك لا يجزئ عندنا فان قال وجب أن لا يجزئ عتقة قلنا به وان قال اعتاقه لم نجده في الأصل ولم يقل به في الفرع ويظهر به فقه المسئلة و اما صلاح الوصف فما سبق ذكره في أنه لا يصح الا بمعناه هو الاثر فكله ما لم يظهر اثره معناه من أن يكون دليلا فان قال عندي لاثر ليس بشرط لم يقبل منه الاحتجاج بما لم يكن حجة على الخصم كمثل كافرا قام بينه كفارا على مسلم لم تقبل لما قلنا واما نسبه الحكم إلى الوصف فلان نفس الوجود لا يكفي بالإجماع وذلك مثل قولهم في الآخ انه لا يعتق على اخيه لعدم البعضية لان حكم الأصل لم يثبت لعدم البعضية وكذلك لا يثبت النكاح بشهادة النساء مع الرجال لانه ليس بمال كالحد لان الحد عندنا لا يثبت بها لان ذلك ليس بمال وكذلك كل نفي وعدم جعل وصفا لزمه هذا الاعتراض لان العدم لا يصلح وصفا موجبا ونفس الوجود لا يصلح حجة لانهم يسلمون شرط الصلاح فلا بد من اقامة الدلالة على نسبة الحكم اليه النوع الثالث وهو فساد الوضع وهذا ينقض القاعدة أصلا وهو فوق المناقضة لانها خجلة مجلس يحتمل الاحتراز في مجلس اخر وأما فساد الوضع فيفسد القاعدة أصلا مثاله تعليلهم لايجاب الفرقة بإسلام أحد الزوجين ولا بقاء النكاح مع ارتداد أحدهما انه في الوضع فاسد لان الإسلام لا يصلح قاطعا للحقوق والردة لا يصلح عفوا و مثله قولهم في الضرورة إذا حج بنيه النفل انه جائز عن الفرض لانه يتأدى باطلاق النية فكذلك نية النفل وهذا فاسد في الوضع لان العلماء إنما اختلفوا في حمل المطلق على المقيد واعتباره به وهذا حمل المقيد على المطلق واعتباره به وهو فاسد في وضع الشارع ومثله التعليل بالطعم لتحريم الربا اعتبارا بالنكاح فاسد في الوضع لان الطعم يقع به القوام فلا يصلح للتحريم والحرية عبارة عن الخلوص فصلح للتحريم إلا بعارض ومثله قولهم في الجنون لما نافى تكلف الاداء نا في تكليف القضاء وهو فاسد لان الوجوب في كل الشرايع بطريق الجبر والاداء بطريق الاختيار كما قيل في النائم والمغمى عليه والقضاء الذي هو بدل يعتمد انعقاد السبب للأداء (1/301)
على الاحتمال فصار هذا التعليل مخالفا للاصول وكذلك قولهم ما يمنع القضاء اذا استغرق شهر رمضان يمنع بقدر ما يوجد هذا فاسد ايضا في الوضع لان الفصل بين اليسر و الحرج في حقوق صاحب الشرع كا لحيض اسقط الصلاة دون الصوم و السفر اثر في الظهر دون الفجر كا الحيض اذا تخلل في كفارة القتل لا يوجب الاستقبال بخلاف الكفارة اليمين عندنا و بخلاف ما إذا نذرت ان تصوم عشرة أيام متتابعه لما ذكرنا فكذلك ههنا في الاستغراق حرج و ليس في القليل حرج مثله و لا كلام في الحدود الفاصلة ولا حرج في استغراق الأغماء لانه قلما يمتد شهر و في الصلوات استوى الاغماء و الجنون في الفتوى و ان اختلفا في الأصل فكان القياس في الاغماء أن لا يسقط واستر حسنا في الكثير وكان القياس في الجنون أن يسقط واستحسنا في القليل لانهما سواء في الطول والامتداد الداعى إلى الحرج والصبا ممتد أيضا وبخلاف الكفر لانه ينافى الاهلية وينافي استحقاق ثواب الاخرة بخلاف الجنون وكذلك التعليل لتعين النقود اعتبارا بالسلع ولفسخ البيع بافلاس المشتري اعتبارا بالعجز عن تسليم المبيع فاسد في الوضع لما عرف من التفرقة بين المبيع والثمن في اصل وضع الشرع والبياعات تخالف التبراعات في اصل الوضع هذه للايثار بالاعيان وهذه لالتزام الديون قال الله عز و جل إذا تداينتم بدين أي تبايعتم بنسئة فيطلب وجوه المقايس في ذلك جملة على ما عرف شرحه في موضعه واما النوع الرابع وهو المناقضة فيلجئ إلى القول بالاثر أيضا مثل قول الشافعي رحمه الله في الوضوء والتيمم انهما طهارتان فكيف افترقا لانه أن قال وجب أن يستويا كان باطلا بلا شبهة لانهما قد افترقا في عدد الاعضاء وفي قدر الوظيفة في نفس الفعل وان قال وجب ان يستويا في النية انتقض ذلك يغسل الثوب وغسل البدن عن النجاسة فيضطر إلى بيان فقه المسئلة وهوان الوضوء تطهير حكمى لانه لا يعقل بالعين نجاسة فكان كالتيمم في شرط النية لتحقيق التعبد بخلاف غسل لنحس و نحن نقول ان الماء في هذا الباب عامل بطبعه و كان القياس غسل كل البدن لان مخرج النجاسة غير موصوف بالحدث وانما البدن موصوف فوجب غسل كله إلا أن الشرع اقتصر على اطراف البدن الأربعة التي هي مثل حدود البدن وامهاته في هذا المعنى تيسيرا فيما يكثر وقوعه ويعتاد تكراره واقر على القياس فيما لا حرج (1/302)
فيه وهو المنى ودم الحيض والنفاس فلم يكن التعدي عن موضع الحدث إلا قياسا وانما نعني بالنص الذي لا يعقل وصف محل الغسل من الطهارة إلى الخبث فأما الماء فعامل بطبعه والنية للفعل القائم بالماء لا للوصف بالمحل فكان مثل غسل النجس بخلاف التراب لانه لم يعقل مطهرا وانما صار مطهرا عند ارادة الصلاة وبعد صحة الارادة وصيرورته مطهر يستغنى عن النية أيضا ومسح الرأس ملحقا بالغسل لقيامه مقامة وانتقاله اليه بضرب من الحرج فثبت أن النية لا يشترط ولا يجوز أن يسترط لتصير قربة لانا نسلم أن النية لتصير قربة شرط لكنا نسلم انه لم يشرع إلا قربة بل شرع بوصف القربة ويوصف التطهير أيضا كغسل الثوب الصلاة تستغنى في ذلك عن وصف القربة وانما تحتاج في ذلك إلى وصف التطهير حتى أن من توضأ للنفل صلى به الفرائض ومن توضأ للفرض صلى به غيره ومثله قوله في النكاح انه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال وهو باطل بالبكارة وكل ما لا يطلع عليه الرجال فيضطره إلى الفقه وهو أن يقول أن شهادة النساء حجة ضرورية فكان حجة في موضع الضرورة وما يبتذل في العادة بخلاف النكاح فيظهر به فقه المسئلة لانا لا نسلم أن هذه الحجة ضرورية بل هي اصيلة إلا أن فيها ضرب شبهة وهي مع ذلك اصيلة لان عامة حقوق البشر نظير هذه الحجة في احتمال الشبهة والنكاح من جنس ما يثبت بالشبهات فكان فوق ما يسقط بالشبهات في اصل الوضع فبطل القياس به من كل وجه إلا ترى انه يثبت مع الهزل الذي لا يثبت به المال فلان ثبت بما يثبت به المال اولى وإذا ثبت دفع العلل بما ذكرنا من وجوهه كانت غايته أن يلجئ إلى الانتقال وهذا باب وجوه الانتقال
وهو اربعة اوجه الأول الانتقال من علة إلى أخرى لاثبات لعلة الأولى والثاني الانتقال من حكم إلى اخر بالعلة الأولى والثالث الانتقال إلى حكم آخر علة أخرى هذه كلها صحيحة والرابع الانتقال من علة إلى علة أخرى لاثبات الحكم الأول لا لاثبات العلة الأولى (1/303)
وهذا الوجه باطل عندنا ومن الناس من استحسن هذا أيضا أما الوجوه الأولى فإنما صحت لأنه لم يدع إلا الحكم بتلك العلة فما دام يسعى في إثبات تلك العلة لم يكن منقطعا وذلك مثل من علل بوصف ممنوع فقال في الصبي المودع إذا استهلك الوديعة لم يضمن لأنه مسلط على الاستهلاك فلما أنكره الخصم احتاج إلى إثباته وهذا هو الفقه بعينه وكذلك إذا ادعى حكما بوصف فسلم له ذلك لم يكن انقطاعا لأن غرضه إثبات ما ادعاه والتسليم يحققه فلم يكن به بأس فإذا أمكنه إثبات حكم آخر بذلك الوصف كان ذلك آية كمال الفقه وصحة الوصف مثل قولنا أن الكتابة عقد يحتمل الفسخ بالإقالة فلا يمنع الصرف إلى الكفارة كالإجارة والبيع فإن قال عندي لا يمنع هذا العقد قيل له وجب أن لا يوجب في الرق نقصا مانعا من الصرف إلى الكفارة أو لا يتضمن ما يمنع وإذا علل بوصف آخر لم يكن به بأس لما ذكرنا أن ما ادعاه صار مسلما فلم يكن به بأس لكن مثل ذلك لا يخلو عن ضرب غفلة واما الرابع فمن الناس من استحسنه واحتج بقصة إبراهيم في محاجة للعير فإنه انتقل إلى دليل آخر لإثبات ذلك الحكم بعينه كما قص الله عز و جل عنه بقوله فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والصحيح ان مثل هذا يعد انقطاعا لأن النظر شرع لبيان الحق فإذا لم يكن متناهيا لم يقع به الإبانة كما إذا لزمه النقض لم يقبل منه الاحتراز بوصف زائد فلأن لا يقبل منه التعليل المبتدأ أولى عليه فليس فأما قصة الحجة إبراهيم صلوات الله عليه من هذا القبيل لأن الحجة الأولى كانت لازمة ألا يرى أنه عارض بأمر باطل وهو قوله تعالى قال انا أحيي واميت فإذا كذلك كان اللعين منقطعا إلا أن إبراهيم صلوات الله عليه لما خاف الاشتباه والتلبيس على القوم انتقل إلى دفع آخر دفعا للإشتباه إلى ما هو خال عما يوجب لبسا وذلك حسن عند قيام الحجة وخوف الاشتباه والله أعلم باب معرفة أقسام الأسباب والعلل والشروط
جملة ما يثبت بالحجج التي سبق ذكرها سابقا على باب القياس شيئان الأحكام (1/304)
المشروعة والثاني ما يتعلق به الأحكام المشروعة وإنما يصح التعليل للقياس بعد معرفة هذه الجملة فألحقناها بهذا الباب ليكون وسيلة بعد أحكام طرق التعليل أما الأحكام فأنواع حقوق الله عز و جل خالصة وحقوق العباد خالصة والثالث ما اجتمع فيه الحقان وحق الله تعالى غالب والرابع ما اجتمعا وحق العبد فيه غالب وحقوق الله تعالى ثمانية أنواع عبادات خالصة وعقوبات خالصة وعقوبات قاصرة وحقوق دائرة بين الأمرين وعبادة فيها معنى المؤنة ومؤنة فيها معنى العبادة ومؤنة فيها شبهة العقوبة وحق قائم بنفسه والعبادات نوعان الإيمان وفروعه وهي ثلاثة أنواع أصل وملحق به وزوائد أما الأصل فالتصديق في الإيمان أصل محكم لا يحتمل السقوط بحال بعذر الإكراه وبغيره من الأعذار ولا يبق مع التبديل بحال والإقرار باللسان ركن في الإيمان ملحق بالتصديق وهو في الأصل دليل على التصديق فانقلب ركنا في أحكام الدنيا والآخرة وهو أصل في أحكام الدنيا أيضا حتى إذا أكره الكافر على الإيمان فآمن صح إيمانه بناء على وجود أحد الركنين بخلاف الردة في الإكراه لأن الأداء في الردة دليل محض لا ركن والأصل في فروع الإيمان هي الصلاة وهي عماد الدين شرعت شكر النعمة البدن الذي يشمل ظاهر الإنسان وباطنه إلا أنها لما صارت أصلا بواسطة الكعبة كانت دون الإيمان الذي صار قربة بلا واسطة ثم الزكاة التي تعلقت بأحد ضربي النعمة وهو المال وهي دون الصلاة لأن نعمة البدن أصل ونعمة المال فرع والأولى صارت قربة هي بواسطة القبلة التي هي جماد وهذه صارت قربة بواسطة الفقير الذي له ضرب استحقاق في الصرف ثم الصوم قربة تتعلق بنعمة البدن ملحقة بالأصل كأنها وسيلة إلى الأصل وهو لا يصير قربة إلا بواسطة النفس وهي دون الواسطتين الأوليين حتى صارت من جنس الجهاد ثم الحج عبادة هجرة وسفر لا يتأدى إلا بأفعال تقوم ببقاع معظمة فكانت دون الصوم كأنها وسيلة آلية والعمرة سنة واجبة تابعة للحج ثم الجهاد شرع لإعلاء الدين فرض في الأصل لكن الواسطة ههنا هي المقصودة فصارت من فروض الكفاية ألا ترى أن الواسطة كفر الكافر وذلك جناية قائمة بالكافر مقصودة بالرد والمحو والاعتكاف شرع لإدامة الصلاة على مقدار الإمكان فكان من التوابع ولذلك اختص (1/305)
بالمساجد والعبادة التي فيها معنى المؤنة صدقة الفطر فلم تكن خالصة حتى لم يشترط لها كمال الأهلية والمؤنة التي فيها معنى القربة هي العشر حتى لا يبتدأ على الكافر وأجاز محمد رحمه الله بقاءه على الكافر والخراج مؤنة فيها معنى العقوبة لأن سببه الاشتغال بالزراعة وهي الذل في الشريعة وكل واحد منهما شرع مؤنة لحفظ الأرض وإنزالها ولذلك لا يبتدأ على المسلم وجاز البقاء عليه لأنها لما تردد لا يجب بالشك ولم يبطل به وكذلك قال محمد رحمه الله في العشر وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى ينقلب خراجيا وقال أبو يوسف رحمه الله يجب تضعيفه لأن الكفر ينافي صفة القربة من كل وجه فلا يبقى العشر لأنه قربة من وجه فلهذا يبقى الخراج وعن محمد رحمه الله روايتان في صرف العشر الباقي على الكافر كأنه جعله خراجيا في رواية والجواب عنه أنه غير مشروع إلا بشرط التضعيف لكن التضعيف ضروري فلا يصار إليه مع إمكان الأصل وهو الخراج فصار الصحيح ما قاله أبو حنيفة رحمه الله واما الحق القائم بنفسه فخمس المغانم والمعادن حق وجب لله تعالى ثابتا بنفسه بناء على أن الجهاد حقه فصار المصاب به له كله لكنه تعالى أوجب أربعة أخماسه للغانمين منة منه فلم يكن حقا لزمنا أداؤه طاعة له بل هو حق استبقاه لنفسه فتولى السلطان أخذه وقسمته ولهذا جوزنا صرف الخمس إلى من استحق أربعة أخماسه بخلاف الطاعات مثل الزكاة والصدقات فإنها لا ترد إلى الملاك بعد الأخذ منهم ولهذا حل الخمس لبني هاشم لأنه على ما قلنا من التحقيق لم يصر من الأوساخ غير أنا جعلنا النصرة علة للاستحقاق لأنها من الأفعال والطاعات فكان أولى بالكرامة واعتبارا بالأربعة الأخماس فإنها بالنصرة بالإجماع فأما قرابة النبي عليه السلام فخلقة ولتكون لها صيانة عن أعواض الدنيا ولم يجز أن يكون النصرة وصفا يتم بها القرابة علة لما سبق في باب الترجيح أن ما يصلح علة بنفسه لا يصلح للترجيح ولأنها تخالف جنس القرابة فلم يصلح وصفا لها وعلى هذا مسائل أصحابنا رحمهم الله في أن الغنيمة تملك عند تمام الجهاد حكما لا بالأخذ مقصودا ويبتنى عليه مسائل لا تحصى وأما الزوائد فالنوافل كلها والسنن والآداب وأما العقوبات الكاملة فمثل الحدود وأما القاصرة فنسميها اجزية (1/306)
مثل حرمان الميراث بالقتل ولذلك لا يثبت في حق الصبي لأنه لا يوصف بالتقصير بخلاف الخاطىء البالغ لأنه مقصر فلزمه الجزاء القاصر ولم يلزمه الكامل والصبي غير مقصر فلم يلزمه القاصر ولا الكامل وحافر البئر وواضع الحجر والقائد والسائق والشاهد إذا رجع لم يلزمهم الحرمان لأنه جزاء المباشرة فلا يجب على صاحب الشرط أبدا كالقصاص والحقوق الدائرة هي الكفارة فيها معنى العبادة في الأداء وفيها معنى العقوبة حتى لم يجب مبتدأة وجهة العبادة فيها غالبة عندنا وهي مع ذلك جزاء الفعل حتى راعينا فيها صفة الفعل فلم نوجب على قاتل العمد وصاحب الغموس لان السبب غير موصوف بشيء من الاباحة وقلنا لا يجب على المسبب الذي قلنا ولا على الصبي لانها من الاجزية والشافعي جعلها ضمان المتلف وذلك غلط في حقوق الله تعالى بخلاف الدية وكذلك الكفارات كلها ولهذا لم يجب على الكافر ما خلا كفارة الفطر فإنها عقوبة وجوبا وعبادة اداء حتى سقط بالشبهة على مثال الحدود وقلنا يسقط باعتراض الحيض والمرض ويسقط بالسفر الحادث بعد الشروع في الصوم إذا اعترض الفطر على السفر ويسقط بشبهة القضاء وظاهر السنة فيمن ابصر هلال رمضان وحده للشبهة في الرؤية خلافا للشافعي فإنه الحقها بسائر الكفارات إلا انا اثبتنا ما قلنا استدلالا بقول النبي صلى الله عليه و سلم من افطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر ولاجماعهم على إنها لا تجب على الخاطىء ولانا وجدنا الصوم حقا لله تعالى خالصا تدعوا الطباع إلى الجناية عليه فاستدعي زاجرا لكنه لما لم يكن حقا مسلما تاما صار قاصرا فأوجبناه بالوصفين وقد وجدنا ما يجب عقوبة ويستوفي عبادة كالحدود لان اقامة السلطان عبادة ولم نجد ما يجب عبادة ويستوفي عقوبة فصار الأول اولى ولهذا قلنا يتداخل الكفارات في الفطر وحقوق العباد اكثر من أن تحصى والمشتمل عليهما وحق الله تعالى غالب حد القذف والذي يغلب فيه حق العبد القصاص فأما حد قطاع الطريق فخالص لله تعالى عندنا وهذا مما يطول به الكتاب وكذلك في حق المعتوه والمجنون لا يعتبر ذلك مع اداء الصغير بنفسه ثم صار تبعية أهل الإسلام و الغانمين خلفا عن تبعية لابوين في إثبات الإسلام في صغير دخل دارنا أو وقع في سهم المسلم إذا لم يكن معه أحد (1/307)
ابويه وكذلك في شروط الصلاة الطهارة بالماء اصل والتيمم خلف عنه لكن هذا الخلف عندنا مطلق وعند الشافعي خلف ضرورة حتى لم يجوز اداء الفرائض بتيمم واحد وقال في انائين نجس وطاهر في السفر أن التحري فيه جائز ولم يجعل التراب طهورا لعدم الضرورة وقلنا نحن هو خلف مطلق حتى جوزنا جميع الصلاة به وقلنا في الانائين لا يتحرى لان التراب طهور مطلق عند العجز وقد ثبت العجز بالتعارض لكن الخلافة بين الماء والتراب في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند زفر ومحمد رحمهما الله بين التيمم والوضوء و يبتني عليه مسألة امامة المتيمم للمتوضىء وقد يكون الخلف ضروريا وهو التراب عند القدرة على الماء إذا خيف فوت الصلاة حتى أن من تيمم لجنازة فصلى ثم جيء باخرى لم يعد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله واعاد عند محمد بناء على ما قلنا وهذا إنما يستقضي في مبسوط اصحابنا وانما غرضنا الاشارة إلى الأصل وذلك أن الخلافة لا تثبت إلا بالنص ودلالة النص وشرطه وعدم الأصل للحال على احتمال الوجود ليصير السبب منعقدا للاصل فيصح الخلف فإذا لم يحتمل اصل الوجود فلا مثل ليرفي الغموس لما لم يحتمل الوجود لم يثبت الكفارة خلفا عنه بخلاف مس السماء وسائر الابدال فإنها لم تشرع إلا عند احتمال وجود الأصل والمسائل على هذا الأصل اكثر من أن تحصى وقد سبق بعضها فيمن اسلم في اخروقت الصلاة ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في المشهود بقتله إذا جاء حيا وقد قتل المشهود عليه فاختار الولي تضمين الشهود انهم يرجعون على الولي لان سبب الملك قد وجد وهو التعدي والضمان والمضمون وهو الدم محتمل للملك في الشرع غير مستحيل مثل مس السماء فعمل في بدله وهو الدية عند تعذر العمل بالأصل كما قيل في غاصب المدبر من الغاصب إذا مات المدبر عند الثاني أو ابق أن الأول إذا ضمن رجع على الثاني وان لم يملك المدبر و كذلك شهود الكتابة اذا رجعوا بعد الحكم و ضمنوا قيمته رجعوا ببدل الكتابة على المكاتب ولم يملكوا رقبته لما قلنا أن سبب الملك وجد والاصل يحتمل الملك فإذا لم يثبت الملك قام البدل مقامه واما أبو حنيفة رحمه الله فقد قال أن الشهود متلفون حكما بطريق التسبب و الولي متلف حقيقة بالمباشرة وهما سواء (1/308)
في ضمان الدم وإذا كان الولى لا يرجع لم يرجع الشهود أيضا بخلاف شهود الخطأ فإنهم إذا ضمنوا وقد جاء المشهود بقتله حيا رجعوا لأنهم لا يضمنون بالاتلاف لكن بما أوجبوا للولي فإذا ضمنوا صار الولي متلفا عليهم لأن المضمون ثمة المال وهو محتمل للملك والجواب عن قولهما أن ملك الأصل المتلف وهو الدم غير مشروع أصلا ولا يحتمل فلا ينعقد السبب له فيبطل الخلف ولأن الخلف يحكي الأصل والأصل هو الدم المتلف وملك الدم هو ملك القصاص والأصل بنفسه غير مضمون لو صار ملكا فكذلك خلفه وفي المدبر الأصل مضمون متى كان ملكا لا محالة فكذلك بدله واما القسم الثاني فأربعة السبب والعلة والشرط والعلامة أما السبب فإنه يذكر ويراد به الطريق قال الله تعالى واتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا اي الطريقا و يذكر و يراد به الباب قال الله تعالى لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات يريد به أبوابها ومنه قول زهير ... ولو نال أسباب السماء بسلم ...
ويذكر ويراد به الحبل قال الله تعالى فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع أي بحبل إلى السقف ومعنى ذلك واحد وهو ما يكون طريقا إلى الشيء وهو في الشريعة عبارة عما هو طريق إلى الشيء من سلكه وصل إليه فناله في طريقه ذلك لا بالطريق الذي سلك كمن سلك طريقا إلى مصر بلغه من ذلك الطريق لا به لكن يمشيه وأما العلة فإنها في اللغة عبارة عن المغير ومنه سمى المرض علة والمريض عليلا فكل وصف حل بمحل فصار به المحل معلولا وتغير حاله معا معا فهو علة كالجرح للمجروح وما أشبه ذلك وهو في الشرع عبارة عما يضاف إليه وجوب الحكم ابتداء مثل البيع للملك والنكاح للحل والقتل للقصاص وما أشبه ذلك لكن علل الشرع غير موجبة بذواتها وإنما الموجب للأحكام هو الله تعالى عز و جل لكن إيجابه لما كان غيبا نسب الوجوب إلى العلل فصارت موجبة في حق العباد بجعل صاحب الشرع إياها كذلك وفي حق صاحب الشرع هي أعلام خالصة وهذا كأفعال العباد من الطاعات ليس بموجبة للثواب بذواتها بل الله تعالى بفضله جعلها كذلك فصارت النسبة إليها بفضله وكذلك العقاب يضاف إلى الكفر من هذا الوجه فأما أن تجعل لغوا كما قالت الجبرية أو موجبة بأنفسها كما قالت القدرية فلا كذلك حال (1/309)
العلل وقد أجمع الفقهاء على أن الشاهد بعلة الحكم إذا رجع نسب إليه الإيجاب حتى صار ضامنا وأما الشرط فتفسيره في اللغة العلامة اللازمة ومنه أشراط الساعة ومنه الشروط للصكوك ومنه الشرطى ومنه شرط الحجام وهو في الشرع اسم لما يتعلق به الوجود دون الوجوب فمن حيث لا يتعلق به الوجوب علامة ومن حيث يتعلق به الوجود يشبه العلل فسمى شرطا وقد يقام مقام العلل على ما نبين إن شاء الله تعالى وأما العلامة فما يعرف الوجود من غير أن يتعلق به وجوب ولا وجود مثل الميل والمنارة فكان دون الشرط فهذا تفسير هذه الجملة وكل ضرب من هذه الجملة منقسم في حق الحكم باب تقسيم السبب
وقد مر قبل هذا أن وجوب الأحكام متعلق بأسبابها وإنما يتعلق بالخطاب وجوب الأداء والسبب أربعة أقسام في حق الحكم سبب حقيقي وسبب سمى به مجازا وسبب له شبهة العلل وسبب هو في معنى العلة أما السبب الحقيقي فما يكون طريقا إلى الحكم من غير أن يضاف إليه وجوب ولا وجود ولا يعقل فيه معاني العلل لكن يتخلل بينه وبين الحكم علة لا يضاف إلى السبب فإن أضيفت العلة إليه صار للسبب حكم العلة فيصير حينئذ من القسم الرابع وذلك مثل سوق الدابة وقودها هو سبب لما يتلف بها لأنه طريق إليه لكن بمعنى العلة وكذلك شهادة الشهود بالقصاص سبب لقتل المشهود عليه في حكم العلة لأن حد العلل فيه لم يوجد لكنه طريق إليه محض خالص فكان سببا ولهذا لم يجب به القصاص لأنه جزاء المباشرة وقد سلم الشافعي هذا إلا أنه جعل السبب المؤكد بالعمل الكامل بمنزلة المباشرة وقد وجد لأن الشاهد غير المشهود عليه لكنا قلنا أن فعل الشهادة ليس بفعل قتل بلا شبهة وإنما يصير قتلا بواسطة ليست في يد الشاهد وهو حكم القاضي واختيار الولي قتل المشهود عليه وقلنا نحن بأن لا كفارة على المسبب لما سبق من قبل وإنما صار هذا القسم في حكم العلل لأن المباشرة أضيفت إليه فصار في حكم العلة مع كونه سببا من قبل أن المباشرة حادثة باختيار المباشر فبقي الأول سببا له حكم العلل (1/310)
ولهذا لم يصلح لإيجاب ما هو جزاء المباشرة وإذا اعترض على السبب علة لا يضاف إليه بوجه كان سببا محضا مثل دلالة الرجل الرجل على مال رجل ليسرقه أو ليقطع عليه الطريق أو ليقتله ومثل دلالة الرجل في دار الإسلام قوما من المسلمين على حصن في دار الحرب بوصف طريقة فأصابوه بدلالة لم يكن الدال شريكا لأنه صاحب سبب محض ومثل رجل قال لرجل تزوج هذه المرأة فإنها حرة فتزوجها ثم ظهر أنها أمة وقد استولدها لم يرجع على الدال بقيمة الولد لما بينا بخلاف ما إذا زوجها على هذا الشرط لأنه صار صاحب علة وكذلك قلنا في الموهوب له إذا استولد ثم استحقت لم يجعل قيمة الولد على الواهب لان هبته سبب محض لا يضاف اليه مباشرة الاستيلاد بوجه وكذلك المستعير لا يرجع على المعير بضمان الاستحقاق لما قلنا بخلاف المشترى لان البائع صار كفيلا عنه بما شرط عليه من البدل كأنه قال له أن ولدك بحكم بيعي فان ضمنك أحد بحكم باطل فأنا كفيل عنه ولذلك لم يرجع بالعقرلان ما ضمنه فهو قيمة ما سلم له فلم يكن عزما فلم يصح الكفالة به ولا يلزم على هذا دلالة المحرم على الصيد انة يوجب الضمان عليه وان كان سبب لان الدلالة في ازالة امن الصيد مباشرة إلا ترى أن الصيد لا يبقى امنا على المدلول إذا صحت بالدلالة غير إنها يعرض الانتقاض لم يجب لضمان بنفس الدلالة حتى يستقر وذلك بان يتصل بها القتل فكان ذلك بمنزلة الجراجة يستاني فيها لمعرفة قرارها فأما الدلالة على مال الناس فليس مباشرة عدوان لانه غير محفوظ بالبعد عن ايدي الناس بل بالعصمة ودفع المالك عن المال ولا يلزم دلالة المودع على الوديعة لانها مباشرة خيانة على ما التزمه من الحفظ بالتضيع فصار ضامنا بالمباشرة دون أن يضمن بفعل المدلول مضافا اليه بطريق التسبب كان حكم المحرم في الجناية على موجب العقد حكم المودع وكان صيد الحرم لكونه راجعا إلى بقاع الأرض مثل اموال الناس ومن دفع إلى صبي سكينا أوسلاحا اخر ليمسكه للدافع فوجأ به نفسه لم يضمن الدافع لان ذلك سبب محض اعترض عليه علة لا يضاف اليه بوجه وإذا سقط عن يد الصبي عليه فجرحه كان ذلك على الدافع لأنه اضيف اليه العطب ههنا لان السقوط اضيف إلى الامساك فصار (1/311)
له حكم العلل وشبه بها وكذلك من حمل صبيا ليس منه بسبيل له إلى بعض المهالك مثل الحر أوالبرد أوالشواهق فعطب بذلك الوجه كان عاقلة الغاصب ضامنا وإذا قتل الصبي في يده رجلا لم يرجع عاقلته على عاقلة الغاصب وكذلك إذا مات بمرض لم تضمن عاقلة غاصبه شيئا لما ذكرنا وكذلك من حمل صبيا ليس منه بسبيل على دابة كان سببا للتلف فان سقط منها و هي واقفةاو سارت بنفسها ضمنة عاقلة الحامل اذا كان صبيا يستمسك أو لانه صار بمنزلة صاحب العلة وان ساقها لصبى وهو بحيث يصرفها انقطع التسبيب بهذه المباشرة الحادثة وكذلك رجل قال لصبى اصعد هذه الشجرة وانفض ثمرتها لتأكل انت أو لنأكل نحن ففعل فعطب لم يضمن لانه صاحب سبب ولو قال الاكل ضمن ديته على عاقلته لانه صار بمنزلة صاحب العلة لما وقعت المباشرة له ومسائلنا على هذا اكثر من أن تحصى فأما الذي يسمى سببا مجازا فمثل قول الرجل انت طالق أن دخلت الدار وانت حران دخلت الدار ومثل النذر المعلق بدخول الدار وسائر الشروط ومثل اليمين بالله سمى سببا للكفارة مجازا وسمى الأول للطلاق والعتاق سببا مجازا لما بينا ان ادنى درجات السبب ان يكون طريقا و اليمين شرعت للبر وذلك قط لايكون طريقا للجزاء ولا للكفارة لكنه لما كان يحتمل ان يؤل إليه سمى سببا مجازا او هذا هذا عندتا للشافعي رحمه الله جعله سببا هو بمعنى العلة و عندما لهذا المجاز شبهه الحقيقية حكما خلاف الزفر رحمه الله وذلك تبين في المسئالة التنجيز هل يبطل التعليق ام لا فعندنا يبطله لان اليمين شرعت للبر فلم يكن بد من ان يصير البر مضمونا بالجزاء واذا صار مضومنا به صار لما ضمن به البر للحال شبهة الوجوب كا لمغضوب مضمون بقيمته فييكون للغضب حال قيام العين شبهة ايجاب القيمة واذا كان كذلك لم يبق الشبهة إلا في محله كالحقيقة لا يستغنى على المحل فإذا فات المحل بطل وعلى قوله لا شبهة له أصلا وانما الملك للحال اعتبر لرجحان جانب الوجود ليصبح الايجاب فلم يشترط للبقاء فكذلك الحل وذلك مثل التعليق قبل الملك يصح في امراة حرمت بالثلث على الحالف بالملك وان عدم الحل عند الحلف والجواب عنه أن (1/312)
ذلك الشرط في حكم العلل فصار ذلك معارضا لهذه الشبهة السابقة عليه واما الايجاب المضاف فهو سبب للحال وهو من اقسام العلل على ما بين أن شاء الله تعالى وام السبب الذي له شبهة العلل فمثل ما قلنا في اليمين باطلاق والعتاق والله اعلم بالصواب باب تقسيم العلة
وهي سبعة اقسام علة اسما وحكما ومعنى وهو الحقيقة في الباب وعلة اسما لا حكما ومعنى وهو المجاز وعلة اسما ومعنى لاحكما وعلة هو في حيز الاسباب لها شبه بالاسباب ووصف له شبهة العلل وعلة معنى وحكما لا اسما وعلة إسما وحكما لا معنى إما الأول فمثل البيع المطلق للملك والنكاح للحل والقتل للقصاص وما يجري ذلك من العلل لما ذكرنا من تفسيرها وحقيقة ما وضعت له وانما نعني بالمعنى ما تقدم وهو الاثر وليس من صفة العلة الحقيقية تقدمها على الحكم بل الواجب اقترانهما معا وذلك كالا ستطاعة مع الفعل عندنا فإذا تقدم لم يسم علة مطلقة ومن مشائخنا من فرق بين الفصلين وقال لا بل من صفة العلة تقدمها على الحكم والحكم يعقبها ولا يقارنها بخلاف لاستطاعة مع الفعل لان الاستطاعة عرض لا بقاء لها ليكون الفعل عقيبها فلضرورة عدم البقاء يكون مقارنة للفعل فأما العلل الشرعية فلها بقاء وانها في حكم الاعيان فيتصور بقاؤها وتراخي الحكم عنها بلا فصل واما الذي هو علة اسما فما سبق ذكره من الايجاب المعلق بالشرط على ما مر ذكره واما العلة اسما ومعنى لا حكما فمثل البيع الموقوف هو علة اسما لانه بيع مشروع ومعنى لان البيع لغة وشرعا وضع لحكمه وذلك معناه لا حكما لان حكمه تراخى لمانع فإذا زال المانع ثبت الحكم به من الأصل فيظهر انه كان علة لا سببا وكذلك البيع بخيار الشرط علة اسما ومعنى لا حكما لان الشرط دخل على الحكم دون السبب لان دخول الشرط فيه مخالف للقياس ولو جعل داخلا لا على السبب لدخل على الحكم أيضا وإذا دخل على الحكم لم يدخل على السبب وكان اقلهما اولى فبقى السبب مطلقا فلذلك كان علة اسما ومعنى لا حكما ودلالة كونه علة لا سببا ما (1/313)
قلنا أن المانع إذا زال وجب الحكم به من حين الايجاب وكذلك عقدا الاجارة علة اسما ومعنى لا حكما لما عرف في موضعه ولذلك صح تعجيل الاجرة لكنه يشبه الاسباب لما فيه من معنى الاضافة حتى لا يستند حكمه وكذلك كل ايجاب مضاف إلى وقت فانه علة اسما ومعنى لا حكما لكنه يشبه الاسباب وذلك أن يوجد ركن العلة اسما ومعنى وتراخي عنه وصفة فيتراخى الحكم إلى وجوده وإذا وجد الوصف اتصل بالاصل لحكمه فكان بمعنى الاسباب حتى يصح اداء الحكم قبله وذلك مثل زكاة النصاب في أول الحول هو علة اسما ومعنى إما اسما لانه وضع له ومعنى لكونه مؤثرا في حكمه لان الغناء يوجب المواساة لكنه جل علة بصفة النماء فلما تراخى حكمه اشبه الاسباب إلا يرى انه إنما يتراخى إلى ما ليس بحادث به والى ما هو شبيه بالعلل ولما كان متراخيا إلى وصف لا يستقل بنفسه اشبه العلل وكان هذا الشبه غالبا لان النصاب اصل و النماء وصف ومن حكمه انه لا يظهر و جوب الزكاة في اول الحول قطعا بخلاف ما ذكرنا من البيوع و لما اشبه العلل و مان ذلم اصلا كان الوجوب ثابتا من الاصل في التقدير حتى صح التعجيل لكن ليصير زكاة بعد الحول و كذلك مرض الموت علة لتغير الاحكام اسما و معنى الا ان حكمه يثبت به بوصف الاتصال بالموت فاشبه الاسباب من هذا الوجه وهو في الحقيقة علة وهذا اشبه بالعلل من النصاب وكذلك الجرح علة اسما ومعنى لكن تراخى حكمه إلى وصف السراية وذلك قائم بالجرح فكان علة يشبه الاسباب وكذلك ما هوعلة العلة فانه علة يشبه الاسباب وذلك مثل شراء القريب لما كان علة للملك كان علة للعتق ايضا وكذلك الرمي إلا أن الحكم لما تراخى عنه اشبه الاسباب وكذلك التركية عند أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة علة العلة حتى إذا رجع المزكي ضمن لما ذكرنا واما الوصف الذي له شبهة العلل فكل حكم تعلق بوصفين مؤثرين لا يتم نصاب العلة إلا بهما فكل واحد منهما شبهة العلل حتى إذا تقدم أحدهما لم يكن سببا لانه ليس بطريق موضوع وليس بعلة لكن له شبهة العلل ولهذا قلنا أن الجنس بانفراده يحرم النسيئة وكذلك القدر لان ربا النسيئة شبهة الفضل فيثبت بشبهة العلة وهو أحد الوصفين واما العلة معنى (1/314)
وحكما لا اسما فكل حكم تعلق بعلة ذات وصفين مؤثرين فان اخرهما وجودا علة حكما لان الحكم يضاف اليه لانه ترجح على الأول بالوجود وشاركه في الوجوب ومعنى لانه يؤثر فيه لا اسما لان الركن يتم بهما فلا يسمى بذلك أحدهما وذلك مثل القرابة والملك للعتق فان الملك الذي تأخر اضيف اليه حتى يصير المشتري معتقا ومتى تأخرت القرابة اضيف اليها حتى لو ورث إثنان عبدا ثم ادعى أحدهما انه ابنه عزم لشريكه واضيف العتق إلى القرابة بخلاف شهادة الشاهدين فان آخرهما شهادة لا يضاف الحكم اليه لانه لا يعمل إلا بالقضاء والقضاء يقع بالجملة فلا يترجح البعض على البعض في الحكم فأما العلة اسما وحكما لا معنى فمثل السفر للرخصة والمرض ولامرض ومثل النوم للحدث وذلك أن السفر تعلق به في الرخص فكان علة حكما ونسبت الرخص اليه فصار علة اسما ايضا إلا ترى أن من اصبح صائما ثم سافر لم يحل له الفطر ومع ذلك إذا افطر لم يلزمه الكفارة وهذا ليس بعلة حكما ولا معنى فلما صار شبهة علمنا انه علة اسما واما المعنى فلان الرخصة تعلقت بالمشقة في الحقيقة إلا انه اضيف إلى السفر لانه سبب المشقة فأقيم مقامها وكذلك المرض إلا انه متنوع فما هو سبب للمشقة اقيم مقامها وما لا فلا وكذلك النوم مما كان منه سببا لاسترخاء المفاصل اقيم مقامه فصار حدثا وانما نقل إلى السبب الظاهر للتيسير وكذلك الاستبراء متعلق بالشغل ثم نقل إلى استحداث سبب الشغل تيسيرا وامثلة هذا الأصل اكبر من أن تحصى وذلك بطريقين يكون اقامة السبب الداعي مقام المدعو مثل السفر والمرض والنوم والمس والنكاح مقام الوطئ والثاني أن يقوم الدليل مقام المدلول مثل الخبر عن المحبة مقام المحبة ومثل الطهر مقام الحاجة في اباحة الطلاق ومثل مسائل الاستبراء وطريق ذلك وفقهه من ثلاثة اوجه أحدها لدفع الضرورة والعجز وذلك في قوله أن احببتني أو ابغضتني فأنت طالق وفي الاستبراء وفي قيام النكاح مقام الماء وللاحتياط كما قيل في تحريم الدواعي في الحرمات والعبادات ولدفع الحرج كما قيل في السفر والطهر القائم مقام الحاجة والتقاء الختانين والمباشرة الفاحشة لايجاب الحدث عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وهذه وجوه متقاربة في ضبطها (1/315)
معرفة حدود الفقه والله اعلم باب تقسيم الشرط
وهو خمسة اقسام شرط محض وشرط له حكم العلل وشرط له حكم الاسباب وشرط اسما لا حكما فكان مجازا في الباب وشرط هو بمعنى العلامة الخالصة إما الشرط المحض فما يمتنع به وجود العلة فإذا وجد الشرط وجدت العلة فيصير الوجود مضافا إلى الشرط دون الوجوب وذلك في كل تعليق بحرف من حروف الشروط نحو أن دخلت الدار فأنت طالق وكلما دخلت وما اشبه ذلك وذلك داخل في العبادات والمعاملات إلا يرى أن وجوب العبادات يتعلق باسبابها ثم يتوقف ذلك على شرط العلم حتى أن النص النازل لا حكم له قبل العلم من المخاطب فان اسلم من في دار الحرب لم يلزمه شيء من الشرايع قبل العلم فصارت الاسباب والعلل بمنزلة المعدوم لعدم الشرط وكذلك ركن العبادات ينعدم لعدم شروطها وهي النية والطهارة للصلاة وكذلك ركن النكاح وهو الايجاب والقبول ينعدم عند عدم شرطه وهو الاشهاد عليه وقد ذكرنا أن اثر الشرط عندنا انعدام العلة و عند الشافعي تراخي الحكم وكذلك هذا في كل الشروط وانما يعرف الشروط بصيغته أو دلالته وقط لا تنفك صيغته عن معناه فأما قول الله تعالى فكاتبوهم أن علمتم فيهم خيرا فقد قال بعضهم هو شرط عادة وليس كذلك وهذا قول بأنه لغو وكتاب الله تعالى منزه عن ذلك ولكن ادنى درجات الحكم استحباب المأمور به واستحباب الكتاب متعلق بهذا الشرط لا يوجد إلا به وينعدم قبله فأما الاباحة فتستغنى عنه والمراد بالأمر الاستحباب إلا يرى أن قوله وآتوهم من مال الله الذي آتاكم و كذلك قوله فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن خفتم ليس بشرط عادة بل هو شرط أريد به حقيقة ما وضع له لان المراد بالنص قصر الاحوال وهو أن يوحى على الدابة ويخفف القراءة والتسبيح إلا ترى إلى قوله فان خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا امنتم فاذكروا الله كما علمكم وقال تعالى فإذا اطمأننتم فاقيموا الصلاة وقصر الاحوال يتعلق بقيام الخوف عيانا لا بنفس السفر (1/316)
فأما قوله وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم فلم يذكر الحجور شرطا وانما الشطر قوله فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وهو شرط اسما وحكما وكذلك دلالة الشرط لا تنفك عن مدلوله وذلك مثل قول الرجل المرأة التي اتزوج طالق ثلاثا هذا الكلام بمعنى الشرط دلالة لوقوع الوصف في النكرة ولو وقع في العين لما صلح دلالة ونص الشرط بجميع الوجهين واما الشرط الذي هو في حكم العلل فان كل شرط لم يعارضه علة صلح أن يكون علة يضاف اليه الحكم ومتى عارضه علة لم يصلح علة وذلك لما قلنا أن الشرط يتعلق به الوجود دون الوجوب فصار شبيها بالعلل والعلل اصول لكنها لما لم يكن عللا بذواتها استقام أن يخلفها الشروط وهذا اصل كبير لعلمائنا رحمهم الله فقد قالوا في شهود الشرط واليمين إذا رجعوا بعد الحكم أن الضمان يجب على شهود اليمين لانهم شهود العلة وكذلك العلة والسبب إذا اجتمعا سقط حكم السبب كشهود التخيير والاختيار إذا اجتمعوا في الطلاق والعتاق ثم رجعوا بعد الحكم فان الضمان على شهود الاختيار لانه هو العلة والتخيير سبب فأما إذا اسلم الشرط عن معارضة العلة صلح علة لما قلنا وذلك مثل قول علمائنا في رجل قيد عبده ثم حلف فقال أن كان قيده عشرة ارطال فهو حر ثم قال وان حله أحد من الناس فهو حر فشهد شاهدان أن القيد عشرة ارطال فقضى القاضي ثم حله ووزنه فإذا هو ثمانية ارطال أن الشاهدين يضمنان قيمته في قول أبي حنيفة لان القضاء بالعتاق ينفذ عنده ظاهر او باطنا فقد وجب العتق بشهادتهما و عندما لا يضمنان لان القضاء لم ينفذ في الباطن فوقع العتق بحل الحيد وهذان الشاهدان اثبتا شرط العتق لا علة العتق ومع ذلك ضمنا من قبل أن علة العتق لا يصلح لضمان العتق وهو يمين المولى فجعل الشرط علة وفي مسألة رجوع الفريقين ايجاب كلمة الغنق يصلح لضمان العدوان لانها تثبت بطريق التعدي فلم يجعل الشرط علة وإذا رجع شهود الشرط وحدهم يجب أن يضمنوا لما قلنا فأما شهود الاحصان إذا رجعوا فلا يضمنون بحال عندنا خلافا لزفر رحمه الله لان الاحصان لا يتعلق به وجوب ولا وجود فلا يضمنون على ما نبين أن شاء الله (1/317)
وعلى هذا الأصل حفر البئر هو شرط في الحقيقة لان الثقل علة السقوط والمشي سبب محض لكن الأرض كانت مسكة مانعة عمل الثقل فيكون حفر البئر ازالة للمانع وكذلك شق الزق شرط للسيلان لان الزق كان مانعا وكذلك القنديل الثقيل ثقله علة للسقوط و إنما الحبل مانع فإذا قطع الحبل فقد زال المانع فعمل الثقيل عمله فثبت انه شرط لكن العلة ليست بصالحة للحكم لان الثقل طبع لا تعدى فيه والمشي مباح لا شبهة فيه فلم يصلح أن يجعل علة بواسطة الثقل وإذا لم يعارض الشرط ما هو علة والشرط شبه بالعلل لما تعلق به من الوجود اقيم مقام العلة في ضمان النفس والأموال جميعا ولهذا لم يجب على حافر البئر كفارة ولم يحرم الميراث لانه ليس بمباشرة فلا يلزمه جزاؤها واما وضع الحجر واشراع الجناح والحائط المائل بعد الاشهاد فمن قسم الاسباب التي جعلت عللا في الحكم على ما مر لا من هذا القسم وعلى هذا قلنا في الغاصب إذا بذر حنطة غيره في ارض غيره أن الزرع للغاصب وان كان التغير بطبع الأرض والماء والهواء واما الالقاء فشرط لكن العلة لما كان معنى مسخرا إلا اختيار له لم يصلح علة مع وجود فعل عن اختيار وان كان شرطا فجعل للشرط حكم العلل واما الشرط الذي له حكم الاسباب فان يعترض عليه فعل مختار غير منسوب اليه وان يكون سابقا عليه وذلك مثل رجل حل قيد عبد حتى ابق لم يضمن قيمته باتفاق اصحابنا لان المانع من إلا باق هو القيد فكان حله ازالة للمبالغ فكان شرطا في الحقيقة الا انه لما سبق الا باق الذي هو علة التلف نزل منزلة الاسباب فالسبب مما يتقدم والشرط مما يتأخر ثم هو سبب محض لانه اعترض عليه ما هو علة قائمة بنفسها غير حادثة بالشرط وكان هذا كمن ارسل دابة في الطريق فجالت ثم اتلفت شيئا لم يضمنه المرسل إلا أن المرسل صاحب سبب في الأصل وهذا صاحب شرط جعل مسببا وإذا انفلتت الدابة فتلفت زرعا بالنهار كان هدرا وكذلك بالليل عندنا لان صاحب الدابة ليس بصاحب شرط ولا سبب ولا علة وقال أبو حنيفة وابو يوسف رحمهما الله فيمن فتح باب قفص فطار الطير أو باب اصطبل فخرجت الدابة فضلت انه لا يضمن لان هذا شرط جرى مجرى السبب لما قلنا وقد (1/318)
اعترض عليه فعل مختار فبقى الأول سببا خالصا فلم يجعل التلف مضافا اليه بخلاف السقوط في البئر لانه لا ختيار له في السقوط حتى إذا اسقط نفسه فدمه هدر كمن مشى على قنطرة واهية وضعت بغير حق فخسف به أو على موضع رش الماء عليه فزلق فعطب هدر دمه لان الالقاء هو العلة وقد صلح لاضافة الحكم وقال محمد رحمه الله طيران الطير هدر شرعا وكذلك فعل كل بهيمة فيجعل كالخارج بلا اختيار وصار كسيلان ما في الزق فان خرج على فور الفتح وجب الضمان على صاحب الشرط والجواب عنه أن فعل البهيمة لا تعتبر لايجاب حكم ما فأما القطعة فنعم كالكلب تميل عن سنن الارسال و كالدابة تجول بعد الارسال فكذلك هذا ولهذا قلنا فيمن حفر بئرا فوقع فيها انسان ثم اختلف الولي والحافر فقال الولي سقط وقال الآخر اسقط نفسه أن القول قول الحافر استحسانا لما قلنا أن الحفر شرط جعل خلفا عن العلة لتعذر نسبة الحكم إلى العلة فإذا ادعى صاحب الشرط أن العلة صالحة لاضافة الحكم اليها فقد تمسك بالاصل وجحد حكما ضروريا فجعلنا القول قوله بخلاف الجارح إذا ادعى الموت بسبب اخر لم يصدق لانه صاحب علة ولهذا قلنا في الجامع الصغير فيمن اشلى كلبا على صيد مملوك فقتله أو على نفس فقتلها أو مزق ثياب رجل لم يضمن لانه صاحب سبب و قد اعترض عليه فعل مختار غير مضاف اليه لان الكلب يعمل بطبعه وليس الذي اشلاه بسائق بخلاف ما إذا اشلى على صيد فقتله أن صاحبه جعل كأنه ذبحه بنفسه لان الاصطياد من المكاسب في الجملة فبنى على نفي الحرج وقدر الإمكان ووجب المصير في ضمان العدوان آلى محض القياس ولهذا قلنا فيمن القى نارا في الطريق فهبت به الريح ثم احرقت لم يضمن وإذا القى شيئا من الهوام في الطريق فتحركت وانتقلت ثم لدغت لم يضمن وبعض هذه المسائل تخرج على ما سبق في باب تقسيم الاسباب فهي ملحقة بذلك الباب و إما الذي هو شرط اسما لاحكما فان كل حكم تعلق بشرطين فان اولهما شرط اسما لا حكما لان حكم الشرط أن يضاف الوجود اليه وذلك مضاف إلى آخرهما فلم يكن الأول شرطا لا اسما ولهذا قلنا فيمن قال لامرأته أن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق ثم ابانها ثم دخلت احديهما ثم نكحها ثم دخلت (1/319)
الثانية إنها تطلق خلافا لزفر رحمه الله لان الملك شرط عند وجود الشرط الصحة وجود الجزاء لا لصحة وجود الشرط ولم يوجد ههنا جزاء فيفتقر إلى الملك فلم يجز أن يجعل الملك شرطا لغير الشرط لان عينه لا يفتقر إلى الملك ولم يجز شرطه لبقاء اليمين كما قبل الشرط الأول فأما الشرط الذي هو علامة فالاحصان في باب الزنا وانما قلنا انه علامة لان حكم الشرط أن يمنع انعقاد العلة إلى أن يوجد الشرط وهذا لا يكون في الزنا بحال لان الزنا إذا وجد لم يتوقف حكمه على احصان يحدث بعده لكن الاحصان إذا ثبت كان معرفا لحكم الزنا فأما أن يوجد الزنى بصورته فيتوقف انعقاده علة على وجود الاحصان فلا يثبت انه علامة وليس بشرط فلم يصلح علة للوجود ولا للوجوب ولذلك لم يجعل له حكم العلل بحال ولذلك لم يضمن شهود الاحصان إذا رجعوا على حال بخلاف ما تقدم في مسألة الشرط الخالص ولهذا قلنا أن الاحصان يثبت بشهادة النساء مع الرجال ولم يشترط فيه الذكور الخالصة لما لم يثبت به وجوب عقوبة ولا وجودها فان قيل إذا شهد كافران على عبد مسلم أن مولاه اعتقه وقد زنا العبد أو قذف فأنكر العبد والمولى ذلك والمولى كافر فإن الشهادة لا تقبل وقد شهدوا على المولى وهو كافر ولم يشهدوا على العبد بشيء على ما قلتم انه لا ينسب اليه وجود ولا وجوب فهلا قبلت هذه الشهادة والجواب عنه أن لشهادة النساء مع الرجال خصوصا المشهود به دون المشهود عليه وخصوصها إنها لا تصلح لايجاب عقوبة وقد بينا انه لم يتعلق بها وجوب ولا وجود ولكن في هذه الحجة تكثير محل لجناية وفي ذلك ضرر زائد وشهادة هؤلاء حجة لايجاب الضرر إذا لم يكن حد أو عقوبة و لشهادة الكفار اختصاص في حق المشهود عليه دون المشهود به وقد تضمنت شهادتهم تكثير محل الجناية وفي ذلك ضررا بالمشهود عليه ولا يجوز ايجاب الضرر على المسلم بشهادة الكفار أبدا وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله أن شهادة القابلة على الولادة تقبل من غير فراش قائم ولا حبل ظاهر ولا إقرار بالحبل لان شهادة القابلة حجة في تعيين الولد بلا خلاف ولم يوجد ههنا إلا التعيين فأما النسب فإنما ثبت بالفراش فيكون انفصاله معرفا لا يتعلق به وجوب السبب ولا وجوده كما في حال (1/320)
قيام الفراش أو ظهور الحبل والاقرار به والجواب عنه لابي حنيفة رحمه الله أن الفراش إذا لم يكن قائما ولا حبل ظاهر ولا إقرار به كان ثبوت نسبه وهو باطن لا يستند إلى سبب ظاهر حكما ثانيا في حق صاحب الشرع فأما في حقنا فلا فبقي مضافا إلى الولادة فشرط لاثباتها كمال الحجة فأما عند قيام الفراش الحبل فقد وجد دليل قيام السبب ظاهر فصلح أن يكون الولادة معرفة وإذا علق بالولادة طلاق أو عتاق وقد شهدت امراتها حال قيام الفراش وقع ما علق به عندهما لان ذلك غير مقصود بشهادتها وقد يثبت الولادة بشهادتها فيثبت ما كان تبعا له وكذلك قالا في استهلال الصبي انه تبع للولادة فاخذ أبو حنيفة رحمه الله فيه بحقيقة القياس أن الوجود من احكام الشرط فلا ثبت إلا بكمال الحجة والولادة لم يثبت بشهادة القابلة مطلقا فلا يتعدى إلى التوابع كشهادة المرأة على أن هذه الأمة ثيب و قد اشتراها رجل على إنها بكر إنها لا ترد على البايع بل يستخلف البايع وان كان قبل القبض فكذلك والله اعلم بالصواب باب تقسيم العلامة
إما العلامة فما يكون علما على الوجود على ما قلنا وقد تسمى العلامة شرطا وذلك مثل الاحصان في الزنا على ما قلنا فصارت العلامة نوعا واحدا وقد قال الشافعي في مسألة القذف أن العجز عن اقامة البينة على زنا المقذوف علامة لجنايته لا شرط بل هو معرف فيكون سقوط الشهادة سابقا عليه لانه أمر حكمي بخلاف الجلد لانه فعل وذلك أن القذف كبيرة وهتك لعرض المسلم والاصل في المسلم العفة فصار كبيرة بنفسه بناء على هذا الأصل والعجز معرف والجواب عنه أن الثابت بالكتاب فيجزاء هذه الجملة فعل كله وهو الجلد وابطال الشهادة إلا ترى إلى قوله عز و جل ولا تقبلوا عطفا على قوله فاجلدوهم وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجعل معرفا كما لم يجعل كذلك في حق الجلد واصل ذلك انا نحتاج في العمل بالتعريف إلى أن يثبت أن القذف بنفسه كبيرة وليس كذلك لان البينة على ذلك مقبولة حسبة في اقامة (1/321)
حد الزنا فيكف يكون كبيرة مع هذا الاحتمال فأما قوله أن العفة اصل فنعم لكنه لا يصلح علة للاستحقاق ولو صلح لذلك لما قبلت البينة ابدا لكن الاطلاق لما كان بشرط الحسبة وذلك لا يحل إلا بشهود حضور وجب تأخيره إلى ما يتمكن به من احضار الشهود وذلك إلى آخر المجلس أو إلى ما يراه الأمام ثم لم يؤخر حكم قد ظهر لما يحتمل الوجود فإذا اقيم عليه الحد ثم جاء ببينة يشهدون على الزنا قبلناها واقمنا على المشهود عليه حد الزنا وابطلنا على القاذف رد الشهادة وان كان تقادم العهد لم نقم الحد على المشهود عليه وابطلنا رد الشهادة عن القاذف كذلك ذكره في المنتقى غير فصل التقادم ويتصل بهذه الجملة باب بيان العقل
وما يتصل به من اهلية البشر اختلف الناس في العقل اهو من العلل الموجبة ام لا فقالت المعتزلة أن العقل علة موجبة لما استحسنه محرمة لما استقبحه على القطع و البتات فوق العلل الشرعية فلم يجوزا أن يثبت بدليل الشرع ما لا يدركه العقول أو تقبحه وجعلوا الخطاب متوجها بنفس العقل وقالوا لا عذر لمن عقل صغير كان أو كبير في الوقف عن الطلب وترك الإيمان وقالوا الصبي العاقل مكلف على الإيمان وقالوا فيمن لم يبلغه الدعوة فلم يعتقد ايمانا ولا كفر أو غفل عنه انه من أهل النار وقالت الاشعرية أن لا عبرة بالعقل اصلا دون السمع وإذا جاء السمع فله العبرة لا للعقل وهو قول بعض أصحاب الشافعي رحمه الله حتى ابطلوا ايمان الصبي وقالت الاشعرية فيمن لم يبلغه الدعوة فغفل عن الاعتقاد حتى هلك انه معذور قالوا ولو اعتقد الشرك ولم يبلغه الدعوة انه معذور ايضا وهذا الفصل اعنى أن يجعل شركه معذورا تجاوز عن الحد كما تجاوزت المعتزلة عن الحد في الطرف الآخر والقول الصحيح في الباب هو قولنا أن العقل معتبر لاثبات الاهلية وهو من اعز النعم خلق متفاوتا في اصل القسمة وقد مر تفسيره قبل هذا انه نور في بدن الادمى مثل الشمس في ملكوت (1/322)
الأرض تضيء به الطريق الذي مبدأه من حيث ينقطع اليه اثر الحواس ثم هو عاجز بنفسه وإذا وضح لناالطريق كان الدرك للقلب بفهمه كشمس الملكوت الظاهر إذا بزغت وبدا شعاعها ووضح الطريق كان العين مدركة بشهابها وما بالعقل كفاية بحال في كل لحظة ولذلك قلنا في الصبي العاقل لانه لا يكلف بالايمان حتى إذا عقلت المراهقة ولم تصف وهي تحت زوج مسلم بين ابوين مسلمين لم تجعل مرتدة ولم تبن من زوجها ولو بلغت كذلك لبانت من زوجها ولو عقلت وهي مراهقة فوصفت الكفر كانت مرتدة وبانت من زوجها ذكر ذلك في الجامع الكبير فعلم انه غير مكلف وكذلك يقول في الذي لم يبلغه الدعوة انه غير مكلف بمجرد العقل وانه إذا لم يصف ايمانا وكفرا ولم يعتقده على شىء كان معذورا واذا وصف الكفر و عقده او عقد و لم يصفه لم يكن معذورا و كان من أهل النار مخلدا على نحو ما وصفنا في الصبر و معنى قولنا انه لا يكلف بمجرد العقل نريد انه اذا أعانه الله تعالى بالتجربة و الهمة و امهله لدرك العواقب لم يكن معذورا وان لم يبلغه الدعوة على ما قال أبو حنيفة رحمه الله في السفيه اذا بلغ خمس و عشرين سنة لم يمنع منه ماله لانه قد أستوفى مدة التجربة والامتحان فلا بد من أن يزداد به رشد او ليس على الحد في هذا الباب ليل قاطع فمن جعل العقل حجة موجبة يمتنع الشرع بخلافه فليس معه دليل يعتمد عليه سوى امور ظاهرة فسلمها له ومن الغاه من كل وجه فلا دليل له ايضا وهو قول الشافعي رحمه الله فإنه قال في قوم لم يبلغهم الدعوة إذا قتلوا ضمنوا فجعل كفرهم عفوا ومن كان فيهم من حمله نم تعذر على ما فسرنا لم يستوجب عصمة بدون دار الإسلام وذلك لانه لا يجد في الشرع أن العقل غير معتبر لاهليته فإنما يلغيه بطريق دلالة الاجتهاد المعقول فيتناقض مذهبه وان العقل لا ينفك عن الهوى فلا يصلح حجة بنفسه بحال وانما وجب نسبة الأحكام إلى العلل تيسيرا على العباد من غير أن يكون عللا بذواتها وان يجعل العقل علة بنفسه وهو باطن فيه حرج عظيم فلم يجز ذلك والله اعلم وإذا ثبت أن العقل من صفات الاهلية قلنا أن الكلام في هذا ينقسم إلى قسمين الاهلية والامور (1/323)
المعترضة على الاهلية باب بيان الاهلية
وما يتصل بها الاهلية ضربان اهلية وجوب واهلية اداء إما اهلية الوجوب فينقسم فروعها واصلها واحد وهو الصلاح للحكم فمن كان اهلا لحكم الوجوب بوجه كان هو اهلا للوجوب ومن لا فلا واهلية الاداء نوعان كامل يصلح للزوم العهدة و قاصر لا يصلح للزوم العهدة إما اهلية الوجوب فبناء على قيام الذمة وان الادمي يولد وله ذمة صالحة للوجوب باجماع الفقهاء رحمهم الله بناء على العهد الماضي قال الله تعالى وإذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم الاية وقال تعالى وكل انسان الزمناه طائره في عنقه والذمة العهد وانما يراد به نفس ورقبة لها ذمة وعهد حتى أن ولى الصبي إذا اشترى للصبي كما ولد لزمه الثمن وقبل الانفصال هو جزء من وجه فلم يكن له ذمة مطلقة حتى صلح ليجب له الحق ولم يجب عليه وإذا انفصل فظهرت ذمته ملطقة كان أهلا بذمته للوجوب غير أن الوجوب غير مقصود بنفسه فيجوزان تبطل لعدم حكمه وغرضه فكما ينعدم الوجوب لعدم محله فكذلك يجوزان ينعدم لعدم حكمه ايضا فيصير هذا القسم منقسما بانقسام الأحكام وقد مر التقسيم قبل هذا في أول الفصل فأما في حقوق العباد فما كان منها غرما وعوضا فالصبي من أهل وجوبه لان حكمه وهو اداء العين يحتمل النيابة لان المال مقصود لا الاداء فوجب القول بالوجوب عليه متى صح سببه وما كان صلة لها شبه بالمؤن و هي نفقة الزوجات والقرابات لزمه ايضا الزوجات فلها شبه بالاعواض واما الأخرى فمؤنة اليسار وكل صلة له شبه بالاجزية لم يكن الصبي من اهله مثل تحمل العقل لانه لا يخلو عن صفة الجزاء مقابلا بالكف عن الاخذ على يد الظالم ولذلك اختص به الرجال العشاير وما كان عقوبة أو جزاء لم يجب عليه على ما مر لانه لا يصلح لحكمه فبطل القول بلزومه وكذلك القول في حقوق الله تعالى على الإجمال أن الوجوب لازم متى صح بحكمه ومتى بطل القول بحكمه بطل بوجوبه وان صح سببه القول ومحله لان الوجوب (1/324)
كما ينعدم مرة لعدم سببه لعدم محله فينعدم أيضا لعدم حكمه وقد مر تقسيم هذه الجملة ايضا فأما الإيمان فلا يجب على الصبي قبل أن يعقل لما قلنا من عدم اهلية الاداء وكذلك العبادات الخالصة المتعلقة بالبدن أو بالمال لا يجب عليه وأن وجد سببها ومحلها لعدم الحكم وهو الاداء لان الاداء هو المقصود في حقوق الله تعالى وذلك فعل يحصل عن اختيار على سبيل التعظيم تحقيقا للابتلاء والصغر ينافيه وما يتادى بالنائب لايصلح طاعة لانها نيابة جبر لا اختيار فلو وجب مع ذلك لصار المال مقصودا وذلك باطل في جنس القرب فلذلك لم يلزمه الزكاة والصلاة والحج والصوم وما يشوبه معنى المؤنة مثل صدقة الفطر لم يلزمه عند محمد رحمه الله لما قلنا ولزمه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله اجتزاء بالاهلية القاصرة والاختيار القاصر وذلك بواسطة الولي ولزمه ما كان مؤنة في الأصل وهو العشر والخراج لما ذكرنا وما كان عقوبة لم يجب اصلا لعدم حكمه ولهذا كان الكافر اهلا لاحكام لا يراد بها وجه الله تعالى لانه أهل لادائها فكان اهلا للوجوب له وعليه ولما لم يكن اهلا لثواب الاخرة لم يكن اهلا لوجوب شيء من الشرائع التي هي طاعات الله تعالى عز و جل عليه و كان الخطاب بها موضوعا عنه عندنا و لزمه الايمان بالله تعالى لما كان اهلا لادائه ووجوب حكمه ولم يجعل مخاطبا بالشرائع بشرط تقديم الإيمان لانه رأس أسباب اهلية احكام نعيم الاخرة فلم يصلح أن يجعل شرطا مقتضيا وقد قال بعض مشائخنا رحمهم الله بوجوب كل الأحكام والعبادات على الصبي لقيام الذمة وصحة الاسباب ثم السقوط بعذر الحرج قال الشيخ الأمام رضي الله عنه وقد كنا عليه مدة لكنا تركناه بهذا القول الذي اخترناه وهذا اسلم الطريقين صورة ومعنى وتقليدا وحجة ولذلك قلنا في الصبي إذا بلغ ف يبعض شهر رمضان انه لا يقضي ما مضى وكذلك نقول في الحائض أن الصوم يلزمها الاحتمال الاداء ثم النقل إلى البدل وهو القضاء لان الحرج لما عدم في ذلك بقي الحكم فوجب القول بالوجوب واما الصلاة فقد بطل الاداء لما فيه من الحرج فبطل الوجوب لعدم حكمه مع قيام محل الوجوب وقيام سببه وكذلك وكذلك قولنا في الجنون إذا امتد فصار لزوم الاداء يؤدي إلى الحرج فبطل القول بالأداء وبطل القول بالوجوب (1/325)
لعدم الحكم ايضا هذا في الصلوات والصيام معا وإذا لم يمتد في شهر رمضان لزمه اصله لإحتمال حكمه وإذا عقل الصبي واحتمل الاداء قلنا بوجوب اصل الإيمان دون ادائه حتى صح الاداء وذلك لما عرف أن الوجوب جبر من الله تعالى باسباب وضعت الأحكام إذا لم يخل الوجوب عن حكمه وليس في الوجوب تكليف وخطاب وانما ذلك في الاداء ولا خطاب ولا تكليف على الصبي بمجرد العقل حتى تبلغ فثبت انه غير مخاطب بالايمان لكن صحة الاداء يبتني على كون الشيء مشروعا وعلى قدرة الاداء لا على الخطاب والتكليف كالمسافر يؤدي الجمعة من غير خطاب ولا تكليف والاغماء لما لم يناف حكم وجوب الصوم لم يناف وجوبه وكان منافيا لحكم وجوب الصلاة إذا امتد فكان منافيا لوجوبه والنوم لما لم يكن منافيا لحكم الوجوب إذا انتبه لم يكن منافيا للوجوب ايضا باب اهلية الاداء
واما اهلية الاداء فنوعان قاصر وكامل إما القاصر فيثبت بقدرة البدن إذا كانت قاصرة قبل البلوغ وكذلك بعد البلوغ فيمن كان معتوها لانه بمنزلة الصبي لانه عاقل لم يعتدل عقله واصل العقل يعرف بدلالة العيان وذلك ان يختار المرء ما يصلح له بدرك العواقب المشهورة فيما ياتيه و يذره و كذلك القصور يعرف بالأمتحان فاما الاعتدالقاصر يتفاوت فيه البشر فاذا ترقى عن رتبة القصور قيم البلوغ مقام الاعتدال في احكام الشرع والاحكام في هذا الباب منقسمة على ما مر فاما حقوق الله تعالى فمنه ما هو حسن لا يحتمل غيره ولا عهده فيه بوجه و هو الأيمان بالله تعالى فمنه ما هو حسن لا يحتمل غيره ولا عهده فيه بوجه و هو الايمان بالله تعالى فوجب القوان بصحته من الصبي لما ثبت اهلية اداءه ووجد منه بحقيقته لان الشىء اذا وجد بحقيقته لم ينعدم الا بحجر من الشرع وذلك في الايمان باطل لما قلنا انه حسن لا يحتمل غيره و لا عهده فيه الا لزومه ادئه وذلك يحتمل الوضع فوضع عنه فأما الاداء فخال عن العهدة لان حرمان الارث يضاف إلى الكفر الباقي وكذلك الفرقة ولان ما يلزمه بعد الإيمان فمن ثمراته وانما يتعرف صحة الشيء من حكمه الذي وضع له وهو سعادة الاخرة لا من ثمراته إلا إنها تلزمه (1/326)
إذا اثبت له الحكم الإيمان تبعا لغيره ولم يعد عهدة ومنه ما هو قبيح لا يحتمل غيره وهو الجهل بالصانع والكفر به إلا يرى انه لا يرد علمه بوالديه فكيف يرد علمه بالله تعالى وكذلك الجهل بغير الله تعالى لا يعد منه علما فكيف الجهل بالله تعالى وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجعل ردته عفوا بل كان صحيحا في احكام الاخرة وما يلزمه من احكام الدنيا بالردة فإنما يلزمه حكما لصحته لا قصدا اليه فلم يصلح العفو عن مثله كما إذا ثبت تبعا ومن ذلك ما هو بين هذين القسمين فقلنا فيه بصحة الاداء من غير عهدة حتى قلنا بسقوط الوجوب في الكل لان اللزوم لا يخلو عن العهدة وقد شرعت بدون ذلك الوصف وقلنا بصحتها تطوعا بلا لزوم مضى ولا وجوب قضاء لانها قد شرعت كذلك إلا يرى أن البالغ إذا شرع فيها على ظن إنها عليه وليست عليه أن اللزوم يبطل عنه وكذلك إذا شرع في الاحرام على هذا الوجه ثم احصر فلا قضاء عليه فقلنا في الصبي إذا احرم صح منه بلا عهدة حتى إذا ارتكب محظورا لم يلزمه وقلنا في الصبي إذا ارتد أن لا يقتل وان صحت ردته عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لان القتل يجب بالمحاربة لا بعين الردة ولم يوجد فاشبه ردة المرأة فأما ما كان من غير حقوق الله تعالى فثلاثة اقسام ايضا ما هو نفع محض وما هو ضرر محض وما هو دائر بينهما إما النفع المحض فيصح منه مباشرته لان الاهلية القاصرة والقدرة القاصرة كافية لجواز الاداء إلا يرى أن مباشرة النوافل منه صحت لما قلنا وفي ذلك جاءت السنة المعروفة قال النبي صلى الله عليه و سلم مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا وانما هذا ضرب تأديب وتعزير لا عقوبة فكذلك ما هو نفع محض من التصرفات مثل قبول الهبة وقبول الصدقة وذلك مثل قبول بدل الخلع من العبد المحجور بغير اذن المولى فانه يصح وكذلك إذا اجر الصبي المحجور نفسه ومضى على العمل وجب الاجر للحر استحسانا ووجب للعبد بشرط السلامة ولا يشترط السلامة في الصبي الحر وكذلك العبد إذا قاتل بغير اذن المولى والصبي بغير إذن الولى استوجب الرضخ استحسانا ويحتمل أن يكون هذا قول محمد رحمه الله فانه لم يذكر إلا في السير الكبير ووجب القول بصحة عبارة الصبي في بيع مال غيره وطلاق غيره (1/327)
أو عتاق غيره إذا كان وكيلا لأن الآدمي يكرم لصحة العبارة وعلم البيان قال الله تعالى علمه البيان فكان القول بصحته من أعظم المنافع الخالصة وفي ذلك يوصل إلى درك المضار والمنافع واهتداء في التجارة بالتجربة قال الله تعالى وابتلوا اليتامى واما ما كان ضررا محضا فليس بمشروع في حقه فبطلت مباشرته وذلك مثل الطلاق والعتاق والهبة والقرض والصدقة ولم يملك ذلك عليه غيره ما خلا القرض فإنه ملك القاضي عليه لأن صيانة الحقوق لما كانت بولاية القضاء انقلب القرض بحال القضاء نفعا محضا لا يشوبه مضرة لأن العين غير مأمون العطب والدين مأمون العطب إلا من قبل التوى وقد وقع إلا من عنه بولاية القضاء فصار ملحقا بهذا الشر بالمنافع الخالصة واما ما يتردد بين النفع والضرر مثل البيع والإجارة والنكاح وما أشبه ذلك فإنه لا يملكه بنفسه لما فيه من الاحتمال وملكه برأي الولي لأنه أهل لحكمة بمباشرة الولي وقد صار أهلا يتصور منه المباشرة فإذا صار أهلا للحكم كان أهلا للسبب لا محالة وفي القول بصحة مباشرته برأي الولي أصابه مثل ما يصاب بمباشرة الولي لا محالة مع فضل نفع البيان وتوسيع طريق الإصابة وذلك بطريق أن احتمال الضرر في التصرف يزول برأي الولي حتى يجعل الصبي كالبالغ وذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله ألا يرى أنه صحح بيعه بغبن فاحش من الأجانب والولي لا يملكه وذلك باعتبار أن نقصان رأيه جبر برأي الولي فصار كالبالغ وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله بطريق أن رأي الولي شرط للجواز وعموم رأيه لخصوصه فجعل كان الولي باشر بنفسه ولذلك قالا لا يملكه بالغبن الفاحش مع الأجانب ومع الولي وعن أبي حنيفة رحمه الله في التصرف مع الولي روايتان في الغبن الفاحش في رواية اجاز لما قلنا وفي رواية أبطله بشرط النيابة وذلك أنه في الملك أصيل وفي الرأي أصيل من وجه دون وجه ألا يرى أن له أصل الرأي دون وصفه فيثبت شبهة النيابة فاعتبرت في موضع التهمة وسقطت في غير موضع التهمة وعلى هذا قلنا في المحجور إذا توكل لم يلزمه العهدة وبإذن الولي يلزمه واما إذا أوصى الصبي بشيء من وصايا البر بطلت وصيته عندنا وإن كان فيها نفع ظاهر لأن الإرث شرع نفعا للمورث ألا يرى أنه شرع في حق الصبي وفي الانتقال إلى الإيصاء ترك الأفضل لا محالة إلا (1/328)
أنه مشروع في حق البالغ كما شرع له الطلاق في النكاح ولم يشرع في حق الصغير فكذلك هذا ولذلك قلنا لا يجوز أن يخير الصبي بين الأبوين بعد الفرقة لأنه من جنس ما يتردد بين الضرر والنفع والغالب من حاله الميل إلى الهوى والشهوة والولي في موضع النزاع ليس بولي فبطل اختياره وقد خالفنا الشافعي رحمه الله في هذه الجملة خلافا متناقضا لا يستقيم على شيء من أصول الفقه وكفى به حجة عليه ولم يعتد بخلافه لأنه قد قال بصحة كثير من عباراته في اختيار أحد الأبوين وفي الإيصاء وفي العبادات وقال بلزوم الإحرام من غير نفع وأبطل الإيمان وهو نفع محض وليس له في شيء من ذلك الأشياء موضوعا وهو أن من كان موليا عليه لم يصلح وليا لأن أحدهما سمة العجز والباقي آية القدرة وهما متضادان فأجرى هذا الأصل في الفروع فطرده لا فقه معقول فقال يصح اختيار أحد الأبوين ولا يصح اختيار الولي عليه وكذلك قبول الهبة في قول صحيح منه دون الولي وفي قول عكسه ولا فقه فيه لأنه بين الأمر على دليل الصحة والعدم من الصبي وعندنا لما كان قاصر الأهلية صلح موليا عليه ولما كان صاحب أصل الأهلية صلح وليا ومتى جعلناه موليا عليه لم نجعله وليا فيه وإنما هذا عبارة عن الاحتمال وهو راجح إلى توسع طريق النيل والإصابة وذلك هو المقصود لأن المقصود من الأسباب أحكامها فوجب احتمال هذا التردد في السبب لسلامة الحكم على الكمال وإنما الأمور بعواقبها والله أعلم بالصواب باب الأمور المعترضة على الأهلية
والعوارض نوعان سماوي ومكتسب أما السماوي فهو الصغر والجنون والعته والنسيان والنوم والإغماء والمرض والرق والحيض والنفاس والموت وأما المكتسب فإنه نوعان منه ومن غيره أما الذي منه فالجهل والسكر والهزل والسفه والخطأ والسفر وأما الذي من غيره فالإكراه بما فيه الجاء وبما ليس فيه الجاء أما الجنون فإنه في القياس مسقط للعبادات كلها لأنه ينافي القدرة فينعدم به الأداء فينعدم الوجوب لإنعدامه لكنهم (1/329)
استحسنوا فيه إذا زال قبل الامتداد فجعلوه عفوا وألحقوه والنوم والإغماء وذلك لما كان منافيا لأهلية الأداء كان القياس فيه ما قلنا ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام عصموا عنه لكنه إذا لم يمتد لم يكن موجبا حرجا على ما قلنا وقد اختلفوا فيه فقال أبو يوسف رحمه الله هذا إذا كان عارضا غير أصلي ليلحق بالعوارض فأما إذا بلغ الصبي مجنونا فإذا زال صار في معنى الصبي إذا بلغ وقال محمد رحمه الله هما سواء واعتبر حاله فيما يزول عنه ويلحق بأصله وهو في أصل الخلقة يتفاوت بين مديد وقصير فيلحق هذا الأصل في الحكم الذي لم يستوعبه بالعارض وذلك في الجنون الأصلي إذا زال قبل انسلاخ شهر رمضان وحد الامتداد يختلف باختلاف الطاعات فأما في الصلوات فبان يزيد على يوم وليلة باعتبار الصلوات عند محمد رحمه الله ليصير ستا فيدخل في حد التكرار واقام أبو حنيفة وابو يوسف رحمهما الله الوقت فيه مقام الصلاة تيسيرا فيعتبر الزيادة بالساعات وفي الصوم بأن يستغرق شهر رمضان ولم يعتبر التكرار لأن ذلك لا يثبت إلا بحول وبالزكاة بأن يستغرق الحول محمد رحمه الله وأقام أبو يوسف رحمه الله أكثر الحول مقام كله فما يمتد عملا بالتيسير والتخفيف فإذا زال قيل هذا الحد وهو أصلي كان على هذا الاختلاف بيننا من قبل أن الجنون لا ينافي أهلية الوجوب لأنه لا ينافي الذمة ولا ينافي حكم الواجب وهو الثواب في الآخرة إذا احتمل الأداء ألا يرى أن المجنون يرث ويملك وذلك ولاية إلا أن ينعدم الأداء فيصير الوجوب عدما بناء عليه ولهذا قلنا أن المجنون مؤاخذ بضمان الفعال في الأموال على الكمال لأنه أهل لحكمة على ما قلنا فإذا ثبتت الأهلية كان العارض من أسباب الحجر والحجر عن الأقوال صحيح ففسدت عباراته وقلنا لما لم يصح إيمانه لعدم ركنه وهو العقد والداء أيضا فلم يكن حجرا لأن عدم الحكم العدم لركن ليس من باب الحجر ولكن الإيمان مشروع في حقه حتى صار مؤمنا تبعا لأبويه كذلك قال في الجامع فلم يصح التكليف بوجه إلا في حقوق العباد فإن امرأة المجنون إذا أسلمت عرض الإسلام على ولي المجنون دفعا للظلم بقدر الإمكان وما كان ضررا يحتمل السقوط فغير مشروع في حقه وما كان قبيحا لا يحتمل العفو فثابت في حقه حتى يصير مرتدا تبعا لأبويه (1/330)
واما الصغير في أول احواله فمثل الجنون أيضا لانه عديم العقل والتمييز واما إذا عقل فقد اصاب ضربا من اهلية الاداء لكن الصبي عذر مع ذلك فقد سقط بعذر الصبي ما يحتمل السقوط عن البالغ فقلنا لا يسقط عنه فرضية الإيمان إذا أداه كان فرضا لا نفلا إلا يرى انه إذا امن في صغره لزمه احكام ثبتت بناء على صحة الإيمان وهي جعلت تبعا للايمان الفرض وكذلك إذا بلغ ولم يعد كلمة الشهادة لم يجعل مرتدا ولو كان الأول نفلا لما اجتزئ عن الفرض ووضع عنه التكليف والزام الأداء وجملة إلا مر ما قلنا أن يوضح عنه العهدة ويصح منه وله ما لا عهدة فيه لان الصبا من اسباب المرحمة فجعل سببا للعفو عن كل عهدة تحتمل العفو ولذلك لا يحرم الميراث بالقتل ولا يلزم عليه حرمانه بالكفر والرق لان الرق ينافي الاهلية للارث وكذلك الكفر لانه ينافي اهلية الولاية وانعدام الحق لعدم سببه أو عدم اهليته لا يعد جزاء والعهدة نوعان خالصة لا تلزم الصبي بحال ومشوبة يتوقف لزومها على رأى الولى ولما كان الصبي عجزا صار من اسباب ولاية النظر وقطع ولايته عن الاغيار واما العته بعد البلوغ فمثل الصبي مع العقل في كل الأحكام حتى انه لا يمنع صحة القول والفعل لكنه يمنع العهدة واما ضمان ما يستهلك من المال فليس بعهدة لكنه شرع جبرا وكونه صبيا معدورا و معتوها لا ينافي عصمة المحل ويوضع الخطاب عنه كما وضع عن الصبي ويولي عليه ولا يلي على غيره وانما يفترق الجنون والصغر في أن هذا العارض غير محدود فقيل إذا اسلمت امرأته عرض على ابيه الإسلام أو امه ولا يؤخر والصبي محدود فوجب تأخيره واما الصبي العاقل والمعتوه العاقل لا يفترقان واما النسيان فلا ينافي الوجوب في حق الله تعالى ولكنه يحتمل أن يجعل عذرا ولكن حقوق العباد محترمة لحقهم وحاجتهم لا ابتلاء وحقوق الله تعالى ابتلاء لكن النسيان إذا كان غالبا يلازم الطاعة واما بطريق الدعوة مثل النسيان في الصوم واما باعتبار حال البشر مثل التسمية في الذبيحة جعل من اسباب العفو في حق الله تعالى لانه من جهة صاحب الحق اعترض فجعل سببا للعفو في حقه بخلاف حقوق العباد لان النسيان ليس بعذر من جهتهم والنسيان ضربان ضرب اصلي وضرب يقع فيه المراء بالتقصير وهذا (1/331)
يصلح للعتاب والنسيان في غير الصوم لم يجعل عذرا وكذلك في غير الذبيحة لانه ليس مثل المنصوص عليه في غلبة الوجود فبطلت التعدية حتى أن سلام الناسي لما كان غالبا عد عذرا فأما النوم فعجز عن استعمال قدرة الاحوال فأوجب تأخير الخطاب للأداء لان النوم لا يمتد فلا يكون في وجوب القضاء عليه حرج وإذا كان كذلك فلا يسقط الوجوب قال النبي عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فان ذلك وقتها وينافي الاختيار اصلا حتى بطلت عباراته في الطلاق والعتاق والاسلام وغير ذلك والمصلي إذا قرأ في صلاته وهو نائم في حال قيامه لم يصلح قرائته وإذا تكلم النائم في صلاته لم تفسد صلاته وإذا قهقة النائم في صلاته فقد قيل تفسد صلاته ويكون حدثا وقيل تفسد صلاته ولا يكون حدثا وقيل يكون حدثا ولا تفسد صلاته والصحيح انه لا يكون حدثا لأن القهقهة جعلت حدثا لقبحها في موضع المناجات وسقط ذلك بالنوم ولا يفسد ايضا لان النوم يبطل حكم الكلام واما الاغماء فانه ضرب مرض وفوت قوة حتى كان النبي صلى الله عليه و سلم غير معصوم عنه والاغماء في فوت الاختيار وفي فوت استعمال القدرة مثل النوم حتى منع صحة العبادات وهو اشد منه لان النوم فترة اصلية وهذا عارض ينافي في القوة اصلا إلا يرى أن النائم إذا كان مستقرا لم يكن نومه حدثا لانه بعينه لا يوجب الاسترخاء لا محالة والاغماء بكل حال يكون حدثا و النوم لازم بأصل الخلقة وكان النوم من المضطحع في الصلاة إذا لم يتعمده حدثا لا يمنع البناء والاغماء من العوارض النادرة في الصلاة وهو فوق الحدث فلم يكن يلحق به ومنع البناء على كل حال ويختلفان فيما يجب من حقوق الله تعالى جبر أن الاغماء مرض ينافي القدرة اصلا وقد يحتمل الامتداد على وجه يوجب الحرج فيسقط به الاداء وإذا بطل الاداء بطل الوجوب لما قلنا وهذا استحسان وكان القياس أن لا يسقط به شيء من الواجبات مثل النوم امتداده في الصلاة ان يزيد على يوم وليلة على مافسرنا و في الصوم لا يعتبر امتداده لان أمتداده في الصوم نادر وكذلك في الزكاة في الصلاة غيرنا دور في ذلك جاءت السنة فلم يوجب حرجا و إما الرق فانه عجز حكمي شرع جزاء في الأصل لكنه في لبقاء صار من الأمور الحكمية به (1/332)
يصير المرء عرضة للتملك والابتذال وهو وصف لا تحتمل التجري فقد قال في الجامع في مجهول النسب إذا اقر أن نصفه عبد لفلان انه يجعل عبدا في شهادته وفي جميع احكامه وكذلك العتق الذي هو ضده حتى أن معتق البعض لا يكون حرا اصلا عند أبي حنيفة رحمه الله في شهاداته وسائر احكامه وانما هو مكاتب وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله الاعتاق انفعاله العتق فلا يتصور دونه وإذا لم يكن الانفعال متجزيا لم يكن الفعل متجزيا كالتطليق والطلاق وقال أبو حنيفة رحمه الله العتاق ازالة الملك متجزي تعلق به حكم لا يتجزئ وهو العتق لانه عبارة عن سقوط الرق وسقوط الرق حكم لسقوط كل الملك فإذا سقط بعضه فقد وجد شطر علة العتق وصار ذلك كاعداد الوضوء إنها متجزية تعلق بها اباحة الصلاة وهو غير متجزية وكذلك اعداد الطلاق للتحريم وهذا الرق يبطل مالكية المال لقيام المملوكية مالا حتى لا يملك العبد والمكاتب التسري وحتى لا يصح منها حجة الإسلام لعدم اصل القدرة وهي البدنية لانها للمولى لان ملك الذات يوجب ملك الصفات القائمة لكونها تبعا إلا ما استثنى عليه في سائر القرب البدنية بخلاف الفقير لانه مالك لما يحدث من قدرة الفعل إذا حدثت وهي الاستطاعة الاصلية فأما الزاد والراحلة فلليسر فلم يجب وصح الاداء والرق لا ينافي مالكية غير المال وهو النكاح والدم والحياة وينافي كمال الحال في اهلية الكرامات الموضوعة للبشر في الدنيا مثل الذمة الحل والولاية حتى أن ذمته صعفت برقة فلم يحتمل الدين بنفسها وضمت اليها مالية الرقبة والكسب ولذلك قلنا أن الدين متى ثبت بسبب لا تهمة فيه انه يباع به رقبته مثل دين الاستهلاك ودين التجارة لان حاجتنا إلى ظهور التعلق في حق المولى ثم لا بد من استيفائه من موضعه و اذا لم يثبت في حق المولى تأخر إلى عتقه ولم يتعلق برقبته ولا بكسبه مثل دين ثبت بإقرار المحجور و مثل أن يتزوج امرأة بغير اذن مولاه ويدخل بها لان تقوم البضع إنما يثبت بشبهة عقد عدمت في حق المولى وكذلك الحق انتقص بالرق لانه من كرامات البشر فيتسع بالحرية ويقصر بالرق إلى النصف حتى لا ينكح العبد الا امرأتين و كذلك حال النساء يقصر بالرق الى النصف حتى صح نكاح الامة اذا تقدم على الحرة ولا يصح إذا تأخر وقارن لتعذر التنصيف (1/333)
في المقارنة و العدة يتنصف لكن الواحدة لا تقبل التصنيف فيتكامل لكن عدد الطلاق لما كان عبارة عن النساء المملوكية اعتبر بالنساء و عدد الأنكحة لما كان عبارة عن اتساع المالكية اعتبر فيه رق الرجال و حريتهم فكان الطلاق بالنساء و لذلك يتنصف الحدود في حق العبد و لذلك انتقضت قيمة نفسه لما قلنا من انتقاص المالكية كما انتقضت بالأنوثة فوجب نقصان بدل دمه عن الدية لكن نقصان الانوثة في أحد ضربي المالكية بالعدم فوجب التنصيف وهذا نقصان في أحدهما لا بالعدم إلا يرى أن العبد ليس بأهل لملك المال لكنه أهل للتصرف في المال أهل الاستحقاق اليد على المال فوجب القول بنقصان في الدية وهذا عندنا في المأذون انه يتصرف لنفسه ويجب له اليد بالاذن غير لازمة وبالكتابة يد لازمة وقال الشافعي رحمه الله لما لم يكن اهلا للملك لم يكن اهلا لسببه لان السبب شرع لحكمة ولم يكن اهلا لاستحقاق اليد ايضا قلنا أن اهلية التكلم غير ساقطة بالإجماع وكذلك الذمة مملوكة للعبد قابلة للدين وإذا صار اهلا للحاجة كان اهلا للقضاء وادنى طرقه اليد وهو الحكم الاصلي لان الملك ضرب قدرة شرع للضرورة وكذلك ملك اليد بنفسه غير مال إلا يرى أن الحيوان يثبت دينا في الذمة في الكتابة وإذا كان كذلك كان العبد اصلا في حكم العقد الذي هو محكم والمولى يخلفه فيما هو من الزوائد وهو الملك ولذلك جعلنا العبد في حكم العبد في حكم الملك وفي حكم بقاء الآذن كالوكيل في مسائل مرض المولى وعامة مسائل المأذون والرق لا يؤثر في عصمة الدم وانما يؤثر في قيمته وانما العصمة بالايمان ودار الإيمان والعبد فيه مثل الحر ولذلك قتل الحر بالعبد قصاصا واوجب الرق نقصا في الجهاد لما قلنا في الحج أن الاستطاعة للجهاد والحج غير مستثناة على الولي ولذلك قلنا لا يستوجب السهم الكامل وانقطعت الولايات كلها بالرق لانه عجز ولذلك بطل أمانة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لانه ينصرف على الناس ابتداء ولانه غير مالك للجهاد اصلا وإذا كان مأذونا بالجهاد لم يصر اهلا للولاية لكن إلامان بالاذن يخرج عن اقسام الولاية من قبل انه صار شريكا في الغنيمة فلزمه ثم تعدى فلم يكن من باب الولاية مثل شهادته بهلال رمضان وعلى هذا الأصل صح اقراره بالحدود والقصاص وصح (1/334)
بالسرقة المستهلكة وبالقائمة صح من المأذون وفي المحجور اختلاف معروف عند أبي حنيفة رحمه الله يصح بهما وعند محمد رحمه الله لا يصح بهما وعند أبي يوسف رحمه الله يصح بالحد دون المال وذلك إذا كذبه المولى وعلى هذا الأصل قلنا في جنايات العبد خطأ أن رقبته يصير جزاء لان العبد ليس من أهل ضمان ما ليس بمال ولكنه صلة إلا أن يشاء المولى الفداء فيصير عائدا إلى الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله حتى لا يبطل بالافلاس وعندهما يصير بمعنى الحوالة وهذا اصل لا يحصى فروعه واما المرض فانه لا ينافي اهلية الحكم ولا اهلية العبارة ولكنه لما كان سبب الموت والموت عجز خالص كان المرض من اسباب العجز ولما كان الموت علة الخلافة كان المرض من اسباب تعلق حق الوارث والغريم بماله ولما كان عجزا شرعت العبادات عليه بقدر المكنة و لما كان من اسباب تعلق الحقوق فكان من اسباب الحجر بقدر ما يقع به صيانة الحق حتى لا يؤثر المرض فيما لا يتعلق به حق غريم ولا وارث وانما يثبت به الحجر إذا اتصل بالموت مستندا إلى اوله فقيل كل تصرف واقع يحتمل الفسخ فان القول بصحته واجب للحال ثم التدارك بالنقص أن احتيج اليه مثل الهبة وبيع المحاباة وكل تصرف لا يحتمل النقص جعل كالمتعلق بالموت كالاعتاق إذا وقع على حق الغريم أو الوارث وكان القياس أن لا يملك المريض الايصار لما قلنا لكن الشرع جوز ذلك نظرا له بقدر الثلث استخلاصا على الورثة بالقليل ليعلم أن الحجر والتهمة فيه اصل ولما تولى الشرع الايصاء للورثة وابطل ايصاءه لهم بطل ذلك صورة ومعنى وحقيقة وشبهة حتى لا تصح منه البيع اصلا عند أبي حنيفة رحمه الله وبطلت اقاريره له للتهمة لان شبهة الحرام حرام ولم يصح اقراره باستيفاء دينه من الوارث وان لزمه في صحته وتقومت الجودة في حقهم لتهمة العدول عن خلاف الجنس كما تقومت فيحق الصغار وحجر المريض عن الصلة إلا من الثلث لما قلنا ذلك ولذلك قلنا اذا ادى في مرض موته وكذلك إذا اوصى بذلك عندنا ولما تعلق حق الغرماء والورثة بالمال صورة ومعنى في حق أنفسهم ومعنى في حق غيرهم صار اعتاقه واقعا على محل مشغول بعينه بخلاف اعتاق الراهن لان حق المرتهن في ملك اليد دون (1/335)
ملك الرقبة فلذلك نفذ هذا ولم ينفذ ذلك وهذا اصل لا تحصى فروعه واما الحيض و النفاس فانهما لا يعدمان اهلية بوجه لكن الطهارة للصلاة شرط وقد شرعت بصفة اليسر الاداء وفي وضع الحيض والنفاس وما يوجب الحرج في القضاء فلذلك وضع عنهما وقد جعلت الطهارة عنهما شرط لصحة الصوم ايضا صبخلاف القياس فلم يتعد إلى القضاء ولم يكن في قضائه حرج فلم يسقط اصله واحكام الحيض والنفاس كثيرة لا يحصى عددها واما الموت فانه عجز كله مناف لاهلية احكام الدنيا مما فيه تكليف حتى وضعت العبادات كلها عنه والاحكام نوعان احكام الدنيا واحكام الاخرة فأما احكام الدنيا فأنواع اربعة قسم منها ما هو من باب التكليف والثاني ما شرع عليه لحاجة غيره ومنها ما شرع له لحاجته ومنها مالا يصلح لقضاء حاجته هذه احكام الدنيا فأما القسم الأول فقد وضع عنه لفوات غرضه وهو الاداء عن اختيار ولهذا قلنا أن الزكاة يبطل عنه وكذلك سائر القرب وانما يبقى عليه المأثم واما القسم الثاني فإنه أن كان حقا متعلقا بالعين يبقى ببقائه لان فعله فيه غير مقصود وان كان دينا لم يبق بمجرد الذمة حتى يضم اليه مال أو ما يؤكد به الذمم وهو ذمة الكفيل لان ضعف الذمة بالموت فوق الضعف بالرق لان الرق يرجى زواله غالبا وهذا لا يرجى زواله غالبا فقيل إنها لا تحتمل الدين بنفسها ولهذا قيل أن الكفالة عن الميت المفلس لا يصح وهو قول أبي حنيفة رحمه الله كان الدين ساقط لان ثبوته بالمطالبة وقد عدمت بخلاف العبد المحجور يقر بالدين فيكفل رجل عنه صح لان ذمته في حقه كاملة وانما ضمت المالية اليها في حق المولى وقال أبو 2يوسف ومحمد رحمهما الله صح لان الدين مطالب به لكنا عجزنا عنها والجواب عنه انه غير مطالب به لان ذلك انعدم لمعنى في محل الدين لا لعجزنا لمعنى فينا فلهذا لزمته الديون مضافا إلى سبب صح في حياته ولهذا صح الضمان عنه إذا خلف مالا أو كفيلا وان كان شرع عليه بطريق الصلة بطل إلا أن يوصى فيصح من الثلث واما الذي شرع له فبناء على حاجته لان مرافق البشر انما شرعت لهم لحاجتهم لان العبودية لازمة للبشر والموت لا ينافي الحاجة فبقى له ما ينقضي به الحاجة ولذلك بقيت التركة على حكم ملكه ( ) عند قيام الديون عليه لذلك قدم جهازه ثم ديونه ولذلك (1/336)
صحت وصاياه كلها واقعة ومفوضة ولذلك بقيت الكتابة وهي مشروعة لحاجة المكاتب وهي اقوى الحوائج إلا ترى انه ندب فيه حط بعض البدل فإذا جاز بقاء مالكية المولى بعد موته ليصير معتقا فلأن يبقى هذه المالكية ليصير معتقا اولى واما المملوكية فهي تابعة في الباب ولهذا وجبت المواريث بطريق الخلافة عن الميت نظر له من وجه حتى صرفت إلى من يتصل به نسبا أو سببا أو دينا أو دينا بلا نسب وسبب ولهذا صار التعليق بالموت بخلاف سائر وجوه التعليق لان الموت من اسباب الخلافة فيصير التعليق به وهو كائن بيقين ايجاب حق للحال بطريق الخلافة عنه إلا يرى أن الخلافة إذا ثبت سببها وهو مرض الموت للوارث ثبت به حق يصير به المريض محجورا فكذلك إذا ثبت بالنص وصار المال من ثمراته فينظر من بعد فان كان الحق لازما بأصله مثل حق العتق بالتدبير منع الاعتراض عليه من المولى للزومه في نفسه وللزومه وهو معنى التعليق فلذلك بطل بيع المدبر وصار ذلك كاأ الولد فإنها استحقت شيئين حق العتق لما بينا وسقوط القوم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لان التقوم بالاحراز يكون وقد ذهب لان الأمة في الأصل يحرز لماليتها والمتعة تابعة فإذا صارت فراشا صارت محصنة محرزة للمتعة والمالية تابعة فصار الاحراز عدما في حق المالية فلذلك ذهب التقوم وهو غرة المالية و انتسخت بغرة المتعة فتعدى الحكم الأول إلى المدبر لوجود معناه دون الثاني ولهذا قلنا أن المرأة تغسل زوجها بعد الموت في عدتها لان الزوج مالك فبقى ملكه إلى انقضاء العدة فيما هو من حوائجه خاصة بعد الموت بخلاف المرأة إذا ماتت لانها مملوكة وقد بطلت اهلية المملوكية فلا تبقى حقا لها لان ذلك حق عليها إلا ترى انه لا عدة عليه بعدها ولو بقى ضرب من الملك لوجب مراعاته بالعدة لان ملك النكاح لم يشرع غير مؤكد إلا ترى انه يؤكد بالحجة والمال والمحرمية واما الذي لا يصلح لحاجته فالقصاص لانه شرع عقوبة لدرك الثأر وقد وجب عند انقضاء الحياة وعند ذلك لا يجب له إلا ما يضطر اليه لحاجته وقد وقعت الجناية على حق اوليائه من وجه لانتفاعهم بحياته فأوجبنا القصاص للورثة ابتداء والسبب قد انعقد للميت ولهذا صح عفو الوارث عنه قبل موت المجروح وصح عفو (1/337)
المجروح أيضا ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله أن القصاص غير موروث لما قلنا أن الغرض به درك الثأر وان تسلم حياة الأولياء والعشائر وذلك يرجع إليهم لكن القصاص واحد لأنه جزاء قتل واحد وكل واحد منهم كأنه يملكه وحده فإذا عفا أحدهم أواستوفاه بطل أصلا وملك الكبير استيفاءه إذا كان سائرهم صغارا عند أبي حنيفة رحمه الله ولا يملكه إن كان فيهم كبير غائب لإحتمال العفو ورجحان جهة وجوده لكونه مندوبا شرعا ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله في الوارث الحاضر إذا أقام بينة على القصاص ثم حضر الغائب كلف إعادة البينة وإذا انقلب القصاص مالا صار موروثا لأن موجب القتل في الأصل القصاص وعند الضرورة يجب الدية خلفا عن القصاص فإذا جاء الخلف جعل كأنه هو الواجب في الأصل وذلك يصلح لحوائج الميت فجعل موروثا ألا ترى أن حق الموصى له لا يتعلق بالقود ويتعلق بالدية فاعتبر سهام الورثة في الخلف دون الأصل وفارق الخلف الأصل لاختلاف حالهما ولهذا وجب القصاص للزوج وللزوجة لأن النكاح يصلح سببا للخلافة ودرك الثأر ولهذا وجب للزوجية نصيب في الدية ألا يرى أن للزوجية مزيد تصرف في الملك فصار كالنسب واما أحكام الآخرة فأربعة ما يجب له وما يجب عليه مما اكتسبه في حياته وما يلقاه من ثواب وكرامة أو عقاب وملامة لأن القبر للميت كالرحم للماء والمهاد للطفل وضع فيه لأحكام الآخرة روضة دار او حفرة نار فكان له حكم الأحياء وذلك كله بعد ما يمضي عليه في هذا المنزل الابتلاء في الابتلاء والله أعلم باب العوارض المكتسبة 2
وهى نوعان من المرء على نفسه ومن غيره عليه أما التي من جهته فالجهل والسكر والهزل والسفه والخطأ والسفر والذي من غيره عليه الإكراه أما الجهل فأربعة أنواع جهل باطل بلا شبهة لا يصلح عذرا أصلا في الآخرة وجهل هو دونه لكنه باطل لا يصلح عذرا أيضا في الآخرة وجهل يصلح شبهة وجهل يصلح عذرا أما الأول فالكفر من الكافر لا يصلح عذرا لأنه مكابرة وجحود بعد وضوح الدليل واختلفت في ديانة الكافر (1/338)
على خلاف حكم الإسلام أما أبو حنيفة رحمه الله فقد قال أنها تصلح دافعة للتعرض ودافعة لدليل الشرع في الأحكام التي تحتمل التغير ليصير الخطاب قاصرا عنهم في أحكام الدنيا استدراجا بهم ومكرا عليهم وتركا لهم على الجهل وتمهيدا لعقاب الآخرة والخلود في النار وتحقيقا لقول النبي عليه السلام الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فأما في حكم لا يحتمل التبدل فلا حتى أنه لا يعطي للكفر حكم الصحة بحال ولا يبتني على هذا أنه جعل حكم الصحة بحال ولا يبتني على هذا أنه جعل الخطاب بتحريم الخمر كأنه غير نازل في حقهم في أحكام الدنيا من التقوم وإيجاب الضمان وجواز البيع وما أشبه ذلك وكذلك الخنازير وجعل لنكاح المحارم بينهم حكم الصحة حتى قال إذا وطئها بذلك ثم أسلما كانا محصنين لو قذفا حد قاذفهما وإذا طلبت المرأة النفقة بذلك النكاح قضى بها عنده ولا يفسخ حتى يترافعا فإن قيل لا خلاف أن الديانة لا تصلح حجة متعدية ألا يرى أن المجوسي إذا تزوج ابنته ثم هلك عنها وعن ابنة أخرى أنهما ترثان الثلثين ولا ترث المنكوحة منهما بالنكاح لأن ديانتها لا تصلح حجة على الأخرى فكذلك في إيجاب الحد على القاذف واستحقاق القضاء بالنفقة وإيجاب الضمان على متلف الخمر وجب أن لا تجعل حجة متعدية قلنا عنه هذا تناقض لأنا نجعل الديانة معتبرة لأنا نأخذ نصف العشر من خمور أهل الذمة والعشر من خمور أهل الحرب خلافا للشافعي رحمه الله وهذه غير متعدية بل هي حجة عليهم إلا أنه 2لا يؤخذ من الخنزير لأن أمام المسلمين ليس له ولاية حماية الخنزير نفسه فلا يتعدى وله ولاية حماية الخمر لنفسه للتخليل فيتعدى وحقيقة الجواب أنا لا نجعل الديانة متعدية لأن الخمر إذا بقيت متقومة لم يثبت بالديانة إلا دفع الإلزام بدليل فأما التقوم فباق على الأصل وذلك شرط الضمان لأن الضمان لا يجب بتقوم المتلف لكن بإتلاف المتلف وإذا لم تضف إلى تقوم المحل لم تصر متعدية وكذلك إحصان المقذوف شرط لا علة وإنما العلة هي المقذوف وأما النفقة فإنما شرعت بطريق الدفع في الأصل ألا يرى أن الأب يحبس بنفقة الابن الصغير كما يحل دفعه إذا قصد قتله ولا يحبس بدينه جزاء كما لا يقتل قصاصا وإذا كان كذلك (1/339)
صارت الديانة دافعة لا موجبة بخلاف الميراث لأنه صلة مبتدأة لو وجب بديانتها كانت الديانة بذلك موجبة لا دافعة وإذا لم يفسخ بمرافعة أحدهما فقد جعلنا الديانة دافعة أيضا هذا جواب قد قيل والجواب الصحيح عندي عن فصل النفقة أنهما لما تناكحا فقد دانا بصحته فقد أخذ الزوج بديانته ولم يصح منازعته من بعد بخلاف منازعة من ليس في نكاحهما لأنه لم يلتزم هذه الديانة واما القاضي فإنما يلزمه القضاء بالتقليد دون الخصومة وأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فكذلك قالا أيضا إلا أنهما قالا أن تقوم الخمر وإباحة شربها وتقوم الخنزير وإباحته كان حكما ثابتا أصليا فإذا قصر الدليل بالديانة بقي على الأمر الأول فأما نكاح المحارم فلم يكن أصليا ألا يرى انه كان لا يصلح للرجل أخته من بطن واحد في زمن آدم صلوات الله عليه وإذا كان كذلك لم يجز استبقاؤه بقصر الدليل ولأن حد القذف من جنس ما يدرأ بالشبهات فلا بد من أن يصير قيام دليل التحريم شبهة وبالقضاء بالنفقة على الطريق الأول باطل لما قلنا وأما على هذا الطريق فلأنه من جنس الصلات المستحقة ابتداء حتى لم يشترط لها حاجة المستحق والجواب لأبي حنيفة رحمه الله أن الحاجة الدائمة بدوام الجنس لا يردها المال المقدر فتحققت الحاجة لا محالة وأما الشافعي رحمه الله فإنه جعل الديانة دافعة للتعرض لا غير حتى لا يحد الذمي بشرب الخمر فأما سائر الأحكام فلا تثبت والجواب عنه أن تقويم الأموال وإحصان النفوس من باب العصمة وتفسير العصمة الحفظ فيكون في تحقيق العصمة بديانتهم حفظ عن التعرض أيضا وقد بينا ما يبطل به مذهبه وتبين أن ما قلنا من باب الدفع ولا يلزم عليه استحلالهم الربا وذلك لأن ذلك ليس بديانة بل هو فسق في ديانتهم لأن من أصل ديانتهم تحريم الربا وذلك مثل خيانتهم فيما ائتمنوا في كتبهم لأنهم نهوا عنه فكذلك الربا كاستحلالهم الزنا وأما القسم الثاني فجهل صاحب الهوا في صفات الله عز و جل وأحكام الآخرة وجهل الباغي لأنه مخالف للدليل الواضح الصحيح الذي لا شبهة فيه فكان باطلا كالأول إلا أنه متأول بالقرآن فكان دون الأول ولكنه لما كان من المسلمين أو ممن ينتحل الإسلام لزمنا مناظرته وإلزامه فلم نعمل بتأويله الفاسد وقلنا في الباغي إذا أتلف مال العادل او نفسه (1/340)
ولا منعة له يضمن وكذلك سائر الأحكام تلزمه فاذا صار للباغي منعة سقط عنه ولاية الإلزام فوجب العمل بتأويله الفاسد فلم يؤخذ بضمان ووجبت المجاهدة لمحاربتهم ووجب قتل أسرائهم والتدفيف على جريحهم ولم نضمن نحن أموالهم ودماءهم ولم نحرم عن الميراث بقتلهم لأن الإسلام جامع والقتل حق وهم لم يحرموا أيضا أن قتلوا أيضا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن القتل منهم في حكم الدنيا بشرط المنعة في حكم الجهاد بناء على ديانتهم وإن كان باطلا في حقيقة ووجب حبس أموالهم زجرا لهم ولم نملك أموالهم لأن أصل الدار واحدة وهي بحكم الديانة مختلفة فثبتت العصمة من وجه وهو الإسلام دون وجه فلم يجب الضمان بالشك ولم يجب الملك بالشبهة بخلاف أهل الحرب لأن الدار مختلفة والمنعة متباينة من كل وجه فبطلت العصمة لنا في حقهم ولهم في حقنا من كل وجه وكذلك جهل من خالف في اجتهاده الكتاب والسنة من علماء الشريعة وأئمة الفقه أو عمل بالغريب من السنة على خلاف الكتاب أو السنة المشهورة فمردود باطل ليس بعذر أصلا مثل الفتوى ببيع أمهات الأولاد ومثل القول بالقصاص في القسامة ومثل استباحة متروك التسمية عمدا والقضاء بالشاهد الواحد ويمين المدعى لأنا أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم وعلى هذا يبتني ما ينفذ فيه قضاء القاضي وما لا ينفذ وأما القسم الثالث فهو الجهل في موضع الاجتهاد الصحيح أو في غير موضع الاجتهاد لكن في موضع الشبهة أما الأول فإن من صلى الظهر على غير وضوء ثم صلى العصر بوضوء وعنده أن الظهر قد أجزاه فالعصر فاسدة لأن هذا جهل على خلاف الإجماع وإن قضى الظهر ثم صلى المغرب وعنده أن العصر أجزى عنه جاز ذلك لأنه جهل في موضع الاجتهاد في ترتيب الفوائت وقال أصحابنا رحمهم الله فيمن قتل وله وليان فعفا أحدهما عن القصاص ثم قتله الثاني وهو يظن أن القصاص باق له على الكمال وأنه وجب لكل واحد منهم قصاص كامل فإنه لا قصاص عليه لأن جهله حصل في موضع الاجتهاد وفي حكم يسقط بالشبهة وكذلك صائم احتجم ثم أفطر على ظن أن الحجامة فطرته وعلى ذلك التقدير لم تلزمه (1/342)
@ 343 @ (1/343)
@ 344 @ (1/344)
الكفارة لما قلنا ومثله كثير ومن زنى بجارية امرأته أو جارية والده وظن أنها تحل له لم يلزمه الحد فيصير الجهل والتأويل في موضع الاشتباه شبهة في الحدود دون النسب والعدة بخلاف ما إذا وطئ جارية أخيه أو أخته وكذلك حربى أسلم ودخل دارنا فشرب الخمر وقال لم أعلم بالحرمة لم يحد بخلاف ما إذا زنى وبخلاف الذمي إذا أسلم ثم شرب الخمر وقال لم أعلم بحرمتها فإنه يحد هذا بناء على هذا الأصل الذي ذكرنا واما القسم الرابع فهو الجهل في دار الحرب من مسلم لم يهاجر انه يكون عذرا في الشرائع حتى أنها لا تلزمه لأن الخطاب النازل خفي فيصير الجهل به عذرا لأنه غير مقصر وإنما جاء من قبل خفاء الدليل في نفسه وكذلك الخطاب في أول ما ينزل فإن من لم يبلغه كان معذورا مثل ما روينا في قصة أهل قبا وقصة تحريم الخمر قال الله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم وقال تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصلحت جناح فيما طعموا الآية فأما إذا انتشر الخطاب في دار الإسلام فقد تم التبليغ من صاحب الشرع فمن جهل من بعد فإنما أتى من قبل تقصيره لا من قبل خفاء الدليل فلا يعذر كمن لم يطلب الماء في العمران ولكنه تيمم والماء موجود فصلى لم يجزه وكذلك جهل الوكيل بالوكالة وجهل المأذون بالإذن يكون عذرا لأن فيه ضرب إيجاب وإلزام فلا بد من علم الا انه لا يشترط فيمن يبلغه العدالة و ان كان فضوليا لانه ليس بالزام محض بل هو مخير وجهل الوكيل بالعزل وجهل المأذون بالحجر وجهل مولى العبد الجاني فيما يتصرف فيه وجهل الشفيع بالشفعة يكون عذرا لأن الدليل خفي وفيه إلزام فشرط أبو حنيفة رحمه الله في الذي يبلغه من غير رسالة العدالة أو العدد وكذلك جهل المرأة البكر بانكاح الولى مثله وكذلك قوله في تبليغ الشرائع إلى الحربي الذي أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا إذا لم يكن المبلغ رسول الأمام وكذلك جهل الأمة المنكوحة إذا اعتقت بالاعتاق أو بالخيار بعد العلم بالاعتاق يجعل عذرا لان الدليل خفي في حقها ولانها دافعة بخلاف الصغيرة البكر إذا بلغت وقد انكحها اخوها فلم يعلم بالخيار لم تعذر وجهل شكوتها رضي لأن دليل العلم في حقها مشهور غير مستور ولانها تريد بذلك الزام الفسخ ابتداء لا الدفع عن نفسها و المعتقة تدفع الزيادة عن نفسها ولهذا (1/345)
افتزق الخياران في شرط القضاء وعلى هذا الأصل قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله في صاحب خيار الشرط في البيع إذا فسخ العقد بغير محضر من صاحبه أن ذلك لا يصح إلا بمحضر منه لان الخيار وضع لاستثناء حكم العقد لعدم الاختيار فيصير العقد به غير لازم ثم يفسخ لفوت اللزوم لا أن الخيار للفسخ لا محالة فيصير هذا بالفسخ متصرفا على الآخر بما فيه الزام فلا يصح إلا بعلمه فان بلغه رسول صاحب الخيار صح في الثلث بلا شرط عدالة وبعد الثلاث لا يصح وان بلغه فضولي شرط فيه العدد أو العدالة عند أبي حنيفة خلافا لمحمد رحمهما الله فان وجد أحدهما صح التبليغ في الثلاث ونفذ الفسخ وبعد الثلاث لا يصح وبطل الفسخ وابو يوسف جعل صاحب الخيار مسلطا على الفسخ من قبل صاحبه فأضيف ما يلزم صاحبه إلى التزامه والله اعلم
فصل في السكر وهو القسم الثاني
السكر نوعان سكر بطريق مباح وسكر بطريق محظور واما السكر بالمباح مثل من اكره علي شرب الخمر بالقتل فانه يحل له وكذلك المضطر اذا شرب منها ما يرد به العطش فسكر به وكذلك إذا شرب دواء فكسر به مثل البنج والابيون أو شرب لبنا فسكر به وكذلك على قول أبي حنيفة رحمه الله إذا شرب شرابا يتخذ من الحنطة والشعير والعسل فسكر منه حتى لم يجد على قوله في ظاهر الجواب فإن السكر في هذه المواضع بمنزلة الاغماء يمنع من صحة الطلاق والعتاق وسائر التصرفان لان ذلك ليس من جنس اللهو فصار من اقسام المرض وبعض هذه الجملة مذكور في النوارد واما السكر المحظور فهو السكر من كل شراب محرم وكذلك السكر من النبيذ المثلث او نبيذ الزبيب المطبوخ المعتق لان لهذا وان كان حلالا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فإنما يحل بشرط أن لا يسكر منه وذلك من جنس ما يتلهى به فيصير السكر منه مثل السكر من الشراب المحرم إلا يرى انه يوجب الحد وهذا السكر بالإجماع لا ينافي الخطاب قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى وان كان هذا خطابا في حال السكر فلا شبهة فيه وان كان في حال الصحو فكذلك إلا يرى انه (1/346)
لا يقال للعاقل إذا جننت فلا تفعل كذا وإذا اثبت انه مخاطب ثبت أن السكر لا يبطل شيئا من الاهلية فيلزمه احكام الشرع كلها ويصح عباراته كلها بالطلاق والعتاق والبيع والشرى والاقارير وانما ينعدم بالسكر القصد دون العبارة حتى أن السكر إذا تكلم بكلمة الكفر لم نبن منه امرأته استحسانا وإذا اسلم يجب أن يصح اسلامه كاسلام المكره وإذا اقر بالقصاص أو باشر سبب القصاص لزمه حكمه وإذا قذف أو اقربه لزمه الحد لان السكر دليل الرجوع وذكل لا يبطل بصريحه فبدليله اولى وان زنى في سكره حد إذا صح وإذا اقر انه سكر من الخمر طائعا لم يحد حتى يصحو فيقروا أو يقموا علية البينة واذا أقر بشيء من الحدود لم يأخذ به الا بحد القذف وانما لم يوضع عنه الخطاب ولزمه احكام الشرع لأن الحكم لا يزيل العقل لكنه سرور غلبة فان كان سببه معصية لم يعد عذرا وكذلك اذا كان مباحا مقيدا وهو مما يتلهي به في الاصل واذا كان مباحا جعل غدرا واماما تعتمد الاعتقاد مثل الردة فان ذلك لا يثبت استحسانا لعدم ركنة لا ان السكر جعل عذرا وما يبتني على صحة العبارة فقد وجد ركنة والسكر لا يصلح عذرا واما الحدود فانها يقام عليه اذا صحا لما بينا ان السكر بعينة ليس بعذر و لا شبهة الا ان من عادة السكران اختلاط الكلام هو اصله ولا ثبات له على الكلام إلا يرى انهم اتفقوا أن السكر لا يثبت بدون هذا الحد وقد زاد أبو حنيفة في حق الحدود فيحتمل أن يكون حده في غير الحد هو أن يختلط كلامه ويهذي غالبا وإذا كان ذلك اقيم السكر مقام الرجوع فلم تعمل فيما يعاين من اسباب الحد وعمل في الإقرار الذي يحتمل الرجوع ولم يعمل فيما لا يحتمله وهو الإقرار بحد القذف والقصاص
فصل الهزل وهو القسم الثالث
واما الهزل فتفسيره اللعب وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له وهو ضد الجد وهو أن يراد بالشيء ما وضع له فصار الهزل ينافي اختيار الحكم والرضاء به ولا ينافي الرضاء بالمباشرة واختيار المباشرة فصار بمعنى خيار الشرط في البيع انه يعدم الرضاء (1/347)
والاختيار جميعا في حق الحكم ولا يعدم الرضاء والاختيار في حق مباشرة السبب هذا تفسير الهزل واثره وشرطه أن يكون صريحا مشروطا باللسان إلا انه لا يشترط ذكره في نفس العقد بخلاف خيار الشرط والتلجئة هي الهزل وإذا كان كذلك لم يكن منافيا للاهلية ولا لوجوب شيء من الأحكام ولا عذرا في وضع الخطاب بحال لكنه لما كان اثره ما قلنا وجب النظر في الأحكام كيف ينقسم في حق الرضاء والاختيار فيجب تخريجها على هذا الحر وذلك على وجوه إما أن يدخل التجلية والهزل فيما لا يحتمل النقض أو فيما يحتمله فهذا وجه ووجه اخر أن يدخل على الإقرار بما ينفسخ أو لا ووجه اخر أن يدخل فيما يبتني على الاعتقاد وذلك وجهان الإيمان والردة فأما إذا دخل فيما يحتمل النقض مثل البيع والاجارة وذلك على ثلاثة اوجه إما ان يهزلا بأصله أو يقدر العوض أو بجنسه وكل وجه على اربعة اوجه إما أن يتواضعا على الهزل ثم يتفقا على الاعراض وعلى البناء أو على أن لا يحضرهما شيء أو يختلفا فأما إذا تواضعا على الهزل بأصله ثم اتفقا على البناء فان البيع منعقد لما قلنا أن الهازل مختار وراض بمباشرة السبب لكنه غير مختار ولا راض بحكمه وكان بمنزلة خيار الشرط مؤبدا فانعقد العقد فاسدا غير موجب للملك كخيار المتابعيين معا على احتمال الجواز كرجل باع عبدا على انه بالخيار ابدا او على انهما بالخيار ابدا فان نقضه أحدهما ينقض وان اجازاه جاز وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب أن تكون مقدرا بالثلاث ولهذا لم يقع الملك بهذا البيع وان اتصل به القبض ودلالة لهذه الجملة أن الهزل لا يؤثر في النكاح بالسنة فعلم به انه لا ينافي الايجاب إنما دخل على الحكم واما إذا اتفقا على الاعراض فان البيع صحيح و قد بطل الهزل باعراضهما عن المواضعة وان اتفقا على انه لم يحضرهما شيء او اختلفا في البناء والأعراض فان العقد صحيح عند أبي حنيفة رحمه الله في الحالين فجعل صحة الايجاب اولي إذا سكتا وكذلك إذا اختلفا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا سكتا واتفقا على انه لم يحضرهما شيء فان العقد باطل وان اختلفا فالقول قول من يدعي البناء فاعتبر المواضعة واوجب العمل بها الا ان يوجد النص على ما ينقضها كذلك حكى محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله قوله في كتاب الإقرار لكنه قال قال (1/348)
أبو حنيفة رحمه الله فيما اعلم وقول أبي يوسف فيما اعلم ليس بشك في الراوية لان من مذهب أبي يوسف رحمه الله أن من قال لفلان على ألف درهم فيما اعلم انه لازم ومنهم من اعتبر هذا بقول الشاهد عند القاضي اشهد أن لهذا على هذا ألف درهم فيما اعلم انه باطل فلم يثبت الاختلاف والصحيح هو الأول وقوله فيما اعلم ملحق برواية أبي يوسف لا بفتوى أبي حنيفة قال أبو حنيفة رحمه الله العقد المشروع لايجاب حكمه في الظاهر جد لان الهزل غير متصل به نصاف هو اولى بالتحقيق من المواضعة وهما اعتبر العادة وهو تحقيق المواضعة ما امكن إلا يرى إنها اسبق الأمرين وقال أبو حنيفة رحمه الله إلآخر ناسخ واما إذا اتفقا على الجد في العقد لكنهما تواضعا على البيع بالقين على أن أحدهما هزل وتلحية فان اتفقا على الاعراض كان ثمن القين وان اتفقا انه لم يحضرهما شيء أو اختلفا فالهزل باطل والتسمية صحيح عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما العمل بالمواضعة واجب والألف الذي هزلا به باطل لما ذكر من الأصل واما إذا اتفقا على البناء على المواضعة فان الثمن الفان عند أبي حنيفة رحمه الله لانهما جدا في العقد والعمل بالمواضعة يجعله شرطا فاسدا فيفسد البيع فكان العمل بالاصل عند التعارض اولى من العمل بالوصف اعني تعارض المواضعة في البدل والمواضعة في اصل العقد بخلاف تلك المواضعة وقد ذكر ابو يوسف رحمه الله عليه في هذا الفصل في روايته فيما اعلم كما في الفصل الأول واما إذا تواضعا على البيع بمائة دينار وان ذلك تلجئة وانما الثمن كذا وكذا درهما فان البيع جائز على كل حال ههنا ففرق أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بين هذا وبين الهزل في القدر قالا لان العمل بالمواضعتين ممكن ثمة لان البيع يصح بأحد إلالفين والهزل بالألف الأخرى شرط لا طالب له فلا يفسد البيع فأما ههنا فان العمل بالمواضعة في العقد مع المواضعة بالهزل غير ممكن لان البيع لا يصح لغير ثمن فصار العمل بالمواضعة في العقد اولى واما ما لا يحتمل النقض فثلاثة أنواع ما لا مال فيه وما كان المال فيه تبعا وما كان المال فيه مقصودا واما الذي لا مال فيه هو الطلاق والعتاق و العفو عن القصاص واليمين والنذر وذلك كله صحيح والهزل باطل بقوله صلى الله عليه و سلم ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين ولان الهازل مختار للسبب راض به (1/349)
دون حكمه وحكم هذه الاسباب لا يحتمل الرد والتراخي إلا يرى انه لا يحتمل خيار الشرط واما الذي يكون المال تبعا مثل النكاح فعلى اوجه إما أن يهزلا بأصله أو بقدر البدل او بجنسه إما الهزل بأصله فباط والعقد لازم واما الهزل بالقدر فيه فان اتفقا على الاعراض فان المهر الفان وان اتفقا على البناء فالمهر ألف بخلاف مسئلة البيع عند أبي حنيفة رحمه الله لانه لم يحضرهما شيء أو اختلفا فان محمدا رحمه الله ذكر عن أبي حنيفة رحمه الله أن النكاح جائز بألف بخلاف البيع لان المهر تابع في هذا فلا يجعل مقصودا بالصحة وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أن المهر الفان فان التسمية في الصحة مثل ابتداء البيع جعل أبو حنيفة رحمه الله العمل بصحة الايجاب اولى من العمل بصحة المواضعة فكذلك هذا وهذا اصح واما إذا تواضعا على الدنانير على أن المهر في الحقيقة دراهم فان اتفقا على الاعراض فالمهر ما سميا وان اتفقا على البناء وجب مهر المثل بالإجماع بخلاف البيع لانه لا يصح إلا بتسمية الثمن والنكاح يصح بلا تسمية وان اتفقا انه لم يحضرهما شيء اواختلفا فعلى رواية محمد وجب مهر المثل بلا خلاف وعلى رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله يجب المسمى ويطلب المواضعة وعندهما يجب مهر المثل واما الذي يكون المال فيه مقصودا مثل الخلع والعتق على مال والصلح عن دم العمد فإن ذلك على هذا الاوجه أيضا فان هز لا بأصله واتفقا على البناء فقد ذكر في كتاب الاكراه في الخلع أن الطلاق واقع والمال لازم وهذا عندنا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فإن الطلاق لا يقع لانه بمنزلة خيار الشرط وقد نص عن أبي حنيفة رحمه الله في خيار الشرط في الخلع في جانب المرأة أن الطلاق لا يقع ولا يجب المال حتى تشاء المرأة فيقع الطلاق ويجب المال لما عرف ثمة و عندهما الطلاق واقع والمال واجب والخيار باطل فكذلك هذا لكنه هذا غير مقدر بالثلاث في هذا بخلاف ا البيع وان هز لا بالكل لكنهما اعرضا عن المواضعة وقع الطلاق ووجب المال بالإجماع وان القول قول من يدعي الاعراض عند أبي حنيفة رحمه الله لانه جعل ذلك مؤثرا في اصل الطلاق وعندهما هو جائز ولا يفيد الاختلاف وان سكتا ولم يحضرهما شيء فهو جائز لازم بالإجماع واما إذا تواضعا على الهزل في بعض البدل فإن اتفقا على البناء فعندهما الطلاق (1/350)
والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والبقاء لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم واقع والمال كله لازم لأنهما جعلا المال لازما بطريق التبعية وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب أن يتعلق الطلاق بإختيارها لأن الطلاق يتعلق بكل البدل وقد تعلق بعضه بالشرط وان اتفقنا على الأعراض لزم الطلاق والمال كله وإن اتفقنا على أنه لم يحضرهما شيء وقع الطلاق ووجب المال كله عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه حمل ذلك على الجد وجعل ذلك أولى من المواضعة وعندهما كذلك لما قلنا وكذلك إن احتلفا وأما إذا هزلا بأصل المال فذكر الدنانير تلجية وغرضهما الدراهم فإن المسمى هو الواجب عندهما في هذا الكل حال وصار كالذي لا يحتمل الفسخ تبعا وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فإن اتفقنا على الأعراض وجب المسمى وإن اتفقنا على البناء توقف الطلاق وإن اتفقا أنه لم يحضرهما شيء وجب المسمى ووقع الطلاق وإن اختلفا فالقول قول من يدعي الأعراض وكذلك هذا في نظائره وأما تسليم الشفعة فإن كان قبل طلب المواثبة فإن ذلك كالسكوت مختار فتبطل الشفعة وبعد الطلب والاشهاد السلم باطل لأنه من جنس ما يبطل بخيار الشرط وكذلك إبراء الغريم وأما القسم الثاني وهو الإقرار فإن الهزل يبطله سواء كان إقرارا بما يحتمله الفسخ أو بما لا يحتمله لأنه يعتمد صحة المخبر به والهزل يدل على عدم المخبر به فصار ذلك كله ما يحتمل النقض ألا يرى أن الإقرار بالطلاق والعتاق يبطل بالكره أصلا فكذلك يبطل بالهزل بطلانا لا يحتمل الإجازة وأما القسم الثالث فإن الهزل بالردة كفر لا بما هزل به لكن بعين الهزل لأن الهازل جاد في نفس الهزل مختار راض والهزل بكلمة الكفر استخفاف بالدين الحق فصار مرتدا بعينه لا بما هزل به إلا أن أثرهما سواء بخلاف المكره لأنه غير معتقد لعين ما أكره عليه بخلاف مسألتنا هذه فأما الكافر إذا هزل بكلمة الإسلام وتبرأ عن دينه هازلا يجب أن يحكم بإيمانه كالمكره لأنه بمنزلة إنشاء لا يحتمل حكمه الرد والتراخي والله أعلم القسم الرابع وهو السفه
السفه هو العمل بخلاف موجب الشرع من وجه واتباع الهوى وخلاف دلالة العقل فإن كان أصله مشروعا وهو السرف والتبذير لأن أصل البيع والبر والإحسان مشروع إلا أن الإسراف حرام كالإسراف من الطعام والشراب وذلك لا يوجب خللا في الأهلية ولا يمنع شيئا من أحكام الشرع ولا يوجب وضع الخطاب بحال وأجمعوا أنه يمنع منه ماله في أول ما بلغ بالنص قال الله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم (1/351)
ثم علق الإيتاء بإيناس من الرشد فقال إن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم قال أبو حنيفة رحمه الله أول أحوال البلوغ قد لا يفارقه السفه فإذا امتد الزمان وظهرت الخبرة والتجربة حدث ضرب من الرشد لا محالة والشرط رشد نكرة فسقط المنع لأنه إما عقوبة واما حكم لا يعقل معناه فيتعلق بغير النص فإذا دخله شبهة أو صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه واختلفوا في وجوب النظر للسفيه فقال أبو حنيفة رحمه الله لما كان السفه مكابرة وتركا لما هو الواجب عن علم ومعرفة لم يجز أن يكون سببا للنظر ألا يرى انه من قصر في حقوق الله عز و جل مجانة وسفها لم يوضع عنه الخطاب نظرا بل كان مؤكدا لازما وقد يحبس عقوبة ولا يوضع عنه الخطاب ولا يبطل في ذلك عباراته ولا يعطل عليه أسباب الحدود والعقوبات وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله النظر واجب حقا للمسلمين وحقا له لدينه لا لسفهه ألا يرى أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في الدنيا والآخرة وان أصر عليها وقاساه بمنع المال وقال أبو حنيفة رحمه الله النظر من هذا الوجه جائز لا واجب كما في صاحب الكبيرة وإنما يحسن إذا لم يتضمن ضررا فوقه وههنا يتضمن ضررا فوقه وهو وقف أهليته وإلحاقه بالصبيان والمجانين والبهائم بخلاف منع المال لما قلنا أنه غير معقول ولأنه عقوبة لا يحتمل المقايسة ولأن اليد للآدمي نعمة زائدة واللسان والأهلية نعمة أصلية فيبطل القياس لإبطال أعلى النعمتين باعتبار أدناهما وقالا هذه الأمور صارت حقا للعبد رفقا به فإذا أدى إلى الضرر وجب الرد لدفع الضرر عن المسلمين وإن لم يكن للمسلمين حق في عين المال وهذا قياس ما روى عن أبي يوسف رحمه الله فيمن تصرف في خالص ملكه بما يضر جيرانه أنه يمنع عنه فصار الحجر عندهما مشروعا بطريق النظر وإنما يجب أن ينظر إلى ما فيه نظر له أبدا فلا يلحق بالصبي خاصة ولا بالمريض ولا بالمكره لكن يجب إثبات النظر بأي أصل أمكن اعتباره على ما هو مذكور في المبسوط وهو أنواع عندهما حجر بسبب السفه مطلقا وذلك يثبت عند محمد رحمه الله بنفس السفه إذا حدث بعد البلوغ أو بلغ كذلك وقال أبو يوسف رحمه الله لا بد من حكم القاضي لأن باب النظر إلى القاضي والنوع الثاني إذا امتنع المديون عن بيع ماله لقضاء (1/352)
الدين باع القاضي عليه امواله والعروض والعقار في ذلك سواء وذلك ضرب حجر والثالث أن يخاف على المديون أن يلجىء امواله ببيع أو إقرار فيحجر عليه على أن لا يصح تصرفه إلا مع هؤلاء الغرماء والرجل غير سفيه فإن ذلك واجب ليعلم أن طريق الحجر عندهما النظر للمسلمين فأما أن يكون السفه من اسباب النظر فلا لكنه بمنزلة العضل من الاولياء القسم الخامس وهو السفر
السفر هو الخروج المديد وادناه ثلاثة ايام ولياليها على ما عرف وأنه لا ينافي شيئا من الاهلية ولا يمنع شيئا من الأحكام لكنه من اسباب التخفيف بنفسه مطلقا لانه من اسباب المشقة لا محالة بخلاف المرض لانه متنوع على ما قلنا واختلفوا في اثره في الصلوات فهو عندنا سبب للوضع اصلا حتى أن ظهر المسافر وفجره سواء لا يحتمل الزيادة عليه وقال الشافعي رحمه الله هو سبب رخصة فلا يبطل العزيمة كما قيل في حق الصائم ولنا على ما قلنا دليلان ظاهران ودليلان خفيان إما الاولان فأحدهما أن القصر اصل والاكمال زيادة قالت عاشة رضي الله عنها فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فاقرت في السفر وزيدت في الحضر والاصل لا يحتمل المزيد إلا بالنص والثاني انا وجدنا بالفضل على ركعتين ان اداه اثيب عليه وان تركه أن هذه رخصة اسقاط لان ذلك حق وضع عنا مثل وضع الاصر والاغلال قال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ما لنا نقصر وقد امنا فقال النبي عليه السلام أن الله تعالى تصدق عليكم بصدقة فاقبلوا صدقته وحق الصلاة علينا حق لا يحتمل التمليك ولا مالية فيه وكانت صدقته اسقاطا محضا لا يحتمل الرد ارايت عفو الله عنا الآثام وهبة العتق من النار ايحتمل الرد هذا أمر يعرف ببداية العقول بخلاف الصوم لان النص أوجب تأخيره بالسفر لا سقوطه فبقى فرضا فصح اداؤه وثبت انه رخصة تأخير وفي الصلاة رخصة اسقاط وفسخ فانعدم اداؤه الثاني أن العبودية ينافي المشية المطلقة والاختيار الكامل وانما ذلك من صفات الباري جل جلاله وانما للعبد اختيار ما يرتفق به ولله تعالى الاختيار المطلق يفعل ما يشاء بلا رفق يعود اليه ولا حق يلزمه إلا يرى أن الحالف إذا حنث في اليمين خير بين أنواع الثلاثة من الكفارة لرفق يختاره وفي مسألتنا لو ثبت الاحتيار (1/353)
بين القصر والاكمال لكان اختيارا في وضع الشرع لانه لا رفق له بل الرفق واليسر متعين في القصر من كل وجه فإذا لم يتضمن الاختيار رفقا كان ربوبية لا عبودية وهذا غلط ظاهر وخطأ بين إلا يرى أن المدبر إذا جنى جناية لم يخير مولاه بين قيمته وهي ألف درهم وبين الدية وهي عشرة الاف درهم وكذلك إذا جنى عبد ثم اعتقه وهو لا يعلم بجنايته غرم قيمته إذا كانت دون الارش من غير خيار وكذلك المكاتب في جناياته وإذا كان كذلك علم أن الاختيار للرفق ولا رفق في اختيار الكثير على القليل والجنس واحد ويخير في جناية العبد بين امساك رقبته وقيمته ألف درهم وبين الفداء بعشرة الآف لان ذلك قد يفيد رفقا وفي مسألتنا لا رفق في اختيار الكثير فبقى اختياره مطلقا ومشية وهي ربوبية وذلك باطل فان قيل فيه فضل ثواب قلنا عنه ليس كذلك فالثواب لا في حسن الطاعة لا في الطول والقصر إلا يرى أن ظهر المقيم لا يزيد على فجره ثوابا وان ظهر العبد لا يزيد على جمعة الحر ثوابا فكذلك هذا على أن الاختيار وهو حكم الدنيا لا يصلح بناؤه على حكم الآخر وهذا بخلاف الصوم في السفر لانه مخير بين وجهين كل واحد منهما يتضمن يسرا من وجه وعسرا من وجه لان الصوم في السفر يتضمن يسر موافقة المسلمين وذلك يسر بلا شبهة ويتضمن عسرا بحكم السفر والتأخير إلى حالة الاقامة يتضمن عسرا من وجه وهو عسر الانفراد ويسرا من وجه وهو الاستماع بحال الاقامة فصح التأخير لطلب الرفق بين وجهين مختلفين فكان ذلك عبودية لا ربوبية والله تعالى اعلم وانما يثبت هذا الحكم بالسفر إذا اتصل بسبب الوجوب حتى ظهر اثره في اصله وهو الاداء فظهر في قضائه إذا لم يتصل به فلا ولما كان السفر من الأمور المختارة ولم يكن موجبا ضرورة لازمة قيل له أن المسافر إذا نوى الصيام في رمضان وشرع فيه لم يحل له الفطر بخلاف المريض إذا تكلف ثم بدا له أن يفطر حل له لانه سبب ضروري للمشقة وهذا موضوع لها ولكنه إذا افطر كان قيام السفر المبيح عذرا وشبهه في الكفارة وإذا صبح مقيما وعزم على الصوم ثم سافر لم يحل له بخلاف ما إذا مرض وإذا فطر لم يلزمه الكفارة عندنا وإذا افطر ثم سافر لم يسقط عنه الكفارة بخلاف المرض لما قلنا أن السفر مكتسب وهذا سماوي واحكام السفر تثبت بنفس (1/354)
الخروج بالسنة المشهورة عن رسول الله عليه السلام وان لم يتم السفر علة بعد تحقيقا للرخصة إلا يرى انه إذا نوى رفضه صار مقيما وان كان في غير موضع الاقامة لان السفر لما لم يتم علة كانت نية الاقامة نقضا للعارض لامة ابتداء علة وإذا سار ثلاثا ثم نوى المقام في غير موضع اقامة لم يصح لان هذا ابتداء ايجاب فلا يصح في غير محله وإذا اتصل بهذا السفر عصيان مثل سفر الآبق وقاطع الطريق كان من اسباب الترخص عندنا وقال الشافعي رحمه الله ليس ذلك من اسباب الترخص لقوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد ولانه عاص في هذا السبب فلم يصلح سبب رخصة وجعل معدوما زجرا و تنكيلا كما سبق في السكر وقلنا نحن أن سبب وجوب الترخص موجود وهو السفر واما العصيان فليس فيه بل في أمر ينفصل عنه وهو التمرد على من يلزمه طاعته والبغي على المسلمين والتعدي عليهم بقطع الطريق إلا يرى أن ذلك ينفصل عنه فان التمرد على المولى في المصر بغير سفر معصية وكذلك البغي وقطع الطريق صار جناية لوقوعه على محل العصمة من النفس والمال والسفر فعل يقع على محل آخر إلا يرى أن الرجل قد يخرج غازيا ثم قد يستقبله عير فيبدوا له فيقطع عليهم فصار النهي عن هذه الجملة نهيا لمعنى في غير المنهى عنه من كل وجه وبذلك لا يمتنع تحقق الفعل مشروعا فلا يمتنع تحقق الفعل سببا للرخصة لان صفة الحل في السفر دون صفة أن يتعلق الرخصة بأثره وتبين أن قوله عز و جل غير باغ ولا عاد في نفس الفعل أن يتعدى المضطر عن الذي به يمسك مهجته وصيغة الكلام ادل على هذا مما قاله واحكام السفر اكثر من أن تحصى الفصل السادس
وهو الخطأ هذا النوع نوع جعل عذرا صالحا لسقوط حق الله تعالى إذا حصل عن اجتهاد وشبهة في العقوبة حتى قل أن الخاطىء لا يأثم ولا يؤاخذ بحد ولا قصاص لانه جزاء كامل من اجزئة الأفعال فلا يجب على المعذور ولم يجعل عذرا في حقوق عذرا في حقوق العباد (1/355)
حتلى وجب ضمان العدوان على الخاطئ لانه ضمان مال الأجزاء فعل ووجبت به الدية لكن الخطاء لما كان عذرا صلح سببا للتخفيف بالفعل فيما هو صلة إلا يقابل ما لا ووجبت عليه الكفارة لان الخاطئ لا ينفك عن ضرب تقصير يصلح سببا لما يشبه العبادة والعقوبة لانه جزاء قاصر وصح طلاقه عندنا وقال الشافعي لا يصح لعدم الاختيار منه وصار كالنائم ولو قام البلوغ مقام اعتدال العقل لصح طلاق النائم ولقام البلوغ مقام الرضاء أيضا فيما يعتمد الرضاء والجواب عنه أن الشيء إنما يقومم مقام غيره إذا صلح دليلا وكان في الوقوف على الأصل جرح فيقل تيسير أو ليس في اصل العمل بالعقل حرج في دركه والنوم ينافي في اصل العمل به ولا حرج في معرفته فلم يقم البلوغ مقامه والرضاء عبارة عن امتلاء الاختيار حتى يفضى إلى الظاهر ولهذا كان الرضاء والغضب من المتشابه في صفات الله عز و جل فلم يجز اقامة غيره مقامه فأما دوام العمل بالعقل بلا سهو ولا غفلة أمر لا يوقف عليه إلا بحرج فاقيم البلوغ مقامه عند قيام كمال العقل ولما كان الخطاء لا يخلو عن ضرب تقصير لم يصلح سببا للكرامة إلا تراه صالحا للجزاء ولهذا قلنا أن الناسي استوجب بقاء الصوم من غير اداء وجعل المناقض عدما في حقه فلم يلحق به الخاطئ وإذا جرى البيع على لسان المرء خطاء بلا قصد وصدقه عليه خصمه يجب أن ينعقد ويكون كبيع المكره لوجود الاختيار وضعا ولعدم الرضاء والله اعلم واما الفصل الآخر فهو فصل الاكراه وهو ثلاثة أنواع نوع يعدم الرضاء ويفسد الاختيار وهو الملجىء ونوع يعدم الرضاء ولا يفسد الاختيار وهو الذي لا يلجئ ونوع آخر لا يعدم الرضاء وهو أن يهتم بحبس ابيه أو ولده وما يجري مجراه والاكراه بجملته لا ينافي اهلية ولا يوجب وضع الخطاب بحال لان المكره مبتلى والابتلاء يحقق الخطاب إلا يرى انه متردد بين فرض وخطر واباحة ورخصة وذلك آية الخطاب فيأثم مرة ويوجر أخرى ولا ينافي الاختيار ايضا لأنه لو سقط لبطل الاكراه إلا يرى انه حمل على الاختيار وقد وافق الحامل فكيف لا يكون مختارا ولذلك كان مخاطبا في عين ما أكره عليه فثبت بهذه الجملة أن الاكراه لا يصلح لابطال حكم شيء من الأقوال والافعال جملة إلا بدليل غيره على مثال فعل الطايع وانما اثر الكره إذا تكامل في تبديل النسبة و (1/357)
اثره إذا قصر في تفويت الرضاء واما في الاهدار فلا فهذا اصل هذه الجملة خلافا للشافعي رحمه الله ثم الحاجة إلى التفصيل وترتيب هذه الجملة والجملة عند الشافعي أن الاكراه الباطل متى جعل عذرا في الشريعة كان مبطلا للحكم عن المكره اصلا فعلا كان او قولا لما قلنا أن الاكراه يبطل الاختيار وصحة القول بالقصد والاختيار ليكون ترجمة عما في الضمير فتبطل عند عدمه والاكراه بالحبس مثل الاكراه بالقتل عنده إلا يرى انه يعدم الرضاء وتحقيق العصمة في دفع الضرر عنه عند عدم الرضاء ويبطل البيع والاقارير كلها وإذا وقع الاكراه على الفعل فإذا تم الاكراه بطل حكم الفعل عن الفاعل وتمامة بان يجعل عذرا يبيح الفعل فان امكن ان ينسب الى المكره نسب اليه والا فيبطل حكمه اصلا ولهذا قال في الاكراه على تلاف المال وقال في الأقوال اجمع انها تيطل وقال في اتلاف صيد الحرم والاحرام والافطارانه لا شيء على الفاعل ولكن الجزاء على المكره وقال في الاكراه على الزنا انه يوجب الحد على الفاعل لانه لم يحل ب الفعل وكذلك قال في المكره وقال في الاكراه على الزنا انه يوجب الحد على الفاعل لانه لم يحل به الفعل وكذلك قال في المكره على القتل انه يقتل لما قلنا واما المكره فانما يقتل بالتسبيب وقال في الاكراه على الاسلام ا ان المكره اذا كان ذميما لم يصح اسلامه وان كان حربيا يصح لان اكراه الذمي باطل واكراه الحربي جائز فعد الاختيار قائما وكذلك القاضي إذا اكره المديون على بيع ماله فباعه صح لان لهذا الاكراه حق و كذلك المولى إذا اكره فطلق صح لما قلنا وذلك بعد المدة عنده وقد ذكرنا نحن أن الاكراه لا يعدم الاختيار لكنه يعدم الرضاء فكان دون الهزل وشرط الخيار ودون الخطأ لكنه يفسد الاختيار فإذا عارضه اختيار صحيح وجب ترجيح الصحيح على الفاسد ان امكن فيجعل الاختيار الفاسد معدوما في مقابلته وإذا جعل معدوما صار بمنزلة عديم الاختيار فيصير آلة للمكره فيما يحتمل ذلك وفيما لا يحتمله لا يستقيم نسبته إلى المكره فلا يقع المعارضة في استحقاق الحكم فبقى منسوبا إلى الاختيار الفاسد لانه صالح لذلك وانما كان يسقط بالترجيح إلا يرى أن هذا القدر من الاختيار صالح للخطاب و صارت التصرفات كلها منقسمة إلى هذين القسمين الأقوال قسم واحد أن المتكلم فيها لا يصلح آلة لغيره فاقتصرت عليه والافعال قسمان أحدهما مثل الأقوال والثاني ما يصلح أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره والاقوال قسمان ايضا (1/358)
ما يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضاء وما لا يحتمل الفسخ ويتوقع على القصد والاختيار دون الرضاء والاكراه نوعان كامل يفسد الاختيار ويوجب الالجاء وقاصر يعدم الرضاء ولا يوجب الالجاء والحرمات أنواع حرمة وجملة الفقه فيه ما قلنا أن الاكراه لا يوجب تبديل الحكم بحال ولا تبديل محل الجناية ولا يوجب تبديل النسبة إلا بطريق واحد وهو أن تجعل المكره الة للمكره لا وجه لنقل الحكم بدون نقل الفعل ولا وجه لنقل الفعل ذاته إلا بهذا الطريق فان امكن وألا وجب القصر على المكره ففي الأقوال كلها لا يصلح أن يتكلم المرء بلسان غيره فاقتصر على المتكلم ثم ينظر فان كان من جنس ما لا ينفسخ ولا يتوقف على وجود الرضاء والاختيار لم يبطل بالكره مثل الطلاق والعتاق والنكاح لان ذلك لا يبطل بالهزل وهو ينافي الاختيار والرضاء بالحكم ولا يبطل شرط الخيار وهو ينافي الاختيار اصلا فلأن لا يبطل بما يفسد الاختيار اولى وإذا اتصل الاكراه بقبول المال في الخلع فإن الطلاق يقع والمال لا يجب لان الاكراه لا يعدم الاختيار في السبب و الحكم جميعا ويعدم الرضاء بالسبب والحكم جميعا اوالتزام المال ينعدم عند عدم الرضاء فكأن المال لم يوجد فلم يتوقف الطلاق عليه بل وقع كطلاق الصغيرة على مال بخلاف البدل عند أبي حنيفة رضي الله عنه لانه يعدم الرضاء والاختيار جميعا بالحكم ولا يمنع الرضاء ولا الاختيار في السبب و إذا كان كذلك صح ايجاب المال فيتوقف الطلاق كشرط الخيار فانه لما دخل على الحكم دون السبب اوجب توقف الطلاق على المال كذلك ههنا واما عندهما فان الاكراه يعدم الرضاء بالسبب والحكم ولا يمنع الاختيار فيهما ايضا فلم يصح ايجاب المال لعدم الرضاء بلزوم المال فكان لم يوجد فوقع بغير مال بخلاف البدل لانه يعدم الرضاء والاختيار في الحكم دون السبب وعندهما ما يدخل على الحكم دون السبب لا يؤثر في بدل الخلع اصلا كشرط الخيار وما دخل على السبب يؤثر في المال دون الطلاق لانه لا يجب إلا بالشرط فكان في الايجاب مثل الثمن وبعد صحة الايجاب الطلاق الذي هو المقصود واما الذي يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضاء مثل البيع والاجارة فانه يقتصر على المباشر ايضا إلا انه يفسد لعدم الرضاء ولا يصح الاقارير كلها لان صحتها تعتمد قيام المخبر به وقد قامت دلالة عدمه ولا تسلم قول الخصم أن الضرر موقوف على الرضاء بل على الاختيار إلا يرى أن الانسان قد (1/359)
يختار الضرر كارها غير راض كالفصد وشرب الدواء وانما الرضاء للزوم فيما يحتمل الفسخ لا غير وهذا بخلاف اقارير السكران فإنها تصح على ما قلنا لان السكر لما لم يصلح عذرا لم يصلح دلالة على عدم المخبر به بل جعل دلالة على الرجوع بخلاف السكران إذا ارتد فإن امرأته لا تبين وجعل السكر دلالة على عدم المخبر به لان الردة تعتمد محض الاعتقاد وقد وقع فيه الشك والشبهة فلم يثبت وما يعتمد العبارة لا يبطل بالشبهة ايضا والكامل من الاكراه والقاصر في هذا سواء والقسم الذي يصلح أن يكون فيه آلة لغيره فمثل اتلاف المال واتلاف النفس لانه يحتمل أن يأخذه فيضرب به نفسا أو مالا فيتلفه فان كان عليه ما اوجب جرحه وجب به القود في النفس بالإجماع وليس في ذلك تبديل محل الجناية ايضا فلذلك جعل آلة فإذا جعل آلة له بالطريق الذي قلنا صار ابتداء وجود الفعل مضافا اليه فلزمه حكم الفعل ابتداء وخرج المكره من الوسط ولذلك وجب القصاص على المكره ولذلك قلنا فيمن اكره على رمي صيد فرماه فأصاب انسانا أن الدية على عاقله المكره والكفارة عليه لان الدية ضمان المتلف والكفارة جزاء الفعل المحرم لحرمة هذا المحل ايضا وكذلك اتلاف المال ينسب إلى المكره ابتداء و هذه نسبة ثبتت شرعا لما قلنا وهذا كالأمر فانه متى صح استقام نقل الجناية به ايضا كمن أمر عبده بأن يحفر بئرا في فنائه وذلك موضع اشكال قد يخفى على الناس انه ملكه أو حق المسلمين فحفر فوقع فيه انسان ومات أن المولى هو القاتل لما قلنا من صحة الأمر وكذلك إذا استأجر حرا واستعان به وذلك موضع اشكال ولم يبين فان ضمان ما يعطب به على الأمر استحسانا لما قلنا من صحة الأمر وإذا كان في جادة الطريق لا يشكل حاله بطل الأمر واقتصرت الجناية على المباشر وكذلك من قتل عبد غيره بأمر المولى انتقل إلى المولى نفس القتل في حق حكمه كأنه باشره لانه موضع شبهة بخلاف ما إذا قتل حرا بأمر حر آخر في ان الضمان على المباشر والاكراه صحيح بكل حال فوجب ان ينسب الفعل الى الذي اكرهه واما الاكراه الذي لا يوجب الالجاء فلا يوجب النقل لانه يعدم الرضاء ولا يفسد الاختيار والمشية فلذلك لم يجعل آلة له واما القسم الذي لا يحتمل أن يجعل الفاعل فيه آلة لغيره فذلك (1/360)
مثل الاكل والوطىء والزنا لان الاكل بفم غيره لا يتصور وكذلك إذا كان نفس الفعل مما يتصور أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره صورة إلا أن المحل غير الذي يلاقيه الاتلاف صورة وكان ذلك يتبدل بأن يجعل آلة بطل ذلك واقتصر الفعل على المكره لان المحل الذي إذا تبدل كان في تبديله بطلان الكره لان الاكراه لا اثر له في تبديل المحال وفي تبديل المحل خلاف المكره وفي خلافه بطلان الاكراه وإذا بطل اقتصر الفعل على الفاعل وعاد الأمر إلى المحل الأولى وبطل التبديل وذلك مثل اكراه المحرم على قتل الصيد أو اكراه الحلال على قتل صيد الحرم أن ذلك القتل يقتصر على الفاعل لان المكره إنما حمله على أن يجني على احرام نفسه أو على دين نفسه وهو في ذلك لا يصلح آلة لغيره ولو جعل آلة لتبدل محل الجناية فيصير محل الجناية احرام المكره ودينه ولهذا قلنا أن المكره على القتل يأثم لان القتل من حيث انه يوجب المأثم جناية على دين القاتل وهو في ذلك لا يصلح آلة فصار محل الجناية دين المكره لو جعل آلة فصاره في حق الحكم المكره فاعلا وصار المكره في حق المأثم فاعلا ففقيل له لا تفعل وصار المكره آثما لأنه اختار موته وحققه بما في وسعه فلحقه المأثم والمأثم يعتمد عزايم القلوب إذا اتصلت بالفعل ولهذا قلنا في المكره على البيع والتسليم ان تسليمه يقتصر عليه وان كان فاعلا لأن التسليم تصرف في البيع وإنما أكره ليتصرف في بيع نفسه بالإتمام وهو فيه لا يصلح آلة ولو جعل آلة لتبدل المحل ولتبدل داب الفعل لأنه حينئذ يصير غصبا محضا وقد نسبناه إلى المكره من حيث هو غصب وإذا ثبت أنه أمر حكمي صرنا إليه استقام ذلك فيما يعقل ولا يحس قلنا أن المكره على الإعتاق بما فيه الجاء هو المتكلم ومعنى الإتلاف منه منقول إلى الذي أكرهه لأنه من فصل في الجملة يحتمل للنقل بأصله واما بيان ما ذكرنا من تقسيم الحرمات فان القسم الأول هو الزنا بالمرأة والقتل والجرح لا يحل ذلك بعذر الكره ولا يرخص فيه لان دليل الرخصة خوف التلف والمكره والمكره عليه في ذلك سواء فسقط الكره في حق تناول دم المكره عليه للتعارض وفي الزنا فساد الفراش وضياع النسل وذلك بمنزلة القتل ايضا حتى أن من قيل له لنقتلنك أو لنقطعن يدك حل له لان حرمة نفسه فوق حرمة يده عند التعارض ويد غيره ونفسه سواء والحرمة التي تحتمل (1/361)
السقوط اصلا هي حرمة الخمر والميتة ولحم الخنزير فان الاكراه الملجىء يوجب اباحته لان حرمة هذه الاشياء لم يثبت بالنص إلا عند الاختيار قال الله تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم اليه وقال تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه وان كان التحريم في الأصل يثبت مقيدا بالاستثناء كان الاستثناء خارجة عن التحريم فيبقى على الاباحة المطلقة كالذي لا يضطر إلى ذلك لجوع أو عطش يرى أن رفق التحريم يعود إلى المتناول من خبث في المأكول والمشروب قال الله تعالى ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون وقال تعالى ويحرم عليهم الخبائث فإذا أدى ذلك إلى فوت الكل كان فوت البعض اولى من فوت الكل على مثال قولنا لتقطعن يدك انت أو لنقتلنك نحن فإذا سقطت الحرمة اصلا كان الممتنع من تناوله وهو مكره مضيعا لدمه فصار اثما وهذا إذا تم الاكراه فأما إذا قصر لم يحل له التناول لعدم الضرورة إلا انه إذا تناول لم يجد لانه لو تكامل اوجب الحل فإذا قصر صار شبهة بخلاف المكره على القتل بالحبس إذا قتل فإنه يقتص لانه لو تم لم يحل لكنه انتقل عنه فإذا قصر لم ينتقل ولم يصر شبهة واما الذي لا يسقط ويحتمل الرخصة فمثل اجراء كلمة الكفر على اللسان والقلب مطمئن بالايمان فان هذا ظلم في الأصل لكنه رخص فيه بالنص في قصة عمار بن ياسر وبقي الكفر عزيمة بحديث خبيب و ذلك أن حرمته لا تحتمل السقوط وفي هتك الظاهر مع قرار القلب ضرب جناية لكنه دون القتل لان ذلك هتك صورة وهذا هتك صورة ومعنى فوجبت الرخصة وبقي الكف عنه عزيمة لبقاء الحرمة نفسها فإذا صبر فقد بذل نفسه لاعزاز دين الله عز و جل فكان شهيدا وإذا اجرى فقد ترخص بالادنى صيانة للاعلى وكذلك هذا في سائر حقوق الله عز و جل مثل افساد الصلاة والصيام وقتل صيد الحرم أو في الاحرام لما قلنا وكذلك في استهلاك اموال الناس يرخص فيه بالاكراه التام لان حرمة النفس فوق حرمة المال فاستقام أن يجعل وقاية لها ولكن اخذ المال واتلافه ظلم وعصمة صاحبه فيه قائمة فبقى حراما في نفسه لبقاء دليله والرخصة ما يستباح بعذر مع قيام المحرم فإذا صبر حتى قتل فقد بذل نفسه لدفع الظلم ولاقامة حق محترم فصار شهيدا وكذلك المرأة إذا اكرهت على الزنا بالقتل اوالقطع رخص لها في ذلك (1/362)
لان ذلك تعرض لحق محترم بمنزلة سائر حقوق الله تعالى وليس في ذلك معنى القتل لان نسب الولد عنها لا ينقطع ولهذا قلنا إنها إذا اكرهت على الزنا بالحبس إنها لا تحد لان الكامل يوجب الرخصة فصار القاصر شبهة بخلاف الرجل فصار هذا القسم قسمين قسم حق الله تعالى وفي الإيمان لا القائم يحتمل السقوط بحال إلا ترى انه لما لم يكن في العقيدة ضرورة لم تحتمل الرخصة بالتبديل ودخلت الرخصة في الاداء للضرورة ولما سبق أن اصل الشرع التوحيد والايمان والاصل فيه الاعتقاد والاداء فيه ركن ضم اليه فصارت عمدة الشرع وهو اساس الدين لا يحتمل السقوط والتعدي من البشر بحمد الله تعالى فصار غيره عرضة للعوارض وما كان من حقوق العباد من جنس ما يحتمل السقوط ومن حقوق الله تعالى قسما آخر انه يحتمل السقوط بأصله لكن دليل السقوط لما لم يوجد وعارضه أمر فوقه وجب العمل باثبات الرخصة والعمل وجب بأصله بأن جعل اصله عزيمة وهذا كمن اصابته مخمصة حل له تناول طعام غيره رخصة لا اباحة مطلقة حتى إذا ترك فمات كان شهيدا بخلاف طعام نفسه وإذا استوفاه ضمنه لكونه معصوما في نفسه وذلك مثل تناول محظور الاحرام عن ضرورة بالمحرم انه يرخص له ويضمن الجزاء فكذلك ههنا والله اعلم بالصواب (1/363)
@ 364 @ (1/364)
اصول الكرخي مع
ذكر امثلتها ونظائرها وشواهدها من الأمام نجم الدين
أبي حفص عمر بن احمد النسفي (1/365)
ترجمة صاحب الاصول الأمام أبي الحسن الكرخي رحمه الله تعالى
ملخصة من - كتاب اعلام الاخيار وتاج التراجم
هو الشيخ المجتهد الورع البارع أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال بن دلهم الكرخي من كرخ جدان انتهت اليه رئاسة الحنفية بعد القاضي أبي حازم القاضي أبي سعيد البردعي اخذ الفقه عن أبي سعيد البردعي عن اسماعيل بن حماد عن حماد ابن أبي حنيفة وكان رحمه الله واسع العلم والرواية كثير الصوم والصلاة صبورا على الفقر والحاجة انتشرت اصحابه وععم نفسعه وممن تفقه عليه أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص و أبو عبد الله الدامغاني وابو علي الشاشي وابو حامد الطبري وابو القاسم التنوخي و أبو عبد الله الجرجاني وابو زكريا الضرير البصري وابو عبد الله المعتزلي وكان من طبقة عالية بين أصحاب أبي حنيفة معدودا من المجتهدين القادرين على حل المسائل التي لا نصل فيها على حسب اصوله ومقتضى قواعده له ومن التآليف المختصر وشرح - الجامع الكبير و - الجامع الصغير وغيرهم قرأها عليه تلامذته المذكورون وكان زاهدا دعى للقضاة فلم يقبله وكان يهجر من يتولى القضاء من اصحابه ولد سنة ستين ومائتين واصابه الفالج في آخر عمره فكتب اصحابه إلى سيف الدولة ابن حمدان بما ينفق علهي فلما علم بذلك بكى وقال اللهم لا تجعل رزقي إلا من حيث عودتني فمات قبل أن تصل اليه صلة سيف الدولة وكانت عشرة الاف درهم وذلك ليلة النصف من شعبان سنة اربعين وثلاثمائة انتهى
ترجمة الأمام النسفي رحمه الله ملخصة من - الروضة
وهو الأمام العلامة أبو حفص عمر بن محمد بن احمد بن اسماعيل النسفي صاحب تفسير التيسير المعروف بنجم الدين ولد بنسف بفتحتين اسم بلد ما وراء النهر سنة احدى وستين واربعمائة ومن تصانيفه نظم الجامع الصغير وطلبة الطلبة في لغة الفقهاء ونظم الخلافيات ومتن النسفية في العقائد وغيرها توفي بسمرقند سنة سبع وثلاثين وخمسمائة انتهى (1/366)
بسم الله الرحمن الرحيم
الاصول التي عليها مدار كتب اصحابنا من جهة الإمام العالم العلامة أبي الحسن الكرخي وذكر امثلتها ونظائرها وشواهدها الإمام نجم الدين أبو حفص عمر بن احمد النسفي
الأصل أن ما ثبت باليقين لا يزول بالشك
قال الإمام النسفي من مسائله أن من شك في الحدث بعدما تيقن بالوضوء فهو على وضوئه ما لم يتيقن بالحدث ومن شك في وضوئه بعد ما تيقن بحدثه فهو على حدثه ما لم يتيقن بوضوئه
الأصل أن الظاهر يدفع الاستحقاق ولا يوجب الاستحقاق
قال من مسائله أن من كان في يده دار فجاء رجل يدعيها فظاهر يده يدفع استحقاق المدعي حتى لا يقضي هل إلا بالبينة ولو بيعت دار لجنب هذه الدار فأراد اخذ الدار المبيعة بالشفعة بسبب الجوار لهذه الدار فانكر المدعى عليه أن تكون هذه الدار التي في يده مملوكة له فانه بظاهر يده لا يستحق الشفعة ما لم يثبت أن هذه الدار ملكه
الأصل أن من ساعده الظاهر فالقول قوله والبينة على من يدعي خلاف الظاهر
قال من مسائله أن من ادعى دينا على رجل وضمانا فانكره فالقول قوله لان الذمم في الأصل خلقت بريئة والبينة على من يدعي خلاف الظاهر
الأصل انه يعتبر في الدعاوي مقصود الخصمين في المنازعة دون الظاهر
قال من مسائله أن المودع إذا طولب برد الوديعة فقال رددتها عليك فقال (1/367)
المودع لم تردها فالقول قول قابل الوديعة مع انه يدعى الظاهر بقوله رددت لان المقصود هو الضمان وهو منكر للضمان فكان القول قوله
الأصل أن الظاهرين إذا كان أحدهما اظهر من الآخر فالأظهر اولى لفضل ظهوره
قال من مسائله أن من اقر بدين لجنين عند محمد يصح اقراره به وان كان فيه احتمال وعند أبي يوسف لا يصح لانه لو صرح بان هذا الدين لزمه بعقد لم يلزمه لان عقده مع الجنين لا يصح ولو صرح بأنه تلف عليه ماله ولزمه ضمانه صح اقراره وإذا اجمل وقع الشك في الوجوب فلا يجب لكن محمد يقول الظاهر من حال المسلم العاقل أن يقصد بكلامه الصحة فيحمل على وجوبه باتلاف ماله ليصح وابو يوسف يقول لا يلزمه بهذا الإقرار شيء لانه قابل هذا الظاهر ما هو اظهر منه لان الظاهر من المسلم العاقل أنه لا يتلف مال غيره لانه معصية
الأصل أن امور المسلمين محمولة على السداد والصلاح حتى يظهر غيره
قال من مسائله أن من باع درهما ودينارا بدرهمين ودينارين جاز البيع وصرف الجنس إلى خلاف جنسه تجريا للجواز حملا لحال المسلم على الصلاح ولو نص على أن الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين فسد البيع لانه قد غير هذا الظاهر صريحا
الأصل أن للحالة من الدلالة كما للمقالة
قال من مسائلة أن من اودع رجلا مالا فدفعه إلى من هو في عياله فهلك عنده لم يضمن وان لم يصرح له بالاذن بالدفع إلى غيره لانه لما اودعه مع علمه بأنه لا يمكنه أن يحفظ بيده أناء الليل والنهار كان ذلك اذنا منه دلالة أن يحفظه له كما يحفظ مال نفسه وهو يحفظ مال نفسه تارة بيده وتارة بيد من في عياله وكان ذلك كالاذن به صريحا ومسائل (1/368)
الفور مبنية على هذا الأصل
الأصل انه قد يثبت من جهة الفعل ما لا يثبت من جهة القول كما في الصبي قال من مسائلة أن من وكل غيره بعقد إذا عزل وكيله حال غيبته قولا لم ينعزل ما لم يعلم به حتى لو فعل الوكيل ما أمر به قبل علمه به نفذ تصرفه ولو أن الموكل تصرف في ذلك المجلس بنفسه في ذلك مع غير علمه انعزل الوكيل حكما لنفاذ تصرف الموكل فيه وقوله كالصبي يعني أن الصبي يضمن بفعله وان كان لا يضمن بقوله أي بعقد أو كفالة أو إقرار
الأصل أن السؤال والخطاب يمضي على ما عم وغلب لا على ما شذ وندر
قال من مسائلة أن من حلف لا يأكل بيضا فهو على بيض الطير دون بيض السمك ونحوه
الأصل أن جواب السؤال يجري على حسب ما تعارف كل قوم في مكانهم قال من مسائلة إذا حلف لا يتغذى حنث باللبن وحده إذا كان في بلاد العرب دون العجم وغذاء كل قوم ما تعارفوه
الأصل أن المرء يعامل في حق نفسه كما اقر به ولا يصدق على ابطال حق الغير ولا بالزام الغير حقا
قال من مسائلة أن مجهولة النسب إذا اقرت بالرق لانسان وصدقها ذلك الانسان تصيرا امة له لكن لا يبطل نكاح الزوج ولا يضمن الزوج للمقر له إذا كان قد اوفاها المهر مرة والمودع المأمور بدفع الوديعة إذا قال دفعتها إلى فلان فقال ما دفعتها إلى فالقول قول المودع في براءة نفسه من الضمان لا في ايجاب الضمان على فلان بالقبض
الأصل أن القول قول الامين مع اليمين من غير بينة
قال من مسائلة دعوى المودع برد الوديعة إلى مالكها أو ضياعها عنده وكذا سائر الامناء من المستعير المضارب والوكيل ونحوهم (1/369)
الأصل أن من التزم شيئا وله شرط لنفوذه فان الذي هو شرط لنفوذ الآخر يكون في الحكم سابقا والثاني لاحقا والسابق يلزم للصحة والجواز
قال من مسائلة أن من التزم صلاة كان التزاما لتقدم الطهارة عليها لان الطهارة شرطها
الأصل أن المتعاقدين إذا صرحا بجهة الصحة صح العقد وإذا صرحا بجهة الفساد فسد وإذا أبهما صرف إلى الصحة
قال من مسائلة إذا باع قبل فضة وزنها عشرة وثوبا قيمته عشرة بعشرين درهما على أن عشرة منها مؤجلة إلى شهر فان صرحا أن العشرة المؤجلة ثمن الثوب والعشرة المنقودة ثمن القلب صح وان صرحا أنها ثمن القلب فسد وان ابهما فالعشرة المنقودة تجعل للقلب والمؤجلة للثوب حملا على الصحة
الأصل انه يفرق بين الفساد إذا دخل في اصل العقد وبينه إذا دخل في علقة من علائقه
قال من مسائلة إذا باع عبدا بألف درهم ورطل من خمر فسد البيع ولو اخرجا منه الخمر لم يعد الجواز لان الفساد في اصل العقد ولو باع عبدا بألف درهم مؤجلة إلى الحصاد فسد البيع لجهالة الاجل فلو اخرجا قبل مجيء وقت الحصاد عاد العقد إلى الجواز لانه علقة من علائقه
الأصل أن الضمانات في الذمة لا تجب إلا بأحد امرين إما باخذ أو بشرط فإذا عدما لم تجب
قال من مسائلة الاخذ هو الغضب وقبض الرهن والتقاط من غير إشهاد ونحوها والشرط قبول العقد كالشراء والإستئجار والكفالة ونحوها
الأصل أن الاحتياط في حقوق الله تعالى جائز وفي حقوق العباد لا يجوز
قال من مسائلة إذا دارت الصلاة بين الجواز والفساد فالاحتياط أن يعيد الاداء لانه لو أدى ما ليس عليه اولى من ترك ما عليه والضمان إذا اراد بين الجواز (1/370)
وعدمه لا يوجب بالاحتياط لانه لا يضمن بالشك
الأصل انه يفرق في الأخبار بين الأصل والفرع
قال من مسئلة أن المرأة إذا اخبرت بالرضاع بين الزوجين لم يفرق بينهما ويفرق في الفرع بطلاق أو خلع
الأصل انه يفرق بين العلم إذا ثبت ظاهرا وبينه إذا ثبت يقينا
قال من مسائلة أن ما علم يقينا يجب العمل به واعتقاده وما ثبت ظاهرا وجب العمل به ولم يجب اعتقاده وسيوضح هذا بالصلوات الخمس وبالوتر وكون الاذنين من الرأس علم ظاهرا فلم يجز اقامة فرض المسح بهما الذي يثبت يقينا وكون الحطيم من البيت علم ظاهر فلم يجز التوجه اليه في الصلاة مع استدبار البيت وقد ثبتت فرضية التوجه إلى البيت يقينا وإذا قضى القاضي بشيء ثم علم أنه أخطأ بدليل ظاهر ليس بمتيقن لم ينقض قضاءه وإذا ظهر خطأه بدليل متيقن من نص أو اجماع نقض قضاءه الأصل أنه قد يثبت الشيء تبعا وحكما وأن كان قد يبطل قصدا قال من مسائله أن عزل الوكيل وهو غائب يثبت تبعا لتصرف الموكل فيه بنفسه ولو عزل الوكيل قصدا لم يصح حتى يعلم به ولو باع عبدا دخل أطرافه في المبيع تبعا وكذا هواء الدار في بيع الدار وكذا الشرب في بيع الأرض ولو باع الأطراف قصدا والهواء والشرب لم يصح ونظائرها كثيرة الأصل أن الاجازة اللاحقة كالوكالة السابقة
قال من مسائلة أن من عقد على مال غيره أو نفس غيره ببيع أو نكاح أو غير ذلك بغير امره فبلغه الخبر فأجاز ذلك نفذ وصار العاقد كأنه وكيله بذلك العقد عندنا خلافا للشافعي لانه لا يقول بتوقف العقد
الأصل أن الموجود في حالة التوقف كالموجود في اصله قال من مسائلة أن الزوائد الحاصلة بعد العقد إذا اتصلت بالاجازة تصير للمشتري كالموجودة عند العقد (1/371)
الأصل أن الاجازة إنما تعمل في المتوقف لا في الجائز
قال من مسائلة أن المأمور بشراء عبد بعينه بخمسمائة درهم إذا اشتراه بستمائة درهم صار مشتريا لنفسه فلو اخبر الآمر انه اشتراه له بستمائة فاجازه لم يصر للامر بهذه الاجازة لان الشراء ثبت للمشتري حين وقع فلا تعمل فيه الاجازة ولا يصير له
الأصل أن الاجازة تصح ثم تستند إلى وقت العقد يعني به أنه يشترط كون المحل قابلا للعقد في الحال حتى يثبت فيه حكم العقد حالة الاجازة ويستند إلى وقت وجود العقد حتى لو كان المحل هالكا ينفذ العقد فيه بالاجازة وكذا لو كان عند الاجازة مريضا مرض الموت والعقد كان في الصحة يعتبر تصرف المريض دون الصحيح
قال منها أن الاجازة في القائم دون الهالك أي لو هلك المبيع المتوقف ثم اجيز لم ينفذ
الأصل أن كل عقد له مجيز حال وقوعه توقف للاجازة والا فلا
قال من مسائلة إذا باع رجل مال صبي بثمن مثله توقف على اجازة الولى لانه له ولاية البيع ولو طلق امرأته أو اعتق عبده أو تصدق بماله لم يتوقف لان المولى لا يملك ذلك
الأصل أن تعليق الاملاك بالاخطار باطل وتعليق زوالها بالاخطار جائز
قال من مسائلة قال رجل لرجل إذا دخلت الدار فقد بعتك هذا العبد بألف درهم فقال قبلت أو قال ذلك في الاجازة والهبة ونحو ذلك لم يصح ولم يقع الملك عند وجود الشرط ولو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق أو قال لعبده إذا دخلت فأنت حر صح وعند وجود الشرط يقع الطلاق و العتاق ويزول ملك النكاح وملك اليمين
الأصل أن الشيء يعتبر ما لم يعد على موضوعه بالنقض والابطال
قال من مسائلة أن العبد المحجوز إذا آجر نفسه مدة معلومة للعمل لم تصح دفعا للضرر عن المولى ولو قضينا بفسادها بعد مضي المدة وتمام العمل كان اضرارا للمولى (1/372)
بتعطيل منافع عبده بغير بدل فكان دفع الضرر هنا في تصحيحها إذ لو قضينا بفسادها لم يكن دفعا للضرر بل يكون تحقيقا للضرر فيعود النظر ضررا
الأصل أن كل آية تخالف قول اصحابنا فإنها تحمل على النسخ أو على الترجيح و الأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق
قال من مسائلة أن من تحرى عند الاشتباه واستدبر الكعبة جاز عندنا لأن تأويل قوله تعالى فولوا وجوهكم شطره إذا علمتم به وإلى حيث وقع تحريكم عند الاشتباه أو يحمل على النسخ كقوله تعالى ولرسوله ولذي القربى في الاية ثبوت سهم ذوي القربى في الغنيمة ونحن نقول انتسخ ذلك باجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أو على الترجيح كقوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون ازواجا ظاهره يقتضي أن الحامل المتوفى عنها زوجها غيرها وقوله تعالى وأولات الاحمال اجلهن أن يضعن حملهن يقتضي انقضاء العدة بوضع الحمل قبل مضي الاشهر لأنها عامة في المتوفى عنها زوجها وغيرها لكنا رجحنا هذه الآية بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بعد نزول تلك الآية فنسختها وعلي رضي الله عنه جمع بن الاجلين احتياطا لاشتباه التاريخ
الأصل أن كل خبر يجيء بخلاف قول اصحابنا فإنه يحمل على النسخ أو على انه معارض بمثله ثم صار إلى دليل اخر أو ترجيح فيه بما يحتج به اصحابنا من وجوه الترجيح أو يحمل على التوفيق وانما يفعل ذلك على حسب قيام الدليل فإن قامت دلالة النسخ يحمل عليه وان قامت الدلالة على غيره صرنا اليه
قال من ذلك أن الشافعي يقول بجواز أداء سنة الفجر بعد أداء فرض الفجر قبل طلوع الشمس لما روى عن عيسى رآني رسول الله صلى الله عليه و سلم اصلى ركعتين بعد الفجر فقال ما هما فقلت ركعتا الفجر كنت لم اركعهما فسكت قلت هذا منسوخ بما روى عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس واما المعارضة فكحديث (1/373)
أنس رضي الله تعالى أنه عنه كان يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا فهو معارض برواية عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قنت شهرا ثم تركه فإذا تعارضا روايتاه تساقطا فبقي لنا حديث ابن مسعود وغيره رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قنت شهرين يدعو على أحياء من العرب ثم تركه وأما التأويل فهو ما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد وهذا دلالته الجمع بين الذكرين من الإمام وغيره ثم روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده قولوا ربنا لك الحمد والقسمة تقطع الشركة فيوفق بينهما فنقول الجمع للمنفرد والإفراد للإمام والمقتدى وعن أبي حنيفة أنه يقول الجمع للمتنفل والإفراد للمفترض
الأصل أن الحديث إذا ورد عن الصحابي مخالفا لقول أصحابنا فإن كان لا يصح في الأصل كفينا مؤنة جوابه وإن كان صحيحا في مورده فقد سبق ذكر أقسامه إلا أن أحسن الوجوه وأبعدها عن الشبه أنه إذا ورد حديث الصحابي في غير موضع الإجماع أن يحمل على التأويل أو المعارضة بينه وبين صحابي مثله
قال نجم الدين عمر النسفى معنى قوله لا يصح في الأصل أن لا يكون رواية عدل فهذا غريب ثابت فليس لأحد أن يتمسك به فلا يفتقر إلى التفصى عنه فأما إذا أسنده عدل فقد ثبت واحتيج إلى التفصى فنعارض بقول صحابي آخر فهو كاختلاف الصحابي في الجد والأخوة وفي هدم الزوج الثاني الطلقة والطلقتين وفي مسألة تكبيرات أيام التشريق
الأصل أنه إذا مضى بالاجتهاد لا يفسخ باجتهاد مثله ويفسخ بالنص
قال ويقع ذلك في التحري والقضاء في الدعاوى
الأصل أن النص يحتاج إلى التعليل بحكم غيره لا بحكم نفسه
قال وذلك أن الحرمة في الأشياء الستة التي في قول النبي صلى الله عليه و سلم الحنطة بالحنطة إلى آخره ثابتة بعين النص لا بالمعنى وفي سائر المكيلات و (1/374)
الموذونات بالمعنى وهو القدر مع الجنس وكذا نظائره
الأصل أنه يفرق بين علة الحكم وحكمته فإن علته موجبة وحكمته غير موجبة
قال من مسائله أن السفر علة القصر وحكمته المشقة ثم السفر يثبت القصر وإن لم يلحقه مشقة وعدم الحكمة لا يوجب عدم الحكم ووجود العلة أوجب وجود الحكم وعلة وجوب الاستبراء استحداث ملك الوطئ بملك اليمين وحكمته صيانة النسب والتحرز عن اختلاط المياه ثم إذا اشترى بكرا أو جارية من امرأة أو صبي وجب الاستبراء مع التيقن بفراغ الرحم فعدم الحكمة لم يوجب عدم الوجوب لما وجد الملك الحادث
الأصل أن السائل إذا سئل سؤالا ينبغي للمسئول أن لا يجيب على الإطلاق والإرسال لكن ينظر فيه ويتفكر انه ينقسم إلى قسم واحد أو إلى قسمين أو أقسام ثم يقابل في كل قسم حرفا فحرفا ثم يعدل جوابه على ما يخرج إليه السؤال وهذا الأصل تكثر منفعته لأنه إذا أطلق الكلام فربما كان سريع الانتقاض لأن اللفظ قلما يجري على عمومه
قال قد يقع هذا في كل نوع من العبادات والتمليكات والجنايات وغيرها مثلا إذا قيل سلم رجل على رأس ركعتين من الظهر هل تفسد صلواته أو قيل أكل في حالة الصوم قل افعل ذلك سهوا أو عمدا و إذا قيل عبد باع عينا فيقال ما هو أمأذون أو محجور وإذا قيل قتل رجل رجلا ماذا عليه فيقال عمدا أو خطا أو شبه عمد وبأي آلة وإذا قيل رجل زنى ماذا عليه فيقال هو محصن أو غير ذلك ونظائره كثيرة
الأصل أن الحادثة إذا وقعت ولم يجد المؤول فيها جوابا ونظيرا في كتب أصحابنا فإنه ينبغي له أن يستنبط جوابها من غيرها إما من الكتاب أو من السنة أو غير ذلك مما هو لأقوى فالأقوى فإنه لا يعدو حكم هذه الأصول
قال فالمسائل المقررة مستخرجة من هذه الأصول والنوازل الحادثة مستخرجة منها أيضا
الأصل أن اللفظ إذا تعدى معنيين أحدهما أجلى من الآخر والآخر أخفى فإن الأجلى أملك من الأخفى
قال ومن ذلك قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين حمله أصحابنا على العقد الذي هو الجلي وذلك في المستقبل وحمله الشافعي على العقد الذي (1/375)
هو عزم القلب وذلك يقع على الماضي أيضا والأول أجلى فكان أولى
الأصل أنه يجوز أن يكون أول الآية على العموم وآخرها على الخصوص
قال من ذلك قوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ثم قال في الذي أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ولم يقل ودية مسلمة إلى أهله ويجوز أيضا أن يكون أول الآية على الخصوص وآخرها على العموم وهو قوله تعالى فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير قوله بينهما صلحا في حق الأزواج والصلح خير أعم من الأول
الأصل أن التوفيقين إذا تلاقيا وتعارضا وفي أحدهما ترك اللفظين على الحقيقة فهو أولى
قال من ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة وقوله عليه الصلاة و السلام المستحاضة تتوضأ لكل صلاة عمل أصحابنا بهما وقالوا تمتد طهارتها في الوقت لأن في الأول ذكر الوقت والثاني يحتمله فإن الصلاة تذكر ويراد بها وقتها قال عليه الصلاة و السلام اين أدركتني الصلاة تيممت أي وقت الصلاة وما قال الشافعي أنه موقت بالصلاة فيه عمل بصريح الثاني وألقى كلمة الوقت من الحديث
الأصل أن البيان يعتبر بالابتداء إن صح الابتداء وإلا فلا
قال من مسائله أن الرجل إذا قال لامرأتين له وقد دخل بهما أنتما طالقان ثم قال لهما وهما في العدة إحداكما طالق ثلاثا فله البيان ما دامتا في العدة في أيتهما صح كما لو ابتدأ ذلك فإن انقضت عدتهما فبين الثلاث في أحداهما بعينها لم يصح وبقي ذلك التوفيق فإنه لو ابتدأ ذلك لم يصح ولو انقضت عدة إحداهما أولا بقيت الأخرى للثلاث تمت بعون الله وتوفيقه والحمد لله على كل حال وعلى رسوله الصلاة والسلام (1/376)
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة الإمام البزدوي بقلم الفقير إليه تعالى محمد عبد الرشيد النعماني
هوعلي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن مجاهد أبو الحسن المعروف بفخر الإسلام البزدوي الفقيه الأصولي المحدث المفسر الإمام الكبير بما وراء النهر
والبزدوي بفتح الباء المنقوطة بواحدة وسكون الزاء وفتح الدال المهملة وفي آخرها الواو هذه النسبة إلى بزدة وهي قلعة حصينة على ستة فراسخ من نسف على طريق بخارا كذا ضبطه الحافظ السمعاني في - الأنساب وقال الحافظ السيد محمد مرتضى البلجرا في - تاج العروس من جواهر القاموس
بزدة ويقال بزدة قد أهلمه الجوهري وهي بلدة من أعمال نسف وهي قلعة حصينة على ستة فراسخ منها والنسبة اليها بزدي وبزدوي
وفخر الإسلام لقب جماعة وعند الإطلاق يراد به صاحب الترجمة الإمام البزدوي صرح به الحافظ عبد القادر القرشي في كتاب الألقاب من - الجواهر المضيئة
وهو من بيت علم وحديث اجتمع لهم رياسة الدنيا والدين ونالوا منهما الخط الوافر الذي لم ينله غيرهم
فأما أبوه أبو الحسن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي فقد كان فقيها حنيفا إماما فاضلا متكلما اخذ الفقه والكلام عن جده عبد الكريم الأمام أبي المنصور لما تريدي (1/377)
واما جده إلا علي عبد الكريم بن البزدوي فكان اماما فقيها محدثا متكلما قال الكفوي اخذ عن إما الهدى أبي منصور لما تريدي عنابي بكر الجوزجاني عن أبي سليمان عن محمد قال الحافظ أبو سعد السمعاني في - كتاب الانساب
وابو محمد عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوي جد أبي الحسن روى عنه أبو عبد الله الغنجار
وقال الحافظ عبد القادر القرشي في - الجواهر المضية
عبد الكريم بن موسى بن عيسى أبو محمد الفقيه البزدوي تفقه على الأمام أبي منصور الماتريدي سمع وحدث في ذكر في - تاريخ نسف أنه مات سنة تسعين وثلاث مائة في رمضان
واما صاحب الترجمة فخر الإسلام أبو العسر واخوه صدر الإسلام الو اليسر فانهما كانا واسطتي عقد البيت البزدوي واليهما انتهت رياستهم وبهما كملت سيادتهم وهما المعروفان - بالصدرين البزدويين
وقد وجدت للشيخ الأمام الزاهد أبي منصور المتاتريدي السمرقندي كتبا في علم التوحيد على مذهب أهل السنة والجماعة وكان من رؤساء أهل السنة والجماعة صاحب كرامات حى إلى الشيخ الأمام والدي رحمه الله من جده الشيخ الأمام الزاهد عبد الكريم بن موسى رحمه الله كراماته فإن جدنا كان اخذ معاني كتب اصحابنا و - كتاب التوحيد و - كتاب التأويلات في خلق من الشيخ الأمام أبي منصور الماتريدي ص 2 و 3طبع القاهرة سنة 1383
وقال في بحث خلق الإيمان
لا يجوز الاطلاق بان الإيمان مخلوق ونحن تختار هذا القول فان مذهب أبي حنيفة وهو ما رواه نوح بن أبي مريم الجامع عن أبي حنيفة رواه لنا والدنا الشيخ الأمام أبو الحسن محمد ابن الحسين بن عبد الكريك رحمته الله عليه هذا الحديث عن نوح بن أبي مريم ص 155
وقال في مسئلة البعث
وقد روى لنا الشيخ الأمام محمد بن الحسين بن عبد الكريم حديثا متصلا إلى رسول الله عليه السلام من قتل عبده عبثا عج إلى يوم القايمة فيقول قتلني هذا عبثا ص 158و 159
قال الحافظ القرشي في كتاب الانساب من الجواهر المصنية
الصدرين البردويين محمد وعلى هذا ذكرهما صاحب القنية هما الآخران الامامان أبو اليسر (1/378)
قال الحافظ السمعاني البزدوى من كتاب - الانساب
والمشهور بالانتساب اليها أبو الحسن علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوى فقيه ما وراء النهر واستاذا لائمة وصاحب لطريقة على مذهب أبي حنيفة رحمه الله سمع الحديث من رياض روى لنا لنا عن صاحبه أبو المعالي محمد بن نصر منصور المدني الخطيب بسمر قند ولم يحدثنا عنه سواء
وترجم له ياقوت الحموى في معجم البلدان وابن الاثير في اللباب في تهذيب الانساب وقالا عنه الفقير بما وراء النهر صاحب الطريقة على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه يرى عنه صاحبه
وابو العسزفا أبو اليسر هو محمد بن محمد وابو العسر هو الأمام علي بن محمد
وقال المولى احمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده في مفتاح السعادة
وللامام فخرا الإسلام البزودى اخ مشهور يسر تصانيفة كما أن فخرا الإسلام مشهور بابي العسر لعسر تصانيفة ج 2 ص 55
لفظه الطريقة تطلق على الطريقة التي وضعها الأئمة لسلوك طريق المناظرة والجدل ثم اطلقت هذه اللفظة على كل كتاب في هذا الباب قال ابن خلدون في المقدمة
وام الجدل وهو معرفة اداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم فانه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعا وكل واحد من المناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانة في الاحتجاج ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ فاحتاج الايمة إلى أن يضعوا ادابا واحكامايقف المتناظرين عند حدودها في الرد والقبول وكيف يكون حال المستدل والمجيب وحيث يقف يسوغ له أن يكونن مستدلا وكيف يكون محجوجا منقطعا ومحل اعتراضا أو معارضة واين يجب عليه السكوت ولخصم اللاك والاستدلال ولذلك قيل انه معرفة بالقواعد من الحدود والاداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي وهد من كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره
وهي طريقتان طريقة البزدوى وهي خاصة بالأدلة الشرعية من النص والإجماع والاستدلال وطريقة العميد وهي عامة في كل دليل يستدل به من أي كان واكثره استدلال
وهذا العميدي هو أول من كتب فيها ونسبت الطريقة اليه وضع الكتاب المسمى بالارشاد مختصرا وتبعه من بعده من المتأخرين كالتسقي وعيره جاؤا على اثره وسلكوا مسلكه وكثرت في الطريقة التأليف وهي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم والتعليم في الامصار الاسلامية وهي مع ذلك كمالية وليست ضرورية والله سبحانه وتعالى اعلم وبه التوفيق 1 ه (1/379)
أبو المعالي بن نصر منصور المديني الخطيب بسمر قند
وفي الطبقة الخامسة والعشرين من سير النبلا للذهبي ما نصه
شيخ الحنيفة عالم وراء 380
أبو المعالي بن نصر منصور المديني الخطيب بسمر قند
وفي الطبقة الخامسة والعشرين من سير النبلا للذهبي ما نصه
شيخ الحنيفة عالم وراء النهر أبو الحسن علي بن محمد بن الحسين عبد الكريم البزدوى صاحب الطريقة قال السمعاني ما حدثنا عن سوى صاحبه أبي المعالي محمد بن نصر الخطيب قال وكان امام الاصحاب بما وراء النهر وله التصانيف الجليلة درس بسمر قند ومات بكش في رجب اثنتين وثمانين واربعمائة وكان أحد من يضرب به المثل في حفظ المذهب وولد في حدود سنة اربعمائة
ووصفه الأمام عبد العزيز النجاري في مقدمتة كتابه - كشف الاسرار شرح اصول البزودى بالشيخ الأمام المعظم والحبر الهام المكرم العالم العامل البرباني مؤيد المذهب النعماني قدرة المحققين اسوة المدققين صاحب المقامات العلية والكرامات السنية مفجر الانام فخر الإسلام أبي الحسن علي بن محمد بن الحسين البزودى
وصدر الشريعة في مقدمة كتابه تنقيح الاصول بالشيخ الأمام مقتدى الأئمة العظام
وترجم الأمام عبد القادر القرشي في الحواهر المضية في طبقات الحنفية وقال عن
علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن مجاهد أبو الحسن المعروف بفجر الإسلام البزدوى الفقيه الأمام الكبير بما وراء النهر صاحب الطريقة على مذهب أبو حنيفة أبو العسر اخو القاضي محمد أبي اليسر ذكره صاحب الهذاية في الكفالة والوديعة باسمه
توفى يوم الخميس خامس رجب اثنين وثمانين واربعمائة وحمل تابوتهه إلى سمر قند ودفن بها على بابا المسجد
ومن تصانيفة المبسوط احدى عشر مجلد أو شرح - الجامع الكبير - والجامع الصغير وله في اصول الفقه كتاب كبير مشهور مفيد رحمه الله تعالى
وترجم له الشهاب المقريزي في تذكرته ونقل ما قاله المقريزي برمته الحافظ قاسم بن قطلوبغا في كتابه - تاج التراجم العلامة طاش كبرى زاده في كتابه - مفتاح السعادة وقلا (1/380)
وكتابه في اصول الفقه مشهور قال قاسم بن قطلو بغافي - طبقات الحنفية قد خرجت احاديثه ولم اسبق اليه
وترجم له المولى على بن أمر الله الشهير بابن الحنائي في - طبقات الحنفية فذكر في ترجمته نحو ما ذكره الحافظ القرشي في - الجواهر
وقل المولى محمود بن سليمان الكفوي المتوفي في سنة 990 ه في كتابه - كتائب اعلام الاخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار
على بن محمد بن عبد الكريم بن موسى البزدوي الأمام - الكبير الجامع بين اشتات العلوم إما الدنيا في الفروع والاصول له تصانيف كثيرة معتبرة منهار - المبسوط احدى عشر مجلد أو - شرج الجامع الكبير و - شرح الجامع الصغير وكتاب كبير في اصول الفقه مشهور - بأصول البزدوي معتبر معتمد و - كتاب في تفسير القرآن يقال انه مائة وعشرون جزأ كل جزء مصحف و - غناء الفقهاء في الفقه ولد في حدود سنة اربعمائة ومات في خامس رجب سنة اثنين وثمانين واربعمائة وحمل تابوته إلى سمرقند (1/381)
ووصف بحر العلوم العلامة عبد العلي محمد بن ظام الدين الانصاري في - ديباجة فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت ما نصه
الأمام الاجل والشيخ الاكمل رئيس الأئمة والعالمين فخر الإسلام والمسلمين لقيه اغر من الصبح الصادق واسمخ يخبر عن عله كل حاذق ذاك الأمام الالمعي فخر الإسلام والمسلمين على البزدوي
وقال صاحب - معجم المؤلفين عنه
فقه اصولي محدث مفسر
وعده الأمام ابن كمال باشا في طبقة الفقهاء المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن اصحب المذهب وتبه على ذلك عامة من جاء بعده من مصنفي طبقات الاصحاب
واما صاحبه أبو المعالي محمد بن نصر بن منصور المديني الخطيب بسمر قند فقال السمعاني في نسبة المديني من - كتاب الانساب
المديني بفتح الميم والدال المهملة المكسورة بعدها الياء آخر الحروف وفي آخرها النون هذه النسبة إلى عدة من المدن منها مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم اكثر ما ينسب اليها يقال المدني والى مدينة السلام بغداد والى مدينة اصبهان والى مدينة نيسابور والى المدينة الداخلة بمرو والى مدينة بخارا والى مدينة سمر قند والى مدينة نسف وغيرها من المدن
وساق تراجم المعروفين بهذه النسب تحت كل نسبة ثم قال
والسابع منسوب إلى مدينة سمرقند وهي الساعة باقية مسكونة معمورة منا شيخنا أبو المعالي محمد بن نصر بن منصور نب علي بن محمد بن محمد بن يعلي بن الفضل بن طاهر بن سسلمة بن علقمة بن علاثة بن عرف بن احوص بن خالد بن كلب بن صعصعة بن عامر العوفي العامري الخطيب المديني السمرقندي تفقه على علي بن محمد البزدوي السيد أبي شجاع العلوي وكان شيخا مسنا كبيرا جليل القدر سمع السيد ابا المعالي محمد بن محمد بن يزيد الحسيني وأبا علي الحسن بن عبد الملك النسفي وأبا الحسن على بن محمد الحسين البزدوي وغيرهم سمعت منه الكثير في داره بسمر قند وكان قط ناطح المائة سنة
بمطالعة كشف الظنون انه في أوهاما كثيرة ومناقضات كبيرة في تواريخ مواليد العلماء وفيات الفضلاء فمن قلده تقليدا بحتا من غير أن ينقده نقدا فقد وقع في الزلل والله العاصم عن الخطأ والخلل (1/382)
وذكر غيره أن مولده سنة 454 وتوفي في شعبان س لحديث ورواه ومات بسمرقند سنة 557 ومولده سنة نيف وسبعين واربعمائة
وقال السمعاني في - الانساب في ترجمة فخر الإسلام
وكتبت عن ابنه أبي ثابت الحسن بن علي - كتاب المسند لعلي بن عبد العزيز البغوي وكان يرويه عن أبي الحسن علىبن محمد بن خدام البخاري وروى لنا عن أبي علي الحسن بن عبد الملك النسفي ايضا
وقال الحافظ القرشي في - الجواهر المضيئة
أبو ثابت الأمام بن الأمام ولد بسمر قند ولما مات والده حمله عمه القاضي أبو اليسر المعروف بالصدر إلى بخارى ورباه احسن تربية ونشأ مع ولده وتفقه على عمه ببخارى ثم انتقل إلى مرو وسكنها مدة من الزمان ثم لما مات ابن عمه أبو المعالي القاضي احمد بن أبي اليسر منصرفا من الحجاز ولى القضاء ببخارى وبقي على ذلك مدة ثم صرف عنه وانصرف إلى بزدة وسكنها وكان حسن الصمت ساكتا وقورا لازما بيته حسن الصلاة قال لاسمعاني سمعت من - المسند الكبير لعلي بن عبد العزيز في ثلاثين جزأ
وترجم له الكفوي في - الكتائب
واما اخوه الأمام صدر الإسلام البزدوي فقال السمعاني في - الانساب
واخو علي أبو اليسر محمد بن محمد بن الحسين البزدوي المعروف بالقاضي الصدر املى ببخار الكثير ودرس الفقه وكان من فحول المناظرين وروى لنا عن ابنه أبو المعاري احمد بن محمد بن محمد بن (1/383)
الحسين البزدوي القاضي بمر وقدمها حاجا
وقال الحافظ القرشي في - الجواهر المضية
أبو اليسر اخو الأمام على البزدوي تفقه عليه ركن الأئمة عبد الكريم محمد مصنف طلبة الطلبة وابو بكر محمد بن احمد السمرقندي صاحب التحفة شيخ صاحب البدائع وولده القاضي أبو المعالي احمد قال عمر بن محمد النسفي في - كتاب القند وكان شيخ اصحابنا بما وراء النهر وكان امام الأئمة على الاطلاق والموفود اليه من الافاق ملأ المشرق والمغرب بتصانيفه في الاصول والفروع وكان قاضي القضاء بسمرقند توفي ببخارى في رجب سنة ثلاث وتسعين واربع مائة رحمه الله تعالى
وفي الطبعة الخامسة والعشرين من - سير النبلاء للذهبي ما نصه
العلامة شيخ الحنفية بعد اخيه الكبير أبو اليسري محمد بن محمد الحسين بن عبد الكريم المحدث ابن موسى بن مجاهد النسفي قال عمر بن محمد في - القند كان امام الأئمة على الاطلاق و الموفود اليه من الافاق ملأ الكون بتصانيفه في الاصول والفروع وولى قضاء سمرقند واملى الحديث توفي ببخارى في تاسع رجب سنة ثلاث وتسعين واربعمائة ومولده سنة احدى وعشرين واربعمائة
وترجمة له الحافظ قاسم في - تاج التراجم وابن الحنائي في - مختصر طبقات الحنفية والكوفي في - كتائب اعلام الاخيار واما ابن اخيه أبو المعالي احمد بن محمد البزدوي فقال الحافظ القرشي في - الجواهر المضية
أبو المعالي بن أبي اليسر عرف بالقاضي الصدر من أهل بخارى الأمام بن الأمام مولده سنة اثنتين أو احدى وثمانين واربعمائة ببخارى وهوابن اخي أبي الحسن علي بن محمد بن الحسين ابن عبد الكريم البزدوي الفقيه بما وراء النهر صاحب الطريقة على مذهب أبي حنيفة تفقه على والده حتى برع في العلم قال السمعاني وسمع منه ومن أبي المعين ميمون بن محمد المكحولي ولقي الاكابر وافاده والده عن جماعة ولي القضاء ببخارى وحمدت سيرته واملى مدة ببخارى ورد وفي الحج فقرأت عليه بها وحدث ببغداد ورجع من الحج وتوفي بسرخس في جمادى الأولى (1/384)
سنة اثنتين واربعين خمسمائة وعقد له العزاء بها ثم حمل إلى بخارا قال أبو سعد امام فاضل مفتي مناظر حسن السيرة رضي الاخلاق ومن بيت الحديث والعلم رحمه الله تعالى
وترجم له الكفوي في - الكتائب
واما تصانيفه فذكر البحاثة اسماعيل باشا البغداد في كتابه - هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين منها كنز الوصول إلى - معرفة الاصول و - الامالي و - تفسير القرآن و - شرح الجامع الكبير في الفروع و - سيرة المذهب في صفة الادب و - شرح تقويم الأدلة في الاصول و - شرح الجامع الصحيح للبخاري و - شرح الجامع الصغير للشيباني في الفروع و - شرح زيادات الزيادات للشيباني و - غناء الفقهاء في الفروع و - كشف الاستار في التفسير في مائة وعشرين جزأ و - المبسوط في الفروع أحد عشر مجلدا
وهذا نص ما أورد الشيخ مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة وبكاتب جلبي المتوفي سنة 1067ه في كشف الظنون من التعريف بتصانيفه
تقويم الأدلة في الأدلة في الاصول للقاضي الأمام أبي زيد عبدي الله بن عمر الدبوسي الحنفي المتوفي سنة ثلاثين واربعمائة مجلد اوله الحمد لله رب العالمين
وشرحه الأمام فخر الإسلام على بن محمد البزدوي الحنفي المتوفي سنة اثنتين وثمانين واربعمائة بالقول وهو شرح حسن اعتبره العلماء الحنفية
- الجامع الصحيح المشهور - بصحيح البخاري وهو أول الكتب الستة في الحديث وافضلها على المذهب المختار فقد اعتنى الأئمة بشرح الجامع الصحيح قديما وحديثا فصنفوا له شروحا منه شرح الأمام فخر الإسلام على بن محمد البزدوي وهو شرخ مختصر
- الجامع الصغير في الفروع للامام المجتهد محمد بن الحسن الشيباني الحنفي المتوفى سنة سبع وثمانين ومائة وهو كتاب قديم مبارك وله شروح كثيرة منها شرح الأمام فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي فرغ من تأليفه في جمادى الاخرة سنة سبع وسبعين واربعمائة
- الجامع الكبير في الفروع للامام المجتهد أبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني الحنفي هو كاسمه لجلائل مسائل الفقه جامع كبير على عيون الروايات ومتون الدرايات (1/385)
بحيث كاد أن يكون معجز أو لتمام لطائف الفقه منجزا وكتبوا له شروحا وجعلوه مبينا مشروحا منها شرح فخر الإسلام على بن محمد البزدوي
- سيرة المذهب في صفة الادب لفخر الإسلام علي بن محمد بن الحسين البزدوي الحنفي
- كشف الاستارفي التفسير للامام البزدوي هو علي بن محمد المتوفي سنة 383 ه
- مبسوط فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي في أحد عشر مجلدا
اصول الأمام فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي الحنفي المتوفي سنة اثنتين وثمانين واربعمائة اوله الحمد لله خالق النسم ورازق القسم الخ وهو كتاب عظيم الشأن جليل البرهان محتو على لطائف الاعتبارات باوجز العبارات تأبى على الطلبة زمامه قد انغلقت الفاظه وخفيت رموزه والحاظه فقام جمع من الفحول باعبار توضيحه وكشف خبياته وتلميحه منهم الأمام حسام الدين حسين بن علي الصغناقي الحنفي المتوفى سنة عشر وسبعمائة وسماه الكافي ذكر في اخره أن فرغ من تأليفه في اواخر جمادى الأولى سنة اربع وسبعمائة وشرحه اعظم الشروح واكثرها افاده وبياناص وسماه - كشف الاسرار اوله الحمد لله مصور النسم في شبكات الأرحام الخ والشيخ اكمل الدين محمد بن محمود البابرتي الحنفي المتوفي سنة ست وثمانين وسبعمائة وسماه - التقرير اوله الحمد لله الذي كمل الوجود بافاضة الحكم من آيات كلامه المجيد الخ ذكر فيه أن كتاب مشتمل من الاصول على اسرار ليس لها من دون الله كاشفة حدثني شيخي شمس الدين الاصفهاني أن حضر عند الأمام المحقق قطب الدين الشيرازي يوم موته فاخرج كراريس من تحت وسادته نحو خمسين قال هو فوائد جمعت على كتاب فخر الإسلام تتبعت عليه زمانا كثيرا ولم اقدر رحله فخذها لعل الله تعالى يفتح عليك بشرحه قال فاشتغلت به سنين سر أو جهار أو لم ازل في تأمله ليلا ونهارا وعرضت اقيسته على قوانين أهل النظر وتعرضت بمقدماته بأنواع التفتيش والفكر فلم اجد ما يخالفهم إلا الانتاج من الثاني مع اتفاق مقدميته في الكيف وذلك ما اشبهه مما يجوزه أهل الجدل ثم لم يتهيأل لي شرحه وتعين طرح انتهى (1/386)
فبدأ بشرح مختصر يبين ضمائه مهما امكن ومن شروحه شرح الشيخ أبي المكارم احمد بن حسن الجار يردي الشافعي المتوفي سنة ست واربعين وسبعمائة وشرح الشيخ قوام الدين الاتراري الحنفي المتوفي في حدود سنة سبعمائة وشرح الشيخ أبو البقاء محمد بن احمد بن الضياء المكلى الحنفي المتوفي سنة اربع وخمسين وثمانمائة وشرح الشيخ عمر بن عبد المحسن الارزنجاني في مجلدين اوله الحمد لله الذي جعل اصول الشريعة ممهدة المباني الخ قد ذكر فيه انه اخذ عن الكرداي بواسطة شيخه ظهير الدين محمد بن عمر البخاري وهو شرح بقال اقول وما عداه من الشروح بقوله كذا ومن التعليقات المختصرة عليه تعليقه الأمام حميد الدين علي بن محمد الضرير الحنفي المتوفي سنة ست وستين وستمائة وتعليقه جلال الدين رسولا بن احمد التباني الحنفي المتوفي سنة ثلاث عشرة وسبعمائة ومن الشرح الناقصة شرح الشيخ شمس الدين محمد بن حمزة الفناري المتوفي سنة اربع وثلاثين وثمانمائة وهو على ديباجنة فقط وشرح علاء الدين علي بن محمد الشهير بمصنفك المتوفي سنة خمس وسبعين وسبعمائة وسماه التحرير وشرح المولى محمد بن فرامرز الشهير بملاخيرو المتوفي سنة خمس وثمانين وثمانمائة ولو تم لفاز المسترشدون به بتمام المرام وللشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفي سنة تسع وسبعين وثمانمائة تخريج احاديثه ومن شروح البزدوي الموضح والشافي (1/326)