الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ، أما بعد : فهذا غيض من فيض في أثر معرفة مفهوم الركن والشرط في العقيدة فمن يعرف مفهوم الركن ومفهوم الشرط يدرك خطأ من يقول إن العمل شرط كمال فى الإيمان أو شرط صحة فى الإيمان أو أن الأعمال ليست داخلة فى مسمى الإيمان،وعلينا أن نتصور حقيقة الإيمان فمن تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج، وعرف ماهيته بأوصافها الخاصة عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده ،وقد عرف أهل السنة الإيمان بأنه قول وعمل: قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح (1) ،
__________
(1) - انظر التمهيد 9/248، وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية 7/308، 12/472 وانظر تفسير ابن كثير 1/39، وفتح الباري 1/47، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/832، وشرح السنة للبغوي 1/38 ..(1/1)
وقد حكى غير واحد منهم الإجماع على ذلك كابن عبد البرفي التمهيد ، ولقد تلقى أهل السنة هذا التعريف بالقبول والتسليم، اتباعاً للنصوص القرآنية، والأحاديث النبوية الصحيحة الدالة على أن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح ،وتنوعت عبارات السلف الصالح في تعريف الإيمان ، فتارة يقولون : هو قول وعمل، وتارة يقولون : قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح وتارة يقولون : هو قول وعمل ونية ، وتارة يقولون : قول وعمل ونية واتباع السنة فإذا قالوا الإيمان قول وعمل فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والعمل ، ونحو ذلك إذا أطلق فإن القول المطلق ، والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح ، فقول باللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين ، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد " كقوله تعالى {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (1) وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب، هي من أعمال المنافقين، التي لا يتقبلها الله، فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر. ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك، فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك ، ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة ، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على " المرجئة " الذين جعلوه قولاً فقط.
__________
(1) - الفتح : 11(1/2)
فقالوا: بل هو قول وعمل، والذين جعلوه " أربعة أقسام " فسروا مرادهم، كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة ؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة. و النزاع في تعريف الإيمان بين أهل السنة وأهل البدع من المعتزلة والخوارج والمرجئة والكرامية سببه دعوى أن الإيمان حقيقة واحدة ، لا تتبعض ولا تتجزأ، فمتى ذهب بعضه ذهب كله ، فلم يبق منه شيء ،وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه، وبقاء بعضه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان) (1) . وبناء على هذا الأصل الفاسد الذي أصلوه، قال هؤلاء: بأنه لا يجتمع في العبد إيمان وكفر؛ لإن الإيمان شيء واحد لا يتبعض، فكذا الكفر...
__________
(1) - متفق عليه رواه البخارى ارقم44 ورواه مسلم رقم325(1/3)
ونسى هؤلاء أن الإيمان له عدة شعب ،وكل شعبة منها تسمى إيماناً أى علامة على الإيمان أو من صفات المؤمنين فالأعمال الظاهرة كالصلاة مثلاً من الإيمان ،وكذلك الزكاة والحج والصيام ،والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخشية من الله ، والإنابة إليه من الإيمان ، وكذلك إماطة الأذى عن الطريق فإنه شعبة من شعب الإيمان ، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وكذلك الكفر له عدة شعب ،وكل شعبة منها تسمى كفراً أى علامة على الكفر أو من صفات الكفارفكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان ، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان، وتركها من شعب الكفر والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر ، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان ن ،و يقول ابن تيمية: "الإيمان : مركب من أصل لا يتم بدونه ، ومن واجب ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة ، فالناس فيه ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، كالحج وكالبدن والمسجد وغيرها من الأعيان والصفات ، فمن أجزائه ما إذا ذهب نقص عن الأكمل،ومنه ما نقص عن الكمال ،وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات ، ومنه ما نقص ركنه وهو ترك الاعتقاد والقول) (1) . وإذا تقرر أن الإيمان شعب متعددة ، وأنه قابل للتبعيض والتجزئة ، فإنه يمكن اجتماع إيمان وكفر غير ناقل عن الملة، في الشخص الواحد كما في قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (2) حيث إن الله أثبت لهم إيمانا مع شرك ، فدل ذلك على اجتماعهما في المؤمن.
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية 7 /637
(2) - يوسف: 106(1/4)
وقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (1) فأثبت الله تعالى لهم وصف الإيمان، مع أنهم متقاتلون، وقتال المسلم كفر، كما قال عليه الصلاة والسلام :( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) (2) . وعلى ما أصلنا من أن الإيمان عند السلف قول وعمل فالإيمان لابد أن يكون بهذه الأمور الأربعة : قول اللسان وهو النطق باللسان ، وقول القلب ،وهو الإقرار والتصديق ،وعمل القلب وهو النية والإخلاص ،وعمل الجوارح .
__________
(1) - الحجرات: 9
(2) - متفق عليه البخارى رقم 48 ومسلم رقم 116(1/5)
فالعمل جزء من أجزاء الإيمان الأربعة (1) ، أو ركن فى الإيمان ،ومادام العمل ركن فى الإيمان فهو داخل فى مسماه ،والقول بدخول العمل في مسمى الإيمان حقيقة لازمه أن يكون جزءاً من الماهية وركناً فيها، وقد التزم السلف ذلك ،والقول بأن العمل شرط فى الإيمان لازمه أن يكون العمل خارجاً عن الماهية ، لذا لا يقال أن العمل شرط كمال فليس العمل شرطاً من شروط صحة الإيمان أو شرط كمال فى الإيمان أو إنه خارج عن الإيمان أو هو ثمرة الإيمان أو من مقتضى الإيمان أو هو دليل على الإيمان كما أن وجودالنتيجة دليل على وجودالسبب إذ كل هذه من أقوال المرجئة فكيف يكون العمل من الإيمان ثم يكون العمل شرطاً ،ومعلوم أن الشرط يكون خارج المشروط ، فهذا تناقض؛ لأن الإيمان قول وعمل واعتقاد ، والعمل هو من الإيمان ،وهو الإيمان، ولا عمل بدون إيمان ،ولا إيمان بدون عمل ، فهما متلازمان ، والأعمال هي من الإيمان بل هي الإيمان : الأعمال إيمان ، والأقوال إيمان، والاعتقاد إيمان ، ومجموعها كلها هو الإيمان بالله عز وجل ، والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره، والسلف مع قولهم بركنية العمل في مسمّى الإيمان لا يجعلون ذلك متعلقاً بآحاده وأفراده كما هو الشأن عند الخوارج والمعتزلة وإنما حصروا ذلك بجنسه وأما آحاده وأفراده فقد فصَّلوا القول فيها ؛ فمنها ما هو شرط في صحة الإيمان ،ومنها ما هو شرط في كماله ،والفيصل في ذلك نصوص الكتاب والسُّنة وفهم السلف الصالح ، والمرجئة يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان ، وهم أربعة أقسام : القسم الأول : الذين يقولون الإيمان وهو مجرد المعرفة ، ولو لم يحصل تصديق ..
__________
(1) - انظر أسئلة وأجوبة فى الإيمان والكفر للشيخ صالح الفوزان وللشيخ عبد العزيزالراجحى وحقيقة الإيمان عند الشيخ الألبانى للشيخ محمد أبو رحيم(1/6)
وهذا قول الجهمية، وهذا شر الأقوال وأقبحها ، وهذا كفر بالله عز وجل ؛لأن المشركين الأولين وفرعون وهامان وقارون وإبليس كلٌ منهم يعرفون الله عز وجل ، ويعرفون الإيمان بقلوبهم ، لكن لما لم ينطقوه بألسنتهم ، ولم يعملوا بجوارحهم لم تنفعهم هذه المعرفة .
القسم الثاني: الذين قالوا إن الإيمان هو تصديق القلب فقط ، وهذا قول الأشاعرة، وهذا أيضاً قول باطل ؛لأن الكفار يصدقون بقلوبهم، ويعرفون أن القرآن حق وأن الرسول حق ، واليهود والنصارى يعرفون ذلك ،و هؤلاء لم ينطقوا بألسنتهم ،ولم يعملوا بجوارحهم مع إنهم يصدقون بقلوبهم فلا يكونون مؤمنين. الفرقة الثالثة: التي تقابل الأشاعرة وهم الكرَّامية ، الذين يقولون : إن الإيمان نطق باللسان ، ولو لم يعتقد بقلبه ، ولا شك أن هذا قول باطل ؛لأن المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار يقولون : نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله بألسنتهم ، ولكنهم لا يعتقدون ذلك ،ولا يصدقون به بقلوبهم . الفرقة الرابعة: أخف الفرق في الإرجاء ،الذين يقولون إن الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان ،ولا يدخل فيه العمل وهذا قول مرجئة الفقهاء وهو قول باطل أيضا . وجمهور أهل السنة يقولون : العمل من الإيمان ،وهو جزء منه فالأعمال واجبة ،وهي من الإيمان ، ومرجئة الفقهاء يقولون : الأعمال واجبة وليست من الإيمان ، ولهذا قال من قال بأن الخلاف بينهم وبين جمهور أهل السنة خلاف لفظي ، وقال بهذا شارح الطحاوية والصواب أنه ليس لفظياً بل خلافاً معنوياً .(1/7)
نتيجة محتمة : إذا كان الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح ... فمعنى ذلك أن من تخلى من شيء من ذلك فإنه لا يكون مؤمناً بل كافراً، والردة وهى الكفر بعد الإسلام تكون بالقول وبالفعل والاعتقاد والشك ، فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفة من صفاته أو بعض كتبه أو رسله أو سب الله أو رسوله ، أو جحد شيئاً من المحرمات المجمع على تحريمها أو استحله أو جحد وجوب ركن من أركان الإسلام الخمسة أو شك في وجوب ذلك أو في صدق - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء. أو شك في البعث أو سجدلصنم أو كوكب أو فعل السحر أو فعل أي نوع من أنواع الشرك كأن دعا غير الله أو ذبح لغير الله أو نذر لغير الله أو طاف بغير بيت الله تقرباً لذلك الغير فالكفر يكون بالفعل كما يكون بالقول (1) . قول فاسد القول بأن سب الله ، وسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس بكفر في نفسه ،ولكنه أمارة وعلامة على ما في القلب من الاستخفاف والاستهانة قول فاسد ليس بصحيح ، و هو قول المرجئة وهو قول باطل ، بل إن نفس السب كفر ،ونفس الاستهزاء كفر كما قال تعالى : { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (2) فأثبت لهم الكفر بعد الإيمان بهذه المقالة ولم يقل إن كنتم تعتقدون في قلوبكم شيئاً ، فالله تعالى أطلق الكفر عليهم بهذه المقالة ، فدل على أن القول بأن كلام الكفر أو قول الكفر ليس بكفر بل هو علامة على ما في القلب هذا باطل ،فالقلب لا يعلم ما فيه إلا الله تعالى ،والكفر يكون بالقلب ،ويكون بالقول ،ويكون بالعمل ، والمقصود أن هذا القول يتمشى مع مذهب المرجئة .
__________
(1) - انظر الفتاوى والبيانات التي صدرت من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فى التحذير من ظاهرة الإرجاء وبعض الكتب الداعية إليه
(2) - التوبة 66-67(1/8)
سمعنا بعض الأفاضل يقولون بأن أصل الإيمان الاعتقاد ، والإنسان لايكفر حتى يعتقد ،ولاكفر إلا بالاعتقاد ويقولون بأن هذا هو كلام شيخ الإسلام فى مجموع الفتاوى ج11 مناظرة الفرق بين الحمد والشكرحيث قال: ( قال أهل السنة إن من ترك فروع الايمان لا يكون كافراً حتى يترك أصل الإيمان ،وهو الاعتقاد ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة التى هى ذات شعب وأجزاء زوال اسمها كالانسان إذا قطعت يده أو الشجرة إذا قطع بعض فروعه) وهذا الكلام ينم عن عقيدة المرجئة فى إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان قولهم أصل الإيمان الاعتقاد فقط غاية فى التناقض فكيف يكون أصل الإيمان الاعتقاد فقط ،والإيمان والإجماع على أن الإيمان قول وعمل ؟ فالقول والعمل ركنان في مسمى الإيمان، أي أنهما جزءان من ماهِيته؛ لذايلزم من عدمِ أي واحد منهما عدمُ الإيمان الذي هما ركنان فيه ؛ لأن الشيء ينتفي بانتفاء ركنه.. وقولهم لاكفر إلا باعتقاد غاية فى التناقض فإذا كان الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح ، فمعنى ذلك أن من تخلى من شيء من ذلك فإنه لا يكون مؤمناً بل كافراً فالكفر يكون بالقول والعمل والاعتقاد لابالاعتقاد فقط ، وقد أجمع العلماء على كفر من سب الله أو نبياً من الأنبياء كمانقل ذلك إسحاق ابن راهوية فقال: ( قد أجمع العلماء على أن من سب الله عز وجل، أو سب رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر) (1) . وقال القاضي عياض: ( لا خلاف أن ساب الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم) (2) .
__________
(1) - التمهيد لابن عبد البر 4/226
(2) - الشفا 2/582(1/9)
وقال ابن تيمية: ( فصل فيمن سب الله تعالى، فإن كان مسلماً وجب قتله بالإجماع؛ لأنه بذلك كافر مرتد، وأسوأ من الكافر، فإن الكافر يعظم الرب، ويعتقد أن ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبة له) (1) . وقال ابن حزم: ( وأما سب الله تعالى، فما على ظهر الأرض مسلم يخالف أنه كفر مجرد... وهو محكوم عليه بنفس قوله، لا بمغيب ضميره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى) (2) ثم القول لاكفر إلا بالاعتقاد مناقض لصريح القرآن قال تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (3) فأثبت لهم الكفر بعد الإيمان بهذه المقالة ،ولم يقل إن كنتم تعتقدون في قلوبكم شيئاً.وقال تعالى: { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} (4) حكم الله على أن الكلام نفسه كفر،وحكم عليهم بالكفربمجردالقول ،وقال أبوبكر بن العربى : الهزلَ بالكفرِ كفرٌ ، لا خلاف فيه بين الأمَّة (5) وقال القاضى عياض: وقال : ((نقطع بتكفير كلِّ قائل قولاً يُتوصل به إلى تضليل الأمَّة وتكفير جميع الصَّحابة ... وكذلك نكفِّر بفعلٍ أجمع المسلمون على أَنَّه لا يصدُرُ إلاَّ من كافر ،وإنْ كان صاحبُه مصرِّحاً بالإسلام مع فعله كالسجود للصَّنم ، أو الشمس ، والقمر ، والصَّليب، والنَّار . والسَّعي إلى الكنائس والبِيَع مع أهلِها.
__________
(1) - الصارم المسلول لابن تيمية ص 546
(2) - المحلى 13 لابن حزم/498
(3) - التوبة 65-66
(4) - التوبة: 74
(5) - أحكام القرآن لابن العربي (2/976) .(1/10)
والتَّزيِّي بزيِّهم من شدِّ الزَّنانير وفحص الرؤوس (1) فقد أجمع المسلمون أنَّ هذا الفعل لا يوجد إلاَّ من كافرٍ ،وأَنَّ هذه الأفعال علامةٌ على الكفر ، وإِنْ صرَّح فاعلها بالإسلام )) (2) ،وقال ابن نجيم : (( والحاصل أَنّ من تكلَّم بكلمة الكفر هازلاً أو لاعباً كفَرَ عند الكلِّ ،ولا اعتبارَ باعتقاده كما صرَّح به قاضيخان في فتاواه ومن تكلم بها مخطئاً أو مُكْرَهاً لا يكفر عند الكلِّ ومن تكلَّم بها عالماً عامداً كفر عند الكلِّ )) (3) ،وقال ابن نجيم أيضاً : (( عبادة الصَّنم كفرٌ، ولا اعتبار بما في قلبه )) (4) ،وقال الأمير الصنعانى : (( صرح الفقهاء في كتب الفقه في باب الرِّدَّة: أَنَّ من تكلَّم بكلمة الكفر يكفر وإِنْ لم يقصد معناها )) (5) ،وقال الآلوسى : في تفسير قوله تعالى : { لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }. (( واستدلَّ بعضهم بالآية على أنَّ الجدَّ واللَّعِب في إظهارِ كلمةِ الكفر سواءٌ ولا خلافَ بين الأئمَّة في ذلك )) (6) .
__________
(1) - علَّق مُلاّ علي القاري في "شرحه للشفا" بقوله : أو لعل فحص الرأس - أي حلق وسطه - كان شعاراً للكفر قبل ذلك ، وأما الآن فقد كثر في المسلمين فلا يعد كفراً .
(2) - الشفابتعريف حقوق المصطفى (2/396،397).طبعة هشام علي حافظ ط1 – 1416هـ انظر كيف لم يقيد القول أو الفعل بالاعتقاد .
(3) - "البحر الرائق شرح كنز الحقائق" (5/134) . دار الكتاب العربي ط2 .
(4) - "الأشباه والنظائر مع شرح الحموي غمز عيون البصائر" (2/204) دار الكتب العلمية .ط1 – 1405هـ .
(5) - "تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد" (ص30) . مكتبة دار الفيحاء . تعليق الشيخ إسماعيل الأنصاري .
(6) - "روح المعاني" (10/131) . دار إحياء التراث العربي .(1/11)
شيخ الإسلام من أئمة أهل السنة ،واعتقاده اعتقاد أهل السنة ،وكلامه فى أصل الإيمان معروف أن أصل الإيمان الاعتقاد والقول والعمل ؛ لأن الإيمان عنده قول وعمل ، والقول عنده يستلزم العمل لاعلاقة السبب والنتيجة أو السبب والثمرة بل علاقة التلازم فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية عندما تكلم على وجوه غلط المرجئة في الإيمان : ( ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال ، ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له ; والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ،ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر ; ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل أن يقولوا : رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر ،وهو لا يسجد لله سجدة ،ولا يصوم رمضان ،ويزني بأمه وأخته ويشرب الخمر نهار رمضان ; يقولون : هذا مؤمن تام الإيمان فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار (1) وقال أيضاً: وإذا قام بالقلب التصديق به ،والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما فى القلب ولازمه ودليله ومعلوله كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضا تأثير فيما فى القلب فكل منهما يؤثر فى الآخر لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له والفرع يستمد من أصله ،والأصل يثبت ويقوى بفرعه (2) .
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/204
(2) - مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/541(1/12)
وقال أيضاً : (وقيل لمن قال : دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز نزاعك لفظي ; فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجباً لعدم الملزوم فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا، وإن قلت : ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر ،وترك جميع الواجبات الظاهرة قيل لك : فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له وموجب له بل قيل : حقيقة قولك إن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له،و لكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن، وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم ،وهذا حقيقة قولك) (1) . ما معنى قولنا علاقة التلازم واللزوم؟ التلازم هوأن وجود شىء يستلزم وجود شيئاً أخرفإذا انعدم أحدهما انعدم الآخر، فكيف تقولون على شيخ الإسلام هذا ، وهو الذى قال أن المرجئة أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان؟ قال شيخ الإسلام :( والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضاً وجعلها هي التصديق ، فهذا ضلال بيّن ،ومن قصد إخراج العمل الظاهر ، قيل لهم: العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه ، وانتفاء العمل الظاهر دليل انتفاء الباطن ... والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان.. وأيضاً فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضاً ، وهذا باطل قطعاً .
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/577(1/13)
فإن من صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه فهو كافر قطعاً بالضرورة ، ،وإن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطئوا أيضاً (1) لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن) (2) وصرح رحمه الله بأن الرجل لا يكون مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي اختص بإيجابها محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: (وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل ، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة و يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه ، من غير إيمان بالله ورسوله ، لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين ،وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور ، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد - صلى الله عليه وسلم - ) (3) وقال أيضاً : ( فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ،ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة ،ومن كان عقده الإيمان بالغيب ،ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد ، ومن كان مؤمنا بالغيب مما أخبرت به الرسل عن الله عاملاً بما أمر الله فهو مؤمن مسلم) (4) .وقال رحمه الله : ) وقيل بل الأعمال فى الأصل ليست من الإيمان فإن أصل الإيمان هو ما فى القلب ،ولكن هى لازمة له فمن لم يفعلها كان إيمانه منتفياً ؛ لأن إنتفاء اللازم يقتضى انتفاء الملزوم لكن صارت بعرف الشارع داخلة فى إسم الإيمان إذا أطلق) (5) .
__________
(1) - أى إذا ادخلوا أعمال القلب ،وأخرجوا أعمال الجوارح ؛لأن الاثنين متلازمان
(2) - مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/554-556
(3) - مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/621
(4) - مجموع الفتاوى لابن تيمية7/333
(5) - مجموع الفتاوى لابن تيمية7/ 202(1/14)
وقال : (إذاعرف أن أصل الإيمان فى القلب فإسم الإيمان تارة يطلق على ما في القلب من الأقوال القلبية والأعمال القلبية من التصديق والمحبة والتعظيم ونحو ذلك وتكون الأقوال الظاهرة والأعمال لوازمه وموجباته ودلائله ، وتارة على ما فى القلب والبدن جعلاً لموجب الإيمان ومقتضاه داخلاً فى مسماه) (1) . وقال رحمه الله : (فأصل الإيمان فى القلب ،وهو قول القلب وعمله ، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد ، وما كان فى القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح ،وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه،ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب ايمان القلب ومقتضاه ،وهى تصديق لما فى القلب ودليل عليه وشاهد له ،وهى شعبة من مجموع الإيمان المطلق ،وبعض له لكن ما فى القلب هو الأصل لما على الجوارح) (2) . وقال : ( و أصل الإيمان توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له والإيمان برسله) (3) . وقال رحمه الله: ( ومن المعلوم : أن أصل الإيمان تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أنه لا يجوز أن يكون ثم دليل لا عقلي ولا غير عقلي يناقض ذلك وهذا هو المطلوب) (4) وقال رحمه الله : (إذا كان الحب أصل كل عمل من حق وباطل وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها وأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله كما ان اصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله فالتصديق بالمحبة هو أصل الإيمان وهو قول وعمل) (5) .
__________
(1) - - مجموع الفتاوى لابن تيمية7/551
(2) - - مجموع الفتاوى لابن تيمية7/644
(3) - - مجموع الفتاوى لابن تيمية27/274
(4) - درء التعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/310 ناشر : دار الكنوز الأدبية - الرياض ، 1391هـ تحقيق : محمد رشاد سالم
(5) - قاعدة في المحبة لابن تيمية ص 49 كتبة التراث الإسلامي – القاهرة حقيق : د. محمد رشاد سالم(1/15)
والخلاصة مادام الاعتقاد ،والعمل متلازمان إذا انتفى أحدهما انتفى الآخر ، وإذا ثبت أحدهما ثبت الآخر فإطلاق أن أصل الإيمان الاعتقاد صحيح ؛لأنه مادام هناك اعتقاد فلا بد أن يكون هناك عمل،وكيف يكون هناك اعتقاد بلا عمل أو عمل بلا اعتقاد؟!! هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ،وكتب ربيع أحمد 31/12/2007 م(1/16)