الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: التَّخْصِيصُ بِالْبَدَلِ
أَعْنِي: بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، نَحْوَ: أَكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ، وَأَكْرِمِ الْقَوْمَ عُلَمَاءَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} 1؛ وَقَدْ جَعَلَهُ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ مِنْهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَشُرَّاحُ "كِتَابِهِ".
قَالَ السُّبْكِيُّ: وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي نِيَّةِ الطَّرْحِ، فَلَا تَحَقُّقَ فِيهِ لِمَحَلٍّ يَخْرُجُ مِنْهُ، فَلَا تَخْصِيصَ بِهِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ كَالزَّمَخْشَرِيِّ، أَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي غَيْرِ بَدَلِ الْغَلَطِ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمُهْدَرِ، بَلْ هُوَ لِلتَّمْهِيدِ وَالتَّوْطِئَةِ، وَلِيُفَادَ بِمَجْمُوعِهَا فَضْلُ تَأْكِيدٍ وَتَبْيِينٍ لَا يَكُونُ "إِلَّا"* فِي الْأَفْرَادِ.
قَالَ السِّيرَافِيُّ: زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّهُ فِي حُكْمِ تَنْحِيَةِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمُبْدَلُ مِنْهُ، وَلَا يُرِيدُونَ إِلْغَاءَهُ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ: أَنَّ الْبَدَلَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ تَبْيِينُهُ الْأَوَّلَ كَتَبْيِينِ النَّعْتِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَمَامِ الْمَنْعُوتِ، وَهُوَ مَعَهُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. انْتَهَى.
وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، مِنْ بَقَاءِ الْأَكْثَرِ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْأَكْثَرِ وِفَاقًا نَحْوَ: أَكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ أَوْ نِصْفَهُ، أَوْ ثُلُثَيْهِ.
وَيَلْحَقُ بِبَدَلِ الْبَعْضِ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بَيَانٌ وَتَخْصِيصٌ.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "71" من سورة المائدة.(1/380)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: التَّخْصِيصُ بِالْحَالِ
وَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَالصِّفَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَكَ: أَكْرِمْ مَنْ جَاءَكَ راكبًا، يفيد تخصيص الإكرام بمن ثَبَتَتْ لَهُ صِفَةُ الرُّكُوبِ، وَإِذَا جَاءَ بَعْدَ جُمَلٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْجَمِيعِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ بِالِاتِّفَاقِ، نَحْوَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ، وَأَعْطِ بَنِي هَاشِمٍ نَازِلِينَ بِكَ.
وَفِي دَعْوَى الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ بِالْكُلِّ، عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.(1/381)
المسألة السابعة عشرة: التخصيص بالظرف وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ
نَحْوَ: أَكْرِمْ زَيْدًا الْيَوْمَ، أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا، وَإِذَا تَعَقَّبَ أَحَدُهُمَا جُمَلًا، كَانَ عَائِدًا إِلَى الْجَمِيعِ.
وَقَدِ ادَّعَى الْبَيْضَاوِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا ادَّعَاهُ فِي الْحَالِ. وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِمَا فِي "الْمَحْصُولِ" فَإِنَّهُ قَالَ فِي الظَّرْفِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ: إِنَّهُمَا يَخْتَصَّانِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ بِالْكُلِّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، كَمَا قَالَ فِي الْحَالِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ عَقِبَ جُمَلٍ.
وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ مَا قَالَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيَةَ1، فَإِنَّهُ قَالَ: فَأَمَّا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَأَمَّا لَوْ تَوَسَّطَ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مَسْأَلَةِ، لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، أَنَّ قَوْلَنَا: ضَرَبْتُ زَيْدًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وعَمرًا يقتضي أن الحنفية يقيدونه بالثاني.
__________
1 هو عبد السلام بن عبد الله بن الخضر، الحراني، ابن تيمية، أبو البركات، مجد الدين، شيخ الحنابلة، فقيه العصر، المولود سنة تسعين وخمسمائة هـ، كان بارعًا في الحديث، وله اليد الطولى في معرفة القراءات والتفسير، توفي سنة اثنتي وخمسين وستمائة هـ، من آثاره: "الأحكام الكبرى، المحرر في الفقه". ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 257"، سير أعلام النبلاء "23/ 291".(1/381)
المسألة الثامنة عشرة: التَّخْصِيصِ بِالتَّمْيِيزِ
التَّخْصِيصُ بِالتَّمْيِيزِ نَحْوَ: عِنْدِي لَهُ رِطْلٌ ذَهَبًا، وَعِنْدِي لَهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ يَتَقَيَّدُ بِمَا وَقَعَ بِهِ التَّمْيِيزُ مِنَ الْأَجْنَاسِ، أَوِ الْأَنْوَاعِ، وَإِذَا جَاءَ بَعْدَ جُمَلٍ نحو: عندي له ملء هذا أو عندي له رطل فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْجَمِيعِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ عَوْدُهُ إِلَى الْجَمِيعِ بِالِاتِّفَاقِ.(1/381)
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: "التَّخْصِيصُ" * بِالْمَفْعُولِ لَهُ وَالْمَفْعُولِ مَعَهُ
فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقَيِّدُ الْفِعْلَ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْمَفْعُولَ لَهُ مَعْنَاهُ التَّصْرِيحُ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا وَقَعَ الْفِعْلُ، نَحْوَ ضَرَبْتُهُ تَأْدِيبًا، فَيُفِيدُ تَخْصِيصَ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَالْمَفْعُولُ مَعَهُ مَعْنَاهُ تَقْيِيدُ الْفِعْلِ بِتِلْكَ الْمَعِيَّةِ نَحْوَ ضَرَبْتُهُ وَزَيْدًا، فَيُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ الضَّرْبَ الْوَاقِعَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ مُخْتَصٌّ بِتِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ الْمُصَاحِبَةُ بَيْنَ ضَرْبِهِ وضرب زيد.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/382)
المسألة الموفية عشرون: التخصيص بالفعل
...
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: التَّخْصِيصُ بِالْعَقْلِ
فَقَدْ فَرَغْنَا بِمَعُونَةِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ، وَهَذَا شُرُوعٌ فِي الْمُخَصِّصَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ.
وَقَدْ حَصَرُوهَا فِي ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْعَقْلِ، وَالْحِسِّ، وَالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالْحَصْرُ غَيْرُ ثَابِتٍ، فَقَدْ يَقَعُ التَّخْصِيصُ بِالْعَوَائِدِ كَقَوْلِكِ: رَأَيْتُ النَّاسَ، فَمَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ زَيْدٍ، فَإِنَّ الْعَادَةَ تَقْضِي أَنَّكَ لَمْ تَرَ كُلَّ النَّاسِ، وَكَذَا التَّخْصِيصُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، كَقَوْلِكَ لِغُلَامِكَ: ائْتِنِي بِمَنْ يَخْدِمُنِي، فَإِنَّ الْمُرَادَ الْإِتْيَانُ بِمَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْقَائِلَ بِانْحِصَارِ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ يَجْعَلُ التَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْعَقْلِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّخْصِيصِ بِهِ.
وَذَهَبَ شُذُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْعَقْلِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ بِخِلَافِ مَنْ "شَذَّ"*.
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": إِنَّ التَّخْصِيصَ بِالْعَقْلِ قَدْ يَكُونُ بضرورته كقوله تعالى:
__________
* في "أ": شك وهو تحريف.(1/382)
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1 فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَيْسَ خَالِقًا لِنَفْسِهِ، وَبِنَظَرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 2 فَإِنَّ تَخْصِيصَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لِعَدَمِ الْفَهْمِ فِي حَقِّهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ نَازَعَ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ.
وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى، بَلْ فِي اللَّفْظِ، أَمَّا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى، فَلِأَنَّ اللَّفْظَ، لَمَّا دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، وَالْعَقْلُ مَنَعَ مِنْ ثُبُوتِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَإِمَّا أَنْ يُحْكَمَ بِصِحَّةِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ صِدْقُ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ يُرَجَّحُ النَّقْلُ عَلَى الْعَقْلِ وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلٌ لِلنَّقْلِ، فَالْقَدْحُ فِي الْعَقْلِ قَدْحٌ فِي أَصْلِ النَّقْلِ وَالْقَدْحُ فِي الْأَصْلِ لِتَصْحِيحِ الْفَرْعِ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِيهِمَا مَعًا، وَإِمَّا أَنْ يُرَجَّحَ حُكْمُ الْعَقْلِ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُنَا مِنْ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَقْلِ.
وَأَمَّا الْبَحْثُ اللَّفْظِيُّ: فَهُوَ أَنَّ الْعَقْلَ هَلْ يُسَمَّى مُخَصِّصًا أَمْ لَا؟
فَنَقُولُ: إِنْ أَرَدْنَا بِالْمُخَصِّصِ: الْأَمْرَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي اخْتِصَاصِ اللَّفْظِ الْعَامِّ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، فَالْعَقْلُ غَيْرُ مُخَصِّصٍ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ هُوَ الْإِرَادَةُ الْقَائِمَةُ بِالْمُتَكَلِّمِ "والعقل"* يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى تَحَقُّقِ تِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَالْعَقْلُ يَكُونُ دَلِيلَ الْمُخَصِّصِ، لَا نَفْسَ الْمُخَصِّصِ، وَلَكِنْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْكِتَابُ مُخَصِّصًا لِلْكِتَابِ، وَلَا السُّنَّةُ مُخَصِّصَةً لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ذَلِكَ التَّخْصِيصِ هُوَ الْإِرَادَةُ لَا تِلْكَ الْأَلْفَاظُ. انْتَهَى.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ صِيغَةَ الْعَامِّ إِذَا وَرَدَتْ، وَاقْتَضَى الْعَقْلُ عَدَمَ تَعْمِيمِهَا فَيُعْلَمُ من جهة العقل أن المراد بها خصوص ما لا يحيله العقل، وليس المراد أن للعقل صلة لصيغة نازلة بمنزلة المتصل بالكلام، ولكن الْمُرَادَ بِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّ مُطْلَقَ الصِّيغَةِ لَمْ يُرَدْ تَعْمِيمُهَا.
وَفَصَلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ" بَيْنَ مَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَيَمْتَنِعُ التَّخْصِيصُ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ لِعَدَمِ الشَّرْعِ، فَإِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَصَارَ الْحُكْمُ لِلشَّرْعِ، فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ كَالَّذِي دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى نَفْيِهِ فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ نَحْوَ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} فَقُلْنَا: الْمُرَادُ مَا خَلَا الصِّفَاتِ، لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ على ذلك. انتهى.
__________
* في "أ": والنقل.
__________
1 جزء من الآية "16" من سورة الرعد والآية "62" من سورة الزمر.
2 جزء من الآية "97" من سورة آل عمران.(1/383)
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِتَخْصِيصِ الْعَقْلِ إِلَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ، أَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى: فَلَا خِلَافَ أَنَّ الشَّرْعَ نَاقِلٌ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ مِنَ الْبَرَاءَةِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ، وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ: إِنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ؛ إِذْ مُقْتَضَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ ثَابِتٌ إِجْمَاعًا، لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي تَسْمِيَتِهِ تَخْصِيصًا، فَالْخَصْمُ لَا يُسَمِّيهِ؛ لِأَنَّ الْمُخَصِّصَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي التَّخْصِيصِ، وَهُوَ الْإِرَادَةُ لَا الْعَقْلُ، وَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إِنَّهُمْ "أَجْمَعُوا"* عَلَى صِحَّةِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى خُرُوجِ شَيْءٍ عَنْ حُكْمِ الْعُمُومِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِ تَخْصِيصًا.
وَقِيلَ: الْخِلَافُ رَاجِعٌ إِلَى مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، فَمَنْ مَنَعَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَقْلِ، فَهُوَ رُجُوعٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ، وَأَنَّ الشَّرْعَ يَرِدُ بِمَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ.
وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْأَصْفَهَانِيُّ، وَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا فَالْكَلَامُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، غَيْرُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
وَقَدْ جَاءَ الْمَانِعُونَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَقْلِ بِشُبَهٍ مَدْفُوعَةٍ كُلِّهَا رَاجِعَةً إِلَى اللَّفْظِ، لَا إِلَى الْمَعْنَى، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَازَ التَّخْصِيصُ بِالْعَقْلِ، فَهَلْ يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ، قُلْنَا نَعَمْ؛ لِأَنَّ مَنْ سَقَطَتْ رِجْلَاهُ عَنْهُ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا عُرِفَ بِالْعَقْلِ. انْتَهَى.
وَأَجَابَ غَيْرُهُ: بِأَنَّ النَّسْخَ إِمَّا بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ، وَإِمَّا رَفْعُ الْحُكْمِ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ، وَكِلَاهُمَا مَحْجُوبٌ عَنْ نَظَرِ الْعَقْلِ، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ، فَإِنَّ خُرُوجَ الْبَعْضِ عَنِ الْخِطَابِ قَدْ يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ فَلَا مُلَازَمَةَ.
وَلَيْسَ التَّخْصِيصُ بِالْعَقْلِ من الترجيح لدليل عَلَى دَلِيلِ الشَّرْعِ، بَلْ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ إِمْكَانِ اسْتِعْمَالِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى عُمُومِهِ المانع قطعي، وهو دليل العقل.
__________
* في "أ": احتجوا.(1/384)
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: التَّخْصِيصُ بِالْحِسِّ
فَإِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِعُمُومٍ يَشْهَدُ الْحِسُّ بِاخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْعُمُومُ، كَانَ ذَلِكَ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ، قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء} 1 مَعَ أَنَّهَا لَمْ تُؤْتَ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ، الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا كَانَ فِي يَدِ سُلَيْمَانَ، كذلك قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 2 وقوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} 3.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِي عَدِّ هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَهُوَ خُصُوصُ، مَا أُوتِيَتْهُ هَذِهِ وَدَمَّرَتْهُ الرِّيحُ لَا مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ.
قَالَ: وَلَمْ يَحْكُوا الْخِلَافَ السَّابِقَ فِي التَّخْصِيصِ بِالْعَقْلِ، وَيَنْبَغِي طَرْدُهُ.
وَنَازَعَ الْعَبْدَرِيُّ فِي تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ دَلِيلِ الْحِسِّ وَدَلِيلِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُومِ كُلِّهَا الْحِسُّ.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي دَلِيلِ الْحِسِّ يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي دَلِيلِ الْعَقْلِ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 4 وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت} 5 مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، لَا مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ شهادة العقل وشهادة الحس.
__________
1 جزء من الآية "23" من سورة النمل.
2 جزء من الآية "25" من سورة الأحقاف.
3 جزء من الآية "57" من سورة القصص.
4 جزء من الآية "62" من سورة الزمر.(1/385)
المسألة الثانية والعشرون: التخصيص بالكتاب العزيز وبالنسبة المطهرة والتخصيص لهما
مدخل
...
المسألة الثانية والعشرون: التخصيص بالكتاب العزيز وبالسنة الْمُطَهَّرَةِ وَالتَّخْصِيصُ لَهُمَا
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، وَتَمَسَّكُوا بِأَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِاللَّفْظِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِالسُّنَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1.
ويجاب عنه: بأن كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْصُلَ بَيَانُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ، وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2
__________
1 جزء من الآية "44" من سورة النحل.
2 جزء من الآية "228" من سورة البقرة.(1/385)
يَعُمُّ الْحَوَامِلَ وَغَيْرَهُنَّ فَخَصَّ أُولَاتِ الْأَحْمَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 1 وَخَصَّ مِنْهُ أَيْضًا الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 2 وَهَكَذَا قَدْ خَصَّصَ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 3 بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن} 4 وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَأَيْضًا ذَلِكَ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهُ دَلَالَةً، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} 5، وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى" الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ، وَحَكَى عَنْهُمْ أَنَّ الْخَاصَّ إِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا وَإِلَّا فَالْعَامُّ نَاسِخٌ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى سَيَأْتِي6 الْكَلَامُ فِيهَا، وَلَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِتَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ.
__________
1 جزء من الآية "4" من سورة الطلاق.
2 جزء من الآية "49" من سورة الأحزاب.
3 جزء من الآية "234" من سورة البقرة.
4 جزء من الآية "4" من سورة الطلاق.
5 جزء من الآية "89" من سورة النحل.
6 انظر صفحة: "388".(1/386)
جواز تخصيص السنة بالكتاب:
وَكَمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْكِتَابِ، عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَتَانِ، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعُ.
قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ.
قَالَ مَكْحُولٌ1 وَيَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ2: السُّنَّةُ تَقْضِي عَلَى الْكِتَابِ، وَالْكِتَابُ لَا يَقْضِي عَلَى السُّنَّةِ، وَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ، فَإِنِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} 3 فَقَدْ عَرَفْتَ عَدَمَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، مَعَ كَوْنِهِ مُعَارَضًا بِمَا هُوَ أَوْضَحُ دَلَالَةً مِنْهُ كما تقدم.
__________
1 لعله محكول الشامي، أبو عبد الله، وقيل أبو مسلم، الدمشقي، الفقيه، الحافظ، روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن عدة من الصحابة مرسلا، وروى عن طائفة من قدماء التابعين، وحدث عنه الزهري وربيعة الرأي، وعداده من أواسط التابعين، توفي بعد سنة اثنتي عشرة ومائة هـ، سير أعلام النبلاء "5/ 155"، تهذيب التهذيب "10/ 289"، الجرح والتعديل "8/ 407".
2 لعله يحيى بن كثير بن درهم، أبو غسان العنبري، الحافظ، الثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، توفي سنة ست ومائتين هـ، ا. هـ، سير أعلام النبلاء "9/ 538"، تهذيب التهذيب "11/ 226".
ملاحظة: اعلم: أن الإمام الشوكاني رحمه الله ذكر هذا القول في كتابه مرتين، ففي المرة الأولى نسبه ليحيى بن أبي كثير، ولعلها الصواب والله اعلم؛ لأنه كان على درجة عالية في الحديث، حتى قدمه بعضهم على الزهري، وفي المرة الثانية نسبة ليحيى بن كثير والله أعلم بالصواب، انظر "97 جـ1".
3 جزء من الآية "44" من سورة النحل.(1/386)
جواز تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ:
وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ إِجْمَاعًا، كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدِ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا يُحْكَى عَنْ دَاوُدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَا شَكَّ فِي الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ يُوجِبُ الْعِلْمَ، كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يُوجِبُهُ.
وَأَلْحَقَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ بِالْمُتَوَاتِرِ الْأَخْبَارَ الَّتِي يقطع بصحتها.(1/387)
جواز تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْمُتَوَاتِرَةِ:
وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ، وَلَا يُبنى أَحَدُهُمَا عَلَى الآخر، ولا وجه لذلك.(1/387)
جواز تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ:
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ مُطْلَقًا، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى الْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَحَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمَنْخُولِ" عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَنَقَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ إِلَى الْجَوَازِ إِذَا كَانَ الْعَامُّ قَدْ خُصَّ مِنْ قَبْلُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، مُتَّصِلًا كَانَ أَوْ مُنْفَصِلًا كَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" وَابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِ "الْمُنْتَهَى" عَنْهُ.
وَقَدْ سَبَقَ إِلَى حِكَايَةِ ذَلِكَ عَنْهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فِي "التَّلْخِيصِ"، وَحَكَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالْخَبَرِ الْأُحَادِيِّ إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لذلك يكون الْمُخَصِّصِ الْأَوَّلِ قَطْعِيًّا.
وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ إِلَى الْجَوَازِ إِذَا كَانَ الْعَامُّ قَدْ خُصَّ مِنْ قَبْلُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، سَوَاءً كَانَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، وَإِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ أَوْ لَمْ يُخَصَّ أَصْلًا لَمْ يَجُزْ وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إلى الوقف(1/387)
وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِوُرُودِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ.
وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ، بَلْ وَرَدَ الْمَنْعُ، وَلَكِنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ هُوَ الْوَقْفُ، كَمَا حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ".
وَاسْتَدَلَّ فِي "الْمَحْصُولِ" عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّ الْعُمُومَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ دَلِيلَانِ مُتَعَارِضَانِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَخَصُّ مِنَ الْعُمُومِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْعُمُومِ.
وَاحْتَجَّ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَى الْجَوَازِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ خَصُّوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُم} 1 بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ" 2، وَخَصُّوا التَّوَارُثَ بِالْمُسْلِمِينَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ" 3. وَخَصُّوا قَوْلَهُ: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 4 بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي الْمَجُوسِ5 وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ، دَلَالَةً بَيِّنَةً وَاضِحَةً مَا وَقَعَ مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِاتِّبَاعِ نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، فَإِذَا جَاءَ عَنْهُ الدَّلِيلُ كَانَ اتِّبَاعُهُ وَاجِبًا، وَإِذَا عَارَضَهُ عُمُومٌ قُرْآنِيٌّ كَانَ سُلُوكُ طَرِيقَةِ الْجَمْعِ بِبِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ مُتَحَتِّمًا، وَدَلَالَةُ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ ظَنِّيَّةً لَا قَطْعِيَّةً فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِ تَخْصِيصِهِ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْآحَادِيَّةِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مُطْلَقًا بِمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً كَمَا فِي حَدِيثِهَا الصَّحِيحِ فَقَالَ عُمَرُ: "كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ ربنا لقول امرأة"6 يعني قوله: {أَسْكِنُوهُن} 7.
__________
1 جزء من الآية "11" من سورة النساء.
2 تقدم تخريجه بلفظ "نحن معاشر الأنبياء ... " في الصفحة "301".
3 أخرجه البخاري في الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم "6764". ومسلم في الفرائض في أوله "1614". وأبو داود في الفرائض باب هل يرث المسلم الكافر؟ "3909". والترمذي في الفرائض: باب ما جاء في إبطال الميراث بين المسلم والكافر "2107". والنسائي في الكبرى في الفرائض كما في التحفة "1/ 56". وعبد الرزاق في المصنف "9852" والإمام أحمد في مسنده "5/ 208" وابن الجارود في المنتقى "954".
4 جزء من الآية "5" من سورة التوبة.
5 والخبر هو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر المجوس فقال:" ما أدري كيف أصنع في أمرهم. فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد أني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب".
أخرجه مالك في الموطأ "1/ 278" وأخرج البخاري بنحو هذه الرواية في كتاب الجزية باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب "3156-3157". والترمذي في السير باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس "1586".
6 أخرجه مسلم في الطلاق باب المطلقة البائن لا نفقة لها "1480". والبيهقي في سننه كتاب النفقات باب من قال: لها النفقة "7/ 475". والدارقطني في سننه كتاب الطلاق والخلع والإيلاء "4/ 27" رقم "73".
7 جزء من الآية "6" من سورة الطلاق.(1/388)
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِتَرَدُّدِهِ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ، لَا لِرَدِّهِ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْآحَادِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَيْفَ نُخَصِّصُ عُمُومَ كِتَابِ رَبِّنَا بِخَبَرٍ آحَادِيٍّ بَلْ قَالَ: "كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ".
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: "قَالَ عُمَرُ: لَا نَتْرُكُ كتاب الله وسنة نبينا قول امْرَأَةٍ لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ"1.
فَأَفَادَ هَذَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا تَرَدَّدَ فِي كَوْنِهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ، وَلَوْ عَلِمَ بِأَنَّهَا حَفِظَتْ ذَلِكَ وَأَدَّتْهُ كَمَا سَمِعَتْهُ لَمْ يَتَرَدَّدْ فِي الْعَمَلِ بِمَا رَوَتْهُ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي لَمْ تُجْمِعِ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا.
أَمَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: "لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ" 2 وَ"لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" 3 فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ قَطْعًا، وَيَصِيرُ ذَلِكَ كَالتَّخْصِيصِ بِالْمُتَوَاتِرِ، لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمِهَا وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ انعقاده على روايتها.
وَكَمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ "تَخْصِيصُ الْعُمُومِ الْمُتَوَاتِرِ مِنَ السُّنَّةِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ السَّابِقِ كَمَا صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
__________
1 انظر الحاشية رقم "6" في الصفحة السابقة.
2 أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. في كتاب الديات، باب القاتل لا يرث "2645" بلفظ "القاتل لا يرث". والترمذي في الفرائض، باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل "2109" وقال: حديث لا يصح. والدارقطني "4/ 96" ونقل عن النسائي قوله: إسحاق متروك الحديث. وأخرجه النسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف "9/ 12286". ولكن للحديث روايات أخرى عن عمر وابنه رضي الله عنهما وعن ابن عباس أيضًا يتقوى بها ولذا حسنه السيوطي في فيض القدير "5/ 377" ونقل المناوي في فيض القدير عن ابن عبد البر قوله: إسناده صحيح من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بالاتفاق وله شواهد كثيرة. انظر الدارقطني "4/ 95-96" والتلخيص الحبير "3/ 84".
3 أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس رضي الله عنه في كتاب الفرائض "4/ 97-98" والبيهقي في سننه في كتاب الوصايا باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين الوارثين "6/ 263" وساقه الزيلعي في نصب الراية من عدة طرق وروايات فانظرها هناك "4/ 404" وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة في كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث "2713". وأبو داود في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث "2870" وقال ابن حجر في التلخيص الحبير "3/ 92". وهو حسن الاسناد.(1/389)
وكما يجوز تحصيص عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ كَذَلِكَ يَجُوزُ"* تَخْصِيصُهُ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ عِنْدَ مَنْ نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ الْآحَادِيِّ.
وَقَدْ سَبَقَ1 الْكَلَامُ فِي الْقِرَاءَاتِ فِي مَبَاحِثِ الْكِتَابِ.
وَهَكَذَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ لِعُمُومِ الْكِتَابِ وَعُمُومِ الْمُتَوَاتِرِ مِنَ السُّنَّةِ، بِمَا ثَبَتَ مِنْ فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ به، كما يجوز بالقول.
وَهَكَذَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي تَقْرِيرِهِ فِي مَقْصِدِ السُّنَّةِ2، بِمَا يغني عن الإعادة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر صفحة: "86".
2 انظر صفحة: "102".(1/390)
التخصيص بموافقة العام وبعطف الخاص على العام
...
التَّخْصِيصُ بِمُوَافِقِ الْعَامِّ وَبِعَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ:
وَأَمَّا التَّخْصِيصُ بِمُوَافِقِ الْعَامِّ فَقَدْ سَبَقَ1 الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الْعَامِّ إِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي الْخُصُوصَ، وَعَلَى الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْعَامِّ وَتَعَلُّقٌ بِالْخَاصِّ.
__________
1 انظر صفحة: "285".(1/390)
المسألة الثانية والعشرون: في التَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ
...
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ أَخِيرًا.
وَحَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى" عَنْ هَؤُلَاءِ، وَزَادَ مَعَهُمُ الْإِمَامَ الرَّابِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَكَذَا حَكَى ابْنُ الْهُمَامِ فِي "التَّحْرِيرِ".
وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنِ الْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ.(1/390)
وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ.
وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ إِلَى الْمَنْعِ مُطْلَقًا.
وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَعَنِ الْأَشْعَرِيِّ.
وَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْ كَانَ الْعَامُّ قَدْ خُصِّصَ قَبْلَ ذَلِكَ بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ، كَذَا حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي "التَّقْرِيبِ"1، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَأَطْلَقَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ الْحِكَايَةَ عَنْهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِكَوْنِ النَّصِّ قَطْعِيًّا، وَحَكَى هَذَا الْمَذْهَبَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ.
وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْ كَانَ قَدْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَإِلَّا فَلَا، كَذَا حَكَاهُ عَنْهُ "صَاحِبُ" الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُ.
وَذَهَبَ الْإِصْطَخْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْ كَانَ الْقِيَاسُ جَلِيًّا وَإِلَّا فَلَا، كَذَا حَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَيْضًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَرْوَانَ2 مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ3، وَمُبَارَكِ بْنِ أَبَانٍ4، وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى"، عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ.
وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّهُ: إِنْ تَفَاوَتَ الْقِيَاسُ وَالْعَامُّ فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ رُجِّحَ الْأَقْوَى، فَإِنْ تَعَادَلَا فَالْوَقْفُ. وَاخْتَارَهُ الْمُطَرِّزِيُّ5، وَرَجَّحَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْقَرَافِيُّ، وَالْقُرْطُبِيُّ.
وَذَهَبَ الْآمِدِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا جاز التخصيص به، وإلا فلا.
__________
1 تقدم الكلام عنه في الصفحة "159".
2 لم أجد ترجمته فيما بين يدي من المصادر.
3 هو الإمام عثمان بن سعيد بن بشار البغدادي، الفقيه، الأنماطي، أبو القاسم الأحول، شيخ الشافعية، توفي سنة ثمانٍ وثمانين ومائتين هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 429"، شذرات الذهب "2/ 198".
4 لم أجد ترجمته فيما بين يدي من المصادر.
5 هو ناصر بن أبي المكارم عبد السيد ين على المطرزي، كان إمامًا في الفقه واللغة العربية، من آثاره: "المعرب" "الإيضاح" "المقامات"، كان له: خليفة الزمخشري، ولد، سنة ست وثلاثين وخمسمائة هـ، توفي سنة عشر وستمائة هـ، ا. هـ. الجواهر المضية "3/ 528"، سير أعلام النبلاء "22/ 28" الفوائد البهية "218".(1/391)
وَقَدْ حَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ مَذْهَبَيْنِ لَمْ يَنْسُبْهُمَا إِلَى مَنْ قَالَهُمَا.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْ كَانَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مُخْرَجًا مِنْ "عَامٍّ وَإِلَّا فَلَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْ كَانَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مُخْرَجًا مِنْ غَيْرِ"* ذَلِكَ الْعَامِّ وَإِلَّا فَلَا.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: الْقِيَاسُ إِنْ كَانَ جَلِيًّا مثل {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُف} 1 جاز التخصيص به الإجماع، وَإِنْ كَانَ وَاضِحًا وَهُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ مَعْنَى الْأَصْلِ، كَقِيَاسِ الرِّبَا، فَالتَّخْصِيصُ بِهِ جَائِزٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا إِلَّا طَائِفَةً شَذَّتْ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِمْ وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا، وَهُوَ قِيَاسٌ عِلَّتُهُ الشَّبَهُ، فَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَذَّ فَجَوَّزَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَفِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ جَوَازُهُ أَيْضًا، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْخَفِيِّ فِي مَوَاضِعَ.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ: بأن العموم والقياس دليلان متعارضين وَالْقِيَاسَ خَاصٌّ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ.
وَبِهَذَا يُعْرَفُ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِضُ احْتِجَاجُ الْمَانِعِينَ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ قَدَّمَ الْقِيَاسَ عَلَى عُمُومِ الْخَبَرِ لَزِمَ تَقْدِيمُ الْأَضْعَفِ عَلَى الْأَقْوَى، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ إِبْطَالِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَإِعْمَالِهِمَا جَمِيعًا فَلَا.
وَقَدْ طَوَّلَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَحْثِ بِإِيرَادِ شُبَهٍ زَائِفَةٍ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا.
وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْحَقِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الْقِيَاسِ، فَمَنْ مَنَعَ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ مُطْلَقًا مَنَعَ مِنَ التَّخْصِيصِ بِهِ، وَمَنْ مَنَعَ مِنْ بَعْضِ أَنْوَاعِهِ دُونَ بَعْضٍ مَنَعَ مِنَ التَّخْصِيصِ بِذَلِكَ الْبَعْضِ، وَمَنْ قَبِلَهُ مُطْلَقًا خَصَّصَ بِهِ مُطْلَقًا.
وَالتَّفَاصِيلُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا مِنْ جِهَةِ الْقَابِلِينَ لَهُ مُطْلَقًا، إِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ وَقَعَ هُنَا مُقَابِلًا لِدَلَالَةِ الْعُمُومِ.
وَالْحَقُّ الْحَقِيقُ بِالْقَبُولِ: أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ بِهِ لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ، وَبُلُوغِهَا إِلَى حَدٍّ يُوَازِنُ النصوص، وكذلك يُخَصَّصُ بِمَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً، أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، أَمَّا الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ فَالْقِيَاسُ الْكَائِنُ بِهَا فِي قُوَّةِ النَّصِّ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا، فَلِكَوْنِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ قَدْ دَلَّ عَلَى دَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَمَا عَدَا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْقِيَاسِ، فَلَمْ تَقُمِ الْحُجَّةُ بِالْعَمَلِ بِهِ مِنْ أَصْلِهِ.
وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي الْقِيَاسِ، عَلَى وَجْهٍ يَتَّضِحُ بِهِ الْحَقُّ اتِّضَاحًا لَا يَبْقَى عِنْدَهُ رَيْبٌ لمرتاب.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "1".
__________
1 جزء من الآية "23" من سورة الإسراء.(1/392)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِالْمَفْهُومِ
ذَهَبَ الْقَائِلُونَ بِالْعَمَلِ بِالْمَفْهُومِ إِلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: لَا أَعْرِفُ خِلَافًا فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ، وَسَيَأْتِي1 الْكَلَامُ عَلَى الْمَفَاهِيمِ وَالْمَعْمُولِ بِهِ مِنْهَا، وَغَيْرِ الْمَعْمُولِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّخْصِيصِ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ.
وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنِ سُرَيْجٍ الْمَنْعَ مِنَ التَّخْصِيصِ بِالْمَفْهُومِ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي عَدَمِ العمل بالمفهوم.
قال الشيخ تقي الدين ابن دَقِيقِ الْعِيدِ، فِي "شَرْحِ الْإِلْمَامِ": قَدْ رَأَيْتُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْعُمُومِ، وَفِي كَلَامِ صَفِيِّ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، أَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى التَّخْصِيصِ بِهِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيهِمَا.
أَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، فَكَمَا إِذَا وَرَدَ عَامٌّ فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شاةٌ" 3 ثُمَّ قَالَ: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ" 4 فَإِنَّ الْمَعْلُوفَةَ خَرَجَتْ بِالْمَفْهُومِ فَيُخَصَّصُ بِهِ، عُمُومَ الْأَوَّلِ، وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التخصيص به ومثل بما ذكرنا.
__________
1 صفحة: "36 جـ2".
2 انظر صفحة: "353".
3 أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من حديث سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه مطولًا برقم "2270" وأبو داود في كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة "1572".
4 أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم "1454"، والنسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل "2446". وابن ماجه في كتاب الزكاة، باب إذا أخذ المصدق سنًا والنسائي في كتاب الزكاة باب زكاة الإبل "2446". وابن ماجه في كتاب الزكاة، باب إذا اخذ المصدق سنًا دون سن "1800" وأبو داود: في كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة "1567". وابن خزيمة برقم "2261".(1/393)
وَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِذَا وَرَدَ الْعَامُّ مُجَرَّدًا عَلَى صِفَةٍ ثُمَّ أُعِيدَتِ الصفة متأخرة عنه كقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 1 مَعَ قَوْلِهِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ "اقْتُلُوا أَهْلَ الْأَوْثَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلتَّخْصِيصِ بِالِاتِّفَاقِ، وَيُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَخْصِيصِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْعُمُومِ. انْتَهَى.
وَإِنَّمَا حَكَى الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى التَّخْصِيصِ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَلِهَذَا يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ دَلَالَةَ النَّصِّ، وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْمَفْهُومَ الْأَوْلَى، وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُف} 2 وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الِاتِّفَاقَ عَلَى التَّخْصِيصِ بِهِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْمَفَاهِيمِ فَرْعُ الْعَمَلِ بِهَا، وَسَيَأْتِي3 بَيَانُ مَا هُوَ الْحَقُّ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
__________
1 جزء من الآية "5" من سورة التوية.
2 جزء من الآية "23" من سورة الإسراء.
3 انظر صفحة: "36 جـ2".(1/394)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِالْإِجْمَاعِ
قَالَ الْآمِدِيُّ: لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا، وَكَذَلِكَ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْإِجْمَاعِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ.
قَالَ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ بَعْضَ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ يَكُونُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ لَا بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: إِنَّ مَنْ خَالَفَ فِي التَّخْصِيصِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ يُخَالِفُ هُنَا.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْإِجْمَاعُ أَقْوَى مِنَ النَّصِّ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ يَحْتَمِلُ نَسْخَهُ، وَالْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ.
وَجَعَلَ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه} 1. قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَى عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ.
وَمَثَّلَهُ ابْنُ حَزْمٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} 2، وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ بَذَلُوا فِلْسًا أَوْ فِلْسَيْنِ لَمْ يَجُزْ بِذَلِكَ حَقْنُ دِمَائِهِمْ، قَالَ: وَالْجِزْيَةُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ جِزْيَةً مَعْلُومَةً.
وَمَثَّلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ بِآيَةِ حَدِّ الْقَذْفِ، وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى التَّنْصِيفِ لِلْعَبْدِ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمُخَصِّصَ هُوَ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ، لَا نَفْسُ الْإِجْمَاعِ كما تقدم3.
__________
1 جزء من الآية "9" من سورة الجمعة.
2 جزء من الآية "29" من سورة التوبة.
3 انظر صفحة: "394".(1/394)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِالْعَادَةِ
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهَا، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهَا.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ أَوْ حَرَّمَ شَيْئًا بِلَفْظٍ عَامٍّ، ثُمَّ رَأَيْنَا الْعَادَةَ جَارِيَةً بِتَرْكِ بَعْضِهَا أَوْ بِفِعْلِ بَعْضِهَا، فَهَلْ تُؤَثِّرُ تِلْكَ الْعَادَةُ حَتَّى يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِّ مَا عَدَا ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَرْكِهِ، أَوْ بِفِعْلِهِ أَوْ لَا تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ مُتَنَاوِلٌ لِذَلِكَ الْبَعْضِ وَلِغَيْرِهِ.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، كَأَكْلِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ مَثَلًا، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَاهُمْ عَنْ تَنَاوُلِهِ بِلَفْظٍ مُتَنَاوِلٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَكْلِ الطَّعَامِ فَهَلْ يَكُونُ النَّهْيُ مُقْتَصِرًا عَلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ بِخُصُوصِهِ أَمْ لَا، بَلْ يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ وَلَا تُؤَثِّرُ عَادَاتُهُمْ.
قَالَ وَالْحَقُّ: أَنَّهَا لَا تُخَصَّصُ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ وَهُوَ عَامٌّ، وَالْعَادَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ حَتَّى تَكُونَ مُعَارِضَةً لَهُ. انْتَهَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَ كَلَامُ أَهْلِ الْأُصُولِ؛ وَصَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" وَأَتْبَاعُهُ تَكَلَّمُوا عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَاخْتَارَ فِيهَا أَنَّهُ إِنْ عُلِمَ جَرَيَانُ الْعَادَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَدَمِ مَنْعِهِ عَنْهَا فَيُخَصَّصُ بِهَا، وَالْمُخَصِّصُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ تَقْرِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإن علم عدم جريانها ولم يُخَصَّصْ بِهَا إِلَّا أَنْ يُجْمَعَ عَلَى فِعْلِهَا، فَيَكُونُ تَخْصِيصًا بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فتكلموا على الحالة الثانية.
قال الرزكشي: وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ لَا تَعَلُّقَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَتَفْطَنُ لِذَلِكَ، فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ حَاوَلَ الْجَمْعَ بَيْنَ كَلَامِ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ فِي "الْمَحْصُولِ" وَكَلَامِ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمَا تَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ الْقَرَافِيُّ فِي "شَرْحِ(1/395)
التَّنْقِيحِ"، وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْعَادَةَ السَّابِقَةَ عَلَى الْعُمُومِ تَكُونُ مُخَصِّصَةً، وَالْعَادَةَ الطَّارِئَةَ بَعْدَ الْعُمُومِ لَا يُقْضَى بِهَا عَلَى الْعُمُومِ. انْتَهَى.
وَالْحَقُّ: أَنَّ تِلْكَ الْعَادَةَ إِنْ كَانَتْ مُشْتَهِرَةً فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ، بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا أُطْلِقَ كَانَ الْمُرَادُ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَهِيَ مُخَصِّصَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يُخَاطِبُ النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ، وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ إِلَّا مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَارُفُ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْعَادَةُ كَذَلِكَ فَلَا حُكْمَ لَهَا وَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهَا.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُخَصِّصُ كَلَامَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِعَادَةٍ حَادِثَةٍ بَعْدَ انْقِرَاضِ زَمَنِ النُّبُوَّةِ تَوَاطَأَ عَلَيْهَا قَوْمٌ وَتَعَارَفُوا بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فِي الْعَصْرِ الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ الشَّارِعُ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْخَطَأِ الْبَيِّنِ وَالْغَلَطِ الْفَاحِشِ.
أَمَّا لَوْ قَالَ الْمُخَصِّصُ بِالْعَادَةِ الطَّارِئَةِ إِنَّهُ يُخَصِّصُ بِهَا مَا حَدَثَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الْمُصْطَلِحِينَ عَلَيْهَا مِنَ التَّحَاوُرِ فِي الْكَلَامِ، وَالتَّخَاطُبِ بِالْأَلْفَاظِ، فَهَذَا مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ بَحْثَنَا فِي هَذَا الْعِلْمِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْمُخَصِّصَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالْبَحْثُ عَنِ الْمُخَصِّصَاتِ الْعُرْفِيَّةِ لِمَا وَقَعَ التَّخَاطُبُ بِهِ مِنَ الْعُمُومَاتِ الْحَادِثَةِ مِنَ الْخَلْطِ لِهَذَا الْفَنِّ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ وَالْخَبْطُ فِي الْبَحْثِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.(1/396)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُخَصَّصُ بِذَلِكَ.
وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، فَبَعْضُهُمْ يُخَصِّصُ بِهِ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ يُخَصِّصُ بِهِ إِنْ كَانَ هُوَ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَسُلَيْمٍ الرَّازِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: إِنَّهُ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الرَّاوِي لِلْعُمُومِ، وَكَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُنْتَشِرًا وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا إِجْمَاعٌ أَوْ حَجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا عَلَى الْخِلَافِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَنْتَشِرْ، فَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ، فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَلَا يُخَصَّصُ بِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ هُوَ حُجَّةٌ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَهَلْ يُخَصَّصُ بِهِ الْعُمُومُ فِيهِ وَجْهَانِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى التَّخْصِيصِ هُوَ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ(1/396)
الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ وَعَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ لَا يُخَصَّصُ بِهِ خِلَافًا لِمَنْ تَقَدَّمَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي الْعُمُومِ، وَمَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ، بِأَنَّ الصَّحَابِيَّ الْعَدْلَ لَا يَتْرُكُ مَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْمَلُ بِخِلَافِهِ إِلَّا لِدَلِيلٍ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ يَصْلُحُ لِلتَّخْصِيصِ.
وَأُجِيبُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ قَدْ يخالف ذلك لدليل فِي ظَنِّهِ، وَظَنُّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، فَقَدْ يَظُنُّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ دَلِيلًا، وَالتَّقْلِيدُ لِلْمُجْتَهِدِ مِنْ مُجْتَهِدٍ مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ، لَا سِيَّمَا فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ، فَالْحَقُّ عَدَمُ التَّخْصِيصِ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً مَا لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ مِنَ التَّخْصِيصِ بالإجماع، وقد تقدم1 الكلام عليه
__________
1 انظر صفحة: "394".(1/397)
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِالسِّيَاقِ
قَدْ تَرَدَّدَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، وَأَطْلَقَ الصَّيْرَفِيُّ جَوَازَ التَّخْصِيصِ بِهِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} 1 وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي "الرِّسَالَةِ" يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّهُ بَوَّبَ لِذَلِكَ بَابًا فَقَالَ: بَابُ الصِّنف الَّذِي قَدْ بَيَّنَ سِيَاقُهُ مَعْنَاهُ، وَذَكَرَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْر} 2 قَالَ: فَإِنَّ السِّيَاقَ أَرْشَدَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْت} 3.
قال الشيخ تقي الدين ابن دَقِيقِ الْعِيدِ، فِي "شَرْحِ الْإِلْمَامِ": نَصَّ بَعْضُ الْأَكَابِرِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِالْقَرَائِنِ الْقَاضِيَةِ بِالتَّخْصِيصِ، قَالَ: وَيَشْهَدُ لَهُ مُخَاطَبَاتُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَيْثُ يَقْطَعُونَ فِي بَعْضِ الْمُخَاطَبَاتِ بِعَدَمِ الْعُمُومِ، بِنَاءً عَلَى الْقَرِينَةِ، وَالشَّرْعُ يُخَاطِبُ النَّاسَ بِحَسَبِ تَعَارُفِهِمْ. قَالَ: وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْكَ التَّخْصِيصُ بِالْقَرَائِنِ بِالتَّخْصِيصِ بِالسَّبَبِ، كَمَا اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ بِالسَّبَبِ غَيْرُ مُخْتَارٍ، فَإِنَّ السَّبَبَ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يُورَدَ لَفْظُ عَامٍّ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ كَمَا فِي "قَوْلِهِ تَعَالَى"*: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4 ولا
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "173" من سورة آل عمران.
2 و3 جزء من الآية "163" من سورة الأعراف.
4 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.(1/397)
يَنْتَهِضُ السَّبَبُ بِمُجَرِّدِهِ قَرِينَةً لِرَفْعِ هَذَا بِخِلَافِ السِّيَاقِ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ التَّبْيِينِ وَالتَّعْيِينِ، أَمَّا التَّبْيِينُ فَفِي الْمُجْمَلَاتِ، وَأَمَّا التَّعْيِينُ فَفِي الْمُحْتَمَلَاتِ، وَعَلَيْكَ بِاعْتِبَارِ هَذَا فِي أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمُحَاوَرَاتِ تَجِدُ مِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُكَ حَصْرُهُ. انْتَهَى.
وَالْحَقُّ: أَنَّ دَلَالَةَ السِّيَاقِ إِنْ قَامَتْ مَقَامَ الْقَرَائِنِ الْقَوِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَعْيِينِ الْمُرَادِ، كَانَ الْمُخَصِّصُ هُوَ مَا "اشْتَمَلَ"* عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ السِّيَاقُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَلَا أفاد هذا المفاد فليس بمخصص.
__________
* في "أ": اشتملت.(1/398)
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِقَضَايَا الْأَعْيَانِ
وذلك كإذنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ لِلْحَكَّةِ1، وَفِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ لِلْحَنَابِلَةِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا وَقَعَ الْإِذْنُ بِالشَّيْءِ، أَوِ الْأَمْرُ بِهِ، أَوِ النَّهْيُ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ بِالْعِلَّةِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالِاسْتِصْحَابِ، قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ2: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ لِلْعُمُومِ بِالْبَقَاءِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِصْحَابُ بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "الْإِفَادَةِ": ذَهَبَ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ، قَالَ: لِأَنَّهُ دَلِيلٌ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ نَاقِلٌ، فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ كَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ. وَهَذَا فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَسْقُطَ بِالْعُمُومِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِهِ! إِذْ مَعْنَاهُ التَّمَسُّكُ بِالْحُكْمِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ يُنْقَلُ عنه، والعموم دليل ناقل.
__________
1 أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك بلفظ "رخص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في لبس الحرير من حكة كانت بهما". في كتاب اللباس والزينة، باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها "2076". والبخاري في الجهاد، باب الحرير في الحرب "2921" والإمام أحمد في مسنده "3/ 255" وأبو يعلي "3148". والنسائي في الزينة، باب الرخصة في لبس الحرير "8/ 202". وابن حبان في صحيحه "5430".
2 هو محفوظ بن أحمد بن حسن العراقي، شيخ الحنابلة، أبو الخطاب، العلامة الورع، مولده، سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة هـ، من آثاره: "الهداية" "رءوس المسائل" "أصول الفقه"، توفي سنة عشر وخمسمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/ 348"، شذرات الذهب "4/ 27".(1/398)
المسألة الموفية للثلاثون: في بِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ
...
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ: فِي بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ
قَدْ تَقَدَّمَ مَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ، فَإِذَا كَانَ الْعَامُّ الْوَارِدُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، قَدْ وَرَدَ مَعَهُ خَاصٌّ يَقْتَضِي إِخْرَاجَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَيْهَا، فَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَارِيخُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ لَا يُعْلَمَ، فَإِنْ عُلِمَ فإن كان المتأخر الخاص فإما أن يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ أَوْ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بالعام فههنا يَكُونُ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وِفَاقًا، وَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِأَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِهِ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ غَيْرُ جَائِزٍ قَطْعًا.
وَإِنَّ تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْعَامِّ دُونَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، فَمَنْ جَوَّزَهُ جَعَلَ الْخَاصَّ بَيَانًا لِلْعَامِّ، وَقَضَى بِهِ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ حَكَمَ بِنَسْخِ الْعَامِّ فِي الْقَدْرِ الَّذِي عَارَضَهُ فِيهِ الْخَاصُّ، كَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، قَالَ: وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ يَخْتَصُّ بِهَا، وَإِنَّمَا يَعُودُ الْكَلَامُ فِيهَا إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللَّمْعِ" وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي "الْعُدَّةِ".
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ وَلِمَ يُجَوِّزْ نَسْخَ الشَّيْءِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ كَالْمُعْتَزِلَةِ، أَحَالَ الْمَسْأَلَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُمَا، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ الْخَاصَّ مُخَصَّصٌ لِلْعَامِّ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْعَامِّ، لَكِنَّ التَّخْصِيصَ أَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنَ النَّسْخِ، وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فَتَعَّيَنَ.
وَنُقِلَ عَنْ مُعْظَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْخَاصَّ إِذَا تَأَخَّرَ عَنِ الْعَامِّ، وَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا مَا يُمَكِّنُ الْمُكَلَّفَ بِهِمَا مِنَ الْعَمَلِ أَوِ الِاعْتِقَادِ بِمُقْتَضَى الْعَامِّ، كَانَ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مِنَ الْعَامِّ؛ لِأَنَّهُمَا دَلِيلَانِ، وَبَيْنَ حُكْمَيْهِمَا تنافٍ، فَيُجْعَلُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ "عِنْدَ"* الْإِمْكَانِ، دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ، قَالَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ. انْتَهَى.
فَإِنْ تَأَخَّرَ الْعَامُّ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ مُتَيَقَّنٌ، وَمَا تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ ظَاهِرٌ مَظْنُونٌ، وَالْمُتَيَقَّنُ أَوْلَى.
__________
* في "أ": من.(1/399)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، إِلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ لِلْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى الْوَقْفِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إِذَا تَأَخَّرَ الْعَامُّ كَانَ نَاسِخًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخَاصُّ مَا لَمْ يَقُمْ لَهُ دَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخُصُوصِ. انْتَهَى.
وَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْبِنَاءُ.
وَإِنَّ تَأَخَّرَ الْعَامُّ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْخَاصِّ، لَكِنَّهُ قَبْلَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْبِنَاءِ وَالنَّسْخِ؛ إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ مِنْهُمْ نَسْخَ الشَّيْءِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ عَلَى النَّسْخِ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ أَوِ التَّعَارُضُ فِيمَا تَنَافَيَا فِيهِ. وَجَعَلَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيًّا عَلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَهُ عَنْ مَوْرِدِ اللَّفْظِ جَعَلَهُ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ.
"هَذِهِ"* الْأَرْبَعُ الصُّوَرُ إِذَا كَانَ تَارِيخُهُمَا مَعْلُومًا، فَإِنْ جُهِلَ تَارِيخُهُمَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهُ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ إِلَى التَّوَقُّفِ إِلَى ظُهُورِ التَّارِيخِ، أَوْ إِلَى مَا يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا، عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالدَّقَّاقِ.
وَالْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ: فِي صُورَةِ الْجَهْلِ الْبِنَاءُ، وَلَيْسَ عَنْهُ مَانِعٌ يَصْلُحُ لِلتَّشَبُّثِ بِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ مَا أَمْكَنَ هُوَ الْوَاجِبُ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ مَعَ الْجَهْلِ إِلَّا بِالْبِنَاءِ، وَمَا عَلَّلَ بِهِ الْمَانِعُونَ فِي الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْخَاصَّ أَقْوَى دَلَالَةً مِنَ الْعَامِّ، وَالْأَقْوَى أَرْجَحُ، وَأَيْضًا إِجْرَاءُ الْعَامِّ عَلَى عُمُومِهِ إِهْمَالٌ لِلْخَاصِّ، وَإِعْمَالُ الْخَاصِّ لَا يُوجِبُ إِهْمَالَ الْعَامِّ.
وَأَيْضًا قَدْ نَقَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْبِنَاءِ مَعَ جَهْلِ التَّارِيخِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْبِنَاءَ هُوَ الرَّاجِحُ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَمَا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ مِنْ قَوْلِهِمْ دَلِيلَانِ تَعَارَضَا، وَعُلِمَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا، فَوَجَبَ تَسْلِيطُ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى السَّابِقِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ خَاصًّا، فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ ضَعِيفُ الدَّلَالَةِ، فَلَا يُنْتَهَضُ لِتَرْجِيحِهِ عَلَى قَوِيِّ الدَّلَالَةِ.
__________
* في "أ": وهذه.(1/400)
وَأَيْضًا فِي الْبِنَاءِ جَمْعٌ، وَفِي الْعَمَلِ بِالْعَامِّ تَرْجِيحٌ، وَالْجَمْعُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّرْجِيحِ.
وَأَيْضًا فِي الْعَمَلِ بِالْعَامِّ إِهْمَالٌ لِلْخَاصِّ، وَلَيْسَ فِي التَّخْصِيصِ إِهْمَالٌ لِلْعَامِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَسَيَأْتِي1 لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَفِي الْكَلَامِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ إِمْكَانِ الْعَمَلِ"* إِنْ شَاءَ الله.
"تم الجزء الأول بعون الله تعالى وفضله ويليه الجزء الثاني إن شاء الله تبارك وتعالى"
__________
* في "أ": العام.
__________
1 انظر "2/ 53".(1/401)
فهرس المحتويات:
الموضوع الصفحة
مقدمة سماحة مفتي زحلة والبقاع الغربي الشيخ خليل الميس 5
مقدمة الدكتور ولي الدين صالح فرفور الدمشقي 7
مقدمة التحقيق 9
مقدة الإمام الشوكاني 15
الفصل الأول: تعريف أصول الفقه وموضوعه وفائدته واستمداده 17
موضوع علم أصول الفقه 23
فائدته وثمرته 24
استمداد علم أصول الفقه 24
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْأَحْكَامِ 25
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي الحكم 25
البحث الثاني: في الحاكم 28
البحث الثالث: في المحكوم به 31
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ 36
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ 40
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: عن ماهية الكلام 40
البحث الثاني: عن الواضع 41
البحث الثالث: عن الموضوع 45
البحث الرابع: عن الموضوع له 46
البحث الخامس: في الطريق التي يعرف بها الوضع 47
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي تَقْسِيمِ اللَّفْظِ إِلَى مُفْرَدٍ ومركب 52
المسألة الأولى: في الاشتقاق 53
المسألة الثانية: في الترادف 56
المسألة الثالثة: في المشترك 57
المسألة الرابعة: في استعمال المشترك في أكثر من معنى 59(1/402)
الموضوع الصفحة
المسألة الخامسة: في الحقيقة والمجاز 62
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ لَفْظَيِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ 62
البحث الثاني: في حدهما 62
البحث الثالث: في الحقائق اللغوية والعرفية والشرعية والخلاف في ثبوتها 63
البحث الرابع: المجاز في لغة العرب 66
البحث الخامس: في علاقات الحقيقة والمجاز 68
البحث السادس: في قرائن المجاز 70
الْبَحْثُ السَّابِعُ: فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا المجاز ويتميز عندها عن الحقيقة 71
البحث الثامن: في عدم اتصاف اللفظ قبل الاستعمال بالحقيقة والمجاز 74
الْبَحْثُ التَّاسِعُ: فِي اللَّفْظِ إِذَا دَارَ بَيْنَ الحقيقة والمجاز، أيهما يرجح 76
الْبَحْثُ الْعَاشِرُ: فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ 79
الخلاف في بعض حروف المعاني 80
الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ: فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فيما يتعلق بتعريفه 85
الفصل الثاني: في حكم المنقول آحادًا 86
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ 90
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْمُعَرَّبِ هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ في القرآن أم لا؟ 91
المقصد الثاني: في السنة المطهرة
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى السُّنَّةِ لُغَةً وَشَرْعًا 95
البحث الثاني: في حجية السنة واستقلالها بالتشريع 96
البحث الثالث: في عصمة الأنبياء 98
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 102
البحث الخامس: في تعارض الأفعال 111
البحث السادس: في حكم التعارض بين القول والفعل 113
البحث السابع: في التقرير 117
البحث الثامن: فيما هم بفعله ولم يفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 118
الْبَحْثُ التَّاسِعُ: فِي حكم إشارته وكتابته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 118
البحث العاشر: فيما تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول في الحوادث التي لم يحكم بها 119
البحث الحادي عشر: في الأخبار 119(1/403)
الموضوع الصفحة
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى الْخَبَرِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا 119
النوع الثاني: أقسام الخبر من حيث الصدق والكذب 123
النوع الثالث: في تقسيم الخبر 127
النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه 128
القسم الأول: المتواتر 128
شروط إفادة الخبر المتواتر للعلم الضروري 130
القسم الثاني: الآحاد 133
أقسام الآحاد 137
شروط العمل بخبر الواحد 139
الشروط الراجعة إلى الراوي 139
الشروط الراجعة إلى مدلول الخبر 151
حكم زيادة الثقة 154
الشروط الراجعة إلى لفظ الخبر 155
الحال الأول: أن يرويه الراوي بلفظه 155
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ بَلْ بمعناه 155
الحال الثالث: حكم حذف الراوي لبعض الخبر 159
الحال الرابع: حكم زيادة الراوي 161
الحال الخامس: اقتصار الراوي على أحد محتملي الخبر 161
الحال السادس: صرف الخبر إلى غير ظاهره 161
فصل: في ألفاظ الرواية من الصحابي 162
ألفاظ الرواية من غير الصحابي ومراتبها 166
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنْ يَسْمَعَ الْحَدِيثَ مِنْ لَفْظِ الشيخ 166
المرتبة الثانية: القراءة وقول العلماء فيها 166
المرتبة الثالثة: الكتابة المقرونة بالإجازة 168
المرتبة الرابعة: المناولة 169
المرتبة الخامسة: الإجازة 170
فصل: في الحديث الصحيح 172
حكم الحديث المنقطع والمعضل 177
فصل: في طرق ثبوت العدالة 177
فرع: في الخلاف في عدالة المبهم 181
فرع آخر: الخلاف فِي قَبُولِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مَنْ دُونِ ذِكْرِ السبب 182
فرع ثالث: في تعارض الجرح والتعديل والجمع يبنهما 184(1/404)
الموضوع الصحفة
فصل: في عدالة الصحابة 185
فرع: في التعريف بالصحابي 188
فرع آخر: في طرق معرفة الصحابي 189
المقصد الثالث: في الإجماع
البحث الأول: في مسماه لغة واصطلاحًا 193
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي إِمْكَانِ الْإِجْمَاعِ فِي نَفْسِهِ 194
المقام الأول: منع إمكان الإجماع في نفسه 194
المقام الثاني: في إمكان العلم بالإجماع 195
الْمَقَامُ الثَّالِثُ: النَّظَرُ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ إِلَى من يحتج به 197
المقام الرابع: في حجية الإجماع 197
البحث الثالث: في ظنية الإجماع أو قطعيته 209
البحث الرابع: فيما ينعقد به الإجماع 210
البحث الخامس: في اعتبار المجتهد المبتدع في الإجماع 212
البحث السادس: في اعتبار التابعي المجتهد في الإجماع 215
البحث السابع: في حكم إجماع الصحابة 217
البحث الثامن: في حكم إجماع أهل المدينة 218
البحث التاسع: في عدم اعتبار من سيوجد في الإجماع 223
البحث العاشر: في حكم انْقِرَاضُ عَصْرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِهِمْ 223
البحث الحادي عشر: في الإجماع السكوتي 223
البحث الثاني عشر: في حكم الإجماع على شيء بعد الإجماع على خلافه 227
الْبَحْثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي حُدُوثِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ سبق الخلاف 228
البحث الرابع عشر: فيما إذا اختلف أهل العصر على قولين في مسألة فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ؟ 229
البحث الخامس عشر: في حكم إحداث دليل أو تأويل من غير إلغاء الدليل أو التأويل الأول 230
الْبَحْثُ السَّادِسَ عَشَرَ: فِي إِمْكَانِ وُجُودِ دَلِيلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ لَمْ يَعْلَمْهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ 230
البحث السابع عشر: في حكم قول العوام في الإجماع 231
فرع: في إجماع العوام 233
البحث الثامن عشر: في الاجماع المعتبر 233
البحث التاسع عشر: في مخالفة واحد من المجتهدين لأهل الإجماع 234
الْبَحْثُ الْمُوَفَّى عِشْرِينَ: فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ بطريق الآحاد 236(1/405)
الموضوع الصفحة
الْمَقْصِدُ الرَّابِعُ: فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ والإطلاق والتقييد والإجمال والتبيين والظاهر والمؤول والمنطوق والمفهوم والناسخ والمنسوخ
الباب الأول: في مَبَاحِثُ الْأَمْرِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: حَقِيقَةُ لَفْظِ الْأَمْرِ 241
الفصل الثاني: الخلاف في حد الأمر بمعنى القول 243
الفصل الثالث: حقيقة صيغة "أفعل" 247
صيغ الأمر ومعانية 253
الفصل الرابع: هل الأمر يفيد التكرار أم لا؟ 255
الفصل الخامس: هو الأمر يقتضي الفور أو لا؟ 259
الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضده 263
الفصل السابع: الإتيان بالمأمور به 269
الفصل الثامن: القضاء. هل يجب بأمر جديد أم بالأمر الأول؟ 271
الفصل التاسع: هل الأمر بالأمر بالشيء أمرًا به أم لا؟ 273
الفصل العاشر: الأمر بالماهية ومقتضاه 274
الفصل الحادي عشر: تعاقب الأمرين المتماثلين أو المتغايرين 276
الباب الثاني: في النواهي
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى النَّهْيِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا 278
المبحث الثاني: في النهي الحقيقي ومعناه 279
المبحث الثالث: في اقتضاء النهي للفساد 280
الباب الثالث: في العموم
المسألة الأولى: في حده 285
المسألة الثانية: في أن العموم من عوارض الألفاظ 287
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَصَوُّرِ الْعُمُومِ فِي الْأَحْكَامِ 289
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ 290
المسألة الخامسة: في صيغ العموم 291
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ كُلَّ صيغة من تلك الصيغ للعموم 295(1/406)
الموضوع الصحفة
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي عُمُومِ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ لِلْقِلَّةِ أو للكثرة 308
المسألة الثامنة: في أقل الجمع 310
المسألة التاسعة: الخلاف في عموم الفعل المثبت 313
المسألة العاشرة: في عموم قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة} 316
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَمْعِ 318
المسألة الثانية عشرة: في عموم الخطاب 320
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: فِي دُخُولِ الْكَافِرِ فِي الخطاب الصالح له وللمسلمين 321
المسألة الرابعة عشرة: في الخطاب الشفاهي 322
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: فِي الْخِطَابِ الْخَاصِّ بِالْأُمَّةِ 323
المسألة السادسة عشرة: في الخطاب الخاص بواحد من الأمة 324
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي دُخُولِ الْمُخَاطِبِ تَحْتَ عموم خطابه 326
المسألة الثامنة عشرة: في عموم المقتضى 327
المسألة التاسعة عشرة: في عموم المفهوم 329
المسألة الموفية العشرين: في الاستفصال 330
المسألة الحادية والعشرون: في حذف المتعلق 331
المسألة الثانية والعشرون: في الكلام العام الوارد في جهة المدح أو الذم 331
المسألة الثالثة والعشرون: في حكم العام الوارد على سبب خاص 332
المسألة الرابعة والعشرون: فيما إذا ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الحكم 336
المسألة الخامسة والعشرون: في عموم العلة المعلقة بالحكم 337
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ هَلْ هو حقيقة في الباقي أم مجاز 338
المسألة السابعة والعشرون: في حجية العام بعد التخصيص 340
المسألة الثامنة والعشرون: عطف بعد أفراد العام عليه 343
المسألة التاسعة والعشرون: في جواز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص 345
المسألة الثلاثون: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ وَالْعَامِّ الَّذِي أريد به الخصوص 347
الباب الرابع: في الْخَاصُّ وَالتَّخْصِيصُ وَالْخُصُوصُ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِ 350
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ 352
المسألة الثالثة: في تخصيص العمومات وجوازه 354
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا بُدَّ من بقائه بعد التخصيص 355
المسألة الخامسة: في المخصص 358
المسألة السادسة: في حكم الاستثناء من الجنس 359(1/407)
الموضوع الصفحة
المسألة السابعة: في إقامة الحجة على من أنكر الاستنثاء 361
المسألة الثامنة: في شروط صحة الاستثناء 363
المسألة التاسعة: في الاستثناء من النفي والخلاف فيه 369
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ بَعْدَ جُمْلٍ متعاطفة 371
المسألة الحادية عشرة: في حكم الوصف الوارد بعد المستثنى 374
المسألة الثانية عشرة: التخصيص بالشرط 375
أقسام الشرط 376
المسألة الثالثة عشرة: التخصيص بالصفة 377
المسألة الرابعة عشرة: التخصيص بالغاية 378
المسألة الخامسة عشرة: التخصيص بالبدل 380
المسألة السادسة عشرة: التخصيص بالحال 381
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: التَّخْصِيصُ بِالظُّرُوفِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ 381
المسألة الثامنة عشرة: التخصيص بالتمييز 381
المسألة التاسعة عشرة: التخصيص بالمفعول به والمفعول معه 382
المسألة الموفية العشرون: التخصيص بالعقل 382
المسألة الحادية والعشرون: التخصيص بالحس 385
المسألة الثانية والعشرون: التخصيص بالكتاب العزيز وبالسنة المطهرة والتخصيص لهما 385
جواز تخصيص السنة بالكتاب 386
جواز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة 387
جواز تخصيص السنة المتواترة بالمتواترة 387
جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد 387
التَّخْصِيصُ بِمُوَافِقِ الْعَامِّ وَبِعَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ 390
المسألة الثالثة والعشرون: في التخصيص بالقياس 390
المسألة الرابعة والعشرون: في التخصيص بالمفهوم 393
المسألة الخامسة والعشرون: في التخصيص بالإجماع 394
المسألة السادسة والعشرون: في التخصيص بالعادة 395
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ 396
المسألة الثامنة والعشرون: في التخصيص بالسياق 397
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِقَضَايَا الْأَعْيَانِ 398
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ: فِي بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الخاص 399
فهرس المحتويات 403(1/408)
المجلد الثاني
تابع المقصد الرابع
الباب الخامس: في المطلق والمقيد
الفصل الأول: في حد الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ
...
الْبَابُ الْخَامِسُ: فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ
وفيه مباحث أربعة:
الفصل الْأَوَّلُ: فِي حَدِّهِمَا
أَمَّا الْمُطْلَقُ: فَقِيلَ فِي حَدِّهِ: مَا دَلَّ عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنْ يَكُونَ حِصَّةً مُحْتَمِلَةً لِحِصَصٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا "يَنْدَرِجُ"* تَحْتَ أَمْرٍ. فَيَخْرُجُ مِنْ قَيْدِ الدَّلَالَةِ الْمُهْمَلَاتُ، وَيَخْرُجُ مَنْ قَيْدِ الشُّيُوعِ العارف كُلُّهَا، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّعْيِينِ، إِمَّا شَخْصًا، نَحْوَ: زَيْدٍ وَهَذَا، أَوْ حَقِيقَةً، نَحْوَ: الرَّجُلِ وَأُسَامَةَ، أَوْ حِصَّةً، نَحْوَ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} 1، أَوِ اسْتِغْرَاقًا نَحْوَ: الرِّجَالِ، وَكَذَا كُلُّ عَامٍّ وَلَوْ نَكِرَةً، نَحْوَ: كُلِّ رَجُلٍ وَلَا رَجُلَ.
وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِلَا قَيْدٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ.
"قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ" فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ"** مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قُيُودِهِ، وَالْمُرَادُ بِهَا عَوَارِضُ الْمَاهِيَّةِ اللَّاحِقَةُ لَهَا فِي الْوُجُودِ.
وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُطْلَقَ وَالنَّكِرَةَ سَوَاءً، وَبِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَعْلَامَ الْأَجْنَاسِ، كَأُسَامَةَ وَثُعَالَةَ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ.
وَأَجَابَ عن ذلك الأصفهاني في "شرحة المحصول": بِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الْمُطْلَقَ وَالنَّكِرَةَ سَوَاءً، بَلْ غَايَرَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْمُطْلَقَ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَالنَّكِرَةَ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ الشَّائِعَةِ.
قَالَ: وَأَمَّا إِلْزَامُهُ بِعِلْمِ الْجِنْسِ فَمَرْدُودٌ، بِأَنَّهُ وُضِعَ لِلْمَاهِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ بقيد التشخص الذِّهْنِيِّ، بِخِلَافِ اسْمِ الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ الِاعْتِرَاضُ بِالنَّكِرَةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْآمِدِيُّ لِلْمُطْلَقِ، فإنه
__________
* في "أ": يدرج.
** ما بين قوسين ساقط من "أ"
__________
1 جزء من الآية 16 من سورة المزمل.(2/5)
قَالَ: هُوَ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ. وَكَذَا يَرُدُّ الِاعْتِرَاضُ بِهَا عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا دَلَّ عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ. وَقِيلَ: الْمُطْلَقُ هُوَ مَا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ.
وَقَالَ الصَّفِّيُّ الْهِنْدِيُّ: الْمُطْلَقُ الْحَقِيقِيُّ: مَا دَلَّ عَلَى الماهية فقط، والإضافي مختلف، نحو: رجل، ب ورقبة، فإنه مطلق بالإضافة إلى رجل عالم، وَرَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَمُقَيَّدٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وَاحِدٍ شَائِعٍ، وَهُمَا قَيْدَانِ زَائِدَانِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ: فَهُوَ مَا يُقَابِلُ الْمُطْلَقَ، عَلَى اخْتِلَافِ هَذِهِ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُطْلَقِ، فَيُقَالُ فِيهِ: هُوَ مَا دَلَّ لَا عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ، فَتَدْخُلُ فِيهِ الْمَعَارِفُ وَالْعُمُومَاتُ كُلُّهَا، أَوْ يُقَالُ فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِقَيْدٍ مِنْ قُيُودِهَا، أَوْ مَا كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ من القيود.(2/6)
الفصل الثاني: حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ
اعْلَمْ: أَنَّ الْخِطَابَ إذا ورد مطلقًا لَا "مُقَيِّدَ لَهُ"* حُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنْ وَرَدَ مُقَيَّدًا حُمِلَ عَلَى تَقْيِيدِهِ، وَإِنْ وَرَدَ مُطْلَقًا فِي مَوْضِعٍ، مُقَيَّدًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَذَلِكَ عَلَى أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ:
أَنْ يَخْتَلِفَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ، فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بالاتفاق، كما حكاه القاضي أبوبكر الْبَاقِلَّانِيُّ: وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَإِلْكِيَا الْهَرَّاسُ، وَابْنُ بَرْهَانَ، وَالْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
أَنْ يَتَّفِقَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ فَيُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ ظَاهَرْتَ فَأَعْتِقَ رَقَبَةً؛ وقال في موضوع آخَرَ: إِنْ ظَاهَرْتَ فَأَعْتِقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً. وَقَدْ نَقَلَ الِاتِّفَاقُ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَابْنُ فُورَكَ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ" اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا القسم، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجمل، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ يُحْمَلُ، وَنَقَلَ أَبُو زَيْدٍ الْحَنَفِيُّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي "تَفْسِيرِهِ"1: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ بِالْحَمْلِ فِي هَذِهِ الصورة، وحكي "الطرطوسي2" الخلاف فيه
__________
* في "أ": لا مقيدًا.
__________
1 واسمه: "تأويلات الماتريدي" للشيخ محمد بن محمد الماتريدي أبي منصور، ويعرف أيضًا باسم "تأويلات القرآن" ا. هـ. كشف الظنون 1/ 457.
2 هو نجم الدين إبراهيم بن علي بن أحمد الطرسوسي، قاض، مصنف، من كتبه: "الإرشادات في ضبط المشكلات" و"الإعلام في مصطلح الشهود والحكام" و"أنفع الوسائل" يعرف بالفتاوى الطرطوسية، وغيرها انظر ترجمته ومصادرها في الإعلام "1/ 51".(2/6)
عَنِ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَهُوَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
ثُمَّ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ الْمَذْكُورِ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُتَّفِقِينَ، فَرَجَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ هُوَ بَيَانٌ لِلْمُطْلَقِ، أَيْ: دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُطْلَقِ هُوَ الْمُقَيَّدُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا، أَيْ: دَالًّا عَلَى نَسْخِ حُكْمِ الْمُطْلَقِ السَّابِقِ بِحُكْمِ الْمُقَيَّدِ اللَّاحِقِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَظَاهِرُ إِطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْقِسْمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا، أَوْ جُهِلَ السَّابِقُ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ، كَمَا حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
أَنْ يَخْتَلِفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ، كَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ1،وَتَقْيِيدِهَا بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ2، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ وَهُوَ وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ فِي الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، مَعَ كَوْنِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ سَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.
فَذَهَبَ كَافَّةُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّقْيِيدِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى التَّقْيِيدِ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِالْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ، وَلَا يُدعى وُجُوبُ هَذَا الْقِيَاسِ، بَلْ يُدَّعَى أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ ثَبَتَ التَّقْيِيدُ وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَدِلُ، قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ صِحَّةَ هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا تَثْبُتُ إِذَا أَفْسَدْنَا الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ -يَعْنِي مَذْهَبَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ- فَضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَوْ قَالَ: أَوْجَبْتُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَأَوْجَبْتُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ رَقَبَةً كَيْفَ كَانَتْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْكَلَامَيْنِ مُنَاقِضًا لِلْآخَرِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ تَقْيِيدَ أَحَدِهِمَا لَا يَقْتَضِي تَقْيِيدَ الْآخَرِ لَفْظًا.
وَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَبِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا قُيِّدَتْ بِالْعَدَالَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأُطْلِقَتْ فِي سَائِرِ الصور، حملنا المطلق على المقيد فكذا ههنا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فِي أَنَّهَا لَا تَتَنَاقَضُ لَا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ يَتَقَيَّدَ كُلُّ عَامٍّ وَمُطْلَقٍ بِكُلِّ خَاصٍّ وَمُقَيَّدٍ.
وَعَنِ الثَّانِي: أنَّا إِنَّمَا قَيَّدْنَاهُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي -يَعْنِي مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ- فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْقِيَاسِ، وَهُوَ أن العمل به دفع
__________
1 وهي الواردة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ... } الآية، المجادلة 3.
2 وهي الواردة في قوله تعالى: { ... وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ... } الآية، النساء 92.(2/7)
لِلضَّرَرِ الْمَظْنُونِ عَامٌّ فِي كُلِّ الصُّوَرِ. انْتَهَى.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ -فِي دَفْعِ مَا قاله مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ الْوَاحِدِ-: إِنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مِنْ فُنُونِ الْهَذَيَانِ، فَإِنَّ قَضَايَا الْأَلْفَاظِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، لِبَعْضِهَا حُكْمُ التَّعَلُّقِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَلِبَعْضِهَا حُكْمُ الِاسْتِقْلَالِ وَالِانْقِطَاعِ. فَمَنِ ادَّعَى تَنْزِيلَ جِهَاتِ الْخِطَابِ عَلَى حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ فِيهِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، وَالْأَمْرُ وَالزَّجْرُ، والأحكام المتغايرة؛ فقد ادَّعَى أَمْرًا عَظِيمًا. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ اتِّحَادَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ يَقْتَضِي حُصُولَ التَّنَاسُبِ بَيْنَهُمَا بِجِهَةِ الْحَمْلِ، وَلَا نَحْتَاجُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ الْبَعِيدِ. فَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالْحَمْلِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ رَابِعٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، فَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَقْيِيدِهِ قُيِّدَ، وَإِنْ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ صَارَ كَالَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، فَيُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا أَفْسَدُ الْمَذَاهِبِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُحْتَمِلَةَ يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا عَائِدًا إِلَيْهَا، وَلَا يُعْدَلُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ أَغْلَظُ الْحُكْمَيْنِ فِي "الْمُطْلَقِ وَ"* الْمُقَيَّدِ، فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُقَيَّدِ أَغْلَظَ حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
وَلَا يُحْمَلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّ التَّغْلِيظَ إِلْزَامٌ، وَمَا تَضَمَّنَهُ الْإِلْزَامُ لَا يَسْقُطُ الْتِزَامُهُ بِاحْتِمَالٍ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا أَوْلَى الْمَذَاهِبِ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ أَبْعَدُهَا مِنَ الصَّوَابِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْحُكْمِ، نَحْوُ: اكْسُ يَتِيمًا، أَطْعِمْ يَتِيمًا عَالِمًا، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، سَوَاءٌ كَانَا مُثْبَتَيْنِ أَوْ مَنْفِيَّيْنِ أَوْ مختلفين، اتحد سببهما أو اختلف. "وقد" ** حكى الْإِجْمَاعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ آخِرُهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/8)
الفصل الثالث: شروط حمل المطلق على المقيد
اشترط القائلون بالحمل شُرُوطًا سَبْعَةً:
الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونَ الْمُقَيَّدُ مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ، مَعَ ثُبُوتِ الذَّوَاتِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَأَمَّا فِي إِثْبَاتِ أَصْلِ الْحُكْمِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ عَدَدٍ فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا كَإِيجَابِ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْوُضُوءِ، مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى عُضْوَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ إِطْلَاقُ التَّيَمُّمِ عَلَى تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ، حَتَّى يَلْزَمَ التَّيَمُّمُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَعْضَاءِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَمْ يُذْكَرْ، وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ يَخْتَصُّ بِالصِّفَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْأَبْهَرِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ خَيْرَانَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الذَّاتِ، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ.
الشَّرْطُ الثَّانِي:
أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُطْلَقِ إِلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ، كَاشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِطْلَاقِ الشَّهَادَةِ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا، فَهِيَ شَرْطٌ فِي الْجَمِيعِ، وَكَذَا تَقْيِيدُ مِيرَاثِ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 1، وَإِطْلَاقُ الْمِيرَاثِ فِيمَا أُطْلِقَ فِيهِ، فَيَكُونُ مَا أُطْلِقَ مِنَ الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُطْلَقُ دَائِرًا بَيْنَ قَيْدَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مُخْتَلِفًا لَمْ يُحْمَلْ إِطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا كَانَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ أَوْلَى، أَوْ مَا كَانَ دَلِيلُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ أَقْوَى.
وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ" وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الِاتِّفَاقَ عَلَى اشْتِرَاطِهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَكَى الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِيهِ خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا، وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
أَنْ يَكُونَ فِي بَابِ الْأَوَامِرِ وَالْإِثْبَاتِ. أَمَّا فِي جَانِبِ النَّفْيِ وَالنَّهْيِ فَلَا؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِخْلَالُ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ مَعَ تَنَاوُلِ النَّفْيِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ غَيْرُ سَائِغٍ.
وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَالَا: لَا خِلَافَ فِي الْعَمَلِ بِمَدْلُولِهِمَا وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؛ لِعَدَمِ التَّعَذُّرِ، فَإِذَا قَالَ: لَا تَعْتِقْ مُكَاتِبًا، لَا تَعْتِقْ مُكَاتِبًا كَافِرًا "لَمْ يَعْتِقْ مُكَاتِبًا كَافِرًا"* ولا مسلمًا؛ إذ لو أعتق وَاحِدًا مِنْهُمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِمَا. وَأَمَّا صَاحِبُ "المحصول" فسوى
__________
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 12 من سورة النساء.(2/9)
بَيْنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَرَافِيُّ بِمِثْلِ ما ذكره الآمدي وابن الحاجب. وَأَمَّا الْأَصْفَهَانِيُّ فَتَبِعَ صَاحِبَ "الْمَحْصُولِ"، وَقَالَ: حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بَلْ يَجْرِي فِي جَمِيعِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَقَدْ يُقَالُ: لَا يُتَصَوَّرُ تَوَارُدَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فِي جَانِبِ النَّفْيِ وَالنَّهْيِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمِثَالِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ أَفْرَادِ بَعْضِ مَدْلُولِ الْعَامِّ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ خلاف أبي ثور، فلا وجه لذكره ههنا. انْتَهَى.
وَالْحَقُّ: عَدَمُ الْحَمْلِ فِي النَّفْيِ وَالنَّهْيِ، وَمِمَّنِ اعْتَبَرَ هَذَا الشَّرْطَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَجَعَلَهُ أَيْضًا شَرْطًا فِي بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
أَنْ لَا يَكُونَ فِي جَانِبِ الْإِبَاحَةِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي جَانِبِ الْإِبَاحَةِ؛ إِذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَفِي الْمُطْلَقِ زِيَادَةٌ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ:
الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
أَنْ لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَمْلِ، فَإِنْ أَمْكَنَ بِغَيْرِ إِعْمَالِهِمَا فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا، ذَكَرَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ1 فِي "الْمَطْلَبِ"2.
الشَّرْطُ السَّادِسُ:
أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقَيَّدُ ذُكِرَ مَعَهُ قَدْرٌ زَائِدٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الزَّائِدِ، فلا يحمل المطلق على المقيد ههنا قَطْعًا.
الشَّرْطُ السَّابِعُ:
أَنْ لَا يَقُومَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنَ التَّقْيِيدِ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى ذلك فلا تقييد.
__________
1 هو أحمد بن محمد بن علي الأنصاري، أبو العباس، نجم الدين، فقيه شافعي، من فضلاء مصر، معروف بابن الرفعة، ولد سنة خمس وأربعين وستمائة هـ، وتوفي سنة عشر وسبعمائة، من آثاره: "الإيضاح والتبين في معرفة المكيال والميزان" "كفاية النبيه في شرح التنبيه" وغيرها. ا. هـ شذرات الذهب 6/ 22 كشف الظنون 2/ 2008 الأعلام 1/ 222.
2 وهو شرح "للوسيط" في الفروع للغزالي ألفة ابن الرفعة في ستين مجلدا ولم يكمله ا. هـ كشف الظنون 2/ 2008.(2/10)
الفصل الرَّابِعُ: جَرَيَانُ مَا ذُكِرَ فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ
اعْلَمْ: أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي التَّخْصِيصِ لِلْعَامِّ فَهُوَ جارٍ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، فَارْجِعْ فِي تَفَاصِيلِ ذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّخْصِيصِ، فَذَلِكَ يُغْنِيكَ عَنْ تَكْثِيرِ الْمَبَاحِثِ فِي هَذَا الْبَابِ.
فَائِدَةٌ: قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": إِذَا أُطْلِقَ الْحُكْمُ فِي مَوْضِعٍ، وَقُيِّدَ مِثْلُهُ فِي مَوْضِعَيْنِ بِقَيْدَيْنِ(2/10)
مُتَضَادَّيْنِ، كَيْفَ يَكُونُ حُكْمُهُ؟!
مِثَالُهُ: قَضَاءُ رَمَضَانَ الْوَارِدُ مُطْلَقًا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 1، وَصَوْمُ التَّمَتُّعِ الْوَارِدُ مُقَيَّدًا بِالتَّفْرِيقِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 2، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ الْوَارِدِ مُقَيَّدًا بِالتَّتَابُعِ فِي قوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 3. قَالَ: فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بِالْمُقَيَّدِ لفظًا ترك المطلق ههنا عَلَى إِطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَقْيِيدُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْآخَرِ، وَمَنْ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى المقيد لقياس حمله ههنا عَلَى مَا كَانَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ أَوْلَى. انْتَهَى.
وقد نقدم فِي الشَّرْطِ الثَّانِي -مِنَ الْمَبْحَثِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا الْمَبْحَثِ4- الْكَلَامُ فِي الْمُطْلَقِ الدَّائِرِ بَيْنَ قَيْدَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذِهِ الْفَائِدَةَ لِزِيَادَةِ الإيضاح.
__________
1 جزء من الآية 184من سورة البقرة.
2 جزء من الآية 196من سورة البقرة.
3 جزء من الآية 4 من سورة المجادلة.
4 انظر 2/ 9.(2/11)
الباب السادس: في المجمل والمبين
الفصل الأول: في حدهما
تعريف المجمل
...
الْبَابُ السَّادِسُ: فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيِّنِ
وَفِيهِ سِتَّةُ فصول:
الفصل الأول: في حدهما
تعريف المجمل:
فَالْمُجْمَلُ فِي اللُّغَةِ: الْمُبْهَمُ، مِنْ أَجْمَلَ الْأَمْرَ: إِذَا أَبْهَمَ. وَقِيلَ: هُوَ الْمَجْمُوعُ، مِنْ أَجْمَلَ الحساب: إذا جُمِع وجُعِل جُمْلَةً وَاحِدَةً.
وَقِيلَ: هُوَ الْمُتَحَصَّلُ مِنْ أَجْمَلَ الشَّيْءَ إِذَا حَصَّلَهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَا لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ، لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، كَذَا قَالَ الْآمِدِيُّ.
وَفِي "الْمَحْصُولِ": هُوَ مَا أَفَادَ شَيْئًا مِنْ جُمْلَةِ أَشْيَاءَ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ، وَاللَّفْظُ لَا يُعَيِّنُهُ.
قَالَ: وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ قَوْلُكَ: اضْرِبْ رَجُلًا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ أَفَادَ ضَرْبَ رَجُلٍ وَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ فِي نَفْسِهِ، فَأَيُّ رَجُلٍ ضَرَبْتَهُ جَازَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ اسْمُ الْقُرْءِ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ إِمَّا الطُّهْرُ وَحْدَهُ، وَإِمَّا الْحَيْضُ وَحْدَهُ، وَاللَّفْظُ لَا يُعَيِّنُهُ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} 1 يُفِيدُ وُجُوبَ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ فِي نَفْسِهِ، غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ بِحَسْبِ اللَّفْظِ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: هُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: مَا لَمْ تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ "وَأُورِدَ عَلَيْهِ الْمُهْمَلُ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا لَمْ تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ: مَا كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ تَتَّضِحْ، فَلَا يَرِدُ الْمُهْمَلُ"*
وَقِيلَ: هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الإطلاق شيء.
__________
* في "أ": ما لم تتضح دلالته، والمراد مَا كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ تتضح فلا يرد المهمل.
__________
1 جزء من الآية 43 من سورة البقرة.(2/12)
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ وَلَا يَنْعَكِسُ.
أَمَّا عَدَمُ اطِّرَادِهِ فَلِأَنَّ الْمُهْمَلَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ بِمُجْمَلٍ، وَأَيْضًا الْمُسْتَحِيلُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ اتِّفَاقًا، وَلَيْسَ بِمُجْمَلٍ لِوُضُوحِ مَفْهُومِهِ.
وَأَمَّا عَدَمُ الِانْعِكَاسِ: فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفْهَمَ مِنَ الْمُجْمَلِ أَحَدُ مَحَامِلِهِ لَا بِعَيْنِهِ، كَمَا فِي الْمُشْتَرَكِ فَلَا يَصْدُقُ الْحَدُّ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَابْنُ فُورَكَ: مَا لَا يَسْتَقِلُّ بنفسه في المراد منه حتى يأتي تفسيره. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُوَ مَا دَلَّ دَلَالَةً لَا يَتَعَيَّنُ الْمُرَادُ بِهَا إِلَّا بِمُعَيَّنٍ، سَوَاءٌ كان عدم التعيين بِوَضْعِ اللُّغَةِ، أَوْ بِعُرْفِ الشَّرْعِ، أَوْ بِالِاسْتِعْمَالِ.(2/13)
تَعْرِيفُ الْمُبَيِّنِ:
وَأَمَّا الْمُبَيِّنُ: فَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْمُظْهِرُ، مِنْ بَانَ إِذَا ظَهَرَ، يُقَالُ: بَيَّنَ فُلَانٌ كَذَا إِذَا أَظْهَرَهُ، وَأَوْضَحَ مَعْنَاهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ مَا افْتَقَرَ إِلَى الْبَيَانِ.
وَالْبَيَانُ هو مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَيْنِ، وَهُوَ الْفِرَاقُ؛ لِأَنَّهُ يُوَضِّحُ الشيء ويزل أَشْكَالَهُ، كَذَا قَالَ ابْنُ فُورَكَ، وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ".
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: سُمِّيَ بَيَانًا لِانْفِصَالِهِ عَمَّا يَلْتَبِسُ مِنَ الْمَعَانِي.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الْمُرَادِ بِخِطَابٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ.
كَذَا قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ". وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُرَادِ، وَيُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الْمُبَيِّنِ.
وَلِأَجْلِ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، فَالصَّيْرَفِيُّ لَاحَظَ فِعْلَ الْمُبَيِّنِ، فَقَالَ: الْبَيَانُ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ": وَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ مَنْ خَاضَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّ لَفْظَ الْبَيَانِ أَظْهَرُ مِنْ لَفْظِ إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التَّجَلِّي.
وَلَاحَظَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ الدَّلِيلَ، فَقَالُوا: هُوَ الْمُوصِلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ بِالْمَطْلُوبِ. وَلَاحَظَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ "نَفْسَ الْعِلْمِ"* فَحَدَّهُ بِحَدِّ الْعِلْمِ، وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ عَنْهُ: أَنَّهُ الْعِلْمُ الْحَادِثُ؛
__________
* في "أ": نفسه.(2/13)
لأن البيان هو ما به يتبين الشيء، والذي يتبين به الشيء هو الْعِلْمُ الْحَادِثُ، قَالَ: وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ مُبَيِّنٌ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ لِذَاتِهِ لَا بِعِلْمٍ حَادِثٍ.
قَالَ الْعَبْدَرِيُّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْمَذَاهِبِ: الصَّوَابُ أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةُ السَّرَخْسِيُّ الْحَنَفِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى الْبَيَانِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: هُوَ إِظْهَارُ الْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ لِلْمُخَاطَبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ ظُهُورُ الْمُرَادِ لِلْمُخَاطَبِ، وَالْعِلْمُ بِالْأَمْرِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ عِنْدَ الْخِطَابِ.
قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لأن الرجل يقول: بان هذا المعنى، أي ظهر، والأول أصح، أي الإظهار. انتهى.
وقال الأستاذ أبو "إسحاق"* الْإِسْفِرَايِينِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ الْإِفْهَامُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ: إِنَّهُ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَبَيَّنُ بِهِ الْمَعْلُومُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الرِّسَالَةِ": إِنَّ الْبَيَانَ اسْمٌ جَامِعٌ لِأُمُورٍ مُجْتَمِعَةِ الأصول، متشعبة الفروع.
__________
* في "أ": أبو بكر.(2/14)
الْفَصْلُ الثَّانِي: وُقُوعُ الْإِجْمَالِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
اعْلَمْ: أَنَّ الْإِجْمَالَ وَاقِعٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أبى هذا غير داود الطاهري.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مُجْمَلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ "الْمُخْتَارَ أَنَّ"* مَا يَثْبُتُ التَّكْلِيفُ بِهِ لَا إِجْمَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْمُجْمَلِ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ؛ فَلَا يَبْعُدُ اسْتِمْرَارُ الْإِجْمَالِ فيه بعد وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالْخِطَابِ الْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، وَقَالَ: "ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" 1 الحديث.
__________
* في "أ": إن مختار.
__________
1 أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، من حديث ابن عباس 19 واللفظ له. وأخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته إلى توحيد الله 7372 وأبو داوود، كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة 1584. والترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة 625. والنسائي، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة 5/ 2 وابن ماجه، كتاب الزكاة باب فرض الزكاة "1783" وابن حبان في صحيحه "156"، وأحمد في مسنده "1/ 233".(2/14)
"وَتَعَهَّدَهُمْ"* بِالْتِزَامِ الزَّكَاةِ قَبْلَ بَيَانِهَا، قَالَا: وَإِنَّمَا جَازَ الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْهَمُونَهُ لأحد أمرين:
الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونَ إِجْمَالُهُ تَوْطِئَةً لِلنَّفْسِ عَلَى قَبُولِ مَا يَتَعَقَّبُهُ مِنَ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَدَأَ فِي تَكْلِيفِ الصَّلَاةِ "وَبَيَّنَهَا"** لَجَازَ أَنْ تَنْفِرَ النُّفُوسُ مِنْهَا وَلَا تَنْفِرَ مِنْ إِجْمَالِهَا.
وَالثَّانِي:
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ جَلِيًّا، وَجَعَلَ مِنْهَا خَفِيًّا، لِيَتَفَاضَلَ النَّاسُ فِي "الْعِلْمِ"*** بِهَا، وَيُثَابُوا عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ لَهَا، فَلِذَلِكَ جعل منها مفسرا جليا، وجعل منها مُجْمَلًا خَفِيًّا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: وَحُكْمُ الْمُجْمَلِ: التَّوَقُّفُ فِيهِ إِلَى أَنْ يُفَسَّرَ، وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ فِي شَيْءٍ يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ كَانَ الْإِجْمَالُ من جهة الاشتراك، واقترن به تبينه أُخِذَ بِهِ، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ ذَلِكَ وَاقْتَرَنَ بِهِ عُرْفٌ يُعْمَلُ بِهِ، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْهُمَا وَجَبَ الِاجْتِهَادُ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ، وَكَانَ مِنْ خَفِيِّ الْأَحْكَامِ الَّتِي وُكِّلَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا إِلَى الِاسْتِنْبَاطِ، فَصَارَ دَاخِلًا فِي الْمُجْمَلِ، لِخَفَائِهِ وَخَارِجًا منه، لإمكان "استنباطه"****.
__________
* في "أ": تعبدهم.
** في "أ": بها.
*** في "أ": في العمل.
**** في "أ": الاستنباط.(2/15)
الفصل الثالث: وُجُوهِ الْإِجْمَالِ
الْإِجْمَالُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْإِفْرَادِ أَوِ التَّرْكِيبِ، وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَصْرِيفِهِ، نَحْوُ: قَالَ مِنَ الْقَوْلِ، وَالْقَيْلُولَةِ، وَنَحْوُ مُخْتَارٌ فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِلْفَاعِلِ، وَالْمَفْعُولِ.
قَالَ الْعَسْكَرِيُّ1: وَيَفْتَرِقَانِ، تَقُولُ فِي الْفَاعِلِ: مُخْتَارٌ لِكَذَا، وفي المفعول: مختار من
__________
1 هو الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى، أبو هلال، عالم بالأدب لغوي، شاعر، مفسر، توفي بعد سنة خمس وتسعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "الفرق بين المعاني" "الفروق" في اللغة، "الأوائل" "كتاب الصناعتين في النظم والنثر" ا. هـ معجم المؤلفين 3/ 240 كشف الظنون 167 الأعلام 2/ 196 معجم الأدباء 8/ 258.(2/15)
كذا، ومنه قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} 1 {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيد} 2.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَصْلِ وَضْعِهِ، فَإِمَّا أَنْ تكون معانيه متضادة كالقرء للطهو والحيض، والناهل لِلْعَطْشَانِ وَالرَّيَّانِ، أَوْ مُتَشَابِهَةً غَيْرَ مُتَضَادَّةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ مَعَانِيَ كَثِيرَةً، بِحَسْبِ خُصُوصِيَّاتِهَا، فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ، وَإِمَّا بِحَسْبِ مَعْنًى تَشْتَرِكُ فِيهِ فَهُوَ المتواطئ.
الإجمال كَمَا يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ كَـ عَسْعَسَ بِمَعْنَى أَقْبَلَ، وَأَدْبَرَ، وَيَكُونُ فِي الْحُرُوفِ كَتَرَدُّدِ الْوَاوِ بَيْنَ الْعَطْفِ وَالِابْتِدَاءِ. وَكَمَا يَكُونُ فِي الْمُفْرَدَاتِ يَكُونُ فِي الْمُرَكَّبَاتِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح} 3 لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الزَّوْجِ، وَالْوَلِيِّ، وَيَكُونُ أَيْضًا فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ إِذَا تَقَدَّمَهُ أَمْرَانِ، أَوْ أُمُورٌ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَيَكُونُ فِي الصِّفَةِ نَحْوُ: طَبِيبٌ مَاهِرٌ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ لِلْمَهَارَةِ مُطْلَقًا، أَوْ لِلْمَهَارَةِ فِي الطِّبِّ. وَيَكُونُ فِي تَعَدُّدِ الْمَجَازَاتِ الْمُتَسَاوِيَةِ مَعَ مَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ يَصِيرُ مُجْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْمَجَازَاتِ؛ إِذْ لَيْسَ الْحَمْلُ عَلَى بَعْضِهَا أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ، كَذَا قَالَ الْآمِدِيُّ؛ وَالصَّفِّيٌ الْهِنْدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ.
وَقَدْ يَكُونُ فِي فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَعَلَ فِعْلًا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ احْتِمَالًا واحدا.
وقد يكون فيما ورد من الْأَوَامِرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاص} 4، وقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِن} 5. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا تُفِيدُ الْإِيجَابَ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَتَوَقَّفُ فِيهَا حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ يُبَيِّنُ المراد بها.
__________
1 جزء من الآية 233 من سورة البقرة.
2 جزء من الآية 282 من سورة البقرة.
3 جزء من الآية 237 من سورة البقرة.
4 جزء من الآية 45 من سورة المائدة.
5 جزء من الآية 228 من سورة البقرة.(2/16)
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِيمَا لَا إِجْمَالَ فِيهِ
وَهُوَ أُمُورٌ قَدْ يَحْصُلُ فِيهَا الِاشْتِبَاهُ عَلَى الْبَعْضِ، فَيَجْعَلُهَا دَاخِلَةً فِي قِسْمِ الْمُجْمَلِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ.
الْأَوَّلُ: فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي عُلِّقَ التَّحْرِيمُ فِيهَا عَلَى الْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} 1، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 2.
__________
1 جزء من الآية 3 من سورة المائدة.
2 جزء من الآية 23 من سورة النساء.(2/16)
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّهُ لَا إِجْمَالَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ، وَالْبَصْرِيُّ: إِنَّهَا مُجْمَلَةٌ.
احْتَجَّ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: هَذَا طَعَامٌ حَرَامٌ، هُوَ تَحْرِيمُ أَكْلِهِ، وَمِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ حَرَامٌ هُوَ تَحْرِيمُ وَطْئِهَا.
وَتَبَادُرُ الْفَهْمِ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} هو تَحْرِيمُ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ تِلْكَ الْأَعْيَانِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ هُوَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ.
وَاحْتَجَّ الْكَرْخِيُّ، وَالْبَصْرِيُّ: بِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لَنَا لَوْ كَانَتْ مَعْدُومَةً، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً؟ فَإِذًا لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلِ الْمُرَادُ تَحْرِيمُ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتِلْكَ الْأَعْيَانِ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَإِمَّا أَنْ يُضْمَرَ الْكُلُّ، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ إِضْمَارٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، أَوْ يُتَوَقَّفَ فِي الْكُلِّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأَيْضًا "فَإِنَّهَا"* لَوْ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ. لَوَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ ذَلِكَ الْفِعْلُ فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِضَافَةُ التَّحْرِيمِ إِلَى الْأَعْيَانِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ إِضْمَارُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي إِضَافَةَ التَّحْرِيمِ إِلَى الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، وَهُوَ تَحْرِيمُ الِاسْتِمْتَاعِ، وَتَحْرِيمُ الْأَكْلِ، فَهَذَا الْبَعْضُ مُتَّضِحٌ مُتَعَيِّنٌ بِالْعُرْفِ.
الثَّانِي: لَا إِجْمَالَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} 1 وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ، وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتِ الْبَعْضَ، وَحَكَاهُ فِي "الْمُعْتَمَدِ" عَنْ أَبِي عبد الله البصري.
ثم اختلف القائلون بأنه لَا إِجْمَالَ، فَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ يَقْتَضِي مَسْحَ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِهِ، وَالْبَاءُ إِنَّمَا دَخَلَتْ لِلْإِلْصَاقِ.
وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ "الْمَصَادِرِ": إِنَّهُ يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ.
قَالَ: لِأَنَّ الْمَسْحَ فِعْلٌ متعدٍ بِنَفْسِهِ، غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى حِرَفِ التَّعْدِيَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مَسَحْتُهُ
__________
* ما بين قوسين ساقط من أ.
__________
1 جزء من الآية 6 من سورة المائدة.(2/17)
كُلَّهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفِيدَ دُخُولُ الْبَاءِ فَائِدَةً جَدِيدَةً، فَلَوْ لَمْ يَفِدِ الْبَعْضُ لَبَقِيَ اللَّفْظُ عَارِيًا عَنِ الْفَائِدَةِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ مَسْحِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ، فَيَصْدُقُ بِمَسْحِ الْبَعْضِ، وَنَسَبَهُ فِي "الْمَحْصُولِ" إِلَى الشَّافِعِيِّ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَهُوَ الْحَقُّ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ، وَعَبْدِ الْجَبَّارِ: ثُبُوتَ الْبَعْضِ بِالْعُرْفِ.
والذي في "المعتمد" لأبي الحسين عن عبد الْجَبَّارِ: أَنَّهَا تُفِيدُ فِي اللُّغَةِ تَعْمِيمَ مَسْحِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا سُمِّيَ رَأْسًا، وَهُوَ اسْمٌ لِجُمْلَةِ الرَّأْسِ، لَا لِلْبَعْضِ، وَلَكِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي إِلْصَاقَ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ، إِمَّا بِجَمِيعِهِ، وَإِمَّا بِبَعْضِهِ "فَيُحْمَلُ"* الِاسْمُ عَلَيْهِ.
وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ "أَحْكَامِ الْقُرْآنِ"1: أَنَّ مَنْ مَسَحَ مِنْ رَأْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَلَمْ تَحْتَمِلِ الْآيَةُ إِلَّا هَذَا. قَالَ: فَدَلَّتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَرْءِ مَسْحُ رَأْسِهِ كُلِّهِ، وَإِذَا دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى ذَلِكَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ مَسَحَ شَيْئًا مِنْ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ. انْتَهَى.
فَلَمْ يَثْبُتِ التَّبْعِيضُ بِالْعُرْفِ كَمَا زَعَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى الذَّوَاتِ تُصَدَّقُ بِالْبَعْضِ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، فَمَنْ قَالَ: ضربت رأس زيد، وضربت برأسه، صدق بذلك بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ، فَهَكَذَا مَسَحْتُ رَأْسَ زَيْدٍ، وَمَسَحْتُ بِرَأْسِهِ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مَسْحُ كل الرأس2، ومسح بعضه3 فكان
__________
* في "أ": لصدق الاسم عليه.
__________
1 وهو للإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي وهو أول من صنف فيه ا. هـ كشف الظنون 1/ 20.
2 أخرجه البخاري عن عبد الله بن زيد بلفظ: "فمسح برأسه فأقبل وأدبر"، كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين إلى الكعبيين برقم 186. ومسلم، كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 235. والترمذي، كتاب الطهارة، باب فيمن يتوضأ بعض وضوئه مرتين وبعضه ثلاثا 47. والنسائي، كتاب الطهارة، باب عدد مسح الرأس 1/ 72. وابن أبي شيبة 1/ 8. وأحمد في مسنده 4/ 40. وابن حبان في صحيحه 1077. والبيهقي في السنن 1/ 63.
3 أخرجه مسلم من حديث المغيرة بلفظ: "توضأ فمسح بناصيته"، كتاب الصلاة باب المسح على الخفين ومقدم الرأس 274. وأبو داود، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين 150. والنسائي في السنن، كتاب الطهارة، باب المسح على العمامة مع الناصية 107. وابن حبان في صحيحة 1346. والبيهقي في السنن، كتاب الطهارة، باب مسح بعض الرأس 1/ 58. والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح على العمامة 100. وقال: وفي الباب عن عمرو بن أمية، وسلمان، وثوبان عن أبي أمامة، وقال: حديث المغيرة حسن صحيح.(2/18)
ذَلِكَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًا عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ مَسْحُ الْبَعْضِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ أَمْ لَا.
الثَّالِثُ: لَا إِجْمَالَ فِي مِثْلِ قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 1 عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهَا مُجْمَلَةٌ؛ إِذِ الْيَدُ الْعُضْوُ مِنَ الْمَنْكِبِ، وَالْمِرْفَقِ، وَالْكُوعِ، لِاسْتِعْمَالِهَا فِيهَا، وَالْقَطْعُ لِلْإِبَانَةِ، وَالشَّقُّ، لِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِمَا.
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّ الْيَدَ تُسْتَعْمَلُ مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً، فَالْمُطْلَقَةُ تَنْصَرِفُ إِلَى الْكُوعِ بِدَلِيلِ آيَةِ التَّيَمُّمِ2، وَآيَةُ السَّرِقَةِ3، وَآيَةُ الْمُحَارَبَةِ4.
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّ الْيَدَ حَقِيقَةٌ فِي الْعُضْوِ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَلِمَا دُونَهُ مَجَازٌ، فَلَا إِجْمَالَ فِي الْآيَةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الْقَطْعَ مِنَ الْكُوعِ5، فَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِلْمَصِيرِ إِلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فِي الْآيَةِ.
وَيُجَابُ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْقَطْعِ: بِأَنَّ الْإِجْمَالَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ عَدَمِ الظُّهُورِ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْقَطْعِ، لَا فِي الشَّقِّ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ قَطْعٍ بِدُونِ إِبَانَةٍ.
الرَّابِعُ: لَا إِجْمَالَ فِي نَحْوِ: "لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ" 6، "لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" 7، "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ" 8، "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ" 9، "لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا في المسجد"10.
__________
1 جزء من الآية 38 من سورة المائدة.
2 جزء من آيتين الأولى في المائدة 6 والثانية في النساء 43. وفيها قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} .
3 جزء من الآية 38 من سورة المائدة. وفيها قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} .
4 جزء من الآية 33 من سورة المائدة. وفيها قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} .
5 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 105.
6 تقدم في الصفحة 1/ 370.
7 أخرجه البخاري من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: "لاصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، كتاب الآذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر 756. ومسلم، كتاب الصلاة، باب قراءة الفاتحة في كل ركعة 394. وأبو داود، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته 822. والنسائي، كتاب الافتتاح، باب إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة 909، 2/ 137. وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب القراءة خلف الإمام 837. وابن حبان في صحيحه 1782. والحميدي 386.
8 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 193 بلفظ "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل ".
9 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 370.
10 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الصلاة 1/ 245. والبيهقي في السنن، كتاب الصلاة باب ما جاء في التشديد في ترك الجماعة من غير عذر 3/ 57. والدارقطني في الصلاة باب الحث لجار المسجد للصلاة فيه 1/ 420، وهو من حديث أبي هريرة. وقال الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة 467 رقم 1309 أخرجه الطبراني فيما أملاه من طريق الديلمي عن أبي هريرة. ونقل عن أبي حزم أنه ضعيف. وفي التلخيص الحبير 2/ 31: مشهور بين الناس وهو ضعيف ليس له إسناد ثابت. وأخرجه الدارقطني عن جابر وأبي هريرة، وفي الباب عن علي. وهو ضعيف.(2/19)
وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، قَالُوا: لِأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ فِي إِطْلَاقِهِ لِلصَّحِيحِ كَانَ معناه لا صلاة صحيحة، ولا صيام صحيح، ولا نكاح صحيح، فَلَا إِجْمَالَ.
وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنْ ثَبَتَ فِيهِ عُرْفٌ لُغَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ مَثَلَهُ يُقْصَدُ مِنْهُ نَفْيُ الْفَائِدَةِ وَالْجَدْوَى، نَحْوُ: لَا عِلْمَ إِلَّا مَا نَفَعَ، وَلَا كَلَامَ إِلَّا مَا أَفَادَ، فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فَلَا إِجْمَالَ.
وَإِنْ قُدِّرَ انْتِفَاؤُهُمَا فَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ دُونَ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ كَالْعَدَمِ فِي عَدَمِ الْجَدْوَى، بِخِلَافِ مَا لَا يَكْمُلُ فَكَانَ أَقْرَبَ الْمَجَازَيْنِ إِلَى الْحَقِيقَةِ الْمُتَعَذِّرَةِ، فَلَا إِجْمَالَ، وَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُتَعَذِّرَةٌ "لِوُجُودِ"* الذَّاتِ فِي الْخَارِجِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الذَّاتُ الشَّرْعِيَّةُ، وَالَّتِي وُجِدَتْ لَيْسَتْ بِذَاتٍ شَرْعِيَّةٍ، فَيَبْقَى حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهِيَ نَفْيُ الذَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ النَّفْيُ إِلَيْهَا كَانَ تَوَجُّهُهُ إِلَى الصِّحَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَجَازَيْنِ؛ إِذْ تَوْجِيهُهُ إِلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْكَمَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ، فَكَانَ تَوْجِيهُهُ إِلَى الصِّحَّةِ أَقْرَبَ الْمَجَازَيْنِ إِلَيْهَا فَلَا إِجْمَالَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ إِثْبَاتِ اللُّغَةِ بِالتَّرْجِيحِ، بَلْ مِنْ بَابِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِدَلِيلٍ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَهْلِ الرَّأْيِ.
وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي تَقْرِيرِ الْإِجْمَالِ عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي نَفْيِ الْوُجُودِ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ قَطْعًا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْإِجْمَالَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي نَفْيِ الْوُجُودِ، وَنَفْيِ الْحُكْمِ، فَصَارَ مُجْمَلًا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ نَفْيِ الْجَوَازِ، وَنَفْيِ الْوُجُوبِ، فَصَارَ مُجْمَلًا، قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ فِي تَقْرِيرِ الْإِجْمَالِ: "إِنَّهُ"** إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكُلِّ وَهُوَ إِضْمَارٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي أَيْضًا إِلَى التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ وَنَفْيِ الكمال معا كان نفي الصحة يقتضي
__________
* في "أ": لوجوب.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/20)
نَفْيَهَا، وَنَفْيُهَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ، وَكَانَ نَفْيُ الْكَمَالِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الصِّحَّةِ، فَكَانَ مُجْمَلًا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَدْفُوعٌ بِمَا تَقَدَّمَ.
الْخَامِسُ:
لَا إِجْمَالَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ" 1 مِمَّا يَنْفِي فِيهِ صِفَةً، وَالْمُرَادُ نَفْيُ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي مِثْلِهِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ نَفْيُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَرَفْعُ الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ، رَفَعْتُ عَنْكَ الْخَطَأَ، كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ، أَنِّي لَا أُؤَاخِذُكَ بِهِ، وَلَا أُعَاقِبُكَ عَلَيْهِ، فَلَا إِجْمَالَ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: قَضِيَّةُ اللَّفْظِ رَفْعُ نَفْسِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ رَفْعُ حُكْمِهِ، لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلِ الْحُكْمُ الَّذِي عُلِمَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَهُوَ رَفْعُ الْإِثْمِ فَلَيْسَ بِعَامٍّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، مِنَ الضَّمَانِ وَلُزُومِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِمَا.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ رَفْعُ نَفْسِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَقَدْ وَقَعَا.
وَقَدْ حَكَى شَارِحُ "الْمَحْصُولِ" فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُجْمَلٌ.
وَالثَّانِي: الْحَمْلُ عَلَى رَفْعِ الْعِقَابِ آجِلًا، وَالْإِثْمِ عَاجِلًا، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْغَزَالِيِّ.
وَالثَّالِثُ: رَفْعُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ".
وَمِمَّنْ حَكَى هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْمَذَاهِبِ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "الْمُلَخَّصِ"، وَنَسَبَ الثَّالِثَ إِلَى أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَاخْتَارَ هُوَ الثَّانِي.
وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِلْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ.
السَّادِسُ:
إِذَا دَارَ لَفْظُ الشَّارِعِ بَيْنَ مَدْلُولَيْنِ: إِنْ حُمِلَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَفَادَ مَعْنًى وَاحِدًا، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْآخَرِ أَفَادَ مَعْنَيَيْنِ وَلَا ظُهُورَ لَهُ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ دَارَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الصَّفِّيُّ الْهِنْدِيُّ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي إِفَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ هَمَّا أَحَدُ مَدْلُولَيْهِ.
وَذَهَبَ الْأَقَلُّونَ إِلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ، وَبِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ.
وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ الْآمِدِيُّ، لِتَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ، وَالْهِنْدِيُّ: مَحَلُّ الْخِلَافِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَيَيْنِ، فإنه
__________
1 تقديم تخريجه في الصفحة 1/ 327.(2/21)
يَكُونُ مُجْمَلًا أَوْ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا، فَالْحَقِيقَةُ مُرَجَّحَةٌ "قَطْعًا"* وَظَاهِرُهُ جَعْلُ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا كَانَا مَجَازَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا إِذَا لَمْ يَكُونَا حَقِيقَتَيْنِ، وَلَا أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً وَالْآخَرُ مَجَازًا؛ فَمَا بَقِيَ إِلَّا أَنْ يَكُونَا مَجَازَيْنِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ اللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ لِمُتَسَاوِيَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَا حَقِيقَتَيْنِ أَوْ مَجَازَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً مَرْجُوحَةً، وَالْآخَرُ مَجَازًا رَاجِحًا عِنْدَ الْقَائِلِ بِتَسَاوِيهِمَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ. انْتَهَى.
وَالْحَقُّ: أَنَّهُ مَعَ عَدَمِ الظُّهُورِ فِي أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ يَكُونُ مُجْمَلًا، وَلَا يَصِحُّ جَعْلُ تَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ مُرَجَّحًا، وَلَا رَافِعًا لِلْإِجْمَالِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ لَهَا إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ، فَلَيْسَ الْحَمْلُ عَلَى كَثْرَةِ الْفَائِدَةِ بِأَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ لِهَذِهِ الكثرة الَّتِي لَا خِلَافَ فِيهَا.
السَّابِعُ:
لَا إِجْمَالَ فِيمَا كَانَ لَهُ مُسَمًّى لُغَوِيٌّ، وَمُسَمًّى شَرْعِيٌ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بَلْ يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ، لَا لِبَيَانِ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ، وَالشَّرْعُ طَارِئٌ عَلَى اللُّغَةِ، وَنَاسِخٌ لَهَا، فَالْحَمْلُ عَلَى النَّاسِخِ الْمُتَأَخِّرِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَرِدَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِثْبَاتِ، فَيُحْمَلَ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَبَيْنَ أَنْ يَرِدَ عَلَى طَرِيقَةِ النَّفْيِ فَمُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ.
فَالْأَوَّلُ:
كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي صَائِمٌ" 1 فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ صِحَّةُ نِيَّةِ النَّهَارِ.
وَالثَّانِي:
كَالنَّهْيِ عَنْ صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ2، فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ صِحَّةُ صَوْمِهَا، وَاخْتَارَ هَذَا.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه مسلم من حديث عائشة، كتاب الصيام، باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال 1154. أبو داود، كتاب الصوم باب الرخصة في ذلك 2455. والترمذي، كتاب الصوم، باب صيام المتطوع بغير تبييت 733. والنسائي، كتاب الصيام، باب النية في الصيام 4/ 195. وابن حبان في صحيحة 3628. وأحمد في مسنده 6/ 207. وابن خزيمة في صحيحة 2143.
2 أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث أنس بن مالك قال: "نهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صوم أيام التشريق الثلاثة بعد أيام النحر" 1356، وإسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاش، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 460 وقال: رواه أبو يعلى وهو ضعيف من طرقه كلها. وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية 1/ 298 برقم 1022 من طرق عدة، وهو ضعيف، ولكن يشهد له حديث نبيشة الهذلي عند مسلم في الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق 1141. وحديث عمرو بن العاص عند الإمام مالك في كتاب الحج، باب ما جاء في صيام أيام منى 137. وعند أبي داود في الصوم باب صيام أيام التشريق 2418. وعند الإمام أحمد في مسنده 4/ 197.(2/22)
التَّفْصِيلَ الْغَزَالِيُّ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وثَمَّ مَذْهَبٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا إِجْمَالَ فِي الْإِثْبَاتِ الشَّرْعِيِّ، وَالنَّهْيِ اللُّغَوِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا.
وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ لِمَا تَقَدَّمَ.
وَهَكَذَا إِذَا كَانَ لِلَفْظٍ مَحْمَلٌ شَرْعِيٌّ، وَمَحْمَلٌ لُغَوِيٌّ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْمَحْمَلِ الشَّرْعِيِّ لِمَا تَقَدَّمَ.
وَهَكَذَا إِذَا كَانَ لَهُ مُسَمًّى شَرْعِيٌّ وَمُسَمًّى لُغَوِيٌّ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الشَّرْعِيِّ لِمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا.
وَهَكَذَا إِذَا تَرَدَّدَ اللَّفْظُ بين المسمى العرفي والمسمى اللغوي، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْعُرْفِيُّ عَلَى اللُّغَوِيِّ؛ "لِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ عند المخاطبين"*.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/23)
الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي مَرَاتِبِ الْبَيَانِ لِلْأَحْكَامِ
وَهِيَ خَمْسَةٌ بَعْضُهَا أَوْضَحُ مِنْ بَعْضٍ
الْأَوَّلُ:
بَيَانُ التَّأْكِيدِ، وَهُوَ النَّصُّ الْجَلِيُّ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَأْوِيلٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَوْمِ التَّمَتُّعِ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 1.
وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ بَيَانَ التَّقْرِيرِ:
وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ وَالْعَامَّ الْمَخْصُوصَ، فَيَكُونُ الْبَيَانُ قَاطِعًا لِلِاحْتِمَالِ، مُقَرِّرًا لِلْحُكْمِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِرُ.
الثَّانِي:
النَّصُّ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِإِدْرَاكِهِ الْعُلَمَاءُ، كَالْوَاوِ وَإِلَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ2. فَإِنَّ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ مُقْتَضِيَانِ لمعانٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ.
الثَّالِثُ:
نُصُوصُ السُّنَّةِ الْوَارِدَةُ بَيَانًا لِمُشْكِلٍ فِي الْقُرْآنِ، كَالنَّصِّ عَلَى مَا يُخْرَجُ عِنْدَ الْحَصَادِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 3 وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ مِقْدَارُ هَذَا الْحَقِّ.
__________
1 جزء من الآية 196 من سورة البقرة.
2 وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ... } الآية، سورة المائدة 6.
3 جزء من الآية 141 من سورة الأنعام.(2/23)
الرَّابِعُ:
نُصُوصُ السُّنَّةِ الْمُبْتَدَأَةُ، مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ عَلَيْهَا "لَا"* بِالْإِجْمَالِ، وَلَا بِالتَّبْيِينِ، وَدَلِيلُ كَوْنِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ بَيَانِ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1.
الْخَامِسُ:
بَيَانُ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِثْلُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي اسْتُنْبِطَتْ مِنْهَا الْمَعَانِي، وَقِيسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِذَا اسْتُنْبِطَ مِنْهُ مَعْنًى، وَأُلْحِقَ بِهِ غَيْرُهُ، لَا يُقَالُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ، بَلْ تَنَاوَلْهُ؛ لِأَنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِالتَّنْبِيهِ، كَإِلْحَاقِ الْمَطْعُومَاتِ فِي باب الربويات بِالْأَرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا2؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقِيَاسِ: بَيَانُ الْمُرَادِ بِالنَّصِّ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَهْلَ التَّكْلِيفِ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاجْتِهَادِ.
ذَكَرَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْخَمْسَ لِلْبَيَانِ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ "الرِّسَالَةِ".
وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ قَوْمٌ، وَقَالُوا: قَدْ أَهْمَلَ قسمين، وهما الإجمال، وَقَوْلُ الْمُجْتَهِدِ إِذَا انْقَرَضَ عَصْرُهُ، وَانْتَشَرَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": إِنَّمَا أَهْمَلَهُمَا الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِأَحَدِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ، فَإِنْ كَانَ نَصًّا فَهُوَ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأُوَلِ، وَإِنْ كَانَ اسْتِنْبَاطًا فَهُوَ الْخَامِسُ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: يَقَعُ بَيَانُ الْمُجْمَلِ بِسِتَّةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا:
بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ.
وَالثَّانِي:
بِالْفِعْلِ.
وَالثَّالِثُ:
بِالْكِتَابِ، كَبَيَانِ أَسْنَانِ الدِّيَاتِ، وَدِيَاتِ الْأَعْضَاءِ، وَمَقَادِيرِ الزكاة، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَهَا بِكُتُبِهِ الْمَشْهُورَةِ.
وَالرَّابِعُ:
بِالْإِشَارَةِ، كَقَوْلِهِ: "الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا" 3 يَعْنِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثم أعاد
__________
* في "أ": ولا.
__________
1 جزء من الآية 7 من سورة الحشر.
2 أخرجه مسلم عن أبي هريرة بلفظ: "الحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح يدا بيد وزنا بوزن، فمن زاد أو أزداد فقد أربى إلا ما اختلف ألوانه" كتاب المساقاة باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا 1588. والنسائي، كتاب البيوع، باب بيع الدرهم بالدرهم 7/ 278. وأحمد في مسنده 2/ 262. وأبو يعلى في مسنده 6107. والشافعي في الرسالة فقرة 759. وابن حبان في صحيحة عن أبي الأشعث 5015. وأبو داود أيضًا عن أبي الأشعث، كتاب البيوع، باب في الصرف 3349.
3 تقديم تخريجه في الصفحة 1/ 188.(2/24)
الْإِشَارَةَ بِأَصَابِعِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَحَبَسَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تسعة وعشرين.
الخامس:
بِالتَّنْبِيهِ، وَهُوَ الْمَعَانِي وَالْعِلَلُ الَّتِي نُبِّهَ بِهَا عَلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ، كَقَوْلِهِ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ" 1، وَقَوْلِهِ فِي قُبْلَةِ الصَّائِمِ: "أَرَأَيْتَ لَوْ "تَمَضْمَضْتَ * " 2.
السَّادِسُ:
مَا خَصَّ الْعُلَمَاءُ بَيَانَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَهُوَ مَا فيه الوجوه الخمسة، إذا كان الاجتهاد موصلا إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا مِنْ أَصْلٍ يُعْتَبَرُ هَذَا الْفَرْعُ بِهِ، وَإِمَّا مِنْ طَرِيقِ أَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ. وَزَادَ شَارِحُ "اللُّمَعِ" وَجْهًا سَابِعًا، وَهُوَ الْبَيَانُ بِالتَّرْكِ، كَمَا رُوِيَ "أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ"3.
قال الأستاذ أبو منصور: قد رَتَّبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: أَعْلَاهَا رُتْبَةً مَا وَقَعَ مِنَ الدَّلَالَةِ بِالْخِطَابِ، ثُمَّ بِالْفِعْلِ، ثُمَّ بِالْإِشَارَةِ، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ، ثُمَّ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ.
قَالَ: وَيَقَعُ بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا كُلِّهَا خَلَا الْإِشَارَةَ. انْتَهَى.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْبَيَانَ يَجُوزُ بِالْقَوْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ بَيَانًا، خِلَافًا لِأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنَّا، وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي "التَّبْصِرَةِ". انْتَهَى.
وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْخِلَافِ، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ بِأَفْعَالِهِ، وَقَالَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" 4. "حُجُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أَحُجُّ" 5. "وخذوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" 6 وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُتَمَسَّكٌ، لَا مِنْ شَرْعٍ وَلَا مِنْ عَقْلٍ، بَلْ مُجَرَّدُ مُجَادَلَاتٍ لَيْسَتْ مِنَ الْأَدِلَّةِ في شيء.
__________
* في "أ": تمضمض.
__________
1 تقديم تخريجه في الصفحة 1/ 155.
2 أخرجه أبو داود من حديث عمر بن الخطاب، كتاب الصوم، باب القبلة للصائم 2385. والنسائي في الكبرى 8/ 17.والبيهقي في السنن 4/ 218. وأحمد في مسنده 1/ 21. وابن حبان في صحيحة 3544. وابن أبي شيبة 3/ 60. والحاكم في المستدرك 1/ 431. والدارمي 2/ 13.
3 أخرجه مسلم من حديث أبي رافع بلفظ: "أهديت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاة، فشوي له بطنها، فأكل منها، ثم قام يصلي ولم يتوضأ"، كتاب الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار 357. وابن أبي شيبة 481. والبيهقي 1/ 154. والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 66. وابن حبان في صحيحة 1149.
4 تقدم في الصفحة 1/ 105.
5 لم أجده بهذا اللفظ.
6 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 105.(2/25)
وَإِذَا وَرَدَ بَعْدَ الْمُجْمَلِ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِبَيَانِهِ، فَإِنِ اتَّفَقَا وَعُلِمَ سَبْقُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ الْبَيَانُ، قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا، وَالتَّالِي تَأْكِيدٌ لَهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُتَأَخِّرَ إِنْ كَانَ الْفِعْلُ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ الْأَضْعَفَ لَا يُؤَكِّدُ الْأَقْوَى، وَإِنْ جُهِلَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا فَلَا يُقْضَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بأنه المبين بعينه بل يقضي البيان بِحُصُولِ الْبَيَانِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَوَّلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَقِيلَ: يَكُونَانِ بِمَجْمُوعِهِمَا بَيَانًا، قِيلَ: هَذَا إِذَا تَسَاوَيَا فِي الْقُوَّةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْمَرْجُوحَ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ وُرُودًا، وَإِلَّا لَزِمَ التَّأْكِيدُ بِالْأَضْعَفِ، هَذَا إِذَا اتَّفَقَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ.
أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُبَيِّنَ هُوَ الْقَوْلُ، وَرَجَّحَ هَذَا فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، سَوَاءٌ كَانَ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا، وَيُحْمَلُ الْفِعْلُ عَلَى النَّدْبِ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْقَوْلِ عَلَى الْبَيَانِ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ إِلَّا بِوَاسِطَةِ انْضِمَامِ الْقَوْلِ إِلَيْهِ، وَالدَّالُّ بِنَفْسِهِ أَوْلَى.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا هُوَ الْبَيَانُ، كما في صورة إتفاقهما.(2/26)
الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَّةِ
اعْلَمْ: أَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ، مِنْ مُجْمَلٍ، وَعَامٍّ، وَمَجَازٍ، وَمُشْتَرَكٍ، وَفِعْلٍ مُتَرَدِّدٍ، وَمُطْلَقٍ، إِذَا تَأَخَّرَ بَيَانُهُ فَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ:
أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي إِذَا تَأَخَّرَ الْبَيَانُ عَنْهُ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُكَلَّفُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَابُ، وَذَلِكَ فِي الْوَاجِبَاتِ الْفَوْرِيَّةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالشَّيْءِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ مُمْتَنِعٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْقَائِلِينَ بِالْمَنْعِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ.
وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ، فَهُوَ يَقُولُ بِجَوَازِهِ فَقَطْ، لَا بِوُقُوعِهِ، فَكَانَ عَدَمُ الْوُقُوعِ مُتِّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَلِهَذَا نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ إِجْمَاعَ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ عَلَى امْتِنَاعِهِ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَى الْفِعْلِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ إِلَى وَقْتِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يُؤَخِّرُ النَّظَرَ، وَقَدْ يُخْطِئُ إِذَا نَظَرَ، "فهذا الضَّرْبَانِ"* لَا خِلَافَ فِيهِمَا. انْتَهَى.
الْوَجْهُ الثَّانِي:
تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ وُرُودِ الْخِطَابِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَى الْفِعْلِ، وَذَلِكَ فِي الْوَاجِبَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِفَوْرِيَّةٍ، حَيْثُ يَكُونُ الْخِطَابُ لَا ظَاهِرَ له، كالأسماء المتواطئة، والمشتركة،
__________
* في "أ": فهذانك القربان. وقال في هامش "أ": كذا بالأصل ولعله الصواب: فهذانك القدران.(2/26)
أو له ظاهر، وقد استعمل في خلافة، كتأخر التَّخْصِيصِ، وَالنَّسْخِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَفِي ذَلِكَ مَذَاهِبُ:
الْأَوَّلُ:
الْجَوَازُ مُطْلَقًا. قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: وَعَلَيْهِ عَامَّةُ عُلَمَائِنَا، مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ فُورَكَ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَالْإِصْطَخْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةِ، وَابْنِ خَيْرَانَ، وَالْقَفَّالِ، وَابْنِ الْقَطَّانِ، وَالطَّبَرِيِّ، وَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ" عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ"، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ مَالِكٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1، وثم للتعقيب مع التراخي، وقوله تعالى فِي قِصَّةِ نُوحٍ: {وَأَهْلَكَ} 2 وَعُمُومُهُ تَنَاوَلَ ابْنَهُ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} 3، ثُمَّ لَمَّا سَأَلَ ابْنُ الزِّبَعْرَى4 عَنْ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} 5، الآية، وبقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه} 6 لَمْ يُبَيِّنْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ7، وبقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 8. ثُمَّ وَقَعَ بَيَانُهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِصَلَاةِ جِبْرِيلَ، وبصلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ9، وبقوله تعالى:
__________
1 الآيتان 18، 19من سورة القيامة.
2 جزء من الآية 40 من سورة هود عليه السلام.
3 جزء من الآية 98 من سورة الأنبياء.
4 هو عبد الله بن الزبعرى، أبو سعد، كان شاعر قريش في الجاهلية، وكان شديدا على المسلمين، هرب إلى نجران عند فتح مكة، ثم أسلم واعتذر إلى سيدنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومدحه بقصيدة فأمر له بحلة، توفي سنة خمس عشرة هـ. ا. هـ الإصابة 2/ 300 الأعلام 4/ 87.
5 جزء من الأية 101 من سورة الأنبياء.
6 جزء من الأية 41 من سورة الأنفال.
7 أخرجه البخاري عن أبي قتادة بلفظ: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه" كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب ... 3142 وكتاب المغازي، باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْن ... } رقم 4321 و4322 كتاب الأحكام، باب الشهادة تكون عند الحاكم 7170. مسلم كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل 1751 وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في السلب يعطي القاتل 2717. والترمذي مختصرا، كتاب السير، باب ما جاء فيمن قتل قتيلا فله سلبه 1562. والبيهقي في السنن كتاب جماع أبواب القتال، باب السلب للقاتل 6/ 306. وابن حبان في صحيحه 4805. والإمام أحمد مختصرا 5/ 295
8 جزء من الآية 110 من سورة البقرة.
9 أخرجه البخاري من حديث أبي مسعود بلفظ: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "نزل جبريل فصلى فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، فحسب بأصابعه خمس صلوات" كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة 3221. مسلم، كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس 610. النسائي، كتاب المواقيت 1/ 245. ابن ماجه، كتاب الصلاة، أبواب مواقيت الصلاة 668.الطبراني 17/ 715. احمد في مسنده 4/ 120. ابن حبان في صحيحة 1448. عبد الرزاق في مصنفه 2044.(2/27)
{وَآتَوُا الزَّكَاةَ} 1، وبقوله تعالى: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 2، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 3، ثُمَّ وَقَعَ الْبَيَانُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ بَعْدَ ذَلِكَ بالسنة، ونحو هذا كثيًرا جِدًّا.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي:
الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَثِيرٍ من الحنيفية، وَابْنِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ وَالْبَاجِيُّ عَنِ الْأَبْهَرِيِّ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُتَّصِلًا بِالْبَيَانِ، أَوْ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ؛ احْتِرَازًا مِنِ انْقِطَاعِهِ بِعُطَاسٍ وَنَحْوِهِ مِنْ عَطْفِ الْكَلَامِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ.
قَالَ وَوَافَقَهُمْ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِمَا لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، فَقَالُوا: لَوْ جَازَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ إِلَى الْأَبَدِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ. أَمَّا إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلِكَوْنِهِ تَحَكُّمًا، وَلِكَوْنِهِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَأَمَّا إِلَى الْأَبَدِ، فَلِكَوْنِهِ يَلْزَمُ الْمَحْذُورَ، وَهُوَ الْخِطَابُ وَالتَّكْلِيفُ بِهِ مَعَ عَدَمِ الْفَهْمِ.
وَأُجِيبَ عَنْهُمْ: باختيار جوازه إلى مد مُعَيَّنَةٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ يُكَلِّفُ بِهِ فِيهِ، فَلَا تَحَكُّمَ.
هَذَا أَنْهَضُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى ضَعْفِهِ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الضَّعْفِ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى تَطْوِيلِ الْبَحْثِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ دُونَ غَيْرِهِ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ عَنِ الصَّيْرَفِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا فِي جواز تأخير بيان المجمل، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} 4، وَكَذَا لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْبَيَانَ فِي الْخِطَابِ الْعَامِّ يَقَعُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفِعْلُ يَتَأَخَّرُ عَنِ الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ بالقول أسرع منه بالفعل.
__________
1 جزء من الآية 110 من سورة البقرة.
2 جزء من الآية 38 من سورة المائدة.
3 جزء من الآية 97 من سورة آل عمران.
4 جزء من آيتين في سورتين البقرة 110 والنساء 77.(2/28)
وَأَمَّا الْعُمُومُ الَّذِي يَعْقِلُ مُرَادَهُ مِنْ ظَاهِرِهِ، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 1، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ بَيَانِهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَكَذَا حَكَى اتِّفَاقَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ ابْنُ فُورَكَ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، وَلَمْ يَأْتُوا بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّأْخِيرِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ إِلَّا مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَيَانِ مَفْهُومٌ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَيَانِ غَيْرُ مَفْهُومٍ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَجْهًا لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ" عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ.
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ:
أَنَّهُ لا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْأَخْبَارِ، كَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا.
الْمَذْهَبُ السَّادِسُ:
عَكْسُهُ، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ مَذْهَبًا، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى أَحَدٍ، وَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي حِكَايَةِ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ مَذْهَبًا، قَالَ: لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ الْخِطَابُ التَّكْلِيفِيُّ، فَلَا تُذْكَرُ فِيهَا الْأَخْبَارُ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ.
الْمَذْهَبُ السَّابِعُ:
أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ النَّسْخِ دُونَ غَيْرِهِ، ذَكَرَ هَذَا الْمَذْهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي "الْمُعْتَمَدِ"، وَأَبُو عَلِيٍّ، وَأَبُو هَاشِمٍ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّأْخِيرِ فِيمَا عَدَا النَّسْخَ، وَقَدْ عَرَفْتَ قِيَامَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَكَثِّرَةِ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا، فَالِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ بِلَا مُخَصِّصٍ بَاطِلٌ.
الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ:
التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ كَالْمُشْتَرَكِ، دُونَ مَا لَهُ ظَاهِرٌ كَالْعَامِّ، وَالْمُطْلَقِ، وَالْمَنْسُوخِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ فِي الثَّانِي، نَقَلَهُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ. عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَالدَّقَّاقِ، وَالْقَفَّالِ، وَأَبِي إِسْحَاقَ، وَقَدْ سَبَقَ النَّقْلُ عَنْ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ إِلَى خِلَافِ مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّفْصِيلِ.
الْمَذْهَبُ التَّاسِعُ:
أَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ تَبْدِيلًا وَلَا تَغْيِيرًا، جَازَ مُقَارَنًا وَطَارِئًا، وَإِنْ كَانَ تَغْيِيرًا جَازَ مُقَارَنًا، وَلَا يَجُوزُ طَارِئًا "بِحَالٍ"* نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَا وَجْهَ له أيضًا.
__________
* في "أ": بالحال.
__________
1 جزء من الآية 38 من سورة المائدة.(2/29)
فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْمَذَاهِبِ الْمَرْوِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنْتَ إِذَا تَتَبَّعْتَ مَوَارِدَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَجَدْتَهَا قَاضِيَةً بِجَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ قَضَاءً ظَاهِرًا وَاضِحًا، لَا يُنْكِرُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى خِبْرَةٍ بِهَا، وَمُمَارَسَةٍ لَهَا، وَلَيْسَ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا قَالَهُ الْمُجَوِّزُونَ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ فِي جَوَازِ "تَأْخِيرِ"* الْبَيَانِ عَلَى التَّدْرِيجِ، بِأَنْ يُبَيَّنَ بَيَانًا أَوَّلًا، ثُمَّ يُبَيَّنُ بَيَانًا ثَانِيًا، كَالتَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ.
وَالْحَقُّ: الْجَوَازُ، لِعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ لَا مِنْ شَرْعٍ، وَلَا عقل، فالكل بيان.
__________
* في "أ": تأثير. وهو تحريف.(2/30)
الباب السابع: في الظاهر والمؤول
الفصل الأول: في حدهما
...
الْبَابُ السَّابِعُ: فِي الظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلِ
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي حَدِّهِمَا
فَالظَّاهِرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْوَاضِحُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَفْظُهُ يُغْنِي عَنْ تَفْسِيرِهِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَهُوَ فِي أَحَدِهِمَا أَظْهَرُ. وَقِيلَ: هُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى مَعَ قَبُولِهِ لِإِفَادَةِ غَيْرِهِ إِفَادَةً مَرْجُوحَةً، فَانْدَرَجَ تَحْتَهُ مَا دَلَّ عَلَى الْمَجَازِ الرَّاجِحِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي يُفِيدُ مَعْنًى، سَوَاءٌ أَفَادَ معه إفادة مرجوحة أو لو يُفِدْ، وَلِهَذَا يَخْرُجُ النَّصُّ، فَإِنَّ إِفَادَتَهُ ظَاهِرَةٌ بِنَفْسِهِ.
وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا.
وَقِيلَ: هُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: مَا دَلَّ دَلَالَةً ظَنِّيَّةً، إِمَّا بِالْوَضْعِ، كَالْأَسَدِ للسبع المفترس، وبالعرف، كَالْغَائِطِ لِلْخَارِجِ الْمُسْتَقْذِرِ؛ إِذْ غَلَبَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ لِلْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ مِنَ الأرض.
والتأويل مشتق من آل يؤول، إِذَا رَجَعَ، تَقُولُ: آلَ الْأَمْرُ إِلَى كَذَا، أَيْ: رَجَعَ إِلَيْهِ، وَمَآلُ الْأَمْرِ مَرْجِعُهُ.
وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ1: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِيَالَةِ، وَهِيَ السِّيَاسَةُ، يُقَالُ لِفُلَانٍ: عَلَيْنَا إِيَالَةٌ، وَفُلَانٌ آيِلٌ عَلَيْنَا، أَيْ: سَائِسٌ، فَكَانَ الْمُؤَوِّلُ بِالتَّأْوِيلِ كالمتحكم على الكلام المتصرف فيه.
__________
1 هو ابن خرشة، العلامة، الإمام الحافظ، أبو الحسن، المازني البصري النحوي، نزيل مرو وعالمها، أحد الأعلام بمعرفة أيام العرب ورواية الحديث وفقه اللغة، ولد سنة اثنتين وعشرين ومائة هـ، وتوفي سنة أربع ومائتين هـ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 9/ 328 معجم الأدباء 19/ 238 الأعلام 8/ 33.(2/31)
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي "فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ" التَّأْوِيلُ: آخِرُ الْأَمْرِ وَعَاقِبَتُهُ، يُقَالُ: مَآلُ هَذَا الْأَمْرِ مَصِيرُهُ، وَاشْتِقَاقُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَاقِبَةُ وَالْمَصِيرُ. وَاصْطِلَاحًا: صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: حَمْلُ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ. وَهَذَا يَتَنَاوَلُ التَّأْوِيلَ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ، فَإِنْ أَرَدْتَ تَعْرِيفَ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ زِدْتَ فِي الْحَدِّ: بِدَلِيلٍ يُصَيِّرُهُ رَاجِحًا؛ لِأَنَّهُ بِلَا دَلِيلٍ، أَوْ مَعَ دَلِيلٍ مَرْجُوحٍ، أَوْ مساوٍ فَاسِدٍ.
قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: وَهَذَا الْبَابُ أَنْفَعُ كُتُبِ الْأُصُولِ وَأَجَلُّهَا، وَلَمْ يَزِلَّ الزَّالُّ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ.
وَأَمَّا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَأَنْكَرَ عَلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ إِدْخَالَهُ لِهَذَا الْبَابِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ "أُصُولِ"* الْفِقْهِ فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ يُورَدُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ الظَّاهِرَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، ولعمل بِهِ، بِدَلِيلِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الظَّاهِرِ فَاعْلَمْ: أَنَّ النَّصَّ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَهُوَ قِسْمٌ مِنَ النَّصِّ مُرَادِفٌ لِلظَّاهِرِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي:
لَا يَقْبَلُهُ، وَهُوَ النَّصُّ الصَّرِيحُ، وَسَيَأْتِي1 الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هذا الباب.
__________
* في "أ": أصل.
__________
1 انظر صفحة: 2/ 36(2/32)
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا يَدْخُلُهُ التَّأْوِيلُ
وَهُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَغْلَبُ الْفُرُوعِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: الْأُصُولُ: كَالْعَقَائِدِ، وَأُصُولِ الدِّيَانَاتِ، وَصِفَاتِ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْقِسْمِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا، بَلْ يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا يؤول شيء منها، وهذا قول المشبهة1.
__________
1 وهم مشبهة الحشوية الذين شبهوا الخالق بالمخلوق وأجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة حد الإخلاص المحض والاتحاد المحض، وهم أتباع كهمس وأحمد الهجيمي أ. هـ الملل والنحل "1/ 103".(2/32)
وَالثَّانِي:
أَنَّ لَهَا تَأْوِيلًا، وَلَكِنَّا نُمْسِكُ عَنْهُ، مَعَ تَنْزِيهِ اعْتِقَادِنَا عَنِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، لِقَوْلِهِ تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} 1 قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ.
قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الْوَاضِحَةُ، وَالْمَنْهَجُ الْمَصْحُوبُ بِالسَّلَامَةِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي مُهَاوِي التَّأْوِيلِ، لِمَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَكَفَى بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ قُدْوَةً لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ، وَأُسْوَةً لِمَنْ أَحَبَّ التَّأَسِّيَ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ وُرُودِ الدَّلِيلِ الْقَاضِي بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ وَهُوَ قَائِمٌ مَوْجُودٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:
أَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: وَالْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ بَاطِلٌ، وَالْآخَرَانِ مَنْقُولَانِ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَنُقِلَ هَذَا الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مسعود، وأم سلمة.
قال أبو عمرو ابن الصَّلَاحِ: النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُوهِمَةِ لِلْجِهَةِ وَنَحْوِهَا فِرَقٌ ثَلَاثٌ:
فَفِرْقَةٌ تُؤَوِّلُ، وَفِرْقَةٌ تُشَبِّهُ، وَثَالِثَةٌ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُطْلِقِ الشَّارِعُ مِثْلَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إِلَّا وَإِطْلَاقُهُ سَائِغٌ وَحَسَنٌ قَبُولُهَا مُطْلَقَةً، كَمَا قَالَ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّنْزِيهِ، وَالتَّبَرِّي مِنَ التَّحْدِيدِ وَالتَّشْبِيهِ. قَالَ: وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَضَى صَدْرُ الْأُمَّةِ وَسَادَتُهَا، "وَإِيَّاهَا"* اخْتَارَهَا أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَادَتُهَا، وَإِلَيْهَا دَعَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَأَعْلَامُهُ، وَلَا أَحَدَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ يَصْدِفُ عَنْهَا وَيَأْبَاهَا، وَأَفْصَحَ الْغَزَالِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ "بِتَهْجِيرِ"** مَا سِوَاهَا، حَتَّى أَلْجَمَ آخِرًا فِي إِلْجَامِهِ كل عالم وَعَامِّيٍّ عَمَّا عَدَاهَا. قَالَ: "وَهُوَ"*** كِتَابُ "إِلْجَامِ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ" وَهُوَ آخِرُ تَصَانِيفِ الْغَزَالِيِّ مُطْلَقًا، حَثَّ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي "النُّبَلَاءِ"2 فِي تَرْجَمَةِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيُّ مَا لَفْظُهُ: وَقَدِ اعْتَرَفَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، حَيْثُ يَقُولُ: لَقَدْ تَأَمَّلْتُ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأَيْتُهَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ، اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 4، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 5؛
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": بهجر.
*** في "أ": وهذا.
__________
1 جزء من الآية 7 من سورة آل عمران.
2 أي سير أعلام النبلاء.
3 الآية 5 من سورة طه.
4 جزء من الآية 10 من سورة فاطر.
5 جزء من الأية11 من سورة الشورى.(2/33)
وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي. انْتَهَى.
وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي "النُّبَلَاءِ" فِي تَرْجَمَةِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: ذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إِلَى الِانْكِفَافِ عَنِ التَّأْوِيلِ، وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَوَارِدِهَا، وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى، وَالَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا وَنَدِينُ اللَّهَ بِهِ عَقْدًا اتِّبَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ.
هَكَذَا نَقَلَ عَنْهُ صَاحِبُ "النُّبَلَاءِ" فِي تَرْجَمَتِهِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي تَرْجَمَتِهِ فِي "النُّبَلَاءُ" إِنَّهُ قَالَ مَا لَفْظُهُ: اشْهَدُوا عليَّ أَنِّي قَدْ رَجَعْتُ عَنْ كُلِّ مَقَالَةٍ تُخَالِفُ السَّلَفَ. انْتَهَى.
وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أعني: الجويني، والغزالي، الرازي. هُمُ الَّذِينَ وَسَّعُوا دَائِرَةَ التَّأْوِيلِ، وَطَوَّلُوا ذُيُولَهُ، وَقَدْ رَجَعُوا آخِرًا إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ كَمَا عَرَفْتَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: "وَنَقُولُ"* فِي الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ إِنَّهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَوَّلَ شَيْئًا مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قَرِيبًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ لِسَانُ الْعَرَبِ، وَتَفْهَمُهُ فِي مُخَاطِبَاتِهِمْ لَمْ نُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَلَمْ نُبَدِّعْهُ، وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ بَعِيدًا تَوَقَّفْنَا عَنْهُ، وَاسْتَبْعَدْنَاهُ، وَرَجَعْنَا إِلَى الْقَاعِدَةِ فِي الْإِيمَانِ بِمَعْنَاهُ، مَعَ التَّنْزِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمُهُ إِلَى مِثْلِ هَذَا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ1 كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمَا الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ"، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَطُولُ لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ النُّقُولِ عَنِ الْأَئِمَّةِ الفحول.
__________
* في "أ": ونقوله.
__________
1 هو عبد العزيز بن عبد السلام، عز الدين الملقب بسلطان العلماء، فقيه شافعي، بلغ رتبة الاجتهاد، ولد في دمشق سنة سبع وسبعين وخمسمائة، وتوفي سنة ستين وستمائة هـ بالقاهرة من آثاره "قواعد الشريعة" "الفوائد" "الإلمام في أدلة القرآن" "مقاصد الرعاية" ا. هـ شذرات الذهب 5/ 301 هدية العارفين 1/ 580 الاعلام 4/ 21 معجم المؤلفين 5/ 249.(2/34)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي شُرُوطِ التَّأْوِيلِ
الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِوَضْعِ اللُّغَةِ، أَوْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، "أَوْ"* عَادَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَكُلُّ تَأْوِيلٍ خَرَجَ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
الثَّانِي:
أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ لَا يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِيهِ.
الثَّالِثُ:
إِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ بِالْقِيَاسِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَلِيًّا، لَا خفيا.
__________
* في "أ": وإعادة.(2/34)
وَقِيلَ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ التَّأْوِيلُ بِالْقِيَاسِ أَصْلًا.
وَالتَّأْوِيلُ فِي نَفْسِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قَدْ يَكُونُ قَرِيبًا، فَيَتَرَجَّحُ بِأَدْنَى مُرَجَّحٍ، وَقَدْ يَكُونُ بَعِيدًا، فَلَا يَتَرَجَّحُ إِلَّا بِمُرَجَّحٍ قَوِيٍّ، وَلَا يَتَرَجَّحُ بِمَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَذِّرًا، لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، فَيَكُونُ مَرْدُودًا لَا مَقْبُولًا.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا تَبَيَّنَ لَكَ مَا هُوَ مَقْبُولٌ مِنَ التَّأْوِيلِ مِمَّا هُوَ مَرْدُودٌ، وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَكْثِيرِ الْأَمْثِلَةِ، كَمَا وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ.(2/35)
الباب الثامن: في المنطوق والمفهوم
المسألة الأولى: في حدهما
مدخل
...
الباب الثامن: فِي الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ
وَفِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِمَا
فَالْمَنْطُوقُ: مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، أَيْ: يَكُونُ حُكْمًا لِلْمَذْكُورِ، وَحَالًا مِنْ أَحْوَالِهِ.
وَالْمَفْهُومُ: مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لَا فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، أَيْ: يَكُونُ حُكْمًا لِغَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَحَالًا مِنْ أَحْوَالِهِ.
والحاصل: أن الألفاظ قوالب للمعاني المستفاد مِنْهَا، فَتَارَةً تُسْتَفَادُ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ تَصْرِيحًا، وَتَارَةً مِنْ جِهَتِهِ تَلْوِيحًا، فَالْأَوَّلُ: الْمَنْطُوقُ، والثاني: المفهوم.(2/36)
أقسام المنطوق
وَالْمَنْطُوقُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَهُوَ النَّصُّ.
وَالثَّانِي: مَا يَحْتَمِلُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَالْأَوَّلُ أَيْضًا يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: صَرِيحٌ إِنْ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِالْمُطَابَقَةِ1، أَوِ التَّضَمُّنِ2.
وَغَيْرُ صَرِيحٍ إِنْ دَلَّ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ3.
وَغَيْرُ الصَّرِيحِ يَنْقَسِمُ إِلَى دَلَالَةِ: اقْتِضَاءٍ، وَإِيمَاءٍ وَإِشَارَةٍ.
فَدَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ: هِيَ إِذَا تَوَقَّفَ الصِّدْقُ أَوِ الصِّحَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَوِ الشَّرْعِيَّةُ عَلَيْهِ، مَعَ كون ذلك مقصودا للمتكلم.
__________
1 وهي دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى تَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ، كدلالة الإنسان على مجموع الحيوان الناطق ا. هـ شرح السلم المنورق 19.
2 هي دلالة اللفظ على جزء المعنى في ضمنه، كدلالته على الحيوان أو الناطق في ضمن الحيوان الناطق.
3 هي دلالة اللفظ على أمر خارج عن المعنى لازم له، كدلالته على قبول العلم وصنعة الكتابة على ما فيه ا. هـ شرح السلم المنورق 20.(2/36)
ودلالة الإيماء: أن يقترب اللَّفْظُ بِحُكْمٍ، لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّعْلِيلِ لَكَانَ بَعِيدًا؛ وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي الْقِيَاسِ.
وَدَلَالَةُ الْإِشَارَةِ حَيْثُ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ.(2/37)
أَقْسَامُ الْمَفْهُومِ:
وَالْمَفْهُومُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَفْهُومِ مُوَافَقَةٍ، وَمَفْهُومِ مُخَالَفَةٍ.
فَمَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ: حَيْثُ يَكُونُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُوَافِقًا لِلْمَلْفُوظِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ فَيُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ، وإن كان مساويا فَيُسَمَّى لَحْنَ الْخِطَابِ.
وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي الفرق بين فحوى الخطاب، ولحن الْخِطَابِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ الْفَحْوَى مَا نَبَّهَ عليه اللفظ، واللحن مَا لَاحَ فِي "أَثْنَاءِ"* اللَّفْظِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ الْفَحْوَى مَا دَلَّ عَلَى مَا هُوَ أَقْوَى منه، واللحن مَا دَلَّ عَلَى مِثْلِهِ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّ فَحْوَى الْخِطَابِ مَا دَلَّ الْمُظْهَرُ عَلَى الْمُسْقَطِ، واللحن مَا يَكُونُ مُحَالًا عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا.
وَقَدْ شَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى مِنَ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ نَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ" عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ.
وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِي، وَأَتْبَاعُهُمَا، فَقَدْ جَعَلُوهُ قِسْمَيْنِ: تَارَةً يَكُونُ أَوْلَى، وَتَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا، وَهُوَ الصَّوَابُ، فَجَعَلُوا شَرْطَهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ أَقَلَّ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ مِنَ الْمَعْنَى الْمَنْطُوقِ بِهِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، هَلْ هِيَ لَفْظِيَّةٌ أَوْ قِيَاسِيَّةٌ عَلَى قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي الْأَمْرِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ تَرْجِيحُ أَنَّهُ قِيَاسٌ، وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ فِي "النِّهَايَةِ" عَنِ الْأَكْثَرِينَ.
قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ جُلَّةٌ سَيِّدُهُمُ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "شَرْحِ اللُّمَعِ": إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، فذكره في أنواع القياس.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/37)
قَالَ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ: الشَّافِعِيُّ يُومِئُ إِلَى أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، لَا يَجُوزُ وُرُودَ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ، قَالَ: وَذَهَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَسْرِهِمُ -الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ- إِلَى أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ النُّطْقِ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ جارٍ مَجْرَى النُّطْقِ، لَا مَجْرَى "الْقِيَاسِ، وَسَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ دَلَالَةَ النَّصِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ بِقِيَاسٍ وَلَا يُسَمَّى"* دَلَالَةَ النَّصِّ، لَكِنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: إِنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّأْفِيفِ1 مَنْقُولٌ بِالْعُرْفِ عَنْ مَوْضُوعِهِ اللُّغَوِيِّ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى.
وَقِيلَ: إِنَّهُ فَهْمُ السِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ، وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مَنْ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ، كَالْغَزَالِيِّ، وَابْنِ الْقُشَيْرِيِّ، وَالْآمِدِيِّ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَالدَّلَالَةُ عِنْدَهُمْ مَجَازِيَّةٌ، مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْأَخَصِّ وَإِرَادَةِ الْأَعَمِّ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ دَلَالَتَهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ لَا مِنَ الْقِيَاسِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: الْقَوْلُ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَا يَنْبَغِي لِلظَّاهِرِيَّةِ أَنْ يُخَالِفُوا فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ السَّمْعِ، وَالَّذِي رَدَّ ذَلِكَ يَرُدُّ نَوْعًا مِنَ الْخِطَابِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَقَدْ خَالَفَ فِيهِ ابْنُ حَزْمٍ.
قال ابن تيمية: وهو مكابرة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أي تحريم التأفيف للوالدين كما في قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ....} سورة الإسراء 23.(2/38)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ
وَهُوَ حَيْثُ يَكُونُ المسكت عَنْهُ مُخَالِفًا لِلْمَذْكُورِ فِي الْحُكْمِ، إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، فَيَثْبُتُ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ نَقِيضُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَيُسَمَّى دَلِيلَ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ مِنْ جِنْسِ الْخِطَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْخِطَابَ دَالٌّ عَلَيْهِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَلِ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْمَنْطُوقِ وَالْمَسْكُوتِ بِضِدِّ الْحُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، أَوْ نَقِيضُهُ؟
الْحَقُّ: الثَّانِي.(2/38)
وَمَنْ تَأَمَّلَ الْمَفْهُومَاتِ وَجَدَهَا كَذَلِكَ.
وَجَمِيعُ مَفَاهِيمِ الْمُخَالَفَةِ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِلَّا مَفْهُومَ اللَّقَبِ.
وَأَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجَمِيعَ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "شَرْحِ اللُّمَعِ" عَنِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ.
وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ، فَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّ النَّقَلَةَ نَقَلُوا عَنْهُ الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ، كَمَا نَقَلُوا عَنْهُ نَفْيَ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَقَدْ أُضِيفَ إِلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ قَالَ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ.
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِ "السِّيَرِ"1: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي خِطَابَاتِ الشَّرْعِ، قَالَ: وَأَمَّا فِي مُصْطَلَحِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَعَكَسَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَالَ: هُوَ حُجَّةٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ وَغَيْرِهِمْ، كَذَا حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ.
وَاخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِلْمَفْهُومِ فِي مَوَاضِعَ.
أَحَدُهَا:
هَلْ هُوَ حُجَّةٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، أَوِ الشَّرْعِ؟
وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ، حَكَاهُمَا "الْمَازِرِيُّ"* وَالرُّويَانِيُّ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ.
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ بِحَسْبِ اللُّغَةِ، لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَسْبِ الْعُرْفِ الْعَامِّ.
وَذَكَرَ فِي "الْمَحْصُولِ" فِي بَابِ الْعُمُومِ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ.
الْمَوْضِعُ الثَّانِي:
اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي تَحْقِيقِ مُقْتَضَاهُ، أَنَّهُ هَلْ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَا الْمَنْطُوقَ بِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ جِنْسِ الْمُثْبَتِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، أَوْ تَخْتَصُّ دَلَالَتُهُ بِمَا إِذَا كَانَ مَنْ جِنْسَهُ، فَإِذَا قَالَ: "فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ" 2 فَهَلْ نَفَى الزَّكَاةَ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْإِبِلِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ، أَوْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَعْلُوفَةِ مِنَ الْغَنَمِ؟
وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسفراييني، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وسليم الرازي، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَالصَّحِيحُ تَخْصِيصُهُ بِالنَّفْيِ عَنْ مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ فقط.
__________
* في "أ": الماوردي.
__________
1 واسمه "السير الكبير" للإمام محمد بن الحسن الشيباني، شرحه شمس الأئمة السرخسي، وهو في جزأين ضخمين، أملاه محبوسا وأنهاه في آخر المحنة في مرغينان ا. هـ كشف الظنون "2/ 1014".
2 تقدم تخريجه في 1/ 393.(2/39)
قُلْتُ: هُوَ الصَّوَابُ.
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ:
هَلِ الْمَفْهُومُ الْمَذْكُورُ يَرْتَقِي إِلَى أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا قَاطِعًا، أَوْ لَا يَرْتَقِي إِلَى ذَلِكَ؟ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: إِنَّهُ "قَدْ"* يَكُونُ قَطْعِيًّا، وَقِيلَ: لا.
الموضع الرابع:
إذا دل "دليل"** على إخراج صور مِنْ صُوَرِ الْمَفْهُومِ، فَهَلْ يَسْقُطُ الْمَفْهُومُ بِالْكُلِّيَّةِ، أو يتمسك به فِي الْبَقِيَّةِ؟ وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلَى الْخِلَافِ فِي حُجِّيَّةِ الْعُمُومُ إِذَا خَصَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ.
الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ:
هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ به قبل الْبَحْثُ عَمَّا يُوَافِقُهُ، أَوْ يُخَالِفُهُ مِنْ مَنْطُوقٍ أَوْ مَفْهُومٍ آخَرَ؟ فَقِيلَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصَّصِ، وَحَكَى الْقَفَّالُ الشاشي في ذلك وجهين.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": الدليل.(2/40)
المسألة الثالثة: شروط القول بمفهوم المخالفة
الْأَوَّلُ:
أَنْ لَا يُعَارِضَهُ مَا هُوَ أَرْجَحُ منه، من منطوق أو مفهوم موافقة، أما إذا عراضه قِيَاسٌ، فَلَمْ يُجَوِّزُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ تَرْكَ الْمَفْهُومِ بِهِ، مَعَ تَجْوِيزِهِ تَرْكَ الْعُمُومَ بِالْقِيَاسِ، كَذَا قَالَ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَعْمُولَ بِهِ يُخَصِّصُ عُمُومَ الْمَفْهُومِ، كَمَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْمَنْطُوقِ، وَإِذَا تَعَارَضَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْمُولًا بِهِ، فَالْمُجْتَهِدُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَامَاتِ، وَبِمَا يُصَاحِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْقَرَائِنِ الْمُقَوِّيَةِ لَهُ.
قَالَ شَارِحُ "اللُّمَعِ": دَلِيلُ الْخِطَابِ إِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إِذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، كَالنَّصِّ وَالتَّنْبِيهِ، فَإِنْ عَارَضَهُ أَحَدُهُمَا سَقَطَ، وَإِنْ عَارَضَهُ عُمُومٌ صَحَّ التَّعَلُّقُ بِعُمُومِ دَلِيلِ الْخِطَابِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ عَارَضَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، قُدِّمَ الْقِيَاسُ، وَأَمَّا الْخَفِيُّ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ حُجَّةً كَالنُّطْقِ قُدِّمَ دَلِيلُ الْخِطَابِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَالْقِيَاسِ فَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَصْحَابِنَا يُقَدِّمُونَ كَثِيرًا الْقِيَاسَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ.
وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي:
أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ الِامْتِنَانُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} 1
__________
1جزء من الآية 14 من سورة النحل.(2/40)
فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ أَكْلِ مَا لَيْسَ بَطَرِيٍّ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
أَنْ لَا يَكُونَ الْمَنْطُوقُ خَرَجَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُتَعَلِّقٍ بِحُكْمٍ خَاصٍّ، وَلَا حَادِثَةٍ خَاصَّةٍ بِالْمَذْكُورِ، هَكَذَا قِيلَ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَلَا بِخُصُوصِ السُّؤَالِ.
وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي ذَلِكَ احْتِمَالَيْنِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَعَلَّ الْفَرْقَ -يَعْنِي بَيْنَ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَعُمُومِ الْمَفْهُومِ- أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ ضَعِيفَةٌ تَسْقُطُ بِأَدْنَى قَرِينَةٍ بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْعَامِّ.
قُلْتُ: وَهَذَا فَرْقٌ قَوِيٌّ، لَكِنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ فِي الْمَفَاهِيمِ الَّتِي دَلَالَتُهَا ضَعِيفَةٌ، أَمَّا الْمَفَاهِيمُ الَّتِي دَلَالَتُهَا قَوِيَّةٌ قُوَّةً تُلْحِقُهَا بِالدَّلَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ فَلَا.
قَالَ: وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} 1 فَلَا مَفْهُومَ لِلْأَضْعَافِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى النَّهْيِ عَمَّا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ بِسَبَبِ الْآجَالِ، كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا حَلَّ دَيْنُهُ يَقُولُ: إِمَّا أَنْ تُعْطِيَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، فَيَتَضَاعَفُ بِذَلِكَ أَصْلُ دَيْنِهِ مِرَارًا كَثِيرَةً، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ التَّفْخِيمُ، وَتَأْكِيدُ الْحَالِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر أَنْ تَحُدَّ" 2 الْحَدِيثَ، فَإِنَّ التَّقْيِيدَ "بِالْإِيمَانِ" لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
أَنْ يُذْكَرَ مُسْتَقِلًّا، فَلَوْ ذُكِرَ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ لِشَيْءٍ آخَرَ، فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} 3 فإن قوله تعالى: {فِي الْمَسَاجِدِ} فلا مَفْهُومَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ مُطْلَقًا.
الشَّرْطُ السَّادِسُ:
أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنَ السِّيَاقِ قَصْدُ التَّعْمِيمِ، فَإِنْ ظَهَرَ فَلَا مَفْهُومَ له، كقوله
__________
1 جزء من الآية 130 من سورة آل عمران.
2 أخرجه البخاري من حديث زينب بنت أبي سلمة، كتاب الطلاق، باب تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرًا 5334-5335-5336. ومسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة 1486-1487-1489. وأبو داود، كتاب الطلاق، باب إحداد المتوفى عنها زوجها 2299. والترمذي، كتاب الطلاق، باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها 1195-1196-1197. والنسائي، كتاب الطلاق، باب ترك الزينة للحادة المسلمة دون اليهودية والنصرانية 6/ 102.ومالك في الموطأ، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الإحداد 2/ 596. وعبد الرزاق في المصنف12130. ابن حبان في صحيحه 4304. أبو يعلى في مسنده 1160.
3 جزء من الآية 187 من سورة البقرة.(2/41)
تعالي: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى الْمَعْدُومِ، وَالْمُمْكِنِ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} التَّعْمِيمُ.
الشَّرْطُ السَّابِعُ:
أَنْ لَا يَعُودَ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي هُوَ الْمَنْطُوقُ بِالْإِبْطَالِ، أَمَّا لَوْ كان كَذَلِكَ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ.
الشَّرْطُ الثَّامِنُ:
أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَغْلَبِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} 2. فَإِنَّ الْغَالِبَ كَوْنُ الرَّبَائِبِ فِي الْحُجُورِ، فَقُيِّدَ بِهِ لِذَلِكَ، لَا لِأَنَّ حُكْمَ اللَّاتِي لَسْنَ فِي الْحُجُورِ بِخِلَافِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الكتاب والسنة.
__________
1 جزء من الآية 284 من سورة البقرة.
2 جزء من الآية 23 من سورة النساء.(2/42)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي أَنْوَاعِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ
النَّوْعُ الأول: مفهوم الصفة
وهي تعلق الْحُكْمِ عَلَى الذَّاتِ بِأَحَدِ الْأَوْصَافِ، نَحْوُ: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ" 1.
وَالْمُرَادُ بِالصِّفَةِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: تَقْيِيدُ لَفْظٍ مُشْتَرَكِ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ، يَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَعَانِيهِ، لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَا غَايَةٍ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ النَّعْتَ فَقَطْ، وَهَكَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالصِّفَةِ عِنْدَهُمْ: هِيَ الْمَعْنَوِيَّةُ، لَا النَّعْتُ، وَإِنَّمَا يَخُصُّ الصِّفَةَ بِالنَّعْتِ أَهْلُ النَّحْوِ فَقَطْ.
وَبِمَفْهُومِ الصِّفَةِ أَخَذَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْحَقُّ، لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَهُ وَصْفَانِ، فَوُصِفَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا فِيهِ تِلْكَ الصِّفَةُ دُونَ الْآخَرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ، وَلَا يُعْمَلُ عَلَيْهِ، وَوَافَقَهُمْ مِنْ أئمة اللغة الأخفش2، وابن فَارِسٍ، وَابْنُ جِنِّيٍّ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ جَوَابَ "سُؤَالٍ"* فَلَا يُعْمَلَ بِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ ابْتِدَاءً فَيُعْمَلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ من موجب.
__________
* في "أ": سائل.
__________
1 تقديم تخريجه في الصفحة 1/ 393.
2 هو سعيد بن مسعدة البلخي، أبو الحسن، المعروف بالأخفش الأوسط إمام النحو، أخذ عن الخليل، ولزم سيبويه، وأخذ عنه المازني، وأبو حاتم، وسلمة، وطائفة، وله كتب كثيرة في النحو والعروض ومعاني القرآن، توفي سنة مائتين وعشرة ونيف ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 206"، شذرات الذهب "2/ 36"، معجم الأدباء "11/ 224".(2/42)
وَفِي جَعْلِ هَذَا التَّفْصِيلِ مَذْهَبًا مُسْتَقِلًّا نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْأَخْذِ بِالْمَفْهُومِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ أَنْ لَا يَقَعَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ حُجَّةٌ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ:
أَنْ يَرِدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ"، أَوْ مَوْرِدَ التَّعْلِيمِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خبر التخالف وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ1، أَوْ يَكُونَ مَا عَدَا الصِّفَةِ دَاخِلًا تَحْتَ الصِّفَةِ، كَالْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ على أنه لا يحكم بالشاهد الواحد؛ لأنه داخل تَحْتَ الشَّاهِدَيْنِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ بِمَفْهُومِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ نَقْلُ الرَّازِيِّ عَنْهُ لِلْمَنْعِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْهُ الْجَوَازَ.
وَقَدْ طَوَّلَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْكَلَامَ عَلَى اسْتِدْلَالِ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ لِمَا قَالُوا بِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَبْحَثَ لُغَوِيٌّ، وَاسْتِعْمَالُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ لِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَعَمَلَهُمْ بِهِ مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَفْهُومُ الْعِلَّةِ
وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، نَحْوُ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لِإِسْكَارِهَا، وَالْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ وَالنَّوْعِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الصِّفَةَ قَدْ تَكُونُ عِلَّةً كَالْإِسْكَارِ، وَقَدْ لَا تَكُونُ عِلَّةً، بَلْ مُتَمِّمَةً كَالسَّوْمِ، فَإِنَّ الْغَنَمَ هِيَ الْعِلَّةُ، وَالسَّوْمُ مُتَمِّمٌ لَهَا.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ: وَالْخِلَافُ فِيهِ وَفِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَاحِدٌ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَفْهُومُ الشَّرْطِ
وَالشَّرْطُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَشْرُوطُ، وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْمَشْرُوطِ، وَلَا مُؤَثِّرًا فِيهِ.
وَفِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ: مَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْحَرْفَيْنِ: إِنْ أَوْ إِذَا أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْأَوَّلِ، وَمُسَبِّبِيَّةِ الثَّانِي، وَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، لا الشرعي، ولا
__________
1 أخرجه البخاري في التاريخ من حديث ابن مسعود بلفظ: "إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول قول البائع أو يترادان البيع" 5/ 299. وابن ماجه، كتاب التجارات، باب البيعان يختلفان 2186. والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء إذا اختلف البيعان 1270. وأبو داود، كتاب البيوع، باب إذا اختلف البيعان والمبيع قائم 3511. والنسائي، كتاب البيوع، باب اختلاف المتبايعين في الثمن 7/ 302. والدارمي، كتاب البيوع، باب إذا اختلف المتبايعان 2/ 250. والبيهقي، كتاب البيوع، باب اختلاف المتبايعين 5/ 332. وأحمد في مسنده 1/ 466. والدارقطني 3/ 21. وأبو يعلي في مسنده 4984.(2/43)
الْعَقْلِيُّ، وَقَدْ قَالَ بِهِ الْقَائِلُونَ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ بَعْضُ مَنْ خَالَفَ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَلِهَذَا نَقَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ السهيلي في "أدب الْجَدَلِ" عَنْ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ مُعْظَمِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الْأَخْذِ بِهِ. وَرَجَّحَ الْمَنْعَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ التِّلْمِسَانِيِّ1 عَنْ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ.
وَقَدْ بَالَغَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَانِعِينَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَوْلٌ مَرْدُودٌ، وَكُلُّ مَا جَاءُوا بِهِ لَا تَقُومُ به الحجة، والأخذ به معلم مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَالشَّرْعِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: إِنْ أَكْرَمْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، وَمَتَى جِئْتَنِي أَعْطَيْتُكَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فيه الخلاف بَيْنِ كُلِّ مَنْ يَفْهَمُ لُغَةَ الْعَرَبِ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ مُكَابَرَةٌ، وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ لِمَنْ أَنْكَرَهُ: عَلَيْكَ بِتَعَلُّمِ لُغَةِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ إِنْكَارَكَ لِهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّكَ لَا تَعْرِفُهَا.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: مَفْهُومُ الْعَدَدِ
وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ الْعَدَدِ، زَائِدًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَامِدٍ، وَأَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَنَقَلَهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ2 عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، وَبِهِ قَالَ صَاحِبُ "الْهِدَايَةِ"3 مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنَعَ مِنَ الْعَمَلِ به المانعون بمفهوم الصفة.
__________
1 هو عبد الله بن محمد بن علي الفهري، المصري، الشافعي، المعروف بابن التلمساني، شرف الدين، أبو محمد، فقيه، أصولي، تصدر للإقراء بالقاهرة، وتوفي بها سنة أربع وأربعين وستمائة هـ، من آثاره: "شرح المعالم في أصول الدين" "شرح التنبيه للشيرازي في فروع الفقه الشافعي" "المجموع في الفقه" ا. هـ معجم المؤلفين 6/ 133، كشف الظنون 1/ 491 أيضًاح المكنون 1/ 431.
2 هو محفوظ بن أحمد بن حسن بن حسن الكلوذاني، أبو الخطاب، الشيخ الإمام العلامة الورع، شيخ الحنابلية، ولد سنة اثنتين وثلاثين وأربع مائة هـ، وتوفي سنة عشر وخمسمائة، وله تصانيف في المذهب والأصول والخلاف منها: "التمهيد" في أصول الفقه، "رءوس المسائل" "الانتصار في المسائل الكبار". ا. هـ سير أعلام النبلاء 19/ 348 شذرات الذهب 4/ 27، الكامل لابن الأثير 8/ 277.
3 وهو برهان الدين، علي بن أبي بكر المرغيناني الحنفي المتوفى سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة هـ، كان فقيها، فرضيا، محدثا، حافظا، مفسرا مشاركا في أنواع العلم، من آثاره: التجنيس والمزيد، كفاية المنتهي، بداية المبتدي، وله كتاب الهداية وهو شرح للبداية فيه غوامض أسرار محتجبة وراء الأستار لا يكشف عنها من نحارير العلماء إلا من أوتي كمال التيقظ في التحقيق. ا. هـ سير أعلام النبلاء 21/ 232، الفوائد البهية 141، كشف الظنون 2/ 2031، معجم المؤلفين 7/ 45.(2/44)
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ دَلِيلٌ كَالصِّفَةِ سَوَاءٌ.
وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ، وَالْعَمَلُ بِهِ مَعْلُومٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمِنَ الشَّرْعِ، فَإِنَّ مَنْ أَمَرَ بِأَمْرٍ، وَقَيَّدَهُ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، فَزَادَ الْمَأْمُورُ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ، أَوْ نَقَصَ عَنْهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الْآمِرُ الزِّيَادَةَ أَوِ النَّقْصَ، كَانَ هَذَا الْإِنْكَارُ مَقْبُولًا عِنْدَ كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ لُغَةَ الْعَرَبِ، فَإِنِ ادَّعَى الْمَأْمُورُ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، مَعَ كَوْنِهِ نَقَصَ عَنْهُ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ، كَانَتْ دَعْوَاهُ هَذِهِ مَرْدُودَةً عِنْدَ كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ لُغَةَ الْعَرَبِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: مَفْهُومُ الْغَايَةِ
وهو مد الحكم بـ إلى أَوْ حَتَّى:
وَغَايَةُ الشَّيْءِ آخِرُهُ، وَإِلَى الْعَمَلِ بِهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُعْظَمُ نُفَاةِ الْمَفْهُومِ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ حَاكِيًا لِذَلِكَ.
وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانَ وَصَاحِبُ "الْمُعْتَمَدِ" الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ.
قَالَ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": صَارَ مُعْظَمُ نُفَاةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ إِلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِحَرْفِ الْغَايَةِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَمَّا وَرَاءَ الْغَايَةِ. قَالَ: وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى تَسْمِيَتِهَا "حُرُوفَ الْغَايَةِ؛ وَغَايَةُ الشَّيْءِ: نِهَايَتُهُ، فَلَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بَعْدَهَا لَمْ تَعُدْ تَسْمِيَتُهَا"* غَايَةً، وَهَذَا مِنْ تَوْقِيفِ اللُّغَةِ مَعْلُومٌ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْغَايَةِ مَوْضُوعٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا. انْتَهَى.
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا طَائِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْآمِدِيُّ، وَلَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ قَطُّ، بَلْ صَمَّمُوا عَلَى مَنْعِهِ طَرْدًا لِبَابِ الْمَنْعِ، مِنَ الْعَمَلِ بِالْمَفَاهِيمِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ.
النَّوْعُ السَّادِسُ: مَفْهُومُ اللَّقَبِ
وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ، نَحْوَ: قَامَ زَيْدٌ، أَوِ اسْمِ النَّوْعِ، نَحْوَ: فِي الْغَنَمِ زَكَاةٌ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ. كَذَا قِيلَ.
وَقَالَ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ": صَارَ إِلَيْهِ الدَّقَّاقُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا -يَعْنِي الشَّافِعِيَّةَ- وَكَذَا حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ فُورَكَ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ إِلْكِيَا الطبري في "التلويح":
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/45)
إِنَّ ابْنَ فُورَكَ كَانَ يَمِيلُ إِلَيْهِ، وَحَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ فِي "نَتَائِجِ الْفِكْرِ"1 عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصيرفي، ونقله عبد العزير فِي "التَّحْقِيقِ"2 عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَبِي حَامِدٍ إِنْكَارُ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ مُطْلَقًا.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ": وَصَارَ إِلَيْهِ الدَّقَّاقُ، وَصَارَ إِلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلَهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ فِي "التَّمْهِيدِ"3 عَنْ مَنْصُوصِ أَحْمَدَ، قَالَ: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُدُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. انْتَهَى.
وَنَقَلَ الْقَوْلَ به عن ابن خويزمنداد وَالْبَاجِيِّ، وَابْنِ الْقَصَّارِ.
وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ" التَّفْصِيلَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ فِي أَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ لَا فِي أَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ.
وَحَكَى ابْنُ حَمْدَانَ4، وَأَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلًا آخَرَ، وَهُوَ: الْعَمَلُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقَائِلَ بِهِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا، لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ لُغَوِيَّةٍ، وَلَا شَرْعِيَّةٍ، وَلَا عَقْلِيَّةٍ، وَمَعْلُومٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ مَنْ قَالَ: رَأَيْتُ زَيْدًا، لَمْ يقتضِ أَنَّهُ لَمْ يَرَ غَيْرَهُ قَطْعًا، وَأَمَّا إِذَا دَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، فَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا لِلْقَرِينَةِ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ.
النَّوْعُ السَّابِعُ: مَفْهُومُ الْحَصْرِ
وهو أنواع، أقواها: ما وإلا، نَحْوُ، مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ؛ وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ: هَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْطُوقِ، أَوِ الْمَفْهُومِ؟.
وَبِكَوْنِهِ مَنْطُوقًا جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "الْمُلَخَّصِ"، وَرَجَّحَهُ الْقَرَافِيُّ فِي "القواعد"5.
__________
1 وهو كتاب في علل النحو، للشيخ الإمام أبي القاسم، عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي الأندلسي، المتوفى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، ذكر فيه: أن الإعراب مرقاة إلى علوم الكتاب، فرتبه على ترتيب أبواب كتاب الجمل لميل قلوب الناس إليه. ا. هـ. كشف الظنون 2/ 1924.
2 واسمه: "التحقيق في شرح المنتخب في الأصول" وهو شرح فاق سائر التصانيف المختصرة بحسن التهذيب، ومتانة التركيب بيد أنه اقتصر فيه على الأصول كل الاقتصار، وهو للإمام عبد العزيز بن أحمد البخاري المتوفى سنة ثلاثين وسبعمائة هـ. ا. هـ كشف الظنون 2/ 1848.
3 واسمه "التمهيد في الأصول" لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد، وقد تقدمت ترجمة المؤلف في الصفحة 44 جـ2 انظر أيضًاح المكنون 1/ 320.
4 هو أحمد بن حمدان بن شبيب النميري الحراني، أبو عبد الله، فقيه حنبلي، أديب، ولد سنة ثلاث وستمائة هـ، وتوفي سنة خمس وتسعين وستمائة هـ، من آثاره "الرعاية الكبرى" "الرعاية الصغرى" "صفة المفتي والمستفتي" "مقدمة في أصول الدين" ا. هـ شذرات الذهب 5/ 428 الأعلام 1/ 119.
5 واسمه: "أنوار البروق في أنواع الفروق" للشيخ شهاب الدين أحمد بن أدريس القرافي المالكي، وهو مجلد كبير، جمع فيه خمسمائة وأربعين قاعدة من القواعد الفقهية. ا. هـ كشف الظنون 1/ 168.(2/46)
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَالْعَمَلُ بِهِ مَعْلُومٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَأْتِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ بِحُجَّةٍ مَقْبُولَةٍ.
ثُمَّ الْحَصْرُ بِـ إِنَّمَا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ فِي الْقُوَّةِ.
قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَهُوَ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الْغَايَةِ.
وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ"1، وَصَرَّحَ هُوَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا فِي قُوَّةِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، بـ: ما، وإلا.
وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ "إِلَى"* أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَا الْإِثْبَاتِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، "لِمَا"** تَضَمَّنَهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَقَدْ وَقَعَ الخلاف على هل مَنْطُوقٌ أَوْ مَفْهُومٌ؟
وَالْحَقُّ: أَنَّهُ مَفْهُومٌ، وَأَنَّهُ مَعْمُولٌ بِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ لِسَانُ الْعَرَبِ.
ثُمَّ حَصْرُ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ، أَوِ الْإِضَافَةِ، نَحْوُ: الْعَالِمُ زَيْدٌ، وَصَدِيقِي عَمْرٌو، فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِالْعَالَمِ وَبِصَدِيقِي هُوَ الْجِنْسُ، فَيَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ؛ إِذْ لَمْ "تَكُنْ"*** هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْعَهْدِ، فَهُوَ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ غَيْرِ زَيْدٍ، وَنَفْيِ الصَّدَاقَةِ عَنْ غَيْرِ عمرو، وذلك أن الترتيب الطبيعي أَنْ يُقَدَّمَ الْمَوْصُوفَ عَلَى الْوَصْفِ، فَإِذَا قُدِّمَ الوصف على الموصوف معرفا باللام أو الإضافة، أَفَادَ الْعُدُولُ مَعَ ذَلِكَ التَّعْرِيفِ أَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ الْوَصْفِ عَنْ غَيْرِ الْمَوْصُوفِ مَقْصُودٌ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِالْمَنْطُوقِ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ دَلَالَتَهُ مَفْهُومِيَّةٌ لَا مَنْطُوقِيَّةٌ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَمِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ. وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَالْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ أَنْوَاعِ الْحَصْرِ مُحَرَّرٌ فِي عِلْمِ البيان، وله صور غير ما ذكرناه ههنا، وَقَدْ تَتَبَّعْتُهَا مِنْ مُؤَلَّفَاتِهِمْ، وَمِنْ مِثْلِ "كَشَّافِ الزمخشري"2 وما هو على
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما "أ": بما.
*** في "أ": تبن.
__________
1 للإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة أربع ومائتين وهو كتاب جليل عظيم جامع لمذهبه ا. هـ كشف الظنون 2/ 1397 وكتاب الأم المقدمة.
2 واسمه: "الكشاف عن حقائق التنزيل" للإمام العلامة جار الله محمود بن عمر الزمخشري، وهو كتاب عظيم في التفسير وكان يقول عنه:
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد ... وليس فيها لعمري مثل كشافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته ... فالجهل كالداء والكشاف كالشافي
ا. هـ كشف الظنون 2/ 1475.(2/47)
نَمَطِهِ، فَوَجَدْتُهَا تَزِيدُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ نَوْعًا، وَجَمَعْتُ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ بَحْثًا.
النَّوْعُ الثَّامِنُ: مَفْهُومُ الْحَالِ
أَيْ: تَقْيِيدُ الْخِطَابِ بِالْحَالِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَفَاهِيمِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الصِّفَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ لَا النَّعْتُ، وَإِنَّمَا أَفْرَدْنَاهُ بِالذِّكْرِ تَكْمِيلًا لِلْفَائِدَةِ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُتَأَخِّرُونَ لِرُجُوعِهِ إِلَى الصِّفَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ"، وَابْنُ فُورَكَ.
النَّوْعُ التَّاسِعُ: مَفْهُومُ الزَّمَانِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 1، وقوله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} 2. وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، كَمَا نَقَلَهُ "الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ"*، وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ، بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِ الظَّرْفِ الْمُقَدَّرِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ.
النَّوْعُ الْعَاشِرُ: مَفْهُومُ الْمَكَانِ
نَحْوُ: جَلَسْتُ أَمَامَ زَيْدٍ. وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، كَمَا نَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِعْ فِي مَكَانِ كَذَا، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ. وَهُوَ أَيْضًا رَاجِعٌ إِلَى مَفْهُومِ الصِّفَةِ، لِمَا عَرَفْتَ فِي النَّوْعِ الذي قبله.
__________
* في "أ": الغزالي وشيخه.
__________
1 جزء من الآية 197من سورة البقرة.
2 جزء من الآية 9 من سورة الجمعة.(2/48)
الباب التاسع: فِي النَّسْخِ وَفِيهِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِ
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْإِبْطَالُ وَالْإِزَالَةُ، وَمِنْهُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَالرِّيحُ آثَارَ الْقَدَمِ، وَمِنْهُ: تَنَاسُخُ الْقُرُونِ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْعَسْكَرِيُّ. وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ، وَمِنْهُ نَسَخْتُ الكتاب، أي: نقلته، ومنه قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1، وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْمَوَارِيثِ2.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَيَيْنِ أَمْ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؟ فَحَكَى الصَّفِّيُّ الْهِنْدِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِزَالَةِ، مَجَازٌ فِي النَّقْلِ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي النَّقْلِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَالْغَزَالِيُّ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا لَفْظًا، لِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِمَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي "شَرْحِ الْبُرْهَانِ"3: إِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكًا مَعْنَوِيًّا؛ لِأَنَّ بَيْنَ نَسْخِ الشَّمْسِ الظِّلَّ، وَنَسْخِ الْكِتَابِ مِقْدَارًا مُشْتَرِكًا، وَهُوَ الرَّفْعُ، وَهُوَ فِي الظِّلِّ بَيِّنٌ؛ لِأَنَّهُ زَالَ بِضِدِّهِ، وَفِي نَسْخِ الْكِتَابِ مُتَعَذِّرٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكَلَامَ الْمَنْسُوخَ بِالْكِتَابَةِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَفَادًا إِلَّا مِنَ الْأَصْلِ، فَكَانَ لِلْأَصْلِ بِالْإِفَادَةِ خُصُوصِيَّةٌ، فَإِذَا "نَسَخْتَ"* الْأَصْلَ ارْتَفَعَتْ تِلْكَ الخصوصية، وارتفاع
__________
* في "أ": نسخ.
__________
1 جزء من الآية 29 من سورة الجاثية.
2 وهي المناسخة، والمراد بها أن ينتقل نصيب بعض الورثة بموته قبل القسمة إلى من يرث منه. ا. هـ شرح السراجية كتاب المناسخة.
3 ابن المنير: لعله أحمد بن محمد بن منصور الإسكندري، المعروف بابن المنير، ولد سنة عشرين وستمائة هـ، وتوفي سنة ثلاث وثمانين وستمائة هـ، وهو عالم مشارك في بعض العلم كالنحو، والأصول، والفقه، والتفسير، من آثاره: "البحر الكبير في بحث التفسير" أ. هـ.
شذرات الذهب "5/ 381". معجم المؤلفين "2/ 162.(2/49)
الْأَصْلِ وَالْخُصُوصِيَّةُ سَوَاءٌ فِي مُسَمَّى الرَّفْعِ.
وَقِيلَ: الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا هُوَ التَّغْيِيرُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": فَإِنْ قِيلَ: وَصْفُهُمُ الرِّيحَ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلْآثَارِ "وَالشَّمْسَ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلظِّلِّ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ الْمُزِيلَ لِلْآثَارِ وَالظِّلِّ"* هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا امْتَنَعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي مَدْلُولِهِ، ثُمَّ نُعَارِضُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَنَقُولُ: النَّسْخُ هُوَ: النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ، وَمِنْهُ نَسَخَ الْكِتَابَ إِلَى كِتَابٍ آخَرَ، كَأَنَّكَ تَنْقُلُهُ إِلَيْهِ، أَوْ تَنْقُلُ حِكَايَتَهُ، وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْأَرْوَاحِ1، وَتَنَاسُخُ الْقُرُونِ، قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَتَنَاسُخُ الْمَوَارِيثِ، إِنَّمَا هُوَ التَّحَوُّلُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ، بَدَلًا عَنِ الْأَوَّلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي النَّقْلِ، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْإِزَالَةِ، دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَعَلَيْكُمُ التَّرْجِيحُ.
الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ النَّاسِخُ لِذَلِكَ، مِنْ حَيْثُ فِعْلِ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ الْمُؤَثِّرَيْنِ "فِي تِلْكَ الْإِزَالَةِ، وَيَكُونَانِ أَيْضًا نَاسِخَيْنِ، لِكَوْنِهِمَا مُخْتَصَّيْنِ بِذَلِكَ التَّأْثِيرِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ إِنَّمَا أَخْطَئُوا فِي إِضَافَةِ النَّسْخِ إِلَى الشَّمْسِ وَالرِّيحِ"**.
فَهَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنَّ مُتَمَسَّكَنَا إِطْلَاقُهُمْ لَفْظَ النَّسْخِ عَلَى الْإِزَالَةِ، لَا إِسْنَادُهُمْ هَذَا الْفِعْلَ إِلَى الرِّيحِ وَالشَّمْسِ.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ النَّقْلَ أَخَصُّ مِنَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ النَّقْلُ فَقَدْ عُدِمَتْ صِفَةٌ حَصَلَتْ عَقِيبَهَا صِفَةٌ أُخْرَى، فَإِذَا مُطْلَقُ الْعَدَمِ أَعَمُّ مِنْ عَدَمِ تَحَصُّلِ شيء آخر عقبية، وأنه دار اللَّفْظُ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، كَانَ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْعَامِّ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ حَقِيقَةً فِي الْخَاصِّ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ اللُّغَاتِ. انْتَهَى.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ2 وغيرهم: هو الخطاب الدال على ارتفاع
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عبارة عن تعلق الروح بالبدن بعد المفارقة من بدن آخر، من غير تخلل زمان بين التعليقين، للتعشق الذاتي بين الروح والجسد. ا. هـ التعريفات "93".
2 هو محمد بن القاسم بن بشار، المقرئ، النحوي، الإمام الحافظ، اللغوي ذو الفنون، أبو بكر، ولد سنة اثنتين وسبعين ومائتين هـ، من آثاره: "كتاب الوقف والابتداء" "كتاب المشكل" "الأضداد" "عجائب علوم القرآن" "الزاهر" "غريب الحديث" وغيرها توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ا. هـ سير أعلام النبلاء 15/ 272 شذرات الذهب 2/ 315 معجم الأدباء 18/ 306.(2/50)
الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ.
وَإِنَّمَا آثَرُوا الْخِطَابَ عَلَى النَّصِّ، لِيَكُونَ شَامِلًا لِلَّفْظِ، وَالْفَحْوَى، وَالْمَفْهُومِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَقَالُوا: الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ، لِيَتَنَاوَلَ الْأَمْرَ، وَالنَّهْيَ، وَالْخَبَرَ، وَجَمِيعَ أَنْوَاعِ الْحُكْمِ.
وَقَالُوا بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ، لِيَخْرُجَ إِيجَابُ الْعِبَادَاتِ ابْتِدَاءً، فَإِنَّهُ يُزِيلُ حُكْمَ الْعَقْلِ بِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَلَا يُسَمَّى نَسْخًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ حُكْمُ خِطَابٍ.
وَقَالُوا: عَلَى وَجْهٍ لولاه لكان ثابتا؛ لأنه حَقِيقَةَ النَّسْخِ الرَّفْعُ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ رَافِعًا لَوْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ بِحَيْثُ لَوْلَا طَرَيَانُهُ لَبَقِيَ.
وَقَالُوا: مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اتَّصَلَ لَكَانَ بَيَانًا لِمُدَّةِ الْعِبَادَةِ لَا نَسْخًا.
وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ بِوُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّسْخَ هُوَ نَفْسُ الِارْتِفَاعِ، وَالْخِطَابُ إِنَّمَا هُوَ دَالٌّ عَلَى الِارْتِفَاعِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الرَّافِعِ وَبَيْنَ نَفْسِ الِارْتِفَاعِ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْخِطَابِ خَطَأٌ؛ لأن الناسخ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا، كَمَا يَكُونُ قَوْلًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ أَجْمَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَهَذَا الْإِجْمَاعُ خِطَابٌ، مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ قَدْ يَثْبُتُ بِفِعْلِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ "بِخِطَابٍ"*
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: النَّاسِخُ طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ لَا يُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ، مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا.
وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: مِثْلُ الْحُكْمِ الَّذِي إِلَخْ، يَشْمَلُ مَا كَانَ مُمَاثِلًا لَهُ فِي وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَلَا يَتِمُّ النَّسْخُ لِحُكْمٍ إِلَّا بِرَفْعِ جَمِيعِ الْمُمَاثَلَاتِ لَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَصِحُّ عِنْدَهُ إِطْلَاقُ الْمُمَاثِلَةِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْمُخْتَارُ فِي حَدِّهِ اصْطِلَاحًا أَنَّهُ رَفَعَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِخِطَابٍ.
وَفِيهِ: أَنَّ النَّاسِخَ قَدْ يَكُونُ فعلا لا خطابا. وفيه أَيْضًا: أَنَّهُ أَهْمَلَ تَقْيِيدَهُ بِالتَّرَاخِي، وَلَا يَكُونُ نسخ إلا به.
__________
* في "أ": وليس هو الخطاب.(2/51)
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": إِنَّهُ فِي الِاصْطِلَاحِ: رَفَعَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّ الْحُكْمَ رَاجِعٌ إِلَى كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ قَدِيمٌ، وَالْقَدِيمُ لَا يُرْفَعُ وَلَا يَزُولُ.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمَرْفُوعَ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالْمُكَلَّفِ لَا ذَاتُهُ، وَلَا تَعَلُّقُهُ الذَّاتِيُّ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى انْتِهَاءِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، مَعَ التَّأْخِيرِ عَنْ مَوَارِدِهِ، وَيَرُدُّ عَلَى قَيْدِ الْخِطَابِ مَا تَقَدَّمَ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُوَ رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بمثله مع تراخيه عنه.(2/52)
المسألة الثانية: النسخ جائز عقلا واقع شرعا
مدخل
...
المسألة الثانية: النسخ جائز عقلا واقع شرعا
النَّسْخُ جَائِزٌ عَقْلًا وَاقِعٌ سَمْعًا، بِلَا خِلَافٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا مَا يَرْوِي عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ1، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ جَائِزٌ، غَيْرُ وَاقِعٍ. وَإِذَا صَحَّ هَذَا عَنْهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَاهِلٌ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ جَهْلًا فَظِيعًا، وَأَعْجَبُ مِنْ جَهْلِهِ بِهَا حِكَايَةُ مَنْ حُكِيَ عَنْهُ الْخِلَافُ فِي كُتُبِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَعْتَدُّ بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ، لَا بِخِلَافِ مَنْ بَلَغَ فِي الْجَهْلِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَازُ: فَلَمْ يُحْكَ الْخِلَافُ فِيهِ إِلَّا عَنِ الْيَهُودِ، وَلَيْسَ بِنَا إِلَى نَصْبِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حَاجَةٌ، وَلَا هَذِهِ بِأَوَّلِ مَسْأَلَةٍ خَالَفُوا فِيهَا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، حَتَّى يَذْكُرَ خلافهم في هذه المسألة، ولكن هذه مِنْ غَرَائِبِ أَهْلِ الْأُصُولِ.
عَلَى أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَفَعَ عَنْهُمْ أَحْكَامًا لَمَّا تَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، وَسَأَلُوا مِنْهُ رَفْعَهَا، وَلَيْسَ النَّسْخُ إِلَّا هَذَا، وَلِهَذَا لَمْ يَحْكِهِ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ إِلَّا عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَهُمُ الشَّمْعُونِيَّةُ2، وَلَمْ يَذْكُرُوا لَهُمْ دَلِيلًا، إِلَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ النَّسْخَ بَدَاءٌ، وَالْبَدَاءُ3 مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بأن النسخ لا يستلزم البداء لا
__________
1 هو محمد بن بحر الأصفهاني، الكاتب، المعتزلي، كان عالما بالتفسير، ولد سنة أربع وخمسين ومائتين هـ، وتوفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "الناسخ والمنسوخ" "كتاب النحو" وغيرهما ا. هـ معجم الأدباء 18/ 35، الأعلام 6/ 50.
2 افترقت اليهود ثلاث فرق:
أ- شمعونية: وهي التي تقول لا نمنع النسخ سمعا وعقلا.
ب- عنانية: وهي التي تقول بمنع النسخ سمعا لا عقلا.
ج- عيسوية: وهي التي ذهبت إلى جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا. ا. هـ.
3 البداء: مصدر بدا أي ظهر ظهورا. لسان العرب مادة بدا. وهذا يستحيل في حقه تعالى وهو أن يكون الأمر غائبا عنه ثم يبدو له.(2/52)
عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا، وَقَدْ جَوَّزَتِ الرَّافِضَةُ الْبَدَاءَ عَلَيْهِ؛ عَزَّ وَجَلَّ، لِجَوَازِ النَّسَخِ، وَهَذِهِ مَقَالَةٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ بِمَجْرَدِهَا.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ عَقْلًا وَاقِعٌ شَرْعًا، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ.
وَقَدْ حَكَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ "الْأُصُولِ"* اتِّفَاقُ أَهْلِ الشَّرَائِعِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَقَامِ مَا يَقْتَضِي تَطْوِيلَ "الْمَقَالِ"**.
وَقَدْ أَوَّلَ جَمَاعَةٌ خِلَافَ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ الْمَذْكُورِ سَابِقًا بِمَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ إِنْكَارُ النَّسْخِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ لَا يَرْتَفِعُ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَنْتَهِي بِنَصٍّ دَلَّ عَلَى انْتِهَائِهِ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا. وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَسَلِيمٌ الرَّازِيُّ: أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْكَرَ الْجَوَازَ، وَأَنَّ خِلَافَهُ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً، لَا كَمَا نَقَلَ عَنْهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ: أَنَّهُ أَنْكَرَ الْوُقُوعَ.
وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَذَلِكَ جَهَالَةٌ مِنْهُ عَظِيمَةٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِأَحْكَامِ الْعَقْلِ، فَإِنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، فَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ عَنْ قَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ بِمَا هُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِكَوْنِهَا نَاسِخَةً لِلشَّرَائِعِ، فَهُوَ خِلَافٌ كُفْرِيٌّ1 لَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَائِلِهِ.
نَعَمْ إِذَا قَالَ: إِنَّ الشَّرَائِعَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُغَيَّاةٌ بِغَايَةٍ هِيَ الْبَعْثَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَسْخٍ؛ فَذَلِكَ أَخَفُّ مِنْ إِنْكَارِ كَوْنِهِ نسخًا غير مقيد بهذا القيد.
__________
* في "أ": العلم.
** في "أ": المرام.
__________
1 أي مكفر لمن قال به.(2/53)
الْحِكْمَةُ مِنَ النَّسْخِ:
فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي النَّسْخِ؟
قُلْتُ: قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ"1: إِنَّ الشَّرَائِعَ قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا يعرف نفعها بالعقل في المعاش والمعاد.
__________
1 وهو في الكلام، للإمام فخر الدين، محمد بن عمر الرازي وشرحه عبد الرحمن المعروف بجلبي زادة ا. هـ كشف الظنون 2/ 1714.(2/53)
وَمِنْهَا: سَمْعِيَّةٌ لَا يُعْرَفُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إِلَّا مِنَ السَّمْعِ.
فَالْأَوَّلُ: يَمْتَنِعُ طُرُوءُ النَّسْخِ عَلَيْهِ، كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَطَاعَتِهِ أَبَدًا. وَمَجَامِعُ هَذِهِ الشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ أَمْرَانِ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 1.
وَالثَّانِي: مَا يُمْكِنُ طَرَيَانُ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أُمُورٌ تَحْصُلُ فِي كَيْفِيَّةِ إِقَامَةِ الطَّاعَاتِ الْفِعْلِيَّةِ، وَالْعِبَادَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ.
وَفَائِدَةُ نَسْخِهَا: أَنَّ الْأَعْمَالَ الْبَدَنِيَّةَ إِذَا تَوَاطَئُوا عَلَيْهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، صَارَتْ كَالْعَادَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَظَنُّوا أَنَّ أَعْيَانَهَا مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَمَنَعَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَعَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ، فَإِذَا غَيَّرَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ "الْأَعْمَالِ"* رِعَايَةُ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَالْأَرْوَاحِ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، انْقَطَعَتِ الْأَوْهَامُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِتِلْكَ "الصُّوَرِ وَ"** الظَّوَاهِرِ إِلَى علَّام السَّرَائِرِ.
وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ أَنَّ هَذَا الْخَلْقَ طُبِعَ عَلَى الْمَلَالَةِ مِنَ الشَّيْءِ فَوَضَعَ فِي كُلِّ عَصْرٍ شَرِيعَةً جَدِيدَةً لِيَنْشَطُوا فِي أَدَائِهَا.
وَقِيلَ: بَيَانُ شَرَفِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ نَسَخَ بِشَرِيعَتِهِ شَرَائِعَهُمْ، وَشَرِيعَتُهُ لَا ناسخ لها.
وقيل: الحكمة حفظ مصالح العباد، فَإِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ لَهُمْ فِي تَبْدِيلِ حُكْمٍ بِحُكْمٍ، وَشَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ، كَانَ التَّبْدِيلُ لِمُرَاعَاةِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ.
وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ بِشَارَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِرَفْعِ الْخِدْمَةِ عَنْهُمْ، "وَرَفْعِ"*** مُؤْنَتِهَا عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مُؤْذِنٌ بِرَفْعِهَا فِي الْجَنَّةِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي "الرِّسَالَةِ" أَنَّ فَائِدَةَ النَّسْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، وَالتَّخْفِيفُ عَنْهُمْ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِأَثْقَلَ.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ الرَّحْمَةَ قَدْ تَكُونُ بِالْأَثْقَلِ أَكْثَرَ مِنَ الْأَخَفِّ، لِمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ تَكْثِيرِ الثَّوَابِ، وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ، فَتَكْثِيرُ الثَّوَابِ فِي الْأَثْقَلِ يُصَيِّرُهُ خَفِيفًا عَلَى الْعَامِلِ، يَسِيرًا عَلَيْهِ، لِمَا يَتَصَوَّرُهُ مِنْ جَزَالَةِ الْجَزَاءِ.
__________
* في "أ": الأنواع.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ" وبأن رفع.
__________
1 جزء من الآية 83 من سورة البقرة.(2/54)
المسألة الثالثة: شُرُوطِ النَّسْخِ
لِلنَّسْخِ شُرُوطٌ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ شَرْعِيًّا لَا عَقْلِيًّا.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُنْفَصِلًا عَنِ الْمَنْسُوخِ، مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، فَإِنَّ الْمُقْتَرِنَ كَالشَّرْطِ، وَالصِّفَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ لَا يُسَمَّى نَسْخًا بَلْ تَخْصِيصًا.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بِشَرْعٍ، فَلَا يَكُونُ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ بِالْمَوْتِ نَسْخًا، بَلْ هُوَ سُقُوطُ تَكْلِيفٍ.
الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَنْسُوخُ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ، أَمَّا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ انْقِضَاءُ وَقْتِهِ الَّذِي قُيِّدَ بِهِ نَسْخًا لَهُ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مِثْلَ الْمَنْسُوخِ فِي الْقُوَّةِ، أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، لَا إِذَا كَانَ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ؛ لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يُزِيلُ الْقَوِيَّ.
قَالَ إِلْكِيَا: وَهَذَا مِمَّا قَضَى بِهِ الْعَقْلُ، بَلْ دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَنْسَخُوا نَصَّ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ واحد.
وَسَيَأْتِي لِهَذَا الشَّرْطِ مَزِيدُ بَيَانٍ.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضَى لِلْمَنْسُوخِ غَيْرَ الْمُقْتَضَى لِلنَّاسِخِ، حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْبَدَاءُ، كَذَا قِيلَ.
قَالَ إِلْكِيَا: لا ويشترط بِالِاتِّفَاقِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ النَّاسِخُ مُتَنَاوِلًا لِمَا تَنَاوَلَهُ الْمَنْسُوخُ، أَعْنِي: بِالتَّكْرَارِ وَالْبَقَاءِ؛ "إِذْ لَا يَمْتَنِعُ"* فَهْمُ الْبَقَاءِ بِدَلِيلٍ آخَرَ سِوَى اللَّفْظِ.
السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ نَسْخُهُ، فَلَا يَدْخُلُ النَّسْخُ أَصْلَ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا عُلِمَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ يَتَأَبَّدُ وَلَا يَتَأَقَّتُ.
قَالَ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ: وَكُلُّ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ، ووحدانيته، ونحوه، فلا يدخله النسخ، ومن ههنا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي الْأَخْبَارِ؛ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهَا عَلَى خِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ، وَكَذَا قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ: الضَّابِطُ فِيمَا يُنْسَخُ مَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ مِنْ حُسْنٍ إِلَى قُبْحٍ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالتَّأْبِيدِ وَجْهَيْنِ، حكاهما الماوردي، والروياني، وغيرهما.
__________
* في "أ": إذ لا يمنع.(2/55)
أحدهما: المنع؛ لأن صريح التأبيد مَانِعٌ مِنِ احْتِمَالِ النَّسْخِ.
وَالثَّانِي: الْجَوَازُ، قَالَا: وَأَنْسُبُهُمَا الْجَوَازُ. قَالَ: وَنَسَبَهُ ابْنُ بَرْهَانَ إِلَى مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ، وَنَسَبَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي "الْمُعْتَمَدِ" إِلَى الْمُحَقِّقِينَ، "قَالَ"* لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي لَفْظِ التَّأْبِيدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ الْمُبَالَغَةُ لَا الدوام.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/56)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: جَوَازُ النَّسْخِ بَعْدَ اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَالْعَمَلِ بِهِ
اعْلَمْ: أَنَّهُ يَجُوزُ النَّسْخُ بَعْدَ اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَالْعَمَلِ بِهِ، بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَسَوَاءٌ عَمِلَ بِهِ كُلُّ النَّاسِ، كَاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ بَعْضُهُمْ، كَفَرْضِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ.
وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي جَوَازِ النَّسْخِ بَعْدَ "التَّمَكُّنِ"* مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَكْلِيفِهِ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَمْضِيَ مِنَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ مَا يَسَعُ الْفِعْلَ.
وَقَدْ حُكي الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عَنِ الْكَرْخِيِّ.
وَأَمَّا النَّسْخُ قَبْلَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُعْلِمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوُجُوبِ شَيْءٍ عَلَى الْأُمَّةِ، ثُمَّ يَنْسَخُهُ قبل أن يعلموا بِهِ، فَحَكَى السَّمْعَانِيُّ فِي ذَلِكَ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْمَنْعِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا، حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَإِلْكِيَا. انْتَهَى.
وَيَرِدُ عَلَى الْمَنْعِ مَا ثَبَتَ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ مِنْ فَرْضِ خَمْسِينَ صَلَاةً ثُمَّ اسْتَقَرَّتْ عَلَى خَمْسٍ1.
وَلَا وَجْهَ لِمَا قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، دُونَ النَّسْخِ.
قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ": نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِهِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، ومنعت من
__________
* في "أ": التمكين.
__________
1 أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء من حديث أبي ذر 349 وكتاب الحج، باب ما جاء في زمزم 1636. وأخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 163. وابن منده، كتاب الإيمان 714. والدارمي في كتاب الرد على الجهمية ص34. والنسائي في الكبرى كما في التحفة 9/ 156. وابن حبان في صحيحة 7406. وأبو عوانة في مسنده 1/ 133.(2/56)
ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزَعَمُوا أَنَّ النَّسْخَ قَبْلَ الْعِلْمِ يَتَضَمَّنُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ.
قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، فَإِذَا قَضَيْنَا بِصِحَّتِهِ، صَحَّ النَّسْخُ حِينَئِذٍ.
قَالَ: وَاحْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقِصَّةِ الْمِعْرَاجِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ خَمْسِينَ صَلَاةً، ثُمَّ نَسَخَهَا قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِوُجُوبِهَا، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَدْ عَلِمَ، وَلَكِنَّهُ قَبْلَ "عِلْمِ"* جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَعِلْمُ الْجَمِيعِ لَا يُشْتَرَطُ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ اسْتَقَرَّ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا اعْتِمَادَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ "انْتَهَى"**.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ عَدَمَ عِلْمِ الْأُمَّةِ يَقْتَضِي وُقُوعَ النَّسْخِ قَبْلَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِينَ بِمَا كُلِّفُوا بِهِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ نَسْخًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِالْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ اتَّفَقَتِ الْأَشَاعِرَةُ عَلَى جَوَازِهِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَنْعِهِ.
وَحَكَى الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ:
وَالثَّانِي: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، وَالْأَحْكَامِ التَّعْرِيفِيَّةِ، فَمَنَعُوهُ فِي الْأَوَّلِ وَجَوَّزُوهُ فِي الثَّانِي، كَتَكْلِيفِ الْغَافِلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. انْتَهَى.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ قَدْ عَلِمَ بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ وَقْتُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُوَسَّعًا، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ غَدًا، ثُمَّ نُسِخَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ، ثُمَّ نُسِخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الفعل، ويؤمر بِالْعِبَادَةِ مُطْلَقًا، ثُمَّ نُسِخَ قَبْلَ مُضِيِّ وَقْتٍ يُمْكِنُ فِعْلُهَا فِيهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْجَوَازِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانَ عَنِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَقَلَهُ غَيْرُهُمْ عَنْ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ.
قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَقِّ.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ -كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ- وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ إِلَى الْمَنْعِ، وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيُّ، وَالْجَصَّاصُ، وَالْمَاتُرِيدِيُّ، وَالدَّبُّوسِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ.
احْتَجَّ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا مَعَ أَنَّ الْمُقْتَضَى مَوْجُودٌ، وَهُوَ أنه
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/57)
رَفْعُ تَكْلِيفٍ قَدْ ثَبَتَ عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَكَانَ نَسْخًا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَسْتَلْزِمُ الْبَدَاءَ، وَلَا الْمُحَالَ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي جَازَ النَّسْخُ لِأَجْلِهَا بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ، وَبَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ يَصِحُّ اعْتِبَارُهَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ، وَقَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّ تَبْدِيلَ حُكْمٍ بِحُكْمٍ، وَرَفْعَ شَرْعٍ بِشَرْعٍ "كَائِنٌ"* فِيهِمَا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَكِنْ وَقَعَ نَسْخُهُ قَبْلَ فِعْلِهِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ مُوَسَّعًا، أَوْ لِكَوْنِهِ أَرَادَ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ، فَنُسِخَ، فَقَالَ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ: إِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِهِ، وجعلوا صورة الخلاف فيما إذ كَانَ النَّسْخُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ. وَكَذَا نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ابْنُ بَرْهَانَ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَالْآمِدِيُّ، وَبِهِ صَرَّحَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ".
وَأَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ وَقْتُهُ وَشَرَعَ فِي فِعْلِهِ، فَنُسِخَ قَبْلَ تَمَامِ الْفِعْلِ. فَقَالَ الْقَرَافِيُّ: لَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا. وَجَعَلَهَا الْأَصْفَهَانِيُّ فِي "شَرْحِ الْمَحْصُولِ" مِنْ صِوَرِ الْخِلَافِ. فَمَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ جَوَّزَ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَمَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ مَنَعَهَا.
وَأَمَّا إِذَا وَقَعَ النَّسْخُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَبْلَ الْفِعْلِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: فَمُقْتَضَى اسْتِدْلَالِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِالِاتِّفَاقِ، ووجه بِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهِ يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ الْوَقْتِ، وَإِذَا انْتَفَى فَلَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ، لِامْتِنَاعِ رَفْعِ الْمَعْدُومِ، لَكِنْ صَرَّحَ الْآمِدِيُّ فِي "الْإِحْكَامِ" بِالْجَوَازِ، وَأَنَّهُ لَا خلاف فيه.
قيل: ولا يتأتى إلا ذا صَرَّحَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، أَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الأمر بالأداء يستلزم القضاء.
__________
* في "أ": كان.(2/58)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّسْخِ أن يخلفه بدل
أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّسْخِ أَنْ يَخْلُفَهُ بَدَلٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا سُتْرَةَ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ النَّسْخُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ لِأُمُورٍ مَعْرُوفَةٍ لَا إِلَى بَدَلٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخُ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ1، وَنَسْخُ ادِّخَارِ لُحُومِ الأضاحي2،
__________
1 المنسوخ: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} والناسخ: قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة 12-13] .
ذكر القشيري وغيره عن علي أنه قال: في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} الآية. ا. هـ القرطبي في تفسيره 17/ 302.
2 أخرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع بلفظ: "من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة في بيته منه شيء"، فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا عام الماضي؟ قال: "كلوا واطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها" كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها 5569، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي 1974. والبيهقي، كتاب الضحايا، باب الرخصة في الأكل من لحوم الضحايا والإطعام والادخار 9/ 291. ومالك في الموطأ، كتاب الضحايا، باب ادخار لحوم الأضاحي: 7.(2/58)
ونسخ تحريم المباشرة بقول سبحانه: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُن} 1، وَنَسْخُ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2. وَأَمَّا مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْمُخَالِفُونَ، وَهُمْ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقِيلَ: كُلُّهُمْ، وَالظَّاهِرِيَّةُ، مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 3، فَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ نَسْخُ لَفْظِ الْآيَةِ، كَمَا "يَدُلُّ عَلَيْهِ"* قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فَلَيْسَ لِنَسْخِ الْحُكْمِ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ، وَلَوْ سَلَّمَنَا لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِسْقَاطَ ذَلِكَ الحكم المنسوخ خَيْرٌ مِنْ ثُبُوتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي "الرِّسَالَةِ" عَلَى أَنَّهُ يَخْتَارُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِ الْبَدَلِ، فَقَالَ: وَلَيْسَ يُنْسَخُ فَرْضٌ أَبَدًا إِلَّا أُثْبِتَ مَكَانُهُ فَرْضٌ، كَمَا نُسِخَتْ قِبْلَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَثْبَتَ مَكَانَهَا الْكَعْبَةَ. قَالَ: وَكُلُّ مَنْسُوخٍ فِي كِتَابِ الله سبحانه وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا.
قَالَ الصَّيْرَفِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ "الْمَرْوَزِيُّ"**: إِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ يَنْقُلُ مِنْ حَظْرٍ إِلَى إِبَاحَةٍ، أَوْ مِنْ إِبَاحَةٍ إلى حظر، أو يخير عَلَى حَسَبِ أَحْوَالِ الْمَفْرُوضِ، كَمَا فِي الْمُنَاجَاةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنَاجِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا تَقْدِيمِ صَدَقَةٍ، ثُمَّ فَرَضَ اللَّهُ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ، ثُمَّ أَزَالَ ذَلِكَ فَرَدَّهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَهَذَا الْحَمْلُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي تَفْسِيرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بِهِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ وُقُوعُ النَّسْخِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ بِلَا بَدَلٍ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ ارْتِفَاعُ التَّكْلِيفِ بِالشَّيْءِ، وَالنَّسْخُ مِثْلُهُ، لِأَنَّهُ رَفْعُ تَكْلِيفٍ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ، بَلْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الْوُقُوعِ.
__________
* في "أ": على ذلك.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 187من سورة البقرة.
قوله: فالآن: مرتب على قوله {أُحِلَّ لَكُم} ، نظرا إلى ما هو المقصود من الإحلال وهو إزالة التحريم، أي حين نسخ عنكم تحريم القربان وهو ليلة الصيام. ا. هـ روح المعاني 2/ 65.
2 أخرجه مسلم، من حديث سعد بن هشام، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه: أو مرض: 746 وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في صلاة الليل 1342. وعبد الرزاق في مصنفه من حديث عائشة رضي الله عنها مطولا برقم 4714. وأخرجه ابن خزيمة برقم 1078 و1127، وابن حبان بلفظ: "يا أم المؤمنين انبئيني عن قيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: ألست تقرأ هذه السورة {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل} قلت: بلى، قالت: فإن الله جل وعلا افترض القيام في أول هذه السورة ... ثم أنزل الله جلا وعلا التخفيف في آخر هذه السورة ... "2551.
3 جزء من الآية 106من سورة البقرة.(2/59)
المسألة السادسة: في النَّسْخُ إِلَى بَدَلٍ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ
...
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: النَّسْخُ إِلَى بَدَلٍ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مِثْلَ الْمَنْسُوخِ فِي التَّخْفِيفِ وَالتَّغْلِيظِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَذَلِكَ كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ1.
الثَّانِي: نَسْخُ الْأَغْلَظِ بِالْأَخَفِّ، وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَذَلِكَ كَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِالْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا2.
الثَّالِثُ: نَسْخُ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَغْلَظِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ، خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ.
وَالْحَقُّ: الْجَوَازُ وَالْوُقُوعُ كَمَا فِي نَسْخِ وَضْعِ الْقِتَالِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِفَرْضِهِ بَعْدَ ذَلِكَ3، وَنَسْخِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ بِفَرْضِيَّةِ الصَّوْمِ4، ونسخ تحليل الخمر بتحريمها5، ونسخ
__________
1 وذلك بما ورد من حديث البراء بن عازب قال: لما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشرة شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله جل وعلا: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ... الحديث. أخرجه البخاري كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان 399. ومسلم، كتاب المساجد، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة 525. والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في ابتداء القبلة 340. وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب القبلة 1010. والنسائي، كتاب القبلة، باب استقبال القبلة 2/ 60. وابن حبان في صحيحه 1716. والبغوي في شرح السنة 444.
2 وذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] .
نسخت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] .
3 وذلك بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] .
4 وذلك بما أخرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع بلفظ: "لما نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد منا أن يفطر أفطر وافتدى حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها". كتاب التفسير، باب: من شهد منكم الشهر فليصمه، 4506. ومسلم كتاب الصوم باب بيان نسخ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1145. وأبو داود، كتاب الصوم، باب نسخ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} 2315. والترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} 798. والنسائي، كتاب الصوم، باب تأويل قول الله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} 4/ 190. والبيهقي كتاب الصيام، باب ما كان عليه حال الصيام 4/ 200، وابن حبان في صحيحه 3478.
5 وكان ذلك على التدريج لأنهم كانوا مولعين بشربها فالدرجة الأولى لبيان إثمه جاء قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فتركها بعضهم وقال: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير.
والدرجة الثانية جاء قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فتركها بعضهم وقال: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة. والدرجة الثالثة جاء قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئًا أشد من الخمر ا. هـ تفسير القرطبي 6/ 286 بتصرف.(2/60)
نِكَاحِ الْمُتْعَةِ بَعْدَ تَجْوِيزِهَا1، وَنَسْخِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ2.
وَاسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3، وبقوله تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 4.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ الْيُسْرُ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ وَإِنَّ كَانَ بَعِيدًا لَكِنَّ وُقُوعَ النَّسْخِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ لِلْأَخَفِّ بِالْأَغْلَظِ يُوجِبُ تَأْوِيلَ الْآيَةِ، وَلَوْ بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ هُمَا مِنَ الْيُسْرِ، وَالْأَغْلَظِيَّةُ فِي النَّاسِخِ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنْسُوخِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ تَخْفِيفٌ وَيُسْرٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ الْأَغْلَظَ ثَوَابُهُ أَكْثَرُ، فَهُوَ خَيْرٌ من المنسوخ من هذه الحيثية.
__________
1 كما ورد عن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: "رخص لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهانا عنها". مسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة 1404. البيهقي، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة 7/ 204. ابن شيبة 4/ 292. وأخرجه ابن حبان في صحيحة 4151.
وبنحوه عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه. أخرجه مسلم 1406. وابن ماجه، كتاب النكاح، باب النهي عن نكاح المتعة 1962. ابن الجارود 699، ابن حبان في صحيحة 4147. أحمد في مسنده 3/ 404.
2 كما ورد من حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في صوم يوم عاشوراء بعدما نزل صوم رمضان: "من شاء صامه ومن شاء أفطره ". أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الآية 4501. ومسلم، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء 1126 117. وأبو داود، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء 2443. وابن حبان في صحيحه 3622. أحمد في مسنده 2/ 57 و143. والبيهقي، كتاب الصيام، باب من زعم أن صوم عاشوراء كان واجبا ثم نسخ وجوبه 4/ 289. وعبد الرزاق في مصنفه 7848.
3 جزء من الآية 185 من سورة البقرة.
4 جزء من الآية 106 من سورة البقرة.(2/61)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي جَوَازِ نَسْخِ الْأَخْبَارِ
وَفِيهِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ خَبَرًا عَمَّا لَا يَجُوزُ تَغَيُّرُهُ، كَقَوْلِنَا: الْعَالَمُ حَادِثٌ، فهذا لا يجوز نسخه بحال.(2/61)
وإذا كَانَ خَبَرًا عَمَّا يَجُوزُ تَغَيُّرُهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا، وَالْمُسْتَقْبَلُ إِمَّا أَنْ يكن وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا، أَوْ خَبَرًا عَنْ حُكْمٍ، كَالْخَبَرِ عَنْ وُجُوبِ الْحَجِّ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ النَّسْخِ لِهَذَا الْخَبَرِ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَأَبُو هَاشِمٍ: لَا يَجُوزُ النسخ لشيء منها.
وقال فِي "الْمَحْصُولِ": وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ.
اسْتَدَلَّ الجمهور على الجواز أن الخبر إن عَنْ أَمْرٍ ماضٍ كَقَوْلِهِ: عَمَّرْتُ نُوحًا أَلْفَ سَنَةٍ. جَازَ أَنْ يُبَيِّنَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُ عَمَّرَهُ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا.
وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا، وَكَانَ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا كَقَوْلِهِ: لَأُعَذِّبَنَّ الزَّانِيَ أَبَدًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُبَيِّنَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُ أَرَادَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَانَ الْخَبَرُ كَالْأَمْرِ فِي تَنَاوُلِهِ الْأَوْقَاتَ الْمُسْتَقْبَلَةَ، فَصَحَّ إِطْلَاقُ الْكُلِّ مَعَ إِرَادَةِ الْبَعْضِ لِمَا تَنَاوَلَهُ بِمَوْضُوعِهِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِنْ كَانَ مَدْلُولُ الْخَبَرِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَغَيُّرُهُ، بِأَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، كَصِفَاتِ اللَّهِ، وَخَبَرِ مَا كَانَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، وَمَا يَكُونُ مِنَ السَّاعَةِ وَآيَاتِهَا، كَخُرُوجِ الدَّجَّالِ1 فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ"؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَصِحُّ تَغَيُّرُهُ، بِأَنْ يَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا، وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا، أَوْ خَبَرًا عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ "مَوْضِعُ"* الْخِلَافِ.
فَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّانِ، وَعَبْدُ الجبار، والفخري الرَّازِيُّ، إِلَى جَوَازِهِ مُطْلَقًا، وَنَسَبَهُ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ" إِلَى الْمُعْظَمِ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى الْمَنْعِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، كَمَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِهِ2، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ كَمَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِهِ3 فِي "النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ". وَالْقَاضِي أَبُو بكر، وعبد الوهاب،
__________
* في "أ": موضوع.
__________
1 وذلك بما ورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا قد أنذر أمته الدجال…" الحديث. أخرجه البخاري، كتاب الفتن باب ذكر الدجال 7127. وأخرجه مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال 2933. وأبو داود، كتاب الملاحم، باب ذكر خروج الدجال 4316. وابن حبان في صحيحه 6780 6785.
2 لعله "دلائل الإعلام علي أصول الأحكام" وهو للشيخ الإمام أبي بكر محمد بن عبد الله الصيرفي. ا. هـ أيضًاح المكنون 1/ 476.
3 وهو كتاب "الفصول في معرفة الأصول" للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي. ا. هـ هدية العارفين 1/ 6.(2/62)
وَالْجُبَّائِيُّ، وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ.
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّهُ الْحَقُّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فصل، ومنع في الْمَاضِي؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَكْذِيبًا، دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرْفَعَ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى مَنْ لَمْ يفِ بِالْوَعْدِ مُخْلِفًا لَا كَاذِبًا.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ جَزَمَ بِهِ سَلِيمٌ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ فِي "الْمِنْهَاجِ"1، وَسَبَقَهُمَا إِلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْنِ ابن الْقَطَّانِ.
أَقُولُ: وَالْحَقُّ: مَنْعُهُ فِي الْمَاضِي مُطْلَقًا، وَفِي بَعْضِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ الْخَبَرُ بِالْوَعْدِ، لَا بالوعيد، ولا بالتكليف، أما بالتكليف فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ رَفْعُ حُكْمٍ عَنْ مُكَلَّفٍ، وَأَمَّا بالوعيد، فلكونه عفوا، و"هو"* لَا يَمْتَنِعُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، بَلْ هُوَ حسن يمدح فاعله من غيره، ويتمدح بِهِ فِي نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْمَاضِي فَهُوَ كَذِبٌ صُرَاحٌ، إِلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ تَخْصِيصًا، أَوْ تَقْيِيدًا، أَوْ تَبْيِينًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ الْمَاضِي، فَلَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا إِلْمَامٌ بِمَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِي بَعْضِ أَطْرَافِهَا دُونَ بَعْضٍ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مُطْلَقًا بِاسْتِلْزَامِ ذَلِكَ الْكَذِبِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ الِاسْتِلْزَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا عَرَفْتَ، لَا فِي كُلِّهَا، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي "الْمُعْتَمَدِ" عَنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْعَ النَّسْخِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَأَمَّا عِنْدَنَا فَكَذَلِكَ فِي الْوَعْدِ؛ لِأَنَّهُ إِخْلَافٌ، وَالْخُلْفُ فِي الْإِنْعَامِ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ، وَبِهِ صَرَّحَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ. وَأَمَّا فِي الْوَعِيدِ فَنَسْخُهُ جَائِزٌ، كَمَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ.
قَالَ: وَلَا يعد ذلك خلفا، بل عفوا وكرما.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 واسمه: "منهاج الوصول إلى علم الأصول" للإمام عبد الله بن عمر البيضاوي. وهو مرتب على مقدمة وسبعة كتب. قال عنه: إن كتابنا هذا يسمى منهاج الوصول إلى علم الأصول الجامع بين المشروع والمعقول والمتوسط بين الفروع والأصول. ا. هـ كشف الظنون 2/ 1878.(2/63)
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ وَالْعَكْسِ وَنَسْخِهِمَا مَعًا
وَقَدْ جَعَلَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُمَا ذَلِكَ سِتَّةُ أَقْسَامٍ.
الْأَوَّلُ:
مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ رَسْمُهُ، كَنَسْخِ آية الوصية للوالدين والأقربين1 بآية
__________
1 وهي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة 180] .(2/63)
الْمَوَارِيثِ1، وَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِالْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا2.
فَالْمَنْسُوخُ ثَابِتُ التِّلَاوَةِ "مَرْفُوعُ"* الْحُكْمِ "وَالنَّاسِخُ ثَابِتُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ"** وَإِلَى جَوَازِ ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، بَلِ ادَّعَى بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ حَكَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَدَمَ الْجَوَازِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْأُصُولِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى الْحُكْمُ فَلَا فَائِدَةَ فِي التِّلَاوَةِ، وَهَذَا قُصُورٌ عَنْ مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ، وَجَهْلٌ كَبِيرٌ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ حُكْمُهُ، الْبَاقِيَةَ تِلَاوَتُهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى قَدَمٍ فِي الْعِلْمِ.
الثَّانِي:
مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَرَسْمُهُ، وَثَبَتَ حُكْمُ النَّاسِخِ وَرَسْمُهُ، كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ3، وَنَسْخِ صِيَامِ عَاشُورَاءَ بِصِيَامِ رَمَضَانَ4.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْقِبْلَةَ مِنْ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَزَعَمَ أَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالسُّنَّةِ لَا بِالْقُرْآنِ.
الثَّالِثُ:
مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ رَسْمُهُ، وَرُفِعَ رَسْمُ النَّاسِخَ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} 5 بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ"، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذَا كَانَ قُرْآنًا يُتْلَى، ثُمَّ نسخ لفظه وبقي حكمه6.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ"
** ما بين قوسين ساقط من "أ"
__________
1 وهي ثلاثة آيات في سورة النساء 11-12-176.
2 تقدم بيان آياتها في الصفحة 2/ 60.
3 تقدم بيانها في الصفحة 2/ 60.
4 تقدم بيانه في الصفحة 2/ 61.
5 جزء من الآية 15 من سورة النساء.
6 عن أبي بن كعب قال: كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة فكان فيها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما ألبتة".وهو جزء من حديث طويل أخرج البخاري جزءه الأول عن أبي بن كعب، كتاب التفسير، باب سورة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِ الفَلَقِ} 4976. وأخرج مسلم أيضًا الجزء الأول من الحديث عن عقبة بن عامر 814. البيهقي، عن زر قال: قال لي أبي بن كعب: يا زر كأين تعد، وكأين تقرأ سورة الأحزاب؟ قال: قلت: كذا وكذا آية. قال: إن كانت لتضاهي سورة البقرة، وأن كنا نقرأ فيهما "والشيخ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ الله ورسوله" فرفع فيما رفع 8/ 111.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 13363. عبد الله بن الإمام أحمد في الزيادات 5/ 132. وابن حبان في صحيحه 4428 4429. من حديث عمر مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم 10 2/ 819.(2/64)
الرَّابِعُ:
مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَرَسْمُهُ، وَنُسِخَ رَسْمُ النَّاسِخِ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُتَتَابِعَاتٍ يُحَرِّمْنَ فَنُسِخْنَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ"، فتوفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُتْلَى مِنَ الْقُرْآنِ1.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَالْعَشْرُ مِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ وَحُكْمُهُ، وَالْخَمْسُ مِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ حِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ لَمْ يُثْبِتُوهَا رَسْمًا، وَحُكْمُهَا بَاقٍ عِنْدَهُمْ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَقَوْلُهَا: "وَهُنَّ مِمَّا يُتْلَى مِنَ الْقُرْآنِ" بِمَعْنَى أَنَّهُ يُتْلَى حُكْمُهُ دُونَ لَفْظِهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَتْلُوهُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ نَسْخُ تِلَاوَتِهِ.
وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ نَسْخِ اللَّفْظِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ، وَبِهِ جَزَمَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ دَلِيلِهِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ مَحْفُوظٌ، وَنَسْخُ كَوْنِهِ قُرْآنًا لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُجُودِهِ، وَلِهَذَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ.
الْخَامِسُ:
مَا نُسِخَ رَسْمُهُ لَا حُكْمُهُ، وَلَا يُعْلَمُ النَّاسِخُ لَهُ، وَذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَتَمَنَّى لَهُمَا ثالثها، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ" 2.
فَإِنَّ هَذَا كَانَ قُرْآنًا ثُمَّ نُسِخَ رَسْمُهُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي "التَّمْهِيدِ3: قِيلَ: إِنَّهُ فِي سُورَةِ ص.
وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ بئر معونة أنهم قالوا: "بلغوا
__________
1 أخرجه مسلم من حديث عائشة، كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات 1452. وأبو داود، كتاب النكاح، باب هل يحرم ما دون خمس رضعات 2062. والترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان 3/ 456. والنسائي، كتاب النكاح، باب القدر الذي يحرم من الرضاعة 6/ 100.
والدارمي في سننه 1572. مالك في الموطأ، كتاب الرضاع، باب جامع ما جاء في الرضاعة 2/ 608.
ابن حبان في صحيحه 4221. والبيهقي، كتاب الرضاع، باب من قال لا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات 7/ 454.
2 أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس، كتاب المناقب، باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبي 3898. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه احمد في مسنده 5/ 117. والطبراني من طريق الحسين بن واقد 542. وبنحوه الطيالسي 539. وصحح إسناده الحاكم 2/ 244. ووافقه الذهبي. وأخرجه أبو الشيخ من طريق ثابت 79. وابن حبان في صحيحه 3237.
3 واسمه "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسنانيد" قال ابن حزم هو كتاب في الفقه والحديث ولا أعلم له نظير. وهو عبارة عن شرح لموطأ الإمام مالك بن أنس. ا. هـ كشف الظنون 2/ 1907.(2/65)
قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا"1.
وَكَمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي "مُسْتَدْرَكِهِ"، مِنْ حَدِيثِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ2 عَنْ أُبَيِّ بْنِ كعب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} 3 وَقَرَأَ فِيهَا: "إِنَّ ذَاتَ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ الحنيفية، لا اليهودية والنصرانية، وَمَنْ يَعْمَلْ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَ"4. قَالَ الْحَاكِمَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ؛ فَهَذَا مِمَّا نُسِخَ لَفْظُهُ، وَبَقِيَ مَعْنَاهُ.
وَعَدَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي "التَّمْهِيدِ" مِمَّا نُسِخَ خَطُّهُ وَحُكْمُهُ، وَحِفْظُهُ "يُنْسَى مَعَ رَفْعِ خَطِّهِ مِنَ الْمُصْحَفِ، وَلَيْسَ حِفْظُهُ عَلَى وَجْهِ التِّلَاوَةِ، وَلَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ عَنِ اللَّهِ، وَلَا يَحْكُمُ بِهِ الْيَوْمَ أَحَدٌ"* قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ نَحْوَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ5.
السَّادِسُ: نَاسِخٌ صَارَ مَنْسُوخًا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا لَفْظٌ مَتْلُوٌّ، كَالْمَوَارِيثِ بِالْحَلِفِ وَالنُّصْرَةِ، فإنه نسخ بالتوارث بالإسلام والهجرة، ونسخ التوارث بالإسلام والهجرة بآي الْمَوَارِيثِ..
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَعِنْدِي أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ تَكَلُّفٌ، وَلَيْسَ يَتَحَقَّقُ فِيهِمَا النَّسْخُ.
وَجَعَلَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ التَّوْرِيثَ بِالْهِجْرَةِ مِنْ قِسْمِ مَا عُلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَلَمْ يُعْلَمْ نَاسِخُهُ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ، أَوِ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ، أَوْ نَسْخَهُمَا مَعًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ، فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ حكم من أحكامها، وما
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البخاري عن أنس، كتاب الوتر، باب القنوت قبل الركوع وبعده 1003. مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة 677 299. النسائي، كتاب التطبيق، باب القنوت بعد الركوع 2/ 200. أحمد في مسنده 3/ 116. ابن حبان في صحيحه 1973. عبد الرزاق في المصنف 4963. البيهقي، كتاب الصلاة، باب ما يجوز من الدعاء في الصلاة 2/ 244.
وأخرجه أبو يعلى وحده بزيادة: قال قتادة: وحدثنا أنس أنهم قرءوا به قرآنا: "بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" برقم 3159. انظر الاتفاق للسيوطي 3/ 84.
2 هو ابن حباشة للإمام القدوة، مقرئ الكوفة مع السلمي، أبو مطرف أدرك أيام الجاهلية، توفي سنة إحدى وثمانين بلغ من العمر مائة وسبع وعشرين سنة قال عصام: ما رأيت أحد أقرأ من زر. ا. هـ سير أعلام النبلاء 4/ 166 تذكرة الحفاظ 1/ 54 الإصابة 2971 تهذيب التهذيب 3213.
3 جزء من الآية 1 من سورة البينة.
4 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، باب تفسير سورة لم يكن 2/ 531 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب التفسير رقم الباب 91 برقم 11508 وأحمد في مسنده 5/ 132.
5 انظر التعليق 2 في 2/ 64.(2/66)
تدل عليه من الْأَحْكَامُ حُكْمٌ آخَرُ لَهَا، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ نَسْخُهُمَا وَنَسْخُ أَحَدِهِمَا، كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَبَايِنَةِ.
وَلَنَا أَيْضًا: الْوُقُوعُ، وَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ، كَمَا عَرَفْتَ مِمَّا أَوْرَدْنَاهُ.(2/67)
المسألة التاسعة: وُجُوهِ نَسْخِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
لَا خِلَافَ فِي جواز نسخ القرآن بالقرآن، ونسخ السنة بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَجَوَازِ نَسْخِ الْآحَادِ بِالْآحَادِ، وَنَسْخِ الْآحَادِ بِالْمُتَوَاتِرِ.
وَأَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ، أَوِ الْمُتَوَاتِرِ مِنَ السُّنَّةِ بِالْآحَادِ، فَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ.
أَمَّا الْجَوَازُ عَقْلًا: فَقَالَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، وَحَكَاهُ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ عَنِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ.
وَنَقَلَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ" الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا يَسْتَحِيلُ عَقْلًا نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ شَرْعًا
وَأَمَّا الْوُقُوعُ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانَ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَغَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ.
وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَسَلِيمٌ فِي "التَّقْرِيبِ" الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ، وَهَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "شَرْحِ الْكِفَايَةِ"، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ".
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، مِنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ إِلَى وُقُوعِهِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، وَالْغَزَالِيُّ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ، وَالْقُرْطُبِيُّ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ زَمَانِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا بَعْدَهُ، فَقَالُوا بِوُقُوعِهِ فِي زَمَانِهِ.
احْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ الثَّابِتَ قَطْعًا لَا يَنْسَخُهُ مَظْنُونٌ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْوُقُوعِ بِمَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ لَمَّا سَمِعُوا مُنَادِيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ يَقُولُ: "أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَاسْتَدَارُوا"1 وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِالْقَرَائِنِ.
وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا القائلون بالوقوع بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرْسِلُ رُسُلَهُ لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ "وَهُمْ آحاد"*،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 تقدم تخريجه في "1/ 136".(2/67)
وَكَانُوا يُبَلِّغُونَ الْأَحْكَامَ الْمُبْتَدَأَةَ وَنَاسِخَهَا.
وَمِنَ الْوُقُوعِ: نَسْخُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} 1 الآية. "بنهيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكل ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ"2 وَهُوَ آحَادٌ.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا أَجِدُ الْآنَ، وَالتَّحْرِيمُ وَقَعَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَمِنَ الْوُقُوعِ نَسْخُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ3 بِالنَّهْيِ عَنْهَا، وَهُوَ آحَادٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَمِمَّا يُرْشِدُكَ إِلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِمَا صَحَّ مِنَ الْآحَادِ لِمَا هُوَ أَقْوَى مَتْنًا أَوْ دَلَالَةً مِنْهَا: أَنَّ النَّاسِخَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا جَاءَ رَافِعًا لِاسْتِمْرَارِ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَدَوَامِهِ، وَذَلِكَ ظَنِّيٌّ وَإِنَّ كَانَ دَلِيلُهُ قَطْعِيًّا، فَالْمَنْسُوخُ إِنَّمَا هُوَ هَذَا الظَّنِّيُّ، لَا ذلك القطعي، فتأمل هذا.
__________
1 جزء من الآية 145 من سورة الأنعام.
2 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس، كتاب الصيد، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع 1934. النسائي، كتاب الصيد، باب إباحة أكل لحم الدجاج 7/ 206. ابن ماجه، كتاب الصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع 3234. البيهقي، كتاب الضحايا، باب ما يحرم من جهة ما لا تأكله العرب 9/ 315. الدارمي في سننه 2/ 85. أحمد في مسنده 1/ 302. ابن حبان في صحيحه 5280 وذكره البخاري في "التاريخ الكبير" 6/ 262.
3 تقدم تخريجه في 2/ 61.(2/68)
المسألة العاشرة: نسخ القرآن بالسنة المتواترة
مدخل
...
المسألة العاشرة: نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ
يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمْ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانَ، وَابْنُ الْحَاجِبِ.
قَالَ ابْنُ فُورَكَ فِي "شَرْحِ مَقَالَاتِ الْأَشْعَرِيِّ"1: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ وُجِدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 2، فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " 3 "وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ"* لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وهو مذهب أبي حنيفة، وعامة المتكلمين.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 لم أجد فيما بين يدي من كتب التراجم أحدا ممن ترجم لابن فورك يذكر له هذا الكتاب.
2 البقرة 180.
3 تقدم تخريجه في 1/ 389.(2/68)
وقال سليم الرازي: هو قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ، والمعتزلة، وسائر المتكلمين.
قال الدبوسي: إنه قَوْلُ عُلَمَائِنَا، يَعْنِي: الْحَنَفِيَّةَ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: قَالَ بِهِ عَامَّةُ شُيُوخِنَا، وَحَكَاهُ "أَبُو"* الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ: وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ عِنْدَهُ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ لِلْحَدِيثِ، فَهُوَ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الْآيَةَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ -كَمَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ- إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً. وَبِهِ جَزَمَ الصَّيْرَفِيُّ، وَالْخَفَّافُ1، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْمَنْعِ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا حَكَاهُ ابْنُ فُورَكَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ حَكَى عَنْ أَكْثَرِهِمُ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ شَرْعًا لَا عَقْلًا.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} 2 الْآيَةَ.
قَالُوا: وَلَا تَكُونُ السُّنَّةُ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ، "وَلَا"** مِثْلَهُ، قَالُوا: وَلَمْ نَجِدْ فِي الْقُرْآنِ آيَةً مَنْسُوخَةً بِالسُّنَّةِ.
وَقَدِ اسْتَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَنْعِ، حَتَّى قَالَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسُ: هَفَوَاتُ الْكِبَارِ عَلَى أَقْدَارِهِمْ، وَمَنْ عُدَّ خَطَؤُهُ عَظُمَ قَدْرُهُ.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْجَبَّارِ كَثِيرًا مَا "يَنْصُرُ"*** مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ كَبِيرٌ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَكْبَرُ مِنْهُ، قَالَ: وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مَنَعَ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا، فَضْلًا عَنِ الْمُتَوَاتِرِ، فَلَعَلَّهُ يَقُولُ: دَلَّ عُرْفُ الشَّرْعِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ قَاطِعٌ مِنَ السَّمْعِ تَوَقَّفْنَا، وَإِلَّا فَمَنِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَحْكُمُ بِقَوْلِهِ فِي نَسْخِ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ، وَأَنَّ هَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي الْعَقْلِ؟
__________
*في "أ": أين.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": ينظر.
__________
1 هو عبد الوهاب بن عطاء العجلي، الخفاف، أبو نصر، فقيه، محدث مفسر، من أهل البصرة، توفي ببغداد سنة أربع ومائتين هـ، من آثاره: "السنن في الفقه، التفسير، الناسخ والمنسوخ، الصيام". ا. هـ. معجم المؤلفين 6/ 225. كشف الظنون 2/ 1434.
2 جزء من الآية 106 من سورة البقرة.(2/69)
وَالْمُغَالُونَ فِي حُبِّ الشَّافِعِيِّ لَمَّا رَأَوْا هَذَا الْقَوْلَ لَا يَلِيقُ بِعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي مَهَّدَ هَذَا الْفَنَّ وَرَتَّبَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ أَخْرَجَهُ، قَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ هَذَا الْعَظِيمِ مَحْمَلٌ، فَتَعَمَّقُوا فِي مَحَامِلَ ذَكَرُوهَا، انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ السُّنَّةَ شَرْعٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا أَنَّ الْكِتَابَ شَرْعٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِي الْقُرْآنِ، فَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ ثُبُوتًا عَلَى حَدِّ ثُبُوتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْقُرْآنِ فِي النَّسْخِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا فِي الشَّرْعِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 2، لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ مَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ مَنْسُوخًا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ سَيُبَدِّلُهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، أَوْ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ لِلْمُكَلَّفِينَ، وَمَا أَتَانَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، فَهُوَ كَمَا أَتَانَا مِنْهُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 3 وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} 4.
قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: لَمْ يُرِدِ الشَّافِعِيُّ مُطْلَقَ السُّنَّةِ، بَلْ أَرَادَ السُّنَّةَ الْمَنْقُولَةَ آحَادًا، وَاكْتَفَى بِهَذَا الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي السُّنَّةِ الْآحَادُ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَالصَّوَابُ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا يُوجَدَانِ مُخْتَلِفَيْنِ إِلَّا وَمَعَ أَحَدِهِمَا مِثْلُهُ نَاسِخٌ لَهُ، وَهَذَا تَعْظِيمٌ عَظِيمٌ، وَأَدَبٌ مَعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفَهْمٌ لِمَوْقِعِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ، وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَقَعْ عَلَى مُرَادِ الشَّافِعِيِّ، بَلْ فَهِمُوا خِلَافَ مُرَادِهِ، حَتَّى غَلَّطُوهُ وَأَوَّلُوهُ. انْتَهَى.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قِيلَ: إِنَّ السُّنَّةَ فِيهِ نَسَخَتِ الْقُرْآنَ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} 5 الآية، وقوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} 6، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} 7 الآية مَنْسُوخَةٌ بِالنَّهْيِ "عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ"8، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 9، فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِأَحَادِيثِ الدِّبَاغِ10 عَلَى نِزَاعٍ طَوِيلٍ في كون ما في هذه الآيات منسوخة بالسنة.
__________
1 جزء من الآية 7 من سورة الحشر.
2 جزء من الآية 106 من سورة البقرة
3 الآية 4 من سورة النجم.
4 جزء من الآية 15 من سورة يونس.
5 جزء من الآية 180 من سورة البقرة.
6 جزء من الآية 11 من سورة الممتحنة.
7 جزء من الآية 145 من سورة الأنعام.
8 تقدم تخريجه في 2/ 68.
9 جزء من الآية 3 من سورة المائدة.
10 أحاديث الدباغة كثيرة منها حديث شاة ميمونة المشهور، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إيما إهاب دبغ فقد طهر" وقد تقدم تخريجه في 1/ 347.(2/70)
نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ:
وَأَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَنْ مَنَعَ مِنْ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ.
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَسَلِيمٌ الرَّازِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَصَحَّحُوا جَمِيعًا الْجَوَازَ.
قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: هُوَ قَوْلُ الْمُعْظَمِ.
وَقَالَ سَلِيمٌ: هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ السَّمْعَانِيُّ1: إِنَّهُ الْأَوْلَى بِالْحَقِّ، وَجَزَمَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ، وَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ قَطُّ، وَلَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ مَا يَتَشَبَّثُ بِهِ الْمَانِعُ، لَا مِنْ عَقْلٍ، وَلَا مِنْ شَرْعٍ، بَلْ وَرَدَ فِي الشَّرْعِ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
فَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} 2 الْآيَةَ.
وَكَذَلِكَ نَسْخُ صُلْحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُرَيْشٍ عَلَى أنْ يَرُدَّ لَهُمُ النِّسَاءَ، بقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} 3.
__________
1 هو منصور بن محمد، الإمام العلامة، مفتي خراسان، شيخ الشافعية، أبو المظفر ولد سنة ستٍ وعشرين وأربعمائة، من آثاره كتاب "الاصطلام" "البرهان" "الأمالي" وتوفي سنة تسعٍ وثمانين وأربعمائة هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء 19/ 114. هدية العارفين 2/ 473 شذرات الذهب 3/ 393 الأعلام 7/ 303.
2 جزء من الآية 144 من سورة البقرة. وانظر التعليق 1 في الصفحة 60.
3 جزء من الآية 10 من سور الممتحنة.
وسبب نزولها كما ذكر القرطبي قال: هربت أم كلثوم بنت عقبة من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد؛ وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد صالح قريشا في الحديبية على أن من جاءه من قريش رده إليهم، فرد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخويها وحبسها، فقالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ردها علينا للشرط، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان الشرط في الرجال لا في النساء. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وعن عروة قال: كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية: ألا يأتيك من أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل. يومئ إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك.
وقيل نزلت الآية في سبيعة بنت الحارث الأسلمية زوجة صيفي بن الراهب. ا. هـ القرطبي 18/ 61 تفسير ابن كثير 4/ 374 الصاوي على الجلالين 4/ 411.(2/71)
وَنَسْخُ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِر} 1 الْآيَةَ:
وَنَسْخُ تَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُن} 2
وَنَسْخُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 3. ونحو ذلك مما يكثر تعداده.
__________
1 جزء من الآية 90 من سورة المائدة وانظر التعليق 5 في الصفحة 60.
2 جزء من الآية 187من سورة البقرة وانظر التعليق 1 في الصفحة 59.
3 جزء من الآية 185من سورة البقرة وانظر التعليق 2 في الصفحة 61.(2/72)
المسألة الحادية عشرة: نسخ القول والفعل من السنة
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ مِنَ السُّنَّةِ يَنْسَخُ الْقَوْلَ، كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ يَنْسَخُ الْفِعْلَ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ عَنْ ظَاهِرِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْقَوْلَ لَا يُنْسَخُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، وَأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُنْسَخُ إِلَّا بِالْفِعْلِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ، فَالْكُلُّ سُنَّةٌ وَشَرْعٌ.
وَلَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَلَا غَيْرُهُ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْعًا ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ كَثِيرًا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّارِقِ: "فَإِنْ عَادَ فِي الْخَامِسَةِ فَاقْتُلُوهُ" 1 ثُمَّ رُفِعَ إِلَيْهِ سَارِقٌ فِي الْخَامِسَةِ فَلَمْ يَقْتُلْهُ2. فَكَانَ هَذَا التَّرْكُ نَاسِخًا لِلْقَوْلِ.
__________
1 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الحدود، 4/ 382 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: بل منكر. وقال التهاونوي في إعلاء السنن: وسند المستدرك صحيح على قاعدة الحافظ السيوطي 11/ 715 كتاب السرقة، باب إذا سرق الثانية قطعت رجله اليسرى. وأخرج بنحوه البيهقي في سننه في السرقة، باب السارق يعود فيسرق ثانيا وثالثا ورابعا 8/ 272.
2 ومثال ذلك ما أخرجه البيهقي في سننه في السرقة باب السارق يعود فيسرق ثانيا وثالثا ورابعا من حديث الحارث بن أبي ربيعة "قال أتي بالسارق فقال: يا رسول الله هذا غلام الأيتام من الأنصار والله لا نعلم لهم مالا غيره، فتركه ثم أتي به الثانية فتركه، ثم أتي الثالثة فتركه، ثم أتي الرابعة فتركه، ثم أتي به الخامسة فقطع يده، ثم أتي به السادسة فقطع رجله، ثم أتي به السابعة فقطع يده، ثم أتي به الثامنة فقطع رجله 8/ 273.
وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث عصمة في الحدود والديات باب ما جاء في السرقة وما لا قطع فيه 6/ 275 برقم 10655.(2/72)
وَقَالَ: "الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ" 1، ثُمَّ رَجَمَ مَاعِزًا، وَلَمْ يَجْلِدْهُ2، فَكَانَ ذَلِكَ نَاسِخًا لِجَلْدِ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ.
وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قِيَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجِنَازَةِ3، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ4، فَكَانَ نَسْخًا، وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" 5، ثُمَّ فَعَلَ غَيْرَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ، وَتَرَكَ بَعْضَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ نَسْخًا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي السُّنَّةِ لِمَنْ تَتَبَّعَهُ.
وَلَمْ يَأْتِ الْمَانِعُ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لَا مِنْ عَقْلٍ، وَلَا مِنْ شَرْعٍ، وَقَدْ تَابَعَ الشَّافِعِيَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ نَسْخِ الْأَقْوَالِ بِالْأَفْعَالِ ابْنُ عَقِيلٍ6 مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ: الشَّيْءُ إِنَّمَا يُنْسَخُ بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَقْوَى مِنْهُ، يَعْنِي: وَالْقَوْلُ أَقْوَى من الفعل.
__________
1 أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب حد الزنى 1690. والترمذي من حديث عبادة، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم على الثيب 1434. وأبو داود، كتاب الحدود، باب في الرجم 4416. والبيهقي كتاب الحدود، باب ما جاء في نفي البكر 8/ 222. وأحمد في مسنده 5/ 313. وابن حبان في صحيحه 4425. والدارمي في سننه 2/ 181.
2 حديث ماعز أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره ولا سكران والمجنون 5271 وفي الحدود، باب لا يرجم المجنون والمجنونة 6815. ومسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى 1691. والنسائي، في الرجم، كما في التحفة 1019. والترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع 1428. والبغوي 2584. والبيهقي، كتاب الحدود، باب المرجوم يغسل ويصلى عليه ثم يدفن8/ 219. وابن حبان في صحيحه 4439. وابن الجارود 819.
3 أخرجه البخاري من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: "إن للموت فزعا فإذا رأيتم جنازة فقوموا" كتاب الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي 1311. ومسلم، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة 960. والنسائي، كتاب الجنائز، باب القيام لجنازة أهل الشرك 4/ 45. وأبو داود، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة 3174. وأحمد في مسنده 3/ 319. وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في القيام للجنازة 1543. والبيهقي، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة 4/ 26. وابن حبان في صحيحه 3050.
4 أخرجه مسلم من حديث علي رضي الله عنه بلفظ: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمر بالجلوس" كتاب الجنائز، باب نسخ القيام للجنائز 962. وأبو داود، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة 3175". والنسائي، كتاب الجنائز، باب الوقوف للجنائز 4/ 77. والترمذي، كتاب الجنائز، باب الرخصة في ترك القيام للجنازة 1044. والبيهقي، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة 4/ 27. وابن حبان في صحيحه 3056. وأبو يعلى في مسنده 1/ 273.
5 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 105.
6 هو علي بن عقيل بن محمد، العلامة البحر، شيخ الحنابلة، أبو الوفاء، ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، من آثاره كتاب "الفنون" وهو أكثر من أربعمائة مجلد، و"الواضح في الأصول" وغيرهما. ا. هـ سير أعلام النبلاء 19/ 443 شذرات الذهب 4/ 35 الأعلام 4/ 313.(2/73)
المسألة الثانية عشرة: القول في نسخ الإجماع والنسخ بِهِ
الْإِجْمَاعُ لَا يَنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
أَمَّا كَوْنُهُ لَا يَنْسَخُ، فَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَالْإِجْمَاعُ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ، بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُمُ الْمُخَالِفُ لِقَوْلِهِ لَغْوًا بَاطِلًا، لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُمْ الْمُوَافِقُ "لِقَوْلِهِ"* لَا اعْتِبَارَ بِهِ، بَلِ الِاعْتِبَارُ بِقُولِهِ وَحْدَهُ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ.
فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بَعْدَ أَيَّامِ النُّبُوَّةِ، وَبَعْدَ أَيَّامِ النُّبُوَّةِ فقد انْقَطَعَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مِنْهُمَا.
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ لِلْإِجْمَاعِ إِجْمَاعًا آخَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ الثَّانِي إِنْ كَانَ لَا عَنْ دَلِيلٍ فَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنْ كَانَ عَنْ دَلِيلٍ، فَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ خَطَأً، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَكُونُ خَطَأً، فَبِهَذَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ نَاسِخًا أَوْ مَنْسُوخًا.
وَلَا "يَصِحُّ"** أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ مَنْسُوخًا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ، بِمَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ فَهُوَ إِجْمَاعٌ، عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ يَجُوزُ الْأَخْذُ بِكِلَيْهِمَا، ثُمَّ يَجُوزُ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ -كَمَا مَرَّ فِي الْإِجْمَاعِ1- فَإِذَا أَجْمَعُوا بِطَلَ الْجَوَازُ، الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا هُوَ النَّسْخُ.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ سَلِمَ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي.
وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى: إِنَّ دَلَالَةَ الْإِجْمَاعِ مُسْتَقِرَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ قَبْلَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ وَبَعْدَهُ.
قَالَ: فَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، أَيْ: لَا يَقَعُ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِ عِيسَى بْنِ أَبَانٍ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ نَاسِخٌ لِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، مِنْ "وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ غسل الميت"2. انتهى.
__________
* في "أ": بعد.
** في "أ": يصلح.
__________
1 انظر 1/ 229.
2 أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: "من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ" كتاب الجنائز، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت 993. وأبو داود، كتاب الجنائز 3162. وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت 1463. وأحمد في مسنده 2/ 433. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب الغسل من غسل الميت 1/ 301. وابن حبان في صحيحه 1161. وعبد الرزاق في المصنف 6110.
قال التهاونوي في إعلاء السنن: نقلا عن الخطابي في شرح سنن أبي داود: لا أعلم أحدا من الفقهاء يوجب الغسل من غسل الميت ولا الوضوء من حمله. 1/ 149 كتاب أبواب الغسل، باب ترك الغسل من غسل الميت.(2/74)
قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: لَيْسَ لِإِجْمَاعٍ حَظٌّ فِي نَسْخِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُشَرِّعُونَ، وَلَكِنَّ إِجْمَاعَهُمْ يَدُلُّ عَلَى الْغَلَطِ فِي الْخَبَرِ، أَوْ رَفْعِ حُكْمِهِ، لَا أَنَّهُمْ رَفَعُوا الْحُكْمَ، وَإِنَّمَا هُمْ أَتْبَاعٌ لِمَا أُمِرُوا بِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ لَا بِنَفْسِهِ، بَلْ بِسَنَدِهِ، فَإِذَا رَأَيْنَا "نَصًّا"* صَحِيحًا، وَالْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ، اسْتَدْلَلْنَا بذلك على نسخ، وَأَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ اطَّلَعُوا عَلَى نَاسِخٍ، وَإِلَّا لَمَا خَالَفُوهُ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: جَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَرِدَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ، قَالَ: وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدَنَا غَلَطٌ فَاحِشٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْدُومٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 وَكَلَامُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْيٌ مَحْفُوظٌ. انْتَهَى.
وَمِمَّنْ جَوَّزَ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ نَاسِخًا الْحَافِظُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ "الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ"2 وَمَثَّلَهُ بِحَدِيثِ الْوَادِي، الَّذِي فِي الصَّحِيحِ حِينَ نَامَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فَمَا أَيْقَظَهُمْ إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ.
وَقَالَ فِي آخِرِهِ: "فَإِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ عَنْ صَلَاةٍ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَذْكُرُهَا، وَمِنَ الْغَدِ لِلْوَقْتِ" 3.
قَالَ: فَإِعَادَةُ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ بَعْدَ قَضَائِهَا حَالَ الذِّكْرِ وَفِي الْوَقْتِ مَنْسُوخٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ "أَنَّهُ"** لَا يَجِبُ ولا يستحب.
__________
* في "أ": متنًا.
** في "أ": ولا.
__________
1 من سورة الحجر 9.
2 للإمام الحافظ، أبي بكر، أحمد بن علي البغدادي، وهو مطبوع انظر: سير أعلام النبلاء 18/ 291. كشف الظنون 2/ 1447. ومعجم المؤلفين 2/ 3.
3 أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: "من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها ولا كفارة لها إلا ذلك" {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ، كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها 597. ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها 684. وأبو داود، كتاب الصلاة، باب من نام عن صلاة أو نسيها 442، 437 البيهقي، كتاب الصلاة، باب لا تفريط على من نام عن صلاة أو نسيها 2/ 218. وأحمد في مسنده 3/ 269.
وسبب ورود هذا الحديث كما نقل السيوطي: عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسرى به نام حتى طلعت الشمس فصلى وقال: "من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ". ثم قرأ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف 3/ 169.(2/75)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الْقِيَاسُ لَا يَكُونُ نَاسِخًا
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا.
وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي "التَّقْرِيبِ" عَنِ الْفُقَهَاءِ، وَالْأُصُولِيِّينَ، قَالُوا: لَا يَجُوزُ نَسْخُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُسْتَعْمَلُ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ النَّصُّ، وَلِأَنَّهُ دَلِيلٌ مُحْتَمِلٌ، وَالنَّسْخُ يَكُونُ بِأَمْرٍ مَقْطُوعٍ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْأُصُولِ مَا يُخَالِفُهُ، وَلِأَنَّهُ إِنْ عَارَضَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا، فَالْقِيَاسُ فَاسِدُ الْوَضْعِ، وَإِنَّ عَارِضَ قِيَاسًا آخَرَ، فَتِلْكَ الْمُعَارَضَةُ إِنْ كَانَتْ بَيْنَ أَصْلِيِّ الْقِيَاسِ، فَهَذَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ النَّسْخُ قَطْعًا؛ إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ نَسْخِ النُّصُوصِ، وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ الْعِلَّتَيْنِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، لَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ.
قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: لَا يَقَعُ النَّسْخُ إِلَّا بِدَلِيلٍ تَوْقِيفِيٍّ، وَلَا حَظَّ لِلْقِيَاسِ فِيهِ أَصْلًا.
وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْقِيَاسَ يُنْسَخُ بِهِ الْمُتَوَاتِرُ، وَنَصُّ الْقُرْآنِ.
وَحَكَى عَنْ آخَرِينَ: أَنَّهُ "إِنَّمَا"* يُنْسَخُ بِهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ فَقَطْ.
وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ: "أَنَّهُ يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لَا الْخَفِيِّ، وَقِيلَ: يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْقِيَاسِ"** إِذَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ، لَا مُسْتَنْبَطَةٌ.
وَجَعَلَ الْهِنْدِيُّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا يُنْسَخُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مَنْسُوخًا فَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِيَاسَ يَكُونُ مَنْسُوخًا بِنَسْخِ أَصْلِهِ، وَهَلْ يَصِحُّ نَسْخُهُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ؟.
فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، الْحَقُّ مَنْعُهُ، وَبِهِ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهُ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْقِيَاسِ، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا، ورجحه صاحب "المحصول" وجماعة من الشافعية.
__________
* في "أ": مما.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/76)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي نَسْخِ الْمَفْهُومِ
وَقَدْ تقدم تقسميه إِلَى مَفْهُومِ مُخَالَفَةٍ، وَمَفْهُومِ مُوَافَقَةٍ.
أَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ: فَيَجُوزُ "نَسْخُهُ"* مَعَ نَسْخِ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ، وَيَجُوزُ نَسْخُهُ بِدُونِ نَسْخِ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" 1 فَإِنَّهُ نُسِخُ مَفْهُومُهُ، بِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَجَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ" 2 وَفِي لَفْظٍ: "إِذَا لَاقَى الْخِتَانُ الْخِتَانَ" 3 فَهَذَا نَسَخَ مَفْهُومَ "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" وَبَقِيَ مَنْطُوقُهُ مُحْكَمًا، غَيْرَ مَنْسُوخٍ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَاجِبٌ مِنَ الْإِنْزَالِ بِلَا خِلَافٍ.
وَأَمَّا نَسْخُ الْأَصْلِ دُونَ الْمَفْهُومِ، فَفِي جَوَازِهِ احْتِمَالَانِ، ذَكَرَهُمَا الصَّفِّيُّ الْهِنْدِيُّ، قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يجوز.
وقال سَلِيمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ": مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ اللَّفْظُ وَيَبْقَى دَلِيلُ الْخِطَابِ.
وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ إِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِلَّفْظِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يسقط الأصل ويكون الفرع باقيا4.
__________
* في "أ": ذلك.
__________
1 أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد، كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء 343. وأبو داود، كتاب الطهارة، باب في الإكسال 217. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب وجوب الغسل بخروج المني 1/ 167. وأحمد في مسنده 3/ 29. وابن حبان في صحيحه 1168. وابن خزيمة في صحيحه 2 و233. والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 54.
2 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء 348. والبخاري في الغسل، باب إذا التقى الختانان 291. وأبو داود، كتاب الطهارة، باب في الإكسال 216. والنسائي، كتاب الطهارة، باب وجوب الغسل إذا التقى الختانان 1/ 110. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب وجوب الغسل بالتقاء الختانين 1/ 163. وأحمد في مسنده 2/ 393. وابن حبان في صحيحه 1174. والبغوي في شرح السنة 242.
3 لم أجده بهذا اللفظ ولكن أخرجه الترمذي من حديث عائشة بلفظ: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل" كتاب الطهارة 108. ابن ماجه، كتاب الطهارة، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان 608. النسائي، كتاب الطهارة كما في التحفة 12/ 272. أحمد في مسنده 6/ 47. ابن حبان في صحيحه 1176. ابن أبي شيبة 1/ 86. البيهقي في "المعرفة" 1/ 413.
4 واختلف في نسخ مفهوم المخالفة بدون الأصل وبالعكس، وكذا اختلف في كونه ناسخا. والمختلفون هم القائلون به سوى الحنفية، كذا في التقرير، والأشبه جواز بقاء كل بدون الآخر لكونهما حكمين غير متلازمين فلا يلزم من انتفاء واحد انتفاء الآخر، وفي كونه ناسخا ومنسوخا تأمل فإنه أدون من القياس عند قائليه فلا يصلح معارضا لشيء من الأدلة لو فرض اتحاد الزمان ولا بد للنسخ من المعارضة كما قالوا في القياس فليفهم. ا. هـ فواتح الرحموت 2/ 89.(2/77)
وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ: فَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ نَسْخُهُ، والنسخ بِهِ، أَمْ لَا؟
أَمَّا جَوَازُ النَّسْخِ بِهِ، فَجَزَمَ الْقَاضِي بِجَوَازِهِ فِي "التَّقْرِيبِ" وَقَالَ: لَا فَرْقَ فِي جَوَازِ النَّسْخِ بِمَا اقْتَضَاهُ نَصُّ الكتاب وظاهره، وجوازه بِمَا اقْتَضَاهُ فَحْوَاهُ وَلَحْنُهُ، وَمَفْهُومُهُ، وَمَا أَوْجَبَهُ الْعُمُومُ وَدَلِيلُ الْخِطَابِ عِنْدَ مُثْبِتِهَا؛ لِأَنَّهُ كَالنَّصِّ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. انْتَهَى.
وَكَذَا جَزَمَ بِذَلِكَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. قَالَ: لِأَنَّهُ مِثْلُ النُّطْقِ وَأَقْوَى.
وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ يُنْسَخُ بِهِ مَا يُنْسَخُ بِمَنْطُوقِهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَهُوَ عَجِيبٌ، فَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي"، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي "اللُّمَعِ"، وَسَلِيمٌ الرَّازِيُّ، وَصَحَّحُوا الْمَنْعَ، وَالْمَاوَرْدِيُّ نَقَلَهُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ: لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ النَّصِّ، الَّذِي هُوَ أَقْوَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ.
قَالَ: وَالثَّانِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٍ الْجَوَازُ.
وَأَمَّا جَوَازُ نَسْخِهِ: فَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يُنْسَخَ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ.
الثاني: أَنْ يُنْسَخَ تَبَعًا لِأَصْلِهِ.
وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ الثَّانِي.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَجَعَلُوهُ مَعَ أَصْلِهِ كَالنَّصَّيْنِ، يَجُوزُ نَسْخُ أَحَدِهِمَا مَعَ بَقَاءِ الْآخَرِ، وَنَقَلَهُ سَلِيمٌ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. "قَالَ"*: بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنَ اللَّفْظِ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ لَفْظَيْنِ، فَجَازَ نَسْخُ أَحَدِهِمَا، مَعَ بقاء حكم الآخر.
والقول الثَّانِي: الْمَنْعُ، وَصَحَّحَهُ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ الرُّويَانِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ لَفْظِهِ مُوجِبٌ لِفَحْوَاهُ وَمَفْهُومِهِ، فَلَمْ يَجُزْ نَسْخَ الْفَحْوَى مَعَ بَقَاءِ مُوجِبِهِ، كَمَا لَا يُنْسَخُ الْقِيَاسُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى التَّفْصِيلِ، فَقَالَ: إِنْ كانت علة المنطوق لا تحتمل التغيير،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/78)
كَإِكْرَامِ الْوَالِدَيْنِ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّأْفِيفِ، فَيَمْتَنِعُ نَسْخَ الْفَحْوَى؛ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ، وَإِنِ احْتَمَلَتِ النَّقْضَ جَازَ، كَمَا لَوْ قَالَ لِغُلَامِهِ: لَا تُعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، قَاصِدًا بِذَلِكَ حِرْمَانَهُ "لِأَكْثَرَ مِنْهُ"*، ثُمَّ يَقُولُ: أَعْطِهِ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ، وَلَا تُعْطِهِ دِرْهَمًا، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ عِلَّةِ حرمانه إلى العلة مواساته.
وهذا التفصيل قوي جدا.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/79)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ
هَلْ تَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ النَّصِّ أَمْ لَا؟ وذلك يختلف باختلاف الصور، فالزائد إما أن يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ أَوْ لَا.
الْأَوَّلُ:
الْمُسْتَقِلُّ: "وَهُوَ"* إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَوَّلِ، كَزِيَادَةِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَيْسَ بِنَاسِخٍ، لِمَا "تَقَدَّمَهُ"** مِنَ الْعِبَادَاتِ بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ عِبَادَةٍ عَلَى الْعِبَادَاتِ لَا تَكُونُ نَسْخًا لِلْعِبَادَاتِ. انْتَهَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ فِي مِثْلِ هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ لِعَدَمِ التنافي.
وإما أن تكون مِنْ جِنْسِهِ، كَزِيَادَةِ صَلَاةٍ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَهَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 1؛ لأنها تجعلها غير الوسطي، و"هذا"*** قَوْلٌ بَاطِلٌ، لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا شُبْهَةَ دَلِيلٍ، فَإِنَّ الْوُسْطَى لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُتَوَسِّطَةَ في العدد، بل المراد بِهَا الْفَاضِلَةُ.
وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُتَوَسِّطَةُ فِي الْعَدَدِ، لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُخْرِجَةً لَهَا عَنْ كَوْنِهَا مِمَّا يُحَافَظُ عَلَيْهِ، فَقَدْ عُلِمَ تَوَسُّطُهَا عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَصَارَتْ مُسْتَحِقَّةً لِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا وسطى.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": تقدم.
*** في "أ": وهو.
__________
1 جزء من الآية 238 من سورة البقرة.(2/79)
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: وَيَلْزَمُهُمْ زِيَادَةُ عِبَادَةٍ عَلَى الْعِبَادَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَزِيدَةَ تَصِيرُ أَخِيرَةً، وَتُجْعَلُ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ أَخِيرَةً غَيْرَ أَخِيرَةٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَأَلْزَمَهُمْ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ": بأنه لو كان عدد كل الوجبات قَبْلَ الزِّيَادَةِ عَشْرَةً، فَبَعْدَ الزِّيَادَةِ لَا يَبْقَى ذَلِكَ الْعَدَدُ، فَيَكُونُ نَسْخًا، يَعْنِي: وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ1.
الثَّانِي: الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ، كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى الرَّكَعَاتِ، وَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجِلْدِ، وَزِيَادَةِ وَصْفِ الرَّقَبَةِ بِالْإِيمَانِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نَسْخًا مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَغَيْرُهُمْ من المعتزلة كأبي علي، وأبي هاشم*، وَسَوَاءٌ اتَّصَلَتْ بِالْمَزِيدِ عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مَانِعَةً من إجزاء الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بِدُونِهَا، أَوْ غَيْرَ مَانِعَةٍ.
الثَّانِي: أَنَّهَا نَسْخٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ الْحَنَفِيُّ: وَسَوَاءٌ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي السَّبَبِ، أَوْ فِي الْحُكْمِ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: أَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالُوا: إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حِكْمَةٍ تُوجِبُ النَّسْخَ. حَكَاهُ الصَّيْمَرِيُّ عَنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا.
قَالَ ابْنُ فُورَكَ، وَإِلْكِيَا: وَعُزِيَ إلى الشافعية أيضًا.
الثالث: إن كان المزيد عليه ينفي الزِّيَادَةِ بِفَحْوَاهُ، فَإِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ، كَقَوْلِهِ: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ" 2 فَإِنَّهُ يُفِيدُ نَفْيَ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ.
وَإِنْ كَانَ لَا يَنْفِي تِلْكَ الزِّيَادَةَ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا، حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانَ، وَصَاحِبُ "الْمُعْتَمَدِ"، وَغَيْرُهُمَا.
الرَّابِعُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ إِنْ غَيَّرَتِ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ تَغَيُّرًا شَرْعِيًّا، حَتَّى صَارَ لَوْ فَعَلَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى حَدِّ.
__________
* في "ب": كابي علي وهاشم.
__________
1 قال بعضهم: إيجاب صلاة سادسة نسخ؛ لأنه يبطل المحافظة على الصلاة الوسطى الثابت بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فإنه إذا صارت الصلوات ستا لم يبقى وسطى، والصلاة الوسطى عند الإمام وصاحبيه صلاة العصر، وهو مذهب أكثر الصحابة والتابعين، والأحاديث وإن كانت متعارضة لكن القوة لأحاديث العصر، والتفصيل في "فتح المنان في تأييد مذهب النعمان" للشيخ عبد الحق الدهلولي، وفائدة هذا القول تظهر في إيجاب صلاة الوتر بخبر الواحد، فإنه لما كان إيجاب السادسة نسخًا عندهم بإيجاب المحافظة على الوسطى الثابت بالقاطع لم يكن إيجاب الوتر بخبر الواحد صحيحا وإلا لزم انتساخ القاطع بالمظنون. ا. هـ انظر فواتح الرحموت 2/ 91 التلويح على التوضيح 2/ 36.
2 تقدم تخريجه 1/ 393.(2/80)
ما كان يفعلها قبلها لم يتعد بِهِ، وَذَلِكَ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ "كَانَتْ"* نَسْخًا، وَإِنْ كَانَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ يَصِحُّ فِعْلُهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لَمْ تَكُنْ نَسْخًا، كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ "الْمُعْتَمَدِ"، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَغَيْرُهُمَا، وَحَكَاهُ سَلِيمٌ عَنِ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالْإِسْتَرَابَادِيِّ1، وَالْبَصْرِيِّ2.
الْخَامِسُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ تَتَّصِلَ بِهِ فَهِيَ نَسْخٌ، وَبَيْنَ أَنْ تَنْفَصِلَ عَنْهُ، فَلَا تَكُونُ نَسْخًا، حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانَ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَيْضًا، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ.
السَّادِسُ: إِنْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُغَيِّرَةً لِحُكْمِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كانت نسخًا، وإن لَمْ تُغَيِّرْ حُكْمَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بِأَنْ كَانَتْ مُقَارَنَةً، لَمْ تَكُنْ نَسْخًا، حَكَاهُ ابْنُ فُورَكَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَالَ صَاحِبُ "الْمُعْتَمَدِ": وَبِهِ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ.
السَّابِعُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ إِنْ رَفَعَتْ حُكْمًا عَقْلِيًّا، أَوْ مَا ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، لَمْ تَكُنْ نَسْخًا؛ لِأَنَّا لَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ الْأَحْكَامَ، وَمَنْ يَعْتَقِدُ إِيجَابَهُ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ رَفْعَهَا يَكُونُ نَسْخًا، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ رَفْعَ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، كَانَتْ نَسْخًا.
حَكَى هَذَا التَّفْصِيلَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ" عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الْحَقُّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ فِي "الْمُعْتَمَدِ"، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ"، وَظَاهِرُ كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ فِي "الْبُرْهَانِ".
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إِنَّهُ أَجْوَدُ الطُّرُقِ وَأَحْسَنُهَا، فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كَمَا تَرَى.
قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ هَذِهِ التَّفَاصِيلَ لَا حَاصِلَ لَهَا، وَلَيْسَتْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ عِنْدَ الْكُلِّ أَنَّ مَا رَفَعَ حُكْمًا شَرْعِيًّا كَانَ نَسْخًا حَقِيقَةً، وَلَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا فِي مَقَامِ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ أَوْ بَيَانٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ، فَإِنَّ الْقَائِلَ: "أَنَا أَفْصِلُ"** بَيْنَ مَا رَفَعَ حكمًا
__________
* في "أ": تكون.
** في "أ": إنما فصل.
__________
1 هو ركن الدين، الحسن بن رضي الدين، محمد بن شرفشاه الحسيني، الشافعي، نزيل الموصل، توفي سنة خمس عشرة وسبعمائة هـ، من آثاره: "حل العقد والعقل في شرح مختصر السول والأمل" "شرح الحاوي الصغير للقزويني" "شرح الشافعية لابن الحاجب" "شرح قواعد العقائد للغزالي في الكلام". ا. هـ هدية العارفين 1/ 283 الأعلام 2/ 215.
2 انظر البحث مفصلا مبينا بالأمثلة في فواتح الرحموت 1/ 19 والتلويح على التوضيح 2/ 36 وميزان الأصول 2/ 1011.(2/81)
شَرْعِيًّا، وَمَا لَا يَرْفَعُ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ نَسْخًا فَهِيَ نَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا لَا حَاصِلَ لَهُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ مِنْهُمْ هَلْ تَرْفَعُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَتَكُونُ نَسْخًا، أَوْ لَا فَلَا تَكُونُ نَسْخًا؟ فَلَوْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا تَرْفَعُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا "تَنْسَخُ، أَوْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرْفَعُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا"* لَيْسَتْ بِنَسْخٍ، وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهَا رَفْعٌ أَمْ لَا. انْتَهَى.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّسْخِ، وَكَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، فَلَا يُنْسَخُ إِلَّا بِقَاطِعٍ، كَالتَّغْرِيبِ1، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ عِنْدَهُ نَسْخًا نَفَاهُ؛ لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَسْخًا قَبِلُوهُ؛ إِذْ لَا مُعَارَضَةَ.
وَقَدْ رَدُّوا -يَعْنِي الْحَنَفِيَّةَ- بِذَلِكَ أَخْبَارًا صَحِيحَةً، لَمَّا اقْتَضَتْ زِيَادَةً عَلَى الْقُرْآنِ، وَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَرَدُّوا أَحَادِيثَ تُعَيِّنُ الْفَاتِحَةَ فِي الصَّلَاةِ2، وَمَا وَرَدَ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ3، وَمَا وَرَدَ فِي إِيمَانِ الرَّقَبَةِ4، وَمَا وَرَدَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ5. انْتَهَى.
وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْفَائِدَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي طَالَتْ ذُيُولُهَا، وَكَثُرَتْ شُعَبُهَا، هَانَ عَلَيْكَ الْخَطْبُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ ما عرفته.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 وهي وجوب التغريب بعد الجلد في البكر على زعم أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى,.
وقد نفى الحنفية ذلك لأنه نسخ عندهم. ا. هـ انظر ميزان الأصول 2/ 1013 والتلويح على التوضيح 2/ 37.
2 تقدم تخريجه 1/ 22
3 تقدم تخريجه 1/ 315.
4 أخرجه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي بلفظ فيه: "فأعتقها فإنها مؤمنة" كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته 537. وأبو داود، كتاب الصلاة، باب تشميت العاطس في الصلاة 930. والنسائي، كتاب السير كما في التحفة 8/ 427. والبيهقي، كتاب الإيمان، باب ما يجوز في عتق الكفارات 10/ 57. وأحمد في مسنده 5/ 447. وأخرجه ابن حبان في صحيحه 165. والطبرني في الكبير 19/ 938.
5 قال النووي: وأما الطهارة عن الحدث من الوضوء والغسل والتيمم فلا يصح شيء منها إلا بالنية لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات ".
والحديث أخرجه البخاري عن عمر رضي الله عنه كتاب بدء الوحي، باب كيف بدء الوحي، إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. مسلم، كتاب الإمارة باب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنية" 155، 1907.(2/82)
المسألة السادسة عشر: في النُّقْصَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ هَلْ يَكُونُ نَسْخًا
...
الْمَسْأَلَةُ السادسة عشرة: في النقصان من العبادة هل يكون نسخا
لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النُّقْصَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ نَسْخٌ لِمَا أُسْقِطَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا فِي جُمْلَةِ الْعِبَادَةِ ثُمَّ أُزِيلَ وُجُوبُهُ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّ مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ نَسْخُهُ نَسْخًا لَهَا، كَذَا نَقَلَ الْإِجْمَاعَ الْآمِدِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ.
وَأَمَّا نَسْخُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ، سَوَاءً كَانَ جُزْءًا لَهَا، كَالشَّطْرِ، أَوْ خَارِجًا كَالشَّرْطِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ نَسْخَهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلْعِبَادَةِ، بَلْ يَكُونُ بِمَثَابَةِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ، قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّهُ الْحَقُّ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ "الْمُعْتَمَدِ" عَنِ الْكَرْخِيِّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ نَسْخٌ لِلْعِبَادَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمُ ابْنُ بَرْهَانَ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ.
الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الشَّرْطِ، فَلَا يَكُونُ نَسْخُهُ نَسْخًا لِلْعِبَادَةِ، وَبَيْنَ الْجُزْءِ كَالْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ نَسْخُهُ نَسْخًا لَهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَوَافَقَهُ الْغَزَالِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
قَالُوا: لِأَنَّ الشَّرْطَ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الْمَشْرُوطِ، بِخِلَافِ الْجُزْءِ، وَهَذَا فِي الشَّرْطِ الْمُتَّصِلِ، أَمَّا الشَّرْطُ الْمُنْفَصِلُ، فَقِيلَ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ نَسْخَهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُنْفَصِلَتَانِ.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مِمَّا لَا تُجْزِئُ الْعِبَادَةُ قَبْلَ النَّسْخِ إِلَّا بِهِ، فَيَكُونُ نَسْخُهُ نَسْخًا لَهَا، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجُزْءِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تُجْزِئُ الْعِبَادَةُ قَبْلَ النَّسْخِ بِدُونِهِ فَلَا يَكُونُ نَسْخُهُ نَسْخًا لَهَا.
وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ".
احْتَجَّ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الشَّرْطِ1 وَالشَّطْرِ2، بِأَنَّهُمَا أَمْرَانِ، فلا يقتضي نسخ أحدهما نسخ الآخر.
__________
1 هو تعليق شيء بشيء، بحيث إذا وجد الأول وجد الثاني.
وقيل: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، ويكون خارجا عن ماهيته، ولا يكون مؤثرا في وجوده ا. هـ التعريفات 166.
2 شطر الشيء: نصفه ا. هـ مصباح مادة شطر.(2/83)
وَأَيْضًا لَوْ كَانَ نَسْخًا لِلْعِبَادَةِ لَافْتَقَرَتْ فِي وُجُوبِهَا إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ. وَإِنَّهُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ نَسْخَ الشَّطْرِ يَقْتَضِي نَسْخَ الْعِبَادَةِ، دُونَ نَسْخِ الشَّرْطِ، بِأَنَّ نُقْصَانَ الرَّكْعَةِ مِنَ الصَّلَاةِ يَقْتَضِي رَفْعَ وُجُوبِ تَأْخِيرِ التَّشَهُّدِ، وَرَفْعَ إِجْزَائِهَا مِنْ دُونِ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ قَبْلَ النَّسْخِ كَانَتْ غَيْرَ مُجْزِئَةٍ بِدُونِ الرَّكْعَةِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ لِلْبَاقِي مِنَ الْعِبَادَةِ أَحْكَامًا مُغَايِرَةً لِأَحْكَامِهَا قَبْلَ رَفْعِ ذَلِكَ الشَّطْرِ، فَكَانَ النَّسْخُ مُغَايِرًا لِنَسْخِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ.
وَأَيْضًا الثَّابِتُ فِي الْبَاقِي هُوَ الْوُجُوبُ الْأَصْلِيُّ، وَالزِّيَادَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى الْجَوَازِ الْأَصْلِيِّ، وَإِنَّمَا الزَّائِلُ وُجُوبُهَا، فَارْتَفَعَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا إِلَى حكم شرعي، فلا يكون ذلك نسخا1.
__________
1 انظر كتاب التبصرة 281 والمستصفى 1/ 116 وفواتح الرحموت 2/ 94.(2/84)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي الطَّرِيقِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا كَوْنُ النَّاسِخِ نَاسِخًا
وَذَلِكَ أُمُورٌ:
الْأَوَّلُ:
أَنْ يَقْتَضِيَ ذَلِكَ اللَّفْظُ، بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ ما يدل على تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا وَتَأَخَّرَ الْآخَرُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْمُرَادُ بِالتَّقَدُّمِ التَّقَدُّمُ فِي النُّزُولِ، لَا فِي التِّلَاوَةِ، فإن العدة بأربعة شهور وعشر سَابِقَةٌ عَلَى الْعِدَّةِ بِالْحَوْلِ فِي التِّلَاوَةِ، مَعَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ التَّصْرِيحُ فِي اللَّفْظِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} 1، فإن يَقْتَضِي نَسْخَهُ لِثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ، وَمِثْلِ قَوْلِهِ تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} 2.
الثَّانِي:
أَنْ يُعْرَفَ النَّاسِخُ مِنَ الْمَنْسُوخِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنْ يَقُولَ: هَذَا نَاسِخٌ لِهَذَا، أَوْ ما في معنى ذلك، كقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها" 3.
__________
1 جزء من الآية 66 من سورة الأنفال.
2 جزء من الآية 13 من سورة المجادلة؛ وانظر الحاشية 1 في 2/ 58.
3 أخرجه البيهقي بهذا اللفظ من حديث ابن مسعود، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور 4/ 77. ومسلم بلفظ: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"، كتاب الأضاحي 1977. وبنحوه عنده في الجنائز، باب استئذان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه عز وجل في زيارة قبر أمه 977. الحاكم. كتاب الجنائز 1/ 375 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. قال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم. وأخرجه أحمد في مسنده 5/ 350. وابن حبان في صحيحه 3169.(2/84)
الثَّالِثُ:
أَنْ يُعْرَفَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرَجْمِهِ لِمَاعِزٍ وَلَمْ يَجْلِدْهُ1 فَإِنَّهُ يُفِيدُ نَسْخَ قَوْلِهِ: "الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمُهُ بِالْحِجَارَةِ" 2.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْفِعْلَ لَا يَنْسَخُ الْقَوْلَ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِالْفِعْلِ عَلَى تَقَدُّمِ النَّسْخِ لِلْقَوْلِ بِقَوْلٍ آخَرَ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ مَنْسُوخًا بِمِثْلِهِ مِنَ الْقَوْلِ، وَالْفِعْلُ مُبَيِّنٌ لِذَلِكَ.
الرَّابِعُ:
إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا نَاسِخٌ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ، كَنَسْخِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ "شَهْرِ"* رَمَضَانَ، ونسخ الحقوق المعلقة بِالْمَالِ بِالزَّكَاةِ. ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَكَذَا حَدِيثُ "مَنْ غَلَّ صَدَقَتَهُ" فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ" 3، قَالَ: فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقَتْ عَلَى تَرْكِ اسْتِعْمَالِهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى نَسْخهِ. انْتَهَى.
وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَدِلَّةِ بَيَانِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ.
قَالَ الْقَاضِي: يُسْتَدَلُّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَعَهُ خَبَرًا وَقَعَ بِهِ النَّسْخُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الصَّيْرَفِيُّ الْإِجْمَاعَ دَلِيلًا عَلَى تَعَيُّنِ النَّصِّ لِلنَسْخِ، بَلْ جَعَلَهُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ النَّسْخِ وَالْغَلَطِ.
الْخَامِسُ:
نَقْلُ الصَّحَابِيِّ لِتَقَدُّمِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَتَأَخُّرِ الْآخَرِ؛ إِذْ لَا مَدْخَلَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ وَاضِحٌ إِذَا كَانَ الْخَبِرَانِ غَيْرَ مُتَوَاتِرَيْنِ، أَمَّا إِذَا قَالَ فِي الْمُتَوَاتِرِ: إِنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْآحَادِ، فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَجَزَمَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" بِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَنَقَلَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: يُقْبَلُ. وَشَرَطَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ كَوْنَ الرَّاوِي لَهُمَا وَاحِدًا.
السَّادِسُ:
كَوْنُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ شَرْعِيًّا، وَالْآخَرُ مُوَافِقًا لِلْعَادَةِ، فَيَكُونُ الشَّرْعِيُّ نَاسِخًا.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْغَزَالِيُّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِالنَّقْلِ عَنِ الْعَادَةِ، ثُمَّ يَرِدُ نَسْخُهُ وَرَدُّهُ إِلَى مَكَانِهِ.
وَأَمَّا حَدَاثَةُ الصَّحَابِيِّ وَتَأَخُّرُ إِسْلَامِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ دلال النَّسْخِ.
وَإِذَا لَمْ يُعْلَمِ النَّاسِخُ مِنَ الْمَنْسُوخِ، بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَرَجَّحَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ ابْنُ الحاجب الوقف.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 تقديم تخريجه في الصفحة 2/ 73.
2 تقديم تخريجه في الصفحة 2/ 73.
3 أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 2/ 23.(2/85)
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: إِنْ عُلِمَ افْتِرَاقُهُمَا مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَعِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْوُقُوعِ، وَإِنْ جَوَّزَهُ قَوْمٌ، وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ، فَالْوَاجِبُ إِمَّا الْوَقْفُ عَنِ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا، أَوِ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا لم يعلم شيء من ذلك1.
__________
1 انظر البحث مفصلا في المستصفى 1/ 128 وفواتح الرحموت 2/ 96.(2/86)
المقصد الخامس: من مقاصد هذا الكتاب في الْقِيَاسُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ
الْفَصْلُ الأول: في تعريفه
...
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَعْرِيفِهِ
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: تَقْدِيرُ شَيْءٍ عَلَى مِثَالِ شَيْءٍ آخَرَ، وَتَسْوِيَتُهُ بِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمِكْيَالُ مِقْيَاسًا، وَمَا يُقَدَّرُ بِهِ النِّعَالُ مِقْيَاسًا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ لَا يُقَاسُ بِفُلَانٍ، أَيْ: لَا يُسَاوِيهِ.
وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرُ قِسْتُ الشَّيْءَ، إِذَا اعْتَبَرْتُهُ، أَقِيسُهُ قَيْسًا وَقِيَاسًا، ومنه قيس الرأي، وسمي امرؤ الْقَيْسِ1 لِاعْتِبَارِ الْأُمُورِ بِرَأْيهِ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ "الصِّحَاحِ"، وَابْنُ أَبِي الْبَقَاءِ2 فِيهِ لُغَةً بِضَمِّ الْقَافِ، يُقَالُ: قُسْتُه أَقُوسُهُ قَوسًا؛ هُوَ عَلَى اللُّغَةِ الْأُولَى مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَعَلَى اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا، أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا، بِأَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا، مِنْ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ3.
كَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَاخْتَارَهُ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَّا.
وَإِنَّمَا قَالَ: مَعْلُومٌ، لِيَتَنَاوَلَ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَجْرِي فِيهِمَا جَمِيعًا.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِحَمْلِ أَحَدِ الْمَعْلُومَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، إِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا إِعَادَةٌ لِذَلِكَ فَيَكُونُ تَكْرَارًا مِنْ غير فائدة.
__________
1 هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث، وهذا لقبه الذي اشتهر به وقد اختلف في اسمه فقيل: حندج، وقيل: مليكة، وقيل عدي. وهو أشهر شعراء العرب، يماني الأصل ولد نحو سنة ثلاثين ومائة قبل الهجرة، وتوفي سنة ثمانين قبل الهجرة، ويعرف بالملك الضليل لاضطراب أموره طول حياته، وذي القروح لما أصابه من مرض في موته. ا. هـ شرح المعلقات السبع7 الأعلام 2/ 11.
2 هو عبد الله بن الحسين بن أبي البقاء عبد الله، الشيخ الإمام، العلامة، النحوي، العكبري البغدادي، ولد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة هـ، من آثاره "تفسير القرآن، إعراب القرآن، إعراب الشواذ، متشابه القرآن، إعراب الحديث" وكتب غيرها كثير، توفي سنة ست عشرة وستمائة هـ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 22/ 91. شذرات الذهب 5/ 67.
3 وقد ذكر الغزالي هذا التعريف في المستصفى 2/ 228.(2/89)
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ أَيْضًا: بِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ "مُثْبِتٌ"* بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي مَاهِيَّةِ الْقِيَاسِ إِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمٍ مَعْلُومٍ لِمَعْلُومٍ آخَرَ، بِأَمْرٍ جَامِعٍ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ "أَيْضًا"**: بِأَنَّ إِثْبَاتَ لِفَظِ أَوْ فِي الْحَدِّ لِلْإِبْهَامِ، وَهُوَ يُنَافِي التَّعْيِينَ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الْحَدِّ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّهُ مُسَاوَاةُ فَرْعٍ لأصل في علة الحكم، أو زيادته عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ فِي الْحُكْمِ.
وَقَالَ أبو الحسين البصري: هو تَحْصِيلُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ.
وَقِيلَ: إِدْرَاجُ خُصُوصٍ فِي عُمُومٍ.
وَقِيلَ: إِلْحَاقُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ.
وَقِيلَ: إِلْحَاقُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: اسْتِنْبَاطُ الْخَفِيِّ مِنَ الْجَلِيِّ.
وَقِيلَ: حَمْلُ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ بِبَعْضِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ.
وَقِيلَ: "الْجَمْعُ بَيْنَ النَّظِيرَيْنِ"***، وَإِجْرَاءُ حُكْمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَقِيلَ: بَذْلُ الْجُهْدِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ1.
وَقِيلَ: حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِجْرَاءُ حُكْمِهِ عَلَيْهِ2.
وَقِيلَ: حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ، بِضَرْبٍ مِنَ الشَّبَهِ3.
وَعَلَى كُلِّ حَدٍّ مِنْ هَذِهِ الْحُدُودِ اعْتِرَاضَاتٌ يَطُولُ الْكَلَامُ بِذِكْرِهَا.
وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي حَدِّهِ: اسْتِخْرَاجُ مِثْلِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ، لِمَا لَمْ يُذْكَرْ، بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا؛ فَتَأَمَّلْ هَذَا تَجِدْهُ صَوَابًا إِنْ شَاءَ الله.
__________
* في "أ": ثبت.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": حمل الشيء على غيره.
__________
1 أي بذلك المجتهد جهده في استخراج الحق من الكتاب والسنة. ا. هـ فواتح الرحموت2/ 247.
2 وذلك لعلة مشتركة بينهما وهو قول أبي هاشم الجبائي المعتزلي ا. هـ. فواتح الرحموت2/ 247.
3 انظر هذه التعريفات مفصلة في فواتح الرحموت 2/ 247.(2/90)
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَتَعَذَّرُ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ فِي الْقِيَاسِ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ، كَالْحُكْمِ فَإِنَّهُ قَدِيمٌ، وَالْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فَإِنَّهُمَا حَادِثَانِ، وَالْجَامِعِ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ، وَوَافَقَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ "الْإِبْيَارِيُّ"*: الْحَقِيقِيُّ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا يَتَرَكَّبُ مِنَ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا وُضِعَ لَهُ اسْمُ الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِدْلَالُ الْمُجْتَهِدِ، وَفِكْرَةُ الْمُسْتَنْبَطِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ فِي أَصْلِ الشَّيْءِ وَفَرْعِهِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضُوعِ1 الْقِيَاسِ: "فَقَالَ"** الرُّويَانِيُّ: وَمَوْضُوعُهُ طَلَبُ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا، مِنَ الْأُصُولِ الْمَنْصُوصَةِ بِالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ مَعَانِيهَا؛ لِيَلْحَقَ كُلُّ فَرْعٍ بِأَصْلِهِ.
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، مِمَّا هُوَ دون ما ذكرناه.
__________
* في "أ": ابن الأنباري.
** في "أ": قال.
__________
1 موضوع كل علم: ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، كبدن الإنسان لعلم الطب فإنه يبحث فيه عن أحواله من حيث الصحة والمرض. ا. هـ التعريفات 305.(2/91)
الفصل الثاني: في حجية القياس
مدخل
...
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ
اعْلَمْ: أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: كَمَا فِي الأودية، وَالْأَغْذِيَةِ.
وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ الصَّادِرِ منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى "أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ"* أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي "لَمْ"** يرد بها السمع.
__________
* في "أ": أنه.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/91)
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْعَقْلُ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّعَبُّدِ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْعَقْلُ يَقْتَضِي المنع من التعبد به، والأولون قسمان:
القسم الأول:
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ يَقَعْ1.
أَمَّا مَنِ اعْتَرَفَ بِوُقُوعِ التَّعَبُّدِ بِهِ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّمْعَ "دَلَّ"* عَلَيْهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ هَلْ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: الْقَفَّالُ مِنَّا، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ مِنَّا، وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فقد أنكروا ذلك.
والثاني:
أن أبا الحسن الْبَصْرِيَّ زَعَمَ أَنَّ دَلَالَةَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ عَلَيْهِ ظَنِّيَّةٌ، وَالْبَاقُونَ قَالُوا: قَطْعِيَّةٌ.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّ الْقَاسَانِيَّ وَالنَّهْرَوَانِيَّ2 ذَهَبَا إِلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي صُورَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً بِصَرِيحِ اللَّفْظِ، أو يإيمائه3.
وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: كَقِيَاسِ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَقَدْ قَالُوا بِسَائِرِ الْأَقْيِسَةِ.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ التَّعَبُّدَ لَمْ يَقَعْ بِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ يُوجَدْ فِي السَّمْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ التَّعَبُّدِ بِهِ، فَوَجَبَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِذَلِكَ، بَلْ تَمَسَّكَ فِي نَفْيِهِ بالكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، وإجماع العترة.
__________
* في "أ":دال.
__________
1 قال الغزالي في المستصفى 2/ 234: وقد قالت الشيعة وبعض المعتزلة: يستحيل التعبد بالقياس عقلا، وقال قوم في مقابلتهم: يجب التعبد به عقلا، وقال قوم: لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب ولكنه في فطنه الجواز، ثم اختلفوا في وقوعه: فأنكر أهل الظاهر وقوعه، بل ادعوا حظر الشرع له، والذي ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم وجماهير الفقهاء والمتكلمين بعدهم رحمهم الله وقوع التعبد به شرعا. ا. هـ.
2 لم نستطع تحديد من المراد بالنهرواني وذلك لأن كتب التراجم أوردت كثيرًا من المسمين بالنهرواني، وكتب الأصول لم تذكر النهرواني باسمه الصريح، وليس هو المعافى بن زكريا كما ذكره بعض المحققين لأنه كان جريري المذهب ولم يكن داوديا، والذي يعرف بأنه من نفاة القياس كان داوديا.
وقد ذكر الدكتور محمد حسن هيتو نحوا من هذا الكلام أيضًا بعد أن عجز عن تحديد المراد بالنهرواني في تعليقه على التبصرة للشيرازي 436.
3 وذلك كقوله: حرمت الخمر لشدتها، وقوله: فإنها من الطوافين عليكم والطوافات. ا. هـ المستصفى 2/ 274.(2/92)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي:
وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ التَّعَبُّدِ بِهِ، فَهُمْ فَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا:
خَصَّصَ ذَلِكَ الْمَنْعَ بِشَرْعِنَا، وَقَالَ: لِأَنَّ مَبْنَى شَرْعِنَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّظَّامِ.
وَالْفَرِيقُ الثَّانِي:
الَّذِينَ قَالُوا: يَمْتَنِعُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ. انْتَهَى.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: الْمُثْبِتُونَ لِلْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالشَّرْعِيَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَالثَّانِي: ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، دُونَ الشَّرْعِيَّاتِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ.
وَالثَّالِثُ: نَفْيُهُ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، وَثُبُوتُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ، وَلَا إِجْمَاعٌ، وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ.
وَالرَّابِعُ: نَفْيُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ والشَّرْعِيَّاتِ.
وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ الْأَصْفَهَانِيُّ. انْتَهَى.
وَالْمُثْبِتُونَ لَهُ اخْتَلَفُوا أَيْضًا.
قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ دَلِيلٌ بِالشَّرْعِ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هُوَ دَلِيلٌ بِالْعَقْلِ، وَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَرَدَتْ مُؤَكِّدَةً لَهُ.
وَقَالَ الدَّقَّاقُ: يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي "الرَّوْضَةِ"1، وَجَعَلَهُ مَذْهَبَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنِ الْقِيَاسِ. قَالَ: وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَالنَّظَّامِ إِلَى امْتِنَاعِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَإِلَيْهِ مَيْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لِقَوْلِهِ: يَجْتَنِبُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ الْمُجْمَلَ وَالْقِيَاسَ.
وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْقِيَاسُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ أيضًا اختلافًا آخر، وهو: هل دَلَالَةُ السَّمْعِ عَلَيْهِ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ؟ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى الْأَوَّلِ، وَذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَالْآمِدِيُّ إلى الثاني.
__________
1 هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، موفق الدين، الإمام القدوة، العلامة المجتهد، شيخ الإسلام، أبو محمد، ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة هـ وتوفي سنة عشرين وستمائة هـ، من آثاره "المغني، الكافي، المقنع، العمدة" وغيرها كثير، وله كتاب "روضة الناظر" في أصول الفقه، وهو مطبوع.
انظر: سير أعلام النبلاء 22/ 165 شذرات الذهب 5/ 88، الأعلام 4/ 67.(2/93)
وأما المنكرون للقياس، فأول من باح بإنكاره النَّظَّامُ، وَتَابَعَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، كَجَعْفَرِ بْنِ حرب1، وجعفر بن مبشر2، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْإِسْكَافِيِّ3، وَتَابَعَهُمْ عَلَى نَفْيِهِ فِي "الْأَحْكَامِ" دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ.
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغْدَادِيُّ4 فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ "جَامِعِ الْعِلْمِ" أَيْضًا: لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ فِي التَّوْحِيدِ، وَإِثْبَاتِهِ فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا دَاوُدَ، فَإِنَّهُ نَفَاهُ فِيهِمَا جَمِيعًا.
قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ فِي التَّوْحِيدِ، وَنَفَاهُ فِي الْأَحْكَامِ.
وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ عن داود، والنهرواني، وَالْمَغْرِبِيِّ5، وَالْقَاسَانِيِّ: أَنَّ الْقِيَاسَ مُحَرَّمٌ بِالشَّرْعِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَأَمَّا دَاوُدُ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَا حَادِثَةَ إِلَّا وَفِيهَا حُكْمٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، أَوِ السُّنَّةِ، أَوْ مَعْدُولٌ عَنْهُ بِفَحْوَى النَّصِّ وَدَلِيلِهِ، وَذَلِكَ يُغني عَنِ الْقِيَاسِ.
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: ذَهَبَ دَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ فِي دِينِ اللَّهِ بَاطِلٌ، وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي "الْأَحْكَامِ": ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ جُمْلَةً، وَهُوَ قَوْلُنَا الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ به، والقول بالعلل باطل. انتهى.
__________
1 أبو الفضل، الهمذاني، المعتزلي، كان من نساك القوم، له تصانيف من آثاره" متشابه القرآن، الاستقصاء، الرد على أصحاب الطبائع، الأصول"، توفي سنة ست وثلاثين ومائتين هـ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 10/ 549 الأعلام 2/ 123 الأعلام 4/ 67.
2 في الأصول: جعفر بن حبشة، والتصحيح من البحر المحيط: 5/ 17، وأحكام الآمدي: 3/ 9. وهو أبو محمد جعفر بن مبشر بن أحمد الثقفي. أحد مصنفي المعتزلة، له آراء انفرد بها، وكان موصوفا بالديانة. انظر: تاريخ بغداد: 7/ 162، وميزان الاعتدال: 1/ 144. الأعلام: 2/ 126.
3 وهو العلامة أبو جعفر، السمرقندي ثم الإسكافي، المتكلم، كان أعجوبة في الذكاء، وسعة المعرفة، من آثاره: "نقض كتاب حسين النجار، تفضيل علي، الرد على من أنكر خلق القرآن"، توفي سنة أربعين ومائتين هـ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 10/ 550 الأعلام 6/ 227.
4 هو عبيد الله بن عمر بن أحمد الشافعي البغدادي، أبو القاسم، فقيه، أصولي، مقرئ فرضين تفقه على أبي سعيد الإصطخري، توفي سنة خمس وستين وثلاثمائة هـ، وله تآليف كثيرة في الفقه والقراءات والفرائض. ا. هـ معجم المؤلفين 6/ 242، والبحر المحيط 5/ 17.
5 هو أبو عبد الله محمد بن عيسى البريلي الأصل المعروف بالمغربي، توفي سنة أربعمائة هـ، صنف وقوف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القرآن. ا. هـ هدية العارفين 2/ 58، معجم المؤلفين 11/ 103.
وقال الدكتور محمد حسن هيتو في تحقيقه لكتاب التبصرة للشيرازي عند ذكر المغربي: هو أبو عبد الله المغربي، وقد نقل عنه الغزالي في المنخول في مكانين "ص90-94". التبصرة 419.(2/94)
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ دَاوُدَ الظَّاهِرِيَّ وَأَتْبَاعَهُ لَا يَقُولُونَ بِالْقِيَاسِ، وَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً.
وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْغَزَالِيُّ عَنِ الْقَاسَانِيِّ، والنَّهْرَوَانِيِّ الْقَوْلَ بِهِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مِنَ الْقِيَاسِ بِأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ، وَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، فَالْقِيَامُ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ يَكْفِيهِمْ، وَإِيرَادُ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهَا، وَقَدْ جَاءُوا بِأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ لَا تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ، فَلَا نُطَوِّلُ الْبَحْثَ بِذِكْرِهَا.
وَجَاءُوا بِأَدِلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ1، فَقَالُوا: دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ التَّعَبُّدِ بالقياس الشرعي الكتاب، والسنة، والإجماع.
__________
1 أي المثبتون للقياس المتعبدون به.(2/95)
الأدلة من القرآن الكريم
...
الأدلة من القرن الكريم:
أما الكتاب، فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 1.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُبُورِ، وَهُوَ "الْمُرُورُ"*، يُقَالُ: عَبَرْتُ عَلَى النَّهْرِ، "وَعَبَرْتُ النَّهْرَ"**، وَالْمَعْبَرُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُعْبَرُ عَلَيْهِ، والمِعْبَر: السَّفِينَةُ الَّتِي يُعْبَرُ فِيهَا، كَأَنَّهَا أَدَاةُ الْعُبُورِ، والعَبْرَة: الدَّمْعَةُ الَّتِي عَبَرَتْ مِنَ الْجَفْنِ، وَعَبَرَ الرُّؤْيَا: جَاوَزَهَا إِلَى مَا يُلَازِمُهَا. قَالُوا: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ حَقِيقَةٌ فِي الْمُجَاوَزَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهَا دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَالْقِيَاسُ عُبُورٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ إِلَى حُكْمِ الْفَرْعِ، فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْأَمْرِ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ هُوَ الْمُجَاوَزَةُ فَقَطْ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاتِّعَاظِ لِوُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ يَسْتَعْمِلُ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ: إِنَّهُ مُعْتَبَرٌ.
الثَّانِي:
أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ إِذَا لَمْ يَتَفَكَّرْ فِي أَمْرِ مَعَادِهِ يُقَالُ: إِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، أَوْ قَلِيلُ الِاعْتِبَارِ.
الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} 2، {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} 3، والمراد الاتعاظ.
__________
* في "أ": المجاوزة.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 3 من سورة الحشر.
2 جزء من الآيتين في سورة آل عمران 13 وفي سورة النور 44.
3 جزء من الآيتين في سورة النحل 66 وفي سورة المؤمنون 21.(2/95)
الرَّابِعُ:
يُقَالُ: السَّعِيدُ مَنِ اعْتَبَرَ بِغَيْرِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ، فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ حَقِيقَةٌ فِي الِاتِّعَاظِ، لَا فِي الْمُجَاوَزَةِ، فَحَصَلَ التَّعَارُضُ بَيْنَ مَا قُلْتُمْ وَمَا قُلْنَا، فَعَلَيْكُمْ بِالتَّرْجِيحِ، ثُمَّ التَّرْجِيحُ مَعَنَا، فَإِنَّ الْفَهْمَ أَسْبَقُ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
سَلَّمْنَا أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ حَقِيقَةٌ، لَكِنَّ شَرْطَ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَا يمنع، "وقد وجد ههنا مَانِعٌ"* فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} 1 فَقِيسُوا الذَّرَّةَ عَلَى الْبِرِّ كَانَ ذَلِكَ رَكِيكًا، لَا يَلِيقُ بِالشَّرْعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّهُ وَجَدَ مَا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ على حقيقته.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمُجَاوَزَةِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُجَاوَزَةِ أَمْرٌ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ.
بَيَانُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِدَلِيلٍ عَلَى مَدْلُولِهِ، فَقَدْ عَبَرَ مِنَ الدَّلِيلِ إِلَى الْمَدْلُولِ، فَسَمِيُّ الِاعْتِبَارِ مُشْتَرِكٌ فِيهِ بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ، وَبِالنَّصِّ، وَبِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَبِالْقِيَاسِ مِنَ الشَّرْعِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ يُخَالِفُهُ الْآخَرُ بِخُصُوصِيَّتِهِ، وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى مَا بِهِ الِامْتِيَازُ، لَا بِلَفْظِهِ، وَلَا بِمَعْنَاهُ، فَلَا يَكُونُ دَالًّا على النوع، الذي ليس إلا عبارة عن مَجْمُوعِ جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ "وَجْهُهُ الِامْتِيَازُ، فَلَفْظُ الِاعْتِبَارِ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، لَا بِلَفْظِهِ وَلَا بِمَعْنَاهُ"**.
قَالَ: وَأَيْضًا فَنَحْنُ نُوجِبُ اعْتِبَارَاتٍ أُخَرَ:
الْأَوَّلُ:
إِذَا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى عِلَّةِ الحكم، فههنا الْقِيَاسُ عِنْدَنَا وَاجِبٌ.
وَالثَّانِي:
قِيَاسُ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ على تحريم التأفيف2.
والثالث:
الأقيسة في أمور الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهَا عِنْدَنَا وَاجِبٌ.
وَالرَّابِعُ:
أَنْ يُشَبِّهَ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ، فِي أَنْ لَا نَسْتَفِيدَ حُكْمَهُ إِلَّا مِنَ النَّصِّ.
وَالْخَامِسُ:
الِاتِّعَاظُ وَالِانْزِجَارُ، بِالْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ.
فَثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْآتِيَ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ مَا يُسَمَّى اعْتِبَارًا؛ يَكُونُ خَارِجًا عَنْ عُهْدَةِ هَذَا الْأَمْرِ، وَثَبَتَ أن بيانه في صورة كَثِيرَةٍ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ دَلَالَةٌ أَلْبَتَّةَ عَلَى الأمر بالقياس الشرعي.
__________
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
** ما بين القوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 2 من سورة الحشر.
2 أي تحريم ضرب الوالدين على تحريم التأفيف الوارد في قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ... } الآية.(2/96)
ثُمَّ "قَالَ"*: جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْمُجَاوَزَةِ أَوْلَى لوجهين:
الأول:
أنه يقال: فلان "اعتبر فاتعظ"** فيجعلون الاتعاظ معلول الاعتبار، وذلك بوجب التَّغَايُرَ.
الثَّانِي:
أَنَّ مَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ حَاصِلٌ فِي الِاتِّعَاظِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَسْتَدِلَّ بِشَيْءٍ آخَرَ عَلَى حَالِ نَفْسِهِ؛ لَا يَكُونُ مُتَّعِظًا، ثُمَّ أَطَالَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
وَيُجَابُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: بِالْمُعَارَضَةِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: فُلَانٌ قَاسَ هَذَا عَلَى هَذَا، فَاعْتَبَرَ، وَالْجَوَابُ الْجَوَابُ.
وَيُجَابُ عَنِ الثَّانِي: بِمَنْعِ وُجُودِ مَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ فِي الِاتِّعَاظِ، فَإِنَّ مَنْ نَظَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَاتَّعَظَ بِهِ؛ لَا يُقَالُ فِيهِ: "إِنَّهُ"*** مُتَّصِفٌ بِالْمُجَاوَزَةِ، لَا لُغَةً، وَلَا شَرْعًا، وَلَا عَقْلًا.
وَأَيْضًا يُمْنَعُ وجود المجاوزة في القياس الشرعي، وليس في اللغة مَا يُفِيدُ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مَأْمُورًا بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِكَوْنِهِ فِيهِ معنى الاعتبار، لكان كل اعتبار، أو عبورا مأمورا به، واللازم باطل، فالملزوم مِثْلُهُ.
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَشَرِّعِينَ، وَلَا مِنَ الْعُقَلَاءِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُرَ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ، أَوْ يُجْرِي دَمْعَ عَيْنِهِ، أَوْ يَعْبُرَ رُؤْيَا الرَّائِي، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ أَدْخَلُ فِي مَعْنَى الْعُبُورِ وَالِاعْتِبَارِ مِنَ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، لَا بِمُطَابَقَةٍ، وَلَا تَضَمُّنٍ، وَلَا الْتِزَامٍ، وَمَنْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ شَغَلَ الْحَيِّزَ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ فِي "الرِّسَالَةِ" عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم} 1.
قَالَ: فَهَذَا تَمْثِيلُ الشَّيْءِ بِعِدْلِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2.
وَأَوْجَبَ الْمِثْلَ، وَلَمْ يَقُلْ أَيَّ مِثْلٍ، فَوَكَلَ ذلك إلى اجتهادنا ورأينا.
__________
* في "أ": قلنا.
** في "ب": اتعظ فاعتبر. وما أثبتناه يوافق ما في المحصول.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 95 من سورة المائدة.
2 جزء من الآية 95 من سورة المائدة.(2/97)
وَأَمَرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَقَالَ: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 1.انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ غَايَةَ مَا فِي آيَةِ الْجَزَاءِ هُوَ الْمَجِيءُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الصَّيْدِ، وَكَوْنُهُ مَثَلًا لَهُ مَوْكُولٌ إِلَى الْعَدْلَيْنِ، وَمُفَوَّضٌ إِلَى اجْتِهَادِهِمَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ إِلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِيجَابُ تَحَرِّي الصَّوَابِ فِي أَمْرِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْقِيَاسِ فِي شَيْءٍ.
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ سُرَيْجٍ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 2 "فَأُولُو الْأَمْرِ"* هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْقِيَاسُ.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الدَّلِيلِ عَنِ الْمَدْلُولِ، بِالنَّظَرِ فِيمَا يُفِيدُهُ مِنَ الْعُمُومِ أَوِ الْخُصُوصِ، أَوِ الْإِطْلَاقِ أَوِ التَّقْيِيدِ، أَوِ الْإِجْمَالِ أَوِ التَّبْيِينِ فِي نَفْسِ النُّصُوصِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ طَرِيقًا إِلَى اسْتِخْرَاجِ الدَّلِيلِ مِنْهُ.
وَلَوْ سَلَّمْنَا انْدِرَاجَ الْقِيَاسِ تَحْتَ مُسَمَّى الِاسْتِنْبَاطِ، لَكَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا "بِمِثْلِ الْقِيَاسِ"** الْمَنْصُوصِ عَلَى عِلَّتِهِ، وَقِيَاسِ الْفَحْوَى وَنَحْوِهِ، لَا بِمَا كَانَ مُلْحَقًا بِمَسْلَكٍ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، الَّتِي هِيَ مَحْضُ رَأْيٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ مِنَ الشَّرْعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الشَّرْعِ بِمَا أَذِنَ اللَّهُ بِهِ، بَلْ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ بِمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ.
وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} 3 الْآيَةَ. قَالَ: لِأَنَّ الْقِيَاسَ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، فَمَا جَازَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فَهُوَ مِمَّنْ لَا يَخْلُو مِنَ الجهالة والنقص أجوز.
و"يجاب عَنْهُ بِمَنْعِ كَوْنِ هَذَا مِنَ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدَّلَالَةِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَجَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ: إِنَّمَا جَازَ"*** ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ صَحِيحٌ، فَلَا يَجُوزُ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا يَخْلُو مِنَ الْجَهَالَةِ وَالنَّقْصِ؛ لِأَنَّا لَا نَقْطَعُ بِصِحَّتِهِ، بَلْ وَلَا نَظُنُّ ذَلِكَ، لما في فاعله من الجهالة والنقص.
__________
* في "أ": قالوا: أولو الأمر هم العلماء.
** في "أ": بالقياس.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الأية 150 من سورة البقرة.
2 جزء من الأية 83 من سورة النساء.
3 جزء من الأية 26 من سورة البقرة.(2/98)
وَاسْتَدَلَّ غَيْرُهُ "أَيْضًا"* بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} 1.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِمَنْعِ كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ، لَا بِمُطَابَقَةٍ، وَلَا تَضَمُّنٍ، وَلَا التزام، وغاية ما فيها الاستدلال بالأثر السابق على الأثر اللَّاحِقِ، وَكَوْنُ الْمُؤَثِّرِ فِيهِمَا وَاحِدًا، وَذَلِكَ غَيْرُ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، الَّذِي هُوَ إِدْرَاجُ فَرْعٍ تَحْتَ أَصْلٍ لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا.
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} 2. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ التَّسْوِيَةُ، وَالْقِيَاسُ هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مِثْلَيْنِ فِي الْحُكْمِ، فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ الْآيَةِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِمَنْعِ كَوْنِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَكَانَ ذَلِكَ فِي الْأَقْيِسَةِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ الْفَارِقِ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَا تَسْوِيَةَ إِلَّا فِي الْأُمُورِ الْمُتَوَازِنَةِ، وَلَا تَوَازُنَ إِلَّا عِنْدَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، لَا فِي الْأَقْيِسَةِ الَّتِي هِيَ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الرَّأْيِ، وَنَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّنُونِ الزَّائِفَةِ، وَخَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الخيالات المختلفة.
__________
*ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 الآيتان 78-79 من سورة يس.
2 جزء من الآية90 من سورة النحل.(2/99)
أدلة الْقِيَاسِ مِنَ السُّنَّةِ:
وَإِذَا عَرَفْتَ الْكَلَامَ عَلَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ لِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ، فَاعْلَمْ، أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَدَلُّوا لِإِثْبَاتِهِ مِنَ السنة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه أحمد، أبو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو1 -ابْنِ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- قَالَ: حَدَّثَنَا نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: "كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ " قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ " قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ " قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو. قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ، وَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهُ الَّذِي وَفَّقَ رسولَ رسولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ" 2.
وَالْكَلَامُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ يَطُولُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مِمَّا تُلقي بِالْقَبُولِ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ: أن اجْتِهَادَ الرَّأْيِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِفْرَاغِ الْجُهْدِ في الطلب للحكم من النصوص الخفية.
__________
1 هو ابن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي، روى عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ عن معاذ في الاجتهاد، توفي ما بين المائة إلى مائة وعشر هـ. ا. هـ تهذيب التهذيب 2/ 152.
2 تقدم تخريجه في 1/ 152.(2/99)
ورد: بأنه قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، بَعْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الْخَفِيَّةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الرَّدِّ: بِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مَفْهُومٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الرَّأْيِ عَلَى مَا عَدَا الْقِيَاسَ فَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِهِ، وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ كَمَا يَكُونُ بِاسْتِخْرَاجِ الدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ والسنة يكون بِالتَّمَسُّكِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، أَوْ بِأَصَالَةِ الْإِبَاحَةِ فِي الْأَشْيَاءِ، أَوِ الْحَظْرِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ، أَوِ التَّمَسُّكِ بِالْمَصَالِحِ، أَوِ التَّمَسُّكِ بِالِاحْتِيَاطِ.
وَعَلَى تَسْلِيمِ دُخُولِ الْقِيَاسِ فِي اجْتِهَادِ الرَّأْيِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ كُلَّ قِيَاسٍ، بَلِ الْمُرَادُ الْقِيَاسَاتُ الَّتِي يَسُوغُ الْعَمَلُ بِهَا، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهَا، كَالْقِيَاسِ الَّذِي عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ، وَالْقِيَاسِ الَّذِي قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْأَخْذِ بِتِلْكَ الْقِيَاسَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْمَسَالِكِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا إِلَّا مُجَرَّدُ الْخَيَالَاتِ الْمُخْتَلَّةِ، وَالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ.
وَأَيْضًا فَعَلَى التَّسْلِيمِ لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ إِلَّا عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي أَيَّامِ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ؛ إِذْ ذَاكَ لَمْ تَكْمُلْ، فَيُمْكِنُ عَدَمُ وِجْدَانِ الدَّلِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا بَعْدَ أَيَّامِ النُّبُوَّةِ فَقَدْ كَمُلَ الشَّرْعُ، لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1؛ وَلَا مَعْنَى لِلْإِكْمَالِ إِلَّا وَفَاءُ النُّصُوصِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّرْعِ، إِمَّا بِالنَّصِّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، أَوْ بِانْدِرَاجِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ الشَّامِلَةِ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2، وَقَوْلُهُ: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 3.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الْقِيَاسَاتِ، كَقَوْلِهِ: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يقضى" 4
__________
1 جزء من الآية 3 من سورة المائدة.
2 جزء من الآية 38 من سورة الأنعام.
3 جزء من الآية 59 من سورة الأنعام.
4 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس في الحج باب وجوب الحج وفضله1513. ومسلم في الحجم باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت 1334وأبو داود في المناسك، باب الرجل يحج عن غيره 1809. ومالك في الموطأ في الحج باب الحج عمن يحج عنه "1/ 359، والبيهقي في سننه في الحج "4/ 328"، وهذا كله من غير زيادة "فدين الله أحق أن يقضى ". ولكن البخاري ذكرها في صحيحه حديث ابن عباس: أنه جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: "نَعَمْ"، قَالَ: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى" في كتاب الصوم باب من مات وعليه صوم برقم 1953.(2/100)
وَقَوْلِهِ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ، فَقَالَ: أَيَقْضِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ، وَيُؤْجَرُ عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي حرام، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ، كَانَ لَهُ أَجْرٌ" 1.
وَقَالَ لِمَنْ أَنْكَرَ وَلَدَهُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ أَسْوَدَ: "هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَمَا أَلْوَانُهَا؟ " قَالَ: حَمُرٌ، قَالَ: "فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَمِنْ أَيْنَ؟ " قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: "وَهَذَا لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ" 2.
وَقَالَ لِعُمَرَ، وَقَدْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ، وَهُوَ صَائِمٌ: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ" 3.
وَقَالَ: "يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" 4.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَاسَاتٌ كَثِيرَةٌ، حَتَّى صَنَّفَ النَّاصِحُ الْحَنْبَلِيُّ5 جزءا في أقيسته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويجاب عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْيِسَةَ صَادِرَةٌ عَنِ الشَّارِعِ الْمَعْصُومِ، الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا جَاءَنَا بِهِ عَنْهُ: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 6. وَيَقُولُ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 7، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ الذي كلامنا فيه إنما هو قياس من لم تثبت لَهُ الْعِصْمَةُ، وَلَا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَلَا كَانَ كَلَامُهُ وَحْيًا، بَلْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ.
الْأَمَّارَةِ، وَبِعَقْلِهِ الْمَغْلُوبِ بِالْخَطَإِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ بِالْقِيَاسَاتِ الصَّادِرَةِ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده 5/ 167 وأبو داود في الأدب باب إماطة الأذى عن الطريق 5243.
2 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة كتاب الطلاق باب إذا عرض بنفي الولد 5305. ومسلم، كتاب اللعان 1500. أبو داود، كتاب الطلاق، باب إذا شك في الولد 2260. والترمذي، كتاب الولاء والهبة، باب في الرجل ينتفي من ولده 2128. وابن ماجه، كتاب النكاح، باب الرجل يشك في ولده 2002. والنسائي، كتاب الطلاق، باب إذا عرض بامرأته وشك في ولده وأراد الانتفاء منه 6/ 178. وابن حبان في صحيحه 4107. وأحمد في مسنده 2/ 239.
3 تقدم تخريجه في الصفحة 2/ 25.
4 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض 2646. ومسلم، كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة 1444. وأبو داود، من حديث عائشة رضي الله عنها كتاب النكاح، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب 2055.
والنسائي، كتاب النكاح، باب ما يحرم من الرضاع 6/ 98. والترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ 1147. ومالك في الموطأ، كتاب الرضاع، باب رضاعة الصغير 2/ 601. وابن حبان في صحيحه 4223. وأحمد في مسنده 6/ 44.
5 هو عبد الرحمن بن نجم الدين عبد الوهاب الحنبلي، الدمشقي، الواعظ، ولد سنة أربع وخمسين وخمسمائة هـ، وتوفي سنة أربع وثلاثين وستمائة هـ، من آثاره: "أسباب الحديث، الاستسعاد بمن لقيت من صالحي العباد في البلاد، الإنجاد في الجهاد" وله كتاب "أقيسة النبي المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وهو مخطوط في الأزهر ا. هـ سير أعلام النبلاء 19/ 54 الأعلام 3/ 340.
6 سورة النجم 4.
7 جزء من الآية 7 من سورة الحشر.(2/101)
الأدلة من الإجماع:
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقِيَاسِ1.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ: وَقَدْ بَلَغَ التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ عَنِ الصَّحَابَةِ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَهُوَ قَطْعِيٌّ.
وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ لِجَمَاهِيرِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": مسلك الإجماع هو الذي عول عليه جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: عِنْدِي أَنَّ الْمُعْتَمَدَ اشْتِهَارُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، شَرْقًا وَغَرْبًا، قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ إِلَّا عِنْدَ شُذُوذٍ مُتَأَخِّرِينَ.
قَالَ: وَهَذَا "مِنْ"* أَقْوَى الْأَدِلَّةِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِمَنْعِ ثُبُوتِ هَذَا الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِذَلِكَ إِنَّمَا جَاءُونَا بِرِوَايَاتٍ عَنْ أَفْرَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَحْصُورِينَ، فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ إِجْمَاعًا لِجَمِيعِهِمْ، مَعَ تَفَرُّقِهِمْ فِي الْأَقْطَارِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَرَدِّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ لِمَا قَالَهُ الْبَعْضُ، كَمَا ذَلِكَ معروف؟!
بيانه أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْجِدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ عَلَى أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ2، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ "مَا سَلَكَهُ مِنَ الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْحَرَامِ3 عَلَى أَقْوَالٍ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ على بعض"**.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 مثال ذلك: ما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كتب في كتاب إلى أبي موسى الأشعري "اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك" ا. هـ انظر البحث مفصلا في ميزان الأصول 2/ 806.
2 اختلف الصحابة ومن بعدهم في توريث الجد مع الأخوة.
أ- فقال أبو بكر، وابن عباس، وابن عمر، ابن الزبير، وحذيفة بن اليمان، وأبو سعيد الخد ري ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري، وعائشة وغيرهم: بنو الأعيان وبنو العلات أي: الإخوة الأشقاء والإخوة لأب لا يرثون مع الجد بل يستبد هو بجميع المال.
ب- وقال علي وابن مسعود، وزيد بن ثابت: يرثون مع الجد؛ وهو قول الشافعي ومالك والصاحبين من الحنفية.
وقال أبو حنيفة، وشريح، وعطاء، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وابن سيرين بعدم التوريث.
ج- أما الإخوة لأم فيسقطون مع الجد إجماعا. ا. هـ شرح السراجية 165.
3 وهي قوله لزوجته "أنت على حرام" فوقع الخلاف فيها على أقوال:
فقال أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة: لو نوى الطلاق، فهو طلاق ولو نوى اليمين فهو يمين. وعن ابن عمر قريبا منه.
وقال زيد رضي الله عنه: يمين يكفرها.
والشافعي يقول: تحريم الحلال لا يكون يمينا ولكن تجب الكفارة في الزوجة والأمة. ا. هـ المبسوط للسرخسي 6/ 70.(2/102)
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ، وَأُمٍّ، وَإِخْوَةٍ لِأُمٍّ، وَإِخْوَةٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ1.
وَهَكَذَا وَقَعَ الْإِنْكَارُ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالرَّأْيِ مِنْهُمْ، وَالْقِيَاسُ إِنْ كَانَ مِنْهُ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَقَدْ أَنْكَرَهُ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَلَوْ سَلَّمْنَا لَكَانَ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقِيَاسَاتِ الَّتِي وَقَعَ النَّصُّ عَلَى عِلَّتِهَا، وَالَّتِي قُطِعَ فِيهَا بِنَفْيِ الْفَارِقِ. فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، الَّذِي اعْتَبَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وأثبتوه بِمَسَالِكَ تَنْقَطِعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْإِبِلِ، وَتُسَافِرُ فِيهَا الْأَذْهَانُ، حَتَّى تَبْلُغَ إِلَى مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَتَتَغَلْغَلَ فِيهَا الْعُقُولُ، حَتَّى تَأْتِيَ بِمَا لَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ2، وَلَا مِنَ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ، فِي قَبِيلٍ وَلَا دَبِيرٍ3.
وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا" 4.
وَجَاءَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ إِكْمَالِ الدِّينِ، وَبِمَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُصَحِّحُ دَلَالَتَهُ وَيُؤَيِّدُ بَرَاهِينَهُ.
وَإِذَا عَرَفْتَ مَا حَرَّرْنَاهُ وَتَقَرَّرَ لَدَيْكَ جَمِيعُ مَا قَرَّرْنَاهُ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَأْخُوذَ بِهِ هُوَ مَا وَقَعَ النَّصُّ عَلَى عِلَّتِهِ، وَمَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَمَا كَانَ مِنْ بَابِ فَحْوَى الْخِطَابِ، أَوْ لَحْنِ الْخِطَابِ، عَلَى اصْطِلَاحِ مَنْ يُسَمِّي ذَلِكَ قِيَاسًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ مِنْ مَفْهُومِ الموافقة.
__________
1 وقع الخلاف في الخلع هل هو فسخ أو طلاق.
قال الحنفية: هو تطليقه بائنة. وهو قول عامة الصحابة رضي الله عنهم.
قال الشافعي: هو فسخ. وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. ا. هـ المبسوط للسرخسي 6/ 171.
2 الصدر "ضد الورد" وهو الانصراف ا. هـ المصباح مادة صدر.
3 يقال: ما يعرف قبيلة من دبيره، وفلان ما يدري قبيلا من دبير أي لا يعرف شيئا. ا. هـ لسان العرب مادة دبر.
4 أخرجه ابن ماجه من حديث العرباض بن سارية بلفظ: "وقد تركتم على البيضاء ليلها كنهارها". في المقدمة 43. وأحمد في مسنده 4/ 126. والدارمي في سننه 96. والترمذي برقم 2776.(2/103)
ثُمَّ اعْلَمْ: أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ لَمْ يَقُولُوا بِإِهْدَارِ كُلِّ مَا يُسَمَّى قِيَاسًا، وَإِنْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَى عِلَّتِهِ، أَوْ مَقْطُوعًا فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، بَلْ جَعَلُوا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْقِيَاسِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْأَصْلِ، مَشْمُولًا بِهِ، مُنْدَرِجًا تَحْتَهُ، وَبِهَذَا يَهُونُ عَلَيْكَ الْخَطْبُ وَيَصْغُرُ عِنْدَكَ مَا اسْتَعْظَمُوهُ، وَيَقْرُبُ لَدَيْكَ مَا بَعَّدُوهُ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذَا النَّوْعِ الْخَاصِّ صَارَ لَفْظِيًّا، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَى الْأَخْذِ بِهِ، وَالْعَمَلِ عَلَيْهِ، وَاخْتِلَافُ طَرِيقَةِ الْعَمَلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاخْتِلَافَ الْمَعْنَوِيَّ، لَا عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا، ولا عرفا، وقد قدمنا لك أنما جَاءُوا بِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا تَسْتَحِقُّ تَطْوِيلَ ذُيُولِ الْبَحْثِ بِذِكْرِهَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ أَنْهَضَ مَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِالْأَحْكَامِ، فَإِنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ، وَالْحَوَادِثُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ إِخْبَارِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ لَهَا دِينَهَا، وَبِمَا أَخْبَرَهَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَنَّهُ قَدْ تَرَكَهَا عَلَى الْوَاضِحَةِ الَّتِي لِيَلُهَا كَنَهَارِهَا.
ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ صَحِيحٍ، وَفَهْمٍ صَالِحٍ أَنَّ فِي عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمُطْلَقَاتِهِمَا، وَخُصُوصِ نُصُوصِهِمَا مَا يَفِي بِكُلِّ حَادِثَةٍ تَحْدُثُ، وَيَقُومُ بِبَيَانِ كُلِّ نَازِلَةٍ تَنْزِلُ، عَرَفَ ذَلِكَ مَنْ عَرَفَهُ، وَجَهِلَهُ من جهله.(2/104)
الفصل الثالث: في أركان القياس
مدخل
...
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي أَرْكَانِ الْقِيَاسِ
وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْأَصْلُ، وَالْفَرْعُ، وَالْعِلَّةُ، وَالْحُكْمُ.
وَلَا بُدَّ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَرْكَانِ فِي كُلِّ قِيَاسٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِالْحُكْمِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ إِلَّا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِهِ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ بِغَيْرِ أَصْلٍ، قَالَ: وَهُوَ مِنْ خَلْطِ الِاجْتِهَادِ بِالْقِيَاسِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ من أصل، "لأن الفروع"* لَا تَتَفَرَّعُ إِلَّا عَنْ أُصُولٍ. انْتَهَى.
وَالْأَصْلُ يُطْلَقُ عَلَى أُمُورٍ مِنْهَا: مَا يَقْتَضِي الْعِلْمُ بِهِ الْعِلْمَ بِغَيْرِهِ.
وَمِنْهَا: مَا لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى إِلَّا بِهِ.
وَمِنْهَا: الَّذِي يُعْتَبَرُ به ما سواه.
__________
* في "أ": الفروع.(2/104)
وَمِنْهَا الَّذِي يَقَعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا1.
وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، فَقِيلَ: هُوَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ2، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْمُعْتَزِلَةُ.
وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: هُوَ مَحَلُّ الْحُكْمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الْأَصْلُ هُوَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، بِاعْتِبَارِ تَفَرُّعِ الْعِلَّةِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ ابْنُ بَرْهَانَ: إِنَّ هَذَا النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، يَرْجِعُ إِلَى الِاصْطِلَاحِ، فَلَا مُشَاحَّةَ3 فِيهِ، أَوْ إِلَى اللُّغَةِ "فَهُوَ يَجُوزُ"* إِطْلَاقُهُ عَلَى ما ذكر4، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى الْغَالِبِ، وَتَارَةً عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، كَقَوْلِهِمُ: الْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، وَتَارَةً عَلَى إِرَادَةِ التَّعَبُّدِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، كَقَوْلِهِمْ: خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنْ مَحَلٍّ، وَإِيجَابُ الطَّهَارَةِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: يُطْلَقُ الْأَصْلُ عَلَى مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَعَلَى مَا يُعْرَفُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ "لَمْ"** يُبْنَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، كَقَوْلِنَا: تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ أَصْلٌ. وَهَذَا مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ الْخَمْرُ أَوِ النَّصُّ، أَوِ الْحُكْمُ. قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ أَصْلًا. انْتَهَى.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ: إِنَّ الْفُقَهَاءَ يُسَمُّونَ مَحَلَّ الْوِفَاقِ أَصْلًا، وَمَحَلَّ الْخِلَافِ فَرْعًا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِتَطْوِيلِ الْبَحْثِ فِي هَذَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ.
فَالْأَصْلُ: هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِمَحَلِّ الْحُكْمِ، لَا لِنَفْسِ الْحُكْمِ، وَلَا لِدَلِيلِهِ.
وَالْفَرْعُ: هُوَ الْمُشَبَّهُ، لَا لِحُكْمِهِ.
وَالْعِلَّةُ: هِيَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ.
وَالْحُكْمُ: هُوَ ثَمَرَةُ الْقِيَاسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا ثَبَتَ لِلْفَرْعِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لأصله.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": ولم.
__________
1 ذكر الزركشي هذه الأقسام في كتابه "البحر المحيط" مفصلة فانظرها 5/ 75.
2 مثاله خبر الواحد في تحريم الربا. انظر البحر المحيط 5/ 75.
3 يقال: هما يتشاحان على أمر: إذا يتنازعاه؛ وتشاح الخصمان في الجدل، كذلك لسان العرب: مادة شحَّ.
4 انظر البحر المحيط للزركشي 5/ 76(2/105)
شروط القياس المعتبرة في المقيس عليه
...
الشروط الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْأَصْلِ:
وَلَا يَكُونُ الْقِيَاسُ صَحِيحًا إِلَّا بِشُرُوطٍ اثْنَيْ عَشَرَ، لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهَا فِي الْأَصْلِ.
الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي أُرِيدَ تَعْدِيَتُهُ إِلَى الْفَرْعِ، ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا.(2/105)
فِيهِ بِأَنْ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ حُكْمٌ ابْتِدَاءً، أو شرع ونسخ ولم يمكن بناء الفرع عليه.
الثاني:
أن يكن الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ شَرْعِيًّا، فَلَوْ كَانَ عَقْلِيًّا أَوْ لُغَوِيًّا لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بَحْثَنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ.
وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَثْبُتُ الْقِيَاسُ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ مَا كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ؟
فَمَنْ قَالَ: إِنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، جَوَّزَ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يُجَوِّزِ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ:
أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ سَمْعِيَّةً؛ لِأَنَّ مَا لَمْ تَكُنْ طَرِيقُهُ سَمْعِيَّةً لَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَنْفِي التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ العقلين، لا عند من يثبتها.
الرَّابِعُ:
أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالنَّصِّ، وَهُوَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ. وَهَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ أَوِ الْمُخَالَفَةِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ، وَيَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ حُكْمَهُمَا "حُكْمُ"* النُّطْقِ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْقِيَاسِ "فَيَلْحَقُ"** بِهِ. انْتَهَى1.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهِمَا الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، كَمَا يُثْبِتُهُمَا بِالْمَنْطُوقِ.
وَأَمَّا مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانَ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِي عَدَمُ الْجَوَازِ مَا لَمْ يُعْرَفِ النَّصُّ الَّذِي أَجْمَعُوا لِأَجْلِهِ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ فِي إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ، كَالنَّصِّ، فَإِذَا جَازَ الْقِيَاسُ عَلَى الثَّابِتِ بِالنَّصِّ، جَازَ عَلَى الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ.
الخامس:
أن لا يكون الأصل الْمَقِيسِ عَلَيْهِ فَرْعًا لِأَصْلٍ آخَرَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ فَأَجَازُوهُ.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ؛ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ إِنِ اتَّحَدَتْ كَانَ ذِكْرُ الْأَصْلِ الثَّانِي تَطْوِيلًا بِلَا فَائِدَةٍ، فَيُسْتَغْنَى عَنْهُ بِقِيَاسِ الْفَرْعِ الثَّانِي عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنِ اختلفت لم
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": فيلتحقان.
__________
1 انظر: البحر المحيط، 5/ 83.(2/106)
ينعقد القياس الثاني، لعدم اشْتِرَاكِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ.
وَقَسَّمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنَ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ نَفْسُ الْمَعْنَى، الَّذِي ثَبَتَ بِهِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، قَالَ: وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَعْنًى غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي قِيسَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: الْجَوَازُ.
وَالثَّانِي: وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيُّ: الْمَنْعُ، وَهُوَ الَّذِي يَصِحُّ "عِنْدِي"* الْآنَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِثْبَاتِ حُكْمٍ فِي الْفَرْعِ بِغَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا صَحَّحَهُ فِي "الْقَوَاطِعِ"، وَلَمْ يَذْكُرِ الْغَزَالِيُّ غَيْرَهُ.
السَّادِسُ:
أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلُ حُكْمِ الْأَصْلِ شَامِلًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ، أَمَّا لَوْ كَانَ شَامِلًا لَهُ، خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ فَرْعًا، وَكَانَ الْقِيَاسُ ضَائِعًا، لِخُلُوِّهِ عَنِ الْفَائِدَةِ بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِدَلِيلِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا أَصْلًا وَالْآخَرِ فَرْعًا أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ.
السَّابِعُ:
أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ احْتِيجَ إِلَى إِثْبَاتِهِ أَوَّلًا، وَجَوَّزَ جَمَاعَةٌ الْقِيَاسَ عَلَى الْأَصْلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي نَفْسِهِ لَا يُشْتَرَطُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ فِي جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِهِ، فَسُقُوطُ ذَلِكَ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْلَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْأَصْلِ، فَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَتَّفِقَ عَلَيْهِ الْخَصْمَانِ فَقَطْ، لِيَنْضَبِطَ فَائِدَةُ الْمُنَاظَرَةِ.
وَشَرَطَ آخَرُونَ أَنْ يَتَّفِقَ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَاخْتَارَ فِي "الْمُنْتَهَى" أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِنْ كَانَ مُقَلِّدًا لَمْ يَشْتَرِطِ الْإِجْمَاعَ؛ إِذْ لَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَا ثَبَتَ مَذْهَبًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا اشْتَرَطَ الْإِجْمَاعَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُقْتَدِيًا بِإِمَامٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَلَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَمْنَعَهُ.
الثَّامِنُ:
أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ ذَا قِيَاسٍ مُرَكَّبٍ، وَذَلِكَ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَلَكِنَّهُ مُعَلَّلٌ عِنْدَ أَحَدِهِمَا بِعِلَّةٍ "وَعِنْدَ الْآخَرِ بِعِلَّةٍ"** أُخْرَى يَصْلُحُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، وَهَذَا يُقَالُ لَهُ: مُرَكَّبُ الْأَصْلِ، "وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى عِلَّةِ الْأَصْلِ*** لِاخْتِلَافِهِمْ فِي نَفْسِ
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/107)
الْوَصْفِ، وَلَكِنْ مَنَعَ أَحَدُهُمَا وَجُودَهَا فِي الْفَرْعِ، وَهَذَا يُقَالُ لَهُ مُرَكَّبُ الْوَصْفِ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي نَفْسِ الْوَصْفِ، هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَصْلِ أَمْ لَا؟
وَكَلَامُ الصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ بِالْأَوَّلِ، وَخَالَفَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وغيرهما، فجعلوه متناولا لقسمين، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ، وَالْجُمْهُورُ على اعتباره، وَخَالَفَهُمْ جَمَاعَةٌ، فَلَمْ يَعْتَبِرُوهُ، وَقَدْ طَوَّلَ الْأُصُولِيُّونَ، وَالْجَدَلِيُّونَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
التَّاسِعُ:
أَنْ لَا نَكُونَ مُتَعَبِّدِينَ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالْقَطْعِ، فَانْ تَعَبَّدْنَا فِيهِ بِالْقَطْعِ، لَمْ يَجُزْ فِيهِ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَقَدْ ضَعَّفَ الْإِبْيَارِيُّ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ، وَقَالَ: بَلْ مَا تَعَبَّدْنَا فِيهِ بِالْعِلْمِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِالْقِيَاسِ، الَّذِي يُفِيدُهُ1. وَقَدْ قسم المحققون القياس إلى ما لا يفيد العلم، وإلى ما يُفِيدُهُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي "شَرْحِ الْعُنْوَانِ": لَعَلَّ هَذَا الشَّرْطَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ دَلِيلَ "الْقِيَاسِ ظَنِّيٌّ، فَلَوْ كَانَ قَطْعِيًّا، وَعَلِمْنَا الْعِلَّةَ قَطْعًا، وَوُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ قَطْعًا، فَقَدْ عَلِمْنَا الْحُكْمَ قَطْعًا، وَمَنْ نَظَرَ لِأَنَّ دَلِيلَ"* الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا، وَعَلِمْنَا الْعِلَّةَ وَوُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ قَطْعًا فَنَفْسُ الْإِلْحَاقِ، وَإِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ لِلْفَرْعِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْفَخْرُ الرَّازِيُّ.
الْعَاشِرُ:
أَنْ لَا يَكُونَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ، كَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ2، وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَمَقَادِيرِ الْحُدُودِ، وَمَا يُشَابِهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ إِثْبَاتٌ لِلْحُكْمِ مَعَ مُنَافِيهِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْخَارِجُ عَنِ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الفخر الرازي، والآمدي، وابن الحاجب وغيره. وَأَطْلَقَ ابْنُ بَرْهَانَ أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، جَوَازُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا عُدِلَ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ. وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ فَمَنَعُوهُ، وَكَذَلِكَ منع منه الكرخي إلا بإحدى خلال:
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 ذكر الزركشي في البحر قول الأبياري وقال: بل ما يعتد فيه بالعلم ا. هـ البحر المحيط 5/ 92-93. وانظر المستصفى 2/ 331.
2 أخرجه الترمذي من حديث زيد بن ثابت بلفظ: نسخت الصحف في المصاحف ففقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بها، فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري، الذي جعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهادته شهادة رجلين، وهو قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} . برقم 3104.وأخرجه النسائي في الكبرى "تحفة الأشراف" 2703. والبيهقي من حديث عمارة بن خزيمة بلفظ "من شهد له خزيمة أو شهد عليه فهو حسبه" كتاب الشهادات، باب الأمر بالإشهاد10/ 146. والبخاري من حديث زيد رضي الله عنه، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن 4988.(2/108)
إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ مَا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْأُصُولِ قَدْ نَصَّ عَلَى عِلَّتِهِ.
ثَانِيَتُهَا: أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَى تَعْلِيلِ مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّتِهِ.
ثَالِثَتُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ عَلَى بَعْضِ الْأُصُولِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ.
الْحَادِيَ عَشَرَ:
أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مُغَلَّظًا، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ.
الثَّانِيَ عَشَرَ:
أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ ثَابِتًا قَبْلَ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَفَادَ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ بِالضَّرُورَةِ، فَلَوْ تَقَدَّمَ لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ، أَوِ الضِّدَّيْنِ1، وَهُوَ مُحَالٌ.
هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْأَصْلِ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ شُرُوطًا، وَالْحَقُّ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا.
فَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ مُعَلَّلٌ، ذَكَرَ ذَلِكَ بِشْرٌ الْمِرِّيسِيُّ2 وَالشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى.
وَمِنْهَا: أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْأَصْلِ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرَ مَحْصُورٍ بِالْعَدَدِ. قَالَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ.
وَمِنْهَا: الِاتِّفَاقُ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، قَالَهُ الْبَعْضُ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ.
وَمِنْهَا: تَأْثِيرُ الْأَصْلِ فِي كُلٍّ بوضوح، ذكره البعض وخالفهم الجمهور*
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 الضدان: صفتان وجوديتان يتعاقبان في موضع واحد يستحيل اجتماعهما كالسواد والبياض. والفرق بين الضدين والنقيضين: أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان كالعدم والوجود، والضدين لا يجتمعان ولكن يرتفعان كالسواد والبياض ا. هـ التعريفات 179.
2 هو ابن غياث المعتزلي، فقيه عارف بالفلسفة، وهو رأس الطائفة المريسية القائلة بالإرجاء. أدرك مجلس أبي حنيفة وأخذ منه نبذا ثم لازم أبا يوسف وأخذ عنه الفقه، وقال برأي الجهمية، توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين هـ، وله تصانيف كثيرة وروايات عن أبي حنيفة ا. هـ الفوائد البهية 54 سير أعلام النبلاء 10/ 19 شذرات الذهب 2/ 44 الجواهر المضية 1/ 447.(2/109)
مباحث العلة:
تعريف العلة:
وَاعْلَمْ: أَنَّ الْعِلَّةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَصِحُّ بِدُونِهَا؛ لِأَنَّهَا الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ.(2/109)
قَالَ ابْنُ فُورَكَ: مِنَ النَّاسِ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الشَّبَهِ، وَمَنَعَ الْقَوْلَ بِالْعِلَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: ذَهَبَ بَعْضُ الْقِيَاسِيِّينَ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ إِذَا لَاحَ بَعْضُ الشَّبَهِ.
وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلِّ قِيَاسٍ.
وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لما يتغير الشئ بِحُصُولِهِ، أَخْذًا مِنَ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَرَضُ؛ لأن تأثرها فِي الْحُكْمِ كَتَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فِي ذَاتِ الْمَرِيضِ، يُقَالُ: اعْتَلَّ فُلَانٌ، إِذَا حَالَ عَنِ الصِّحَّةِ إِلَى السَّقَمِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَلَلِ بَعْدَ النَّهَلِ، وَهُوَ مُعَاوَدَةُ الشُّرْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي اسْتِخْرَاجِهَا يُعَاوِدُ النَّظَرَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهَا الْمُعَرِّفَةُ لِلْحُكْمِ، بِأَنْ جُعِلَتْ عَلَمًا عَلَى الْحُكْمِ، إِنْ وُجِدَ الْمَعْنَى وُجِدَ الْحُكْمُ، قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ، وَأَبُو زَيْدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ" عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ"، وَصَاحِبُ "الْمِنْهَاجِ"1.
الثَّانِي:
أَنَّهَا الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ بِذَاتِهَا، لَا بِجْعَلِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَالْعِلَّةُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى جَعْلِ جَاعِلٍ.
الثَّالِثُ:
أَنَّهَا الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ، عَلَى مَعْنَى: أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهَا مُوجِبَةً بِذَاتِهَا، وَبِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ قَرِيبٌ لَا باس به.
الرابع:
أنها الوجبة بِالْعَادَةِ، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ.
الْخَامِسُ:
أَنَّهَا الْبَاعِثُ عَلَى التَّشْرِيعِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ صَالِحَةٍ لِأَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ.
السَّادِسُ:
أَنَّهَا الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ صَلَاحَ الْمُتَعَبِّدِينَ بِالْحُكْمِ لِأَجْلِهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الرَّازِيِّ، وابنِ الْحَاجِبِ.
السَّابِعُ:
أَنَّهَا الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لِأَجْلِهَا.
وَلِلْعِلَّةِ أَسْمَاءٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحَاتِ، فَيُقَالُ لَهَا: السَّبَبُ، وَالْأَمَارَةُ، وَالدَّاعِي، وَالْمُسْتَدْعِي، وَالْبَاعِثُ، وَالْحَامِلُ، وَالْمَنَاطُ، وَالدَّلِيلُ، وَالْمُقْتَضِي، وَالْمُوجِبُ، وَالْمُؤَثِّرُ.
__________
1 وبهذا القول قال صدر الشريعة، انظر التلويح على التوضيح 2/ 62 وميزان الأصول 2/ 827(2/110)
وَقَدْ ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى "صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ كَالْحُكْمِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى الْحُكْمِ، كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى"* الْعِلَّةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلَيْنِ يُعْلَمُ بِأَحَدِهِمَا أَنَّهَا عِلَّةٌ، وَبِالْآخَرِ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُعْلَمُ صِحَّةُ الْعِلَّةِ بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا، وارتفاعه بارتفاعها.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/111)
الشروط المعتبرة في الْعِلَّةِ:
وَلَهَا شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ:
الْأَوَّلُ:
أَنْ تَكُونَ مُؤَثِّرَةً فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً.
هَكَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَمُرَادُهُمْ بِالتَّأْثِيرِ: الْمُنَاسَبَةُ، قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": مَعْنَى كَوْنِ الْعِلَّةِ مُؤَثِّرَةً فِي الْحُكْمِ: هُوَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّ الْحُكْمَ حَاصِلٌ عِنْدَ ثُبُوتِهَا لِأَجْلِهَا، دُونَ شَيْءٍ سِوَاهَا.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إنها جالبة لحكم وَمُقْتَضِيَةٌ لَهُ.
الثَّانِي:
أَنْ تَكُونَ وَصْفًا ضَابِطًا، بِأَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُهَا لِحِكْمَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ، لَا حِكْمَةٍ مُجَرَّدَةٍ لِخَفَائِهَا، فَلَا يَظْهَرُ إِلْحَاقُ غَيْرِهَا بِهَا.
وَهَلْ يَجُوزُ كَوْنُهَا نَفْسَ الْحُكْمِ، وَهِيَ الْحَاجَةُ إِلَى جَلْبِ مَصْلَحَةٍ، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ؟
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": يَجُوزُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَمْتَنِعُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ ظَاهِرَةً مُنْضَبِطَةً بِنَفْسِهَا جَازَ التَّعْلِيلُ بِهَا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا، أَيْ: مَظِنَّتِهَا بَدَلًا عَنْهَا، مَا لم يعارضه قياس1.
__________
1 قال في البحر: والمنقول عن أبي حنيفة المنع، وقال: الحكمة من الأمور الغامضة وشأن الشرع فيما هو كذلك، قطع النظر عن تقدير الحكم عن دليله ومظنته.
وعن الشافعي: الجواز وأن اعتبارهما هو الأصل، وإنما اعتبرت المظنة للتسهيل وعلى هذا الأصل ينبني خلافهما في المصابة بالزنا هل تُعطى حكم الإبكار أم الثيبات في السكوت؟ ا. هـ البحر المحيط "5/ 133.(2/111)
الثالث:
أن تكون ظاهرة جلبة، وَإِلَّا لَمْ يُمْكِنْ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهَا فِي الْفَرْعِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ أَخْفَى مِنْهُ، أو مساويه لَهُ فِي الْخَفَاءِ.
كَذَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي "جَدَلِهِ"1.
الرَّابِعُ:
أَنْ تَكُونَ سَالِمَةً بِحَيْثُ لَا يَرُدُّهَا نَصٌّ، وَلَا إِجْمَاعٌ.
الْخَامِسُ:
أَنْ لَا يُعَارِضَهَا مِنَ الْعِلَلِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْأَقْوَى أَحَقُّ بِالْحُكْمِ، كَمَا أَنَّ النَّصَّ أَحَقُّ بِالْحُكْمِ مِنَ الْقِيَاسِ.
السَّادِسُ:
أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً، أَيْ: كُلَّمَا وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْمُ، لِتَسْلَمَ مِنَ النَّقْضِ وَالْكَسْرِ، فَإِنْ عَارَضَهَا نَقْضٌ أَوْ كَسْرٌ بَطَلَتْ.
السَّابِعُ:
أَنْ لَا تَكُونَ عَدَمًا فِي الْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ، أَيْ: لَا يبطل الحكم الوجودي بالوصف العدمي، قاله الجماعة.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى جَوَازِهِ.
قَالَ الْمَانِعُونَ: لَوْ كَانَ الْعَدَمُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ؛ لَكَانَ مُنَاسِبًا أو مظنة، واللازم باطل. وأجيب يمنع بُطْلَانِ اللَّازِمِ.
الثَّامِنُ:
أَنْ لَا تَكُونَ الْعِلَّةُ المتعدية هي المحل، أو جزء مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ تَعْدِيَتِهَا.
التَّاسِعُ:
أَنْ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ بِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، وَالْمُرَادُ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ بِهِ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ.
الْعَاشِرُ:
أَنْ تَكُونَ أَوْصَافُهَا مُسَلَّمَةً، أَوْ مَدْلُولًا عَلَيْهَا. كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ.
الْحَادِيَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مُعَلَّلًا بِالْعِلَّةِ الَّتِي يُعَلَّقُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ، بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ "كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ2*.
الثَّانِيَ عَشَرَ:
أَنْ لَا تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْفَرْعِ حُكْمًا، وَلِلْأَصْلِ حُكْمًا آخَرَ غَيْرَهُ3.
الثَّالِثَ عَشَرَ:
أَنْ لَا تُوجِبَ ضِدَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ شَاهِدَةً لحكمين متضادين، قاله الأستاذ أبو منصور.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 واسم كتابه غاية الأمل في علم الجدل. ا. هـ. معجم المؤلفين 7/ 155، هدية العارفين 1/ 707
2 قال في البحر المحيط 5/ 146: ذكره وما قبله الأستاذ أبو منصور.
3 مثاله: اعتلال من قال: لا زكاة في مال الصبي قياسا على سقوط الجزية عن أموالهم بعلة الصغر، وهذا خطأ لأن المراد من العلة الجمع بين الفرع والأصل في الحكم الواحد، وإذا كان حكمهما في الفرغ غير حكمهما في الأصل خرجت عن أن تكن علة. ا. هـ البحر المحيط 5/ 146-147.(2/112)
الرَّابِعَ عَشَرَ:
أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ ثُبُوتُهَا عَنْ ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ، خِلَافًا لِقَوْمٍ.
الْخَامِسَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُعَيَّنًا؛ لِأَنَّ رَدَّ الْفَرْعِ إِلَيْهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ.
السَّادِسَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهَا شَرْعِيًّا كَالْحُكْمِ. ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي "جَدَلِهِ".
السَّابِعَ عَشَرَ:
أَنْ لَا يَكُونَ وَصْفًا مُقَدَّرًا.
قَالَ الْهِنْدِيُّ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِالصِّفَاتِ الْمُقَدَّرَةِ، خِلَافًا لِلْأَقَلِّينَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.
الثَّامِنَ عَشَرَ:
إن كانت مستنبطة، فالشرط أن لا تر جع عَلَى الْأَصْلِ بِإِبْطَالِهِ، أَوْ إِبْطَالِ بَعْضِهِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى تَرْكِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ؛ إِذِ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّصِّ أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لَهُ، وَالْفَرْعُ لَا يَرْجِعُ عَلَى إِبْطَالِ أَصْلِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ بِالْإِبْطَالِ.
التَّاسِعَ عَشَرَ:
إِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً، فَالشَّرْطُ أَنْ لَا تُعَارَضَ بِمُعَارِضٍ منافٍ، مَوْجُودٍ فِي الْأَصْلِ1.
الْعِشْرُونَ:
إِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً، فَالشَّرْطُ أَنْ لَا تَتَضَمَّنَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، أَيْ: حُكْمًا غَيْرَ مَا أَثْبَتَهُ النَّصُّ.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ:
أَنْ لَا تَكُونَ مُعَارِضَةً لِعِلَّةٍ أُخْرَى، تَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِهَا.
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ:
إِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ شَرْطٌ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُوجِبَةً لِإِزَالَةِ ذَلِكَ الشَّرْطِ.
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنْ لَا يَكُونَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَيْهَا مُتَنَاوِلًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ، لَا بِعُمُومِهِ وَلَا بِخُصُوصِهِ، لِلِاسْتِغْنَاءِ حِينَئِذٍ عَنِ الْقِيَاسِ.
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنْ لَا تَكُونَ مُؤَيِّدَةً لِقِيَاسِ أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ بِالْإِثْبَاتِ عَلَى أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ بِالنَّفْيِ.
فهذه شرط العلة.
__________
1 وذلك بأن تبدي علة أخرى من غير ترجيح، وإلا جاز التعليل لمجموعهما أو بالأخرى. ا. هـ.(2/113)
ما لا يعتبر من الشروط في العلة:
وَقَدْ ذُكِرَتْ لَهَا شُرُوطٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ.
مِنْهَا: مَا شَرَطَهُ فِيهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: وَهُوَ تَعَدِّي الْعِلَّةِ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ وُقِفَتْ عَلَى حُكْمِ النَّصِّ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي غَيْرِهِ.(2/113)
وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى التَّعْلِيلِ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَنْصُوصَةً، أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا: صَحَّ التَّعْلِيلُ بِهَا1.
حَكَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ بَرْهَانَ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ، وَخَالَفَهُمُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، فَنَقَلَ عَنْ قَوْمٍ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً.
قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. انْتَهَى.
وَأَمَّا إذا كَانَتِ الْعِلَّةُ الْقَاصِرَةُ مُسْتَنْبَطَةً: فَهِيَ مَحَلُّ الْخِلَافِ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ: بِالْمَنْعِ.
وَبِمِثْلِهِ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الْحَلِيمِيِّ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: بِالْجَوَازِ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَحْمَدَ.
قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ": كَانَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنَ الْغُلَاةِ فِي تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ، وَيَقُولُ: هِيَ أَوْلَى مِنَ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ وُقُوفَهَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عَنِ الْأَصْلِ "كَمَا أَوْجَبَ تَعَدِّيهَا ثُبُوتَ حُكْمِ الْأَصْلِ فيغيره فَصَارَ وُقُوفُهَا مُؤَثِّرًا"* فِي النَّفْيِ، كَمَا كَانَ تَعَدِّيهَا مُؤَثِّرًا فِي الْإِثْبَاتِ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ فَاسِدٌ، واستدلال باطل.
ومنها: أن لا يَكُونَ وَصْفُهَا حُكْمًا شَرْعِيًّا، عِنْدَ قَوْمٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِلَّةً؟!
وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِالْوَصْفِ الشَّرْعِيِّ.
وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ مُسْتَنْبَطَةً مِنْ أَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِحُكْمِهِ عِنْدَ قَوْمٍ.
وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ اعْتِبَارِ ذَلِكَ بَلْ يُكْتَفَى بِالظَّنِّ
وَمِنْهَا: الْقَطْعُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ عِنْدَ قَوْمٍ، مِنْهُمُ: الْبَزْدَوِيُّ.
وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ.
وَمِنْهَا: أَنْ لَا تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ صَحَابِيٍّ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِحُجِّيَّةِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، لَا عند الجمهور.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 مثاله: تعليل الربا في الذهب والفضة بأنهما إثمان فلا يعلل بهما ا. هـ البحر المحيط 5/ 157.
قال في التلويح 2/ 66: ولا يجوز التعليل بالعلة القاصرة عندنا، وعند الشافعي رحمه الله يجوز فإنه جعل علة الربا في الذهب والفضة الثمنية فهي مقتصرة على الذهب الفضة غير متعدية عنهما؛ إذ غير الحجرين لم يخلق ثمنا، والخلاف فيما إذا كانت العلة مستنبطة، أما إذا كانت منصوصة فيجوز عليتها اتفاقًا.(2/114)
القول في تَعَدُّدِ الْعِلَلِ:
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ مَعَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ1؛ فَإِنْ كَانَ الِاتِّحَادُ بِالنَّوْعِ، مَعَ الِاخْتِلَافِ بِالشَّخْصِ، كَتَعْلِيلِ إِبَاحَةِ قَتْلِ زَيْدٍ بِرِدَّتِهِ، وَقَتْلِ عَمْرٍو بِالْقِصَاصِ، وَقَتْلِ خَالِدٍ بِالزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى الْجَوَازِ، وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الِاتِّحَادُ بِالشَّخْصِ، فَقِيلَ: لَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِهِ بِعِلَلٍ عَقْلِيَّةٍ.
وَحَكَى الْقَاضِي الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ثُمَّ اخْتَلَفُوا إِذَا وَجَبَ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ بِعِلَّتَيْنِ، فَقِيلَ: لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا بِارْتِفَاعِهِمَا جَمِيعًا.
وَقِيلَ: يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ إِحْدَاهُمَا.
وَأَمَّا تَعَدُّدُ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ، مَعَ الِاتِّحَادِ فِي الشَّخْصِ، كَتَعْلِيلِ قتل زيد بكونه قتل مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَزِنًى مَعَ الْإِحْصَانِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ بِمُجَرَّدِهِ، فَهَلْ يَصِحُّ تَعْلِيلُ إِبَاحَةِ دَمِهِ بِهِمَا مَعًا أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ.
الْأَوَّلُ:
الْمَنْعُ مُطْلَقًا، مَنْصُوصَةً كَانَتْ أَوْ مُسْتَنْبَطَةً.
حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِهِمْ، وَجَزَمَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
الثَّانِي:
الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ".
قَالَ: وَبِهَذَا نَقُولُ؛ لِأَنَّ الْعِلَلَ عَلَامَاتٌ وَأَمَارَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ، لَا مُوجِبَةٌ لَهَا، فَلَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ": إِنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ.
الثَّالِثُ:
الْجَوَازُ فِي الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ2، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَأَتْبَاعُهُ.
وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَمِيلُ إِلَيْهِ، وَكَلَامُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ هَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي نَقْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ عَنِ القاضي، كما صرح به في "مُخْتَصَرُ الْمُنْتَهَى"، وَلَكِنَّ النَّقْلَ عَنِ الْقَاضِي مُخْتَلِفٌ كما عرفته.
__________
1 انظر البحث مفصلا في المستصفى 2/ 342-343. والمنخول 392-393.
2 وأخرج هذا القسم الثالث الزركشي في البحر: حيث قال: ويخرج مما سبق حكاية مذهب ثالث وهو الجواز في المنصوصة دون المستنبطة. قال عبد الوهاب: وحكاه الهمداني عن أبي عبد الله البصري، والصحيح الجواز مطلقا. ا. هـ البحر المحيط 5/ 158.(2/115)
الرَّابِعُ:
الْجَوَازُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ دُونَ الْمَنْصُوصَةِ، حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى"، وَابْنُ الْمُنِيرِ فِي "شَرْحِهِ لِلْبُرْهَانِ"، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ.
وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْجَوَازِ.
وَكَمَا ذَهَبُوا إِلَى الْجَوَازِ فَقَدْ ذَهَبُوا أَيْضًا إِلَى الوقوع، ولم يمنع من ذلك عقل ولا شرع.(2/116)
الشروط المعتبرة في الْفَرْعِ:
وَأَمَّا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْفَرْعِ فَأُمُورٌ أربعة:
أحدهما:
مُسَاوَاةُ عِلَّتِهِ لِعِلَّةِ الْأَصْلِ.
وَالثَّانِي:
مُسَاوَاةُ حُكْمِهِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ.
وَالثَّالِثُ:
أَنْ لَا يَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ.
وَالرَّابِعُ:
أَنْ لَا يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى حكم الأصل.(2/116)
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسَالِكِ الْعِلَّةِ وهي طرقها الدالة عليها
مدخل
...
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسَالِكِ الْعِلَّةِ وَهِيَ طُرُقُهَا الدَّالَّةُ عَلَيْهَا
وَلَمَّا كَانَ لَا يُكْتَفَى فِي الْقِيَاسِ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْجَامِعِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، بَلْ لَا بُدَّ فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَكَانَتِ الْأَدِلَّةُ إِمَّا بالنص، أَوِ الْإِجْمَاعُ، أَوِ الِاسْتِنْبَاطُ، احْتَاجُوا إِلَى بَيَانِ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ.
وَقَدْ أَضَافَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ إِلَى الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ دَلِيلًا رَابِعًا، وَهُوَ الْعَقْلُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْجُمْهُورُ، بَلْ جَعَلُوا طَرِيقَ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ هُوَ السَّمْعُ فَقَطْ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ.
فَقَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": هِيَ عَشْرَةٌ: النَّصُّ، وَالْإِيمَاءُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمُنَاسَبَةُ، وَالتَّأْثِيرُ، وَالدَّوَرَانُ، وَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ، وَالشَّبَهُ، وَالطَّرْدُ، وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ.
قال: وأمور أخر اعتبرها قوم، هي عِنْدَنَا ضَعِيفَةٌ. انْتَهَى.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي تَقْدِيمِ مَسْلَكِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَسْلَكِ النَّصِّ، أَوْ مَسْلَكِ النَّصِّ عَلَى مَسْلَكِ الْإِجْمَاعِ. فَمَنْ قَدَّمَ الْإِجْمَاعَ نَظَرَ إِلَى كَوْنِهِ أَرْجَحَ مِنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ النَّسْخِ. وَمَنْ قَدَّمَ النَّصَّ نَظَرَ إِلَى كَوْنِهِ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَوْنِهِ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ فِي التَّأْلِيفِ، فَلَا مُشَاحَّةَ فِيهِ1.
وَسَنَذْكُرُ من المسالك ههنا أحد عشر مسلكا:
__________
1 انظر البحر المحيط 5/ 184، وفواتح الرحموت 2/ 295 وميزان الأصول 2/ 843.(2/116)
الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: الْإِجْمَاعُ
وَهُوَ نَوْعَانِ:
إِجْمَاعٌ عَلَى عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، كَتَعْلِيلِ وِلَايَةِ الْمَالِ بِالصِّغَرِ، وَإِجْمَاعٍ عَلَى أَصْلِ التَّعْلِيلِ -وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي عَيْنِ الْعِلَّةِ- كَإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الرِّبَا فِي الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ مُعَلِّلٌ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ مَاذَا هِيَ1.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا، فَإِنَّ الْقِيَاسِيِّينَ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ، وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْمُخَالِفِينَ فِي الْقِيَاسِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، فَلَا تَتِمُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ بِدُونِهِمْ.
وَقَدْ تَكَلَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ" لِدَفْعِ هَذَا فَقَالَ: بِأَنَّ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ لَيْسُوا مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَلَا مِنْ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيعَةِ صَدَرَتْ عَنِ الِاجْتِهَادِ وَالنُّصُوصُ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ. انتهى.
وهذا كلام يقتضي من قاله الْعَجَبَ، فَإِنَّ كَوْنَ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ لَيْسُوا مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلَاتِ، وَأَقْبَحِ التَّعَصُّبَاتِ، ثُمَّ دَعْوَى أَنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِهَا لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ حَقَّ مَعْرِفَتِهَا.
وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يُعْرَفِ النَّصُّ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. انْتَهَى.
وَهَذَا يَعُودُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى نَفْيِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ. ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ لَا يَشْتَرِطُونَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا، بَلْ يَكْتَفُونَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ الظَّنِّيِّ فَزَادُوا هَذَا الْمَسْلَكَ ضَعْفًا إِلَى ضَعْفِهِ.
__________
1 انظر فواتح الرحموت 2/ 295. وميزان الأصول 2/ 827.(2/117)
الْمَسْلَكُ الثَّانِي: النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ" وَنَعْنِي بِالنَّصِّ: مَا يَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى الْعِلَّةِ ظَاهِرَةً، سَوَاءٌ كَانَتْ قَاطِعَةً أَوْ مُحْتَمَلَةً.
أَمَّا الْقَاطِعُ: فَمَا يَكُونُ صَرِيحًا، وَهُوَ قَوْلُنَا: لِعِلَّةِ كَذَا، أَوْ لِسَبَبِ كَذَا، أَوْ لِمُؤَثِّرِ كَذَا، أَوْ لِمُوجِبِ كَذَا، أَوْ لِأَجْلِ كَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} 1.
وَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ قَاطِعًا فَثَلَاثَةٌ: اللَّامُ، وَإِنَّ، وَالْبَاءُ.
أَمَّا اللَّامُ: فَكَقَوْلِنَا ثَبَتَ لِكَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2.
وَأَمَّا "إِنَّ" فَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ" 3.
وَأَمَّا الْبَاءُ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 4
هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: مَتَى وجدنا في كلام الشارع ما يد ل عَلَى نَصْبِهِ أَدِلَّةً وَإِعْلَامًا ابْتَدَرْنَا إِلَيْهِ، وَهُوَ أَوْلَى مَا يُسْلَكُ.
وَاعْلَمْ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْأَخْذِ بِالْعِلَّةِ إِذَا كَانَتْ مَنْصُوصَةً، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلِ الْأَخْذُ بِهَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، أَمْ مِنَ الْعَمَلِ بِالنَّصِّ؟
فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْجُمْهُورُ، وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي النَّافُونَ لِلْقِيَاسِ، فَيَكُونُ الْخِلَافُ عَلَى هَذَا لَفْظِيًّا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَهُونُ الخطب، ويصغر ما تعاظم مِنَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ ابْنُ فُورَكَ: إِنَّ الْأَخْذَ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ لَيْسَ قِيَاسًا وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِمْسَاكٌ بِنَصِّ لَفْظِ الشَّارِعِ، فَإِنَّ لَفْظَ التَّعْلِيلِ إِذَا لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ عَنْ كُلِّ مَا تَجْرِي الْعِلَّةُ فِيهِ، كَانَ الْمُتَعَلِّقُ به مستدلا بلفظ قاضٍ بالعموم5.
__________
1 جزء من الآية 32 من سورة المائدة.
2 جزء من الآية 56 من سورة الذاريات.
3 أخرجه أبو داود من حديث كبشة رضي الله عنها، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة 75. والترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة 92. والنسائي، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة 1/ 55، 68.
وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك 367. ومالك في الموطأ، كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء 13. وابن حبان في صحيحه 1299. الحاكم. كتاب الطهارة 1/ 110. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة 1/ 245.
4 جزء من الآية 13 من سورة الأنفاق، والآية 4 من سورة الحشر.
5 ذكر الزركشي هذا الكلام في البحر المحيط 5/ 186 ونسبه إلى الإمام الجويني في البرهان.(2/118)
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيلَ قَدْ يَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنْ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ، وَهِيَ: كَيْ، وَاللَّامُ، وَإِذَنْ، وَمِنْ، وَالْبَاءُ، وَالْفَاءُ، وَإِنَّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنَ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَهِيَ: لِعِلَّةِ كَذَا، لِمُوجِبِ كَذَا، بِسَبَبِ كَذَا، لِمُؤَثِّرِ كذا، لأجل كذا، "لجزاء كذا، لعلم كذا"*، لمقتضى كَذَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنْ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: عَلَّلْتُ بِكَذَا، وَشَبَّهْتُ كَذَا بِكَذَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنَ السِّيَاقِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْعِلَّةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهَا.
وَقَدْ قَسَّمُوا النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ إِلَى صَرِيحٍ، وَظَاهِرٍ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: فَالصَّرِيحُ هُوَ الَّذِي لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، بَلْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا فِي اللُّغَةِ لَهُ.
قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالصَّرِيحِ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، بَلِ الْمَنْطُوقُ بِالتَّعْلِيلِ فِيهِ عَلَى حَسَبِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الظَّاهِرِ عَلَى الْمَعْنَى. انْتَهَى.
ثُمَّ الصَّرِيحُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ.
أَعْلَاهَا أَنْ يَقُولَ: لِعِلَّةِ كَذَا، أَوْ لِسَبَبِ كَذَا، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَبَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ: لِأَجْلِ كَذَا، أَوْ مِنْ أَجْلِ كَذَا.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ دُونَ مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْعِلَّةِ تُعْلَمُ بِهِ الْعِلَّةُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لِأَجْلٍ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ مَعْرِفَةَ الْعِلَّةِ، بِوَاسِطَةِ أَنَّ الْعِلَّةَ مَا لِأَجْلِهَا الْحُكْمُ، وَالدَّالُّ بِلَا وَاسِطَةٍ أَقْوَى، وَكَذَا قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ.
وَبَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ: كَيْ يَكُونَ كَذَا، فَإِنَّ الْجُوَيْنِيَّ فِي "الْبُرْهَانِ" جَعَلَهَا مِنَ الصَّرِيحِ، وَخَالَفَهُ الرَّازِيُّ.
وَبَعْدَهُ: إذًا، فَإِنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ، وَالْغَزَالِيَّ، جَعَلَاهُ مِنَ الصَّرِيحِ، وَجَعَلَهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ" مِنَ الظَّاهِرِ.
وَبَعْدَهُ: ذَكَرَ الْمَفْعُولَ لَهُ نَحْوَ: ضَرَبْتُهُ تَأْدِيبًا.
وَأَمَّا الظَّاهِرُ: فَيَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ، أَعْلَاهَا: اللَّامُ، ثُمَّ أنْ الْمَفْتُوحَةُ الْمُخَفَّفَةُ، ثُمَّ إنْ الْمَكْسُورَةُ السَّاكِنَةُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ، ثُمَّ إنَّ الْمُشَدِّدَةَ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنها من الطوافين عليكم" 1.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 تقدم تخريجه في الصفحة 2/ 118.(2/119)
قَالَ صَاحِبُ "التَّنْقِيحِ": كَذَا عَدُّوهَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَالْحَقُّ: أَنَّهَا لِتَحْقِيقِ الْفِعْلِ، وَلَا حَظَّ لَهَا فِي التَّعْلِيلِ، وَالتَّعْلِيلُ فِي الْحَدِيثِ مَفْهُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ.
وَقَدْ نَقَلَ الْإِبْيَارِيُّ إِجْمَاعَ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرِدُ لِلتَّعْلِيلِ، قَالَ: وَهِيَ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ" لِلتَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ طَهَارَةِ سُؤْرِهَا هِيَ الطَّوَافُ، وَلَوْ قَدَّرْنَا مَجِيءَ قَوْلِهِ: "مِنَ الطَّوَّافِينَ" بِغَيْرِ إِنَّ لَأَفَادَ التَّعْلِيلَ، فَلَوْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ لَعُدِمَتْ العلة بِعَدَمِهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لِأَنَّهَا، وَإِلَّا لَوَجَبَ فَتْحُهَا، وَلَاسْتُفِيدَ التَّعْلِيلُ مِنَ اللَّامِ.
ثُمَّ الْبَاءُ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَضَابِطُهُ أَنْ يصلح غالبا في موضوعها اللَّامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} 2؛ وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ الْآمِدِيُّ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ قَوْلَهُ تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَقِيلَ: هِيَ الْمُقَابَلَةُ، كقوله: هَذَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ بَعِوَضٍ قَدْ يُعْطِي مَجَّانًا.
ثُمَّ الْفَاءُ: إِذَا عُلِّقَ بِهَا الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ.
أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَدْخُلَ عَلَى السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ، وَيَكُونَ الْحُكْمُ مُتَقَدِّمًا، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا" 4.
الثَّانِي:
أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْحُكْمِ، وَتَكُونَ الْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 5، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 6.
لِأَنَّ التَّقْدِيرَ مَنْ زَنَى فَاجْلِدُوهُ، وَمَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ.
ثُمَّ لَعَلَّ؛ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ مِنَ النحاة، فإنهم قَالُوا: إِنَّهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ لِلتَّعْلِيلِ الْمَحْضِ، مُجَرَّدَةً عَنْ مَعْنَى التَّرَجِّي، لِاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ إِذْ: ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ نَحْوَ: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} 7.
__________
1 جزء من الآية 13 من سورة الأنفال. وكذلك من الآية 4 من سورة الحشر.
2 جزء من الآية 160 من سورة النساء.
3 جزء من الآية 14 من سورة الأحقاف.
4 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس، كتاب جزاء الصيد، باب سنة المحرم إذا مات 1815. مسلم، كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات 1206. النسائي، كتاب مناسك الحج، باب غسل المحرم بالسدر إذا مات 5/ 195. البيهقي، كتاب الجنائز، باب المحرم يموت 3/ 392. ابن حبان في صحيحه 3960. أحمد في مسنده 1/ 215.
5 جزء من الآية 2 من سورة النور.
6 جزء من الآية 38 من سورة المائدة.
7 جزء من الآية 16 من سورة الكهف.(2/120)
ثُمَّ حَتَّى: كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ "مَالِكٍ"*، نَحْوَ قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} 1، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} 2، {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 3 وَلَا يَخْفَى مَا فِي عَدِّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْ جُمْلَةِ دَلَائِلِ التَّعْلِيلِ مِنَ الضَّعْفِ الظاهر.
وقد عد منها صاحب "التنقيط": لَا جَرَمَ، نَحْوَ: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} 4. وعد أيضًا جميع أدوات الشرط وَالْجَزَاءِ.
وَعَدَّ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْهَا الْوَاوَ. وَفِي هَذَا مِنَ الضَّعْفِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى عارف بمعاني اللغة العربية.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 29 من سورة التوبة.
2 جزء من الآية 31 من سورة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 جزء من الآية 193 من سورة البقرة.
4 جزء من الآية 62 من سورة النحل.(2/121)
الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: الْإِيمَاءُ وَالتَّنْبِيهُ
وَضَابِطُهُ: الِاقْتِرَانُ بِوَصْفٍ، لَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ أَوْ نَظِيرُهُ لِلتَّعْلِيلِ لكان بعيدا، فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّ ذِكْرَهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ لَا لِفَائِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَبَثٌ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ إِمَّا كَوْنُهُ عِلَّةً، أَوْ جُزْءَ عِلَّةٍ، أو شرطا، "والأطهر"*: كَوْنُهُ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ فِي تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
الْأَوَّلُ:
تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الْعِلَّةِ بِالْفَاءِ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدْخُلَ الْفَاءُ عَلَى الْعِلَّةِ، وَيَكُونَ الْحُكْمُ مُتَقَدِّمًا، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: " فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا" 1.
ثَانِيهِمَا: أَنْ تَدْخُلَ الْفَاءُ عَلَى الْحُكْمِ، وَتَكُونَ الْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةً، وَذَلِكَ أَيْضًا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ دَخَلَتْ عَلَى كَلَامِ الشَّارِعِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيديهما} 2، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} 3.
__________
* في "أ": وإلا ظهر.
__________
1 تقدم تخريجه 2/ 120.
2 جزء من الآية 38 من سورة المائدة.
3 جزء من الآية 6 من سورة المائدة.(2/121)
وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَدْخُلَ عَلَى رِوَايَةِ الرَّاوِي، كَقَوْلِهِ: "سها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَجَدَ"1، وَ"زَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ"2، كَذَا فِي "الْمَحْصُولِ" وَغَيْرِهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي:
أَنْ يَذْكُرَ الشَّارِعُ مَعَ الْحُكْمِ وَصْفًا، لَوْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لَعَرَّى عَنِ الْفَائِدَةِ إِمَّا مَعَ سُؤَالٍ فِي مَحَلِّهِ، أَوْ سُؤَالٍ فِي نَظِيرِهِ.
فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ: وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ: "اعْتِقْ رَقَبَةً" 3. فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِقَاعَ عِلَّةٌ لِلْإِعْتَاقِ، وَالسُّؤَالٌ مُقَدَّرٌ فِي الْجَوَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَاقَعْتَ فَكَفِّرْ.
الثَّانِي كَقَوْلِهِ: وَقَدْ سَأَلَتْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ: إِنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ، وَعَلَيْهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ، أَفَيَنْفَعُهُ إِنْ حَجَجْتُ عَنْهُ؟ فَقَالَ: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يَنْفَعُهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ4.
فَذَكَرَ نَظِيرَهُ، وَهُوَ دَيْنُ الْآدَمِيِّ، فَنَبَّهَ عَلَى كَوْنِهِ، عِلَّةً فِي النَّفْعِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْعَبَثُ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ شَرْطَ فَهْمِ التَّعْلِيلِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ وَقَعَ جَوَابًا؛ إِذْ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ اسْتِئْنَافًا، لَا جَوَابًا، وَذَلِكَ كَمَنْ تَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ، فَأَخْبَرَهُ تِلْمِيذُهُ بِمَوْتِ السُّلْطَانِ، فَأَمَرَهُ عَقِبَ الْإِخْبَارِ بِقِرَاءَةِ دَرْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْلِيلِ الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، بَلِ الْأَمْرُ بِالِاشْتِغَالِ بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَتَرْكِ مَا لَا يَعْنِيهِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ لوصف، نحو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ" 5. فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلِاسْتِحْقَاقِ لِلسَّهْمِ وَالسَّهْمَيْنِ هُوَ الوصف المذكور.
__________
1 أخرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين بلفظ: "إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم" كتاب الصلاة، باب سجدتي السهو 1039. الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في التشهد في سجدتي السهو 395. النسائي، في السهو، ذكر الاختلاف على أبي هريرة في السجدتين 3/ 26. الحاكم في المستدرك بلفظ: "صلى بهم فسها في صلاته فسها فسجد سجدتين السهو بعد السلام والكلام، 1/ 323 وسكت عنه الذهبي في التلخيص. ابن حبان في صحيحه 2670.
2 تقدم تخريجه 2/ 73.
3 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، كتاب الأدب، باب ما جاء في قول الرجل: "ويلك" 6164. بنحوه أبو داود، كتاب الصيام، باب كفارة من أتى أهله في رمضان 2390. والترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان 724. وابن ماجه، كتاب الصوم، باب ما جاء في كفارة من أفطر يوما في رمضان 1617. والنسائي في الكبرى كما في التحفة 9/ 327. وابن حبان في صحيحه 3524. وأحمد في مسنده 2/ 241.
4 تقديم تخريجه 2/ 100.
5 أخرجه البيهقي من حديث ابن عمر، وقد روي أيضًا من طريق العقبني عن عبد الله العمري بالشك بالفارس أو الفرس، فقال الشافعي في القديم: كأنه سمع نافعا يقول: للفرس سهمين وللرجل سهما، فقال: للفارس سهمين وللراجل سهما وليس يشك أحد من أهل العلم في تقدمة عبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ. انظر البيهقي، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في سهم الراجل والفارس 6/ 325. ورواه الحاكم في المستدرك، من حديث مجمع بن جارية الأنصاري، في كتاب قسم الفيء قال: حديث كبير صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في التلخيص 2/ 113
وأخرجه أحمد في مسنده 3/ 420(2/122)
النَّوْعُ الرَّابِعُ:
أَنْ يَذْكُرَ عَقِبَ الْكَلَامِ أَوْ في سياق شَيْئًا، لَوْ لَمْ يُعَلِّلْ بِهِ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَنْتَظِمِ الْكَلَامُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} 1؛ لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَأَحْكَامِهَا، فَلَوْ لَمْ يُعَلِّلِ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ بِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنَ الصَّلَاةِ، أَوْ شَاغِلًا عَنِ الْمَشْيِ إِلَيْهَا؛ لَكَانَ ذِكْرُهُ عَبَثًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ مُطْلَقًا.
النَّوْعُ الْخَامِسُ:
رَبْطُ الْحُكْمِ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِهِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، نَحْوَ: أَكْرِمْ زَيْدًا الْعَالِمَ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْإِكْرَامَ لِأَجْلِ الْعِلْمِ.
النَّوْعُ السَّادِسُ:
تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} 2. أَيْ: لِأَجْلِ تَقْوَاهُ، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 3. أَيْ: لِأَجْلِ تَوَكُّلِهِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَقَّبُ الشَّرْطَ.
النَّوْعُ السَّابِعُ:
تَعْلِيلُ عَدَمِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} 4. {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} 5، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} 6.
النَّوْعُ الثَّامِنُ:
إِنْكَارُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقِ الْخَلْقَ لِفَائِدَةٍ، وَلَا لِحِكْمَةٍ بِقَوْلِهِ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} 7، وَقَوْلِهِ: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} 8، وَقَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} 9.
النَّوْعُ التَّاسِعُ:
إِنْكَارُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَيُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلِينَ.
فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} 10.
وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 11
__________
1 جزء من الآية 9 من سورة الجمعة.
2 جزء من الآية 2 من سورة الطلاق.
3 جزء من الآية 3 من سورة الطلاق.
4 جزء من الآية 33 من سورة الزخرف.
5 جزء من الآية 27 من سورة الشورى.
6 جزء من الآية 44 من سورة فصلت.
7 جزء من الآية 115 من سورة المؤمنون.
8 جزء من الآية 36 من سورة القيامة.
9 جزء من الآية 85 من سورة الحجر
10 الآية 35 من سورة القلم.
11 جزء من الآية 71 من سورة التوبة.(2/123)
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْمُومَإِ إِلَيْهِ لِلْحُكْمِ فِي الْأَنْوَاعِ السَّابِقَةِ، فَاشْتَرَطَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى التَّفْصِيلِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ فُهِمَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، كَمَا فِي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يقض الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ" 1 اشْتُرِطَ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُشْتَرَطُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ.
وَحَكَى الْهِنْدِيُّ تَفْصِيلًا، وَهُوَ اشْتِرَاطُهُ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الِاسْمِ دُونَ غَيْرِهِ،. وَحَكَى ابْنُ الْمُنِيرِ تَفْصِيلًا آخَرَ: وَهُوَ إِنْ كَانَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ يَتَنَاوَلُ مَعْهُودًا مُعَيَّنًا؛ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّعْلِيلِ وَلَوْ كَانَ مُنَاسِبًا، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفًا، وَأَمَّا إِذَا علق بعام ومنكر فهو تعليل.
__________
1 أخرجه مسلم من حديث أبي بكرة، كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان 1717.
وأخرجه البخاري بلفظ: "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان" كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي وهو غضبان 7158. وأبو داود، كتاب الأقضية، باب القاضي يقضي وهو غضبان 3589". والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان 1334. والنسائي، كتاب آداب القاضي، باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه 8/ 237. والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب لا يقضي وهو غضبان 10/ 105. وابن حبان في صحيحه 5063. وأحمد في مسنده 5/ 36.(2/124)
الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كَذَا قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" وَصُورَتُهُ: أن يفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا بَعْدَ وُقُوعِ شَيْءٍ، فَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي وَقَعَ، كَأَنْ يَسْجُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّهْوِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ إِنَّمَا كَانَ لِسَهْوٍ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ.
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ، كَرَجْمِ مَاعِزٍ.
وَهَكَذَا التَّرْكُ لَهُ حُكْمُ الْفِعْلِ، كَتَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلطِّيبِ، وَالصَّيْدِ، وَمَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ الإحرام.(2/124)
الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ:
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الِاخْتِبَارُ، وَمِنْهُ الْمَيْلُ الَّذِي يُخْتَبَرُ بِهِ الْجُرْحُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ الْمِسْبَارُ، وَسُمِّيَ(2/124)
هَذَا بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنَاظِرَ يُقَسِّمُ الصِّفَاتِ وَيَخْتَبِرُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا "فِي أَنَّهُ"* هَلْ تَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ أَمْ لَا؟
وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَدُورَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَهَذَا هو المنحصر.
والثاني:
أن لا يكون كذلك، وهذا هو الْمُنْتَشِرُ.
فَالْأَوَّلُ:
أَنْ تُحْصَرَ الْأَوْصَافُ الَّتِي يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِهَا لِلْمَقِيسِ عَلَيْهِ، ثُمَّ اخْتِبَارُهَا فِي الْمَقِيسِ، وَإِبْطَالُ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْهَا بِدَلِيلِهِ، وَذَلِكَ الْإِبْطَالُ إِمَّا بِكَوْنِهِ مُلْغًى، أَوْ وَصْفًا طَرْدِيًّا، أَوْ يَكُونُ فِيهِ نَقْضٌ، أَوْ كَسْرٌ، أَوْ خَفَاءٌ، أَوِ اضْطِرَابٌ، فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلْعِلِّيَّةِ1.
وَقَدْ يَكُونُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ، كَقَوْلِنَا: الْعَالِمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا، أَوْ حَادِثًا، بَطَلَ أَنْ يكون قديما، فثبت أنه حادث.
وقد يكون في الظنيات، نحو أن نقول: فِي قِيَاسِ الذُّرَةِ عَلَى الْبُرِّ فِي الرِّبَوِيَّةِ: بَحَثْتُ عَنْ أَوْصَافِ الْبُرِّ فَمَا وَجَدْتُ ثَمَّ مَا يَصْلُحُ لِلرِّبَوِيَّةِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ إِلَّا الطَّعْمَ، وَالْقُوتَ، وَالْكَيْلَ، لَكِنَّ الطَّعْمَ وَالْقُوتَ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ بِدَلِيلِ كَذَا، فَتَعَيَّنَ الْكَيْلُ2.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَحُصُولُ هَذَا الْقِسْمِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عَسِرٌ جِدًّا.
وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْمَسْلَكِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِمُنَاسِبٍ، خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ، وَأَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَرْكِيبَ فِيهَا، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا، فَأَمَّا لَوْ لَمْ يَقَعِ الِاتِّفَاقُ لَمْ يكون هَذَا الْمَسْلَكُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، جَازَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا، وَإِذَا انْضَمَّ إِلَى غَيْرِهِ صَارَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، فَلَا بُدَّ مِنْ إِبْطَالِ كَوْنِهِ عِلَّةً أَوْ جُزْءَ عِلَّةٍ.
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ حاصرا لجميع الأوصاف، وذلك بأن يوافقه الْخَصْمُ عَلَى انْحِصَارِهَا فِي ذَلِكَ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْ إِظْهَارِ وَصْفٍ زَائِدٍ، وَإِلَّا فَيَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ أَنْ يَقُولَ: بَحَثْتُ عَنِ الْأَوْصَافِ فَلَمْ أَجِدْ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَاهَا، وَهَذَا إِذَا كَانَ أَهْلًا لِلْبَحْثِ.
وَنَازَعَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ، وَمِنْهُمُ: الْأَصْفَهَانِيُّ، فَقَالَ: قَوْلُ الْمُعَلِّلِ فِي جَوَابِ طَالِبِ الْحَصْرِ: بَحَثْتُ وَسَبَرْتُ فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَإِنْ ظَفِرْتَ بعلة أخرى فأبرزها، وإلا فليلزمك
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 عرفه صاحب فواتح الرحموت بقوله: هو حصر الأوصاف الصالحة للعلية وحذف ما سوى الوصف المدعى في عليته فيتعين المدعى. ا. هـ انظر فواتح الرحموت 2/ 299. البحر المحيط 5/ 222-223 المستصفى 2/ 295.
2 انظر تتمة البحث في البحر المحيط 5/ 223، وفيه تنبيه مهم وجليل، ذكره الزركشي في 5/ 224.(2/125)
مَا يَلْزَمُنِي، قَالَ: وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ سَبْرَهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ مَا يُعْلَمُ بِهِ الْمَدْلُولُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَعْلَمَ طَالِبُ الْحَصْرِ الانحصار ببحثه ونظره، وجهله لا يجوب عَلَى خَصْمِهِ أَمْرًا، وَاخْتَارَ ابْنُ بَرْهَانَ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
الْمُنْتَشِرُ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَدُورَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، أَوْ دَارَ وَلَكِنْ كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ عِلِّيَّةِ مَا عَدَا الْوَصْفَ الْمُعَيَّنَ فِيهِ ظَنِّيًّا.
فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، لَا فِي الْقَطْعِيَّاتِ، وَلَا فِي الظَّنِّيَّاتِ، حَكَاهُ فِي "الْبُرْهَانِ" عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ.
الثَّانِي:
أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانَ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هُوَ الصَّحِيحُ.
الثَّالِثُ:
أَنَّهُ حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ دُونَ الْمَنَاظِرِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْأَسَالِيبِ"1: إِنَّهُ يُفِيدُ الطَّالِبَ مَذْهَبَ الْخَصْمِ، دُونَ تصحيح مذهب المستدل؛ إذ لا يمتنع أَنْ يَقُولَ: مَا أَبْطَلْتُهُ بَاطِلٌ، وَمَا اخْتَرْتُهُ بَاطِلٌ.
وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَعَزَاهُ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي، وَسَائِرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ ضِمْنًا، وَتَصْرِيحًا، فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ2.
فَمِنَ الضِّمْنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ} إلى قوله: {حَكِيمٌ عَلِيم} 3، ومن التصريح قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج} إلى قوله: {الظَّالِمِين} 4.
وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنْ يَكُونَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ مَسْلَكًا.
قَالَ الْأَبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ "الْبُرْهَانِ": السَّبْرُ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِبَارِ أَوْصَافِ الْمَحَلِّ وَضَبْطِهَا، وَالتَّقْسِيمُ يَرْجِعُ إِلَى إِبْطَالِ مَا يَظْهَرُ إِبْطَالُهُ مِنْهَا، فَإِذًا لَا يَكُونُ مِنَ الْأَدِلَّةِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا تَسَامَحَ الْأُصُولِيُّونَ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ المنير: "ومن الأسئلة"* القاصمة لمسلم السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَنَّ الْمَنْفِيَّ لَا يَخْلُو فِي.
__________
* في "أ": والمسألة.
__________
1 الأساليب في الخلافيات لأبي المعالي الجويني وذكر فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، ا. هـ. كشف الظنون 1/ 75.
2 انظر البحث مفصلا في البحر المحيط 5/ 224-225. المنخول 351.
3 الآية 139 من سورة الأنعام.
4 جزء من الآيتين 142-143 من سورة الأنعام.(2/126)
نفس الأمر من أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا، أَوْ شَبَهًا، أَوْ طَرْدًا، "لِأَنَّهُ"* إِمَّا إِنْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَصْلَحَةٍ أَوْ لَا، فَإِنِ اشْتَمَلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْضَبِطَةً لِلْفَهْمِ أَوْ كُلِّيَّةً لَا تَنْضَبِطُ.
فَالْأَوَّلُ:
الْمُنَاسَبَةُ.
وَالثَّانِي:
الشَّبَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَصْلَحَةٍ أَصْلًا فَهُوَ الطَّرْدُ الْمَرْدُودُ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مُنَاسِبَةٌ أَوْ شَبَهٌ "يَعْنِي لُغِيَ"** السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ، وَإِنْ كَانَ عُرْيًا عَنِ الْمُنَاسَبَةِ قطعا، لم ينفع السبر والتقسيم أيضًا1.
__________
* في "أ": لا أنه.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر البحر المحيط 5/ 227. فواتح الرحموت 2/ 299-300.(2/127)
المسلك السادس: المناسبة
مدخل
...
الْمَسْلَكُ السَّادِسُ: الْمُنَاسَبَةُ
وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْإِخَالَةِ، وَبِالْمَصْلَحَةِ، وَبِالِاسْتِدْلَالِ، وَبِرِعَايَةِ الْمَقَاصِدِ، وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا: تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ وَهِيَ عُمْدَةُ كِتَابِ الْقِيَاسِ، وَمَحَلُّ غُمُوضِهِ وَوُضُوحِهِ.
وَمَعْنَى الْمُنَاسَبَةِ: هِيَ تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إِبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ، مَعَ السَّلَامَةِ عَنِ الْقَوَادِحِ، لَا بِنَصٍّ وَلَا غَيْرِهِ.
وَالْمُنَاسَبَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُلَاءَمَةُ، وَالْمُنَاسِبُ الْمُلَائِمُ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": النَّاسُ ذَكَرُوا فِي تَعْرِيفِ الْمُنَاسِبِ شَيْئَيْنِ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ الْمُفْضِي إِلَى مَا يُوَافِقُ الْإِنْسَانَ تَحْصِيلًا وَإِبْقَاءً، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ التَّحْصِيلِ بِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، وَعَنِ الْإِبْقَاءِ بِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ لِأَنَّ مَا قُصِدَ إِبْقَاؤُهُ فَإِزَالَتُهُ مَضَرَّةٌ، وَإِبْقَاؤُهُ دَفْعٌ لِلْمَضَرَّةِ.
ثُمَّ هَذَا التَّحْصِيلُ وَالْإِبْقَاءُ، قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا، وَقَدْ يَكُونُ مَظْنُونًا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا.
وَالْمَنْفَعَةُ عِبَارَةٌ عَنِ اللَّذَّةِ، أَوْ مَا يَكُونُ طَرِيقًا إِلَيْهَا، وَالْمَضَرَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَلَمِ، أَوْ مَا يَكُونُ طَرِيقًا إِلَيْهِ، وَاللَّذَّةُ قِيلَ فِي حَدِّهَا: إِنَّهَا إِدْرَاكُ الْمُلَائِمِ، وَالْأَلَمُ: إِدْرَاكُ الْمُنَافِي.
وَالصَّوَابُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْدِيدُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَظْهَرِ مَا يَجِدُهُ الْحَيُّ مِنْ نَفْسِهِ، وَيُدْرِكُ بِالضَّرُورَةِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يُتَعَذَّرُ تَعْرِيفُهُ بِمَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهُ.
الثَّانِي:
أَنَّهُ الْمُلَائِمُ لِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ فِي الْعَادَاتِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: هَذِهِ اللُّؤْلُؤَةُ تُنَاسِبُ هَذِهِ اللُّؤْلُؤَةَ(2/127)
في الجمع بينها فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ مُتَلَائِمٍ. انْتَهَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي تَعْرِيفِهَا الْقَائِلُونَ بِمَنْعِ تَعْلِيلِ أَفْعَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَغْرَاضِ، وَالْقَائِلُونَ بِتَعْلِيلِهَا بِهَا.
فَالْأَوَّلُونَ قَالُوا: إِنَّهَا الْمُلَائِمُ لِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ فِي الْعَادَاتِ، أَيْ: مَا يَكُونُ بِحَيْثُ يَقْصِدُ الْعُقَلَاءُ تَحْصِيلَهُ عَلَى مَجَارِي الْعَادَةِ بِتَحْصِيلٍ مَقْصُودٍ مَخْصُوصٍ.
وَالْآخَرُونَ قَالُوا: إنها ما تجلب للإنسان نفع، أو تدفع عنه ضرا1.
وَقِيلَ: هِيَ مَا لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تلقته بالقبول، كذا قال الدبوسي.
وقيل: وَعَلَى هَذَا فَإِثْبَاتُهَا عَلَى الْخَصْمِ مُتَعَذَّرٌ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَقُولُ: عَقْلِي لَا يَتَلَقَّى هَذَا بِالْقَبُولِ، ومن ثم قال الدبسوي: هُوَ حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ: لا للمناظر.
قال الغزالي: والحق بأنه يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ عَلَى الْجَاحِدِ بِتَبْيِينِ مَعْنَى الْمُنَاسَبَةِ عَلَى وَجْهٍ مَضْبُوطٍ، فَإِذَا أَبْدَاهُ الْمُعَلِّلُ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى جَحْدِهِ. انْتَهَى.
وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ إِلَّا ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إِنَّ الْمُنَاسِبَ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ يَحْصُلُ عَقْلًا مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مِنْ حُصُولِ مَصْلَحَةٍ وَدَفْعِ مَفْسَدَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ خَفِيًّا، أَوْ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ اعْتُبِرَ مَلَازِمُهُ، وَهُوَ الْمَظِنَّةُ؛ لِأَنَّ الْغَيْبَ لا يعرف الغيب، كالسفر للمشقة، والفعل المقضي عُرْفًا عَلَيْهِ بِالْعَمْدِ فِي الْعَمْدِيَّةِ.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي مَاهِيَّةِ الْمُنَاسَبَةِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ، وَهُوَ اقْتِرَانُ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الْمُنَاسِبِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ: الْمُنَاسَبَةُ مَعَ الِاقْتِرَانِ دَلِيلُ الْعِلَّةِ، وَلَوْ كَانَ الِاقْتِرَانُ دَاخِلًا فِي الْمَاهِيَّةِ لَمَا صَحَّ هَذَا.
وَأَيْضًا فَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ "بِالظَّاهِرَةِ"* الْمُنْضَبِطَةِ جَائِزٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ قَائِلُ هَذَا الْحَدِّ، وَالْوَصْفِيَّةُ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِيهَا مَعَ تَحَقُّقِ الْمُنَاسَبَةِ.
وَقَدِ احْتَجَّ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى إِفَادَتِهَا لِلْعِلِّيَّةِ بِتَمَسُّكِ الصَّحَابَةِ بِهَا، فَإِنَّهُمْ يُلْحِقُونَ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ، إِذَا غَلَبَ على "ظنهم"** أنه يُضَاهِيَهُ لِمَعْنًى أَوْ يُشْبِهَهُ.
وَرُدَّ2 بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِكُلِّ ظَنٍّ غَالِبٍ، فَلَا يَبْعُدُ التَّعَبُّدُ مَعَ نَوْعٍ مِنَ الظَّنِّ الْغَالِبِ، وَنَحْنُ "لَا" *** نَعْلَمُ ذَلِكَ النَّوْعَ.
ثُمَّ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فَالْأَوْلَى الِاعْتِمَادُ عَلَى العمومات الدالة على الأمر بالقياس.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": ظنه.
*** ما بين القوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر البحر المحيط 5/ 206. وميزان الأصول 2/ 864.
2 قال الزركشي في البحر ورده في الرسالة البهائية. البحر المحيط 5/ 207.(2/128)
انقسام المناسب من حيث الظن واليقين:
وَاعْلَمْ: أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِالْمُنَاسِبِ الْمَقْصُودُ بِهِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ يَقِينًا، كَمَصْلَحَةِ الْبَيْعِ لِلْحِلِّ، أَوْ ظَنًّا، كَمَصْلَحَةِ الْقِصَاصِ لِحِفْظِ النَّفْسِ، وَقَدْ يحتملهما عَلَى السَّوَاءِ، كَحَدِّ الْخَمْرِ، لِحِفْظِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ مساوٍ لِلْإِحْجَامِ، وَقَدْ يَكُونُ نَفْيُ الْحُصُولِ أَرْجَحَ، كَنِكَاحِ الْآيِسَةِ لِتَحْصِيلِ التَّنَاسُلِ، وَيَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ صِحَّةَ التَّعْلِيلِ بِالثَّالِثِ، وَبَعْضُهُمْ بِالرَّابِعِ.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: الْأَصَحُّ يَجُوزُ إِنْ كَانَ فِي آحَادِ الصُّوَرِ الشَّاذَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِي أَغْلَبِ الصُّوَرِ مِنَ الْجِنْسِ مُفْضِيًا إِلَى الْمَقْصُودِ، وَإِلَّا فَلَا.
أَمَّا إِذَا حَصَلَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ غَيْرُ ثَابِتٍ1، فَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: يُعْتَبَرُ التَّعْلِيلُ بِهِ، وَالْأَصَحُّ لَا يُعْتَبَرُ، سَوَاءٌ مَا لَا تَعَبُّدَ فِيهِ، كَلُحُوقِ نَسَبِ الْمَشْرِقِيِّ بِالْمَغْرِبِيَّةِ، وَمَا فِيهِ تَعَبَّدٌ، كَاسْتِبْرَاءِ جَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا بَائِعُهَا فِي المجلس.
__________
1 في البحر المحيط: "أَمَّا إِذَا حَصَلَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شرع الحكم ثابت فقالت ... " 5/ 208.(2/129)
انقسام المناسب إلى حقيقي وإقناعي:
المناسب ينقسم إِلَى حَقِيقِيٍّ وَإِقْنَاعِيٍّ.
وَالْحَقِيقِيُّ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ وَاقِعٌ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، وَمَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَمَحَلِّ التَّحْسِينِ.
الْأَوَّلُ: الضَّرُورِيُّ
وَهُوَ الْمُتَضَمِّنُ "حِفْظَ"* قصود مِنَ الْمَقَاصِدِ الْخَمْسِ، الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهَا الشَّرَائِعُ، بَلْ هِيَ مُطْبِقَةٌ عَلَى حِفْظِهَا، وَهِيَ خَمْسَةٌ:
أَحَدُهَا: حِفْظُ النَّفْسِ بِشَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَتَهَارَجَ الْخَلْقُ، وَاخْتَلَّ نِظَامُ الْمَصَالِحِ.
ثانيها: حِفْظُ الْمَالِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَعَدِّي، فَإِنَّ الْمَالَ قِوَامُ الْعَيْشِ، وَثَانِيهِمَا: الْقَطْعُ بِالسَّرِقَةِ.
ثَالِثُهَا: حِفْظُ النَّسْلِ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا، وَإِيجَابِ العقوبة عليه بالحد.
__________
* "أ": لحفظ.(2/129)
رَابِعُهَا: حِفْظُ الدِّينِ بِشَرْعِيَّةِ الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ، وَالْقِتَالِ لِلْكُفَّارِ.
خَامِسُهَا: حِفْظُ الْعَقْلِ بِشَرْعِيَّةِ الْحَدِّ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ قِوَامُ كُلِّ فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ، فَاخْتِلَالُهُ يُؤَدِّي إِلَى مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى دَعْوَى اتِّفَاقِ الشَّرَائِعِ عَلَى الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي الشَّرَائِعِ "السَّابِقَةِ"*، وَفِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُبَاحَ مِنْهَا فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ هُوَ مَا لَا يَبْلُغُ إِلَى حَدِّ السُّكْرِ الْمُزِيلِ لِلْعَقْلِ، فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، كَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ.
وَحَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنِ الْقَفَّالِ، ثُمَّ نَازَعَهُ فَقَالَ: تَوَاتَرَ الْخَبَرُ أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ إِلَى حَدٍّ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ.
وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي "شَرْحِ مُسْلِمٍ"1، وَلَفْظُهُ: وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ مَنْ لَا تَحْصِيلَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُسْكِرَ لَمْ يَزَلْ مُحَرَّمًا فَبَاطِلٌ، لَا أَصْلَ لَهُ. انْتَهَى.
قُلْتُ: وَقَدْ تَأَمَّلْتُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، فلم أجد فيهما إلا إِبَاحَةَ الْخَمْرِ مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِعَدَمِ السُّكْرِ، بَلْ فِيهِمَا التَّصْرِيحُ بِمَا يَتَعَقَّبُ الْخَمْرَ مِنَ السُّكْرِ، وَإِبَاحَةُ ذَلِكَ؛ "فَلَا"** يَتِمُّ دَعْوَى اتِّفَاقِ الْمَلَلِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَهَكَذَا تَأَمَّلْتُ كُتُبَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْيِيدِ أَصْلًا.
وَقَدْ زَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ سَادِسًا، وَهُوَ حِفْظُ الْأَعْرَاضِ، فَإِنَّ عَادَةَ الْعُقَلَاءِ بَذْلُ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ دُونَ أَعْرَاضِهِمْ، وَمَا فُدِيَ بِالضَّرُورِيِّ فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ أَوْلَى، وَقَدْ شُرِعَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ الْحَدُّ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْحِفْظِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَجَاوَزُ عَمَّنْ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَمَّنْ جَنَى عَلَى عِرْضِهِ، وَلِهَذَا يَقُولُ قَائِلُهُمْ:
يَهُونُ عَلَيْنَا أَنْ تُصَابَ جُسُومُنَا ... وَتَسْلَمَ أَعْرَاضٌ لَنَا وَعُقُولُ2
قَالُوا: وَيَلْتَحِقُ بِالْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ مُكَمِّلُ الضَّرُورِيِّ، كَتَحْرِيمِ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ، وَتَحْرِيمِ الْبِدْعَةِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي عُقُوبَةِ الْمُبْتَدِعِ، الدَّاعِي إِلَيْهَا، وَالْمُبَالِغَةِ فِي حِفْظِ النَّسَبِ، بِتَحْرِيمِ النَّظَرِ، وَاللَّمْسِ وَالتَّعْزِيرِ عَلَى ذلك.
__________
* في "أ": المتقدمة.
** في "أ": فلم
__________
1 وهو للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي، وهو شرح متوسط مفيد، سماه المنهاج في شرح مسلم بن الحجاج قال فيه: لولا ضعف الهمم وقلة الراغبين لبسطته فبلغت به ما يزيد على مائة مجلد ولكني أقتصر على التوسط. ا. هـ كشف الظنون 1/ 557.
2 وهو لأبي الطيب المتنبي من قصيدة له في ديوانه 352 والبيت من البحر الطويل.(2/130)
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْحَاجِيُّ
وَهُوَ مَا يَقَعُ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ، لَا مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، كَالْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَسَاكِنِ، مَعَ الْقُصُورِ عَنْ تَمَلُّكِهَا، وَامْتِنَاعِ مَالِكِهَا عَنْ بَذْلِهَا عَارِيَةً، وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ وَالْقِرَاضُ.
ثُمَّ اعْلَمْ: أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ قَدْ تَكُونُ جَلِيَّةً، فَتَنْتَهِي إِلَى الْقَطْعِ، كَالضَّرُورِيَّاتِ، وَقَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً كَالْمَعَانِي الْمُسْتَنْبَطَةِ لَا لدليل إلى مجرد احتمال اعتبار الشَّرْعِ لَهَا، وَقَدْ يَخْتَلِفُ التَّأْثِيرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: التَّحْسِينِيُّ
وَهُوَ قِسْمَانِ:
الأول:
ما هو غير مُعَارِضٌ لِلْقَوَاعِدِ، كَتَحْرِيمِ الْقَاذُورَاتِ، فَإِنَّ نَفْرَةَ الطِّبَاعِ عنها لقذارتها مَعْنًى يُنَاسِبُ حُرْمَةَ تَنَاوُلِهَا، حَثًّا عَلَى مَكَارِمِ الأخلاق، كما قال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِث} 1، "وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْمُسْتَحَبِّ"*، وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ" 2.
وَمِنْهُ سَلْبُ الْعَبْدِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا مَنْصِبٌ شَرِيفٌ، وَالْعَبْدُ نَازِلُ الْقَدْرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُلَائِمٍ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِ الشَّاهِدِ، وَإِيصَالِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَدَفْعِ الْيَدِ الظَّالِمَةِ عَنْهُ مِنْ مَرَاتِبِ الضَّرُورَةِ، وَاعْتِبَارُ نُقْصَانِ الْعَبْدِ فِي الرُّتْبَةِ وَالْمَنْصِبِ مِنْ مَرَاتِبِ التَّحْسِينِ، وَتَرْكُ مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ التَّحْسِينِ بَعِيدٌ جِدًّا، نَعَمْ لَوْ وُجِدَ لَفْظٌ يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ، وَيُعَلَّلُ بِهَذَا التَّعْلِيلِ، لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، فَأَمَّا مَعَ الِاسْتِقْلَالِ بِهَذَا التَّعْلِيلِ، فَفِيهِ هَذَا الْإِشْكَالُ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لِمَنْ رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ مُسْتَنَدًا أَوْ وَجْهًا.
وَأَمَّا سَلْبُ وِلَايَتِهِ، فَهُوَ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ؛ "إِذْ ولاية"** الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": لأن.
__________
1 جزء من الآية 157 من سورة الأعراف.
2 ذكره العجلوني في كشف الخفاء برقم 638 وقال: رواه مالك في الموطأ بلاغا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: قال ابن عبد البر هو متصل من وجود صحاح عن أبي هريرة وغيره.
وأخرجه البخاري في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة بلفظ: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" رقم 273 أحمد في مسنده 2/ 381 وانظر بقية التخريج في المقاصد الحسنة: ص131 رقم 204.(2/131)
وَالْعَبْدُ مُسْتَغْرَقٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ، فَتَفْوِيضُ أَمْرِ الطِّفْلِ إِلَيْهِ إِضْرَارٌ بِالطِّفْلِ، أَمَّا الشَّهَادَةُ فَتَتَّفِقُ أَحْيَانًا، كالرواية والفتوى"1.
__________
1 قال في حاشية "أ": كذا بالأصل الذي بين أيدينا من دون ذكر القسم الثاني فيما بعد فلعله سقط من بعض الناسخين، لكن ترشد إليه المقابلة وعبارة التحصيل والحاصل، والثالث كالتحسينات والحث على مكارم الأخلاق وهذا منه ما لا يعارض قاعدة معتبرة كتحريم القاذورات ومنه ما يعارضها كشرعية الكتابة ا. هـ.
كذا في جميع الأصول التي اطلعنا عليها حيث أشاروا إلى نقص القسم الثاني من قسمي التحسيني دون الانتباه إلى نقص القسم الثاني من قسمي المناسب أيضًا، وهو المناسب الإقناعي. وبما أن المصنف رحمه الله غالبا ما ينقل عن البحر المحيط للزركشي رأينا استدراك النقص من كتاب البحر المحيط للزركشي في هذا المكان. قال الزركشي:
"والثاني: ما هو معارض كالكتابة، فإنها من حيث كونها مكرمة في العوائد احتمل الشرع فيها خرم قاعدة ممهدة، وهي امتناع معاملة السيد عبده وامتناع مقابلة الملك بالملك على سبيل المعاوضة. نعم، هي جارية على قياس المالكية في أن العبد يملك. وزعم إمام الحرمين أنها خرجت عن قياس الوسائل عندهم؛ لأنها عندهم غير واجبة. لكنهم مع ذلك يقدرون خروجها عن القياس واشتمالها على شائبتي معاوضة وتعليق، على خلاف قياسهما.
وهذا القسم كله يتعلق بالدنيا، وقد يتعلق بالآخرة، كتزكية النفس ورياضتها وتهذيب الأخلاق المؤدية إلى امتثال الأمر واجتناب النهي. وقد يتعلق بالدارين، كإيجاب الكفارات؛ إذ يحصل بها الزجر عن تعاطي الأفعال الموجبة لها، وتحصيل تلافي الذنب الكبير.
وفائدة مراعاة هذا الترتيب أنه إذا تعارض مصلحتان وجب إعمال الضرورة المهمة وإلغاء التتمة.
وإما الإقناعي فهو الذي يظهر منه في بادئ الأمر أنه مناسب، لكن إذا بحث عنه حق البحث ظهر بخلافه، كقولهم في منع بيع الكلب قياسا على الخمر والميتة: إن كون الشيء نجسا يناسب إذلاله. ومقابلته بالمال في البيع إعزازا له، والجمع بينهما تناقض، فإذا كان هذا الوصف يناسب عدم جوز البيع لأن المناسبة مع الاقتران دليل العلية فهذا وإن كان مخيلا فهو عند النظر غير مناسب؛ إذ لا معنى لكون الشيء نجسا إلا عدم جواز الصلاة معه، ولا مناسبة بينه وبين عدم جواز البيع. كذا قال الرازي وتبعه الهندي. وقد ينازع في أن المراد بكونه نجسا منع الصلاة معه، بل ذلك من جملة أحكام النجس، وحينئذ فالتعليل بكون النجاسة يناسب الإذلال ليس بإقناعي". البحر المحيط 5/ 212-213.
(قلت - مُراجع النسخة الإلكترونية للمكتبة الشاملة-) : هنا في طبعة دار الفكر - بيروت ما يلي: "الثاني ما هو معارض للقواعد كشرعية الكتابة فإنها وإن كانت سحنة إلا أنها بيع الرجل ماله بماله وهو على خلاف الدليل"(2/132)
انقسام المناسب باعتبار شهادة الشرع وعدمها:
ثُمَّ اعْلَمْ: أَنَّ الْمُنَاسِبَ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الشَّرْعِ لَهُ، بِالْمُلَاءَمَةِ وَالتَّأْثِيرِ، وَعَدَمِهَا، إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ، أَوْ يُعْلَمَ أَنَّهُ أَلْغَاهُ، أَوْ لَا يُعْلَمَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:
مَا عُلِمَ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الرُّجْحَانُ، وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِبَارِ: إِيرَادُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ، لَا التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ، وَلَا الْإِيمَاءُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنِ الْعِلَّةُ مُسْتَفَادَةً مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: شَهِدَ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ.(2/132)
قال الغزالي في "شفاء العليل"1: الْمَعْنَى بِشَهَادَةِ أَصْلٍ مُعَيِّنٍ لِلْوَصْفِ أَنَّهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْحُكْمَ أُثْبِتَ شَرْعًا عَلَى وَفْقِهِ.
وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: لِأَنَّهُ إِمَّا أن يُعْتَبَرُ نَوْعُهُ فِي نَوْعِهِ، أَوْ فِي جِنْسِهِ، أَوْ جِنْسُهُ فِي نَوْعِهِ، أَوْ فِي جِنْسِهِ.
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يُعْتَبَرَ نَوْعُهُ فِي نَوْعِهِ، وَهُوَ خُصُوصُ الْوَصْفِ فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ، وَعُمُومُهُ فِي عُمُومِهِ، كَقِيَاسِ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ عَلَى الْقَتْلِ "بِالْجَارِحِ"*، فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ، بِجَامِعِ كَوْنِهِ قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانًا، فَإِنَّهُ قَدْ عَرَفَ تَأْثِيرَ خُصُوصِ كونه قتلا عمدا عدوانا فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ. وَمِثْلُ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَقِيقَةَ السُّكْرِ اقْتَضَتْ حَقِيقَةَ التَّحْرِيمِ، فَالنَّبِيذُ يُلْحَقُ بِالْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْعِلَّتَيْنِ، وَبَيْنَ الْحُكْمَيْنِ وَهَذَا الْقِسْمُ يُسَمَّى الْمُنَاسِبَ الْمُلَائِمَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بين القياسين.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْتَبَرَ نَوْعُهُ فِي جِنْسِهِ، كَقِيَاسِ تَقْدِيمِ الْإِخْوَةِ لِأَبَوَيْنِ عَلَى الْإِخْوَةِ لِأَبٍ فِي النِّكَاحِ عَلَى تَقْدِيمِهِمْ فِي الْإِرْثِ، فَإِنَّ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ نَوْعٌ وَاحِدٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَلَمْ يُعْرَفْ تَأْثِيرُهُ فِي التَّقْدِيمِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَلَكِنْ عُرِفَ تَأْثِيرُهُ فِي جِنْسِهِ؛ وَهُوَ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِمْ، فِيمَا ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ عَدَمِ "الْأَمْرِ"**، كَمَا فِي الْإِرْثِ، وهذا القسم دون ما قبله؛ لأن المقارنة بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَحَلَّيْنِ أَقْرَبُ مِنَ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُعْتَبَرَ جِنْسُهُ فِي نَوْعِهِ، كَقِيَاسِ إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ عَنِ الْحَائِضِ، عَلَى إِسْقَاطِ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ السَّاقِطَتَيْنِ عَنِ الْمُسَافِرِ، بِتَعْلِيلِ الْمَشَقَّةِ، وَالْمَشَقَّةُ جِنْسٌ، وَإِسْقَاطُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ، يُسْتَعْمَلُ عَلَى صِنْفَيْنِ، إِسْقَاطُ قَضَاءِ الْكُلِّ، وَإِسْقَاطُ قَضَاءِ الْبَعْضِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْإِبْهَامَ فِي الْعِلَّةِ أَكْبَرُ مَحْذُورًا مِنَ الْإِبْهَامِ فِي الْمَعْلُولِ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: اعْتِبَارُ جِنْسِ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ كَتَعْلِيلِ كَوْنِ حَدِّ الشُّرْبِ ثَمَانِينَ بِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْقَذْفِ، لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الِافْتِرَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَهُ قِيَاسًا عَلَى الْخَلْوَةِ، فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَظِنَّةَ الْوَطْءِ أُقِيمَتْ مَقَامَهُ، وَهَذَا كَالَّذِي قَبْلَهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
مَا عُلِمَ إِلْغَاءُ الشَّرْعِ لَهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: بِوُجُوبِ الصَّوْمِ ابْتِدَاءً فِي كَفَّارَةِ الْمِلْكِ الَّذِي وَاقَعَ فِي رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا الِانْزِجَارُ، وَهُوَ لَا ينزجر بالعتق، فهذا وإن كان.
__________
* في "أ": بالمثقل.
** في هامش "أ": كذا بالأصل ولعل الصواب عند عدم الأب
__________
1 واسمه: "شفاء العليل في القياس والتعليل". وهو في أصول الفقه قال فيه: بعد إلحاحك أيها المسترشد في اقتراحك ولجاجك في إظهار احتياجك إلى شفاء العليل في بيان مسائل التعليل من المناسب، والمحيل، والشبه، والطرد، أتيت فيه بالعجب العجاب ولباب الألباب ... ألخ ا. هـ كشف الظنون 2/ 1051.(2/133)
قِيَاسًا لَكِنَّ الشَّرْعَ أَلْغَاهُ، حَيْثُ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ مُرَتَّبَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ، فَالْقَوْلُ بِهِ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَكَانَ بَاطِلًا.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
مَا لَا يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ وَلَا إِلْغَاؤُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ.
وَقَدِ اشْتَهَرَ انْفِرَادُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْقَوْلِ بِهِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ يَكْتَفُونَ بِمُطْلَقِ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَا مَعْنَى لِلْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إِلَّا ذَلِكَ.
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَوْصَافُ إِنَّمَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا إِذَا ظن التفات الشرع إليها، وكل ما كَانَ الْتِفَاتُ الشَّرْعِ إِلَيْهِ أَكْثَرَ كَانَ ظَنُّ كَوْنِهِ مُعْتَبَرًا أَقْوَى، وَكُلَّمَا كَانَ الْوَصْفُ وَالْحُكْمُ أَخَصَّ كَانَ ظَنُّ كَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ ذَلِكَ الْحُكْمِ آكَدَ، فَيَكُونُ لَا مَحَالَةَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا يَكُونُ أَعَمَّ مِنْهُ.
وَأَمَا الْمُنَاسِبُ الَّذِي عُلِمَ أَنَّ الشَّرْعَ أَلْغَاهُ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا.
وَأَمَا الْمُنَاسِبُ الَّذِي لَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ أَلْغَاهُ، أَوِ اعْتَبَرَهُ، فَذَلِكَ يَكُونُ بِحَسَبِ أَوْصَافٍ هِيَ أَخَصُّ مِنْ كَوْنِهِ وَصْفًا مَصْلَحِيًّا، وَإِلَّا فَعُمُومُ كَوْنِهِ وَصْفًا مَصْلَحِيًّا مَشْهُودٌ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ، وَهَذَا الْقِسْمُ الْمُسَمَّى بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ. انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": وَغَيْرُ الْمُعْتَبَرِ هُوَ الْمُرْسَلُ، فَإِنْ كَانَ غَرِيبًا، أَوْ ثَبَتَ إِلْغَاؤُهُ فَمَرْدُودٌ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ مُلَائِمًا فَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ بِقَبُولِهِ، وَذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْمُخْتَارُ رَدُّهُ، وَشَرَطَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً، قَطْعِيَّةً، كُلِّيَّةً. انْتَهَى.
وَسَنَذْكُرُ لِلْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بَحْثًا مُسْتَقِلًّا فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ1.
__________
1 انظر: 2/ 172.(2/134)
انقسام المناسب من حيث التأثير والملاءمة وعدمهما:
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
أَنَّ الْمُنَاسِبَ: إِمَّا مُؤَثِّرٌ، أَوْ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَغَيْرُ الْمُؤَثِّرِ: إِمَّا مُلَائِمٌ، أَوْ غَيْرُ مُلَائِمٍ. "وَغَيْرُ الْمُلَائِمِ"* إِمَّا غَرِيبٌ، أَوْ مُرْسَلٌ، أَوْ مُلْغًى.
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ:
الْمُؤَثِّرُ: وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ النَّصُّ، أَوِ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً، تَدُلُّ عَلَى تَأْثِيرِ عَيْنِ الْوَصْفِ فِي عين الحكم أو نوعه في نوعه.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/134)
الصِّنْفُ الثَّانِي:
الْمُلَائِمُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ الشَّارِعُ عَيْنَهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِ الْوَصْفِ، لَا بِنَصٍّ وَلَا إِجْمَاعٍ، وَسُمِّيَ مُلَائِمًا لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ، وَهَذِهِ المرتبة دونما قَبْلَهَا.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ:
الْغَرِيبُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ عَيْنَهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِ الْوَصْفِ فَقَطْ، وَلَا يَعْتَبِرَ عَيْنَ الْوَصْفِ في جِنْسِ الْحُكْمِ، وَلَا عَيْنَهُ وَلَا جِنْسَهُ فِي جنسه بنص وإجماع، كالإسكار في تحريم الخمر، فإنه اعتبر عين الْإِسْكَارَ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، بِتَرْتِيبِ التَّحْرِيمِ عَلَى الْإِسْكَارِ فَقَطْ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْغَرِيبِ: تَوْرِيثُ الْمَبْتُوتَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، إِلْحَاقًا بِالْقَاتِلِ الْمَمْنُوعِ مِنَ الْمِيرَاثِ، تَعْلِيلًا بِالْمُعَارَضَةِ بِنَقِيضِ الْقَصْدِ، فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ ظَاهِرَةٌ، لَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَمْ يُعْهَدِ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْخَاصِّ، فَكَانَ غَرِيبًا لِذَلِكَ.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ:
الْمُرْسَلُ غَيْرُ الْمُلَائِمِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الحاجب الا تفاق عَلَى رَدِّهِ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ.
الصِّنْفُ الْخَامِسُ:
الْغَرِيبُ غَيْرُ الْمُلَائِمِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالِاتِّفَاقِ، واختلفوا: هل تنخرم المناسبة بالمعاوضة الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مَفْسَدَةٍ، أَوْ فَوَاتِ مصلحة تساوي المصلحة، أو ترجح عَلَيْهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهَا تَنْخَرِمُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ، وَاخْتَارَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ1 وَابْنُ الْحَاجِبِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ؛ وَلِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ، وَالْمَصْلَحَةَ إِذَا عَارَضَهَا مَا يُسَاوِيهَا لَمْ تُعَدَّ عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ مَصْلَحَةً.
الثَّانِي:
أَنَّهَا لَا تَنْخَرِمُ، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ"، وَالْبَيْضَاوِيُّ فِي "الْمِنْهَاجِ"، وَهَذَا الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمُعَارَضَةُ دَالَّةً عَلَى انْتِفَاءِ الْمَصْلَحَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فهي قادحة "بلا خلاف*.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 لعله محمد بن داود بن محمد المروزي، المعروف بالصيدلاني، أبو بكر، فقيه محدث، توفي سنة سبعٍ وعشرين وأربعمائة هـ، له مصنفات ا. هـ معجم المؤلفين 9/ 298.(2/135)
المسلك السابع: الشبه
مدخل
...
الْمَسْلَكُ السَّابِعُ: الشَّبَهُ
وَيُسَمِّيهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الِاسْتِدْلَالَ بِالشَّيْءِ عَلَى مِثْلِهِ، وَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خَاصٌّ؛ إِذِ الشَّبَهُ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ كُلَّ قِيَاسٍ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ كَوْنِ الْفَرْعِ شَبِيهًا بِالْأَصْلِ، بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ مَا يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ1. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: لَسْتُ أَرَى فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مَسْأَلَةً أَغْمَضَ مِنْهُ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ، فَقِيلَ: هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ يُوهِمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ: طَهَارَتَانِ فَأَنَّى تَفْتَرِقَانِ؟! كَذَا قَالَ الْخُوَارَزْمِيُّ فِي "الْكَافِي".
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": ذَكَرُوا فِي تَعْرِيفِهِ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ:
مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ أن الوصف: إما أن يَكُونُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ بِذَاتِهِ، وَإِمَّا لَا يُنَاسِبُهُ بِذَاتِهِ، لَكِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لِمَا يُنَاسِبُهُ بِذَاتِهِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُنَاسِبَهُ بِذَاتِهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ مَا يُنَاسِبُهُ بِذَاتِهِ.
فَالْأَوَّلُ: هُوَ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ. وَالثَّانِي: الشَّبَهُ. وَالثَّالِثُ: الطَّرْدُ.
الثَّانِي:
الْوَصْفُ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُرِفَ بِالنَّصِّ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ لذلك الحكم، وإما أن لا يَكُونَ كَذَلِكَ.
وَالْأَوَّلُ هُوَ الشَّبَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ يُظَنُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عُلِمَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْأَوْصَافِ لَيْسَ كَذَلِكَ يَكُونُ ظَنَّ إِسْنَادِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ أَقْوَى مِنْ ظَنِّ إِسْنَادِهِ إِلَى غَيْرِهِ. انْتَهَى.
وَحَكَى الْإِبْيَارِيُّ فِي "شَرْحِ الْبُرْهَانِ" عَنِ الْقَاضِي: أَنَّهُ مَا يُوهِمُ الِاشْتِمَالَ عَلَى وَصْفٍ مُخَيَّلٍ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَصْمَ قَدْ يُنَازِعُ فِي إِيهَامِ الِاشْتِمَالِ عَلَى مُخَيَّلٍ، إِمَّا حَقًّا أَوْ عِنَادًا، وَلَا يُمْكِنُ التَّقْرِيرُ عَلَيْهِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالَّذِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ" مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ هُوَ إِلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ لِكَثْرَةِ إِشْبَاهِهِ لِلْأَصْلِ فِي الْأَوْصَافِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الْأَوْصَافَ الَّتِي شَابَهَ الْفَرْعُ بِهَا الْأَصْلَ عِلَّةُ حُكْمِ الْأَصْلِ.
وَقِيلَ: الشَّبَهُ: هُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، وَلَكِنْ عُرِفَ اعْتِبَارُ جِنْسِهِ القريب في الجنس القريب.
__________
1 انظر البحر المحيط 5/ 231، ميزان الأصول 2/ 864 فواتح الرحموت 2/ 302.(2/136)
وَاخْتُلِفَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرْدِ، فَقِيلَ: إِنَّ الشَّبَهَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَصْفٍ يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالطَّرْدُ: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ الطَّرْدِ، وَهُوَ السَّلَامَةُ عَنِ النَّقْضِ وَنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمُسْتَصْفَى"1: الشَّبَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الطَّرْدِ بِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ لِعِلَّةِ الْحُكْمِ وَإِنْ لَمْ يُنَاسِبِ الْحُكْمَ، قَالَ: وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا بِقِيَاسِ الشَّبَهِ هَذَا، فَلَا أَدْرِي مَا أَرَادُوا بِهِ، وَبِمَا فَصَلُوهُ عَنِ الطَّرْدِ الْمَحْضِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الشَّبَهِيَّ وَالطَّرْدِيَّ يَجْتَمِعَانِ فِي عَدَمِ الظُّهُورِ فِي الْمُنَاسِبِ، وَيَتَخَالَفَانِ فِي أَنَّ الطَّرْدِيَّ عُهِدَ مِنَ الشَّارِعِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، وَسُمِّيَ شَبَهًا؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ يَجْزِمُ الْمُجْتَهِدُ بِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ، وَمِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ لَهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يُشْبِهُ الْمُنَاسِبَ، فَهُوَ بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِيِّ.
وَفَرَّقَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَيْنَ الشَّبَهِ وَالطَّرْدِ؛ بِأَنَّ الطَّرْدَ نِسْبَةُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ وَنَفْيُهُ عَلَى السَّوَاءِ، وَالشَّبَهُ نِسْبَةُ الثُّبُوتِ إِلَيْهِ مُتَرَجِّحَةٌ عَلَى نِسْبَةِ النَّفْيِ، فَافْتَرَقَا.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": وَيَتَمَيَّزُ، يَعْنِي: الشَّبَهَ عَنِ الطَّرْدِيِّ، بِأَنَّ وُجُودَهُ كَالْعَدَمِ، وَعَنِ الْمُنَاسِبِ الذَّاتِيِّ بِأَنَّ مُنَاسَبَتَهُ عَقْلِيَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِهِ كَالْإِسْكَارِ فِي التَّحْرِيمِ.
مِثَالُهُ: طَهَارَةٌ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَاءُ كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، فَالْمُنَاسَبَةُ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، وَاعْتِبَارُهَا فِي مَسِّ المصحف والصلاة يوهم المناسبة. انتهى.
__________
1 انظر المستصفى 2/ 311 فإن الغزالي أورد أمثلة لذلك وله كلام مطول في ذلك لم يذكره الإمام الشوكاني رحمه الله هنا.(2/137)
الْخِلَافُ فِي حُجِّيَّةِ الشَّبَهِ:
وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ حُجَّةً أَمْ لَا عَلَى مَذَاهِبَ.
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ.
الثَّانِي:
أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنِ ادَّعَى التَّحْقِيقَ مِنْهُمْ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَأَبُو بِكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ1.
الثالث:
اعتباره في الأشباه الرَّاجِعَةِ إِلَى الصُّورَةِ.
الرَّابِعُ:
اعْتِبَارُهُ فِيمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ، بِأَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلَّةِ الْحُكْمِ، فَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الْقِيَاسُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُشَابِهَةُ فِي الصُّورَةِ أو المعنى، وإليه ذهب الفخر
__________
1 انظر البحر المحيط 5/ 235-236، وفواتح الرحموت 2/ 302.(2/137)
الرَّازِيُّ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ.
الْخَامِسُ:
إِنْ تَمَسَّكَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ كَانَ حُجَّةً فِي حَقِّهِ، إِنْ حَصَلَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَإِلَّا فَلَا، وَأَمَّا الْمُنَاظِرُ فَيُقْبَلُ مِنْهُ مُطْلَقًا، هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمُسْتَصْفَى"1.
وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ، بِأَنَّهُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ بِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي "سَمَّيْتُمُوهُ"* شَبَهًا إِنْ كَانَ مُنَاسِبًا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنَاسِبٍ فَهُوَ الطَّرْدُ الْمَرْدُودُ بِالِاتِّفَاقِ.
الثَّانِي:
أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى عَمَلِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِالشَّبَهِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَصْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُنَاسِبًا كَانَ مَرْدُودًا بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ مَا لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا إِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمُنَاسِبِ، أَوْ عُرِفَ بِالنَّصِّ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَهُوَ غَيْرُ مَرْدُودٍ.
وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّا نُعَوِّلُ فِي إِثْبَاتِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فاَعتَبروٌا} 2 عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا كَانَ مُسْتَلْزَمًا لِلْمُنَاسِبِ كَالْمُنَاسِبِ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الظَّنُّ بِحَالٍ، وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدَّلَالَةِ، كَمَا سَبَقَ تقريره في أول مباحث القياس3.
__________
* في "أ": كان.
__________
1 انظر المستصفى 2/ 315.
2 جزء من الآية 2 من سورة الحشر.
3 انظر: 2/ 91.(2/138)
الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ: الطَّرْدُ
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْوَصْفُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُنَاسِبًا، وَلَا مُسْتَلْزِمًا لِلْمُنَاسِبِ، إِذَا كَانَ الْحُكْمُ حَاصِلًا مَعَ الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع، وَهَذَا الْمُرَادُ مِنَ الِاطِّرَادِ وَالْجَرَيَانِ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَائِنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فَقَالَ: مَهْمَا رَأَيْنَا الْحُكْمَ حَاصِلًا مَعَ الْوَصْفِ فِي صورة واحدة، يحصل ظن العلية.(2/138)
احْتَجُّوا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّادِرَ فِي كُلِّ بَابٍ يَلْحَقُ بِالْغَالِبِ، فَإِذَا رَأَيْنَا الْوَصْفَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ الْمُغَايِرَةِ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ مُقَارِنًا لِلْحُكْمِ، ثُمَّ رَأَيْنَا الْوَصْفَ حَاصِلًا فِي الْفَرْعِ، وَجَبَ أَنْ يُسْتَدَلَّ "بِهِ"* عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ إِلْحَاقًا لِتِلْكَ الصُّورَةِ بِسَائِرِ الصُّوَرِ.
وَثَانِيهِمَا:
إِذَا رَأَيْنَا فَرَسَ الْقَاضِي وَاقِفًا عَلَى بَابِ الْأَمِيرِ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا كَوْنُ الْقَاضِي فِي دَارِ الْأَمِيرِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ مُقَارَنَتَهُمَا فِي سَائِرِ الصُّوَرِ أَفَادَ ظَنَّ مُقَارَنَتِهِمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ.
وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِأَمْرَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا:
أَنَّ الِاطِّرَادَ: عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْوَصْفِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ إِلَّا وَيُوجَدُ مَعَهُ الْحُكْمُ، وَهَذَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ حَاصِلٌ مَعَهُ فِي الْفَرْعِ، فَإِذَا أَثْبَتُّمْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً، وَأَثْبَتُّمْ عِلِّيَّتَهُ بِكَوْنِهِ مُطَّرِدًا، لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَثَانِيهِمَا:
أَنَّ الْحَدَّ مَعَ الْمَحْدُودِ، وَالْجَوْهَرَ مَعَ الْعَرْضِ، وَذَاتَ اللَّهِ مَعَ صِفَاتِهِ: حَصَلَتِ الْمُقَارَنَةُ فيها مع عدم العلية.
والجواب "عن الأول"**: أَنَّ نَسْتَدِلَّ بِالْمُصَاحَبَةِ فِي كُلِّ الصُّوَرِ غَيْرِ الْفَرْعِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ غَايَةَ كَلَامِكُمْ حُصُولُ الطَّرْدِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، مُنْفَكًّا عَنِ الْعِلِّيَّةِ، وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ ظَاهِرًا، كَمَا أَنَّ الْغَيْمَ الرَّطْبَ دَلِيلُ الْمَطَرِ، ثُمَّ عَدَمُ نُزُولِ الْمَطَرِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا.
وَأَيْضًا: الْمُنَاسَبَةُ، وَالدَّوَرَانُ، وَالتَّأْثِيرُ، وَالْإِيمَاءُ قَدْ يَنْفَكُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنِ الْعِلِّيَّةِ،، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْحًا فِي كونها دليلا على العلية ظاهرا "فكذا ههنا"***. انْتَهَى.
وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ الطَّرْدَ وَالدَّوَرَانَ شَيْئًا وَاحِدًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الطَّرْدِ وَالدَّوَرَانِ: أَنَّ الطَّرْدَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُقَارَنَةِ فِي الْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ، وَالدَّوْرَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُقَارَنَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا.
وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ لِلطَّرْدِ الْمَذْكُورِ فِي "الْمَحْصُولِ" قَالَ الْهِنْدِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا1 فِي كَوْنِ الطَّرْدِ حُجَّةً، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** زيادة عن المحصول.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر البحر المحيط 5/ 249، التبصرة 460، ميزان الأصول 2/ 860.(2/139)
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ إِلَى التَّفْصِيلِ، فَقَالَ: هُوَ حُجَّةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.
وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْهُمْ.
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُدَانَ اللَّهُ بِهِ، وَاخْتَارَ الرَّازِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "التَّبْصِرَةِ" عَنِ الصَّيْرَفِيِّ. قَالَ الْكَرْخِيُّ: هُوَ مَقْبُولٌ جَدَلًا، وَلَا يُسَوَّغُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ عملا و"لا"* الْفَتْوَى بِهِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ، وَاقْتَدَى بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْعِرَاقِ، فَصَارُوا يَطْرُدُونَ الْأَوْصَافَ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَيَقُولُونَ إِنَّهَا قَدْ صَحَّتْ، كَقَوْلِهِمْ فِي مَسِّ الذَّكَرِ "مَسُّ"** آلَةِ الْحَدَثِ، فَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِهِ؛ لِأَنَّهُ طَوِيلٌ مَشْقُوقٌ، فَأَشْبَهَ الْبُوقَ، وَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: إِنَّهُ سَعْيٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَلَا يَكُونُ رُكْنًا، كَالسَّعْيِ بَيْنَ جَبَلَيْنِ بِنَيْسَابُورَ1، وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ هَذَا سُخْفٌ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَسَمَّى أَبُو زَيْدٍ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الطَّرْدَ حُجَّةً، وَالِاطِّرَادَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ حَشْوِيَّةَ أَهْلِ الْقِيَاسِ. قَالَ: ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة، معدن الفضلاء، ومنبع العلماء، وهي مدينة في الإقليم الرابع، تبعد عن الري مائة وستين فرسخا، وهي مدينة كثيرة المياه والثمار والفواكه ا. هـ معجم البلدان 5/ 331.(2/140)
الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ: الدَّوَرَانُ
وَهُوَ: أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ، وَيَرْتَفِعَ بِارْتِفَاعِهِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، كَالتَّحْرِيمِ مَعَ السُّكْرِ فِي الْعَصِيرِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا، فَلَمَّا حَدَثَ السُّكْرُ فِيهِ وُجِدَتِ الْحُرْمَةُ، ثُمَّ لَمَّا زَالَ السُّكْرُ بِصَيْرُورَتِهِ خَلًّا زَالَ التَّحْرِيمُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ السُّكْرُ1.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي إِفَادَتِهِ لِلْعِلِّيَّةِ.
فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْعِلِّيَّةِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ، بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تُوجِبُ
__________
1 انظر المستصفى 2/ 307 والبحر المحيط 5/ 243.(2/140)
الحكم بذاتها، وإنما هي علامة منصوبة، فإذا دَارَ الْوَصْفُ مَعَ الْحُكْمِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ "كَوْنُهُ مُعَرَّفًا"*.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هُوَ الْمُخْتَارُ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ كُلُّ مَنْ يَعْزِي إِلَى الْجَدَلِ إِلَى أَنَّهُ أَقْوَى مَا تَثْبُتُ بِهِ الْعِلَلُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ أَنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ مِنْ أَقْوَى الْمَسَالِكِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ بِمُجَرَّدِهِ، لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ.
وَاحْتَجُّوا: بِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مَعَ عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ، فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْلُولَ دَارَ مَعَ الْعِلَّةِ وَجُودًا وَعَدَمًا، مَعَ أَنَّ الْمَعْلُولَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِعِلَّتِهِ قَطْعًا، وَالْجَوْهَرُ وَالْعَرَضُ مُتَلَازِمَانِ، مَعَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي الْآخَرِ اتفاقا، والمتضايفان كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ مُتَلَازِمَانِ وَجُودًا وَعَدَمًا، مَعَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي الْآخَرِ، لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، وَوُجُوبِ تَصَاحُبِ الْمُتَضَايِفَيْنِ، وَإِلَّا لما كانا متضايفين.
__________
* في "أ": أنه معرف.(2/141)
المسلك العاشر تنقيح النماط
...
الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ: تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ 1
التَّنْقِيحُ فِي اللُّغَةِ: التهذيب والتميز، يقال: كَلَامٌ مُنَقَّحٌ، أَيْ: لَا حَشْوَ فِيهِ، وَالْمَنَاطُ هُوَ الْعِلَّةُ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَتَعْبِيرُهُمْ بالمناط عن العلة من باب المجازي اللُّغَوِيِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا عُلِّقَ بِهَا كَانَ كَالشَّيْءِ الْمَحْسُوسِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَصَارَ ذَلِكَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُهُ. انْتَهَى.
وَمَعْنَى تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: إِلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، بِأَنْ يُقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إِلَّا كَذَا، وَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ، فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُوجَبِ لَهُ، كَقِيَاسِ الْأُمَّةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السَّرَايَةِ، فإنه لا فارق بَيْنَهُمَا إِلَّا الذُّكُورَةُ، وَهُوَ مُلْغًى بِالْإِجْمَاعِ؛ إِذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعِلِّيَّةِ.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ قِيَاسٌ خَاصٌّ، مندرج تحت مطلق القياس،
__________
1 قال الزركشي: وسماه الحنفية بالاستدلال وأجروه في الكفارات، وفرقوا بينه وبين القياس بأن القياس ما ألحق فيه بذكر الجامع الذي لا يفيد إلا غلبة الظن، والاستدلال ما يكون الإلحاق فيه بإلغاء الفارق الذي يفيد القطع، متى أجروا مجرى القطعيات في النسخ وجوزوا الزيادة على النص ولم يجوزوا نسخه بخبر الواحد. ا. هـ البحر المحيط 5/ 255.(2/141)
وَهُوَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ.
وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ يكون ظنيا، وهو الأكثر، وقطعيا ولكن حُصُولَ الْقَطْعِ فِيمَا فِيهِ الْإِلْحَاقٌ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَكْثَرُ مِنَ الَّذِي الْإِلْحَاقِ فِيهِ بِذِكْرِ الْجَامِعِ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ فَرْقًا فِي الْمَعْنَى، بَلْ فِي الْوُقُوعِ، وَحِينَئِذٍ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ يَقُولُ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ، وَلَا نَعْرِفُ بَيْنَ الْأُمَّةِ خِلَافًا فِي جَوَازِهِ، وَنَازَعَهُ الْعَبْدَرِيُّ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ ثَابِتٌ بَيْنَ مَنْ يُثْبِتُ الْقِيَاسَ وَيُنْكِرُهُ، لِرُجُوعِهِ إِلَى الْقِيَاسِ.
وَقَدْ زَعَمَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ هُوَ مَسْلَكُ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، فَلَا يَحْسُنُ عَدُّهُ نَوْعًا آخَرَ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا ظَاهِرًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَصْرَ فِي دَلَالَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ، إِمَّا اسْتِقْلَالًا أَوِ اعْتِبَارًا، وَفِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ لِتَعْيِينِ الْفَارِقِ وَإِبْطَالِهِ، لَا لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ.(2/142)
الْمَسْلَكُ الْحَادِيَ عَشَرَ: تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ
وَهُوَ: أَنْ يقع الاتفاق على علية وصف بنص، وإجماع، فَيُجْتَهَدَ فِي وُجُودِهَا فِي صُورَةِ النِّزَاعِ، كَتَحْقِيقِ أَنَّ النَّبَّاشَ سَارِقٌ.
وَسُمِّيَ تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ؛ لِأَنَّ الْمَنَاطَ وَهُوَ الْوَصْفُ عُلِمَ أَنَّهُ مُنَاطٌ، وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي تَحْقِيقِ وَجُودِهِ فِي الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَالْقِيَاسُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا قِيَاسًا1.
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا الْقِيَاسَ مِنْ أَصْلِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِيَاسُ عِلَّةٍ.
وَقِيَاسُ دَلَالَةٍ.
وَقِيَاسٌ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ.
فَقِيَاسُ الْعِلَّةِ: مَا صُرِّحَ فِيهِ بِالْعِلَّةِ، كَمَا يُقَالُ فِي النَّبِيذِ: إِنَّهُ مُسْكِرٌ فَيَحْرُمُ كَالْخَمْرِ.
وَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ: هُوَ أَنْ لَا يُذْكَرَ فِيهِ الْعِلَّةُ، بَلْ وَصْفٌ مُلَازِمٌ لَهَا، كَمَا لَوْ عُلِّلَ فِي قِيَاسِ النَّبِيذِ عَلَى الخمر برائحة المشتد.
__________
1 انظر البحر المحيط 5/ 256 والمستصفى 2/ 230.(2/142)
وَالْقِيَاسُ الَّذِي فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، هُوَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَهُوَ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَيْضًا قَسَّمُوا الْقِيَاسَ إِلَى جَلِيٍّ، وَخَفِيٍّ.
فَالْجَلِيُّ: مَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، كَقِيَاسِ الْأَمَةِ على العبد في أحكام العتق، فإنا علم قَطْعًا أَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ فِيهَا مِمَّا لَمْ يَعْتَبِرْهُ الشَّارِعُ، وَأَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا ذَلِكَ، فَحَصَلَ لَنَا الْقَطْعُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ.
وَالْخَفِيُّ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ نَفْيُ الْفَارِقِ فِيهِ مظنونا في كَقِيَاسِ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ فِي الْحُرْمَةِ؛ إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ خُصُوصِيَّةُ الْخَمْرِ مُعْتَبَرَةً، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ.(2/143)
الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ:
حكم جريان القياس في الأسباب:
فَمِنْ ذَلِكَ الْأَسْبَابُ
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ:
فذهب أصحاب أبي حنيفة، وجماعة من الشَّافِعِيَّةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهَا.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ يَجْرِي فِيهَا.
وَمَعْنَى الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ: أَنْ يَجْعَلَ الشَّارِعُ وَصْفًا سَبَبًا لِحُكْمٍ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ وَصْفٌ آخَرُ، فَيُحْكَمُ بِكَوْنِهِ سَبَبًا.
وَذَلِكَ نَحْوُ: جَعْلِ الزِّنَا سَبَبًا لِلْحَدِّ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ اللِّوَاطُ، فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحَدِّ.
احْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ عِلِّيَّةَ سَبَبِيَّةِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَهِيَ قَدْرٌ مِنَ الْحِكْمَةِ، يَتَضَمَّنُهَا الْوَصْفُ الْأَوَّلُ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْمَقِيسِ، وَهُوَ الْوَصْفُ الْآخَرُ، أَيْ: لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهَا فِيهِ لِعَدَمِ انْضِبَاطِ الْحِكْمَةِ، وتغاير الوصفين، فيجوز اختلاف قدر الْحِكْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ السَّبَبِيَّةُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقِيَاسِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِلَّةِ، وَبِهِ يُمْكِنُ التَّشْرِيكُ فِي الْحُكْمِ.
وَأَيْضًا: الْحِكْمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً مُنْضَبِطَةً، يُمْكِنُ جَعْلُهَا مَنَاطًا لِلْحُكْمِ أَوْ لَا تَكُونُ.
فَعَلَى الْأَوَّلِ: قَدِ اسْتَغْنَى الْقِيَاسُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْوَصْفَيْنِ، وَصَارَ الْقِيَاسُ فِي الْحُكْمِ.(2/143)
المترتب على الحكمة، وهي الجامع بينهما، فتحد الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَفْرُوضِ.
وَعَلَى الثَّانِي: فإما أن يَكُونُ لَهَا مَظِنَّةٌ، أَيْ: وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، تنضبط هي به أولا، فَعَلَى الْأَوَّلِ صَارَ الْقِيَاسُ فِي الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ، فَاتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ أَيْضًا.
وَعَلَى الثَّانِي: لَا جَامِعَ بَيْنَهُمَا مِنْ حِكْمَةٍ أَوْ مَظِنَّةٍ، فَيَكُونُ قِيَاسًا خَالِيًا عَنِ الْجَامِعِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ: بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ الْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ، وَذَلِكَ كَقِيَاسِ الْمُثْقَلِ عَلَى الْمُحَدَّدِ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْقِصَاصِ، وَقِيَاسِ اللِّوَاطَةِ عَلَى الزِّنَا فِي كَوْنِهَا سَبَبًا لِلْحَدِّ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا تَغَايَرَ فِيهِ السَّبَبُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، أَيِ: الْوَصْفُ المتضمن للحكمة، وكذا العلة، وهي الحكمة، وههنا السَّبَبُ سَبَبٌ وَاحِدٌ، يَثْبُتُ لَهُمَا، أَيْ: لِمَحِلَّيِ الْحُكْمِ، وَهُمَا الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ. فَفِي الْمُثْقَلِ وَالْمُحَدَّدِ السَّبَبُ هُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ، وَالْعِلَّةُ الزَّجْرُ لِحِفْظِ النَّفْسِ، وَالْحُكْمُ الْقِصَاصُ، وَفِي الزِّنَا وَاللِّوَاطَةِ السَّبَبُ إِيلَاجُ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا، مُشْتَهًى طَبْعًا، وَالْعِلَّةُ الزَّجْرُ لِحِفْظِ النَّسَبِ، وَالْحُكْمُ وُجُوبُ الْحَدِّ.
وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَرُدُّ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ الْمَانِعِينَ مِنَ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالْقِصَاصِ فِي الْمُثْقَلِ، ولا بالحد في اللواط، وإنما يرد على مَنْ قَالَ بِمَنْعِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِذَلِكَ.
قَالَ الْمُحَقِّقُ السَّعْدُ: وَالْحَقُّ أَنَّ رَفْعَ النِّزَاعِ بِمِثْلِ ذَلِكَ يَعْنِي: بِكَوْنِهِ لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ مُمْكِنٌ فِي كُلِّ صُورَةٍ، فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ لَا يَقْصِدُونَ إِلَّا ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْوَصْفَيْنِ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْجَامِعِ، وَيَعُودُ إِلَى مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ.(2/144)
القياس في الحدود والكفارات:
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا: هَلْ يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي الْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتِ، أَمْ لَا؟ فَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَجَوَّزَهُ غَيْرُهُمْ1.
احْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ الْحُدُودَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَقْدِيرَاتٍ لَا تُعْقَلُ، كَعَدَدِ الْمِائَةِ فِي الزِّنَا، وَالثَمَانِينَ فِي الْقَذْفِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يُدْرِكُ الْحِكْمَةَ فِي اعْتِبَارِ خُصُوصِ هَذَا الْعَدَدِ، وَالْقِيَاسُ فَرْعُ تَعَقُّلِ الْمَعْنَى فِي حِكْمَةِ الْأَصْلِ، وَمَا كَانَ يُعْقَلُ مِنْهَا، كَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ، لِكَوْنِهَا قَدْ جنت بالسرقة.
__________
1 قال في فواتح الرحموت 2/ 317: قال الحنفية: لا يجري القياس في الحدود خلافا لمن عداهم لاشتمالها على تقديرات لا تعقل بالرأي. ا. هـ وانظر المستصفى 2/ 334.(2/144)
فَقُطِعَتْ، فَإِنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْقِيَاسِ لِاحْتِمَالِهِ الْخَطَأَ تُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ إِثْبَاتِهِ بِالْقِيَاسِ، وَهَكَذَا اخْتِلَافُ تَقْدِيرَاتِ الْكَفَّارَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ، كَمَا لَا تُعْقَلُ أَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ.
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ جَرَيَانَ الْقِيَاسِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ مِنْهَا، لَا فِيمَا لَا يُعْقَلُ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِيهِ، كَمَا فِي غَيْرِ الْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَلَا مَدْخَلَ لِخُصُوصِيَّتِهِمَا فِي امْتِنَاعِ الْقِيَاسِ.
وَأُجِيبَ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي الْقِيَاسِ، لِاحْتِمَالِهِ الْخَطَأَ، بِالنَّقْضِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَبِالشَّهَادَةِ، فَإِنَّ احْتِمَالَ الْخَطَإِ فِيهِمَا قَائِمٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُفِيدَانِ الْقَطْعَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ ثُبُوتِ الْحَدِّ بِهِمَا.
وَالْجَوَابُ: الْجَوَابُ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ، بِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ يَتَنَاوَلُهُمَا بِعُمُومِهِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ فِيهِمَا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ حَدُّوا فِي الْخَمْرِ بِالْقِيَاسِ، حَتَّى تَشَاوَرُوا فِيهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إِذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَأَرَى عَلَيْهِ حَدَّ الِافْتِرَاءِ"1.
فَأَقَامَ مَظِنَّةَ الشَّيْءِ مَقَامَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِأَنَّ الْقِيَاسَ إِنَّمَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ، لاقتضائه الظَّنِّ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِيهِمَا، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ عَدَمَ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِيمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، كَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّ الْمُخَالِفَ فِي ذَلِكَ شُذُوذٌ.
وَوَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ تَعَقُّلِ الْمَعْنَى الْمُعَلَّلِ بِهِ الحكم في الأصل.
واستدل مَنْ أَثْبَتَ الْقِيَاسَ فِيمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ: بأن الأحكام الشرعية متماثلة؛ لأنه يشتملها حد واحد، وهو حد الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، وَالْمُتَمَاثِلَانِ يَجِبُ اشْتِرَاكُهُمَا فِيمَا يَجُوزُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُوجِبُ التَّمَاثُلَ، وَهُوَ الِاشْتِرَاكُ فِي النَّوْعِ، فَإِنَّ الْأَنْوَاعَ الْمُتَخَالِفَةَ قَدْ تَنْدَرِجُ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَيَعُمُّهَا حَدٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَدُّ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَمَاثُلُهَا، بَلْ تَشْتَرِكُ فِي الْجِنْسِ، وَيَمْتَازُ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا بِأَمْرٍ يُمَيِّزُهُ، وَحِينَئِذٍ فَمَا كَانَ يَلْحَقُهَا بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ مِنَ الْجَوَازِ وَالِامْتِنَاعِ يَكُونُ عَامًّا، لَا مَا كَانَ يَلْحَقُهَا باعتبار غيره.
__________
1 أخرجه البيهقي من حديث علي رضي الله عنه، كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في عدد حد الخمر موقوفا على علي رضي الله عنه 8/ 321. ومالك في الموطأ، كتاب الأشربة، باب الحد في الخمر 2، 2/ 842.(2/145)
الفصل السادس: في الاعتراضات
مدخل
...
الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي الِاعْتِرَاضَاتِ
أَيْ: مَا يَعْتَرِضُ بِهِ الْمُعْتَرِضُ عَلَى كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
مُطَالَبَاتٍ، وَقَوَادِحَ، ومعارضة؛ لأن الكلام الْمُعْتَرِضِ: إِمَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ تَسْلِيمَ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ أَوْ لَا.
الْأَوَّلُ: الْمُعَارَضَةُ.
وَالثَّانِي: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ ذَلِكَ الدَّلِيلَ أَوْ لَا.
الْأَوَّلُ: الْمُطَالَبَةُ. وَالثَّانِي: الْقَدْحُ.
وَقَدْ أَطْنَبَ الْجَدَلِيُّونَ فِي هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ، وَوَسَّعُوا دَائِرَةَ الْأَبْحَاثِ فِيهَا، حَتَّى ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مِنْهَا ثَلَاثِينَ اعْتِرَاضًا، وَبَعْضُهُمْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهَا عَشْرَةً، وَجَعَلَ الْبَاقِيَةَ رَاجِعَةً إِلَيْهَا، فَقَالَ هِيَ: فَسَادُ الْوَضْعِ، فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، عدم التأثير، القول بالموجب، النقض، القلب، المنع، التقسيم، المعارضة، المطالبة.
قال: ولكل مُخْتَلَفٌ فِيهِ إِلَّا الْمَنْعَ، وَالْمُطَالَبَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى الْمَنْعِ وَالْمُطَالَبَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ فِي الْمَنْعِ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ "الْعَنْبَرِيُّ"*، وَخَالَفَ فِي الْمُطَالَبَةِ شُذُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "الْمُخْتَصَرِ": إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مَنْعٍ، أَوْ مُعَارَضَةٍ، وَإِلَّا لَمْ تُسْمَعْ، وَهِيَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ. انْتَهَى.
وَقَدْ ذَكَرَهَا جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ، فَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا كَالْعِلَاوَةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَوْضِعَ ذِكْرِهَا عِلْمُ الْجَدَلِ.
وَقَالَ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ": إِنَّهَا أَرْبَعَةٌ: النَّقْضُ، وَعَدَمُ التأثير، والقول بالموجب، والقلب. انتهى.
وسنذكر ههنا منها ثمانية وعشرين اعتراضا.
__________
* في أ: أبو إسحاق الشيرازي، والصواب العنبري كما قال الزركشي في كتابه: وخالف في المنع غير واحد من الأئمة وهو الشيخ أبو إسحاق العنبري على حسب ما سمعته من القاضي الإمام فخر الدين أحمد الخطابي. انتهى. البحر المحيط 5/ 260.(2/146)
الِاعْتِرَاضُ الْأَوَّلُ: النَّقْضُ
وَهُوَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَلَوْ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنِ اعْتَرَفَ الْمُسْتَدِلُّ بِذَلِكَ كَانَ نَقْضًا صَحِيحًا، عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ قَادِحًا، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَهُ قَادِحًا فَلَا يُسَمِّيهِ نَقْضًا، بَلْ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ.
وَقَدْ بَالَغَ أَبُو زَيْدٍ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُسَمِّيهِ نَقْضًا1.
وَيَنْحَصِرُ النَّقْضُ فِي تِسْعِ صُوَرٍ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِمَّا مَنْصُوصَةٌ قَطْعًا، أَوْ ظَنًّا، أَوْ مُسْتَنْبَطَةٌ، وَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا: إِمَّا لِمَانِعٍ، أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ، أو بدونها.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلَّةً مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً عن سواء كَانَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ أَوْ لَا لِمَانِعٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْفَخْرِ الرَّازِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ، وَرَجَّحُوا أَنَّهُ مَذْهَبُهُ2.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي:
أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ مُطْلَقًا فِي كَوْنِهَا عِلَّةً فِيمَا وَرَاءَ النَّقْضِ، وَيَتَعَيَّنُ بِتَقْدِيرِ مَانِعٍ، أَوْ تَخَلُّفِ شَرْطٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أكثر أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وَأَحْمَدَ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ، وَيَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ، حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الْمُعْظَمِ، فَقَالَ: ذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ النَّقْضَ يُبْطِلُ الْعِلَّةَ الْمُسْتَنْبَطَةَ.
وَقَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": زَعَمَ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ عِلِّيَّةَ الْوَصْفَ إِذَا ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ لَمْ يَقْدَحِ التَّخْصِيصُ فِي عِلِّيَّتِهِ.
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ، عَكْسُ الَّذِي قَبْلَهُ، حَكَاهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا.
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ:
أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ إِذَا كَانَ لِمَانِعٍ أَوْ عَدَمِ شَرْطٍ، وَيَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ، حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَدْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، وَقَالُوا: لَعَلَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْآمِدِيِّ، وَفِي كَلَامِ الآمدي ما يدفعه.
__________
1 ومثاله: قولنا فيمن لم يبيت النية: صوم تعرى أوله عن النية فلا يصح. فيقال: فينتقض بصوم التطوع. ا. هـ البحر المحيط 5/ 261.
2 وذلك لأن علله سليمة عن الانتقاض جارية على مقتضاها، وأن النقض يشبه تجريح البينة المعدلة. ا. هـ البحر المحيط 5/ 262.(2/147)
المذهب السادس:
أنه لا يقدح حيث وجود مَانِعٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعُ قَدْحٍ، وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ.
الْمَذْهَبُ السَّابِعُ:
أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ فِي صُورَتَيْنِ، إِذَا كَانَ التَّخَلُّفُ لِمَانِعٍ، أَوِ انْتِفَاءِ شَرْطٍ، وَلَا يَقْدَحُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ التَّخَلُّفُ بِدُونِهِمَا.
وَأَمَّا الْمَنْصُوصَةُ: فَإِنْ كَانَ النَّصُّ ظَنِّيًّا، وَقُدِّرَ مَانِعٌ، أَوْ فَوَاتُ شَرْطٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا لَمْ يَجُزْ، أَيْ: لَمْ يَكُنْ وقوعه؛ لأن الحكم لو تخلف لتخلف الدَّلِيلُ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ إِلَّا بِظَاهِرٍ عَامٍّ، وَلَا يَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ إِلَّا لِمَانِعٍ، أَوْ فَقْدِ شَرْطٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ الْآمِدِيِّ.
الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ:
أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي عِلَّةِ الْوُجُوبِ وَالْحَلِّ، دُونَ عِلَّةِ الْحَظْرِ، حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ.
الْمَذْهَبُ التَّاسِعُ:
أَنَّهُ يَقْدَحُ إِنِ انْتَقَضَتْ عَلَى أَصْلِ مَنْ جَعَلَهَا عِلَّةً، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْحُكْمُ بِهَا، وَإِنِ اطَّرَدَتْ عَلَى أَصْلِهِ أُلْزِمَ، حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، قَالَ: وَهُوَ مِنْ حَشْوِ الْكَلَامِ، لَوْلَا أَنَّهُ أُودِعَ كِتَابًا مُسْتَعْمَلًا لَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى.
الْمَذْهَبُ الْعَاشِرُ:
إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُؤَثِّرَةً لَمْ يَرِدِ النَّقْضُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ لَا يُنْقَضُ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ، وَرَدَّهُ بِأَنَّ النَّقْضَ يُفِيدُ عَدَمَ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ.
الْمَذْهَبُ الْحَادِيَ عَشَرَ:
إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً، فَإِنِ اتَّجَهَ فَرْقٌ بَيْنَ مَحَلِّ التَّعْلِيلِ، وَبَيْنَ صُورَةِ النَّقْضِ بطلت عليته؛ لكونه المذكور أولا جزء مِنَ الْعِلَّةِ، وَلَيْسَتْ عِلَّةً تَامَّةً، وَإِنْ لَمْ يَتَّجِهْ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ مجمعا عليه، أو ثابتا بمسلك قاطع "سَمْعِيٍّ"* بَطَلَتْ عِلِّيَّتُهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِيَ عَشَرَ:
إِنْ "تَخَلَّفَ"** الحكم عن العلة "له"*** ثَلَاثُ صُوَرٍ.
الصُّورَةُ الْأُولَى: أَنْ يَعْرِضَ فِي جَرَيَانِ الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ اطِّرَادِهَا، فَإِنَّهُ يَقْدَحُ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ تَنْتَفِيَ الْعِلَّةُ لَا لِخَلَلٍ فِي نَفْسِهَا، لَكِنْ لِمُعَارَضَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى، فَهَذِهِ لا تقدح.
الثالثة: أن يختلف الْحُكْمُ لَا لِخَلَلٍ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ، لَكِنْ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا مَحَلَّهَا، أَوْ شَرْطَهَا، فَلَا يَقْدَحُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ، وَفِي كَلَامِهِ طُولٌ.
الْمَذْهَبُ الثالث عشر:
إن كان النقص مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَدِلِّ فَلَا يَقْدَحُ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قد يكون
__________
*ما بين القوسين ساقط من "أ". وكلمة "قاطع" قبلها ساقطة من "ب".
** في "أ": أن يختلف.
***في "أ": وله.(2/148)
صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَيَنْقُضُهُ الْمُسْتَدِلُّ، فَلَا يَكُونُ نَقْضُهُ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْقُضُهُ عَلَى أَصْلِهِ، وَيَكُونُ أَصْلُ غَيْرِهِ مُخَالِفًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ النَّقْضُ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَرِضِ قَدَحَ، حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ.
الْمَذْهَبُ الرَّابِعَ عَشَرَ:
أَنَّ عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ إِنْ ثَبَتَتْ بِالْمُنَاسَبَةِ، أَوِ الدَّوْرَانِ، وَكَانَ النَّقْضُ بِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا لِمَانِعٍ، لَمْ يَقْدَحْ فِي عِلِّيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّخَلُّفُ لَا لِمَانِعٍ قَدَحَ، حَكَاهُ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ"، وَنَسَبَهُ إِلَى الْأَكْثَرِينَ.
الْمَذْهَبُ الْخَامِسَ عَشَرَ:
أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِنْ فُسِّرَتْ بِالْمُوجِبَةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ عِلِّيَّتُهَا مَعَ الِانْتِقَاضِ، وَإِنْ فُسِّرَتْ بِالْمُعَرِّفَةِ، فَيُتَصَوَّرُ عِلِّيَّتُهَا مَعَ الِانْتِقَاضِ، وَهَذَا رَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ، لَا لَفْظِيٌّ، عَلَى كل حال.
قال الزركشي: في "البحر": واعمل أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْعِلَّةِ مَنْقُوضٌ بِكَذَا؛ فَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ، وَيُطَالِبُهُ بِالدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِهَا فِي مَحَلِّ النَّقْضِ، وَهَذِهِ الْمُطَالَبَةُ مَسْمُوعَةٌ بِالِاتِّفَاقِ. انْتَهَى1.
قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَيْدِ الدَّافِعِ لِلنَّقْضِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا، بَلْ غَيْرُ الْمُنَاسِبِ مَقْبُولٌ، مَسْمُوعٌ اتِّفَاقًا، وَالْمَانِعُونَ مِنَ التَّعْلِيلِ بِالشَّبَهِ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": هَلْ يَجُوزُ دَفْعُ النَّقْضِ بِقَيْدٍ طَرْدِيٍّ؟ أَمَّا الطَّارِدُونَ فَقَدْ جوزوه، وأما منكرو الطرد فمنهم من جوزوه، وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَحَدَ أَجْزَاءِ العلة إذا لم يكون مُؤَثِّرًا لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعُ الْعِلَّةِ مُؤَثِّرًا، وَهَكَذَا قال إمام الحرمين في "الْبُرْهَانِ"، ثُمَّ اخْتَارَ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ الطَّرْدِيُّ يُشِيرُ إِلَى مَسْأَلَةٍ تُفَارِقُ مَسْأَلَةَ النِّزَاعِ بِفِقْهٍ، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْعِلَّةِ، وَإِلَّا فَلَا يُفِيدُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، قَالَ: وَلَوْ فُرِضَ التَّقْيِيدُ بَاسِمٍ غَيْرِ مُشْعِرٍ بِفِقْهٍ، وَلَكِنْ مُبَايَنَةُ الْمُسَمَّى بِهِ لِمَا عَدَاهُ مَشْهُورَةٌ بَيْنَ النُّظَّارِ، فَهَلْ يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِمِثْلِهِ تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ؟ اخْتَلَفَ فيه الجدليون، والأقرب تصحيحه؛ لأنه اصطلاح2.
__________
1 انظر البحر المحيط 5/ 271. ولكنه قال: "وهذه المطالبة ممنوعة بالاتفاق" ففي العبار تحريف.
2 انظر البحر المحيط 5/ 273.(2/149)
الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: الْكَسْرُ
وَهُوَ إِسْقَاطُ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ، وَإِخْرَاجُهُ عَنِ الِاعْتِبَارِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ في حد العلة1.
__________
1 انظر المنخول 410، والبحر المحيط 5/ 278.(2/149)
هَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ، وَالْجَدَلِيِّينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ: بِأَنَّهُ وُجُودُ الْمَعْنَى فِي صُورَةٍ، مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ: وُجُودُ مَعْنَى تِلْكَ الْعِلَّةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَا يُوجَدُ مَعَهَا ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ كَالنَّقْضِ.
وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "الْمُخْتَصَرِ": الْكَسْرُ: وَهُوَ نَقْضُ الْمَعْنَى، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالنَّقْضِ. وَمِثَالُهُ: أَنْ يُعَلِّلَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ بِالْمَشَقَّةِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: مَا ذَكَرْتَهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ يَنْتَقِضُ بِمَشَقَّةِ أَرْبَابِ الصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ فِي الْحَضَرِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الْكَسْرَ غَيْرُ مُبْطِلٍ.
وَأَمَّا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، مِنْهُمُ: الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، فَجَعَلُوهُ مِنَ الْقَوَادِحِ.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: الْكَسْرُ نَقْضٌ يَرِدُ عَلَى بَعْضِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْآمِدِيُّ بِالنَّقْضِ الْمَكْسُورِ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ، إِلَّا إِذَا بَيَّنَ الْخَصْمُ إِلْغَاءَ الْقَيْدِ، وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِالْكَسْرِ إِلَّا إِذَا بَيَّن أَمَّا إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَرْدُودٌ، وَأَمَّا إِذَا بَيَّن، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ قَادِحٌ، وَقَوْلُ الْآمِدِيِّ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ غير قادح مردود.
قال الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "التَّلْخِيصِ": وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَسْرَ سُؤَالٌ مَلِيحٌ، وَالِاشْتِغَالَ بِهِ يَنْتَهِي إِلَى بَيَانِ الْفِقْهِ، وَتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِفْسَادِ الْعِلَّةِ بِهِ، وَيُسَمُّونَهُ النَّقْضَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، وَالْإِلْزَامَ مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ، وَأَنْكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ، قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ نَقْضٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّقْضِ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ. انْتَهَى.
وَقَدْ جَعَلُوا مِنْهُ مَا رواه البيهقي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ دُعي إِلَى دَارٍ فَأَجَابَ، ودُعي إِلَى دَارٍ أُخْرَى فَلَمْ يُجِبْ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "إِنَّ فِي دَارِ فُلَانٍ كلبا"، فقيل: وفي هذه الدار سنور، فقال: "السنور سبع" 1.
__________
1 أخرجه البيهقي، من حديث أبي هريرة، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة 1/ 249 والدارقطني، كتاب الطهارة، باب الأسآر 1/ 63. وابن أبي شيبة، كتاب الطهارات، باب من قال لا يجزء ويغسل منه الإناء 1/ 47 بلفظ "الهر سبع". والحاكم، كتاب الطهارة 15/ 183. وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه.
وعيسى بن المسيب تفرد عن أبي زرعة، إلا أنه صدوق ولم يجرح قط.
وتعقبه الذهبي: قلت: قال أبو داود: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وبعهم يسرده مختصرا، وبعضهم يأتي به بقصة. قال الزيلعي في نصب الراية 1/ 134: قال ابن أبي حاتم في علله، قال أبو زرعة: لم يرفعه أبو نعيم وهو أصح، وعيسى ليس بالقوي، ثم قال: أخرجه العقيلي في "كتاب الضعفاء" من طريقه وقال: لا يتابعه إلا من هو مثله أو دونه. وجاء في التلخيص الحبير 1/ 25 قال ابن الجوزي: لا يصح. وأخرجه ابن عدي في "الكامل" في ترجمة عيسى وقال: هذا لا يرويه غير عيسى بن المسيب بهذا الإسناد ولعيسى بن المسيب غير هذا الحديث وهو صالح فيما يرويه. ا. هـ.(2/150)
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْهِرَّةَ يَكْسِرُ المعنى، فأجاب بالفرق، هو أَنَّ الْهِرَّةَ سَبُعٌ، أَيْ: لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، كَذَا قِيلَ.
قَالَ فِي "الْمَنْخُولِ": قَالَ الْجَدَلِيُّونَ: الْكَسْرُ يُفَارِقُ النَّقْضَ، فَإِنَّهُ يَرِدُ عَلَى إِخَالَةِ الْمُعَلِّلِ، لَا عَلَى عِبَارَتِهِ، وَالنَّقْضُ يَرِدُ عَلَى الْعِبَارَةِ، قَالَ: وَعِنْدَنَا لَا مَعْنَى لِلْكَسْرِ، فَإِنَّ كُلَّ عِبَارَةٍ لَا إِخَالَةَ فِيهَا، فَهِيَ طَرْدٌ مَحْذُوفٌ، فَالْوَارِدُ عَلَى الْإِخَالَةِ نَقْضٌ، وَلَوْ أُورِدَ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ مَعَ كَوْنِهِمَا مُخْتَلِفَيْنِ، فَهُوَ بَاطِلٌ لا يقبل1.
__________
1 قال في المنخول: إن الكسر سؤال لازم، ويفارق النقض، فإنه يرد على إخالة العلة لا على عبارتها والنقض يرد على العبارة. ا. هـ المنخول ص410.(2/151)
الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: عَدَمُ الْعَكْسِ
وَهُوَ وُجُودُ الْحُكْمِ بِدُونِ الْوَصْفِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى، كَاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ عَلَى مَنْعِ تَقْدِيمِ أَذَانِ الصُّبْحِ بِقَوْلِهِ: صَلَاةٌ لَا تُقْصَرُ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ أَذَانِهَا كَالْمَغْرِبِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا الْوَصْفُ لَا يَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ مَنْعُ التَّقْدِيمِ لِلْأَذَانِ عَلَى الْوَقْتِ مَوْجُودٌ فِيمَا قُصِرَ مِنَ الصَّلَوَاتِ لِعِلَّةٍ أُخْرَى.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِذَا قُلْنَا: إِنَّ اجْتِمَاعَ الْعِلَلِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ غَيْرُ وَاقِعٍ، فَالْعَكْسُ لَازِمٌ مَا لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ "بِتَوْقِيفٍ"*، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ بَيَانُهُ، بِخِلَافِ مَا أَلْزَمْنَاهُ فِي النَّقْضِ؛ لِأَنَّ ذَاكَ داعٍ إِلَى الِانْتِشَارِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ إِشْعَارَ النَّفْيِ بِالنَّفْيِ مُنْحَطٌّ عَنْ إِشْعَارِ الثُّبُوتِ بِالثُّبُوتِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَا يَرِدُ سُؤَالُ الْعَكْسِ، إِلَّا أن يتفق المتناظران على اتحاد العلة.
__________
* في "أ": يتوقف.(2/151)
الاعتراض الرابع: عدم التأثير
وقد ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ قَوِيٌّ، حَتَّى قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِنَّهُ مِنْ أَصَحِّ مَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْعِلَّةِ.
وقال ابن السَّمْعَانِيُّ: ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا سُؤَالَ عَدَمِ التَّأْثِيرِ، وَلَسْتُ أَرَى لَهُ وَجْهًا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُعَلِّلُ التَّأْثِيرَ لِعِلَّتِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ مَا أُقِيمَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا بالتأثير، وقد(2/151)
جَعَلَهُ الْقَائِلُونَ بِهِ مُنْقَسِمًا إِلَى أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ:
عدم التأثير في الوصف "لكونه"* طَرْدِيًّا وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى عَدَمِ الْعَكْسِ السَّابِقِ قَبْلَ هَذَا كَقَوْلِهِمْ صَلَاةُ الصُّبْحِ لَا تُقْصَرُ فَلَا تُقَدَّمُ عَلَى وَقْتِهَا كَالْمَغْرِبِ فَقَوْلُهُمْ: لَا تقصر "وصف"** طردي بالنسبة إلى عدم التَّقْدِيمِ.
الثَّانِي:
عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْأَصْلِ "بِكَوْنِهِ"*** مُسْتَغْنًى عَنْهُ فِي الْأَصْلِ لِوُجُودِ مَعْنًى آخَرَ مُسْتَقِلٍّ بِالْغَرَضِ، كَقَوْلِهِمْ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ مَبِيعٌ غير مرئي كالطير في الهواء؛ فلا يصح فَيُقَالُ: لَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَرْئِيٍّ فَإِنَّ الْعَجْزَ عَنِ التَّسْلِيمِ كافٍ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الطَّيْرِ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ مَرْئِيًّا.
وَحَاصِلُهُ: مُعَارَضَةٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُلْغِي مِنَ الْعِلَّةِ وَصْفًا، ثُمَّ يُعَارِضُهُ الْمُسْتَدِلُّ بِمَا بَقِيَ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فَسَادُ الْعِلَّةِ بِمَا ذَكَرْنَا.
وَقِيلَ: بَلْ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ ذلك القيد له أثر في الجمل، وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، كَالشَّاهِدِ الثَّالِثِ بَعْدَ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَيْدَ لَيْسَ مَحَلَّهُ، وَلَا وَصْفًا لَهُ، فَذِكْرُهُ لَغْوٌ، بِخِلَافِ الشَّاهِدِ الثَّالِثِ، فَإِنَّهُ مُتَهَيِّئٌ لِأَنْ يَصِيرَ عند عدم صحة شهادته أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ رُكْنًا.
الثَّالِثُ:
عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَمِيعًا؛ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ فِي الْحُكْمِ، إِمَّا ضَرُورِيَّةً، كَقَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ "عِبَادَةً مُتَعَلِّقَةً بِالْأَحْجَارِ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا معصية، فاشترط فيها العد كَالْجِمَارِ"****.
وَإِمَّا غَيْرَ ضَرُورِيَّةٍ، كَقَوْلِهِمُ: الْجُمُعَةُ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالظُّهْرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: مَفْرُوضَةٌ حَشْوٌ لَوْ حُذِفَ لَمْ يَضُرَّ.
الرَّابِعُ:
عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْفَرْعِ، كَقَوْلِهِمْ: زَوَّجَتْ نَفْسَهَا فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ: "تَزَوَّجَتْ***** مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، "فَيُقَالُ"******: غَيْرُ كُفْءٍ لَا أَثَرَ لَهُ، فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي الْكُفْءِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: الْجَوَازُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ الْأَصَحُّ.
والثاني: المنع.
__________
* في "أ": لكونه.
** في "أ": إلى وصف عدم التقد يم.
*** في "أ": لكونه.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": زوجت.
****** في "أ": فإن كونه.(2/152)
وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ، وَهُوَ عَدَمُ الْجَوَازِ مَعَ تَبْيِينِ مَحَلِّ السُّؤَالِ، وَالْجَوَازُ مَعَ عَدَمِهِ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
الْخَامِسُ:
عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ فِي الدَّلِيلِ وَصْفًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهِ، كَقَوْلِهِمْ فِي الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يُتْلِفُونَ الْأَمْوَالَ: مُشْرِكُونَ أَتْلَفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ كَالْحَرْبِيِّ، فَإِنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْحُكْمِ، فَلَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ أَوْجَبَ الضَّمَانَ يُوجِبُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَا مَنْ نَفَاهُ يَنْفِيهِ مُطْلَقًا.(2/153)
الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسُ: الْقَلْبُ
قَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ أَنْ يُبَيِّنَ الْقَالَبُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا لَهُ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَهُ، وَالْأَوَّلُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ فِي الْأَقْيِسَةِ.
وَمِثْلُهُ فِي الْمَنْصُوصِ: بِاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ فِي تَوْرِيثِ الْخَالِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْخَالُ وَارْثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ" 1. فَأَثْبَتَ إِرْثَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَيْكَ لَا لَكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ نَفْيُ تَوْرِيثِ الْخَالِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ: الْجُوعُ زَادُ مَنْ لَا زَادَ لَهُ، وَالصَّبْرُ حِيلَةُ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ، أَيْ: لَيْسَ الْجُوعُ زَادًا، وَلَا الصَّبْرُ حِيلَةً.
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": الْقَلْبُ مُعَارَضَةٌ إِلَّا فِي أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ فِي الْعِلَّةِ، وَفِي سَائِرِ الْمُعَارَضَاتِ يُمْكِنُ.
وَالثَّانِي:
لَا يُمْكِنُ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ وَفَرْعَهُ أَصْلُ الْمُعَلِّلِ وَفَرْعُهُ، وَيُمْكِنُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُعَارَضَاتِ، أَمَّا فِيمَا وَرَاءَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَارَضَةِ.
قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ دَعْوَى؛ "لِأَنَّ"* مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ عَلَيْهِ لَا لَهُ فِي تلك المسألة على ذلك الوجه. انتهى.
__________
* في "أ": أن.
__________
1 أخرجه أبو داود من حديث المقدام، كتاب الفرائض، باب في أرزاق الذرية 2899. وابن ماجه، كتاب الفرائض، باب ذوي الأرحام 2738. وأحمد في مسنده 4/ 133. وابن حبان في صحيحه 6035.
الدارقطني 4/ 85. والبيهقي، كتاب الفرائض، باب من قال بتوريث ذوي الأرحام 6/ 214. والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 397. النسائي في الكبرى في التحفة 8/ 510. وابن أبي شيبة 11/ 264.(2/153)
وَجَعَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَشُرَّاحُ كَلَامِهِ قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
تَصْحِيحُ مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ لِتَنَافِيهِمَا.
وَثَانِيهِمَا:
إِبْطَالُ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ ابْتِدَاءً، إما صريحا، أو بالالتزام.
ومثال الأول: أن يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: الِاعْتِكَافُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ لُبْثٌ، فَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.
فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الصَّوْمُ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.
وَمِثَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ فِي أَنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ رُبُعِ الرَّأْسِ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءٍ، فَلَا يَكْفِي أَقَلُّهُ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: فَلَا يُقَدَّرُ بِالرُّبُعِ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، هَذَا الصَّرِيحُ.
وَأَمَّا الِالْتِزَامُ: فَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: بَيْعُ غَيْرِ الْمَرْئِيِّ بَيْعُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ: كَالنِّكَاحِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، كَالنِّكَاحِ.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى اعْتِبَارِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ الْجُمْهُورُ، وَأَنَّهُ قَادِحٌ.
وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَقَالَ: إِنَّ الْحُكْمَيْنِ، أَيْ: مَا يُثْبِتُهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَمَا يُثْبِتُهُ الْقَالَبُ، إِنْ لَمْ يَتَنَافَيَا فَلَا قَلْبَ؛ إِذْ لَا مَنْعَ مِنَ اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لِحُكْمَيْنِ غَيْرِ مُتَنَافِيَيْنِ، وَإِنِ اسْتَحَالَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يُمْكِنِ الرَّدُّ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بعينه، فلا يكون قلبا؛ إذ لا بد فِيهِ مِنَ الرَّدِّ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ.
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الْحُكْمَيْنِ غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ لِذَاتِهِمَا، فَلَا جَرَمَ يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْأَصْلِ، لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْفَرْعِ، فَإِذَا أَثْبَتَ الْقَالِبُ الْحُكْمَ الْآخَرَ فِي الْفَرْعِ بِالرَّدِّ إِلَى الْأَصْلِ، امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَازِمٌ جَدَلًا لَا دِينًا1.
وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ هَذَا الْقَلْبَ إِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، حَيْثُ اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" 2 فِي مَسْأَلَةِ الساحة، قال: وفي "هدم"* البناء ضرار
__________
* في "أ": هذا
__________
1 انظر البحث المحيط 5/ 290-291.
2 أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس، كتاب الأحكام باب من بنى في حقه ما يضر بجاره 2340/ 2341". والحاكم في المستدرك 2/ 58 الدارقطني في سننه 4/ 227 ومالك في الموطأ كتاب الأقضية باب القضاء في المرفق 31، 2/ 745 وأيضًا في كتاب المكاتب، باب ما لا يجوز من عتق المكاتب 13، 2/ 804 وذكره الشافعي في الأم، باب فيمن أحيا أرضا مواتا 7/ 230.(2/154)
بِالْغَاصِبِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُنَا: وَفِي بَيْعِ صَاحِبِ السَّاحَةِ "لِسَاحَتِهِ"* إِضْرَارٌ بِهِ1.
قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: "لَا"** يَصِحُّ سُؤَالُ الْقَلْبِ، قَالَ: وَهُوَ شَاهِدُ زُورٍ، يَشْهَدُ لَكَ وَيَشْهَدُ عَلَيْكَ، قَالَ: وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقَالِبَ عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِمَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَلِيلِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ عَارَضَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ.
وَقِيلَ: هُوَ بَاطِلٌ؛ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا فِي الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ.
وَمِنْ أَنْوَاعِ الْقَلْبِ، جَعْلُ الْمَعْلُولِ عِلَّةً، وَالْعِلَّةِ مَعْلُولًا، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنْ لَا عِلَّةَ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ، وَالْمَعْلُولَ هُوَ الْحُكْمُ الْوَاجِبُ لَهَا.
وَقَدْ فَرَّقُوا بين القلب والمعارض بِوُجُوهٍ:
مِنْهَا مَا قَدَّمْنَا عَنِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ.
وقال القاضي أبي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: إِنَّهُ مُعَارَضَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": وَالْحَقُّ أَنَّهُ نَوْعُ مُعَارَضَةٍ، اشْتَرَكَ فِيهِ الْأَصْلُ وَالْجَامِعُ، فَكَانَ أَوْلَى بالقبول.
__________
* في "أ": الساحة.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 لم يذكرها الأحناف بمسألة الساحة وإنما ذكروها بمسألة الساجة، في مبسوط السرخسي: يجب رد المغصوب كالساجة إذا بني عليها، وتأثير هذا الكلام أن العين باقية والرد جائز شرعا، وحجتهم في ذلك أن العين ملك المغصوب منه وما أتصل به من الوصف "البناء" متقوم حق للغاصب وسبب ظلمه لا يسقط قيمة ما كان متقوما من حقه، ودفع الضرر واجب فيتعين دفع الضرر هنا بإيجاب قيمة المغصوب حقا للمغصوب منه ليتوصل هو إلى مالية ملكه ويبقى حق صاحب الوصف في الوصف مرعيا هذا لأنه لا بد من إلحاق الضرر بأحدهما إلا أن في الإضرار بالغاصب إهدار حقه وفي قطع حق المغصوب منه بضمان القيمة توفير المالية عليه لا إهدار حقه ودفع الضرر واجب بحسب الإمكان وضرر النقل دون ضرر الإبطال. ا. هـ المبسوط 11/ 93. وانظر الهداية 3/ 297.
وقالت الشافعية بخلاف ذلك فقال النووي في المجموع: وإن غصب أرضا فغرس فيها غراسا أو بنى فيها بناء فدعا فيها صاحب الأرض إلى قلع الغراس ونقض البناء لزمه ذلك. ا. هـ المجموع 14/ 256 مختصر المزني: 118.(2/155)
الِاعْتِرَاضُ السَّادِسُ: الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ
بِفَتْحِ الْجِيمِ، أَيِ: الْقَوْلُ بِمَا أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَحَدُّهُ: تَسْلِيمُ مَا جَعَلَهُ الْمُسْتَدِلُّ مُوجَبَ الْعِلَّةِ، مَعَ اسْتِبْقَاءِ الْخِلَافِ. انْتَهَى.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَذَلِكَ بِأَنْ يَظُنَّ الْمُعَلِّلُ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ مُسْتَلْزَمٌ لِمَطْلُوبِهِ، مِنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَلْزَمٍ.
قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَعْرِيفِ الرَّازِيِّ لَهُ بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْقِيَاسِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: حَدُّوهُ بِتَسْلِيمِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ فِيهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَهُوَ بَيَانُ غلظ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى إِيجَابِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شاةٌ" 1 فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَقُولُ بِمُوجَبِ هَذَا الدَّلِيلِ، لَكِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، "فَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الْحَدُّ"*، وَلَيْسَ قَوْلًا بِالْمُوجَبِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَظْهَرَ عُذْرٌ لِلْمُسْتَدِلِّ عُذْرٌ مُعْتَبَرٌ.
وَمِنْ أَنْوَاعِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ: أن يذكر المستدل إحدى المقدمتين، ويسكت عن الْأُخْرَى، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ، فَيَقُولَ الْخَصْمُ بِمُوجَبِ الْمُقَدِّمَةِ، وَيَبْقَى عَلَى الْمَنْعِ لِمَا عَدَاهَا.
وَمِنْهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ الْمُسْتَدِلُّ تَلَازُمًا بَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَبَيْنَ مَحَلٍّ آخَرَ، فَيَنْصِبَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ بِالْمُوجَبِ وَمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَارَضَةِ: أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى خُرُوجِ الدَّلِيلِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَالْمُعَارَضَةُ فِيهَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّ لِلدَّلِيلِ دَلَالَةً عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ سُؤَالٌ صَحِيحٌ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمُمَانَعَةِ، وَلَا بُدَّ فِي "تَوَجُّهِهِ"** مِنْ شَرْطٍ، وَهُوَ أَنْ يُسْنَدَ الْحُكْمُ الَّذِي يُنْصَبُ لَهُ الْعِلَّةُ إِلَى شَيْءٍ، مِثْلَ قَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي مَاءِ الزَّعْفَرَانِ: مَاءٌ خَالَطَهُ طَاهِرٌ، وَالْمُخَالَطَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوُضُوءِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: الْمَخَالِطُ لَا يمنع، لكنه ليس بماء مطلق2.
__________
* في "أ": ومكانها: عندي كالمظنون للمستدل.
** في "أ": موجهة.
__________
1 تقدم تخريجه في 2/ 393.
2 انظر البحر المحيط 5/ 300.(2/156)
قَالَ فِي "الْمَنْخُولِ"1: الْأُصُولِيُّونَ يَقُولُونَ تَارَةً: إِنَّ الْقَوْلَ بِالْمُوجَبِ لَيْسَ اعْتِرَاضًا، وَهُوَ لَعَمْرِي كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْعِلَّةَ؛ لِأَنَّهَا إِذَا جَرَتِ الْعِلَّةُ وَحُكْمُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ فَلَأَنْ تَجْرِي وَحُكْمُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَوْلَى.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ إِبْدَاءُ سَنَدِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ أَمْ لَا؟
فَقِيلَ: يَجِبُ لِقُرْبِهِ إِلَى ضَبْطِ الْكَلَامِ، وَصَوْنِهِ عَنِ الْخَبْطِ، وَإِلَّا فَقَدَ يَقُولُ بِالْمُوجَبِ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ.
وَقِيلَ: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّى بِمَا عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ الْجَوَابُ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَآخِذِ مَذْهَبِهِ، قَالَ الْآمِدِيُّ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
__________
1 انظر المنخول 402.(2/157)
الِاعْتِرَاضُ السَّابِعُ: الْفَرْقُ
وَهُوَ إِبْدَاءُ وَصْفٍ فِي الْأَصْلِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، أَوْ جُزْءَ عِلَّةٍ، وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْفَرْعِ، سَوَاءٌ كَانَ مُنَاسِبًا أَوْ شَبَهًا إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ شَبِيهَةً، بِأَنْ يَجْمَعَ الْمُسْتَدِلُّ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِأَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَيُبْدِي الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا فَارِقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْعِ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": الْكَلَامُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ انْتَهَى.
وَقَدِ اشْتَرَطُوا فِيهِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَرْقٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ هُوَ، وَلَيْسَ كُلَّمَا انْفَرَدَ "بِهِ"* الْأَصْلُ بِوَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ يَكُونُ مُؤَثِّرًا، مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مُلْغًى لِلِاعْتِبَارِ بِغَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ الْوَصْفُ الْفَارِقِ قَادِحًا.
وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ قاطعا للجمع: "بأن"** كون أَخَصَّ مِنَ الْجَمْعِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، أَوْ مِثْلَهُ فَيُعَارِضُهُ.
قَالَ جُمْهُورُ الْجَدَلِيِّينَ فِي حِدَّهِ: الْفَرْقُ قَطْعُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ؛ إِذِ اللَّفْظُ أَشْعَرُ بِهِ.
وَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ مِنْهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَقِيقَتُهُ الْمَنْعُ مِنَ الْإِلْحَاقِ بِذِكْرِ وَصْفٍ فِي الْفَرْعِ، أَوْ فِي الْأَصْلِ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنَّ الْفَرْقَ لَيْسَ سؤالا على حياله، وإنما هو
__________
*ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في"أ": بين أن.(2/157)
مُعَارَضَةُ الْأَصْلِ بِمَعْنًى أَوْ مُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ الَّتِي نَصَبَهَا الْمُسْتَدِلُّ فِي الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَهُوَ سُؤَالٌ صَحِيحٌ، كَمَا اخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَجُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَالْفُقَهَاءِ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيُعْتَرَضُ عَلَى الْفَارِقِ مَعَ قَبُولِهِ فِي الْأَصْلِ بِمَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ.(2/158)
الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنُ: الِاسْتِفْسَارُ
وَقَدْ قَدَّمَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى الِاعْتِرَاضَاتِ، وَمَعْنَاهُ: طَلَبُ شَرْحِ مَعْنَى اللَّفْظِ إِنْ كَانَ غَرِيبًا، أَوْ مُجْمَلًا، وَيَقَعُ بِهَلْ، أَوِ الْهَمْزَةِ، أَوْ نَحْوِهِمَا، مِمَّا يُطْلَبُ بِهِ شَرْحُ الْمَاهِيَّةِ، وَهُوَ سُؤَالٌ مَقْبُولٌ مُعَوَّلٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ غَلِطَ مَنْ لَمْ يَقْبَلْهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا، لَمْ يَظْهَرْ وِفَاقٌ وَلَا خِلَافٌ.
وَقَدْ يَرْجِعُ الْمُخَالِفُ إِلَى الْمُوَافَقَةِ "عَنْ* أن يتضح له محل النزاع، ولكن لَا يَقْبَلُ إِلَّا بَعْدَ بَيَانِ اشْتِمَالِ اللَّفْظِ عَلَى إِجْمَالٍ، أَوْ غَرَابَةٍ، فَيَقُولَ الْمُعْتَرِضُ.
أَوَّلًا: اللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ مُجْمَلٌ، أَوْ غَرِيبٌ بِدَلِيلِ كَذَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ التَّفْسِيرُ.
وَحَكَى الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْجَدَلِيِّينَ أَنْكَرَ كَوْنَهُ اعْتِرَاضًا؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ فَرْعُ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمُتَنَازَعِ فِيهِ1.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ لِلِاعْتِرَاضَاتِ قَدْ جَعَلُوهُ طَلِيعَةَ جَيْشِهَا، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا؛ إِذِ الِاعْتِرَاضُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُخْدَشُ بِهِ كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ، وَالِاسْتِفْسَارُ ليس من هذا القبيل.
__________
* في "أ": عند.
__________
1 انظر البحر المحيط 5/ 318.(2/158)
الِاعْتِرَاضُ التَّاسِعُ: فَسَادُ الِاعْتِبَارِ
أَيْ: أَنَّهُ لَا يمكن اعتبار القياس في ذلك الحكم، لمخالفه للنص، أو الإجماع، أو كان الحكم ما لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ1، أَوْ كَانَ تَرْكِيبُهُ مشعرا بنقيد الحكم المطلوب.
__________
1 مثاله: إلحاق المصراة بغيرها من العيوب في حكم الرد وعدمه ووجوب بدل لبنها الموجود في الضرع.(2/158)
وَخَصَّ فَسَادَ الِاعْتِبَارِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ بِمُخَالَفَتِهِ لِلنَّصِّ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، فَقَدَّمُوا الْقِيَاسَ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَجَوَابُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَحَدِ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: الطَّعْنُ فِي سَنَدِ النَّصِّ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ.
أَوْ مَنْعُ ظُهُورِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ الْمُسْتَدِلُّ،
أَوْ بَيَانُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ ظاهرة،
وأن مَدْلُولَهُ لَا يُنَافِي حُكْمَ الْقِيَاسِ.
أَوِ الْمُعَارَضَةُ لَهُ بِنَصٍّ آخَرَ حَتَّى يَتَسَاقَطَا، وَيَصِحَّ الْقِيَاسُ.
أَوْ أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَرْجَحُ مِنَ النَّصِّ الَّذِي عُورِضَ "بِهِ"*، وَيُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى ذلك.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/159)
الاعتراض العاشر: فساد الوضع 1
وذلك بإبطال ضع الْقِيَاسِ الْمَخْصُوصِ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمَخْصُوصِ، بِأَنْ يُبَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ الْجَامِعَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِنَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ فِي نَقِيضِ الْحُكْمِ. وَالْوَصْفُ الْوَاحِدُ لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّقِيضَانِ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُضَيَّقًا، وَالْآخِرُ مُوَسَّعًا، أَوْ أَحَدُهُمَا مُخَفَّفًا، وَالْآخِرُ مُغَلَّظًا، أَوْ أَحَدُهُمَا إِثْبَاتًا، وَالْآخِرُ نَفْيًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الِاعْتِرَاضِ وَالِاعْتِرَاضِ الَّذِي قَبْلَهُ: أَنَّ فَسَادَ الِاعْتِبَارِ أَعَمُّ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ، فَكُلُّ فَاسِدِ الْوَضْعِ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، وَلَا عَكْسَ
وَجَعَلَهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَاحِدًا.
وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: هُمَا شَيْئَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ فَرَّقُوا بينهما، وقالوا: فساد الوضع، وهو: أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى الْعِلَّةِ "ضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ، وَفَسَادُ الِاعْتِبَارِ هُوَ: أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى الْعِلَّةِ"* خلاف ما يقتضيه النص.
__________
*ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر المنخول 415 والبحر المحيط 5/ 219. وميزان الأصول 2/ 1070.(2/159)
وَقِيلَ: فَسَادُ الْوَضْعِ: هُوَ إِظْهَارُ كَوْنِ الْوَصْفِ مُلَائِمًا لِنَقِيضِ الْحُكْمِ، مَعَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ، وَمِنْهُ: الاحتراز عند تَعَدُّدِ الْجِهَاتِ لِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ تَعَدُّدِ الْأَوْصَافِ، وَعَنْ تَرْكِ حُكْمِ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ مُلَاءَمَةِ الْوَصْفِ لِلنَّقِيضِ دُونَ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ؛ إِذْ هُوَ عِنْدَ فَرْضِ اتِّحَادِ الْجِهَةِ خُرُوجٌ عَنْ فَسَادِ الْوَضْعِ إِلَى الْقَدْحِ فِي الْمُنَاسَبَةِ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَذَكَرَ أبو زيد أن هَذَا السُّؤَالَ لَا يَرِدُ إِلَّا عَلَى الطَّرْدِ، وَالطَّرْدُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَقِيلَ: هُوَ أَقْوَى مِنَ النَّقِيضِ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ إِذَا فَسَدَ لَمْ يَبْقَ إلا الانتقال، والنقض يمكن الاحتراز عنه.
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي "شَرْحِ الْمَحْصُولِ": هُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَمَنَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ؛ إِذْ لَا تُوَجُّهَ لَهُ لِكَوْنِهِ خَارِجًا عَنِ الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ.
وَجَوَابُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِبَيَانِ وُجُودِ الْمَانِعِ فِي أَصْلِ المعترض.(2/160)
الِاعْتِرَاضُ الْحَادِيَ عَشَرَ: الْمَنْعُ
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْمُمَانَعَةُ: أَرْفَعُ سُؤَالٍ عَلَى الْعِلَلِ.
وَقِيلَ: "إِنَّهَا"* أَسَاسُ الْمُنَاظَرَةِ، وَهُوَ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
مَنْعُ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَنْقَسِمُ بِالِاتِّفَاقِ إِلَى مَا يُعَلَّلُ، وَإِلَى مَا لَا يُعَلَّلُ، فَمَنِ ادَّعَى تَعْلِيلَ شَيْءٍ كُلِّفَ بِبَيَانِهِ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّمَا "يَتَّجِهُ"** هَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى مَنْ لَمْ يَذْكُرْ تَحْرِيرًا، فَإِنَّ الْفَرْعَ فِي الْعِلَّةِ الْمُحَرَّرَةِ يَرْتَبِطُ بِالْأَصْلِ.
قَالَ إِلِكْيَا: هَذَا الِاعْتِرَاضُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَلِّلَ إِذَا أَتَى بِالْعِلَّةِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا السُّؤَالِ مَعْنًى,
الثَّانِي:
مَنْعُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ هَذَا الِاعْتِرَاضُ يَقْتَضِي انْقِطَاعَ الْمُسْتَدِلِّ أَمْ لَا؟
فَقِيلَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي انْقِطَاعَهُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَبِهِ جَزَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَإِلِكْيَا الطَّبَرِيُّ.
قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، الْمَشْهُورُ بَيْنَ النُّظَّارِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الحاجب.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": يتوجه.(2/160)
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْمَنْعُ جَلِيًّا فَهُوَ انْقِطَاعٌ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا فَلَا، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ.
وَقِيلَ: يَتْبَعُ عُرْفَ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الْمُنَاظَرَةُ، فَإِنَّ الْجَدَلَ مَرَاسِيمُ، فَيَجِبُ إِتِّبَاعُ الْعُرْفِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ.
وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُدْرِكٌ غَيْرُهُ جَازَ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ1
__________
1 انظر البحث مفصلا في ميزان الأصول 1067 والبحر المحيط 5/ 322.(2/161)
الِاعْتِرَاضُ الثَّانِيَ عَشَرَ: التَّقْسِيمُ
وَهُوَ كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ، وَالْآخِرُ مُسَلَّمٌ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا، غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي أَحَدِهِمَا.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعًا، وَالْآخِرُ مُسَلَّمًا، بَلْ قَدْ يَكُونَانِ مُسَلَّمَيْنِ، لَكِنَّ الَّذِي يَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمَا غَيْرُ "مَا"* يَرِدُ عَلَى الْآخَرِ؛ إِذْ لَوِ اتَّحَدَ "مَا"** يَرِدُ عَلَيْهِمَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُهُمَا مَمْنُوعَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّقْسِيمَ لَا يُفِيدُ.
وَقَدْ مَنَعَ قَوْمٌ مِنْ قَبُولِ هَذَا السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ إِبْطَالَ أَحَدِ مُحْتَمَلَيْ كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ لَا يَكُونُ إِبْطَالًا له؛ إذ لعله غير مراده.
مثال: فِي الصَّحِيحِ الْحَاضِرِ، إِذَا فَقَدَ الْمَاءَ وَجَدَ سَبَبَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ -وَهُوَ تَعَذُّرُ الْمَاءِ- فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: مَا الْمُرَادُ بِكَوْنِ تَعَذُّرِ الْمَاءِ سَبَبًا لِلتَّيَمُّمِ، هَلْ تَعَذُّرُ الْمَاءِ مُطْلَقًا، أَوْ تَعَذُّرُهُ فِي السَّفَرِ، أَوِ الْمَرَضِ؟
الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ مَنْعٌ بَعْدَ تَقْسِيمٍ، فَيَأْتِي فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي صَرِيحِ الْمَنْعِ مِنْ كونه مقبولا أو مردودا، وموجبا لِلِانْقِطَاعِ أَوْ غَيْرَ مُوجِبٍ.
وَجَوَابُهُ: أَنْ يُعَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لَهُ، وَلَوْ عُرْفًا أو ظاهرا.
__________
* في "أ": الذي
** في "أ": الذي(2/161)
الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثَ عَشَرَ: اخْتِلَافُ الضَّابِطِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ
اخْتِلَافُ الضَّابِطِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِالْجَامِعِ، كَقَوْلِهِمْ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ:(2/161)
تَسَبَّبُوا لِلْقَتْلِ عَمْدًا، فَلَزِمَهُمُ الْقِصَاصُ زَجْرًا لَهُمْ عَنِ التَّسَبُّبِ، كَالْمُكْرَهِ، فَالْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إنما هو الْحِكْمَةِ، وَهِيَ الزَّجْرُ، وَالضَّابِطُ فِي الْفَرْعِ الشَّهَادَةُ، وَفِي الْأَصْلِ الْإِكْرَاهُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيَةُ بِالْحِكْمَةِ وَحْدَهَا، وَضَابِطُ الْفَرْعِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِضَابِطِ الْأَصْلِ فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ.
وَجَوَابُهُ: بِبَيَانِ كَوْنِ التَّعْلِيلِ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا مَضْبُوطًا عُرْفًا، أَوْ بِبَيَانِ الْمُسَاوَاةِ في الضابط1.
__________
1 قال في البحر: وجوابه بأن يبين بأن التعليل بالقدر المشترك بينهما من السبب المضبوط عرفا أو يبين المساواة في الضابط أو إفضاء الضابط في الفرع أكثر. ا. هـ البحر المحيط 5/ 333.(2/162)
الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعَ عَشَرَ: اخْتِلَافُ حُكْمَيِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ
قِيلَ: إِنَّهُ قَادِحٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ مُمَاثَلَةُ الفرع للأصل في علته وحكمه، فإن اخْتَلَفَ الْحُكْمُ لَمْ تَتَحَقَّقِ الْمُسَاوَاةُ، وَذَلِكَ كَإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرَةِ فِي نِكَاحِهَا، قِيَاسًا عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي مَالِهَا.(2/162)
الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسَ عَشَرَ: مَنْعُ كَوْنِ مَا يَدَّعِيهِ المستدل علة لحكم الأصل
منع كون ما يدعيه المستدل علة لحكم الأصل، موجودا في الأصل، فضلا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلَّةَ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ فِي الْكَلْبِ: حَيَوَانٌ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعًا، فَلَا يَقْبَلُ جِلْدَهُ الدَّبَّاغُ، كَالْخِنْزِيرِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخِنْزِيرَ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سبعا.
والجواب عن هذا الِاعْتِرَاضِ: بِإِثْبَاتِ وُجُودِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ بِمَا هُوَ طَرِيقُ ثُبُوتِ مِثْلِهِ، إِنْ كَانَ حِسِّيًّا فَبِالْحِسِّ، وَإِنْ كَانَ عَقْلِيًّا فَبِالْعَقْلِ، وَإِنْ كَانَ شرعيا فبالشرع.(2/162)
الِاعْتِرَاضُ السَّادِسَ عَشَرَ: مَنْعُ كَوْنِ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ عِلَّةً
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْئِلَةِ لِعُمُومِهِ، وَتَشَعُّبِ مَسَالِكِهِ، وَالْمُخْتَارُ قَبُولُهُ، وَإِلَّا لَأَدَّى إِلَى اللَّعِبِ فِي التَّمَسُّكِ بِكُلِّ طَرْدِيٍّ. انْتَهَى.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ فِي الْكَلْبِ: حَيَوَانٌ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سبعا، فلا يقبل جلده الدباغ "كالخنزير، فيقول: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَوْنَ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ لَا يَقْبَلُ الدِّبَاغَ"*، مُعَلَّلًا بِكَوْنِهِ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ.
وَجَوَابُهُ: بِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ بِمَسْلَكٍ مِنْ مَسَالِكِهَا الْمَذْكُورَةِ سابقا.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/162)
الِاعْتِرَاضُ السَّابِعَ عَشَرَ: الْقَدْحُ فِي الْمُنَاسَبَةِ
وَهُوَ إِبْدَاءُ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، أَوْ مُسَاوِيَةٍ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ تَنْخَرِمُ بِالْمُعَارَضَةِ.
وَجَوَابُهُ: تَرْجِيحُ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ إِجْمَالًا أَوْ تَفْصِيلًا.(2/163)
الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنَ عَشَرَ: الْقَدْحُ فِي إِفْضَائِهِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ لَهُ
مِثَالُهُ: أَنْ يُقَالَ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ مُصَاهَرَةِ الْمَحَارِمِ عَلَى التَّأْبِيدِ: إِنَّهَا الْحَاجَةُ إِلَى ارْتِفَاعِ الْحِجَابِ.
وَوَجْهُ الْمُنَاسِبَةِ: أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى رَفْعِ الْفُجُورِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ رَفْعَ الْحِجَابِ، وَتَلَاقِيَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يُفْضِي إِلَى الْفُجُورِ، وَأَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِتَحْرِيمِ التَّأْبِيدِ؛ إِذْ يَرْتَفِعُ الطَّمَعُ الْمُفْضِي إِلَى مُقَدِّمَاتِ الْهَمِّ وَالنَّظَرِ، الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْفُجُورِ.
فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: لَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ، بَلْ سَدُّ بَابِ النِّكَاحِ أَفْضَى إِلَى الْفُجُورِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ حَرِيصَةٌ عَلَى مَا مُنِعَتْ مِنْهُ، وَقُوَّةُ دَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ مَعَ الْيَأْسِ عَنِ الْحَلِّ مَظَنَّةُ الْفُجُورِ.
وَجَوَابُهُ بِبَيَانِ الْإِفْضَاءِ إِلَيْهِ، بِأَنْ يَقُولَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: التَّأْبِيدُ يَمْنَعُ عَادَةً مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْهَمِّ وَالنَّظَرِ، وَبِالدَّوَامِ يَصِيرُ كَالْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ.(2/163)
الِاعْتِرَاضُ التَّاسِعَ عَشَرَ: كَوْنُ الْوَصْفِ غَيْرَ ظَاهِرٍ
كَوْنُ الْوَصْفِ غَيْرَ ظَاهِرٍ، كَالرِّضَا فِي الْعُقُودِ.
وَجَوَابُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِهِ ظَاهِرًا، كَضَبْطِ الرِّضَا بصيغ العقود، ونحو ذلك.(2/163)
الاعتراض العشرون: كون الوصف غير منضبط
كَوْنُ الْوَصْفِ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ، كَالْحِكَمِ، وَالْمَصَالِحِ، مِثْلُ الْحَرَجِ، وَالْمَشَقَّةِ، وَالزَّجْرِ، فَإِنَّهَا أُمُورٌ ذَوَاتُ مَرَاتِبَ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، وَلَا مُتَمَيِّزَةٍ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالزَّمَانِ، وَالْأَحْوَالِ.
وَجَوَابُهُ بِتَقْرِيرِ الِانْضِبَاطِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ أو بوصفه.(2/163)
الاعتراض الحادي والعشرون: المعارضة
مدخل
...
الاعتراض الحادي والعشرون: الْمُعَارَضَةِ
وَهِيَ: إِلْزَامُ الْمُسْتَدِلِّ الْجَمْعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا.
كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ.
وَقِيلَ: هِيَ إِلْزَامُ الْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا قَالَ بِنَظِيرِهِ، وَهِيَ مِنْ أَقْوَى الِاعْتِرَاضَاتِ، وَهِيَ "أَعَمُّ"* مِنِ اعْتِرَاضِ النَّقْضِ، فَكُلُّ نَقْضٍ مُعَارَضَةٌ، وَلَا عَكْسَ، كَذَا قِيلَ1.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ هُوَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُخَالِفُ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ.
وَقَدْ أَثْبَتَ اعْتِرَاضَ الْمُعَارَضَةِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَالْجَدَلِ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسُؤَالٍ صَحِيحٍ.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَا فِي الثَّابِتِ مِنْهَا، فَقِيلَ: إِنَّمَا يَثْبُتُ مِنْهَا مُعَارَضَةُ الدَّلَالَةِ بِالدَّلَالَةِ وَالْعِلَّةِ بِالْعِلَّةِ، وَلَا يَجُوزُ مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى "وَذَكَرَ الْكَعْبِيُّ فِي "جَدَلِهِ"2 أنه يجوز معارضة الدعوى بالدعوى"**.
__________
* في "أ": أهم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 قال في البحر: والفرق بينه وبين المناقضة من حيث إن كل نقض معارضة بخلاف العكس، وأيضا فالنقض لا يكون بالدليل، المعارضة بالدليل على الدليل صحيحة. ا. هـ البحر المحيط 5/ 333.
2 واسمه أدب الجدل لأحمد بن عبد الله الكعبي البلخي المتوفى سنة تسع عشرة وثلاثمائة هـ ولكن ذكره صاحب هدية العارفين باسم عبد الله بن أحمد الكعبي وكذلك ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء. ا. هـ الأعلام 4/ 65 سير أعلام النبلاء 14/ 313 هدية العارفين 1/ 444.(2/164)
أَقْسَامُ الْمُعَارَضَةِ:
وَالْمُعَارَضَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
مُعَارَضَةٌ فِي الْأَصْلِ.
وَمُعَارَضَةٌ فِي الْفَرْعِ.
وَمُعَارَضَةٌ فِي الْوَصْفِ.
أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ:
فَبِأَنْ يَذْكُرَ عِلَّةً أُخْرَى فِي الْأَصْلِ سِوَى الْعِلَّةِ الَّتِي عَلَّلَ بِهَا.(2/164)
الْمُسْتَدِلُّ، وَتَكُونَ تِلْكَ الْعِلَّةُ مَعْدُومَةً "فِي الْفَرْعِ"* وَيَقُولُ: إِنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ إِنَّمَا كَانَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُعْتَرِضُ، لَا بِالْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُسْتَدِلُّ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا هُوَ سُؤَالُ الْفَرْقِ.
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الَّتِي يُبْدِيهَا الْمُعْتَرِضُ مُسْتَقِلَّةً بِالْحُكْمِ، كَمُعَارَضَةِ الْكَيْلِ بِالطُّعْمِ، أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ، بَلْ هِيَ جُزْءُ عِلَّةٍ، كَزِيَادَةِ الْجَارِحِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْمُعْتَرِضُ مُسَلَّمَةً مِنْ خَصْمِهِ، أَوْ مُحْتَمِلَةً احْتِمَالًا رَاجِحًا، أَمَّا إِذَا تَعَارَضَتِ الِاحْتِمَالَاتُ، فَقِيلَ: يُرَجَّحُ وَصْفُ الْمُسْتَدِلِّ.
وَقِيلَ: وَصْفُ الْمُعْتَرِضِ.
وَقِيلَ: لَا وَجْهَ لِتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، بَلْ هُوَ مِنَ التحكم الْمَحْضِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا مَعَ عَدَمِ التَّرْجِيحِ، هَلْ تَقْتَضِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ إِبْطَالَ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ بَيَانُ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ الَّذِي عَارَضَ بِهِ الْأَصْلَ عَنِ الْفَرْعِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ لَا يَجِبُ، بَلْ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يُبَيِّنَ ثُبُوتَهُ فِي الْفَرْعِ، لِيَصِحَّ الْإِلْحَاقُ وَإِلَّا بَطَلَ الْجَمْعُ.
الثَّانِي:
أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ الْبَيَانُ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِذَلِكَ.
الثَّالِثُ:
أَنَّهُ إِنْ قَصَدَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ، وَابْنِ الْحَاجِبِ.
وَجَوَابُ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ يَكُونُ إِمَّا بِمَنْعِ وُجُودِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ، أَوْ بِمَنْعِ الْمُنَاسَبَةِ، أَوْ مَنْعِ الشَّبَهِ، إِنْ أَثْبَتَهُ بِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ لَا تَتِمُّ مِنَ الْمُعْتَرِضِ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي عَارَضَ بِهِ فِي الْأَصْلِ مُنَاسِبًا، أَوْ "شَبَهًا"**؛ إِذْ لَوْ كَانَ طَرْدِيًّا لَمْ تَصِحَّ الْمُعَارَضَةُ، أَوْ بِمَنْعِ كَوْنِ الْوَصْفِ الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ ظَاهِرًا، أَوْ بِمَنْعِ كَوْنِهِ مُنْضَبِطًا، أَوْ بِبَيَانِ إِلْغَاءِ الْوَصْفِ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْمُعَارَضَةُ، أَوْ بِبَيَانِ رُجُوعِهِ إِلَى عَدَمِ وُجُودِ وَصْفٍ فِي الْفَرْعِ، لَا إِلَى ثُبُوتِ مُعَارِضٍ فِي الْأَصْلِ.
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الفرع:
فهي أن يعارض حكم الفرع لما يَقْتَضِي نَقِيضَهُ أَوْ ضِدَّهُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ بِوُجُودِ مَانِعٍ أَوْ بِفَوَاتِ شَرْطٍ فَيَقُولُ: مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْوَصْفِ وَإِنِ اقْتَضَى ثُبُوتَ
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": مشابها.(2/165)
الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ، فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ، يَقْتَضِي نَقِيضَهُ، أَوْ ضِدَّهُ، بِنَصٍّ هُوَ كَذَا، أَوْ بإجماع عَلَى كَذَا، أَوْ بِوُجُودِ مَانِعٍ، لِمَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الْوَصْفِ، أَوْ بِفَوَاتِ شَرْطٍ لَهُ.
وَقَدْ قَبِلَ هَذَا الِاعْتِرَاضَ، أَعْنِي: الْمُعَارَضَةَ فِي الْفَرْعِ، بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْجَدَلِ، وَنَفَاهُ آخَرُونَ فَقَالُوا: إِنَّ دَلَالَةَ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ قَدْ تَمَّتْ.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ "إِلَّا فِيمَا"* إِذَا كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ بِفَوَاتِ شَرْطٍ.
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الْوَصْفِ
فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَكُونَ بِضِدِّ حُكْمِهِ.
وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ فِي عَيْنِ حُكْمِهِ، مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.
مِثَالُ الْأَوَّلِ: أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْوُضُوءِ: إِنَّهَا طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ، فَتَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، قِيَاسًا عَلَى التَّيَمُّمِ.
فَيَقُولُ الْمُعَارِضُ: طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ، فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، قِيَاسًا عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَلَا بُدَّ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّرْجِيحِ.
وَمِثَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ الْمُعْتَرِضُ: نَفْسُ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ "يَدُلُّ"** عَلَى خِلَافِ مَا تُرِيدُهُ، ثم يوضح ذلك بما يكون محتملا.
__________
* في "أ": الادعاء.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/166)
الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ
وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأَصْلِ مَعْنًى غَيْرَ مَا عينه المستدل، ويعارضه بم ثُمَّ يَقُولُ لِلْمُسْتَدِلِّ: مَا عَلَّلْتَ بِهِ، وَإِنْ تَعَدَّى إِلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَكَذَا مَا عَلَّلْتُ بِهِ أَنَا، يَتَعَدَّى إِلَى فَرْعٍ آخَرَ، مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
وذلك كأن يقول المستدل: بكر، فجاز خيراها كَالصَّغِيرَةِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: الْبَكَارَةُ، وَإِنْ تَعَدَّتْ إِلَى الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ، فَالصِّغَرُ مُتَعَدٍّ إِلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي "قَبُولِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ"*، فَقَبِلَهُ الْبَعْضُ وَرَدَّهُ الْبَعْضُ، وَأَدْرَجَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فِي اعْتِرَاضِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ.
وَجَوَابُهُ: إِبْطَالُ مَا اعترض به وحذفه عن درجة الاعتبار.
__________
* في "أ": في قبول هذا إبطال الاعتراض.(2/166)
وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يُبَيِّنَ أنه لا أثر لما أشار إِلَيْهِ الْمُعْتَرِضُ مِنَ التَّسْوِيَةِ فِي التَّعْدِيَةِ، أَوْ لَا يَجِبُ؟
فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَجِبُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ: يَجِبُ.(2/167)
الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: سُؤَالُ التَّرْكِيبِ
وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُعْتَرِضُ: شَرْطُ حُكْمِ الْأَصْلِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَا قِيَاسٍ مُرَكَّبٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ:
مُرَكَّبُ الْأَصْلِ.
وَمُرَكَّبُ الْوَصْفِ.
وَمَرْجِعُ الْأَوَّلِ: مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، أَوْ مَنْعُ الْعِلَّةِ.
وَمَرْجِعُ الثَّانِي: مَنْعُ الحكم، أو منع وجود العلة في الفرع.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِهِ، فَبَعْضُهُمْ قَبِلَهُ، وَبَعْضُهُمْ رده.(2/167)
الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ به في الفرع
...
الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ به في الوصف
كَأَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي أَمَانِ الْعَبْدِ: أَمَانٌ صَدَرَ عَنْ أَهْلِهِ، كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ.
فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَبْدَ أَهْلٌ لِلْأَمَانِ.
وَجَوَابُهُ بِبَيَانِ مَا يَثْبُتُ "بِهِ"*أَهْلِيَّتُهُ مِنْ حِسٍّ، أَوْ عَقْلٍ، أَوْ شَرْعٍ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الِاعْتِرَاضَ مُنْدَرِجًا فِيمَا تقدم.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/167)
الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الِاعْتِرَاضِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ(2/167)
الِاعْتِرَاضُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْمُعَارَضَةُ فِي الْوَصْفِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَيْضًا فِي الِاعْتِرَاضِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُمَا هُنَا وَهُنَاكَ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أهل الأصول والجدل جعلوا المعارضة "ثَلَاثَةَ اعْتِرَاضَاتٍ: الْمُعَارَضَةُ"* فِي الْأَصْلِ اعْتِرَاضًا، وَالْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ اعْتِرَاضًا، وَالْمُعَارَضَةُ فِي الْوَصْفِ اعْتِرَاضًا، وبعضهم جعلوا الثَّلَاثَ الْمُعَارَضَاتِ اعْتِرَاضًا وَاحِدًا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي مثل ذلك، فهو مجرد اصطلاح.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/167)
الِاعْتِرَاضُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: اخْتِلَافُ جِنْسِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ
كَأَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: يُحَدُّ اللَّائِطُ كَمَا يُحَدُّ الزَّانِي؛ لِأَنَّهُمَا إِيلَاجٌ مُحَرَّمٌ شَرْعًا، مشتها طبعا.
فيقول المعترض: المصلح فِي تَحْرِيمِهِمَا مُخْتَلِفَةٌ: فَفِي الزِّنَا مَنْعُ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ، وَفِي اللِّوَاطَةِ دَفْعُ رَذِيلَةِ اللِّوَاطَةِ.
وَحَاصِلُهُ: مُعَارَضَةٌ فِي الْأَصْلِ، بِإِبْدَاءِ خُصُوصِيَّةٍ، وَلِهَذَا أَدْرَجَهُ بَعْضُهُمْ فِي اعْتِرَاضِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهُ اعْتِرَاضًا مُسْتَقِلًّا.
وَجَوَابُهُ بِإِلْغَاءِ الْخُصُوصِيَّةِ.(2/168)
الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَدَّعِيَ الْمُعْتَرِضُ الْمُخَالَفَةَ بين حكم الأصل وحكم الفرع
مدخل
...
الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَدَّعِيَ الْمُعْتَرِضُ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ وَحُكْمِ الْفَرْعِ
أَنْ يَدَّعِيَ الْمُعْتَرِضُ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ وَحُكْمِ الْفَرْعِ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ، فَيُوجَدُ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ كَمَا وُجِدَ فِي الْأَصْلِ.
وَحَاصِلُ هَذَا: أَنَّ دَعْوَى الْمُعْتَرِضِ لِلْمُخَالَفَةِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، فَيَرْجِعُ إِلَى اعْتِرَاضِ الْقَلْبِ، أَوْ بِغَيْرِهِ، فَيَكُونُ اعْتِرَاضًا خَاصًّا، خَارِجًا عَمَّا تَقَدَّمَ، وَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مُنْدَرِجًا فِيمَا تقدم.
وههنا فوائد متعلقة بهذه الاعتراضات:(2/168)
الفائدة الأولى: في لزوم إيراد الأسئلة مرتبة
...
الْفَائِدَةُ الْأُولَى:
اخْتَلَفُوا: هَلْ يَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ أَنْ يورد الأسئلة مرتبة بعضا مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَعْضِ إِذَا أَوْرَدَ أَسْئِلَةً مُتَعَدِّدَةً، أَمْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، بَلْ يُقَدِّمُ مَا شَاءَ، وَيُؤَخِّرُ مَا شَاءَ؟
فَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَا يَلْزَمُهُ التَّرْتِيبُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ إِيرَادُهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ اتَّفَقَ لَأَدَّى إِلَى التَّنَاقُضِ، كَمَا لَوْ(2/168)
جَاءَ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ، أَوْ بَعْدَ النَّقْضِ، أَوْ بَعْدَ "الْمُطَالَبَةِ"* فَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ بَعْدَ تَسْلِيمٍ، وَإِنْكَارٌ بَعْدَ إِقْرَارٍ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَقِيلَ: إِنِ اتَّحَدَ جِنْسُ السُّؤَالِ كَالنَّقْضِ، وَالْمُعَارَضَةِ، وَالْمُطَالَبَةِ، جَازَ إِيرَادُهَا مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ سُؤَالٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ تَعَدَّدَتْ أَجْنَاسُهَا، كَالْمَنْعِ مَعَ الْمُطَالَبَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَهْلِ الْجَدَلِ، وَقَالَ: اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَنَقَلَ عَنْ أَكْثَرِ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْمَنْعَ، ثُمَّ الْمُعَارَضَةَ، وَنَحْوَهَا، وَلَا يَعْكِسُ هَذَا التَّرْتِيبَ، وَإِلَّا لَزِمَ الْإِنْكَارَ بعد الإقرار.
قال جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ: التَّرْتِيبُ الْمُسْتَحْسَنُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمُطَالَبَاتِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُثْبِتْ أَرْكَانَ الْقِيَاسِ لَمْ يَدْخُلْ فِي جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ، ثُمَّ بِالْقَوَادِحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى صُورَةِ الْأَدِلَّةِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، ثُمَّ إِذَا بَدَأَ بِالْمَنْعِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ مَنْعَ وُجُودِ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الدَّعْوَى، ثم منع ظهره، ثُمَّ مَنْعَ انْضِبَاطِهِ، ثُمَّ مَنْعَ كَوْنِهِ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْمُنُوعِ شَرَعَ في القوادح، فيبدأ بالقول بالموجب، لِوُضُوحِ مَأْخَذِهِ، ثُمَّ بِفَسَادِ الْوَضْعِ، ثُمَّ بِالْقَدْحِ في المناسبة، ثم بالمعاوضة.
وقال الأكثر من القدماء كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي "أَدَبُ الْجَدَلِ": إِنَّهُ يَبْدَأُ بِالْمَنْعِ مِنَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا لَمْ يَجِبْ عَلَى السَّائِلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ مَمْنُوعًا، أَوْ مُسَلَّمًا، وَلَا كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، أَوْ بِغَيْرِهَا، ثُمَّ يُطَالِبُهُ بِإِثْبَاتِ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ، ثُمَّ بِاطِّرَادِ الْعِلَّةِ، ثُمَّ بِتَأْثِيرِهَا ثُمَّ بِكَوْنِهِ غَيْرَ فَاسِدِ الْوَضْعِ، ثُمَّ بِكَوْنِهِ غَيْرَ فَاسِدِ الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ بِالْقَلْبِ، ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجَدَلِيِّينَ، وَالْأُصُولِيِّينَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ الِاسْتِفْسَارُ، ثُمَّ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ فَسَادُ الْوَضْعِ، ثُمَّ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ مَنْعُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ، ثُمَّ الْمُطَالَبَةُ، وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ، وَالْقَدْحُ فِي الْمُنَاسَبَةِ، وَالتَّقْسِيمُ، وَعَدَمُ ظُهُورِ الْوَصْفِ، وَانْضِبَاطِهِ وَكَوْنُ الْحُكْمِ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْإِفْضَاءِ إِلَى ذَلِكَ الْمَقْصُودِ، ثُمَّ النَّقْضُ وَالْكَسْرُ، ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ، وَالتَّعْدِيَةُ، وَالتَّرْكِيبُ، ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، وَمُخَالَفَةُ حُكْمِهِ حُكْمَ الْأَصْلِ، ثُمَّ الْقَلْبُ، ثُمَّ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا1 قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَسْئِلَةِ تَرْجِعُ إلى المنع والمعارضة، ووجه ذلك: أنه
__________
* في "أ": المعارضة.
__________
1 انظر صفحة: 2/ 168.(2/169)
مَتَى حَصَلَ الْجَوَابُ عَنِ الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ، فَقَدْ تَمَّ الدَّلِيلُ، وَحَصَلَ الْغَرَضُ، مِنْ إِثْبَاتِ الْمُدَّعِي، وَلَمْ يَبْقَ لِلْمُعْتَرِضِ مَجَالٌ، فَيَكُونُ مَا سِوَاهُمَا مِنَ الْأَسْئِلَةِ بَاطِلًا، فَلَا يُسْمَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ الْمُنُوعِ إِلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى جَمِيعِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ إِلَّا بِبَيَانِ انْتِفَاءِ الْمُعَارَضَةِ عن جميعها.(2/170)
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الِانْتِقَالِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ إلى غيره قبل امام تمام الكلام فيه
...
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الِانْتِقَالِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ إِلَى غَيْرِهِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ فِيهِ
مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَاهُ لَمْ يَتَأَتَّ إِفْحَامُ الْخَصْمِ، وَلَا إِظْهَارُ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمُنَاظَرَةِ، وَهُوَ إِظْهَارُ الْحَقِّ، وَإِفْحَامُ الْمُخَالِفِ لَهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنَ السَّائِلِ، بِأَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ سُؤَالِهِ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَيَقُولُ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَازِمٌ، فَبَانَ خِلَافُهُ، فَمَكِّنُونِي مِنْ سُؤَالٍ آخَرَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ انْحِدَارًا مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى، فَإِنْ كَانَ تَرَقِّيًا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، كَمَا لَوْ أَرَادَ التَّرَقِّي مِنَ الْمُعَارَضَةِ إِلَى الْمَنْعِ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ نَفْسَهُ، وَقِيلَ: يُمَكَّنُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْإِرْشَادُ.(2/170)
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ
قَالُوا: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْتَدِلِّ فِي الِاسْتِدْلَالِ ثَلَاثُ طُرُقٍ:
الْأُولَى:
أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا.
وَالثَّانِيَةُ:
أَنْ يَفْرِضَ الدَّلَالَةَ فِي بَعْضِ شُعَبِهَا وَفُصُولِهَا.
وَالثَّالِثَةُ:
أَنْ يَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى غَيْرِهَا.
فَإِنِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا فَوَاضِحٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الْكَلَامَ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي الْكُلِّ، وَثَبَتَ الدَّلِيلُ فِي بَعْضِهَا، ثَبَتَ فِي الْبَاقِي بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الدَّلَالَةَ فِي غَيْرِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَجُزْ.
وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى غَيْرِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَبْنِيَهَا عَلَى مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَبْنِيَهَا على مسألة فروعية1، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُهَا وَاحِدَةً، أو مختلفة، فإن كانت.
__________
1 العبارة في البحر المحيط 2/ 356 كما يلي: وإما أن يبنيها على مسألة فرعية.(2/170)
وَاحِدَةً جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً لَمْ يَجُزْ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْجَدَلِ.
وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: لَا يَجُوزُ الْفَرْضُ وَالْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْجَوَابِ أَنْ يُطَابِقَ السُّؤَالَ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْفَرْضِ شَامِلَةً لسائر الأطراف.
قال: المستحسن مِنْهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي طَرَفٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عُمُومُ سُؤَالِ السَّائِلِ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِشْعَارِ انْتِشَارِ الْكَلَامِ فِي جَمِيعِ الْأَطْرَافِ، وَعَدَمِ وَفَاءِ مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِاسْتِتْمَامِ الْكَلَامِ فِيهَا.
وَحَاصِلُهُ: إِنْ ظَهَرَ انْتِظَامُ الْعِلَّةِ الْعَامَّةِ فِي الصُّورَتَيْنِ كَانَ مُسْتَحْسَنًا، وَإِلَّا كَانَ مُسْتَهْجَنًا، وَفَائِدَتُهُ كَوْنُ الْعِلَّةِ قَدْ تَخْفَى فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَتَظْهَرُ فِي بَعْضٍ آخَرَ، فَالتَّفَاوُتُ بِالْأَوَّلِيَّةِ خَاصَّةٌ، وَالْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ.(2/171)
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: فِي جَوَازِ التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ
قَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ الْمَذْهَبِ إِلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ فِي الْمُنَاظَرَةِ.
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى جَوَازِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجَدَلِ تَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَى الْخَصْمِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي تَفْصِيلًا حَسَنًا، فَقَالَ: إِنْ كَانَتِ الْمُنَاقَضَةُ عَائِدَةً إِلَى تَفَاصِيلِ أَصْلٍ لَا يَرْتَبِطُ فَسَادُهَا وَصِحَّتُهَا بِفَسَادِ الْأَصْلِ وَصِحَّتِهِ، فَلَا يَجُوزُ التَّعَلُّقُ بها، وإلا جاز.(2/171)
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ
قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: السُّؤَالُ إِمَّا اسْتِفْهَامٌ مُجَرَّدٌ، وَهُوَ الِاسْتِخْبَارُ عَنِ الْمَذْهَبِ، أَوْ عَنِ الْعِلَّةِ، وَإِمَّا اسْتِفْهَامٌ عَنِ "الدَّلَالَةِ"* أَيِ: الْتِمَاسُ وَجْهِ دَلَالَةِ الْبُرْهَانِ، ثُمَّ الْمُطَالَبَةُ بِنُفُوذِ الدَّلِيلِ وَجَرَيَانِهِ.
وَسَبِيلُ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مُجَرَّدًا، ثُمَّ الِاسْتِدْلَالَ، ثُمَّ طَرْدَ الدَّلِيلِ، ثُمَّ السَّائِلَ فِي الِابْتِدَاءِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَذْهَبِ مَنْ يَسْأَلُهُ، أَوْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ صِحَّتَهُ، فَسُؤَالُهُ لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَعْلَمَ فَسُؤَالُهُ رَاجِعٌ إِلَى الدَّلِيلِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْأَصْلَ الَّذِي يَسْتَشْهِدُ بِهِ الْمُجِيبُ، فَسُؤَالُهُ عَنْهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الَّذِي أَحْوَجَهُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْخِلَافُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الخلاف في الشاهد، فالسؤال عنه أولى.
__________
*في "أ": الأدلة.(2/171)
الفصل السابع: في الاستدلال
مدخل
...
الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ
وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ، مَا لَيْسَ بِنَصٍّ، وَلَا إِجْمَاعٍ، وَلَا قِيَاسٍ.
لَا يُقَالُ: هَذَا مِنْ تَعْرِيفِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ بِبَعْضٍ، وَهُوَ تَعْرِيفٌ بِالْمُسَاوِي، فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ، بَلْ هُوَ تَعْرِيفٌ لِلْمَجْهُولِ بِالْمَعْلُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ الْعِلْمُ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنْوَاعِهِ: فَقِيلَ هِيَ ثَلَاثَةٌ:
الْأَوَّلُ: التَّلَازُمُ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ عِلَّةٍ، وَإِلَّا كَانَ قِيَاسًا.
الثَّانِي: اسْتِصْحَابُ الْحَالِ.
الثَّالِثُ: شَرْعُ مَنْ قبلنا.
قال الْحَنَفِيَّةُ: وَمِنْ أَنْوَاعِهِ نَوْعٌ رَابِعٌ، وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ.
وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: وَمِنْ أَنْوَاعِهِ نَوْعٌ خَامِسٌ، وَهُوَ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ.
وَسَنُفْرِدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ بَحْثًا، وَنُلْحِقُ بِهَا فَوَائِدَ، لِاتِّصَالِهَا بِهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.(2/172)
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي التَّلَازُمِ
وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
لِأَنَّ التَّلَازُمَ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ حُكْمَيْنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِمَّا مُثْبَتٌ أَوْ مَنْفِيٌّ، وَحَاصِلُهُ: إِذَا كَانَ تَلَازُمَ تساوٍ فَثُبُوتُ كُلٍّ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْآخَرِ، وَنَفْيُهُ نَفْيُهُ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقَ اللُّزُومِ، فَثُبُوتُ الْمَلْزُومِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ اللَّازِمِ، مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَنَفْيُ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَلْزُومِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ "وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ انْفِصَالٌ حَقِيقِيٌّ فَثُبُوتُ كلٍّ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْآخَرِ، وَنَفْيُهُ ثُبُوتُهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْعَ جَمْعٍ، فَثُبُوتُ كلٍّ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَإِنْ كَانَ مَنْعَ خُلُوٍّ فَنَفْيُ كلٍّ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ"*.
وَخُلَاصَةُ هذا البحث يرجع إلى الاستدلال بالأقسية الِاسْتِثْنَائِيَّةِ، وَالِاقْتِرَانِيَّةِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِدْلَالِ قَوْلُهُمْ: وُجِدَ السَّبَبُ وَالْمَانِعُ أَوْ فُقِدَ الشَّرْطُ.
ومنها: انتفاء الحكم لانتفاء مدركه.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/172)
وَمِنْهَا: الدَّلِيلُ الْمُؤَلَّفُ مِنْ أَقْوَالٍ، يَلْزَمُ مِنْ تَسْلِيمِهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ، ثُمَّ قَسَّمَهُ إِلَى الِاقْتِرَانِيِّ وَالِاسْتِثْنَائِيِّ، وَذَكَرَ الْأَشْكَالَ الْأَرْبَعَةَ وَشُرُوطَهَا، وَضُرُوبَهَا. انْتَهَى. فَلْيُرْجَعْ فِي هَذَا الْبَحْثِ إِلَى ذَلِكَ الْفَنِّ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا لَا يَجْرِي إِلَّا فِيمَا فِيهِ تَلَازُمٌ، أَوْ تَنَافٍ، فَالتَّلَازُمُ: إِمَّا أن يكون طردا أو عكسا، أي: من الطَّرَفَيْنِ، أَوْ طَرْدًا لَا عَكْسًا، أَيْ: مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ، وَالتَّنَافِي لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، لَكِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَرْدًا وَعَكْسًا، أَيْ: إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، وَإِمَّا طَرْدًا فَقَطْ، أَيْ: إِثْبَاتًا، وَإِمَّا عَكْسًا فَقَطْ، أَيْ: نَفْيًا.
الْأَوَّلُ:
الْمُتَلَازِمَانِ طَرْدًا وَعَكْسًا، وَذَلِكَ كَالْجِسْمِ وَالتَّأْلِيفِ؛ إِذْ كُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفٌ، وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ جِسْمٌ، وَهَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّلَازُمُ بَيْنَ الثُّبُوتَيْنِ، وَبَيْنَ النفيين، كلامهما طَرْدًا وَعَكْسًا، كُلَّمَا كَانَ جِسْمًا كَانَ مُؤَلَّفًا، وَكُلَّمَا كَانَ مُؤَلَّفًا كَانَ جِسْمًا، وَكُلَّمَا لَمْ يَكُنْ مُؤَلَّفًا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا، وَكُلَّمَا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا لَمْ يَكُنْ مُؤَلَّفًا.
الثَّانِي:
الْمُتَلَازِمَانِ طَرْدًا فَقَطْ، كَالْجِسْمِ وَالْحُدُوثِ؛ إِذْ كُلُّ جِسْمٍ حَادِثٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، فَهَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّلَازُمُ بَيْنَ الثُّبُوتَيْنِ طَرْدًا فَيَصْدُقُ كُلَّمَا كَانَ جِسْمًا كَانَ حَادِثًا، لَا عَكْسًا، فَلَا يَصْدُقُ كُلَّمَا كَانَ حَادِثًا كَانَ جِسْمًا، وَيَجْرِي فِيهِ التَّلَازُمُ بَيْنَ النَّفْيَيْنِ، عَكْسًا، فَيَصْدُقُ كُلَّمَا لَمْ يَكُنْ حَادِثًا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا، لَا طَرْدًا، فَلَا يَصْدُقُ كُلَّمَا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا لَمْ يَكُنْ حَادِثًا.
الثَّالِثُ:
الْمُتَنَافِيَانِ طَرْدًا وَعَكْسًا، كَالْحُدُوثِ وَوُجُوبِ الْبَقَاءِ، فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي ذَاتٍ، فَتَكُونُ حَادِثَةً وَاجِبَةَ الْبَقَاءِ، وَلَا يَرْتَفِعَانِ، فَيَكُونُ قَدِيمًا غَيْرَ وَاجِبِ الْبَقَاءِ، فَهَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّلَازُمُ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالنَّفْيِ، وَبَيْنَ النَّفْيِ وَالثُّبُوتِ، طَرْدًا وَعَكْسًا، أَيْ: مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَيَصْدُقُ لَوْ كَانَ حَادِثًا لَمْ يَجِبْ بَقَاؤُهُ، ولو وجب بقاؤه لم يكن حادثا، ولو لَمْ يَكُنْ حَادِثًا فَلَا يَجِبُ بَقَاؤُهُ، وَلَوْ لَمْ يَجِبْ بَقَاؤُهُ فَلَا يَكُونُ حَادِثًا.
الرَّابِعُ:
الْمُتَنَافِيَانِ طَرْدًا لَا عَكْسًا، إِي: إِثْبَاتًا لَا نَفْيًا، كَالتَّأْلِيفِ وَالْقِدَمِ؛ إِذْ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ هُوَ مُؤَلَّفٌ وَقَدِيمٌ، لَكِنَّهُمَا قَدْ يَرْتَفِعَانِ، كَالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، وَهَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّلَازُمُ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالنَّفْيِ، طَرْدًا وَعَكْسًا، أَيْ: مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَيَصْدُقُ كُلَّمَا كَانَ جِسْمًا لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا، وَكُلَّمَا كَانَ قَدِيمًا "لَمْ يَكُنْ جِسْمًا، وَلَا يَصْدُقُ كُلَّمَا كَانَ جِسْمًا لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا، وَكُلَّمَا كَانَ قَدِيمًا"* كَانَ جِسْمًا.
الْخَامِسُ:
الْمُتَنَافِيَانِ عَكْسًا، أَيْ: نَفْيًا، كَالْأَسَاسِ وَالْخَلَلِ، فَإِنَّهُمَا لَا يَرْتَفِعَانِ، فَلَا يُوجَدُ مَا لَيْسَ لَهُ أَسَاسٌ، وَلَا يَخْتَلُّ، وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي كُلِّ مَا لَهُ أَسَاسٌ قَدْ يَخْتَلُّ بوجه آخر، وهذا يجري
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/173)
فِيهِ تَلَازُمُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، طَرْدًا وَعَكْسًا، فَيَصْدُقُ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَسَاسٌ، فَهُوَ مُخْتَلٌّ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ مُخْتَلًّا فَلَيْسَ لَهُ أَسَاسٌ، وَلَا يَصْدُقُ كُلُّ مَا كَانَ لَهُ أَسَاسٌ فَلَيْسَ بِمُخْتَلٍّ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُخْتَلًّا فَلَيْسَ لَهُ أَسَاسٌ.
وَمَا قَدَّمْنَا عَنِ الآمدي: أن من أنواع الاستدلال قولهم: وجب السَّبَبُ إِلَخْ، هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ لِأَهْلِ الْأُصُولِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ دَعْوَى دَلِيلٍ، فَهُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِمْ: وُجِدَ دَلِيلُ الْحُكْمُ، لَا يَكُونُ دَلِيلًا مَا لَمْ يُعَيَّنْ، وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ مَا يَسْتَلْزِمُ الْمَدْلُولَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ دَلِيلٌ، إِذْ لَا مَعْنَى لِلدَّلِيلِ إِلَّا مَا يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ الْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ.
وَالصَّوَابُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ، لَا دَلِيلٌ، وَلَا مُجَرَّدُ دَعْوَى.
وَاعْلَمْ: أَنَّهُ يَرِدُ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ التَّلَازُمِ مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ السَّابِقَةِ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ، مَا عَدَا الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةَ عَلَى نفس العلة.(2/174)
الْبَحْثُ الثَّانِي: الِاسْتِصْحَابُ
أَيْ: اسْتِصْحَابُ الْحَالِ لِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ، أَوْ عَدَمِيٍّ، عَقْلِيٍّ، أَوْ شَرْعِيٍّ1.
وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُصَاحَبَةِ، وَهُوَ بَقَاءُ ذَلِكَ الْأَمْرِ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يُغَيِّرُهُ، فَيُقَالُ: الْحُكْمُ الْفُلَانِيُّ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى، وَكُلَّمَا كَانَ فِيمَا مَضَى، وَلَمْ يُظَنَّ عَدَمُهُ، فَهُوَ مَظْنُونُ الْبَقَاءِ.
قَالَ الْخُوَارَزْمِيُّ فِي "الْكَافِي": وَهُوَ آخِرُ مَدَارِ الْفَتْوَى، فَإِنَّ الْمُفْتِي إِذَا سُئِلَ عَنْ حَادِثَةٍ، يَطْلُبُ حُكْمَهَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ فِي السُّنَّةِ، ثُمَّ فِي الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَيَأْخُذُ حُكْمَهَا مِنِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ، فَإِنْ كَانَ التَّرَدُّدُ فِي زَوَالِهِ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ التَّرَدُّدُ فِي ثُبُوتِهِ فَالْأَصْلُ عَدَمُ ثُبُوتِهِ، انْتَهَى.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى أَقْوَالٍ2:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَبِهِ قَالَتِ الْحَنَابِلَةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي النَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ، وحكاه ابن الحاجب عن الأكثر.
الثَّانِي:
أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الحنفية، والمتكلمين، كأبي الحسين البصري،
__________
1 انظر ميزان الأصول 2/ 932 والمنخول 372 والبحر المحيط 6/ 17.
2 انظر ميزان الأصول "2/ 934.(2/174)
قَالُوا: لِأَنَّ الثُّبُوتَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ يَفْتَقِرُ إِلَى الدَّلِيلِ، فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لَا يَكُونَ، وَهَذَا خَاصٌّ عِنْدَهُمْ بِالشَّرْعِيَّاتِ، بِخِلَافِ الْحِسِّيَّاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَجْرَى الْعَادَةَ فِيهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ يُجْرِ الْعَادَةَ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، فَلَا تُلْحَقُ بِالْحِسِّيَّاتِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ تَخْصِيصُ النَّفْيِ بِالْأَمْرِ الوجودي.
ومنهم من نقل عن الْخِلَافُ مُطْلَقًا.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ يَقْتَضِي تَحَقُّقَ الْخِلَافِ فِي الْوُجُودِيِّ وَالْعَدَمِيِّ جَمِيعًا، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ؛ إِذْ تَفَارِيعُهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ حُجَّةٌ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالْمَنْقُولُ فِي كتب أكثر الحنفية أنه لا يصح حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ، وَلَكِنْ يَصْلُحُ لِلرَّفْعِ وَالدَّفْعِ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ: إِنَّهُ حُجَّةٌ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ، وَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ "وَذَلِكَ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كان الظاهر بقاؤها، صَلُحَ حُجَّةً لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ، فَلَا يُوَرَّثُ مَالُهُ، وَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَرِثُ عَنْ أَقَارِبِهِ"*
الثَّالِثُ:
أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل، فإنه "لم"**كلف إِلَّا مَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ دَلِيلًا سِوَاهُ جَازَ لَهُ التَّمَسُّكُ "بِهِ"***وَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدِينَ إِذَا تَنَاظَرُوا لَمْ يَنْفَعِ الْمُجْتَهِدَ قَوْلُهُ لَمْ أَجِدْ دَلِيلًا عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالِاسْتِصْحَابِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ.
الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ لَا لِلرَّفْعِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ إِلْكِيَا: وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا "بِأَنَّ"**** اسْتِصْحَابَ الْحَالِ صَالِحٌ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، إِحَالَةً عَلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ، لَا لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا1 أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ.
الْخَامِسُ:
أَنَّهُ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِهِ لَا غَيْرَ، نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ عَنْهُ، لَا أَنَّهُ يَحْتَجُّ بِهِ.
السَّادِسُ:
أَنَّ الْمُسْتَصْحِبَ إِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُ سِوَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ، صح ذلك2، وإن كان
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": لا.
*** بين قوسين ساقط من "أ".
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر صفحة: 174.
2 مثاله: من استدل على إبطال بيع الغائب ونكاح المحرم والشغار بأن الأصل أن لا عقد فلا يثبت إلا بدلالة.(2/175)
غرضه إثبات خلاف قول خصمه، من وجهة يُمْكِنُ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ فِي نَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ فَلَا يَصِحُّ1. حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ تَنْقِيحِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُطْلِقُهُ، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُ النِّزَاعِ، فَنَقُولُ: لِلِاسْتِصْحَابِ صُوَرٍ:
إِحْدَاهَا:
اسْتِصْحَابُ مَا دَلَّ الْعَقْلُ أو الشرع عَلَى ثُبُوتِهِ وَدَوَامِهِ، كَالْمِلْكِ عِنْدَ جَرَيَانِ الْقَوْلِ الْمُقْتَضِي لَهُ، وَشَغْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ جَرَيَانِ إِتْلَافٍ أَوِ الْتِزَامٍ، وَدَوَامِ الْحِلِّ فِي الْمَنْكُوحَةِ بَعْدَ تقرير المنكاح، فَهَذَا لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ مُعَارِضٌ.
قَالَ، الثَّانِيَةُ:
اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ الْمَعْلُومِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنَ التَّكْلِيفِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى تَغَيُّرِهِ، كَنَفْيِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهَذَا حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ "أَيْ"*: مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ الشرع.
قال، الثَّالِثَةَ:
اسْتِصْحَابُ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ إِلَى أَنْ يَرِدَ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ، وَهَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ.
قَالَ، الرَّابِعَةُ:
اسْتِصْحَابُ الدَّلِيلِ، مَعَ احْتِمَالِ الْمُعَارِضِ، إِمَّا تَخْصِيصًا إِنْ كَانَ الدَّلِيلُ ظَاهِرًا، أَوْ نَسْخًا إِنْ كَانَ الدَّلِيلُ نَصًّا، فَهَذَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ "بِالْإِجْمَاعِ"**.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا النَّوْعِ بِالِاسْتِصْحَابِ، فَأَثْبَتَهُ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، وَمَنَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ، مِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ"، وَإِلْكِيَا فِي "تَعْلِيقِهِ"، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي "الْقَوَاطِعِ"؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ اللَّفْظِ، لَا مِنْ نَاحِيَةِ الِاسْتِصْحَابِ2.
قَالَ، الْخَامِسَةُ:
الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، بِأَنْ يُتَّفَقَ عَلَى حكم في حاله، ثم يتغير صِفَةُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَيَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَيَسْتَدِلُّ مَنْ لم يغير الحكم باستصحاب الحال.
__________
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
** في "أ": إجماعا.
__________
1 مثاله: من يقول في مسألة الحرام: إنه يمين توجب الكفارة، لم يستدل على إبطال قول خصومه بأن الأصل أن لا طلاق ولا ظهار ولا لعان فيعارض بالأصل أن لا يمين ولا كفارة فيتعارض الاستصحابان فيسقطان ا. هـ البحر المحيط 6/ 20.
2 ذكر الزركشي في كتابه كلاما وافيا على ذلك فانظره في الصفحة 21 من البحر المحيط م6.(2/176)
مِثَالُهُ: إِذَا اسْتَدَلَّ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْمُتَيَمِّمَ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّتِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَاسْتُصْحِبَ إِلَى أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ مُبْطِلَةٌ.
وَكَقَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ: يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاء، فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ1.
وَهَذَا النوع ومحل الْخِلَافِ، كَمَا قَالَهُ فِي "الْقَوَاطِعِ" وَهَكَذَا فَرَضَ أَئِمَّتُنَا الْأُصُولِيُّونَ الْخِلَافَ فِيهَا، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمُ الْقَاضِي، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْغَزَالِيُّ، إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ الطَّوَائِفِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: إِنَّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ، بَلْ إِنِ اقْتَضَى الْقِيَاسُ أَوْ غَيْرُهُ إِلْحَاقَهُ بِمَا قَبْلُ أُلْحِقَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ: وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنِ الْمُزَنِيِّ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَالصَّيْرَفِيِّ، وَابْنِ خَيْرَانَ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ، قَالَ: وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ.
قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ": إِنَّهُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ شُيُوخُ أَصْحَابِنَا، فَيَسْتَصْحِبُ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ارْتِفَاعِهِ. انْتَهَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ الرَّاجِحُ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِالِاسْتِصْحَابِ بَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ، قَائِمٌ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يصلح لذلك، فمن ادعاه جاء به.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 22 والمستصفى 1/ 223.
2 جزء من الآية 13 من سورة الشورى.(2/177)
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَبِّدًا قبل البعثة بِشَرْعٍ أَمْ لَا؟
...
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا
وَفِي ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلْ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متعبدا بشرع أم لا؟
كان نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ أَمْ لَا؟ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ:
فَقِيلَ: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَعَبِّدًا قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِشَرِيعَةِ آدَمَ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ الشَّرَائِعِ.
وَقِيلَ: بِشَرِيعَةِ نُوحٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} 2.(2/177)
وَقِيلَ: بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} 1 وقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} 2.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي "الْمُرْشِدِ"3: وَعَزَى إِلَى الشَّافِعِيِّ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَبِهِ نَقُولُ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ "الْمَصَادِرِ" عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ.
وَقِيلَ: كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ مُوسَى.
وَقِيلَ: بِشَرِيعَةِ عِيسَى؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ النَّاسِخُ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْوَاحِدِيُّ4.
وَقِيلَ كَانَ عَلَى شَرْعٍ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَلَا يُقَالُ: كَانَ مِنْ أُمَّةِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ عَلَى شَرْعِهِ.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي "الْمُرْشِدِ": وَإِلَيْهِ كَانَ يَمِيلُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ.
وَقِيلَ: كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ كُلِّ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهَا وَانْدَرَسَ، حَكَاهُ صَاحِبُ "الْمُلَخَّصِ".
وَقِيلَ: كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ، وَلَكِنْ لَا نَدْرِي بِشَرْعِ مَنْ تَعَبَّدَهُ اللَّهُ، حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ.
وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ، حَكَاهُ فِي "الْمَنْخُولِ" عَنْ إِجْمَاعِ الْمُعْتَزِلَةِ.
قَالَ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ" وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: هُوَ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُتَكَلِّمِينَ، قَالَ جُمْهُورُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَقْلًا؛ إِذْ لَوْ تَعَبَّدَ بِاتِّبَاعِ أَحَدٍ لَكَانَ غَضًّا مِنْ نُبُوَّتِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ الْعَقْلِ.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: وَهَذَا بَاطِلٌ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ شَرِيعَةٌ، وَرَجَّحَ هَذَا الْمَذْهَبَ، أَعْنِي: عَدَمَ التَّعَبُّدِ بِشَرْعٍ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْقَاضِي، وَقَالَ: هَذَا مَا نَرْتَضِيهِ وَنَنْصُرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى دِينٍ لَنُقِلَ، وَلَذَكَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَا يظن به الكتمان.
__________
1 جزء من الآية 68 من سورة آل عمران.
2 جزء من الآية 123من سورة النحل.
3 وهو للإمام عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري، أبي نصر، كما نسبه إليه السيوطي في كتابه المسمى "بالإتقان في علوم القرآن". ا. هـ الإتقان 4/ 228.
4 هو علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، أبو الحسن الشافعي، صاحب التفسير، توفي في نيسابور سنة ثمان وستين وأربعمائة هـ، من آثاره "أسباب النزول، البسيط، الوسيط، الوجيز" وغيرها كثير. ا. هـ سير أعلام النبلاء 18/ 339 معجم المؤلفين 12/ 256 شذرات الذهب 3/ 330 هدية العارفين 1/ 692.(2/178)
وَعَارَضَ ذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَقَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينٍ أَصْلًا لَنُقِلَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ عَنِ الْمُعْتَادِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقَاضِي.
قَالَ: فَقَدْ تَعَارَضَ الْأَمْرَانِ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: كَانَتِ الْعَادَةُ انْخَرَقَتْ فِي أُمُورِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِانْصِرَافِ "هِمَمِ"* النَّاسِ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ، وَالْبَحْثِ عَنْهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مِنَ الضَّعْفِ وَسُقُوطِ مَا "رَتَّبَهُ"* عَلَيْهَا.
وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ، وَبِهِ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ القشيري، وإلكيا، والغزالي، والآمدي، والشريف المرتضى، واختار النَّوَوِيُّ فِي "الرَّوْضَةِ"، قَالُوا: إِذْ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةُ عَقْلٍ، وَلَا ثَبَتَ فِيهِ نَصٌّ، وَلَا إِجْمَاعٌ.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي "الْمُرْشِدِ" بَعْدَ حِكَايَةِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ: وَكُلُّ هَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ، وَالْعَقْلُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ لَكِنْ أَيْنَ السَّمْعُ فِيهِ. انْتَهَى.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَظْهَرُ لَهَا فَائِدَةٌ، بَلْ تَجْرِي مَجْرَى التَّوَارِيخِ الْمَنْقُولَةِ، وَوَافَقَهُ الْمَازِرِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فَائِدَةٌ، بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَكِنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ شَرَفُ تِلْكَ الْمِلَّةِ التي تبعد بِهَا، وَفَضَّلَهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمِلَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مِلَّتِهِ.
وَأَقْرَبُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام، فقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَ الْبَحْثِ عَنْهَا، عَامِلًا بِمَا بَلَغَ إِلَيْهِ مِنْهَا، كَمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ السيرة، وَكَمَا تُفِيدُهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ مِنْ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِاتِّبَاعِ تِلْكَ الْمِلَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِمَزِيدِ خُصُوصِيَّةٍ لَهَا، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةٍ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَمْ يكن إلا عليها.
__________
* في "أ": بانصرافهم.
** في حاشية "أ": كذا بالأصل "أي ملزمة" والصواب سقوط ما نبه عليه يعني بقوله والوجه أن يقال إلخ والله أعلم.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 41 والمستصفى 1/ 250.(2/179)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد البعثة متعبدا بشرع من قبله أم لا؟
اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ أَمْ لَا عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِاتِّبَاعِهَا1، بَلْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي آخر عمره.(2/179)
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَكَذَا قَالَ الْخُوَارَزْمِيُّ فِي "الْكَافِي"، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ1 لَمْ يُرْشِدْهُ إِلَّا إِلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ.
وَصَحَّحَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ حَزْمٍ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 2.
وَبَالَغَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالَتْ: بِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَقْلًا، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: الْعَقْلُ لَا يُحِيلُهُ، وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهُ، نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: هُوَ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، وَاخْتَارَهُ "ابْنُ بَرْهَانَ"*. وَقَالَ: إِنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِهِمْ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحسن واختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي واختاره ابن الحاجب.
قال ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَذَهَبَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ أَصْحَابِنَا، يَعْنِي الْمَالِكِيَّةَ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِنَّهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 3 الآية، فإن ذلك مما استدل بِهِ فِي شَرْعِنَا عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ لَمَا صَحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِكَوْنِ الْقِصَاصِ وَاجِبًا فِي شَرْعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى كَوْنِهِ وَاجِبًا فِي شَرْعِهِ.
واستدلوا أيضًا بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا" 4 وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 5 وَهِيَ مَقُولَةٌ لِمُوسَى، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، لَمَا كَانَ لِتِلَاوَةِ الْآيَةِ عِنْدَ ذَلِكَ فَائِدَةٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابن عباس أنه سجد في صورة ص، وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 6 فاستنبط التشريع من هذه الآية.
__________
* في "أ": الرازي. وهو تحريف، والصواب ما أثبت كما في البحر 6/ 42.
__________
1 تقدم تخريجه 1/ 152.
2 جزء من الآية 48 من سورة المائدة.
3 جزء من الآية 45 من سورة المائدة.
4 تقدم تخريجه 2/ 75.
5 جزء من الآية 14 من سورة طه.
6 جزء من الآية "90" من سورة الأنعام(2/180)
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِ1 "فَإِنَّ هَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا فِيمَا لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِ"* وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمَحَبَّتِهِ لِلْمُوَافَقَةِ فَائِدَةٌ.
وَلَا أَوْضَحَ وَلَا أَصْرَحَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ من قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} 2.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْوَقْفُ، حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَابْنُ بَرْهَانَ.
وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُهُمْ تَفْصِيلًا حَسَنًا فَقَالَ: إِنَّهُ إِذَا بَلَغَنَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، أَوْ لِسَانِ مَنْ أَسْلَمَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ3 وَلَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا، وَلَا مَخْصُوصًا، فَإِنَّهُ شَرْعٌ لَنَا، وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الْقُرْطُبِيُّ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالتَّعَبُّدِ، لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ وُقُوعِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، فَإِطْلَاقُهُمْ مُقَيَّدٌ بِهَذَا الْقَيْدِ، وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَأْبَاهُ.
__________
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
__________
1 مثاله ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن سخبرة قال: "مُرَّ على علي بجنازة فذهب اصحابه يقومون فقال لهم علي: ما يحملكم على هذا؟ قالوا: إن أبا موسى أخبرنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا مُرت به جنازة قام حتى تجاوزه. قال: فقال: إن أبا موسى لا يقول شيئًا، لعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك مرة. إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحب أن يتشبه بأهل الكتاب فيما لم ينزل عليه شيء فإذا أنزل عليه تركه". كتاب الجنائز، باب نسخ القيام للجنازة 962. أبو داود. كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة 3175. النسائي، كتاب الجنائز، باب الرخصة في ترك القيام للجنازة 1044. البيهقي، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة 4/ 27. ابن حبان في صحيحه 3056. أبو يعلى في مسنده 1/ 273.
2 جزء من الآية 123 من سورة النحل.
3 هو كعب بن ماتع، الحميري، اليماني، كان يهوديا فأسلم بعد وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قدم المدينة من اليمن أيام عمر رضي الله عنه، فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، ويحفظ عجائبا، ويأخذ السنن عن الصحابة وكان حسن الإسلام. ا. هـ سير أعلام النبلاء 3/ 489 شذارت الذهب 1/ 40 الجرح والتعديل 7/ 161.(2/181)
البحث الرابع: الاستحسان
واختلف في حقيقته: فَقِيلَ: هُوَ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ.
وَقِيلَ: هُوَ الْعُدُولُ عن قياس إلى قياس أقوى1.
__________
1 انظر التبصرة 492 والمنخول 347.(2/181)
وقيل: هو الْعُدُولُ عَنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ إِلَى الْعَادَةِ لِمَصْلَحَةِ الناس.
وقيل: تَخْصِيصُ قِيَاسٍ بِأَقْوَى مِنْهُ.
وَنُسِبَ الْقَوْلُ بِهِ إلى أبي حنيفة، وحكى عنه أَصْحَابِهِ، وَنَسَبَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى مَالِكٍ، وَأَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ مَعْرُوفًا مِنْ مَذْهَبِهِ، وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا حُكِيَ عَنِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْحَنَابِلَةِ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "الْمُخْتَصَرِ": قَالَتْ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَنْكَرَهُ غَيْرُهُمُ. انْتَهَى.
وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنِ استحسن فقد شرع.
قال الروياني: ومعناه أَنَّهُ يَنْصِبُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ شَرْعًا غَيْرَ الشَّرْعِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ بَاطِلٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الرِّسَالَةِ": الِاسْتِحْسَانُ تَلَذُّذٌ1، وَلَوْ جَازَ لِأَحَدٍ الِاسْتِحْسَانُ فِي الدِّينِ؛ لَجَازَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْعُقُولِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَجَازَ أَنْ يُشْرَعَ فِي الدِّينِ فِي كُلِّ بَابٍ، وَأَنْ يُخْرِجَ كُلُّ أَحَدٍ لِنَفْسِهِ شَرْعًا.
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ اسْتِحْسَانٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ أُمُورًا لَا تَصْلُحُ لِلْخِلَافِ؛ لأن بعضها مقبولا اتِّفَاقًا، وَبَعْضَهَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَا هُوَ مَقْبُولٌ اتِّفَاقًا، وَمَا هُوَ مَرْدُودٌ اتِّفَاقًا، وَجَعَلُوا مِنْ صُوَرِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْقَبُولِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الِاسْتِحْسَانَ الْعُدُولُ عَنْ قِيَاسٍ إِلَى قِيَاسٍ أَقْوَى، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَخْصِيصُ قِيَاسٍ بِأَقْوَى مِنْهُ، وَجَعَلُوا مِنَ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ يَنْقَدِحُ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ ثُبُوتُهُ "فَالْعَمَلُ"* بِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَقْبُولٌ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى أَنَّهُ شَاكٌّ، فَهُوَ مَرْدُودٌ اتِّفَاقًا؛ إِذْ لَا تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ وَالشَّكِّ.
وَجَعَلُوا مِنَ الْمُتَرَدِّدِ أَيْضًا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْعُدُولُ عَنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ إِلَى الْعَادَةِ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ هِيَ الثَّابِتَةُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الثَّابِتَةَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا، فَإِنْ كَانَ نصًّا "أو"** قياسا، مِمَّا ثَبَتَ حُجِّيَّتُهُ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا آخَرَ، لَمْ تَثْبُتْ حُجِّيَّتُهُ، فهو مردود قطعا.
__________
* في "أ": والعمل به.
** في "أ": وقياسا.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 87.(2/182)
وَقَدْ ذَكَرَ الْبَاجِيُّ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ هُوَ الْقَوْلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، كَتَخْصِيصِ بَيْعِ الْعَرَايَا مِنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ1.
قَالَ: وَهَذَا هُوَ الدَّلِيلُ، فَإِنْ سَمَّوْهُ اسْتِحْسَانًا فَلَا مُشَاحَّةَ فِي التَّسْمِيَةِ.
وَقَالَ الْأَبْيَارِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ، لَا عَلَى مَا سَبَقَ، بَلْ حَاصِلُهُ اسْتِعْمَالُ مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ، فَهُوَ يُقَدِّمُ الاستدلال المرسل على القياس.
ومثال: لَوِ اشْتَرَى سِلْعَةً بِالْخِيَارِ، ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ وَرَثَةٌ، فَقِيلَ: يَرُدُّ، وَقِيلَ: يَخْتَارُ الْإِمْضَاءَ. قَالَ أَشْهَبُ: الْقِيَاسُ الْفَسْخُ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ إِنْ أَرَادَ الْإِمْضَاءَ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ لَمْ يمضِ، إِذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ قَبُولِهِ نَصِيبَ الرَّادِّ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْقَوْلَ بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الْإِنْسَانُ، وَيَشْتَهِيهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَا أَحَدَ يَقُولُ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنَّ تَفْسِيرَ الِاسْتِحْسَانِ بِمَا يُشَنَّعُ بِهِ عَلَيْهِمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ "وَالَّذِي يَقُولُونَ بِهِ أَنَّهُ الْعُدُولُ فِي الْحُكْمِ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ"*، فَهَذَا مِمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ هَذَا الِاسْمَ لَا يُعْرَفُ اسْمًا لِمَا "يُقَالُ بِهِ"** وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْقَفَّالُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ مَا دلت عليه الْأُصُولُ بِمَعَانِيهَا، فَهُوَ حَسَنٌ، لِقِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ، قَالَ: فَهَذَا لَا نُنْكِرُهُ وَنَقُولُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَقَعُ فِي الْوَهْمِ مِنِ اسْتِقْبَاحِ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانِهِ، مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ، من أصل ونظيره، فَهُوَ مَحْظُورٌ، وَالْقَوْلُ بِهِ غَيْرُ سَائِغٍ.
قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الِاسْتِحْسَانُ كَلِمَةٌ يُطْلِقُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ على ضربين:
أحدهما: واجب بالإجماع، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّمَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ أَوِ الْعَقْلِيُّ، لِحُسْنِهِ2، فَهَذَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ، وَالْقَبِيحَ مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَحْظُورًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ "إِبَاحَتُهُ، أَوْ يَكُونَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ يُغَلِّظُهُ وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ التَّخْفِيفُ"*** فَهَذَا عِنْدَنَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ بِهِ، وَيَجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ، وَتَرْكُ الْعَادَةِ وَالرَّأْيِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا. انْتَهَى.
__________
* في "أ": مكانها: وإن تفسير الاستحسان بالعدول عن دليل أقوى منه.
** في "أ": يقاربه.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ". وهو مثبت في البحر المحيط 6/ 90.
__________
1 أخرجه مالك في الموطأ، كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع العرية 14، 2/ 619 وتقدم تخريجه 1/ 152.
2 مثاله: القول بحدوث العالم وقدم المحدث ا. هـ البحر المحيط 6/ 90.(2/183)
فَعَرَفْتَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِحْسَانِ فِي بَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهُوَ تَكْرَارٌ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهَا فَلَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنَ التَّقَوُّلِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَارَةً، وَبِمَا يُضَادُّهَا أُخْرَى.(2/184)
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فيها في مباحث القياس، وسنذكر ههنا بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ، وَلِكَوْنِهَا قَدْ ذَكَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي مَبَاحِثِ الِاسْتِدْلَالِ، وَلِهَذَا سَمَّاهَا بَعْضُهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ، وَأَطْلَقَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَيْهَا اسْمَ الِاسْتِدْلَالِ1.
قَالَ الْخُوَارَزْمِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ، بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنِ الْخَلْقِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: هِيَ أَنْ يُوجَدَ مَعْنًى يُشْعِرُ بِالْحُكْمِ، مُنَاسِبٌ عَقْلًا، وَلَا يُوجَدُ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: هِيَ مَا لَا تَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلٍ كُلِّيٍّ وَلَا جُزْئِيٍّ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقَوْلِ بِهَا عَلَى مَذَاهِبَ.
الْأَوَّلُ: مَنْعُ التَّمَسُّكِ بِهَا مُطْلَقًا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.
وَالثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ": وَأَفْرَطَ فِي الْقَوْلِ بِهَا حَتَّى جَرَّهُ إِلَى اسْتِحْلَالِ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ لِمَصَالِحَ يَقْتَضِيهَا فِي غَالِبِ الظَّنِّ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهَا مُسْتَنَدًا، وَقَدْ حُكِيَ الْقَوْلُ بِهَا عن الشافعي، في "قوله"* القد يم، وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَا نُسِبَ إِلَى مَالِكٍ مِنَ الْقَوْلِ بِهَا، وَمِنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، قَالَ: وَقَدِ اجْتَرَأَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَجَازَفَ فِيمَا نَسَبَهُ إِلَى مَالِكٍ مِنَ الْإِفْرَاطِ فِي هذا الوصل، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ مَالِكٍ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِهِ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ لِمَالِكٍ تَرْجِيحًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فِي هَذَا النَّوْعِ، وَيَلِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَلَا يكاد يخلو غيرهما من اعْتِبَارِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ لِهَذَيْنِ تَرْجِيحٌ فِي الاستعمال لها على غيرهما. انتهى.
__________
* في "أ": القول.
__________
1 انظر المستصفى 1/ 284 والبحر المحيط 6/ 76.(2/184)
قَالَ الْقَرَافِيُّ: هِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ وَيَقْعُدُونَ بِالْمُنَاسَبَةِ، وَلَا يَطْلُبُونَ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا نَعْنِي بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إِلَّا ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: إِنْ كَانَتْ مُلَائِمَةً لِأَصْلٍ كُلِّيٍّ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، أَوْ لِأَصْلٍ جُزْئِيٍّ، جَازَ بناء الأحكام عليها، وإلا فلا.
وحكاه ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ" عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الْحَقُّ الْمُخْتَارُ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ الشافعين وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى "اعْتِمَادِ"* تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، بِشَرْطِ "مُلَائَمَتِهِ"** لِلْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْأُصُولِ.
الرَّابِعُ: إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً، قَطْعِيَّةً، كُلِّيَّةً، كَانَتْ مُعْتَبَرَةً، فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ تُعْتَبَرْ، وَالْمُرَادُ بِالضَّرُورِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ1، وَبِالْكُلِّيَّةِ أَنْ تَعُمَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، لَا لَوْ كَانَتْ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ دُونَ حَالَةٍ، وَاخْتَارَ هَذَا الْغَزَالِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَمَثَّلَ الْغَزَالِيُّ لِلْمَصْلَحَةِ الْمُسْتَجْمِعَةِ "الشَّرَائِطِ"*** بِمَسْأَلَةِ التُّرْسِ؛ وَهِيَ مَا إِذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا رَمَيْنَا قَتَلْنَا مُسْلِمًا مِنْ دُونِ جَرِيمَةٍ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكْنَا الرَّمْيَ لَسَلَّطْنَا الْكُفَّارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَقْتُلُونَهُمْ، ثُمَّ يَقْتُلُونَ الْأَسَارَى الَّذِينَ تترسوا بهم، فحفظ المسلمين بقتل مَنْ تَتَرَّسُوا بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ "الشَّارِعَ"**** يَقْصِدُ تَقْلِيلَ الْقَتْلِ، كَمَا يَقْصِدُ حَسْمَهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَحَيْثُ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى الْحَسْمِ، فَقَدْ قَدَرْنَا عَلَى التَّقْلِيلِ، وَكَانَ هَذَا الْتِفَاتًا إِلَى مَصْلَحَةٍ، عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهَا مَقْصُودَةً لِلشَّرْعِ، لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ عَنِ الْحَصْرِ وَلَكِنَّ تَحْصِيلَ هَذَا الْمَقْصُودِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ قَتْلُ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ لَمْ يُشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ "مُعَيَّنٌ"*****، فَيَنْقَدِحُ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ بِالْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ كَوْنُهَا ضَرُورِيَّةً، كُلِّيَّةً، قَطْعِيَّةً، فَخَرَجَ بِالْكُلِّيَّةِ ما إذا أَشْرَفَ جَمَاعَةٌ فِي سَفِينَةٍ عَلَى الْغَرَقِ، وَلَوْ غَرِقَ بَعْضُهُمْ لَنَجَوْا، فَلَا يَجُوزُ تَغْرِيقُ الْبَعْضِ، وَبِالْقَطْعِيَّةِ مَا إِذَا شَكَكْنَا فِي كَوْنِ الْكُفَّارِ يتسلطون عند عدم رمي الترس "وبالضرورية مَا إِذَا تَتَرَّسُوا فِي قَلْعَةٍ بِمُسْلِمٍ فَلَا يَحِلُّ رَمْيُ التُّرْسِ"****** إِذْ لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلى أخذ القلعة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": الملائمة.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": الشرع.
***** ما بين قوسين ساقط من "أ".
****** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 الضروريات الخمس: وهي حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل ا. هـ انظر شرح التلويح على التوضيح 2/ 63.(2/185)
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ بِهَذِهِ الْقُيُودِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي اعْتِبَارِهَا، وَأَمَّا ابْنُ الْمُنِيرِ، فَقَالَ: هُوَ احْتِكَامٌ مِنْ قَائِلِهِ، ثُمَّ هُوَ تصوير بِمَا لَا يُمْكِنُ عَادَةً، وَلَا شَرْعًا، أَمَّا عَادَةً: فَلِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقِلَّةِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ؛ إِذْ هُوَ عَبَثٌ وَعِنَادٌ، وَأَمَّا شَرْعًا: فَلِأَنَّ الصَّادِقَ الْمَعْصُومَ قَدْ أَخْبَرَنَا بِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا يَتَسَلَّطُ عَدُوُّهَا عَلَيْهَا لِيَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهَا1.
قَالَ: وَحَاصِلُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ رَدُّ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، لِتَضْيِيقِهِ فِي قَبُولِهَا بِاشْتِرَاطِ مَا لَا يُتَصَوَّرُ وَجُودُهُ. انْتَهَى.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا تَحَامُلٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفَقِيهَ يَفْرِضُ الْمَسَائِلَ النَّادِرَةَ، لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا، بَلِ الْمُسْتَحِيلَةَ لِرِيَاضَةِ "الْأَذْهَانِ"*، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَافَّةُ الْخَلْقِ، وتصوير الغزالي إنما هُوَ فِي أَهْلِ مَحَلَّةٍ بِخُصُوصِهِمُ، اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ، لَا جَمِيعُ الْعَالَمِ، وَهَذَا وَاضِحٌ. انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَسْتُ أُنْكِرُ عَلَى مَنِ اعْتَبَرَ أَصْلَ الْمَصَالِحِ، لَكِنَّ الِاسْتِرْسَالَ فِيهَا، وَتَحْقِيقَهَا مُحْتَاجٌ إِلَى نَظَرٍ سَدِيدٍ، وَرُبَّمَا يَخْرُجُ عَنِ الْحَدِّ، وَقَدْ نَقَلُوا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَطَعَ لِسَانَ الْحُطَيْئَةِ2 بِسَبَبِ الْهَجْوِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَزْمِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَحَمْلُهُ عَلَى التَّهْدِيدِ الرَّادِعِ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَطْعِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَهَذَا يَجُرُّ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا يُسَمَّى مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً.
قَالَ: وَشَاوَرَنِي بَعْضُ الْقُضَاةِ فِي قَطْعِ أُنْمُلَةِ شَاهِدٍ، وَالْغَرَضُ مَنْعُهُ عَنِ الْكِتَابَةِ بِسَبَبِ قَطْعِهَا، وَكُلُّ "هَذِهِ"** مُنْكَرَاتٌ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ فِي الدِّينِ، وَاسْتِرْسَالٌ قَبِيحٌ فِي أَذَى المسلمين. انتهى.
ولنذكر ههنا فوائد لها بعض اتصال بمباحث الاستدلال.
__________
* في "أ": الأفهام.
** في "أ": هذا.
__________
1 أخرجه مسلم من حديث ثوبان المطول بلفظ: وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكهم بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من غيرهم فيهلكهم ولا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض ... " كتاب الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض 2889. وأخرجه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن 3952. البيهقي في السنن، كتاب السير، باب إظهار دين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأديان 9/ 181. ابن حبان في صحيحه 6714، 7238. وأخرج بنحوه أبو داود، كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها 4252. وأحمد في مسنده 5/ 278. والترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثا في أمته 2176.
2 هو جرول بن أوس بن مالك العبسي، شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام فأسلم، ثم ارتد، وكان هجاءً مُرًّا، لم يكد يسلم من لسانه أحد، وهجا أمه وأباه ونفسه، من آثاره: ديوان شعر ا. هـ معجم المؤلفين 3/ 128 الأعلام 2/ 118 هدية العارفين 1/ 251. كشف الظنون 1/ 785.(2/186)
فوائد تتعلق بالاستدلال:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ
اعْلَمْ: أَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَمِمَّنْ نَقَلَ هَذَا الِاتِّفَاقَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَغَيْرُهُمْ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، عَلَى أَقْوَالٍ1:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.
الثَّانِي:
أَنَّهُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَبِهِ قَالَ أكثر الحنفية، ونقل عن مالك، وهو قديم قولي الشَّافِعِيِّ.
الثَّالِثُ:
أَنَّهُ حُجَّةٌ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ الْقِيَاسُ، فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى قِيَاسٍ لَيْسَ مَعَهُ قول صحابي، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي "الرِّسَالَةِ".
قَالَ: وأقوال الصحابة إذا تفرقا نَصِيرُ مِنْهَا إِلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ، أَوِ السنة، أو الإجماع، أو كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ، وَإِذَا قَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْقَوْلَ لَا يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لَهُ فِيهِ مُوَافَقَةٌ وَلَا مُخَالَفَةٌ، صِرْتُ إِلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ وَاحِدِهِمْ إِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا، وَلَا سُنَّةً، وَلَا إِجْمَاعًا، وَلَا شَيْئًا يَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِهِ، أَوْ وُجِدَ مَعَهُ قِيَاسٌ. انْتَهَى.
وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ يَرَى فِي الْجَدِيدِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، إِذَا عَضَّدَهُ الْقِيَاسُ، وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَابْنُ الْقَطَّانِ.
قَالَ الْقَاضِي في "التقريب": إنه الذي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُهُ، وَحَكَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيُّ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَحْمَلَ لَهُ إِلَّا التَّوْقِيفُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالتَّحَكُّمَ فِي دِينِ اللَّهِ بَاطِلٌ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُقَلِّدْ إِلَّا تَوْقِيفًا.
قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ": وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، قَالَ: وَمَسَائِلُ الْإِمَامَيْنِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَدُلُّ عَلَيْهِ. انْتَهَى2.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إِذَا كَانَ مَا قَالَهُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا، وَدَلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّوْقِيفِ، فَلَيْسَ مِمَّا نحن بصدده.
__________
1 انظر فواتح الرحموت 2/ 185 والبحر المحيط 6/ 53.
2 انظر تتمة البحث مفصلا في البحر المحيط 6/ 59.(2/187)
وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَبْعَثْ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا نَبِيَّنَا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا رَسُولٌ وَاحِدٌ، وَكِتَابٌ وَاحِدٌ، وَجَمِيعُ الْأُمَّةِ مَأْمُورَةٌ بِاتِّبَاعِ كِتَابِهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ "وَبَيْنَ"* مَنْ بَعْدَهُمْ، فِي ذَلِكَ، فَكُلُّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَقُومُ الْحُجَّةُ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِمَا، فقد قَالَ فِي دِينِ اللَّهِ بِمَا "لَمْ"** يَثْبُتْ، وَأَثْبَتَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ شَرْعًا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَتَقَوُّلٌ بالغ فعن الْحُكْمَ لِفَرْدٍ أَوْ أَفْرَادٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ، أَوْ أَقْوَالَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِهَا وَتَصِيرُ شَرْعًا ثَابِتًا مُتَقَرِّرًا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، مِمَّا لَا يُدَانُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ الرُّكُونُ إِلَيْهِ، وَلَا الْعَمَلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَقَامَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِرُسُلِ اللَّهِ، الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ بِالشَّرَائِعِ إِلَى عِبَادِهِ لَا لِغَيْرِهِمْ، وَإِنْ بلغ فالعلم والدين عظم الْمَنْزِلَةِ أَيَّ مَبْلَغٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَقَامَ الصُّحْبَةِ مَقَامٌ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ فِي الْفَضِيلَةِ، وَارْتِفَاعِ الدَّرَجَةِ، وَعَظَمَةِ الشَّأْنِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلِهَذَا "صَارَ مُدُّ"*** أَحَدِهِمْ لَا "تَبْلُغُ إِلَيْهِ"**** مِنْ غَيْرِهِمُ الصَّدَقَةُ بِأَمْثَالِ الْجِبَالِ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجِّيَّةِ قَوْلِهِ، وَإِلْزَامِ النَّاسِ بِاتِّبَاعِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ، وَلَا ثَبَتَ عَنْهُ فِيهِ حَرْفٌ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا مَا تَمَسَكَّ بِهِ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِحُجِّيَّةِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، مِمَّا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهتديتم" 1 فهذا لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِمِثْلِهِ فِي أَدْنَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَكَيْفَ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَالْخَطْبِ الْجَلِيلِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَزِيدَ عَمَلِهِمْ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، الثَّابِتَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَحِرْصَهُمْ عَلَى اتباعها، ومشيهم "في"***** طَرِيقَتِهَا، يَقْتَضِي أَنَّ اقْتِدَاءَ الْغَيْرِ بِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِهَا، وَاتِّبَاعِهَا هِدَايَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِأَحَدِهِمْ لِمَ قُلْتَ كَذَا "أَوْ"****** لِمَ فَعَلْتَ كَذَا، لَمْ ٍْْْيعجز مِنْ إِبْرَازِ الْحُجَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ولَمْ يَتَلَعْثَمْ فِي بَيَانِ ذَلِكَ.
وَعَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَمْلِ يُحْمَلُ مَا صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: " اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي؛ أبي بكر
__________
* في "أ": وبين بعدهم.
** في "أ": لا.
*** في "أ": مد أحدهم.
**** في "أ": يبلغه.
***** في "أ": على.
******ما بين القوسين ساقط من "أ".
__________
1 تقدم تخريجه في "1/ 186".(2/188)
وَعُمَرَ" 1 وَمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْهَادِينَ" 2.
فَاعْرِفْ هَذَا، وَاحْرِصْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ إِلَيْكَ وَإِلَى سَائِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَسُولًا إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْمُرْكَ بِاتِّبَاعِ غَيْرِهِ، وَلَا شَرَعَ لَكَ عَلَى لِسَانِ سِوَاهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَرْفًا واحدا ولا جعل شيئًا من الْحُجَّةَ عَلَيْكَ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ، كَائِنًا مَنْ كان.
__________
1 تقدم تخريجه في 1/ 221.
2 تقدم تخريجه في 1/ 221.(2/189)
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَخْذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ
فَإِنَّهُ أَثْبَتَهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَحَكَى بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِجْمَاعَ أَهْلِ النَّظَرِ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُخْتَلِفُونَ فِي أَمْرٍ عَلَى أَقَاوِيلَ، فَيَأْخُذُ بِأَقَلِّهَا إِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الزِّيَادَةِ دَلِيلٌ.
قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: هُوَ أَنْ يَرِدَ الفعل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبنيا لمجمل، ويحتاج إلى تحديده، فيصار إلى اقل مَا يُوجَدُ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَقَلِّ الْجِزْيَةِ إِنَّهُ دِينَارٌ1.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ أن يختلف الصحابة في تقدير، فَيَذْهَبُ بَعْضُهُمْ إِلَى مِائَةٍ مَثَلًا، وَبَعْضُهُمْ إِلَى خَمْسِينَ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ دَلَالَةٌ تُعَضِّدُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ صُيِّرَ إِلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلَالَةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَأْخُذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ.
وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ الثُّلُثُ، وَحَكَى اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ بِالْمُسَاوَاةِ، وَبَعْضَهُمْ قَالَ بِالثُّلُثِ فَكَانَ هَذَا أقلها.
وقسم ابن السمعاني المسألة إلى قسمين:
أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَا أَصْلُهُ الْبَرَاءَةُ، فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ وَسُقُوطِهِ كَانَ سُقُوطُهُ أَوْلَى، لِمُوَافَقَةِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهِ، كَدِيَةِ الذِّمِّيِّ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى قَاتِلِهِ، فَهَلْ يَكُونُ الْأَخْذُ بِأَقَلِّهِ دَلِيلًا؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، كَالْجُمُعَةِ الثَّابِتِ فَرْضُهَا مَعَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي عَدَدِ انْعِقَادِهَا، فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ دَلِيلًا لِارْتِهَانِ الذِّمَّةِ بِهَا، فَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِالشَّكِّ.
وَهَلْ يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ دَلِيلًا؟ فيه وجهان.
__________
1 وذلك لأن الدليل قام أنه لا بد من تحديد فصار إلى أقل ما حُكي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أخذ من الجزية.(2/189)
أحدهما:
أن يَكُونُ دَلِيلًا، وَلَا يُنْتَقَلُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ تَبْرَأُ بِالْأَكْثَرِ إِجْمَاعًا، وَفِي الْأَقَلِّ خِلَافٌ، فَلِذَلِكَ جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَدَدَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ.
الثَّانِي:
لَا يَكُونُ دَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مِنَ الْخِلَافِ دَلِيلٌ. انْتَهَى1.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَخْذَ بِأَقَلِّ ما قيل مُتَرَكِّبًا مِنَ الْإِجْمَاعِ وَالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ الْأَخْذَ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا أَمْكَنَ ضَبْطُ أَقْوَالِ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَحَكَى قَوْلًا بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ بِأَكْثَرِ مَا قِيلَ، لِيَخْرُجَ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِيَقِينٍ.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي التَّقْدِيرِ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْأَدِلَّةِ فَفَرْضُ الْمُجْتَهِدِ "أَنْ يَأْخُذَ"* بِمَا صَحَّ له منها، مع الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ، أَوِ التَّرْجِيحِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْخَارِجَةَ مِنْ مَخْرَجٍ صَحِيحٍ، الْوَاقِعَةَ غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِلْمَزِيدِ مَقْبُولَةٌ، يَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهَا، وَالْمَصِيرُ إِلَى مَدْلُولِهَا، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّقْدِيرِ بِاعْتِبَارِ الْمَذَاهِبِ، فَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَ "الْمُجْتَهِدِ"** بِمَذَاهِبِ النَّاسِ، بَلْ هُوَ مُتَعَبِّدٌ بِاجْتِهَادِهِ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ نَظَرُهُ، من الأخذ بالأقل، أو بالأكثر، أَوْ بِالْوَسَطِ.
وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلْ هُوَ أَسِيرُ إِمَامِهِ فِي جَمِيعِ "مَسَائِلِ"** دِينِهِ، وَلَيْتَهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ فِي التَّقْلِيدِ فِي الْمُؤَلَّفِ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ "أَدَبَ الطَّلَبِ"2، وَفِي الرِّسَالَةِ الْمُسَمَّاةِ "الْقَوْلَ المفيد في حكم التقليد"3.
وَكَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَخْذِ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ، كَذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْأَخْذِ بِأَخَفِّ مَا قِيلَ، وَقَدْ صَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4 وَقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 5 وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بعثت بالحنيفية السمحة
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": الجمهور.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 29.
2 واسمهم" أدب الطلب ومنتهى الأرب" للإمام محمد بن علي الشوكاني. ا. هـ البدر الطالع 2/ 222. هدية العارفين 2/ 365.
3 واسمه "القول المفيد في حكم التقليد وهو أيضًا للإمام محمد بن علي الشوكاني. ا. هـ البدر الطالع 2/ 222. هدية العارفين 2/ 336.
4 جزء من الآية 185 من سورة البقرة.
5 جزء من الآية 78 من سورة الحج.(2/190)
السَّهْلَةِ" 1 وَقَوْلِهِ: "يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا" 2 وَبَعْضُهُمْ صَارَ إِلَى الْأَخْذِ بِالْأَشَقِّ، وَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ فِي مِثْلِ هَذَا؛ لِأَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ يُسْرٌ، وَالشَّرِيعَةَ جَمِيعَهَا سَمْحَةٌ سَهْلَةٌ.
وَالَّذِي يَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ وَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ عَلَيْهِ هُوَ مَا صَحَّ دَلِيلُهُ، فَإِنْ تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ الْأَخَفُّ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ، أَوِ الْأَشَقُّ مُرَجَّحًا، بَلْ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَى المرجحات المعتبرة.
__________
1 أخرجه أحمد في مسنده من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة" 6/ 116-233 وذكره العجلوني في كشف الخفاء من حديث السيدة عائشة أيضًا 1/ 217.
2 أخرجه مسلم من حديث أبي موسى، كتاب الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث 1732 وأبو داود، كتاب الأدب، باب كراهية المراء 4835.
وورد بلفظ أخر وهو: "يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا" من حديث أنس.
أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخولهم بالموعظة 69. ومسلم، كتاب الجهاد، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير 1734. وأحمد في مسنده 3/ 131. وأبو يعلى في مسنده 4172.(2/191)
الفائدة الثالثة: النافي للحكم هل يلزمه الدليل؟
لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُثْبِتَ لِلْحُكْمِ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا النَّافِي لَهُ، فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّفْيِ.
نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَنَقَلَهُ ابن القطان عن أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ الْقَفَّالُ، وَالصَّيْرَفِيُّ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، قَالُوا: لِأَنَّهُ مدعٍ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} 1 فَذَمَّهُمْ عَلَى نَفْيِ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مُبَيَّنًا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 في جواب قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} 3، ولا يخافك أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَاقِعٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَإِنَّ النَّافِيَ غَيْرُ مدعٍ، بَلْ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَنْعِ، مُتَمَسِّكٌ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَا هُوَ مُكَذِّبٌ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِعِلْمِهِ، بَلْ وَاقِفٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ الدَّلِيلُ، وَتَضْطَرَّهُ الْحُجَّةُ إِلَى الْعَمَلِ.
__________
1 جزء من الآية 39 من سورة يونس.
2 جزء من الآية 111 من سورة البقرة.
3 جزء من الآية 111 من سورة البقرة.(2/191)
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَهُوَ نَصْبٌ لِلدَّلِيلِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا طَلَبَ مِنْهُمُ الْبُرْهَانَ لِادِّعَائِهِمْ أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي:
أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، إِلَّا ابْنَ حَزْمٍ، فَإِنَّهُ رَجَّحَ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ..
قَالُوا: لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ النَّفْيُ وَالْعَدَمُ، فَمَنْ نفى الحكم فله أَنْ يَكْتَفِيَ بِالِاسْتِصْحَابِ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ قَوِيٌّ جِدًّا.
فَإِنَّ النَّافِيَ عُهْدَتُهُ أَنْ يَطْلُبَ الْحُجَّةَ مِنَ الْمُثْبِتِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَيْهَا، وَيَكْفِيهِ فِي عَدَمِ إِيجَابِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ التَّمَسُّكُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنْهَا إِلَّا دَلِيلٌ يَصْلُحُ لِلنَّقْلِ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي النَّفْيِ الْعَقْلِيِّ، دُونَ الشَّرْعِيِّ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، وَابْنُ فُورَكَ:
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي غَيْرِ الضَّرُورِيِّ، بِخِلَافِ الضَّرُورِيِّ، وَهَذَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ الضَّرُورِيَّ يُسْتَغْنَى بِكَوْنِهِ ضَرُورِيًّا، وَلَا يخالف فيه مُخَالِفٌ إِلَّا عَلَى جِهَةِ الْغَلَطِ، أَوِ اعْتِرَاضِ الشُّبْهَةِ، وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ ذَلِكَ بِبَيَانِ ضَرُورِيَّتِهِ، وَلَيْسَ النزاع إلا في غير الضروري.
المذهب الخامس:
أن النافي إن كن شاكًّا فنفيه لَمْ يَحْتَجْ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِنْ كَانَ نَافِيًا لَهُ عَنْ مَعْرِفَةٍ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ اسْتِدْلَالِيَّةً لَا إِنْ كَانَتْ ضَرُورِيَّةً، فَلَا نِزَاعَ فِي الضَّرُورِيَّاتِ. كَذَا قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ النَّافِيَ عَنْ مَعْرِفَةٍ يَكْفِيهِ "تَكْلِيفُ"* الْمُثْبِتِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ، حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، أَوْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِحُكْمٍ يَدَّعِي أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى خَصْمِهِ، وَعَلَى غَيْرِهِمَا.
المذهب السادس:
أن النافي نَفَى الْعِلْمَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ ثُبُوتَ هَذَا الْحُكْمِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ، وَإِنْ نَفَاهُ مُطْلَقًا احْتَاجَ إِلَى الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ حُكْمٌ، كَمَا أَنَّ الْإِثْبَاتَ حُكْمٌ.
قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ": وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الْحَقُّ. انْتَهَى1.
قُلْتُ: بَلِ الْحَقُّ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ.
الْمَذْهَبُ السَّابِعُ:
أَنَّهُ إِنِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ عِلْمًا بِالنَّفْيِ احْتَاجَ إِلَى الدَّلِيلِ، وَإِلَّا فَلَا.
هَكَذَا ذَكَرَ هَذَا الْمَذْهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَدَلِ، وَاخْتَارَهُ الْمُطَرِّزِيُّ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمَذْهَبِ الْخَامِسِ.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 33.(2/192)
الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ:
أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَمْ أَجِدْ فِيهِ دَلِيلًا بَعْدَ الْفَحْصِ عَنْهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِلَّا احْتَاجَ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ فُورَكَ.
الْمَذْهَبُ التَّاسِعُ:
أَنَّهُ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لَا مُوجِبَةٌ، حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ.
وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ النَّفْيَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُوجِبَةٍ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِهِ يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى النَّفْيِ، فَيُطَالَبُ بِهِ مُطَالَبَةً مَقْبُولَةً فِي الْمُنَاظَرَةِ أَمْ لَا!
وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ الْعَالِمُ: بَحَثْتُ وَفَحَصْتُ فَلَمْ أَجِدْ دَلِيلًا، هَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَيَكُونُ عَدَمُ الْوِجْدَانِ دَلِيلًا لَهُ، فَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ، يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ ظَنُّ عَدَمِهِ.
وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ": إِنْ صَدَرَ هَذَا عَنِ الْمُجْتَهِدِ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى قُبِلَ مِنْهُ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "بَحَثْتُ فَلَمْ أَظْفَرْ" يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، أَمَّا انْتِهَاضُهُ فِي حَقِّ خَصْمِهِ فَلَا.(2/193)
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: سَدُّ الذَّرَائِعِ
الذَّرِيعَةُ: هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْإِبَاحَةُ، وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الذَّرَائِعِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ مَنْعُهَا.
اسْتَدَلَّ الْمَانِعُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} 1وَقَوْلِهِ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} 2 وما صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا" 3.
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يريبك" 4.
__________
1 جزء من الآية 104 من سورة البقرة.
2 جزء من الآية 163 من سورة الأعراف.
3 أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: "قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها أجملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها" 1581.
وورد بلفظ آخر عنده من حديث أبي هريرة بلفظ: "قاتل الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير 1583. وأخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 3460. والبيهقي، كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في تحريم الخمر 8/ 286. وأبو داود، كتاب البيوع، باب ثمن الخمر والميتة 3488. وابن حبان في صحيحه 4938، 6253.
4 أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 13 من حديث الحسن بن علي وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة 2518. والنسائي، كتاب الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات 8/ 327. والطيالسي برقم 1178. وابن حبان في صحيحه 722.(2/193)
وَقَوْلِهِ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، وَالْمُؤْمِنُونَ وَقَّافُونَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ" 1.
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ" 2.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سَدُّ الذَّرَائِعِ ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ تَأْصِيلًا، وَعَمِلُوا عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ فُرُوعِهِمْ تَفْصِيلًا، ثُمَّ قَرَّرَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ مَا يُفْضِي إِلَى الْوُقُوعِ" فِي الْمَحْظُورِ إِمَّا أَنْ يَلْزَمَ مِنْهُ الْوُقُوعُ"* قَطْعًا أَوْ لَا؟ الْأَوَّلُ لَيْسَ من هَذَا الْبَابِ، بَلْ مِنْ بَابِ مَا لَا خَلَاصَ مِنَ الْحَرَامِ إِلَّا بِاجْتِنَابِهِ، فَفِعْلُهُ حَرَامٌ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَالَّذِي لَا يَلْزَمُ، إِمَّا أَنْ يُفْضِيَ إِلَى الْمَحْظُورِ غَالِبًا، أَوْ يَنْفَكَّ عَنْهُ غَالِبًا، أَوْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالذَّرَائِعِ عِنْدَنَا، فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهِ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِيهِ، "وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُرَاعِيهِ"**، وَرُبَّمَا يُسَمِّيهِ التُّهْمَةَ الْبَعِيدَةَ، وَالذَّرَائِعَ الضَّعِيفَةَ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: مَالِكٌ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ، بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يَقُولُ بِهَا، وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلْمَالِكِيَّةِ بِهَا، إِلَّا مِنْ حَيْثُ زِيَادَتِهِمْ فِيهَا.
قَالَ: فَإِنَّ مِنَ الذَّرَائِعِ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْإِجْمَاعِ، كَالْمَنْعِ مِنْ حَفْرِ الْآبَارِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي طَعَامِهِمْ، وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ مُلْغًى إِجْمَاعًا، كَزِرَاعَةِ الْعِنَبِ، فَإِنَّهَا لَا تُمْنَعُ خَشْيَةَ الْخَمْرِ، وَإِنْ كَانَتْ وَسِيلَةً إِلَى الْمُحَرَّمِ.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البخاري من حديث النعمان بن بشير بدون زيادة: "والمؤمنون وقافون عند الشبهات" كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 52. وأخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات 1559. وأبو داود، كتاب البيوع، باب في اجتناب الشبهات 3329. والنسائي، كتاب البيوع، باب اجتناب الشبهات 7/ 241. وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الوقوف عند الشبهات 3984. والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في ترك الشبهات 1205. والبيهقي، كتاب البيوع، باب طلب الحلال واجتناب الشبهات 5/ 264. وابن حبان في صحيحه 721 وأحمد في مسنده 4/ 267. وكلهم بدون زيادة "والمؤمنون وقافون عند الشبهات.
2 هو جزء من الحديث المتقدم ذكره ولقد ورد بروايات متعددة وهو عند البخاري والنسائي وغيرهما بلفظ "من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ".(2/194)
وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، كَبُيُوعِ الْآجَالِ، فَنَحْنُ "نَعْتَبِرُ"* الذَّرِيعَةَ فِيهَا، وَخَالَفْنَا غَيْرَنَا فِي أَصْلِ الْقَضِيَّةِ، أَنَّا قُلْنَا بِسَدِّ الذَّرَائِعِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِنَا، لَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِنَا.
قَالَ: وبهذا تعمل بُطْلَانَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا عَلَى الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ} 1، وَقَوْلِهِ {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} 2 فَقَدْ ذَمَّهُمْ بِكَوْنِهِمْ تَذَرَّعُوا لِلصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ، لِحَبْسِ الصَّيْدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ" 3 الْحَدِيثَ. وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ مُفْتَرِّقَيْنِ، وَتَحْرِيمِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ لِلذَّرِيعَةِ إِلَى الرِّبَا، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ**: "لا تُقبل شهادة خضم و [لا] ظنين"4 خَشْيَةَ الشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ، وَمَنْعِ شَهَادَةِ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ لَا تُفِيدُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْعِ سَدَّ الذَّرَائِعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي ذَرِيعَةٍ خَاصَّةٍ، وَهُوَ بُيُوعُ الْآجَالِ وَنَحْوِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرُوا أَدِلَّةً خَاصَّةً بِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِنْ قَصَدُوا الْقِيَاسَ عَلَى هَذِهِ الذَّرَائِعِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُمُ الْقِيَاسَ، وَحِينَئِذٍ فَلْيَذْكُرُوا الْجَامِعَ، حَتَّى يَتَعَرَّضَ الْخَصْمُ لِدَفْعِهِ بِالْفَارِقِ، وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ دَلِيلَهُمُ الْقِيَاسُ.
قَالَ: بَلْ مِنْ أدل مَحَلِّ النِّزَاعِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ أَمَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: "إِنِّي بِعْتُ مِنْهُ عَبْدًا بِثَمَانِمِائَةٍ إِلَى الْعَطَاءِ وَاشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ نَقْدًا بِسِتِّمِائَةٍ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ، وَأَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ"5
قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ ابن رُشْدٍ: وَهَذِهِ الْمُبَايَعَةُ كَانَتْ بَيْنَ أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَمَوْلَاهَا قَبْلَ الْعِتْقِ، فيُخرّج قَوْلُ عَائِشَةَ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ. مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الذَّرَائِعِ، وَلَعَلَّ زَيْدًا لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وعبده.
__________
* في "أ": لا نغتفر.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 108 سورة الأنعام
2 جزء من الآية 65 سورة البقرة.
3 تقدم تخريجه في 2/ 193.
4 رواه مالك في الموطأ موقوفا على سيدنا عمر رضي الله عنه، كتاب الأقضية باب ما جاء في الشهادات4، 2/ 720 والزيادة منه.
5 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى في كتاب البيوع باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل ثم يشتريه بأقل 5/ 330. وعبد الرزاق في مصنفه في باب الرجل يبيع السلعة ثم يريد اشتراءها بعد 14812.(2/195)
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ عَائِشَةَ إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهَا، وَاجْتِهَادُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ قَوْلُهَا مُعَارَضٌ بِفِعْلِ زَيْدِ بْنِ أرقم، ثم إنها إنما أَنْكَرَتْ ذَلِكَ لِفَسَادِ التَّعْيِينِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ فَاسِدٌ لجهالة الْأَجَلِ، فَإِنَّ وَقْتَ الْعَطَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَالثَّانِي بِنَاءٌ عَلَى الْأَوَّلِ فَيَكُونُ فَاسِدًا.
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: الذَّرِيعَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا:
مَا يُقْطَعُ بِتَوْصِيلِهِ إِلَى الْحَرَامِ، فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ، يَعْنِي: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَالثَّانِي:
مَا يُقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يُوَصِّلُ، وَلَكِنِ اخْتَلَطَ بِمَا يُوَصِّلُ، فَكَانَ مِنَ الِاحْتِيَاطِ سَدُّ الْبَابِ، وَإِلْحَاقُ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ، الَّتِي قُطِعَ بِأَنَّهَا لَا تُوَصِّلُ إِلَى الْحَرَامِ بِالْغَالِبِ مِنْهَا، الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَهَذَا غُلُوٌّ فِي الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ.
وَالثَّالِثُ:
مَا يُحْتَمَلُ وَيُحْتَمَلُ، وَفِيهِ مَرَاتِبُ "مُتَفَاوِتَةٌ"* وَيَخْتِلَفُ التَّرْجِيحُ عِنْدَهُمْ بِسَبَبِ تَفَاوُتِهَا.
قَالَ: وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ "فِي جَمِيعِهَا"** إِلَّا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ؛ لِانْضِبَاطِهِ وَقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى هَذَا الْبَابِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَعَاصِيهِ، فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ" 1 وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَيُلْحَقُ بِهِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ" 2 وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ" 3 وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ" 4 وَهُوَ حديث حسن أيضا.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": فيها
__________
1 جزء من الحديث المتقدم في 2/ 194 ورواية البخاري: $"والمعاصي حمى الله ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه".
2 تقدم تخريجه في 2/ 194.
3 أخرجه البيهقي في سننه في الشهادات بيان مكارم الأخلاق ومعاليها 2/ 192 بلفظ "ما حاك في نفسك" من حديث النواس بن سمعان الأنصاري.
وأخرجه الترمذي في الزهد باب ما جاء في البر والأثم 2389. وأحمد في مسنده 4/ 182. ومسلم في البر والصلة باب تفسير البر والإثم 2553. ابن حبان في صحيحه 397. والبغوي في شرح السنة 3494.
4 أخرجه أحمد في مسنده من حديث وابصة بلفظ: "استفت قلبك واستفت نفسك البر ما أطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ثلاثا" 4/ 228.
وأخرجه الدارمي، كتاب البيوع 2/ 245. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 175. وأبو يعلى في مسنده 1586.
ومن حديث أبي ثعلبة الخشني بلفظ: "البر ما تسكن إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون" ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 175 أيضا.
وأخرجه الطبراني في الكبير 22/ 219 بدون "وإن أفتاك المفتون ".(2/196)
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: دَلَالَةُ الِاقْتِرَانِ
وَقَدْ قَالَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو يُوسُفَ، وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْمُزَنِيُّ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَكَى ذَلِكَ الْبَاجِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، قَالَ: وَرَأَيْتُ ابْنَ نَصْرٍ1 يَسْتَعْمِلُهَا كَثِيرًا.
وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ عَلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ فِي الْخَيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} 2 قَالَ: فَقَرَنَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ لَا زَكَاةَ فِيهَا إِجْمَاعًا، فَكَذَلِكَ الْخَيْلُ.
وَأَنْكَرَ دَلَالَةَ الِاقْتِرَانِ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: إِنَّ الِاقْتِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاقْتِرَانَ فِي الْحُكْمِ.
وَاحْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ "لَهَا"* بِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ.
وأجاب الجمهور: بأن الشركة إنما تكن فِي الْمُتَعَاطِفَاتِ النَّاقِصَةِ، الْمُحْتَاجَةِ إِلَى مَا تَتِمُّ بِهِ، فَإِذَا تَمَّتْ بِنَفْسِهَا فَلَا مُشَارَكَةَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} 3 فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْأُولَى، وَلَا تشاركها في الرسالة، ونحو ذلك كثير من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ كَلَامٍ تَامٍّ أَنْ يَنْفَرِدَ بِحُكْمِهِ، وَلَا يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ، فَمَنِ ادَّعَى خِلَافَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، وَلَا نِزَاعَ فِيمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الدَّلَالَةَ فِيهِ لَيْسَتْ لِلِاقْتِرَانِ، بَلْ لِلدَّلِيلِ الْخَارِجِيِّ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ نَاقِصًا، بِأَنْ لَا يُذْكَرَ خَبَرُهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانَةُ طَالِقٌ وفلانة، فلا خلاف في المشاركة، ومثله عطفت الْمُفْرَدَاتِ، وَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ فِي الْعِلَّةِ، فالتشارك في الحكم إنما كان لأجلها، لا لأجل الاقتران.
__________
* في "أ": إما
__________
1 هو أحمد بن نصر الداودي، الأسدي، المالكي "أبو جعفر" محدث، فقيه متكلم. سكن طرابلس الغرب، وتوفي بتلمسان سنة اثنتين وأربعمائة هـ من آثاره: "النامي في شرح الموطأ، الإيضاح في الرد على القدرية" وغيرها ا. هـ معجم المؤلفين 2/ 194".
2 جزء من الآية 8 من سورة النحل.
3 جزء من الآية 29 من سورة الفتح.(2/197)
وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} 1.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوُجُوبُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْحَجِّ. انْتَهَى.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا لِقَرِينَتِهَا، إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا قَرِينَةُ الْحَجِّ فِي الْأَمْرِ وهو قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَكَانَ احْتِجَاجُهُ بِالْأَمْرِ دُونَ الِاقْتِرَانِ.
وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي "شَرْحِ الرِّسَالَةِ"2: فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: "غُسْلُ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَالسِّوَاكُ، وَأَنْ يَمَسَّ الطِّيبَ"3 "فِيهِ"* دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِالسِّوَاكِ، وَالطِّيبِ، وَهَمَّا غَيْرُ وَاجِبَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَالْمَرْوِيُّ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْهُمْ فِي "الْبَحْرِ" أَنَّهَا إِذَا عُطِفَتْ جُمْلَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ، فَإِنْ كَانَتَا تَامَّتَيْنِ كَانَتِ الْمُشَارَكَةُ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ، لَا فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ، "وَقَدْ"** لَا تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةُ أَصْلًا، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} 4 فإن قوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا، ولا هي داخل فِي جَوَابِ الشَّرْطِ.
وَإِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ نَاقِصَةً شَارَكَتِ الْأُولَى فِي جَمِيعِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا بَنَوْا بَحْثَهُمُ الْمَشْهُورَ فِي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ" 5 وَقَدْ سَبَقَ الكلام فيه.
__________
* في "أ": فهو.
** في "أ": قال.
__________
1 جزء من الآية 196 من سورة البقرة.
2 واسمه: "دلائل الأعلام" شرح لرسالة الشافعي في أصول الفقه على مذهبه، للشيخ الإمام محمد بن عبد الله الصيرفي ا. هـ كشف الظنون 1/ 873.
3 أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري البخاري، كتاب الجمعة، باب الطيب للجمعة 880. مسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة 846. أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة 334. النسائي، كتاب الجمعة 3/ 92. البيهقي في السنن، كتاب الجمعة، باب السنة في التنظيف يوم الجمعة 3/ 242. ابن خزيمة 1745. ابن حبان في صحيحه 1233. أحمد في مسنده 3/ 69.
4 جزء من الآية 24 من سورة الشورى.
5 تقدم تخريجه في 1/ 345.(2/198)
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: دَلَالَةُ الْإِلْهَامِ
ذَكَرَهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، فِي "بَابِ"* الْقَضَاءِ فِي حُجِّيَّةِ الْإِلْهَامِ خِلَافًا وَفَرْعًا عَلَيْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ هَلْ يَجُوزُ انْعِقَادُهُ لَا عَنْ دَلِيلٍ "فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ جَعْلُهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا جَوَّزْنَا الِانْعِقَادَ لَا عَنْ دَلِيلٍ"**، وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَقَدِ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ اعتماد الإلهام، منهم فِي "تَفْسِيرِهِ" فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ، وَابْنُ الصَّلَاحِ فِي "فَتَاوِيهِ"1، فَقَالَ: إِلْهَامُ خَاطِرِ الْحَقِّ مِنَ الْحَقِّ. قَالَ: وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنْ يَنْشَرِحَ لَهُ الصَّدْرُ، وَلَا يُعَارِضَهُ مُعَارِضٌ "مِنْ خَاطِرٍ آخَرَ"***.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِ "التَّذْكِرَةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ"2: ذَهَبَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ تَقَعُ اضْطِرَارًا لِلْعِبَادِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ، بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِشَرْطِ التَّقْوَى، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} 3 أَيْ: مَا تُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} 4 أَيْ: عَنْ كُلِّ مَا يَلْتَبِسُ عَلَى غَيْرِهِ وَجْهُ الْحُكْمِ فِيهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} 5.
فَهَذِهِ الْعُلُومُ الدِّينِيَّةُ تَحْصُلُ لِلْعِبَادِ إِذَا زَكَتْ أَنْفُسُهُمْ، وَسَلَّمَتْ قُلُوبُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى، بِتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ وامتثال المأمورات؛ "إذ"**** وخبره صِدْقٌ وَوَعْدُهُ حَقٌّ.
وَاحْتَجَّ شِهَابُ الدِّينِ السَّهْرَوَرْدِيُّ6 على الإلهام بقوله تعالى:
__________
* في "أ": كتاب.
** ما بين القوسين ساقط من "أ".
*** ما بين القوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": وخبره.
__________
1 واسمها "فتاوى ابن الصلاح، لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشافعي، وهي من محاسنه، جمعها بعض طلبته، وهو الكمال إسحاق المعزي، وهي في مجلد كثير الفوائد نسخة منها مرتبة على الأبواب ونسخة غير مرتبة ا. هـ كشف الظنون 2/ 1218.
2 التذكرة في أصول الدين: لم نجد فيما بين أيدينا من المراجع ترجمة لهذا الكتاب ولا لمؤلفه.
3 جزء من الآية 29 من سورة الأنفال.
4 جزء من الآية 22 من سورة الطلاق.
5 جزء من الآية 282 من سورة البقرة.
6 هو عمر بن محمد بن عبد الله التيمي القرشي، البكري السهروردي، الشيخ الإمام العالم القدوة، العارف، المحدث، شيخ الإسلام، شهاب الدين، ولد سنة ثلاثين وخمسمائة هـ وتوفي سنة اثنتنين وثلاثين وستمائة هي، صنف في التصوف كتابا فيه أحوال القوم ا. هـ سير أعلام النبلاء 22/ 375 شذرات الذهب 5/ 153.(2/199)
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} 1 وبقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} 2 فَهَذَا الْوَحْيُ هُوَ مُجَرَّدُ الْإِلْهَامِ.
ثُمَّ إِنَّ مِنَ "الْإِلْهَامِ"* عُلُومًا تَحْدُثُ فِي النُّفُوسِ الزكية المطمئنة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إن من أمتي المحدثين والمكلمين *، وَإِنَّ عُمَرَ لَمِنْهُمْ" 3 وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 4 فَأَخْبَرَ أَنَّ النُّفُوسَ مُلْهَمَةٌ.
قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ بِمَعْنَاهُ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ5 فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ: أَيْ: مُلْهَمُونَ، وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ "نِهَايَةِ الْغَرِيبِ"6: جَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهُ أَنَّهُمُ الْمُلْهَمُونَ، وَالْمُلْهَمُ: هُوَ الَّذِي يُلْقَى فِي نَفْسِهِ الشَّيْءُ، فَيُخْبِرُ بِهِ حَدْسًا وَفِرَاسَةً، وَهُوَ نَوْعٌ يَخُصُّ بِهِ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، كَأَنَّهُمْ حُدِّثُوا بِشَيْءٍ فقالوه.
وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ" 7 فَذَلِكَ في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة.
__________
* في "أ": الوحي.
** في "أ": لمحدثين ومتكلمين.
__________
1 جزء من الآية 7 من سورة القصص.
2 جزء من الآية 68 من سورة النحل.
3 أخرجه مسلم من حديث عائشة بلفظ: "وقد كان يكون في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد، فهو عمر بن الخطاب" كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عمر رضي الله عنه 2398. وأخرجه ابن حبان في صحيحه 6894. الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب 3693. النسائي، كتاب الفضائل 18. أحمد في مسنده 6/ 55.
وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد 2/ 339، والبخاري 3469 و3689 والنسائي في فضائل الصحابة 19.
4 الآيتان 7-8 من سورة الشمس.
5 هو عبد الله بن وهب بن مسلم، الفقه، المصري، أبو محمد ولد سنة خمس وعشرين ومائة هـ، وتوفي سنة سبع وتسعين ومائة هـ، كان صاحبًا للإمام مالك، جمع بين الفقه والحديث والعبادة، من آثاره: "الجامع، الموطأ" وغيرها ا. هـ سير أعلام النبلاء 14/ 400 الأعلام 4/ 144 شذرات الذهب 2/ 252.
6 واسمه "النهاية في غريب الحديث" للإمام مبارك بن أبي الكرم محمد المعروف بابن الأثير، أخذه من الغريبين للهروي وغريب الحديث لأبي موسى الأصبهاني ورتبه على حروف المعجم بالتزام الأول والثاني من كل كلمة واتباعهما بالثالث. وهو مطبوع، انظر: كشف الظنون 2/ 1989.
7 تقدم تخريجه في 2/ 196.(2/200)
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَاسْتِفْتَاءُ الْقَلْبِ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ أَبَاحَ الْمُفْتِي، أَمَّا حَيْثُ حَرَّمَ فَيَجِبُ الِامْتِنَاعُ، ثُمَّ لَا نَقُولُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ، فَرُبَّ قَلْبٍ مُوَسْوَسٌ يَنْفِي كُلَّ شَيْءٍ، وَرُبَّ قَلْبٍ مُتَسَاهِلٌ يَطِيرُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهَذَيْنِ الْقَلْبَيْنِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِ الْعَالِمِ الْمُوَفَّقِ لِدَقَائِقِ الْأَحْوَالِ، فَهُوَ الْمَحِكُ الَّذِي يُمْتَحَنُ بِهِ حَقَائِقُ الْأُمُورِ، وَمَا أَعَزَّ هَذَا الْقَلْبَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبِ الْإِيمَانِ"1: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَعْرِفُ فِي مَنَامِهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ ما عسى يَحْتَاجَ إِلَيْهِ، أَوْ يُحَدَّثَ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: "وَكَيْفَ يُحَدَّثُ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ الْمَلَكُ عَلَى لِسَانِهِ"2.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ 3 أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي: يُلْقِي فِي رَوْعِهِ.
قَالَ الْقَفَّالُ: لَوْ تُثْبَتُ الْعُلُومُ بِالْإِلْهَامِ لَمْ "يَكُنْ"* لِلنَّظَرِ مَعْنًى، وَنَسْأَلُ الْقَائِلَ بِهَذَا عَنْ دَلِيلِهِ، فَإِنِ احْتَجَّ بِغَيْرِ الْإِلْهَامِ "فَقَدْ** نَاقَضَ قَوْلَهُ. انْتَهَى.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ: بِأَنَّ مُدَّعِيَ الْإِلْهَامِ لَا يَحْصُرُ الْأَدِلَّةَ فِي الْإِلْهَامِ، حَتَّى يَكُونَ اسْتِدْلَالُهُ بِغَيْرِ الْإِلْهَامِ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ، نَعَمْ إِنِ اسْتَدَلَّ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلْهَامِ بِالْإِلْهَامِ، كَانَ فِي ذَلِكَ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ.
ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِدْلَالِ لِثُبُوتِ الْإِلْهَامِ بِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، مِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ دَعْوَى هَذَا الْفَرْدِ لِحُصُولِ الْإِلْهَامِ لَهُ صَحِيحَةٌ، وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَلْبَهُ مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُوَسْوَسَةٍ ولا بمتساهلة.
__________
* في "أ": يظن.
** في "أ": فهو.
__________
1 واسمه: "الجامع المصنف في شعب الإيمان". للإمام أحمد بن الحسين البيهقي، كتاب كبير من الكتب المشهور، وله مختصرات منها مختصر شمس الدين القونوي ا. هـ كشف الظنون "1/ 574.
2 زيادة على لفظ الحديث المتقدم تخريجه في الصفحة 191 وهذه الزيادة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد كتاب المناقب باب منزل عمر عند الله ورسوله من حديث أبي سعيد الخدري 14439، 9/ 69. وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أبو سعد خادم الحسن البصري ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
3 هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، الإمام الكبير، الحافظ، أبو إسحاق القرشي، الزهري، العوفي، المدني، ولد سنة ثمان ومائة هـ، سمع من الزهري وهو حدث واختلف في سنة وفاته فقيل سنة أربع وثمانين ومائة هـ وقيل خمس وقيل سبع وغير ذلك ا. هـ سير أعلام النبلاء 8/ 304 تهذيب التهذيب 1/ 121 الأعلام 1/ 40.(2/201)
"الْفَائِدَةُ"* السَّابِعَةُ: فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً وَيَلْزَمُ العمل به.
وقيل: لا يكون حجة، لا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَةُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٍّ، وَالشَّيْطَانُ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِ لَكِنَّ النَّائِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحَمُّلِ لِلرِّوَايَةِ، لِعَدَمِ حِفْظِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ، مَا لَمْ يُخَالِفْ شَرْعًا ثَابِتًا.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الشَّرْعَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَمَّلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1، وَلَمْ يَأْتِنَا دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي النَّوْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا قَالَ فِيهَا بِقَوْلٍ، أَوْ فَعَلَ فيها فعلا يكون دليلا وحجة، بل قد قبضه الله إليه بعد أَنْ كَمَّلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا شَرَعَهُ لَهَا عَلَى لِسَانِهِ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ حَاجَةٌ لِلْأُمَّةِ فِي أَمْرِ دِينِهَا، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْبَعْثَةُ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ، وَتَبَيِينِهَا بِالْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ رَسُولًا حَيًّا وَمَيِّتًا، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَوْ قَدَّرْنَا ضَبْطَ النَّائِمِ لَمْ يَكُنْ مَا رَآهُ مِنْ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله حُجَّةً عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ.
__________
* في "أ": المسألة.
__________
1 جزء من الآية 3 من سورة المائدة.(2/202)
الْمَقْصِدُ السَّادِسُ: مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْكِتَابِ فِي الاجتهاد والتقليد
الفصل الأول: في الإجتهاد
المسألة الأولى: في حد الاجتهاد
مدخل
...
المقصد السادس: في الاجتهاد والتقليد
أما الفصل الأول: في الاجتهاد
فَفِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَهْدِ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَالطَّاقَةُ، فَيَخْتَصُّ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، لِيَخْرُجَ عَنْهُ مَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ.
قَالَ "فِي الْمَحْصُولِ": وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ، فِي أَيِّ فِعْلٍ كَانَ.
يُقَالُ: استفرع وُسْعَهُ فِي حَمْلِ الثَّقِيلِ، وَلَا يُقَالُ: اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي حَمْلِ النَّوَاةِ.
وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: فَهُوَ اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي النَّظَرِ فِيمَا لَا يَلْحَقُهُ فِيهِ لَوْمٌ، مَعَ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فيه، و"هذا"* سبيل مسائل الفروع، و"لذلك"** تُسَمَّى هَذِهِ الْمَسَائِلُ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ، وَالنَّاظِرُ فِيهَا مُجْتَهِدًا، وَلَيْسَ هَكَذَا حَالُ الْأُصُولِ. انْتَهَى.
وَقِيلَ: هُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: بَذْلُ الْوُسْعِ فِي نَيْلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِيٍّ، بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ.
فَقَوْلُنَا: بَذْلُ الْوُسْعِ يُخْرِجُ مَا يَحْصُلُ مَعَ التَّقْصِيرِ، فَإِنَّ مَعْنَى بَذْلِ الْوُسْعِ: أَنْ يُحِسَّ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ مَزِيدِ طَلَبٍ.
وَيَخْرُجُ بِالشَّرْعِيِّ اللُّغَوِيُّ، وَالْعَقْلِيُّ، وَالْحِسِّيُّ، فَلَا يُسَمَّى مَنْ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي تَحْصِيلِهَا مُجْتَهِدًا اصْطِلَاحًا، وَكَذَلِكَ بَذْلُ الْوُسْعِ في تحصيل الحكم العلمي، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى اجْتِهَادًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى اجْتِهَادًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ1.
وَيَخْرُجُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ نَيْلُ الْأَحْكَامِ مِنَ النُّصُوصِ ظَاهِرًا، أَوْ حِفْظُ الْمَسَائِلِ، أَوِ اسْتِعْلَامُهَا مِنَ الْمُفْتِي، أَوْ بِالْكَشْفِ عَنْهَا فِي كُتُبِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ اللُّغَوِيُّ، فَإِنَّهُ لا يصدق عليه الاجتهاد الاصطلاحي.
__________
* في "أ": وهو.
** في "أ": ولهذا.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 197 والمستصفى 2/ 350.(2/205)
وَقَدْ زَادَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ فِي هَذَا الْحَدِّ لَفْظَ الْفَقِيهِ فَقَالَ: بَذْلُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ بَذْلَ غَيْرِ الْفَقِيهِ وُسْعَهُ لَا يُسَمَّى اجْتِهَادًا اصْطِلَاحًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَزَادَ قَيْدَ الظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ لَا اجْتِهَادَ فِي الْقَطْعِيَّاتِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ السمعاني: وهو أَلْيَقُ بِكَلَامِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: الِاجْتِهَادُ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ معانٍ:
أَحَدُهَا:
الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ، لِجَوَازِ وُجُودِهَا خَالِيَةً عَنْهُ، لَمْ يُوجِبْ ذلك العلم بالمطلوب، فلذلك كَانَ طَرِيقَةَ الِاجْتِهَادِ.
وَالثَّانِي:
مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ، كَالِاجْتِهَادِ فِي الْوَقْتِ، والقبلة، والتقويم.
والثالث:
الاستدلال بالأصول.
وقال الْآمِدِيُّ: هُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الظَّنِّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، عَلَى وَجْهٍ يُحِسُّ مِنَ النَّفْسِ الْعَجْزَ عَنِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا الْقَيْدِ خَرَجَ اجْتِهَادُ الْمُقَصِّرِ، فَإِنَّهُ لا يعد في الاصطلاح اجتهادا معتبرا.(2/206)
الشروط الواجب توفرها في المجتهد:
إذا عَرَفْتَ هَذَا، فَالْمُجْتَهِدُ: هُوَ الْفَقِيهُ الْمُسْتَفْرِغُ لِوُسْعِهِ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يكون بالغا عاقلا، قد ثبت لَهُ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَآخِذِهَا، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ.
الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ قَصَّرَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ بجميع الكتاب والسنة، بل ما يَتَعَلَّقُ مِنْهُمَا بِالْأَحْكَامِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ ذَلِكَ قَدْرُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ، وَدَعْوَى الِانْحِصَارِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ إنما هو بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُسْتَخْرَجُ مِنْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَلِكَ، بَلْ مَنْ لَهُ فَهْمٌ صَحِيحٌ، وَتَدَبُّرٌ كَامِلٌ، يَسْتَخْرِجُ الْأَحْكَامَ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ لِمُجَرَّدِ الْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ.
قِيلَ: وَلَعَلَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْأَحْكَامِ دَلَالَةً أَوَّلِيَّةً بِالذَّاتِ، لَا بِطْرِيقِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ.
وَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ اقْتِصَارَ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ إِنَّمَا هُوَ(2/206)
لِأَنَّهُمْ رَأَوْا مُقَاتِلَ بْنَ سُلَيْمَانَ1 أَفْرَدَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ فِي تَصْنِيفٍ وَجَعَلَهَا خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ مَا فِيهَا مِنَ الْقِصَصِ وَالْمَوَاعِظِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَكْفِي الْمُجْتَهِدَ مِنَ السُّنَّةِ، فَقِيلَ: خَمْسُمِائَةِ حَدِيثٍ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ مَا يُقَالُ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي "الْمَحْصُولِ": هِيَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الضَّرِيرُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: كَمْ يَكْفِي الرَّجُلَ مِنَ الْحَدِيثِ حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يُفْتِيَ: يَكْفِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: "مِائَتَا أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ"* ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: أَرْجُو.
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَالتَّغْلِيظِ فِي الْفُتْيَا، أَوْ يَكُونُ أَرَادَ وَصْفَ أَكْمَلِ الْفُقَهَاءِ، فَأَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأُصُولُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْعِلْمُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ اسْتِحْضَارُ جَمِيعِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ، وَلَوْ تُصُوِّرَ لَمَا حَضَرَ فِي ذِهْنِهِ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ جَمِيعُ مَا رُوي.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ: يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَصْلٌ يَجَمْعُ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ، كَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ2، وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ لِلْبَيْهَقِيِّ3، أَوْ أَصْلٌ وَقَعَتِ الْعِنَايَةُ فِيهِ بِجَمِيعِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ، وَيُكْتَفَى فِيهِ بِمَوَاقِعِ كُلِّ بَابٍ، فَيُرَاجِعُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الرَّافِعِيُّ، وَنَازَعَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، فَإِنَّهَا لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام،
__________
*ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو أبو الحسن البلخي، كبير المفسرين، أبو الحسن، وهو من الضعفاء، توفي سنة خمسين ومائة هـ، من آثار "التفسير الكبير، نوادر التفسير، الرد على القدرية، متشابه القرآن" وغيرها. قال البغدادي في هدية العارفين: صنف من الكتب تفسير خمسمائة آية من القرآن ا. هـ هدية العارفين 2/ 470، سير أعلام النبلاء 7/ 201 شذرات الذهب 1/ 227.
2 أبو داود: هو سليمان بن الأشعث بن شداد السجستاني، شيخ السنة مقدم الحفاظ، محدث البصرة، ولد سنة اثنتين ومائتين هـ، قال الصاغاني فيه: لين لأبي داود السجستاني الحديث كما لين لداود عليه السلام الحديد. توفي سنة خمس وسبعين ومائتين هـ من آثاره كتابه المشهور "سنن أبو داود" جمع فيه أربعة آلاف حديث وثمانية من خمسمائة ألف حديث كتبها عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 13/ 203 شذرات الذهب 2/ 167 تذكر الحفاظ 2/ 591 كشف الظنون 2/ 1004.
3 للإمام الحافظ أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ا. هـ كشف الظنون 2/ 1739.(2/207)
وَلَا مُعْظَمَهَا، وَكَمْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثٍ حُكْمِيٍّ لَيْسَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي "شَرْحِ الْعُنْوَانِ": التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ عِنْدَنَا، لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهَا لَا تَحْوِي السُّنَنَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا.
الثَّانِي:
أَنَّ فِي بَعْضِهَا مَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْضُهُ مِنْ قَبِيلِ الْإِفْرَاطِ، وَبَعْضُهُ مِنْ قَبِيلِ التَّفْرِيطِ.
وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مَجَامِيعُ السُّنَّةِ الَّتِي صَنَّفَهَا أَهْلُ الْفَنِّ، كَالْأُمَّهَاتِ السِّتِّ1 وَمَا يَلْتَحِقُ بِهَا: مُشْرِفًا عَلَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْمَسَانِيدُ2، وَالْمُسْتَخْرَجَاتُ3، وَالْكُتُبُ الَّتِي الْتَزَمَ مُصَنِّفُوهَا الصِّحَّةَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ تَكُونَ مَحْفُوظَةً لَهُ، مُسْتَحْضَرَةً فِي ذِهْنِهِ، بَلْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَتَمَكَّنُ مِنِ اسْتِخْرَاجِهَا مِنْ مَوَاضِعِهَا، بِالْبَحْثِ عَنْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَهُ تَمْيِيزٌ بَيْنَ الصَّحِيحِ مِنْهَا، وَالْحَسَنِ، وَالضَّعِيفِ، بِحَيْثُ يَعْرِفُ حَالَ رِجَالِ الْإِسْنَادِ مَعْرِفَةً يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنَ الْحُكْمِ عَلَى الْحَدِيثِ بِأَحَدِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِحَالِ الرِّجَالِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَتَمَكَّنَ بِالْبَحْثِ فِي كُتُبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِنْ مَعْرِفَةِ حَالِ الرِّجَالِ، مَعَ كَوْنِهِ مِمَّنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِمَا يُوجِبُ الْجَرْحَ، وَمَا لَا يُوجِبُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَمَا هُوَ مَقْبُولٌ مِنْهَا، وَمَا هُوَ مَرْدُودٌ، وَمَا هُوَ قَادِحٌ مِنَ الْعِلَلِ، وَمَا هُوَ غَيْرُ قَادِحٍ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، حَتَّى لَا يُفْتِيَ بِخِلَافِ مَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَيَرَى أَنَّهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَقَلَّ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَى مَنْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مِنَ الْمَسَائِلِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ تَفْسِيرُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْغَرِيبِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لَهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ أن يكون متمكنا
__________
1 وهي الكتب الستة المعروفة: 1- صحيح البخاري 2- صحيح مسلم 3- سنن أبي داود 4-سنن ابن ماجه 5- سنن النسائي 6- صحيح الترمذي.
2 جمع مسند والمراد به هنا كتاب ذكرت فيه الأحاديث على ترتيب الصحابة بحيث يوافق حروف الهجاء أو يوافق السوابق الإسلامية أو يوافق شرافة النسب، وأشهرها: مسند الإمام أحمد بن حنبل.
3 المستخرج: مشتق من الاستخراج وهو: أن يعمد المحدث إلى كتاب من كتب الحديث كصحيح البخاري مثلا فيخرج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب فيجتمع معه في شيخه أو من فوقه، ومثاله: "كتاب المستخرج على صحيح البخاري للإسماعيلي وللبرقاني" و"المستخرج على صحيح مسلم لأبي عوانة الإسفراييني" وغير ذلك. ا. هـ تدريب الراوي 1/ 112.(2/208)
مِنِ اسْتِخْرَاجِهَا مِنْ مُؤَلَّفَاتِ الْأَئِمَّةِ الْمُشْتَغِلِينَ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَرَّبُوهَا أَحْسَنَ تَقْرِيبٍ، وَهَذَّبُوهَا أَبْلَغَ تَهْذِيبٍ، وَرَتَّبُوهَا عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ تَرْتِيبًا لَا يَصْعُبُ الْكَشْفُ عَنْهُ، وَلَا يَبْعُدُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعَانِيهَا، وَخَوَاصِّ تَرَاكِيبِهَا، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ لَطَائِفِ الْمَزَايَا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِعِلْمِ النَّحْوِ، وَالصَّرْفِ، وَالْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ، حَتَّى يثبت لَهُ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ هَذِهِ "الْفُنُونِ"* مَلَكَةٌ، يَسْتَحْضِرُ بِهَا كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عند وروده عليه، فإنه ذَلِكَ يَنْظُرُ فِي الدَّلِيلِ نَظَرًا صَحِيحًا، وَيَسْتَخْرِجُ مِنْهُ الْأَحْكَامَ اسْتِخْرَاجًا قَوِيًّا.
وَمَنْ جَعَلَ الْمِقْدَارَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ هُوَ مَعْرِفَةَ "مختصر من"** ختصراتها، أَوْ كِتَابٍ مُتَوَسِّطٍ مِنَ الْمُؤَلَّفَاتِ الْمَوْضُوعَةِ فِيهَا، فَقَدْ أَبْعَدَ، بَلِ الِاسْتِكْثَارُ مِنَ الْمُمَارَسَةِ لَهَا، وَالتَّوَسُّعُ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى مُطَوَّلَاتِهَا مِمَّا يَزِيدُ الْمُجْتَهِدَ قُوَّةً فِي الْبَحْثِ، وَبَصَرًا فِي الِاسْتِخْرَاجِ، وَبَصِيرَةً فِي حُصُولِ مَطْلُوبِهِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ الْمَلَكَةُ الْقَوِيَّةُ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْمَلَكَةُ بِطُولِ الْمُمَارَسَةِ، وَكَثْرَةِ الْمُلَازَمَةِ لِشُيُوخِ هَذَا الْفَنِّ.
قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا يَبْلُغُهُ جَهْدُهُ فِي أَدَاءِ فَرْضِهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ مُجْتَهِدٍ1 وَغَيْرِهِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِعِلْمِ أصول الفقه، لاشتماله على "ما تمس"*** حاجة إِلَيْهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُطَوِّلَ الْبَاعَ فِيهِ، وَيَطَّلِعَ عَلَى مُخْتَصَرَاتِهِ، وَمُطَوَّلَاتِهِ، بِمَا تَبْلُغُ "إِلَيْهِ"****طَاقَتُهُ، فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ هُوَ عِمَادُ فُسْطَاطِ الِاجْتِهَادِ، وَأَسَاسُهُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ أَرْكَانُ بِنَائِهِ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَنْظُرَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِهِ نَظَرًا يُوصِلُهُ إِلَى مَا هُوَ الْحَقُّ فِيهَا، فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَاكَ تَمَكَّنَ مِنْ رد الفروع إلى أصولها، بأيسر علم، وَإِذَا قَصَّرَ فِي هَذَا الْفَنِّ صَعُبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ، وَخَبَطَ فِيهِ وَخَلَطَ.
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ"؛ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ: إِنَّ أَهَمَّ الْعُلُومِ لِلْمُجْتَهِدِ عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ. انْتَهَى.
__________
* بين القوسين ساقط من "أ".
** بين القوسين ساقط من "أ".
*** في"أ": نفسه.
**** في "أ": به.
__________
1 قال الأستاذ أبو إسحاق: ويكفيه من اللغة أن يعرف غالب المستعمل ولا يشترط التبحر، ومن النحو الذي يصح به التمييز في ظاهر الكلام كالفاعل والمفعول وما تتفق عليه المعاني في الجمع والعطف والخطاب والكتابات والوصل والفصل، ولا يلزم الإشراف على دقائقه. ا. هـ البحر المحيط 6/ 202.(2/209)
قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ أَعَظْمَ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُنُونٍ: الْحَدِيثِ، وَاللُّغَةِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحُكْمِ بِالْمَنْسُوخِ1.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، فَشَرَطَهُ جماعة منهم الغزالي، والفخر الرازي، ولم يشترطه الْآخَرُونَ، وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِنَّمَا يَدُورُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، لَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَنْ جَعَلَ الْعَقْلَ حَاكِمًا فَهُوَ لَا يَجْعَلُ مَا حَكَمَ بِهِ دَاخِلًا فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي اشْتِرَاطِ عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ، فمنهم من "اشتراط"* ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ، فَقَالَ: يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِالضَّرُورِيَّاتِ، كَالْعِلْمِ بِوُجُودِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ وَالتَّصْدِيقِ "بِالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ"**.
وَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِدَقَائِقِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْآمِدِيُّ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْفُرُوعِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ إِلَى اشْتِرَاطِهِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَقَالَ: إِنَّمَا يَحْصُلُ الِاجْتِهَادُ فِي زَمَانِنَا بِمُمَارَسَتِهِ فَهُوَ طَرِيقٌ لِتَحْصِيلِ الدُّرْبَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، قَالُوا: وإلا لزم الدور، وكيف يحتاج إليه، وَهُوَ الَّذِي يُوَلِّدُهَا، بَعْدَ حِيَازَتِهِ لِمَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ.
وَقَدْ جَعَلَ قَوْمٌ مِنْ جُمْلَةِ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ عِلْمَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ الْعِلْمُ بِهَا بِدُونِهِ كَمَا قَدَّمْنَا2.
وَجَعَلَ قَوْمٌ مِنْ جُمْلَةِ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةَ الْقِيَاسِ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ وَأَصْلُ الرَّأْيِ، وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ الْفِقْهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِهِ، وشعبة من شعبه.
__________
* في "أ": يشترط.
** في "أ": بالرسل وما جاءوا به.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 203.
2 انظر ما سبق في الشرط الأول: 2/ 206-207.(2/210)
موضع الاجتهاد:
وَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الِاجْتِهَادِ، وَالْمُجْتَهِدِ، فَاعْلَمْ: أَنَّ المجتهد فيه، هو الحكم الشرعي العملي1.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": الْمُجْتَهَدُ فِيهِ: هُوَ كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَاحْتَرَزْنَا بِالشَّرْعِيِّ عَنِ الْعَقْلِيَّاتِ، وَمَسَائِلِ الْكَلَامِ.
وَبِقَوْلِنَا: لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَنْ وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، والزكاة، وما اتفقت عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ جَلِيَّاتِ الشَّرْعِ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الْمَسْأَلَةُ الِاجْتِهَادِيَّةُ هِيَ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُجْتَهِدُونَ، مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ جَوَازَ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ اجْتِهَادِيَّةً، فَلَوْ عَرَفْنَا كَوْنَهَا اجْتِهَادِيَّةً بِاخْتِلَافِهِمْ فِيهَا لزم الدور.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 227 والمستصفى 2/ 354.(2/211)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، قَائِمٍ بِحُجَجِ اللَّهِ، يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ قُطْرٍ مَنْ يَقُومُ بِهِ الْكِفَايَةُ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي "كَلَامِ"* الْأَئِمَّةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْمُجْتَهِدِ الْمُقَيَّدِ، قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَتْوَى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاجْتِهَادُ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: فَرْضِ عَيْنٍ، وَفَرْضِ كِفَايَةٍ، وَنَدْبٍ.
فَالْأَوَّلُ: على حالين:
"أحدهما" **: اجْتِهَادٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ.
والثاني: اجتهد فيما تعين عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِيهِ، فَإِنْ ضَاقَ فَرْضُ الْحَادِثَةِ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِلَّا كَانَ عَلَى التَّرَاخِي.
__________
* في "أ": كتب.
** زيادة يقتضيها السياق.(2/211)
وَالثَّانِي: عَلَى حَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْتَفْتِي حَادِثَةٌ، فَاسْتَفْتَى أَحَدَ الْعُلَمَاءِ، تَوَجَّهُ الْفَرْضُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَأَخَصُّهُمْ بِمَعْرِفَتِهَا مَنْ خُصَّ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا، فَإِنْ أَجَابَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ سَقَطَ الْفَرْضُ، وَإِلَّا أَثِمُوا جَمِيعًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَرَدَّدَ الْحُكْمُ بَيْنَ قَاضِيَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ فِي النَّظَرِ، فَيَكُونُ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَأَيُّهُمَا تَفَرَّدَ بِالْحُكْمِ فِيهِ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْهَا.
وَالثَّالِثُ: عَلَى حَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِيمَا يَجْتَهِدُ فِيهِ الْعَالِمُ مِنْ غَيْرِ النَّوَازِلِ، يَسْبِقُ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ قَبْلَ نُزُولِهِ.
وَالثَّانِي: أن يستفتيه قبل نزولها. انتهى.
ولا يخافك أَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الِاجْتِهَادِ فَرْضًا، يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ما صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ" 1.
وَقَدْ حَكَى الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ" عَنِ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنِ الْمُجْتَهِدِ، وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ".
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الْخَلْقُ كَالْمُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ الْيَوْمَ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ، أَوْ مِنْ قَوْلِ الْغَزَالِيِّ فِي "الْوَسِيطِ"2: قَدْ خَلَا الْعَصْرُ عَنِ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَنَقْلُ الِاتِّفَاقِ عَجِيبٌ، وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَابِلَةِ، وَسَاعَدَهُمْ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا.
وَالْحَقُّ: أَنَّ الْفَقِيهَ الْفَطِنَ لِلْقِيَاسِ كَالْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ، لَا النَّاقِلِ فَقَطْ.
وَقَالَتِ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالزُّبَيْرِيُّ3، وَنَسَبَهُ أَبُو إِسْحَاقَ إِلَى الْفُقَهَاءِ، قَالَ وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَخْلَى زَمَانًا من قائم بحجة، زال.
__________
1 تقدم في 1/ 207.
2 وهو الوسيط في الفروع للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، وهو ملخص من بسيطة مع زيادات، وهو أحد الكتب الخمسة المتداولة بين الشافعية التي تتداول كما ذكره النووي في تهذيبه ا. هـ كشف الظنون 2/ 2008.
3 هو أحمد بن سليمان البصري، المعروف بالزبيري الشافعي، ويعرف أيضًا بصاحب الكافي، أبو عبد الله، فقيه، عارف بالأدب، خبير بالأنساب، من آثاره: كتابه "الاستشارة والاستخارة، الكافي في فروع الفقه الشافعي" وغيرها ا. هـ معجم المؤلفين 1/ 237 كشف الظنون 1/ 493.(2/212)
التَّكْلِيفُ؛ إِذِ التَّكْلِيفُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْحُجَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِذَا زَالَ التَّكْلِيفُ بَطَلَتِ الشَّرِيعَةُ.
قَالَ الزُّبَيْرِيُّ: لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَدَهْرٍ وَزَمَانٍ، وَذَلِكَ قَلِيلٌ فِي كَثِيرٍ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَوْجُودٍ، كَمَا قَالَ الْخَصْمُ، فَلَيْسَ بِصَوَابٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عُدِمَ الْفُقَهَاءُ لَمْ تُقَمِ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا، وَلَوْ عُطِّلَتِ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا لَحَلَّتِ النِّقْمَةُ بِالْخَلْقِ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شَرَارِ النَّاسِ "1 وَنَحْنُ نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نُؤَخَّرَ مَعَ الْأَشْرَارِ. انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، لَكِنْ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يُنْتَقَضُ بِهِ الْقَوَاعِدُ، بِسَبَبِ زَوَالِ الدُّنْيَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ.
وَقَالَ فِي "شَرْحِ خُطْبَةِ الْإِلْمَامِ": وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ، وَالْأُمَّةُ الشَّرِيفَةُ لَا بُدَّ لها من سالك إلى الحق على وضاح الحجة، إلى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى. انْتَهَى.
وَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ أَنَّهُ قَدْ خَلَا الْعَصْرُ عَنِ الْمُجْتَهِدِ، قَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ الْقَفَّالُ، وَلَكِنَّهُ نَاقَضَ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَلِّدٍ لِلشَّافِعِيِّ، وإنما وافق رأيه رأيه، كما "نقل"* ذَلِكَ عَنْهُ الزَّرْكَشِيُّ2، وَقَالَ: قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِخُلُوِّ الْعَصْرِ عَنِ الْمُجْتَهِدِ، مِمَّا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ، فَإِنَّهُمْ إِنْ قَالُوا ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُمْ، فَقَدْ عَاصَرَ الْقَفَّالَ، وَالْغَزَالِيَّ، وَالرَّازِيَّ، وَالرَّافِعِيَّ، مِنَ الْأَئِمَّةِ الْقَائِمِينَ بِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْوَفَاءِ وَالْكَمَالِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَمَنْ كَانَ لَهُ إِلْمَامٌ بِعِلْمِ التَّارِيخِ، وَاطِّلَاعٍ عَلَى أَحْوَالِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ عَصْرٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا، بَلْ قَدْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعُلُومِ فَوْقَ مَا "اعْتَبَرَهُ"** أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الِاجْتِهَادِ.
وَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَفَعَ مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى مَنْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَذِهِ "الْأُمَّةِ"*** مِنْ كَمَالِ الْفَهْمِ، وَقُوَّةِ الْإِدْرَاكِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْمَعَارِفِ، فَهَذِهِ دَعْوَى مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلَاتِ، بَلْ هِيَ جَهَالَةٌ مِنَ الْجَهَالَاتِ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَيَسُّرِ الْعِلْمِ لِمَنْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ، وَصُعُوبَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَهْلِ عُصُورِهِمْ، فَهَذِهِ أَيْضًا دَعْوَى بَاطِلَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ أَنَّ الِاجْتِهَادَ قَدْ يسره الله.
__________
* في "ب": حكى.
** في "أ": اعتد به.
*** في "أ": الأئمة.
__________
1 أخرجه مسلم من حديث عبد الله، كتاب الفتن، باب قبل الساعة 2949. وأحمد في مسنده 1/ 435. وأبو يعلى في مسنده 5248. وابن حبان في صحيحه 6850. والطيالسي 311.
2 انظر البحر المحيط 6/ 208.(2/213)
لِلْمُتَأَخِّرِينَ تَيْسِيرًا لَمْ يَكُنْ لِلسَّابِقِينَ؛ لِأَنَّ التَّفَاسِيرَ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَدْ دُوِّنَتْ، وَصَارَتْ فِي الْكَثْرَةِ إلى حد لا يكن حَصْرُهُ، وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ قَدْ دُوِّنَتْ، وَتَكَلَّمَ "الْأَئِمَّةُ"* عَلَى التَّفْسِيرِ وَالتَّرْجِيحِ، وَالتَّصْحِيحِ، وَالتَّجْرِيحِ بِمَا هُوَ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَمَنْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ يَرْحَلُ لِلْحَدِيثِ الْوَاحِدِ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، فَالِاجْتِهَادُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ مِنَ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَا يُخَالِفُ فِي هَذَا مَنْ لَهُ فَهْمٌ صَحِيحٌ، وَعَقْلٌ سَوِيٌّ.
وَإِذَا أَمْعَنْتَ النَّظَرَ وَجَدْتَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ إِنَّمَا أُتوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَكَفُوا عَلَى التَّقْلِيدِ، وَاشْتَغَلُوا بِغَيْرِ عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، حَكَمُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِمَا وَقَعُوا فِيهِ، "وَاسْتَصْعَبُوا"** مَا سَهَّلَهُ الله على من رزقه العلم والفهم، وأفاض على قلب أَنْوَاعَ عُلُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَلَمَّا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَرَّحُوا بِعَدَمِ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِينَ شَافِعِيَّةً، فَهَا نَحْنُ "نُوَضِّحُ"*** لَكَ مَنْ وُجِدَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بَعْدَ عَصْرِهِمْ، مِمَّنْ لَا يُخَالِفُ مُخَالِفٌ فِي أَنَّهُ جَمَعَ أَضْعَافَ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ، فَمِنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ1، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ زَيْنُ الدَّيْنِ الْعِرَاقِيِّ2، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ3، ثم تلميذه السيوطي4؛ فهؤلاء ستة
__________
* في "أ": الأمة.
** في "أ": استصعبنا
*** في "أ": نصرح.
__________
1 هو محمد بن محمد بن أحمد بن سيد الناس، اليعمري، الربعي، أبو الفتح فتح الدين، مؤرخ، عالم بالأدب، من حفاظ الحديث ولد سنة إحدى وسبعين وستمائة هـ وتوفي سنة أربع وثلاثين وسبعمائة هـ من آثاره "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، تحصيل الإصابة في تفضيل الصحابة" وغيرها ا. هـ ذيل تذكرة الحفاظ 16 شذرات الذهب 6/ 108 الأعلام 7/ 34.
2 هو عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن الكردي، الرازناني الأصل، المهراني، المصري، الشافعي، المعروف بالعراقي، زين الدين، أبو الفضل توفي سنة اثنتين وثمانمائة هـ من آثاره: "ألفية علوم الحديث، المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" وغيرها. ا. هـ معجم المؤلفين 5/ 204 هدية العارفين 1/ 562 تذكرة الحفاظ 1/ 28.
3 هو أحمد بن علي بن محمد الكناني، العسقلاني، المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة، ولد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة هـ من آثاره "فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الإصابة في تمييز الصحابة" وغيرها كثير. ا. هـ شذرات الذهب 7/ 270 معجم المؤلفين 2/ 20 إيضاح المكنون 1/ 13.
4 هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد، المصري، الشافعي، جلال الدين، أبو الفضل، ولد سنة تسع وأربعين وثمانمائة هـ، وتوفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة هـ، له مؤلفات كثيرة منها "المزهر في اللغة، الدر المنثور في التفسير المأثور، حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" ا. هـ معجم المؤلفين 5/ 128 "شذرات الذهب 8/ 51 هدية العارفين 1/ 534.(2/214)
أَعْلَامٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تِلْمِيذُ مَنْ قَبْلَهُ، قَدْ بَلَغُوا مِنَ الْمَعَارِفِ الْعِلْمِيَّةِ مَا يَعْرِفُهُ من يعرف مصنفاتهم حق معرفتنا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِمَامٌ كَبِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُحِيطٌ بِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ إِحَاطَةً مُتَضَاعِفَةً، عَالِمٌ بِعُلُومٍ خَارِجَةً عَنْهَا.
ثُمَّ فِي الْمُعَاصِرِينَ لِهَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُمَاثِلِينَ لَهُمْ، وَجَاءَ بَعْدَهُمْ مَنْ لَا يَقْصُرُ عَنْ بُلُوغِ مَرَاتِبِهِمْ، وَالتَّعْدَادُ لِبَعْضِهِمْ، فَضْلًا عَنْ كُلِّهِمْ يَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ طَوِيلٍ.
وَقَدْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ" مَا لَفْظُهُ: وَلَمْ يَخْتَلِفِ اثْنَانُ فِي أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ دَقِيقِ العيد. انتهى.
و"حكاية"* هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْ هَذَا الشَّافِعِيِّ يَكْفِي فِي مقابلة حكاية الاتفاق من ذلك الشافعي الرافعي. وبالجملة فتطويل الْبَحْثِ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَأْتِي بِكَثِيرِ إفادة، فَإِنَّ أَمْرَهُ أَوْضَحُ مِنْ كُلِّ وَاضِحٍ، وَلَيْسَ مَا يَقُولُهُ مَنْ كَانَ مِنْ أُسَرَاءِ التَّقْلِيدِ بلازم لمن فتح الله على أَبْوَابَ الْمَعَارِفِ، وَرَزَقَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ تَقْلِيدِ الرِّجَالِ، وَمَا هَذِهِ بِأَوَّلِ فاقرة1 جاء بها المقلدون، ولا هي أول مقالة قَالَهَا الْمُقَصِّرُونَ.
وَمَنْ حَصَرَ فَضْلَ اللَّهِ عَلَى بَعْضِ خَلْقِهِ، وَقَصَرَ فَهْمَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ عَصْرُهُ، فَقَدْ تَجَرَّأَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ عَلَى شَرِيعَتِهِ الْمَوْضُوعَةِ لِكُلِّ عِبَادِهِ، ثُمَّ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ تَعَبَّدَهُمُ الله بالكتاب والسنة.
ويا لله الْعَجَبَ مِنْ مَقَالَاتٍ هِيَ جَهَالَاتٌ، وَضَلَالَاتٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَسْتَلْزِمُ رَفْعَ التَّعَبُّدِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا تَقْلِيدُ الرِّجَالِ، الَّذِينَ هُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَتَعَبُّدِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَإِنْ كَانَ التَّعَبُّدُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانُوا فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ، وَلَمْ يَبْقَ لِهَؤُلَاءِ إِلَّا التَّقْلِيدُ لِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ، مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ الْبَاطِلَةِ، وَالْمَقَالَةِ الزَّائِفَةِ، وَهَلِ النَّسْخُ إِلَّا هَذَا {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 2.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 الفاقرة: الداهية الكاسرة للفقار ا. هـ لسان العرب مادة فقر.
2 جزء من الآية 16 من سورة النور.(2/215)
المسألة الثالثة: في تجزء الاجتهاد
...
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تجزُّؤ الِاجْتِهَادِ
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ قَدْ تَحَصَّلَ لَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مَا هُوَ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْأَدِلَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ فَهَلْ له أن يجتهد فيها أو لا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُطْلَقًا، عِنْدَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ؟
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَتَجَزَّأُ، وَعَزَاهُ الصَّفِيُّ الندي إِلَى الْأَكْثَرِينَ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ "النُّكَتِ"1 عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُمَكِّنُ الْعِنَايَةُ بِبَابٍ مِنَ الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ، حَتَّى تَحْصُلَ الْمَعْرِفَةُ بِمَآخِذِ أَحْكَامِهِ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْمَعْرِفَةُ بِالْمَآخِذِ أَمْكَنَ الِاجْتِهَادُ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالرَّافِعِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ مُنْتَصِبًا لِلِاجْتِهَادِ فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِي نَوْعٍ مِنَ الْفِقْهِ، رُبَّمَا كَانَ أَصْلُهَا فِي نَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ.
احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَجَزَّأِ الِاجْتِهَادُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَسَائِلِ، وَاللَّازِمُ منتفٍ، فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ سُئِلَ فَلَمْ يُجِبْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سُئِلَ عَنْ مَسَائِلَ، فَأَجَابَ فِي الْبَعْضِ، وَهُمْ مُجْتَهِدُونَ بِلَا خِلَافٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً، فَأَجَابَ فِي أَرْبَعٍ مِنْهَا، وَقَالَ فِي الْبَاقِي: لَا أَدْرِي.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ ذَلِكَ لِمَانِعٍ، أَوْ لِلْوَرَعِ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ السَّائِلَ مُتَعَنِّتٌ، وَقَدْ يَحْتَاجُ بَعْضُ الْمَسَائِلِ إِلَى "مَزِيدِ"* بَحْثٍ، يَشْغَلُ الْمُجْتَهِدَ عَنْهُ شَاغِلٌ فِي الْحَالِ.
وَاحْتَجَّ "النَّافُونَ"** بِأَنَّ كُلَّ مَا يُقَدَّرُ جَهْلُهُ بِهِ يَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِالْحُكْمِ الْمَفْرُوضِ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُ ظَنُّ عَدَمِ الْمَانِعِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَفْرُوضَ حُصُولُ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ.
وَيُرَدُّ هَذَا الْجَوَابُ: بِمَنْعِ حُصُولِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ فِي مَسْأَلَةٍ دُونَ غَيْرِهَا، فَإِنَّ من لا
__________
* في "أ": فريد.
** في "أ": الباقون.
__________
1 لعله كتاب "النكت" للإمام أبي إسحاق الشيرازي الشافعي، قال السبكي: هو في علم الخلافيات. وقال حاجي خليفة في كشف الظنون: إنه في علم الجدل ا. هـ كشف الظنون 2/ 1977، طبقات الشافعية 4/ 234 الجواهر المضية 4/ 246.(2/216)
يَقْتَدِرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ لَا يَقْتَدِرُ عَلَيْهِ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَأَكْثَرُ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَيَأْخُذُ بَعْضُهَا بِحُجْزَةِ بَعْضٍ، وَلَا سِيَّمَا مَا كَانَ مِنْ عُلُومِهِ مَرْجِعُهُ إِلَى ثُبُوتِ الْمَلَكَةِ، فَإِنَّهَا إِذَا تَمَّتْ كَانَ مُقْتَدِرًا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ، وَإِنِ احْتَاجَ بَعْضُهَا إِلَى "مَزِيدِ"* بِحْثٍ، وَإِنْ نَقَصَتْ لَمْ يَقْتَدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَثِقْ مِنْ نَفْسِهِ لِتَقْصِيرِهِ، وَلَا يَثِقْ بِهِ الْغَيْرُ لِذَلِكَ، فَإِنِ ادَّعَى بَعْضُ الْمُقَصِّرِينَ بِأَنَّهُ قَدِ اجْتَهَدَ فِي مَسْأَلَةٍ "دُونَ مَسْأَلَةٍ"** فَتِلْكَ الدَّعْوَى يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُهَا بِأَنْ يَبْحَثَ مَعَهُ مَنْ هُوَ مُجْتَهِدٌ اجْتِهَادًا مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ يُورِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَسَالِكِ وَالْمَآخِذِ "مَا لَا يَتَعَقَّلُهُ"***، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ بِمَا إِذَا عَرَفَ بَابًا دُونَ بَابٍ، أَمَّا مَسْأَلَةٌ دُونَ مَسْأَلَةٍ فَلَا يَتَجَزَّأُ قَطْعًا، وَالظَّاهِرُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْأَبْيَارِيُّ1. انْتَهَى.
وَلَا فَرْقَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ "بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ"**** فِي امْتِنَاعِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالدَّلِيلِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِحُصُولِ الْمُقْتَضَى وَعَدَمِ الْمَانِعِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِلْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ، وأما من ادعى الإحاطة بما يحتاج فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ، أَوْ فِي مَسْأَلَةٍ دُونَ مَسْأَلَةٍ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزَالُ يُجَوِّزُ لِلْغَيْرِ مَا قَدْ بَلَغَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ، فَإِنْ قَالَ: قَدْ غَلَبَ ظَنُّهُ بِذَلِكَ؛ فَهُوَ مُجَازِفٌ، وتتضح مجازفته بالبحث معه.
__________
* في "أ": فريد.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": لا يتعلقه.
__________
1 وتوسط فقال: إن أجمعوا في مسألة على ضبط مآخذها وكان الناظر المخصوص محيطا بالنظر في تلك المآخذ صح أن يكون مجتهدا فيها وإلا لم يصح. هذه تتمة كلام الزركشي في البحر المحيط 6/ 209.(2/217)
المسألة الرابعة: جواز الاجتهاد للأنبياء
...
المسألة الرابعة: جوز الِاجْتِهَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ
اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ أَنْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَقْلًا تَعَبُّدُهُمْ بِالِاجْتِهَادِ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، حَكَى هَذَا الْإِجْمَاعَ ابْنُ فُورَكَ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ، وَنَحْوِهَا، حَكَى هَذَا الْإِجْمَاعَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَابْنُ حَزْمٍ.
وَذَلِكَ كَمَا قُلْتُ وَقَعَ مِنْ نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِرَادَتِهِ بِأَنْ يُصَالِحَ غَطَفَانَ عَلَى "ثلث"* ثمار
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/217)
الْمَدِينَةِ1، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ تَلْقِيحِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ2.
فَأَمَّا اجْتِهَادُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ:
لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى النَّصِّ بِنُزُولِ الْوَحْيِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 3 وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى النُّطْقِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 4؛ وقد حَكَى هَذَا الْمَذْهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": كُلُّ مَنْ نَفَى الْقِيَاسَ أَحَالَ تَعَبُّدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بِهِ"*.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ اخْتِيَارِ ابْنِ حَزْمٍ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سُئِلَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، وَيَقُولُ: "مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي هَذَا شَيْءٌ"، كَمَا قَالَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ زَكَاةِ الْحَمِيرِ؟ فَقَالَ: "لَمْ يَنْزِلْ عَلِيَّ "فِي ذَلِكَ" ** إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 5"6، وَكَذَا انْتَظَرَ الْوَحْيَ فِي كَثِيرٍ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ.
وَمِنَ الذَّاهِبِينَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ، أَبُو عَلِيٍّ، وَأَبُو هَاشِمٍ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي:
أَنَّهُ يَجُوزُ لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا خَاطَبَ عِبَادَهُ، وَضَرَبَ لَهُ الْأَمْثَالَ، وأمره
__________
* في "أ": بالاجتهاد.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 3/ 340 وابن هشام في سيرته 3/ 176.
2 أخرجه مسلم عن عائشة وثابت وأنس بن مالك بلفظ: "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع أصواتًا فقال: "ما هذه الأصوات؟ " قالوا: النخل يأبرونه فقال: "لو لم يفعلوا لصلح ذلك"، فأمسكوا فلم يأبروا عامته فصار شيصًا، فذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "إذا كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم وإذا كان شيء من أمر دينكم فإليَّ ". كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي 2363. وأخرجه ابن ماجه، كتاب الرهون، باب تلقيح النخل 2471. ابن حبان في صحيحه 22. أحمد في مسنده 6/ 123. وفي الباب عن عبيد الله عند مسلم 2361 وابن ماجه 2470.
3 الآية: 4 من سورة النجم.
4 الآية: 3 من سورة النجم.
5 الآيتان 7-8 من سورة الزلزلة.
6 أخرجه مسلم من حديث أبو هريرة، باب الزكاة، كتاب إثم مانع الزكاة 987. وأخرجه أحمد في مسنده وانظر الفتح الرباني 8/ 235 رقم 44. وأخرجه البيهقي، كتاب الزكاة، باب من رأى في الخيل صدقة 4/ 119. وذكره التهانوني في إعلاء السنن 9/ 34.(2/218)
بِالتَّدَبُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ أَجَلُّ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَأَعْظَمُ الْمُعْتَبِرِينَ "بِهَا"*
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} 1؛ وَلَوْ سُلِّمَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ اجْتِهَادِهِ؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالِاجْتِهَادِ بِالْوَحْيِ، لَمْ يَكُنْ نُطْقًا عَنِ الْهَوَى، بَلْ عَنِ الْوَحْيِ، وَإِذَا جَازَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ أَنْ يَجْتَهِدَ بِالْإِجْمَاعِ، مَعَ كَوْنِهِ مُعَرَّضًا لِلْخَطَأِ، فَلِأَنْ يَجُوزَ لِمَنْ هُوَ مَعْصُومٌ عَنِ الْخَطَأِ بِالْأَوْلَى.
وَأَيْضًا قَدْ وَقَعَ "ذَلِكَ"** كَثِيرًا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَّا مِنْهُ فَمِثْلُ قَوْلِهِ: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ" 2 "أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ" 3، وَقَوْلِهِ لِلْعَبَّاسِ: "إِلَّا الإذخر" 4 لم يَنْتَظِرِ الْوَحْيَ فِي هَذَا، وَلَا فِي كَثِيرٍ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا وَإِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" 5
وَأَمَّا مِنْ غَيْرِهِ فَمِثْلُ قُصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ6.
وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْمَانِعُونَ، مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ؛ لَجَازَتْ مُخَالَفَتُهُ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ.
وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي قَالَهُ بِالِاجْتِهَادِ هُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ، وَمِنْ لَوَازِمِ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ جَوَازُ الْمُخَالَفَةِ؛ إِذْ لَا قَطْعَ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، لِكَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْإِصَابَةِ، وَمُحْتَمِلًا لِلْخَطَأِ، فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِمَنْعِ كَوْنِ اجْتِهَادِهِ يَكُونُ لَهُ حُكْمُ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لَازِمًا لِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ، لِعَدَمِ اقْتِرَانِهِ بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ اجْتِهَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ.
وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالِاجْتِهَادِ لماتأخر فِي جَوَابِ سُؤَالِ سَائِلٍ، فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا تَأَخَّرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ، لِجَوَازِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِ الْوَحْيُ الَّذِي عَدَمُهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ اجْتِهَادِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ الْجَوَابُ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِثْبَاتِ فِي الْجَوَابِ، وَالنَّظَرِ فيما ينبغي النظر
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 103 من سورة النحل.
2 تقدم تخريجه في 2/ 25.
3 تقدم تخريجه في 2/ 100.
4 تقدم تخريجه في 1/ 366.
5 تقدم تخريجه في 1/ 96.
6 وردت القصة في سورة الأنبياء في قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء 78-79(2/219)
فِيهِ فِي الْحَادِثَةِ، كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:
الْوَقْفُ عَنِ القطع بشيء من ذلك، زعم الصيرفي في "شرح الرسالة" أنه مذهب الإمام الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ حَكَى الْأَقْوَالَ وَلَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا مِنْهَا.
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، والغزالي.
ولا وجه للوقف في هذه الْمَسْأَلَةِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوُقُوعِ، عَلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً ظَاهِرَةً قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ} 1 فَعَاتَبَهُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ لَمْ يُعَاتِبْهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ قَوْلِهِ: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقت الْهَدْيَ" 2 أَيْ: لَوْ عَلِمْتُ أَوَّلًا مَا عَلِمْتُ آخِرًا مَا فَعَلْتُ، ذَلِكَ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا عَمِلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، كَمُعَاتَبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَخْذِ الْفِدَاءِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} 3. وكما في معاتبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} 4 إلى آخر ما قصه الله من ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ.
وَالِاسْتِيفَاءُ لِمِثْلِ هَذَا يفضي إلى بسط طويل، وفيما ذكرنا يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يأتِ الْمَانِعُونَ بِحُجَّةٍ تستحق المنع، أو التوقف لأجلها.
__________
1 جزء من الآية 43 من سورة التوبة.
2 أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت 1651 مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع 1211. أبو يعلى في مسنده بلفظ: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة ولكني سقت الهدي وقرنت الحج والعمرة" 4345. أحمد في مسنده 3/ 266. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب الحج، باب في القرآن وغيره وحجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 5442.وأخرجه الشافعي في الأم بنفس اللفظ 2/ 127 كتاب الحج. وذكره المزني في مختصره، كتاب الحج 1/ 63-64.
3 جزء من الآية من سورة الأنفال.
4 جزء من الآية 37 من سورة الأحزاب. والآية نزلت في سيدنا زيد بن حارثة والسيدة زينب بنت جحش رضي الله عنهما عندما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يتزوج من زينب بعد أن يطلقها زيد، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تبناه فقال الناس: تزوج حليلة ابنه، وحصلت فيها قصة مشهورة انظرها في تفسير القرطبي 14/ 188 وابن كثير 3/ 498.(2/220)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذَهَبَ "الْأَكْثَرُ"* إِلَى جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، مِنْهُمُ الْقَاضِي.
وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، وَأَبِي هَاشِمٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فصَّل بَيْنَ الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ، فَأَجَازَهُ لِمَنْ غَابَ عَنْ حَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ1، دُونَ من كان في حضرته الشريفة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَنَقَلَهُ إِلْكِيَا عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَمَالَ إِلَيْهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِنَّهُ الْأَقْوَى عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِهِمْ.
قَالَ ابْنُ فُورَكَ: بِشَرْطِ تَقْرِيرِهِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: إِنْ كَانَ اجْتِهَادُ الصَّحَابِيِّ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْأَحْكَامِ، كَإِيجَابِ شَيْءٍ، أَوْ تَحْرِيمِهِ، فَلَا يَجُوزُ، كَمَا وَقَعَ مِنْ أَبِي السَّنَابِلِ2 مِنَ الْإِفْتَاءِ بِاجْتِهَادِهِ فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ اجْتِهَادُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَيَجُوزُ، كَاجْتِهَادِهِمْ فِيمَا يَجْعَلُونَهُ عَلَمًا لِلدُّعَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ3؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِيجَابُ شَرِيعَةٍ تُلْزِمُ.
وَكَاجْتِهَادِ قَوْمٍ بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ هُمُ السَّبْعُونَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجنة ووجوههم كالقمر
__________
* في "أ": الأكثرون.
__________
1 تقدم في 1/ 152.
2 هو أبو السنابل بن بعكك، الصحابي، قيل اسمه حبة وقيل حنة وقيل عمرو، قال البخاري: لا أعلم أنه عاش بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أسلم بوم الفتح، وله قصة معروفة تعرف بقصة سبيعة، وهي أنها لما مات زوجها فوضعت حملها وتهيأت للخطاب فأنكر عليها، وقال: حتى تعتدي أربعة أشهر وعشرًا، فسألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعلمها أن قد حللت، وهذا يدل على أن أبا السنابل كان فقيهًا.. ا. هـ الإصابة 4/ 96. أخرج القصة مسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل 1485. والنسائي. كتاب الطلاق، باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها 6/ 193. والترمذي، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع 1194. ومالك في الموطأ، كتاب الطلاق، باب عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا 2/ 590. وأحمد في مسننده 6/ 314 ابن حبان في صحيحه 4296. وعبد الرزاق في المصنف 11724. وابن الجارود في المنتقى 762.
3 أخرج البخاري عن ابن عمر أنه قال: "كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها. فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أَوَلَا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا بلال، قم فناد بالصلاة" كتاب الآذان، باب بدء الآذان 604. وأخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب بدء الآذان 377. وابن ماجه، كتاب الآذان والسنة فيها، باب بدء الآذان 707. والبيهقي، كتاب الصلاة، باب بدء الآذان 1/ 390.(2/221)
لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَأَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ، وبيَّن لَهُمُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هُمْ1، وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَقَعَ ظَنًّا لَا قَطْعًا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ، كَمَا وقع منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِهِ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنْ يحكم في بني قريطة2. وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاجْتِهَادُ، إِلَّا أَنْ يَجْتَهِدَ، وَيَعْلَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَرِّرَهُ عَلَيْهِ، كَمَا وَقَعَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سَلْبِ الْقَتِيلِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَاهَا اللَّهِ إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسدٍ مِنْ أُسدِ اللَّهِ فَيُعطيك سَلَبَهُ"3 فقرره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَكَذَلِكَ امْتِنَاعُ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَحْوِ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّحِيفَةِ4"*.
وَالْحَقُّ: مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْصِيلِ بَيْنَ مَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ لِتَعَيُّنِ السُّؤَالِ
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البخاري من حديث عمران بن الحصين، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو 5705. ومسلم، كتاب الإيمان، باب الرقية 220. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب المناقب، باب فضل عكاشة بن محض الأسدي 15665 وفي كتاب أهل الجنة، باب فيمن يدخل الجنة بغير حساب برقم 18692. وأبو يعلى في مسنده مطولا من حديث عمران بن الحصين عن ابن مسعود 5339. وأحمد في مسنده 3806.
2 هو عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن بني قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى سعد، فجاء على حمار، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قوموا إلى خيركم أو إلى سيدكم" قال: "إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك" قال: فإني أحكم فيها أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد حكمت فيهم بحكم الله" وقال مرة: "لقد حكمت بحكم الملك ".
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب إذا نزل العدو على حكم رجل 3043. ومسلم، كتاب الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد 1768. وأبو داود، كتاب الأدب، باب ما جاء في القيام 5215. والنسائي، كتاب الفضائل 118. والبيهقي، كتاب السير، باب ما يفعل بذراري من ظهر عليهم 6/ 57. وابن حبان في صحيحه 7026. وأحمد في مسنده 3/ 22.
3 أخرجه البخاري، من حديث أبي قتادة، كتاب البيع، باب بيع السلاح في الفتنة وغيرها 2100. ومسلم، كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل 1751. وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في السلب يعطى القاتل 2717. والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء فيمن قتل قتيلا فله سلبه 1562 مختصرا. وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب المبارزة والسلب 2837. وابن حبان في صحيحه 4805. وأحمد في مسنده 5/ 306. والبيهقي، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب السلب للقاتل 6/ 306.
4 أخرجه البخاري من حديث البراء مطولا وفيه: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "امحه واكتب: محمد بن عبد الله. فقال علي: لا أمحوه.. الحديث " كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان 2698. وأخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية 1783. وأبو داود، كتاب المناسك، باب المحرم يحمل السلاح 1832. وأحمد في مسنده 4/ 289. وابن حبان في صحيحه 4869. وأبو يعلى في مسنده 1703. والبيهقي، كتاب الجزية، باب الهدنة على أن يرد الإمام من جاء بلده مسلما من المشركين 9/ 226-227.(2/222)
مِنْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"* فِيمَا نَابَهُ مِنَ الْأَمْرِ، وَبَيْنَ مَنْ كَانَ غَائِبًا عها، فَيَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ.
وَقَدْ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ وَاقِعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، كَمَا وَقَعَ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ صَلَاتِهِ بِأَصْحَابِهِ، وَكَانَ جُنُبًا وَلَمْ يَغْتَسِلْ، بَلْ تَيَمَّمَ وَقَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 1، فقرره النبي عَلَى ذَلِكَ2.
وَكَمَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالنِّدَاءِ يَوْمَ انْصِرَافِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ بِأَنَّهُ "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ" فَتَخَوَّفَ نَاسٌ مِنْ فَوْتِ الْوَقْتِ، فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ فَمَا عَنَّفَ أَحَدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ3.
وَمِنْ أَدَلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ: تَقْرِيرُ مُعَاذٍ عَلَى اجْتِهَادِ رَأْيِهِ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ4، لَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ، يَنْتَهِضُ مَجْمُوعُهَا لِلْحُجِّيَّةِ، كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي مَجْمُوعٍ مُسْتَقِلٍّ5.
وَمِنْهُ بَعْثُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ قَاضِيًا، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بالقضاء، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ" 6 أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ: أَنَّ ثَلَاثَةً وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ، فَأَتَوْا عَلِيًّا يَخْتَصِمُونَ فِي الْوَلَدِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَبَلَغَ "ذَلِكَ"** النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال:
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 29 من سورة النساء.
2 أخرجه البخاري معلقا، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت. وأخرجه أبو داود، كتاب الطهارة 335. وابن حبان في صحيحه 1315. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب التيمم في السفر إذا خاف الموت أو العلة من شدة البرد 1/ 226. والدارقطني في سننه 1/ 179. وأحمد في مسنده 4/ 203.
3 أخرجه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء 946. ومسلم، كتاب الجهاد والسير باب المبادرة بالغزو 1770.
4 تقدم تخريجه في 1/ 152.
5 واسمه بغيه المستفيد في الرد على من أنكر الاجتهاد من أهل التقليد ا. هـ. هدية العارفين 1/ 365.
6 أخرجه ابن ماجه بنفس اللفظ من حديث علي، كتاب الأحكام، باب ذكر القضاء 2310. والحاكم من حديث ابن عباس بلفظ: "اللهم اهده للقضاء" كتاب الأحكام 4/ 88 وهناك رواية أخرى بلفظ: فإن الله تعالى يثبت لسانك ويهدي قبلك. وأبو داود، كتاب الأقضية، باب كيف القضاء 3582. الترمذي كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين المتحاكمين حتى يسمع كلامهما 1331. وأبو يعلى في مسنده 371. والبيهقي، كتاب آداب القاضي 10/ 86، 87. وابن حبان في صحيحه 5065.(2/223)
"لَا أَعْلَمُ فِيهَا إِلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ" 1، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَمْثَالُ هَذَا "كَثِيرٌ"*.
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْفِقْهِ.
وَقَدِ اعْتُرِضَ عليه في ذَلِكَ، وَلَا وَجْهَ لِلِاعْتِرَاضِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الْوَاقِعَ مِنَ الصَّحَابِيِّ إِنْ قَرَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حجة وشرعا بالتقرير، لَا بِاجْتِهَادِ الصَّحَابِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ كَانَ اجْتِهَادُ الصَّحَابِيِّ فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، عِنْدَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا عِنْدَ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ، وَإِنْ بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"** وَأَنْكَرَهُ، أَوْ قَالَ بِخِلَافِهِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ فائدة؛ لأنه قد بطل بالشرع.
__________
* في "أ": كثيرة.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث زيد بن أرقم، انظر الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 17/ 38 برقم 73. وأخرجه أبو الحميدي في مسنده برقم 785 بدون زيادة "لَا أَعْلَمُ فِيهَا إِلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ ". وأخرجه أبو داود 2269. والنسائي 6/ 182. وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب القضاء بالقرعة 2348.(2/224)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِيمَا يَنْبَغِي لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَهُ في اجتهاده ويعتمد عليه
فعيه أَوَّلًا: أَنْ يَنْظُرَ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ وَجَدَ ذَلِكَ فِيهِمَا قَدَّمَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ أَخَذَ بِالظَّوَاهِرِ مِنْهُمَا، وَمَا يُسْتَفَادُ بِمَنْطُوقِهِمَا وَمَفْهُومِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَظَرَ في أفعال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ فِي تَقْرِيرَاتِهِ لِبَعْضِ أُمَّتِهِ، ثُمَّ فِي الْإِجْمَاعِ، إِنْ كَانَ يَقُولُ بِحُجِّيَّتِهِ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ، عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اجْتِهَادُهُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَسَالِكِ الْعِلَّةِ، كُلًّا أَوْ بَعْضًا1.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْغَزَالِيُّ: أَنَّهَا إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لِلْمُجْتَهِدِ، فَلْيَعْرِضْهَا عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ عَرْضُهَا عَلَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، ثُمَّ الْآحَادِ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ لَمْ يَخُضْ فِي الْقِيَاسِ، بَلْ يَلْتَفِتُ إِلَى ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ، فَإِنْ وَجَدَ ظَاهِرًا نَظَرَ فِي الْمُخَصَّصَاتِ، مِنْ قِيَاسٍ، وَخَبَرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُخَصَّصًا حَكَمَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْثُرْ عَلَى ظَاهِرٍ، مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، نَظَرَ إِلَى الْمَذَاهِبِ فَإِنْ وَجَدَهَا مُجْمَعًا عَلَيْهَا اتَّبَعَ الْإِجْمَاعَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِجْمَاعًا خَاضَ فِي الْقِيَاسِ، وَيُلَاحِظُ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ أَوَّلًا، وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْجُزْئِيَّاتِ، كَمَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ، فَتُقَدَّمُ قَاعِدَةُ الرَّدْعِ عَلَى مُرَاعَاةِ الِاسْمِ، فَإِنْ عَدِمَ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً نَظَرَ فِي الْمَنْصُوصِ، وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ وَجَدَهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ أَلْحَقَ بِهِ، وَإِلَّا انْحَدَرَ به إلى الْقِيَاسُ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ تَمَسَّكَ بِالشَّبَهِ، وَلَا يُعَوِّلُ على طرد. انتهى.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 229.(2/224)
وَإِذَا أَعْوَزَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ تَمَسَّكَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ أَنْ يُقَدِّمَ طَرِيقَ الْجَمْعِ عَلَى وَجْهٍ مَقْبُولٍ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ ذَلِكَ رَجَعَ إِلَى التَّرْجِيحِ بِالْمُرَجِّحَاتِ الَّتِي سَيَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى1.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الاجتهاد بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا:
مَا كَانَ الِاجْتِهَادُ مُسْتَخْرَجًا مِنْ مَعْنَى النَّصِّ، كَاسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الرِّبَا، فَهَذَا صَحِيحٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ.
ثانيها:
مَا اسْتَخْرَجَهُ مِنْ شِبْهِ النَّصِّ، كَالْعَبْدِ، لِتَرَدُّدِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ فِي أَنَّهُ يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَشَبَهِهِ بِالْبَهِيمَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ مملوك، فهذا صحيح، غير مدفوع عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ وَالْمُنْكِرِينَ لَهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُنْكِرِينَ لَهُ جَعَلُوهُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ.
ثَالِثُهَا:
مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ عُمُومِ النَّصِّ، كَالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} 2 فَإِنَّهُ "يَعُمُّ الْأَبَ وَالزَّوْجَ وَالْمُرَادُ بِهِ"* أَحَدُهُمَا، وَهَذَا صَحِيحٌ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالتَّرْجِيحِ.
رَابِعُهَا:
مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ إِجْمَاعِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ فِي الْمُتْعَةِ {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} 3 فيصح الاجتهاد في قدرة الْمُتْعَةِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ.
خَامِسُهَا:
مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ أَحْوَالِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ فِي التَّمَتُّعِ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 4 فَاحْتَمَلَ صِيَامَ السَّبْعَةِ إِذَا رَجَعَ فِي طَرِيقِهِ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَيَصِحُّ الِاجْتِهَادُ فِي تَغْلِيبِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى.
سَادِسُهَا:
مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ دَلَائِلِ النَّصِّ، كَقَوْلِهِ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} 5 فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ بِمُدَّيْنِ، بِأَنَّ أَكْثَرَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي فِدْيَةِ الْآدَمِيِّ أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّين، وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ بِمُدٍّ بِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ، أَنَّ لكل مسكين مدا.
__________
* في "أ": تحريف لما بين قوسين.
__________
1 انظر: 2/ 264.
2 جزء من الآية 237 من سورة البقرة.
3 جزء من الآية 236 من سورة البقرة.
4 جزء من الآية 196من سورة البقرة.
5 جزء من الآية 7 من سورة الطلاق.(2/225)
سابعا:
مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ أَمَارَاتِ النَّصِّ، كَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ لِمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 1 فَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ بِالْأَمَارَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَيْهَا، مِنْ هُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَمَطَالِعِ النُّجُومِ.
ثَامِنُهَا:
مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ وَلَا أَصْلٍ، فَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ، فَقِيلَ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِأَصْلٍ.
وَقِيلَ: يَصِحُّ لِأَنَّهُ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ. انْتَهَى.
وَعِنْدِي: أَنَّ مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْ تَتَبُّعِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَجَعَلَ كُلَّ ذَلِكَ دَأْبَهُ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِ هِمَّتَهُ، وَاسْتَعَانَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتَمَدَّ مِنْهُ التَّوْفِيقَ، وَكَانَ مُعْظَمُ هَمِّهِ، وَمَرْمَى قَصْدِهِ، الْوُقُوفَ عَلَى الْحَقِّ، وَالْعُثُورَ عَلَى الصَّوَابِ، مِنْ دُونِ تَعَصُّبٍ لِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ، وَجَدَ فِيهِمَا مَا يَطْلُبُهُ، فَإِنَّهُمَا الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ، وَالْبَحْرُ الَّذِي لَا يَنْزِفُ، وَالنَّهْرُ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ كُلُّ وَارِدٍ عَلَيْهِ الْعَذْبَ الزُّلَالَ، وَالْمُعْتَصَمُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ كُلُّ خَائِفٍ، فَاشْدُدْ يَدَيْكَ عَلَى هَذَا، فَإِنَّكَ إِنْ قَبِلْتَهُ بِصَدْرٍ مُنْشَرِحٍ، وَقَلْبٍ مُوَفَّقٍ، وَعَقْلٍ قَدْ حَلَّتْ بِهِ الْهِدَايَةُ، وَجَدْتَ فِيهِمَا كُلَّ مَا تَطْلُبُهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُرِيدُ الْوُقُوفَ عَلَى دَلَائِلِهَا كَائِنًا مَا كَانَ.
فَإِنِ اسْتَبْعَدْتَ هَذَا الْمَقَالَ، وَاسْتَعْظَمْتَ هَذَا الْكَلَامَ، وَقُلْتَ كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّ أَدِلَّةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا تَفِي بِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ، فَمِنْ نَفْسِكَ أُتيت، وَمِنْ قِبَلِ تَقْصِيرِكَ أُصبت، وَعَلَى نَفْسِهَا بَرَاقِشُ تَجْنِي2، وَإِنَّمَا تَنْشَرِحُ لِهَذَا الْكَلَامِ صُدُورُ قَوْمٍ "مُوَفَّقِينَ"* وَقُلُوبُ رِجَالٍ مُسْتَعِدِّينَ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الْعَلِيَّةِ.
لَا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى تكن حَشَاكَ فِي أَحْشَائِهِ3
لَا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلَّا مَنْ يُكَابِدُهُ ... وَلَا الصَّبَابَةَ إِلَّا مَنْ يُعَانِيهَا4
دَعْ عَنْكَ تَعْنِيفِي وَذُقْ طَعْمَ الْهَوَى ... فَإِذَا "عشقت"** فعند ذلك عنف5
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": "هويت".
__________
1 جزء من الآية 16 من سورة النحل.
2 براقش اسم كلبة لها قصة وهي كما قال أبو عبيد عن أبي عبيدة قال: براقش اسم كلبة نبحت على جيش مروا ولم يشعروا بالحي الذي فيه الكلبة، فلما سمعوا نباحها علموا أن هناك أهلها فعطفوا عليهم فاستباحوهم، فذهب مثلا بقولهم: "على أهلها دلت براقش". ويروى أن براقش اسم امرأة ابنة ملك قديم خرج أبوها إلى بعض مغازيه واستخلفها فأغراها بعضهم بأن يبني بناء ضخما تذكر به، فلما رجع أبوها قال لها: أردت أن يكون الذكر لك دوني فأمر الصناع الذين بنو البناء أن يهدموه فقالت العرب: على أهلها تجني براقش وذهبت مثلا ا. هـ لسان العرب مادة برقش.
3 وهو من البحر الكامل، وقائله أبو الطيب المتنبي، ويروى البيت "لا تعذر" ا. هـ ديوان أبي الطيب المتنبي 343.
4 وهو من البحر البسيط، وقائله: الأبله البغدادي المسمى بمحمد بن بختيار بن عبد الله، الشاعر المشهور، أحد المتأخرين المجيدين، جمع في شعره بين الصناعة والرقة وله ديوان معروف ا. هـ وفيات الأعيان لابن خلكان 4/ 463 مرآة الزمان 279.
5 وهو من البحر الكامل، وقائله ابن الفارض عمر بن أبي الحسن، وهو من قصيدة أولها:
قلبي يحدثني بأنك متلفي ... وروحي فداك عرفت أم لم تعرف
ا. هـ ديوان ابن الفارض 153.(2/226)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ وَالَّتِي الْحَقُّ فِيهَا مَعَ وَاحِدٍ
الفرع الأول: العقليات
...
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي كُلُّ مُجْتَهِدٍ فيه مصيب والتي الحق فيها مع واحد
اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ، وَالْمَسَائِلُ الَّتِي الْحَقُّ فِيهَا مَعَ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ.
وَتَلْخِيصُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ يَحْصُلُ فِي فَرْعَيْنِ.
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: الْعَقْلِيَّاتُ
وَهِيَ عَلَى أنواع:
الأول:
لم يكن الْغَلَطُ فِيهِ مَانِعًا مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا فِي إِثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ، وَالتَّوْحِيدِ، وَالْعَدْلِ.
قَالُوا: فَهَذِهِ الْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، فَمَنْ أَصَابَهُ أَصَابَ الْحَقَّ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَهُوَ كَافِرٌ.
النَّوْعُ الثَّانِي:
مِثْلُ مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ1، وَخَلْقِ الْقُرْآنِ2، وَخُرُوجِ الموحدين من النار3، وما
__________
1 وهي رؤية الله عز وجل في الآخرة من قبل المؤمنين. ووقع فيها الخلاف فأثبتها أهل السنة والجماعة بأدلة من القرآن والحديث، ونفاها المعتزلة، بأدلة عقلية وتأويل للآيات الشريفة ا. هـ انظر شرح جوهرة التوحيد للبيجوري ص114-115.
2 اتفقت جميع الفرق على أن القرآن من حيث حروفه وكلماته الموجودة في المصاحف مخلوق لا محالة.
واختلفوا في كلام الله عز وجل النفسي هل هو مخلوق أم لا؟ فأهل السنة والجماعة قالوا بأن كلام الله قديم غير مخلوق والمعتزلة قالوا إنه مخلوق ا. هـ انظر شرح جوهرة التوحيد 94.
3 من ذلك الحديث الوارد عن سيدنا أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن ذرة ". أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه 44. ومسلم في الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها 193، 325. والترمذي، كتاب صفة جهنم، باب ما جاء أن للنار نفسين وما ذكر من يخرج من النار من أهل التوحيد 2593. وابن حبان في صحيحه 7484. وأبو يعلى في مسنده 2927، 2977، 3273. وأحمد في مسنده 9/ 173-276. والطيالسي 1966. وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة 4312.(2/227)
يُشَابِهُ ذَلِكَ، فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، فَمَنْ أَصَابَهُ فقد أصاب، ومن أخطأ فقيل: يفكر.
وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعَمِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمَسْأَلَةُ دِينِيَّةً، كَمَا فِي تَرَكُّبِ الْأَجْسَامِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ، وَانْحِصَارِ اللَّفْظِ فِي الْمُفْرَدِ وَالْمُؤَلَّفِ، قَالُوا: فَلَيْسَ الْمُخْطِئُ فِيهَا بِآثِمٍ، وَلَا الْمُصِيبُ فِيهَا بِمَأْجُورٍ؛ إِذْ هَذِهِ وَمَا يُشَابِهُهَا يَجْرِي مَجْرَى الِاخْتِلَافِ فِي كَوْنِ "مَكَّةَ"* أَكْبَرَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهَا.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "الْمُخْتَصَرِ" أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ، ثُمَّ حَكَى عَنِ الْعَنْبَرِيِّ1 أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُصِيبٌ، وحُكي أَيْضًا عَنِ الْجَاحِظِ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، بِخِلَافِ الْمُعَانِدِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَأَمَّا "الْجَاحِظُ"** فَجَعَلَ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدًا، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُ الْمُخْطِئَ فِي جَمِيعِهَا غَيْرَ آثِمٍ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَكَانَ الْعَنْبَرِيُّ يَقُولُ فِي مُثْبِتِي الْقَدَرِ: هَؤُلَاءِ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَفِي نَافِي الْقَدَرِ: هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ، وَقَدِ اسْتُبْشِعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَصْوِيبَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَسَائِرِ الْكُفَّارِ فِي اجْتِهَادِهِمْ، قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ، كَالرُّؤْيَةِ، وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ، وَنَحْوِهِ.
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، كَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسِ؛ فَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ": اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الْعَنْبَرِيِّ، فَقَالَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ: إِنَّمَا أُصَوِّبُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ "فِي الدِّينِ تَجْمَعُهُمُ الْمِلَّةُ"***، وَأَمَّا الْكَفَرَةُ فَلَا يُصوبون، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ صَوَّبَ الْكَافِرِينَ المجتهدين دون الراكبين البدعة.
__________
* في "أ": ملكه.
** في "أ": الحق.
*** في "أ": الذين يجمعهم الله.
__________
1 هو عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري التميمي، تولى قضاء البصرة، وكان عالما بالفقه والحديث، قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث "ص49": "كان شديد التناقض في أقواله، وهو رجل من أهل الكلام والقياس والنظر" ولد سنة مائة، وتوفي سنة ثمان وستين ومائة هـ. انظر ترجمته في: تاريخ الإسلام الذهبي: "وفيات 168هـ"، وأخبار القضاة لوكيع: 2/ 88، والوافي بالوفيات: 19/ 368، والأعلام: 4/ 192.(2/228)
قَالَ: وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ مَعَهُمَا، يَعْنِي: الْعَنْبَرِيَّ، وَالْجَاحِظَ، فَنَقُولُ:
أَنْتُمَا أَوَّلًا: مَحْجُوجَانِ "بِالْإِجْمَاعِ"* قَبْلَكُمَا وَبَعْدَكُمَا.
ثَانِيًا: إِنْ أَرَدْتُمَا بِذَلِكَ مُطَابَقَةَ الِاعْتِقَادِ لِلْمُعْتَقَدِ، فَقَدْ خَرَجْتُمَا عَنْ حَيِّزِ الْعُقَلَاءِ، وَانْخَرَطْتُمَا فِي سِلْكِ الْأَنْعَامِ، وَإِنْ أَرَدْتُمَا الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ، وَنَفْيِ الْحَرَجِ، كَمَا نُقِلَ عَنِ الْجَاحِظِ، فَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ مِنَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، الْخَارِجَةُ عَنْ حَدِّ الْحَصْرِ تَرُدُّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ.
وَأَمَّا تَخْصِيصُ التَّصْوِيبِ بِأَهْلِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَنَقُولُ: مِمَّا خَاضَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَعْظُمُ خَطَرُهُ، وَأَجْمَعُوا قَبْلَ الْعَنْبَرِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ إِدْرَاكُ بُطْلَانِهِ.
وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ، إِمَامِ مَذْهَبِ الظَّاهِرِ، أَنَّهُ قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِ الْعَنْبَرِيِّ.
وَحَكَى قَوْمٌ عَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَالْجَاحِظِ أَنَّهُمَا قَالَا ذَلِكَ فِيمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْ حَالِهِ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ في طلب الحق، ومن أَهْلِ مِلَّتِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ نَحَا الْغَزَالِيُّ "قَرِيبًا مِنْ هَذَا"** الْمَنْحَى فِي كِتَابِ "التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ"1
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَا نقل عن العنبري، والجاحظ، إن أرادا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَبَاطِلٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَنْ بَذَلَ الْوُسْعَ، وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي الْأُصُولِيَّاتِ، يَكُونُ مَعْذُورًا غَيْرَ مُعَاقَبٍ، فَهَذَا أَقْرَبُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْتَقَدُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ عُوقِبَ، وَكُلِّفَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِهِ غَايَةَ الْجَهْدِ، لَزِمَ تَكْلِيفُهُ بِمَا لَا يُطَاقُ.
قَالَ: وَأَمَّا الَّذِي حُكِيَ عَنْهُ مِنَ الْإِصَابَةِ فِي الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا، وَلَعَلَّهُ لَا يَقُولُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْمُخْطِئُ فِي الْأُصُولِ: "كَالْمُجَسِّمَةِ2"*** فَلَا شَكَّ فِي تَأْثِيمِهِ وَتَفْسِيقِهِ وَتَضْلِيلِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي تَكْفِيرِهِ، وَلِلْأَشْعَرِيِّ قَوْلَانِ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ، وَغَيْرُهُمَا: وَأَظْهَرُ مَذْهَبِهِ تَرْكُ التَّكْفِيرِ، وَهُوَ اختيار القاضي في كتاب "إكفار"**** المتأولين3
__________
* في "أ": بأن الإجماع.
** في "أ": نحو هذا.
*** في "أ": والمجتهد.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 وهي للإمام أبي حامد محمد الغزالي. ا. هـ إيضاح المكنون 1/ 300.
2 وهم الذين شبهوا الله بصورة الإنسان.
3 لم نجد أحدًا ذكر هذا الكتاب بهذا الاسم، ولعله يقصد من كتاب إكفار المتأولين أي باب أو فصل في كتاب. فكلمة كتاب تعني ما يضم أبوابا وفصولا.(2/229)
وَقَالَ ابْنُ عَبدِ السَّلَامِ: رَجَعَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عِنْدَ مَوْتِهِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ لَيْسَ جَهْلًا "بِالْمَوْصُوفَاتِ"*.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ1 لا يفكر، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تُكَفِّرُ مَنْ يُكَفِّرُكَ، فَعَادَ إلى القول بالتفكير، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهُمْ يُكَفِّرُونَ خُصُومَهُمْ، وَيُكَفِّرُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الْآخَرَ.
وَقَدْ حَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ مُعْظَمِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ تَرْكَ التَّكْفِيرِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا يُكَفَّرُ مَنْ جَهِلَ وُجُودَ الرَّبِّ، أَوْ عَلِمَ وَجُودَهُ، وَلَكِنْ فَعَلَ فِعْلًا، أَوْ قَالَ قَوْلًا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ كَافِرٍ. انْتَهَى.
وَاعْلَمْ: أَنَّ التَّكْفِيرَ لِمُجْتَهَدِي الْإِسْلَامِ بِمُجَرَّدِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْعَقْلِ عَقَبَةٌ كَئُودٌ لَا يَصْعَدُ إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ لَا يُبَالِي بِدِينِهِ، وَلَا يَحْرِصُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَعَلَى ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَغَالِبُ الْقَوْلِ بِهِ نَاشِئٌ عَنِ العصبية، وبعضه ناشئ عن شبه واهية، وليست مِنَ الْحُجَّةِ فِي شَيْءٍ، وَلَا يَحِلُّ التَّمَسُّكُ بِهَا فِي أَيْسَرِ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَضْلًا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مَزَلَّةُ الْأَقْدَامِ، وَمَدْحَضَةُ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْكِتَابَ، وَالسُّنَّةَ، وَمَذْهَبَ خَيْرِ الْقُرُونِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ يَدْفَعُ ذَلِكَ دَفْعًا لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا شُبْهَةَ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى شُبَهَةٍ دَاحِضَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ بَسْطِ الْكَلَامِ على هذا المرام، فموضعه علم الكلام.
__________
* في "أ": بالموصوف.
__________
1 هو محمد بن سليمان بن محمد، الحنفي، العجلي، الصعلوكي النيسابوري، الفقيه، أبو سهل، المتكلم، النحوي، المفسر، اللغوي، الصوفي توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة هـ، ا. هـ سير أعلام النبلاء 16/ 235 شذرات الذهب 3/ 69 الأعلام 6/ 149.(2/230)
الفرع الثاني: المسائل الشرعية
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمُ الْأَشْعَرِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الباقلاني، ومن المعتزلة أبو الهذيل، وأبو علي، وأبو هاشم، وأبتاعهم إِلَى أَنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: مَا كان منها قطعيا
مَا كَانَ مِنْهَا قَطْعِيًّا مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ مِنَ الدِّينِ، كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَتَحْرِيمِ الزِّنَا، وَالْخَمْرِ، فَلَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا بِمُصِيبٍ، بَلِ الْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، فَالْمُوَافِقُ لَهُ مُصِيبٌ، وَالْمُخْطِئُ غَيْرُ مَعْذُورٍ وَكَفَّرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ لِمُخَالَفَتِهِ لِلضَّرُورِيِّ، وَإِنْ كَانَ.(2/230)
فِيهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَلَيْسَتْ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَقِيلَ: إِنْ قَصَّرَ فَهُوَ مُخْطِئٌ آثِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ فَهُوَ مُخْطِئٌ غَيْرُ آثِمٍ.
قَالَ ابن السعاني: ويشبه أن يكون سبب غموضها امتحان مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ، لِيُفَاضِلَ بَيْنَهُمْ فِي دَرَجَاتِ الْعِلْمِ، وَمَرَاتِبِ الْكَرَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 1 وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} 2.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَسَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لَا قَاطِعَ فِيهَا
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا طَوِيلًا، وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَذَهَبَ جَمْعٌ جَمٌّ إِلَى أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا حَقٌّ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُصِيبٌ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، عَنِ الْأَكْثَرِينَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَنَا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَعَيَّنٌ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ، فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ، فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ حَلَالًا وَحَرَامًا، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُخطِّئ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَعْتَرِضُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَوْ كَانَ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ حَقًّا، لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْطِئَةِ وَجْهٌ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، هَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَمْ لَا؟
فَعِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْمُصِيبَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَأَنَّ جَمِيعَهَمْ مُخْطِئٌ إِلَّا ذَلِكَ الْوَاحِدَ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَ وَاحِدٍ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِثْلَهُ.
وأنكر ذلك أبو سحاق الْمَرْوَزِيِّ، وَقَالَ: إِنَّمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ المتأخرين، ممن لا معرفة له بِمَذْهَبِهِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرَيُّ: وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قال في بعض المسائل كقولنا، وفي بعضها كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَصْحَابِ مَالِكٍ وَابْنِ "سُرَيْجٍ"*، وَأَبِي حَامِدٍ، بِمِثْلِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ كَجٍّ عَلَى هَذَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَصْوِيبِ بَعْضِهِمْ بعضا، فيما اختلفوا فيه،
__________
* في "أ": ابن شريح.
__________
1 جزء من الآية من سورة المجادلة.
2 جزء من الآية 76 من سورة يوسف.(2/231)
وَلَا يَجُوزُ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى خَطَأٍ.
قَالَ ابْنُ فورك: في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدهما:
أن الحق في وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ، فَمَنْ وَضَعَ النَّظَرَ مَوْضِعَهُ أَصَابَ، وَمَنْ قَصَّرَ عَنْهُ وَفَقَدَ الصَّوَابَ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ مَعْذُورٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْذُورَ مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ، لِعُذْرٍ فِي تَرْكِهِ، كَالْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ عِنْدَنَا قَدْ كُلِّفَ إِصَابَةَ الْعَيْنِ، لَكِنَّهُ خُفٍّفَ أَمْرُ خِطَابِهِ، وَأُجِرَ عَلَى قَصْدِهِ الصَّوَابَ، وَحُكْمُهُ نَافِذٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَعَلَيْهِ نص في كتاب "الرسالة" و"أدب الْقَاضِي"1.
وَالثَّانِي:
أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يَتَكَلَّفُوا إِصَابَتَهُ، وَكُلُّهُمْ مُصِيبُونَ لِمَا كُلِّفُوا مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُخْطِئًا.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّهُمْ كُلِّفُوا الرَّدَّ إِلَى الْأَشْبَهِ عَلَى طَرِيقِ الظَّنِّ. انْتَهَى.
وَذَهَبَ قَوْمٌ: إِلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْمُخَالِفَ لَهُ مُخْطِئٌ آثِمٌ، وَيَخْتَلِفُ خَطَؤُهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ، فَقَدْ يَكُونُ كَبِيرَةً، وَقَدْ يَكُونُ صَغِيرَةً.
وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْأَصَمُّ وَالْمَرِيسِيُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ، وحُكي عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَدْ طَوَّلَ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَوْرَدُوا مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَاسْتَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ"، وَلَمْ يَأْتُوا بما يشفي طالب الحق.
وههنا دَلِيلٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ، وَيُوَضِّحُ الْحَقَّ إِيضَاحًا لَا يَبْقَى بَعْدَهُ رَيْبٌ لِمُرْتَابٍ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ في الصحيح، ومن طُرُقٍ: "أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ، فَلَهُ أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجرا" 2.
فَهَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُكَ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمُجْتَهِدِينَ يُوَافِقُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: مُصِيبٌ، وَيَسْتَحِقُّ أَجْرَيْنِ، وَبَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ يُخَالِفُهُ، وَيُقَالُ لَهُ مُخْطِئٌ، واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه.
__________
1 للإمام محمد بن إدريس الشافعي ا. هـ الأعلام 6/ 26.
2 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 7352. ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 1716. وأبو داود، كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ 3574. والنسائي، كتاب القضاء، كما في التحفة 8/ 158. والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب اجتهاد الحاكم فيما يسوغ فيه الاجتماع 10/ 119. وابن حبان في صحيحه 5060. وأحمد في مسنده 4/ 198.(2/232)
مصيبًا، و"إطلاق"* اسْمِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَجْرٌ، فَمَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَجَعَلَ الْحَقَّ مُتَعَدِّدًا بِتَعَدُّدِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً بَيِّنًا، وَخَالَفَ الصَّوَابَ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْمُجْتَهِدِينَ قِسْمَيْنِ، قِسْمًا مُصِيبًا، وَقِسْمًا مخطئا، ولو كان كل واحد مِنْهُمْ مُصِيبًا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّقْسِيمِ مَعْنًى.
وَهَكَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَمُخَالِفَهُ آثم، فإن هذا الْحَدِيثَ يَرُدُّ عَلَيْهِ رَدًّا بَيِّنًا، وَيَدْفَعُهُ دَفْعًا ظاهرا؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى مَنْ لَمْ يُوَافِقِ الْحَقَّ فِي اجْتِهَادِهِ مُخْطِئًا، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْأَجْرِ، فَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا شُبْهَةَ أن الحق واحد، ومخالفه مخطئ مَأْجُورٌ، إِذَا كَانَ قَدْ وفَّى الِاجْتِهَادَ حَقَّهُ، وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي الْبَحْثِ، بَعْدَ إِحْرَازِهِ لِمَا يَكُونُ بِهِ مُجْتَهِدًا.
وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى هَذَا حَدِيثُ: "الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ" 1 فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ وَاحِدًا، لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى، ومثله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ: "وَإِنْ طَلَبَ مِنْكَ أَهْلُ حِصْنٍ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا" 2.
وَمَا أَشْنَعَ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْجَاعِلُونَ لِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وجل متعددا بتعدد الْمُجْتَهِدِينَ، تَابِعًا لِمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الِاجْتِهَادَاتِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مَعَ كَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعَ شَرِيعَتِهِ الْمُطَهَّرَةِ، هِيَ أَيْضًا صَادِرَةٌ عَنْ مَحْضِ الرَّأْيِ، الَّذِي لَمْ يَشْهَدْ لَهُ دَلِيلٌ، وَلَا عَضَّدَتْهُ شُبْهَةٌ تَقْبَلُهَا الْعُقُولُ، وَهِيَ أَيْضًا مُخَالِفَةٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، سلفها خلفها، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ، مَا زَالُوا يُخَطِّئُونَ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ مَا هُوَ أَنْهَضُ مِمَّا تَمَسَّكَ بِهِ، وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَأَنْكَرَهُ، فَهُوَ لَا يَدْرِي بِمَا فِي بُطُونِ الدَّفَاتِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِأَسْرِهَا مِنَ التَّصْرِيحِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ بتخطئه بعضهم البعض واعتراض بعضهم على بعض.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب القاضي يخطئ 3573. والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القاضي 1322. وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق 2351. والحاكم في المستدرك، كتاب الأحكام، باب قاضيان في النار ... 4/ 9 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب إثم من أفتى أو قضى بالجهل 10/ 117. وذكره المزي في تحفة الأشراف 2/ 94. وذكره البغوي في مصابيح السنة 2814.
2 أخرجه مسلم من حديث بريدة رضي الله عنه، كتاب الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث 1731. وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين 2612، 2613. والترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء في النهي عن المثلة 1408. وابن ماجه، كتاب الجهد، باب وصية الإمام 3858. وابن حبان في صحيحه 4739. وأحمد في مسنده 5/ 352. والبيهقي، كتاب السير، باب الرخصة في الإقامة بدار الشرك لمن لا يخاف الفتنة 9/ 15. وابن الجارود في المنتقى 1042.(2/233)
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ بِمِثْلِ قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ1 فَهُوَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا قَالَهُ سُلَيْمَانُ، فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} 2 وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لما كان لتخصيص سليمان بذلك المعنى.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} 3 فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ، مِنَ الْقَطْعِ وَالتَّرْكِ هُوَ بِإِذْنِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ بِخُصُوصِهَا، هُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ إِلَّا فِيمَا لَمْ يَرِدِ النَّصُّ فِيهِ "بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ"* بِخُصُوصِهَا، هُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ حُكْمَهُ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ أُمُورٍ، يَخْتَارُ الْمُكَلَّفُ مَا شَاءَ مِنْهَا، كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَأَنَّ حُكْمَهُ يَجِبُ على الكل، حتى يفعله البعض، فيسقط عن الْبَاقِينَ، كَفُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا وَافْهَمْهُ حَقَّ فَهْمِهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَصْوِيبِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِمَّنْ صَلَّى قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، لِمَنْ خَشِيَ فَوْتَ الْوَقْتِ، وَمِمَّنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ" 4 فَالْجَوَابُ عَنْهُ كَالْجَوَابِ عَمَّا قَبْلَهُ، عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّثْرِيبِ لِمَنْ قَدْ عَمِلَ بِاجْتِهَادِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ الْحَقَّ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَجْزَأَهُ مَا عَمِلَهُ بِاجْتِهَادِهِ، وَصَحَّ صُدُورُهُ عَنْهُ، لِكَوْنِهِ قَدْ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي تَحَرِّي الْحَقِّ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي طَلَبَهُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْإِصَابَةِ وَالصَّوَابِ، فَإِنَّ إِصَابَةَ الْحَقِّ "هِيَ"** الْمُوَافَقَةُ، بِخِلَافِ الصَّوَابِ فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ وَلَمْ يُصِبْهُ، مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قَدْ فَعَلَ مَا كُلِّفَ بِهِ، وَاسْتَحَقَّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا لِلْحَقِّ وَمُوَافِقًا لَهُ.
وَإِذَا عرفت هذا الحق مَعْرِفَتِهِ، لَمْ تَحْتَجْ إِلَى زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَقَدْ حَرَّرَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَذَاهِبِ تَحْرِيرًا جَيِّدًا فَقَالَ: الْوَاقِعَةُ الَّتِي وَقَعَتْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا نَصٌّ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَإِمَّا أَنْ "يَجْتَهِدَ"*** الْمُجْتَهِدُ أَوْ لَا، الثَّانِي عَلَى قِسْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إما أن يقصر في
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": هو.
*** في "أ": يجده.
__________
1 تقدم في: 2/ 219.
2 جزء من الآية 79 من سورة الأنبياء.
3 جزء من الآية 5 من سورة الحشر.
4 تقدم تخريجه في 2/ 223.(2/234)
طَلَبِهِ أَوْ لَا يُقصر، فَإِنْ وَجَدَهُ وَحَكَمَ بِمُقْتَضَاهُ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمُقْتَضَاهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِوَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ، وِفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْعِلْمِ، وَلَكِنْ قَصَّرَ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ، بَلْ بَالَغَ في الاستشكاف وَالْبَحْثِ، وَلَمْ يَعْثُرْ عَلَى وَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ "مَا إِذَا لَمْ"* يَجِدْهُ، مَعَ الطَّلَبِ الشَّدِيدِ وَسَيَأْتِي1.
وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ، فإن كان "للتقصير"** فِي الطَّلَبِ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ بَلْ بَالَغَ فِي التَّنْقِيبِ عَنْهُ، وَأَفْرَغَ الْوُسْعَ فِي طَلَبِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْهُ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ الرَّاوِي الَّذِي عِنْدَهُ النَّصُّ، أو عرفه و"لكن"*** مَاتَ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ قَطْعًا، وَهَلْ هُوَ مُخْطِئٌ أَوْ مُصِيبٌ، عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَالْأَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا، وَأَمَّا "الَّتِي لَا نَصَّ"**** فِيهَا، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: لِلَّهِ فِيهَا قَبْلَ اجتهاد المجتهد حكم معين أو لا، بَلْ "حُكْمُهُ"***** تَابِعٌ لِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَهَذَا الثَّانِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْقَاضِي، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، كَأَبِي الْهُذَيْلِ، وَأَبِي عَلِيٍّ، وأبي هاشم، وأتباعهم، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا خِلَافُهُ.
فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ، فَهَلْ وُجِدَ فِيهَا مَا لَوْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا بِحُكْمٍ، لَمَا حُكِمَ إِلَّا بِهِ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُصَوِّبِينَ، وَإِلَيْهِ صَارَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وابن سريج، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، قَالَ: وَأَمَّا الثَّانِي: فقول الخلص من المصوبة. انتهى.
__________
* في "أ": ما لم.
** في "ب": التصير.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": التخيير يقال.
*****في "أ": إجماع و.
__________
1 انظر الصفحة: 237.(2/235)
المسألة الثامنة: أنه لا يجوز أن يكون للمجتهد في مسألة واحدة قولان متناقضان في وقت واحد
...
المسألة الثامنة: لا يجوز أن يكون للمجتهد فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ
لا يجوز أن يكون للمجتهد فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُمَا إِنْ تَعَادَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ وَلَا التَّرْجِيحُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَقْفُ، وَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَصِيرُ إِلَى الصُّورَةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، تعين عليه الأخذ به، وبهذا تعلم امْتِنَاعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ شَخْصٍ وَاحِدٍ.(2/235)
وَأَمَّا فِي وَقْتَيْنِ فَجَائِزٌ، لِجَوَازِ تَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، وَظُهُورِ مَا هُوَ أَوْلَى، بِأَنْ يَأْخُذَ بِهِ "وَيَدَعَ"* مَا كَانَ قَدْ أَخَذَ بِهِ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصَيْنِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ، عِنْدَ تَعَادُلِ الْأَمَارَتَيْنِ، فَمَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ جَوَّزَ ذَلِكَ لَهُ. وَمَنْ قَالَ بالوقف لم يجوز.
فإن كان لمجتهد قولان واقعان في وقتين فالقول الآخر رجوع عن القول الأول بدلالته على تغيير اجتهاده الأول.
وإذا أَفْتَى الْمُجْتَهِدُ مَرَّةً بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، ثُمَّ سُئِلَ ثَانِيًا عَنْ تِلْكَ الْحَادِثَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ أَوْ لَا يَكُونُ ذَاكِرًا، فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا جَازَ لَهُ الْفَتْوَى بِهِ، وَإِنْ نَسِيَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الِاجْتِهَادَ، فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى خِلَافِ فَتْوَاهُ فِي الْأَوَّلِ أَفْتَى بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثَانِيًا، وَإِنْ "أَدَّاهُ"** إِلَى مُوَافَقَةِ مَا قد أفتى به أو لا "أَفْتَى بِهِ"*** وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْنِفِ الِاجْتِهَادَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفَتْوَى.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ كَانَ طَرِيقًا قَوِيًّا، حَصَلَ لَهُ الْآنَ ظَنٌّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوِيَّ حَقٌّ، جَازَ لَهُ الْفَتْوَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ وَاجِبٌ، وَأَمَّا إِذَا حَكَمَ الْمُجْتَهِدُ بِاجْتِهَادِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، وَتَرَجَّحَ لَهُ مَا يُخَالِفُ الِاجْتِهَادَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَهَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ باجتهاده مَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ آخَرُ بِاجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ، وَيَتَسَلْسَلُ، وَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ نَصْبِ الْحُكَّامِ، وَهِيَ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ، مَا لَمْ يَكُنْ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ الْأَوَّلُ مُخَالِفًا لِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ نَقَضَهُ اتِّفَاقًا، وَإِذَا حَكَمَ الْمُجْتَهِدُ بِمَا يُخَالِفُ اجْتِهَادَهُ، فَحُكْمُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ بِمَا يُخَالِفُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا آخَرَ، فِيمَا يُخَالِفُ اجْتِهَادَهُ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا، إِذَا كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا.
وَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَجْتَهِدَ، فَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ آخَرَ مُطْلَقًا.
وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ فِيمَا يَخُصُّهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، لَا فِيمَا لَا يَخُصُّهُ، فَلَا يَجُوزُ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا مِنْ مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ.
وَلِأَهْلِ الْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ كلام طويل، وليست محتاجة إلى التطوير، فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهَا لَا مُسْتَنَدَ لَهُ إِلَّا محض الرأي.
__________
* في "أ": مما كان. والزيادة التي بين قوسين هي من وضع محقق النسخة "ب".
** في "أ": أدى.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/236)
المسألة التاسعة: في جواز تفويض المجتهد
...
المسألة التاسعة: في جوز تَفْوِيضِ الْمُجْتَهِدِ
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ تعالى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِلْعَالِمِ: احْكُمْ، فَإِنَّكَ لَا تَحْكُمُ إلا بالصواب؟
فقطع بوقوعه مويس بْنُ عِمْرَانَ1 مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَطَعَ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ بِامْتِنَاعِهِ.
وَتَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي امْتِنَاعِهِ وَجَوَازِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. انْتَهَى.
وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّفْوِيضِ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ الْمُجْتَهِدِ، أَنْ يَحْكُمَ بِمَا رَآهُ بِالنَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَفْوِيضِ الْحُكْمِ بِمَا شَاءَ الْمُفَوَّضُ، وَكَيْفَ اتَّفَقَ لَهُ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ: بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ لِذَاتِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ امْتِنَاعِهِ لِغَيْرِهِ.
وَهَذَا الدَّلِيلُ سَاقِطٌ جِدًّا، وَتَفْوِيضُ مَنْ كَانَ ذَا عِلْمٍ، بِأَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَرَادَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالنَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، مَعَ كَوْنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تَخْتَلِفُ مَسَالِكُهَا، وَتَتَبَايَنُ طَرَائِقُهَا، وَلَا عِلْمَ لِلْعَبْدِ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا، وَلَا بِمَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُرِيدُهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا يَنْبَغِي لمسلم أن يقول بجوازه، ولا يردد فِي بُطْلَانِهِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ الْجَامِعَ لِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ، الْمُتَمَكِّنَ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، إِذَا بَحَثَ وَفَحَصَ، وَأَعْطَى النَّظَرَ حَقَّهُ، فَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ الظَّنِّ بِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي رَجَّحَهُ، وَقَالَهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي طَلَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ مَا أَرَادَ، وَيَفْعَلَ مَا اخْتَارَ، مِنْ دُونِ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَكَيْفَ يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَعَ الْقَطْعِ: بِأَنَّ هَذَا الْعَالِمَ الَّذِي زَعَمَ الزَّاعِمُ جَوَازَ تَفْوِيضِهِ مُكَلَّفٌ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِهَا، مَأْخُوذٌ بِمَا أُخِذُوا بِهِ، مَطْلُوبٌ مِنْهُ مَا طُلِبَ مِنْهُمْ، فَمَا الَّذِي رَفَعَ عَنْهُ التَّكْلِيفَ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ غَيْرُهُ، وَمَا الَّذِي أَخْرَجَهُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْخِطَابِ، بِمَا كُلِّفَ بِهِ، وَهَلْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ إِلَّا مُجَرَّدُ جَهْلٍ بَحْتٍ، وَمُجَازَفَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ بِتَفْوِيضِ الْعَبْدِ، مَعَ جَهْلِهِ بِمَا فِي أَحْكَامِ اللَّهِ مِنَ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ "هَكَذَا"* قَدْ يَقَعُ اخْتِيَارُهُ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَعَلَى مَا لَا مَصْلَحَةَ فيه.
__________
* في "أ": هذا.
__________
1 في الأصول، والمحصول، وأحكام الآمدي: موسى بن عمران وهذا خطأ، إنما هو مويس بن عمران، ويكنى أبا عمران المعتزلي، كان واسع العلم في الكلام وكان يقول بالإرجاء. انظر فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة للمؤلفين أبي القاسم البلخي والقاضي عبد الجبار.(2/237)
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} 1 فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْوِيضٌ لِنَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْخَطَأِ، وَإِذَا وَقَعَ مِنْهُمْ نَادِرًا فَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ، وَجَمِيعُ إِصْدَارِهِمْ وَإِيرَادِهِمْ هُوَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ بِاجْتِهَادٍ يُقَرِّرُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَرْضَاهُ، وَهَكَذَا يُقَالُ فِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنِ اجْتِهَادَاتِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووقع الْجَوَابَاتِ مِنْهُ عَلَى "مَنْ"* سَأَلَهُ مِنْ دُونِ انْتِظَارِ الْوَحْيِ، وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ" 2 وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ لَمَّا سَمِعَ أَبْيَاتِ قُتَيْلَةَ بِنْتِ الحارث"3: "لَوْ بَلَغَنِي هَذَا لَمَنَنْتُ عَلَيْهِ" أَيْ: عَلَى أخيها النضر بن الحارث4 أَحَدِ أَسْرَى بَدْرٍ، وَالْقِصَّةُ وَالشِّعْرُ مَعْرُوفَانِ.
وَأَمَّا اعْتِذَارُ مَنِ اعْتَذَرَ عَنِ الْقَائِلِ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ بِالْجَوَازِ، وَلَمْ يَقُلْ بِالْوُقُوعِ، فَلَيْسَ هَذَا الِاعْتِذَارُ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ تَجْوِيزَ مِثْلِ هَذَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِمَّا لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ بِهِ.
وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّفْوِيضِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَإِلَى الْمُجْتَهِدِينَ بِالنَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، فَلَيْسَ مَحَلُّ النِّزَاعِ إِلَّا التَّفْوِيضَ "لِمَنْ"** كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنْ يَحْكُمَ بِمَا شَاءَ، وَكَيْفَ اتَّفَقَ، وَحِينَئِذٍ يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ غَالِبَ مَا جَاءُوا بِهِ "فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَاقِعٌ فِي غَيْرِ مَوْقِعِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَلَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ تَقْبَلُهُ الْعُقُولُ، وَلَا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ، بَلْ جَمِيعُ مَا جَاءُوا بِهِ"*** جَهْلٌ عَلَى جهل، وظلمات بعضها فوق بعض.
__________
* في "أ": ما.
** في "أ": إلى من.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 93 من سورة آل عمران.
2 تقدم تخريجه في 2/ 220.
3 قال الزبير: كانت تحت عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر فولدت له عليا والوليد ومحمدا وأم الحكم، قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباها صبرا يوم بدر، كانت شاعرة محسنة، ولما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بدر كتبت إليه قتيلة في أبيها وذلك قبل إسلامها فلما بلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكى حتى أخضلت الدموع لحيته وقال: "لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه". ا. هـ الإصابة 4/ 379، الاستيعاب 4/ 3799. وبعض المؤرخين من يراها أخت النضر ولكن السهيلي في الروض الأنف 2/ 119 يؤكد أنها بنت النضر لا أخته كما في هامش الأعلام للزركلي 5/ 190.
4 هو النضر بن الحارث بن علقمة، من بين عبد الدار، من قريش، صاحب لواء المشركين ببدر، كان من شجعان قريش ووجوهها وشياطينها، وهو الذي آذى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكفر به وفيه نزل قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ا. هـ الكامل لابن الأثير 2/ 284 الأعلام 8/ 33.(2/238)
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي التَّقْلِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ من أحكام المفتي والمستفتي
المسألة الأولى: في حد التقليد، والمفتي، والمستفي
...
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي التَّقْلِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ من أحكام المفتي وَالْمُسْتَفْتِي
وَفِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّ التَّقْلِيدِ، وَالْمُفْتِي، وَالْمُسْتَفْتِي
أَمَّا التَّقْلِيدُ: فَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِلَادَةِ، الَّتِي يُقَلِّدُ غَيْرَهُ بِهَا، وَمِنْهُ تَقْلِيدُ الْهَدْيِ، فَكَأَنَّ الْمُقَلِّدَ جَعَلَ ذَلِكَ الْحُكْمَ، الَّذِي قَلَّدَ فِيهِ الْمُجْتَهِدَ كَالْقِلَادَةِ فِي عُنُقِ مَنْ قَلَّدَهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ1.
فَيَخْرُجُ الْعَمَلُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَمَلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَرُجُوعُ الْعَامِّيِّ إِلَى الْمُفْتِي، وَرُجُوعُ الْقَاضِي إِلَى شَهَادَةِ الْعُدُولِ، فَإِنَّهَا قَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا الْعَمَلُ بِقَوْلِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِالْإِجْمَاعِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَقْصِدِ السُّنَّةِ، وَفِي مَقْصِدِ الْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا رُجُوعُ الْقَاضِي إِلَى قَوْلِ الشُّهُودِ: فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنَ الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ، وَالْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا رُجُوعُ الْعَامِّيِّ إِلَى قَوْلِ الْمُفْتِي، فَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ.
وَيَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ قَبُولُ رِوَايَةِ الرُّوَاةِ، فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِهَا، وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا، وَأَيْضًا: لَيْسَتْ قَوْلَ الرَّاوِي، بَلْ قَوْلَ مَنْ رَوَى عَنْهُ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ.
وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي "التَّحْرِيرِ": التَّقْلِيدُ الْعَمَلُ بِقَوْلِ مَنْ لَيْسَ قَوْلُهُ إِحْدَى الْحُجَجِ بِلَا حُجَّةٍ. وَهَذَا الْحَدُّ أَحْسَنُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ: هُوَ قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ قَالَهُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: هُوَ قَبُولُ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ تَظْهَرُ عَلَى قَوْلِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ قَبُولُ قول الْغَيْرِ دُونَ حُجَّتِهِ، أَيْ: حُجَّةِ الْقَوْلِ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُوَ قَبُولُ رَأْيِ مَنْ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ بِلَا حُجَّةٍ.
وَفَوَائِدُ هَذِهِ القيود معروفة بما تقدم.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 270 والمستصفى 2/ 387.(2/239)
وَأَمَّا الْمُفْتِي فَهُوَ الْمُجْتَهِدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، ومثله قول من قال: إن المفتي الفقيه؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ فِي مُصْطَلَحِ أَهْلِ الأصول.
والمستفتي من ليس بمجتهد، ومن لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِنْ حَدِّ الْمُقَلِّدِ، عَلَى جَمِيعِ الْحُدُودِ، الْمَذْكُورَةِ، أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَمَلَ بِهِ لَيْسَ مِنَ التَّقْلِيدِ فِي شيء؛ لأن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلَهُ نَفْسُ الْحُجَّةِ1.
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "التَّعْلِيقِ": لَا خِلَافَ أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، يُسَمَّى تَقْلِيدًا، وَأَمَّا قبول قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَلْ يُسَمَّى تَقْلِيدًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ "يُبْنَيَانِ"* عَلَى الْخِلَافِ فِي حَقِيقَةِ التَّقْلِيدِ مَا هُوَ؟
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُسَمَّى تَقْلِيدًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَقِّ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَمَّا ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ، مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ، فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالتَّقْلِيدِ ههنا غَيْرُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاصْطِلَاحُ، وَلِهَذَا قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ": أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَعْلِ القبول من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْلِيدًا، وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ التَّقْلِيدِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْقَبُولَ مِنْ غَيْرِ السُّؤَالِ عَنْ وَجْهِهِ، وَفِي وُقُوعِ اسْمِ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ.
قَالَ: وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذَا الِاسْمَ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ"2: وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ، وبه صرح إمام الحرمين في "التخليص" حَيْثُ قَالَ: وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ يَهُونُ موقعها عن ذَوِي التَّحْقِيقِ. انْتَهَى.
وَبِهَذَا تَعْرِفُ أَنَّ التَّقْلِيدَ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ "عَلَيْهِ"** لَا يَشْمَلُ ذَلِكَ، وَهُوَ المطلوب.
قال ابن دقيق الْعِيدِ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَجْتَهِدُونَ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَ أَقْوَالِهِمُ الْوَحْيُ، فَلَا يَكُونُ تَقْلِيدًا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمْ يَجْتَهِدُونَ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ السَّبَبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْوَحْيُ، أَوِ الِاجْتِهَادُ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَقَدْ عَلِمْنَا السَّبَبَ، وَاجْتِهَادُهُمُ اجْتِهَادٌ مَعْلُومُ الْعِصْمَةِ. انْتَهَى.
وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الآخذ بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّاجِعَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِمُقَلِّدٍ، بَلْ هُوَ صائر إلى دليل وعلم يقين. انتهى.
__________
* في "أ": يبتنيان.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 270
2 البحر المحيط 6/ 271.(2/240)
المسألة الثانية: حكم التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ
اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ العقلية، وهي المتعلقة بوجود الباري وَصِفَاتِهِ، هَلْ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهَا أَمْ لَا؟
فَحَكَى الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَمْ يَحْكِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ في "المختصر" إلا عن العنبري.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز.
وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي "شَرْحِ التَّرْتِيبِ"1 عَنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الطَّوَائِفِ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ فِي التَّوْحِيدِ.
وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ جَمِيعِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الشَّامِلِ"2: لَمْ يَقُلْ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ إِلَّا الْحَنَابِلَةُ.
وَقَالَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا يُخَالِفُ فِيهِ إِلَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا الْأَخْذُ بِقَوْلِ مَنْ يُقَلِّدُهُ، وَلَا يَدْرِي أَهْوَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: فَلَوِ اعْتَقَدَ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِالدَّلِيلِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّهُ مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ، وَإِنْ فُسِّقَ بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ، وَبِهِ قَالَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ، وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ: لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَخْرُجَ فيها عن جملة المقلدين. انتهى.
فيا لله الْعَجَبَ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي تَقْشَعِرُّ لَهَا الْجُلُودُ، وَتَرْجُفُ عِنْدَ سَمَاعِهَا الْأَفْئِدَةُ، فَإِنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى جُمْهُورِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، وَتَكْلِيفٌ لَهُمْ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ وَلَا يُطِيقُونَهُ، وَقَدْ كَفَى الصَّحَابَةَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ، وَلَا قَارَبُوهَا الْإِيمَانُ الْجُمَلِيُّ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَلَا أَخْرَجَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِتَقْصِيرِهِمْ عَنِ الْبُلُوغِ إِلَى العلم بذلك أدلته.
__________
1 وهو للإمام أبي إسحاق الإسفراييني شرح فيه كتاب الترتيب ولم أجد أحدا نسب كتاب الترتيب إلى مؤلفه انظر كشف الظنون 2/ 1403.
2 وهو في أصول الدين لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني، أبي المعالي ا. هـ كشف الظنون 2/ 1024.(2/241)
وَمَا حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَإِنْ فُسِّقَ، فَلَا يَصِحُّ التَّفْسِيقُ عَنْهُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَلْ مَذْهَبُ سَابِقِهِمْ وَلَاحِقِهِمُ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِيمَانِ الْجُمَلِيِّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ خَيْرُ الْقُرُونِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، بَلْ حَرَّمَ كَثِيرٌ منهم النظر إلى ذلك، وجعله في الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ، وَلَمْ يَخْفَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِهِمْ، حَتَّى عَلَى أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ1: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ كَتَبَةِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّ طَلَبَ الدَّلِيلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ غير واجب، وإنما الغرض هو الرجوع إلى قَوْلُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَرَوْنَ الشُّرُوعَ فِي مُوجِبَاتِ الْعُقُولِ كُفْرًا، وَأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ وَالنَّظَرَ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ طَرِيقٌ إِلَى حُصُولِ الْعِلْمِ، حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَتَرَدَّدُ، فَمَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ قَاطِعَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُؤْمِنًا، وَزَالَ عَنْهُ كُلْفَةُ طَلَبِ الْأَدِلَّةِ، وَمَنْ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالِاعْتِقَادِ الصَّافِي، مِنَ الشُّبْهَةِ وَالشُّكُوكِ، فَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَكْمَلِ أَنْوَاعِ النِّعَمِ وَأَجَلِّهَا، حِينَ لَمْ يَكِله إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، لَا سِيَّمَا الْعَوَامُّ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ تَجِدُهُ فِي صِيَانَةِ اعْتِقَادِهِ أَكْثَرَ مِمَّنْ يُشَاهِدُ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ. انْتَهَى.
وَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي أَحْوَالِ الْعَوَامِّ "وَجَدَ هَذَا"* صَحِيحًا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ نَجِدُ الْإِيمَانَ فِي صَدْرِهِ كَالْجِبَالِ الرَّوَاسِيِّ، وَنَجِدُ بَعْضَ الْمُتَعَلِّقِينَ بِعِلْمِ الْكَلَامِ، الْمُشْتَغِلِينَ بِهِ، الْخَائِضِينَ فِي مَعْقُولَاتِهِ الَّتِي يَتَخَبَّطُ فِيهَا أَهْلُهَا لَا يَزَالُ يَنْقُصُ إِيمَانُهُ، وَتَنْتَقِضُ مِنْهُ عُرْوَةٌ عُرْوَةٌ، فَإِنْ أَدْرَكَتْهُ الْأَلْطَافُ الرَّبَّانِيَّةُ نَجَا، وَإِلَّا هَلَكَ، وَلِهَذَا تَمَنَّى كَثِيرٌ مِنَ الْخَائِضِينَ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ، الْمُتَبَحِّرِينَ فِي أَنْوَاعِهَا، فِي آخِرِ أَمْرِهِ، أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينِ الْعَجَائِزِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَنْظُومَةِ وَالْمَنْثُورَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِطْلَاعٌ عَلَى أَخْبَارِ النَّاسِ.
وَقَدْ أَنْكَرَ الْقُشَيْرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، مِنَ الْمُحَقِّقِينَ صِحَّةَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ أبي الحسن الْأَشْعَرِيِّ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِيجَابُ مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ بَعِيدٌ جِدًّا عَنِ الصَّوَابِ، وَمَتَى أَوْجَبْنَا ذَلِكَ فَمَتَى يُوجَدُ مِنَ الْعَوَامِّ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ، وَتَصْدُرُ عَقِيدَتُهُ عَنْهُ، كَيْفَ وَهُمْ لَوْ عَرَضْتَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ "الْأَدِلَّةَ** لَمْ يَفْهَمُوهَا، وَإِنَّمَا غَايَةُ الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَلَقَّنَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ، وَيَلْقَى بِهِ رَبَّهُ، مِنَ الْعُلَمَاءِ يَتْبَعُهُمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَيْهَا بِقَلْبٍ طَاهِرٍ عَنِ الْأَهْوَاءِ، وَالْأَدْغَالِ2، ثُمَّ
__________
* في "أ": وجدها.
** في "أ": الأحكام.
__________
1 ذكر هذا القول الزركشي في كتابه مفصلا في البحر المحيط 6/ 277-278 فانظره هناك.
2 جمع دَغَل: وهو في الأصل كل موضع يخاف فيه الاغتيال، وأصل الدغل الشجر الملتف الذي يكمن أهل الفساد فيه وفي "اتخذوا دين الله دغلا" أي: يخدعون الناس. ويقال: أدغل في الأمر: إذا أدخل فيه ما يخالفه ويفسده. ا. هـ لسان العرب مادة دغل.(2/242)
يعض عليها بالنواجز، فلا يحول ولا يزول، ولو قطع أربا، فهنيئًا لهم بالسلامة، والبعد عن الشبهات الداخلية عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ، وَالْوَرَطَاتِ الَّتِي تَوَغَّلُوهَا، حَتَّى أَدَّتْ بِهِمْ إِلَى الْمَهَاوِي وَالْمَهَالِكِ، وَدَخَلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّبُهَاتُ الْعَظِيمَةُ، فَصَارُوا مُتَحَيِّرِينَ، وَلَا يُوجَدُ فِيهِمْ مُتَوَرِّعٌ عَفِيفٌ، إِلَّا الْقَلِيلُ، فَإِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ وَرَعِ الْأَلْسِنَةِ، وَأَرْسَلُوهَا فِي صِفَاتِ اللَّهِ بِجُرْأَةٍ وَعَدَمِ مَهَابَةٍ وَحُرْمَةٍ.
قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَا مِنْ دَلِيلٍ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ إِلَّا وَلِخُصُومِهِمْ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبَهِ الْقَوِيَّةِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِقَدْرِ مَا يَنَالُ الْمُسَلَّمُ بِهِ بِرَدِّ الْخَاطِرِ، وَإِنَّمَا "الْمُنْكَرُ"* إِيجَابَ التَّوَصُّلِ إلى العقائد في الأصول بالطريق الذي اقتعدوه وَسَامُوا بِهِ الْخَلْقَ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ أَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى تَكْفِيرِ الْعَوَامِّ أَجْمَعَ، وَهَذَا هُوَ الْخُطَّةُ الشَّنْعَاءُ، وَالدَّاءُ الْعُضَالُ، وَإِذَا كَانَ السواد الأعظم هم العوام، وبهم قوم الدِّينِ، وَعَلَيْهِمْ مَدَارُ رَحَى الْإِسْلَامِ، وَلَعَلَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ، الَّتِي تَجْمَعُ الْمِائَةَ الْأَلْفَ مَنْ يَقُومُ بِالشَّرَائِطِ الَّتِي يَعْتَبِرُونَهَا، إِلَّا العدد الشاذ النَّادِرُ، وَلَعَلَّهُ لَا يَبْلُغُ عَدَدَ الْعَشْرَةِ. انْتَهَى.
__________
* في أ: منكر.(2/243)
المسألة الثالثة: حكم التقليد في المسائل الشرعية الْفَرْعِيَّةِ
اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ، هَلْ يجوز التقليد فيها أم لا1؟
المذهب الأول:
ذهب جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا2.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ، وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ، وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ.
قَالَ: وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي، فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ فَاتْرُكُوهُ، وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: وَدِدْتُ أَنِّي ضُرِبْتُ بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سَوْطًا، عَلَى أَنَّهُ لَا صَبْرَ لِي عَلَى السياط.
قال ابن حزم: فههنا مَالِكٌ يَنْهَى عَنِ التَّقْلِيدِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ رَوَى الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي أَوَّلِ "مُخْتَصَرِهِ"3 أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَنْهَى عَنْ تقليده، وتقليد غيره. انتهى.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 280.
2 هذا هو المذهب الأول.
3 وهو مختصر في الفقه، انظر ترجمة المزني في 1/ 334.(2/243)
وَقَدْ ذَكَرْتُ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُصَرِّحَةَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ فِي الرِّسَالَةِ الَّتِي سَمَّيْتُهَا "الْقَوْلَ الْمُفِيدَ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ" فَلَا نُطَوِّلُ الْمُقَامَ بِذِكْرِ ذَلِكَ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّقْلِيدِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، فَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ، مِنْ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْأَمْوَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ عَمَلَ الْمُجْتَهِدِ بِرَأْيِهِ إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لَهُ، عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَهَذَانِ الْإِجْمَاعَانِ يَجْتَثَّانِ التَّقْلِيدَ مِنْ أَصْلِهِ، فَالْعَجَبُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، حَيْثُ لَمْ يَحْكُوا هَذَا القول إلا عن بعض المعتزلة.
والمذهب الثاني:
وَقَابَلَ مَذْهَبَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ بَعْضُ الْحَشْوِيَّةِ وَقَالَ: يَجِبُ مُطْلَقًا1، وَيَحْرُمُ النَّظَرُ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَقْنَعُوا بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ، حَتَّى أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ التَّقْلِيدَ جَهْلٌ وَلَيْسَ بِعِلْمٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:
التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، وَبِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْخِلَافِ أَقْوَالُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ مُقَلِّدُونَ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ، وَلَا سِيَّمَا وَأَئِمَّتُهُمُ الْأَرْبَعَةُ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَعَسَّفُوا فَحَمَلُوا كَلَامَ أَئِمَّتِهِمْ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْمُجْتَهِدِينَ من الناس، لا المقلدين، فيا لله الْعَجَبُ.
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا: أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْأُصُولِ نَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ إلى الأكثر، وجعل الحجة لهم بالإجماع عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ، فَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ خَيْرِ الْقُرُونِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، فَتِلْكَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، فَإِنَّهُ لَا تَقْلِيدَ فِيهِمْ أَلْبَتَّةَ، وَلَا عَرَفُوا التَّقْلِيدَ، وَلَا سَمِعُوا بِهِ، بَلْ كَانَ الْمُقَصِّرُ مِنْهُمْ يَسْأَلُ الْعَالِمَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ، فَيُفْتِيهِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي يَعْرِفُهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ التَّقْلِيدِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالسُّؤَالِ عَنِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَدْ عَرَفْتَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ إِنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ، لَا بِالرِّوَايَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُوجِبُونَ لِلتَّقْلِيدِ، وَالْمُجَوِّزُونَ لَهُ مِنْ قوله سبحانه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} 2 إلا السائل عَنْ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، لَا عَنْ آرَاءِ الرِّجَالِ، هَذَا عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي عُمُومِ السُّؤَالِ، كَمَا زَعَمُوا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ وَارِدَةٌ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ، وَهُوَ السُّؤَالُ عَنْ كَوْنِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ رِجَالًا، كَمَا يُفِيدُهُ أَوَّلُ الْآيَةِ وَآخِرُهَا، حَيْثُ قَالَ:
__________
1 وهذا هو المذهب الثاني.
2 جزء من آيتين الأولى 43 من سورة النحل والثانية 7 من سورة الأنبياء.(2/244)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} 1؛ وَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِالْمَنْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ، وَلَمْ يَزَلْ فِي عَصْرِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ، فَوُجُودُ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ مُنْذُ ذلك الوقت إلى هذه الغاية معلوم لكل مَنْ يَعْرِفُ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا نَقَلْنَاهُ سَابِقًا أَنَّ الْمَنْعَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، إذا لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، وَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ الْمُقَلِّدِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ خَاصَّةً، فَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا قَدَّمْنَا فِي مَقْصِدِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِأَقْوَالِ الْمُقَلِّدِينَ فِي شَيْءٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِمْ إِجْمَاعٌ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مَنْ جَوَّزَ التَّقْلِيدَ، فَضْلًا عَمَّنْ أَوْجَبَهُ، بِحُجَّةٍ يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِجَوَابِهَا قَطُّ، وَلَمْ نُؤْمَرْ بِرَدِّ شَرَائِعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَى آرَاءِ الرِّجَالِ، بَلْ أُمِرْنَا بِمَا قَالَهُ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2 أَيْ: كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ مَنْ يُرْسِلُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْحُكْمِ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ الله، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ3.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ اسْتِبْعَادِ أَنْ يَفْهَمَ الْمُقَصِّرُونَ نُصُوصَ الشَّرْعِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِلتَّقْلِيدِ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كما ذكروه، فههنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد، وهي سُؤَالُ الْجَاهِلِ لِلْعَالِمِ عَنِ الشَّرْعِ فِيمَا يَعْرِضُ له، لا عن رأيه البحث وَاجْتِهَادِهِ الْمَحْضِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ عَمَلُ الْمُقَصِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَتَابِعِيهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَسَعْهُ مَا وَسِعَ أَهْلَ هَذِهِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُقَلِّدِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي كَثِيرٍ من الآيات: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} 4 {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5، {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 6، وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَمَنْ أَرَادَ اسْتِيفَاءَ هَذَا الْبَحْثِ عَلَى التَّمَامِ، فَلْيَرْجِعْ إِلَى الرِّسَالَةِ الَّتِي قَدَّمْتُ الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا وَإِلَى الْمُؤَلَّفِ الَّذِي سَمَّيْتُهُ "أَدَبَ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ". وَمَا أَحْسَنَ مَا حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ" عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ لِمَنْ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ هَلْ لَكَ مِنْ حُجَّةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ أَبْطَلَ التَّقْلِيدَ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ، لَا التَّقْلِيدُ، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، قِيلَ لَهُ: فَلِمَ أَرَقْتَ الدِّمَاءَ، وَأَبَحْتَ الْفُرُوجَ، وَالْأَمْوَالَ؟، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي أَصَبْتُ وَإِنْ لَمْ أَعْرِفِ الْحُجَّةَ؛ لِأَنَّ مُعَلِّمِي مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ، قِيلَ لَهُ: تَقْلِيدُ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِكَ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ مُعَلِّمِكَ؛ لأنه لا يقول
__________
1 الآيتين 43، 44 من سورة النحل.
2 جزء من الآية 59 من سورة النساء
3 تقدم في 1/ 152.
4 جزء من الآية 23 من سورة الزخرف.
5 جزء من الآية 31 من سورة التوبة.
6 جزء من الآية 67 من سورة الأحزاب.(2/245)
إلا بحجة خفيت عن معلمك، كما لم يقل معلمك إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَنْكَ، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إِلَى تَقْلِيدِ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِهِ، "و"* كَذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نُقِضَ قَوْلُهُ، وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ، وَأَقَلُّ عِلْمًا، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ، وَأَغْزَرُ عِلْمًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ1.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إِنْ آمَنَ آمَنَ، وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ"2. انْتَهَى.
قلت: تتميمًا لهذا الكلام: وعندما يُنْتَهَى إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ: هَذَا الصَّحَابِيُّ أَخَذَ عِلْمَهُ مِنْ أَعْلَمِ الْبَشَرِ، الْمُرْسَلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى عِبَادِهِ، الْمَعْصُومِ مِنَ الْخَطَأِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَتَقْلِيدُهُ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ، الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ عُلُومِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْعِصْمَةِ شَيْءٌ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ، وَلَا فِعْلَهُ، وَلَا اجْتِهَادَهُ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.
وَاعْلَمْ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ، عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ، إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لَهُ، يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ فَقْدِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْعَمَلُ بِهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلِهَذَا نَهَى كِبَارُ الْأَئِمَّةِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ عَرَفْتَ "مِنْ تَحْقِيقِ"** حَالِ الْمُقَلِّدِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ بِالرَّأْيِ، لَا بِالرِّوَايَةِ، وَيَتَمَسَّكُ بِمَحْضِ الِاجْتِهَادِ غَيْرُ مُطَالِبٍ بِحُجَّةٍ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ التَّمَسُّكُ بِهِ، وَيَسُوغُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، فِيمَا كَلَّفَهُ اللَّهُ، فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْمُجْتَهِدَ صَاحِبَ شَرْعٍ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَعْدَ نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَتَمَكَّنُ كَامِلٌ وَلَا مُقَصِّرٌ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى هَذَا بِحُجَّةٍ قَطُّ.
وَأَمَّا مُجَرَّدُ الدَّعَاوَى، وَالْمُجَازَفَاتِ فِي شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وَلَوْ جَازَتِ الْأُمُورُ الشَّرْعِيَّةُ بِمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى، لادَّعى مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ، وَقَالَ مَنْ شاء بما شاء.
__________
* في "أ": ثم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 ومن ذلك حديث أبي هريرة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سيكون في آخر الزمان ناس من أمتي يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم ". أخرجه مسلم في المقدمة باب النهي عن الرواية عن الضعفاء 6 وأخرج بنحوه برقم 7. وأخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب العلم 1/ 103. وابن حبان في صحيحه 6767. وأبو يعلى في مسنده 6384.
2 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 180 برقم 850 وقال رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.(2/246)
المسألة الرابعة: حكم إفتاء المقلد
اختلفو هَلْ يَجُوزُ لِمَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ أَنْ يُفْتِيَ بِمَذْهَبِ إِمَامِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ، أَوْ بِمَذْهَبِ إِمَامٍ آخَرَ؟
فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَمَوْضُوعُ هَذَا الِاسْمِ، يَعْنِي: الْمُفْتِيَ، لِمَنْ قَامَ لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ و"علم"* حَمْلَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ، وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَكَذَلِكَ السُّنَنُ، وَالِاسْتِنْبَاطُ، وَلَمْ يُوضَعْ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا، فَمَنْ بَلَغَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ سَمَّوْهُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَمَنِ اسْتَحَقَّهُ أَفْتَى فِيمَا اسْتُفْتِيَ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْمُفْتِي مَنِ اسْتُكْمِلَ فِيهِ ثَلَاثُ شَرَائِطَ: الِاجْتِهَادُ، وَالْعَدَالَةُ، وَالْكَفُّ عَنِ التَّرْخِيصِ وَالتَّسَاهُلِ، قَالَ: وَيَلْزَمُ الْحَاكِمَ مِنْ الِاسْتِظْهَارِ فِي الِاجْتِهَادِ أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمُ الْمُفْتِيَ.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": اخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْفَتْوَى بِمَا يَحْكِيهِ عَنِ الْمُفْتِينَ، فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَحْكِيَ عَنْ مَيِّتٍ أَوْ حَيٍّ، فَإِنْ حَكَى عَنْ مَيِّتٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لِلْمَيِّتِ، "بِدَلِيلِ أَنَّ"** الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِلَافِهِ حَيًّا، وَيَنْعَقِدُ عَلَى مَوْتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ قَوْلٌ بَعْدَ مَوْتِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ صُنِّفَتْ كُتُبُ الفقه مع فناء أرباها؟
قُلْتُ: لِفَائِدَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا:
اسْتِفَادَةُ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي الْحَوَادِثِ، وَكَيْفَ بُني بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَالثَّانِيَةُ:
مَعْرِفَةُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَلَا يُفتى بِغَيْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
وَفِي كَلَامِهِ هَذَا التَّصْرِيحُ بِالْمَنْعِ مِنْ تَقْلِيدِ الْأَمْوَاتِ، وَقَدْ حَكَى الْغَزَالِيُّ فِي "الْمَنْخُولِ" إِجْمَاعَ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَقْلِيدِ الْأَمْوَاتِ1.
__________
* في "أ": وعلى.
** في "أ": لأن.
__________
1 ولقد ذكر الزركشي في كتابه البحر المحيط 6/ 297: غير المجتهد إن قلد مجتهدا ميتا فقي مذاهب؛ أحدها وهو الأصح وعليه الأكثرون كما قال الروياني الجواز، وقد قال الشافعي: المذاهب لا تموت بموت أربابها ولا بفقد أصحابها.
وأيده الرافعي بموت الشهاد بعدما يؤدي شهدته عند الحاكم فإن شهادته لا تبطل.
واحتج الأصوليون عليه بانعقاد الإجماع في زماننا وعلى جواز العمل بفتاوى الموتى والإجماع حجة.
- والقول الثاني المنع. ا. هـ وانظر: المنخول 480.(2/247)
قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ": إِنَّهُ الْقِيَاسُ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، كَمَنْ تَجَدَّدَ فِسْقُهُ بَعْدَ عَدَالَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى حُكْمُ عَدَالَتِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّ قَوْلَهُ وَصْفٌ لَهُ، وَبَقَاءُ الْوَصْفِ بَعْدَ زَوَالِ الْأَصْلِ مُحَالٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَجْدِيدِهِ لَا يَتَحَقَّقُ بَقَاؤُهُ، عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَتَقْلِيدُهُ بِنَاءً عَلَى وَهْمٍ أَوْ تَرَدُّدٍ، وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَبِهَذَا تَعْرِفُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِجِوَازِ فَتْوَى الْمُقَلِّدِ، حِكَايَةً عَنْ مُجْتَهِدٍ، لَيْسَ عَلَى إطلاقه.
وذهب جماعة إلى أنه يجز لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ بِمَذْهَبِ مُجْتَهِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُفْتِي أَهْلًا لِلنَّظَرِ، مُطَّلِعًا عَلَى مَأْخَذِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي أَفْتَى بِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ.
وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنِ الْقَفَّالِ، وَنَسَبَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى الْأَكْثَرِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ، وَبَعْضُهُمْ نَسَبَهُ إِلَى الرَّازِيِّ، وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اخْتِيَارَهُ الْمَنْعُ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَنِهِ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِفَتَاوَى الْمَوْتَى.
قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ، وَالْمُجْمِعُونَ لَيْسُوا بِمُجْتَهِدِينَ، فَلَا يُعْتَبَرُ إِجْمَاعُهُمْ بِحَالٍ1.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: تَوْقِيفُ الْفُتْيَا عَلَى حُصُولِ الْمُجْتَهِدِ، يُفْضِي إِلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ أَوِ اسْتِرْسَالِ الْخَلْقِ فِي أَهْوِيَتِهِمْ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، إِذَا كَانَ عَدْلًا مُتَمَكِّنًا مِنْ فَهْمِ كَلَامِ الْإِمَامِ، ثم حكى لمقلد قَوْلَهُ، فَإِنَّهُ يُكتفى بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفُتْيَا، هَذَا مَعَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ كُنَّ يَرْجِعْنَ فِي أَحْكَامِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ إِلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ أزواجهن عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرْسَلَ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فِي قِصَّةِ الْمَذْيِ2، وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَظْهَرُ، فَإِنَّ مَرَاجَعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذْ ذَاكَ مُمْكِنَةٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْمُقَلِّدِ الْآنَ لِلْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ مُتَعَذِّرَةٌ، وَقَدْ أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ، مَعَ عَدَمِ شَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ الْيَوْمَ. انْتَهَى.
قُلْتُ: وَفِي كَلَامِ هَذَا الْمُحَقِّقِ ما لا يخف عَلَى الْفَطِنِ، أَمَّا قَوْلُهُ: يُفْضِي إِلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ إِلَخْ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ مَنْ حَدَثَتْ لَهُ الْحَادِثَةُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ من يعرف ما شرعه الله في
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 297.
2 أخرجه مسلم من حديث المقداد، كتاب الحيض، باب المذي 303. وأبو داود، كتاب الطهارة، باب في المذي 207. والنسائي، كتاب الطهارة 1/ 97 وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها 505. والبيهقي، كتاب الطهارة، باب الوضوء من الودي والمذي 1/ 115. وابن حبان في صحيحه 1101. وابن خزيمة في صحيحه 21. وأحمد في مسنده 6/ 5.(2/248)
الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِهِ، أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، كَمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ يَعْرِفُ مَذْهَبَ مُجْتَهِدٍ مِنَ الْأَمْوَاتِ عَنْ رَأْيِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ فِي حَادِثَتِهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ عَلَى الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ إِلَخْ، فَمِنْ أَغْرَبِ مَا يَسْمَعُهُ السَّامِعُ، لَا سِيَّمَا عَنْ مِثْلِ هَذَا الْإِمَامِ، وَأَيُّ ظَنٍّ لِهَذَا الْعَامِّيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَيُّ تَأْثِيرٍ لِظُنُونِ الْعَامَّةِ، الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الشَّرِيعَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ظَنَّ غَالِبِهِمْ لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا يُوَافِقُ هَوَاهُ {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} 1.
وَأَمَّا قَوْلُهُ مَعَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، بِأَنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ إِلَخْ، فَنَقُولُ: نَعَمْ ذَلِكَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، فَكَانَ مَاذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِفْتَاءٍ عَنْ رَأْيِ مَنْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، بَلِ اسْتِفْتَاءٌ عَنِ الشرع في ذلك الحكم، فإن كان المسول يَعْلَمُهُ رَوَاهُ لِلسَّائِلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَالَ "السَّائِلَ"* عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَلَى مَنْ يَعْلَمُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وهكذا فِيمَنْ بَعْدَهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَطْلُبُ مِنَ الْعَامِّيِّ وَالْمُقَصِّرِ إِذَا نَابَتْهُ نَائِبَةٌ وَحَدَثَتْ لَهُ حَادِثَةٌ إِلَّا أَنْ يَفْعَلَ هَكَذَا، فَيَسْأَلُ عُلَمَاءَ عَصْرِهِ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَتَابِعُوهُمْ يَسْأَلُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ فِيهِمْ، وَمَا كَانُوا يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ مَذَاهِبِهِمْ، ولا عما يقولونه بِمَحْضِ الرَّأْيِ.
فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ مُرَادُ هَذَا الْمُحَقِّقِ إِلَّا أَنَّهُمْ يَسْتَفْتُونَ الْمُقَلِّدَ عَمَّا صَحَّ لِذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ بِالدَّلِيلِ.
قُلْتُ: إِذَا كَانَ مُرَادُهُ هَذَا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ لِإِدْخَالِ "الْمُجْتَهِدِ"** فِي الْبَيِّنِ، وَمَا ثَمَرَةُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الثَّابِتِ فِي الشَّرِيعَةِ وَيَكُونُ الْمَسْئُولُ "مِمَّنْ"*** لَا يَجْهَلُهُ، فَيُفْتِيهِ حِينَئِذٍ بِفَتْوَى قُرْآنِيَّةٍ، أَوْ نبوية، ويدع السؤال عن مذاهب النسا، وَيَسْتَغْنِي بِمَذْهَبِ إِمَامِهِمُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا إِرْسَالُ عَلِيٍّ لِلْمِقْدَادِ فَهُوَ إِنَّمَا أَرْسَلَهُ لِيَرْوِيَ لَهُ مَا يَقُولُهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، الْمَعْصُومُ عَنِ الْخَطَأِ، وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدْ أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ، مَعَ عَدَمِ شَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ، فَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ هَذَا الْإِطْبَاقَ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَغَيْرُ الْمُجْتَهِدِ لَا يَدْرِي بِحُكْمِ اللَّهِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَإِذَا لَمْ "يَدْرِ بِهِ"**** فَهُوَ حاكم.
__________
* في "أ": السؤال.
** في "أ": المجتهدين.
*** في "أ": فيمن.
**** في "أ": لم يدره.
__________
1 جزء من الآية 71 من سورة المؤمنون.(2/249)
بِالْجَهْلِ، "وَالْحُكْمُ بِالْجَهْلِ"* لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى أَحَدٍ.
وذهبت طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ إِذَا عُدِمَ الْمُجْتَهِدُ، وَإِلَّا فَلَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: إنه يجوز للمقلد الْحَيِّ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا شَافَهَهُ بِهِ أَوْ يَنْقُلَهُ إِلَيْهِ مَوْثُوقٌ بِقَوْلِهِ، أَوْ وَجَدَهُ مَكْتُوبًا فِي كِتَابٍ مُعْتَمَدٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمَيِّتِ.
قَالَ الرُّويَانِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا عَلِمَ الْعَامِّيُّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ وَدَلِيلَهَا، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ:
ثَالِثُهَا:
إِنْ كَانَ الدَّلِيلُ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ نَظَرًا وَاسْتِنْبَاطًا لَمْ يَجُزْ
قَالَا: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ دَلَالَةٌ تُعَارِضُهَا أَقْوَى مِنْهَا.
وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ فِي "شَرْحِ الرِّسَالَةِ": مَنْ حَفِظَ نُصُوصَ الشَّافِعِيِّ، وَأَقْوَالَ النَّاسِ بِأَسْرِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَهَا وَمَعَانِيَهَا؛ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَقِيسَ، وَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى، وَلَوْ أفتى فإنه لا يجوز.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/250)
المسألة الخامسة: حكم سُؤَالِ الْعَالِمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
إِذَا تَقَرَّرَ لَكَ أَنَّ الْعَامِّيَّ يَسْأَلُ الْعَالِمَ، وَالْمُقَصِّرَ يَسْأَلُ الْكَامِلَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ الْمَعْرُوفِينَ بِالدِّينِ، وَكَمَالِ الْوَرَعِ، عَنِ الْعَالِمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الْعَارِفِ بِمَا فِيهِمَا، الْمُطَّلِعِ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ في فهمهما، مِنَ الْعُلُومِ الْآلِيَّةِ، حَتَّى يَدُلُّوهُ عَلَيْهِ، وَيُرْشِدُوهُ إِلَيْهِ، فَيَسْأَلُهُ عَنْ حَادِثَتِهِ "طَالِبًا"* مِنْهُ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ فِيهَا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ مَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ الْحَقَّ مِنْ مَعْدِنِهِ، وَيَسْتَفِيدُ الْحُكْمَ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَيَسْتَرِيحُ مِنَ الرَّأْيِ الَّذِي لَا يَأْمَنُ الْمُتَمَسِّكُ بِهِ أَنْ يَقَعَ فِي الْخَطَأِ، الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ، الْمُبَايِنِ لِلْحَقِّ، وَمَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَنْهَجَ، وَمَشَى فِي هَذَا الطَّرِيقِ، لَا يَعْدَمُ مَطْلَبَهُ، وَلَا يَفْقِدُ مَنْ يُرْشِدُهُ إِلَى الْحَقِّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَوْجَدَ لِهَذَا الشَّأْنِ مَنْ يَقُومُ بِهِ، وَيَعْرِفُهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَمَا مِنْ مَدِينَةٍ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَّا وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْمُقَصِّرِ حُكْمَ الْمُقَصِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَتَابِعِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَرْوُونَ النُّصُوصَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَيَعْمَلُونَ عَلَى مَا يُرْشِدُونَهُمْ إليه، ويدلونهم عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَكْفِي الْعَامِّيَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْفَتْوَى بِأَنْ يَرَى النَّاسَ مُتَّفِقِينَ عَلَى سُؤَالِهِ، مُجْتَمِعِينَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَلَا يَسْتَفْتِي مَنْ "كان"** مجهول.
__________
* في "أ": طلب.
** في "أ": هو.(2/250)
الْحَالِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ.
وَحَكَى فِي "الْمَحْصُولِ" الِاتِّفَاقَ عَلَى الْمَنْعِ، وَشَرَطَ الْقَاضِي أَخْبَارَ مَنْ يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ عَالِمًا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَكْفِي خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ، فَاكْتَفَوْا بِخَبَرِ عَدْلَيْنِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ صَاحِبُ "الْمَنْخُولِ"*، فَقَالَ: وَاشْتِرَاطُ تَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا، كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ غَيْرُ سَدِيدٍ، وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ امْتِحَانَهُ بِالْمَسَائِلِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَمُرَاجَعَتَهُ فِيهَا، فَإِنْ أَصَابَ فِي الْجَوَابِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا تَكْفِي الِاسْتِفَاضَةُ بَيْنَ النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ برهان في "الوجيز": قيل: يقول له مجتهد أَنْتَ، وَأُقَلِّدُكَ؟ فَإِنْ أَجَابَهُ قَلَّدَهُ. قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ، وَجَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ بأنه يكفيه خبر العدل الواحد من فِقْهِهِ وَأَمَانَتِهِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الْأَخْبَارِ. انْتَهَى.
وَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ جَمَاعَةٌ مُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، الْمُسَوِّغَةِ لِلْأَخْذِ عَنْهُمْ، فَالْمُسْتَفْتِي مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ عَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ وَإِلْكِيَا: إِنَّهُ يَبْحَثُ عَنِ الْأَعْلَمِ مِنْهُمْ، فَيَسْأَلُهُ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَالْقَفَّالُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْأَعْلَمَ أَهْدَى إِلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ.
وَإِذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ فَتْوَى عُلَمَاءِ عَصْرِهِ، فَقِيلَ: هُوَ مُخَيَّرٌ يَأْخُذُ بِمَا شَاءَ مِنْهَا، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْقَاضِي، وَالْآمِدِيُّ.
وَاسْتَدَلُّوا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ إِنْكَارِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْمَفْضُولِ، مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ.
وَقِيلَ: يَأْخُذُ بِالْأَغْلَظِ، حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ.
وَقِيلَ: يَأْخُذُ بِالْأَخَفِّ.
وَقِيلَ: يَبْحَثُ عَنِ الْأَعْلَمِ مِنْهُمْ، فَيَأْخُذُ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَبْحَثُ عَنِ الْأَعْلَمِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ الْأَوَّلِ، حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ.
وَقِيلَ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى الرِّوَايَةِ دُونَ الرَّأْيِ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ.
وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيمَا يَأْخُذُ، مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللَّهِ أَخَذَ بِالْأَخَفِّ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ الْعِبَادِ أَخَذَ بِالْأَغْلَظِ، حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ يَسْأَلُ الْمُخْتَلِفِينَ عَنْ حُجَّتِهِمَا إِنِ اتَّسَعَ عَقْلُهُ لِفَهْمِ ذَلِكَ، فَيَأْخُذُ بِأَرْجَحِ الْحُجَّتَيْنِ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ عَقْلُهُ لِذَلِكَ أَخَذَ بِقَوْلِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ، قَالَهُ الكعبي.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/251)
المسألة السادسة: حكم الالتزام بمذهب مُعَيَّنٍ
اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ لِلتَّقْلِيدِ، هَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ؟
فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: يَلْزَمُهُ؛ وَرَجَّحَهُ إِلْكِيَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَلْزَمُهُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ بَرْهَانَ وَالنَّوَوِيُّ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَبَعْضِهِمْ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَإِنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: لَا تَحْمِلِ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِكَ فَيُحرجوا، دَعْهُمْ يَتَرَخَّصُوا بِمَذَاهِبِ النَّاسِ.
وَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنَ الطَّلَاقِ فَقَالَ: يَقَعُ يَقَعُ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلَ: فَإِنْ أَفْتَانِي أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ يَجُوزُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ مَنْ شَاءُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ1.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: الدَّلِيلُ يَقْتَضِي الْتِزَامَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ، لَا قَبْلَهُمُ. انْتَهَى.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَعَ زَعْمِ قَائِلِهِ أَنَّهُ اقْتَضَاهُ الدَّلِيلُ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَسْمَعُهُ السَّامِعُونَ، وَأَغْرَبِ مَا يَعْتَبِرُ بِهِ الْمُنْصِفُونَ.
أَمَّا إِذَا الْتَزَمَ الْعَامِّيُّ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ خلاف آخر، وهو أنه هل يجوز له أَنْ يُخَالِفَ إِمَامَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَيَأْخُذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ؟
فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ بِالْمَسْأَلَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ، وَإِلَّا جَازَ.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ بَعْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ الَّتِي قَلَّدَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ، وَإِلَّا جَازَ، وَاخْتَارَ هَذَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
وَقِيلَ: إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ مَذْهَبَ غَيْرِ إِمَامِهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَقْوَى مِنْ مَذْهَبِهِ جَازَ لَهُ، وَإِلَّا لم يجز، وبه قال القدوري الحنفي2.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 309.
2 هو أحمد بن محمد بن جعفر القدوري، أبو الحسين، البغدادي، والقدوري نسبة إلى قرية من قرى بغداد ويقال لها: قدور، وقيل: نسبة إلى بيع القدور، ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة هـ وتوفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة هـ، من آثاره: كتاب المختصر المشهور ا. هـ الفوائد البهية 30، والجواهر المضية 1/ 247 سير أعلام النبلاء 17/ 574.(2/252)
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ الَّذِي أَرَادَ الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ مِمَّا يَنْقُضُ الْحُكْمَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ، وَإِلَّا جَازَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَنْشَرِحَ لَهُ صَدْرُهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ قَاصِدًا لِلتَّلَاعُبِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ نَاقِضًا لِمَا قَدْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ.
وَقَدِ ادَّعَى الْآمِدِيُّ، وابن الحاجب: أنه يجوز قبل العلم، لَا بَعْدَهُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِمَا: بِأَنَّ الْخِلَافَ جار فِيمَا ادَّعَيَا الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ.
أَمَّا لَوِ اخْتَارَ الْمُقَلِّدُ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ مَا هُوَ الْأَهْوَنُ عَلَيْهِ، وَالْأَخَفُّ لَهُ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يُفَسَّقُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يُفَسَّقُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ، وَأَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ، كَانَ فَاسِقًا. وَخَصَّ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ التَّفْسِيقَ بِالْمُجْتَهِدِ، إِذَا لَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُ إِلَى الرُّخْصَةِ، وَاتَّبَعَهَا الْعَامِّيُّ الْعَامِلُ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ؛ لِإِخَلَالِهِ بِفَرْضِهِ وَهُوَ التَّقْلِيدُ، فَأَمَّا الْعَامِّيُّ إِذَا قَلَّدَ فِي ذَلِكَ فَلَا يُفَسَّقُ؛ لِأَنَّهُ قَلَّدَ مَنْ سُوِّغَ اجْتِهَادُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: "إِنَّهُ"* يُنْظَرُ إِلَى الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا اشْتَهَرَ تَحْرِيمُهُ فِي الشَّرْعِ أَثِمَ، وَإِلَّا لَمْ يَأْثَمْ.
وَفِي "السُّنَنِ" لِلْبَيْهَقِيِّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: "مَنْ أَخَذَ بِنَوَادِرِ الْعُلَمَاءِ خَرَجَ عَنِ الْإِسْلَامِ". وَرَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "يَتْرُكُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُتْعَةَ، وَالصَّرْفَ، وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ السَّمَاعَ، وَإِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الشَّامِ الْحَرْبَ وَالطَّاعَةَ، وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ النَّبِيذَ"1.
وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي2 قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ3 فرفع إليَّ كتابا
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الشهادات باب ما تجوز به شهادة أهل الأهواء 10/ 211.
2 هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد، شيخ الإسلام، العلامة، المحدث أبو إسحاق الحافظ، ولد سنة تسع وتسعين ومائة هـ، كان قاضي بغداد، من آثاره "أحكام القرآن" "معاني القرآن" "كتاب في القراءات"، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين هـ. ا. هـ سير أعلام النبلاء 13/ 339 الجرح والتعديل 2/ 158، شذرات الذهب 2/ 187 تذكرة الحفاظ 2/ 625.
3 هو الخليفة، أحمد بن طلحة، أبو العباس، ولد سنة اثنتين وأربعين ومائتين هـ، كان ملكا، مهيبا، شجاعا، جبارا، شديد الوطأة، يقدم على الأسد وحده، وكان إذا غضب على أمير حفر له حفرة وألقاه حيا وطم عليه، وكانت وفاته سنة تسع وثمانين ومائتين. ا. هـ سير أعلام النبلاء 13/ 463 شذرات الذهب 2/ 199 الكامل لابن الأثير 1/ 194.(2/253)
"نَظَرْتُ"* فِيهِ، وَقَدْ جُمِع فِيهِ الرُّخَصَ، مِنْ زَلَلِ الْعُلَمَاءِ وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: مُصَنِّفُ هَذَا زِنْدِيقٌ، فَقَالَ: لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ؟ "فَقُلْتُ: الْأَحَادِيثُ"** عَلَى مَا رُوِيَتْ، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْغِنَاءَ وَالْمُسْكِرَ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلَّا وَلَهُ زَلَّةٌ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.
__________
* في "أ": لطرق.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/254)
الْمَقْصِدُ السَّابِعُ: مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْكِتَابِ فِي التعادل والترجيح
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَاهُمَا، وَفِي الْعَمَلِ بِالتَّرْجِيحِ، وفي شروطه
...
المقصد السابع: في التعادل والترجيح
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَاهُمَا، وَفِي الْعَمَلِ بِالتَّرْجِيحِ، وَفِي شُرُوطِهِ
أَمَّا التَّعَادُلُ: فَهُوَ التَّسَاوِي، وَفِي الشَّرْعِ اسْتِوَاءُ الْأَمَارَتَيْنِ.
وَأَمَّا التَّرْجِيحُ: فَهُوَ إِثْبَاتُ الْفَضْلِ فِي أَحَدِ جَانِبَيِ الْمُتَقَابِلَيْنِ، أَوْ جَعْلُ الشَّيْءِ رَاجِحًا، وَيُقَالُ مَجَازًا لِاعْتِقَادِ الرُّجْحَانِ.
وَفِي الاصطلاح: اقتران الأمارة بما تقوى عَلَى مُعَارِضَتِهَا.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": التَّرْجِيحُ تَقْوِيَةُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَيُعْلَمُ الْأَقْوَى فَيُعْمَلُ بِهِ، وَيُطْرَحُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا طَرَفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ إِلَّا بَعْدَ تَكَامُلِ كَوْنِهِمَا "طَرِيقَيْنِ لَوِ*" انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ تَرْجِيحُ الطَّرَفِ عَلَى مَا لَيْسَ بِطَرَفٍ. انْتَهَى.
وَالْقَصْدُ مِنْهُ تَصْحِيحُ الصَّحِيحِ، وَإِبْطَالُ الْبَاطِلِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": اعلم أن الله لينصب عَلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَدِلَّةً قَاطِعَةً، بَلْ جعلها ظنية، قصدا للتوسيع على المتكلفين، لِئَلَّا يَنْحَصِرُوا فِي مَذْهَبٍ وَاحِدٍ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ، فَقَدْ تَتَعَارَضُ فِي الظَّاهِرِ، بِحَسَبِ جَلَائِهَا وَخَفَائِهَا، فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا، والعمل الأقوى. وَالدَّلِيلُ عَلَى تَعْيِينِ الْأَقْوَى أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ دليلان، وأمارتان، فَإِمَّا أَنْ يُعْمَلَا جَمِيعًا، أَوْ "يُلْغَيَا جَمِيعًا، أَوْ"** يُعْمَلَ بِالْمَرْجُوحِ أَوِ الرَّاجِحِ، وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ.
قَالَ: أَمَّا حَقِيقَتُهُ، يَعْنِي التَّعَارُضَ فَهُوَ تَفَاعُلٌ، مِنَ العُرض، بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَهُوَ النَّاحِيَةُ وَالْجِهَةُ، كَأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَعَارِضَ يَقِفُ بَعْضُهُ فِي عُرض بَعْضٍ، أَيْ نَاحِيَتِهِ وَجِهَتِهِ، فَيَمْنَعُهُ مِنَ النُّفُوذِ إلى حيث وجه.
__________
* في "أ": طرفين أو.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/257)
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَقَابُلُ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ.
وَلِلتَّرْجِيحِ شُرُوطٌ:
الْأَوَّلُ:
التَّسَاوِي فِي الثُّبُوتِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ إِلَّا مِنْ حيث الأدلة.
الثَّانِي:
التَّسَاوِي فِي الْقُوَّةِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ، بَلْ يُقَدَّمُ الْمُتَوَاتِرُ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا نَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
الثَّالِثُ:
اتِّفَاقُهُمَا فِي الْحُكْمِ، مَعَ اتِّحَادِ الْوَقْتِ وَالْمَحَلِّ وَالْجِهَةِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ مَثَلًا فِي وَقْتِ النِّدَاءِ مَعَ الْإِذْنِ بِهِ فِي غَيْرِهِ.
وَحَكَى إمام الحرمين في تعارض الظاهرين من الكتاب والسنة مذاهب:
أحدهما: يُقَدَّمُ الْكِتَابُ لِخَبَرِ مُعَاذٍ1.
وَثَانِيهُمَا: تُقَدَّمُ السُّنَّةُ؛ لِأَنَّهَا الْمُفَسِّرَةُ لِلْكِتَابِ، وَالْمُبَيِّنَةُ لَهُ.
وَثَالِثُهَا: التَّعَارُضُ، وَصَحَّحَهُ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَزَيَّفَ2 الثَّانِيَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي السُّنَّةِ الْمُفَسِّرَةِ لِلْكِتَابِ، بَلِ الْمُعَارِضَةِ لَهُ.
وَأَقْسَامُ التَّعَادُلِ وَالتَّرْجِيحِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَشْرَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، والإجماع، "والقياس"*.
فيقع التعارض بين الكتاب والكتب، وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالْقِيَاسِ؛ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ.
وَيَقَعُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ، وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ.
وَيَقَعُ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ الإجماع والقياس، وبين القياسين؛ فهذه ثلاثة، والجميع عَشَرَةٌ.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": الْأَكْثَرُونَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِالتَّرْجِيحِ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ: عِنْدَ التَّعَارُضِ يَلْزَمُ التَّخْيِيرُ، أَوِ التَّوَقُّفُ، لَنَا وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ:
إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِالتَّرْجِيحِ، فَإِنَّهُمْ قَدَّمُوا خَبَرَ عَائِشَةَ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ3 عَلَى خَبَرِ "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ"4، وَقَدَّمُوا خَبَرَ مَنْ رَوَى مِنْ أَزْوَاجِهِ أَنَّهُ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 تقدم تخريجه في الصفحة 1/ 152.
2 وهنا معناها مجازي لأن أصل الزيف هو في الدراهم. يقال: زافت عليه دراهمه أي رُدَّت لغش فيها. ا. هـ.
3 تقدم تخريجه في 2/ 77.
4 تقدم تخريجه في 2/ 77.(2/258)
يُصْبِحُ جُنُبًا1 عَلَى مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أنه "من أصبح جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ" 2.
وَقَبِلَ عَلِيٌّ خَبَرَ أَبِي بَكْرٍ وَلَمْ يُحَلِّفْهُ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ من غيره إلا بعد تحليفه3، وقيل أَبُو بَكْرٍ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لِمُوَافَقَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ لَهُ4.
وَقَبِلَ عُمَرُ خَبَرَ أَبِي مُوسَى فِي الِاسْتِئْذَانِ لِمُوَافَقَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَهُ5.
الثَّانِي:
أَنَّ الظَّنَّين إِذَا تَعَارَضَا، ثُمَّ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، كَانَ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنًا عُرْفًا، فَيَجِبُ شَرْعًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ" 6.
الثَّالِثُ:
أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْمَلْ بِالرَّاجِحِ، لَزِمَ الْعَمَلُ بِالْمَرْجُوحِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَتَرْجِيحُ الْمَرْجُوحِ عَلَى الرَّاجِحِ مُمْتَنِعٌ فِي بَدَاهَةِ الْعَقْلِ.
وَاحْتَجَّ الْمُنْكِرُ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّرْجِيحَ لَوِ اعْتُبِرَ فِي الْأَمَارَاتِ لَاعْتُبِرَ فِي الْبَيِّنَاتِ وَالْحُكُومَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اعْتُبِرَ لَكَانَتِ الْعِلَّةُ فِي اعْتِبَارِهِ تَرَجِيحَ الْأَظْهَرِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ هُنَا.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 7 وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ" 8 يَقْتَضِي إِلْغَاءَ زِيَادَةِ الظن.
__________
1 أخرجه البيهقي من حديث أم سلمة، كتاب الصيام، باب من أصبح جنبا في شهر رمضان 4/ 215.
وأحمد في مسنده 6/ 306. ابن حبان في صحيحه 3500. وابن أبي شيبة 3/ 81.
2 أخرجه البخاري، كتاب الصيام، باب الصائم يصبح جنبا 1925. ومسلم، كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب 1109. والنسائي في الصيام كما في التحفة 12/ 341. وعبد الرزاق في مصنفه 7398. والبيهقي، كتاب الصيام، باب من أصبح جنبا في شهر رمضان 4/ 214.
ومالك في الموطأ، كتاب الصيام، باب ما جاء في صيام الذي يصبح جنبا في رمضان 1/ 290. وابن حبان في صحيحه 3486. وفي حديث مسلم 1109 قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك والذي عند ابن أبي شيبة: أن أبا هريرة رجع عن فتياه "من أصبح جنبا فلا صوم له ". والذي عند البيهقي: أن أبا هريرة رضي الله عنه رجع عن قوله قبل موته.
3 ذكره الرازي في المحصول 2/ 235.
4 أخرجه أبو داود من حديث قبيصة بن ذؤيب، كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة 2894. ومالك في الموطأ، كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة 2/ 513. وابن ماجه، كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة 2724. والبيهقي، كتاب الفرائض، باب فرض الجدة والجدتين 6/ 234. والنسائي في الفرائض كما في التحفة 8/ 361. والترمذي 2100. وابن حبان في صحيحه 6031. وابن أبي شيبة 11/ 320.
5 أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب الخروج في التجارة 2063. وأبو داود، كتاب الأدب، باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان 5182. ومالك، كتاب الاستئذان، باب الاستئذان 2/ 964. وأحمد في مسنده 4/ 398، 4/ 400. وابن حبان في صحيحه 5807.
6 تقدم تخريجه في 1/ 346.
7 جزء من الآية 2 من سورة الحشر.
8 تقدم تخرجيه في 1/ 148.(2/259)
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ قَطْعِيٌّ، وَالظَّنِّيُّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ. انْتَهَى.
وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ ههنا صَحِيحٌ إِلَّا حَدِيثَ: "مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا" وَحَدِيثَ: "نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ" فَلَا أَصْلَ لَهُمَا، لَكِنَّ مَعْنَاهُمَا صَحِيحٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ مَا يُفِيدُ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ لَمَّا قَالَ لَهُ إِنَّهُ خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ مُكْرَهًا، فَقَالَ: "كَانَ ظَاهِرُكَ عَلَيْنَا" 1، وكما في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا أَقْضِي بِمَا أَسْمَعُ" 2 وَكَمَا فِي أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَذَمِّ مَنْ خَرَجَ عَنْهَا، وَأَمْرِهِ بِلُزُومِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ3.
وَيُجَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُنْكِرُونَ بِجَوَابٍ أَحْسَنَ مِمَّا ذَكَرَهُ، أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ: فَيُقَالُ: نَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِ مَا ذَكَرْتُمْ، فإن ظَهَرَ التَّرْجِيحُ لِإِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، أَوْ لِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، كَانَ الْعَمَلُ عَلَى الرَّاجِحِ.
وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي: فَيُقَالُ: لَا دَلَالَةَ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ فِي الْآيَةِ، بِوَجْهٍ مِنَ الوجوه، وما قوله: "نحن نحكم بالظاهر" "فلا يبقى" * الظَّاهِرُ ظَاهِرًا بَعْدَ وُجُودِ مَا هُوَ أَرْجَحُ منه.
__________
* في "ب": فلم يبق.
__________
1 تقدم تخريجه في 1/ 149.
2 تقدم تخريجه في 1/ 149.
3 أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة 2167. وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه، كتاب الفتن، باب السواد الأعظم 3950. والحاكم بنحوه، كتاب العلم 1/ 116 بلفظ: "لا يجمع الله هذه الأمة -أو قال: أمتي- على الضلالة أبدا واتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذ شذ في النار ". والبغوي في مصابيح السنة، كتاب الإيمان، باب الاعتصام بالكتاب والسنة برقم 136.(2/260)
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: فِي التَّعَارُضِ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ
مدخل
...
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: فِي التَّعَارُضِ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ
أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعَارُضُ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ نَقْلِيَّيْنِ، هَكَذَا حَكَى الِاتِّفَاقَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ".
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": التَّرْجِيحُ لَا يَجُوزُ فِي الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّ شَرْطَ الْيَقِينِيِّ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ، أَوْ لَازِمَةٍ عَنْهَا لُزُومًا ضَرُورِيًّا: إِمَّا بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ وَسَائِطَ شَأْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ عُلُومٍ أَرْبَعَةٍ.(2/260)
الأول: العلم الضروري بأحقية الْمُقَدِّمَاتِ، إِمَّا ابْتِدَاءٌ أَوِ انْتِهَاءٌ.
وَالثَّانِي: الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ "بِصِحَّةِ تَرْكِيبِهَا.
وَالثَّالِثُ: الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِلُزُومِ النَّتِيجَةِ عَنْهَا.
وَالرَّابِعُ: الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ"* بِأَنَّ مَا يَلْزَمُ عَنِ الضَّرُورِيِّ لُزُومًا ضَرُورِيًّا فَهُوَ ضَرُورِيٌّ.
فَهَذِهِ الْعُلُومُ الْأَرْبَعَةُ يَسْتَحِيلُ حُصُولُهَا فِي النَّقِيضَيْنِ مَعًا، وَإِلَّا لَزِمَ الْقَدْحُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ، وَهُوَ سَفْسَطَةٌ، وَإِذَا عُلِمَ ثُبُوتُهَا امْتَنَعَ التَّعَارُضُ.
الثَّانِي:
التَّرْجِيحُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْوِيَةِ، وَالْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ لَا يَقْبَلُ التَّقْوِيَةَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ قَارَنَهُ احْتِمَالُ النَّقِيضِ، وَلَوْ عَلَى أَبْعَدِ الْوُجُوهِ، كَانَ ظَنًّا لَا عِلْمًا، وَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ ذَلِكَ لَمْ يَقْبَلِ التَّقْوِيَةَ. انْتَهَى.
وَقَدْ جَعَلَ أَهْلُ الْمَنْطِقِ شُرُوطَ التناقض في القضايا الشخصية ثمانية: اتحاد الموضوعان وَالْمَحْمُولِ، وَالْإِضَافَةِ، وَالْكُلِّ، وَالْجُزْءِ، فِي الْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ، وَفِي الزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ.
وَزَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ "تَاسِعًا"* وَهُوَ: اتِّحَادُهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} 1 وَرَدَّ هَذَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى وَحْدَةِ الْإِضَافَةِ، أَيْ: تَرَاهُمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ سُكَارَى، مَجَازًا، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخَمْرِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّ الثَّمَانِيَةَ إِلَى ثَلَاثَةٍ: الِاتِّحَادُ فِي الْمَوْضُوعِ، وَالْمَحْمُولِ، وَالزَّمَانِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهَا إِلَى اثْنَيْنِ: الِاتِّحَادُ فِي الْمَوْضُوعِ، والمحمول؛ لاندراج وَحْدَةِ الزَّمَانِ تَحْتَ وَحْدَةِ الْمَحْمُولِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهَا إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِاتِّحَادُ فِي النِّسْبَةِ.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فِيهَا لا يخص الضروريات، وإنما ذكرناها ههنا لِمَزِيدِ الْفَائِدَةِ بِهَا.
وَمِمَّا لَا يَصِحُّ التَّعَارُضُ فِيهِ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَنَاقِضَيْنِ قَطْعِيًّا، وَالْآخَرُ ظنيا؛ لأن الظن ينتفي بالقطع النقيض، وَإِنَّمَا يَتَعَارَضُ الظَّنِّيَّانِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَعَارِضَانِ نَقْلِيَّيْنِ، أَوْ عَقْلِيَّيْنِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا نَقْلِيًّا، وَالْآخَرُ عَقْلِيًّا، وَيَكُونُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا بِمَا سَيَأْتِي.
وَقَدْ مَنَعَ جَمَاعَةٌ وُجُودَ دَلِيلَيْنِ يَنْصِبُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةٍ مُتَكَافِئَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بِحَيْثُ [لَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا مُرَجِّحٌ وَقَالُوا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَرْجَحَ مِنَ الْآخَرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ جَازَ خَفَاؤُهُ عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَا يَجُوزُ تَعَارُضُهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
قَالَ إِلْكِيَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَبِهِ قَالَ الْعَنْبَرِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَنَصَرَهُ وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَحْمَدَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو هَاشِمٍ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ الْبَاقِلَّانِيِّ.
قَالَ إِلْكِيَا وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَقَرَّرَهُ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ فَقَالَ قَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً حديثات صَحِيحَانِ مُتَضَادَّانِ يَنْفِي أَحَدُهُمَا مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَالْإِجْمَالِ وَالتَّفْسِيرِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ انْتَهَى.
وَفَصَّلَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَيَمْتَنِعُ وَبَيْنَ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَيَجُوزُ، وَحَكَى الماوردي والرياني عَنِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ التَّعَارُضَ عَلَى جِهَةِ التَّكَافُؤِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَرْجَحَ مِنَ الْآخَرِ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الظَّوَاهِرِ الْمُتَعَارِضَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمُصِيبَ فِي الْفُرُوعِ وَاحِدٌ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا مَعْنَى لِتَرْجِيحِ ظَاهِرٍ عَلَى ظَاهِرٍ لأن الكل صواب عنده.
واختاره الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَأَتْبَاعُهُ أَنَّ تَعَادُلَ الْأَمَارَتَيْنِ عَلَى حكم في فعلين متابيين جائز واقع وَأَمَّا تَعَارُضُهُمَا مُتَبَايِنَيْنِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ كَالْإِبَاحَةِ والتحريم فإنه جائز عقلاً ممتنع شرعاً.] (2)
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية 2 من سورة الحج.
(2) قلت - منسق النسخة الإلكترونية للمكتبة الشاملة -: ما بين المعكوفين ساقط من نسخة المكتبة الرقمية، وزدته من نسخة إلكترونية أخرى، والله أعلم(2/261)
عمل الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ التَّرْجِيحِ
وَاخْتَلَفُوا عَلَى فَرْضِ وُقُوعِ التَّعَادُلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، مَعَ عَجْزِ الْمُجْتَهِدِ عَنِ التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ وُجُودِ دَلِيلٍ آخَرَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَأَبُو هَاشِمٍ، وَنَقَلَهُ الرَّازِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمَا يَتَسَاقَطَانِ، وَيُطْلَبُ الْحُكْمُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، أَوْ يَرْجِعُ الْمُجْتَهِدُ إِلَى عُمُومٍ، أَوْ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَنَقَلَهُ إِلْكِيَا عَنِ الْقَاضِي، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ، وَأَنْكَرَ ابْنُ حَزْمٍ نِسْبَتَهُ إِلَى الظَّاهِرِيَّةِ، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ بَعْضِ شُيُوخِنَا وَهُوَ خَطَأٌ، بَلِ(2/262)
الْوَاجِبُ الْأَخْذُ بِالزَّائِدِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا جَمِيعًا.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ حَدِيثَيْنِ تَسَاقَطَا، وَلَا يُعْمَلُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ فَيُخَيَّرُ، حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ" عَنِ الْقَاضِي وَنَصَرَهُ.
وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ" وَاسْتَبْعَدَهُ الْهِنْدِيُّ؛ إِذِ الْوَقْفُ فِيهِ لَا إِلَى غَايَةٍ وَأَمَدٍ؛ إِذْ لَا يُرْجَى فِيهِ ظُهُورُ الرُّجْحَانِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَسْأَلَتِنَا، بِخِلَافِ التَّعَادُلِ الذِّهْنِيِّ، فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ الْمُرَجِّحُ.
وَقِيلَ: يَأْخُذُ بِالْأَغْلَظِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ.
وَقِيلَ: يَصِيرُ إِلَى التَّوْزِيعِ، إِنْ أَمْكَنَ تَنْزِيلُ كُلِّ أَمَارَةٍ عَلَى أَمْرٍ، حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ".
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الواجبات فالتخيير، وإن كان في الإباحة والتحريم فَالتَّسَاقُطُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، ذَكَرَهُ فِي "الْمُسْتَصْفَى".
وَقِيلَ: يُقَلِّدُ عَالِمًا أَكْبَرَ مِنْهُ، وَيَصِيرُ كالعامي لعجزه عن الاجتهاد، حكاه إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَالْحُكْمِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَتَجِيءُ فِيهِ الْأَقْوَالُ الْمَشْهُورَةُ، حَكَاهُ إِلْكِيَا الطَّبَرَيُّ، فَهَذِهِ تِسْعَةُ مَذَاهِبَ فِيمَا كَانَ مُتَعَارِضًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ التَّرْجِيحِ.(2/263)
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: فِي وُجُوهِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ فِي الظَّاهِرِ
مدخل
...
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: فِي وُجُوهِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ فِي الظَّاهِرِ
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْمَبْحَثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ.
وَمَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَتَابِعِيهِمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَجَدَهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ وَتَرْكِ الْمَرْجُوحِ، وَقَدْ سَمَّى بَعْضُهُمْ هَذَا الْمُخَالِفَ فِي الْعَمَلِ بِالتَّرْجِيحِ فَقَالَ هُوَ الْبَصْرِيُّ الْمُلَقَّبُ بِـ"جُعَل"* كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي، وَاسْتَبْعَدَ الْإِبْيَارِيُّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اسْتِعْمَالِ التَّرْجِيحِ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتِ "أَهْلِ"** الْإِسْلَامِ.
وَشَرَطَ الْقَاضِي فِي التَّرْجِيحِ شَرْطًا غير ما قد ذكرنا فِي الْمَبْحَثِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالتَّرْجِيحِ الْمَظْنُونِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ امْتِنَاعُ الْعَمَلِ بِشَيْءٍ مِنَ الظُّنُونِ، وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الظُّنُونُ الْمُسْتَقِلَّةُ بأنفسها؛ لانعقاد إجماع الصحابة عليها، وما راء ذلك يبقى على الأصل، والترجيح.
__________
* في "أ": سحعل وهو تحريف.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/263)
عَمَلٌ بِظَنٍّ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ "دَلِيلًا"*.
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ كَمَا انْعَقَدَ عَلَى الْمُسْتَقِلِّ.
وَمِنْ شُرُوطِ التَّرْجِيحِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِهَا أَنْ لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِوَجْهٍ مَقْبُولٍ، فَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ المصير إليه، وَلَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَى التَّرْجِيحِ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": الْعَمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَتَرْكِ الآخر. انتهى.
وبه قال الفقهاء جميعا.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/264)
أنواع الترجيح
الترجيح باعتبار الإسناد
...
أَنْوَاعُ التَّرْجِيحِ:
وَاعْلَمْ: أَنَّ التَّرْجِيحَ قَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَتْنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَدْلُولِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ.
وَالنَّوْعُ الْخَامِسُ: التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَقْيِسَةِ.
وَالنَّوْعُ السَّادِسُ: التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْحُدُودِ السمعية.
النوع الأول: الترجيح باعتبار الإسناد 1
الصورة الأولى:
الترجيح بكثرة الرواة، فيرجح ما رواته أكثر على ما رُوَاتِهِ أَقَلَّ، لِقُوَّةِ الظَّنِّ بِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَشَبَّهَهُ بِالشَّهَادَاتِ، وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيُّ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الرُّجُوعُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ قُطِعَ بِاتِّبَاعِ الْأَكْثَرِ، فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْإِلْغَاءِ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ تَعَارَضَ لَهُمْ خَبَرَانِ هَذِهِ صِفَتُهُمَا لَمْ يُعَطِّلُوا الْوَاقِعَةَ، بَلْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ هَذَا.
قَالَ: وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ، وَخَبَرَانِ مُتَعَارِضَانِ، كَثُرَتْ رُوَاةُ أَحَدِهِمَا، فَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى ما يؤدي إليه اجتهاد الناظر.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 150.(2/264)
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ رَابِعٌ صَارَ "إِلَيْهِ"* الْقَاضِي، وَالْغَزَالِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَا غَلَبَ على ظَنُّ الْمُجْتَهِدِ، فَرُبَّ عدلٍ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ عَدْلَيْنِ، لِشِدَّةِ يَقَظَتِهِ وَضَبْطِهِ. انْتَهَى.
وَهَذَا صَحِيحٌ، لَكِنَّ الْمَفْرُوضَ فِي التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ، وَهُوَ كَوْنُ الْأَكْثَرِ مِنَ الرُّوَاةِ مِثْلُ الْأَقَلِّ فِي وَصْفِ الْعَدَالَةِ وَنَحْوِهَا.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هو مُرَجَّحٌ مِنْ أَقْوَى الْمُرَجِّحَاتِ، فَإِنَّ الظَّنَّ يَتَأَكَّدُ عِنْدَ تَرَادُفِ الرِّوَايَاتِ، وَلِهَذَا يَقْوَى الظَّنُّ إِلَى أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ بِهِ مُتَوَاتِرًا. انْتَهَى.
أَمَّا لَوْ تَعَارَضَتِ الْكَثْرَةُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْعَدَالَةُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ1:
أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحُ الْكَثْرَةِ.
وَثَانِيهُمَا: تَرْجِيحُ الْعَدَالَةِ، فَإِنَّهُ رُبَّ عَدْلٍ يَعْدِلُ أَلْفَ رَجُلٍ فِي الثِّقَةِ، كَمَا قِيلَ: إِنَّ شُعْبَةَ بْنَ الْحَجَّاجِ كَانَ يَعْدِلُ "مِائَتَيْنِ"**، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُقَدِّمُونَ رِوَايَةَ الصِّدِّيقِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي:
أَنَّهُ يُرَجَّحُ مَا كَانَتِ الْوَسَائِطُ فِيهِ قَلِيلَةً، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ إِسْنَادُهُ عَالِيًا؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ وَالْغَلَطَ فِيمَا كَانَتْ وَسَائِطُهُ أَقَلَّ، دُونَ مَا كَانَتْ وَسَائِطُهُ أَكْثَرَ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ الْكَبِيرِ عَلَى رِوَايَةِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الضَّبْطِ، إِلَّا أَنْ يعلم أن الصغير مثله في الضبط، وأكثر ضَبْطًا مِنْهُ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: "أَنَّهَا"*** تُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ كَانَ فَقِيهًا عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ:
"أَنَّهَا"**** تُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْمَعْنَى مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
النَّوْعُ السَّادِسُ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَوْثَقَ مِنَ الْآخَرِ.
النَّوْعُ السَّابِعُ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَحْفَظَ مِنَ الْآخَرِ.
النَّوْعُ الثَّامِنُ:
أَنْ يَكُونَ أحدهما من الخلفاء الأربعة دون الآخر.
__________
* في "أ": فيه.
** في "أ": مائة.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": أنه.
__________
1 وقد أسند صاحب البحر هذين القولين لإلكيا الطبري ا. هـ انظر البحر 6/ 151.(2/265)
النَّوْعُ التَّاسِعُ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُتَّبِعًا وَالْآخَرُ مُبْتَدِعًا.
النَّوْعُ الْعَاشِرُ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْقِصَّةِ.
النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُبَاشِرًا لِمَا رَوَاهُ دُونَ الْآخَرِ1.
النَّوْعُ الثَّانِيَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كثير المخالطة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون الآخرة؛ لأن كثرة الْمُخَالَطَةَ تَقْتَضِي زِيَادَةً فِي الِاطِّلَاعِ.
النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مُلَازَمَةً لِلْمُحَدِّثِينَ مِنَ الْآخَرِ.
النَّوْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ الْآخَرِ.
النَّوْعُ الْخَامِسَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ بِالتَّزْكِيَةِ، وَالْآخَرُ بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ.
النَّوْعُ السَّادِسَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ بِالْمُمَارَسَةِ وَالِاخْتِبَارِ، وَالْآخَرُ بِمُجَرَّدِ التَّزْكِيَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ.
النَّوْعُ السَّابِعَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ وَقَعَ الْحُكْمُ بِعَدَالَتِهِ دُونَ الْآخَرِ.
النَّوْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ عُدِّلَ مَعَ ذِكْرِ أَسْبَابِ التَّعْدِيلِ، وَالْآخَرُ عُدِّلَ بِدُونِهَا.
النَّوْعُ التَّاسِعَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ الْمُزَكُّونَ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْمُزَكِّينَ لِلْآخَرِ.
النَّوْعُ الْعِشْرُونَ:
أَنْ يَكُونَ الْمُزَكُّونَ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ بَحْثًا عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ مِنَ الْمُزَكِّينَ لِلْآخَرِ.
النَّوْعُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ:
أَنْ يَكُونَ المزكون لأحدهما أعلم من المزكين للآخر؛ لأنه مَزِيدَ الْعِلْمِ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْإِصَابَةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ حَفِظَ اللفظ، فهو أرجح ممن روى بالمعنى، أَوِ اعْتَمَدَ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ رِوَايَةَ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى الْكِتَابَةِ أَرْجَحُ مِنْ رِوَايَةِ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى الْحِفْظِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَسْرَعَ حِفْظًا مِنَ الْآخَرِ، وَأَبْطَأَ نِسْيَانًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ أَرْجَحُ، أَمَّا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْرَعَ حِفْظًا، وَأَسْرَعَ نِسْيَانًا، وَالْآخَرُ أَبْطَأَ حِفْظًا، وَأَبْطَأَ نِسْيَانًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآخَرَ أَرْجَحُ مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يُوثَقُ بِمَا حَفِظَهُ وَرَوَاهُ وُثُوقًا زَائِدًا عَلَى مَا رَوَاهُ الْأَوَّلُ2.
__________
1 مثاله: ترجيح خبر أبي رافع في تزويج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميمونة وهما حلالان على خبر ابن عباس لأن أبا رافع كان السفير بينهما. ا. هـ البحر المحيط 6/ 154.
2 حكى هذا القول إمام الحرمين عن إجماع أهل الحديث ومثله برواية عبيد الله بن عمر بن عبد العزيز على رواية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز؛ لأن الشافعي قال بينهما فضل ما بين الدراهم والدنانير والتفضيل لعبيد الله. ا. هـ البحر المحيط 6/ 156.(2/266)
النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ يوافق الحافظ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ يَتَفَرَّدُ عَنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَاتِهِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ دَامَ حَفِظُهُ، وَعَقْلُهُ وَلَمْ يَخْتَلِطْ عَلَى مَنِ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَلَمْ يُعرف هَلْ رَوَى الْخَبَرَ حَالَ سَلَامَتِهِ أَوْ حَالَ اخْتِلَاطِهِ.
النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ كَانَ أَشْهَرَ بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ مِنَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ "يَمْنَعُهُ"*مِنَ الْكَذِبِ.
النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ كَانَ مَشْهُورَ النَّسَبِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا؛ لِأَنَّ احْتِرَازَ الْمَشْهُورِ عَنِ الْكَذِبِ أَكْثَرُ.
النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْرُوفَ الِاسْمِ، وَلَمْ يَلْتَبِسِ اسْمُهُ بَاسِمِ أَحَدٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ عَلَى مَنْ يَلْتَبِسُ اسْمُهُ بَاسِمِ ضَعِيفٍ.
النَّوْعُ التاسع والعشرون:
أنها تقدم رِوَايَةُ مَنْ "تَحَمَّلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ تَحَمَّلَ قَبْلَ الْبُلُوغِ.
النَّوْعُ الثَّلَاثُونَ:
أَنَّهَا تقدم رواية من"**أخر إِسْلَامُهُ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا رَوَاهُ مَنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ مَنْسُوخًا، وهكذا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانَ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَقَالَ الْآمِدِيُّ بِعَكْسِ ذَلِكَ.
النَّوْعُ الْحَادِي والثلاثون:
أنها تقدم رِوَايَةُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الذُّكُورَ أَقْوَى فَهْمًا، وَأَثْبَتُ حِفْظًا، وَقِيلَ: لَا تُقَدَّمُ.
النَّوْعُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ تَحَرُّزَهُ عَنِ الْكَذِبِ أَكْثَرُ، وَقِيلَ: لَا تُقَدَّمُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ:
أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ ذَكَرَ سَبَبَ الْحَدِيثِ عَلَى مَنْ لَمْ يَذْكُرْ سَبَبَهُ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ:
أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَلَيْهِ على من اختلفوا عليه.
النوع الخامس والثلاثين:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَحْسَنَ اسْتِيفَاءً لِلْحَدِيثِ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّهَا تُرَجَّحُ رِوَايَتُهُ.
النَّوْعُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ:
أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ سَمِعَ شِفَاهًا عَلَى مَنْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.
النَّوْعُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِلَفْظِ حَدَّثَنَا وأخبرنا فإنه أرجح من لفظ أنبأنا.
__________
* ي "أ": يمنع.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/267)
وَنَحْوِهِ، قِيلَ: وَيُرَجَّحُ لَفْظُ حَدَّثَنَا عَلَى لَفْظِ أَخْبَرَنَا.
النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ:
أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ سَمِعَ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ سَمِعَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ.
النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ:
أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى بِالسَّمَاعِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى بِالْإِجَازَةِ.
النَّوْعُ الْأَرْبَعُونَ:
أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى الْمُسْنَدَ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى الْمُرْسَلَ.
النَّوْعُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ:
أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْخَارِجَةِ عَنْهُمَا.
النَّوْعُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ:
أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ أُنْكِرَ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ وُجُوهَ التَّرْجِيحِ كَثِيرَةٌ، وَحَاصِلُهَا: أَنَّ مَا كَانَ أَكْثَرَ إِفَادَةً لِلظَّنِّ فَهُوَ رَاجِحٌ، فَإِنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمُرَجِّحَاتِ، فَعَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يُرَجِّحَ بَيْنَ مَا تَعَارَضَ مِنْهَا.(2/268)
التَّرْجِيحُ بِاعْتِبَارِ الْمَتْنِ:
وَأَمَّا الْمُرَجِّحَاتُ بِاعْتِبَارِ الْمَتْنِ فَهِيَ أَنْوَاعٌ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ:
أَنْ يُقَدَّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ، كَذَا قِيلَ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ بِمَعْنَى الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا تَنَاوَلَهُ، وَالْعَمَلُ بِالْعَامِّ فِيمَا بَقِيَ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ، بَلْ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّرْجِيحِ.
النَّوْعُ الثَّانِي:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَفْصَحُ عَلَى الْفَصِيحِ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ بِأَنَّهُ لفظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَى.
وَقِيلَ: لَا يُرَجَّحُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ البليغ يتكلم بالأفصح والفصيح.
النوع الثالث:
أن يُقَدَّمُ الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ عَلَى الْعَامِّ الَّذِي قَدْ خُصِّصَ، كَذَا نَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ، وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ دُخُولَ التَّخْصِيصِ يُضْعِفُ اللَّفْظَ، وَيَصِيرُ بِهِ مَجَازًا، قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَدْ خُصِّصَ قَدْ أُزِيلَ عَنْ تَمَامِ مُسَمَّاهُ.
وَاعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: بِأَنَّ الْمُخَصَّصَ رَاجِحٌ، مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ خَاصًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَامِّ، الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ، "وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ تَقْدِيمَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ عَلَى الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ"*؛ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ قَدْ قَلَّتْ أَفْرَادُهُ، حَتَّى قارب النص؛ إذ كان عَامٍّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَصًّا فِي أَقَلِّ مُتَنَاوَلَاتِهِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يَرِدْ عَلَى سَبَبٍ عَلَى الْعَامِّ الوارد على سبب، كذا قال
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/268)
إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ"، وَإِلْكِيَا، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ"، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ" وَالرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ". قَالُوا: لِأَنَّ الْوَارِدَ عَلَى غَيْرِ سَبَبٍ مُتَّفَقٌ عَلَى عُمُومِهِ، وَالْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ مُخْتَلَفٌ فِي عُمُومِهِ.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا التَّرْجِيحَ إِنَّمَا يَتَأَتَّى بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ الْأَفْرَادِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ الْعَامَّيْنِ فَلَا. انْتَهَى1.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي عُمُومِ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ هُوَ كَائِنٌ فِي سَائِرِ الْأَفْرَادِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ:
أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْحَقِيقَةُ عَلَى الْمَجَازِ، لِتَبَادُرِهَا إِلَى الذِّهْنِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَغْلِبِ الْمَجَازُ.
النَّوْعُ السَّادِسُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْمَجَازُ الَّذِي هُوَ أَشْبَهُ بِالْحَقِيقَةِ عَلَى الْمَجَازِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
النَّوْعُ السَّابِعُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً، أَوْ عُرْفِيَّةً عَلَى مَا كَانَ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وهذا ظاهر في اللفظ الذي "صَارَ"* شَرْعِيًّا، لَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا صَارَ شَرْعِيًّا، لَا فِيمَا لَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ شَرْعِيًّا، فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ هَذَا.
النَّوْعُ الثَّامِنُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْإِضْمَارِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى مَا هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ.
النَّوْعُ التَّاسِعُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الدَّالُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا كَانَ دَالًّا عَلَى الْمُرَادِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ.
النَّوْعُ الْعَاشِرُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا دَلَّ عَلَى الْمُرَادِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ.
النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ فِيهِ الْإِيمَاءُ إِلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمُعَلَّلِ أَوْضَحُ مِنْ دَلَالَةِ مَا لَمْ يَكُنْ مُعَلَّلًا.
النَّوْعُ الثَّانِيَ عَشَرَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا ذُكِرَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى مَا ذُكِرَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ مُتَأَخِّرَةً، وَقِيلَ بالعكس.
النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا ذُكِرَ فِيهِ مُعَارَضَةٌ عَلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ، كَقَوْلِهِ: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا" 2 عَلَى الدَّالِّ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّيَارَةِ مُطْلَقًا.
النَّوْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْمَقْرُونُ بِالتَّهْدِيدِ عَلَى مَا لم يقرن به.
__________
* في "أ": قد صار.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 165.
2 تقدم تخريجه في 2/ 84.(2/269)
النوع الخامس عشر:
أنه يُقَدَّمَ الْمَقْرُونُ بِالتَّأْكِيدِ عَلَى مَا لَمْ يُقْرَنْ بِهِ.
النَّوْعُ السَّادِسَ عَشَرَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مَقْصُودًا بِهِ الْبَيَانُ عَلَى مَا لَمْ يقصد به.
النوع السابع عشر:
أنه يُقَدَّمَ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَقِيلَ بالعكس، "قيل"*: لَا يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
النَّوْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ النَّهْيُ عَلَى الْأَمْرِ.
النَّوْعُ التَّاسِعَ عَشَرَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ النَّهْيُ عَلَى الْإِبَاحَةِ.
النَّوْعُ الْعِشْرُونَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَمْرُ عَلَى الْإِبَاحَةِ.
النَّوْعُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَقَلُّ احْتِمَالًا عَلَى الْأَكْثَرِ احْتِمَالًا.
النَّوْعُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْمَجَازُ عَلَى الْمُشْتَرَكِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَشْهَرُ فِي الشَّرْعِ، أَوِ اللُّغَةِ، أَوِ الْعُرْفِ، عَلَى غَيْرِ الْأَشْهَرِ فِيهَا.
النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا يَدُلُّ بِالِاقْتِضَاءِ عَلَى مَا يَدُلُّ بِالْإِشَارَةِ، وَعَلَى ما يدل بالإيماء على مَا يَدُلُّ بِالْمَفْهُومِ، مُوَافَقَةً وَمُخَالَفَةً.
النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا يَتَضَمَّنُ تَخْصِيصَ الْعَامِّ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُ تَأْوِيلَ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ.
النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُقَيَّدُ عَلَى الْمُطْلَقِ.
النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا "كَانَتْ"** صِيغَةُ عُمُومِهِ بِالشَّرْطِ الصَّرِيحِ، عَلَى مَا كَانَ صِيغَةُ عُمُومِهِ بِكَوْنِهِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَوْ جَمْعًا مُعَرَّفًا أَوْ مُضَافًا وَنَحْوَهُمَا.
النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْجَمْعُ الْمُحَلَّى وَالِاسْمُ الْمَوْصُولُ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْهُودِ، فَتَصِيرُ دَلَالَتُهُ أَضْعَفَ، عَلَى خِلَافٍ مَعْرُوفٍ فِي هَذَا، وَفِي الَّذِي قبله.
__________
* في "أ": ولا.
** في "أ": كان.(2/270)
الترجيح باعتبار المد لول
وَأَمَّا الْمُرَجِّحَاتُ بِاعْتِبَارِ الْمَدْلُولِ فَهِيَ أَنْوَاعٌ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُقَرِّرًا لِحُكْمِ الأصل والبراءة على ما كان ناقلان وقيل(2/270)
بِالْعَكْسِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ1.
وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
النَّوْعُ الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إِلَى الِاحْتِيَاطِ، فَإِنَّهُ أَرْجَحُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُثْبَتُ عَلَى الْمَنْفِيِّ، نَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ مَعَ الْمُثْبِتِ زِيَادَةَ عِلْمٍ، وَقِيلَ: يُقَدَّمُ النَّافِي، وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَاخْتَارَهُ فِي "الْمُسْتَصْفَى".
النَّوْعُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا يُفِيدُ سُقُوطَ الْحَدِّ عَلَى مَا يُفِيدُ لُزُومَهُ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ حُكْمُهُ أَخَفَّ عَلَى مَا كَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ.
النَّوْعُ السَّادِسُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى عَلَى مَا تَعُمُّ بِهِ.
النَّوْعُ السَّابِعُ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوجِبًا لِحُكْمَيْنِ، وَالْآخَرُ مُوجِبًا لِحُكْمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُوجِبُ لِحُكْمَيْنِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةٍ لَمْ يَنْقُلْهَا الْآخَرُ.
النَّوْعُ الثَّامِنُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ عَلَى الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَضْعِيَّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفِيُّ، مِنْ أَهْلِيَّةِ الْمُكَلَّفِ.
وَقِيلَ بِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفِيَّ أَكْثَرُ مَثُوبَةً، وَهِيَ مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ.
النَّوْعُ التَّاسِعُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا فِيهِ تَأْسِيسٌ عَلَى مَا فِيهِ تَأْكِيدٌ.
وَاعْلَمْ: أن المرجع فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّرْجِيحَاتِ هُوَ نَظَرُ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقُ، فَيُقَدِّمُ مَا كَانَ عِنْدَهُ أَرْجَحَ عَلَى غيره إذا تعارضت.
__________
1 عبارة البحر المحيط: أن يكون أحد الخبرين مفيدًا لحكم الأصل والبراءة والثاني ناقلا فالجمهور على أنه يجب ترجيح الناقل 6/ 169.(2/271)
الترجيح بحسب الأمور الخارجة:
وأما المرجحات بحسب الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ فَهِيَ أَنْوَاعٌ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا عَضَّدَهُ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى مَا لَمْ يُعَضِّدْهُ دَلِيلٌ آخَرُ1.
النَّوْعُ الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَوْلًا وَالْآخَرُ فِعْلًا، فَيُقَدَّمُ الْقَوْلُ؛ لِأَنَّ لَهُ صِيغَةً، وَالْفِعْلُ لَا صِيغَةَ لَهُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالْحُكْمِ، عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، كضرب
__________
1 مثاله: تقديم "الحج والعمرة فريضتان" على رواية "العمرة تطوع" لموافقته لحكم القرآن من كتاب الله تعالى وهو قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . ا. هـ البحر المحيط 6/ 175.(2/271)
الأمثال ونحوها، فإنها ترجح العبارة عَلَى الْإِشَارَةِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا عمل أَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ أَوْلَى بِإِصَابَةِ الْحَقِّ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ، وَلَا فِي عَمَلِهِمْ، فَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ مَعَ الْأَقَلِّ، وَلِهَذَا مَدَحَ اللَّهُ الْقِلَّةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُوَافِقُ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
النَّوْعُ السَّادِسُ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا تَوَارَثَهُ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
النَّوْعُ السَّابِعُ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا1.
النَّوْعُ الثَّامِنُ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُوَافِقُ.
النَّوْعُ التَّاسِعُ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، دُونَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَشْبَهُ.
النَّوْعُ الْعَاشِرُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا فَسَّرَهُ الرَّاوِي لَهُ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ مُرَجِّحَاتٍ فِي هَذَا الْقِسْمِ زَائِدَةً عَلَى مَا ذكرناه ههنا، وقد ذكرناه فِي الْأَنْوَاعِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهَا بِهَا أَلْصَقُ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْمُرَجِّحَاتِ الْخَارِجَةِ إِذَا تَعَارَضَ عُمُومَانِ، بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} 2 مع قوله: {أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 3 فَإِنَّ الْأُولَى خَاصَّةٌ فِي الْأُخْتَيْنِ، عَامَّةٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْمِلْكِ، أَوْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَالثَّانِيَةَ عَامَّةٌ فِي الْأُخْتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، خَاصَّةٌ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من نام عن صلاة ونسيها فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا" 4 مَعَ نَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ5، فَإِنَّ الْأَوَّلَ عَامٌّ فِي الأوقات، خاص في الصلاة المقضية، وَالثَّانِيَ عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ، خَاصٌّ فِي الْأَوْقَاتِ، فإن علم المتقدم من العموميين، والمتأخر منهما، كان المتأخر
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 179.
2 جزء من الآية 23 من سورة النساء.
3 جزء من الآية 3 من سورة النساء.
4 تقدم تخريجه في 2/ 75.
5 أخرجه أبو داود من حديث عقبة بن عامر، كتاب الجنائز، باب الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها 3192. والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهة الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس وعند غروبها 1030. وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الأوقات التي لا يصلي فيها 1519. والدارمي، كتاب الصلاة، باب أي ساعات تكره فيهن الصلاة 1/ 333. والبيهقي، كتاب الصلاة، باب النهى عن الصلاة في هاتين الساعتين 2/ 454. وأحمد في مسنده 4/ 152. وأبو يعلى في مسنده 1756.(2/272)
نَاسِخًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ يَنْسَخُ الْخَاصَّ الْمُتَقَدِّمَ.
وَأَمَّا مَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِالتَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا مِنَ الْمُتَأَخِّرِ وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى التَّرْجِيحِ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، بِالْمُرَجِّحَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَإِذَا اسْتَوَيَا إِسْنَادًا وَمَتْنًا، وَدَلَالَةً رَجَعَ إِلَى المرجحات الخارجية.
فإن لَمْ يُوجَدْ مُرَجِّحٌ خَارِجِيٌّ وَتَعَارَضَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَعَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ: هَلْ يُخَيَّرُ الْمُجْتَهِدُ في العمل بِأَحَدِهِمَا، أَوْ يَطْرَحُهُمَا، وَيَرْجِعُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ إِنْ وُجِدَ، أَوْ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ؟.
وَنَقَلَ سليم الرزي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الْوَقْتِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْأُصُولِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْوَقْفُ، إِلَّا بِتَرْجِيحٍ يَقُومُ عَلَى أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخَرِ، وَكَأَنَّ مُرَادَهُمُ التَّرْجِيحُ الْعَامُّ، الَّذِي لَا يَخُصُّ مَدْلُولَ الْعُمُومِ، كَالتَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، وَسَائِرِ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَدْلُولِ الْعُمُومِ، ثُمَّ حُكي عَنِ الْفَاضِلِ أَبِي سَعِيدٍ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى1 أَنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِمَا، فَإِنْ دَخَلَ أَحَدَهُمَا تَخْصِيصٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّخْصِيصِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَقْصُودًا بِالْعُمُومِ رُجِّحَ عَلَى مَا كَانَ عُمُومُهُ اتِّفَاقِيًّا.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَهَذَا هو اللائق بتصرف الشافعي في أحادث النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَمَّا دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ فِي صَلَاةِ الجنازة ضعفت دلالتها، فتقدم عليه أَحَادِيثُ الْمَقْضِيَّةِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ نَقُولُ دلالة: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ مُطْلَقًا فِي النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ أَوْلَى مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ما سبقت لبيان حكم الجمع.
__________
1 هو ابن منصور النيسابوري، الشافعي، أبو سعيد، محيي الدين، ولد سنة ست وسبعين وأربعمائه هـ، وتوفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة هـ، من آثاره "المحيط في شرح الوسيط" ا. هـ معجم المؤلفين 12/ 112. سير أعلام النبلاء 20/ 312 الأعلام 7/ 137.(2/273)
الترجيح بين الأقسية:
وَأَمَّا التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَقْيِسَةِ: فَلَا خِلَافَ "أَنَّهُ يكون"* بين ما هو معلوم منها.
__________
* في "أ": لا يكون.(2/273)
وَأَمَّا مَا كَانَ مَظْنُونًا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهَا، وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَقْيِسَةِ الْمَظْنُونَةِ تَرْجِيحٌ، وَإِنَّمَا الْمَظْنُونُ عَلَى حَسَبِ الِاتِّفَاقِ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: "وَبِنَاءً"* عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَجَالِ الْمَظْنُونِ مَطْلُوبٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَطْلُوبٌ فَلَا طَرِيقَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا الْمَظْنُونُ عَلَى حَسَبِ الْوِفَاقِ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذِهِ هَفْوَةٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ أَلْزَمَهُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لِلِاجْتِهَادِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ1: وَالْحَقُّ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يُرِدْ مَا حَكَاهُ عَنْهُ، وَقَدْ عَقَدَ فُصُولًا فِي "التَّقْرِيبِ" فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْعِلَلِ عَلَى بَعْضٍ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ يَعْنِي إِنْكَارَ التَّرْجِيحِ فِيهَا، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ نَوْعٌ عَلَى نَوْعٍ، عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَدَّ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا "يَظُنُّهُ"** الْمُجْتَهِدُ رَاجِحًا، وَالظُّنُونُ تَخْتَلِفُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَّفِقُ فِي آحَادِ النَّوْعِ الْقَوِيِّ شَيْءٌ يَتَأَخَّرُ عَنِ النَّوْعِ الضَّعِيفِ. انْتَهَى.
وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الأقيسة يكون على نوع:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ:
بِحَسَبِ الْعِلَّةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي:
بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ:
بِحَسَبِ دَلِيلِ الْحُكْمِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ:
بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ.
النَّوْعُ السَّادِسُ:
بِحَسَبِ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ.
النَّوْعُ السَّابِعُ:
بِحَسَبِ الْفَرْعِ.
1- أَمَّا التَّرْجِيحُ بَيْنَهَا بِحَسَبِ الْعِلَّةِ، فَهُوَ أَقْسَامٌ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الْمُعَلَّلُ بِالْوَصْفِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْحِكْمَةِ عَلَى الْقِيَاسِ الْمُعَلَّلِ بِنَفْسِ "الْحِكْمَةِ"***، لِلْإِجْمَاعِ بَيْنَ أَهْلِ الْقِيَاسِ عَلَى صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ، فَيُرَجَّحُ التَّعْلِيلُ بِالسَّفَرِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِنَفْسِ الْمَشَقَّةِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
"أنه يرجح"**** التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ؛ لِأَنَّ العدم لا
__________
* في "أ": بناه.
** في "أ": يظن.
*** في "أ": العلة.
**** في "ب": ترجيح.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 180.(2/274)
يَكُونُ عِلَّةً، إِلَّا إِذَا عُلِمَ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْحِكْمَةِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ حِكْمَةً بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ عَلَى الْمُعَلَّلِ حِكْمَةً بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْعَدَمِيِّ يَسْتَدْعِي كَوْنَهُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَكُونُ عِلَّةً إِلَّا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْمُنَاسِبِ أَوْلَى مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْأَمَارَةِ، هَكَذَا قَالَ صَاحِبُ "الْمِنْهَاجِ" وَاخْتَارَهُ.
وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فِي هَذَا احْتِمَالَيْنِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى غَيْرِهِ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ:
أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ بِالْمُتَعَدِّيَةِ عَلَى الْمُعَلَّلِ بِالْقَاصِرَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وابن برهان.
قام إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فَإِنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْقَاصِرَةُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَضِدَةٌ بِالنَّصِّ، وَرَجَّحَهُ فِي "الْمُسْتَصْفَى"1.
الْقِسْمُ السَّادِسُ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُتَعَدِّيَةُ الَّتِي فُرُوعُهَا أَكْثَرُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ الَّتِي فُرُوعُهَا أَقَلُّ، لكثرة الفائدة. قال الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، "وَزَيَّفَهُ"* صَاحِبُ "الْمَنْخُولِ"، وَكَلَامُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ بِذَلِكَ.
الْقِسْمُ السَّابِعُ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَلُ الْبَسِيطَةُ عَلَى العلة الْمُرَكَّبَةِ، كَذَا قَالَ الْجَدَلِيُّونَ، وَأَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ؛ إِذْ يُحْتَمَلُ فِي الْعِلَلِ الْمُرَكَّبَةِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهَا هِيَ بَعْضَ الْأَجْزَاءِ لَا كُلَّهَا، وَأَيْضًا الْبَسِيطَةُ يَكْثُرُ فُرُوعُهَا وَفَوَائِدُهَا، وَيَقِلُّ فِيهَا الِاجْتِهَادُ، فَيَقِلُّ الْغَلَطُ، عَلَى مَا فِي الْمُرَكَّبَةِ مِنَ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْمُرَكَّبَةُ أَرْجَحُ، قَالَ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ": وَلَعَلَّهُ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ.
الْقِسْمُ الثَّامِنُ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ عَلَى الْعِلَّةِ الْكَثِيرَةِ الْأَوْصَافِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ الزَّائِدَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ؛ وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْأَوْصَافِ يقل فيها التفريع.
قيل: وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى هَذَا الْمُرَجِّحِ بَيْنَ الْمُحَقِّقِينَ من الأصوليين، إذا كانت القليلة
__________
* في "أ": ورفعه.
__________
1 انظر الأقسام مفصلة في المستصفى 2/ 402-403.(2/275)
الْأَوْصَافِ دَاخِلَةً تَحْتَ الْكَثِيرَةِ الْأَوْصَافِ، فَإِنْ كَانَتْ غير داخلة، مثل أن تكون أَوْصَافُ إِحْدَاهُمَا غَيْرَ أَوْصَافِ الْأُخْرَى، فَاخْتَلَفُوا فِي ذلك، فقيل: تُرَجَّحُ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ، وَقِيلَ: "تُرَجَّحُ"* الْكَثِيرَةُ الْأَوْصَافِ.
الْقِسْمُ التَّاسِعُ:
أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ عَلَى العدمي، وكذا الوصف المشتمل على وجودين عَلَى الْوَصْفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى وُجُودِيٍّ وَعَدَمِيٍّ، كَذَا فِي "الْمَحْصُولِ".
الْقِسْمُ الْعَاشِرُ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ "الْمَحْسُوسَةُ"** عَلَى الْحُكْمِيَّةِ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ.
الْقِسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الَّتِي مُقَدِّمَاتُهَا قَلِيلَةٌ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي مُقَدِّمَاتُهَا كَثِيرَةٌ؛ لِأَنَّ صِدْقَ الْأُولَى وَغَلَبَةَ الظَّنِّ بِهَا أَكْثَرُ مِنَ الْأُخْرَى. وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ.
الْقِسْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ:
"أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْعِلَّةُ الْمُطَّرِدَةُ الْمُنْعَكِسَةُ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي تَطَّرِدُ وَلَا تَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّ الْأُولَى مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهَا بِخِلَافِ الْأُخْرَى1.
الْقِسْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ ***:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ عَلَى الْعِلَّةِ
الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى صِفَةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ.
الْقِسْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُكْمٍ وَحُكْمٍ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْأُولَى، بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ فَفِيهَا خِلَافٌ.
وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ: إِنَّ عِلَّةَ التَّسْوِيَةِ أَوْلَى، لكثرة الشبه فيها.
2- وَأَمَّا التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:
أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْعِلَّةُ الْمَعْلُومَةُ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهَا بَدِيهِيًّا أَوْ ضَرُورِيًّا عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي ثَبَتَ وُجُودُهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، كَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْرِي التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْعِلَّتَيْنِ الْمَعْلُومَتَيْنِ إِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَعْلُومَةً "بِالْبَدِيهَةِ"****، وَالْأُخْرَى بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الَّتِي وُجُودُهَا بَدِيهِيٌّ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي "وجودها حسي".
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": المحبوسة.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": بالبداهة.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 189.(2/276)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمَعْلُومُ وُجُودُهَا عَلَى الْعِلَّةِ الْمَظْنُونِ وَجُودُهَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا كَانَ دَلِيلُ وُجُودِهِ"* أَجْلَى وَأَظْهَرَ عِنْدَ الْعَقْلِ فهو أرجح مما لم يكن كذلك.
3- وَأَمَّا التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ، فَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ 1:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الَّتِي ثَبَتَ عِلِّيَّتُهَا بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي لَمْ يَثْبُتْ عِلِّيَّتُهَا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ"، وَلَا وَجْهَ لِخِلَافِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ العلة التي ثبتت عليتها بدليل ظاهر على العلة التي ثبتت عِلِّيَّتُهَا بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَصٍّ وَلَا ظَاهِرٍ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ التي ثبتت عليتها بالمناسبة على العلة التي ثبتت عليتها بالشبه والدوران، لقوة لمناسبة وَاسْتِقْلَالِهَا بِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ. وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الثَّابِتَةُ عِلِّيَّتُهَا بِالْمُنَاسَبَةِ عَلَى الْعِلَّةِ الثَّابِتَةِ عِلِّيَّتُهَا بِالسَّبْرِ، وقيل: بالعكس، وَلَيْسَ هَذَا الْخِلَافُ فِي السَّبْرِ الْمَقْطُوعِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُتَعَيِّنٌ، لِوُجُوبِ تَقْدِيمِ الْمَقْطُوعِ عَلَى الْمَظْنُونِ، بَلِ الْخِلَافُ فِي السَّبْرِ الْمَظْنُونِ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ:
"أَنَّهُ يُرَجَّحُ مَا كَانَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ وَاقِعًا فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا كَانَ وَاقِعًا فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ.
الْقِسْمُ السَّادِسُ **:
أَنَّهُ يُرَجَّحُ مَا كَانَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ ثَابِتًا بِالضَّرُورَةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى الضَّرُورَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
الْقِسْمُ السَّابِعُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ مُعْتَبَرًا نَوْعُهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهَا مُعْتَبَرًا نَوْعُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَعَلَى مَا كَانَ مِنْهَا مُعْتَبَرًا جِنْسُهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ، وعلى ما كان منها مغيرا جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، ثُمَّ يُقَدَّمُ الْمُعْتَبَرُ نَوْعُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَالْمُعْتَبَرُ جِنْسُهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُعْتَبَرِ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ.
قَالَ الْهِنْدِيُّ: الْأَظْهَرُ تَقْدِيمُ الْمُعْتَبَرِ نَوْعُهُ في جنس الحكم على "عكسه***.
__________
* ما بين قوسين من "أ".
** ما بين قوسين من "أ".
*** في "أ": علته.
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 187.(2/277)
الْقِسْمُ الثَّامِنُ:
أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْعِلَّةُ الثَّابِتَةُ عِلِّيَّتُهَا بالدوران على الثابتة بِالسَّبْرِ وَمَا بَعْدَهُ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ.
الْقِسْمُ التَّاسِعُ:
أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْعِلَّةُ الثَّابِتَةُ عِلِّيَّتُهَا "بِالسَّبْرِ عَلَى الثَّابِتَةِ عِلِّيَّتُهَا بِالشَّبَهِ وَمَا بَعْدَهُ.
الْقِسْمُ الْعَاشِرُ:
أنها تقدم العلة عِلِّيَّتُهَا بِالشَّبَهِ"* عَلَى الْعِلَّةِ الثَّابِتَةِ عِلِّيَّتُهَا بِالطَّرْدِ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَكَذَا تُرَجَّحُ عَلَى الْعِلَّةِ الثَّابِتَةِ عِلِّيَّتُهَا بِالْإِيمَاءِ وَادَّعَى فِي "الْمَحْصُولِ" اتِّفَاقَ الْجُمْهُورِ على أن ما ثبتت عليته بالإيماء راجح على ما ثبتت عِلِّيَّتُهُ بِالْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ، مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، وَالدَّوَرَانِ، وَالسَّبْرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ".
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هَذَا ظَاهِرٌ إِنْ قُلْنَا لَا تُشْتَرَطُ الْمُنَاسِبَةُ فِي الْوَصْفِ الْمُومَأِ إِلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا تُشْتَرَطُ فَالظَّاهِرُ تَرْجِيحُ بَعْضِ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَيْهَا، كَالْمُنَاسَبَةِ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ، بِخِلَافِ الْإِيمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ بِدُونِهَا.
الْقِسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ:
أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْعِلَّةُ الثَّابِتَةُ بنفي الفارق على غيرها.
4- وَأَمَّا التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ دَلِيلِ الْحُكْمِ، فَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ 1:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا دَلِيلُ أَصْلِهِ قَطْعِيٌّ عَلَى مَا دَلِيلُ أَصْلِهِ ظَنِّيٌّ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ دَلِيلُ أَصْلِهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا كَانَ دَلِيلُ أَصْلِهِ النَّصُّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَالتَّأْوِيلَ، وَالنَّسْخَ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَقْبَلُهَا.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيُحْتَمَلُ تَقَدُّمُ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ عَلَى الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ فَرْعُ النَّصِّ، لِكَوْنِهِ الْمُثْبِتَ لَهُ، وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْأَصْلِ، وَبِهَذَا جَزَمَ صَاحِبُ "الْمِنْهَاجِ".
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ الَّذِي هُوَ مُخْرِجٌ مِنْ أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ عَلَى مَا كَانَ مُخْرِجًا مِنْ أَصْلٍ غَيْرِ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانَ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ الْخَاصُّ بِالْمَسْأَلَةِ عَلَى الْقِيَاسِ الْعَامِّ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقَوَاعِدُ، قَالَهُ الْقَاضِي.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ عَلَى سُنَنِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
الْقِسْمُ السَّادِسُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى تَعْلِيلِهِ دُونَ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
الْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا لَمْ يَدْخُلْهُ النَّسْخُ بالاتفاق على ما وقع فيه الخلاف.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 190(2/278)
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ دَلِيلُ أَصْلِهِ أقوى بوجه من الوجوه المعتبرة.
5- وَأَمَّا الْمُرَجِّحَاتُ بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ، فَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ 1:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَتْ عِلَّتُهُ نَاقِلَةً عَنْ حُكْمِ الْعَقْلِ عَلَى مَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مُقَرَّرَةً، كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّ النَّاقِلَةَ أَثْبَتَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَالْمُقَرِّرَةَ لَمْ تُثْبِتْ شَيْئًا.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُقَرِّرَةَ أَوْلَى؛ لِاعْتِضَادِهَا بِحُكْمِ الْعَقْلِ الْمُسْتَقِلِّ بِالنَّفْيِ، لَوْلَا هَذِهِ الْعِلَّةُ النَّاقِلَةُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى تَرْجِيحِ النَّاقِلَةِ عَنِ الْعَادَةِ، وبه جزم إلكيا؛ لأن النافية مُسْتَفَادَةٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَالْأُخْرَى تَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ الدليل، فلا معارضة بينهما.
وقيل: هنا مُسْتَوِيَانِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ بِالْعِلَلِ لَا يَجُوزُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مُثْبِتَةً عَلَى مَا كَانَتْ عِلَّتُهُ نَافِيَةً، كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: قَدَّمَ قَوْمٌ الْمُثْبِتَةَ عَلَى النَّافِيَةِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ الَّذِي لَا يُثْبِتُ إِلَّا شَرْعًا كَالْإِثْبَاتِ، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا أَصْلِيًّا يَرْجِعُ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي النَّاقِلَةِ وَالْمُقَرِّرَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: الصَّحِيحُ أَنَّ التَّرْجِيحَ فِي الْعِلَّةِ لَا يَقَعُ بِذَلِكَ، لِاسْتِوَاءِ الْمُثْبِتِ وَالنَّافِي فِي الِافْتِقَارِ إِلَى الدَّلِيلِ، قَالَ: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا يَقْتَضِي الْحَظْرَ عَلَى مَا يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي حَدًّا، وَالْآخَرُ يُسْقِطُهُ، فَالْمُسْقِطُ "مُقَدَّمٌ"*.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ:
أن يكون أحدهما يقتضي "العتق"** وَالْآخَرَ يُسْقِطُهُ، فَالْمُقْتَضِي "لِلْعِتْقِ"*** مُقَدَّمٌ. وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ.
الْقِسْمُ السَّادِسُ:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُبْقِيًا لِلْعُمُومِ "عَلَى عُمُومِهِ وَالْآخَرُ مُوجِبًا لِتَخْصِيصِهِ.
وَقِيلَ: يَجِبُ تَرْجِيحُ مَا كَانَ مُبْقِيًا لِلْعُمُومِ"****؛ لِأَنَّهُ كَالنَّصِّ فِي وُجُوبِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَمِنْ حَقِّ الْعِلَّةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ "النُّصُوصَ"*****، فَإِذَا أَخْرَجَتْ ما اشتمل عليه العام كانت مخالفة للأصول التي
__________
* في "أ": أقدم.
** في "أ": العنف.
*** في "أ": للعنف.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": النص
__________
1 انظر البحر المحيط 6/ 191(2/279)
يَجِبُ سَلَامَتُهَا عَنْهُ، كَذَا قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، وَحَكَى الزَّرْكَشِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُخَصِّصَةَ له أولى؛ لأنها زائدة.
6- وأما المرجحات بحسب بالأمور الْخَارِجَةِ، فَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ القياس الموافق للأصول، بأن تكون عِلَّةُ أَصْلِهِ عَلَى وَفْقِ الْأُصُولِ الْمُمَهِّدَةِ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا كَانَ مُوَافِقًا لِأَصْلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ فِي الْأُصُولِ الْكَثِيرَةِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ اعْتِبَارِهَا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ. هَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُمَا.
وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ، "وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ".
الْقِسْمُ الثَّانِي:
أَنَّهُ يُرَجَّحُ مَا كَانَ أَكْثَرَ فُرُوعًا عَلَى مَا كَانَ أَقَلَّ، لِكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ، وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ"* وَجَزَمَ بِالْأَوَّلِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ "وَزَيَّفَهُ"** الْغَزَالِيُّ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ حُكْمُ أَصْلِهِ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالِاخْتِلَافِ فِي الثَّانِي.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يُرَجَّحُ مَا كَانَ مُطَّرِدًا فِي الْفُرُوعِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ الْحُكْمُ بِهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ:
أَنَّهُ يُرَجَّحُ ما انضمت عِلَّتِهِ عِلَّةٌ أُخْرَى عَلَى مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ عِلَّةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الِانْضِمَامَ يَزِيدُ قُوَّةً، وَقِيلَ: "لَا يُرَجَّحُ"*** بِذَلِكَ، وَصَحَّحَهُ أَبُو زَيْدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
الْقِسْمُ السَّادِسُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا انْضَمَّ إِلَيْهِ فَتْوَى صَحَابِيٍّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ المتقدم في حجية قول الصحابي.
وأما المرجحات بحسب الفرع، فَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُشَارِكًا فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَعَيْنِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمُشَارِكِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَعَيْنِ الْعِلَّةِ، أَوْ عَيْنِ الْحُكْمِ وَجِنْسِ الْعِلَّةِ، أَوْ جِنْسِ الْحُكْمِ وَجِنْسِ الْعِلَّةِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُشَارِكًا فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَجِنْسِ الْعِلَّةِ، أَوْ عَيْنِ الْعِلَّةِ وَجِنْسِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشَارِكِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَجِنْسِ الْعِلَّةِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُشَارِكُ فِي عَيْنِ الْعِلَّةِ وَجِنْسِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشَارِكِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَجِنْسِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْعُمْدَةُ فِي التعدية.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": ورفعه.
*** في "أ": للترجيح.(2/280)
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مَقْطُوعًا بِوُجُودِ عِلَّتِهِ فِي الْفَرْعِ عَلَى الْمَظْنُونِ وُجُودُهَا فِيهِ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ حُكْمُ الْفَرْعِ ثَابِتًا فِيهِ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا، وَقَدْ دَخَلَ بَعْضُ هَذِهِ "الْمُرَجِّحَاتِ فِيمَا تَقَدَّمَ"* "لصلاحية ما هناك هنا"** لذكر ذلك فيه.
وَأَمَّا الْمُرَجِّحَاتُ بَيْنَ الْحُدُودِ السَّمْعِيَّةِ، فَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْحَدُّ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِالْمُطَابَقَةِ أَوِ التَّضَمُّنِ عَلَى الْحَدِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأَلْفَاظِ الْمَجَازِيَّةِ أَوِ الْمُشْتَرِكَةِ أَوِ الْغَرِيبَةِ، أَوِ الْمُضْطَرِبَةِ، وَعَلَى مَا دَلَّ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِالِالْتِزَامِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَرِيبٌ إِلَى الْفَهْمِ، بَعِيدٌ عَنِ الْخَلَلِ وَالِاضْطِرَابِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعْرَفُ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَعْرَفُ عَلَى الْأَخْفَى؛ "لِأَنَّ الْأَعْرَفَ"*** أَدَلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنَ الْأَخْفَى.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْحَدُّ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الذَّاتِيَّاتِ عَلَى الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْعُرْضِيَّاتِ، لِإِفَادَةِ الْأَوَّلِ تَصَوُّرَ حَقِيقَةِ الْمَحْدُودِ، دُونَ الثَّانِي.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مَدْلُولُهُ أَعَمَّ مِنْ مَدْلُولِ الْآخَرِ، لِتَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ، وَقِيلَ: بَلْ يُقَدَّمُ الْأَخَصُّ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِنَقْلِ الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لِكَوْنِ الْأَصْلِ عَدَمُ النَّقْلِ.
الْقِسْمُ السَّادِسُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا أَقْرَبَ إِلَى الْمَعْنَى الْمَنْقُولِ عَنْهُ شَرْعًا، أَوْ لُغَةً.
الْقِسْمُ السَّابِعُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ طَرِيقُ اكْتِسَابِهِ أَرْجَحَ مِنْ طَرِيقِ اكْتِسَابِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ.
الْقِسْمُ الثَّامِنُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِعَمَلِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، ثُمَّ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِأَحَدِهِمَا.
الْقِسْمُ التاسع:
أنه يقدم ما كان موافقًا لعمل الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ.
الْقِسْمُ الْعَاشِرُ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْإِجْمَاعِ.
الْقِسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِعَمَلِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
الْقِسْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُقَرِّرًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ عَلَى مَا كَانَ مُقَرِّرًا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُقَرِّرًا لِحُكْمِ النَّفْيِ عَلَى مَا كان مقررًا لحكم الإثبات.
__________
* في "أ": بعض هذه المرجحات الترجيح فيما تقدم.
** في "أ": لصلاحيتها هناك وههنا
*** في "أ": لأنه.(2/281)
الْقِسْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ:
أَنَّهُ يُرَجَّحُ مَا كَانَ مُقَرِّرًا لِإِسْقَاطِ الْحُدُودِ عَلَى مَا كَانَ مُوجِبًا لَهَا.
الْقِسْمُ الْخَامِسَ عَشَرَ:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُقَرِّرًا لِإِيجَابِ الْعِتْقِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
وَفِي غَالِبِ هَذِهِ الْمُرَجِّحَاتِ خِلَافٌ يُسْتَفَادُ مِنْ مَبَاحِثِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَيُعْرَفُ بِهِ مَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَطُرُقُ التَّرْجِيحِ كَثِيرَةٌ جَدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَدَارَ التَّرْجِيحِ عَلَى مَا يَزِيدُ النَّاظِرَ قُوَّةً فِي نَظَرِهِ، عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، مُطَابِقٍ لِلْمَسَالِكِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَا كَانَ مُحَصِّلًا لِذَلِكَ فَهُوَ مرجح معتبر.(2/282)
خاتمة لمقاصد هذا الكتاب
مدخل
...
خاتمة لمقاصد هذا الكتاب:
اعلم: أنا قد قدرنا فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ الْخِلَافَ فِي كَوْنِ الْعَقْلِ حَاكِمًا أَوْ لَا.
وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ يُدْرِكُهَا الْعَقْلُ، وَيَحْكُمُ فِيهَا، كَصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَالنَّقْصِ، وَمُلَاءَمَةِ الْغَرَضِ، وَمُنَافَرَتِهِ.
وَأَحْكَامُ الْعَقْلِ بِاعْتِبَارِ مُدْرَكَاتِهِ تَنْقَسِمُ إِلَى خَمْسَةِ أَحْكَامٍ، كَمَا انْقَسَمَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ.
الْأَوَّلُ: الْوُجُوبُ، كَقَضَاءِ الدَّيْنِ.
وَالثَّانِي: التَّحْرِيمُ، كَالظُّلْمِ.
وَالثَّالِثُ: النَّدْبُ، كَالْإِحْسَانِ.
وَالرَّابِعُ: الْكَرَاهَةُ، كَسُوءِ الْأَخْلَاقِ.
وَالْخَامِسُ: الْإِبَاحَةُ، كَتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِي ملكه.
وهما مسألتان.(2/283)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
هَلِ الْأَصْلُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ دَلِيلٌ يَخُصُّهُ، أَوْ يَخُصُّ نَوْعَهُ، الْإِبَاحَةُ، أَوِ الْمَنْعُ، أَوِ الْوَقْفُ1؟
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ2، وَنَسَبَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى الْجُمْهُورِ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ حُكْمُ الشَّيْءِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ، أَوْ يخص نوعه، فإذا لم.
__________
1 انظر الكلام موسعًا ومفصلًا في هذه المسألة في البحر المحيط 6/ 12.
2 وهو شيخ الإسلام، القفيه، المصري، ابو عبد الله، ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة، لزم الإمام مالك مدة، وتفقه بمذهبه، ولزم الشافعي وكثيرًا من الأئمة، من آثاره "أحكام القرآن، الرد على فقهاء العراق، الرد على الشافعي" توفي سنة ثمانٍ وستين ومائتين ا. هـ سير أعلام النبلاء 12/ 497، شذرات الذهب 2/ 154. تهذيب التهذيب 9/ 260.(2/283)
يوجد الدليل كَذَلِكَ فَالْأَصْلُ الْمَنْعُ.
وَذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى الْوَقْفِ بِمَعْنَى لَا يَدْرِي هَلْ "هُنَاكَ"* حُكْمٌ أَمْ لَا؟
وَصَرَّحَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ، وَفِي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ.
احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} 1 فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَرَّمَ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ حُرْمَتُهُ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ حُرْمَتُهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ جُزْءٌ مِنَ الْمُقَيَّدِ، فَلَوْ ثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، لَثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ فِي زِينَةِ اللَّهِ، وَفِي الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَإِذَا انْتَفَتِ الْحُرْمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ ثَبَتَتِ الْإِبَاحَةُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 2 وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الطَّيِّبِ الْحَلَالُ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ، فَوَجَبَ تَفْسِيرُهُ بِمَا يُسْتَطَابُ طَبْعًا، وَذَلِكَ يقتضي حل المنافع بأسرها.
واحتجوا أيضًا بقول تَعَالَى: " {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 3، وَاللَّامُ تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى"**: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} 4 الْآيَةَ فَجَعَلَ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةَ، وَالتَّحْرِيمَ مُسْتَثْنًى.
وَبِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 5.
وَبِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إن أعظم "المسلمين في الْمُسْلِمِينَ جُرمًا مَنْ" *** سَأل عَنْ شَيْءٍ فَحُرِّمَ على "المسلمين " **** من أجل مسألته " 6.
__________
* في "أ": هنا.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "ب": إن أعظم المسلمين جرمًا.
**** في الأصول: السائل. والتصحيح من كتب التخريج.
__________
1 جزء من الآية 32 من سورة الأعراف.
2 جزء من الآية 5 من سورة المائدة.
3 جزء من الآية 29 من سورة البقرة.
4 جزء من الآية 145 من سورة الأنعام.
5 جزء من الآية 13 من سورة الجاثية.
6 أخرجه البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ: "إن أعظم الناس في المسلمين جرما من سأل عن مسألة لم تحرم، فحرم على المسلمين من أجل مسألته" كتاب الاعتصام باب ما يكره من كثرة السؤال 7289. ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1358، 132. وأحمد في مسنده 1/ 179. وابن حبان في صحيحه 110 والشافعي 1/ 15. والبغوي في شرح السنة 144.(2/284)
وَبِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن السمن، "والجبن"*، وَالْفِرَاءِ، قَالَ: "الْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ" 1
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَالِكِ قَطْعًا، وَلَا عَلَى الْمُنْتَفِعِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ، كَالِاسْتِضَاءَةِ بِضَوْءِ السِّرَاجِ، وَالِاسْتِظْلَالِ بِظِلِّ الْجِدَارِ.
وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّهُ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ كُلِّ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لِأَنَّ فَاعِلَهَا يَنْتَفِعُ بِهَا، وَلَا ضَرَرَ فِيهَا عَلَى الْمَالِكِ، وَيَقْتَضِي سُقُوطَ التَّكَالِيفِ بِأَسْرِهَا.
وَوَجْهُ عَدَمِ وُرُودِهِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا عَلَى الْمُنْتَفِعِ، وَلَا انتفاع بالمحرمات، وبترك الواجبات يضرره ضَرَرًا ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهَا، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا لَمْ يُبَيَّنْ حُكْمُهُ بِبَيَانٍ يَخُصُّهُ أَوْ يَخُصُّ نَوْعَهُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ لِهَذِهِ الْأَعْيَانِ لِحِكْمَةٍ، أَوْ لغير حكمة، والثاني باطل؛ لقوله تعالى: {خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} 2، وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} 3 وَالْعَبَثُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْحِكْمَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِحِكْمَةٍ، وَلَا تَخْلُو هَذِهِ الْحِكْمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِعَوْدِ النَّفْعِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ إِلَيْنَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِاسْتِحَالَةِ الِانْتِفَاعِ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَهَا لِيَنْتَفِعَ بِهَا الْمُحْتَاجُونَ إِلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ نَفْعُ الْمُحْتَاجِ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ أَيْنَمَا كَانَ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ يُمْنَعُ مِنْهُ لِرُجُوعِ ضَرَرِهِ إِلَى الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ.
__________
* في "أ": والخبز.
__________
1 أخرجه الترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء 1726. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وروى سفيان وغيره عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قوله، وكأن الحديث الموقوف أصح، وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أراه محفوظا، روى سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان بن سلمان مرفوعًا".
وأخرجه ابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب أكل الجبن والسمن 3367.
وأخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الأطعمة، باب وما سكت عنه فهو مما عفي عنه 4/ 115,.
وأخرجه البغوي في مصابيح السنة 3257.
2 جزء من الآية 38 من سورة الدخان.
3 جزء من الآية 115 من سورة المؤمنون.(2/285)
وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْمَنْعُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} 1 وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَى حُكْمِهِ، أو حكم نوعه، وأما ما قد فصله وَبُيِّنَ حُكْمُهُ، فَهُوَ كَمَا بَيَّنَهُ بِلَا خِلَافٍ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} 2 قَالُوا: فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لَيْسَ إِلَيْنَا، وَإِنَّمَا هُوَ إِلَيْهِ فَلَا نَعْلَمُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَصَالَةِ الْإِبَاحَةِ لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ قَالُوهُ بِالدَّلِيلِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ3، فَلَا تَرُدُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ فِي دَوَاوِينَ الْإِسْلَامِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ وَالْمُؤْمِنُونَ وقَّافُون عِنْدَ الشُّبْهَاتِ" 4 الْحَدِيثَ.
قَالَ: فأرشد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَرْكِ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، ولم يجعل الأصل فيها أَحَدَهُمَا.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ الْمَنْعُ.
فَإِنِ اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ فَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ مَا سَكَتَ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَلَالٌ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: "وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ" إِلَّا مَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَلَالٌ طَلْقٌ، أَوْ حَرَامٌ وَاضِحٌ، بَلْ تَنَازَعَهُ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى إِلْحَاقِهِ بِالْحَلَالِ، وَالْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى إِلْحَاقِهِ بِالْحَرَامِ، كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَمَّا مَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ5، سَلْمَانَ وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ6 فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام" 7 الحديث.
__________
* ما بين قوسين ساقط "أ".
__________
1 جزء من الآية 119 من سورة الأنعام.
2 جزء من الآية 116 من سورة النحل.
3 انظر صفحة: 283.
4 تقديم تخريجه في 2/ 194.
5 تقديم تخريجه في 2/ 285.
6 واسمها "تنبيه الأعلام في تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام" ا. هـ البدر الطالع 2/ 222.
7 أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1218.
وأخرجه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 3074.
وأخرجه النسائي، باب الجمع بين الظهر والعصر بعرفة 1/ 290.
وأخرجه البيهقي، كتاب الحج، باب ما يدل على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحرم إحراما مطلقًا 5/ 7.
وأخرجه أبو داود، كتاب المناسك: باب صفة حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1905.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه 1457.
وأخرجه ابن الجارود 469.(2/286)
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي قَدْ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِمَالِكِيهَا، وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْغَيْرِ، وإنما النزع فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَلَمْ تَصِرْ فِي مِلْكِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى تحريمها، لا بِدَلِيلٍ عَامٍّ وَلَا خَاصٍّ، وَكَالنَّبَاتَاتِ الَّتِي تُنْبِتُهَا الأرض، مما لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَلَا كَانَتْ مِمَّا يَضُرُّ مُسْتَعْمِلَهُ بَلْ مِمَّا يَنْفَعُهُ.(2/287)
المسألة الثانية:
اختلفو فِي وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَقْلًا:
فَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وافقهم وجبوه بِالْعَقْلِ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الشَّرْعُ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ.
قَالُوا: وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لِحُكْمِ الْعَقْلِ "تَنَزُّلًا"* فَلَا حُكْمَ لِعَقْلٍ بِوُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، فَلَا إِثْمَ فِي تَرْكِهِ عَلَى مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لِفَائِدَةٍ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ.
وَتَقْرِيرُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَا لِفَائِدَةٍ، لَكَانَ عَبَثًا، وَهُوَ قَبِيحٌ، فَلَا يَجِبُ عَقْلًا، وَلَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِيجَابُ مَا كَانَ عَبَثًا.
وَأَمَّا تَقْرِيرُ بُطْلَانِ اللَّازِمِ، فَلِأَنَّ الْفَائِدَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ تَكُونَ لِلْعَبْدِ، إِمَّا فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ متعالٍ "عَنِ الْفَائِدَةِ"**، وَلِأَنَّهُ لا منفعة فهي لِلْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ تَعَبٌ وَمَشَقَّةٌ عَلَيْهِ، وَلَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ فَائِدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَأَمَّا انْتِفَاعُ الْعَبْدِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَلِأَنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ.
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِمَنْعِ كَوْنِهِ لَا فَائِدَةَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، وَسَنَدُ هَذَا الْمَنْعِ، بِأَنَّ فَائِدَتَهُ للعبد في
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(2/287)
الدُّنْيَا هِيَ دَفْعُ ضَرَرِ خَوْفِ الْعِقَابِ، وذلك للزوم الخطور على باب كل عَاقِلٍ، إِذَا رَأَى مَا عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ الْمُتَجَدِّدَةِ، وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، أَنَّ الْمُنْعِمَ قَدْ أَلْزَمَهُ بِالشُّكْرِ كَمَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ أَنَّهُ مُطَالَبٌ لَهُ بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا.
وَمَنَعَ الْأَشْعَرِيَّةُ لُزُومَ الْخُطُورِ الْمُوجِبِ لِلْخَوْفِ فَلَا يَتَعَيَّنُ وُجُودُهُ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْمَنْعِ: بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ هُوَ مَنْعٌ، فَإِنْ أَرَادُوا بِهَذَا الْمَنْعِ لِذَلِكَ الْمَنْعِ أَنَّ سَنَدَهُ لَا يَصْلُحُ لِلسَّنَدِيَّةِ، فَذَلِكَ مَنْعٌ مُجَرَّدٌ لِلسَّنَدِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَعَلَى التَّسْلِيمِ فَيُقَالُ: إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وُجُودُ الْخَوْفِ، فَهُوَ على خطر الوجود، وبالشكر يَنْدَفِعُ احْتِمَالُ وَجُودِهِ، وَهُوَ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ.
ثُمَّ "جَاءَتِ"* الْأَشْعَرِيَّةُ بِمُعَارَضَةٍ لِمَا ذَكَرَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، فَقَالُوا: وَلَوْ سُلِّمَ فَخَوْفُ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ مُعَارَضٌ بِخَوْفِ الْعِقَابِ عَلَى الشُّكْرِ، إِمَّا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ، فَإِنَّ مَا يَتَصَرَّفُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهَا مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَالِاسْتِهْزَاءِ، وَمَا مَثَلُهُ إِلَّا كَمَثَلِ فَقِيرٍ حَضَرَ مَائِدَةَ مَلِكٍ عَظِيمٍ، فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِلُقْمَةٍ، فَطَفِقَ يَذْكُرُهَا فِي الْمَجَامِعِ، "وَيَشْكُرُهُ"** عَلَيْهَا شُكْرًا كَثِيرًا مُسْتَمِرًّا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ اسْتِهْزَاءً مِنَ الشَّاكِرِ بِالْمَلِكِ؛ فَكَذَا هُنَا، بَلِ اللُّقْمَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلِكِ وَمَا يَمْلِكُهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَشُكْرُ الْعَبْدِ أَقَلُّ قَدْرًا فِي جَنْبِ اللَّهِ مِنْ شُكْرِ الْفَقِيرِ لِلْمَلِكِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَلَا يَخْفَاكَ أن هذه المعارضة الركيكة والتمثيل الواقع على غَايَةٍ مِنَ السُّخْفِ، يَنْدَفِعَانِ بِمَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ سَقَطَ مَا جَاءُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ فَهُوَ التَّكْذِيبُ الْبَحْتُ وَالرَّدُّ الصُّرَاحُ.
ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ النِّعْمَةَ الَّتِي وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْهَا هِيَ عَلَى غَايَةِ الْعَظَمَةِ عِنْدَ الشَّاكِرِ، فَإِنَّ أَوَّلَهَا وُجُودُهُ، ثم تكميل آلائه، ثُمَّ إِفَاضَةُ النِّعَمِ عَلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ شُكْرُهُ عَلَيْهَا اسْتِهْزَاءً.
وَقَدِ اعْتَرَضَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَشَاعِرَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْهُمَامِ فِي "تَحْرِيرِهِ"، فَقَالَ: وَلَقَدْ طَالَ رَوَاجُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى تَهَافُتِهَا، يَعْنِي جُمْلَةَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاعْتِرَاضِ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ حُكْمَ الْمُعْتَزِلَةِ بِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ تَابِعٌ لِعَقْلِيَّةِ مَا فِي الفعل،
__________
* في "أ": جاء.
** في "أ": وشكر.(2/288)
فَإِذَا عُقِلَ فِيهِ حُسْنٌ يُلْزِمُ بِتَرْكِ مَا هُوَ فِيهِ الْقُبْحُ، كَحُسْنِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، الْمُسْتَلْزِمِ تَرْكَهُ الْقُبْحَ، الَّذِي هُوَ الْكُفْرَانُ بِالضَّرُورَةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَقْلُ حُكْمَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ الشُّكْرِ قَطْعًا، وَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ بِلَا مَرَدٍّ، لَمْ يَبْقَ لَنَا حَاجَةٌ فِي تَعْيِينِ فَائِدَةٍ، بَلْ نَقْطَعُ بِثُبُوتِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، عِلْمَ عينها أو لا، وَلَوْ مَنَعُوا، يَعْنِي: الْأَشْعَرِيَّةَ اتِّصَافَ الشُّكْرِ بِالْحُسْنِ، واتصاف الكفران بالقبح، لم تصر مسألة عَلَى التَّنَزُّلِ مَعْنًى، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ عَلَى التنزيل.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ انْفِصَالَ الْمُعْتَزِلَةِ بِدَفْعِ ضَرَرِ خَوْفِ الْعِقَابِ إِنَّمَا يَصِحُّ حَامِلًا عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الشُّكْرُ، وَهُوَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الشُّكْرِ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُمْ بِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ، فَيَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ. قَالَ شَارِحُهُ: لِغَرَابَتِهِ وَسَخَافَتِهِ، كَيْفَ وَيَلْزَمُ مِنْهُ انْسِدَادُ بَابِ الشُّكْرِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا. انْتَهَى.
وَمَنْ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مُؤَلَّفَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ذَكَرُوا هَذَا الدَّلِيلَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ، فَقَالُوا: مَنْ رَأَى النِّعَمَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، دَقِيقَهَا وَجَلِيلَهَا، وَتَوَاتُرَ أَنْوَاعِهَا خَشِيَ أَنَّ لَهَا صَانِعًا يَحِقُّ لَهُ الشُّكْرُ؛ إِذْ وُجُوبُ شُكْرِ كُلِّ مُنْعِمٍ ضَرُورِيٌّ، وَمَنْ خَشِيَ ذَلِكَ خَافَ مَلَامًا عَلَى الْإِخْلَالِ، وَتَبِعَهُ عَلَى الْإِخْلَالِ ضَرَرٌ عَاجِلٌ، وَالنَّظَرُ كَاشِفٌ لِلْحَيْرَةِ، دَافِعٌ لِذَلِكَ الْخَوْفِ، فَمَنْ أَخَلَّ بِالنَّظَرِ حَسُنَ فِي الْعَقْلِ ذَمُّهُ، وَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ، فَإِذَا نَظَرَ زَالَ ذَلِكَ الضَّرَرُ، فَيَلْزَمُهُ فَائِدَةُ الْأَمْنِ مِنَ الْعِقَابِ، عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إِمَّا بِأَنْ يَشْكُرَ، وَإِمَّا بأن يكشف له النظر أَنَّهُ لَا مُنْعِمَ، فَلَا عِقَابَ.
هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِمْ فِي الْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ.
وَأَمَّا الْوُجُوبُ الشَّرْعِيُّ: فَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ صَرَّحَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ بِأَمْرِ الْعِبَادِ بِشُكْرِ رَبِّهِمْ، وَصَرَّحَ أَيْضًا بِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي زِيَادَةِ النِّعَمِ، وَالْأَدِلَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ النَّبَوِيَّةُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جَدًّا.
وَحَاصِلُهَا: فَوْزُ الشَّاكِرِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفَّقَنَا اللَّهُ تعالى لشكر نعمه، ودفع عنا جميع قمه.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِلَى هُنَا انْتَهَى مَا أَرَدْنَا جَمْعَهُ، بِقَلَمِ مُؤَلِّفِهِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى نِعَمِ رَبِّهِ، الطَّالِبِ مِنْهُ مَزِيدَهَا عَلَيْهِ وَدَوَامَهَا لَهُ، مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّوْكَانِيِّ، غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ، وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْهُ يَوْمَ الأربعاء، لعله الرَّابِعَ مِنْ شَهْرِ مُحَرَّمٍ، سَنَةَ 1231، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أولًا وآخرصا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله صحبه.(2/289)
الفهارس
فهرس الآيات القرآنية
...
1- فهرس الآيات القرآنية:
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
سورة البقرة
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ من قبلك} 4 1/ 305
{يا أيها الناس اعبدوا ربكم} 21 1/ 34
{يا أيها الناس} 21 1/ 322، 323
{فأتوا بسورة من مثله} 23 1/ 254
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بعوضة
فما فوقها} 26 2/ 98
{خلق لكم ما في الأرض جميعا} 29 2/ 284
{وعلم آدم الأسماء كلها} 31 1/ 43
{ثم عرضهم} 31 1/ 43
{وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا} 34 1/ 249، 261
{قلنا اهبطوا منها جميعا} 38 1/ 320
{واقيموا الصلاة} 43 1/ 253، 258
و2/ 12
{لا تجزي نفس عن نفس شيئا} 48 1/ 300
{وادخلوا الباب سجدا} 58 1/ 81
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} 65 2/ 195
{كونوا قردة} 65 1/ 254
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ
إلا الله وبالوالدين إحسانا} 83 2/ 54
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} 104 2/ 193
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بخير
منها أو مثلها} 106 2 / 59، 61، 69
، 70
{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} 110 1/ 307
{وأقيموا الصلاة} 110 1/ 343 و2/ 27
{وآتوا الزكاة} 110 2/ 28(2/291)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نصارى} 111 2/ 191
{قل هاتوا برهانكم} 111 1/ 255
و2/ 191
{وكذلك جعلناكم أمة وسطا} 143 1/185، 204
{قد نرى تقلب وجهك في السماء} 144 2/ 71
{وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} 150 2/ 98
{يا أيها الذين أمنوا} 153 1/ 322، 323
{إن الصفا والمروة من شعائر الله} 158 1/ 82
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العسر} 158 2/ 190
{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 169 1/ 202
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ ترك
خيرا الوصية للوالدين والأقربين} 180 2/ 68، 70
{فعدة من أيام آخر} 184 2/ 11
{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} 185 2/ 72
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العسر} 185 2/ 61، 190
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 187 1/ 304
{ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} 187 2/ 41
{وأتموا الصيام إلى الليل} 187 1/ 379
فالآن باشروهن} 187 2/ 59، 72
{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} 188 1/ 202
{حتى لا تكون فتنة} 193 2/121
{وأتموا الحج والعمرة لله} 196 2/198
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج
وسبعة إذا رجعتم} 196 2/11
{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا
رجعتم تلك عشرة كاملة} 196 2/ 23، 225
{الحج أشهر معلومات} 197 1/327
و2/ 48
{ولا تقربوهن حتى يطهرن} 222 1/ 378
{والمطلقات يتربصن بأنفسهن} 228 1/ 385
و2/ 16
{لا تضار والدة بولدها} 233 2/ 16
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أربعة أشهر وعشرا} 234 1/ 386
{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} 236 2/ 225(2/292)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} 237 2/ 16، 225
{حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى} 238 1/ 343 و2/ 79
{وأحل الله البيع} 275 1/ 349
{يا أيها الذين آمنوا تقوا الله وذروا ما
بقي من الربا} 278 1/ 321
{ولا يضار كاتب ولا شهيد} 282 2/ 16
{واستشهدوا} 282 1/ 254
{واتقوا لله ويعلمكم الله} 282 2/ 199
{والله على كل شيء قدير} 284 2/ 42
{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} 286 1/ 32
{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا به} 286 1/ 32
سورة آل عمران
{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
وَأُخَرُ متشابهات} 7 1/ 90
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يقولون آمنا به} 7 1/ 90
{وما يعلم تأويله إلا الله} 7 2/ 33
{ربنا لا تزغ قلوبنا} 8 1/279
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} 31 1/ 97، 106،
314
{واسجدي واركعي مع الراكعين} 43 1/ 82
{ومكروا ومكر الله} 54 1/ 73
{فإن أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
وَهَذَا النَّبِيُّ} 68 2/ 178
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا ما
حرم إسرائيل على نفسه} 93 2/ 238
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إليه سبيلا} 97 1/ 383، 385
و2/ 82
{فيه آيات بينات مقام إبراهيم} 97 1/ 69
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عن المنكر} 110 1/ 185، 205
{قل موتوا بغيظكم} 119 1/ 255
{لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} 130 2/ 41
{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} 133 1/ 262
{الذين قال لهم الناس} 173 1/ 397(2/293)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{كل نفس ذائقة الموت} 185 1/ 355
{والله على كل شيء قدير} 189 1/ 355
سورة النساء
{أو ما ملكت أيمانكم} 3 2/ 272
{الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} 10 1/ 305
{يوصيكم الله في أولادكم} 11 1/ 388
{فإن كان له إخوة} 11 1/ 311
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 12 2/ 9
{فأمسكوهن في البيوت حتى يتوافهن
الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} 15 2/ 64
{حرمت عليكم أمهاتكم} 23 1/ 328، 332،
355 و2/ 16، 17
{وأن تجمعوا بين الأختين} 23 2/ 272
{ربائبكم اللاتي في حجوركم} 23 2/ 42
{ولا تقتلوا أنفسكم} 29 1/ 292
و2/ 223
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عنكم
سيئاتكم} 31 1/ 144
{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا
ما تقولون} 43 1/ 38
{طيعوا الله وأطيعوا الرسول} 59 1 /106
في شيء فردوه إلى الله ورسوله} 59 1/ 208
و2/ 245
{وأقيموا الصلاة} 77 2/ 28
{من يطع الرسول فقد أطاع الله} 80 1/ 97
{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ
منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} 83 2/ 98
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 92 1/ 81
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما
تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} 115 1/ 198
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أنثى} 124 1/ 318
{فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم} 160 2/ 120(2/294)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} 165 1/ 31
{يبين الله لكم أن تضلوا} 176 1/ 70
سورة المائدة
{وأيديكم إلى المرافق} 2 1/ 391
{حرمت عليكم الميتة} 3 1/ 290، 328
و2/ 16، 17، 70
{اليوم أكملت لكم دينكم} 3 2/ 100، 202
{أحل لكم الطيبات} 5 2/ 284
{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق
وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} 6 2/ 27
إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} 6 2/ 121
{وأيديكم إلى المرافق} 6 1/ 378، 379
{إلى المرافق} 6 1/ 363
{وامسحوا برءوسكم} 6 2/ 17
{وإن كنتم جنبا فاطهروا} 6 1/ 257
{ادخلوا عليهم الباب} 23 1/ 70
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} 32 2/ 118
{أو تقطع أيديهم وأرجلهم} 33 1/ 81
{والسارق} 38 1/ 289
{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} 38 1/ 81، 292،
342، 397
و2/ 19، 28، 29
120، 121
{يا أيها الرسول} 40 1/ 323
{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} 45 2/ 180
{والجروح قصاص} 45 2/ 160
{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} 48 2/ 180
{فاستبقوا الخيرات} 48 1/ 262
{والله يعصمك من الناس} 67 1/ 117
{ثم عموا وصموا كثير منهم} 71 1/ 380(2/295)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة
وما من إله إلا الله واحد} 73 1/ 125
{إنما الخمر والميسر} 90 2/ 72
{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} 92 1/ 97
{فجزاء مثل ما قتل من النعم} 95 2/ 97
{يحكم به ذوا عدل منكم} 95 2/ 97
{لا تسألوا عن أشياء} 101 1/ 279
سورة الأنعام
{لأنذركم به ومن بلغ} 19 1/ 322
{ما فرطنا في الكتاب من شيء} 38 2/ 100
{وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مبين} 59 1/ 86 و2/ 100
{أولئك الذي هدى الله فبهداهم اقتده} 90 2/ 180
{انظروا إلى ثمره إذا أثمر} 99 1/ 255
{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
فيسبوا الله} 108 2/ 195
{وقد فصل لكم ما حرم عليكم} 119 2/ 286
{وقالوا ما في بطون هذه الأنعام}
إلى قوله: {حكيم عليم} 139 2/ 126
{وآتوا حقه يوم حصاده} 141 2/ 23
{ثمانية أزواج} إلى قوله:
{الظالمين} 142-143 2/ 126
{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إليَّ محرما
على طاعم يطعمه} 145 2/ 68، 70،
284
سورة الأعراف
{ما منعك أن تسجد إذ أمرتك} 12 1/ 249، 261
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لعباده
والطيبات من الرزق} 32 2/ 284
{فهل وجدتم ما وعبد ربكم حقا قالوا نعم} 44 1/ 333
{مسخرات بأمره} 54 1/ 242، 243
{قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} 71 1/ 222
{فماذا تأمرون} 110 1/ 245
{قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} 138 1/ 311
{اخلفني في قومي} 142 1/ 250
{واختار موسى قومه سبعين رجلا} 155 1/ 132
{ويحرم عليهم الخبائث} 157 2/ 131
{وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا} 161 1/ 81(2/296)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} 163 1/ 397 و2/ 193
سورة الأنفال
{ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} 13 2/ 108، 120
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يجعل لكم فرقانا} 29 2/ 199
{إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 38 1/ 35
{فأن لله خُمُسَه} 41 2/ 27
{إن يكن منكم عشرون صابرون} 65 1/ 131
{الآن خفف الله عنكم} 66 2/ 84
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حتى يثخن
في الأرض} 67 2/ 233
سورة التوبة
{فاقتلوا المشركين} 5 1/ 342، 362،
388، 394
{حتى يعطوا الجزية} 29 1/ 379، 394
و2/ 121
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 31 2/ 245
{والذين يكنزون الذهب والفضة} 34 1/ 332
{فبشرهم بعذاب أليم} 34 1/ 68
{وقاتلوا المشركين كافة} 36 1/ 301
{عفا الله عنك لم أذنت لهم} 43 2/ 220
{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} 71 2/ 123
{فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} 82 1/ 255
{والسابقون الأولون} 100 1/ 185
{خذ من أموالهم صدقة} 103 1/ 316
{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} 122 1/ 136
سورة يونس
{فأجمعوا أمركم} 7 1/ 193
{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تلقاء نفسي} 15 2/ 70
{والله يدعو إلى دار السلام} 25 1/ 331
{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يأتهم تأويله} 39 2/ 191(2/297)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{ألقوا ما أنتم ملقون} 80 1/ 255
سورة هود
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رزقها} 6 1/ 355
{حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} 40 1/ 242
{وأهلك} 40 2/ 27
{أتعجبين من أمر الله} 73 1/ 242
{وما أمر فرعون برشيد} 97 1/ 242
سورة يوسف
{إنا أنزلناه قرآنا عربيا} 2 1/ 65
{وفوق كل ذي علم عليم} 76 2/ 231
{واسأل القرية} 82 1/ 69
{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} 103 1/ 368
سورة الرعد
{الله خالق كل شيء} 16 1/ 383
سورة إبراهيم
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 4 1/ 43، 65
{قل تمتعوا} 30 1/ 254
{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} 34 1/ 304
{ولا تحسبن الله غافلا} 42 1/ 279
سورة الحجر
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 9 2/ 75
{وإنا له لحافظون} 9 1/ 313
{فسجد الملائكة كلهم أجمعون} 30 1/ 303
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا من
اتبعك من الغاوين} 42 1/ 368
{ادخلوها بسلام آمنين} 46 1/ 254
{وما خلقنا السموات والأرض وما
بينهما إلا بالحق} 85 2/ 123
{ولا تمدن عينيك} 88 1/ 279(2/298)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
سورة النحل
{والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} 8 2/ 197
{لتأكلوا منه لحما طريا} 14 2/ 41
{وعلامات وبالنجم هم يهتدون} 16 2/ 226
{وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} 39 1/ 125
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ له
كن فيكون} 40 1/ 251
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي
إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا
تعلمون بالبينات والزبر} 43-44 2/ 245
{لتبين للناس ما نزل إليهم} 44 1/ 385، 387
{لا جرم أن لهم النار} 62 2/ 131
{وأوحى ربك إلى النحل} 68 2/ 200
{ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} 89 1/ 208، 386
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان} 90 2/ 99
{إنما يعلمه بشر} 103 2/ 219
{فكلوا مما رزقكم الله} 114 1/ 254
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا
حلال وهذا حرام} 116 2/ 286
{إن إبراهيم كان أمة} 120 1/ 236
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حنيفا} 123 2/ 178، 180
سورة الإسراء
{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} 15 1/ 31
{فلا تقل لهما أف} 23 1/ 392، 394
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 36 1/ 148
{واستفزز من استطعت} 64 1/ 71، 254
{أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} 110 1/ 298
سورة الكهف
{أيكم أحسن عملا} 7 1/ 299
{وإذا اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ
فَأْوُوا إِلَى الكهف} 16 2/ 120
{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نسيت} 23-24 1/ 364(2/299)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{فمن شاء فليؤمن ... } 29 1/71
سورة طه
{الرحمن على العرش استوى} 5 2/ 33
{وأقم الصلاة لذكري} 14 2/ 180
{فاقض ما أنت قاض} 72 1/ 255
{أفعصيت أمري} 93 1/ 250
{وعصى آدم ربه فغوى} 121 1/ 100
{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا
رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ
من قبل أن نذل ونخزى} 134 1/ 31
سورة الأنبياء
{فسألوا أهل الذكر} 7 2/ 244
{بل فعله كبيرهم هذا} 63 1/ 101
{ففهمناها سليمان} 79 2/ 234
{وعلمناه صنعة لبوس لكم} 80 1/ 42
{إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عليه} 87 1/ 101
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جهنم} 98 2/ 27
{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} 101 1/ 305و 2/ 27
سورة الحج
{وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} 2 2/ 261
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ في السموات
ومن في الأرض} 18 1/ 61
{وكثير من الناس} 81 1/ 61
{تجري في البحر بأمره} 65 1/ 242، 243
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 78 2/ 190
سورة المؤمنون
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ، حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أو ما ملكت أيمانهم} 5-6 1/ 332
{وإن لكم في الأنعام لعبرة} 21 2/ 95
{كلوا من الطيبات} 51 1/ 255
{ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت
السموات والأرض} 71 2/ 249(2/300)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{قال رب ارجعون} 99 1/313
{أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا} 115 2/123، 285
سورة النور
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جلدة} 2 1/ 292
و2/ 120
{الزانية والزاني} 2 1/ 81
{والذين يرمون المحصنات} 4 1/ 373
{سبحانك هذا بهتان عظيم} 16 2/ 215
{فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} 33 1/ 253
{إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} 44 2/ 95
{فليحذر الذين يخالفون عن أمره} 63 1/ 106، 250
سورة الفرقان
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ العذاب
يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} 68-69 1/ 34
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بالحق} 68-69-70 1/ 34
سورة الشعراء
{إنا معكم مستمعون} 15 1/ 311
{بل ألقوا ما أنتم ملقون} 43 1/ 255
{كذبت قوم نوح المرسلين} 105 1/ 312
سورة النمل
{وأوتيت من كل شيء} 23 1/ 385
{فناظرة بم يرجع المرسلون} 35 1/ 312
{فلما جاء سليمان} 36 1/ 312
{أيكم يأتيني بعرشها} 38 1/ 298، 299
سورة القصص
{وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} 7 2/ 200
{يجبى إليه ثمرات كل شيء} 57 1/ 385(2/301)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
سورة العنكبوت
{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} 14 1/ 361
سورة الروم
{ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف
ألسنتكم وألوانكم} 22 1/ 42
سورة الأحزاب
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} 21 1/ 106، 107،
116
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
البيت ويطهركم تطهيرا} 33 1/ 222
{إن المسلمين والمسلمات} 35 1/ 319
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} 36 1/ 250
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ
عليه أمسك عليك زوجك} 37 2/ 220
{فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} 49 1/ 386
{إن الله وملائكته يصلون على النبي} 56 1/ 60
{إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا} 67 2/ 245
سورة سبأ
{لا يعزب عنه مثقال ذرة} 3 1/ 300
{من رجز أليم} 5 1/ 222
{افترى على الله كذبا أم به جنة} 8 1/ 124
{وقليل من عبادي الشكور} 13 1/ 368
سورة فاطر
{إليه يصعد الكلم الطيب} 10 2/ 33
سورة يس
{قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 78 2/ 99
{قُلْ يحييها الذي أنشأها أول مرة} 79 2/ 99
{كن فيكون} 82 1/ 255(2/302)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
سورة الصافات
{إني سقيم} 89 1/ 101
{فانظر ماذا ترى} 102 1/ 255
سورة ص
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنُفِخَتْ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا له ساجدين} 72 1/ 257
ر
{قرآنا عربيا} 28 1/ 65
{يا عبادي} 53 1/ 323
{الله خالق كل شيء} 62 1/ 306، 383،
385
سورة فصلت
{وويل للمشركين، الذين لا يؤتون الزكاة} 6-7 1/ 34
{فقضاهن سبع سموات} 11 1/ 250
{اعلموا ما شئتم} 40 1/ 254
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا
فُصِّلَتْ آياته} 44 2/ 123
سورة الشورى
{ليس كمثله شيء} 11 1/ 70و 2/33
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نوحا} 13 2/ 172
{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ في
القربى} 23 1/222
{فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمحو الله
الباطل} 24 2/ 198
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرض} 27 2/ 123
سورة الزخرف
{إنا وجدنا آباءنا} 23 2/ 245
{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لمن
يكفر بالرحمن} 33 2/ 123
سورة الدخان
{وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما
لاعبين} 38 2/ 285
{ذق إنك أنت العزيز الكريم} 49 1/ 254(2/303)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
سورة الجاثية
{وسخر لكم ما في السموات وما في
الأرض جميعا منه} 13 2/ 284
{إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} 29 2/ 49
سورة الأحقاف
{جزاء بما كانوا يعملون} 14 2/ 120
{تدمر كل شيء بأمر ربها} 25 1/ 385
سورة محمد
{حتى نعلم المجاهدين منكم} 31 2/121
سورة الفتح
{لقد رضي الله عن المؤمنين} 18 1/ 185
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ
عَلَى الكفار} 29 1/185
و2/197
سورة الحجرات
{إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} 6 1/ 136، 140
{وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} 7 1/ 144
{والله بكل شيء عليم} 16 1/ 354، 355
سورة الذاريات
{وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} 56 2/ 118
سورة الطور
{فاصبروا أو لا تصبروا} 16 1/ 254
سورة النجم
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 3 2/ 218
{إِنْ هُوَ إِلَّا وحي يوحى} 4 2/ 70، 101،
218
{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ
ما أنزل الله بها من سلطان} 23 1/ 42، 43(2/304)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 28 1/ 148
سورة القمر
{وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} 50 1/ 242
سورة الرحمن
{كل من عليها فان} 26 1/ 355
{يا معشر الجن والإنس} 33 1/ 301
سورة المجادلة
{فصيام شهرين متتابعين} 4 2/ 11
{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أتوا العلم
درجات} 11 2/ 231
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} 13 2/ 84
سورة الحشر
{يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} 2 2/ 96
{فاعتبروا يا أولي الأبصار} 2 2/ 95، 273
{فاعتبروا} 2 2/ 138
{ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} 4 2/ 118، 130
{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على
أصولها فبإذن اللَّهِ} 5 2/ 234
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عنه
فانتهوا} 7 1/ 97، 106،
314، 324
و2/ 24، 72،
101
{لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} 20 1/ 305
{أصحاب الجنة هم الفائزون} 20 1/ 306
سورة الممتحنة
{فلا ترجعوهن إلى الكفار} 10 2/ 71
{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} 11 2/ 70
سورة الجمعة
{هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم} 2 1/ 322
{وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} 3 1/ 322(2/305)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
إلى ذكر الله} 9 1/ 394 و2/48
{وذروا البيع} 9 2/ 123
سورة المنافقون
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ
لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إن المنافقين لكاذبون} 1 1/ 124
{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَا الأذل} 8 1/ 126
سورة الطلاق
{يا أيها النبي} 1 1/ 323
{ومن يتق الله يجعل له مخرجا} 2 2/ 123، 199
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} 3 2/ 123
{وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} 4 1/ 386
{أسكنوهن} 6 1/388
{لينفق ذو سعة من سعته} 7 2/ 225
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} 7 1/32
سورة التحريم
{فقد صنعت قلوبكما} 4 1/ 310
{لا تعتذروا اليوم} 7 1/ 279
سورة القلم
{أفنجعل المسلمين كالمجرمين} 35 2/ 123
سورة الحاقة
{كلوا واشربوا} 24 1/ 254
سورة المعارج
{فذرهم يخوضوا ويلعبوا} 28 1/ 254
سورة نوح
{رب اغفر لي} 28 1/ 254
سورة الجن
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جهنم} 23 1/ 250(2/306)
الآية رقمها الجزء/ الصفحة
سورة المزمل
{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ منه قليلا} 2-3 1/ 368
{فعصى فرعون الرسول} 16 2/ 5
سورة المدثر
{ما سلككم من سقر، قالوا لم نك من المصلين} 42-43 1/ 34
سورة القيامة
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 18 2/27
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بيانه} 19 2/ 27
{أيحسب الإنسان أن يترك سدى} 36 2/ 123
سورة المرسلات
{وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} 48 1/ 249
{ويل يومئذ للمكذبين} 49 1/ 249
سورة التكوير
{علمت نفس ما أحضرت} 14 1/ 70
{والليل إذا عسعس} 17 1/ 59
سورة الانفطار
{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جحيم} 13-14 1/ 332
سورة الشمس
{ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} 7-8 2/ 200
سورة البينة
{لم يكن الذين كفروا} 1 2/ 66
سورة الزلزلة
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يعمل
مثقال ذرة شرا يره} 7-8 1/ 292 و2/ 218(2/307)
2- فهرس أطراف الأحاديث النبوية:
طرف الحديث الجزء والصفحة
"أ"
ابدءوا بما بدأ الله 1/ 82
أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة 1/ 221
أتأمرني بذلك "ألا تفارق زوجها" 1/ 251
أتي بسارق فقعيه من المفصل 1/ 105
أتاهم واحد "أهل قباء" فأخبرهم أن القبلة تحولت 1/ 136 و2/ 67
أجاركم الله من ثلاث خلال 1/ 206
اجتهد رأيي ولا آلو "قول معاذ" 1/ 152
آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ 2/ 25
ادرءوا الحدود بالشبهات 1/ 153
ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله 2/ 14
إذا اختلف البيعان 2/ 43
إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم 1/ 282
إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى يَمِينٍ فَلَهُ أَنْ يستثني 1/ 364
إذا سَهَا أَحَدُكُمْ عَنْ صَلَاةٍ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَذْكُرُهَا 2/ 75
إذا شرب سكر 2/ 145
إذا قعد بين شعبها الأربع 2/ 77
إذا لاقى الختان الختان 2/ 77، 258
إذا وضعها في الحلال كان له بها أجر 2/ 101
أذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلبس الحرير "للحكة" 1/ 398
أرأيت لو تمضمضت بماء 2/ 25، 101، 219
أرأيت لو كان على أبيك دين 2/ 100، 122، 219
أرأيت لو وضعها في حرام 2/ 101(2/308)
ارتدت العرب قاطبة 1/ 301
استفت قلبك 2/ 196، 200
أشار بأصابعه إلى أيام الشهر ثلاث مرات 1/ 118
أصحابي كالنجوم 1/ 186، 221، 2/ 188
أعتق رقبة 2/ 112
أفينفعه إن حججت عنه 2/ 112
اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر 1/ 122 و2/ 188
اقتلوا أهل الأوثان 1/ 394
اقتلوا الأسودين في الصلاة 1/ 158
أقرأني جبريل على حرف 1/ 88
أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ 1/ 297
أقضي بنحو ما أسمع 1/ 149
إلا الإذخر 1/ 366 و2/ 219
ألا إن القبلة قد حولت. 2/ 67
ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه 1/ 96 و2/ 219
إلا سهيل بين بيضاء 1/ 367
امحه واكتب محمد 2/ 222
أمر بقتل الأسودين في الصلاة 1/ 158
أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إله إلا الله 1/ 369
أمسك أربعا منهن وفارق سائرهن 1/ 331
أمين هذه الأمة أبو عبيدة 1/ 221
إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام 2/ 286
إن عاد "السارق" في الخامسة فاقتلوه 2/ 72
أنزل القرآن على سبعة أحرف 1/ 88
أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النار 2/ 25
أن الخراج بالضمان 1/ 156
أن الحاكم إذا اجتهد 2/ 232
إن اله أجاركم من ثلاث خلال 1/ 206
أن الله عز وجل قال "قد فعلت" عند الدعوات 1/ 32
إن الله لا يقبض العلم انتزاعا 1/ 203(2/309)
إن للموت فزعا 2/ 73
إِنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ مَا نَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذكر إلا الرجال
فنزل قوله تعالى {إن المسلمين والمسلمات} 1/ 319
إن في دار فلان كلبا 2/ 150
إن من أمتي المحدثين والمكلمين 2/ 200
إنا آخذوها وشطر ماله 2/ 85
إنا معاشر الأنبياء لا نورث 1/ 388
إنما أقضي بنحو ما أسمع 1/ 149 و2/ 260
إِنَّمَا أَنَا بِشْرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ 1/ 101، 102
إنما أنا شافع 1/ 251
إنما الأعمال بالنيات 1/ 156، 290، 327 و2/ 82
إِنَّمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ 1/ 325
إِنَّمَا نُؤَاخِذُكُمْ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ 1/ 149
إنما هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ كَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ 1/ 252
أنه مج في فيه "محمود بن الربيع" مجة 1/ 140
أنه دعي إلى دار فأجاب 2/ 150
أنه وَاصَلَ أَيَّامًا تَنْكِيلًا لِمَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنِ الوصال 1/ 104
أنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه 1/ 119
إنها من الطوافين عليكم 2/ 118، 119
إنها أخته "قول سيدنا إبراهيم في سارة" 1/ 101
إني أوتيت القرآن ومثله معه 1/ 96
إني بعت منه عبدا 2/ 195
إني صائم 2/ 22
أيما إهاب دبغ فقد طهر 1/ 336 و2/ 71
أينقص إذا جف 1/ 155، 333، و2/ 25
الأئمة من قريش 1/ 302
الإثم ما حاك في صدرك 2/ 196
الاثنان فما فوقهما جماعة 1/ 312
الأعمال بالنيات 1/ 156(2/310)
"ب"
بئس خطيب القوم أنت 1/ 82
بئما اشتريت 2/ 195
بشروا ولا تنفروا 2/ 190
بعثت إلى الناس كافة 1/ 322
بعثت بالحنيفية السمحة 2/ 190
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق 2/ 131
بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا 2/ 65
البينة على المدعي 1/ 156
البر بالبر والذهب بالذهب 1/ 337
"ت"
تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك 1/ 160
تحول أهل قباء عن بيت المقدس وهم في الصلاة 1/ 136
ترك رسول الله صلاة الليل جماعة 1/ 120
تركتكم على الواضحة ليلها كنهارها 1/ 103
تعلموا الفرائض وعلموها الناس 1/ 203
تيمم عمرو بن العاص للجنابة 1/ 292 و2/ 223
"ث"
الثيب الثيب جلد مائة والرجم 2/ 73، 85
"ج"
جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا 1/ 336
جمع رسول الله بين الصلاتين في السفر 1/ 289
"ح"
حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1/ 160
حجوا كما رأيتموني أحج 2/ 25
الحرب خدعة 1/ 156
حكمي على الواحد كحكمي على الجماعة 1/ 325
الحلال بين والحرام بين 2/ 194، 286
الحلال ما أحله الله 2/ 285(2/311)
الحنطة بالحنطة 2/ 24
"خ"
خذوا عني مناسككم 1/ 105 و2/ 25
خير القرون قرني 1/ 173، 186
الخال وارث من لا وارث له 2/ 153
الخراج بالضمان 1/ 156، 334
"د "
دباغها ظهورها 1/ 336
دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ 2/ 193، 196
"ر"
رب حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ 1/ 167
رخص رسول الله لصاحب العرايا 1/ 152
رجم رسول الله ماعزا ولم يجلده 2/ 73، 85
رَضِيتُ لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عبد 1/ 221
رفع القلم عن ثلاث 1/ 37
رُفِعَ إِلَيْهِ سَارِقٌ فِي الْخَامِسَةِ فَلَمْ يَقْتُلْهُ 2/ 72
رفع عن أمتي الخطأ النسيان 1/ 327 و2/ 21
"ز"
زنى ماعز فرجم 2/ 112
"س"
سأل النبي الجارية عن حال أم المؤمنين عائشة
رضي الله عنها 1/ 178
سُئِلَ عَنْ زَكَاةِ الْحَمِيرِ فَقَالَ لَمْ يَنْزِلْ عليَّ فِي ذَلِكَ
إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} 2/ 218
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ولا تقتلوا أنفسكم} 1/ 292
السنور سبع 2/ 150
سها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسجد 2/ 112
سيكون في آخر الزمان ناس من أمتي 2/ 246
"ش"
الشهر هكذا وهكذا وأشار بيده 2/ 24(2/312)
"ص"
صلوا كما رأيتموني أصلي 1/ 104، 113، 314 و2/ 25، 73
صلى بعد العصر ركعتين قضاء لسنة الظهر 1/ 115
صلى بعد العصر ركعتين وداوم عليهما 1/ 115
الصلاة الوسطي 1/ 344
صلى بعد غيبوبة الشفق 1/ 313
صلى في الكعبة 1/ 314
"ط"
الطعام بالطعام 1/ 337
"ع"
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي 1/ 95، 221 و2/ 189
عليكم بالسواد الأعظم 2/ 260
العجماء جبار 1/ 156
"غ"
غسل الجمعة على كل محتمل 2/ 198
"ف"
فإن عاد في الخامسة فاقتلوه 2/ 72
فرضت الصلاة خمسين صلاة 2/ 56
فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قول السيدة عائشة رضي الله عنها 1/ 106
فلا يدري أنه "السفر" كان طويلا أو قصيرا 1/ 290
في أربعين شاة شاة 1/ 393
في الغنم السائمة زكاة 2/ 39
في سائمة الغنم زكاة 1/ 329، 393 و2/ 43
"ق"
قال سليمان: لأطوفن الليلة 1/ 367
قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا 2/ 66(2/313)
قرأ {لم يكن الذين كفروا} وَقَرَأَ فِيهَا إِنَّ ذَاتَ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ 2/ 66
قضى رسول الله أن الخراج بالضمان 1/ 315
قضى رسول الله بالشاهد واليمين 1/ 315 و2/ 82
قضى رسول الله بالشفعة للجار 1/ 314
قضى رسول الله يد سارق من المفصل 1/ 105
القضاة ثلاثة 2/ 233
"ك"
كان ظاهرك علينا 1/ 149 و2/ 260
كان فيما أنزل علينا عشر رضعات متتابعات فنسخ بخمس 2/ 65
كان لا يأذن بالقتال إلا لمن بلغ سن التكليف 1/ 38
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرنا بالقيام في الجنازة2/ 73
كان يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُنَزَّلْ عليه 2/ 181
كان يستغفر الله في كل يوم 1/ 101
كان يصبح جنبا 2/ 259
كتب إلى عماله في الصدقات 1/ 118
كَذَبَ سَعْدٌ وَلَكِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فيه الكعبة 1/ 126
كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد 1/ 282
كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بَلْ لَهُ أَجْرُهُ مرتين 1/ 126
كل ذلك لم يكن 1/ 297
كُل مما يليك 1/ 253
كلوا وأطعموا وادخروا 2/ 59
كنا نخابر على عهد رسول الله فنهى عن ذلك 1/ 166
كنا نخرج صدقة عيد الفطر صاعا من تمر 1/ 165
كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها 2/ 84، 269
كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة 1/ 388
كيف تقضي إذا عرض لك قضاء 1/ 152 و2/ 99-223،
245
كيف يحدث؟ قال يتكلم الملك على لسانه 1/ 153 و2/ 201
"ل"
لَا أَعْلَمُ فِيهَا إِلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ 2/ 223(2/314)
لا أنقض أمرا كان قبلي 1/ 311
لا إنما أنا شافع 1/ 251
لا تبيعوا الذهب بالذهب 1/ 158
لا تجتمع أمتي على ضلالة 1/ 207
لا تخمروا رأسه فإنه يبعث ملبيا 2/ 120
لا ترجعوا بعدي كفارا 1/ 203
لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يأتيهم أمر الله 1/ 207، 218
لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَنْ أمر الله 1/ 207
لا تصروا الإبل 1/ 152
لا تصلوا في مبارك الإبل 1/ 279
لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين 2/ 195
لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا كذا 1/ 170
لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق 2/ 213
لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ أُمَّتِي 1/ 202
لا صلاة إلا بطهور 1/ 370 و2/ 19
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب 2/ 19، 82
لا صلا ة لجار المسجد إلا في المسجد 2/ 19
لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ الليل 2/ 19
لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ الليل 1/ 193
لا ضرر ولا ضرار 2/ 154
لا طلاق في إغلاق 1/ 158
لا ميراث لقاتل 1/ 389
لا نترك كتاب ربنا لقول امرأة 1/ 389
لَاهَا اللَّهِ إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ 2/ 222
لا نكاح إلا بولي 1/ 370 و2/ 19
لا وصية لوارث 1/ 389 و2/ 68
لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد 2/ 41
لا يرث المسلم الكافر 1/ 388
لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا تُقَاتِلُ عَنْهُ عصابة من المسلمين 2/ 207
لا يسلط على الأمة عدو يستأصل شافتها 2/ 186
لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ 2/ 223، 234(2/315)
لا يقتل مسلم بكافر 1/ 344، 345 و2/ 198
لا يقضي القاضي وهو غضبان 2/ 124
لا يُؤَمَّنَّ الرجل في سلطانه 1/ 371
لا يقلدن أحدكم دينه رجلا 2/ 246
لأغزون قريشا 1/ 365
لأطوفن الليلة 1/ 367
لعن الله اليهود 2/ 193، 195
لقد همت أَنْ أُخَالِفَ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ 1/ 118
للراجل سهم وللفارس سهمان 2/ 122
لَمْ يَنْزِلْ عليَّ فِي شَأْنِهَا إِلَّا هَذِهِ الآية 1/ 292
لن تجتمع أمتي على الضلالة 1/ 206
لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سقت الهدي 2/ 220، 238
لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بلغ مد أحدهم 1/ 186
لو بلغني هذا لمننت عليه 2/ 238
لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ 2/ 65
لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك 1/ 251
ليس الأخوان إخوة في لسان قومك 1/ 311
"م"
مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ 1/ 97
مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حسن 1/ 346 و2/ 259، 260
ما نهيتكم عنه فاجتنبوه 1/ 252
مُره فليراجعها 1/ 274
مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع 1/ 274
مسح كل رأسه في الوضوء 2/ 18
مسح بعض رأسه في الوضوء 2/ 18
من أخضر مئزره فاقتلوه 1/ 38
من أشراط الساعة أن يرتفع العلم 1/ 203
من أصبح جنبا فلا صوم له 2/ 259(2/316)
من بدل دينه فاقتلوه 1/ 318
مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ 2/ 194
مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يعنيه 1/ 156
من حلف على شيء فرأى 1/ 365
من سن سنة حسنة فله أجرها 1/ 95
من غسل ميتا 2/ 74
من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام 1/ 208
من قتل قتيلا فله سلبه 2/ 27
مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دخل الجنة 1/ 177
مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا 2/ 75، 180، 272
الماء طهور لا ينجسه شيء 1/ 334
الماء من الماء 2/ 77، 258
"ن"
نحن معاشر الأنبياء لا نورث 1/ 301
نحن نحكم بالظاهر 1/ 148 و2/ 259، 260
نهى رسول الله عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ 2/ 68، 77
نهى رسول الله عن الصلاة بعد العصر 1/ 115
نهى عن بيع الذهب بالذهب 1/ 158
نهى عن الصوم في يوم العيد 1/ 283
نهى عن صوم أيام التشريق 2/ 22
نهى عن بيع الغرر 1/ 314، 315
نهى عن قتل الصبيان حتى يبلغوا 1/ 38
"هـ"
هل لك من إبل 2/ 108
هَمَّ بمصالحة الأحزاب على ثلث ثمار المدينة 1/ 118
هو الطهور ماؤه 1/ 155، 160، 304
هو رجل يهديني السبيل 1/ 58(2/317)
"و"
وَإِنْ طَلَبَ مِنْكَ أَهْلُ حِصْنٍ النُّزُولَ عَلَى حكم الله 2/ 233
والله لأغزون قريشا 1/ 365، 366
ولا يعضد شجرها 1/ 366
"ي"
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ مَا نرى الله
ذكر إلا الرجال فنزلت {إن المسلمين والمسلمات} 1/ 319
يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ 1/ 368
يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ 2/ 101
يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ 1/ 179، 207
يسروا ولا تعسروا 2/ 190(2/318)
3 - فهرس الأعلام المترجمين:
اسم العلم المترجم له الجزء / الصفحة
"أ"
الآمدي = علي بن أبي علي بن محمد التغلبي
إبراهيم الحربي = إبراهيم بن إسحاق البغدادي الحربي 1/ 171
إبراهيم بن أحمد أبو إسحاق المروزي 1/ 345
إبراهيم بن إسماعيل الطوسي العنبري 1/ 139
إبراهيم بن أبي يحيى أبو إسحاق 1/ 182
إبر اهيم بن خالد أبو ثور البغدادي 1/ 213
إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج 2/ 298
إبراهيم بن سعد بن إبراهيم "أبو إسحاق" 1/ 201
إبراهيم بن سيار أبو إسحاق النظام 1/ 124
إبراهيم بن عبد الرحمن العذري 2/ 179
إبراهيم بن علي بن أحمد "الطرطوسي" 1/ 6
إبراهيم بن علي بن يوسف "جمال الدين الشيرازي" 1/ 46
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الإسفراييني 1/ 41
إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي "نفطويه" 1/ 311
إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران النخعي 1/ 216
الأبهري = محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح أبو بكر
الأبياري = علي بن إسماعيل بن علي
ابن الأثير = المبارك بن محمد بن محمد الشيباني
أحمد بن إبراهيم الجرجاني أبو بكر الإسماعيلي 1/ 163
أحمد بن إدريس "شهاب الدين" أبو العباس القرافي 1/ 110
أحمد بن بشر بن عامر أبو حامد المروزي 1/ 107
أحمد بن حسن الرصاص 1/ 280
أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي "ابن الخباز" 1/ 360(2/319)
أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي 1/ 168
أحمد بن حمدان بن شبيب الحراني "أبو عبد الله" 2/ 46
أحمد بن حنبل صاحب المذهب 1/ 133
أحمد بن سليمان البصري 2/ 212
أحمد بن شعيب بن علي النسائي 1/ 148
أحمد بن أبي طاهر أبو حامد الإسفراييني 1/ 224
أحمد بن بن طلحة أبو العباس "المعتضد بالله" 2/ 253
أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري 1/ 120
أحمد بن عبد الغفار الفارسي أبو علي 1/ 67
أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح 1/ 98
أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادي 1/ 142
أحمد بن علي بن ثعلب بن ساعاتي 1/ 309
أحمد بن علي الرازي الجصاص 1/ 137
أحمد بن علي بن عبيد الله أبو طاهر البغدادي 1/ 225
أحمد بن علي بن محمد "ابن حجر العسقلاني" 2/ 214
أحمد بن عمر بن إبراهيم أبو العباس القرطبي 1/ 220
أحمد بن عمر بن سريج البغدادي "شيخ الإسلام" 1/ 49
أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي 1/ 57
أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسين بن القطان 1/ 110
أحمد بن محمد بن جعفر 2/ 252
أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر الطحاوي 1/ 184
أحمد بن محمد بن علي الأنصاري "ابن الرفعة" 2/ 10
أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي 1/ 145
أحمد بن محمد بن منصور 2/ 49
أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال 1/ 180
أحمد بن نصر الداودي 2/ 197
أحمد بن يحيى بن زيد أبو العباس إمام الكوفيين 1/ 57
أحمد بن يحيى بن عبد العزيز أبو عبد الرحمن الشافعي 1/ 223
الأحوال = عثمان بن سعيد
الأخفش = سعيد بن مسعدة أبو الحسن(2/320)
الأزهري = محمد بن أحمد بن الأزهر
الأستراباذي = الحسن بن محمد بن شرفشاه
إسحاق = إسحاق بن راهويه 1/ 170
أبو إسحاق الزجاج = إبراهيم بن السري
بو إسحاق = إبراهيم بن يوسف جمال الدين الشيرازي
أبو إسحاق = إبراهيم بن محمد الإسفراييني
أبو إسحاق النظام = إبراهيم بن سيار بن هانئ
أبو إسحاق المروزي = إبراهيم بن أحمد
أبو إسحاق = كعب بن ماتع
أسعد بن سهل بن حنيف 1/ 174
الإسفراييني = إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن إسحاق
إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم بن عليه 1/ 135
إسماعيل بن إسحاق بن حماد 2/ 253
إسماعيل بن حماد الجوهري أبو نصر 1/ 301
إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني 1/ 334
الإسماعيلي = أحمد بن إبراهيم الجرجاني
الإسكافي = محمد بن عبد الله
الاشعري = علي بن إسماعيل بن إسحاق أبو الحسن
أشهب = عبد العزيز القيسي أبو عمرو 1/ 213
الأصبحي = مالك بن أنس بن مالك إمام دار الهجرة
الإصطخري = الحسن بن أحمد بن يزيد أبو سعيد
الأصفهاني = محمد بن محمود بن محمد "شمس الدين"
الأصم = محمد بن يعقوب بن يوسف أبو العباس
الأعمش = سليمان بن مهران الأسدي
إلكيا الهراسي = علي بن محمد بن علي "عماد الدين"
إلكيا الطبري = إلكيا الهراسي
إمام الحرمين = عبد الملك بن عبد الله بن يوسف
أبو أمامة = أسعد بن سهل بن حنيف
امرؤ القيس بن حجر بن الحارث 2/ 89
ابن الأنباري = أبو بكر محمد بن القاسم
الأوزاعي = عبد الرحمن بن عمرو بن يُخْمَد أبو عمرو(2/321)
"ب"
الباجي = سليمان بن خلف أبو الوليد
البخاري = عبيد الله بن مسعود "صدر الإسلام"
البخاري = محمد بن إسماعيل بن إبراهيم أبو عبد الله
أبو البركات ابن تيمية = عبد السلام بن عبد الله الحراني "مجد الدين"
ابن برهان = أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح
ابن بري = عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي
البزدوي = علي بن محمد بن الحسين أبو الحسن
البستي = محمد بن حبان أبو حاتم
بشر المريسي بن غياث المغزلي 2/ 109
ابن أبي البقاء = عبد الله بن الحسين
أبو بكر = محمد بن عبد الله التميمي
أبو بكر السراج = محمد بن السري بن سهل السراج
أبو بكر الأصبهاني = محمد بن الحسن بن فورك
أبو بكر الباقلاني = محمد بن الطيب
أبو بكر = عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني
أبو بكر = محمد بن أحمد "علاء الدين" السمرقندي
ابو بكر = محمد بن العباس الخوارزمي
أبو بكر = محمد بن عبد الله بن محمد بن العربي
البلخي = الحكم بن عبد الله بن مسلمة أبو مطيع
البيضاوي = عبد الله بن عمر أبو سعيد "ناصر الدين"
البيهقي = أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر
"ت"
الترمذي = محمد بن عيسى بن سَوْرَة الضرير
"ث"
ثعلب = أحمد بن يحيى بن زيد أبو العباس
الثلجي = محمد بن شجاع أبو عبد الله
التلمساني = عبد الله بن محمد بن علي
ثوبان بن جحدر "مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1/ 96
أبو ثور = إبراهيم بن خالد البغدادي(2/322)
الثوري = سفيان بن سعيد بن مسروق
"ج"
الجاحظ = عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان
الجبائي = محمد بن عبد الوهاب بن سلام أبو علي
جرول بن أوس العبسي 2/ 186
الجرجاني = عبد القاهر بن عبد الرحمن أبو بكر
الجرجاني = علي بن محمد
الجرجاني = محمد بن يحيى أبوعبيد الله
ابن جريح = عبد الملك بن عبد العزيز
الجصاص = أحمد بن علي الرازي
جعفر بن حرب أبو الفضل 2/ 94
جعفر بن علي بن تاج الدين الظفيري الزيدي 1/ 59
جعفر بن مبشر 2/ 94
أبو جعفر الطوسي = محمد بن الحسين بن علي
أبو جعفر = محمد بن جرير الطبري
أبو جعفر = يزيد بن القعقاع
جُعل = الحسن بن علي بن إبراهيم
جميل بن زيد 1/ 222
ابن جني = عثمان بن جني أبو الفتح
جهم بن صفوان السمرقندي 1/ 214
الجواليقي = موهوب بن أحمد أبو منصور
الجوزجاني = إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق أبو سليمان
الجوهري = إسماعيل بن حماد
الجويني = عبد الملك بن عبد الله إمام الحرمين
"ح"
ابن الحاجب = عثمان بن عمر أبو عمرو "جمال الأئمة"
الحارث بن أسد المحاسبي أبو عبد الله 1/ 134
الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو ابْنِ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شعبة 2/ 99
أبو حاتم = محمد بن حبان بن أحمد
أبو حازم = سلمة بن دينار المخزومي(2/323)
الحاكم = محمد بن عبد الله بن حمدوية
أبو حامد = محمد بن محمد بن أحمد الغزالي
أبو حامد الإسفراييني = أحمد بن أبي طاهر
أبو حامد المروزي = أحمد بن بشر بن عامر
ابن حبان = محمد بن حبان بن أحمد
ابن حجر الهيثمي = أحمد بن محمد بن علي بن حجر
ابن حجر العسقلاني = أحمد بن علي بن محمد
الحربي =إبراهيم بن إسحاق بن بشير
ابن حزم = علي بن أحمد بن سعيد عالم الأندلس
الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي 1/ 67
الحسن بن أحمد بن زيد أبو سعيد الإصطخري 1/ 105
الحسن بن إسماعيل 1/ 59
الحسن بن إسماعيل بن الحسين المغربي الصنعاني 1/ 116
الحسن بن الحسين بن أبي هريرة أبو علي 1/ 106
أبو الحسن الأشعري = علي بن إسماعيل بن إسحاق
أبو الحسن الرماني = علي بن عيسى بن عبد الله
أبو الحسن السهيلي = علي بن أحمد
الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري 2/ 15
الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي 1/ 301
الحسن بن علي بن أبي طالب 1/ 139
الحسن بن محمد بن شرفشاه الأستراباذي 2/ 81
الحسن = الحسن بن يسار أبو سعيد 1/ 174
أبو الحسن = علي بن محمد بن الحسين
أبو الحسن الكرخي = عبيد الله بن الحسن بن دلال
الحسين بن صالح بن خيران أبو علي 1/ 106
الحسين بن عبد الله أبو علي ابن سينا الرئيس 1/ 54
الحسين بن علي الزيدي المؤيد بالله 1/ 81
الحسين بن علي بن أبي طالب 1/ 139
الحسين بن علي بن إبراهيم أبو عبد الله البصري المعروف بجُعل 1/ 153
الحسين بن علي أبو عبد الله الصيمري 1/ 289
الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي 1/ 133(2/324)
الحسين "أو الحسن" بن القاسم أبو علي الطبري 1/ 285
الحسين بن الحسن بن محمد أبو عبد الله الحليمي 1/ 145
حسين بن محمد بن أحمد أبو علي "القاضي" 1/ 100
الحسين بن يوسف بن علي = ابن المطهر الحلي 1/ 356
أبو الحسين الخياط = عبد الرحيم بن محمد
أبو الحسين بن القطان = أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي
أبو الحسين البصري = محمد بن علي بن الطيب
أبو الحسين الصيمري = مفلح بن الحسين
أبو الحسين بن اللبان = محمد بن عبد الله بن اللبان
الحطيئة = جرول بن أوس العبسي
الحكم بن عبد الله أبو مطيع البلخي 1/ 248
الحكم بن عتيبة أبو محمد 1/ 238
حماد بن أسامة 1/ 182
حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي 1/ 95
ابن حمدان = أحمد بن حمدان "أبو عبد الله"
حمزة بن حبيب بن عمارة شيخ القراء 1/ 87
حمزة بن أبي حمزة النصيبي 1/ 222
الحليمي = الحسين بن الحسن بن محمد أبو عبد الله
أبو حنيفة = النعمان بن ثابت
أبو حيان = محمد بن يوسف بن علي
"خ"
ابن الخباز = أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي
ابن خروف = علي بن محمد بن علي الحضرمي
ابن خزيمة = محمد بن إسحاق
أبو الخطاب الحنبلي = محفوظ بن أحمد بن الحسن
الخطابي = حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطابي
الخطيب = أحمد بن علي بن ثابت البغدادي
الخلال = أحمد بن محمد بن هارون
خلف بن هشام بن ثعلب أبو محمد البزار 1/ 87
الخليل بن أحمد بن عمر أبو عبد الرحمن الفراهيدي 1/ 311
الخوارزمي = محمد بن العباس(2/325)
الخوارزمي = محمد بن محمد بن العباس
ابن خويز منداد = محمد بن أحمد بن عبد الله
ابن خيران = الحسين بن صالح أبو علي
"د"
الدارقطني = علي بن عمر بن أحمد
داود بن الحصين أبو سليمان 1/ 142
أبو داود = سليمان بن الأشعث السجستاني
داود بن علي بن خلف الظاهري 1/ 133
الدبوسي = عبد الله بن عمر أبو زيد
ابن درستويه = عبد الله بن جعفر النحوي
الدقاق = محمد بن محمد بن جعفر
ابن دقيق العيد = محمد بن علي بن وهب
ابن الدهان = سعيد بن المبارك بن علي الأنصاري أبو محمد
الدينوري = يوسف
"ذ"
ابن أبي ذئب = محمد بن عبد الرحمن أبو الحارث
الذهبي = محمد بن أحمد بن عثمان
"ر"
ابن الرفعة = أحمد بن محمد بن علي
الرازي = سليم بن أيوب أبو الفتح
الرازي = محمد بن عمر المعروف "بالفخر الرازي"
الرافعي = عبد الكريم بن محمد أبو القاسم
الربيع = الربيع بن سليمان بن عبد الجبار 1/ 168
رزين بن معاوية بن عمار العبدري الأندلسي أبو الحسن 1/ 170
ابن رشد = محمد بن أحمد بن رشد أبو الوليد المالكي
الرصاص = أحمد بن حسن
ابن رفاعة السلامي = معان بن رفاعة
الروياني = عبد الواحد بن إسماعيل أبو المحاسن
"ز"
زبان بن العلاء بن عمار التميمي 1/ 87(2/326)
ابن الزبعري = عبد الله بن الزبعري بن قيس
الزجاج = إبراهيم بن السري بن سهل
زر بن حبيش 2/ 66
الزركشي = محمد بن بهادر بن عبد الله
أبو زرعة الرازي = عبيد الله بن عبد الكريم
أبو زكريا = يحيى بن زياد بن عبد الله الفراء
أبو زكريا = يحيى بن شرف النووي.
ابو زكريا = يحيى بن معين
الزمخشري = محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي "جار الله"
الزنجي = مسلم بن خالد
الزهري = محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب
زهير بن حرب بن شداد الحرشي 1/ 207
أبو زيد = عبد الله بن عمر الدبوسي
زين الدين العراقي = عبد الرحيم بن الحسين
"س"
ابن الساعاتي = أحمد بن علي بن ثعلب
سالم بن عبد الله 1/ 174
السبكي = عبد الوهاب بن علي أبو نصر
السراج = محمد بن السري أبو بكر النحوي
السرخسي = محمد بن أحمد "شمس الأئمة"
ابن سريج = أحمد بن عمر البغدادي شيخ الإسلام
السعد = مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني
سعيد بن جبير أبو محمد الكوفي 1/ 175
أبو سعيد الإصطخري = حسن بن أحمد بن يزيد
أبو سعيد = عبد الرحمن بن مهدي بن حسان
أبو سعيد = محمد بن يحيى بن منصور
سعيد بن المبارك بن علي الأنصاري بن الدهان أبو محمد 1/ 311
سعيد بن مسعدة البلخي "أبو الحسن الأخفش" 2/ 42
سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي 1/ 174
سعيد بن منصور 1/ 364
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري 1/ 141(2/327)
سفيان بن عيينة بن أبي عمران 1/ 167
سلمة بن دينار المخزومي أبو حازم 1/ 175
أبو سلمة بن عبد الله بن عبد الرحمن الزهري 1/ 174
سليمان بن الأشعث السجستاني أبو داود 1/ 365 و2/ 207
سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي 1/ 219
سليمان بن خلف الوليد الباجي 1/ 143
سليمان بن مهران الأسدي الأعمش 1/ 365
أبو سليمان الجوزجاني = موسى بن سليمان الحنفي
أبو سليمان = حمد بن محمد بن إبراهيم
سليم بن أيوب الرازي أبو الفتح 1/ 110
ابن السمعاني = منصور بن محمد
السمرقندي = محمد بن أحمد أبو بكر
أبو السنابل بن بعكك الصحابي الجليل 2/ 221
السهروردي = عمر بن محمد بن عبد الله "شهاب الدين"
أبو سهل الصعلوكي = محمد بن سليمان
السهيلي = عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد أبو الحسن الخثعمي
سيبويه = عمرو بن عثمان أبو بشر
ابن سيد الناس = محمد بن محمد بن أحمد
السيرافي = الحسن بن عبد الله بن المزربان
ابن سيرين = محمد بن سيرين
ابن سينا = الحسين بن عبد الله أبو علي الرئيس
السيوطي = عبد الرحمن بن أبي بكر "جلال الدين"
"ش"
الشافعي = محمد بن إدريس أبو عبد الله صاحب المذهب
أبو شامة المقدسي = عبد الرحمن بن إسماعيل
الشريف = علي بن محمد الجرجاني
الشريف المرتضى = علي بن الحسين
شعبة = شعبة بن الحجاج 1/ 171
الشعبي = عامر بن شراحيل
شمس الأئمة = محمد بن أحمد السرخسي
الشيخ الحسن = الحسن بن إسماعيل بن الحسين بن محمد المغربي(2/328)
أبو الشيخ الأصفهاني = عبد الله بن محمد بن جعفر
الشيرازي = إبراهيم بن علي أبو إسحاق
"ص"
صاحب المصادر = محمود بن علي الرازي
صاحب المفهم = أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي
صاحب الميزان = محمد بن أحمد السمرقندي
صاحب النكت = الحسين بن عيسى
صاحب اللباب = مطهر بن الحسن
صاحب الهداية = علي بن أبي بكر المرغيناني
صالح مولى التوءمة المدني 1/ 182
ابن الصباغ = عبد السيد بن محمد أبو نصر
الصيدلاني = محمد بن داود بن محمد
صفي الدين الهندي = محمد بن عبد الرحيم
ابن الصلاح = عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان
الصيرفي = محمد بن عبد الله أبو بكر
"ض"
ضرار بن عمرو 1/ 132
"ط"
أبو طالب = عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم
أبو طاهر البغدادي = أحمد بن علي بن عبيد الله
أبو طاهر الدباس = محمد بن محمد بن سفيان
طاهر بن عبد الله بن طاهر أبو الطيب الطبري 1/ 109
طاوس بن كيسان أبو عبد الرحمن الفارسي 1/ 366
الطائي = محمد بن أحمد أبو عبد الله
الطبري = محمد بن جرير أبو جعفر
الطحاوي = أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر
الطرسوسي = إبراهيم بن علي بن أحمد
الطيالسي = سليمان بن داود بن الجارود
أبو الطيب الطبري = طاهر بن عبد الله بن طاهر(2/329)
"ع"
عاصم بن أبي النجود 1/ 87
عامر بن سنان الصحابي 1/ 126
عامر بن شراحيل 1/ 174
ابن عامر = عبد الله بن عامر بن يزيد
عباد بن سليمان بن علي أبو سهل الصيمري 1/ 41
العبادي = محمد بن أحمد بن محمد بن عباد
أبو العباس = أحمد بن إدريس شهاب الدين القرافي
أبو العباس القرطبي = أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي
العباس بن الوليد أبو الفضل العذري البيروتي 1/ 213
عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة 2/ 93
عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي أبو القاسم 1/ 128
عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي 1/ 302
عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي 1/ 368
عبد الله بن الحسين بن أبي البقاء 2/ 89
عبد الله بن الزبعرى "أبو سعد" 2/ 27
عبد الله بن عامر بن ربيعة الأموي 1/ 174
عبد الله بن عامر بن يزيد "مقرئ الشام 1/ 87
عبد الله بن عدي بن عبد الله 1/ 222
عبد الله بن عمر بن عيسى أبو زيد الدبوسي 1/ 33
عبد الله بن عمر بن ناصر الدين البيضاوي أبو سعيد 1/ 247
عبد الله بن محمد بن علي "ابن التلمساني 2/ 44
عبد الله بن كثير بن عمرو 1/ 87
عبد الله بن المبارك الحنظلي 1/ 167
عبد الله بن محمد بن جعفر الأصفهاني 1/ 171
عبد الله بن مسلم بن قتيبة 1/ 367
عبد الله بن وهب أبو محمد الدينوري 1/ 217 و2/ 200
عبد الله بن يوسف أبو محمد الجويني 1/ 135، 234
أبو عبد الله البصري = الحسين بن علي
أبو عبد الله الصمري = الحسين بن علي بن محمد
أبو عبد الله الحاكم = محمد بن عبد الله بن حمدويه(2/330)
أبو عبد الله = محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني
أبو عبد الله الثلجي = محمد بن شجاع الثلجي البغدادي
أبو عبد الله = محمد بن علي بن عمر المكي المازري
أبو عبد الله الجرجاني = محمد بن يحيى
ابن عبد الباري 1/ 96
ابن عبد البر = يوسف بن عبد الله بن محمد الأندلسي
عبد الجبار بن أحمد أبو الحسن الهمذاني "القاضي" 1/ 59
عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن 1/ 360
عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار "عضد الدين" 1/ 330
عبد الرحمن بن إسماعيل أبو شامة المقدسي 1/ 103
عبد الرحمن بن أبي بكر "جلال الدين السيوطي" 2/ 214
عبد الرحمن بن عبد الوهاب الناصح الحنبلي 2/ 101
عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم أبو طالب 1/ 81
عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي 1/ 97
عبد الرحمن بن محمد بن فوران 1/ 139
عبد الرحمن بن مهدي العنبري أبو سعيد 1/ 96
أبو عبد الرحمن الشافعي = أحمد بن يحيى بن عبد العزيز
عبد الرحيم بن الحسين "زين الدين العراقي" 2/ 214
عبد الرحيم بن زيد بن الحواري العمي 1/ 221
عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري 1/ 99، 143
عبد الرحيم بن محمد أبو الحسين الخياط 1/ 234
عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني "مجد الدين" 1/ 381
عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي أبو هاشم 1/ 41
ابن عبد السلام = عبد العزيز بن عبد السلام "سلطان العلماء"
عبد السيد بن محمد أبو نصر بن الصباغ 1/ 109
عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري 1/ 336
عبد العزيز بن عبد السلام "سلطان العلماء" 2/ 34
عبد العزيز القيسي = أشهب
عبد القاهر بن طاهر أبو منصور البغدادي 1/ 115
عبد القاهر بن عبد الرحمن أبو بكر الجرجاني "شيخ العربية" 1/ 74
عبد الكريم بن محمد أبو القاسم الرافعي 1/ 225(2/331)
عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالي الجويني 1/ 19
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح 1/ 182
عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون 1/ 310
عبد الواحد بن إسماعيل أبو المحاسن الروياني 1/ 110
عبد الوهاب بن علي أبو نصر السبكي 1/ 137
عبد الوهاب بن علي بن نصر أبو محمد القاضي 1/ 142
عبد الوهاب بن عطاء أبو نصر الخفاف 2/ 69
العبدري = رزين بن معاوية
أبو عبيد = القاسم بن سلام النحوي
عبيد الله بن الحسن 2/ 228
عبيد الله بن الحسين الكرخي الحنفي 1/ 60
عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي 1/ 171
عبيد الله بن عدي بن الخيار 1/ 173
عبيد الله بن عمر البغدادي أبو القاسم 2/ 94
عثمان بن جني أبو الفتح 1/ 67
عثمان بن سعيد بن بشار أبو القاسم الأنماطي "الأحول" 1/ 391
عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان أبو عمرو بن الصلاح 1/ 142
عثمان بن عمر بن أبي بكر أبو عمرو "جمال الدين" 1/ 46
أبو عثمان = عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ
ابن عدي = عبد الله بن عدي بن عبد الله 1/ 176
ابن العربي = محمد بن عبد الله بن محمد أبو بكر
عروة بن الزبير بن العوام القرشي أبو عبد الله 1/ 176
العسكري = الحسن بن عبد الله بن سهل
العضد = عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار
ابن عطية = عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن أبو بكر
عطاء بن أبي رباح بن أسلم القرشي 1/ 366
العقيلي = محمد بن عمرو بن موسى أبو جعفر
العكبري = عبد الله بن الحسين
علقمة بن قيس بن عبد الله 1/ 174
علم الدين العراقي 1/ 354
علي بن أحمد أبو الحسن السهيلي 1/ 212(2/332)
علي بن أحمد بن سعيد بن حزم عالم الأندلسي 1/ 99
علي بن أحمد بن محمد الواحدي 2/ 178
علي بن إسماعيل بن إسحاق أبو الحسن الأشعري 1/ 41، 247
علي بن إسماعيل بن علي الأبياري 1/ 157
علي بن أبي بكر المرغيناني 2/ 44
علي بن الحسين بن موسى "الشريف المرتضى" 1/ 128
علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي 1/ 87
أبو علي الطبري = الحسين بن القاسم
أبو علي الفارسي = الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي
علي بن عقيل بن محمد شيخ الحنابلة 2/ 73
علي بن أبي علي محمد التغلبي الآمدي 1/ 49
ابن عقيل = علي بن عقيل بن محمد
علي بن عمر أحمد البغدادي "ابن القصار" 1/ 371
علي بن عمر بن أحمد "الدارقطني" 1/ 169
علي بن عيسى الرماني النحوي 1/ 348
علي بن محمد بن عبد الملك "ابن القطان" 1/ 143
علي بن محمد الماوردي أبو الحسن 1/ 135
علي بن محمد بن الحسين البزدوي أبو الحسن 1/ 209
علي بن محمد بن علي "إلكيا الهراسي" 1/ 98
علي بن محمد الشريف الجرجاني 1/ 21
علي بن محمد بن علي الحضرمي "ابن خروف" 1/ 312
علي بن المديني بن عبد الله أبو الحسن 1/ 179
أبو علي الجبائي = محمد بن عبد الوهاب بن سلام
ابن علية = إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم
عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم 1/ 186
عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي 2/ 199
عمران بن حطان 1/ 142
أبو عمران = إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي
عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان الجاحظ 1/ 123
عمرو بن أبي سلمة أبو حفص التنيسي 1/ 182
عمرو بن عبيد أبو عثمان البصري 2/ 187(2/333)
عمرو بن عثمان أبو بشر الفارسي "سيبويه" 1/ 80
عمرو "أو عمر" بن محمد الليثي "أبو الفرج المالكي" 1/ 175
أبو عمرو = زبان بن العلاء بن عمار
أبو عمرو = عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي
العنبري = إبراهيم بن إسماعيل الطوسي
عياض بن موسى أبو الفضل 1/ 98
عيسى بن أبان بن صدقة أبو موسى 1/ 151
أبو عيسى الوراق = محمد بن هارون
ابن عيينة = سفيان بن عيينة بن أبي عمران
"غ"
الغزالي = محمد بن محمد بن أحمد أبو حامد
ابن غيلان = غيلان بن سلمة الثقفي 1/ 331
"ف"
ابن فارس = أحمد بن فارس بن زكريا أبو الحسين
أبو الفتح = سليم بن أيوب بن سليم الرازي
أبو الفتح = عثمان جني
ابن أبي فديك = محمد بن إسماعيل بن مسلم
الفراء = محمد بن الحسين بن محمد أبو يعلى
الفراء = يحيى بن زياد الأسدي أبو زكريا
أبو الفرج = عمرو بن محمد الليثي المالكي
الفوراني = عبد الرحمن بن محمد بن فوران
ابن فورك = محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني
الفيروزآبادي 1/ 46
"ق"
أبو القاسم الأنماطي = عثمان بن سعيد بن بشار البغدادي
أبو القاسم الرافعي = عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم
القاسم بن سلام أبو عبيد اللغوي 1/ 80
أبو القاسم بن كج = يوسف بن أحمد بن كج القاضي
القاساني = محمد بن إسحاق أبو بكر
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق 1/ 174(2/334)
القاضي جعفر = جعفر بن علي بن تاج الدين الظفيري
أبو القاسم البغدادي = عبيد الله بن عمر
ابن قتيبة = عبد الله بن مسلم بن قتيبة
القاضي حسين = حسين بن محمد بن أحمد أبو علي
القاضي عياض = عياض بن موسى أبو الفضل
قتادة = قتادة بن عامة أبو الخطاب البصري 1/ 175
القدوري = أحمد بن محمد بن جعفر أبو الحسين
القرافي = أحمد بن إدريس شهاب الدين أبو العباس
القرطبي = أحمد بن عمر بن إبراهيم أبو العباس
القرطبي = محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري
ابن القشيري = عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن
ابن القصار = علي بن عمر بن أحد البغدادي
القطان = يحيى بن سعيد بن فروخ
القفال = محمد بن علي بن إسماعيل أبو بكر
ابن قيم الجوزية = محمد بن أبي بكر
"ك"
ابن كج = يوسف بن أحمد بن يوسف بن كج
ابن كثير = عبد الله بن كثير بن عمرو
الكرابيسي = الحسين بن علي بن يزيد
الكرخي = عبيد الله بن الحسين الحنفي
الكسائي = علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي
كعب بن ماتع الحميري "كعب الأحبار" 2/ 181
الكعبي = عبد الله بن أحمد بن محمود أبو القاسم
"ل"
الليث بن سعد أبو الحارث 1/ 169
ابن ابي ليلى = محمد بن عبد الرحمن
"م"
الماتريدي = محمد بن محمد بن محمود أبو منصور
ابن الماجشون = عبد الملك بن عبد العزيز
المازري = محمد بن علي بن عمر أبو عبد الله المكي(2/335)
مالك بن أنس بن مالك صاحب المذهب 1/ 108
ابن مالك = محمد بن عبد الله
الماوردي = علي بن محمد أبو الحسن
المبارك بن محمد بن محمد الشيباني ابن الأثير 1/ 163
مبارك بن أبان 1/ 391
ابن المبارك = عبد الله بن المبارك
المبرد = محمد بن يزيد أبو العباس
مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي شيخ القراء 1/ 365
ابن مجاهد = محمد بن أحمد بن محمد أبو عبد الله
المحاسبي = الحارث بن أسد أبو عبد الله
أبو المحاسن = عبد الواحد بن إسماعيل
محفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطاب البغدادي 1/ 398 و2/ 44
محمد بن أحمد بن الأزهر 1/ 301
محمد بن أحمد أبو بكر "وأبو منصور" علاء الدين السمرقندي 1/ 211
محمد بن أحمد بن أبي بكر أبو عبد الله القرطبي 1/ 112
محمد بن أحمد "شمس الأئمة السرخسي" 1/ 33
محمد بن أحمد بن عبد الله بن خويز منداد 1/ 134
محمد بن أحمد بن عثمان "شمس الدين الذهبي" 1/ 145
محمد بن أحمد بن رشد أبو الوليد المالكي 1/ 112
محمد بن أحمد بن محمد بن عباد "العبادي" 1/ 351
محمد بن أحمد بن محمد الطائي أبو عبد الله 1/ 112
محمد بن إدريس صاحب المذهب 1/ 59
محمد بن إسحاق القاساني أبو بكر 1/ 135
محمد بن إسحاق بن خزيمة 1/ 170
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري 1/ 138
محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك 1/ 181
محمد بن بحر الأصفهاني أبو مسلم 2/ 52
محمد بن أبي بكر بن أيوب "ابن قيم الجوزية" 1/ 366
محمد بن بهادر بن عبد الله "بدر الدين" الزركشي 1/ 101
محمد بن جرير أبو جعفر الطبري 1/ 99
أبو محمد الجويني = عبد الله بن يوسف(2/336)
محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم البستي 1/ 142
محمد بن الحسن بن علي الطوسي أبو جعفر 1/ 136
محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني 1/ 213
محمد بن الحسن بن فورك أبو بكر الأصبهاني 1/ 41
محمد بن الحسين محمد أبو يعلى الفراء 1/ 119
محمد بن خازم أبو معاوية السعدي 1/ 365
محمد بن داود 1/ 311
محمد بن داود بن علي بن خالف الظاهري 1/ 135
محمد بن داود بن محمد الصيدلاني 2/ 135
محمد بن السري أبو بكر بن السراج النحوي 1/ 303
محمد بن سليمان أبو سهل الصعلوكي 2/ 230
محمد بن سيرين البصري 1/ 157
محمد بن شجاع الثلجي أبو عبد الله 1/ 292
محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني 1/ 49
محمد بن عبد الله أبو بكر الصيرفي 1/ 109
محمد بن عبد الله بن حمدوية أبو عبد الله 1/ 176
محمد بن عبد الله بن الحسن أبو الحسين ابن اللبان 1/ 135
محمد بن عبد الله الإسكافي 2/ 94
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم 2/ 283
محمد بن عبد الله بن مالك "جمال الدين" النحوي 1/ 359
محمد بن عبد الله التميمي أبو بكر الأبهري 1/ 151
محمد بن عبد الله محمد أبو بكر ابن العربي 1/ 111
محمد بن عبد الرحمن أبو الحارث ابن أبي ذئب 1/ 181
محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى 1/ 141
محمد بن عبد الرحيم أبو عبد الله صفي الدين الهندي 1/ 99
محمد بن عبد الواحد كمال الدين ابن الهمام 1/ 47
محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي أبو علي 1/ 79
محمد بن علي بن إسماعيل أبو بكر القفال الشاشي 1/ 107
محمد بن علي بن الطيب أبو الحسين البصري 1/ 60
محمد بن علي بن عمر أبو عبد الله المكي المازري 1/ 113
محمد بن علي بن وهب بن دقيق العيد 1/ 136(2/337)
محمد بن عمر بن أحمد أبو موسى المديني 1/ 364
محمد بن عمر بن الحسين "الفخر الرازي" 1/ 19
محمد بن عمر بن واقد الأسلمي 1/ 189
محمد بن عمرو بن موسى أبو جعفر العقيلي 1/ 179
محمد بن عيسى بن سورة الترمذي الضرير 1/ 149
محمد بن عيسى أبو عبد الله المغربي 2/ 94
محمد بن القاسم بن بشار أبو بكر الأنباري 2/ 50
محمد بن محمد بن أحمد "ابن سيد الناس" 2/ 214
محمد بن محمد بن أحمد الغزالي 1/ 33
محمد بن محمد بن جعفر الدقاق 1/ 109
محمد بن محمد بن سفيان أبو طاهر الدباس 1/ 171
محمد بن محمد بن العباس الخوارزمي 1/ 229
محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي 1/ 248
محمد بن محمود بن محمد "شمس الدين الأصفهاني" 1/ 46
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري 1/ 167
محمد بن المنكدر بن عبد الله القرشي التيمي 1/ 176
محمد بن المنتاب 1/ 292
محمد بن نصر المروزي أبو عبد الله 1/ 238
محمد بن هارون أبو عيسى الوراق 1/ 223
محمد بن الهذيل البصري أبو هذيل 1/ 131
محمد بن يحيى بن منصور "أبو سعيد" 2/ 273
محمد بن يحيى بن مهدي أبو عبد الله الجرجاني 1/ 235
محمد بن يزيد المبرد "أبو العباس" 1/ 298
محمد بن يعقوب بن يوسف أبو العباس الأصم 1/ 135
محمد بن يوسف بن علي أبو حيان 1/ 300
محمود بن علي الرازي 1/ 310
محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي
"جار الله الزمخشري" أبو القاسم 1/ 46
المرتضى = علي بن الحسين بن موسى
ابن المديني = علي بن المديني عبد الله أبو الحسن
المرغيناني = علي بن أبي بكر(2/338)
المروزي = محمد بن نصر أبو عبد الله
المريسي = بشر بن غياث
المزني = إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل
المزي = يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف
مسروق بن الأجدع بن مالك 1/ 174
مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني "سعد الدين" 1/ 46
مسلم بن الحجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري 1/ 138
مسلم بن خالد بن مسلم الزنجي المخزومي 1/ 182
أبو مسلم الأصفهاني = محمد بن بحر الأصفهاني
مسيلمة بن ثمامة الكذاب 1/ 75
المطرزي = ناصر بن أبي المكارم عبد السيد بن علي
مطهر بن الحسن أبو سعد 1/ 299
ابن المطهر = الحسين بن يوسف بن علي
معان بن رفاعة السلامي 1/ 179
أبو معاوية = محمد بن خازم السعدي
المعتضد بالله = أحمد بن طلحة أبو العباس
المعري = أحمد بن عبد الله بن سليمان
المعظم = عيسى بن محمد الحنفي
المغربي = محمد بن عيسى أبو عبد الله المغربي
مفلح بن الحسين الصيمري 1/ 152
مقاتل بن سليمان أبو الحسن البلخي 2/ 207
مكحول = مكحول الشامي أبو عبد الله الفقيه 1/ 386
أبو منصور الماتريدي = محمد بن محمد بن محمود
أبو منصور الجواليقي = موهب بن أحمد
أبو منصور = عبد القاهر بن طاهر البغدادي
منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني الشافعي 1/ 108 و2/ 71
ابن مهدي = عبد الرحمن بن مهدي العنبري
موسى بن سليمان الحنفي أبو سليمان الجوزجاني 1/ 213
أبو موسى المديني = محمد بن عمر بن أحمد
موهوب بن أحمد أبو منصور الجواليقي 1/ 301
المؤيد بالله = الحسين بن علي الزيدي(2/339)
"ن"
الناصح الحنبلي = عبد الرحمن بن عبد الوهاب
ناصر بن أبي المكارم عبد السيد بن علي المطرزي 1/ 391 و2/ 206
نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي 1/ 87
نافع مولى ابن عمر 1/ 134
النخعي = إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران
النسائي = أحمد بن شعيب بن علي
أبو نصر = عبد السيد بن محمد الصباغ
ابن نصر = أحمد بن نصر الداودي
النصيبي = حمزة بن أبي حمزة
النضر بن شميل بن خرشة أبو الحسن 2/ 31
النظام = إبراهيم بن سيار أبو إسحاق
النعمان بن ثابت أبو حنيفة صاحب المذهب 1/ 147
نفطويه = إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي
النهرواني 2/ 92
النووي = يحيى بن شرف أبو زكريا
النضر بن الحارث بن علقمة 2/ 238
"هـ"
أبو هاشم = عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي
أبو الهذيل = محمد بن الهذيل البصري
ابن أبي هريرة = الحسن بن الحسين أبو علي
هشام بن الحكم 1/ 135
ابن الهمام = محمد بن عبد الواحد "كمال الدين"
الهندي = محمد بن عبد الرحيم "صفي الدين"
"و"
الواقدي = محمد بن عمر بن واقد الأسلمي
أبو الوفا = علي بن عقيل بن محمد شيخ الحنابلة
الواحدي = علي بن أحمد بن محمد
أبو الوليد = سليمان بن خلف الباجي
الوليد بن عبد الملك بن مروان أبو العباس 1/ 186(2/340)
الوليد بن كثير الحافظ المخزومي 1/ 182
أبو الوليد = محمد بن أحمد بن رشد المالكي
ابن وهب = عبد الله بن وهب أبو محمد
"ي"
يحيى بن كثير بن درهم العنبري 1/ 386
يحيى بن حسان أبو زكريا 1/ 181
يحيى بن زياد الأسدي أبو زكريا الفراء 1/ 80
يحيى بن سعيد بن فروخ القطان 1/ 147
يحيى بن سعيد = يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو 1/ 175
يحيى بن شرف النووي أبو زكريا 1/ 100
يحيى بن أبي كثير أبو نصر الطائي 1/ 97
يحيى بن معين أبو زكريا البغدادي 1/ 96
يحيى بن يحيى بن بكر بن عبد الرحمن 1/ 167
يزيد بن القعقاع أبو جعفر 1/ 87
يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف الأنصاري 1/ 141
يعقوب بن إسحاق بن زيد 1/ 87
أبو يعقوب الرازي = يوسف بن الحسين
أبو يعلى = محمد بن الحسين بن محمد "القاضي"
يوسف بن أحمد بن كج أبو القاسم "القاضي" 1/ 111
يوسف بن الزكي 1/ 183
يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف أبو الحجاج المزي 1/ 149
يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر الأندلسي 1/ 96
يوسف بن الحسين أبو يعقوب الرازي 1/ 219
أبو يوسف = يعقوب بن إبراهيم الأنصاري(2/341)
4- فهرس الكتب الواردة في المتن:
اسم الكتاب المؤلف الجزء والصفحة
"أ"
الإحكام لابن حزم 1/ 163، 196، 214،
37، و2/ 58، 94
أحكام القرآن للإمام الشافعي رضي الله عنه 2/ 18، 94
اختلاف الحديث للإمام الشافعي رضي الله عنه 1/ 318
أدب الجدل لأبي الحسن السهيلي 1/ 213، 227 و2/ 44، 169
أدب الطلب ومنتهى الأدب للإمام الشوكاني 2/ 190، 245
أدب القاضي للإمام الشافعي 2/ 232
الأساليب لأبي المعالي الجويني 2/ 126
الأصول للإمام الشاشي 1/ 313
الإعراب لابن حزم 1/ 237
الإفادة للقاضي عبد الوهاب 1/ 300، 314،
32، 357، 398
إكفار المتأولين ـ 2/ 229
إلجام العوام عن علم الكلام لأبي حامد الغزالي 2/ 33
الإلماع للقاضي عياض 1/ 169
الأم للإمام الشافعي 2/ 47
أنواع البروق في أنواع الفروق = القواعد للقرافي(2/342)
الأوسط لابن برهان 1/ 231، 326، 338
و2/ 6، 62، 67، 81، 192، 193
"ب"
البحر للروياني 1/ 231، 238، 2/ 248
البحر المحيط للزركشي 1/ 101، 107، 110، 143، 211، 225 232، 240، 241، 298، 303، 308، 320، 333، 339، 391 و2/ 24، 34، 56، 70، 78، 82، 149، 156، 198، 199، 212 215، 240، 257، 260
البرهان لإمام الحرمين الجويني 1/ 98، 107، 111 293، 334، 344 و2/ 37، 46، 58، 117، 119، 126، 149، 176 184، 269
"ت"
تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي 1/ 183
تاريخ النبلاء للحافظ الذهبي 1/ 183 و2/ 33، 34
التبصرة لأبي إسحاق الشيرازي 1/ 134 و2/ 29، 140
التحرير للمحقق ابن الهمام 1/ 299، 304، 390، و2/ 288
التحقيق لعبد العزيز بن أحمد 2/ 46
التذكرة في أصول الدين للتميمي 2/ 199
التعليقة لأبي حامد الغزالي 1/ 347
التعليقة للقاضي حسين 1/ 139 و2/ 176، 240
التفرقة بين الإسلام والزندقة لأبي حامد الغزالي 2/ 229
تفسير خمسمائة آية من القرآن لمقاتل بن سليمان 2/ 210
تفسير الرازي للإمام الرازي 1/ 308، 382
تفسير الماتريدي لأبي منصور الماتريدي 2/ 6
التقريب للرازي 1/ 307 و2/ 45، 57(2/343)
التقريب لأبي بكر الباقلاني 1/ 155، 159، 180،
185، 215، 223، 232، 293، 315، 333، 335، 372،
391 و2/ 45، 48، 57، 67، 77، 1110، 117، 124، 138،
177، 187، 191، 218، 240، 263، 269، 280
التقويم لأبي زيد الدبوسي 1/ 111، 308
التلخيص للإمام الجويني 1/ 356، 400 و2/ 240
التلخيص للقاضي عبد الوهاب 1/ 298 و2/ 150
التلويح لإلكيا الطبري 1/ 308، 318، 2/ 45
التلويح للسعد التفتازاني 1/ 248
التمهيد لأبي الخطاب الحنبلي 2/ 46
التمهيد لابن عبد البر 2/ 65، 66
تهذيب الكمال للحافظ المزي 1/ 183
التنقيح ــ 2/ 120، 121
"ث"
الثقات لابن حبان 1/ 142، 150
"ج"
جامع الأصول لابن الأثير 1/ 163
جامع العلم لابن عبد البر 1/ 96 و2/ 94
الجدل لأبي منصور البغدادي 1/ 229
الجدل للكعبي 2/ 164
الجدل للآمدي 2/ 112، 113
"خ"
الخصائص لابن جني 1/ 233
"د"
الدلائل "دلائل الأعلام" للصيرفي 1/ 233 و2/ 62(2/344)
"ر"
الرسالة للإمام الشافعي 1/ 237، 410 و2/ 24،
54، 59، 182، 187، 232
الرسالة المكملة في أدلة البسملة للشوكاني 1/ 89
الروضة لابن قدامة 2/ 93
"ز"
الزواجر في الكبائر لابن حجر 1/ 145
زوائد الروضة للحافظ النووي 1/ 100 و2/ 93
الزيادات للعبادي 1/ 353
"س"
سنن البيهقي لأحمد بن الحسين 2/ 253
سنن أبو داود لأبي داود 2/ 207، 208
السير الكبير للشيباني 2/ 39
"ش"
الشامل لإمام الحرمين الجويني 2/ 241
شرح أدب الكاتب لأبي منصور الجواليقي 1/ 311
شرح الإمام لابن دقيق العيد 1/ 165، 371، 393،
397 و2/ 213
شرح البرهان للأبياري 1/ 157، 164، 329
و2/ 116، 126، 136
شرح البرهان لابن المنير 2/ 49
شرح البزدوي = كشف الأسرار
شرح الترتيب للإسفراييني 2/ 141
شرح الرسالة للجويني 1/ 135 و2/ 198، 220،
232، 250(2/345)
شرح السير للسرخسي 2/ 45
شرح العنوان لابن دقيق العبد 1/ 322، 347 و2/ 108، 213
شرح كتاب سيبويه للسيرافي 1/ 301
شرح الكفاية لأبي الطيب 1/ 111 و2/ 67
شرح اللمع للشيرازي 2/ 37، 39
شرح المحصول للأصفهاني 1/ 213، 329، 354،
357 و2/ 5، 58، 160
شرح مختصر المنتهى لعضد الدين 1/ 330، 359
شرح صحيح مسلم للنووي 2/ 130
شرح مقالات الأشعري لابن فورك 2/ 68
شرح المنتقى للشوكاني = نيل الأوطار
شعب الإيمان للبيهقي 2/ 101
شفاء العليل للغزالي 2/ 133
"ص"
الصحاح للجوهري 1/ 375 و2/ 89
صحيح البخاري للإمام البخاري 1/ 138 و2/ 211
صحيح مسلم للإمام مسلم 1/ 138، 146، 389 و2/ 211
"ض"
الضعفاء للعقيلي 1/ 179
"ع"
العدة لابن الصباغ 1/ 356، 412
العلل للترمذي 1/ 49
العلل للخلال 1/ 180(2/346)
"غ"
غريب الحديث لأبي عبيد 1/ 344
"ف"
فتاوى ابن الصلاح لابن الصلاح 2/ 199
الفتيا للجاحظ 1/ 187
فتح القدير للإمام الشوكاني 1/ 91
فقه العربية لابن فارس 1/ 95، 312، 372
و2/ 32
الفقيه والمتفقه للحافظ البغدادي 2/ 75
"ق"
القواطع لابن السمعاني 1/ 298، 356
و2/ 107، 176
القواعد للأصفهاني 1/ 372
القواعد للقرافي 2/ 46
القول المفيد في حكم التقليد للشوكاني 2/ 190، 244
"ك"
الكافي للخوارزمي 1/ 229 و2/ 136،
174، 180
الكفاية للخطيب البغدادي 1/ 185
الكتاب للصيرفي 2/ 50
الكتاب لأبي إسحاق المروزي 2/ 59
كتاب سيبويه لسيبويه 1/ 81، 312
كتاب ابن فورك ـــ 1/ 224
الكشاف للزمخشري 2/ 47
كشف الأسرار = شرح البزدوي العلاء البخاري 1/ 335(2/347)
"ل"
اللباب لمطهر بن الحسن 1/ 299
اللمع للشيرازي 1/ 109، 159، 160،
229، 232، 340، 383 و2/ 9، 25، 40، 67، 78، 73،
269
"م"
المحصول لابن العربي 1/ 111
المحصول للرازي 1/ 41، 47، 67، 91،
107، 108، 111، 120، 143، 146، 180، 184،
193، 198، 206، 213، 236، 241، 247، 258، 259،
269، 273، 285، 305، 307، 309، 315، 318، 324،
326، 328، 329، 331، 334، 339، 341، 346، 348،
358، 363، 369، 370، 375، 378، 381، 382، 384،
388، 390 و2/ 5، 7، 9، 10، 12، 13، 21، 27، 39،
44، 50، 51، 62، 76، 79، 80، 89، 92، 110، 111،
116، 118، 122، 127، 134، 125، 136، 138، 139،
146، 147، 149، 153، 156، 157، 205، 207، 209،
211، 212، 224، 236، 237، 241، 247، 251، 257،
258، 260، 264، 269، 276، 277، 278، 284
المختصر للمزني 2/ 146، 150، 240، 243
مختصر التقريب للجويني 1/ 232 و2/ 13، 27، 136، 178
مختصر المنتهى لابن الحاجب 1/ 326، 360، 390، 391
و2/ 52، 115، 116، 134، 137، 155، 162، 182،
228، 275
مدارج السالكين لابن القيم 1/ 366
المدخل للبيهقي 1/ 168
المرشد لابن القشيري 2/ 178، 179
المسائل لابن قتيبة 1/ 367(2/348)
مسائل الخلاف في أصول الفقه لأبي عبد الله الصيمري 1/ 289
المستدرك للحاكم النيسابوري 1/ 364 و2/ 66
المستصفى للغزالي 1/ 226، 262،
و22/ 137، 138، 263،
271، 275
المصادر في الأصول لمحمود بن علي الرازي 1/ 134، 310 و2/ 17
المطالب العالية للفخر الرازي 2/ 53
المطلب لابن الرفعة 2/ 10
المعالم للرازي 1/ 110
المعتمد لأبي الحسين 1/ 232، 325، 334، 358
و2/ 18، 29، 45، 80،
81، 83
المعتمد لأبي عبد الله البصري 2/ 17
معرفة السنن للبيهقي 2/ 207
المفهم شرح مسلم للقرطبي المالكي 1/ 314
المقاييس لابن فارس 1/ 193
الملخص للقاضي عبد الوهاب 1/ 142، 217، 358
و2/ 21، 46
الملل والنحل لابن حزم 1/ 99
المنتهى ــ 2/ 107
المنخول للغزالي 1/ 103، 112، 139،
184، 226، 227، 334 و2/ 15، 157، 178، 251، 257
المنهاج للبيضاوي 2/ 63، 110، 135
الموطأ للإمام مالك 1/ 218، 238
الميزان للذهبي 1/ 184
ميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندي 1/ 215، 302، 303
"ن"
الناسخ والمنسوخ ـ 2/ 62(2/349)
نتائج الفكر للسهيلي 2/ 46
النكت للشيرازي 2/ 216
النهاية للجويني 1/ 104، 308، 378، 392
النهاية للصفي الهندي 1/ 304 و2/ 37
نهاية الغريب = النهاية في
غريب المحدثين لابن الأثير 2/ 200
نيل الأوطار في شرح المنتقى
من الأخبار للشوكاني 1/ 89
"هـ"
الهداية للمرغيناني 2/ 44
"و"
الوجيز لابن برهان 1/ 216، 231، 233، 358
و2/ 29، 46، 114، 115، 178، 185، 263
الوسيط للغزالي 2/ 212
الودائع لابن سريج 1/ 237
الوهم والإيهام لابن القطان 1/ 143(2/350)
5- فهرس الفرق:
الفرقة الجزء / الصفحة
الأشعرية 1/ 28، 32، 36، 38، 98، 111، 133، 136،
222، 375، و2/ 38، 57، 67، 87، 88، 89
الإمامية 1/ 133، 136، 222
البراهمة 1/ 128، 131
الخطابية 1/ 213
الخوارج 1/ 201، 212، 213
الدهرية 1/ 130
الرافضة 1/ 102، 135، 212، 213، و2/ 53
الزيدية 1/ 222
السمنية 1/ 128، 131
الشمعونية 2/ 52
الظاهرية 1/ 67، 160، 212، 213، 229، 330، 383
و2/ 38، 52، 59، 60، 174
القدرية 1/ 212
الفلاسفة 1/ 55
المجسمة 2/ 229
المجوس 2/ 228
المرجئة 1/ 293
المشبهة 2/ 32
المعتزلة 1/ 28، 36، 38، 41، 64،(2/351)
66، 79، 89، 102، 105، 109، 111، 136،
175، 189، 212، 245، 247، 248، 249،
258، 264، 275، 284، 305، 307، 326،
357، 393 و2/ 13، 28، 29، 38، 44، 57،
59، 67، 69، 93، 94، 105، 120، 140، 180،
230، 231، 235، 237، 241، 287، 288، 289
النصاري 1/ 126 و2/ 288
الموسوية 2/ 52
الواقفية 1/ 293، 294
اليهود 1/ 126 و2/ 193، 195، 228(2/352)
6- فهرس الأبيات الشعرية والأمثال العربية:
تخبرك العينان ما القلب كاتم ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر
لم يعرف قائله 1/ 120
لأمر ما يسود من يسود
قائله: أنس بن مدركة 1/ 242
وبلده ليس بها أنس إلا اليعافير ولا العيس
قائله: جران العود 1/ 360
نَبِيٌّ مِنَ الْغِرْبَانِ لَيْسَ عَلَى شَرْعٍ يُخْبِرُنَا أن الشعوب إلى صدع
قائله: أبو العلاء المعري 1/ 120
دَعْ عَنْكَ تَعْنِيفِي وَذُقْ طَعْمَ الْهَوَى فَإِذَا عشقت فعند ذلك عنف
قائله: عمرو بن الفارض 2/ 227
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل
قائله: امرؤ القيس 1/ 254
يَهُونُ عَلَيْنَا أَنْ تُصَابَ جُسُومُنَا وَتَسْلَمَ أَعْرَاضٌ لنا وعقول
قائله: أبو الطيب المتنبي 2/ 130
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
قائله: أبو الطيب المتنبي 2/ 226
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
قائله: سحيم بن وثيل الرياحي 1/ 69
لَا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلَّا مَنْ يُكَابِدُهُ وَلَا الصبابة إلا من يعانيها
قائله: الأبلة البغدادي 2/ 226
فهرس الأمثال:
لأمر ما جدع قصير أنفه 1/ 242
على نفسها جنت براقش 2/ 226(2/353)
7- فهرس الأماكن والبلدان:
المكان أو البلد الجزء/ الصفحة
بئر معونة 2/ 65
البصرة 1/ 80، 213، 220
سمرقند 1/ 248
الصفا 1/ 82
قباء 1/ 136
الكوفة 1/ 30، 213، 220
المدينة 1/ 176، 220
مصر 1/ 220
المروة 1/ 82
مكة 1/ 220
نيسابور 2/ 140
اليمامة 1/ 75(2/354)
8- فهرس مراجع التحقيق:
الإتقان في علوم القرآن، للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، منشورات رضى ببيدار عزيزي.
أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله "ابن العربي"، تحقيق علي محمد البيجاوي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لمحمد ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي بيروت الطبعة الثانية سنة 1985
الاستيعاب في أسماء الأصحاب، لأبي عمر يوسف بن عبد الله "ابن عبد البر"، طبعة دار الكتاب العربي بيروت مطبوع مع كتاب الإصابة.
الإصابة في تمييز الصحابة، لشهاب الدين أحمد بن علي بن محمد "ابن حجر العسقلاني"، طبعة دار الكتاب العربي بيروت.
أصول الشاشي، لنظام الدين الشاشي، طبعة دار الكتاب العربي بيروت.
أصول السرخسي، للإمام محمد بن أحمد السرخسي، تحقيق أبي الوفا الأفغاني، طبعة دار المعرفة بيروت.
إعلاء السنن، للتهانوي، الطبعة الثانية في الباكستان عام 1383 هـ.
الأعلام، لخير الدين الزركلي، بطبعة دار العلم للملايين بيروت، الطبعة العاشرة 1992.
الأم، لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، طبعة دار المعرفة بيروت، بإشراف محمد زهدي النجار.
البداية والنهاية في التاريخ، للحافظ إسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير، طبعة مكتبة المعارف بيروت.
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، للقاضي محمد بن علي الشوكاني، طبعة دار المعرفة بيروت.
البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف، للشيخ إبراهيم بن محمد الحسيني، طبعة مكتبة مصر، تحقيق عبد المجيد هاشم.
تاج التراجم في طبقات الحنفية، لزين الدين قاسم بن قطلوبغا، تحقيق محمد خير رمضان يوسف، طبعة دار القلم دمشق 1992.
تاريخ بغداد، لأحمد بن علي البغدادي الخطيب، طبعة دار الكتب العلمية بيروت.(2/355)
التبصرة في اصول الفقه، للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، تحقيق الدكتور محمد حسين هيتو، طبعة دار الفكر دمشق.
تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد، للشيخ إبراهيم بن محمد البيجوري، طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
دريب الراوي في شرح تقريب النواوي، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، طبعة دار الفكر بيروت.
تذكرة الحفاظ، للإمام الحافظ شمس الدين الذهبي طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
التعريفات، لعلي بن محمد الجرجاني، تحقيق إبراهيم الأبياري، طبعة دار الكتاب العربي بيروت.
تفسير ابن كثير "تفسير القرآن العظيم"، لإسماعيل بن عمر بن كثير، طبعة دار المعرفة بيروت بتقديم الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
تفسير الصاوي "حاشية الصاوي على الجلالين" طبعة دار الفكر بيروت 1986.
تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"، لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، طبعة دار الشام للتراث بيروت.
التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير.
التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، لسعد الدين التفتازاني، طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
التمهيد، لابن عبد البر، طبعة مطبعة فضالة في المغرب.
تهذيب التهذيب، للحافظ أحمد بن علي "ابن حجر العسقلاني"، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر.
جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، للسيد أحمد الهاشمي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت الطبعة الثانية عشرة.
الجواهر المضية في طبقات الحنيفية، لأبي محمد عبد القادر بن محمد القرشي، تحقيق الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، الطبعة الثانية في هجر 1993.
حاشية الدمياطي على شرح الورقات، لأحمد بن محمد الدمياطي، طبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر.
خلاصة الأفكار شرح مختصر المنار، لزين الدين قاسم بن قطلوبغا، تحقيق الدكتور زهير بن ناصر الناصر، الطبعة الأولى دار ابن كثير.
خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لصفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري، طبعة مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب، تقديم عبد الفتاح أبو غدة.
الدراية في تخريج أحاديث الهداية، للحافظ ابن حجر العسقلاني، طبعة دار المعرفة.
ذيل تذكرة الحفاظ، للحافظ أبي المحاسن محمد بن علي الدمشقي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، طبعة مصطفي البابي الحلبي بالقاهرة.(2/356)
روضة الطالبين وعمدة المفتين، للإمام يحيى بن شرف النووي، طبعة المكتب الإسلامي بيروت، 1991.
سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى الترمذي طبعة دار الفكر، تحقيق عبد الرحمن محمد.
سنن الدراقطني، للحافظ علي بن عمر الدارقطني، طبعة عالم الكتب بيروت.
سنن الدارمي، لعبد الرحمن بن الفضل بن بهرام، طبعة دار الريان سنة 1407هـ.
سنن أبي داود، لسليمان بن الأشعث السجستاني، طبعة دار الجنان بيروت.
السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، طبعة دار الفكر.
سنن ابن ماجة، لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة دار الحديث القاهرة.
سنن النسائي، لأحمد بن شعيب النسائي، طبعة دار المعرفة بيروت 1994.
سير أعلام النبلاء، للحافظ شمس الدين الذهبي، طبعة مؤسسة الرسالة، الطبعة العاشرة 1990.
السيرة النبوية، لأبي محمد عبد الملك بن هشام، تقديم طه عبد الرءوف سعد، طبعة شركة الطباعة المتحدة مصر.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
شرح السراجية، للسيد الشريف الجرجاني، تحقيق الشيخ عدنان درويش.
شرح السلم المنورق لدمنهوري، تحقيق عبد السلام شنار.
شرح شواهد المغني "فتح القريب المجيد في إعراب شواهد مغني اللبيب"، لشيخ محمد علي طه الدرة، طبعة الرازي دمشق.
شرح صحيح مسلم، ليحيى بن شرف النووي، طبعة دار مكتبة الغزالي دمشق.
الصحاح في اللغة والعلوم، لإسماعيل بن حماد الجوهري، طبعة دار الحضارة العربية بيروت، الطبعة الأولى 1974، تقديم الشيخ عبد الله العلايلي.
صحيح البخاري "الجامع الصحيح"، لمحمد بن إسماعيل البخاري، طبعة دار المعرفة مع فتح الباري.
صحيح ابن خزيمة، لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، طبعة المكتب الإسلامي بيروت، 1992، تحقيق الدكتور محمد مصطفي الأعظمي.
صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
ضوابط المعرفة، لعبد الرحمن حسن حبنكة، طبعة دار القلم.
فتح العزيز في شرح الوجيز، لأبي القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي، طبعة دار الفكر بيروت، وهو بهامش المجموع.
الفوائد البهية في تراجم الحنفية، لأبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي، طبعة دار المعرفة بيروت.
فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، لعبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت، 1993، بهامش المستصفى.
كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، للإمام علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري،(2/357)
طبعة دار الكتاب الإسلامي القاهرة.
كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل بن محمد العجلوني، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لمصطفي بن عبد الله "حاجي خليفة"، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
لسان العرب، لأبي الفضل محمد بن منظور، طبعة دار صادر بيروت، 1992.
لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني "أحمد بن علي"، طبعة مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق عبد الله محمد درويش، طبعة دار الفكر بيروت.
المجموع شرح المهذب، للإمام يحيى بن شرف النووي، طبعة دار الفكر بيروت.
المحصول في علم الأصول، لفخر الدين الرازي، طبعة مطبعة جامعة الأمير محمد بن سعود الإسلامية، تحقيق الدكتور طه جابر العلواني.
مختصر المزني، لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، طبعة دار المعرفة بيروت، وهو ملحق بالأم للشافعي.
المستدرك على الصحيحين، للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله "الحاكم النيسابوري"، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، طبعة دار الكتب العلمية بيروت 1990.
المستصفى من علم الأصول، للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، طبعة دار إحياء التراث العربي.
مسند الإمام أحمد بن حنبل، طبعة دار المكتب الإسلامي ودار صادر بيروت، 1978.
مسند أبو عوانة الإسفراييني، طبعة دار المعرفة.
مسند أبي يعلي، للإمام الحافظ أحمد بن علي الموصلي، تحقيق حسين سليم أسد، طبعة دار الثقافة العربية، 1992 دمشق بيروت.
مصابيح السنة، للحسين بن محمود البغوي، طبعة دار المعرفة بيروت، تحقيق الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للرافعي للإمام أحمد بن محمد الفيومي، طبعة المكتبة العلمية بيروت.
المصنف، للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعائي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، طبعة المكتب الإسلامي بيروت، 1983.
المصنف، لابن أبي شيبة، تحقيق عبد الخالق الأفغاني، طبعة الدار السلفية الهند.
معجم الأدباء لياقوت بن عبد الله الحموي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت.
معجم مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام محمد هارون، طبعة مركز مكتب الإعلام الإسلامي 1984.(2/358)
المعجم الوسيط، قام بإخراجه الدكتور إبراهيم أنيس وجماعة، طبعة دار الفكر.
مفاتيح العلوم، للإمام محمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمي، تحقيق إبراهيم الأبياري، طبعة دار الكتاب العربي بيروت 1984.
مقدمة ابن الصلاح، لأبي عمرو بن الصلاح، طبعة دار الفكر دمشق، تحقيق الدكتور مصطفي ديب البغا.
الملل والنحل، للشهرستاني "محمد بن عبد الكريم" طبعة دار المعرفة، تحقيق محمد سيد كيلاني.
المنتقى، لأبي محمد بن عبد الله بن الجارود، طبعة مؤسسة الكتب الثقافية دار الجنان، تعليق عبد الله البارودي.
المنخول من تعليقات الأصول، للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، تحقيق الدكتور محمد حسين هيتو، طبعة دار الفكر دمشق،1980.
الموطأ، للإمام مالك بن أنس، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة دار إحياء التراث العربي، 1985.
ميزان الأصول في نتائج العقول، للشيخ علاء الدين أبو بكر محمد بن أحمد السمرقندي، تحقيق الدكتور عبد الملك عبد الرحمن السعدي، طبعة وزارة الأوقاف والشئون الدينية.
نسمات الأسحار شرح إفاضة الأنوار، للإمام محمد بن عابدين الحنفي، طبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر.
نصب الراية، لعبد الله بن يوسف الزيلعي، طبعة دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة 1407هـ.
الهداية "شرح بداية المبتدي" للإمام برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني، تحقيق محمد عدنان درويش، طبعة دار الأرقم بن أبي الأرقم.
هدية العارفين، لإسماعيل باشا البغدادي، طبعة دار إحياء التراث العربي.(2/359)
فهرس موضوعات الجزء الثاني:
الموضوع الصفحة
الباب الخامس: في المطلق والمقيد
المبحث الأول: في حدهما 5
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ 6
المبحث الثالث: في شرط حمل المطلق على المقيد 9
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ: فِي جَرَيَانِ مَا ذُكِرَ فِي تخصيص العام في تقييد المطلق 10
الباب السادس: في المجمل والمبين
الفصل الأول: في حدهما 12
تعريف المجمل 12
تعريف المبين 13
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي وُقُوعِ الْإِجْمَالِ فِي الْكِتَابِ والسنة 14
الفصل الثالث: في وجوه الإجمال 15
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِيمَا لَا إِجْمَالَ فِيهِ 16
الْفَصْلُ الخامس: في مراتب البيان للأحكام 23
الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحاجة 26
الباب السابع: في الظاهر والمؤول
الفصل الأول: في حدهما 31
الفصل الثاني: فيما يدخله التأويل 32
الفصل الثالث: في شروط التأويل 34(2/360)
الباب الثامن: في المنطوق والمفهوم
المسألة الأولى: في حدهما 36
أقسام المنطوق 36
أقسام المفهوم 37
المسألة الثانية: في مفهوم المخالفة 38
المسألة الثالثة: في شروط القول بمفهوم الْمُخَالَفَةِ 40
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي أَنْوَاعِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ 42
النوع الأول: مفهوم الصفة 42
النوع الثاني: مفهوم العلة 43
النوع الثالث: مفهوم الشرط 43
النوع الرابع: مفهوم العدد 44
النوع الخامس: مفهوم الغاية 45
النوع السادس: مفهوم اللقب 45
النوع السابع: مفهوم الحصر 46
النوع الثامن: مفهوم الحال 48
النوع التاسع: مفهوم الزمان 48
النوع العاشر: مفهوم المكان 48
الْبَابُ التَّاسِعُ: مِنَ الْمَقْصِدِ الرَّابِعِ فِي النَّسْخِ
المسألة الأولى: في حده 49
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلًا وَوُقُوعِهِ شرعا 52
الحكمة من النسخ 53
المسألة الثالثة: في شروط النسخ 55
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي جَوَازِ النَّسْخِ بَعْدَ اعْتِقَادِ المنسوخ والعمل به 56
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّسْخِ أن يخلفه بدل 58
المسألة السادسة: في النَّسْخُ إِلَى بَدَلٍ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ 60
الْمَسْأَلَةُ السابعة: في جواز نسخ الأخبار 61
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ والعكس ونسخهما معًا 63(2/361)
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي وُجُوهِ نَسْخِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ 67
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ 68
نسخ السنة بالقرآن 71
المسألة الحادية عشرة: في نسخ القول والفعل من السنة 72
المسألة الثانية عشرة: في القول في نسخ الإجماع والنسخ به 74
المسالة الثالثة عشرة: في القياس لا يكون ناسخا 76
المسألة الرابعة عشرة: في نسخ المفهوم 77
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ 79
المسألة السادسة عشرة: في النُّقْصَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ هَلْ يَكُونُ نَسْخًا 83
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي الطَّرِيقِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا كون الناسخ ناسخا 84
المقصد الخامس: من مقاصد هذا الكتاب في الْقِيَاسُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَعْرِيفِهِ 89
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي حُجِّيَّةِ القياس 91
الأدلة من القرآن الكريم 95
الأدلة من السنة المطهرة 99
الأدلة من الإجماع 102
الفصل الثالث: في أركان القياس 104
شروط القياس المعتبرة في المقيس عليه 105
مباحث العلة 109
الشروط المعتبرة في العلة 111
ما لا يعتبر من الشروط في العلة 113
القول في تعدد العلل 115
شروط المقيس "الفرع" 116
الفصل الرابع: في الكلام عن مسالك العلة 116
المسلك الأول: الإجماع 117
المسلك الثاني: النص على العلة 118
المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه 121
الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 124(2/362)
المسلك الخامس: السبر والتقسيم 124
المسلك السادس: المناسبة 127
أقسام المناسب من حيث الظن واليقين 129
انقسام المناسب إلى حقيقي وإقناعي 129
انْقِسَامُ الْمُنَاسِبِ بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الشَّرْعِ وَعَدَمِهَا إِلَى ثلاثة أقسام 132
انْقِسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَعَدَمُهُ وَالْمُلَاءَمَةُ وعدمها 134
المسلك السابع: الشبه 136
الخلاف في حجيته 137
المسلك الثامن: الطرد 138
المسلك التاسع: الدوران 140
المسلك العاشر: تنقيح المناط 141
المسلك الحادي عشر: تحقيق المناط 142
الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ 143
حكم جريان القياس في الأسباب 144
القياس في الحدود والكفارات 144
الفصل السادس: في الاعتراضات 146
الاعتراض الأول: النقض 147
الاعتراض الثاني: الكسر 149
الاعتراض الثالث: عدم العكس 151
الاعتراض الرابع: عدم التأثير 151
الاعتراض الخامس: القلب 153
الاعتراض السادس: القول بالموجب 156
الاعتراض السابع: الفرق 157
الاعتراض الثامن: الاستفسار 158
الاعتراض التاسع: فساد الاعتبار 158
الاعتراض العاشر: فساد الوضع 159
الاعتراض الحادي عشر: المنع 160
الاعتراض الثاني عشر: التقسيم 161
الاعتراض الثالث عشر: في اختلاف الضابط بين الأصل والفرع 161
الاعتراض الرابع عشر: في اختلاف حكمي الأصل والفرع 162
الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسَ عَشَرَ: مَنْعُ كَوْنِ مَا يَدَّعِيهِ المستدل علة لحكم الأصل 162
الِاعْتِرَاضُ السَّادِسَ عَشَرَ: مَنْعُ كَوْنِ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عليته علة 162
الاعتراض السابع: القدح في المناسبة 163(2/363)
الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنَ عَشَرَ: الْقَدْحُ فِي إِفْضَائِهِ إِلَى المصلحة المقصودة
من شرع الحكم له 163
الِاعْتِرَاضُ التَّاسِعَ عَشَرَ: كَوْنُ الْوَصْفِ غَيْرَ ظَاهِرٍ 163
الِاعْتِرَاضُ الْمُوفِي عِشْرِينَ: كَوْنُ الْوَصْفِ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ 163
الاعتراض الحادي والعشرون: المعارضة 164
أقسام المعارضة 164
الاعتراض الثاني والعشرين: سؤال التعدية 166
الاعتراض الثالث والعشرون: سؤال التركيب 167
الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ به في الفرع 167
الاعتراض الخامس والعشرون: المعارضة في الفرع 167
الاعتراض السادس والعشرون: المعارضة في الوصف 167
الِاعْتِرَاضُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: اخْتِلَافُ جِنْسِ الْمَصْلَحَةِ فِي الأصل والفرع 168
الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَدَّعِيَ الْمُعْتَرِضُ الْمُخَالَفَةَ
بين حكم الأصل وحكم الفرع 168
الفائدة الأولي: في لزوم إيراد الأسئلة مرتبة 168
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الِانْتِقَالِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ إلى غيره 170
الفائدة الثالثة في الفرض والبناء 170
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: فِي جَوَازِ التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ 171
الفائدة الخامسة: في السؤال والجواب 171
الفصل السابع: في الاستدلال 172
البحث الأول: في التلازم 172
البحث الثاني: في الاستصحاب 174
البحث الثالث: في شرع من قبلنا وفيه مسألتان 177
المسألة الأولى: هَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَبِّدًا قبل البعثة بشرع أم لا؟ 177
المسألة الثانية: هل كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد البعثة متعبدا
بشرع من قبله أم لا؟ 179
البحث الرابع: الاستحسان 181
البحث الخامس: المصالح المرسلة 184
فوائد تتعلق بالاستدلال 187
الفائدة الأولى: في قول الصحابي 187
الفائدة الثانية: الأخذ بأقل من قيل 189
الفائدة الثالثة: النافي للحكم هل يلزمه الدليل أم لا؟ 191
الفائدة الرابعة: سد الذرائع 193
الفائدة الخامسة: دلالة الاقتران 197(2/364)
الفائدة السادسة: دلالة الإلهام 199
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 202
الْمَقْصِدُ السَّادِسُ: مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْكِتَابِ فِي الاجتهاد والتقليد
الفصل الأول: في الاجتهاد 205
المسالة الأولى: في حده 205
الشروط الواجب توافرها في المجتهد 206
موضع الاجتهاد 211
المسلة الثانية: هل يجوز خلو العصر من المجتهدين أم لا؟ 211
المسألة الثالثة: في تجزُّؤ الاجتهاد 216
المسالة الرابعة: في جواز الاجتهاد للأنبياء 217
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 221
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِيمَا يَنْبَغِي لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَهُ في اجتهاده ويعتمد عليه 224
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي كُلُّ مُجْتَهِدٍ فيها مصيب 227
الفرع الأول: العقليات وهي على أنواع 227
الفرع الثاني: المسائل الشرعية 230
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَسَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لَا قَاطِعَ بها 231
المسألة الثامنة: أنه لا يجوز أن يكون للمجتهد في مسألة واحدة
قولان متناقضان في وقت وحد 235
المسألة التاسعة: في جواز تفويض المجتهد 237
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي التَّقْلِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ من أحكام المفتي والمستفتي 239
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّ التَّقْلِيدِ وَالْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي 239
المسألة الثانية: في حكم التقليد في أصول الدين 241
المسالة الثالثة: في حكم التقليد في المسائل الشرعية الفرعية 243
المسألة الرابعة: في حكم إفتاء المقلد 247
المسألة الخامسة: في حكم سؤال العالم بالكتاب والسنة 250
المسالة السادسة: في حكم الالتزام بمذهب معين 252(2/365)
الْمَقْصِدُ السَّابِعُ: مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْكِتَابِ فِي التعادل والترجيح
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَاهُمَا وَفِي الْعَمَلِ بِالتَّرْجِيحِ وفي شروطه 257
المبحث الثاني: في عدم التعارض بين دليلين قطعيين 260
عمل المجتهد عند العجز عن الترجيح 262
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: فِي وُجُوهِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ 263
أنواع الترجيح 264
الترجيح باعتبار الإسناد 264
القول في الترجيح باعتبار المتن 268
الترجيح باعتبار المدلول 270
الترجيح بحسب الأمور الخارجة 271
الترجيح بين الأقيسة 273
التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ 276
التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ للحكم 277
الترجيح بحسب دليل الحكم 278
الترجيح بحسب كيفية الحكم 279
الترجيح بحسب الأمور الخارجة 280
الترجيح بحسب الفرع 280
الترجيح بحسب الحدود السمعية 281
خاتمة لمقاصد هذا الكتاب: وفيها مَسْأَلَتَانِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلِ الْأَصْلُ فِيمَا وَقَعَ الخلاف الإباحة أو المنع أو الوقف 283
المسألة الثانية: في وجوب شكرا المنعم عقلا 287(2/366)
الفهارس
فهرس الآيات القرآنية 291
فهرس أطراف الأحاديث النبوية 308
فهرس الأعلام المترجمين 319
فهرس الكتب الوارد ذكرها في المتن 342
فهرس الفرق 351
فهرس الآبيات الشعرية والأمثال العربية 353
فهرس الأماكن والبلدان 354
فهرس مراجع التحقيق 355
فهرس موضوعات الجزء الثاني 360(2/367)