المجلد الأول
المقدمة
مقدمة سماحة مفتي زحلة والبقاع والغربي الشيخ خليل الميس
...
مقدمة سماحة مفتي زحلة والبقاع الغربي الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فيعتبر القرن الخامس عشر الهجري من عصور نهضة العلوم الشرعية، بما في ذلك علم أصول الفقه. حيث توجهت عناية العلماء به في منهجين.
الأول: التصنيف في هذا الفن، بما في ذلك الأطروحات العلمية المقدمة من الباحثين لنيل درجات الماجستير والدكتوراه في الشريعة الإسلامية، وهنا تشوقت النفوس إلى الاستزادة منه، وتعالت النداءات إلى تجديده تحت عنوان "تأصيل الأصول".
الثاني: التوجه نحو تحقيق كتب التراث لتوفير المادة العلمية بين يدي الباحثين، وتسهيل الحصول على تلك الكنوز التي كانت دفينة في خزائن المكتبات العامة والخاصة قرونا طويلة.
وهنا تشوقت النفوس للوقوف على محتويات تلك الذخائر العلمية، بما في ذلك المطبوع منها، وهو أحوج إلى التحقيق العلمي من المخطوط، ومن بين تلك الأسفار العلمية النفيسة كتاب "إرشاد الفحول للإمام الشوكاني".
ولما كان هذا العلم لا تناله إلا أيدي الفحول من العلماء؛ لأنه كما قال الإمام الغزالي: علم ازدوج فيه العقل والنقل، كان من نافلة القول إن الاعتناء بتلك الكتب لا يقوى عليها إلا النخبة من العلماء وأهل التحقيق. حيث لا يكفي أن يعزى القول إلى مصدره، بل لا بد من تعقب المصنف، واقتناص غرر الكلام، ودرر القواعد، والتعليق عليها كلما اقتضى الأمر.
وهنا تبرز غزائم الرجال في إماطة اللثام عن مكنون النص، ومصادره؛ لنشرف على التراث، ولو من خلال كتاب واحد.
كيف لا، والشوكاني هو المبرز في هذا الميدان، وهو الأمين في النقل، والفقيه الأصولي في اختيار الراجح من القول، والمتبحر في تحرير المذاهب، وإنه بحق لنقرأ من خلال إرشاده(1/5)
علم الأصول على اختلاف مناهجه، ومدارسه.
وهنا تتجلى عناية فضلية الباحث المحقق الشيخ أحمد عزو عناية لتحقيق هذا السفر الجليل، وقد اشتق جهده من اسمه، فتوافق الاسم والمسمى، وكان إخراج هذا الكتاب بحلة جديدة، وباهتمام مميز وكأني به يرشد مرة ثانية القارئ إلى مصادر هذا الكتاب من خلال تحقيقاته، واستدراكاته وتعليقاته فيلبس "إرشاد الفحول" حلة جديدة ستكون بإذن الله تعالى واحدة من مآثر المحقق الفاضل وتكرمة للمصنف الكبير، وقنية المنية لكل قارئ شغوف بهذا العلم من خلال الكتاب المحقق.
والله ولي التوفيق
وكتبه
مفتي زحلة والبقاع الغربي الشيخ خليل الميس
9/ شوال 1417هـ
16/ شباط 1997م(1/6)
مقدمة الدكتور ولي الدين صالح فرفور الدمشقي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ملهم الوصول إلى علم الأصول، والصلاة والسلام على سيدنا محمد البحر الزخار ونور الأنوار ومعدن الأسرار النبي المختار وعلى آله وصحبه الطيبين الأبرار.
اعلم أن الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع السماوية، المنزلة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جامعة بين المعقول والمنقول، مشتملة على أصول وفروع.
وعلم الأصول: من أجل العلوم شرفًا وأعظمها قدرًا، إذ إنه القطب الذي تدور عليه أحكام الشريعة، يرتقي بالإنسان من أرض التقليد، إلى سماء الاجتهاد، مع ملكة الاستنباط.
وعلم الخلاف: من أهم العلوم، تتجسد فيه عقلية العلماء وفقاهة الفقهاء بما يخدم مصالح الأمة الإسلامية على مر الأزمان، ويكفل سعادتها ورقيها من بين سائر الأمم، تتجلى فيه أسرار الرحمة الإلهية لهذه الأمة المحمدية. فاختلافهم رحمة جامعة، واتفاقهم حجة قاطعة، وإن علماء الشريعة ما زالوا يتوسعون في هذا العلم ومداركه، ويقعدون قواعده، ويبنون مسائله، ويوضحون دلائله، ويخرجون فروعه على أصول صحيحه وكليات صريحة من كتاب وسنة متواترة.
وإذا كان الوحي الظاهر قد انقطع نزوله، فإن الوحي الباطن ما زال نابضا لدى المجتهدين إلى ما شاء الله، له محاكمات في واقعات، وتأثيرات عن انفعالات، عالمه الأمر، ميزانه الفهم، ميزابه الفضل، تكمن فيه العلوم والمعارف، خص الله الشريعة الإسلامية به من بين سائر الشرائع، به يميز المجتهد الصحيح من السقيم، ويعرف الأدلة القطعية والظنية والراجح والمرجوح، وتقيس الأمور بأشباهها ونظائرها قياسا شرعيًّا صحيحًا على ضوابط علمية اجتهادية، حتى يسمو بهذه الشريعة إلى سماء الإرادة معرجا من شمس الوصول إلى مغارب الأصول على مر الدهور.
وبعد: فإن كتاب إرشاد الفحول لمؤلفه الإمام محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، الصنعاني، اليماني، من الكتب المفيدة في هذا المجال، لما احتوى عليه من كثرة النقول وعزو الأقوال إلى قائليها من أئمة هذا العلم.
ولقد سلك مؤلفه مسلك المتكلمين والفقهاء، واعتنى بإيراد القواعد والمسائل الأصولية(1/7)
واختلاف العلماء فيها مبينا دليل كل من غير تقيد بأصول مذهب معين، فهو أشبه ما يكون بأصول الفقه المقارن.
وأخيرا: أشكر القائمين على هذا العمل من محقق وناشر وكل من ساهم في إخراجه بثوب جديد يتماشى مع الزمان.
والله أسأل أن يرحمنا، وأن يتقبل منا أعمالنا، وأن يلهمنا الإخلاص في القول والعمل، إنه خير مسئول، وهو على كل شيء قدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
د. ولي الدين فرفور الدمشقي
حرر في 27/ رمضان /1417هـ
4/ شباط /1997م(1/8)
مقدمة التحقيق:
الحمد لله مصور النسم في ظلمات الأرحام، مقدر القسم للأنام، مشرع الأحكام، مبين الحلال والحرام، محكم أصول الشريعة المنيعة بالتمام، ومنضج ثمار فروعها المتصلة بكتابه أفضل الإحكام، بسنة نبيه الناسخ كل شريعة ماضية بشريعة الإسلام، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام.
ونشهد ألا إله إلا الله شهادة راسخة في صميم القلب، تؤمل صاحبها برضى الرب، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي رفع عن الأمة باليسر كل عسير وصعب، عليه وعلى آله وصحبه صلاة وسلاما يدفعان عنا كل كرب.
وبعد:
فلما كان الهدف من وجود الإنسان هو تحقيق العبودية لله عز وجل، وبما أنه سبحانه وتعالى لم يكلنا إلى أنفسنا في تحقيق ذلك، بل أرسل إلينا الرسل، وأيدهم بالوحي الأمين، فلا بد لنا من معرفة وفهم مرامية وأهدافه، وما فيها من التعاليم التي تصلح لنا المعاش والمعاد، فكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما النبعان الصافيان اللذان تكفلا بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة لمن تمسك بهما.
ولكن لما فسدت السليقة، ودخلت العجمة، وأصابت اللسان آفة اللحن، لم يتسن لكل فرد من أفراد هذه الأمة هذا الفهم، بل اختص بأناس توفرت فيهم شروط وميزات تؤهلم لذلك، فأحاطوا بدقائق علم خاص سموه علم "أصول الفقه"، فلذلك نص العلماء على أن حكم تعلمه فرض كفاية لحاجة الأمة إلى استنباط الأحكام الشرعية للحادثات المتجددة.
وبرعت أقلام العلماء في وصف علم أصول الفقه، فقال الإمام الإسنوي:
هو المعلم الذي يكون المجتهد المبدع، والفقيه المثمر، ويقضي على أكذوبة غلق باب الاجتهاد، ويذهب أسطورة سد طريق الاستنباط، وأنه لا يمكن أن يستغني عنه من أراد أن يتأهل للنظر والاجتهاد أو من يهتم بعلم الفقه والخلاف.
وقال الإمام الغزالي:
هو العلم الذي ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، فأخذ من صفوة(1/9)
الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد.
أول من صنف في هذا الفن:
أول من قعد قواعد علم أصول الفقه، وأصل أصوله هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي، المجتهد صاحب المذهب في رسالته التي كتبها لعبد الرحمن بن مهدي.
المصنفات المؤلفة فيه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه:
كثرت الكتب والتآليف المدونة في هذا العلم فمنها:
1- "البرهان": للإمام أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني.
2- "البحر المحيط": للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي.
3- "المستصفى من علم الأصول": للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي.
4- "المحصول": للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي.
ترجمة المؤلف:
اسمه ونسبه:
هو الإمام محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن محمد بن صلاح.
عرف هو ووالده في صنعاء بالشوكاني، وهي نسبة إلى قرية من قرى السحامية تسمى شوكان، بينها وبين صنعاء دون مسافة يوم.
قال في معجم البلدان: شوكان قرية باليمن من ناحية ذمار.
مولده ونشأته:
ولد في يوم الاثنين، الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة، سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف هجرية، بهجرة شوكان من بلاد خولان باليمن، ونشأ بصنعاء اليمن.
اهتمامه بالعلم:
- اهتم الإمام الشوكاني بالقرآن الكريم: فقرأه على جماعة من المعلمين، وختمه على الفقيه حسن بن عبد الله الهبل، وجوده على مشايخ القرآن بصنعاء.
- واهتم بعلوم الحديث، فسمع البخاري من أوله إلى آخره، وسمع صحيح مسلم والترمذي، وبعض موطأ الإمام مالك، وبعض شفاء القاضي عياض، وبعض سنن النسائي، وبعض سنن ابن ماجة، وسمع جميع سنن أبي داود وتخريجها للمنذري، وكذلك سمع بعض فتح(1/10)
الباري، وبعض شرح مسلم للنووي، وسمع شرح بلوغ المرام وغيرها من علوم الحديث.
- واهتم بعلوم العربية، فحفظ الكافية والشافية لابن الحاجب، وقرأ بعض شروح الكافية كشرح الرضي، وشرح الخبيصي، وقرأ بعض شروح الشافية أيضًا.
- واهتم بعلم الأصول فبرع فيه وألف وصنف، فمن مصنفاته الكتاب الذي بين أيدينا.
- واهتم بعلوم أخرى كثيرة، منها علم الفقه، حتى إنه ترك التقليد واجتهد رأيه اجتهادًا مطلقًا غير مقيد، وهو قبل الثلاثين من عمره، وولي القضاء والإفتاء في صنعاء اليمن.
- شيوخه:
من شيوخه:
1- والده علي بن محمد الشوكاني.
2- الفقيه حسن بن عبد الله الهبل.
3- العلامة عبد الرحمن بن قاسم المداني.
4- العلامة أحمد بن عامر الحدائي.
5- العلامة أحمد بن محمد الحرازي، وقرأ عليه شرح الأزهار.
6- العلامة إسماعيل بن الحسن بن أحمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد، وقرأ عليه الملحة في النحو وشرحها.
7- العلامة القاسم بن يحيى الخولاني، وقرأ عليه شرح الغاية.
8- العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي، وقرأ عليه التنقيح في علوم الحديث.
9- العلامة عبد الله بن إسماعيل النهمي، وقرأ عليه إيساغوجي للقاضي زكريا.
10- العلامة هادي بن حسين القارني، وقرأ عليه شرح الجزرية.
نشره للعلم:
استغرق الإمام الشوكاني جميع وقته في درس العلم وتحصيله، ونشره وتعليمه للناس، حتى بلغت دروسه في اليوم والليلة ثلاثة عشر درسًا، منها ما يأخذه عن مشايخه، ومنها ما يأخذه عنه تلامذته، واستمر على ذلك مدة، حتى لم يبق عند أحد من شيوخه ما لم يكن من جملة ما قرأه الإمام، ثم إنه بعد ذلك فرغ نفسه لإفادة الطلبة، فكانوا يأخذون عنه في كل يوم زيادة على عشرة دورس في فنون متعددة، منها التفسير والحديث والأصول، والنحو، والصرف، والمعاني، والبيان، والمنطق، والفقه، والجدل، والعروض.(1/11)
مؤلفاته:
حكى الزركلي في الأعلام، أن مؤلفات الإمام الشوكاني بلغت أربعة عشر ومائة مؤلف، منها:
1- نيل الأوطار في شرح المنتقى من الأخبار. وهو مطبوع في ثمانية مجلدات.
2- حاشية شفاء الأوام واسمها "وبل الغمام على شفاء الأوام".
3- الدرر البهية في المسائل الفقهية.
4- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، وهو مطبوع.
5- فتح القدير في علم التفسير، وهو مطبوع.
6- السير الجرار على حدائق الأزهار. وهو مطبوع.
7- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، وهو مطبوع.
وفاته:
توفي سنة ألف ومائتين وخمسين هـ رحمه الله تعالى عن سبعة وسبعين عامًا1.
منهج التحقيق:
سرت في تحقيق هذا الكتاب على النحو التالي:
1- وضعت مقدمة تشتمل على:
أ- مقدمة التحقيق، ب- ترجمة للمؤلف.
2- قمت بمقابلة الكتاب على نسخة قديمة الطباعة ورمزت له بـ "أ"، حيث اعتمدت في ضبط النص على نشرة الدكتور شعبان محمد إسماعيل، ورمزت لها بالحرف "ب" وذلك بعد أن عجزت عن الحصول على مخطوط للكتاب، إذ إنني أرسلت إلى مكتبة الجامع الكبير في صنعاء
__________
1 مصادر الترجمة البدر الطالع بمحاسن مَنْ بعد القرن السابع عشر "للشوكاني" 2/ 214-215
معجم المطبوعات "لسركيس" "1160-1161".
الأعلام "للزركلي" "6/ 298".
معجم المؤلفين "لكحالة" "11/ 53".
إيضاح المكنون "للبغدادي" "1/ 11".
هدية العارفين "للبغدادي" "2/ 365".
التاج المكلل "لصديق خان" "305-317".(1/12)
اليمن، وطلبت الحصول على مخطوطة أصلية للكتاب، بعد أن علمت بوجودها هناك، ولم يكن لنا نصيب بالحصول عليها.
3- قمت بتخريج الآيات القرآنية بردها إلى سورها، ووضع أرقامها، وجعلتها بين قوسين مزهرين. {} .
4- قمت بتخريج الأحاديث النبوية والآثار، وجعلتها بين قوسين صغيرين " " ورقمتها بأرقام مسلسلة موضوعة بين معكوفتين [] وذلك في التعليق.
5- ترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم من غير الصحابة المعروفين.
6- عرفت بالكتب الواردة أسماؤها، ونسبتها إلى مؤلفيها.
7- شرحت غريب الألفاظ، وضبطتها.
8- وضعت علامات الترقيم في الكتاب.
9- علقت على بعض النقاط الغامضة بما يوضحها ويزيل غموضها.
10- وضعت عناوين لبعض فصول الكتاب، وجعلتها بين قوسين كبيرين " ".
11- قمت بتخريج الأبيات الشعرية ببيان بحرها ونسبتها إلى ناظميها.
12- وضعت ترجمة للفرق المذكورة في الكتاب.
13- وضعت للكتاب فهارس على النحو التالي:
أ- فهرس الآيات القرآنية.
ب- فهرس الأحاديث النبوية.
جـ- فهرس الأعلام.
د- فهرس الفرق والمذاهب.
هـ- فهرس الأماكن والبلدان.
و فهرس الأبيات الشعرية.
ز- فهرس الكتب الوارد ذكرها في المتن.
ح- فهرس مراجع التحقيق.
ط- فهرس الموضوعات.(1/13)
وفي الختام:
وحيث إنني أتوجه بالشكر والثناء لإرادة "دار الكتاب العربي" حيث انتدبتني لهذا العمل، أقول: إلى كل من يقرأ هذا الكتاب، أو يطلع على نقص أو خلل في العمل بتحقيقه، إنني لم أدع العصمة، ولا الكمال في عملي، فإن العصمة للأنياء، والكمال لله وحده، ولكنني أرجو ممن وجد خطأ في العمل أن يرسل به إلي، وأنا له من الشاكرين، سائلًا المولى تبارك وتعالى أن يحفظ ألسنتنا وأقلامنا من الزلل، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.
المحقق: أحمد عزو عناية
دمشق - كفر بطنا(1/14)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، يَا مَنْ هُوَ "الْمَحْمُودُ"* الْمَشْكُورُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِذْ لَا مُنْعِمَ سِوَاهُ، وَكُلُّ نَفْعٍ يَجْرِي عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَهُوَ الَّذِي أَجْرَاهُ، وَكُلُّ خَيْرٍ يَصِلُ إِلَى بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَهُوَ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ.
فَأَحْمَدُهُ حَمْدًا يَرْضَاهُ، وَأَشْكُرُهُ شُكْرًا يُقَابِلُ نَعْمَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَاةٍ، امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، لَا قِيَامًا بِحَقِّ شُكْرِهِ، فَإِنَّ لِسَانِي وَجَنَانِي1 وَأَرْكَانِي2 لَا تَقُومُ بِشُكْرِ أَقَلِّ نِعْمَةٍ مِنْ نعمه العظمية، وَلَا تُؤَدِّي بَعْضَ الْبَعْضِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيَّ مِنْ شُكْرِ أَيَادِيهِ الْجَسِيمَةِ3.
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ الْمُصْطَفَى، مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ إِلَى الْأَحْمَرِ مِنَ الْعِبَادِ وَالْأَسْوَدِ صَلَاةً وَسَلَامًا يَتَجَدَّدَانِ بِتَجَدُّدِ الْأَوْقَاتِ، وَيَتَكَرَّرَانِ بِتَكَرُّرِ الْآنَاتِ4، وَعَلَى آلِهِ الْأَبْرَارِ وَصَحَابَتِهِ الْأَخْيَارِ.
وَبَعْدُ: فَإِنَّ عِلْمَ "أُصُولِ الْفِقْهِ" لَمَّا كَانَ هُوَ الْعِلْمَ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْأَعْلَامُ، وَالْمَلْجَأَ الَّذِي يُلجأ إِلَيْهِ عِنْدَ تَحْرِيرِ الْمَسَائِلِ، وَتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ، فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ، وَكَانَتْ مَسَائِلُهُ الْمُقَرَّرَةُ، وَقَوَاعِدُهُ الْمُحَرَّرَةُ، تُؤْخَذُ مُسَلَّمَةً عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاظِرِينَ، كَمَا نَرَاهُ فِي مَبَاحِثِ الْبَاحِثِينَ وَتَصَانِيفِ الْمُصَنِّفِينَ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا اسْتَشْهَدَ لِمَا قَالَهُ بِكَلِمَةٍ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ، أَذْعَنَ لَهُ الْمُنَازِعُونَ، وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْفُحُولِ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْفَنِّ، قَوَاعِدُ مُؤَسَّسَةٌ عَلَى الْحَقِّ، الْحَقِيقِ بِالْقَبُولِ، مَرْبُوطَةٌ بِأَدِلَّةٍ عِلْمِيَّةٍ مِنَ المعقول والمنقول، تقصير عن القدح في شيء منها أيدي
__________
* في "أ": المعبود:
__________
1 بالفتح: القلب، لاستتاره في الصدر، وقيل لوعيه الأشياء وجمعه لها. ا. هـ لسان العرب مادة جنن.
2 جمع ركن، وركن الإنسان قوته وشدته، وركن الرجل: قومه وعدده ومادته. وأركان الإنسان: جوارحه. ا. هـ لسان العرب مادة ركن.
3 جمع يد وهي النعمة والإحسان تصطنعه، وجمعها: يُدِي يِدِي وأيد. ا. هـ الصحاح مادة يدي.
4 جمع الآن: وهو اسم للوقت الذي أنت فيه، وهو ظرف غير ممكن، وهو معرفة، ولم تدخل عليه الألف واللام للتعريف؛ لأنه ليس له ما يشركه. ا. هـ التعريفات "55".(1/15)
الْفُحُولِ، وَإِنْ تَبَالَغَتْ فِي الطُّولِ، وَبِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاقِعًا فِي الرَّأْيِ، رَافِعًا لَهُ أَعْظَمَ رَايَةٍ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِغَيْرِ عِلْمِ الرِّوَايَةِ، حَمَلَنِي ذَلِكَ بَعْدَ سُؤَالِ جَمَاعَةٍ لِي مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا التَّصْنِيفِ، فِي هَذَا الْعِلْمِ الشَّرِيفِ، قَاصِدًا بِهِ إِيضَاحَ رَاجِحِهِ، مِنْ مَرْجُوحِهِ، وَبَيَانَ سَقِيمِهِ مِنْ صَحِيحِهِ، مُوَضِّحًا لِمَا يَصْلُحُ مِنْهُ لِلرَّدِّ إِلَيْهِ، وَمَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْوِيلِ عَلَيْهِ، لِيَكُونَ الْعَالِمُ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي عِلْمِهِ يَتَّضِحُ لَهُ بِهَا الصَّوَابُ، وَلَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَرَكِ الْحَقِّ الْحَقِيقِ بِالْقَبُولِ الْحِجَابُ.
فَاعْلَمْ يَا طَالِبَ الْحَقِّ، أَنَّ هَذَا كِتَابٌ تَنْشَرِحُ لَهُ صُدُورُ "الْمُنْصِفِينَ"*، وَيَعْظُمُ قَدْرُهُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْفَرَائِدِ، فِي صُدُورِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَلَا يَعْرِفُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَارِفِ الْحَقَّةِ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ.
وَلَمْ أَذْكُرْ فِيهِ مِنَ الْمَبَادِئِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُصَنِّفُونَ فِي هَذَا الْفَنِّ إِلَّا مَا كَانَ لِذِكْرِهِ، مَزِيدُ فَائِدَةٍ، يَتَعَلَّقُ بِهِ تَعَلُّقًا تَامًّا، وينتفع به فِيهِ انْتِفَاعًا زَائِدًا.
وَأَمَّا الْمَقَاصِدُ: فَقَدْ كَشَفْتُ لَكَ عَنْهَا الْحِجَابَ، كَشْفًا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْخَطَأُ مِنَ الصَّوَابِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ بِأَكْثَفِ جِلْبَابٍ، وَإِنَّ هَذَا لَهُوَ أَعْظَمُ فَائِدَةٍ يَتَنَافَسُ فِيهَا الْمُتَنَافِسُونَ مِنَ الطُّلَّابِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيرَ مَا هُوَ الْحَقُّ هُوَ غَايَةُ الطَّلَبَاتِ، وَنِهَايَةُ الرَّغَبَاتِ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْفَنِّ الَّذِي رَجَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ إِلَى التَّقْلِيدِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَوَقَعَ غَالِبُ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالْأَدِلَّةِ بِسَبَبِهِ فِي الرَّأْيِ الْبَحْتِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَسَمَّيْتُهُ: "إِرْشَادَ الْفُحُولِ إِلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ".
وَرَتَّبْتُهُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ، وَسَبْعَةِ مَقَاصِدَ، وَخَاتِمَةٍ.
أَمَّا المقدمة فهي "مشتملة"** على فصول أربعة:
__________
* في "أ": المصنفين.
** في "أ" تشتمل.(1/16)
مدخل إلى علم الأصول
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَوْضُوعِهِ وفائدته واستمداده
مدخل
...
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَوْضُوعِهِ، وَفَائِدَتِهِ، وَاسْتِمْدَادِهِ:
اعْلَمْ أَنَّ لِهَذَا اللَّفْظِ اعْتِبَارَيْنِ:
أَحَدُهُمَا بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ وَالْآخَرُ بِاعْتِبَارِ الْعَلَمِيَّةِ.
أَمَّا الِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَعْرِيفِ الْمُضَافِ، وَهُوَ الْأُصُولُ، وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ الْفِقْهُ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُرَكَّبِ1 يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعْرِيفِ مُفْرَدَاتِهِ، ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ الْكُلِّ عَلَى مَعْرِفَةِ أَجْزَائِهِ، وَيَحْتَاجُ أَيْضًا إِلَى تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ الصُّورِيِّ.
أَمَّا الْمُضَافُ فَالْأُصُولُ: جَمْعُ أَصْلٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيْرُهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يُقَالُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَالْمُسْتَصْحِبِ، وَالْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ وَالدَّلِيلِ.
وَالْأَوْفَقُ بِالْمَقَامِ الرَّابِعُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ النَّقْلَ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ هُنَا خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا تُلْجِئُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِانْبِنَاءَ الْعَقْلِيَّ كَانْبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى دَلِيلِهِ يَنْدَرِجُ تَحْتَ مُطْلَقِ الِانْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الِانْبِنَاءَ الْحِسِّيَّ، كَانْبِنَاءِ الْجِدَارِ عَلَى أَسَاسِهِ، وَالِانْبِنَاءَ الْعَقْلِيَّ كَانْبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى دَلِيلِهِ.
وَلَمَّا كَانَ مُضَافًا إِلَى الْفِقْهِ هُنَا وَهُوَ مَعْنًى عَقْلِيٌّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الِانْبِنَاءُ الْعَقْلِيُّ.
وَأَمَّا الْمُضَافُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْفِقْهُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْفَهْمُ2.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعِلْمُ بالأحكام الشرعية، عن أدلته التفصيلية بالاستدلال.
__________
1 وهو ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
أ- مركب إسنادي: مثل شاب قرناها.
ب- ومركب مزجي: وهو كل كلمتين نزلت ثانيتهما منزلة التأنيت مما قبلها مثل: بعلبك.
ج- ومركب إضافي: وهو الغالب، وهو كل اسمين نزل ثانيهما منزلة التنوين مما قبله. مثل: عبد الله. اهـ أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك "1/ 133" قطر الندى "133".
2 هو في اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه.
وفي الاصطلاح: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
وقيل: هو الإصابة والوقوف على المعنى الخفي الذي يتعلق به الحكم، وهو علم مستنبط بالرأي والاجتهاد، ويحتاج فيه إلى النظر والتأمل. ا. هـ التعريفات "216" ولذلك لا يسمى الله فقيها؛ لأنه لا يخفى عليه شيء.(1/17)
وَقِيلَ: التَّصْدِيقُ بِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ، الَّتِي تُقْصَدُ لَا لاعتقاد.
وقيل: معرفة النفس مالها وَمَا عَلَيْهَا عَمَلًا.
وَقِيلَ: اعْتِقَادُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ.
وَقِيلَ: هُوَ جُمْلَةٌ مِنَ الْعُلُومِ "بِأَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَعْيَانِهَا"* يُعْلَمُ بِاضْطِرَارٍ أَنَّهَا مِنَ الدِّينِ.
وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ بِاعْتِرَاضَاتٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَاهَا إِنْ حُمِلَ الْعِلْمُ فِيهِ عَلَى مَا يَشْمَلُ الظَّنَّ؛ لِأَنَّ غَالِبَ عِلْمِ الْفِقْهِ ظُنُونٌ. وَأَمَّا الْإِضَافَةُ فَمَعْنَاهَا اخْتِصَاصُ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ، بِاعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.
فَأُصُولُ الْفِقْهِ مَا "يَخْتَصُّ"** بِالْفِقْهِ، مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ وَمُسْتَنِدًا إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ الثَّانِي: فَهُوَ إِدْرَاكُ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ.
وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ ... إلخ.
وَقِيلَ: هُوَ نَفْسُ الْقَوَاعِدِ الْمُوَصِّلَةِ بِذَاتِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ ... إلخ.
وَقِيلَ: هُوَ طُرُقُ الْفِقْهِ "عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَمَا يَتْبَعُ الْكَيْفِيَّةَ"***.
وَفِيهِ: أَنَّ ذِكْرَ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ تَصْرِيحٌ بِاللَّازِمِ الْمَفْهُومِ ضِمْنًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ اسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ تَفْصِيلًا، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ أَدِلَّتِهَا تَفْصِيلًا، وَيُزَادُ عَلَيْهِ:
عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ لِإِخْرَاجِ عِلْمِ الْخِلَافِ1، وَالْجَدَلِ2، فَإِنَّهُمَا وَإِنِ اشْتَمَلَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ، لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ التحقيق، بل الغرض منها إلزام الخصم.
ولما كان العلم مأخوذًا على أصول الفقه عند البعض، حسن ههنا أن نذكر تعريف مطلق العلم:
__________
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
** في "أ": تختص.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 الخلاف: منازعة تجري بين المتعارضين لتحقيق حق، أو لإبطال باطل. ا. هـ التعريفات "135".
2 هو القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، والغرض منه:
أ- إلزام الخصم وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان،
ب- دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة، أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه.
وهو الخصومة في الحقيقة. ا. هـ التعريفات "101".(1/18)
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَنْظَارُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، حَتَّى قَالَ جَمَاعَةٌ "مِنْهُمُ"* الرَّازِيُّ1: بِأَنَّ مُطْلَقَ الْعِلْمِ ضَرُورِيٌّ، فَيَتَعَذَّرُ تَعْرِيفُهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّلَالَةِ، وَيَكْفِي فِي دَفْعِ مَا قَالُوهُ مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْوُجْدَانِ لِكُلِّ عَاقِلٍ، أَنَّ الْعِلْمَ يَنْقَسِمُ إِلَى ضَرُورِيٍّ2، وَمُكْتَسَبٍ3.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الْجُوَيْنِيُّ4:
إِنَّهُ نَظَرِيٌّ، وَلَكِنَّهُ يَعْسُرُ تَحْدِيدُهُ5، وَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا الْقِسْمَةَ وَالْمِثَالَ، فَيُقَالُ مَثَلًا: الِاعْتِقَادُ إِمَّا جَازِمٌ، أَوْ غَيْرُ جَازِمٍ، وَالْجَازِمُ إِمَّا مُطَابِقٌ أَوْ غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَالْمُطَابِقُ إِمَّا ثَابِتٌ، أَوْ غَيْرُ ثَابِتٍ فَخَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْقِسْمَةِ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ مُطَابِقٌ ثَابِتٌ وَهُوَ الْعِلْمُ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بأن القسمة والمثال إن أفاد تَمْيِيزًا لِمَاهِيَّةِ الْعِلْمِ عَمَّا عَدَاهَا، صَلُحَا لِلتَّعْرِيفِ لَهَا فَلَا يَعْسُرُ، وَإِنْ لَمْ يُفِيدَا تَمْيِيزًا لَمْ يَصْلُحْ بِهِمَا مَعْرِفَةُ مَاهِيَّةِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ نَظَرِيٌّ، "لَا"** يَعْسُرُ تَحْدِيدُهُ، ثُمَّ ذَكَرُوا لَهُ حُدُودًا.
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ عَنْ ضَرُورَةٍ أَوْ دَلِيلٍ.
وَفِيهِ: أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْمَذْكُورَ يَعُمُّ الْجَازِمَ وَغَيْرَ الْجَازِمِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَقْيِيدِهِ بِالْجَازِمِ يَخْرُجُ عَنْهُ الْعِلْمُ بِالْمُسْتَحِيلِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ اتِّفَاقًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ
وَفِيهِ: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ عِلْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ إذ لا يسمى معرفة.
__________
* في "أ": منها.
** في "أ": فلا.
__________
1 هو محمد بن عمر بن الحسين، التيمي، البكري، الطبرستاني، الرازي، الشافعي، المعروف بالفخر الرازي، وبابن خطيب الري، أبو عبد الله، مفسر، متكلم، فقيه، أصولي، شاعر، أديب، طبيب، مشارك في كثير من العلوم، ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة هـ، وتوفي بهراة، سنة ست وستمائة هـ، ومن آثاره "مفتاح الغيب" و"المحصول" و"شرح الوجيز للغزالي" في فروع الشافعي. ا. هـ سير أعلام النبلاء "21/ 500" شذرات الذهب "5/ 21" معجم المؤلفين "11/ 79".
2 ما لا يحتاج فيه إلى تقديم مقدمة كالعلم بثبوت الصانع، وحدوث الأعراض. ا. هـ التعريفات "200".
3 والاكتسابي: هو الذي يحصل بمباشرة الأسباب. ا. هـ التعريفات "200".
4 هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف ضياء الدين، أبو المعالي، الجويني، الشافعي، الشهير بإمام الحرمين، ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة هـ، تفقه على والده، وتوفي في نيسابور سنة ثمان وسبعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "الإرشاد في علم الكلام"، "البرهان في الأصول"، و"الرسالة النظامية". ا. هـ شذرات الذهب "3/ 358"، هدية العارفين "1/ 626"، سير أعلام النبلاء "18/ 468" الفوائد البهية "246".
5 أي تعريفه؛ لأن الحد: هو القول الدال عى ماهية الشيء. ا. هـ التعريفات "112".(1/19)
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ الَّذِي يُوجِبُ كَوْنَ مَنْ قَامَ بِهِ عَالِمًا أَوْ يُوجِبُ لِمَنْ قام به اسم العالم.
وفيه: أن يَسْتَلْزِمُ الدَّوْرَ1 لِأَخْذِ الْعَالِمِ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَا يَصِحُّ مِمَّنْ قَامَ بِهِ إِتْقَانُ الْفِعْلِ.
وَفِيهِ: أَنَّ فِي الْمَعْلُومَاتِ مَا لَا يَقْدِرُ الْعَالِمُ عَلَى إِتْقَانِهِ، كَالْمُسْتَحِيلِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ مُطَابِقٌ.
وَفِيهِ: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ التَّصَوُّرَاتُ وَهِيَ عِلْمٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ حُصُولُ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْلِ، أَوِ الصُّورَةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ الْعَقْلِ.
وَفِيهِ: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الظَّنَّ، وَالشَّكَّ وَالْوَهْمَ2، وَالْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ3.
وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا حَدًّا لِلْعِلْمِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، الشَّامِلِ لِلْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ.
وَفِيهِ: أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْعِلْمِ عَلَى الشَّكِّ، وَالْوَهْمِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ، يُخَالِفُ مَفْهُومَ الْعِلْمِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ حُكْمٌ لَا يَحْتَمِلُ طَرَفَاهُ -أَيِ: الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَبِهِ- نَقِيضَهُ.
وَفِيهِ: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ التَّصَوُّرُ وَهُوَ عِلْمٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ صِفَةٌ تُوجِبُ تَمْيِيزًا لِمَحَلِّهَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ بِوَجْهٍ.
وَفِيهِ: أَنَّ الْعُلُومَ الْمُسْتَنِدَةَ إِلَى الْعَادَةِ تَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، لِإِمْكَانِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِالْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ صِفَةٌ يَتَجَلَّى بِهِ الْمُدْرَكُ لِلْمُدْرِكِ.
وَفِيهِ: أَنَّ الْإِدْرَاكَ مَجَازٌ عَنِ الْعِلْمِ فَيَلْزَمُ تَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، مَعَ كَوْنِ الْمَجَازِ مَهْجُورًا فِي التَّعْرِيفَاتِ، وَدَعْوَى اشْتِهَارِهِ فِي الْمَعْنَى الْأَعَمِّ الَّذِي هُوَ جِنْسُ الْأَخَصِّ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ صِفَةٌ يَتَجَلَّى بِهَا الْمَذْكُورُ لِمَنْ قَامَتْ هي به.
__________
1 هو توقف الشيء على ما توقف عليه إما بمرتبة، أو أكثر، وإنما كان مستحيلًا لأنه يلزم عليه كون الشيء الواحد سابقا على نفسه، مسبوقًا بها، مثاله قولنا: زيد أوجد عمرًا وعمرو أوجد زيدا. ا. هـ تحفة المريد "52".
2 هو من خطرات القلب، والجمع أوهام، وتوهم الشيء تخليه وتمثله، كان في الوجود أو لم يكن. ا. هـ لسان العرب مادة وهم.
3 الجهل هو عدم العلم بالشيء، كعدم علمنا بما تحت الأرضيين، وهذا هو الجهل البسيط. أما المركب: فهو الجهل بالحكم، والجهل بأنه جاهل، ولذلك قيل:
جهلت وما تدري بأنك جاهل ... ومن لي بأن تدري بأنك لا تدري
ا. هـ حاشية الدمياطي على شرح الورقات "5".(1/20)
قَالَ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ1: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْكَشْفِ عَنْ مَاهِيَّةِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ، وَالْمَعْدُومَ، وَالْمُمْكِنَ، وَالْمُسْتَحِيلَ، بِلَا خِلَافٍ، وَيَتَنَاوَلُ الْمُفْرَدَ، وَالْمُرَكَّبَ، وَالْكُلِّيَّ، وَالْجُزْئِيَّ، وَالتَّجَلِّي هُوَ الِانْكِشَافُ التَّامُّ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ صِفَةٌ يَنْكَشِفُ بِهَا لِمَنْ قَامَتْ بِهِ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذْكَرَ، انْكِشَافًا تَامًّا لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ.
فَيَخْرُجُ عَنِ الْحَدِّ الظَّنُّ، وَالْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ، وَاعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ الْمُصِيبِ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ عُقْدَةٌ عَلَى الْقَلْبِ، فَلَيْسَ فِيهِ انْكِشَافٌ تَامٌّ، وَانْشِرَاحٌ يَنْحَلُّ بِهِ الْعُقْدَةُ انْتَهَى.
وَفِيهِ: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ إدراك الحواس، فإنه لا مدخلية للمذكور فِيهِ، إِنْ أُرِيدَ بِهِ الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا يَتَنَاوَلُ الذِّكْرَ بِكَسْرِ الذَّالِ، وَالذُّكْرَ بِضَمِّهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ "مَعْنَيَيِ"* الْمُشْتَرَكِ، أَوْ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَكِلَاهُمَا مَهْجُورٌ فِي التَّعْرِيفَاتِ.
هَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا وَرَدَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا.
وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ يُقَالَ فِي تَحْدِيدِهِ: هُوَ صِفَةٌ يَنْكَشِفُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، انْكِشَافًا تَامًّا، وَهَذَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ فَتَدَبَّرْ.
وَإِذَا عَرَفْتَ مَا قِيلَ فِي "حَدِّ الْعِلْمِ"** فَاعْلَمْ أَنَّ مُطْلَقَ التَّعْرِيفِ لِلشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ اسْمِيًّا، فَالْحَقِيقِيُّ تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالِاسْمِيُّ تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّاتِ الِاعْتِبَارِيَّةِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ مَا يَتَعَقَّلُهُ الْوَاضِعُ لِيَضَعَ بِإِزَائِهِ اسْمًا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَاهِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ لَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَقَّلُهُ نَفْسَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، أَوْ وُجُوهًا وَاعْتِبَارَاتٍ مِنْهُ، فَتَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِمُسَمَّى الِاسْمِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَاهِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ تَعْرِيفٌ حَقِيقِيٌّ، يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْمَاهِيَّةِ فِي الذِّهْنِ بِالذَّاتِيَّاتِ، كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، أَوْ بِالْعَرَضِيَّاتِ، أَوْ "بِالْمُرَكَّبِ"*** مِنْهُمَا، وَتَعْرِيفُ مَفْهُومِ الِاسْمِ وَمَا تَعَقَّلَهُ الْوَاضِعُ. فَوَضَعَ الِاسْمَ بِإِزَائِهِ تَعْرِيفٌ اسْمِيٌّ، يُفِيدُ تَبْيِينَ مَا وُضِعَ الِاسْمُ بِإِزَائِهِ بِلَفْظٍ أَشْهَرَ.
فَتَعْرِيفُ الْمَعْدُومَاتِ لَا يَكُونُ إِلَّا اسْمِيًّا؛ إِذْ لَا حَقَائِقَ لَهَا بَلْ لَهَا مَفْهُومَاتٌ فَقَطْ، وَتَعْرِيفُ
__________
* في "أ": معنى.
** في "أ": تعريفه.
*** في "أ": بالمركبات.
__________
1 هو علي بن محمد، المعروف بالسيد الشريف، الجرجاني، ولد في جرجان سنة أربعين وسبعمائة هـ، وهو فارس في البحث والجدل، من كبار علماء العربية، توفي سنة ست عشرة وثمانمائة هـ، من آثاره: "شرح مواقف الإيجي"، "حاشية على شرح الشمسية في المنطق"، "التعريفات". ا. هـ كشف الظنون "12/ 11891".
هدية العارفين "12/ 728"، الأعلام "5/ 7".(1/21)
الموجودات قد يكون اسميًّا. وقد يَكُونُ حَقِيقِيًّا؛ إِذْ لَهَا مَفْهُومَاتٌ وَحَقَائِقُ، وَالشَّرْطُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاطِّرَادُ وَالِانْعِكَاسُ، فَالِاطِّرَادُ: هُوَ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ الْحَدُّ وُجِدَ الْمَحْدُودُ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ لَيْسَ مِنْ أَفْرَادِ الْمَحْدُودِ؛ فَهُوَ بِمَعْنَى طَرْدِ الْأَغْيَارِ فَيَكُونُ مَانِعًا، وَالِانْعِكَاسُ: هُوَ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ الْمَحْدُودُ وُجِدَ الْحَدُّ؛ فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِهِ فَهُوَ بِمَعْنَى جَمْعِ الْأَفْرَادِ، فَيَكُونُ جَامِعًا.
ثُمَّ العلم بالضرورة ينقسم إِلَى ضَرُورِيٍّ وَنَظَرِيٍّ:
فَالضَّرُورِيُّ: مَا لَا يُحْتَاجُ فِي تَحْصِيلِهِ إِلَى نَظَرٍ.
وَالنَّظَرِيُّ: مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَالنَّظَرُ: هُوَ الْفِكْرُ الْمَطْلُوبُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ ظَنٌّ.
وَقِيلَ: هُوَ مُلَاحَظَةُ الْمَعْقُولِ لِتَحْصِيلِ الْمَجْهُولِ.
وَقِيلَ: هُوَ حَرَكَةُ النَّفْسِ مِنَ الْمَطَالِبِ التَّصَوُّرِيَّةِ، أَوِ التَّصْدِيقِيَّةِ، طَالِبَةً لِلْمَبَادِئِ، وَهِيَ الْمَعْلُومَاتُ التَّصَوُّرِيَّةُ، أَوِ التَّصْدِيقِيَّةُ، بِاسْتِعْرَاضِ صُوَرِهَا صُورَةً صُورَةً.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّرُورِيِّ وَالنَّظَرِيِّ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ تَصَوُّرٍ1 وَتَصْدِيقٍ2، وَالْكَلَامُ فِيهِمَا مَبْسُوطٌ فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ.
وَالدَّلِيلُ مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ.
وَقِيلَ: مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ بِالْغَيْرِ.
وَقِيلَ: مَا يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ الْعِلْمُ بِشَيْءٍ آخَرَ.
وَقِيلَ: هُوَ تَرْتِيبُ أُمُورٍ مَعْلُومَةٍ لِلتَّأَدِّي إِلَى مَجْهُولٍ.
وَالْأَمَارَةُ هِيَ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهَا إِلَى الظَّنِّ.
وَالظَّنُّ تَجْوِيزُ رَاجِحٍ.
وَالْوَهْمُ تَجْوِيزُ مَرْجُوحٍ.
وَالشَّكُّ تَرَدُّدُ الذِّهْنِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ.
فَالظَّنُّ فِيهِ حُكْمٌ لِحُصُولِ الرَّاجِحِيَّةِ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ احْتِمَالُهُ لِلنَّقِيضِ الْمَرْجُوحِ.
وَالْوَهْمُ لَا حُكْمَ فِيهِ، لِاسْتِحَالَةِ الْحُكْمِ بِالنَّقِيضَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّقِيضَ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الظن قد
__________
1 هو إدراك المفرد، نحو: "أعلي مسافر أم سعيد؟ " تعتقد أن السفر قد حصل من أحدهما، ولكن تطلب تعيينه، ولذا يجاب فيه بالتعيين، فيقال سعيد مثلًا ا. هـ جواهر البلاغة "86".
2 هو إدراك وقوع نسبة تامة بين المسند والمسند إليه، أو عدم وقوعها بحيث يكون المتكلم خالي الذهن مما استفهم عنه في جملته مصدقًا للجواب بنعم أو لا.
نحو أحضر الأمير؟ فيجاب بنعم أو لا. ا. هـ جواهر البلاغة "87".(1/22)
حُكِمَ بِهِ، فَلَوْ حُكِمَ بِنَقِيضِهِ الْمَرْجُوحِ -وَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْوَهْمِ- لَزِمَ الْحُكْمُ بِهِمَا جَمِيعًا.
وَالشَّكُّ لَا حُكْمَ فِيهِ بِوَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، لِتَسَاوِي الْوُقُوعِ وَاللَّاوُقُوعِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، فَلَوْ حُكِمَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا -لَزِمَ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَلَوْ حُكِمَ بِهِمَا جَمِيعًا- لَزِمَ الْحُكْمُ بِالنَّقِيضَيْنِ.
وَالِاعْتِقَادُ فِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِمَنِ اخْتَصَّ بِهِ كَوْنَهُ جَازِمًا بِصُورَةٍ مُجَرَّدَةٍ، أَوْ بِثُبُوتِ أَمْرٍ أَوْ نَفْيِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ الْجَزْمُ بِالشَّيْءِ مِنْ دُونِ سُكُونِ نَفْسٍ، وَيُقَالُ عَلَى التَّصْدِيقِ، سَوَاءٌ كَانَ جَازِمًا، أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ، مُطَابِقًا أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ، ثَابِتًا أَوْ غَيْرَ ثَابِتٍ، فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَالتَّقْلِيدُ لِأَنَّهُ جَزْمٌ بِثُبُوتِ أَمْرٍ أَوْ نَفْيِهِ، لِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْغَيْرِ.
وَأَمَّا الْجَهْلُ الْبَسِيطُ: فَهُوَ مُقَابِلٌ لِلْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ، مُقَابَلَةَ الْعَدَمِ لِلْمَلَكَةِ؛ لِأَنَّهُ عَدَمُ الْعِلْمِ، وَالِاعْتِقَادِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أن يكون عالمًا أو معتقدًا.(1/23)
موضوع علم أُصُولِ الْفِقْهِ:
وَأَمَّا مَوْضُوعُ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ: فَاعْلَمْ أَنَّ مَوْضُوعَ الْعِلْمِ مَا يُبْحَثُ فِيهِ مِنْ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَرَضِ هُنَا الْمَحْمُولُ عَلَى الشَّيْءِ الْخَارِجِ عَنْهُ. وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ إنما يُقَالُ لَهُ الْعَرَضُ الذَّاتِيُّ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ الشَّيْءَ لِذَاتِهِ، كَالْإِدْرَاكِ لِلْإِنْسَانِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ يُسَاوِيهِ كَالضَّحِكِ لِلْإِنْسَانِ بِوَاسِطَةِ تَعَجُّبِهِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ أَعَمَّ مِنْهُ دَاخِلٍ فِيهِ كَالتَّحَرُّكِ لِلْإِنْسَانِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهِ حَيَوَانًا.
وَالْمُرَادُ بِالْبَحْثِ عَنِ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ: حَمْلُهَا عَلَى مَوْضِعِ الْعِلْمِ، كَقَوْلِنَا: الْكِتَابُ يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ، أَوْ عَلَى أَنْوَاعِهِ، كَقَوْلِنَا: الْأَمْرُ يُفِيدُ الْوُجُوبَ، أَوْ عَلَى أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ، كَقَوْلِنَا: النَّصُّ يَدُلُّ عَلَى مَدْلُولِهِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، أَوْ عَلَى أَنْوَاعِ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ، كَقَوْلِنَا: الْعَامُّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ، يَدُلُّ عَلَى بَقِيَّةِ أَفْرَادِهِ دَلَالَةً ظَنِّيَّةً.
وَجَمِيعُ مَبَاحِثِ أُصُولِ الْفِقْهِ رَاجِعَةٌ إِلَى إِثْبَاتِ أَعْرَاضٍ ذَاتِيَّةٍ لِلْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ، مِنْ حَيْثُ إِثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ، وَثُبُوتِ الْأَحْكَامِ بِالْأَدِلَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ مَسَائِلِ هَذَا الْفَنِّ هُوَ الْإِثْبَاتُ، وَالثُّبُوتُ.
وَقِيلَ: مَوْضُوعُ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ هُوَ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْكُلِّيُّ فَقَطْ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُوَصِّلُ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِهِ إِلَى قُدْرَةِ إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، أَخْذًا مِنْ شَخْصِيَّاتِهِ1.
وَالْمُرَادُ بِالْأَحْوَالِ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِثْبَاتِ، وَهُوَ ذَاتِيٌّ للدليل والأول أولى.
__________
1 بناء على هذا: فالفقيه يبحث في فعل المكلف لمعرفة الحكم الشرعي فيه. ودليله الجزئي والأصولي يبحث في الدليل الكلي الموصل إلى ذلك الحكم الفقهي ودليله الجزئي ونوع ذلك الدليل الكلي وأعراضه وأنواع تلك الأعراض. ا. هـ.(1/23)
فائدة علم أصول الفقه وثمرته:
وَأَمَّا فَائِدَةُ هَذَا الْعِلْمِ: فَهِيَ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوِ الظَّنُّ بِهَا.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْغَايَةُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ الشَّرَفِ، كَانَ عِلْمُ طَالِبِهِ بِهَا وَوُقُوفُهُ عَلَيْهَا مُقْتَضِيًا لِمَزِيدِ عِنَايَتِهِ بِهِ، وَتَوَفُّرِ رَغْبَتِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ الفوز بسعادة الدارين.(1/24)
استمداد علم أصول الفقه:
وَأَمَّا اسْتِمْدَادُهُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ: عِلْمُ الكلام1، لتوقف الأدلة الشرعية على معرفة الباري سُبْحَانَهُ، وَصِدْقِ الْمُبَلِّغِ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ فِيهِ، مُقَرَّرَةٌ أدلتهما من مَبَاحِثِهِ.
الثَّانِي: اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ؛ لِأَنَّ فَهْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِدْلَالَ بِهِمَا مُتَوَقِّفَانِ عَلَيْهَا، إِذْ هُمَا عَرَبِيَّانِ.
الثَّالِثُ: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُهَا أَوْ نَفْيُهَا، كَقَوْلِنَا: الْأَمْرُ للوجوب، والنهي للتحري، والصلاة واجبة، والربا حرام2.
وجه ذكرنا لما اشتمل عليه هذا الفضل أَنْ يُوجِبَ زِيَادَةَ بَصِيرَةٍ لِطَالِبِ هَذَا الْعِلْمِ كما لا يخفى على ذي فهم.
__________
1 هو علم باحث عن الأعراض الذاتية للموجود من حيث هو على قاعدة الإسلام. ا. هـ التعريفات "201".
2 انظر المنخول "3-4".(1/24)
الفصل الثاني في الأحكام
مدخل
...
الفصل الثاني: في الأحكام
وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى الْكَلَامِ فِي اللُّغَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ مَسَائِلُ مِنْ مهمات علم الكلام، سنذكرها ههنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَبْحَاثٍ:
1- الْبَحْثُ الْأَوَّلُ فِي الْحُكْمِ.
2- الثَّانِي فِي الْحَاكِمِ.
3- الثَّالِثُ فِي الْمَحْكُومِ بِهِ.
4- الرَّابِعُ فِي الْمَحْكُومِ عليه.(1/25)
المبحث الأول في الحكم
...
أما الْبَحْثُ الْأَوَّلُ فِي الْحُكْمِ:
فَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ: الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ1 أَوِ التَّخْيِيرِ أَوِ الْوَضْعِ، فَيَتَنَاوَلُ اقْتِضَاءَ الْوُجُودِ، وَاقْتِضَاءَ الْعَدَمِ، إِمَّا مَعَ الْجَزْمِ، أَوْ مَعَ جَوَازِ التَّرْكِ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْوَاجِبُ وَالْمَحْظُورُ، وَالْمَنْدُوبُ، وَالْمَكْرُوهُ، وَأَمَّا التَّخْيِيرُ فَهُوَ الْإِبَاحَةُ.
وَأَمَّا الْوَضْعُ: فَهُوَ السَّبَبُ، وَالشَّرْطُ، وَالْمَانِعُ.
فَالْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَازِمًا، أَوْ لَا يَكُونَ جَازِمًا، فَإِنْ كَانَ جَازِمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَبَ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ، أَوْ طَلَبَ التَّرْكِ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ، فَالطَّرَفَانِ إِمَّا أَنْ يَكُونَا عَلَى السَّوِيَّةِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، أَوْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْوُجُودِ، وَهُوَ النَّدْبُ، أَوْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ التَّرْكِ، وَهُوَ الْكَرَاهَةُ، فَكَانَتِ الْأَحْكَامُ ثَمَانِيَةً، خَمْسَةٌ تَكْلِيفِيَّةٌ وَثَلَاثَةٌ وَضْعِيَّةٌ.
__________
1 طلب الفعل مع المنع عن الترك، وهو للإيجاب، أو بدونه وهو الندب، أو طلب الترك مع المنع عن الفعل وهو للتحريم، أو بدونه وهو للكراهة. ا. هـ التعريفات "50".(1/25)
وَتَسْمِيَةُ الْخَمْسَةِ تَكْلِيفِيَّةً تَغْلِيبٌ؛ إِذْ لَا تَكْلِيفَ فِي الْإِبَاحَةِ بَلْ وَلَا فِي النَّدْبِ، وَالْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَسُمِّيَتِ الثَّلَاثَةُ وَضْعِيَّةً؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَهَا عَلَامَاتٍ لِأَحْكَامٍ تَكْلِيفِيَّةٍ، وُجُودًا وَانْتِفَاءً.
فَالْوَاجِبُ فِي الِاصْطِلَاحِ: مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ، وَيُذَمُّ تَارِكُهُ، عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلَا يَرِدُ النَّقْضُ بِالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَبِالْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُذَمُّ فِي الْأَوَّلِ، إِذَا تَرَكَهُ مَعَ الْآخَرِ، وَلَا يُذَمُّ فِي الثَّانِي إِلَّا إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ.
وَيَنْقَسِمُ إِلَى مُعَيَّنٍ وَمُخَيَّرٍ، وَمُضَيَّقٍ، وَمُوَسَّعٍ، وَعَلَى الْأَعْيَانِ، وَعَلَى الْكِفَايَةِ.
وَيُرَادِفُهُ الْفَرْضُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ1، وَقِيلَ: الْفَرْضُ مَا كَانَ دَلِيلُهُ قَطْعِيًّا، وَالْوَاجِبُ مَا كَانَ دَلِيلُهُ ظَنِّيًّا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؟
وَالْمَحْظُورُ: مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ وَيُمْدَحُ تَارِكُهُ، وَيُقَالُ: لَهُ الْمُحَرَّمُ، وَالْمَعْصِيَةُ، وَالذَّنْبُ، وَالْمَزْجُورُ عَنْهُ، وَالْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ، وَالْقَبِيحُ.
وَالْمَنْدُوبُ: مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ، وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ.
وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِعْلُهُ رَاجِحًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، وَيُقَالُ لَهُ: مُرَغَّبٌ فِيهِ، وَمُسْتَحَبٌّ، وَنَفْلٌ، وَتَطَوُّعٌ، وَإِحْسَانٌ، وَسُنَّةٌ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ سُنَّةٌ، إِلَّا إِذَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الشَّارِعُ، كَالْوِتْرِ، وَرَوَاتِبِ الْفَرَائِضِ.
وَالْمَكْرُوهُ: مَا يُمْدَحُ تَارِكُهُ، وَلَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ.
وَيُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، وَهُوَ الَّذِي أَشْعَرَ فَاعِلَهُ أَنَّ تَرْكَهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ، وَعَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى، كَتَرْكِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَعَلَى الْمَحْظُورِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالْمُبَاحُ: مَا لَا يُمْدَحُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا عَلَى تَرْكِهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَعْلَمَ فَاعِلَهُ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ، فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا لَا ضَرَرَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ مَحْظُورًا، كَمَا يُقَالُ: دَمُ الْمُرْتَدِّ مُبَاحٌ، أَيْ: لَا ضَرَرَ عَلَى مَنْ أَرَاقَهُ، وَيُقَالُ لِلْمُبَاحِ: الْحَلَالُ، وَالْجَائِزُ، والمطلق.
__________
1 أي: عند جمهور الشافعية، فالفرض والواجب عندهم لفظان مترادفان منقولان من معناهما اللغوي إلى معنى واحد هو ما يمدح فاعله ويذم تاركه شرعًا، سواء ثبت ذلك بدليل قطعي، أو ظني. إلا في باب الحج. أما السادة الحنفية فقالوا: إن الفرض لازم علمًا، أي: يلزم اعتقاد حقيته، والعمل بوجبه، لثبوته بدليل قطعي، حتى لو أنكره قولًا أو اعتقادًا، كان كافرًا. والواجب لا يلزم اعتقاد حقيته، لثبوته بدليل ظني، ومبني الاعتقاد على اليقين. لكن يلزم العمل لموجبه للدلائل الدالة على وجوب اتباع الظن، فجاحده لا يكفر. ا. هـ. التلويح على التوضيح "2/ 124".(1/26)
وَالسَّبَبُ: هُوَ جَعْلُ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ مَنَاطًا1 لِوُجُودِ حُكْمٍ، أَيْ: يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ وُجُودَهُ.
وَبَيَانُهُ: أن الله سُبْحَانَهُ فِي الزَّانِي مَثَلًا حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَكْلِيفِيٌّ، وَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي وَضْعِيٌّ، وَهُوَ جَعْلُ الزِّنَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ بِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ، بَلْ بِجَعْلِ الشَّرْعِ.
وَيَنْقَسِمُ السَّبَبُ بِالِاسْتِقْرَاءِ إِلَى الْوَقْتِيَّةِ، كَزَوَالِ الشَّمْسِ، لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَالْمَعْنَوِيَّةِ كَالْإِسْكَارِ لِلتَّحْرِيمِ وَكَالْمِلْكِ لِلضَّمَانِ، وَالْمَعْصِيَةِ لِلْعُقُوبَةِ.
وَالشَّرْطُ: هُوَ الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ شَرْطًا لِلْحُكْمِ.
وَحَقِيقَةُ الشَّرْطِ: هُوَ مَا كَانَ عَدَمُهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْحُكْمِ، فَهُوَ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، أَوْ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ السَّبَبِ، لِحِكْمَةٍ فِي عَدَمِهِ، تُنَافِي حِكْمَةَ الْحُكْمِ أَوِ السَّبَبِ.
وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْحَوْلَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَعَدَمُهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُجُوبِهَا، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، فَعَدَمُهَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ صِحَّتِهِ، وَالْإِحْصَانُ شَرْطٌ فِي سَبَبِيَّةِ الزِّنَا لِلرَّجْمِ، فَعَدَمُهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهَا.
وَالْمَانِعُ: هُوَ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ حِكْمَةً، تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْحُكْمِ، أَوْ عَدَمَ السَّبَبِ، كَوُجُودِ الْأُبُوَّةِ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ ثُبُوتِ الِاقْتِصَاصِ لِلِابْنِ مِنَ الْأَبِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْأَبِ سَبَبًا لِوُجُودِ الِابْنِ، يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِيرَ الِابْنُ سَبَبًا لِعَدَمِهِ.
وَفِي هَذَا الْمِثَالِ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُقْتَضِيَ لِلْقِصَاصِ هُوَ فِعْلُهُ، لَا وُجُودُ الِابْنِ وَلَا عَدَمُهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حِكْمَةً مَانِعَةً لِلْقِصَاصِ، وَلَكِنَّهُ وَرَدَ الشَّرْعُ بِعَدَمِ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ لِفَرْعٍ مِنْ أَصْلٍ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُمَثَّلَ لِذَلِكَ بِوُجُودِ النَّجَاسَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي، أَوْ ثَوْبِهِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِعَدَمِ صِحَّةِ الصلاة، عند من يجعل الطهارة شرطًا، فههنا قَدْ عُدِمَ شَرْطٌ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَوُجِدَ مَانِعٌ وَهُوَ النَّجَاسَةُ، لَا عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً فَقَطْ.
وَأَمَّا الْمَانِعُ الَّذِي يَقْتَضِي وُجُودُهُ حِكْمَةً تُخِلُّ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ، فَكَالدَّيْنِ فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّ حِكْمَةَ السَّبَبِ -وَهُوَ الْغِنَى- مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ، وَلَمْ يَدَعِ الدَّيْنُ فِي الْمَالِ فَضْلًا يُوَاسَى بِهِ، هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قال أن الدين مانع.
__________
1 ناط الشيء ينوطه أي: علقه. ا. هـ الصحاح ولسان العرب مادة نوط.(1/27)
المبحث الثاني في الحاكم
...
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي الْحَاكِمِ
اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي كَوْنِ الْحَاكِمِ الشَّرْعَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ، وَبُلُوغِ الدَّعْوَةِ.
وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ: فَقَالَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ1: لَا يَتَعَلَّقُ لَهُ سُبْحَانَهُ حُكْمٌ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَلَا يَحْرُمُ كُفْرٌ وَلَا يَجِبُ إِيمَانٌ.
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ2: إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ لَهُ تَعَالَى حُكْمٌ بِمَا أَدْرَكَ الْعَقْلُ فِيهِ صِفَةَ حُسْنٍ، أَوْ قُبْحٍ لِذَاتِهِ، أَوْ لِصِفَتِهِ، أَوْ لِوُجُوهٍ وَاعْتِبَارَاتٍ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ.
قَالُوا: وَالشَّرْعُ كَاشِفٌ عَمَّا أَدْرَكَهُ الْعَقْلُ قَبْلَ وُرُودِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ فِي شَيْئَيْنِ:
الْأَوَّلُ: مُلَاءَمَةُ الْغَرَضِ لِلطَّبْعِ وَمُنَافَرَتُهُ لَهُ، فَالْمُوَافِقُ حَسَنٌ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَالْمُنَافِرُ قبيح عنده.
الثاني: صفة الْكَمَالِ وَالنَّقْصِ، فَصِفَاتُ الْكَمَالِ حَسَنَةٌ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَصِفَاتُ النَّقْصِ قَبِيحَةٌ عِنْدَهُ.
وَمَحَلُّ النِّزَاعِ بَيْنَهُمْ -كَمَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا كَانَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ- هُوَ كَوْنُ الْفِعْلِ مُتَعَلَّقَ الْمَدْحِ، وَالثَّوَابِ، وَالذَّمِّ، وَالْعِقَابِ، آجِلًا وَعَاجِلًا.
فَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِكَوْنِ الْفِعْلِ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، لِأَجْلِهِ يَسْتَحِقُّ فاعله الذم.
قالوا: وذلك الوجه قيد يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِهِ، وَقَدْ لَا يَسْتَقِلُّ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْعَقْلُ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ حُسْنَ الصِّدْقِ النَّافِعِ، وَقُبْحَ الْكَذِبِ الضَّارِّ، وَيَعْلَمُ نَظَرًا حُسْنَ الصِّدْقِ الضَّارِّ، وَقُبْحَ الْكَذِبِ النَّافِعِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَحُسْنِ صَوْمِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَقُبْحِ صَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ، لَكِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا وَرَدَ علمنا الحسن والقبح فيهما.
__________
1 وهم أصحاب أبي الحسن على بن إسماعيل الأشعري، وهم فرقة من أهل السنة والجماعة ولهم أقوال تخالف أقوال الماتريدية منها أن الناشئ في شاهق عال إذا لم يؤمن لا يحاسبه الله لأنه ليس آثما لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} والماتريدية خالفوهم فقالوا يحاسبه الله لأن الرسول في الآية المراد به العقل. ا. هـ الملل والنحل "1/ 94" تحفة المريد "30-31".
2 هم أصحاب واصل بن عطاء الغزال الذي اعتزل مجلس الحسن البصري، ويسمون بأصحاب العدل والتوحيد، وهم فرقة خالفت أهل السنة والجماعة ببعض الاعتقادات منها: خلق أفعال العباد - وجوب الصلاح والأصلح على الله- خلق القرآن الكريم ا. هـ الملل والنحل "1/ 43" التعريفات "282".(1/28)
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ دُخُولَ هَذِهِ الْقَبَائِحِ فِي الْوُجُودِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْقَوْلُ بِالْقُبْحِ بَاطِلٌ.
بَيَانُ الْأَوَّلِ: أَنَّ فَاعِلَ الْقَبِيحِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ التَّرْكِ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّرْكِ فَقَدْ ثَبَتَ الِاضْطِرَارُ، وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنَ التَّرْكِ. فَإِمَّا يَتَوَقَّفُ رُجْحَانُ الْفَاعِلِيَّةِ عَلَى التَّارِكِيَّةِ، عَلَى مُرَجِّحٍ أَوْ لَا يَتَوَقَّفُ، إِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فَاتِّفَاقِيٌّ، لَا اخْتِيَارِيٌّ، لِعَدَمِ الْإِرَادَةِ، وَإِنْ تَوَقَّفَ، فَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَبْدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ لَا مِنْهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، فَالْأَوَّلُ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلَ1، وَهُوَ مُحَالٌ، وَالثَّانِي يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ إِمَّا أَنْ يَجِبَ "وُقُوعُ"*، الْأَثَرِ أَوْ لَا، فَإِنْ وَجَبَ فَقَدْ ثَبَتَ الِاضْطِرَارُ؛ لِأَنَّ قَبْلَ وُجُودِ هَذَا الْمُرَجِّحِ كَانَ الْفِعْلُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَعِنْدَ وُجُودِهِ صَارَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَلَيْسَ وُقُوعُ هَذَا الْمُرَجِّحِ بِالْعَبْدِ أَلْبَتَّةَ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ تَمَكُّنٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَلَا مَعْنًى لِلِاضْطِرَارِ إِلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ حُصُولُ هَذَا الْمُرَجِّحِ لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْفِعْلِ تَارَةً، وَعَدَمُهُ أُخْرَى، فَتَرْجِيحُ جَانِبِ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ، إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى انْضِمَامِ مُرَجِّحٍ إِلَيْهِ أَوْ لَا يَتَوَقَّفَ، إِنْ تَوَقَّفَ لَمْ يَكُنِ الْحَاصِلُ قَبْلَ ذَلِكَ مُرَجِّحًا تَامًّا، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مُرَجِّحًا تَامًّا هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فَلَا تَرْجِيحَ أَلْبَتَّةَ وَإِلَّا لَعَادَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ.
وَإِنْ كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ لَا مِنَ الْعَبْدِ وَلَا مِنْ غَيْرِ الْعَبْدِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَاقِعًا لَا لِمُؤَثِّرٍ فَيَكُونُ اتِفَاقِيًّا.
وَرُدَّ هَذَا الْجَوَابُ: بِأَنَّ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ الْفَاعِلِيَّةَ عَلَى التَّارِكِيَّةِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الرَّدِّ: بِأَنَّ تَرْجِيحَ الْقَادِرِ إِنْ كَانَ لَهُ مَفْهُومٌ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا، كَانَ تَسْلِيمًا لِكَوْنِ رُجْحَانِ الْفَاعِلِيَّةِ عَلَى التَّارِكِيَّةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا عِنْدَ انْضِمَامِ آخَرَ إِلَى الْقَادِرِيَّةِ، فَيَعُودُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ زَائِدٌ "لَمْ يَبْقَ"** لِقَوْلِكُمْ: الْقَادِرُ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا مُجَرَّدَ أَنَّ صِفَةَ الْقَادِرِيَّةِ مُسْتَمِرَّةٌ فِي الْأَزْمَانِ كُلِّهَا، ثُمَّ إِنَّهُ يُوجَدُ الْأَثَرُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ دُونَ بَعْضٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَادِرُ قَدْ رَجَّحَهُ، وَقَصَدَ إِيقَاعَهُ، وَلَا مَعْنَى لِلِاتِّفَاقِ إِلَّا ذَلِكَ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ التَّعَسُّفِ2، لِاسْتِلْزَامِهِ نَفْيَ الْمُرَجِّحِ مُطْلَقًا، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ، بِأَنَّ الظُّلْمَ وَالْكَذِبَ وَالْجَهْلَ قَبِيحَةٌ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَأَنَّ العدل والصدق
__________
* في "أ": قبول.
** في "أ": لم يكن.
__________
1 هو ترتيب أمور غير متناهية ا. هـ التعريفات "80".
2 تعسف في كلام، أي: تكلف. ا. هـ المعجم الوسيط مادة عسف.(1/29)
وَالْعِلْمَ حَسَنَةٌ عِنْدَهُ، لَكِنَّ حَاصِلَ مَا يُدْرِكُهُ العقل من "قبيح هذا القبح"*، وَحُسْنِ هَذَا الْحَسَنِ هُوَ أَنَّ فَاعِلَ الْأَوَّلِ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَفَاعِلَ الثَّانِي يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ، وَأَمَّا كَوْنُ الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقًا لِلْعِقَابِ الْأُخْرَوِيِّ، وَالثَّانِي مُتَعَلِّقًا لِلثَّوَابِ الْأُخْرَوِيِّ فَلَا.
وَاحْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ لِلتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، بِأَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ لَوْ لَمْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ قَبْلَ الشَّرْعِ لَاسْتَحَالَ أَنْ يُعْلَمَا عِنْدَ وُرُودِهِ؛ لِأَنَّهُمَا إِنْ لَمْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ قَبْلَهُ فَعِنْدَ وُرُودِهِ بِهِمَا، يَكُونُ وَارِدًا بِمَا لَا يَعْقِلُهُ السَّامِعُ وَلَا يَتَصَوَّرُهُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ قَبْلَ وُرُودِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى الشَّرْعِ لَيْسَ تَصَوُّرَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، فَإِنَّا قَبْلَ الشَّرْعِ نَتَصَوَّرُ مَاهِيَّةَ تَرَتُّبِ الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ، وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ عَلَى الْفِعْلِ، وَنَتَصَوَّرُ عَدَمَ هَذَا التَّرَتُّبِ، فَتَصَوُّرُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ، إِنَّمَا الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ هُوَ التَّصْدِيقُ، فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ؟ وَاحْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ إِلَّا بِالشَّرْعِ لَحَسُنَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَلَوْ حَسُنَ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ لَحَسُنَ مِنْهُ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِ الْكَاذِبِ، وَلَوْ حَسُنَ مِنْهُ ذَلِكَ لَمَا أَمْكَنَنَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْمُتَنَبِّئِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى بُطْلَانِ الشَّرَائِعِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمُعْجِزِ عَلَى الصِّدْقِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا خَلَقَ ذَلِكَ الْمُعْجِزَ لِلصِّدْقِ، وَكُلُّ مَنْ صَدَّقَهُ اللَّهُ فَهُوَ صَادِقٌ، وَبِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ مِنْ خَلْقِ الْمُعْجِزِ عَلَى يَدِ الْكَاذِبِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ خَلْقَهُ عِنْدَ الدَّعْوَى يُوهِمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّصْدِيقُ، فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي كَاذِبًا لَكَانَ ذَلِكَ إِيهَامًا لِتَصْدِيقِ الْكَاذِبِ، وَأَنَّهُ قَبِيحٌ، وَاللَّهُ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ.
وَاحْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ حَسُنَ مِنَ اللَّهِ كُلُّ شَيْءٍ لَمَا قَبُحَ مِنْهُ الْكَذِبُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَبْقَى اعْتِمَادٌ عَلَى وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَذَا وَارِدٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ قَدْ يَحْسُنُ فِي مِثْلِ الدَّفْعِ بِهِ عَنْ قَتْلِ إِنْسَانٍ ظُلْمًا، وَفِي مِثْلِ مَنْ تَوَعَّدَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ هُنَا يَحْسُنُ الْكَذِبُ وَيَقْبُحُ الصِّدْقُ.
ورُدَّ بِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنِ الْمُقْتَضِي الْمَانِعِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالنَّادِرِ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ الدَّفْعُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَحِلُّ بِإِيرَادِ الْمَعَارِيضِ، فَإِنَّ فِيهَا مَنْدُوحَةً1 عَنِ الْكَذِبِ.
وَاحْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِلْعَاقِلِ: إِنْ صَدَقْتَ أَعْطَيْنَاكَ دِينَارًا، وَإِنْ كَذَبْتَ أَعْطَيْنَاكَ دِينَارًا، فَإِنَّا نَعْلَمُ -بِالضَّرُورَةِ- أَنَّ الْعَاقِلَ يَخْتَارُ الصِّدْقَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا لَمَا اختاره.
__________
* في "أ": قبيح هذا القبح.
__________
1 الندح بالضم: الأرض الواسعة، والجمع: أنداح، والمتندح: المكان الواسع، ولي عن هذا الأمر مندوحة ومنتدح، أي: سعة. يقال: "إن المعاريض لمندوحة عن الكذب". ا. هـ الصحاح مادة ندح.(1/30)
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَرَجَّحُ الصِّدْقُ عَلَى الْكَذِبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اتَّفَقُوا عَلَى قُبْحِ الْكَذِبِ، وَحُسْنِ الصِّدْقِ، لِمَا أَنَّ نِظَامَ الْعَالَمِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذَلِكَ وَالْإِنْسَانُ لَمَّا نَشَأَ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، لَا جَرَمَ تَرَجَّحَ الصِّدْقُ عِنْدَهُ عَلَى الْكَذِبِ.
وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، إِذَا فَرَضَ نَفْسَهُ خَالِيَةً عَنِ الْإِلْفِ، وَالْعَادَةِ، وَالْمَذْهَبِ، وَالِاعْتِقَادِ، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهَا عِنْدَ هَذَا الْفَرْضِ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ، وَجَدَهَا جَازِمَةً بِتَرْجِيحِ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَحْثِ يَطُولُ، وَإِنْكَارُ مُجَرَّدِ إِدْرَاكِ الْعَقْلِ لِكَوْنِ الْفِعْلِ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا مُكَابَرَةٌ1، وَمُبَاهَتَةٌ2. وَأَمَّا إِدْرَاكُهُ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْحَسَنِ مُتَعَلَّقًا لِلثَّوَابِ، وَكَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ مُتَعَلَّقًا لِلْعِقَابِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ.
وَغَايَةُ مَا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْحَسَنَ يُمْدَحُ فَاعِلُهُ، وَهَذَا الْفِعْلَ الْقَبِيحَ يُذَمُّ فَاعِلُهُ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُتَعَلَّقًا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 3 وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} 4 وَقَوْلُهُ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} ونحو هذا.
__________
1 المكابرة: هي المنازعة في المسألة العلمية، لا لإظهار الصواب بل لإلزام الخصم وقيل: المكابرة: هي موافقة الحق بعد العلم به. ا. هـ. التعريفات "292".
2 قال أبو إسحاق: البهتان: الباطل الذي يتحير من بطلانه وهو من البهت التحير وبهتانًا موضع المصدر وقوله تعالى: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} حال المعنى أتأخذونه مباهتين آثمين. ا. هـ لسان العرب مادة بهت.
3 هو جزء من آية في سورة الإسراء رقم "15".
4 هو آية من سورة طه رقمها "134".(1/31)
المبحث الثالث في المحكوم به
مدخل
...
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي الْمَحْكُومِ بِهِ
هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ، فَمُتَعَلِّقُ الْإِيجَابِ يُسَمَّى وَاجِبًا، وَمُتَعَلِّقُ النَّدْبِ يُسَمَّى مَنْدُوبًا، وَمُتَعَلِّقُ الْإِبَاحَةِ يُسَمَّى مُبَاحًا، وَمُتَعَلِّقُ الْكَرَاهَةِ يُسَمَّى مَكْرُوهًا، وَمُتَعَلِّقُ التَّحْرِيمِ يُسَمَّى حَرَامًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ1 حَدُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا.
وَفِيهِ مسائل ثلاث:
__________
1 انظر صفحة "26".(1/31)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
أَنَّ شَرْطَ الْفِعْلِ الَّذِي وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ، أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا فَلَا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِالْمُسْتَحِيلِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْتَحِيلًا بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى امْتِنَاعِ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ بِهِ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ: بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ، جَائِزٌ فِي الْمُمْتَنِعِ لِامْتِنَاعٍ تَعَلَّقَ قُدْرَةُ الْمُكَلَّفِ بِهِ.
احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ: بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُسْتَحِيلِ لَكَانَ مَطْلُوبًا حُصُولُهُ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ تَصَوُّرَ ذَاتِ الْمُسْتَحِيلِ، مَعَ عَدَمِ تَصَوُّرِ مَا يَلْزَمُ ذَاتُهُ لِذَاتِهِ، مِنْ عَدَمِ الْحُصُولِ، يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ غَيْرَ ذَاتِهِ، فَيَلْزَمُ قَلْبُ الْحَقَائِقِ.
وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ لَا يَحْصُلُ لَهُ صُورَةٌ فِي الْعَقْلِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرَ شَيْءٌ هُوَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ فَتَصَوُّرُهُ إِمَّا عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ، بِأَنْ يُعْقَلَ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْحَلَاوَةِ أَمْرٌ، هُوَ الِاجْتِمَاعُ، ثُمَّ يُقَالُ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ النَّفْيِ بِأَنْ يُعْقَلَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ مَفْهُومُ اجْتِمَاعِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ بِمَاهِيَّتِهِ بَلْ بِاعْتِبَارٍ مِنَ الِاعْتِبَارَاتِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ قُبْحَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِدْلَالٍ، وَالْمُجَوِّزُ لِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ بِمَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِتَحْرِيرِهِ، وَالتَّعَرُّضُ لِرَدِّهِ، وَلِهَذَا وَافَقَ كَثِيرٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْجَوَازِ عَلَى امْتِنَاعِ الْوُقُوعِ، فَقَالُوا: يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ، مَعَ كَوْنِهِ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجُمْلَةِ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 1 {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} 2 {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِه} 3.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ عِنْدَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ: "قَدْ فَعَلْتُ"4 وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَنَحْوُهَا إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ، لَا عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، على أن
__________
1 جزء من آية في سورة البقرة رقمها "286".
2 جزء من آية في سورة الطلاق رقمها "7".
3 جزء أيضًا من الآية المتقدمة في سورة البقرة رقمها "286".
4 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس في كتاب الإيمان، باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس "126". أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة البقرة "2992" وقال: هذا حديث حسن. والنسائي في الكبرى، كما في تحفة الأشراف للمزي "5434" وأحمد في مسنده "1/ 233".(1/32)
الْخِلَافَ فِي مُجَرَّدِ الْجَوَازِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا.
قَالَ الْمُثْبِتُونَ لِلتَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ: لَوْ لَمْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ بِهِ لَمْ يَقَعْ، وَقَدْ وَقَعَ لِأَنَّ الْعَاصِيَ مَأْمُورٌ بِالْإِيمَانِ، وَمُمْتَنِعٌ مِنْهُ الْفِعْلُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَوُقُوعُ خِلَافِ مَعْلُومِهِ سُبْحَانَهُ مُحَالٌ، وَإِلَّا لَزِمَ الْجَهْلُ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ.
وَقَالُوا أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَمْ يَقَعْ، وَقَدْ وَقَعَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَلَّفَ أَبَا جَهْلٍ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ تَصْدِيقُ رَسُولِهِ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا جَاءَ بِهِ أَنَّ: أَبَا جَهْلٍ لَا يُصَدِّقُهُ، فَقَدْ كَلَّفَهُ بِأَنْ يُصَدِّقَهُ فِي أَنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرَ الْوُقُوعِ، لِجَوَازِ وُقُوعِهِ مِنَ الْمُكَلَّفِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ لِغَيْرِهِ، مِنْ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ لَمْ يكلف إلا بتصديق، وَهُوَ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ، مُتَصَوَّرٌ وُقُوعُهُ، إِلَّا أَنَّهُ مِمَّنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَهُ، كعلمه بالعاصي.
هَذَا الْكَلَامُ فِي التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وأما التَّكْلِيفِ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ: فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّتِهِ وَوُقُوعِهِ.(1/33)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
أَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّكْلِيفِ، عِنْدَ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الرَّازِيُّ وَأَبُو حامد1 وأبو زيد2 والسرخسي3: هو شرط.
__________
1 هو: الشيخ الإمام البحر، حجة الإسلام، زين الدين، أبو حامد، محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، الغزالي، المولود سنة خمسين وأربعمائة هـ بطوس، برع في الفقه، ومهر في الكلام والجدل، توفي سنة خمس وخمسمائة هـ، ونسبته إلى قرية يقال لها: غزالة من آثاره: "إحياء علوم الدين"، "كيمياء السعادة". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/ 322" هدية العارفين "2/ 79-81" الأعلام "7/ 22".
2 هو عبد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي، البخاري، الحنفي، فقيه، أصولي، أحد القضاة السبعة، ولد سنة سبع وستين وثلاثمائة هـ، نسبته إلى دبوسية، قرية بين بخارى وسمرقند، وتوفي سنة ثلاثين وأربعمائة هـ، في بخارى، ومن آثاره: "تقويم الأدلة"، "الأسرار في الأصول والفروع عند الحنفية". ا. هـ هدية العارفين "1/ 348" معجم المؤلفين "6/ 96" شذرات الذهب "3/ 245".
3 هو محمد بن أحمد، الإمام الكبير، العلامة الحجة، المتكلم، الفقيه، الأصولي، المناظر، الملقب بشمس الأئمة، صاحب المبسوط، الذي أملاه وهو في السجن بأوزجند، نسبته إلى سرخس، بلدة قديمة من بلاد خراسان، توفي حوالي سنة تسعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "أصول السرخسي"، "المبسوط". ا. هـ الجواهر المضية "3/ 78" تاج التراجم "234" هدية العارفين "2/ 76".(1/33)
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ عَلَى عُمُومِهَا؛ إِذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مِثْلَ الْجُنُبِ، وَالْمُحْدِثِ، مَأْمُورَانِ بالصلاة، بل هي مفروضة في جزء مِنْهَا، وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ، أَيْ: بِفُرُوعِ الْعِبَادَاتِ عَمَلًا عِنْدَ الْأَوَّلِينَ، لَا عِنْدَ الْآخِرِينَ.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْآخِرِينَ: هُمْ مُكَلَّفُونَ بِالنَّوَاهِي؛ لِأَنَّهَا أَلْيَقُ بِالْعُقُوبَاتِ الزَّاجِرَةِ، دُونَ الْأَوَامِرِ.
وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ.
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِأَمْرِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْكَافَّةِ، وَبِالْمُعَامَلَاتِ أَيْضًا.
وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الْعِبَادَاتِ: أَنَّهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، مَعَ عَدَمِ حُصُولِ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ الْإِيمَانُ.
اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِالْأَوَامِرِ الْعَامَّةِ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم} 1 وَنَحْوِهَا، وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا وَرَدَ مِنَ الْوَعِيدِ لِلْكُفَّارِ عَلَى التَّرْكِ كقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين} 2.
لَا يُقَالُ: قَوْلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِجَوَازِ كَذِبِهِمْ؛ لأنا نقول: ولو كَذَبُوا لَكُذِّبُوا.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} 3.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} 4.
وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَاسْتَدَلَّ الْآخِرُونَ بِأَنَّهُمْ: لَوْ كُلِّفُوا بِهَا لَصَحَّتْ؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ، "وَلَأَمْكَنَ"* الِامْتِثَالُ؛ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَانِعٌ، وَلَا يُمْكِنُ الِامْتِثَالُ حَالَ الْكُفْرِ، لِوُجُودِ الْمَانِعِ، وَلَا بَعْدَهُ، وَهُوَ حَالُ الْمَوْتِ، لِسُقُوطِ الْخِطَابِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْكُفْرِ لَيْسَتْ قَيْدًا لِلْفِعْلِ فِي مُرَادِهِمْ بالتكليف به
__________
* في "أ": أو لأمكن.
__________
1 الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [رقم 21: من سورة البقرة] .
2 الآيتان من سورة المدثر رقمهما "42-43".
3 هما جزء من آيتين في صورة فصلت رقمهما "6-7".
4 هما جزء من آيتين في سورة الفرقان، رقمهما "68-69".(1/34)
مَسْبُوقًا لِلْإِيمَانِ، وَالْكَافِرُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُسْلِمَ، وَيَفْعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، كَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ، فَإِنَّهُمَا مَأْمُورَانِ بِالصَّلَاةِ، مَعَ تَلَبُّسِهِمَا بِمَانِعٍ عَنْهَا، يَجِبُ عَلَيْهِمَا إِزَالَتُهُ لِتَصِحَّ مِنْهُمَا، وَالِامْتِنَاعُ الْوَصْفِيُّ لَا يُنَافِي الْإِمْكَانَ الذَّاتِيَّ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ التَّكْلِيفُ لِلْكُفَّارِ، لَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ.
وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ وَصِحَّتِهِ رَبْطٌ عَقْلِيٌّ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ1.
وَأَيْضًا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 2 ودليل عَلَى "عَدَمِ"* وُجُوبِ الْقَضَاءِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْصِيلِ: بأن النهي هي تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْ فِعْلِهِ، وَهُوَ مُمْكِنٌ مَعَ الْكُفْرِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْكُفْرَ مَانِعٌ مِنَ التَّرْكِ كَالْفِعْلِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُثَابُ الْعَبْدُ عَلَيْهَا، وَلَا تَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ وَأَيْضًا: الْمُكَلَّفُ بِهِ في النهي هو الكف، وهو فعل3.
__________
* ساقطة من "أ".
__________
1 قال السادة الأحناف: إن الأداء والقضاء يجبان بسبب واحد، وهو الأمر الذي وجب به الأداء عند الجمهور، ولكن قال العراقيون منهم: يجب القضاء بنص مقصود غير الأمر الذي وجب به الأداء، ففي الصوم مثلًا: وجب القضاء بقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} . ا. هـ خلاصة الأفكار شرح مختصر المنار. "50". التلويح على التوضيح "1/ 214".
2 جزء من آية في سورة الأنفال رقمها "38".
3 وخلاصة القول في سورة السادة الأحناف: أن الكفار مخاطبون بالإيمان، والعقوبات، والمعاملات، وبالعبادات في حق المؤاخذة في الآخرة، لقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} وأما في حق وجوب الأداء في الدنيا: فمختلف فيه، فعند العراقيين: يخاطبون بجميع أوامر الله ونواهيه من حيث الاعتقاد والأداء في حق المؤاخذة في الآخرة، وقال مشايخ ما وراء النهر: إنهم مخاطبون فيما لا يحتمل السقوط كالإيمان. ا. هـ. التلويح على التوضيح "1/ 213" خلاصة الأفكار "6".(1/35)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
إِنَّ التَّكْلِيفَ بِالْفِعْلِ -وَالْمُرَادُ بِهِ: أَثَرُ الْقُدْرَةِ الَّذِي هُوَ الْأَكْوَانُ، لَا التَّأْثِيرُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَعْرَاضِ النِّسْبِيَّةِ- ثَابِتٌ قَبْلَ حدوثه اتقافًا، وَيَنْقَطِعُ بَعْدَهُ اتِّفَاقًا، وَلَا اعْتِبَارَ بِخِلَافِ مَنْ خَالَفَ فِي الطَّرَفَيْنِ، فَهُوَ بَيِّنُ السُّقُوطِ، وَمَا قَالُوهُ: مِنْ أَنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ انْعَدَمَ الطَّلَبُ الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَصِفَاتُهُ أَبَدِيَّةٌ، فَهُوَ مَرْدُودٌ، بِأَنَّ كَلَامَهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ، وَالتَّعَدُّدُ فِي العوارض الحادثة من التعليق كَكَوْنِهِ أَمْرًا، أَوْ نَهْيًا، وَانْتِفَاؤُهُمَا لَا يُوجِبُ انتفاءه.(1/35)
وَاخْتَلَفُوا هَلِ التَّكْلِيفُ بِهِ بَاقٍ حَالَ حُدُوثِهِ أَمْ لَا؟
فَقَالَ جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ: هُوَ بَاقٍ.
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجُوَيْنِيُّ: لَيْسَ بِبَاقٍ.
وَلَيْسَ مُرَادُ مَنْ قَالَ بِالْبَقَاءِ: أَنَّ تَعَلُّقَ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ لِنَفْسِهِ؛ إِذْ لَا انْقِطَاعَ لَهُ أَصْلًا، وَلَا أَنَّ تَنْجِيزَ التَّكْلِيفِ بَاقٍ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ طَلَبٌ يَسْتَدْعِي مَطْلُوبًا غَيْرَ حَاصِلٍ، وَهُوَ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَلَا أَنَّ الْقُدْرَةَ مع الفعل، لاستلزمه أَنْ لَا تَكْلِيفَ قَبْلَهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ، وَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْقَاعِدَ مُكَلَّفٌ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ.
بَلْ مُرَادُهُمْ: أَنَّ التَّكْلِيفَ باقٍ عِنْدَ التَّأْثِيرِ لَكِنَّ التَّأْثِيرَ عَيْنُ الْأَثَرِ عِنْدَهُمْ.
وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّ الْفِعْلَ مَقْدُورٌ حَالَ حُدُوثِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْقُدْرَةِ فَيُوجَدُ مَعَهَا، وَإِذَا كَانَ مَقْدُورًا حِينَئِذٍ فَيَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ إِلَّا عَدَمُ الْقُدْرَةِ وَقَدِ انْتَفَى.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَلْزَمُ التَّكْلِيفُ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَيُرَدُّ: بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْمُحَالَ إِنَّمَا هُوَ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ بِوُجُودٍ سَابِقٍ، لَا بِوُجُودٍ حَاصِلٍ.(1/36)
المبحث الرابع في المحكوم عليه وهو المكلف
...
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ
اعْلَمْ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالشَّرْعِيَّاتِ فَهْمُ الْمُكَلَّفِ لِمَا كُلِّفَ بِهِ، بِمَعْنَى تَصَوُّرِهِ، بِأَنْ يَفْهَمَ مِنَ الْخِطَابِ الْقَدْرَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الِامْتِثَالُ، لَا بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ بِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ1، وَلَزِمَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ، لِعَدَمِ حُصُولِ التَّصْدِيقِ "لَهُمْ"*.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى اشْتِرَاطِ الْفَهْمِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ لَزِمَ الْمُحَالُ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ اسْتِدْعَاءُ حُصُولِ الْفِعْلِ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَادَةً وَشَرْعًا مِمَّنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِالْأَمْرِ.
وَأَيْضًا: يَلْزَمُ تَكْلِيفُ الْبَهَائِمِ؛ إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ تَكْلِيفِهَا إِلَّا عَدَمُ الْفَهْمِ، وَقَدْ فُرِضَ أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ "وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى كَوْنِ الْفَهْمِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ شَرْطًا لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ.
__________
* ساقطة من "أ".
__________
1 تقدم الكلام على الدور في الصفحة "20".(1/36)
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا بَعْضُ مَنْ قَالَ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ* وَقَدْ تَقَدَّمَ 1 بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِهِمْ.
فَتَقَرَّرَ بِهَذَا أَنَّ الْمَجْنُونَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّزْ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَفْهَمَانِ خِطَابَ التَّكْلِيفِ، عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ.
وَأَمَّا لُزُومُ أَرْشِ2 جِنَايَتِهِمَا وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَمِنْ أَحْكَامِ الْوَضْعِ، لَا مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ.
وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ تَمْيِيزُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، لَكِنَّهُ تَمْيِيزٌ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَمْيِيزِ الْمُكَلَّفِينَ.
وَأَيْضًا: وَرَدَ الدَّلِيلُ بِرَفْعِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ" 3.
وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي طُرُقِهِ مَقَالٌ، لَكِنَّهُ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ طُرُقِهِ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ، وَبِاعْتِبَارِ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ، لِكَوْنِهِمْ بَيْنَ عَامِلٍ بِهِ، وَمُؤَوِّلٍ لَهُ، صَارَ دَلِيلًا قَطْعِيًّا.
وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: "مَنِ اخْضَرَّ مِئْزَرُهُ فَاقْتُلُوهُ" 4 وَأَحَادِيثُ: النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ حَتَّى يَبْلُغُوا كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وَصَايَاهُ لِأُمَرَائِهِ، عِنْدَ غَزْوِهِمْ لِلْكُفَّارِ5، وأحاديث أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان لا
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر صفحة "33".
2 الأرش هو دية الجراحات والجمع أروش ا. هـ المصباح المنير مادة أرش.
3 أخرجه أحمد عن عائشة بلفظ: "رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستقظ، وعن الغلام حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفق" "6/ 100، 101" والدارمي عن عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة "2/ 171".
ومن طريق يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة: أخرجه أحمد "6/ 144"، وأبو داود في الحدود: باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًّا "4398". وأخرجه النسائي في الطلاق: باب من لا يقع طلاقه من الأزواج "6/ 156". وابن ماجة في الطلاق: باب طلاق المعتوه النائم والصغير. "2041".
وابن الجارود في المنتقى "148" من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة. وصححه الحاكم "2/ 59" من طريق أبي الوليد الطيالسي، وموسى بن إسماعيل.
وابن حبان في "صحيحه" كتاب الإيمان باب التكليف رقم "142".
4 الحديث: أخرج بنحوه ابن حبان في صحيحه "4782" وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه "18743" وابن ماجه في كتاب الحدود باب من لا يجب عليه الحد "2541" بلفظ" "سمعت عطية القرظي يقول: عرضنا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم قريظة فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلى". وأخرجه البيهقي كتاب الحجر باب البلوغ بالإنبات. "6/ 58".
وقوله من أخصر مئزره كتاب عن قوله: من نبت شعر عانته. ومثله قول سيدنا عثمان حينما أتي بغلام قد سرق فقال: انظروا إلى مؤتزره، فنظروا فوجدوه لم ينبت فلم يقطعه. ا. هـ. انظر مصنف عبد الرازق "18735".
5 أخرجه البيهقي في السنن في كتاب السير باب ترك قتل من لا قتل فيه من البرهان والكبير وغيرها 6/ 90. عن ابن عباس رضي الله عنهما. بلفظ: عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا بعث جيوشه قال: "اخرجوا بسم الله فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا |أصحاب الصوامع" والطبراني في المعجم الكبير من حديث جرير "2304". وأبو يعلى في مسنده "2549". وأحمد في مسنده 1/300.(1/37)
يَأْذَنُ فِي الْقِتَالِ إِلَّا لِمَنْ بَلَغَ سِنَّ التَّكْلِيفِ1.
وَالْأَدِلَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.
وَلَمْ يَأْتِ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِإِيرَادِهِ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ قَدْ صَحَّ طَلَاقُ السَّكْرَانِ، وَلَزِمَهُ أَرْشُ جِنَايَتِهِ، وَقِيمَةُ مَا أَتْلَفَهُ.
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ سَاقِطٌ، لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فِي أحكام التكليف، لَا فِي أَحْكَامِ الْوَضْعِ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْوَضْعِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون} 2، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، وَمَنْ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ لَا يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ، فَقَدْ كَلَّفَ مَنْ لَا يَفْهَمُ التَّكْلِيفَ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ السُّكْرِ عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ، فَالنَّهْيُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقَيْدِ.
وَرُدَّ أَيْضًا بِغَيْرِ هَذَا مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ.
وَوَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ: هَلِ الْمَعْدُومُ مُكَلَّفٌ أَمْ لَا؟.
فَذَهَبَ الْأَوَّلُونَ إِلَى الْأَوَّلِ وَالْآخِرُونَ إِلَى الْآخَرِ.
وَلَيْسَ مُرَادُ الْأَوَّلِينَ بِتَكْلِيفِ الْمَعْدُومِ أَنَّ الْفِعْلَ، أَوِ الْفَهْمَ مَطْلُوبَانِ مِنْهُ حَالَ عَدَمِهِ، فَإِنَّ بُطْلَانَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مَا أَوْرَدَهُ الْآخَرُونَ مِنْ أَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ تَكْلِيفُ النَّائِمِ، وَالْغَافِلِ، امْتَنَعَ تَكْلِيفُ الْمَعْدُومِ "بطريق الأولى"*، بل مرادهم التعليق الْعَقْلِيُّ، أَيْ: تَوَجُّهُ الْحُكْمِ فِي الْأَزَلِ إِلَى مَنْ عَلِمَ اللَّهُ وُجُودَهُ، مُسْتَجْمِعًا شَرَائِطَ التَّكْلِيفِ.
__________
* في "أ": بالأولى.
__________
1 مثاله: ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمسة عشر سنة فأجازه". أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب غزوة الخندق وهي الأحزاب "4097". والنسائي في الطلاق باب متى يقع طلاق الصبي "3431" "6/ 156"، والترمذي في كتاب الأحكام باب ما جاء في حد بلوغ الرجل والمرأة "1361" وابن ماجه في كتاب الحدود، باب من لا يجب عليه الحد "2543"، وأبو داود، في كتاب الخراج والفيء والإمارة باب متى يفرض للرجل في المقاتلة "2957"، وأحمد في المسند "2/ 17".
2 جزء من آية طويلة في سورة النساء "43".(1/38)
وَاحْتَجُّوا: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَلَّقِ التَّكْلِيفُ بِالْمَعْدُومِ، لَمْ يَكُنِ التَّكْلِيفُ أَزَلِيًّا؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ عَلَى الْوُجُودِ الْحَادِثِ، يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ حَادِثًا، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَزَلِيٌّ، لِحُصُولِهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُمَا كَلَامُ اللَّهِ، وَهُوَ أَزَلِيٌّ.
وَهَذَا الْبَحْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهِيَ مُقَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَاحْتَجَّ الْآخِرُونَ: بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْدُومُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخِطَابُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْخَبَرُ، وَالنِّدَاءُ، وَالِاسْتِخْبَارُ، مِنْ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ مَوْجُودٍ، وَهُوَ مُحَالُ.
وَرُدَّ بِعَدَمِ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ مُحَالًا بَلْ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَتَطْوِيلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَحْثِ قَلِيلُ الْجَدْوَى، بَلْ مَسْأَلَةُ الْخِلَافِ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ طَالَتْ ذُيُولُهَا، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِيهَا فِرَقًا، وَامْتُحِنَ بِهَا مَنِ امْتُحِنَ، مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، لَيْسَ لَهَا "كبير"* فَائِدَةٍ، بَلْ هِيَ مِنْ فُضُولِ الْعِلْمِ، وَلِهَذَا صَانَ اللَّهُ سَلَفَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ، والتابعين، وتابعيهم عن التكلم فيها.
__________
* في "أ": كبير.(1/39)
الفصل الثالث في المبادئ اللغوية
المبحث الأول: عن ماهية الكلام
...
الفصل الثالث: في المبادئ اللغوية
اعْلَمْ: أَنَّ الْبَحْثَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ عَنْ مَاهِيَّةِ الْكَلَامِ، أَوْ عَنْ كَيْفِيَّةِ دَلَالَتِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ دَلَالَتُهُ وَضْعِيَّةً، فَالْبَحْثُ عَنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، إِمَّا أَنْ يَقَعَ عَنِ الْوَاضِعِ، أَوِ الْمَوْضُوعِ، أَوِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، أَوْ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْوَضْعُ فَهَذِهِ أَبْحَاثٌ خَمْسَةٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: عَنْ مَاهِيَّةِ الْكَلَامِ
وَهُوَ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، وَعَلَى الْأَصْوَاتِ الْمُقَطَّعَةِ الْمَسْمُوعَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَحْثِ فِي هَذَا الْفَنِّ عَنِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، بَلِ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْبَحْثِ عَنْهُ فِيهِ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي.
فَالْأَصْوَاتُ كَيْفِيَّةٌ لِلنَّفْسِ، وَهِيَ الْكَلَامُ الْمُنْتَظِمُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ، الْمُتَوَاضَعِ عَلَيْهَا.
وَالِانْتِظَامُ: هُوَ التَّأْلِيفُ لِلْأَصْوَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ عَلَى السَّمْعِ.
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ الْحُرُوفِ الْحَرْفُ، الْوَاحِدُ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْكَلَامِ حَرْفَانِ، وَبِالْمَسْمُوعَةِ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ، وَبِالْمُتَمَيِّزَةِ أَصْوَاتُ مَا عَدَا "صوت"* الْإِنْسَانَ، وَبِالْمُتَوَاضَعِ عَلَيْهَا الْمُهْمَلَاتُ، وَقَدْ خَصَّصَ النُّحَاةُ الْكَلَامَ بِمَا تَضَمَّنَ كَلِمَتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ تسمى كلامًا.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/40)
المبحث الثاني: عن الْوَاضِعُ
...
الْبَحْثُ الثَّانِي: عَنِ الْوَاضِعِ
اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ1، وَأَتْبَاعُهُ، وَابْنُ فُورِكٍ2.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَاضِعَ هُوَ الْبَشَرُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ3 وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ ابْتِدَاءَ اللُّغَةِ وَقَعَ بِالتَّعْلِيمِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْبَاقِيَ بِالِاصْطِلَاحِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ ابْتِدَاءَ اللُّغَةِ وَقَعَ بِالِاصْطِلَاحِ وَالْبَاقِيَ تَوْقِيفٌ، وَبِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ4 وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ بِالَّذِي قَبْلَهُ.
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ نَفْسَ الْأَلْفَاظِ دَلَّتْ عَلَى مَعَانِيهَا بِذَاتِهَا، وَبِهِ قَالَ عَبَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ الصَّيْمَرِيُّ5.
الْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ بِأَحَدِهَا، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ كما حكاه صاحب "المحصول"6.
__________
1 هو: على بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم، صاحب الأصول، الإمام الكبير، إليه تنسب الطائفة الأشعرية، ولد سنة ستين ومائتين، وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ببغداد، من تصانيفه: "رسالة في الإيمان"، "إمامة الصديق"، "الرد على المجسمة"، وغيرها كثير بلغت ثلاثماثمة مؤلف. ا. هـ.
سير أعلام النبلاء "15/ 85" الجواهر المضية "2/ 544" الأعلام "4/ 263".
2 هو: محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني، صاحب التصانيف، الإمام العلامة، الصالح، شيخ المتكلمين، توفي سنة ست وأربعمائة هـ، من تصانيفه "تفسير القرآن"، "دقائق الأسرار"، "طبقات المتكلمين" وغيرها. ا. هـ.
هدية العارفين "2/ 60" سير أعلام النبلاء "17/ 214"، شذرات الذهب "3/ 181".
3 هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب, الجبائي، شيخ المعتزلة، وابن شيخهم، من كبار الأذكياء، توفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة هـ، من تصانيفه "الجامع الكبير"، "العرض"، "المسائل العسكرية" وغيرها ا. هـ.
سير أعلام النبلاء "15/ 63"، شذرات الذهب "2/ 289".
4 هو إبراهيم بن محمد، الإسفراييني، الأصولي، الشافعي، الملقب بركن الدين، أحد المجتهدين في عصره، توفي سنة ثماني عشرة وأربعمائة هـ، من تصانيفه: "أدب الجدل"، "معالم الإسلام"، "العقيدة" وغيرها. ا. هـ. هدية العارفين "1/ 8". سير أعلام النبلاء "17/ 353".
5 هو أبو سهل، عباد بن سليمان البصري، المعتزلي، من أصحاب هشام الفوطي، يخالف المعتزلة في أشياء اخترعها لنفسه، كان أبو علي الجبائي يصفه بالحذق في الكلام، من آثاره: كتاب "إثبات الجزء الذي لا يتجزأ" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 551".
6 واسمه "المحصول في أصول الفقه"، للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي، وله شروح كثيرة، منها: "شرح شمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني" وهو حافل مات ولم يكمله. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1615".(1/41)
احْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ:
أَمَّا الْمَنْقُولُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1.
دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَسْمَاءَ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ، ثَبَتَ أَيْضًا فِي الْأَفْعَالِ، وَالْحُرُوفِ؛ إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.
وَأَيْضًا: الِاسْمُ إِنَّمَا سُمِّيَ اسْمًا لِكَوْنِهِ عَلَامَةً عَلَى مُسَمَّاهُ، وَالْأَفْعَالُ، وَالْحُرُوفُ كَذَلِكَ، وَتَخْصِيصُ الِاسْمِ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ اصْطِلَاحٌ لِلنُّحَاةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ قَوْمًا عَلَى تَسْمِيَتِهِمْ بَعْضَ الأشياء، دون توقيف، بقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان} 2.
فَلَوْ لَمْ تَكُنِ اللُّغَةُ تَوْقِيفِيَّةً لَمَا صَحَّ هَذَا الذَّمُّ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} 3.
وَالْمُرَادُ: اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ، لَا اخْتِلَافَاتُ "تَأْلِيفَاتِ"* الْأَلْسُنِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاصْطِلَاحَ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُعَرِّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ مَا فِي ضَمِيرِهِ، وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِطَرِيقٍ، كَالْأَلْفَاظِ، وَالْكِتَابَةِ، وَكَيْفَمَا كَانَ، فَإِنَّ ذَلِكَ الطَّرِيقَ. إِمَّا الِاصْطِلَاحُ، وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، أَوِ التَّوْقِيفُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِالْمُوَاضَعَةِ لَجَوَّزَ الْعَقْلُ اخْتِلَافَهَا، وَأَنَّهَا عَلَى غَيْرِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللُّغَاتِ قَدْ تَبَدَّلَتْ، وَحِينَئِذٍ لَا يُوثَقُ بِهَا. وَأُجِيبَ عَنِ الاستدلال بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاء} بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْلِيمِ الْإِلْهَامُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} 4، أَوْ تَعْلِيمُ مَا سَبَقَ وَضْعُهُ مِنْ خَلْقٍ آخر، أو المراد
__________
* وقع تحريف في الأصل وهو بالتفات والصواب تأليفات كما ذكر في حاشية النسخة "أ".
__________
1 جزء من الآية "31" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "32" من سورة النجم.
3 جزء من الآية "22" من سورة الروم.
4 جزء من الآية "80" من سورة الأنبياء.(1/42)
بالأسماء المسميات، بدليل قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُم} 1.
وَيُجَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا اخْتَرَعُوهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ لِلْأَصْنَامِ، مِنَ الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَالْوَصِيلَةِ، وَالْحَامِ2.
وَوَجْهُ الذَّمِّ مُخَالَفَةُ ذَلِكَ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ.
وَأُجِيبَ عَنِ الاستدلال بقوله: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُم} بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّوْقِيفُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْوَضْعِ، وَإِقْرَارُ الْخَلْقِ عَلَى وَضْعِهَا.
وَيُجَابُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ: بِمَنْعِ لُزُومِ التَّسَلْسُلِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ وَضْعُ الْوَاضِعِ هَذَا الِاسْمَ لِهَذَا الْمُسَمَّى، ثُمَّ تَعْرِيفُ غَيْرِهِ بِأَنَّهُ وَضَعَهُ كَذَلِكَ.
وَيُجَابُ عَنِ الوجه الثان: بِأَنَّ تَجْوِيزَ الِاخْتِلَافِ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
وَمِمَّا يَدْفَعُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّ حُصُولَ اللُّغَاتِ لَوْ كَانَ بِالتَّوْقِيفِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَكَانَ ذَلِكَ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ لُغَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُ الطَّرِيقُ الْمُعْتَادُ فِي التَّعْلِيمِ لِلْعِبَادِ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- علمها، غَيْرَهُ.
وَأَيْضًا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّعْلِيمَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْإِرْسَالِ، لِجَوَازِ حُصُولِهِ بِالْإِلْهَامِ، وَفِيهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِلْهَامِ لَا يُوجِبُ كَوْنَ اللُّغَةِ تَوْقِيفِيَّةً، بَلْ هِيَ مِنْ وَضْعِ النَّاسِ بِإِلْهَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ كَسَائِرِ الصَّنَائِعِ.
احْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي: بِالْمَنْقُولِ، وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا الْمَنْقُولُ: فقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِه} 3.
أَيْ: بِلُغَتِهِمْ، فَهَذَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَ اللُّغَةِ عَلَى بَعْثَةِ الرُّسُلِ، فَلَوْ كَانَتِ اللُّغَةُ تَوْقِيفِيَّةً لَمْ يُتَصَوَّرْ ذَلِكَ إِلَّا بِالْإِرْسَالِ، فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى سَبْقِ
اللُّغَاتِ لِلْإِرْسَالِ، وَالتَّوْقِيفُ يدل على سبق الإرسال لها.
__________
1 جزء من الآية "31" في سورة البقرة.
2 البحيرة قال الزجاج: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها، وشقوها، وامتنعوا من نحرها، ولا تطرد من ماء ولا مرعى.
السائبة: روي عن ابن عباس: أنها تسيب للأصنام، فتعطى للسدنة.
الوصيلة: قال الزجاج: هي الشاة إذا ولدت ذكرًا كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى كانت لهم، وإن ولدت ذكرًا وأنثى قيل: وصلت آخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
الحامي: قال أبو عبيدة والزجاج: إنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين. ا. هـ. انظر تفسير القرطبي والسايس عند الآية "103" من المائدة.
3 جزء من الآية "4" من سورة إبراهيم عليه السلام.(1/43)
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ كَوْنَ التَّوْقِيفِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْإِرْسَالِ إِنَّمَا يُوجِبُ سَبْقَ الْإِرْسَالِ عَلَى التَّوْقِيفِ، لَا سَبْقَ الْإِرْسَالِ عَلَى اللُّغَاتِ، حَتَّى يَلْزَمَ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لِتَعْلِيمِهَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِهَا، مَعْلُومَةً لِلرَّسُولِ عَادَةً، لِتَرَتُّبِ فَائِدَةِ الْإِرْسَالِ عَلَيْهِ.
وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَهَا، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهَا لِأَقْدَمِ رَسُولٍ انْدَفَعَ الدَّوْرُ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَوْقِيفِيَّةً لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، بِأَنْ وَضَعَهَا لِتِلْكَ الْمَعَانِي، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ لَا يَخْلُو. إِمَّا أن يقال: "الله"* خُلِقَ ذَلِكَ الْعِلْمُ فِي عَاقِلٍ، أَوْ فِي غَيْرِ عَاقِلٍ، وَبَاطِلٌ أَنْ يَخْلُقَهُ فِي عَاقِلٍ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَضَعَ تِلْكَ اللَّفْظَةَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ ضَرُورِيًّا لَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ سُبْحَانَهُ ضَرُورِيًّا، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ ضَرُورِيًّا لَبَطَلَ التَّكْلِيفُ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا. وَبَاطِلٌ أَنْ يَخْلُقَهُ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ؛ لِأَنَّ مِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَصِيرَ الْإِنْسَانُ الْغَيْرُ الْعَاقِلِ عَالِمًا بِهَذِهِ اللُّغَاتِ الْعَجِيبَةِ، وَالتَّرْكِيبَاتِ اللَّطِيفَةِ.
احْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ الِاصْطِلَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِأَنْ يُعَرِّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ مَا فِي ضَمِيرِهِ، فَإِنْ عَرَّفَهُ بِأَمْرٍ آخَرَ اصْطِلَاحِيٍّ، لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنَ التَّوْقِيفِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تُحْدَثَ لُغَاتٌ كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ الِاصْطِلَاحِ، بَلْ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ يُحْدِثُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ أَلْفَاظًا مَا كَانُوا يَعْلَمُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ تَوَقُّفِهِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ، بَلْ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّرْدِيدِ وَالْقَرَائِنِ، كَالْأَطْفَالِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ: فَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ: بِأَنْ فَهْمَ مَا جَاءَ تَوْقِيفًا لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الِاصْطِلَاحِ وَالْمُوَاضَعَةِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ التَّعْلِيمَ بِوَاسِطَةِ رَسُولٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ.
وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْخَامِسِ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ وَالْمُسَمَّيَاتِ مُنَاسَبَةٌ بِوَجْهٍ مَا، لَكَانَ تَخْصِيصُ الِاسْمِ الْمُعَيَّنِ لِلْمُسَمَّى الْمُعَيَّنِ تَرْجِيحًا بِدُونِ مُرَجِّحٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْوَاضِعُ هُوَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، كَانَ تَخْصِيصُ الِاسْمِ الْمُعَيَّنِ بِالْمُسَمَّى الْمُعَيَّنِ، كَتَخْصِيصِ وُجُودِ الْعَالَمِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، دُونَ مَا قَبْلَهُ أو ما بَعْدَهُ.
وَأَيْضًا: لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى، كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا فِي وَضْعِهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ خَفِيَ علينا.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/44)
وَإِنْ كَانَ الْوَاضِعُ الْبَشَرَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ خُطُورَ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْبَالِ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْوَاحِدِ مِنَّا أَنْ يُسَمِّيَ وَلَدَهُ بَاسْمٍ خَاصٍّ.
وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ السَّادِسِ: عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الْوَقْفِ: بِأَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْقَائِلُونَ لَا يُفِيدُ شَيْءٌ مِنْهَا الْقَطْعَ، بَلْ لَمْ يَنْهَضْ شَيْءٌ مِنْهَا لِمُطْلَقِ الدَّلَالَةِ، فَوَجَبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّ مَا عَدَاهُ هُوَ مِنَ التَّقَوُّلِ عَلَى اللَّهِ بِمَا لَمْ يقل، وأنه باطل. وهذا هو الحق.(1/45)
المبحث الثالث: عن الْمَوْضُوعُ
...
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: عَنِ الْمَوْضُوعِ
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفَرْدُ الْوَاحِدُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ لَا يَسْتَقِلُّ وَحْدَهُ، بِإِصْلَاحِ جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ فِي ذَلِكَ مِنْ جَمْعٍ، لِيُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى تَعْرِيفِ صَاحِبِهِ بِمَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الْحَاجَاتِ، وَذَلِكَ التَّعْرِيفُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِطَرِيقٍ مِنْ أَصْوَاتٍ مُقَطَّعَةٍ، أَوْ حَرَكَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَجَعَلُوا الْأَصْوَاتَ الْمُقَطَّعَةَ هِيَ الطَّرِيقَ إِلَى التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّ الْأَصْوَاتَ أَسْهَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَقَلُّ مُؤْنَةً، وَلِكَوْنِ إِخْرَاجِ النَّفَسِ أَمْرًا ضَرُورِيًّا، فَصَرَّفُوا هَذَا الْأَمْرَ الضَّرُورِيَّ إِلَى هَذَا التَّعْرِيفِ، وَلَمْ يَتَكَلَّفُوا لَهُ طَرِيقًا أُخْرَى غَيْرَ ضَرُورِيَّةٍ، مَعَ كَوْنِهَا تَحْتَاجُ إِلَى مُزَاوَلَةٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحَرَكَاتِ وَالْإِشَارَاتِ قَاصِرَةٌ عَنْ إِفَادَةِ جَمِيعِ مَا يُرَادُ فَإِنَّ مَا يُرَادُ تَعْرِيفُهُ قَدْ لَا تُمْكِنُ الْإِشَارَةُ الْحِسِّيَّةُ إِلَيْهِ كَالْمَعْدُومَاتِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا: فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةَ هِيَ كُلُّ لَفْظٍ وُضِعَ لِمَعْنًى.
فَيَخْرُجُ مَا لَيْسَ بِلَفْظٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَوْضُوعَةِ، وَمَا لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ مِنَ الْمُحَرَّفَاتِ، وَالْمُهْمَلَاتِ، وَيَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ الْمُفْرَدَاتُ، وَالْمُرَكَّبَاتُ السِّتَّةُ، وَهِيَ الْإِسْنَادِيُّ، وَالْوَصْفِيُّ، وَالْإِضَافِيُّ، وَالْعَدَدِيُّ، وَالْمَزْجِيُّ، وَالصَّوْتِيُّ.
وَمَعْنَى الْوَضْعِ يَتَنَاوَلُ أَمْرَيْنِ: أَعَمَّ وَأَخَصَّ، فَالْأَعَمُّ: تَعْيِينُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ مَعْنًى، وَالْأَخَصُّ: تَعْيِينُ اللَّفْظِ للدلالة على معنى.(1/45)
المبحث الرابع: عن الْمَوْضُوعُ لَهُ
...
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: عَنِ الْمَوْضُوعِ لَهُ
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ وَالرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الذِّهْنِ وَالْخَارِجِ، أَوْ فِي الذِّهْنِ فَقَطْ.(1/45)
وقيل: هو موضع "لِلْوُجُودِ"* الْخَارِجِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ1.
وَقِيلَ: هو موضوع للأعم، من الذهبي وَالْخَارِجِيِّ، وَرَجَّحَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ2.
وَقِيلَ: أَنَّ اللَّفْظَ فِي الأشخاص، أي الأعلام الشخصية، موضوع "للموجود"** الخارجي، ولا ينافي كونه للموجود الْخَارِجِيِّ وُجُوبَ اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ فَالصُّورَةُ الذِّهْنِيَّةُ، آلَةٌ لِمُلَاحَظَةِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، لَا أَنَّهَا هِيَ الْمَوْضُوعُ لَهَا، وَأَمَّا فِيمَا عَدَا الْأَعْلَامَ الشَّخْصِيَّةَ، فَاللَّفْظُ مَوْضُوعٌ لِفَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ الْفَرْدُ الْمُنْتَشِرُ فِيمَا وُضِعَ لِمَفْهُومٍ كُلِّيٍّ، أَفْرَادُهُ خَارِجِيَّةٌ أَوْ ذِهْنِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ خَارِجِيَّةً، فَالْمَوْضُوعُ لَهُ فَرْدٌ مَا مِنْ تِلْكَ الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ، وَإِنْ كانت ذهنية، لَهُ فَرْدٌ مَا مِنَ الذِّهْنِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ ذِهْنِيَّةً وَخَارِجِيَّةً، فَالِاعْتِبَارُ بِالْخَارِجِيَّةِ.
وَقَدْ أَلْحَقَ عَلَمَ الْجِنْسِ بِالْأَعْلَامِ الشَّخْصِيَّةِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ الْجِنْسِ، فَيَجْعَلُ عَلَمَ الْجِنْسِ مَوْضُوعًا لِلْحَقِيقَةِ الْمُتَّحِدَةِ، وَاسْمَ الْجِنْسِ لِفَرْدٍ مِنْهَا غَيْرِ مُعَيَّنٍ.
وَفِي اسْمِ الْجِنْسِ مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْمَاهِيَّةِ، مَعَ وَحْدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا وَيُسَمَّى فَرْدًا مُنْتَشِرًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ3، وَابْنُ الْحَاجِبِ4، وَرَجَّحَهُ السَّعْدُ5، وَابْنُ الْهُمَامِ6.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، وَرَجَّحَهُ الشَّرِيفُ7.
فَالْمَوْضُوعُ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ هُوَ الْمَاهِيَّةُ بِشَرْطِ شَيْءٍ. وَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي هُوَ الْمَاهِيَّةُ لَا بشرط شيء.
__________
* في "أ" للموجود.
** في "أ": للموجود.
__________
1 هو إبراهيم بن علي بن يوسف، جمال الدين الشيرازي الفيروزآبادي، ولد سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة هـ، وسكن بغداد، وتوفي سنة ست وسبعين وأربعمائة هـ، وهو إمام قدوة، مجتهد، شافعي المذهب. ا. هـ سير أعلام النبلاء "18/ 452"، هدية العارفين "1/ 8".
2 هو محمد بن محمود بن محمد، أبو عبد الله، شمس الدين الأصفهاني، ولد سنة ست عشرة وستمائة هـ، وتوفي سنة "ثمان وثمانين وستمائة هـ، وهو قاض من فقهاء الشافعية بأصفهان، من تآليفه: "القواعد في العلوم الأربعة"، "شرح المحصول". ا. هـ. الفوائد البهية "197"، الأعلام "7/ 87".
3 هو: جار الله، أبو القاسم، محمود بن عمر بن محمد، الخوارزمي، الزمخشري، من أئمة العلم والتفسير والآداب، ولد سنة سبع وستين وأربعمائة هـ، وتوفي سنة ثمان وثلاثين وخمسائة هـ، من آثاره: "الكشاف عن حقاتق التنزيل"، "والمستقصى في الأمثال".ا. هـ.
سير أعلام النبلاء، "20/ 151"، معجم المؤلفين. "12/ 186".
4 هو الشيخ الإمام العلامة المقرئ، الأصولي، الفقيه المالكي، النحوي، جمال الأئمة والملة والدين، أبو عمرو، عثمان بن عمر بن أبي بكر، ولد سنة سبعين وخمسمائة وتوفي بالإسكندرية سنة ست وأربعين وستمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "23/ 265"، الأعلام "4/ 211".
5 هو مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني سعد الدين من أئمة العربية والبيان والمنطق، ولد بتفتازان سنة اثنتي عشرة وسبعمائة هـ، وتوفي بسمرقند سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة هـ، من تصانيفه: "تهذيب المنطق"، "المطول في البلاغة"، "شرح العقائد النسفية" "التلويح إلى كشف غوامض التنقيح". ا. هـ. الأعلام "7/ 219"، شذرات الذهب "6/ 319" معجم المؤلفين "12/ 228".
6 هو مخمد بن عبد الواحد، المعروف بابن الهمام، كمال الدين، عالم مشارك في الفقه والأصول والتفسير والتصوف والفرائض، ولد بالإسكندرية سنة تسعين وسبعمائة هـ، وتوفي سنة إحدى وستين وثمانمائه هـ، من تصانيفه: "شرح الهداية واسمه فتح القدير"، "المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة". ا. هـ. معجم المؤلفين "1/ 264"، شذرات الذهب "7/ 298"، الفوائد البهية "180"، الأعلام "6/ 255".
7 هو علي بن محمد الجرجاني. تقدم في الصحفة "21".(1/46)
المبحث الْخَامِسُ: عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْوَضْعُ
...
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْوَضْعُ
اعْلَمْ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَارِدَيْنِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَكَانَ الْعِلْمُ بِهِمَا مُتَوَقِّفًا عَلَى الْعِلْمِ بِهَا كَانَ الْعِلْمُ بِهَا، مِنْ أَهَمِّ الْوَاجِبَاتِ.
وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي نُقِلَتْ هَذِهِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ بِهَا إِلَيْنَا؛ إِذْ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ وَضْعِيَّةٌ، وَالْأُمُورُ الْوَضْعِيَّةُ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِهَا فَلَا تَكُونُ الطَّرِيقُ إِلَيْهَا إِلَّا نَقْلِيَّةً.
وَالْحَقُّ أَنَّ جَمِيعَهَا مَنْقُولٌ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ.
وَقِيلَ: مَا كَانَ مِنْهَا لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ كَالْأَرْضِ، وَالسَّمَاءِ، وَالْحَرِّ، وَالْبَرْدِ، وَنَحْوِهَا، فَهُوَ مَنْقُولٌ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ كَاللُّغَاتِ الَّتِي فِيهَا غَرَابَةٌ، فَهُوَ مَنْقُولٌ بِطَرِيقِ الْآحَادِ.
وَلَا وَجْهَ لِهَذَا، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُشْتَغِلِينَ بِنَقْلِ اللُّغَةِ قَدْ نَقَلُوا غَرِيبَهَا كَمَا نَقَلُوا غَيْرَهُ، وَهُمْ عَدَدٌ لَا يُجَوِّزُ الْعَقْلُ تواطأهم عَلَى الْكَذِبِ، فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ، هَذَا مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ الْمُشْتَغِلِينَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" تَشْكِيكًا عَلَى هَذَا، كَعَادَتِهِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي مُصَنَّفَاتِهِ، حَتَّى فِي "تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ" فَقَالَ: "أَمَّا التَّوَاتُرُ: فَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّا نَجِدُ النَّاسَ مُخْتَلِفِينَ فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظِ، الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ الْأَلْفَاظِ دَوَرَانًا عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ، اخْتِلَافًا لَا يُمْكِنُ "مَعَهُ"* الْقَطْعُ بِمَا هُوَ الْحَقُّ كَلَفْظَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ زعم أنها
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/47)
لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً بَلْ سُرْيَانِيَّةً، وَالَّذِينَ جَعَلُوهَا عَرَبِيَّةً اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ، أَوِ الْمَوْضُوعَةِ، وَالْقَائِلُونَ بِالِاشْتِقَاقِ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا شَدِيدًا، وَكَذَا الْقَائِلُونَ بِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً، اخْتَلَفُوا أَيْضًا اخْتِلَافًا كَثِيرًا.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَدِلَّتَهُمْ فِي تَعْيِينِ مَدْلُولِ هَذِهِ اللفظة عَلِمَ أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ وَأَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَا يفيد الظن الغالب، فضلًا عن اليقين.
"وكذلك"1 اخْتَلَفُوا فِي الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ فِي عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ، زَعَمَ: أَنَّ اشْتِقَاقَ الصَّلَاةِ مِنْ "الصَّلَوَيْنِ" وَهُمَا عَظْمَا الْوَرِكِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الِاشْتِقَاقَ غَرِيبٌ.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي، وَصِيَغِ الْعُمُومِ، مَعَ شِدَّةِ اشْتِهَارِهَا، وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، اخْتِلَافًا شَدِيدًا، وَإِذَا كَانَ الْحَالُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، الَّتِي هِيَ أَشْهَرُ الْأَلْفَاظِ وَالْحَاجَةُ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا مَاسَّةٌ جِدًّا كَذَلِكَ، فَمَا ظَنُّكَ بِسَائِرِ الْأَلْفَاظِ؟ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: ظَهَرَ أَنَّ دَعْوَى التَّوَاتُرِ فِي اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ مُتَعَذِّرٌ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ هُوَ كَوْنُ نَقْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَيْنَا بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ، عَنِ الْعَرَبِ الْمَوْثُوقِ بِعَرَبِيَّتِهِمْ، فَالِاخْتِلَافُ فِي الِاشْتِقَاقِ وَالْوَضْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلَا يَصْلُحُ لِلتَّشْكِيكِ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَقَدْ تَنَبَّهَ الرَّازِيُّ لِهَذَا فَقَالَ فَإِنْ قُلْتَ: هَبْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَعْوَى التَّوَاتُرِ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَلَكِنَّا نَعْلَمُ مَعَانِيَهَا فِي الْجُمْلَةِ، فَنَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ لَفْظَ "اللَّهِ" تَعَالَى عَلَى الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ مُسَمَّى هَذَا اللَّفْظِ أَهُوَ الذَّاتُ، أَمِ الْمَعْبُودِيَّةُ، أَمِ الْقَادِرِيَّةُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ.
قُلْتُ: حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّا لَا نَعْلَمُ إِطْلَاقَ لَفْظَةِ "اللَّهِ" "عَلَى الْإِلَهِ"2 سبحانه وتعالى من غير أن نعلم أن مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ ذَاتِهِ أَوْ كَوْنِهِ "مَحْمُودًا أَوْ كَوْنِهِ"3 قَادِرًا عَلَى الِاخْتِرَاعِ، أَوْ كَوْنِهِ مَلْجَأَ الْخَلْقِ أَوْ كَوْنِهِ بِحَيْثُ تَتَحَيَّرُ الْعُقُولُ فِي إِدْرَاكِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ لِهَذَا اللَّفْظِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ نَفْيَ الْقَطْعِ بِمُسَمَّاهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، مَعَ نِهَايَةِ شُهْرَتِهَا، وَنِهَايَةِ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، كَانَ تَمَكُّنُ الِاحْتِمَالِ فِيمَا عَدَاهَا أَظْهَرُ انْتَهَى.
وَهَذَا الْجَوَابُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ نُقِلَتْ إِلَيْنَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّوَاتُرِ، وَنَقَلَ إلينا الناقلون
__________
1 في "أ": "وكذا.
2 ما بين قوسين ساقط من "أ".
3 ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/48)
لَهَا: أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي مَفْهُومِ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَبَحْثٌ آخَرُ، لَا يُقْدَحُ بِهِ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ أَصْلًا.
ثُمَّ قَالَ مُرْدِفًا لِذَلِكَ التَّشْكِيكِ بِتَشْكِيكٍ آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّ مِنْ شَرْطِ التواتر استواء الطرفين "والوسطة"*. فهب أن عَلِمْنَا حُصُولَ شَرَائِطِ التَّوَاتُرِ فِي حُفَّاظِ اللُّغَةِ، وَالنَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، فِي زَمَانِنَا، فَكَيْفَ نَعْلَمُ حُصُولَهَا فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ؟ انْتَهَى.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ عِلْمَنَا حُصُولَهَا فِيهِمْ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ بِنَقْلِ الْأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، الْمُشْتَغِلِينَ بِأَحْوَالِ النَّقَلَةِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا.
ثُمَّ أَطَالَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى التَّشْكِيكِ فِي نَقْلِهَا آحَادًا، وَجَمِيعُ مَا جَاءَ بِهِ مَدْفُوعٌ مَرْدُودٌ، فَلَا نَشْتَغِلُ بِالتَّطْوِيلِ بِنَقْلِهِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهِ، فَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ مَا يُرْشِدُ إِلَى الرَّدِّ لِبَقِيَّةِ مَا شَكَّكَ بِهِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ إِثْبَاتِ اللُّغَةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ:
فَجَوَّزَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ1، وَابْنُ شُرَيْحٍ2، وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالرَّازِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَمَنَعَهُ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْغَزَّالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ3، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَابْنُ الْهُمَامِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيمَا ثَبَتَ تَعْمِيمُهُ بِالنَّقْلِ، كَالرَّجُلِ، وَالضَّارِبِ، أَوْ بِالِاسْتِقْرَاءِ، كَرَفْعِ الْفِعْلِ، وَنَصْبِ الْمَفْعُولِ، بَلِ النِّزَاعُ فِيمَا إِذَا سُمِّيَ مُسَمًّى بِاسْمٍ فِي هَذَا الِاسْمِ -بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ مِنْ حيث
__________
* في "أ": الوسط.
__________
1 هو محمد بن الطيب الباقلاني، الإمام العلامة، أوحد المتكلمين ومقدم الأصوليين، القاضي أبو بكر، البصري، البغدادي، ولد سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وتوفي سنة ثلاث وأربعمائة هـ، من تصانيفه: "إعجاز القرآن"، "الإنصاف" وغيرها. ا. هـ. سير أعلام البنلاء "17/ 190"، هدية العارفين "2/ 95"، الأعلام "6/ 176".
2 هو أحمد بن عمر بن سريج البغدادي، شيخ الإسلام، فقيه العراقيين، القاضي الشافعي، ولد سنة بضع وأربعين ومائتين هـ، وتوفي سنة ست ثلاثمائة هـ، ا. هـ. شذرات الذهب "2/ 247"، سير أعلام النبلاء "14/ 201".
3 هو أبو الحسن على بن محمد، التغلبي، سيف الدين الآمدي، والحنبلي، ثم الشافعي، العلامة المصنف، ولد سنة نيف وخمسين وخمسمائة هـ، له كتاب "أبكار الأفكار" في الكلام، توفي سنة إحدى وثلاثين وستمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "22/ 364"، الأعلام "4/ 332"، هدية العارفين "1/ 707".(1/49)
الِاشْتِقَاقِ أَوْ غَيْرِهِ- مَعْنًى يُظَنُّ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّسْمِيَةِ، لِأَجْلِ دَوَرَانِ ذَلِكَ الِاسْمِ مَعَ هَذَا الْمَعْنَى، وُجُودًا وَعَدَمًا، وَيُوجَدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي غَيْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ.
فَهَلْ يَتَعَدَّى ذَلِكَ الِاسْمُ الْمَذْكُورُ إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ بِسَبَبِ وُجُودِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ، فَيُطْلَقُ ذَلِكَ الِاسْمُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً؛ إِذْ لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ الْإِطْلَاقِ مَجَازًا إِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْإِطْلَاقِ حَقِيقَةً، وذلك كالخمر، الذي هو اسم للنيء مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ، إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، إِذَا أُطْلِقَ عَلَى النَّبِيذِ إِلْحَاقًا لَهُ بالنيء الْمَذْكُورِ بِجَامِعِ الْمُخَامَرَةِ لِلْعَقْلِ، فَإِنَّهَا مَعْنًى فِي الاسم، يظن اعتباره في تسمية النيء الْمَذْكُورِ بِهِ، لِدَوَرَانِ التَّسْمِيَةِ مَعَهُ، فَمَهْمَا لَمْ تُوجَدْ فِي مَاءِ الْعِنَبِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا بَلْ عَصِيرًا، وَإِذَا وُجِدَتْ فِيهِ سُمِّيَ بِهِ، وَإِذَا زَالَتْ عَنْهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ، بَلْ خَلًّا، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي النَّبِيذِ، أَوْ يُخَصُّ اسْمُ الْخَمْرِ بِمُخَامِرٍ لِلْعَقْلِ، هُوَ مَاءُ الْعِنَبِ الْمَذْكُورُ، فَلَا يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى النَّبِيذِ، وَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ النَّبَّاشِ سَارِقًا لِلْأَخْذِ بِالْخُفْيَةِ، وَاللَّائِطِ زَانِيًا لِلْإِيلَاجِ الْمُحَرَّمِ.
احْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ: بِأَنَّ دَوَرَانَ الِاسْمِ مَعَ الْمَعْنَى وُجُودًا وَعَدَمًا يَدُلُّ عَلَى أنه المعتب؛ لأن يُفِيدُ الظَّنَّ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ إِفَادَةَ الدَّوَرَانِ لِذَلِكَ ممنوعة، لما سيأتي1 في مسالك العلة، ويعد التَّسْلِيمِ لِإِفَادَةِ الدَّوَرَانِ، وَكَوْنِهِ طَرِيقًا صَحِيحَةً، فَنَقُولُ: إِنْ أَرَدْتُمْ بِدَوَرَانِ الِاسْمِ مَعَ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، دَوَرَانًا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ وُجِدَ فِي أَفْرَادِ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرِهَا بِادِّعَاءِ ثُبُوتِ الِاسْمِ فِي كُلِّ مَادَّةٍ يُوجَدُ فِيهَا ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَانْتِفَائِهِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ بِطَرِيقِ النَّقْلِ، فَغَيْرُ الْمَفْرُوضِ؛ لِأَنَّ مَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسَمَّى، فَلَا يَتَحَقَّقُ إِلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِدَوَرَانِ الِاسْمِ مَعَ الْمُسَمَّى أَنْ يَدُورَ مَعَهُ فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ فَقَطْ، لِوُجُودِ الِاسْمِ فِي كُلِّ مَادَّةٍ يُوجَدُ فِيهَا الْمُسَمَّى، وَانْتِفَائِهِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ، مَنَعْنَا كَوْنَهُ طَرِيقًا مُثْبَتًا تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِاسْمٍ لِمُشَارَكَةِ الْمُسَمَّى فِي مَعْنًى دَارَ الِاسْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ طَرِيقًا صَحِيحَةً لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، فَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ كَوْنِهِ طريقًا صحيحة فِي إِثْبَاتِ الِاسْمِ، وَتَعْدِيَتِهِ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ سَمْعِيٌ، ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِالسَّمَاعِ مِنَ الشَّارِعِ، وَتَعَبَّدَنَا بِهِ، لَا أَنَّهُ عَقْلِيٌّ.
وَأُجِيبَ ثَانِيًا: بِالْمُعَارَضَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَلْبِ، بِأَنَّهُ دَارَ أَيْضًا مَعَ الْمَحَلِّ، كَكَوْنِهِ مَاءَ الْعِنَبِ، وَمَالَ الْحَيِّ، وَوَطَأَ فِي الْقُبُلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ، وَالْمَعْنَى جُزْءٌ مِنَ الْعِلَّةِ.
وَمَنْ قَالَ بِقَطْعِ النَّبَّاشِ، وَحَدِّ شَارِبِ النَّبِيذِ فَذَلِكَ لِعُمُومِ دَلِيلِ السَّرِقَةِ، وَالْحَدِّ، أَوْ لِقِيَاسِهِمَا عَلَى السَّارِقِ وَالْخَمْرِ قِيَاسًا شَرْعِيًّا فِي الْحُكْمِ، لَا لِأَنَّهُ يُسَمَّى النَّبَّاشُ سَارِقًا، والنبيذ خمرًا بالقياس
__________
1 انظر "2/ 140".(1/50)
فِي اللُّغَةِ، كَمَا زَعَمْتُمْ، وَأَيْضًا الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ إِثْبَاتٌ بِالْمُحْتَمَلِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَحْتَمِلُ التَّصْرِيحَ بِاعْتِبَارِهِ، يَحْتَمِلُ التَّصْرِيحَ بِمَنْعِهِ، وَأَيْضًا لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِالْوَضْعِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الرُّجْحَانِ وَأَيْضًا هَذِهِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ قَدْ تَقَدَّمَ1 الْخِلَافُ هَلْ هِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ، أَوِ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَلَا طَرِيقَ إِلَيْهَا إِلَّا النَّقْلُ فَقَطْ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّفْصِيلِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلَيْنِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَلِمْتَ أن الحق منع إثبات اللغة بالقياس.
__________
1 انظر صفحة "41".(1/51)
الفصل الرابع في تقسم اللفظ إلى مفرد ومركب
مدخل
...
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي تَقْسِيمِ اللَّفْظِ إِلَى مُفْرَدٍ ومركب
اعْلَمْ: أَنَّ اللَّفْظَ إِنْ قُصِدَ بِجُزْءٍ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ، فَهُوَ مُرَكَّبٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مُفْرَدٌ.
وَالْمُفْرَدُ: إِمَّا وَاحِدٌ، أَوْ مُتَعَدِّدٌ، وَكَذَلِكَ مَعْنَاهُ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ:
الْوَاحِدُ لِلْوَاحِدِ، إِنْ لَمْ يَشْتَرِكْ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ، لَا مُحَقَّقًا، وَلَا مُقَدَّرًا، فَمَعْرِفَةٌ لِتُعِينَهُ إِمَّا مُطْلَقًا، أَيْ: وَضْعًا وَاسْتِعْمَالًا فَعَلَمٌ، "شَخْصِيٌّ، وَجُزْئِيٌّ" حَقِيقِيٌّ، إِنْ كَانَ فَرْدًا، أَوْ مُضَافًا بِوَضْعِهِ الْأَصْلِيِّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَهْدُ، أَيِ: اعْتِبَارُ الْحُضُورِ لِنَفْسِ الْحَقِيقَةِ أَوْ لِحِصَّةٍ مِنْهَا مُعَيَّنَةٍ مَذْكُورَةٍ، أَوْ فِي حُكْمِهَا، أَوْ مُبْهَمَةٍ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودِ، مُعَيَّنَةٍ مِنْ حَيْثُ التَّخْصِيصِ، أَوْ لِكُلٍّ مِنَ الْحِصَصِ، وَإِمَّا بِالْإِشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ فَاسْمُهَا وَإِمَّا بِالْعَقْلِيَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلِهَا سَابِقًا كَضَمِيرِ الْغَائِبِ، أَوْ مَعًا كَضَمِيرَيِ الْمُخَاطَبِ، وَالْمُتَكَلِّمِ، أَوْ لَاحِقًا، كَالْمَوْصُولَاتِ.
وَإِنِ اشْتَرَكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا فَكُلِّيٌّ، فَإِنْ تَنَاوَلَ الْكَثِيرَ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ فَجِنْسٌ وَإِلَّا فَاسْمُ الْجِنْسِ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَتَنَاوُلُهُ لِجُزْئِيَّاتِهِ: إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّفَاوُتِ بِأَوَّلِيَّةٍ، أَوْ أَوْلَوِيَّةٍ أَوْ أَشَدِّيَةٍ، فَهُوَ الْمُشَكِّكُ، وَإِنْ كَانَ تَنَاوُلُهُ لَهَا عَلَى السَّوِيَّةِ فَهُوَ الْمُتَوَاطِئُ.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ وَضْعًا إِلَّا فَرْدًا مُعَيَّنًا فَخَاصٌّ، خُصُوصَ الْبَعْضِ، وَإِنْ تَنَاوَلَ الْأَفْرَادَ وَاسْتَغْرَقَهَا فَعَامٌّ، سَوَاءٌ اسْتَغْرَقَهَا مُجْتَمِعَةً، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، وَالْأَوَّلُ يُقَالُ لَهُ الْعُمُومُ الشُّمُولِيُّ، وَالثَّانِي الْبَدَلِيُّ وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا، فَإِنْ تَنَاوَلَ مَجْمُوعًا غَيْرَ مَحْصُورٍ فَيُسَمَّى عَامًّا عِنْدَ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الِاسْتِغْرَاقَ، كَالْجَمْعِ الْمُنْكَرِ، وَعِنْدَ مَنِ اشْتَرَطَ وَاسِطَةً.
وَالرَّاجِحُ: أَنَّهُ خَاصٌّ؛ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ قَطْعِيَّةٌ، كَدَلَالَةِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْوَاحِدِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَجْمُوعًا بَلْ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ يَتَنَاوَلُ مَحْصُورًا فَخَاصٌّ، خُصُوصَ الْجِنْسِ أَوِ النَّوْعِ.
الثَّانِي:
اللَّفْظُ الْمُتَعَدِّدُ لِلْمَعْنَى الْمُتَعَدِّدِ، وَيُسَمَّى الْمُتَبَايِنُ، سَوَاءٌ تَفَاصَلَتْ أَفْرَادُهُ كَالْإِنْسَانِ، وَالْفَرَسِ، أَوْ تَوَاصَلَتْ كَالسَّيْفِ، وَالصَّارِمِ.(1/52)
الثَّالِثُ:
اللَّفْظُ الْوَاحِدُ لِلْمَعْنَى الْمُتَعَدِّدِ فَإِنْ وُضِعَ لِكُلٍّ، فَمُشْتَرَكٌ، وَإِلَّا فَإِنِ اشْتَهَرَ فِي الثَّانِي فَمَنْقُولٌ يُنْسَبُ إِلَى نَاقِلِهِ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ.
الرَّابِعُ:
اللَّفْظُ الْمُتَعَدِّدُ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَيُسَمَّى الْمُتَرَادِفَ.
وَكُلٌّ مِنَ الْأَرْبَعَةِ يَنْقَسِمُ إِلَى مُشْتَقٍّ، وَغَيْرِ مُشْتَقٍّ، وَإِلَى صِفَةٍ وَغَيْرِ صِفَةٍ.
ثُمَّ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى تَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ مُطَابَقَةٌ، وَعَلَى جُزْئِهِ تَضَمُّنٌ، وَعَلَى الْخَارِجِ الْتِزَامٌ.
وَجَمِيعُ ما ذكرنا ههنا قَدْ بُيِّنَ فِي عُلُومٍ مَعْرُوفَةٍ فَلَا نُطِيلُ البحث فيه، ولكنا نذكرها ههنا خَمْسَ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْعِلْمِ تَعَلُّقًا تَامًّا.(1/53)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الِاشْتِقَاقِ
الِاشْتِقَاقُ: أَنْ تَجِدَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَنَاسُبًا فِي الْمَعْنَى وَالتَّرْكِيبِ، فَتَرُدَّ أَحَدَهُمَا إِلَى الْآخَرِ.
وَأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ:
أَحَدُهَا: اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِمَعْنًى.
وَثَانِيهَا: شَيْءٌ آخَرُ لَهُ نِسْبَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَثَالِثُهَا: مُشَارَكَةٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ فِي الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَرَابِعُهَا: تَغْيِيرٌ يَلْحَقُ ذَلِكَ الِاسْمَ فِي حَرْفٍ فَقَطْ، أَوْ حَرَكَةٍ فَقَطْ، أَوْ فِيهِمَا مَعًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ، أَوْ بِهِمَا مَعًا، فَهَذِهِ تِسْعَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: زِيَادَةُ الْحَرَكَةِ.
ثَانِيهَا: زِيَادَةُ الْحَرْفِ.
ثَالِثُهَا: زِيَادَتُهُمَا.
رَابِعُهَا: نُقْصَانُ الْحَرَكَةِ.
خَامِسُهَا: نُقْصَانُ الحرف.
سادسها: نقصانهما.
سابعها: زيادة لحركة مَعَ نُقْصَانِ الْحَرْفِ.
ثَامِنُهَا: زِيَادَةُ الْحَرْفِ مَعَ نُقْصَانِ الْحَرَكَةِ.
تَاسِعُهَا: أَنْ يُزَادَ فِيهِ حَرَكَةٌ وَحَرْفٌ، وَيُنْقَصَ عَنْهُ حَرَكَةٌ وَحَرْفٌ.
وَقِيلَ: تَنْتَهِي أَقْسَامُهُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُونُ إِمَّا بِحَرَكَةٍ، أَوْ حَرْفٍ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، أَوْ بِهِمَا، وَالتَّرْكِيبُ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ.(1/53)
وَيَنْقَسِمُ إِلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْأَكْبَرِ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ أَعَمُّ مِنَ الْمُوَافَقَةِ، فَمَعَ الْمُوَافَقَةِ فِي الْحُرُوفِ وَالتَّرْتِيبِ صَغِيرٌ، وَبِدُونِ التَّرْتِيبِ كَبِيرٌ، نَحْوَ: جَذَبَ وَجَبَذَ1، وَكَنَى "وَنَكَى"*2 وَبِدُونِ الْمُوَافَقَةِ أَكْبَرُ لِمُنَاسَبَةٍ مَا كَالْمَخْرَجِ فِي ثَلَمَ وَثَلَبَ3، أَوِ الصِّفَةِ، كَالشِّدَّةِ4 فِي الرَّجْمِ وَالرَّقْمِ5 فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْأَوَّلَيْنِ الْمُوَافَقَةُ وَفِي الْأَخِيرِ الْمُنَاسَبَةُ.
وَالِاشْتِقَاقُ الْكَبِيرُ وَالْأَكْبَرُ لَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْأُصُولِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَبْحُوثَ عَنْهُ فِي الْأُصُولِ إِنَّمَا هُوَ الْمُشْتَقُّ بِالِاشْتِقَاقِ الصَّغِيرِ.
وَاللَّفْظُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
صِفَةٌ: وَهِيَ مَا دَلَّ عَلَى ذَاتٍ مُبْهَمَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، بِتَعْيِينٍ شَخْصِيٍّ، وَلَا جِنْسِيٍّ، مُتَّصِفَةٍ بِمُعَيَّنٍ كَضَارِبٍ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: ذَاتٌ ثَبَتَ لَهَا الضَّرْبُ.
وَغَيْرُ صِفَةٍ وَهُوَ مَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتٍ مُبْهَمَةٍ مُتَّصِفَةٍ بِمُعَيَّنٍ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا، هَلْ بَقَاءُ وَجْهِ الِاشْتِقَاقِ شَرْطٌ لِصِدْقِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ، فَيَكُونُ لِلْمُبَاشِرِ حَقِيقَةً اتِّفَاقًا، وَفِي الِاسْتِقْبَالِ مَجَازًا اتِّفَاقًا، وَفِي الْمَاضِي الَّذِي قَدِ انْقَطَعَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ:
فَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: مَجَازٌ.
وَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: حَقِيقَةٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سِينَا6 مِنَ الْفَلَاسِفَةِ7، وأبو هشام من المعتزلة.
__________
* في "أ": ناك وهو تحريف.
__________
1 جبذت الشيء: مثل جذبته، مقلوب منه. ا. هـ. الصحاح مادة جبذ.
2 نكيت في العدو نكاية: إذا قتلت فيهم وجرحت. ا. هـ. الصحاح مادة نكى.
3 الثلب: شدة اللوم والأخذ باللسان، وثلبه ثلبًا: إذا صرح بالعيب وتنقصه. ا. هـ. لسان العرب والصحاح مادة ثلب.
والثلم: الخلل في الحائط وغيره.
4 لغة: القوة، وسميت حروفها شديدة "يعني خص ضغط قظ" لمنعها النفس أن يجري معها لقوتها في مخارجها. ا. هـ. الدقائق المحكمة في شرح المقدمة الجزرية 39.
5 القتل، وإنما قيل للقتل رجم: لأنهم كانوا إذا قتلوا رجلًا رموه بالحجارة حتى يقتلوه، ثم قيل لكل قتل رجم. ا. هـ. لسان العرب مادة رجم.
والرقم: والترقيم: تعجيم الكتاب، ورقم الكتاب يرقمه رقمًا: أعجمه وبينه. ا. هـ. اللسان مادة رقم.
6 هو الحسين بن عبد الله، أبو علي، العلامة الشهير، الفيلسوف، المعروف، بابن سينا الرئيس، ولد سنة سبعين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة هـ، بهمذان، من تآليفه: "الأدوية القلبية"، "الإشارات" وغيرها. ا. هـ. هدية العارفين "1/ 308"، سير أعلام النبلاء "17/ 531"، إيضاح المكنون "2/ 555".
7 الفلسفة: مشتقة من كلمة يونانية: وهي: فيلاسوفيا وتفسيرها: محبة الحكمة، فلما عربت قيل: فيلسوف، ثم اشقت الفلسفة منه، ومعنى الفلسفة: علم حقائق الاشياء، والعمل بما هو أصلح.
والفلاسفة أنكروا حدوث العلم، وعلمه تعالى بالجزئيات، وحشر الأجساد، فكفروا بذلك. ا. هـ. مفاتيح العلوم "153"، تحفة المريد "68".(1/54)
احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالِاشْتِرَاطِ: بِأَنَّ الضَّارِبَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الضَّرْبِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِضَارِبٍ، وَإِذَا صَدُقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ لَا يَصْدُقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ ضَارِبٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا ضَارِبٌ يُنَاقِضُهُ -فِي الْعُرْفِ- قَوْلُنَا لَيْسَ بِضَارِبٍ.
وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ أَنَّ نَفْيَهُ فِي الْحَالِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَهُ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الثُّبُوتَ فِي الْحَالِ أَخَصُّ مِنَ الثُّبُوتِ مُطْلَقًا، وَنَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ النَّفْيُ الْمُقَيَّدُ بِالْحَالِ لَا نَفْيُ الْمُقَيَّدِ بِالْحَالِ.
وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ اللَّازِمَ النَّفْيُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يُنَافِي الثُّبُوتَ فِي الجملة، إلا أن يقال: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمُنَافَاةِ فِي اللُّغَةِ لَا فِي الْعَقْلِ.
وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا: بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ إِطْلَاقُ الْمُشْتَقِّ إِطْلَاقًا حَقِيقِيًّا، بِاعْتِبَارِ مَا قَبْلَهُ، لَصَحَّ بِاعْتِبَارِ مَا بَعْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ اتِّفَاقًا.
وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ فَإِنَّهُ قَدْ يُشْتَرَطُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْحَالِ، وَهُوَ كَوْنُهُ ثَبَتَ لَهُ الضَّرْبُ.
وَاحْتَجَّ النَّافُونَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى صِحَّةِ ضَارِبٌ أَمْسِ وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ مَجَازٌ بِدَلِيلِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ ضَارِبٌ غَدًا وَهُوَ مَجَازٌ اتِّفَاقًا.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ مَجَازِيَّتَهُ لِعَدَمِ تَلَبُّسِهِ بِالْفِعْلِ، لَا فِي الْحَالِ، وَلَا فِي الْمَاضِي، فَلَا يَسْتَلْزِمُ مَجَازِيَّةَ ضَارِبٌ أَمْسِ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ إِطْلَاقَ الْمُشْتَقِّ عَلَى الْمَاضِي الَّذِي قَدِ انْقَطَعَ حَقِيقَةً؛ لِاتِّصَافِهِ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى التَّفْصِيلِ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مُمْكِنَ الْبَقَاءِ اشْتُرِطَ بَقَاؤُهُ، فَإِذَا مَضَى وَانْقَطَعَ فَمَجَازٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنِ الْبَقَاءِ لَمْ يُشْتَرَطْ بَقَاؤُهُ، فَيَكُونُ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْوَقْفِ وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ أَدِلَّةَ صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقِيِّ عَلَى مَا مَضَى وَانْقَطَعَ ظَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ.(1/55)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي التَّرَادُفِ
هُوَ تَوَالِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، بِاعْتِبَارِ مَعْنًى واحد.
فيخرج عن هذه الأدلة اللَّفْظَيْنِ عَلَى "شَيْءٍ"* وَاحِدٍ لَا بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ بَلْ بِاعْتِبَارِ صِفَتَيْنِ كَالصَّارِمِ وَالْمُهَنَّدِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ وَصِفَةِ الصِّفَةِ، كَالْفَصِيحِ وَالنَّاطِقِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُؤَكِّدَةِ، أَنَّ الْمُتَرَادِفَةَ تُفِيدُ فَائِدَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ أَصْلًا.
وَأَمَّا الْمُؤَكِّدَةُ: فَإِنَّ الِاسْمَ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّأْكِيدُ يُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْمُؤَكَّدِ أَوْ "دَفْعَ"** تَوَهُّمِ التَّجَوُّزِ، أَوِ السَّهْوِ أَوْ عَدَمِ الشُّمُولِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِثْبَاتِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وهو الحق.
وسببه إما تعدد "الوضع"***، أَوْ تَوْسِيعُ دَائِرَةِ التَّعْبِيرِ، وَتَكْثِيرُ وَسَائِلِهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ "أَهْلِ الْبَيَانِ"****، بِالِافْتِنَانِ، أَوْ تَسْهِيلُ مَجَالِ النَّظْمِ، وَالنَّثْرِ، وَأَنْوَاعِ الْبَدِيعِ، فَإِنَّهُ قَدْ "يصلح"***** أحد اللفظين المترادفين للقافية، أو الوزن، أَوِ السَّجْعَةِ1 دُونَ الْآخَرِ، وَقَدْ يَحْصُلُ التَّجْنِيسُ2، وَالتَّقَابُلُ3، وَالْمُطَابَقَةُ4، وَنَحْوُ ذَلِكَ: "بِهَذَا"****** دُونَ هَذَا، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ الْمَانِعُونَ لِوُقُوعِ التَّرَادُفِ، فِي اللُّغَةِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَعَرِيَ عَنِ الْفَائِدَةِ، لِكِفَايَةِ أَحَدِهِمَا، فَيَكُونُ الثَّانِي مِنْ باب
__________
* في "أ": مسمى.
** في "أ": رفع.
*** في "أ": الوضع.
**** في "أ": الشأن.
***** في "أ": يحصل.
****** في "أ": هذا.
__________
1 هو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير من النثر، نحو {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} ا. هـ. جواهر البلاغة "404".
2 هو الجناس وهو: تشابه لفظين في النطق، واختلافهما في المعنى، وهو لفظي ومعنوي، نحو: "سميته يحيى ليحيا". ا. هـ. جواهر البلاغة "396".
3 وهو المقابلة: وهو أن يؤتي بمعنيين متوافقين أو معان متوافقة ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، كقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} .
4 وهو الطباق: وهو الجمع بين متقابلين في المعنى.
مثاله: قوله تعالى {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} . ا. هـ. جواهر البلاغة "366-367".(1/56)
الْعَبَثِ، وَيَنْدَفِعُ أَيْضًا مَا قَالُوهُ: مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَلَمْ يَأْتُوا بِحُجَّةٍ مَقْبُولَةٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، مِنْ وُقُوعِ التَّرَادُفِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، مِثْلَ: الْأَسَدِ وَاللَّيْثِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالْقَمْحِ، وَالْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا وَإِنْكَارُهُ مُبَاهَتَةٌ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنَ التَّرَادُفِ، هُوَ مِنِ اخْتِلَافِ الذَّاتِ وَالصِّفَةِ، كَالْإِنْسَانِ وَالْبَشَرِ، أَوِ الصِّفَاتِ كَالْخَمْرِ لِتَغْطِيَةِ الْعَقْلِ وَالْعَقَارِ لِعُقْرِهِ أَوْ لِمُعَاقَرَتِهِ، أَوِ اخْتِلَافِ الْحَالَةِ السَّابِقَةِ كَالْقُعُودِ مِنَ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ مِنَ الِاضْطِجَاعِ، تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَتَعَسُّفٌ بَحْتٌ، وَهُوَ وَإِنْ أَمْكَنَ تَكَلُّفُ مِثْلِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَادِّ الْمُتَرَادِفَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُمَكِنُ فِي أَكْثَرِهَا، يَعْلَمُ هَذَا كُلُّ عَالِمٍ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَالْعَجَبُ مِنْ نِسْبَةِ الْمَنْعِ مِنَ الْوُقُوعِ إِلَى مِثْلِ ثَعْلَبٍ1، وَابْنِ فَارِسٍ2 مَعَ تَوَسُّعِهِمَا فِي هَذَا الْعِلْمِ.
__________
1 هو أبو العباس، أحمد بن يحيى بن زيد، إمام الكوفيين في اللغة والنحو، المعروف بثعلب، ولد ببغداد سنة مائتين هجرية، وتوفي فيها سنة إحدى وتسعين ومائتين، وهو حجة مشهور بالحفظ، من آثاره: "قواعد الشعر"، و"الفصيح". ا. هـ. تذكرة الحفاظ "20/ 666"، هدية العارفين "1/ 54".
2 هو أحمد بن فارس زكريا، القزويني، الرازي، المالكي، اللغوي، أبو الحسين توفي في الري سنة خمس وتسعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "مقاييس اللغة" "اختلاف النحاة" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 103"، هدية العارفين "1/ 68"، الأعلام "1/ 193".(1/57)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمُشْتَرَكِ
وَهُوَ اللَّفْظَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِحَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَضْعًا أَوَّلًا، مِنْ حَيْثُ هُمَا كَذَلِكَ.
فَخَرَجَ بِالْوَضْعِ: مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّيْءِ بِالْحَقِيقَةِ، وَعَلَى غَيْرِهِ بِالْمَجَازِ، "وَخَرَجَ بِقَيْدِ: أَوَّلًا: الْمَنْقُولُ"*، وَخَرَجَ بِقَيْدِ الْحَيْثِيَّةِ: الْمُتَوَاطِئُ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَاهِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةَ، لَكِنْ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ كَذَلِكَ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ: فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ وَاجِبُ الْوُقُوعِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّهُ جَائِزُ الْوُقُوعِ.
احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ: بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ مُتَنَاهِيَةٌ، وَالْمَعَانِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْمُتَنَاهِي إِذَا وُزِّعَ عَلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ، وَلَا رَيْبَ فِي عَدَمِ تَنَاهِي الْمَعَانِي؛ لِأَنَّ الْأَعْدَادَ مِنْهَا، وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ بِلَا خِلَافٍ.
وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا: بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَامَّةَ -كَالْمَوْجُودِ، وَالشَّيْءِ- ثَابِتَةٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وقد ثبت أن
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/57)
وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ نَفْسُ مَاهِيَّتِهِ فَيَكُونُ وُجُودُ الشَّيْءِ مُخَالِفًا لِوُجُودِ الْآخَرِ، مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفَظُ الْمَوْجُودِ بِالِاشْتِرَاكِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ: بِمَنْعِ عَدَمِ تَنَاهِي الْمَعَانِي، إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْمُخْتَلِفَةُ، أَوِ الْمُتَضَادَّةُ، وَتَسْلِيمِهِ مَعَ مَنْعِ عَدَمِ وَفَاءِ الْأَلْفَاظِ بِهَا، إِنْ أُرِيدَ الْمُتَمَاثِلَةُ الْمُتَّحِدَةُ فِي الْحَقِيقَةِ، أَوِ الْمُطْلَقَةُ فَإِنَّ الْوَضْعَ لِلْحَقِيقَةِ الْمُشْتَرَكَةِ كَافٍ فِي التَّفْهِيمِ.
وَأَيْضًا: لَوْ سَلِمَ عَدَمُ تَنَاهِي كُلٍّ مِنْهَا، لَكَانَ عَدَمُ تَنَاهِي مَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْبِيرِ وَالتَّفْهِيمِ مَمْنُوعًا.
وَأَيْضًا: لَا نُسَلِّمُ تَنَاهِي الْأَلْفَاظِ، لِكَوْنِهَا مُتَرَكِّبَةً مِنَ الْمُتَنَاهِي، فَإِنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، مَعَ تَرَكُّبِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَنَاهِيَةِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الثَّانِي: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَامَّةَ ضَرُورِيَّةٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَوْجُودَ مُشْتَرَكٌ لَفْظِيٌّ، لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًا؟ وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لِمَ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاكُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، سِوَى الْوُجُودِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِتِلْكَ اللَّفْظَةِ الْعَامَّةِ؟
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالِامْتِنَاعِ: بِأَنَّ الْمُخَاطَبَةَ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لَا يُفِيدُ فَهْمَ الْمَقْصُودِ عَلَى التَّمَامِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ مَنْشَأً لِلْمَفَاسِدِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْفَهْمُ التَّامُّ بِسَمَاعِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُوجِبُ نَفْيَهُ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى أَحْوَالِ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ، لَا نَفْيًا، وَلَا إِثْبَاتًا، وَالْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ لَا تَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْمَوْصُوفَاتِ الْبَتَّةَ، وَلَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ نَفْيَهَا، وَكَوْنَهَا غَيْرَ ثَابِتَةٍ فِي اللُّغَةِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الْوُقُوعِ وَإِمْكَانِهِ: بِأَنَّ الْمُوَاضَعَةَ تَابِعَةٌ لِأَغْرَاضِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ غَرَضٌ فِي تَعْرِيفِ غَيْرِهِ شَيْئًا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَقَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ تَعْرِيفَ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى الْإِجْمَالِ، بِحَيْثُ يَكُونُ ذِكْرُ التَّفْصِيلِ سَبَبًا لِلْمَفْسَدَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قال لمن سأله عن الهجرة عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ هو؟ فقال: "هو رجل يهدني السَّبِيلَ"1.
وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ وَاثِقًا بِصِحَّةِ الشَّيْءِ عَلَى التَّعْيِينِ، إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ وَاثِقًا بِصِحَّةِ وُجُودِ أَحَدِهِمَا لَا مَحَالَةَ، فَحِينَئِذٍ يُطْلِقُ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لِئَلَّا يَكْذِبَ، وَلَا يُكذَّب، ولا يظهر جهله
__________
1 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة "2/ 490" وذكره الكاندهلوي في "حياة الصحابة" بلفظ: "فإذا لقيه لاقٍ فيقول لأبي بكر: من هذا معك؟ فيقول: هادٍ يهديني الطريق. يريد الهدى في الدين ويحسب الآخر دليلًا" "1/ 338".(1/58)
بِذَلِكَ فَإِنَّ أَيَّ مَعْنًى لَا يَصِحُّ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ كَانَ مُرَادِي الثَّانِي، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إِلَّا مُكَابِرٌ كَالْقُرْءِ فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ وَهُوَ مَعْنَى الِاشْتِرَاكِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا بِمَنْعِ كون القرء حقيقة فيها لِجَوَازِ مَجَازِيَّةِ أَحَدِهِمَا وَخَفَاءِ مَوْضِعِ الْحَقِيقَةِ وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَجَازَ إِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الْقَرِينَةِ الْتَحَقَ بِالْحَقِيقَةِ وَحَصَلَ الِاشْتِرَاكُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِلَّا فَلَا تَسَاوِي، وَمِثْلُ الْقُرْءِ الْعَيْنُ فَإِنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ مَعَانِيهَا الْمَعْرُوفَةِ وَكَذَا الْجَوْنُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ وَكَذَا عَسْعَسَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَكَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِالِاسْتِقْرَاءِ فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْكِتَابِ فَقَطْ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ فِيهِمَا لا في اللغة.(1/59)
المسألة الرابعة: الخلاف في استعمال المشترك في أكثر من معنى
اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ1، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ2، وَالْقَاضِي جَعْفَرٌ3، وَالشَّيْخُ "الْحَسَنُ"*4، وَبِهِ قال الجمهور، وكثير من أئمة أهل
__________
* في "أ": الشيخ حسن.
__________
1 هو محمد بن إدريس، أبو عبد الله، صاحب المذهب المعروف، ولد سنة خمسين ومائة هجرية، وتوفي سنة أربع ومائتين هـ، من آثاره كتاب "الأم". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 5"، تذكرة الحفاظ "1/ 361".
2 هو أبو الحسن، الهمداني، الأسداباذي، المعتزلي، القاضي عبد الجبار، صاحب التصانيف، وكان شافعي المذهب، توفي سنة خمس عشرة وأربعمائة هـ، من آثاره: "المغني في أبواب التوحيد والعدل" و"دلائل النبوة". ا. هـ. شذرات الذهب "3/ 203"، هدية العارفين "1/ 498"، إيضاح المكنون "1/ 329"، سير أعلام النبلاء "17/ 244".
3 هو جعفر بن علي بن تاج الدين الظفيري، فقيه، زيدي، نشأ بوطنه حصن الظفير، تولى القضاء، توفي بالظفر سنة تسع ومائة وألف هـ، ومن آثاره: "هداية الأكياس إلى عرفان أسرار لب الأساس" مجلد واحد ضخم. ا. هـ. معجم المؤلفين "3/ 141"، الأعلام "2/ 126".
4 هو الحسن بن إسماعيل بن الحسين بن محمد المغربي، الصنعاني حفيد شارح بلوغ المرام، وأحد شيوخ الشوكاني، المتوفى سنة ثمان ومائتين وألف. ا. هـ. البدر الطالع "1/ 196".(1/59)
الْبَيْتِ إِلَى جَوَازِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ، "وَأَبُو الحسن"*1 الْبَصْرِيُّ، وَالْكَرْخِيُّ2، إِلَى امْتِنَاعِهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْقَصْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْوَضْعِ.
وَالْكَلَامُ يَنْبَنِي عَلَى بَحْثٍ هُوَ: هَلْ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّفْظِ لِمَعْنَيَيْنِ، أَوْ معانٍ عَلَى الْبَدَلِ، أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لَهُمَا أَوْ لَهَا عَلَى الْجَمْعِ، أَمْ لَا؟
فَقَالَ الْمَانِعُونَ: إِنَّ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْمَجْمُوعِ، وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ تَخْصِيصُ لَفَظٍ بِمَعْنًى، فَكُلُّ وَضْعٍ يُوجِبُ أَنْ لَا يُرَادَ بِاللَّفْظِ إِلَّا هَذَا "الْمَوْضُوعَ"** لَهُ، وَيُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى تَمَامَ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ، فَاعْتِبَارُ كُلٍّ مِنَ الْوَضْعَيْنِ يُنَافِي اعْتِبَارَ الْآخَرِ، فَاسْتِعْمَالُهُ لِلْمَجْمُوعِ اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ وُضِعَ لِلْمَجْمُوعِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ لِإِفَادَةِ الْمَجْمُوعِ وَحْدَهُ، مَعَ إِفَادَةِ أَفْرَادِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مُفِيدًا إِلَّا لِأَحَدِ مَفْهُومَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاضِعَ وَضَعَهُ بِإِزَاءِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَأَحَدُهَا ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ، فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِ وَحْدَهُ لَا يَكُونُ اسْتِعْمَالًا لَهُ فِي كُلِّ مَفْهُومَاتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِفَادَةِ الْمَجْمُوعِ وَالْأَفْرَادِ عَلَى الْبَدَلِ، فَهُوَ مُحَالٌ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبي} 3 كلا المعنيين، وهذا هو الجمع بين معنى المشترك.
__________
* في "أ": أبو الحسن وهو تحريف.
** في "أ": الموضع والصواب الموضوع.
__________
1 هو محمد بن علي بن الطيب، أبو الحسن البصري، شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف الكلامية، كان فصيحًا بليغًا، يتوقد ذكاء، توفي ببغداد في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وأربعمائة هجرية، من آثاره: كتاب "تصفح الأدلة" "المعتمد". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 587"، هدية العارفين "2/ 96".
2 هو عبيد الله بن الحسين، انتهت إليه رياسة الحنفية بالعراق ولد سنة ستين ومائتين، وتوفي سنة أربعين وثلاثمائة هجرية، من آثاره: "شرح الجامع الكبير" "المختصر" "شرح الجامع الصغير". ا. هـ. الفوائد جزء من الآية "56" من سورة الاحزاب.(1/60)
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا اسْتِعْمَالُ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ لِإِيجَابِ اقْتِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَا بُدَّ مِنِ اتِّحَادِ مَعْنَى الصَّلَاةِ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ النَّبِيَّ، وَالْمَلَائِكَةَ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْعُوا لَهُ، لَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اتِّحَادِ مَعْنَى الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْنًى حَقِيقِيًّا، أَوْ مَعْنًى مَجَازِيًّا، أَمَّا الْحَقِيقِيُّ: فَهُوَ الدُّعَاءُ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَدْعُو ذَاتَهُ بِإِيصَالِ الخير إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ مِنْ لَوَازِمِ هَذَا الدُّعَاءِ الرَّحْمَةُ، فَالَّذِي قَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، قَدْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى، لَا أَنَّ الصَّلَاةَ وُضِعَتْ لِلرَّحْمَةِ.
وَأَمَّا الْمَجَازِيُّ: فَكَإِرَادَةِ الْخَيْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَقَامِ، ثُمَّ إِنِ اخْتَلَفَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَوْصُوفِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الِاشْتِرَاكِ، بِحَسَبِ الْوَضْعِ.
وَاحْتَجُّوا -أَيْضًا- بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ1، فَإِنَّهُ نَسَبَ السُّجُودَ إِلَى الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، كَالشَّجَرِ، وَالدَّوَابِّ، فَمَا نُسِبَ إِلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ يُرَادُ بِهِ الِانْقِيَادُ، لَا وَضْعَ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا نُسِبَ إِلَى الْعُقَلَاءِ يُرَادُ بِهِ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الِانْقِيَادَ لَمَا قَالَ {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاس} 2؛ لَأَنَّ الِانْقِيَادَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّجُودِ الِانْقِيَادُ فِي الْجَمِيعِ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ الِانْقِيَادَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الناس باطل؛ لأن الكفار لم يَنْقَادُوا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّجُودِ وَضَعُ الرَّأْسِ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْجَمِيعِ، فَلَا يَحْكُمُ بِاسْتِحَالَتِهِ مِنَ الْجَمَادَاتِ، إِلَّا مَنْ يَحْكُمُ بِاسْتِحَالَةِ التَّسْبِيحِ مِنَ الْجَمَادَاتِ، وَبِاسْتِحَالَةِ الشَّهَادَةِ مِنَ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
إِذَا عَرَفَتْ هَذَا لَاحَ لَكَ عدم جواز الجمع بين معنى الْمُشْتَرَكِ، أَوْ مَعَانِيهِ، وَلَمْ يَأْتِ مَنْ جَوْزَهُ بِحُجَّةٍ مَقْبُولَةٍ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ مَجَازًا، لَا حَقِيقَةً، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ,
وَقِيلَ: يَجُوزُ إِرَادَةُ الْجَمْعِ لَكِنْ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ، لَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، وَقَدْ نُسِبَ هَذَا إِلَى الْغَزَالِيِّ وَالرَّازِيِّ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي النَّفْيِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ، فَيُقَالُ مَثَلًا: ما رأيت عينًا، ومراده العين
__________
1 جزء من الآية "18" من سورة الحج.
2 جزء من الآية "18" من سورة الحج.(1/61)
الْجَارِحَةُ، وَعَيْنُ الذَّهَبِ، وَعَيْنُ الشَّمْسِ، وَعَيْنُ الْمَاءِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: عِنْدِي عَيْنٌ، وَتُرَادُ هذه المعاني بهذه اللَّفْظِ.
وَقِيلَ: بِإِرَادَةِ الْجَمِيعِ فِي الْجَمْعِ، فَيُقَالُ مَثَلًا: عِنْدِي عُيُونٌ، وَيُرَادُ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَكَذَا الْمُثَنَّى، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْجَمْعِ، فَيُقَالُ مَثَلًا: عِنْدِي جَوْنَانِ، وَيُرَادُ أَبْيَضُ وَأَسْوَدُ، وَلَا يَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ، أَوِ الْمَعَانِي بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ، وَهَذَا الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَعَانِي الَّتِي يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، وَفِي الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، لا في المعاني المتناقضة.(1/62)
المسألة الخامسة: في الحقيقة والمجاز وفيها عشر أَبْحَاثٍ
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ لَفْظَيِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ
...
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَفِيهَا عَشَرَةُ أَبْحَاثٍ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ لَفْظَيِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ:
أَمَّا الْحَقِيقَةُ: فَهِيَ فَعِيلَةٌ مِنْ حَقَّ الشَّيْءُ، بِمَعْنَى ثَبَتَ، وَالتَّاءُ لِنَقْلِ اللَّفْظِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ الصِّرْفَةِ.
وَفَعِيلٌ فِي الْأَصْلِ: قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ الثَّابِتَةَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مَعْنَاهَا الْمُثْبَتَةَ.
وَأَمَّا الْمَجَازُ: فَهُوَ مَفْعَلٌ، مِنَ الْجَوَازِ الَّذِي هُوَ التَّعَدِّي، كَمَا يُقَالُ: جُزْتُ "مَوْضِعَ كَذَا"* أَيْ: جَاوَزْتُهُ وَتَعَدَّيْتُهُ، أَوْ مِنَ الْجَوَازِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ الْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَلَا مُمْتَنِعًا، يَكُونُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، فَكَأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ هَذَا إِلَى هَذَا، "وَمِنْ هَذَا إلى هذا"**.
__________
* في "أ": هذا الموضع.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/62)
الْبَحْثُ الثَّانِي فِي حَدِّهِمَا:
فَقِيلَ فِي حَدِّ الْحَقِيقَةِ: إِنَّهَا اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ.
فيشمل هَذَا الْوَضْعَ اللُّغَوِيَّ، وَالشَّرْعِيَّ، وَالْعُرْفِيَّ، وَالِاصْطِلَاحِيَّ.
وَزَادَ جماعة في هذا الجد قَيْدًا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: فِي اصْطِلَاحِ التَّخَاطُبِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّخَاطُبُ(1/62)
بِاصْطِلَاحٍ، وَاسْتُعْمِلَ فِيهِ مَا وُضِعَ لَهُ فِي اصْطِلَاحٍ آخَرَ، لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وُضِعَ لَهُ فِي اصْطِلَاحِ التَّخَاطُبِ، كَانَ مَجَازًا مَعَ أَنَّهُ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ.
وَزَادَ آخَرُونَ فِي هَذَا الْحَدِّ قَيْدًا، فَقَالُوا: هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا لِإِخْرَاجِ مِثْلِ مَا ذُكِرَ.
وَقِيلَ فِي حَدِّ الْحَقِيقَةِ: إِنَّهَا مَا أُفِيدَ بِهَا مَا وُضِعَتْ لَهُ فِي أَصْلِ الِاصْطِلَاحِ الَّذِي وَقَعَ التَّخَاطُبُ بِهِ.
وَقِيلَ فِي حَدِّهَا: إِنَّهَا كُلُّ كَلِمَةٍ أُرِيدَ بِهَا عَيْنُ مَا وُضِعَتْ لَهُ فِي وَضْعِ وَاضِعٍ، وَضْعًا لَا يَسْتَنِدُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْمَجَازُ: فَهُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لِعَلَاقَةٍ مَعَ قَرِينَةٍ.
وَقِيلَ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ.
وَزِيَادَةُ قَيْدِ: عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ لِإِخْرَاجِ مِثْلِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَرْضِ فِي السَّمَاءِ.
وَقِيلَ فِي حَدِّهِ -أَيْضًا-: إِنَّهُ مَا كَانَ بِضِدِّ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ.(1/63)
البحث الثالث: الحقائق اللغوية والعرفية والشرعية والخلاف في ثبوتها وثمرة ذلك:
قَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ اللَّفْظُ الَّذِي اسْتُفِيدَ مِنَ "الشَّرْعِ"* وَضْعُهُ لِلْمَعْنَى، سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى مَجْهُولَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَوْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوا ذَلِكَ الِاسْمَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْهُولًا وَالْآخَرُ مَعْلُومًا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ الْخِلَافُ وَالْأَدِلَّةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ بِوَضْعِ الشَّارِعِ، لَا بِوَضْعِ أَهْلِ الشَّرْعِ كَمَا ظُنَّ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِثْبَاتِهَا، وَذَلِكَ كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ وَالْمُصَلِّي وَالْمُزَكِّي وَالصَّائِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَحَلُّ النِّزَاعِ الْأَلْفَاظُ الْمُتَدَاوَلَةُ شَرْعًا، الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي غير "معانيها اللغوية"**.
__________
* في "أ": الشارع.
** في "أ": ما وضع له في اللغة.(1/63)
فَالْجُمْهُورُ جَعَلُوهَا حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً بِوَضْعِ الشَّارِعِ لَهَا.
وَأَثْبَتَ الْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا مَعَ الشَّرْعِيَّةِ حَقَائِقَ دِينِيَّةً، فَقَالُوا إِنَّ مَا اسْتَعْمَلَهُ الشَّارِعُ فِي مَعَانٍ غَيْرِ لُغَوِيَّةٍ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْأَسْمَاءُ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْأَسْمَاءُ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى الْفَاعِلِينَ كَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَجَعَلُوا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً وَالْقِسْمَ الثَّانِيَ: حَقِيقَةً دِينِيَّةً، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ عَلَى السَّوَاءِ فِي أَنَّهُ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَرَجَّحَهُ الرَّازِيُّ إِنَّهَا مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ غَلَبَتْ فِي الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الشَّرْعِ.
وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ: أَنَّهَا إِذَا وَرَدَتْ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُجَرَّدَةً عَنِ الْقَرِينَةِ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ أَوْ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ؟
فَالْجُمْهُورُ قَالُوا بِالْأَوَّلِ وَالْبَاقِلَّانِيُّ وَمَنْ مَعَهُ قَالُوا بِالثَّانِي.
قَالُوا أَمَّا فِي كَلَامِ الْمُتَشَرِّعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الشَّرْعِيِّ اتِّفَاقًا لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ حَقَائِقَ عُرْفِيَّةً بَيْنَهُمْ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ بِوَضْعِ الشَّارِعِ وَتَعْيِينِهِ إِيَّاهَا بِحَيْثُ تَدُلُّ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي بِلَا قَرِينَةٍ فَتَكُونُ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً أَوْ بِغَلَبَتِهَا فِي لِسَانِ أَهْلِ الشَّرْعِ فَقَطْ وَلَمْ يَضَعْهَا الشَّارِعُ بَلِ اسْتَعْمَلَهَا مَجَازَاتٍ لُغَوِيَّةً لِقَرَائِنَ فَتَكُونُ حَقَائِقَ عُرْفِيَّةً خَاصَّةً لَا شَرْعِيَّةً.
احْتَجَّ الجمهور بما هو معلوم شرعًا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي لِسَانِ الشَّارِعِ وَأَهْلِ الشَّرْعِ لِذَاتِ الْأَذْكَارِ وَالْأَرْكَانِ وَالزَّكَاةَ لِأَدَاءِ مَالٍ مَخْصُوصٍ وَالصِّيَامَ لِإِمْسَاكٍ مَخْصُوصٍ وَالْحَجَّ لِقَصْدٍ مَخْصُوصٍ وَأَنَّ هَذِهِ الْمَدْلُولَاتِ هِيَ الْمُتَبَادِرَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْحَقِيقَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ لِلدُّعَاءِ وَالزَّكَاةُ لِلْنَمَاءِ وَالصِّيَامُ لِلْإِمْسَاكِ مُطْلَقًا وَالْحَجُّ لِلْقَصْدِ مُطْلَقًا
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ وَالزِّيَادَاتُ شُرُوطٌ وَالشَّرْطُ خَارِجٌ عَنِ الْمَشْرُوطِ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ مُصَلِّيًا مَنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيًا كَالْأَخْرَسِ.
وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سَبْقِ الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ثُبُوتُ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ لِجَوَازِ صَيْرُورَتِهَا بِالْغَلَبَةِ حَقَائِقَ عُرْفِيَّةً خَاصَّةً لِأَهْلِ الشَّرْعِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً بوضع الشارع(1/64)
وُرُدَّ بِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِكَوْنِ اللَّفْظِ مَجَازًا أَنَّ الشَّارِعَ اسْتَعْمَلَهُ فِي مَعْنَاهُ لِمُنَاسَبَةٍ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ ثُمَّ اشْتُهِرَ فَأَفَادَ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ فَذَلِكَ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَثَبَتَ الْمُدَّعِي وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اسْتَعْمَلُوهُ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي وَتَبِعَهُمُ الشَّارِعُ فِي ذَلِكَ فَخِلَافُ الظَّاهِرِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهَا مَعَانٍ حَادِثَةٌ مَا كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ يَعْرِفُونَهَا.
وَاحْتَجَّ الْقَاضِي وَمَنْ مَعَهُ بِأَنَّ إِفَادَةَ هذه ألفاظ لِهَذِهِ الْمَعَانِي لَوْ لَمْ تَكُنْ لُغَوِيَّةً لَمَا كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ عَرَبِيًّا وَفَسَادُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ، أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ إِفَادَتُهَا لِهَذِهِ الْمَعَانِي عَرَبِيَّةً لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْقُرْآنُ عَرَبِيًّا.
وَأَمَّا فَسَادُ اللَّازِمِ فَلِقَوْلِهِ سبحانه: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 1 وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِه} 2.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إِفَادَةَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَرَبِيَّةً لَكِنَّهَا فِي الْجُمْلَةِ أَلْفَاظٌ عَرَبِيَّةٌ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانُوا يَعْنُونَ بِهَا غَيْرَ هَذِهِ الْمَعَانِي وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَرَبِيَّةً فَالْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ.
وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ جَعَلَهَا الشَّارِعُ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً لِأَنَّ المجازات عربية وإن لم "تصرح"* الْعَرَبُ بِآحَادِهَا فَقَدْ جَوَّزُوا نَوْعَهَا وَذَلِكَ يَكْفِي فِي نِسْبَةِ الْمَجَازَاتِ بِأَسْرِهَا إِلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَإِلَّا لَزِمَ "أَنَّهَا"** كُلَّهَا لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ.
وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَجَازَاتِ الْعَرَبِيَّةَ الَّتِي صَارَتْ حَقَائِقَ بِوَضْعِ الشَّارِعِ لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ غَيْرَ عَرَبِيٍّ بِدُخُولِهَا فِيهِ لِأَنَّهَا قَلِيلَةٌ جِدًّا وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَغْلَبِ فَإِنَّ الثَّوْرَ الْأَسْوَدَ لَا يَمْنَعُ إِطْلَاقَ اسْمِ الْأَسْوَدِ عَلَيْهِ بِوُجُودِ شَعَرَاتٍ بِيضٍ فِي جِلْدِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى مَجْمُوعِهِ وَعَلَى كُلٍّ بَعْضٌ مِنْهُ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ كُلَّهُ عَرَبِيُّ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 3 وَالْمُرَادُ مِنْهُ تِلْكَ السُّورَةُ.
وَأَيْضًا: الْحُرُوفُ الْمَذْكُورَةُ في أوائل السور ليست بعربية و"المشكاة"4 لغة حبشية
__________
* في "أ": تصرح.
** في "أ": كونها.
__________
1 جزء من الآية "28" من سورة الزمر.
2 جزء من الآية "4" من سورة إبراهيم عليه السلام.
3 جزء من الآية "2" من سورة يوسف عليه السلام.
4 قال الفراء: المشكاة: الكوة التي ليست بنافذة. ا. هـ. الصحاح مادة شكو وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في سورة النور الآية "35".
وقال في اللسان: إنها من كلام العرب، وقيل: إنها حبشية. ا. هـ. اللسان مادة شكا.(1/65)
والإستبرق"1 و"السجيل"2 فارسيان و"القسطاس"3 مِنْ لُغَةِ الرُّومِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا تَقَرَّرَ لَكَ ثُبُوتُ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلِمَتْ أَنَّ نَافِيَهَا لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِيمَا سَمَّتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ حَقِيقَةً دِينِيَّةً فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا4 فلا حاجة إلى تطويل البحث فيه.
__________
1 قال الزجاج، هو الديباج الصفيق الغليظ الحسن، وهو اسم أعجمي أصله بالفارسية استقره، ونقل من العجمية، إلى العربية. ا. هـ. لسان العرب والمعجم الوسيط مادة استبرق وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في سورة الكهف الآية:31".
2 حجارة كالمدر، وفي التنزيل العزيز {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} وقيل: هو حجر من طين، معرب دخيل، وهو: سنك وكل أي حجارة وطين. ا. هـ. لسان العرب مادة سجل وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في سورة الفيل الآية "4".
3 القِسطاس والقُسطاس: أعدل الموازين وأقومها. ا. هـ. لسان العرب والصحاح مادة قسطس وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في سورة الإسراء الآية "35".
4 انظر صفحة: "63".(1/66)
البحث الرابع: المجاز في لغة العرب
...
البحث الرابع: الْمَجَازُ وَاقِعٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِي وَخِلَافُهُ هَذَا يَدُلُّ أَبْلَغَ دَلَالَةٍ عَلَى عَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَيُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتٍ بِأَنَّ سَبَبَ هَذَا الْخِلَافِ تَفْرِيطُهُ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا يَنْبَغِي الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقَائِقِ وَالْمَجَازَاتِ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِهَا.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِمَا هُوَ أَوْهَنُ مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالَ: "إِنَّهُ"* لَوْ كَانَ الْمَجَازُ وَاقِعًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَزِمَ الْإِخْلَالُ بِالتَّفَاهُمِ إِذْ قَدْ تَخْفَى الْقَرِينَةُ.
وَهَذَا التَّعْلِيلُ عَلِيلٌ فَإِنَّ تَجْوِيزَ خَفَاءِ الْقَرِينَةِ أخفى من السُّها1.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 كوكب خفي في بنات نعش الكبرى، والناس يمتحنون به أبصارهم، وفي المثل: أريها السها تريني القمر. ا. هـ. الصحاح مادة سها.(1/66)
وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ لِهَذَا الْقَائِلِ بِأَنَّ اللَّفْظَ لَوْ أَفَادَ الْمَعْنَى عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، فَإِمَّا أَنْ يُفِيدَ مَعَ الْقَرِينَةِ أَوْ بِدُونِهَا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَعَ الْقَرِينَةِ الْمَخْصُوصَةِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَكُونُ هُوَ مَعَ تِلْكَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَوْ أَفَادَ مَعْنَاهُ الْمَجَازِيَّ بِدُونِ قَرِينَةٍ. لَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْحَقِيقَةِ إِلَّا كَوْنُهَا مُسْتَقِلَّةً بِالْإِفَادَةِ بِدُونِ قَرِينَةٍ.
وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا نِزَاعٌ فِي الْعِبَارَةِ.
وَلَنَا أَنْ نَقُولَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُفِيدُ إِلَّا مَعَ الْقَرِينَةِ هُوَ الْمَجَازُ، وَلَا يُقَالُ لِلَفْظَةِ مَعَ القرينة حقيقة فيها لِأَنَّ دَلَالَةَ الْقَرِينَةِ لَيْسَتْ دَلَالَةً وَضْعِيَّةً حَتَّى يُجْعَلَ الْمَجْمُوعُ لَفْظًا وَاحِدًا دَالًا عَلَى الْمُسَمَّى.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فَهَذَا "الْقَوْلُ"* لَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِدَفْعِهِ وَلَا التَّطْوِيلُ فِي رَدِّهِ فَإِنَّ وُقُوعَ الْمَجَازِ وَكَثْرَتَهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَشْهَرُ مِنْ نَارٍ عَلَى عَلَمٍ وَأَوْضَحُ مِنْ شَمْسِ النَّهَارِ.
قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ1: أَكْثَرُ اللُّغَةِ مَجَازٌ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَبَا عَلِيِّ الْفَارِسِيَّ2 قَائِلٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي قَالَهَا الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَمَا أَظُنُّ مِثْلَ أَبِي عَلِيِّ يَقُولُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إِمَامُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ مِثْلُ هَذَا الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ.
وَكَمَا أَنَّ الْمَجَازَ وَاقِعٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ وُقُوعًا كَثِيرًا بِحَيْثُ لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الظَّاهِرِيَّةِ3: نَفْيُهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَمَا هَذَا بِأَوَّلِ مَسَائِلِهِمُ الَّتِي جَمَدُوا فِيهَا جُمُودًا يَأْبَاهُ الْإِنْصَافُ وَيُنْكِرُهُ الْفَهْمُ وَيَجْحَدُهُ الْعَقْلُ.
وَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ بِهِ لَهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَجَازَ كَذِبٌ لِأَنَّهُ يَنْفِي فَيَصْدُقُ نَفْيُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الصَّادِقَ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُنَافِي صِدْقَ إِثْبَاتِ الْمَجَازِ وَلَيْسَ فِي الْمَقَامِ مِنَ الْخِلَافِ مَا يَقْتَضِي ذِكْرَ بَعْضِ الْمَجَازَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَمْرُ أَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَمَا أَنَّ الْمَجَازَ وَاقِعٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وُقُوعًا كَثِيرًا فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ فِي السُّنَّةِ وُقُوعًا كَثِيرًا وَالْإِنْكَارُ لِهَذَا الْوُقُوعِ مباهتة لا يستحق المجاوبة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عثمان بن جني، أبو الفتح، من أئمة الأدب والنحو، صرفي لغوي، توفي ببغداد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة هجرية، عن نحو خمس وستين عامًا، من آثاره: "سر الصناعة" "شرح ديوان المتنبي". ا. هـ. شذرات الذهب "3/ 140"، الأعلام "4/ 204".
2 هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، الفارسي، الفسوي، أبو علي، إمام النحو، ولد سنة ثمان وثمانين ومائتين هـ، وتوفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة هجرية، من آثاره: "أبيات الإعراب" "أبيان المعاني". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 379"، هدية العارفين "1/ 272".
3 وهي فرقة تنسب إلى مؤسسها داود بن على الظاهري الأصفهاني شيخ أهل الظاهر، وستأتي ترجمته في الصفحة "135"، ويقال لها الداوودية، وهم يأخذون بالظاهر ويرفضون التأويل والرأي. ا. هـ. مفاتيح العلوم "46". وسير أعلام النبلاء "13/ 97".(1/67)
البحث الخامس: علاقات الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ
إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْعَلَاقَةِ فِي كُلِّ مَجَازٍ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ.
وَالْعَلَاقَةُ هِيَ اتِّصَالٌ لِلْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ بِالْمَوْضُوعِ لَهُ وَذَلِكَ الِاتِّصَالُ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ كَمَا فِي الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَمَا فِي الِاسْتِعَارَةِ وَعَلَاقَتُهَا الْمُشَابَهَةُ وَهِيَ الِاشْتِرَاكُ فِي مَعْنًى مُطْلَقًا لَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةَ الثُّبُوتِ لِمَحَلِّهِ وَالِانْتِفَاءِ عَنْ غَيْرِهِ كَالْأَسَدِ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ لَا الْأَبْخَرِ1.
وَالْمُرَادُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْكَيْفِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْعَلَاقَةِ الْمُشَاكَلَةُ الْكَلَامِيَّةِ كَإِطْلَاقِ الْإِنْسَانِ عَلَى الصُّورَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا أَيْضًا الْمُطَابِقَةُ2 وَالْمُنَاسَبَةُ3 وَالتَّضَادُّ الْمُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّنَاسُبِ لِتَهَكُّمٍ نحو: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} 4 فَهَذَا الِاتِّصَالُ الْمَعْنَوِيُّ.
وَأَمَّا الِاتِّصَالُ الصُّورِيُّ فَهُوَ إِمَّا فِي اللَّفْظِ وَذَلِكَ فِي الْمَجَازِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَفِي الْمُشَاكَلَةِ الْبَدِيعِيَّةِ وَهِيَ الصُّحْبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَوِ التَّقْدِيرِيَّةُ.
وَقَدْ تَكُونُ الْعَلَاقَةُ بِاعْتِبَارِ مَا مَضَى وَهُوَ الْكَوْنُ عَلَيْهِ كَالْيَتِيمِ لِلْبَالِغِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْأَوَّلُ إِلَيْهِ كَالْخَمْرِ لِلْعَصِيرِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ كَالرُّكُوعِ "فِي الصَّلَاةِ"*، وَالْيَدِ فِيمَا وَرَاءَ الرُّسْغِ، وَالْحَالِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ، كَالْيَدِ فِي الْقُدْرَةِ، وَالسَّبَبِيَّةِ وَالْمُسَبِّبِيَّةِ، وَالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَاللُّزُومِ، وَالْمُجَاوَرَةِ، وَالظَّرْفِيَّةِ، وَالْمَظْرُوفِيَّةِ، وَالْبَدَلِيَّةِ، وَالشَّرْطِيَّةِ، وَالْمَشْرُوطِيَّةِ وَالضِّدِّيَّةِ5.
__________
* في "أ": للصلاة.
__________
1 البخر: نتن الفم، وقد بخر فهو أبخر. ا. هـ. لسان العرب والصحاح مادة بخر.
2 وتسمى بالتضاد وبالتطبيق وبالتكافؤ وبالتطابق، وهو أن يجمع المتكلم في كلامه بين لفظين يتنافى وجود معناهما معا في شيء واحد في وقت واحد. ا. هـ. جواهر البلاغة "366".
3 هي العلاقة الموجودة بين الحقيقة والمجاز.
4 جزء من الآية "34" من سورة التوبة و"24" الانشقاق.
5 السببية والمسببية: مثل "رعينا الغيث" أي: النبات الذي سببه الغيث. =(1/68)
وَمِنَ الْعَلَاقَاتِ: إِطْلَاقُ الْمَصْدَرِ عَلَى الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ كَالْعِلْمِ فِي الْعَالِمِ أَوِ الْمَعْلُومِ.
وَمِنْهَا: تَسْمِيَةُ إِمْكَانِ الشَّيْءِ بِاسْمِ وُجُودِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلْخَمْرِ الَّتِي فِي الدَّنِّ: إِنَّهَا مُسْكِرَةٌ.
وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ اللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ بَعْدَ زَوَالِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ.
وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ: الْقَابِلَ، وَالصُّورَةَ، وَالْفَاعِلَ، وَالْغَايَةَ، أَيْ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ قَابِلِهِ نَحْوَ سَالَ الْوَادِي، وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ صُورَتِهِ كَتَسْمِيَةِ القدرية بِالْيَدِ وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ فَاعِلِهِ حَقِيقَةً أَوْ ظَنًّا كَتَسْمِيَةِ الْمَطَرِ بِالسَّمَاءِ وَالنَّبَاتِ بِالْغَيْثِ وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ غَايَتِهِ كَتَسْمِيَةِ الْعِنَبِ بِالْخَمْرِ.
وَفِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذَا.
"وعند"* بَعْضُهُمْ مِنَ الْعَلَاقَاتِ الْحُلُولَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، كَالْحَيَاةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَكَالْمَوْتِ فِي ضِدِّهِمَا، والحلول في محلين متقاربين، كرضى الله في رضى رَسُولِهِ، وَالْحُلُولِ فِي حَيِّزَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، كَالْبَيْتِ فِي الْحَرَمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} 1.
وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ رَاجِعَةٌ إِلَى عَلَاقَةِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ كَمَا أَنَّ الْأَنْوَاعَ السَّابِقَةَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ عَلَاقَةِ السببية والمسببية فما ذكرناه ههنا مَجْمُوعُهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِينَ عَلَاقَةً.
وَعَدَّ بَعْضُهُمْ من العلاقات ما لا تعلق لها بالمقام كحذف المضاف نحو {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} 2 يَعْنِي أَهْلَهَا، وَحَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ نَحْوَ: أَنَا ابن جلا3.
__________
* في "أ": عند.
__________
= - الإطلاق والتقييد: نحو قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء} .
- اللزوم: نحو "نطقت الحال بكذا" أي: دلت.
- المجاورة: نحو "سال الوادي" أي: الماء المجاور له.
- الظرفية والمظروفية: نحو قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} والغائظ اسم للمطمئن من الأرض وسمي الحدث به مجازًا لأنه يكون في المطمئن من الأرض عادة.
- البدلية: مثل "فلان أكل الدم" أي: الدية.
- الشرطية: نحو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم.
- المشروطية: كإطلاق العلم على المعلوم.
- الضدية: نحو قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: أنذرهم.
ا. هـ. نسمات الأسحار "75"، التلويح على التوضيح "1/ 72".
1 جزء من الآية "97" من سورة آل عمران.
2 جزء من الآية "82" من سورة يوسف عليه السلام.
3 هذا جزء من صدر بيت وتمامه:
................. وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
وهو لسحيم بن وثيل الرياحي، ذكره في المعني برقم "263" وفي شرح شواهد المغني "برقم 289".(1/69)
أَيْ أَنَا ابْنُ رَجُلٍ جَلَا.
وَالنَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ إِذَا جُعِلَتْ لِلْعُمُومِ نَحْوَ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} 1 أَيْ: كُلُّ نَفْسٍ وَالْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْوَاحِدُ الْمُنَكَّرُ نَحْوَ {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَاب} 2 أَيْ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا وَالْحَذْفُ نَحْوَ {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} 3 أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا وَالزِّيَادَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} 4.
وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ مُعْتَبَرَةً لَكَانَتِ الْعَلَاقَاتُ نَحْوَ أَرْبَعِينَ عَلَاقَةً لَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ.
وَقَالَ آخَرُ لَا تَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ.
وَقَالَ آخَرُ لَا تَزِيدُ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَتَدَبَّرْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ النَّقْلُ فِي آحَادِ الْمَجَازِ، بَلِ الْعَلَاقَةُ كَافِيَةٌ، وَالْمُعْتَبَرُ نَوْعُهَا، وَلَوْ كَانَ نَقْلُ آحَادِ الْمَجَازِ مُعْتَبَرًا لَتَوَقَّفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي التَّجَوُّزِ عَلَى النَّقْلِ وَلَوَقَعَتْ مِنْهُمُ التَّخْطِئَةُ لِمَنِ اسْتَعْمَلَ غَيْرَ الْمَسْمُوعِ مِنَ الْمَجَازَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالِاسْتِقْرَاءِ.
وَلِذَلِكَ لَمْ يُدَوِّنُوا الْمَجَازَاتِ كَالْحَقَائِقِ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ نَقْلِيًّا لَاسْتَغْنَى عَنِ النَّظَرِ فِي الْعَلَاقَةِ لِكِفَايَةِ النَّقْلِ.
وَإِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ نَقْلِ آحَادِ الْمَجَازِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَلَمْ يَأْتِ مَنِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ تَصْلُحُ لِذِكْرِهَا وَتَسْتَدْعِي التَّعَرُّضَ لِدَفْعِهَا. وَكُلُّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ وَفَهْمٌ يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا زالوا يخترعون المجازات عند وجود العلاقة ونصب الْقَرِينَةِ وَهَكَذَا مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مَنْ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ فِي فَنَّيِ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ وَيَتَمَادَحُونَ بِاخْتِرَاعِ الشَّيْءِ الْغَرِيبِ مِنَ الْمَجَازَاتِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُصَحِّحِ لِلتَّجَوُّزِ وَلَمْ يُسْمَعْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خِلَافُ هذا.
__________
1 الآية "14" من سورة التكوير.
2 جزء من الآية "23" من سورة المائدة.
3 جزء من الآية "176" من سورة النساء.
4 جزء من الآية "11" من سورة الشورى.(1/70)
الْبَحْثُ السَّادِسُ: فِي قَرَائِنِ الْمَجَازِ
اعْلَمْ: أَنَّ الْقَرِينَةَ إِمَّا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْكَلَامِ، أَيْ: لَا تَكُونُ مَعْنًى فِي الْمُتَكَلِّمِ وَصِفَةً لَهُ، وَلَا تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ، أَوْ تَكُونُ مَعْنًى فِي الْمُتَكَلِّمِ أَوْ تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الكلام.(1/70)
وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ الَّتِي تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ إِمَّا لَفْظٌ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي يَكُونُ الْمَجَازُ فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ فِي كَلَامٍ آخَرَ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ أَوْ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ بَلْ هُوَ عَيْنُهُ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ يَكُونُ دَالًّا عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ.
ثُمَّ هَذَا الْقِسْمُ عَلَى نَوْعَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَفْرَادِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فِي دَلَالَةِ ذَلِكَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى الْمُكَاتَبِ مَعَ أَنَّهُ عَبَدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَيَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى بَعْضِ الْأَفْرَادِ "أَوْ لَا يَكُونُ أَوْلَى وَهُوَ ظَاهِرٌ"*.
أَمَّا الْقَرِينَةُ الَّتِي تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الْمُتَكَلِّمِ فَكَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم} الآية [64 من سورة الإسراء] فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْصِيَةِ.
وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الْخَارِجَةُ عَنِ الْكَلَامِ فَكَقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِن} فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} [الكهف: 29] يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلتَّخْيِيرِ.
"وَنَحْوُ"**: طَلِّقِ امْرَأَتِي إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ تَوْكِيلًا لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنَّ كُنْتَ رَجُلًا يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ فَانْحَصَرَتِ الْقَرِينَةُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ.
ثُمَّ الْقَرِينَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ قَدْ تَكُونُ عَقْلِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ حِسِّيَّةً وَقَدْ تَكُونُ عَادِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً فَلَا تَخْتَصُّ قَرَائِنُ الْمَجَازِ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الأنواع دون نوع.
__________
* ما بين قوسين ساقط "من "أ".
** في "أ": ونحو قوله.(1/71)
الْبَحْثُ السَّابِعُ: فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْمَجَازُ وَيَتَمَيَّزُ عِنْدَهَا عَنِ الْحَقِيقَةِ
اعْلَمْ: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بالنص أو الاستدلال:
أما "النص"* فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَقُولَ الْوَاضِعُ: هَذَا حَقِيقَةٌ وَذَاكَ مَجَازٌ.
الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ الْوَاضِعُ حَدَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَذَاكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَيَقُومُ مَقَامَ الْحَدِّ ذكر خاصة كل واحد منهما.
__________
* في "أ": بالنص.(1/71)
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَمِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ:
الْأَوَّلُ أَنْ يَسْبِقَ الْمَعْنَى إِلَى أَفْهَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ عِنْدَ سَمَاعِ اللَّفْظِ بِدُونِ قَرِينَةٍ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ فَإِنْ كَانَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَعْنَى الْمُرَادُ إِلَّا بِالْقَرِينَةِ فَهُوَ الْمَجَازُ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِالْمُشْتَرَكِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَبَادَرُ أَحَدُهُمَا أَوْ أَحَدُهَا لَوْلَا الْقَرِينَةُ الْمُعَيِّنَةُ لِلْمُرَادِ مَعَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهَا "تَتَبَادَرُ"* جَمِيعُهَا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ وَيَتَبَادَرُ أَحَدُهَا لَا بِعَيْنِهِ عِنْدَ مَنْ مَنَعَ مِنْ حَمْلِهُ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ.
وَرُدَّ بِأَنَّ عَلَامَةَ الْمَجَازِ تَصْدُقُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُشْتَرَكِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْمُعَيَّنِ إِذْ يَتَبَادَرُ غَيْرُهُ وَهُوَ عَلَامَةُ الْمَجَازِ مَعَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ.
وَدُفِعَ هَذَا الرَّدُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَوْ تَبَادَرَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ وَاللَّفْظُ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ.
وَأَمَّا إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ إِذِ اللَّفْظُ يَصْلُحُ لَهُمَا وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا يَعْلَمُهُ فَذَلِكَ كافٍ فِي كَوْنِ الْمُتَبَادَرِ غَيْرَ الْمَجَازِ فَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ لِلْمُعَيَّنِ مَجَازًا.
الثَّانِي: صِحَّةُ النَّفْيِ لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَعَدَمُ صِحَّتِهِ لِلْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ صِحَّةِ النَّفْيِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ حَقِيقَةً فَإِثْبَاتُ كَوْنِهِ حَقِيقَةً بِهِ دَوْرٌ ظَاهِرٌ وَكَذَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ النَّفْيِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ مِنَ الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ وَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مَجَازًا فَإِثْبَاتُ كَوْنِهِ مَجَازًا بِهِ دَوْرٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ سَلْبَ بَعْضِ الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ كافٍ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ وَإِلَّا لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ وَأَيْضًا إِذَا عُلِمَ مَعْنَى اللَّفْظِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا الْمُرَادُ أَمْكَنَ أَنْ يُعْلَمَ "بِصِحَّةِ"** نَفْيِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ وَبِعَدَمِ صِحَّتِهِ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ.
الثَّالِثُ: عَدَمُ اطِّرَادِ الْمَجَازِ وَهُوَ أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَحَلٍّ مَعَ وُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِعْمَالِ الْمُسَوِّغِ لِاسْتِعْمَالِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ كَالتَّجَوُّزِ بِالنَّخْلَةِ لِلْإِنْسَانِ الطَّوِيلِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ طُولٌ وَلَيْسَ الاطراد دليل الحقيقية فَإِنَّ الْمَجَازَ قَدْ يَطَّرِدُ كَالْأَسَدِ لِلشُّجَاعِ.
وَاعْتُرِضَ: بِأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ قَدْ يُوجَدُ فِي الْحَقِيقَةِ كالسخي، والفاضل، فإنهما لا يطلقان
__________
* في "أ": يتبادر.
** في "أ": بصحته.(1/72)
عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَعَ وُجُودِهِمَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فِيهِ، وَكَذَا الْقَارُورَةُ لَا تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الزُّجَاجَةِ، مِمَّا يُوجَدُ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ فِيهِ كَالدَّنِّ1. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْأَمَارَةَ عَدَمُ الِاطِّرَادِ لَا لِمَانِعٍ لُغَةً أَوْ شَرْعًا، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْأَمْثِلَةِ فَإِنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِ السَّخِيِّ، وَالْفَاضِلِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَاللُّغَةَ مَنَعَتْ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَارُورَةِ عَلَى غَيْرِ الزُّجَاجَةِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا غَيْرَ هَذِهِ الْوُجُوهِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ مِنَ الْعَلَامَاتِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنَّهَا إِذَا عُلِّقَتِ الْكَلِمَةُ بِمَا يَسْتَحِيلُ تَعْلِيقُهَا بِهِ عُلِمَ أَنَّهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لَهُ فَيُعْلَمُ أَنَّهَا مَجَازٌ فِيهِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَضَعُوا اللَّفْظَةَ لِمَعْنًى، ثُمَّ يَتْرُكُوا اسْتِعْمَالَهُ إِلَّا فِي بَعْضِ مَعَانِيهِ الْمَجَازِيَّةِ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ كَوْنَهُ مِنَ الْمَجَازِ الْعُرْفِيِّ مِثْلَ: اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الدَّابَّةِ فِي "الْحِمَارِ"*.
وَمِنْهَا: امْتِنَاعُ الِاشْتِقَاقِ، فإنه دليل على كون اللفظ مجازًا.
منها: أَنْ تَخْتَلِفَ صِيغَةُ الْجَمْعِ عَلَى الِاسْمِ، فَيُجْمَعُ عَلَى صِيغَةٍ مُخَالِفَةٍ لِصِيغَةِ جَمْعِهِ لِمُسَمًّى آخَرَ، هُوَ فِيهِ حَقِيقَةٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ إِذَا كَانَ مُتَعَلِقًا بِالْغَيْرِ، فَإِنَّهُ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ كَانَ مَجَازًا، وَذَلِكَ كَالْقُدْرَةِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الصِّفَةُ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْمَقْدُورِ وَإِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى النَّبَاتِ الْحَسَنِ لَمْ يَكُنْ لَهَا مُتَعَلِّقٌ فَيُعْلَمُ كَوْنُهَا مَجَازًا فِيهِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِ مُسَمَّيَيْهِ مُتَوَقِّفًا عَلَى تَعَلُّقِهِ بِالْآخَرِ نَحْوَ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} 2؛ ولا يقال: مكر الله ابتداء.
ومنها: لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُقَيْدًا وَلَا يُسْتَعْمَلُ لِلْمَعْنَى المطلق كنار الحرب، وجناح الذل.
__________
* في "أ": الحمال.
__________
1 إناء كهيئة الحب، "الجرة" إلا أنه أطول منه، وأوسع رأسًا، والجمع دنان، ا. هـ. المصباح المنير مادة دنن.
2 جزء من الآية "54" من سورة آل عمران.(1/73)
البحث الثامن: عدم اتصاف اللفظ قبل الاستعمال بالحقيقة والمجاز
فِي أَنَّ اللَّفْظَ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ لَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ حَقِيقَةً وَلَا بِكَوْنِهِ مَجَازًا لِخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِذِ الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَالْمَجَازُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ.
وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمَجَازَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَا وُضِعَ لَهُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ لِكُلِّ عَالِمٍ بِلُغَةِ الْعَرَبِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْمَجَازُ الْحَقِيقَةَ؛ أَمْ لَا؟ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَا وُضِعَ لَهُ أَصْلًا.
فَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ الْمَجَازَ يَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ لَخَلَا الْوَضْعُ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَكَانَ عَبَثًا وَهُوَ مُحَالٌ.
أَمَّا الْمُلَازَمَةُ: فَلِأَنَّ مَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً، وَفَائِدَةُ الْوَضْعِ: إِنَّمَا هِيَ إِعَادَةُ الْمَعَانِي الْمُرَكَّبَةِ، وَإِذَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ لَمْ يَقَعْ فِي التَّرْكِيبِ فَانْتَفَتْ فَائِدَتُهُ.
وَأَمَّا بُطْلَانُ اللازم فظاهر.
وأجيب بمنع انحصار "فائدة"* فِي إِفَادَةِ الْمَعَانِي الْمُرَكَّبَةِ، فَإِنَّ صِحَّةَ التَّجَوُّزِ فَائِدَةٌ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ: بِعَدَمِ الِاسْتِلْزَامِ -وَهُمُ الْجُمْهُورُ- بأنه لو استلزم المجاز الحقيقة لكانت لِنَحْوِ شَابَتْ لَمَّةُ اللَّيْلِ أَيِ: ابْيَضَّ الْغَسَقُ، وقامت الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ أَيِ اشْتَدَّتْ حَقِيقَةٌ وَاللَّازِمُ منتفٍ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِجَوَابَيْنِ، جَدَلِيٍّ وَتَحْقِيقِيٍّ:
أَمَّا الْجَدَلِيُّ فَبِأَنَّ الْإِلْزَامَ مُشْتَرَكٌ لِأَنَّ نَفْسَ الْوَضْعِ لَازِمٌ لِلْمَجَازِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمُرَكَّبَاتُ مَوْضُوعَةً لِمَعْنًى مُتَحَقِّقٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا التحقيقي: فباختيار أن لَا مَجَازَ فِي الْمُرَكَّبِ، بَلْ فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَلَهَا وَضْعٌ وَاسْتِعْمَالٌ، وَلَا مَجَازَ فِي التَّرْكِيبِ حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى. وَمَنِ اتَّبَعَ عَبَدَ الْقَاهِرِ1 فِي أَنَّ الْمَجَازَ مُفْرَدٌ ومركب ويسمى عقليًّا، وحقيقة عقلية،
__________
* في "أ": فائدة.
__________
1 هو عبد القاهر بن الرحمن الجرجاني، أبو بكر، شيخ العربية، توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة هـ، من تصانيفه: "أسرار البلاغة" "دلائل الإعجاز في المعاني والبيان". ا. هـ. هدية العارفين "1/ 606"، سير أعلام النبلاء "18/ 432".(1/74)
لِكَوْنِهِمَا فِي الْإِسْنَادِ، سَوَاءٌ كَانَ طَرَفَاهُ حَقِيقَتَيْنِ، نَحْوَ: سَرَّتْنِي رُؤْيَتُكَ أَوْ مَجَازَيْنِ نَحْوَ أَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِكَ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنِ اتَّبَعَهُ فِي عَدَمِ الِاسْتِلْزَامِ -أَيْضًا فَذَاكَ وَإِلَّا فَلَّهُ أَنْ يُجِيبَ: بِأَنَّ مَجَازَاتِ الْأَطْرَافِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فيه، ولها حقائق مجاز الْإِسْنَادِ لَيْسَ لَفْظًا، حَتَّى يُطْلَبَ لِعَيْنِهِ حَقِيقَةٌ ووضع بل له معنى حَقِيقَةٌ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَاجْتِمَاعُ الْمَجَازَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعَ حَقَائِقِهَا.
وَمَنْ قَالَ بِإِثْبَاتِ الْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ فِي الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ1، نَحْوَ طَارَتْ بِهِ الْعَنْقَاءُ2، وَأَرَاكَ تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى، فَلَا بد أن يقول بِعَدَمِ الِاسْتِلْزَامِ. وَمَنْ نَفَى الْمَجَازَ الْمُرَكَّبَ أَجَابَ عَنِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ بِأَنَّهُ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ3 وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عُرْفَ الْعَرَبِ أَنْ يَعْتَبِرُوا الْقَابِلَ فَاعِلًا، نَحْوَ مَاتَ فُلَانٌ، وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَمْ يَلْتَزِمُوا الْإِسْنَادَ إِلَى الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ كَمَا فِي أَنْبَتَ اللَّهُ، وَخَلَقَ اللَّهُ فَكَذَا سَرَّتْنِي رُؤْيَتُكَ؛ لِأَنَّهَا قَابِلَةٌ لِأَحْدَاثِ الْفَرَحِ وَنَحْوِهَا مِنَ الصُّوَرِ الْإِسْنَادِيَّةِ.
وَأَشَفُّ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الرحمن مجاز في الباري سبحانه؛ لأنه مَعْنَاهُ ذُو الرَّحْمَةِ، وَمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ -وَهُوَ رِقَّةُ الْقَلْبِ- لَا وُجُودَ لَهُ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْعَرَبَ قَدِ اسْتَعْمَلَتْهُ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، فَقَالُوا لِمُسَيْلَمَةَ4: هُوَ رَحْمَانُ الْيَمَامَةِ.
وَرُدَّ: بِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِهَذَا الْإِطْلَاقِ أَنَّ مُسَيْلَمَةَ رَقِيقُ الْقَلْبِ حَتَّى يَرِدَ النَّقْضُ بِهِ، وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِلنَّافِي أَنَّ أَفْعَالَ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ هِيَ أَفْعَالٌ مَاضِيَةٌ وَلَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي فَكَانَتْ مَجَازَاتٍ لَا حقائق لها.
__________
1 هو تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة معناه الوضعي. نحو: "إني أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى"، يضرب لمن يتردد في أمر، فتاوة يحجم، وتارة يقدم. ا. هـ. جواهر البلاغة "333".
2 أصل العنقاء: طائر عظيم، معروف الاسم، مجهول الجسم. ا. هـ. لسان العرب والصحاح مادة عنق.
3 هي الاستعارة التي تجري في اللفظ المشتق أو الفعل. ا. هـ. جواهر البلاغة "312".
4 هو مسيلمة الكذاب ابن ثمامة، الحنفي، الوائلي، متنبئ، من المعمرين، ولد ونشأ باليمامة، وتوفي سنة اثنتي عشرة هجرية، سنة فتح اليمامة على يدي سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه. ا. هـ. شذرات الذهب "1/ 23"، الكامل لابن الأثير "2/ 203"، الأعلام "7/ 226".(1/75)
الْبَحْثُ التَّاسِعُ: فِي اللَّفْظِ إِذَا دَارَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا أَوْ مُشْتَرَكًا
هَلْ يُرَجَّحُ المجاز على الاشترك أو الاشترك عَلَى الْمَجَازِ؟
فَرَجَّحَ قَوْمٌ الْأَوَّلَ، وَرَجَّحَ آخَرُونَ الثَّانِيَ.
اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ الْمَجَازَ أَكْثَرُ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، فَرُجِّحَ الْأَكْثَرُ عَلَى الْأَقَلِّ، قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: أَكْثَرُ اللُّغَةِ مَجَازٌ وَبِأَنَّ الْمَجَازَ مَعْمُولٌ بِهِ مُطْلَقًا، فَبِلَا قَرِينَةٍ حقيقة، وَمَعَهَا مَجَازٌ وَالْمُشْتَرَكُ بِلَا قَرِينَةٍ مُهْمَلٌ، وَالْإِعْمَالُ أَوْلَى مِنَ الْإِهْمَالِ، وَبِأَنَّ الْمَجَازَ أَبْلَغُ مِنَ الْحَقِيقَةِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَبِأَنَّهُ أَوْجَزُ كَمَا فِي الِاسْتِعَارَةِ فَهَذِهِ فَوَائِدُ لِلْمَجَازِ، وَقَدْ ذَكَرُوا غَيْرَهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْمَقَامِ، وَذَكَرُوا لِلْمُشْتَرَكِ مَفَاسِدَ مِنْهَا: إِخْلَالُهُ بِالْفَهْمِ عِنْدَ خَفَاءِ الْقَرِينَةِ عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ حَمْلَهُ عَلَى مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ، بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ عِنْدَ خَفَاءِ الْقَرِينَةِ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَمِنْهَا: تَأْدِيَتُهُ إِلَى مُسْتَبْعَدٍ مِنْ نَقِيضٍ أَوْ ضِدٍّ كَالْقُرْءِ إِذَا أُطْلِقَ مُرَادًا بِهِ الْحَيْضُ فَيُفْهَمُ مِنْهُ الطُّهْرُ أَوْ بِالْعَكْسِ.
وَمِنْهَا احْتِيَاجُهُ إِلَى قَرِينَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا "مُعَيِّنَةٌ"* لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَالْأُخْرَى "مُعَيِّنَةٌ"* لِلْمَعْنَى الْآخَرِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ تَكْفِي فِيهِ قَرِينَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ: بِأَنَّ لِلِاشْتِرَاكِ فَوَائِدَ لَا تُوجَدُ فِي الْمَجَازِ، وَفِي الْمَجَازِ مَفَاسِدُ لَا تُوجَدُ فِي الْمُشْتَرَكِ.
فَمِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْمُشْتَرَكَ مُطَّرِدٌ فَلَا يَضْطَرِبُ، بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَقَدْ لَا يَطَّرِدُ كَمَا تَقَدَّمَ1.
وَمِنْهَا: الِاشْتِقَاقُ مِنْهُ بِالْمَعْنَيَيْنِ، فَيَتَّسِعُ الْكَلَامُ نَحْوَ أَقَرَأَتِ الْمَرْأَةُ بِمَعْنَى حَاضَتْ وَطَهُرَتْ وَالْمَجَازُ لَا يُشْتَقُّ مِنْهُ، وَإِنْ صَلُحَ لَهُ حَالَ كَوْنِهِ حَقِيقَةً.
وَمِنْهَا: صِحَّةُ التَّجَوُّزِ بِاعْتِبَارِ "مَعْنَيَيِ"** الْمُشْتَرَكِ فَتَكْثُرُ بِذَلِكَ الْفَوَائِدُ.
وَأَمَّا مَفَاسِدُ الْمَجَازِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي الْمُشْتَرَكِ فَمِنْهَا: احْتِيَاجُهُ إِلَى الْوَضْعَيْنِ الشَّخْصِيِّ وَالنَّوْعِيِّ، وَالشَّخْصِيُّ باعتبار معناه الأصلي والفرعي للعلاقة.
__________
* في "أ": تعينه.
** في "أ": معنى.
__________
1 انظر صفحة: "74".(1/76)
وَالْمُشْتَرَكُ يَكْفِي فِيهِ الْوَضْعُ الشَّخْصِيُّ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى النَّوْعِيِّ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى الْعَلَاقَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَجَازَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، لَا الْمَجَازِيُّ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ظَاهِرًا فِي بَعْضِ، مَعَانِيهِ دُونَ بَعْضٍ، حَتَّى يَلْزَمَ بِإِرَادَةِ أَحَدِهَا مُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَجَازَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْغَلَطِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ، فإن معانيه كلها حقيقية.
وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذِهِ الْفَوَائِدِ وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَجَازِ أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ لِغَلَبَةِ الْمَجَازِ بِلَا خِلَافٍ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ دُونَ الْقَلِيلِ النَّادِرِ مُتَعَيِّنٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعَارُضَ الْحَاصِلَ بَيْنَ أَحْوَالِ الْأَلْفَاظِ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّعَارُضِ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِ وَالْمَجَازِ، فَإِنَّ الْخَلَلَ فِي فَهْمِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ يَكُونُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: احْتِمَالُ الِاشْتِرَاكِ.
وَثَانِيهَا: احْتِمَالُ النَّقْلِ بِالْعُرْفِ أَوِ الشَّرْعِ.
وَثَالِثُهَا: احْتِمَالُ الْمَجَازِ.
وَرَابِعُهَا: احْتِمَالُ الْإِضْمَارِ.
وَخَامِسُهَا: احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ.
وَوَجْهُ كَوْنِ هَذِهِ الْوُجُوهِ تُؤَثِّرُ خَلَلًا فِي فَهْمِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ: أَنَّهُ إِذَا انْتَفَى احْتِمَالُ الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ، كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِذَا انْتَفَى احْتِمَالُ الْمَجَازِ وَالْإِضْمَارِ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَإِذَا انْتَفَى احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ كَانَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ جَمِيعَ مَا وُضِعَ لَهُ، فَلَا يَبْقَى عِنْدَ ذَلِكَ خَلَلٌ فِي الْفَهْمِ.
وَالتَّعَارُضُ بَيْنَ هذه يقع في عَشَرَةِ وُجُوهٍ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ، ثُمَّ بَيْنَ النَّقْلِ وَبَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ، ثُمَّ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالْوَجْهَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ، ثُمَّ بَيْنَ الْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ.
فَإِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ، فَقِيلَ: إِنَّ النَّقْلَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ اللَّفْظُ عِنْدَ النَّقْلِ لِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ مُفْرَدَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَالْمُشْتَرَكُ مُشْتَرَكٌ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا.
وَقِيلَ: الِاشْتِرَاكُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي "نسخ"*وَضْعٍ سَابِقٍ، وَالنَّقْلُ يَقْتَضِيهِ.
وَأَيْضًا: لَمْ يُنْكِرْ وُقُوعَ الْمُشْتَرَكِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَحَدٌ مِنْ أهل العلم، وأنكر النقل كثير منهم.
__________
*في "أ": فسخ.(1/77)
وَأَيْضًا قَدْ لَا يُعْرَفُ النَّقْلُ فَيَحْمِلُ السَّامِعُ مَا سَمِعَهُ مِنَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، فَيَقَعُ الْغَلَطُ.
وَأَيْضًا: الْمُشْتَرَكُ أَكْثَرُ وَجُودًا مِنَ الْمَنْقُولِ.
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ تُرَجِّحُ الِاشْتِرَاكَ عَلَى النَّقْلِ، وَهِيَ أَقْوَى مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ رَجَّحَ النَّقْلَ، وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِ وَالْمَجَازِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ1 تَحْقِيقُهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَحْثِ.
وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالْإِضْمَارِ، فَقِيلَ: إِنَّ الْإِضْمَارَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِجْمَالَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْإِضْمَارِ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِ الصُّوَرِ، وَالْإِجْمَالُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ عَامٌ فِي كُلِّ الصُّوَرِ، فَكَانَ إِخْلَالُهُ بِالْفَهْمِ أَكْثَرَ مِنْ إِخْلَالِ الْإِضْمَارِ بِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الِاشْتِرَاكَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ مُحْتَاجٌ إِلَى ثَلَاثِ قَرَائِنَ، قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْإِضْمَارِ، وَقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ، وَقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى نَفْسِ الْمُضْمَرِ، وَالْمُشْتَرَكُ يَفْتَقِرُ إِلَى قَرِينَتَيْنِ كَمَا سَبَقَ، فَكَانَ الْإِضْمَارُ أَكْثَرَ إِخْلَالًا بِالْفَهْمِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْإِضْمَارَ وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى تِلْكَ الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ، فَذَلِكَ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَرِينَتَيْنِ فِي صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَكَانَ أَكْثَرَ إِخْلَالًا بِالْفَهْمِ، عَلَى أَنَّ الْإِضْمَارَ مِنْ بَابِ الْإِيجَازِ، وَهُوَ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْكَلَامِ.
وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالتَّخْصِيصِ فَقِيلَ: التَّخْصِيصُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ أَوْلَى مِنَ الْمَجَازِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ2 أَنَّ الْمَجَازَ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ. وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْمَجَازِ، فَقِيلَ الْمَجَازُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّقْلَ يَحْتَاجُ إِلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ اللِّسَانِ عَلَى تَغْيِيرِ الْوَضْعِ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ، وَالْمَجَازُ يَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَةٍ مَانِعَةٍ عَنْ فَهْمِ الْحَقِيقَةِ وَذَلِكَ مُتَيَسِّرٌ.
وَأَيْضًا الْمَجَازُ أَكْثَرُ مِنَ النَّقْلِ وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَكْثَرِ مُقَدَّمٌ، وَأَيْضًا فِي الْمَجَازِ مَا قَدَّمْنَا3 مِنَ الْفَوَائِدِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَنْقُولِ.
وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ النَّقْلِ وَالتَّخْصِيصِ، فَقِيلَ: التَّخْصِيصُ أَوْلَى لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّخْصِيصَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّقْلِ.
وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالْإِضْمَارِ، فَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ، وَقِيلَ الْمَجَازُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ يَحْتَاجُ إِلَى ثَلَاثِ قَرَائِنَ كَمَا تَقَدَّمَ.
__________
1 انظر صفحة "76".
2 انظر صفحة: "76".
3 انظر صفحة: "76".(1/78)
وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالتَّخْصِيصِ: فَالتَّخْصِيصُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ السَّامِعَ إِذَا لَمْ يَجِدْ قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى عُمُومِهِ، فَيَحْصُلُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَمَّا فِي الْمَجَازِ فَالسَّامِعُ إِذَا لَمْ يَجِدْ قَرِينَةً لِحَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَلَا يَحْصُلُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ.
وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ: فَالتَّخْصِيصُ أَوْلَى لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّخْصِيصَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ هُوَ وَالْإِضْمَارُ سَوَاءٌ، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْإِضْمَارِ.(1/79)
الْبَحْثُ الْعَاشِرُ: فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ
ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَجَمِيعُ الْحَنَفِيَّةِ، وَجَمْعٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، حَالَ كَوْنِهِمَا مَقْصُودَيْنِ بِالْحُكْمِ، بِأَنْ يُرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَأَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَبِي عَلِيِّ الْجُبَّائِيِّ1 مُطْلَقًا إِلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَافْعَلْ أَمْرًا وَتَهْدِيدًا فَإِنَّ الْأَمْرَ طَلَبُ الْفِعْلِ، وَالتَّهْدِيدُ يَقْتَضِي التَّرْكَ فَلَا يَجْتَمِعَانِ مَعًا.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ: إِنَّهُ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا عَقْلًا لَا لُغَةً، إِلَّا فِي غَيْرِ الْمُفْرَدِ كَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ، فَيَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا لُغَةً لِتَضَمُّنِهِ الْمُتَعَدِّدَ كَقَوْلِهِمْ: الْقَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ2.
وَرَجَّحَ هَذَا التَّفْصِيلَ ابْنُ الْهُمَامِ، وَهُوَ قَوِيُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ الْمُقْتَضَى وَفُقِدَ الْمَانِعُ فَلَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا إِرَادَةُ غَيْرِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، مَعَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ بِالْمُتَعَدِّدِ. وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ مُطْلَقًا: بِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ يَسْتَلْزِمُ مَا يُخَالِفُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ، وَهُوَ قَرِينَةُ عَدَمِ إِرَادَتِهِ، فَيَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِلْزَامَ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَدَمِ قَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَمَّا مَعَهُ فَلَا، وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا: بِأَنَّهُ كَمَا يَسْتَحِيلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا وَعَارِيَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، كَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً وَمَجَازًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الثَّوْبَ ظَرْفٌ حَقِيقِيٌّ لِلْمِلْكِ، وَالْعَارِيَةِ، وَاللَّفْظُ ليس بظرف حقيقي للمعنى.
__________
1 هو محمد بن الوهاب بن سلام الجبائي، أبو علي، من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره، إليه نسبة الطائفة الجبائية، ولد سنة خمس وثلاثين ومائتين، وتوفي سنة ثلاث وثلاثمئة هجرية، من آثاره: "تفسير" حافل مطول. ا. هـ. الأعلام "6/ 256"، سير أعلام النبلاء "14/ 183".
2 انظر فواتح الرحموت "1/ 216".(1/79)
وَالْحَقُّ امْتِنَاعُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِتَبَادُرِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مِنَ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِي التَّبَادُرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا بِمُجَرَدِهِ يَمْنَعُ مِنْ إِرَادَةِ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، مَعَ الْحَقِيقِيِّ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّفْظَ يَكُونُ عِنْدَ قَصْدِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مَجَازًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ لَا مَجْمُوعُهُمَا وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ، يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عُمُومَ الْمَجَازِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ، أَوْ مَعَانِيهِ الْمَجَازِيَّةِ، فَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى مَنْعِهِ وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ كُلِّ مَجَازٍ تُنَافِي إِرَادَةَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَجَازَاتِ.
وَإِلَى هُنَا انْتَهَى الْكَلَامُ في المبادئ.(1/80)
الخلاف في بَعْضِ حُرُوفِ الْمَعَانِي:
وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي الْمَبَادِئِ مَبَاحِثَ فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ، الَّتِي رُبَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْأُصُولِيُّ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهَا مُدَوَّنَةٌ فِي فَنٍّ مُسْتَقِلٍّ، مُبَيَّنَةٌ بَيَانًا تَامًّا، وَذَلِكَ كَالْخِلَافِ فِي الْوَاوِ هَلْ هِيَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، أَوْ لِلتَّرْتِيبِ؟
فَذَهَبَ إِلَى الأول جمهور النحاة، والأصوليون، وَالْفُقَهَاءِ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أَجْمَعَ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ، وَالْكُوفَةِ، عَلَى أَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ.
وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ1 فِي سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْ "كِتَابِهِ"2 أَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، "وَهُوَ الْحَقُّ"*.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ3 وثعلب، وأبو عبيد4: إنها للترتيب.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عمرو بن عثمان، أبو بشر الفارسي ثم البصري، إمام النحو، حجة العرب توفي سنة ثمانين ومائة هجرية، من تآليفه: "الكتاب" المشهور بكتاب سيبويه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 351"، معجم الأدباء "16/ 114".
2 أي كتاب سيبويه في النحو، وهو مجلد واحد، ليس في ترتيب، ولا خطبة، ولا خاتمة، وعليه شروح وتعليقات وردود نشأت من اعتناء الأئمة واشتغالهم به وهو مطبوع في خمسة مجلدات بتحقيق عبد السلام هارون. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1426".
3 هو يحيى بن زياد، أو زكريا الديلمي الكوفي، ولد سنة أربع وأربعين ومائة هـ، وتوفي في طريقه إلى الحج سنة سبع ومائتين هـ، من آثاره: "مشكل اللغة" "البهي" "معاني القرآن"، وغيرها كثير، حتى بلغت تآليفه ثلاثة آلاف ورقة. قيل سمي بالفراء؛ لأنه كان يفري الكلام. ا. هـ. معجم الأدباء "20/ 9"، تهذيب التهذيب "11/ 212"، سير أعلام النبلاء "10/ 118".
4 هو أبو عبيد القاسم بن سلام، الإمام الحافظ، اللغوي، المحتهد ذو الفنون، ولد سنة سبع وخمسين ومائة هـ، وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين هـ، من آثاره: "الأموال" "كتاب الناسخ والمنسوخ". ا. هـ. تذكرة الحفاظ "1/ 417"، تهذيب "8/ 315"، سير أعلام النبلاء "10/ 490".(1/80)
وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُؤَيَّدِ بِاللَّهِ1، وَأَبِي طَالِبٍ2.
احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْوَاوَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَمْتَنِعُ التَّرْتِيبُ فِيهِ كَقَوْلِهِمْ: تَقَاتَلَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَلَوْ قِيلَ: تَقَاتَلَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو، أَوْ تَقَاتَلَ زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو، لَمْ يَصِحَّ، وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِ التَّرْتِيبِ.
وَأَيْضًا: لَوِ اقْتَضَتِ الْوَاوُ التَّرْتِيبَ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا بَعْدَهُ، أَوْ رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَكَ: بَعْدَهُ يَكُونُ تَكْرَارًا لِمَا تُفِيدُهُ الْوَاوُ مِنَ التَّرْتِيبِ، وَقَوْلُكَ: قَبْلَهُ يَكُونُ مُنَاقِضًا لِمَعْنَى التَّرْتِيبِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: بِأَنَّهُ امْتَنَعَ جَعْلُ الْوَاوِ هُنَا لِلتَّرْتِيبِ لِوُجُودِ مَانِعٍ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ امْتِنَاعُهُ عِنْدَ عَدَمِهِ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّة} 3 فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} 4 وقوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِين} 5، مَعَ أَنَّ الرُّكُوعَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّجُودِ، وَقَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه} 6 وقوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} 7 وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة} 8 و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 9 وَلَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِلتَّرْتِيبِ وَهَكَذَا فِي غَيْرِهَا مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فَأَهْلُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ اشْتَرِ الطَّعَامَ وَالْإِدَامَ أو اشتر الإدام والطعام والترتيب أَصْلًا، وَأَيْضًا لَوْ كَانَتِ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ لَفَهِمَ الصحابة رضي الله عنهم
__________
1 هو الحسين بن علي، الحسني، من أئمة الزيدية باليمن، ولد ونشأ بصعدة، وتوفي سنة خمس وعشرين ومائة وألف هـ، ولاه أبوه بلاد رازح. ا. هـ. الأعلام "2/ 247".
2 هو عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم، نور الدين، الفقيه الحنبلي، نزيل بغداد، ولد سنة أربع وعشرين وستمائة هـ، وحفظ القرآن بالبصرة، توفي سنة أربع وثمانين وستمائة هـ، من آثاره: "الحاوي في الفقه" "الكافي في شرح الخرقي". ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 386" الأعلام "9/ 319".
3 جزء من الآية "58" من سورة البقرة.
4 جزء من الآية "161" من سورة الأعراف.
5 جزء من الآية "43" من سورة آل عمران.
6 جزء من الآية "92" من سورة النساء.
7 جزء من الآية "33" من سورة المائدة.
8 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.
9 جزء من الآية "2" من سورة النور.(1/81)
في قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} 1 أَنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ مِنَ الصَّفَا، مِنْ دُونِ أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، ولكنهم سألوه فقال: "ابدأوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" 2.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّرْتِيبِ، بِمَا صَحَّ أَنَّ خَطِيبًا قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى"، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ، قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" 3.
وَلَوْ كَانَ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ مَا عَلَّمَهُ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا قَالَهُ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بأنه إنما أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ اعْتِقَادَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَرَهُ بِعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي ضَمِيرٍ وَاحِدٍ تَعْظِيمًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْقَائِلُونَ بِإِفَادَةِ الْوَاوِ لِلتَّرْتِيبِ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَيَسْتَدْعِي الْجَوَابَ عَنْهُ.
وَكَمَا أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ مِنْ دُونِ تَرْتِيبٍ وَلَا مَعِيَّةٍ، فَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِذَا وَرَدَتْ لِغَيْرِ تَعْقِيبٍ فَذَلِكَ لِدَلِيلٍ آخَرَ، مُقْتَرِنٌ مَعْنَاهُ بِمَعْنَاهَا.
وَكَذَلِكَ "فِي" لِلظَّرْفِيَّةِ إِمَّا مُحَقَّقَةٌ أَوْ مُقَدَّرَةٌ.
وَكَذَلِكَ "مِنْ" تَرِدُ لِمَعَانٍ.
وَكَذَلِكَ "الْبَاءُ" لَهَا مَعَانٍ مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى التَّطْوِيلِ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ، الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِتَطْوِيلِ الْكَلَامِ فِيهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ قَدْ عرفت من ذلك العلم.
وَلْنَشْرَعُ الْآنَ بِعَوْنِ اللَّهِ وَإِمْدَادِهِ وَهِدَايَتِهِ وَتَيْسِيرِهِ في المقاصد فنقول:
__________
1 جزء من الآية "158" من سورة البقرة.
2 أخرجه مسلم من حديث جابر مطولًا، كتاب الحج، باب حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "1218". وأبو داود، كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "1905". وابن ماجه، كتاب المناسك باب حجة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "3074". وابن خزيمة في صحيحه "2757". والبيهقي في السنن كتاب الحج "5/ 93". وابن حبان في صحيحه "3944".
3 أخرجه مسلم من حديث عدي بن حاتم، كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة وخطبتها "870". والنسائي، كتاب الجمعة، باب ما يكره في الخطبة "3279" 6/ 90. وأبو داود. كتاب الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس "1099". والحاكم في المستدرك، كتاب الجمعة "1/ 289" وقال: حديث صحيح. وابن حبان في صحيحه "2798". وأخرجه الإمام أحمد "4/ 379".(1/82)
الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ: فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَعْرِيفِهِ
اعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ لُغَةً: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ كِتَابَةٍ وَمَكْتُوبٍ، ثُمَّ غَلَبَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ عَلَى الْقُرْآنِ.
وَالْقُرْآنُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ، غَلَبَ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ عَلَى الْمَجْمُوعِ الْمُعَيَّنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، الْمَقْرُوءُ بِأَلْسِنَةِ الْعِبَادِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَشْهَرُ مِنْ لَفْظِ الْكِتَابِ وَأَظْهَرُ، وَلِذَا جُعِلَ تَفْسِيرًا لَهُ، فَهَذَا تَعْرِيفُ الْكِتَابِ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ، وَهُوَ التَّعْرِيفُ اللَّفْظِيُّ الَّذِي يَكُونُ بِمُرَادِفٍ أَشْهَرَ.
وَأَمَّا حَدُّ الْكِتَابِ اصْطِلَاحًا: فَهُوَ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ عَلَى الرَّسُولِ، الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُولُ إِلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا.
فَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: الْمُنَزَّلُ على الرسول المكتوب في المصاحف: وسائر الْكُتُبِ وَالْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ، وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَغَيْرُهَا، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: الْمَنْقُولُ إِلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا: الْقِرَاءَاتُ الشَّاذَّةُ1.
وَقَدْ أُورِدَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ أَنَّ فِيهِ دَوْرًا؛ لِأَنَّهُ عَرَّفَ الْكِتَابَ بِالْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: مَا الْمُصْحَفُ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ يُقَالَ: هُوَ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُصْحَفَ مَعْلُومٌ فِي الْعُرْفِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْرِيفِهِ بِقَوْلِهِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ.
وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ الْمُنَزَّلُ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ الْمُتَوَاتِرُ. فَاللَّفْظُ جِنْسٌ يَعُمُّ الْكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ وَغَيْرَهَا، وَالْعَرَبِيُّ يُخْرِجُ غَيْرَ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَالْمُنَزَّلُ يُخْرِجُ مَا لَيْسَ بِمُنَزَّلٍ مِنَ الْعَرَبِيِّ، وَقَوْلُهُ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ: لِزِيَادَةِ التَّوْضِيحِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ هَذَا التعريف. والتدبير: التَّفَهُّمُ لِمَا يَتْبَعُ ظَاهِرَهُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَالْمَعَانِي الْمُسْتَنْبَطَةِ.
وَالتَّذَكُّرُ: الِاتِّعَاظُ بِقِصَصِهِ وَأَمْثَالِهِ.
وَقَوْلُهُ: الْمُتَوَاتِرُ يُخْرِجُ مَا لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ كَالْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ، والأحاديث القدسية.
__________
1 وهي القراءة المخالفة للعربية أو الرسم وهي مردودة إجماعًا، وهي التي لم تثبت بطريق التواتر، وكل قراءة انفرد بها أحد الأئمة الأربعة أو راو من رواتهم لا تجوز القراءة بها مطلقًا. وهم: ابن محيصن ويحيى اليزيدي -والحسن البصري والأعمش. ا. هـ. القراءات الشاذة 1/ 10-11.(1/85)
وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ لِلْإِعْجَازِ بِسُورَةٍ مِنْهُ، فَخَرَجَ الْكَلَامُ الَّذِي لَمْ يُنَزَّلْ، وَالَّذِي نُزِّلَ لَا لِلْإِعْجَازِ كَسَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالسُّنَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِعْجَازِ: ارْتِقَاؤُهُ فِي الْبَلَاغَةِ إِلَى حَدٍّ خَارِجٍ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ، وَلِهَذَا عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ عِنْدَ تَحَدِّيهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالسُّورَةِ: الطَّائِفَةُ مِنْهُ الْمُتَرْجَمُ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا تَوْقِيفًا. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ: بِأَنَّ الْإِعْجَازَ لَيْسَ لَازِمًا بَيِّنًا، وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ فِيهِ رَيْبٌ، وَبِأَنَّ مَعْرِفَةَ السُّورَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ اللُّزُومَ بَيِّنٌ وَقْتَ التَّعْرِيفِ لِسَبْقِ الْعِلْمِ بِإِعْجَازِهِ، وَبِأَنَّ السُّورَةَ اسْمٌ لِلطَّائِفَةِ الْمُتَرْجَمَةِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُنَزَّلِ، قُرْآنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، بِدَلِيلِ سُورَةِ الْإِنْجِيلِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ تَوَاتُرًا.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِنَا، الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُولُ تَوَاتُرًا بِلَا شُبْهَةٍ.
فَالْقُرْآنُ تَعْرِيفٌ لَفْظِيٌّ لِلْكِتَابِ، وَالْبَاقِي رَسْمِيٌّ وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا سَبَقَ، وَيُجَابُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ بِمَا مَرَّ.
وَقِيلَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ الثَّابِتُ في اللوم الْمَحْفُوظِ لِلْإِنْزَالِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْقُدْسِيَّةَ وَالْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةَ بَلْ وَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِين} 1 وَأُجِيبَ بِمَنْعِ كَوْنِهَا أُثْبِتَتْ فِي اللَّوْحِ لِلْإِنْزَالِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ الْمَتْلُوُّ الْمُتَوَاتِرُ، وَهَذَا لَا يَرِدُ عليه ما ورد على الحدود فتدبر.
__________
1 جزء من الآية "59" من سورة الأنعام.(1/86)
الفصل الثاني: حكم المنقول آحَادًا
اخْتُلِفَ فِي الْمَنْقُولِ آحَادًا هَلْ هُوَ قُرْآنٌ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ:" لَيْسَ بِقُرْآنٍ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ "مِمَّا"* تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، لِكَوْنِهِ كَلَامَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَكَوْنِهُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَوْنِهِ مُعْجِزًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَوَاتَرَ، فَمَا لَمْ يَتَوَاتَرْ "لَيْسَ"** بقرآن.
__________
* وقع في "أ": ما.
** في "أ": فليس.(1/86)
هَكَذَا قَرَّرَ أَهْلُ الْأُصُولِ "دَلِيلَ"* التَّوَاتُرِ، وَقَدِ ادَّعَى تَوَاتُرَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو1، وَنَافِعٍ2، وَعَاصِمٍ3، وَحَمْزَةَ4 وَالْكِسَائِيِّ5، وَابْنِ كَثِيرٍ6، وَابْنِ عَامِرٍ7 دُونَ غَيْرِهَا، وَادَّعَى أَيْضًا تَوَاتَرَ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ، وَهِيَ هَذِهِ مَعَ قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ8، وَأَبِي جَعْفَرٍ9، وَخَلَفٍ10 وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ أَثَارَةٌ مَنْ عِلْمٍ، فَإِنَّ هَذِهِ القراءات كل واحدة منها منقولة
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو زبان بن العلاء بن عمار، التميمي ثم المازني البصري، شيخ القراء والعربية، ولد سنة سبعين هجرية، وتوفي سنة سبع وخمسين ومائة هـ، كان أعلم الناس بالقرآن والعربية وأيامها والشعر، قال فيه الفرزدق.
ما زلت أفتح أبوابًا وأغلقها ... حتى رأيت أباعمرو بن عمار
ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 407"، تهذيب التهذيب "12/ 178".
2 هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، الليثي، المدني، أحد القراء السبعة، واشتهر في المدينة، وانتهت إليه رياسة القراءة فيها، توفي سنة تسع وستين ومائة هـ، ا. هـ. الأعلام "8/ 5".
3 هو عاصم بن أبي النجود، الإمام المقرئ، أبو بكر الأسدي الكوفي، ما كان في الكوفة أقرأ منه، توفي سنة سبع وعشرين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 256"، تهذيب التهذيب "5/ 38".
4 هو حمزة بن حبيب بن عمارة، الإمام القدوة، شيخ القراء، أبو عمارة التميمي الكوفي، قال ابن فضيل: ما أحسب أن الله يدفع البلاء عن أهل الكوفة إلا بحمزة، توفي سنة ست وخمسين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 92"، تهذيب التهذيب "3/ 27"، شذرات الذهب "1/ 240".
5 هو علي بن حمزة بن عبد الله، الأسدي الكوفي، الملقب بالكسائي لكساء أحرم فيه، وكان ذا منزلة رفيعة عند الرشيد، وأدب ولده الأمين، توفي سنة تسع وثمانين ومائة هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 131"، شذرات الذهب "1/ 321".
6 هو عبد الله بن كثير بن عمرو، مقرئ مكة، الإمام العلم، أحد القراء السبعة، توفي سنة اثنتين وعشرين ومائة هـ، وكان عطارًا، وكانت ولادته سنة ثمان وأربعين هجرية ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 318"، تهذيب التهذيب "65/ 367".
7 هو عبد الله بن عامر بن يزيد، الإمام الكبير، مقرئ الشام، اليحصبي الدمشقي، ولد سنة أحدى وعشرين هجرية، وكانت وفاته سنة ثماني عشرة ومائة هحرية ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 292"، تهذيب التهذيب "5/ 274".
8 هو يعقوب بن إسحاق بن زيد، مقرئ البصرة، الإمام المجود الحافظ، أبو محمد، أحد القراء العشرة، ولد بعد سنة ثلاثين ومائة، ورجحه بعض الأئمة عل الكسائي، توفي سنة خمس ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 169"، شذرات الذهب "2/ 14".
9 هو يزيد بن القعقاع، احد الأئمة العشرة، روى إسحاق المسيبي: لما غسل أبو جعفر نظروا ما بين نحوه إلى فؤاده كورقة المصحف فما شك من حضره أنه نور القرآن، وكانت وفاته سنة سبع وعشرين ومائة هـ. ا. هـ. شذرات الذهب "1/ 176"، سير أعلام النبلاء "5/ 287".
10 هو خلف بن هشام بن ثعلب، أبو محمد، الإمام الحافظ الحجة، البغدادي البزار المقرئ ولد سنة خمسين ومائة هـ، توفي سنة تسع وعشرين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 576"، شذرات الذهب "2/ 67"، تهذيب التهذيب "3/ 156".(1/87)
نَقْلًا آحَادِيًا، كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ يَعْرِفُ أَسَانِيدَ هَؤُلَاءِ الْقُرَّاءِ لِقِرَاءَاتِهِمْ، وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ القرءات مَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ، وَفِيهَا مَا هُوَ آحَادٌ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِتَوَاتُرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّبْعِ، فَضْلًا عَنِ الْعَشْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَأَهْلُ الْفَنِّ أَخْبَرُ بِفَنِّهِمْ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمُصْحَفُ الشَّرِيفُ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ الْمَشْهُورُونَ فَهُوَ قُرْآنٌ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَإِنِ احْتَمَلَ رَسْمُ الْمُصْحَفِ قِرَاءَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ مَعَ مُطَابَقَتِهَا لِلْوَجْهِ الْإِعْرَابِيِّ. وَالْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ، فَهِيَ قُرْآنٌ كُلُّهَا. وَإِنِ احْتَمَلَ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ صَحَّ إِسْنَادُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ، وَكَانَتْ مُوَافِقَةً لِلْوَجْهِ الْإِعْرَابِيِّ، وَالْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ، فَهِيَ الشَّاذَّةُ، وَلَهَا حُكْمُ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَدْلُولِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا.
وَأَمَّا مَا لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ مِمَّا لَمْ يَحْتَمِلْهُ الرَّسْمُ فَلَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَلَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ أَخْبَارِ الْآحَادِ.
أَمَّا انْتِفَاءُ كَوْنِهِ قُرْآنًا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ تَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَلِعَدَمِ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ، وَإِنْ وَافَقَ الْمَعْنَى الْعَرَبِيَّ وَالْوَجْهَ الْإِعْرَابِيَّ فَلَا اعْتِبَارَ بِمُجَرَّدِ الْمُوَافَقَةِ، مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أحرف1، وصح عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ حَتَّى أَقْرَأَنِي عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ"2.
وَالْمُرَادُ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ: لُغَاتُ الْعَرَبِ، فَإِنَّهَا بَلَغَتْ إِلَى سَبْعِ لُغَاتٍ، اخْتَلَفَتْ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَاتَّفَقَتْ فِي غَالِبِهَا، فَمَا وَافَقَ لُغَةً مِنْ تِلْكَ اللُّغَاتِ، فَقَدْ وَافَقَ الْمَعْنَى الْعَرَبِيَّ وَالْإِعْرَابِيَّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحْتَاجَةٌ إِلَى بَسْطٍ تَتَّضِحُ بِهِ حَقِيقَةُ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ أَفْرَدْنَاهَا بِتَصْنِيفٍ3 مُسْتَقِلٍّ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي هَذَا الْبَحْثِ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ بين القراء في
__________
1 أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف "818 ". والبخاري، كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض "2419". والترمذي، كتاب القراءات. باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف "2943". وقال حسن صحيح. والنسائي، كتاب الصلاة، باب جامع ما جاء في القرآن "935" "2/ 150". وأبو داود. كتاب الصلاة، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف "1475" ابن حبان في صحيحه "741".
2 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف برقم "4991". مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف "819". والإمام أحمد في المسند "1/ 263". والطبراني في الأوسط "1813". وعبد الرزاق في المصنف "2370".
3 لم أجد فيما بين يدي من المراجع من صرح باسم هذا التصنيف في مصنفات الشوكاني.(1/88)
الْبَسْمَلَةِ، وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ هَلْ هِيَ آيَةٌ مَنْ كُلِّ سُورَةٍ1، أَوْ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ2، أَوْ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ3، أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ4، وَلَا هِيَ مِنَ الْقُرْآنِ5، وَأَطَالُوا الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ. وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فَجَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَسَائِلِ الِاعْتِقَادِ وَذَكَرَهَا في مسائل أصول الدين.
الحق أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ لِوُجُودِهَا فِي رَسْمِ الْمَصَاحِفِ، وَذَلِكَ هُوَ الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ فِي إِثْبَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ لِلْقُرْآنِ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى ثُبُوتِهَا خطأ في المصحف في أوائل السور، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ كَوْنَهَا قُرْآنًا مِنَ الْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ.
وَبِهَذَا الْإِجْمَاعِ حَصَلَ الرُّكْنُ الثَّانِي وَهُوَ النَّقْلُ، مَعَ كَوْنِهِ نَقْلًا إِجْمَاعِيًّا بَيْنَ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ.
وَأَمَّا الرُّكْنُ الثالث: وهو موافقها للوجه الإعرابي والمعنى فَذَلِكَ ظَاهِرٌ.
إِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّ نَفْيَ كَوْنِهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَعَ تَسْلِيمِ وَجُودِهَا فِي الرَّسْمِ مُجَرَّدُ دَعْوَى غَيْرِ مَقْبُولَةٍ. وَكَذَلِكَ دَعْوَى كَوْنِهَا آيَةً وَاحِدَةً، أَوْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ، مَعَ تَسْلِيمِ وُجُودِهَا فِي الرَّسْمِ في أول كل سورة، فإنها دعوى مجرد عَنْ دَلِيلٍ مَقْبُولٍ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ فِي كَوْنِهَا تُقْرَأُ6 فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا تُقْرَأُ7، وَعَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِهَا تُقْرَأُ هَلْ يُسَرُّ بِهَا مُطْلَقًا8 أَوْ تكون على صفة ما يقرأ مِنَ الْإِسْرَارِ فِي السِّرِّيَّةِ، وَالْجَهْرِ فِي الْجَهْرِيَّةِ9، فلا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ10، وَذَكَرْنَا فِي "شَرْحِ الْمُنْتَقَى"11 مَا إِذَا رجعت إليه تحتج إلى غيره.
__________
1 وهو مذهب عبد الله بن المبارك.
2 وهو مذهب الإمام الشافعي.
3 وهو مذهب الإمام أبي حنيفة.
4 وهو مذهب الإمام مالك.
5 وهو مذهب الحسن البصري. ا. هـ. القرطبي عند تفسير الفاتحة "بسم الله الرحمن الرحيم".
6 وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
7 وهو مذهب الإمام مالك وفي بعض أقواله أنها تقرأ في النفل.
8 وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل.
9 وهو قول غير أبي حنيفة وأحمد. ا. هـ. القرطبي عند ذكر أحكام البسملة.
10 واسمها: "الرسالة المكملة في أدلة البسملة" ا. هـ. إيضاح المكنون "1/ 569"، البدر الطالع "2/ 221".
11 واسمه: "نيل الأوطار بشرح المنتقى في الأخبار"، للشوكاني محمد بن علي، وهو في مجلدات، مطبوع في مصر، وهو في إبطال دعوى الإجماع. ا. هـ. ذيل كشف الظنون "2/ 697".(1/89)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ
اعلم أنه لَا اخْتِلَافَ فِي وُقُوعِ النَّوْعَيْنِ فِيهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 1، وَاخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِهِمَا: فَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا لَهُ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَهُ دَلَالَةٌ غَيْرُ وَاضِحَةٍ، فَيَدْخُلُ فِي الْمُتَشَابِهِ الْمُجْمَلُ وَالْمُشْتَرَكُ.
وَقِيلَ فِي الْمُحْكَمِ: هُوَ مُتَّضِحُ الْمَعْنَى، وَفِي الْمُتَشَابِهِ هُوَ غَيْرُ الْمُتَّضِحِ الْمَعْنَى، وَهُوَ كَالْأَوَّلِ2، وَيَنْدَرِجُ في المتشابه ما تقدم3.
والفرق بيهما4 أَنَّهُ جَعَلَ فِي التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ الِاتِّضَاحَ وَعَدَمَهُ لِلدَّلَالَةِ، وَفِي الثَّانِي لِنَفْسِ الْمَعْنَى.
وَقِيلَ فِي الْمُحْكَمِ هُوَ: مَا اسْتَقَامَ نَظْمُهُ لِلْإِفَادَةِ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا اخْتَلَّ نَظْمُهُ لِعَدَمِ الْإِفَادَةِ، وَذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا لَا يُفِيدُ شَيْئًا وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى، هَكَذَا قَالَ الْآمِدِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ.
واعترض عليه بأن القول باختلاف نَظْمِ الْقُرْآنِ5 مِمَّا لَا يَصْدُرُ عَنِ الْمُسْلِمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي حَدِّهِ هُوَ: مَا استقام نظمه لا للإفادة بل للابتداء.
وَقِيلَ الْمُحْكَمُ: مَا عُرِفَ الْمُرَادُ مِنْهُ، إِمَّا بِالظُّهُورِ، وَإِمَّا بِالتَّأْوِيلِ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ.
وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ أَوْجُهًا.
وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ الْفَرَائِضُ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَالْمُتَشَابِهُ الْقِصَصُ وَالْأَمْثَالُ.
وَقِيلَ الْمُحْكَمُ النَّاسِخُ، وَالْمُتَشَابِهُ الْمَنْسُوخُ.
وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى، وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَحُكْمُ المحكم هو وجوب العمل به، وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْحَقُّ عَدَمُ جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} 6 والوقف على قوله: {إِلَّا
__________
1 جزء من الآية "7" من سورة آل عمران.
2 أي كالتعريف الأول.
3 من المجمل المشترك.
4 أي بين التعريفين.
5 وذلك عند قوله في التعريف السابق: المتشابه: ما اختل نظمه لعدم الإفادة.
6 جزء من الآية "7" من سورة آل عمران.(1/90)
اللَّه} مُتَعَيَّنٌ وَيَكُونُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مبتدأ وخبره: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِه} حَالِيَّةً، وَلَا مَعْنًى لِتَقْيِيدِ عِلْمِهِمْ بِهِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ حَالُ كَوْنِهِمْ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي تَفْسِيرِنَا الَّذِي سَمَّيْنَاهُ "فَتْحَ الْقَدِيرِ"1 فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ، فَإِنَّ فِيهِ مَا يُثْلِجُ خَاطَرَ الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَيْسَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْمُتَشَابِهِ لِعِلَّةِ كَوْنِهِ لَا مَعْنَى لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ بَلْ لِعِلَّةِ قُصُورِ أَفْهَامِ الْبَشَرِ عَنِ الْعِلْمِ بِهِ وَالِاطِّلَاعُ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ، كَمَا فِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ لَهَا مَعْنًى لَمْ تَبْلُغْ أَفْهَامُنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ، فَهِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ تَمَحَّلَ لِتَفْسِيرِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّقَوُّلِ عَلَى اللَّهِ بِمَا لَمْ يَقُلْ، وَمِنْ تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِمَحْضِ الرَّأْيِ، وَقَدْ وَرَدَ الوعيد الشديد عليه.
__________
1 ستأتي ترجمته في الصفحة "222".(1/91)
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْمُعَرَّبِ هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟
وَالْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى عِنْدَ غَيْرِ الْعَرَبِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى.
كَإِسْمَاعِيلَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وإسحاق، وَيَعْقُوبَ، وَنَحْوِهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ نَفَاهُ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ، وَشُرَّاحُ كِتَابِهِ النَّفْيَ لِوُجُودِهِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، وَلَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ سِوَى تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ مَا وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعَرَّبِ مِمَّا اتَّفَقَ فِيهِ اللُّغَتَانِ الْعَرَبِيَّةُ وَالْعَجَمِيَّةُ وَمَا أَبْعَدَ هَذَا التَّجْوِيزَ، وَلَوْ كَانَ يَقُومُ بِمِثْلِهِ الْحُجَّةُ فِي مُوَاطِنِ الْخِلَافِ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ بِمُجَرَّدِ التَّجْوِيزِ، وَتَطَرَّقَ الْمُبْطِلُونَ إِلَى دَفْعِ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْعُجْمَةَ عِلَّةٌ مِنَ الْعِلَلِ الْمَانِعَةِ لِلصَّرْفِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَلَوْ كَانَ لِذَلِكَ التَّجْوِيزِ الْبَعِيدِ تَأْثِيرٌ لَمَا وَقَعَ مِنْهُمْ هَذَا الْإِجْمَاعُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ النَّافُونَ بِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ فِيهِ مَا لَيْسَ هُوَ بِعَرَبِيٍّ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ كُلُّهُ عَرَبِيًّا وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا1.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَأْتِ الْأَكْثَرُونَ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَفِي الْقُرْآنِ مِنَ اللُّغَاتِ الرُّومِيَّةِ، وَالْهِنْدِيَّةِ، وَالْفَارِسِيَّةِ، وَالسُّرْيَانِيَّةِ، مَا لَا يَجْحَدُهُ جَاحِدٌ، وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ مُخَالِفٌ،
__________
1 انظر صفحة: "65".(1/91)
حَتَّى قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ لُغَةٍ مِنَ اللُّغَاتِ، وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلْيَبْحَثْ كُتُبَ التَّفْسِيرِ فِي مِثْلِ: الْمِشْكَاةِ1 وَالْإِسْتَبْرَقِ2، وَالسِّجِّيلِ3، وَالْقِسْطَاسِ4، وَالْيَاقُوتِ5، وَأَبَارِيقَ6، والتنور7.
__________
1 تقدمت في الصفحة "65".
2 تقدمت في الصفحة "66".
3 تقدمت في الصفحة "66".
4 تقدمت في الصفحة "66".
5 فارسي معرب، الواحدة، ياقوتة، والجمع: يواقيت، وهو حجر من الأحجار الكريمة، وهو أكثر المعادن صلابة بعد الماس، ولونه شفاف مشرب بالحمرة أو الزرقة أو الصفرة، يستعمل للزينة. ا. هـ لسان العرب والمعجم الوسيط مادة ياقوت "يقت" وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في سورة الرحمن الآية "58".
6 واحدة إبريق، وهو فارسي معرب، معناه: الإناء أو الكور. ا. هـ. لسان العرب مادة برق وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في سورة الواقعة الآية "18".
7 هو فارسي معرب، معناه: وجه الأرض، وكل مفجر ماء تنور. ا. هـ. لسان العرب مادة تنر وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في سورة هود الآية "40".(1/92)
المقصد الثاني: في السنّة
الفصل الأول: في معنى السنّة لغة وشرعا
...
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى السُّنَّةِ لُغَةً وَشَرْعًا
وأما لُغَةً: فَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ، وَأَصْلُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ سَنَنْتُ الشَّيْءَ بِالْمِسَنِّ1 إِذَا أَمْرَرْتُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهِ سَنًّا أَيْ: طَرِيقًا، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهَا الدَّوَامُ فَقَوْلُنَا: سُنَّةٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالْإِدَامَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَنَنْتَ الْمَاءَ إِذَا وَالَيْتَ فِي صَبِّهِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ2: أَصْلُهَا الطَّرِيقَةُ الْمَحْمُودَةُ، فَإِذَا أُطْلِقَتِ انْصَرَفْتَ إِلَيْهَا، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهَا مُقَيَّدَةً كَقَوْلِهِ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً" وَقِيلَ: هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعْتَادَةُ، سَوَاءٌ كَانَتْ حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" 3.
وَأَمَّا مَعْنَاهَا شَرْعًا: أَيْ: فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ فَهِيَ: قَوْلُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُهُ وَتَقْرِيرُهُ، وَتُطْلَقُ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ عَلَى الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ، وَأَمَّا فِي عُرْفِ أَهْلِ الْفِقْهِ فَإِنَّمَا يُطْلِقُونَهَا عَلَى مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْبِدْعَةَ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.
قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي "فِقْهِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ"4: وَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: سُنَّةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: سُنَّةُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْهَادِينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ" 5. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِالسُّنَّةِ هُنَا الطَّرِيقَةَ.
وَقِيلَ فِي حَدِّهَا اصْطِلَاحًا هِيَ: مَا يُرَجَّحُ جَانِبُ وُجُودِهِ عَلَى جَانِبِ عَدَمِهِ تَرْجِيحًا لَيْسَ مَعَهُ الْمَنْعُ مِنَ النَّقِيضِ.
وَقِيلَ هِيَ: مَا وَاظَبَ عَلَى فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَرْكٍ مَا بَلَا عُذْرٍ.
وَقِيلَ هِيَ: فِي الْعِبَادَاتِ النَّافِلَةُ، وَفِي الْأَدِلَّةِ مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبَحْثِ عَنْهُ في هذا العلم.
__________
1 حجر يحدد به. ا. هـ. الصحاح مادة سنن.
2 هو حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي، العلامة، فقيه، محدث. توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة هجرية، وهو من ولد زيد بن الخطاب "أخي عمر"، وكانت ولادته سنة تسع عشرة وثلاثمائة هـ، من آثاره: "معالم السنن في شرح سنن أبي داود" "غريب الحديث" "أعلام السنن". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 23" معجم المؤلفين "2/ 61" الأعلام "2/ 273".
3 أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة "1017". وابن ماجه، المقدمة "203". والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع أو ضلالة "2675" وقال: حسن صحيح. والنسائي كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة "2553" 5/ 75. وابن حبان في صحيحه "3308".
4 واسمه "فقه اللغة" لأبي الحسين، أحمد القزويني المعروف بابن فارس المتوفى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة هـ، وهو المسمى بالصاحبي؛ لأنه ألفه للصاحب كشف الظنون "2/ 288" ابن عباد. ا. هـ.
5 أخرجه الترمذي من حديث العرباض بن سارية، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة "2676" وقال: حسن صحيح. ابن ماجه في المقدمة "43". وأبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة "4607".
الإمام أحمد في المسند "4/ 126". ابن حبان في صحيحه5.(1/95)
الفصل الثاني: في حجية السنة واستقلالها بالتشريع
...
البحث الثاني: في حجية السنة واستقلالها بِالتَّشْرِيعِ
اعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ اتَّفَقَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ مُسْتَقِلَّةٌ بِتَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ وَأَنَّهَا كَالْقُرْآنِ فِي تَحْلِيلِ الْحَلَالِ وَتَحْرِيمِ الْحَرَامِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا وَإِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" 1 أَيْ: أُوتِيَتُ الْقُرْآنَ وَأُوتِيَتُ مِثْلَهَ مِنَ السُّنَّةِ الَّتِي لَمْ يَنْطِقْ بِهَا الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ كَتَحْرِيمِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحَصْرُ.
وَأَمَّا مَا يُرْوَى مِنْ طَرِيقِ ثَوْبَانَ2 فِي الْأَمْرِ بِعَرْضِ الْأَحَادِيثِ عَلَى القرآن فقال يحيى بن معين3: إنه موضع وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا رَوَاهُ أَحَدٌ عَمَّنْ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ فِي شَيْءٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ4 فِي كِتَابِ "جَامِعِ الْعِلْمِ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ5: الزنادقة والخوارج وضعوا
__________
1 أخرج بنحوه أبو داود من حديث المقدام بن معد يكرب، كتاب السنة باب لزوم السنة "4064". والإمام أحمد في المسند "4/ 130". والطبراني في الكبير "20/ 283" "669". والبيهقي في السنن، كتاب الضحايا، باب ما جاء في أكل لحوم الحمر الأهلية "9/ 334". وابن حبان في صحيحه "12".
2 هو ثوبان بن جحدر أو بجدد، مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أبو عبد الرحمن، سبي من أرض الحجاز فاشتراه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعتقه، فلزم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبه، توفي بحمص سنة أربع وخمسين هجرية. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "3/ 15"، تهذيب التهذيب "2/ 31".
3 هو الإمام الحافظ الجهبذ، شيخ المحدثين، أبو زكريا البغدادي. ولد سنة ثمان وخمسين ومائة هـ، وكان من المكثرين من كتابة الحديث، حتى قال عنه ابن المديني: ما أعلم أحدًا كتب ما كتب يحيى بن معين، توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 71"، تهذيب التهذيب "11/ 280".
4 هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، الأندلسي، القرطبي، المالكي، أبو عمر الإمام العلامة، حافظ المغرب، شيح الإسلام، ولد سنة ثمان وستين وثلاثمائة هجرية، وتوفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة هجرية، من آثاره: "الاستيعاب" "والاستذكار" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 153"، شذرات الذهب "3/ 314"، هدية العارفين "2/ 550"، وكتابه جامع العلم اسمه "جامع بيان العلم وآدابه".
5 هو الإمام الناقد المجود، سيد الحفاظ، أبو سعيد، عبد الرحمن بن مهدي العنبري، البصري اللؤلؤي، ولد سنة خمس وثلاثين ومائة هـ، وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائة هجرية، بعد أن أملى الألوف المؤلفة من الحديث. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 192"، تهذيب التهذيب "6/ 279"، شذرات الذهب "1/ 355".(1/96)
حَدِيثَ: "مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ وَإِنْ خَالَفَ فَلَمْ أَقُلْهُ"1.
وَقَدْ عَارَضَ حَدِيثُ الْعَرْضِ قَوْمٌ فَقَالُوا: عَرَضْنَا هَذَا الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَخَالَفَهُ، لِأَنَّا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 وَوَجَدْنَا فِيهِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 3 وَوَجَدْنَا فِيهِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 5 قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ6: الْكِتَابُ أَحْوَجُ إِلَى السُّنَّةِ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْكِتَابِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهَا تَقْضِي عَلَيْهِ وَتُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ7: السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ ثُبُوتَ حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَاسْتِقْلَالَهَا بِتَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ وَلَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا حَظَّ لَهُ في دين الإسلام.
__________
1 ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة "59" وقال: أخرجه الدارقطني في الأفراد، والعقيلي في الضعفاء، وأبو جعفر البختري في فوائده، والحديث منكر جدا، استنكره العقيلي وقال: إنه ليس له إسناد يصح. وقد سهل ابن حجر عن هذا الحديث فقال: إنه جاء من طرق لا تخلو من مقال وقد جمع طرقه البيهقي في كتاب المدخل.
2 جزء من الآية 7 من سورة الحشر.
3 جزء من الأية 31 من سورة آل عمران.
4 جزء من الآية 92 من سورة المائدة.
5 جزء من الآية 80 من سورة النساء.
6 هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، شيخ الإسلام، عالم أهل الشام، أبو عمرو الأوزاعي، كان يسكن محلة الأوزاع وهي: العقيبة الصغيرة ظاهر باب الفراديس بدمشق، ولد في بعلبك في حياة الصحابة، توفي سنة سبع وخمسين ومائة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 107" تذكرة الحفاظ "1/ 178"، تهذيب التهذيب "6/ 238".
7 هو يحيى بن أبي كثير صالح، الإمام الحافظ، أحد الأعلام، أبو نصر الطائي، اليمامي، كان طلابة للعلم، حجة، أقام بالمدينة عشر سنين في طلب العلم، توفي سنة تسع وعشرين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 27"، تهذيب التهذيب "11/ 268".(1/97)
الفصل الثالث: في عِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ
...
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ
ذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ، وَكَذَا حَكَوُا الْإِجْمَاعَ عَلَى عِصْمَتِهِمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِمَّا يُزْرِي بِمَنَاصِبِهِمْ، كَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَالدَّنَاءَاتِ وَسَائِرِ مَا يُنَفِّرُ عَنْهُمْ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا صَغَائِرُ الْخِسَّةِ، كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ، وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ، وإنما اختلفوا في الدليل عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِمَّا ذُكِرَ، هَلْ هُوَ الشَّرْعُ أَوِ الْعَقْلُ؟
فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْأَشْعَرِيَّةِ: إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ؛ لِأَنَّهَا مُنَفِّرَةٌ عَنِ الِاتِّبَاعِ، فَيَسْتَحِيلُ وُقُوعُهَا مِنْهُمْ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ"1 عَنْ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ، قَالَ: وَإِلَيْهِ مَصِيرُ جَمَاهِيرِ أَئِمَّتِنَا.
وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: إِنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مِنْ مُقْتَضَى الْمُعْجِزَةِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ2: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَمَنْ تَبِعَهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِهَا السَّمْعُ فَقَطْ، وَرُوِيَ عَنِ القاضي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِهَا الْإِجْمَاعُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا مُمْتَنِعَةٌ سَمْعًا وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَيْهِ، قَالَ: وَلَوْ رَدَدْنَا ذَلِكَ إِلَى الْعَقْلِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُحِيلُهَا، وَاخْتَارَ هَذَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، والغزالي، وإلكيا3 وابن برهان4.
__________
1 هو لأبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني النيسابوري، الشافعي، المعروف بإمام الحرمين، المتوفى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة هـ، يسمى "البرهان في أصول الفقه" ا. هـ. كشف الظنون "1/ 242".
2 هو عياض بن موسى، الإمام العلامة، الحافظ الأوحد، شيخ الإسلام، القاضي أبو الفضل، ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة هجرية، وتوفي بمراكش سنة أربع وأربعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "الشفاء" "شرح صحيح مسلم" وغيرهما. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "20/ 212" شذرات الذهب "4/ 138"، هدية العارفين "1/ 805".
3 هو علي بن محمد بن علي الطبرستاني، الشافعي، عماد الدين، شيخ الشافعية ببغداد المعروف بإلكيا الهراسي -وهي كلمة فارسية معناها: الكبير- توفي سنة أربع وخمسائة هجرية، من مؤلفاته كتاب "شفاء المسترشدين في مباحث المجتهدين". ا. هـ. شذرات الذهب "4/ 8" كشف الظنون "2/ 1056"، هدية العارفين "1/ 694".
4 هو أحمد بن علي بن برهان، أبو الفتح، فقيه بغدادي، ولد سنة تسع وسبعين وأربعمائة هجرية، وتوفي سنة ثماني عشرة وخمسمائة هجرية، من آثاره: "الوجيز" "البسيط" "والوسيط". ا. هـ. الأعلام "1/ 173".(1/98)
قَالَ الْهِنْدِيُّ1: هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى الْمُعْجِزَةِ فِي التَّحَدِّي، فَإِنْ أَسْنَدَهُ إِلَيْهَا كَانَ امْتِنَاعُهُ عَقْلًا.
وَهَكَذَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، لِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَأَمَّا الْكَذِبُ غَلَطًا فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ وَجَوَّزَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ، وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي بِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ عَمْدًا لَا خَطَأً، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى. وَأَمَّا الصَّغَائِرُ الَّتِي لَا تُزْرِي بِالْمَنْصِبِ، وَلَا كَانَتْ مِنَ الدَّنَاءَاتِ، فَاخْتَلَفُوا هَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا جَازَتْ هَلْ وَقَعَتْ مِنْهُمْ أَمْ لَا؟ فَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا عَنِ الْأَكْثَرِينَ الْجَوَازَ عَقْلًا، وَكَذَا نَقْلَ ذَلِكَ عَنِ الْأَكْثَرِينَ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ2 عَنِ الْأَكْثَرِينَ -أَيْضًا- عَدَمَ الْوُقُوعِ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُحَصِّلُونَ أَنَّهُ ليس في الشرع قاطع ذَلِكَ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا، وَالظَّوَاهِرُ مُشْعِرَةٌ بِالْوُقُوعِ.
وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ تَجْوِيزَ الصَّغَائِرِ وَوُقُوعَهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ3 جماعة مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ. قَالُوا وَلَا بُدَّ مِنْ تَنْبِيهِهِمْ عَلَيْهِ إِمَّا فِي الْحَالِ عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ، أَوْ قَبْلَ وَفَاتِهِمْ عَلَى رَأْيِ بَعْضِهِمْ.
وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ4 فِي "الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ"5 عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَابْنِ فُورَكَ، أَنَّهُمْ
__________
1 هو محمد بن عبد الرحيم، أبو عبد الله، صفي الدين، الشافعي، المتكلم على مذهب الأشعري توفي سنة خمس عشرة وسبعمائة هجرية، من آثاره: "الزبدة" "الفائق"، في علم الكلام، و"النهاية"، "الرسالة السيفية" في أصول الفقه، ا. هـ. شذرات الذهب "6/ 37" كشف الظنون "2/ 1217".
2 هو عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن، الشيخ الإمام، المفسر العلامة، أبو نصر، اعتنى به أبوه، وأسمعه وأقرأه حتى برع في العربية والنظم والنثر، توفي سنة أربع عشرة وخمسمائة هجرية. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/ 424"، هدية العارفين "1/ 559"، شذرات الذهب "4/ 45".
3 هو محمد بن جرير، من أهل آمل طبرستان، ولد سنة أربع وعشرين وأربعمائة هـ، توفي سنة عشر وثلاثمائة هجرية، في بغداد، وهو فقيه، مفسر، محدث، أصولي من آثاره: "اختلاف الفقهاء" "تاريخ الأمم والملوك" "تهذيب الآثار". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 267"، معجم المؤلفين "9/ 147"، الأعلام "6/ 69".
4 هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، عالم الأندلس في عصره، الإمام الأوحد ذو الفنون والمعارف، توفي مشردًا عن بلده من قبل الدولة، سنة ست وخمسين وأربعمائة هـ، من آثاره: "المحلى" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 184"، شذرات الذهب "3/ 29"، الأعلام "4/ 254".
5 واسمه: "الفصل بين أهل الأهواء والنحل" قال عنه التاج السبكي: هذا من أشر الكتب، وما برح المحققون من أصحابنا ينهون عن النظر فيه لما فيه من الازدراء بأهل السنة، وقد أفرط فيه في التعصب على أبي الحسن الأشعري حتى صرح بنسبته إلى البدعة ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1820".(1/99)
مَعْصُومُونَ عَنِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ جَمِيعًا، وَقَالَ: إِنَّهُ الذين نَدِينُ اللَّهَ بِهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ1 فِي "زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ"2 عَنِ الْمُحَقِّقِينَ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ3: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا يَعْنِي الشَّافِعِيَّةَ، وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَيُحْمَلُ على ترك الأول.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ: يُحْمَلُ عَلَى مَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ بِتَأْوِيلٍ.
وَاخْتَارَ الرَّازِيُّ الْعِصْمَةَ عَمْدًا وَجَوَّزَهَا سَهْوًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْعِصْمَةِ فَقِيلَ: هُوَ أَنْ لَا يُمَكَّنَ الْمَعْصُومُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْمَعْصِيَةِ.
وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَخْتَصَّ فِي نَفْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ بِخَاصِّيَّةٍ تَقْتَضِي امْتِنَاعَ إِقْدَامِهِ عَلَيْهَا.
وَقِيلَ: إِنَّهَا الْقُدْرَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ مَنَعَهُمْ مِنْهَا بِأَلْطَافِهِ بِهِمْ فَصَرَفَ دَوَاعِيَهُمْ عَنْهَا.
وَقِيلَ: إِنَّهَا "تَهْيِئَةُ"* الْعَبْدِ لِلْمُوَافَقَةِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى خَلْقِ الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ طَاعَةٍ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَنْسُوبًا إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَوَّلُهُمْ أَبُونَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنَّ الله يقول: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّه فَغَوَىْ} 4.
قُلْتُ: قَدْ قَدَّمْنَا5 وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى امْتِنَاعِ الْكَبَائِرِ مِنْهُمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَهَكَذَا يُحْمَلُ مَا وَقَعَ مِنْ إبراهيم عليه السلام من
__________
* من "أ": بتهيئة.
__________
1 هو يحيى بن شرف، النووي الدمشقي، الشافعي، محيي الدين، أبو زكرياء، ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة هـ، في قرية نوى جنوب سورية، وتوفي فيها سنة ست وسبعين وستمائة هـ، من آثاره: "شرح المهذب" "شرح صحيح مسلم" "رياض الصالحين" "الأذكار" وغيرها. ا. هـ. معجم المؤلفين "13/ 202"، الأعلام "8/ 149"، شذرات الذهب "5/ 354".
2 في فروع الشافعية، وهو عبارة عن مختصر لشرح "الوجيز" للرافعي واسمه "روضة الطالبين وعمدة المفتين" فاعتنى به العلماء، فشرحوه، واختصروه ونظموه، ووضعت عليه زيادات، منها: زيادات الإمام السيوطي. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 929".
3 هو حسين بن محمد بن أحمد، أبو علي، العلامة، شيخ الشافعية، بخراسان، تفقه عليه خلق كثير، منهم: إمام الحرمين، ومحيي السنة، توفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة. من آثاره: "التعليقة الكبرى" "الفتاوى" وغيرها. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 260" شذرات الذهب "3/ 310"، إيضاح المكنون "2/ 188".
4 جزء من الآية "121" من سورة طه.
5 انظر صفحة: "98".(1/100)
قوله: {إِنِّي سَقِيم} 1 وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُم} 2 وَقَوْلِهِ فِي سَارَةَ: "إِنَّهَا أُخْتُهُ"3 عَلَى مَا يُخْرِجُهُ عَنْ مَحْضِ الْكَذِبِ، لِوُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَهَكَذَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْه} 4 لَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَهَكَذَا مَا فَعَلَهُ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ بِأَخِيهِمْ يُوسُفَ5، وَهَكَذَا يُحْمَلُ مَا وَرَدَ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: "كَانَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتُوبُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ" 6 عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ رُجُوعُهُ مِنْ حَالَةٍ إِلَى أَرْفَعَ مِنْهَا.
وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَلَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، قِيلَ إِجْمَاعًا، وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بِشْرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي" 7 قَالَ قَوْمٌ: وَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ بَلْ يُنَبَّهُونَ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى امْتِنَاعِ النِّسْيَانِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ8 فِي "الْبَحْرِ": وَأَمَّا الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ فَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الِامْتِنَاعِ. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى امْتِنَاعِ، السَّهْوِ والنسيان في الأقوال البلاغية، وخص
__________
1 جزء من الآية "89" من سورة الصافات.
2 جزء من الآية "63" من سورة الأنبياء.
3 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} "3358"، مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل إبراهيم عيه السلام "2371". وأبو داود، كتاب الطلاق، باب في الرجل يقول لامرأته "يا أختي" "2212". والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنبياء عليهم السلام "3166". وأحمد في مسنده "2/ 403". وابن حبان في صحيحه "5737". وقال الترمذي: حسن صحيح.
4 جزء من الآية "87" من سورة الأنبياء.
5 وذلك من إلقائهم له في الجب، وبيعهم إياه بثمن بخس، كما ورد في سورة يوسف.
6 أخرجه مسلم من حديث الأغر المزني، كتاب الذكر، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه "2702". وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في الاستغفار "1515"، والطبراني في الكبير "1/ 301 "883". والإمام أحمد في المسند "4/ 260". والبغوي "1288". وابن حبان في صحيحه "931".
7 أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مطولًا في كتاب الصلاة باب التوجه نحو القبلة حيث كان "401". ومسلم في المساجد باب السهو في الصلاة "572". وأبو داود في الصلاة باب: إذا صلى خمسًا "1020". والبيهقي في سننه في الصلاة باب سجود السهو في الزيادة في الصلاة بعد التسليم "2/ 335". وأحمد في مسنده "1/ 379" وابن ماجه في الإقامة باب ما جاء فيمن شك في صلاته فتحرى الصواب "1212".
8 هو محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، أبو عبد الله، بدر الدين، فقيه أصولي شافعي، ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة هجرية، وتوفي سنة أربع وتسعين وسبعمائة هجرية، من آثاره: "البحر المحيط" "الإجابة لإيراد ما استدركه عائشة على الصحابة"، "لقطة العجلان" وغيرها. ا. هـ. شذرات الذهب "6/ 335" الأعلام "6/ 60".(1/101)
الْخِلَافَ بِالْأَفْعَالِ، وَأَنَّ الْأَكْثَرِينَ ذَهَبُوا إِلَى الْجَوَازِ، وَتَأَوَّلَ الْمَانِعُونَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي سَهْوِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَنَّهُ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَاطِلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: "أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي"، وَقَدِ اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْمُجَوِّزِينَ لِلسَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ اتِّصَالُ التَّنْبِيهِ بِالْوَاقِعَةِ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَجُوزُ التَّأْخِيرُ.
وَأَمَّا قَبْلَ الرِّسَالَةِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنَ الأنبياء عقلا ذَنْبٌ كَبِيرٌ وَلَا صَغِيرٌ.
وَقَالَتِ الرَّوَافِضُ1: يَمْتَنِعُ قَبْلَ الرِّسَالَةِ مِنْهُمْ كُلُّ ذَنْبٍ.
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: يَمْتَنِعُ الْكَبَائِرُ دُونَ الصَّغَائِرِ، وَاسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِالْكَبَائِرِ بِأَنَّ وُقُوعَ الذَّنْبِ مِنْهُمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مُنَفِّرٌ عَنْهُمْ عَنْ* أَنْ يُرْسِلَهُمُ اللَّهُ فَيُخِلَّ بِالْحِكْمَةِ مِنْ بَعْثِهِمْ. وَذَلِكَ قَبِيحٌ عَقْلًا.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الكلام.
__________
* في "أ": عند.
__________
1 وهم عشرون فرقة منها ثلاث زيدية، وفرقتان من الكيسانية، وخمس عشرة من الإمامية، أما الروافض السبئية فقد أظهروا بدعتهم في زمن سيدنا علي كرم الله وجهه فقالوا لعلي: أنت الإله. فأحرق قومًا منهم، ونفى زعميهم ابن سبأ، ثم افترقت الرافضة بعد ذلك أربعة أصناف زيدية، إمامية، كيسانية، غلاة، وسموا الرافضة لرفضهم الاعتراف أولًا بأبي بكر وعمر ثم لرفضهم بعد ذلك ما اتفق عليه الإجماع ا. هـ. الفصل بين الملل والأهواء والنحل "1/ 189".(1/102)
الفصل الرَّابِعُ: فِي أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
...
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اعْلَمْ أَنَّ أَفْعَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْقَسِمُ إِلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ:
مَا كَانَ مِنْ هَوَاجِسِ1 النَّفْسِ وَالْحَرَكَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، كَتَصَرُّفِ الْأَعْضَاءِ وَحَرَكَاتِ الْجَسَدِ فَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ بِاتِّبَاعٍ، وَلَا نَهْيٌ عَنْ مُخَالَفَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَلَكِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مُبَاحٌ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ وَوَضَحَ فِيهِ أَمْرُ الْجِبِلَّةِ2، كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَيْسَ فِيهِ تَأَسٍّ، وَلَا بِهِ اقْتِدَاءٌ ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور.
__________
1 جمع هاجس وهو الخاطر يقال: هجس في صدري شيء، يهجس، أي: حدس ا. هـ. الصحاح مادة هجس.
2 الجبلة: الخلقة، والجمع جبلات. ا. هـ. الصحاح مادة جبل.(1/102)
وَنَقْلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَكَذَا حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمَنْخُولِ"1 وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَتَبَّعُ مِثْلَ هَذَا وَيَقْتَدِي بِهِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُ مَنْقُولٌ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
مَا احْتَمَلَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْجِبِلَّةِ إِلَى التَّشْرِيعِ بِمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ على وجه معروف وهيئة مخصصة"* كالأجل وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ وَالنَّوْمِ، فَهَذَا الْقِسْمُ دُونَ مَا ظَهَرَ فِيهِ أَمْرُ الْقُرْبَةِ، وَفَوْقَ مَا ظَهَرَ فِيهِ أَمَرُ الْجِبِلَّةِ عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْفِعْلِ. وَأَمَّا إِذَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِرْشَادُ إِلَى بَعْضِ الْهَيْئَاتِ كَمَا وَرَدَ عَنْهُ الْإِرْشَادُ إِلَى هَيْئَةٍ مِنْ هَيْئَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ وَالنَّوْمِ فَهَذَا خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ دَاخِلٌ فِيمَا سَيَأْتِي.
وَفِي هَذَا الْقِسْمِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ ومن معه، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ عَدَمُ التَّشْرِيعِ، أَوْ إِلَى الظَّاهِرِ، وَهُوَ التَّشْرِيعُ وَالرَّاجِحُ الثَّانِي. وَقَدْ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ فَيَكُونُ مَنْدُوبًا.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
مَا عُلِمَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْوِصَالِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ فَهُوَ خَاصٌّ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَتَوَقَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُمْنَعُ التَّأَسِّي بِهِ أَمْ لَا، وَقَالَ: لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ فِي أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا النَّوْعِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ عِنْدَنَا مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَهَذَا مَحَلُّ التَّوَقُّفِ.
وَفَرَّقَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ الْمَقَدِّسِيُّ2 فِي "كِتَابِهِ" فِي الْأَفْعَالِ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْوَاجِبِ. فَقَالَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيمَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَيُسْتَحَبُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ كَالضُّحَى وَالْوَتْرِ، وَكَذَا فِيمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ كَأَكْلِ ذِي الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، وَطَلَاقِ مَنْ تُكْرَهُ صُحْبَتُهُ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِيمَا صُرِّحَ لَنَا بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ إِلَّا بِشَرْعٍ يَخُصُّنَا، فَإِذَا قَالَ مَثَلًا: هَذَا وَاجِبٌ عَلَيَّ مَنْدُوبٌ لَكُمْ كَانَ فِعْلُنَا لِذَلِكَ الْفِعْلِ لِكَوْنِهِ أَرْشَدَنَا إِلَى كَوْنِهِ مندوبًا لنا لا
__________
* في "أ": وجه مخصوص.
__________
1 واسمه: "المنخول من تعلقيات الأصول" لأبي حامد الغزالي، وهو من أوائل الكتب التي صنفها، رآه أبو المعالي الجويني فقال: دفنتني وأنا حي فهلا صبرت الآن كتابك غطى على كتابي، وهو مطبوع ا. هـ. المنخول -المقدمة- سير أعلام النبلاء "19/ 335".
2 هو عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي، ثم الدمشقي، أبو شامة، العلامة المجتهد، شهاب الدين، أبو القاسم، وسمي بأبي شامة لشامة كبيرة كانت فوق حاجبه الأيسر، توفي سنة خمس وستين وستمائة هـ، من آثاره: "الروضتين في أخبار الدولتين النووية والصلاحية" "الضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري". وكتابه اسمه: "المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1616" شذرات الذهب "5/ 318"، الأعلام "3/ 299"، هدية العارفين "1/ 523".(1/103)
لِكَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: هَذَا مُبَاحٌ لِي أَوْ حَلَالٌ "لِي"*، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَقُولَ: هُوَ مُبَاحٌ لَنَا، أَوْ حَلَالٌ لَنَا، وَذَلِكَ كَالْوِصَالِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُوَاصِلَ.
هَذَا عَلَى فَرْضِ عَدَمِ وُرُودِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْوِصَالِ لَنَا، أَمَّا لَوْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذلك، كما يثبت أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَاصَلَ أَيَّامًا تَنْكِيلًا لِمَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنِ الْوِصَالِ"1 فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَنَا فِعْلُهُ بِهَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي وَرَدَ عَنْهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِاقْتِدَاءِ مَنِ اقْتَدَى بِهِ فِيهِ كَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَأَمَّا لَوْ قَالَ: هَذَا حَرَامٌ عَلَيَّ وَحْدِي، وَلَمْ يَقِلْ حَلَالٌ لَكُمْ فَلَا بَأْسَ بِالتَّنَزُّهِ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، أَمَّا لَوْ قَالَ: حَرَامٌ عَلَيَّ حَلَالٌ لَكُمْ، فَلَا يُشْرَعُ التَّنَزُّهُ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْحَلَالِ وَرَعٌ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ:
مَا أَبْهَمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِانْتِظَارِ الْوَحْيِ، كَعَدَمِ تَعْيِينِ نَوْعِ الْحَجِّ مَثَلًا. فَقِيلَ: يُقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَا، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "النِّهَايَةِ"2 وَهَذَا عِنْدِي هَفْوَةٌ3 ظَاهِرَةٌ. فَإِنَّ إِبْهَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْمُولٌ عَلَى انْتِظَارِ الْوَحْيِ قَطْعًا، فَلَا مَسَاغَ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
الْقِسْمُ السَّادِسُ:
مَا يَفْعَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ عُقُوبَةً لَهُ كَالتَّصَرُّفِ فِي أَمْلَاكِ غَيْرِهِ عُقُوبَةً لَهُ، فَاخْتَلَفُوا هَلْ يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ أَمْ لَا فَقِيلَ: يَجُوزُ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ هُوَ بِالْإِجْمَاعِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ السَّبَبِ. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فَإِنْ وَضَحَ لَنَا السَّبَبُ، الَّذِي فَعَلَهُ لِأَجْلِهِ كَانَ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ عِنْدَ وُجُودِ مِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرِ السَّبَبُ لَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا إِذَا فَعَلَهُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ مُتَدَاعِيَيْنِ فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى الْقَضَاءِ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا الْقَضَاءُ بِمَا قَضَى بِهِ.
الْقِسْمُ السَّابِعُ:
الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ عَمَّا سَبَقَ، فَإِنْ وَرَدَ بَيَانًا كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
ولفظه: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الوصال فقال رجل من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني"، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال. واصل بهم يومًا ثم يومًا رأوا الهلال. فقال: "لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل بهم، حين أبوا أن ينتهوا".
أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال "1103". والبخاري، كتاب الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال "1965". وذكره البغوي في المصابيح، كتاب الصوم "1411". وفي المسند الجامع برقم "13449". وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الصوم، باب الوصال "7753" أحمد في مسنده "2/ 281". ابن حبان، كتاب الصوم، باب صوم الوصال "3575" والبيهقي في سننه، كتاب الصوم، باب النهي عن الوصال في الصوم "4/ 282".
2 هو "نهاية المطلب في دراية المذهب"، لإمام الحرمين، جمعه بمكة المكرمة وأتمه في نيسابور، قال ابن النجار: إنه مشتمل على أربعين مجلدًا ثم اختصره ولخصه. واختصره ابن أبي عصرون وسماه: "صفوة المذهب من نهاية المطلب". ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1990".
3 الهفوة: الزلة، وقد هفا يهفو هفوة. ا. هـ. الصحاح مادة هفا.(1/104)
أُصَلِّي" 1 وَ"خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" 2 وَكَالْقَطْعِ3 مِنَ الْكُوعِ4 بَيَانًا لِآيَةِ السَّرِقَةِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ دَلِيلٌ فِي حَقِّنَا، وَوَاجِبٌ عَلَيْنَا، وَإِنْ وَرَدَ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ مِنْ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ، كَأَفْعَالِ الْحَجِّ وَأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ وَرَدَ ابْتِدَاءً، فَإِنْ عُلِمَتْ صِفَتُهُ فِي حَقِّهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّ أُمَّتَهُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، إِلَّا أن يدل دليل على اخْتِصَاصُهُ "بِهِ"* وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ.
وَالثَّانِي:
أَنَّ أُمَّتَهُ مِثْلُهُ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ غَيْرِهَا.
وَالثَّالِثُ:
الْوَقْفُ.
وَالرَّابِعُ:
لَا يَكُونُ شَرْعًا لَنَا إِلَّا بِدَلِيلٍ.
وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ صِفَتُهُ فِي حَقِّهِ، وظهر فيه قصد القربة فاختلفوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ
وَبِهِ قال جماعة من المعتزلة، وابن شريج، وأبو سعيد الأصطخري
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم "6008" ومسلم، كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة "674". وأبو داود، كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "589". وأحمد في مسنده "3/ 436". والنسائي، كتاب الأذان، باب اجتزاء المراء بأذان غيره "2/ 9". والبيهقي في سننه "2/ 17". وابن حبان في صحيحه "1658".
2 أخرجه مسلم، من حديث جابر كتاب الحج باب استحباب رمي حجرة العقبة يوم النحر "1297". وأبو داود، كتاب المناسك، باب التعجيل من جمع "1944". الترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء في الإفاضة من عرفات "886". النسائي، كتاب الحج، باب الأمر بالسكينة في الإفاضة من عرفة "5/ 258". وابن ماجه، كتاب الحج، باب الوقوف بجمع "3023". وأبو يعلى في مسنده "2147".
3 والحديث عن عبد الله بن عمر قال: قطع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سارقًا من المفصل. أخرجه ابن عدي في الكامل تحت ترجمة خالد بن عبد الرحمن المخزومي "3/ 38". وابن أبي شيبة في مصنفه من طريق رجاء بن حيوه مرسلًا في كتاب الحدود، باب ما قالوا من أين تقطع "6/ 528". وذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية "3/ 270" وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا موقوفًا على سيدنا عمر رضي الله عنه "6/ 528".
4 الكوع والكاع: طرف الزند الذي يلي الإبهام. ا. هـ. الصحاح مادة كوع.
5 هو الحسن بن أحمد بن يزيد، الإصطخري، أبو سعيد، الشافعي الإمام القدوة، العلامة، شيخ الإسلام، فقيه العراق، توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة هجرية. من آثاره: "كتاب أدب القضاء". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 250" شذرات الذهب "2/ 312".(1/105)
وَابْنُ خَيْرَانِ1، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ2.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ:
أَمَّا الْقُرْآنُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} 4 وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 5 وَقَوْلِهِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر} 6 وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 7.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَلِكَوْنِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِأَفْعَالِهِ. وَكَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى رِوَايَةِ مَنْ يَرْوِي لَهُمْ شَيْئًا مِنْهَا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْغُسْلِ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانِينِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"8 فَرَجَعُوا إِلَى ذَلِكَ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِكَوْنِ الِاحْتِيَاطِ يَقْتَضِي حَمْلَ الشَّيْءِ عَلَى أَعْظَمِ مَرَاتِبِهِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى:
بِمَنْعِ تناول قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول} لِلْأَفْعَالِ بِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} يدل على أنه أراد بقوله: {وَمَا ءآتَيْتُكُم} مَا أَمَرَكُمْ.
الثَّانِي:
أَنَّ الْإِتْيَانَ إِنَّمَا يَأْتِي فِي الْقَوْلِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ:
أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَابَعَةِ فِعْلُ مِثْلِ مَا فَعَلَهُ، فَلَا يَلْزَمُ وُجُوبُ فِعْلِ كُلِّ مَا فَعَلَهُ، مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ، والمفروض خلافه.
__________
1 هو الحسين بن صالح بن خيران، أبو علي، الإمام شيخ الشافعية، البغدادي، عرض عليه القضاء فلم يتقلده، توفي سنة عشرين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 58""، شذرات الذهب "2/ 287".
2 هو الحسن بن الحسين بن أبي هريرة، أبو علي، البغدادي، القاضي، شيخ الشافعية، انتهت إليه رياسة المذهب، أخذ عنه الطبري والدراقطني، توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 430"، شذرات الذهب "2/ 370".
3 جزء من الآية "7" من سورة الحشر.
4 جزء من الآية "31" من سورة آل عمران.
5 جزء من الآية "63" من سورة النور.
6 جزء من الآية "21" من سورة الأحزاب.
7 جزء من الآية "59" من سورة النساء.
8 ولفظ الحديث عن عائشة "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاغتسلنا" رواه الترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغسل "108" وقال حسن صحيح. وفي الباب عن أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان برقم "608"، أحمد في المسند "6/ 161". المزني في مختصره، باب الماء من الماء "495"، وقال في التلخيص لابن حجر "1/ 134" وصححه ابن حبان وابن القطان.(1/106)
وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ:
أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَمْرِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ:
أَنَّ التَّأَسِّيَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ، حَتَّى لَوْ فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ التَّطَوُّعِ وَفَعَلْنَاهُ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ لَمْ نَكُنْ مُتَأَسِّينَ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ وُجُوبُ مَا فَعَلَهُ إِلَّا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى وُجُوبِهِ، فَلَوْ فَعَلْنَا الْفِعْلَ الَّذِي فَعَلَهُ مُجَرَّدًا عَنْ دَلِيلِ الْوُجُوبِ، مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا لَكَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي التَّأَسِّي.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ:
أَنَّ الطَّاعَةَ هي الإتيان بالمأمور أو المراد عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وجوب أفعاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَعْوَى إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ:
فَهُمْ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى كُلِّ فِعْلٍ يَبْلُغُهُمْ، بَلْ أَجْمَعُوا عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْأَفْعَالِ عَلَى صِفَتِهَا الَّتِي هِيَ ثَابِتَةٌ لَهَا مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَالْوُجُوبُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لمذكورة مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمَعْقُولِ:
فَالِاحْتِيَاطُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذَا خَلَا عَنِ الْغَرَرِ قَطْعًا، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ حَرَامًا عَلَى الْأُمَّةِ وَإِذَا احْتَمَلَ لَمْ يَكُنِ الْمَصِيرُ إِلَى الْوُجُوبِ احْتِيَاطًا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِلنَّدْبِ
وَقَدْ حَكَاهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ" عَنِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ: وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ نُسِبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ"1: أَنَّهُ حَكَاهُ عَنِ الْقَفَّالِ2 وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ3 وَاسْتَدَلُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.
أما القرآن فقوله تعالى: {لقَدْ كَانَتْ لَكُم في رسول اللهْ أُسْوَةٌ حَسَنَة} 4، ولو كان التأسي
__________
1 واسمه "البحر المحيط في الأصول" للإمام الزركشي. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 226".
2 هو محمد بن علي بن إسماعيل، أبو بكر، الإمام العلامة، الفقيه، الأصولي، اللغوي عالم خراسان الشافعي، القفال، الكبير، توفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "دلائل النبوة" "محاسن الشريعة". ا. هـ. سير أعلام البنلاء "16/ 283"، شذرات الذهب "3/ 51" هدية العارفين "2/ 48".
3 هو أحمد بن بشر بن عامر، المروزي، أبو حامد، شيخ الشافعية، مفتي البصرة، توفي سنة اثنتين وستين وثلاثمائة هـ، من أثاره: "الجامع" في المذهب "شرح مختصر المزني" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 166"، شذرات الذهب "3/ 40"، هدية العارفين "1/ 66".
4 جزء من الآية "21" من سورة الأحزاب.(1/107)
وَاجِبًا لَقَالَ عَلَيْكُمْ، فَلَمَّا قَالَ {لَكُمْ} دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ وَلَمَّا "أَثْبَتَ"* الْأُسْوَةَ دَلَّ عَلَى رُجْحَانِ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، وَإِنْ يَكُنْ مُبَاحًا.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ أَنَّا رَأَيْنَا أَهَلَ الْأَعْصَارِ مُتَطَابِقِينَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ النَّدْبَ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُفِيدُهُ جَانِبَ الرُّجْحَانِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ فِعْلَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى الْعَدَمِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ دُونَهُ، وَالْأَوَّلُ مُتَعَيَّنٌ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ مُسْتَلْزِمَانِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ عَبَثًا وَهُوَ بَاطِلٌ وَإِذَا تَعَيَّنَ أَنَّهُ رَاجِحٌ عَلَى الْعَدَمِ فَالرَّاجِحُ عَلَى الْعَدَمِ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، وَالْمُتَيَقَّنُ هُوَ النَّدْبُ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ: بِأَنَّ التَّأَسِّيَ هُوَ إِيقَاعُ الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ فَلَوْ فَعَلَهُ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا وَفَعَلْنَاهُ مَنْدُوبًا لَمَا حَصَلَ التَّأَسِّي. وَأُجِيبَ عَنِ الْإِجْمَاعِ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ وَجَدُوا مَعَ الْفِعْلِ قَرَائِنَ أُخَرَ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْمَعْقُولِ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ عَبَثٌ؛ لِأَنَّ الْعَبَثَ هُوَ الْخَالِي عَنِ الْغَرَضِ، فَإِذَا حَصَلَ فِي الْمُبَاحِ مَنْفَعَةٌ نَاجِزَةٌ لَمْ يَكُنْ عَبَثًا "بَلْ"** مِنْ حَيْثُ حُصُولِ النَّفْعِ بِهِ خَرَجَ عَنِ الْعَبَثِ، ثُمَّ حُصُولُ الْغَرَضِ فِي التأسي بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُتَابَعَةِ أَفْعَالِهِ بَيِّنٌ، فَلَا يُعَدُّ مِنْ أَقْسَامِ الْعَبَثِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ1 وَلَمْ يَحْكِ الْجُوَيْنِيُّ قَوْلَ الْإِبَاحَةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْقُرْبَةِ لَا يُجَامِعُ اسْتِوَاءَ الطَّرَفَيْنِ لَكِنْ حَكَاهُ غَيْرُهُ كَمَا قَدَّمْنَا عَنِ الرَّازِيِّ وَكَذَلِكَ حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ2 وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ حَمْلًا عَلَى أَقَلِّ الْأَحْوَالِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْإِبَاحَةِ: بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي الْإِثْمَ لِعِصْمَتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِمَّا مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ وَاجِبًا. وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ مُشْتَرِكَةٌ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ. فَأَمَّا رُجْحَانُ الْفِعْلِ فلم يثبت على وجوده دليل، فثبت
__________
* في "أ": أتت.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو الإمام مالك بن أنس بن مالك، شيخ الإسلام، حجة الأمة، إمام دار الهجرة، ولد سنة ثلاث وتسعين هجرية، وتوفي سنة تسع وتسعين ومائة هجرية، ودفن في البقيع. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 48"، تذكرة الحفاظ "1/ 208"، شذرات الذهب "1/ 289".
2 هو منصور بن محمد بن عبد الجبار، التميمي، السمعاني المروزي، شيخ الشافعية، ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة هـ، وتوفي سنة تسع وثمانين وأربعمائة هـ، من آثاره: كتاب "الاصطلام" وكتاب "البرهان" و"الأمالي". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/ 114" شذرات الذهب "3/ 393"، هدية العارفين "2/ 473".(1/108)
بِهَذَا أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي فِعْلِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا رُجْحَانَ فِي فِعْلِهِ، فَكَانَ مُبَاحًا وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ عِنْدَهُ وَعَدَمُ مُجَاوَزَتِهِ إِلَى مَا لَيْسَ بِمُتَيَقَّنٍ. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ كَمَا عَرَفْتَ هُوَ كَوْنُ ذَلِكَ الْفِعْلِ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ وَظُهُورُهَا يُنَافِي مُجَرَّدَ الْإِبَاحَةِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ لِظُهُورِهَا مَعْنًى يُعْتَدُّ بِهِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ:
الْوَقْفُ، قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهُوَ قَوْلُ الصَّيْرَفِيِّ1 وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ انْتَهَى. وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ أَيْضًا عَنِ الدَّقَاقِ2، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ3. وَحَكَاهُ فِي "اللُّمُعِ" عَنِ الصَّيْرَفِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا مَعْنًى لِلْوَقْفِ فِي الْفِعْلِ الَّذِي قَدْ ظَهَرَ فِيهِ قُصْدُ الْقُرْبَةِ، فَإِنَّ قَصْدَ الْقُرْبَةِ يُخْرِجُهُ عَنِ الْإِبَاحَةِ إِلَى مَا فَوْقَهَا، وَالْمُتَيَقَّنُ مِمَّا هُوَ فَوْقَهَا النَّدْبُ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، بَلْ كَانَ مُجَرَّدًا مُطْلَقًا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، قَالَ الْجُوَيْنِيُّ "وَهُوَ كَذَلِكَ فِي النَّقْلِ عَنْهُ، وَهُوَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ4 عَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ"* وَابْنِ خَيْرَانَ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَيِّ، وَأَكْثَرِ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو محمد بن عبد الله الصيرفي، أبو بكر، أحد المتكلمين الفقهاء من الشافعية من أهل بغداد، توفي سنة ثلاثين وثلاثمائة هجرية، كان أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي من آثاره: "كتاب الفرائض" البيان في دلائل الإعلام على أصول الأحكام".ا. هـ الأعلام "6/ 224".
2 هو محمد بن محمد بن جعفر الدقائق. أبو بكر، الفقيه، الشافعي، الأصولي، الذي ولي القضاء بكرخ ببغداد، له كتاب في الأصول، على مذهب الإمام الشافعي توفي سنة اثنتين وتسعين وثلثمائة هـ، ا. هـ تاريخ بغداد "3/ 229".
3 هو طاهر بن عبد الله بن طاهر، الطبري الشافعي، شيخ الإسلام، القاضي، فقيه، ولد سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة خمسين وأربعمئة هـ، من آثاره: "شرح مختصر المزني". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 668" شذرات الذهب "3/ 284"، هدية العارفين "1/ 429".
4 هو عبد السيد بن محمد، أبو نصر، البغدادي، الفقيه، المعروف بابن الصباغ، ولد سنة أربعمائة هـ، وتوفي سنة سبع وسبعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "الشامل" "الكامل" "تذكرة العالم والطريق السالم". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 464" هدية العارفين "1/ 573"، شذرات الذهب "3/ 355".(1/109)
وَقَالَ سَلِيمُ الرَّازِيُّ1: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِنَحْوِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ مَعَ ظُهُورِ قَصْدِ الْقُرْبَةِ.
وَيُجَابُ عَنْهُمْ بِمَا أُجِيبَ بِهِ عَنْ أُولَئِكَ بَلِ الْجَوَابُ عَنْ هَؤُلَاءِ بِتِلْكَ الْأَجْوِبَةِ أَظْهَرُ لِعَدَمِ ظُهُورِ قَصْدِ الْقُرْبَةِ فِي هَذَا الْفِعْلِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ2 وَالرَّازِيُّ فِي "الْمَعَالِمِ"3، قَالَ الْقَرَافِيُّ4: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ أَئِمَّةُ الْمَالِكِيَّةِ فِي كُتُبِهِمُ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْدُوبٌ
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي"الْبَحْرِ": وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي وَابْنُ الصَّبَّاغِ عَنِ الصَّيْرَفِيِّ وَالْقَفَّالِ الْكَبِيرِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ5: هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: هُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ فَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِقُرْبَةٍ، وَأَقَلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ هُوَ الْمَنْدُوبُ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةٍ عَلَى النَّدْبِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ فإن الإباحة الشَّيْءِ بِمَعْنَى اسْتِوَاءِ طَرَفَيْهِ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ. فَالْقَوْلُ بِهَا إِهْمَالٌ لِلْفِعْلِ الصَّادِرِ منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ تَفْرِيطٌ كَمَا أَنَّ حَمْلَ فِعْلِهِ المجرد على الوجوب إفراط الحق بين المقصر والغالي.
__________
1 هو سليم بن أيوب بن سليم، الإمام شيخ الإسلام، أبو الفتح، الرازي الشافعي، ولد سنة نيف وستين وثلاثمائة هـ، وتوفي غريقًا سنة سبع وأربعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "الإشارة في الفروع" "التقريب في الفروع" وغيرها. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 645"، هدية العارفين "1/ 409".
2 هو أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي، أبو الحسين، من كبراء الشافعية، له مصنفات في أصول الفقه وفروعه، توفي سنة تسع وخسمين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 159"، شذرات الذهب وفروعه. توفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 159، شذرات الذهب "3/ 28"، هدية العارفين "1/ 65".
3 واسمه "المعالم في أصول الفقه" للإمام فخر الدين الرازي، وعليه شروح كثيرة، منها شرح لأبي الحسين علي بن الحسين الأرموي، وللإمام فخر الدين الرازي ثلاثة كتب باسم المعالم واحد في أصول الدين، والثاني في أصول الفقه، والثالث في الكلام. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1726".
4 هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس، شهاب الدين، نسبته إلى القرافة محلة الإمام الشافعي في مصر، له مصنفات جليلة، منها: "أنوار البروق في أنواء الفروق" "الخصائص" "شرح المحصول" وغيرها كثير، توفي سنة أربع وثمانين وستمائة هـ، ا. هـ. الأعلام "1/ 94"، معجم المؤلفين "1/ 158"، كشف الظنون "1/ 186".
5 هو عبد الواحد بن إسماعيل الروياني، أبو المحاسن، الطبري الشافعي القاضي العلامة، فخر الإسلام، شيخ الشافعية، ولد سنة خمس عشرة وأربعمائة هـ، وتوفي قتيلًا سنة إحدى وخمسمائة هـ، من آثاره: "بحر المذهب" "حلية المؤمن في الفروع". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/ 260"، هدية العارفين "1/ 634"، إيضاح المكنون "2/ 130".(1/110)
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُبَاحٌ
نَقَلَهُ الدَّبُوسِيُّ فِي "التَّقْوِيمِ"1، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَاخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ" وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ2 قَرِيبًا.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْوَقْفُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ
نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ، قَالَ وَاخْتَارَهُ الدَّقَّاقُ وَأَبُو الْقَاسِمِ، بْنُ كَجِّ3 قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَكَذَا صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "شَرْحِ الْكِفَايَةِ"4، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَصَائِصِهِ كَانَ التَّوَقُّفُ مُتَعَيِّنًا، وَيُجَابُ عنهم بمنع احتماله للإباحة لما قدمنا5، منع احْتِمَالِ الْخُصُوصِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّشْرِيعِ، مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَحِينَئِذٍ فَلَا وَجْهَ لِلتَّوَقُّفِ وَالْعَجَبُ مِنِ اخْتِيَارِ مثل الغزالي والرازي له.
__________
1 واسمه "تقويم الأدلة في الأصول" للقاضي الإمام أبي زيد، عبد الله "وقيل: عبيد الله" بن عمر الدبوسي، مجلد واحد، أوله الحمد لله رب العالمين وشرحه فخر الإسلام البزدوي. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 467".
2 انظر صفحة: "109".
3 هو يوسف بن أحمد بن كج الدينوري، أبو القاسم، القاضي العلامة، شيخ الشافعية، توفي سنة خمس وأربع مائة هـ، من آثاره: "التجريد". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 184"، هدية العارفين "2/ 550". شذرات الذهب "3/ 177".
4 لم أجد أحدًا ممن ترجم له، ينسب إليه شرح الكفاية، ولكن له شرح على مختصر المزني في فروع الشافعية، وله مصنفات في الأصول والجدل والخلاف أيضًا، ا. هـ. انظر صفحة "110" حيث تقدمت ترجمته هناك.
5 انظر صفحة: "109".(1/111)
الفصل الخامس: في تَعَارُضُ الْأَفْعَالِ
...
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: فِي تَعَارُضِ الْأَفْعَالِ
اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ، بحيث يكون البعث مِنْهَا نَاسِخًا لِبَعْضٍ أَوْ مُخَصِّصًا لَهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاجِبًا وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا عُمُومَ لَهُ، فَلَا يَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى التِّكْرَارِ، هَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ1 فِي كِتَابِ "الْمَحْصُولِ"2 ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
__________
1 هو محمد بن عبد الله بن محمد، أبو بكر، الإمام العلامة، الحافظ القاضي، الأندلسي الإشبيلي المالكي، ولد سنة ثمان وستين وأربعمائة هـ، من آثاره: "أحكام القرآن" "العواصم من القواصم" "عارض الأحوذي" "الأصناف" وغيرها، توفي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة هـ، سير أعلام النبلاء "20/ 197"، شذرات الذهب "4/ 141"، كشف الظنون "553"، هدية العارفين "20 90" الأعلام "6/ 230".
2 واسمه "المحصول على علم الأصول". ا. هـ. إيضاح المكنون "2/ 442".(1/111)
الْأَوَّلُ التَّخْيِيرُ.
الثَّانِي: تَقْدِيمُ الْمُتَأَخِّرِ، كَالْأَقْوَالِ إِذَا تَأَخَّرَ بَعْضُهَا.
الثَّالِثُ: حُصُولُ التَّعَارُضِ وَطَلَبُ التَّرْجِيحِ مِنْ خَارِجٍ، قَالَ: كَمَا اتُّفِقَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ صُلِّيَتْ عَلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ صِفَةً، قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ يُرَجَّحُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ وَقَدَّمَ بَعْضُهُمُ الْأَخِيرَ مِنْهَا إِذَا عُلِمَ، انْتَهَى.
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ1 أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَفْعَالِ كَالْحُكْمِ فِي الْأَقْوَالِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ2: يَجُوزُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ، وَإِنْ جُهِلَ فَالتَّرْجِيحُ وَإِلَّا فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ كَالْقَوْلَيْنِ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْإِبَاحَةِ فَلَا تَعَارُضَ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمَنْخُولِ": إِذَا نُقِلَ فِعْلٌ وَحُمِلَ عَلَى الْوُجُوبِ ثُمَّ نُقِلَ فِعْلٌ يُنَاقِضُهُ فَقَالَ الْقَاضِي3: لَا يُقْطَعُ بِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتَهَى "لِمُدَّةِ"* الْفِعْلِ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَذَهَبَ ابْنُ مُجَاهِدٍ4 إِلَى أَنَّهُ نَسْخٌ وَتَرَدَّدَ فِي الْقَوْلِ الطَّارِئِ عَلَى الْفِعْلِ وَجَزَمَ إِلْكِيَا بِعَدَمِ تَصَوُّرِ تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا عُلِمَ بِدَلِيلٍ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إِدَامَتُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بِأَنَّهُ يَكُونُ مَا بَعْدَهُ نَاسِخًا لَهُ، قَالَ: وَعَلَى مِثْلِهِ بَنَى الشَّافِعِيُّ مَذْهَبَهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَعَارُضُ الْأَفْعَالِ، فَإِنَّهُ لَا صِيَغَ لَهَا يُمْكِنُ النَّظَرُ فِيهَا وَالْحُكْمُ عَلَيْهَا، بَلْ هِيَ مُجَرَّدُ أَكْوَانٍ مُتَغَايِرَةٍ وَاقِعَةٍ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَقَعْ بَيَانَاتٌ لِلْأَقْوَالِ، أَمَّا إِذَا وَقَعَتْ بَيَانَاتٌ لِلْأَقْوَالِ فَقَدْ تَتَعَارَضُ فِي الصُّورَةِ وَلَكِنَّ التَّعَارُضَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلى المبينات من
__________
* في "أ": مدة.
__________
1 هو محمد بن أحمد بن رشد المالكي، أبو الوليد، قاضي الجماعة بقرطبة، توفي سنة عشرين وخمسمائة هـ، وكان من أوعية العلم، وله تصانيف مشهورة. منها: "حجب المواريث" "المقدمات" ا. هـ. شذرات الذهب "4/ 62"، معجم المؤلفين "8/ 228"، سير أعلام النبلاء "19/ 501"، هدية العارفين "2/ 85".
2 هو محمد بن أحمد بن أبي بكر: الأنصاري الخزرجي الأندلسي، أبوعبد الله، من كبار المفسرين، توفي سنة إحدى وسبعين وستمائة هـ، من آثاره: "الجامع لأحكام القرآن" "التذكرة بأحوال الموتى والآخرة". ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 335"، كشف الظنون "1/ 534"، الأعلام "5/ 322"، معجم المؤلفين "8/ 239".
3 ستأتي ترجمته في الصفحة "119" حيث صرح به هناك.
4 هو محمد بن أحمد بن محمد، أبو عبد الله، الأستاذ، ابن مجاهد، الطائي البصري، توفي سنة سبعين وثلاثمائة هـ، وله من التصانيف الكثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 305"، هدية العارفين "2/ 49".(1/112)
الْأَقْوَالِ، لَا إِلَى بَيَانِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" 1 فَإِنَّ آخِرَ الْفِعْلَيْنِ يَنْسَخُ الْأَوَّلَ كَآخِرِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ بِمَثَابَةِ الْقَوْلِ قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِيمَا إِذَا نقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَانِ مُؤَرَّخَانِ مُخْتَلِفَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ التَّمَسُّكُ بِآخِرِهِمَا، وَاعْتِقَادُ كَوْنِهِ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، قَالَ: وَقَدْ ظَهَرَ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ إِلَى هَذَا، ثُمَّ ذَكَرَ تَرْجِيحَهُ لِلْمُتَأَخِّرِ مِنْ صِفَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ.
وَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذَا عَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيَانًا كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى اخْتِلَافِ صِفَاتِهَا وَاقِعَةٌ بَيَانًا، وَهَكَذَا يَنْبَغِي حَمْلُ مَا نَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ2 عَنِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِ من الأفعال ناسخ على ما ذكرنا.
__________
1 تقدم تخريجه في الصفحة: "105".
2 هو محمد بن علي بن عمر، أبو عبد الله، الشيخ الإمام العلامة، المازري المالكي، توفي سنة ست وثلاثين وخمس مائة هـ, من آثاره: "المعلم بفوائد شرح مسلم" "إيضاح المحصول" "شرح التلقين". ا. هـ. سير أعلام البنلاء "20/ 104"، هدية العارفين "2/ 88" ذيل تذكرة الحفاظ لابن فهد المكي "72-73".(1/113)
الفصل السادس: في حكم التعارض بين القول والفعل
...
البحث السادس: في حكم التعارض بين الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ
إِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ قَوْلِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله وفيه صور.
وبين ذلك: أن يَنْقَسِمُ أَوْلًا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ.
ثَانِيهَا: أَنْ يعلم تقدم الفعل على القول.
ثالثهما: أَنْ يُجْهَلَ التَّارِيخُ.
وَعَلَى الْأَوَّلَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتَعَقَّبَ الثَّانِي الْأَوَّلَ، بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ أَوْ يَتَرَاخَى أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَهَذَانَ قِسْمَانِ إِلَى الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَكُونُ الْجَمِيعُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ.
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ القول عامًا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ، أَوْ خَاصًّا بِهِ، أَوْ خَاصًّا بِأُمَّتِهِ فَتَكُونُ الْأَقْسَامُ ثَمَانِيَةً:
ثُمَّ الْفِعْلُ إِمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَكْرَارِهِ فِي حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوُجُوبِ تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ، أَوْ لَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى التَّكْرَارِ دُونَ التَّأَسِّي، أَوْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّأَسِّي دُونَ التَّكْرَارِ. فَإِذَا ضُرِبَتِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ، وَهِيَ الَّتِي يُعْلَمُ فِيهَا تَعَقُّبُ الْفِعْلِ لِلْقَوْلِ وَتَرَاخِيهِ عَنْهُ وَتَعَقُّبُ الْقَوْلِ لِلْفِعْلِ وَتَرَاخِيهِ عَنْهُ، فِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَنْقَسِمُ إِلَيْهَا الْقَوْلُ، مِنْ كَوْنِهِ يَعُمُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/113)
وَأُمَّتَهُ، أَوْ يَخُصُّهُ، أَوْ يَخُصُّ أُمَّتَهُ، حَصَلَ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ قِسْمًا، نَضْرِبُهَا فِي أَقْسَامِ الْفِعْلِ الْأَرْبَعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّكْرَارِ وَالتَّأَسِّي، أَوْ عَدَمِهِمَا أَوْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَيَحْصُلُ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ قِسْمًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَقْسَامَ تَنْتَهِي إِلَى سِتِّينَ قِسْمًا وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي السُّنَّةِ فَلْنَتَكَلَّمْ هَاهُنَا عَلَى مَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فِيهَا وَهِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِسْمًا:
الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مُخْتَصًّا بِهِ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ دَلِيلٍ عَلَى التَّكْرَارِ وَالتَّأَسِّي، وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَفْعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلًا ثم يقول بعد: لَا يَجُوزُ لِي مِثْلُ هَذَا الْفِعْلِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي هذا الوقت لا تعلق به بِالْفِعْلِ فِي الْمَاضِي، إِذِ الْحُكْمُ يَخْتَصُّ بِمَا بعده ولا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِذْ لَا حُكْمَ لِلْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ عَدَمُ التَّكْرَارِ لَهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
أَنْ يَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَا يَجُوزُ لِي الْفِعْلُ فِي وَقْتِ كَذَا ثُمَّ يَفْعَلُهُ فِيهِ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْقَوْلِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ خَاصًّا بِهِ، وَيُجْهَلُ التَّارِيخُ فَلَا تَعَارُضَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ وَأَمَّا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِيهِ خِلَافٌ وَقَدْ رُجِّحَ الْوَقْفُ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مُخْتَصًّا بِالْأُمَّةِ وَحِينَئِذٍ فَلَا تَعَارُضَ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ:
أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا لَهُ وَلِلْأُمَّةِ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ عَلَى تَقْدِيرِ تَأَخُّرِهِ مُخَصَّصًا لَهُ مِنْ عُمُومِ الْقَوْلِ، وَذَلِكَ كَنَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ1 ثُمَّ صَلَاتِهِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا قَضَاءً لِسُنَّةِ الظُّهْرِ2، وَمُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِمَا3 وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِصَاصِ الْفِعْلِ به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهب الجمهور، قالوا:
__________
1 أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد، كتاب مواقيت الصلاة، باب لا يتحر الصلاة قبل غروب الشمس "586"، مسلم، كتاب صلاة المسافر، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها "827". النسائي، كتاب المواقيت، باب النهي عن الصلاة بعد العصر "566" "1/ 278". والإمام أحمد "3/ 95". والنسائي في السنن الكبرى "390". وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب النهي عن الصلاة بعد الفجر. وبعد العصر "1249".
2 أخرج أحمد في مسنده من حديث أم سلمة قالت: لما شغل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الركعتين بعد الظهر صلاهما بعد العصر "6/ 306". وابن حبان في صحيحه برقم "1574". الطبراني في المعجم برقم "584"، "23/ 273" وعبد الرزاق في مصنفه في كتاب الصلاة، باب الساعة التي يكره فيها الصلاة. برقم "3970".
والنسائي "1/ 282" من كتاب المواقيت، باب الرخصة في الصلاة بعد العصر برقم "578". والبيهقي في السنن، كتاب الصلاة، باب ذكر البيان أن هذا النهي مخصوص ببعض الصلاة دون البعض وأنه يجوز في هذه الساعات كل صلاة لها سبب "2/ 457".
3 أخرج البخاري "عن الأسود ومسروق قالا: نشهد على عائشة أنها قالت: ما من يوم كان يأتي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا صلى بعد العصر ركعتين"، كتاب مواقيت الصلاة، باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها برهم "593"، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي ينهى عن الصلاة فيها "835"، والنسائي، كتاب المواقيت، باب الرخصة في الصلاة بعد العصر "573" "1/ 281"، وابن حبان في صحيحه برقم "1570" أحمد في مسنده "6/ 134"، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة بعد العصر "1279".(1/114)
وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ أَوْ تَأَخَّرَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ1: إِنْ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ دَلَّ عَلَى نَسْخِهِ الْقَوْلُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِدُخُولِ الْمُخَاطَبِ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْقَوْلُ شَامِلًا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ، كَأَنْ يَقُولَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ، أَوْ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ، أَوْ لِمُؤْمِنٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ، كَأَنْ يَقُولَ: لَا يَحِلُّ لِي وَلَا لَكُمْ، فَيَكُونَ الْفِعْلُ نَاسِخًا لِلْقَوْلِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِي حَقِّنَا فَلَا تَعَارُضَ.
الْقِسْمُ السَّادِسُ:
أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَكْرَارِ الْفِعْلِ وَعَلَى وُجُوبِ التَّأَسِّي فِيهِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ خَاصًّا بِهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا مُعَارَضَةَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا فِي حَقِّهِ فَالْمُتَأَخِّرُ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ نَاسِخٌ، فَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ، فَقِيلَ: يُؤْخَذُ بِالْقَوْلِ فِي حَقِّهِ، وَقِيلَ: بِالْفِعْلِ، وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ.
الْقِسْمُ السَّابِعُ:
أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ، مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ التَّأَسِّي وَالتَّكْرَارِ فِي الْفِعْلِ، فَلَا تَعَارُضَ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، فَالْمُتَأَخِّرُ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ نَاسِخٌ، وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ، فَقِيلَ: يُعْمَلُ بِالْفِعْلِ وَقِيلَ: بِالْقَوْلِ وَهُوَ الرَّاجِحُ؛ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْفِعْلِ، وَأَيْضًا هَذَا الْقَوْلُ "الْخَاصُّ"* أَخَصُّ مِنَ الدَّلِيلِ الْعَامِّ الدَّالِّ عَلَى التَّأَسِّي، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَلَمْ يَأْتِ مَنْ قَالَ بِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ بِدَلِيلٍ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ.
الْقِسْمُ الثَّامِنُ:
أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا لَهُ وَلِلْأُمَّةِ، مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى التِّكْرَارِ وَالتَّأَسِّي، فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ فِي حَقِّنَا، وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ، فَالرَّاجِحُ تَقَدُّمُ الْقَوْلِ لِمَا تَقَدَّمَ.
الْقِسْمُ التَّاسِعُ:
أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى التَّكْرَارِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ التَّأَسِّي بِهِ، وَيَكُونَ الْقَوْلُ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا تَعَارُضَ أَصْلًا لِعَدَمِ التَّوَارُدِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ.
الْقِسْمُ الْعَاشِرُ:
أَنْ يَكُونَ خاصًا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ التَّأَسِّي بِهِ فَلَا تَعَارُضَ أَيْضًا.
الْقِسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا لَهُ وَلِلْأُمَّةِ، مَعَ عَدَمِ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ فِي
__________
* في "أ": الخاص بأمته.
__________
1 هو عبد القاهر بن طاهر، الأستاذ أبو منصور البغدادي، أحد أعلام الشافعية، توفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة هـ، وله مصنفات في النظر والتعليقات، منها: "بلوغ المدى في أصول الهدى" "تأويل متشابه الأخبار" التحصيل في الأصول". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 572"، هدية العارفين "1/ 606"، كشف الظنون "1/ 254".(1/115)
الْفِعْلِ، فَيَكُونَ الْفِعْلُ مُخَصَّصًا لَهُ مِنَ الْعُمُومِ، وَلَا تَعَارُضَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَّةِ لِعَدَمِ وُجُودِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ، وَأَمَّا إِذَا جُهِلَ التَّارِيخُ، فَالْخِلَافُ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ1 فِي تَرْجِيحِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ، أَوِ الْعَكْسِ، أَوِ الْوَقْفِ.
الْقِسْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ:
إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى التَّأَسِّي دُونَ التكرار أو يَكُونُ الْقَوْلُ مُخَصَّصًا بِهِ فَلَا تَعَارُضَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ وَأَمَّا فِي حَقِّهِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ الْقَوْلُ فَلَا تَعَارُضَ وَإِنْ تَقَدَّمَ فَالْفِعْلُ نَاسِخٌ فِي حَقِّهِ وَإِنْ جُهِلَ فَالْمَذَاهِبُ الثَّلَاثَةُ فِي حَقِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ2.
الْقِسْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ وَلَا تَعَارُضَ فِي حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى التَّأَسِّي.
الْقِسْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ:
أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا لَهُ وَلِلْأُمَّةِ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى التَّأَسِّي دُونَ التَّكْرَارِ، فَفِي حَقِّ الْأُمَّةِ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ. وَأَمَّا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ فَلَا تَعَارُضَ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فَالْفِعْلُ نَاسِخٌ.
وَمَعَ جَهْلِ التَّارِيخِ فَالرَّاجِحُ الْقَوْلُ فِي حَقِّنَا وَفِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهِ "وَلِقِيَامِ"* الدَّلِيلِ هَاهُنَا عَلَى عَدَمِ التَّكْرَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ دَلِيلٍ خَاصٍّ يَدُلُّ عَلَى التَّأَسِّي، بَلْ يَكْفِي مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُولُ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 3 أسوة حسنة، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الِائْتِمَارِ بِأَمْرِهِ وَالِانْتِهَاءِ بِنَهْيِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ دَلِيلٍ خَاصٍّ يَدُلُّ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ فِي كُلِّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ بَلْ مُجَرَّدُ فِعْلِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بِحَيْثُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُحَمَلَ عَلَى قَصْدِ التَّأَسِّي بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يُتَأَسَّى بِهِ فِيهَا كَأَفْعَالِ الْجِبِلَّةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي البحث الذي قبل هذا البحث4.
__________
* في "أ": أو لقيام.
__________
1 انظر صفحة: "114".
2 انظر صفحة: "115".
3 جزء من الآية "21" من سورة الأحزاب.
4 انظر صحفة: "102".(1/116)
الفصل السابع: في التَّقْرِيرُ
...
الْبَحْثُ السَّابِعُ: فِي التَّقْرِيرِ
وَصُورَتُهُ أَنْ يسكت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِنْكَارِ قَوْلٍ قِيلَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ وَعَلِمَ بِهِ. أَوْ "يَسْكَتَ"* عَنْ إِنْكَارِ فِعْلٍ فُعِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ وَعَلِمَ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَذَلِكَ كَأَكْلِ الْعِنَبِ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إِذَا دَلَّ التَّقْرِيرُ عَلَى انْتِفَاءِ الْحَرَجِ فَهَلْ يَخْتَصُّ بِمَنْ قَرَّرَ أَوْ يَعُمُّ سَائِرَ الْمُكَلَّفِينَ؟ فَذَهَبَ الْقَاضِي إِلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّقْرِيرَ لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ تَعُمُّ وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ.
وَقِيلَ يَعُمُّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ إِذَا ارْتَفَعَ فِي حَقِّ وَاحِدٍ ارْتَفَعَ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُوَيْنِيُّ، وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ خِطَابِ الْوَاحِدِ وَسَيَأْتِي1 أَنَّهُ يَكُونُ غَيْرُ الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ كَالْمُخَاطَبِ بِهِ وَنَقَلَ هَذَا الْقَوْلَ الْمَازِرِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ التَّقْرِيرُ مَخَصَّصًا لِعُمُومٍ سَابِقٍ أَمَّا إِذَا كَانَ مُخَصَّصًا لِعُمُومٍ سَابِقٍ فَيَكُونُ لِمَنْ قُرِّرَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّقْرِيرُ فِي شَيْءٍ قَدْ سَبَقَ تَحْرِيمُهُ فَيَكُونُ نَاسِخًا لِذَلِكَ التَّحْرِيمِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَهُوَ الْحَقُّ.
وَمِمَّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ التَّقْرِيرِ إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا أَوْ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، وَأَضَافَهُ إِلَى عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مِمَّا لَا يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَيْهِ فَلَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ التَّقْرِيرُ عَلَى الْقَوْلِ والفعل منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ كَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ. وَخَالَفَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَقَالُوا: إِنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَمَ سُقُوطِ وُجُوبِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ لِإِخْبَارِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِعِصْمَتِهِ فِي قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} 2 وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرَّرُ مُنْقَادًا لِلشَّرْعِ، فَلَا يَكُونُ تَقْرِيرُ الْكَافِرِ عَلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ دَالًّا عَلَى الْجَوَازِ.
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَيَلْحَقُ بِالْكَافِرِ الْمُنَافِقُ وَخَالَفَهُ الْمَازِرِيُّ، وَقَالَ: إِنَّا نُجْرِي عَلَى الْمُنَافِقِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَثِيرًا مَا يَسْكُتُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْمَوْعِظَةَ لَا تَنْفَعُهُمْ.
وَإِذَا وَقَعَ من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِبْشَارُ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، فَهُوَ أَقْوَى في الدلالة على الجواز.
__________
* في "أ": أو سكت.
__________
1 انظر صفحة: "324".
2 جزء من الآية "67" من سورة المائدة.(1/117)
الفصل الثامن: فيما هم بفعله ولم يفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
...
البحث الثامن: فيما هَمَّ بفعله ولم يفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَا هَمَّ بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا رُوِيَ "أَنَّهُ"* هَمَّ بِمُصَالَحَةِ الْأَحْزَابِ بِثُلُثِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ1. وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ: إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِتْيَانُ بِمَا هَمَّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا جَعَلَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ الْهَمَّ مِنْ جُمْلَةِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ، وَقَالُوا: يُقَدَّمُ الْقَوْلُ، ثُمَّ الْفِعْلُ، ثُمَّ التَّقْرِيرُ، ثُمَّ الْهَمُّ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَقْسَامِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خُطُورِ شَيْءٍ عَلَى الْبَالِ مِنْ دُونِ تَنْجِيزٍ لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا آتَانَا الرَّسُولُ، وَلَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّأَسِّي بِهِ فِيهِ وَقَدْ يكون إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا هَمَّ بِهِ لِلزَّجْرِ كَمَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُخَالِفَ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بيوتهم" 2.
__________
* في "أ": عنه بأنه.
__________
1 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة "3/ 430". وذكره ابن هشام في سيرته "3/ 176".
2 أخرج البخاري من حديث أبي هريرة بنحو من لفظه في كتاب الأذان باب وجوب صلاة الجماعة برقم "644" ومسلم في كتاب المساجد باب فضل صلاة الجماعة برقم "651". ومالك في الموطأ بنفس اللفظ المذكور في كتاب صلاة الجماعة باب فضل صلاة الجماعة "1/ 129" والنسائي في كتاب الإمامة باب التشديد في التخلف عن الجماعة برقم "847" وابن ماجه في سننه في كتاب المساجد والجماعات باب التغليظ في التخلف عن الجماعة رقم "791" وأبو داود في كتاب الصلاة باب في التشديد في ترك الجماعة برقم "548" وابن حبان في صحيحه برقم "2098". وأحمد في مسنده "2/ 244".(1/118)
الفصل التاسع: في حكم إشارته وكتابته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
...
الْبَحْثُ التَّاسِعُ: فِي حكم إشارته وكتابته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْإِشَارَةُ وَالْكِتَابَةُ، كَإِشَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ إِلَى أَيَّامِ الشَّهْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَبَضَ فِي الثَّالِثَةِ وَاحِدَةً مِنْ أَصَابِعِهِ1، وككتابته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُمَّالِهِ فِي الصَّدَقَاتِ2 وَنَحْوِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ السُّنَّةِ ومما تقوم به الحجة.
__________
1 أخرجه ابن ماجه من حديث سعد بن أبي وقاص، كتاب الصيام، باب ما جاء في الشهر تسع وعشرون برقم "1656"، أحمد في المسند "1/ 184، والنسائي، كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على إسماعيل في خبر سعد بن مالك رقم "2134" 4/ 138. وأبو يعلى في مسنده "رقم "807".
2 أخرجه ابن حبان في صحيحه: برقم "6558". والبيهقي في سننه، كتاب الزكاة، باب كيف فرض الصدقة "4/ 89" وقال ورويناه عن سالم ونافع موصولًا ومرسلًا. ومن حديث عمرو بن حزم موصولًا، وجميع ذلك يشد بعضه بعضًا. والحاكم في المستدرك في كتاب الزكاة "1/ 394". والنسائي مختصرًا في السنن كتاب القسامة "4868" 8/ 58.(1/118)
الفصل العاشر: فيما تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول في الحوادث التي لم يحكم بها
...
البحث العاشر: فيما تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول في الحوادث التي لم يحكم بها
تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّيْءِ، كَفِعْلِهِ لَهُ فِي التَّأَسِّي بِهِ فِيهِ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِذَا تَرَكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُ فِيهِ، أَلَا ترى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قُدِّمَ إِلَيْهِ الضَّبُّ فَأَمْسَكَ عَنْهُ، وَتَرَكَ أَكْلَهُ: أَمْسَكَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَتَرَكُوهُ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُمْ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ" وَأَذِنَ لَهُمْ فِي أَكْلِهِ1، وَهَكَذَا تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ جَمَاعَةً، خَشْيَةَ أَنْ تُكْتَبَ عَلَى الْأُمَّةِ2.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْبَحْثِ إِذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَحْكُمْ فِيهَا بِشَيْءٍ، هَلْ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ فِي نَظَائِرِهَا؟ "
فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى"*3: الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَجُوزُ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْلِهِمْ: تَرْكُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحُكْمِ فِي حَادِثَةٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ترك الحكم في نظائرها.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البخاري من حديث خالد بن الوليد، كتاب الذبائح، باب الضب، رقم "5537". ومسلم، كتاب صيد الذبائح، باب إباحة الضب، رقم "1945". وأبو داود كتاب الأطعمة، باب أكل الضب رقم "3794". وابن ماجه في كتاب الصيد، باب الضب "3241". والنسائي، كتاب الصيد، باب الضب "4327". وابن حبان في صحيحه "5263".
2 أخرجه البخاري: من حديث عائشة مطولًا، كتاب التهجد، باب تحريض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صلاة الليل بلفظ: فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" رقم "1129". ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح برقم "761". وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في قيام شهر رمضان "1373". والنسائي، كتاب الصلاة، باب قيام شهر رمضان "1603" "3/ 202"، وابن حبان في صحيحه "2542".
3 هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء، أبو يعلى، القاضي، شيخ الحنابلة، ولد سنة ثمانين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة هـ، كان له تصانيف كثيرة، منها: "الإيمان" "الأحكام السلطانية" "العدة" "الكفاية" "عيون المسائل" وغيرها. ا. هـ. شذرات الذهب "3/ 306"، الأعلام "6/ 99"، سير أعلام النبلاء "18/ 89".(1/119)
الفصل الحادي عشر: في الأخبار وَفِيهِ أَنْوَاعٌ
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى الْخَبَرِ لغة واصطلاحا
...
البحث الحادي عشر: في الأخبار وَفِيهِ أَنْوَاعٌ
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى الْخَبَرِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا
أَمَّا مَعْنَاهُ لُغَةً: فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَبَارِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الرَّخْوَةُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ يُثِيرُ الْفَائِدَةَ، كَمَا أَنَّ(1/119)
الْأَرْضَ الْخَبَارَ تُثِيرُ الْغُبَارَ إِذَا قَرَعَهَا الْحَافِرُ وَنَحْوُهُ وَهُوَ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَقِسْمٌ مِنَ الْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْقَوْلِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
تُخَبِّرُكَ الْعَيْنَانِ مَا الْقَلْبُ كَاتِمُ1
وَقَوْلِ الْمَعَرِّيِّ2:
نَبِيٌّ مِنَ الْغِرْبَانِ لَيْسَ عَلَى شَرْعٍ ... يُخْبِرُنَا أَنَّ الشُّعُوبَ إِلَى صَدْعِ3
وَلَكِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ مَجَازِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّ مَنْ وَصَفَ غَيْرَهُ بِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِكَذَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ إِلَّا الْقَوْلُ.
وَأَمَّا مَعْنَاهُ اصْطِلَاحًا: فَقَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": ذَكَرُوا فِي حده أمور ثَلَاثَةً:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ أَوِ الْكَذِبُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ.
وَالثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ أَنَّهُ كَلَامٌ مُفِيدٌ بِنَفْسِهِ إِضَافَةَ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ، إِلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا قَالَ: وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا بِنَفْسِهِ عَنِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ وُجُوبَ الْفِعْلِ لَكِنْ لَا بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْأَمْرِ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ وَالصِّيغَةُ لَا تُفِيدُ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ ثُمَّ إِنَّهَا تُفِيدُ كَوْنَ الْفِعْلِ وَاجِبًا تَبَعًا لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي دَلَالَةِ النَّهْيِ عَلَى قُبْحِ الْفِعْلِ.
قَالَ الرَّازِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ دَوْرِيَّةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ، فَلِأَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ نَوْعَانِ تَحْتَ جِنْسِ الْخَبَرِ وَالْجِنْسُ جُزْءٌ مِنْ مَاهِيَّةِ النَّوْعِ وَأَعْرَفُ مِنْهَا فَإِذًا لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إِلَّا بِالْخَبَرِ فَلَوْ عَرَّفَنَا الْخَبَرَ بِهِمَا لَزِمَ الدَّوْرُ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بِمَنْعِ كَوْنِهِمَا لَا يُعَرَّفَانِ إِلَّا بِالْخَبَرِ بَلْ هُمَا ضَرُورِيَّانِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ أَيْضًا فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لِلتَّرْدِيدِ وَهُوَ يُنَافِي التَّعْرِيفَ، ولا يمكن إسقاطها ههنا لِأَنَّ الْخَبَرَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ صِدْقًا وَكَذِبًا معا.
__________
1 هو صدر بيت وعجزه: "ولا جن بالبغضاء والنظر الشزار" ونسب البيت في شرح التوحيدي لديوان المتنبي 112، والتبيان1/ 253 لابن الرومي وليس في ديوانه. ونسب العجز في اللسان "خبن" للهذلي وليس في ديوان الهذليين.
2 هو أحمد بن عبد الله بن سليمان، الشيخ العلامة، شيخ الآداب، أبو العلاء، ولد سنة ثلاث وستين وثلاثمائة هـ، وتوفي بالإسكندرية سنة تسع وأربعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "رسالة الغفران" "سقط الزند" "لزوم ما لا يلزم" وغيرها كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 23"، هدية العارفين "1/ 77"، معجم البلدان "5/ 156".
3 من البحر الطويل، وهو مطلع قصيدة قالها وهو يودع بغداد "انظر شروح سقط الزند 1332".(1/120)
الثاني: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ فكان خارجًا عن هذا التعريف.
الثالث: من قال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُسَيْلَمَةُ صَادِقَانِ، فَهَذَا خَبَرٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عن الأول: بأن المعرف لِمَاهِيَّةِ الْخَبَرِ أَمْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ إِمْكَانُ تَطَرُّقِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ لَا تَرْدِيدَ فِيهِ.
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ إِمْكَانُ تَطَرُّقِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِلَيْهِ، وَخَبَرُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صِدْقٌ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ قَوْلَهُ مُحَمَّدٌ وَمُسَيْلَمَةُ صَادِقَانِ خَبَرَانِ، وَإِنْ كَانَا فِي اللَّفْظِ خَبَرًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ يُفِيدُ إِضَافَةَ الصِّدْقِ إِلَى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِضَافَتَهُ إِلَى مُسَيْلَمَةَ وَأَحَدُ الْخَبَرَيْنِ صَادِقٌ وَالثَّانِي كَاذِبٌ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ لَكِنَّهُ كَاذِبٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِضَافَةَ الصِّدْقِ إِلَيْهِمَا مَعًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَانَ كَاذِبًا لَا مَحَالَةَ.
وَأَمَّا التَّعْرِيفُ الثَّانِي: فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ: أَنَّ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْخَبَرِ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا فَقَوْلُنَا الْخَبَرُ مَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ جارٍ مَجْرَى قَوْلِنَا الْخَبَرُ هُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِأَنَّهُ صِدْقٌ أَوْ كَذِبٌ فَيَكُونُ هَذَا تَعْرِيفًا لِلْخَبَرِ بِالْخَبَرِ وَبِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْأَوَّلُ هُوَ تَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَالثَّانِي تَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِمَا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ.
وَأَمَّا التَّعْرِيفُ الثَّالِثُ: فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ عِنْدَ أَبِي الْحُسَيْنِ عَيْنُ ذَاتِهِ، فَإِذَا قُلْنَا: السَّوَادُ مَوْجُودٌ فَهَذَا خَبَرٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِضَافَةَ الشَّيْءِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ.
وَالثَّانِي: أَنَّا إِذَا قُلْنَا الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ يَمْشِي فَقَوْلُنَا الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ يَقْتَضِي نِسْبَةَ النَّاطِقِ إِلَى الْحَيَوَانِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَبَرٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّعْتِ وَالْخَبَرِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَنَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا يَقْتَضِي الدَّوْرَ لِأَنَّ النَّفْيَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ عَدَمِ الشَّيْءِ وَالْإِثْبَاتَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ وُجُودِهِ فَتَعْرِيفُ الْخَبَرِ بِهِمَا دَوْرٌ.
قَالَ الرَّازِيُّ: وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ التَّعْرِيفَاتُ، فَالْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّ تَصَوُّرَ مَاهِيَّةِ الْخَبَرِ غَنِيٌّ عَنِ الْحَدِّ وَالرَّسْمِ بِدَلِيلَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ إِمَّا أَنَّهُ مَوْجُودٌ وَإِمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْدُومٍ وَأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَمَعْدُومًا، وَمُطْلَقُ الْخَبَرِ جُزْءٌ مِنَ الْخَبَرِ الْخَاصِّ وَالْعِلْمُ بِالْكُلِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْجُزْءِ فَلَوْ كَانَ تَصَوُّرُ مَاهِيَّةِ مُطْلَقِ الْخَبَرِ مَوْقُوفًا عَلَى الِاكْتِسَابِ لَكَانَ تَصَوُّرُ الْخَبَرِ الْخَاصِّ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ فَهْمُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ ضَرُورِيًّا وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَا.
الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَحْسُنُ فِيهِ الْخَبَرُ وَيُمَيِّزُهُ عَنِ الموضع الذي(1/121)
يَحْسُنُ فِيهِ، الْأَمْرُ وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ مُتَصَوَّرَةٌ تَصَوُّرًا بَدِيهِيًّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
فَإِنْ قُلْتَ: الْخَبَرُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَلْفَاظِ وَأَنْوَاعُ الْأَلْفَاظِ لَيْسَتْ تَصَوُّرَاتُهَا بَدِيهِيَّةً، فَكَيْفَ قُلْتَ: إِنَّ مَاهِيَّةَ الْخَبَرِ مُتَصَوَّرَةٌ تَصَوُّرًا بَدِيهِيًّا؟
قُلْتُ: حُكْمُ الذِّهْنِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَهُ الْآخَرُ وَلَيْسَ لَهُ الْآخَرُ مَعْقُولٌ وَاحِدٌ، لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ يُدْرِكُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَجِدُ تَفْرِقَةً بَيْنِهِ وَبَيْنَ سَائِرِ أَحْوَالِهِ النَّفْسَانِيَّةِ مِنْ أَلَمِهِ وَلَذَّتِهِ وَجُوعِهِ وَعَطَشِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ هُوَ الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ فَلَا شَكَّ أَنَّ تَصَوُّرَهُ فِي الْجُمْلَةِ بَدِيهِيٌّ مَرْكُوزٌ فِي فِطْرَةِ الْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ اللَّفْظَةَ الدَّالَّةَ عَلَى هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ فَالْإِشْكَالُ غَيْرُ وَارِدٍ أَيْضًا. لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى بَدِيهِيُّ التَّصَوُّرِ، انْتَهَى.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ اللَّفْظُ الدَّالُّ وَالْإِشْكَالُ وَارِدٌ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُطَلَّقَ اللَّفْظِ الدَّالِّ بَدِيهِيُّ التَّصَوُّرِ.
وَقَدْ أُجِيبَ عَمَّا ذَكَرَهُ بِأَنَّ كَوْنَ الْعِلْمِ ضَرُورِيًّا كَيْفِيَّةٌ لِحُصُولِهِ، وَأَنَّهُ يَقْبَلُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ وَالَّذِي لَا يَقْبَلُهُ هُوَ نَفْسُ الْحُصُولِ الَّذِي هُوَ مَعْرُوضُ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بِالضَّرُورَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِتَنَافِيهِمَا.
وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّ الْمَعْلُومَ ضَرُورَةً إِنَّمَا هُوَ نِسْبَةُ الْوُجُودِ إِلَيْهِ إِثْبَاتًا، وَهُوَ غَيْرُ تَصَوُّرِ النِّسْبَةِ الَّتِي هِيَ مَاهِيَّةُ الْخَبَرِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَاهِيَّةُ الْخَبَرِ ضَرُورِيَّةً.
وَقِيلَ: إِنَّ الْخَبَرَ لَا يُحَدُّ لِتَعَسُّرِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ1.
وَقِيلَ: الْأَوْلَى فِي حَدِّ الْخَبَرِ أَنْ يُقَالَ هُوَ الْكَلَامُ الْمَحْكُومُ فِيهِ بِنِسْبَةٍ خَارِجِيَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِالْخَارِجِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ كَلَامِ النَّفْسِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ قُمْ لِأَنَّ مَدْلُولَهُ الطَّلَبُ نَفْسُهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْعِرَ بِأَنَّ لَهُ مُتَعَلِّقًا وَاقِعًا فِي الْخَارِجِ. وَكَذَا يُخْرِجُ جَمِيعَ الْمُرَكَّبَاتِ التَّقْيِيدِيَّةِ2 وَالْإِضَافِيَّةِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ النِّسْبَةَ أَمْرٌ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ لَمْ يَصِحَّ فِي مِثْلِ اجْتِمَاعِ الضدين وشريك الباري*.
__________
* ف "أ" زيادة وهي: معدوم محال.
__________
1 انظر صفحة "17" وما بعدها.
2 ليعلم: أن المركب نوعان: تام وهو ما يصح السكوت عليه، وغير تام: وهو ما لا يصح السكوت عليه، وهو إما تقييدي، إن كان الثاني قيدًا للأول نحو: حيوان ناطق، وإما غير تقييدي، كالمركب من اسم وأداة نحو: في الدار. ا. هـ. التعريفات "269".(1/122)
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ: النِّسْبَةُ الْخَارِجِيَّةُ عَنِ الْمَدْلُولِ، سَوَاءٌ قَامَتْ تِلْكَ النِّسْبَةُ الْخَارِجِيَّةُ بِالذِّهْنِ كَالْعِلْمِ أَوْ بِالْخَارِجِ عَنِ الذِّهْنِ، كَالْقِيَامِ، أَوْ لَمْ تَقُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا نَحْوَ شَرِيكُ الْبَارِّي مُمْتَنِعٌ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي حَدِّ الْخَبَرِ هُوَ مَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ لِذَاتِهِ، وَهَذَا الْحَدُّ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا سَبَقَ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ هَلِ الْخَبَرُ حَقِيقَةٌ فِي اللَّفْظِيِّ وَالنَّفْسِيِّ، أَمْ حَقِيقَةٌ فِي اللَّفْظِيِّ مَجَازٌ فِي النَّفْسِيِّ أَمِ الْعَكْسُ كَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَقْوَالٍ لِأَنَّ الْخَبَرَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِهِ وَإِذَا عَرَفْتَ الِاخْتِلَافَ فِي تَعْرِيفِ الْخَبَرِ عَرَفْتَ بِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَيْسَ بِخَبَرٍ وَيُسَمُّونَهُ إِنْشَاءً وَتَنْبِيهًا وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالِاسْتِفْهَامُ وَالنِّدَاءُ وَالتَّمَنِّي والعرض والترجي والقسم.(1/123)
النوع الثاني: أقسام الخبر من حيث الصدق والكذب
النَّوْعُ الثَّانِي: إِنَّ الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى صِدْقٍ وَكَذِبٍ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَرَافِيُّ، وَادَّعَى أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعِ الْخَبَرَ إِلَّا لِلصِّدْقِ وَلَيْسَ لَنَا خَبَرٌ كَذِبٌ وَاحْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوَاضِعِ وَنَظِيرُهِ قَوْلُهُمْ الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ لَيْسَ مِنَ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ اسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ اللُّغَوِيِّينَ وَالنُّحَاةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: قَامَ زَيْدٌ، حُصُولُ الْقِيَامِ لَهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَلَمْ يُقِلْ أَحَدٌ إِنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أَوْ عَدَمُهُ، وَإِنَّمَا احْتِمَالُهُ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ مُصَادِمٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَوْضُوعٌ لِأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَى قَامَ زَيْدٌ حُصُولُ الْقِيَامِ لَهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مَدْلُولَهُ الْحُكْمُ بِحُصُولِ الْقِيَامِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ: بِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ إِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ، فَلَا يَقْدَحُ عَلَى الْقَرَافِيِّ بَلْ هُوَ مُعْتَرِفٌ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَذَلِكَ مُجَرَّدُ دَعْوَى وَيُقَوِّي مَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ إِجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ وَبَعْدَهُ عَلَى مَدْحِ الصَّادِقِ وَذَمِّ الْكَاذِبِ وَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ مَوْضُوعًا لَهُمَا لَمَا كَانَ عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا هُوَ مَوْضُوعٌ مِنْ بَأْسٍ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِمَّا مُطَابِقٌ لِلْخَارِجِ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ الصِّدْقُ وَالثَّانِي الْكَذِبُ وَأَثْبَتَ الْجَاحِظُ1 الْوَاسِطَةَ بينهما، فقال:
__________
1 هو عمرو بن بحر بن محبوب، أبو عثمان، البصري المعتزلي، صاحب التصانيف، توفي سنة خمس وخمسين ومائتين هـ، من آثاره: "الحيوان" "البيان والتبيين" "البخلاء" وغيرها كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 527" معجم الأدباء "16/ 74".(1/123)
الْخَبَرُ إِمَّا مُطَابِقٌ لِلْخَارِجِ أَوْ لَا مُطَابِقَ وَالْمُطَابِقُ إِمَّا مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُطَابِقٌ أَوْ لَا، وَغَيْرُ الْمُطَابِقِ إِمَّا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ أَوْ لَا وَالثَّانِي مِنْهُمَا وَهُوَ مَا لَيْسَ مَعَ الِاعْتِقَادِ لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كذب واستدل بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّة} 1.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ: أَنَّهُ حَصَرَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ افْتِرَاءً، أَوْ كلامَ مجنونٍ، فَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ كَلَامَ مَجْنُونٍ لَا يَكُونُ صِدْقًا لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ صِدْقًا وَقَدْ صَرَّحُوا بِنَفْيِ الْكَذِبِ عَنْهُ لِكَوْنِهِ قَسِيمَهُ وَمَا ذَاكَ إِلَّا "لِأَنَّ"* الْمَجْنُونَ لَا يَقُولُ عَنْ قَصْدٍ وَاعْتِقَادٍ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَفْتَرَى أَمْ لَمْ يَفْتَرِ، فَيَكُونُ مَجْنُونًا لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا افتراء له والكذب مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ يَكُونُ مَجْنُونًا أَوِ الْمُرَادُ أَقَصَدَ فَيَكُونُ مَجْنُونًا أَمْ لَمْ يَقْصِدْ فَلَا يَكُونُ خَبَرًا.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الِافْتِرَاءَ أَخَصُّ مِنَ الْكَذِبِ، وَمُقَابِلُهُ قَدْ يَكُونُ كَذِبًا وَإِنْ سَلِمَ فَقَدْ لَا يَكُونُ خَبَرًا فَيَكُونُ هَذَا حَصْرًا لِلْكَذِبِ فِي نَوْعَيْهِ الْكَذِبِ عَنْ عَمْدٍ وَالْكَذِبِ لَا عَنْ عَمْدٍ.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَفْظِيَّةٌ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ أن كل خبر "إما"** أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ أَوْ لَا يَكُونُ مُطَابِقًا فَإِنْ أُرِيدَ بِالصِّدْقِ الْخَبَرُ الْمُطَابِقُ كَيْفَ كَانَ وَبِالْكَذِبِ الْخَبَرُ الْغَيْرُ مُطَابِقٍ كَيْفَ كَانَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالصِّدْقِ مَا يَكُونُ مُطَابِقًا مَعَ أَنَّ الْمُخْبِرَ يَكُونُ عَالِمًا بِكَوْنِهِ مُطَابِقًا وَبِالْكَذِبِ الَّذِي لَا يَكُونُ مُطَابِقًا مَعَ أَنَّ الْمُخْبِرَ يَكُونُ عَالِمًا بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ كَانَ هُنَاكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ قَائِلُهُ أَنَّهُ مُطَابِقٌ أَمْ لَا فَثَبَتَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَفْظِيَّةٌ؛ انْتَهَى.
وَقَالَ النَّظَّامُ2 وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْفُقَهَاءِ: إِنَّ الصِّدْقَ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلِاعْتِقَادِ، وَالْكَذِبَ عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ لِلِاعْتِقَادِ وَاسْتَدَلَّ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ.
أَمَّا النَّقْلُ: فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
__________
* في "أ": أن المجنون.
** في "أ": فإما.
__________
1 جزء من الآية "8" سورة سبأ.
2 إبراهيم بن سيار مولى آل الحارث، أبو أسحاق، شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين هـ، من آثاره: "الطفرة" "الجواهر والأعراض" "الوعيد". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 541"، الأعلام "1/ 43".(1/124)
لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون} 1 فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكَمَ "عَلَيْهِمْ"* فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمًا مُؤَكَّدًا بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} مَعَ مُطَابَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ فَلَوْ كَانَ لِلْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ أَوْ لِعَدَمِهَا مَدْخَلٌ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لَمَا كَانُوا كَاذِبِينَ لِأَنَّ خَبَرَهُمْ هَذَا مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ ولا واسطة بن الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ التَّكْذِيبَ رَاجِعٌ إِلَى خَبَرٍ تَضَمَّنَهُ مَعْنَى: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وَهُوَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ هَذِهِ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ وَخُلُوصِ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ سِيَّمَا بعد تأكيده بـ"إن وَاللَّامِ وَالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ".
وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّ التَّكْذِيبَ رَاجِعٌ إِلَى زَعْمِهِمُ الْفَاسِدِ وَاعْتِقَادِهِمُ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ.
وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّ التَّكْذِيبَ رَاجِعٌ إِلَى حَلِفِهِمُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بقوله تعالى: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَل} 2.
وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْأَجْوِبَةِ مِنْ مَزِيدِ التَّكَلُّفِ، وَلَكِنَّهُ أَلْجَأَ إِلَى الْمَصِيرِ إِلَيْهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ "فَأَخْبَرَ عَنْ كَوْنِهِ فِي الدَّارِ"**، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ كَذَبَ فِي هَذَا الْخَبَرِ، بَلْ يُقَالُ: أَخْطَأَ أَوْ وَهِمَ.
الثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ الْعُمُومَاتِ وَالْمُطْلَقَاتِ مُخَصَّصَةٌ وَمُقَيَّدَةٌ فَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ الَّذِي لَا يُطَابِقُ الْمُخْبَرَ عَنْهُ كَذِبًا لتطرق الكذب إِلَى كَلَامِ الشَّارِعِ.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ مُطَابَقَتُهُ "لِلْوَاقِعِ"*** وَكَذِبَهُ عَدَمُهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِد} 3 فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَعَ كَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينْ} 4، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 الآية 1 من سورة "المنافقون".
2 جزء من الآية "8" من سورة "المنافقون".
3 جزء من الآية "73" من سورة "المائدة".
4 جزء من الآية "39" من سورة "النحل".(1/125)
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَقَدْ قال: للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ1 لَمَّا رَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فقتله، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بَلْ لَهُ أجر مرتين" 2. فكذبهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِمَا كَانَ فِي اعْتِقَادِهِمْ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ: إِنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ: الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ" 3.
وَاحْتَجُّوا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى تَكْذِيبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي كُفْرِيَّاتِهِمْ مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ تِلْكَ الْكُفْرِيَّاتِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْذِيبِ الْكَافِرِ إِذَا قَالَ الْإِسْلَامُ بَاطِلٌ مَعَ مُطَابَقَتِهِ لِاعْتِقَادِهِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَتَّصِفُ بِالصِّدْقِ إِلَّا إِذَا جَمَعَ بَيْنَ مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ وَالِاعْتِقَادِ، فَإِنْ خَالَفَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا فَكَذِبٌ فَيُقَالُ فِي تَعْرِيفِهِمَا هَكَذَا الصِّدْقُ مَا طَابَقَ الْوَاقِعَ وَالِاعْتِقَادَ. وَالْكَذِبُ مَا خَالَفَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا ثُبُوتُ وَاسِطَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ كَلَامُ الْعُقَلَاءِ، فَلَا يَرِدُ كَلَامُ السَّاهِي وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَجَمِيعُ أَدِلَّةِ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى هَذَا، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا وَرَدَ عَلَيْهَا.
فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَصْدِيقِ الْكَافِرِ إِذَا قَالَ: الْإِسْلَامُ حَقٌّ وَهُوَ إِنَّمَا طَابَقَ الْوَاقِعَ لَا الِاعْتِقَادَ، قُلْتُ لَيْسَ النِّزَاعُ إِلَّا فِي مَدْلُولِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لُغَةً لَا شَرْعًا، وَهَذَا الْإِجْمَاعُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّرْعِ لَا من أهل اللغة والدليل الذي "مُسْتَنَدُ"* إِجْمَاعِهِمْ شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ، وَلَكِنَّ الْكَذِبَ الْمَذْمُومَ شَرْعًا هُوَ الْمُخَالِفُ لِلِاعْتِقَادِ سَوَاءٌ طَابَقَ الْوَاقِعَ أَوْ خَالَفَهُ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِدْقِ وَصْفِ مَا خَالَفَ الْوَاقِعَ وَطَابَقَ الِاعْتِقَادَ بالكذب "لغة"**.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عامر بن سنان، الصحابي، المشهور، ومقتله كان في غزوة خيبر ا. هـ. الإصابة "2/ 241".
2 أخرجه البخاري، في المغازي، باب غزوة خيبر "4196" ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر "1802" والنسائي، كتاب الجهاد، باب من قاتل في سبيل الله فارتد عليه سيفه فقتله برقم "3150" "6/ 31" وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في الرجل يموت بسلاحه بلفظ: "كذبوا مات جاهدًا مجاهدًا فله أجره مرتين" "2538".
3 أخرجه البخاري مطولًا من طريق هشام عن أبيه في كتاب المغازي باب أين ركز النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الراية يوم الفتح رقم "4280". وابن كثير في البداية والنهاية "4/ 333". والبيهقي في الدلائل "5/ 98" وابن عبد البر من رواية ابن عقبة في الدرر "217".(1/126)
النَّوْعُ الثَّالِثُ: فِي تَقْسِيمِ الْخَبَرِ
اعْلَمْ أَنَّ الخبر لغة مِنْ حَيْثُ هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، لَكِنْ قَدْ يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَقَدْ يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ لِأُمُورٍ خَارِجَةٍ وَقَدْ لَا يُقْطَعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِفُقْدَانِ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمَقْطُوعُ بِصِدْقِهِ
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِالضَّرُورَةِ أَوِ النَّظَرِ فَالْمَعْلُومُ بِالضَّرُورَةِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْمُتَوَاتِرُ أَوْ بِمُوَافَقَةِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَهِيَ الْأَوَّلِيَّاتُ كَقَوْلِنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ. وَأَمَّا الْمَعْلُومُ بِالنَّظَرِ فَهُوَ ضَرْبَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِ الْخَبَرِ نَفْسِهِ فَيَكُونَ كُلُّ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ صَادِقًا كَقَوْلِنَا: الْعَالَمُ حَادِثٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِ الْمُخْبِرِ فَيَكُونَ كُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ "صِدْقًا"* وَهُوَ ضُرُوبٌ.
الْأَوَّلُ: خَبَرُ مَنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصِّدْقَ وَصْفٌ وَاجِبٌ لَهُ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
الثَّانِي: مَنْ دَلَّتِ الْمُعْجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
الثَّالِثُ: مَنْ صَدَّقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْ رَسُولُهُ وَهُوَ خَبَرُ كُلِّ الْأُمَّةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَقْطُوعُ بِكَذِبِهِ
وَهُوَ ضُرُوبٌ:
الْأَوَّلُ: الْمَعْلُومُ خِلَافُهُ إِمَّا بِالضَّرُورَةِ كَالْإِخْبَارِ بِاجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ أَوِ ارْتِفَاعِهِمَا.
الثَّانِي: الْمَعْلُومُ خِلَافُهُ إِمَّا بِالِاسْتِدْلَالِ كَالْإِخْبَارِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ بِخِلَافِ مَا هُوَ مِنْ قَطْعِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ.
الثَّالِثُ: الْخَبَرُ الَّذِي لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ مُتَوَاتِرًا إِمَّا لِكَوْنِهِ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَإِمَّا لكونه أمر غَرِيبًا كَسُقُوطِ الْخَطِيبِ عَنِ الْمِنْبَرِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ.
الرَّابِعُ: خَبَرُ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ مِنْ غَيْرِ مُعْجِزَةٍ.
الْخَامِسُ: كُلُّ خَبَرٍ اسْتَلْزَمَ بَاطِلًا وَلَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْخَبَرُ الْآحَادِيُّ إِذَا خَالَفَ الْقَطْعِيَّ كَالْمُتَوَاتِرِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَذِبِهِ
وَذَلِكَ كَخَبَرِ الْمَجْهُولِ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ صِدْقُهُ وَلَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَذَلِكَ كَخَبَرِ الْعَدْلِ وَقَدْ يَتَرَجَّحُ كَذِبُهُ وَلَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ، كَخَبَرِ الفاسق.
__________
* في "أ": متحققًا.(1/127)
النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه
القسم الأول: المتواتر
...
النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه
أَنَّ الْخَبَرَ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمُتَوَاتِرُ
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مَجِيءِ الْوَاحِدِ بَعْدَ الْوَاحِدِ بِفَتْرَةٍ بَيْنَهُمَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَتْرِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: خَبَرُ أَقْوَامٍ بَلَغُوا فِي الْكَثْرَةِ إِلَى حَيْثُ حَصَلَ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ.
وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ: هُوَ خَبَرُ جَمَاعَةٍ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ.
وَقِيلَ: خَبَرُ جَمْعٍ عَنْ مَحْسُوسٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ من حيث كثرتهم فقولهم مِنْ حَيْثُ كَثْرَتِهِمْ لِإِخْرَاجِ خَبَرِ قَوْمٍ يَسْتَحِيلُ كَذِبُهُمْ بِسَبَبِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ الْكَثْرَةِ كَالْعِلْمِ بِمُخْبِرِهِمْ ضَرُورَةً أَوْ نَظَرًا، وَكَمَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحَدِّ بِذَلِكَ الْقَيْدِ مَا ذَكَرْنَا كَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ قَيْدِ بِنَفْسِهِ فِي الْحَدِّ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالتَّوَاتُرِ هَلْ هُوَ ضَرُورِيٌّ أَوْ نَظَرِيٌّ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلى أنه ضروري.
وقال الكعبي1 وأبو الحسن الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ نَظَرِيٌّ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّهُ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَيْسَ أَوَّلِيًّا وَلَا كَسْبِيًّا، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْقَضَايَا الَّتِي قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا "وَقَالَتِ السَّمْنِيَّةُ2 وَالْبَرَاهِمَةُ3: إِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ أَصْلًا"*، وَقَالَ المرتضى4 والآمدي بالوقف.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عبد الله بن أحمد بن محمود، أبو القاسم البلخي، شيخ المعتزلة، العلامة، المعروف بالكعبي، من نظراء أبي علي الجبائي، توفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "المقالات" "الجدل" "السنة والجماعة"، وذكر صاحب الشذرات: أنه توفي سنة تسع عشرة وثلاثمائة هـ، والصواب على ما ذكره الذهبي: من أنه سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 313 "، الكامل في التاريخ "6/ 217".
2 وهم أصحاب سمن، وهم عبدة أوثان، يقولون بقدم الدهر، وبتناسخ الأرواح، وأن الأرض تهوي سفلًا أبدًا، وكان الناس على وجه الدهر سمنيين وكلدانيين وبقايا السمنية بالهند والصين. ا. هـ. مفاتيح العلوم للخوارزمي "55".
3 هم الذين ينتسبون إلى رجل منهم يقال له براهم، وقد مهد لهم نفي النبوات أصلًا، وقرر استحالة ذلك من وجوه، والبراهمية هم من أمم الهند، لعض الناس يظن أنهم سموا براهمة لانتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام، وهذا خطأ لما ذكرنا. ا. هـ. الملل والنحل "2/ 251".
4 هو علي بن حسين بن موسى، القرشي العلوي، العلامة الشريف المرتضى، أبو القاسم، من ولد موسى الكاظم، ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة هـ. من آثاره: "الشافي في الإمامة" "الذخيرة في الأصول" "التنزية" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 588"، معجم الأدباء "13/ 143"، هدية العارفين "1/ 688".(1/128)
وَالْحَقُّ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّا نَجِدُ نُفُوسَنَا جَازِمَةً بِوُجُودِ الْبِلَادِ الْغَائِبَةِ عَنَّا، وَوُجُودِ الْأَشْخَاصِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَنَا، جَزْمًا خَالِيًا عَنِ التَّرَدُّدِ، جَارِيًا مَجْرَى جَزْمِنَا بِوُجُودِ الْمُشَاهَدَاتِ، فَالْمُنْكِرُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالتَّوَاتُرِ كَالْمُنْكِرِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالْمُشَاهَدَاتِ وَذَلِكَ سَفْسَطَةٌ1 لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا الْمُكَالَمَةَ.
وَأَيْضًا: لَوْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورِيًّا لَافْتَقَرَ إِلَى تَوْسِيطِ2 الْمُقَدِّمَتَيْنِ3، وَاللَّازِمُ4 منتفٍ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِذَلِكَ قَطْعًا مَعَ انْتِفَاءِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِحُصُولِهِ بِالْعَادَةِ لَا بِالْمُقَدِّمَتَيْنِ فَاسْتَغْنَى عَنِ التَّرْتِيبِ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِقَوْلِهِمْ: لَا نُنْكِرُ حُصُولَ الظَّنِّ الْقَوِيِّ بِوُجُودِ مَا ذَكَرْتُمْ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ حُصُولَ الْيَقِينِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا عَرَضْنَا عَلَى عُقُولِنَا وُجُودَ الْمَدِينَةِ الْفُلَانِيَّةِ أَوِ الشَّخْصِ الْفُلَانِيِّ مِمَّا جَاءَ التَّوَاتُرُ بِوُجُودِهِمَا وَعَرَضْنَا عَلَى عُقُولِنَا أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَجَدْنَا الْجَزْمَ بِالثَّانِي أَقْوَى مِنَ الْجَزْمِ بِالْأَوَّلِ، وَحُصُولُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا يَدُلُّ عَلَى تَطَرُّقِ النَّقِيضِ إِلَى الْمَرْجُوحِ.
وَأَيْضًا: جَزْمُنَا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمَنْقُولَةِ بِالتَّوَاتُرِ لَيْسَ بِأَقْوَى مِنْ جَزْمِنَا بِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الَّذِي رَأَيْتَهُ الْيَوْمَ هُوَ الَّذِي رَأَيْتَهُ أَمْسِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْجَزْمَ لَيْسَ بِيَقِينٍ وَلَا ضَرُورِيٍّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ شَخْصٌ مساوٍ لَهُ فِي الصُّورَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّهُ تَشْكِيكٌ فِي أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ فَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْجَوَابَ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْمُشَاهَدَاتِ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الْمَرْئِيَّ الْيَوْمَ غَيْرُ الشَّخْصِ الْمَرْئِيِّ أَمْسِ لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِلتَّشْكِيكِ فِي الْمُشَاهَدَاتِ. و"استدل"* والقائلون بِأَنَّهُ نَظَرِيٌّ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا لَعُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ ضَرُورِيُّ.
وَأُجِيبَ: بِالْمُعَارَضَةِ بِأَنَّهُ لَوْ كان نظريًّا لعمل بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ نَظَرِيًّا كَغَيْرِهِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ "وَبِالْحِسِّ"**، وَذَلِكَ أَنَّ الضَّرُورِيَّةَ وَالنَّظَرِيَّةَ صِفَتَانِ لِلْعَمَلِ، وَلَا يلزم من ضرورية العلم ضرورية صفته.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": بالحل. وهو تحريف.
__________
1 قياس مركب من الوهميات، والغرض منه: تغليط الخصم، وإسكاته كقولنا: الجوهر موجود في الذهن، وكل موجود في الذهن قائم بالذهن عرض، لينتج أن الجوهر عرض. ا. هـ. التعريفات "158".
2 توسيط: التوسيط والواسطة هي المقدمة الغربية التي لا تكون مذكورة في القياس.
3 المقدمتين: تثنية مقدمة: وهي قضية جعلت جزء قياس أو يتوقف عليه صحة دليل القياس.
4 اللازم: هو كون العلم بالتواتر غير ضروي.(1/129)
الْجُمْهُورُ أَيْضًا: بِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالتَّوَاتُرِ لَوْ كَانَ نَظَرِيًّا لَمَا حَصَلَ لِمَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ كَالصِّبْيَانِ الْمُرَاهِقِينَ وَكَثِيرٍ مِنَ الْعَامَّةِ، فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ لَهُمْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِنَظَرِيِّ.
وَكَمَا يَنْدَفِعُ بِأَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ نَظَرِيٌّ، يَنْدَفِعُ أَيْضًا قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وَقْفِهِ لَيْسَ إِلَّا تَعَارُضَ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ، وَقَدِ اتَّضَحَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فَلَا وَقْفَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَا مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَمَا رُوِيَ مِنَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ عَنِ السَّمْنِيَّةِ، وَالْبَرَاهِمَةِ فَهُوَ خِلَافٌ بَاطِلٌ لَا يستحق قائله الجواب عليه.
شروط إفادة الخبر المتواتر للعلم الضروي:
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ لَا يَكُونُ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ إِلَّا بِشُرُوطٍ، مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى السَّامِعِينَ:
فَالَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ:
الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ غَيْرَ مُجَازِفِينَ، فَلَوْ كَانُوا ظَانِّينَ لِذَلِكَ فَقَطْ لَمْ يُفِدِ الْقَطْعُ، هَكَذَا اعْتَبَرَ هَذَا الشَّرْطَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ وُجُوبُ عِلْمِ الْكُلِّ بِهِ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُخْبِرِينَ بِهِ مُقَلِّدًا فِيهِ أَوْ ظَانًّا لَهُ أَوْ مُجَازِفًا وَإِنْ أُرِيدَ وُجُوبُ عِلْمِ الْبَعْضِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِمْ مُسْتَنِدِينَ إِلَى الْحِسِّ.
الشَّرْطُ الثَّانِي:
أَنْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ عَنْ ضَرُورَةٍ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ يَحْتَمِلُ دُخُولَ الْغَلَطِ فِيهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: فَأَمَّا إِذَا تَوَاتَرَتْ أَخْبَارُهُمْ عَنْ شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوهُ، وَاعْتَقَدُوهُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، أَوْ عَنْ شُبْهَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ تَوَاتُرِهِمْ يُخْبِرُونَ الدَّهْرِيَّةَ1 بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَتَوْحِيدِ الصَّانِعِ، وَيُخْبِرُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَقَعُ لَهُمُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ دُونَ الاضطرار انتهى.
__________
1 هم فرقة خالفت ملة الإسلام، وادعت قدم الدهر، وأسندت الحوادث إليه كما حدث القرآن الكريم عنهم فقال: {إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] ، وذهبوا أيضًا إلى ترك العبادات لزعمهم أنها لا تفيد، والدهر بما يقتضيه مجبول من حيث الفطرة على ما هو عليه فما ثم إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وسماء تقلع، وسحاب يقشع، وهواء يقمع. نعوذ بالله من ذلك. ا. هـ. الفصل في الملل والأهواء والنحل "1/ 47".(1/130)
وَمِنْ تَمَامِ هَذَا الشَّرْطِ: أَنْ لَا تَكُونَ الْمُشَاهَدَةُ، وَالسَّمَاعُ عَلَى سَبِيلِ غَلَطِ الْحِسِّ، كَمَا فِي أَخْبَارِ النَّصَارَى بِصَلْبِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَيْضًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عَلَى صِفَةٍ يُوثَقُ مَعَهَا بِقَوْلِهِمْ، فَلَوْ أَخْبَرُوا مُتَلَاعِبِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يُوثَقْ بِخَبَرِهِمْ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
أَنْ يَبْلُغَ عَدَدُهُمْ إِلَى مَبْلَغٍ يَمْنَعُ فِي الْعَادَةِ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَا يُقَيَّدُ ذَلِكَ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ ضَابِطُهُ: حُصُولُ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِهِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرَيِّ: يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرُ الْأَرْبَعَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمَا احْتَاجَ الْحَاكِمُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ إِذَا شَهِدُوا عِنْدَهُ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيُّ: ذَهَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ فَمَا زَادَ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنِ الْجُبَّائِيِّ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخَمْسَةَ عَدَدُ أُولِي الْعَزْمِ1 مِنَ الرُّسُلِ "وَهُمْ"* عَلَى الْأَشْهُرِ، نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الضَّعْفِ، مَعَ عَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا سَبْعَةً، بِعَدَدِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ عَشَرَةٌ، وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ مَا دُونَهَا جَمْعُ قِلَّةٍ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ أَيْضًا.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا اثْنَيْ عَشَرَ بِعَدَدِ النُّقَبَاءِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُمْ جُعِلُوا كَذَلِكَ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا عِشْرِينَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُون} 2، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا جُعِلُوا كَذَلِكَ لِيُفِيدَ خَبُرُهُمُ الْعِلْمَ بإسلامهم، فإن المقام ليس مقام "إخبار"**، خبر وَلَا اسْتِخْبَارٍ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أبي الهذيل3 وغيره من المعتزلة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": خبر.
__________
1 أولو العزم: أصحاب الحزم والصبر واختلف في عددهم فقيل خمسة أنبياء وقيل ثمانية عشر وقيل كل الأنبياء. ا. هـ. انظر تفسير القرطبي "16/ 220".
2 جزء من الآية "65" من سورة الأنفال.
3 محمد بن الهذيل بن عبيد الله البصري، العلاف، شيخ الكلام، رأس الكلام، رأس الاعتزال، صاحب التصانيف والذكاء البارع، عاش قريبًا من مائة سنة، وخرف وعمي، توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين هـ، وكان مولده سنة خمس وثلاثين ومائة هـ، من آثاره: "الرد على المجوس ورد على الملحدين" و"رد على السوفسطائية". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 173" "10/ 542" الأعلام "7/ 171".(1/131)
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعِينَ كَالْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْجُمْعَةِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ بَاطِلُ الْأَصْلِ، فَضْلًا عَنِ الْفَرْعِ.
وقيل: يشترط أن يكونوا سبعين لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} 1، وَهَذَا أَيْضًا اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، بِعَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ، وَهَذَا أَيْضًا اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ، خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مائة، "بعدد أهل بيعة الرضون"*، وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ.
وَقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ مِائَةً؛ لِأَنَّهُ عَدَدُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ.
وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً؛ لِأَنَّهُ عَدَدُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا جَمِيعَ الْأُمَّةِ كَالْإِجْمَاعِ، حُكي هَذَا الْقَوْلُ عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو2، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ لَا يَحْوِيهِمْ بَلَدٌ وَلَا يَحْصُرُهُمْ عَدَدٌ.
وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ جري أقلام الْعِلْمِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا تَرْجِعُ إِلَى عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ، وَلَا يُوجَدُ بَيْنَهَا وبين محل النزاع جامع، وإنما ذكرناه لِيَعْتَبِرَ بِهَا الْمُعْتَبِرُ وَيَعْلَمَ أَنَّ الْقِيلَ وَالْقَالَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْ جِنْسِ الْهَذَيَانِ فَيَأْخُذُ عِنْدَ ذَلِكَ حَذَرَهُ مِنَ التَّقْلِيدِ وَيَبْحَثُ عَنِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ لَهُمْ إِلَّا مَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
وُجُودُ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي كُلِّ الطَّبَقَاتِ، فَيَرْوِي ذَلِكَ الْعَدَدُ عَنْ مِثْلِهِ إِلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَقَدِ اشْتُرِطَ عَدَالَةُ النَّقَلَةِ لِخَبَرِ التَّوَاتُرِ فَلَا يصح أن يكونوا أو بعضهم غير
__________
* في "أ": بعدد بيع أهل الرضوان.
__________
1 جزء من الآية "155" من سورة الأعراف.
2 هو ضرار بن عمرو الغطفاني، شيخ الضرارية، من رءوس المعتزلة، وكان ينكر الجنة والنار أن تكونا خلقتا، وقال عنه ابن حزم: كان ينكر عذاب القبر، فأبيح دمه، وأمر القاضي سعيد بن عبد الرحمن بضرب عنقه، توفي سنة تسعين ومائة هـ، ا. هـ, سير أعلام النبلاء "10/ 215".(1/132)
عُدُولٍ، وَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ أَنْ لَا يَكُونُوا كُفَّارًا وَلَا فُسَّاقًا. وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الِاشْتِرَاطِ، فَإِنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يَحْصُلُ بِخَبَرِ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ، وَالصِّغَارِ الْمُمَيِّزِينَ، وَالْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَذَلِكَ هو المعتب.
وَقَدِ اشْتُرِطَ أَيْضًا: اخْتِلَافُ أَنْسَابِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ.
وَاشْتُرِطَ أَيْضًا: اخْتِلَافُ أَدْيَانِهِمْ.
وَاشْتُرِطَ أَيْضًا: اخْتِلَافُ أَوْطَانِهِمْ.
وَاشْتُرِطَ أَيْضًا: كَوْنُ الْمَعْصُومِ مِنْهُمْ كَمَا يَقُولُ الْإِمَامِيَّةُ1.
وَلَا وَجْهَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ.
وَأَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى السَّامِعِينَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عُقَلَاءَ؛ إِذْ يَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْعِلْمِ لِمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَدْلُولِ الْخَبَرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونُوا خَالِينَ عَنِ اعْتِقَادِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ الخبر لشبهة تقليد أو نحوه.
__________
1 هم القائلون بإمامة سيدنا على رضي الله عنه بعد سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصًّا ظاهرًا، وتعيينًا صادقًا، ويستشهدون لذلك بنصوص متعددة، منها: مبايعته لسيدنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما قال: "من الذي يبايعني على روحه وهو وصي وولي هذا الأمر من بعدي" وقوله عليه الصلاة والسلام: "من كنت مولاه فعلي ... " وغير ذلك. ا. هـ. الملل والنحل "1/ 162".(1/133)
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْآحَادُ
وَهُوَ خَبَرٌ لَا يُفِيدُ بنفسه العلم سواء كان لا يفيد أَصْلًا، أَوْ يُفِيدُهُ بِالْقَرَائِنِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ، فَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ1: إِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ، وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ "الْأَحْكَامِ"2 عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ3، وَالْحُسَيْنِ بْنِ علي الكرابيسي4، والحارث
__________
1 هو شيخ الإسلام، صاحب المذهب المعروف، ولد سنة أربع وستين ومائة هـ، كان أصبر الناس على الوحدة، وحج حجتين أو ثلاثًا ماشيًا، توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 177"، تذكرة الحفاظ "1/ 431".
2 واسمه: "الإحكام لأصول الأحكام" لأبي محمد على بن أحمد الظاهري المعروف بابن حزم، وتقدمت ترجمته في الصفحة "99". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 21".
3 هو داود بن علي بن خلف، الإمام البحر، الحافظ العلامة، عالم الوقت أبو سليمان البغدادي، رئيس أهل الظاهر، ولد سنة مائتين هـ، وتوفي سنة سبعين ومائيتن. من آثاره: "الإيضاح" "الإفصاح" "الأصول" وغيرها كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 97"، شذرات الذهب "2/ 158-159".
4 هو الحسين بن علي بن يزيد، الفقيه الشافعي العلامة، أبو علي، الكرابيسي: نسبة إلى بيع الكرباس وهي: الثياب الغليظة، توفي سنة ثمان وأربعين ومائتين هـ، وله تصانيف كثيرة في الأصول والفروع ا. هـ سير أعلام النبلاء "12/ 80"، تهذيب التهذيب "2/ 359".(1/133)
المحاسبي1. قال: وبه نقول.
وحكاه ابن خويزمنداد2 عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَاخْتَارَهُ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ، وَنَقَلَ الشَّيْخُ فِي "التَّبْصِرَةِ"3 عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْهَا مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ كَحَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ4 عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمَا أَشْبَهَهُ. وَحَكَى صَاحِبُ "الْمَصَادِرِ"5 عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ.
وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ: هُوَ مَا لَمْ يَنْتَهِ بِنَفْسِهِ إِلَى التَّوَاتُرِ، سَوَاءٌ كَثُرَ رُوَاتُهُ أَوْ قَلُّوا، وَهَذَا كَالْأَوَّلِ فِي نَفْيِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ.
وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ: هُوَ مَا يُفِيدُ الظَّنَّ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يُفِدِ الظَّنَّ مِنَ الْأَخْبَارِ.
وَرُدَّ بِأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي لَا يُفِيدُ الظَّنَّ لَا يُرَادُ دُخُولُهُ فِي التَّعْرِيفِ إِذْ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ وَالْمُرَادُ تَعْرِيفُ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الرَّدِّ: بِأَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ تَضْعِيفُهُ إِلَى حَدٍّ يَكُونُ بِهِ بَاطِلًا مَوْضُوعًا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ، مَعَ كَوْنِهِ لَا يُفِيدُ الظَّنَّ. وَيُرَدُّ هَذَا الْجَوَابُ: بِأَنَّ الضَّعِيفَ الَّذِي يَبْلُغُ ضَعْفُهُ إِلَى حَدٍّ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ الظَّنُّ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ، وَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ شَرْعٍ عَامٍّ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ لِحُصُولِ الظَّنِّ بِصِدْقِ ذَلِكَ وَثُبُوتِهِ عَنِ الشَّارِعِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الواحد وأنه "قد"* وقع التعبد به، وقال
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو الإمام الحارث بن أسد الغدادي المحاسبي، الزاهد العارف شيخ الصوفية، أبو عبد الله، قيل له المحاسبي لأنه كان يحاسب نفسه، توفي سنة ثلاثة وأربعين ومائتين هـ، له كتب كثيرة في الزهد، وأصول الديانة، والرد على المعتزلة، من آثاره: "رسالة المسترشدين" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 110"، تهذيب التهذيب "1/ 113".
2 هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن خويز المالكي، العراقي، فقيه أصولي، من آثاره: كتاب كبير في "الخلاف" "كتاب في أصول الفقه". توفي سنة تسعين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. معجم المؤلفين "8/ 280".
3 واسمه "التبصرة في أصول الفقه" للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، وعليه شرح لأبي الفتح عثمان بن جني. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 339".
4 هو أبو عبد الله القرشي العدوي العمري، الإمام المفتي، الثبت، عالم المدينة، توفي سنة سبع عشرة ومائة هجرية، خدم عبد الله بن عمر ثلاثين سنة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 95"، تذكرة الحفاظ "1/ 99"، شذرات الذهب "1/ 154".
5 واسمه "المصادر في الأصول"، لمحمود بن علي الحمصي الرازي. ا. هـ. ذيل كشف الظنون "2/ 491".(1/134)
"الْقَاسَانِيُّ"*1 وَالرَّافِضَةُ وَابْنُ دَاوُدَ2. لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ3 عَنِ الْأَصَمِّ4 وَابْنِ عُلَيَّةَ5 وَقَالَ: إِنَّهُمَا قَالَا لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي السُّنَنِ وَالدِّيَانَاتِ، وَيُقْبَلُ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ.
وَحَكَى الْجُوَيْنِيُّ6 فِي "شَرْحِ الرِّسَالَةِ" عَنْ هِشَامٍ7 وَالنَّظَّامِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ إِلَّا بَعْدَ قَرِينَةٍ تَنْضَمُّ إِلَيْهِ، وَهُوَ عِلْمُ الضَّرُورَةِ، بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ ضَرُورَةَ الصِّدْقِ، وَقَالَ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ اللَّبَّانِ الْفَرْضِيُّ8 قَالَ بَعْدَ حِكَايَةِ هَذَا عَنْهُ: فَإِنْ تَابَ فَاللَّهُ يَرْحَمُهُ وَإِلَّا فَهُوَ مَسْأَلَةُ التَّكْفِيرِ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ فَمَنْ أَنْكَرَهُ يُكَفَّرُ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَاخْتَلَفُوا، يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْمَانِعِ مِنَ الْقَبُولِ فَقِيلَ: مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ، وَيُنْسَبُ إِلَى ابن علية والأصم.
__________
* في "أ": القاشاني.
__________
1 هو أبو بكر محمد بن إسحاق القاساني، نسبة إلى قاسان، ويعرف عند جل العلماء بالقاشاني، ولكن الصواب أنه القاساني بالسين المهملة، كما قاله ابن حجر في تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، وهو داوودي المذهب. ا. هـ. تبصير المنتبه بتحرير المشتبه "3/ 1147" هدية العارفين "2/ 20".
2 هو محمد بن داود بن علي الظاهري، العلامة البارع، ذو الفنون، أبو بكر، توفي سنة سبع وتسعين ومائتين هـ، من مؤلفاته: "كتاب "الزهرة" "كتاب في الفرائض" كان أحد من يضرب المثل بذكائه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 109"، شذرات الذهب "2/ 226".
3 هو علي بن محمد الماوردي، والبصري، الشافعي، الإمام العلامة، أقضى القضاة، أبو الحسن، من آثاره: "الحاوي" "النكت" "أدب الدنيا والدين"، توفي سنة خمسين وخمسمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 64"، هدية العارفين "1/ 689"، شذرات الذهب "3/ 385".
4 لعله محمد بن يعقوب بن يوسف، الأموي بالولاء، أبو العباس الأصم، محدث من أهل نيسابور، ووفاته بها سنة ست وأربعين وثلاثمائة هـ، حدث ستا وسبعين سنة. ا. هـ. تذكرة الحفاظ "3/ 860" الأعلام "7/ 145".
5 هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، الإمام العلامة، الحافظ الثبت، أبو بشر الأسدي، وعُلَيَّة هي أمة، ولد سنة عشر ومائة هـ، وتوفي سنة ثلاث وتسعين ومائة هـ، قال زياد بن أيوب: ما رأيت لابن علية كتابًا قط. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 114"، شذرات الذهب "1/ 333".
6 هو أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني، والد إمام الحرمين، أبي المعالي، وهو من علماء التفسير والفقه واللغة، توفي سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة هـ. انظر: تبيين كذب المفتري "ص257"، ومفتاح السعادة "2/ 325" حيث ذكر من مؤلفاته "شرح الرسالة"، والأعلام "4/ 146".
7 لعله هشام بن الحكم الشيباني بالولاء، الكوفي، أبو محمد، متكلم مناظر، توفي حوالي سنة تسعين ومائة هـ. انظر الأعلام "8/ 85" ومراجعه.
8 هو محمد بن عبد الله بن الحسن، ابن اللبان، الفرضي، الشافعي، أبو الحسين توفي سنة اثنتين وأربعمائة هـ، كان إمام الفرضيين في زمانه، له مصنفات كثيرة في الفرائض ليس لأحد مثلها، أخذ عنه أئمة وعلماء ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 217"، هدية العارفين "2/ 59".(1/135)
وَقَالَ "الْقَاسَانِيُّ"* مِنْ أَهْلَ الظَّاهِرِ، وَالشِّيعَةُ: مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّهُ عَامٌّ مُخَصَّصٌ، لِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِهِ، فَالْأَكْثَرُ مِنْهُمْ قَالُوا يَجِبُ بِدَلِيلِ السَّمْعِ.
وَقَالَ أحمد بن حنبل، والقفال، "وابن سريج"**، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ1 مِنَ الْإِمَامِيَّةِ، وَالصَّيْرَفِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ، لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ الْوَارِدِ عَنِ الْوَاحِدِ.
وَأَمَّا دَلِيلُ السَّمْعِ: فَقَدِ اسْتَدَلُّوا مِنَ الْكِتَابِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ} 2، وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَة} 3، وَمِنَ السُّنَّةِ بِمِثْلِ قِصَّةِ أَهْلِ قِبَاءٍ لَمَّا أَتَاهُمْ وَاحِدٌ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ تَحَوَّلَتْ فَتَحَوَّلُوا وَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ4.
وَبِمِثْلِ بَعْثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَّالِهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ بَعَثُهُ بِالْفَرْدِ مِنَ الرُّسُلِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ.
وَمِنَ الْإِجْمَاعِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَشَاعَ ذَلِكَ وَذَاعَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، وَلَوْ أَنْكَرَهُ مُنْكِرٌ لَنُقِلَ إِلَيْنَا وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعِلْمَ الْعَادِيَّ بِاتِّفَاقِهِمْ كَالْقَوْلِ الصَّرِيحِ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ5: وَمَنْ تَتَبَّعَ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ مَا عَدَا هَذِهِ الفرقة اليسيرة علم ذلك قطعًا انتهى.
__________
* في "أ": القاشاني.
** في "أ": ابن شريح.
__________
1 هو محمد بن الحسن بن علي الطوسي، شيخ الشيعة، تفقه أولًا للشافعي ثم أخذ الكلام وأصول القوم عن الشيخ المفيد، رأس الإمامية، توفي سنة ستين وأربعمائة هـ، من آثاره: "تهذيب الأحكام" "المفصح في الإمامية". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 334" إيضاح المكنون "1/ 223".
2 جزء من الآية "6" من سورة الحجرات.
3 جزء من الآية "122" من سورة التوبة.
4 أخرج بنحوه البخاري، كتاب الصلاة باب ما جاء في القبلة "403". ومسلم، كتاب المساجد، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة "5026". والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في ابتداء القبلة "341" بنحوه وقال: حسن صحيح. والنسائي، كتاب المساجد، باب استبانة الخطأ بعد الاجتهاد "744" 2/ 61. والإمام أحمد في المسند "2/ 105". وابن حبان في صحيحه "1715".
5 هو محمد بن علي بن وهب، قاض من أكابر العلماء بالأصول، مجتهد، ولد سنة خمس وعشرين وستمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وسبعمائة هـ، من آثاره: "الإمام في شرح الإلمام" ا. هـ. كشف الظنون "1/ 158"، شذرات الذهب "6/ 5"، الأعلام "6/ 283".(1/136)
وَعَلَى الْجُمْلَةِ: فَلَمْ يأتِ مَنْ خَالَفَ فِي العلم بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ عَمَلَ الصَّحَابَةِ، مِنَ الْخُلَفَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَعَمَلَ التَّابِعِينَ فَتَابِعِيهِمْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَجَدَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ لَا يَتَّسِعُ لَهُ إِلَّا مُصَنَّفٌ بَسِيطٌ وَإِذَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمُ التَّرَدُّدُ فِي الْعَمَلِ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَذَلِكَ لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة الصِّحَّةِ أَوْ تُهْمَةٍ لِلرَّاوِي أَوْ وُجُودِ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
أَقْسَامُ الْآحَادِ:
وَاعْلَمْ: أَنَّ الْآحَادَ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ:
فَمِنْهَا: خَبَرُ الْوَاحِدِ، وَهُوَ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ1.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُسْتَفِيضُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا، وَقِيلَ: مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: أَقَلُّ مَا تَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِفَاضَةُ اثْنَانِ، قَالَ السُّبْكِيُّ2: وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُسْتَفِيضَ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ شَائِعًا.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا اشْتُهِرَ وَلَوْ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي، أَوِ الثَّالِثِ، إِلَى حَدٍّ يَنْقُلُهُ ثِقَاتٌ لَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الشُّهْرَةُ بعد القرنين.
هكذا "قالت"* قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، فَاعْتَبَرُوا التَّوَاتُرَ فِي بَعْضِ طَبَقَاتِهِ، وَهِيَ الطَّبَقَةُ الَّتِي رَوَتْهُ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ فَقَطْ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْتَفِيضِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، لِصِدْقِهِمَا عَلَى مَا رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ فَصَاعِدًا، وَلَمْ يَتَوَاتَرْ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، ثم تواتر في أحد القرنين المذكورين، وانفرد الْمُسْتَفِيضِ إِذَا لَمْ يَنْتَهِ فِي أَحَدِهِمَا إِلَى التَّوَاتُرِ وَانْفِرَادُ الْمَشْهُورِ فِيمَا رَوَاهُ اثْنَانِ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَوَاتَرَ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَجَعَلَ الْجَصَّاصُ3 الْمَشْهُورَ قِسْمًا مِنَ الْمُتَوَاتِرِ وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَنَفِيَّةِ. وَأَمَّا جُمْهُورُهُمْ فَجَعَلُوهُ قَسِيمًا لِلْمُتَوَاتِرِ لَا قِسْمًا مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
__________
* في "أ": قال.
__________
1 انظر صفحة: "133".
2 هو عبد الوهاب بن علي، أبو نصر السبكي، قاضي القضاة تاج الدين، ولد في القاهرة، سنة سبع وعشرين وسبعمائة هـ، وتوفي فيها سنة إحدى وسبعين وسبعمائة هـ، من آثاره: "طبقات الشافعية الكبرى" "جمع الجوامع". ا. هـ. الأعلام "4/ 184"، هدية العارفين "1/ 639".
3 هو أحمد بن علي الرازي، الإسفراييني، الحافظ الزاهد الثبت، أبو بكر الجصاص، انتهت إليه رياسة الحنفية في بغداد، ولد سنة خمس وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة سبعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "أحكام القرآن" "كتاب في أصول الفقه". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 522"، كشف الظنون "1/ 20-562"، الأعلام "1/ 171".(1/137)
وَاعْلَمْ: أَنَّ الْخِلَافَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ1 فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ مِنْ إِفَادَةِ خَبَرِ الْآحَادِ الظَّنَّ أَوِ الْعِلْمَ، مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ خَبَرُ وَاحِدٍ لَمْ يَنْضَمْ إِلَيْهِ مَا يُقَوِّيهِ، وَأَمَّا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مَا يُقَوِّيهِ، أَوْ كَانَ مَشْهُورًا، أَوْ مُسْتَفِيضًا، فَلَا يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ قَدْ صَيَّرَهُ مِنَ الْمَعْلُومِ صِدْقُهُ وَهَكَذَا خَبْرُ الْوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَكَانُوا بَيْنَ عَامِلٍ بِهِ وَمُتَأَوِّلٍ لَهُ.
وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَحَادِيثُ صَحِيحَيِ "الْبُخَارِيِّ2 وَمُسْلِمٍ3" فَإِنَّ الْأُمَّةَ تَلَقَّتْ مَا فِيهِمَا بالقبول، ومن لم يعلم بِالْبَعْضِ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَوَّلَهُ وَالتَّأْوِيلُ فَرْعُ الْقَبُولِ وَالْبَحْثُ مُقَرِّرٌ بِأَدِلَّتِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
قِيلَ: وَمِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمَعْلُومِ صِدْقُهُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ فِي حُضُورِ جَمَاعَةٍ هِيَ نِصَابُ التَّوَاتُرِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا فِي رِوَايَتِهِ مَعَ كَوْنِهِمْ مِمَّنْ يَعْرِفُ عِلْمَ الرِّوَايَةِ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْقَدْحِ فِي ذَلِكَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمَحْفُوفِ بِالْقَرَائِنِ، فَقِيلَ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَقِيلَ: لَا يُفِيدُهُ، وَهَذَا خِلَافٌ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ الْقَرَائِنَ إِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً بِحَيْثُ يَحْصُلُ لِكُلِّ عَاقِلٍ عِنْدَهَا الْعِلْمُ كَانَ من المعلوم صدقه "وإلا فَلَا، وَجْهَ لِمَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ لَا بِالْقَرَائِنِ وَلَا بِغَيْرِهَا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ صِدْقُهُ"* أَيْضًا إِذَا أَخْبَرَ مخبر بحضرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَسَمِعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر صفحة: "135-136.
2 هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، أبو عبد الله البخاري، ولد سنة أربع وتسعين ومائة هـ، وكان يقول أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، توفي سنة ست وخمسين ومائتين هـ، من آثاره: "الجامع الصحيح" "تاريخ البخاري". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 391"، تذكرة الحفاظ "1/ 555"، شذرات الذهب "2/ 134".
وصحيح البخاري: اسمه "الجامع الصحيح" وهو أول الكتب الستة في الحديث وأفضلها، قال الإمام النووي: اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن الكريم الصحيحان، صحيح البخاري، وصحيح مسلم، له شروح كثيرة جدًّا، منها: "شرح لابن حجر العسقلاني". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 541".
3 هو الإمام، مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، الحافظ الكبير، المجود الحجة، الصادق، أبو الحسين، صاحب الصحيح، ولد سنة أربع ومائتين هـ، وتوفي سنة إحدى وستين ومائتين هـ، بنيسابور، من آثاره: "المسند الكبير" "المسند الصحيح" "التمييز" وغيرهما من الكتب كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 557" تهذيب التهذيب "10/ 126"، تذكرة الحفاظ "2/ 588".
وصحيح مسلم. اسمه: "الجامع الصحيح" وهو ثاني أصح الكتب في الحديث، قال عنه الحسين بن علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم، وعلى هذا الكتاب شروح كثيرة أيضًا، أهمها: "شرح الإمام النووي". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 555".(1/138)
ولم ينكر عليه، لا إذا كان الخبر بِغَيْرِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ.
شُرُوطُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ:
الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَهُ شُرُوطٌ:
مِنْهَا مَا هُوَ فِي المخبِر، وَهُوَ الرَّاوِي، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي المخبَر عَنْهُ، وَهُوَ مَدْلُولُ الْخَبَرِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي الْخَبَرِ نَفْسِهِ وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ.
أَمَّا الشُّرُوطُ الرَّاجِعَةُ إِلَى الرَّاوِي فَخَمْسَةٌ:
الْأَوَّلُ: التَّكْلِيفُ
فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي الْإِجْمَاعَ عَلَى رَدِّ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ.
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْعَنْبَرِيُّ1. وَقَالَ: بَلْ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الْقِبْلَةِ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ2، قَالَ: وَلِأَصْحَابِنَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الْفَوْرَانِيُّ3: الْأَصَحُّ قَبُولُ رِوَايَتِهِ، وَالْوَجْهُ فِي رَدِّ رِوَايَتِهِ أَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ لِارْتِفَاعِ قَلَمِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ فَيَكْذِبُ. وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ إِلَى الصِّبْيَانِ مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ يَطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالِ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ رَجَعُوا إِلَى النِّسَاءِ وَسَأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمَنْخُولِ": مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْمُرَاهِقِ الْمُتَثَبِّتِ فِي كَلَامِهِ، أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَطْعًا.
وَهَذَا الِاشْتِرَاطُ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الْأَدَاءِ لِلرِّوَايَةِ، أَمَّا لَوْ تَحَمَّلَهَا صَبِيًّا وَأَدَّاهَا مُكَلَّفًا، فَقَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى قَبُولِهَا كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنَيْنِ4 وَمَنْ كَانَ مُمَاثِلًا لهم،
__________
1 لعله إبراهيم بن إسماعيل العنبري الطوسي، الإمام القدوة، الرباني الحافظ المجود أبو إسحاق، توفي بعد سنة ثمانين ومائتين هـ، وهو من أئمة الهدى، من آثاره: كتاب "المسند" في مائتين وتسعين جزءًا. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 377"، شذرات الذهب "2/ 205".
2 اسمها "التعليقة الكبرى في الفروع". كشف الظنون "1/ 424". "وانظر هنا 1/ 100 هامش3".
3 هو عبد الرحمن بن محمد بن فوران المروزي، العلامة الكبير، الشافعية، أبو القاسم له المصنفات الكبيرة في المذهب، كان سيد فقهاء مرو وتوفي سن إحدى وستين وأربع مائة هـ من آثاره: "أسرار الفقه" "شرح فروع ابن الحداد". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 264"، هدية العارفين "1/ 517"، الكامل في التاريخ "8/ 110".
4 وهما الحسن والحسين، ابنا سيدنا علي بن أبي طالب، والسيدة فاطمة الزهراء، رضي الله عنهم أجمعين.(1/139)
كمحمود بن الربيع فإنه روى حديثًا: "أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَّ فِي فِيهِ مَجَّةً وَهُوَ ابْنُ خمس سني"1، وَاعْتَمَدَ الْعُلَمَاءُ رِوَايَتَهُ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ بَعْدِ الصَّحَابَةِ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يُحْضِرُونَ الصِّبْيَانَ مَجَالِسَ الرِّوَايَاتِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ وَهَكَذَا لَوْ تَحَمَّلَ وَهُوَ فَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ ثُمَّ رَوَى وَهُوَ عَدْلٌ مُسْلِمٌ، وَلَا أَعْرِفُ خِلَافًا فِي عَدَمِ قَبُولِ رِوَايَةِ الْمَجْنُونِ فِي حَالِ جُنُونِهِ، أَمَّا لَوْ سَمِعَ فِي حَالِ جُنُونِهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْجُنُونِ غَيْرُ ضَابِطٍ.
وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الدِّمَاءِ، لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْجِنَايَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا انْفَرَدُوا وَلَمْ يَحْضُرْهُمْ مَنْ تَصِحُّ شَهَادَتُهُ وَقَيَّدُوهُ بِعَدَمِ تَفَرُّقِهِمْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ حَتَّى يُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ وَالْأَوْلَى عَدَمُ الْقَبُولِ وَعَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى مَا سَيَأْتِي على أنَّا نَمْنَعَ ثُبُوتَ هَذَا الْإِجْمَاعِ الْفِعْلِيِّ عَنْهُمْ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْإِسْلَامُ
فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ؛ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ غَيْرِهِمَا إِجْمَاعًا، قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ سَوَاءٌ عُلِمَ مِنْ دِينِهِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْكَذِبِ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ، قَالَ وَالْمُخَالِفُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِذَا كَفَّرْنَاهُ كَالْمُجَسِّمِ وَغَيْرِهِ هَلْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَمْ لَا؟ الْحَقُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ جَوَازَ الْكَذِبِ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَإِلَّا قَبِلْنَاهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ.
لَنَا: أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْعَمَلِ بِهَا قَائِمٌ، وَلَا مُعَارِضَ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا.
بَيَانُ أَنَّ الْمُقْتَضِي قَائِمٌ: أَنَّ الاعتقاد لِحُرْمَةِ الْكَذِبِ يَزْجُرُهُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، فَيَحْصُلُ ظَنُّ الصِّدْقِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا مُعَارِضَ: أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا تُقْبَلُ روايته وذلك الكفر منتفٍ ههنا، قَالَ وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 2 فَأَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ عِنْدَ نَبَأِ الْفَاسِقِ، وَهَذَا الْكَافِرُ فَاسِقٌ فَوَجَبَ التَّثَبُّتُ عِنْدَ خَبَرِهِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي لَا يكون من أهل القبلة لا تقبل روايته، فكذا
__________
1 أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من لم يَرَ رد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة "839". ومسلم، في المساجد، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر "657". وابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب المساجد في الدور "754". الطبراني في الكبير "18/ 54". وابن حبان في صحيحه "4534".
2 جزء من الآية "6" من سورة الحجرات.(1/140)
هَذَا الْكَافِرُ، وَالْجَامِعُ أَنَّ قَبُولَ الرِّوَايَةِ تَنْفِيذٌ لِقَوْلِهِ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَنْصِبٌ شَرِيفٌ، وَالْكُفْرُ يَقْتَضِي الْإِذْلَالَ، وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْكَافِرُ جَاهِلٌ لِكَوْنِهِ كَافِرًا لَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ اسْمَ الْفَاسِقِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مُخْتَصٌّ بِالْمُسْلِمِ الْمُقْدِمِ عَلَى الْكَبِيرَةِ.
وَعَنِ الثَّانِي: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ الْكُفْرَ الْخَارِجَ عَنِ الْمِلَّةِ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ صَاحِبِ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ رَأَيْنَا الشَّرْعَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَمَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ هَكَذَا قَالَ الرَّازِيُّ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إِنْ عُلِمَ مِنْ مَذْهَبِ الْمُبْتَدِعِ جَوَازُ الْكَذِبِ مُطْلَقًا لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ قَطْعًا، وَإِنْ عُلِمَ مِنْ مَذْهَبِهِ جَوَازُهُ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ كَالْكَذِبِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنُصْرَةِ مَذْهَبِهِ، أَوِ الْكَذِبِ فِيمَا هُوَ تَرْغِيبٌ فِي طَاعَةٍ، أَوْ تَرْهِيبٌ عَنْ مَعْصِيَةٍ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الْقَاضِيَانِ: أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ، وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ، لَا يُقْبَلُ، قِيَاسًا عَلَى الْفَاسِقِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: يُقْبَلُ، وَهُوَ رَأْيُ الْجُوَيْنِيِّ وَأَتْبَاعِهِ.
وَالْحَقُّ: عَدَمُ الْقَبُولِ مُطْلَقًا فِي الْأَوَّلِ، وَعَدَمُ قَبُولِهِ فِي ذلك الأمر الخاص في الثاني، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمُبْتَدِعِ الَّذِي يَكْفُرُ بِبِدْعَتِهِ.
وَبَيْنَ الْمُبْتَدِعِ الَّذِي لَا يَكْفُرُ بِبِدْعَتِهِ وَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمُبْتَدِعُ لَا يَسْتَجِيزُ الْكَذِبَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:
رَدُّ رِوَايَتِهِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَدْ فَسَقَ بِبِدْعَتِهِ فَهُوَ كَالْفَاسِقِ بِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي:
أَنَّهُ يُقْبَلُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى1 وَالثَّوْرِيِّ2 وَأَبِي يُوسُفَ3
__________
1 هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، العلامة الإمام، مفتي الكوفة وقاضيها، ولد سنة نيف وسبعين هـ، كان نظيرًا للإمام أبي حنيفة في الفقه، توفي سنة ثمان وأربعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 310"، تهذيب التهذيب "9/ 301"، الجرح والتعديل "7/ 322".
2 هو سفيان بن سعيد بن مسروق، أبو عبد الله، الشيخ الإمام الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث، سيد العلماء العاملين في زمانه، ولد سنة سبع وتسعين هـ، وتوفي سنة إحدى وستين ومائة هـ. من آثاره: "الجامع الكبير والجامع الصغير" كلاهما في الحديث، وله "كتاب في الفرائض". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 229"، الأعلام "3/ 104".
3 هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، الكوفي، الإمام المجتهد، المحدث العلامة، قاضي القضاة، صاحب الإمام أبي حنيفة، ولد سنة ثلاث عشرة ومائة هـ، وتوفي في خلافة الرشيد ببغداد سن اثنتين وثمانين ومائة هـ، من آثاره: "الخراج" "الآثار" "اختلاف الأمصار". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 535"، شذرات الذهب "1/ 298"، الأعلام "8/ 193".(1/141)
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ إِذَا كَانَ دَاعِيَةً إِلَى بِدْعَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ1 فِي "الْمُخَلَّصِ" عَنْ مَالِكٍ وَبِهِ جَزَمَ سُلَيْمٌ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَدْعُ يُقْبَلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مُطْلَقًا انْتَهَى.
وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيمَا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ وَيُقَوِّيهَا، لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الْخَطِيبُ2: وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ3 إِلَى الْأَكْثَرِينَ. قَالَ وَهُوَ أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ وَأَوْلَاهَا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ كَثِيرٌ مِنْ أَحَادِيثِ الْمُبْتَدِعَةِ غَيْرِ الدُّعَاةِ احْتِجَاجًا وَاسْتِشْهَادًا، كَعِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ4 وَدَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ5 وَغَيْرِهِمَا وَنَقَلَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ6 فِي كِتَابِ "الثقات" الإجماع على ذلك.
__________
1 هو عبد الوهاب بن علي بن نصر، الثعلبي، البغدادي، أبو محمد، قاضٍ من فقهاء المالكية، ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة هـ، من آثاره: "التلقين" "عيون المسائل" "النصرة لمذهب مالك". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 429"، هدية العارفين "2/ 637"، كشف الظنون "1/ 481".
أما كتابه "الملخص" فلعله هو كتاب "التخليص" الذي سيأتي ذكره "ص298".
2 هو أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، أبو بكر، الإمام الأوحد، العلامة المفتي، الحافط الناقد، ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة هـ، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة هـ، من آثاره: "تاريخ بغداد" "اقتضاء العلم العمل" "التبيين لأسماء المدلسين" وغيرها كثير. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 270"، هدية العارفين "1/ 79"، تذكرة الحفاظ "3/ 1135".
3 هو عثمان بن صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان، الموصلي الشافعي، أبو عمرو، الإمام الحافظ العلامة، شيخ الإسلام، تقي الدين، ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة هـ، وتوفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة هـ، كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث، والفقه، وأسماء الرجال، وما يتعلق بعلم الحديث واللغة، وإذا أطلق الشيخ في علماء الحديث فالمراد هو، من آثاره: "علوم الحديث" المعروف بمقدمة ابن الصلاح. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "23/ 140"، تذكرة الحفاظ "4/ 1430".
4 هو من أعيان العلماء، لكنه من رءوس الخوارج، حدث عن عائشة، وأبي موسى، وابن عباس، توفي سنة أربع وثمانين هـ، وكان سبب انتقاله إلى الخوارج: أن تزوج امرأة ليردها عن ذلك فصرفته إلى مذهبها، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 214"، تهذيب التهذيب "8/ 127"، شذرات الذهب "1/ 95".
5 الفقيه الأموي، أبو سليمان، روى عن أبيه وعكرمة، ونافع وأبي سفيان، توفي سنة خمس وثلاثين ومائة هـ، وهو ثقة، وقد ترك بعضهم حديثه لو هم منهم. ا. هـ. سير أعلام البنلاء "6/ 106"، الجرح والتعديل "3/ 408، تهذيب التهذيب "3/ 181".
6 هو محمد بن حبان بن أحمد، التميمي، البستي، الشافعي، صاحب الصحيح، العلامة المحدث أبو حاتم، شيخ خراسان، ولد سنة بضع وسبعين ومائتين هـ، وهو مؤرخ جغرافي، توفي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "المسند الصحيح" "الصحابة" "التابعين" وله أيضًا كتاب "الثقات". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 92"، الأعلام "6/ 78"، تذكرة الحافظ "3/ 920".(1/142)
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: جَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ هَذَا الْمَذْهَبَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِ "الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ"1: الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الدَّاعِيَةِ، أَمَّا الدَّاعِيَةُ، فَهُوَ سَاقِطٌ عِنْدَ الجميع.
قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ2: الْخِلَافُ فِي الدَّاعِيَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُظْهِرُ بِدْعَتَهُ بِمَعْنَى حَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهَا فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي تَرْكِ حَدِيثِهِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْعَدَالَةُ
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": هِيَ هَيْئَةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ تَحْمِلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ جَمِيعًا حَتَّى يُحَصَّلَ ثِقَةُ النَّفْسِ بصدقة وَيُعْتَبَرَ فِيهَا الِاجْتِنَابُ عَنِ الْكَبَائِرِ وَعَنْ بَعْضِ الصَّغَائِرِ كَالتَّطْفِيفِ بِالْحَبَّةِ، وَسَرِقَةِ بَاقَةٍ مِنَ الْبَقْلِ، وَعَنِ الْمُبَاحَاتِ الْقَادِحَةِ فِي الْمُرُوءَةِ، كَالْأَكْلِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْبَوْلِ فِي الشَّارِعِ، وَصُحْبَةِ الْأَرْذَالِ وَالْإِفْرَاطِ فِي الْمِزَاحِ، وَالضَّابِطِ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُؤْمَنُ "مَعَهُ"* جَرَاءَتُهُ عَلَى الْكَذِبِ يَرُدُّ الرِّوَايَةَ وَمَا لَا فَلَا، انْتَهَى.
وَأَصْلُ الْعَدَالَةِ فِي اللُّغَةِ: الِاسْتِقَامَةُ، يُقَالُ: طَرِيقٌ عَدْلٌ أَيْ مُسْتَقِيمٌ، وَتُطْلَقُ عَلَى اسْتِقَامَةِ السِّيرَةِ وَالدِّينِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَكِنِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ الْفِسْقِ. وَعِنْدَنَا مَلَكَةٌ فِي النَّفْسِ تَمْنَعُ عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالرَّذَائِلِ الْمُبَاحَةِ كَالْبَوْلِ فِي الطَّرِيقِ وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْكَبَائِرِ وَالرَّذَائِلِ الصَّادِقُ بِوَاحِدَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: وَالَّذِي صَحَّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فِي النَّاسِ مَنْ يُمَحِّضُ الطَّاعَةَ فَلَا يَمْزُجُهَا بِمَعْصِيَةٍ وَفِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُمَحِّضُ الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَمْزُجُهَا بِالطَّاعَةِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّ الْكُلِّ وَلَا إِلَى قَبُولِ الْكُلِّ، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ قُبِلْتُ شَهَادَتَهُ وَرِوَايَتَهُ، وَإِنْ كَانَ الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها.
__________
* في "أ": من.
__________
1 واسمه: "بيان الوهم والإيهام في الحديث" للشيخ أبي الحسن، علي بن محمد بن عبد الملك المعروف بابن القطان، الفاسي، الفقيه، الأصولي، المحدث المتوفى سنة ثمان وعشرين وستمائة هـ، وهو غير ابن القطان المتقدم في الصفحة "110"، صحح في كتابه هذا عدة أحاديث. ا. هـ. معجم المؤلفين "7/ 213"، كشف الظنون "1/ 262".
2 هو سليمان بن خلف، الإمام العلامة الحافظ، القاضي، أبو الوليد، ولد سنة ثلاث وأربعمائة هـ، من آثاره: "الاستيفاء" "الإيماء في الفقه" وغيرهما، توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة هـ، ا. هـ. أعلام النبلاء "18/ 535"، تذكرة الحفاظ "3/ 1178"، معجم الأدباء "11/ 246".(1/143)
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لَا بُدَّ فِي الْعَدْلِ مِنْ أَرْبَعِ شَرَائِطَ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ، وَأَنْ لَا يَرْتَكِبَ مِنَ الصَّغَائِرِ مَا يَقْدَحُ فِي دِينٍ أَوْ عِرْضٍ، وَأَنْ لَا يَفْعَلَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ مَا يُسْقِطُ الْقَدَرَ وَيُكْسِبُ النَّدَمَ، وَأَنْ لَا يَعْتَقِدَ مِنَ الْمَذَاهِبِ مَا يَرُدُّهُ أُصُولُ الشَّرْعِ.
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: الثِّقَةُ هِيَ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهَا فِي الْخَبَرِ، فَمَتَى حَصَلَتِ الثِّقَةُ بِالْخَبَرِ قُبِلَ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ: هِيَ مُحَافَظَةٌ دِينِيَّةٌ تَحْمِلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ لَيْسَ مَعَهَا بِدْعَةٌ فَزَادَ قَيْدَ عَدَمِ الْبِدْعَةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الشَّرْطِ الَّذِي مَرَّ قَبْلَ هَذَا.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي تَعْرِيفِ الْعَدَالَةِ: إِنَّهَا التَّمَسُّكُ بِآدَابِ الشَّرْعِ فَمَنْ تمسك بها فعلًاوتركا فَهُوَ الْعَدْلُ الْمَرْضِيُّ، وَمَنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَإِنْ كَانَ الْإِخْلَالُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ يَقْدَحُ فِي دِينِ فَاعِلِهِ أَوْ تَارِكِهِ، كَفِعْلِ الْحَرَامِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ فَلَيْسَ بِعَدْلٍ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ الْمُخْتَلِفَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ، فَلَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الدِّينِيِّ الَّذِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ قَنْطَرَتَانِ عَظِيمَتَانِ وَجِسْرَانِ كَبِيرَانِ وَهُمَا الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ.
نَعَمْ مَنْ فَعَلَ مَا يُخَالِفُ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ مُرُوءَةً عُرْفًا لَا شَرْعًا فَهُوَ تَارِكٌ لِلْمُرُوءَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ ذَهَابَ مُرُوءَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلِ الْمَعَاصِي مُنْقَسِمَةٌ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ أَمْ هِيَ قِسْمٌ وَاحِدٌ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} 1 وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَان} 2، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاتِرًا مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ الذُّنُوبِ بِاسْمِ الْكَبَائِرِ وَبَعْضِهَا بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ قِسْمٌ وَاحِدٌ وَمِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْجُوَيْنِيُّ وَابْنُ فُورَكَ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا كَبَائِرُ. وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ كَمَا يُقَالُ الزِّنَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفْرِ وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَا وَكُلُّهَا كَبَائِرُ.
قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْه} : إِنْ تَجْتَنِبُوا الْكُفْرَ كُفِّرَتْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتُكُمُ الَّتِي هي دون الكفر، والقول الأول راجح.
__________
1 جزء من الآية 31 من سورة النساء.
2 جزء من الآية 7 من سورة الحجرات.(1/144)
وههنا مَذْهَبٌ ثَالِثٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحِلْمِيُّ1 فَقَالَ: إِنَّ الْمَعَاصِيَ "تَنْقَسِمُ"* إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
صَغِيرَةٌ، وَكَبِيرَةٌ، وَفَاحِشَةٌ؛ فَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَبِيرَةٌ، فَإِنْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ لَهُ فَفَاحِشَةٌ، فَأَمَّا الْخَدْشَةُ وَالضَّرْبَةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَصَغِيرَةٌ وَجَعَلَ سَائِرَ الذُّنُوبِ هَكَذَا.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْكَبَائِرِ هَلْ تُعْرَفُ بِالْحَدِّ أَوْ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْعَدَدِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَدِّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقِيلَ إِنَّهَا الْمَعَاصِي الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ مَا يَلْحَقُ صَاحِبَهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ. وَقَالَ آخَرُونَ مَا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ. وَقِيلَ: مَا كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ.
وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ: مَا نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ أو وجب في حقه حَدٍّ، وَقِيلَ: مَا وَرَدَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ مَعَ الْحَدِّ، أَوْ لَفْظٌ يُفِيدُ الْكِبَرَ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّهَا لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْعَدَدِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ تَنْحَصِرُ فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: هِيَ سَبْعٌ، وَقِيلَ: تِسْعٌ، وَقِيلَ: عَشْرٌ، وَقِيلَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ، وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سِتٌّ وَثَلَاثُونَ، وَقِيلَ: سَبْعُونَ. وَإِلَى السَّبْعِينَ أَنْهَاهَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ2 فِي "جُزْءٍ صَنَّفَهُ" فِي ذَلِكَ.
وقد جمع ابن حجر الهيتمي3 فِيهَا مُصَنَّفًا حَافِلًا سَمَّاهُ الزَّوَاجِرَ فِي الْكَبَائِرِ" وَذَكَرَ فِيهِ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةِ مَعْصِيَةٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِهَا فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَمِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْهَا: الْقَتْلُ، وَالزِّنَا، وَاللُّوَاطَةُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةُ، وَالْغَصْبُ، وَالْقَذْفُ، وَالنَّمِيمَةُ، وَشَهَادَةُ الزور،
__________
* في "أ": تنقسم حد الكبائر إلى ثلاثة أقسام.
__________
1 هو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم، القاضي العلامة، رئيس المحدثين، أبو عبد الله البخاري الشافعي، أحد الأذكياء الموصوفين، ولد سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة هـ، توفي سنة ثلاث وأربعمائة هـ، من آثاره: "منهاج الدين في شعب الإيمان". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 231"، هدية العارفين "1/ 308"، تذكرة الحفاظ "3/ 1030"، شذرات الذهب "3/ 165".
2 هو محمد بن أحمد بن عثمان، شمس الدين، أبو عبد الله، الحافظ المؤرخ، العلامة المحقق، ولد في دمشق سنة ثلاث وسبعين وستمائة هـ، وأقام في دمشق وغوطتها، وأقام مدة في قرية كفر بطنا من قرى الغوطة وهي قرية هادئة غناء ألف فيها خيرة كتبه، توفي سنة ثمان وأربعين وسبعمائة هـ، من آثاره: "سير أعلام النبلاء" "الكبائر" "تذكرة الحفاظ" وغيرها كثير من الكتب. ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 153"، ذيل تذكرة الحفاظ "34"، سير أعلام النبلاء "المقدمة"، الأعلام "5/ 326".
3 هو أحمد بن محمد بن علي بن حجر التميمي، السعدي، الأنصاري، شهاب الدين، أبو العباس، فقيه، مصري، باحث، ولد بمحلة أبي الهيتم بمصر سنة تسع وتسعمائة هـ، وتوفي سنة أربع وسبعين وتسعمائة هـ، من آثاره: "الخيرات الحسان" "تحفة المحتاج لشرح المنهاج" "الزواجر عن اقتراب الكبائر". ا. هـ. الأعلام "1/ 224"، خلاصة الأثر "2/ 166".(1/145)
وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالْعُقُوقُ وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَخْذُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَخِيَانَةُ الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ، وَالْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقْدِيمُ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرُهَا وَضَرْبُ الْمُسْلِمِ وَسَبُّ الصَّحَابَةِ وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ وَالرِّشْوَةُ وَالدِّيَاثَةُ1، وَمَنْعُ الزَّكَاةِ، وَالْيَأْسُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَأَمْنُ الْمَكْرِ وَالظِّهَارُ وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةُ وَفِطْرُ رَمَضَانَ وَالرِّبَا وَالْغُلُولُ وَالسِّحْرُ وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ وَإِحْرَاقُ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ وَامْتِنَاعُ الزَّوْجَةِ عَنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، وَلَيْسَ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَقَالَةٌ لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ. وَقَدْ رَوَى بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ عِلْمَ الرِّوَايَةِ هَذَا اللَّفْظَ وَجَعَلَهُ حَدِيثًا وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْإِصْرَارَ حُكْمُهُ حُكْمُ مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ فَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْكَبِيرَةِ كَبِيرَةٌ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا عَدَالَةَ لِفَاسِقٍ.
وَقَدْ حَكَى مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"2 الْإِجْمَاعَ عَلَى رَدِّ خَبَرِ الْفَاسِقِ فَقَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ. قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَالْحَنَفِيَّةُ وَإِنْ بَاحُوا بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ فَلَمْ "يَبُوحُوا"* بِقَبُولِ رِوَايَتِهِ، فَإِنْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْفِسْقِ فَإِنْ علم كونه فسقًا لم تقبل روايته وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ فِسْقًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَظْنُونًا، أَوْ مَقْطُوعًا فَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ بِالِاتِّفَاقِ، قَالَ وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ قُبِلَتْ أَيْضًا.
لَنَا: أَنَّ ظَنَّ صِدْقِهِ رَاجِحٌ، وَالْعِلْمَ بِهَذَا الظَّنِّ وَاجِبٌ وَالْمُعَارَضَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ منتفٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ.
احْتَجَّ الْخَصْمُ: بِأَنَّ مَنْصِبَ الرِّوَايَةِ لَا يَلِيقُ بِالْفَاسِقِ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ: أَنَّهُ جَهِلَ فِسْقَهُ، لَكِنَّ جَهْلَهُ بِفِسْقِهِ فِسْقٌ آخَرُ، فَإِذَا مَنَعَ أَحَدُ الْفُسَقِينَ عَنْ قَبُولِ الرِّوَايَةِ فَالْفِسْقَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ الْمَنْعِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِذَا عُلِمَ كَوْنُهُ فِسْقًا دَلَّ إِقْدَامُهُ عَلَيْهِ عَلَى اجْتِرَائِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بخلاف إذا لم يعلم ذلك.
__________
* في "أ": يوجبوا.
__________
1 الدياثة: القيادة "إدخال الرجال على الحرم للزنا"، والديوث هو الذي لا يغار على أهله.
2 صحيح مسلم شرح النووي "1/ 62".(1/146)
ويجاب عن هذا الجواب: أن إِخْلَالَهُ بِأُمُورِ دِينِهِ إِلَى حَدٍّ يَجْهَلُ مَعَهُ مَا يُوجِبُ الْفِسْقَ يَدُلُّ أَبْلَغَ دِلَالَةٍ عَلَى اجْتِرَائِهِ عَلَى دِينِهِ وَتَهَاوُنِهِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رِوَايَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: مَجْهُولِ الْحَالِ مَعَ كَوْنِهِ مَعْرُوفَ الْعَيْنِ بِرِوَايَةِ عَدْلَيْنِ عَنْهُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ: أَنَّ رِوَايَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ1: تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ اكْتِفَاءً بِسَلَامَتِهِ مِنَ التَّفْسِيقِ ظَاهِرًا، وَقَالَ جَمَاعَةٌ إِنْ كَانَ الرَّاوِيَانِ أَوِ الرُّوَاةُ عَنْهُ لَا يَرْوُونَ عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَدْلًا فِي الظَّاهِرِ وَمَجْهُولَ الْعَدَالَةِ فِي الْبَاطِنِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُقْبَلُ مَا لَمْ يُعْلَمِ الْجَرْحُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ تُعْلَمِ الْعَدَالَةُ، وَحَكَاهُ الْكِيَا عَنِ الْأَكْثَرِينَ، وَذَكَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَيَّدُوا الْقَوْلَ بِالْقَبُولِ بِصَدْرِ الْإِسْلَامِ، بِغَلَبَةِ الْعَدَالَةِ عَلَى النَّاسِ إِذْ ذَاكَ، قَالُوا وَأَمَّا الْمَسْتُورُ فِي زَمَانِنَا فَلَا يُقْبَلُ لِكَثْرَةِ الْفَسَادِ وَقِلَّةِ الرَّشَادِ.
وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ: بِالْوَقْفِ -إِذَا رَوَى التَّحْرِيمَ- إِلَى ظُهُورِ حَالِهِ، "وَأَمَا"* مَجْهُولُ الْعَيْنِ وَهُوَ مَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ وَلَمْ يروِ عَنْهُ إِلَّا راوٍ وَاحِدٌ فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الرَّاوِي إِلَّا مُجَرَّدَ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنْ كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ كَابْنِ مَهْدِيٍّ وَابْنِ معين ويحيى القطان2 فإنه "يكفي"** وَتَرْتَفِعُ عَنْهُ الْجَهَالَةُ الْعَيْنِيَّةُ وَإِلَّا فَلَا.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: إِنْ زَكَّاهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، مَعَ رِوَايَتِهِ، عَنْهُ وَعَمَلِهِ بِمَا رَوَاهُ قُبِلَ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ تَصَرُّفِ ابْنِ حِبَّانَ فِي "ثِقَاتِهِ" فإنه يحكم برفع الجهالة برواية واحدة.
__________
* في "أ": ولنا.
** في "أ": تنتفي.
__________
1 هو النعمان بن ثابت، الإمام الفقيه، عالم العراق، ولد سنة ثمانين هـ، ورأى أنس بن مالك، وعامر بن الطفيل، وسهل بن سعد الساعدي من الصحابة، كان يسمى بالوتد لكثرة صلاته، توفي في السجن ببغداد سنة خمسين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 390"، شذرات الذهب "1/ 237"، تذكرة الحفاظ "1/ 168".
2 هو يحيى بن سعيد بن فروخ، الإمام الكبير، أمير المؤمنين في الحديث أبو سعيد، التميمي، ولد سنة عشرين ومائة هـ، توفي سنة تسعين ومائة هـ، كان عشرين سنة يختم كل ليلة، قال عنه ابن مهدي: لا ترى بعينك مثل يحيى القطان. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 175"، تهذيب التهذيب "11/ 216"، شذرات الذهب "1/ 355".(1/147)
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّسَائِيِّ1 أَيْضًا قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: ذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّ الرَّاوِيَ إِذَا رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا انْتَفَتْ عَنْهُ الْجَهَالَةُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأُصُولِ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْوِي الْجَمَاعَةُ عَنِ الْوَاحِدِ لَا يَعْرِفُونَ حَالَهُ وَلَا يُخْبِرُونَ شَيْئًا مَنْ أَمْرِهِ وَيُحَدِّثُونَ بِمَا رَوَوْا عنه "ولا يخرجه روايتهم عنه"* "عن"** على الْجَهَالَةِ؛ إِذْ لَمْ يَعْرِفُوا عَدَالَتَهُ؛ انْتَهَى.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ بِارْتِفَاعِ جَهَالَةِ الْعَيْنِ بِرِوَايَةِ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا عَنْهُ لَا بِارْتِفَاعِ جَهَالَةِ الحال كما سبق.
والحق لأنها لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَجْهُولِ الْعَيْنِ وَلَا مَجْهُولِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الظَّنِّ بِالْمَرْوِيِّ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا كَانَ الرَّاوِي عَدْلًا وَقَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 2 وَقَوْلِهِ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم} 3؛ وَقَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ الْعَدْلِ فَكَانَ كَالْمُخَصِّصِ لِذَلِكَ الْعُمُومِ، فَبَقِيَ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومَاتِ وَأَيْضًا قَدْ تَقَرَّرَ عَدَمُ قَبُولِ رِوَايَةِ الْفَاسِقِ وَمَجْهُولُ الْعَيْنِ أَوِ الْحَالِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَاسِقٍ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لِأَنَّ عَدَمَ الْفِسْقِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ عند فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ هَذَا الشَّرْطِ وَأَيْضًا وُجُودُ الْفِسْقِ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ رِوَايَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ هَذَا الْمَانِعِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ قَالَ بِالْقَبُولِ بِمَا يَرْوُونَهُ من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نحن نحكم بالظاهر"4. فقال
__________
* ما بين القوسين ساقط من "أ".
** في "أ": على.
__________
1 هو أحمد بن شعيب الإمام الحافظ الثبت، شيخ الإسلام، ناقد الحديث، أبو عبد الرحمن، صاحب السنن، ولد في نسا سنة خمس عشرة ومائتين هـ، وتوفي في طريقه إلى الحج شهيدًا بعد أن امتحن بدمشق سنة ثلاث وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 125"، شذرات الذهب "2/ 239"، تذكرة الحفاظ "2/ 698".
2 جزء من الآية "28" من سورة النجم.
3 جزء من الآية "36" من سورة الإسراء.
4 قال السخاوي في المقاصد الحسنة "178": اشتهر بين الأصوليين والفقهاء، ولا وجود له في كتب الحديث المشهور ولا الأجزاء المنثورة، وجزم العراقي بأنه لا أصل له، وكذا أنكره المزي وغيره، وتبعه على ذلك العجلوني في كشف الخفاء "1/ 192"، وزاد نقله على الزركشي، فقد قال: لا يعرف بهذا اللفظ، وابن كثير قال: لم أقف له على سند، وأنكره القاري والحافظ ابن الملقن.
انظر المصنوع في معرفة الحديث الموضوع رقم "38" بتحقيق مولانا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، فقد نبه فيه على غلط وقع للسخاوي وتبعه بعض العلماء.(1/148)
الذَّهَبِيُّ وَالْمِزِّيُّ1 وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحُفَّاظِ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ وَلَوْ سَلَّمَنَا أَنَّ لَهُ أَصْلًا لَمْ يَصْلُحْ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّ صِدْقَ الْمَجْهُولِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلْ صِدْقُهُ وَكَذِبُهُ مُسْتَوِيَانِ وإذا عرفت هذا فلا يصدهم مَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يصح بمثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ" 2 وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ وَبِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ يَوْمَ بَدْرٍ لَمَّا اعْتَذَرَ بِأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى الْخُرُوجِ فَقَالَ: "كَانَ ظَاهِرُكَ عَلَيْنَا" 3، وَبِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إِنَّمَا نُؤَاخِذُكُمْ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ" 4.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الضَّبْطُ
فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي ضَابِطًا لِمَا يَرْوِيهِ لِيَكُونَ الْمَرْوِيُّ لَهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهُ فِي حِفْظِهِ وَقِلَّةِ غَلَطِهِ وَسَهْوِهِ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ رُدَّتْ رِوَايَتُهُ إِلَّا فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَغْلَطْ فِيهِ وَلَا سَهَا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْغَلَطِ قُبِلَ خَبَرُهُ إِلَّا فِيمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ، كَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: مَنْ أَخْطَأَ فِي حَدِيثٍ فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ لِذَلِكَ حَدِيثُهُ، وَمَنْ كَثُرَ بِذَلِكَ خَطَؤُهُ وَغَلَطُهُ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى حِفْظِ الْحِكَايَةِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ5 فِي "الْعِلَلِ"6: كُلُّ مَنْ كَانَ مُتَّهَمًا في الحديث بالكذب، أو كان مغفلًا
__________
1 هو يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف القضاعي، الكلبي الحلبي الدمشقي، الحافظ جمال الدين أبو الحجاج، محدث، حافظ، مشارك في الأصول والفقه والنحو، ولد سنة أربع وخمسين وستمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة هـ، من آثاره: "أطراف الكتب الستة" خمس مجلدات "تهذيب الكمال في أسماء الرجال". ا. هـ. معجم المؤلفين "13/ 308"، هدية العارفين "1/ 556"، الأعلام "8/ 236"، شذرات الذهب "6/ 136".
2 أخرجه البخاري: من حديث أم سلمة، كتاب المظالم والغصب، باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه "2458" ومسلم، كتاب الأقضية باب بيان أن حكم الحاكم لا يغير الباطن "1713" وابن ماجة كتاب الأحكام، باب قضية الحاكم لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالًا "2317". والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في التشديد على من يُقضى له بشيء ليس له أن يأخذه "1339" بنحوه وقال: حسن صحيح.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه "5070"، والبيهقي في السنن، كتاب آداب القاضي، باب من قال: ليس للقاضي أن يقضي بعلمه "10/ 143". والنسائي، كتاب آداب القاضي، باب الحكم بالظاهر "5416" 8/ 233.
3 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة بلفظ: "فأما ظاهرًا منك كان علينا فافد نفسك" "3/ 142" وابن كثير في "البداية والنهاية" "3/ 299" بلفظ: "أما ظاهرك فكان علينا والله أعلم بإسلامك".
4 أخرجه البخاري، كتاب الشهادات باب الشهداء العدول "2641" وذكره الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة موقوفًا على سيدنا عمر ر ضي الله عنه "178". وقال ابن حجر في التلخيص الحبير عن عمر رضي الله عنه قال: "إنما كانوا يؤخذون بالوحي على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم" وفي الباب من حديث أبي سعيد الخدري "2100".
5 هو محمد بن عيسى بن سورة، الترمذي، الحافظ، الإمام البارع، الضرير، ولد سنة عشر ومائتين هـ، وحدث عن إسحاق بن راهويه، ومحمود بن غيلان، وغيرهم، توفي في ترمذ سنة تسع وسبعين ومائتين هـ.
ا. هـ. تذكرة الحافظ "2/ 635"، شذرات الذهب "2/ 174"، سير أعلام النبلاء "13/ 273".
6 واسمه: "العلل في الحديث"، وهو مطبوع. انظر كشف الظنون "2/ 1440".(1/149)
يُخْطِئُ الْكَثِيرَ فَالَّذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ انْتَهَى.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ: إِنْ غَلَبَ خَطَؤُهُ وَسَهْوُهُ عَلَى حِفْظِهِ فَمَرْدُودٌ إِلَّا فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُخْطِئْ فِيهِ وَإِنْ غَلَبَ حِفْظُهُ عَلَى خَطَئِهِ وَسَهْوِهِ فَمَقْبُولٌ إِلَّا فِيمَا علم أنه أخطأ فيه وإن استويا بالخلاف، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ يُقْبَلُ لِأَنَّ جِهَةَ التَّصْدِيقِ رَاجِحَةٌ فِي خَبَرِهِ لِعَقْلِهِ وَدِينِهِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنَّهُ يُرَدُّ وَقِيلَ إِنَّهُ يُقْبَلُ خَبَرُهُ إِذَا كَانَ مُفَسَّرًا وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَيُعِينَ وَقْتَ السَّمَاعِ مِنْهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا يُقْبَلُ وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَحَكَاهُ الْجُوَيْنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الشَّهَادَةِ، فَفِي الرِّوَايَةِ أَوْلَى، وَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الرَّاوِيَ إِنْ كَانَ تَامَّ الضَّبْطِ مَعَ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فَحَدِيثُهُ مِنْ قِسْمِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّ خَفَّ ضَبْطُهُ فَحَدِيثُهُ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ، وَإِنْ كَثُرَ غَلَطُهُ فَحَدِيثُهُ مِنْ قِسْمِ الضَّعِيفِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ هَذَا بِمَا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ بِأَنَّهُ لَمْ يُخْطِئْ فِيمَا رَوَاهُ.
قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَلَا يُشْتَرَطُ انْتِفَاءُ الْغَفْلَةِ وَلَا يُوجِبُ لُحُوقُ الْغَفْلَةِ لَهُ رَدَّ حَدِيثِهِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ لَحِقَتْهُ الْغَفْلَةُ فِيهِ بِعَيْنِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مِمَّنْ تَعْتَرِيهِ الْغَفْلَةُ فِي غَيْرِ مَا يَرْوِيهِ كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْحُفَّاظِ فَإِنَّهُمْ قَدْ تَلْحَقُهُمُ الْغَفْلَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَإِذَا رَوَوْا كَانُوا مِنْ أَحَذَقِ النَّاسِ بِالرِّوَايَةِ وَأَنْبَهِهِمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الضَّبْطِ أَنْ يُضْبَطَ اللَّفْظُ بِعَيْنِهِ كَمَا سَيَأْتِي1.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الرَّاوِي مُدَلِّسًا
وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدْلِيسُ فِي الْمَتْنِ أَوْ فِي الْإِسْنَادِ.
أَمَّا التَّدْلِيسُ فِي الْمَتْنِ فَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَ غَيْرِهِ فَيَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا التَّدْلِيسُ فِي الْإِسْنَادِ فَهُوَ عَلَى أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي إِبْدَالِ الْأَسْمَاءِ فَيُعَبَّرُ عَنِ الرَّاوِي وَعَنْ أَبِيهِ بِغَيْرِ اسْمَيْهِمَا وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْكَذِبِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُسَمِّيَهُ بِتَسْمِيَةٍ غَيْرِ مَشْهُورَةٍ فَيَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ غَيْرُ مَنْ قَصَدَهُ الرَّاوِي وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ يَكُونُ مَشْهُورًا بِاسْمِهِ فَيَذْكُرُهُ الرَّاوِي بِكُنْيَتِهِ أَوِ الْعَكْسِ إِيهَامًا لِلْمَرْوِيِّ لَهُ بِأَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَإِنْ كَانَ مَقْصِدُ الرَّاوِي بِذَلِكَ التَّغْرِيرَ عَلَى السَّامِعِ بِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عنه غير ذلك
__________
1 انظر صفحة: "158".(1/150)
الرَّجُلِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ ضَعِيفًا وَكَانَ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِ الْمَشْهُورِ مِنِ اسْمِهِ أَوْ كُنْيَتِهِ لِيَظُنَّ السَّامِعُ أَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ الضَّعِيفِ. فَهَذَا التَّدْلِيسُ قَادِحٌ فِي عَدَالَةِ الرَّاوِي، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصِدُ الرَّاوِي مُجَرَّدَ الْإِغْرَابِ عَلَى السَّامِعِ مَعَ كَوْنِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ عَدْلًا عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّدْلِيسِ بجرح كما قال ابن الصلاح وابن السمعان، ي وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ بُرْهَانٍ هُوَ جَرْحٌ.
وَثَالِثُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّدْلِيسُ بِإِطْرَاحِ اسْمِ الرَّاوِي الْأَقْرَبِ وَإِضَافَةِ الرِّوَايَةِ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْخَهُ وَيَرْوِيَ الْحَدِيثَ عَنْ شَيْخِ شَيْخِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ ضَعِيفًا فَذَلِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فِي الرِّوَايَةِ وَلَا يَفْعَلُهُ إِلَّا مَنْ لَيْسَ بِكَامِلِ الْعَدَالَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ ثِقَةً وَتُرِكَ ذِكْرُهُ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ الَّتِي لَا تُنَافِي الْأَمَانَةَ وَالصِّدْقَ وَلَا تَتَضَمَّنُ التَّغْرِيرَ عَلَى السَّامِعِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي عَدَالَةِ الرَّاوِي، لَكِنْ إِذَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ بِصِيغَةٍ مُحْتَمَلَةٍ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: قَالَ فُلَانٌ أَوْ رُوي عَنْ فُلَانٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَمَّا لَوْ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَانٌ أَوْ أخبرنا وهو لم يحدث وَلَمْ يُخْبِرْهُ بَلِ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ أَخْبَرَهُ هُوَ مِنْ تُرِكَ ذِكْرُهُ فَذَلِكَ كَذِبٌ يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ كَانَ ثِقَةً وَاشْتُهِرَ بِالتَّدْلِيسِ فَلَا يُقْبَلُ إِلَّا إِذَا قَالَ حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا أَوْ سَمِعْتُ لَا إِذَا لَمْ يَقُلْ كَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أسقط من لا تقوم الحجة بمثله.
أما الشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى مَدْلُولِ الْخَبَرِ:
فَالْأَوَّلُ:
مِنْهَا أَنْ لَا يَسْتَحِيلَ وُجُودُهُ فِي الْعَقْلِ فإن أحاله العقل رد.
الشرط الثَّانِي:
أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِنَصٍّ مَقْطُوعٍ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بحال.
الشرط الثَّالِثُ:
أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ. وَأَمَّا إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ الْقَطْعِيَّ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ مُقَدِّمَاتُ الْقِيَاسِ قَطْعِيَّةً قَدَّمَ الْقِيَاسَ وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً قَدَّمَ الْخَبَرَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ1، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: إِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ2: إِنْ كَانَ الرَّاوِي ضَابِطًا عَالِمًا قُدِّمَ خَبَرُهُ وَإِلَّا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ ثَابِتَةً بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فَالْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ وَإِنْ كَانَ حكم الأصل مَقْطُوعًا بِهِ خَاصَّةً دُونَ الْعِلَّةِ فَالِاجْتِهَادُ فِيهِ واجب حتى يظهر ترجيح
__________
1 هو محمد بن عبد الله التميمي، الأبهري المالكي، أبو بكر، الإمام العلامة، القاضي المحدث شيخ المالكية، ولد سنة تسعين ومائتين، وتوفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "شرح مختصر عبد الله بن الحكيم". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 332"، هدية العارفين "2/ 50"، شذرات الذهب "3/ 85".
2 هو عيسى بن أبان بن صدقة، القاضي، أبو موسى البغدادي، الحنفي توفي بالبصرة سنة عشرين ومائتين هـ، من آثاره: "إثبات القياس" "اجتهاد الرأي"، وغيرها، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 440"، هدية العارفين "1/ 806"، الفوائد البهية "151".(1/151)
أَحَدِهِمَا فَيَعْمَلَ بِهِ، وَإِلَّا فَالْخَبَرُ مُقَدَّمٌ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الصَّيْمَرِيُّ1: لَا خِلَافَ فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ قَالَ الْكِيَا: قَدَّمَ الْجُمْهُورُ خَبَرَ الضَّابِطِ عَلَى الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عُرْضَةُ الزَّلَلِ انْتَهَى.
وَالْحَقُّ: تَقْدِيمُ الْخَبَرِ الْخَارِجِ مِنْ مَخْرَجٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ عَلَى الْقِيَاسِ مُطْلَقًا، إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، كَحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ2 وَحَدِيثِ الْعَرَايَا3 فَإِنَّهُمَا مُقَدَّمَانِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ التَّابِعُونَ إِذَا جَاءَهُمُ الْخَبَرُ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الْقِيَاسِ وَلَا يَنْظُرُوا فِيهِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ فَبَعْضُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَبَعْضُهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ الْخَبَرُ عِنْدَ مَنْ قَدَّمَ الْقِيَاسَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْقِيَاسِ حَدِيثُ مُعَاذٍ4 فَإِنَّهُ قَدَّمَ الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى اجْتِهَادِهِ.
وَمِمَّا يُرَجِّحُ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ عَلَى الْقِيَاسِ أَنَّ الْخَبَرَ يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِي أَمْرَيْنِ: وَهُمَا دِلَالَتُهُ، عدالة الرَّاوِي وَدِلَالَةُ الْخَبَرِ، وَالْقِيَاسُ يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِي سِتَّةِ أُمُورٍ: حُكْمُ الْأَصْلِ وَتَعْلِيلُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَعَيُّنُ الْوَصْفِ الَّذِي بِهِ التَّعْلِيلُ وَوُجُودُ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ وَنَفْيُ الْمُعَارِضِ فِي الْأَصْلِ وَنَفْيُهُ فِي الْفَرْعِ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلُ الْأَصْلِ خَبَرًا، فَإِنْ كَانَ خَبَرًا كان النظر في ثمانية
__________
1 هو أبو الحسين البصري: وقد سبق ترجمته، ونسبه هنا إلى نهر صيمر في البصرة.
2 وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تصروا الغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر". والبخاري عن أبي هريرة، كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يجعل الإبل والغنم والبقر "2150"، وأخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه "1515"، كتاب البيوع، باب من اشترى مصراة فكرهها "3443". ومالك في الموطأ، كتاب البيوع، باب ما ينهى عن المساومة والمبايعة "2/ 683"، والبيهقي، كتاب البيوع، باب الحكم فيمن اشترى مصراة "5/ 318". وعبد الرزاق في مصنفه "14858"، وأحمد في مسنده "2/ 259"، وابن حبان في صحيحه "4970".
3 أخرجه البخاري عن زيد بن ثابت بلفظ: "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها من التمر". كتاب البيوع، باب بيع المزابنة "2188". ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا العرايا "1539". والطبراني "4767". وعبد الرزاق، كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالتمر في رءوس النخل "14486"، وأحمد في مسنده "5/ 182" وابن حبان في صحيحه "5001".
4 ولفظه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ "، قال: فبسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا في كتاب الله؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله".
أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء "3592". الترمذي، كتاب الأحكام، باب ماجاء في القاضي كيف يقضي "1227". وأخرجه أحمد "5/ 530". الطبراني في معجمه "20/ 170" برقم "362". والدارمي في سننه، في المقدمة برقم "168".(1/152)
أُمُورٍ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ الِاثْنَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْخَبَرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ كَانَ احْتِمَالُ الْخَطَأِ فِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِي أَقَلَّ مِنْهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْخَبَرَ عَمَلُ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ قَوْلَ الْأَكْثَرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَلَا يَضُرُّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِخِلَافِهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَأَتْبَاعِهِ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ وَلِجَوَازِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمُ الْخَبَرُ.
وَلَا يَضُرُّهُ عَمَلُ الرَّاوِي لَهُ بِخِلَافِهِ خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّا مُتَعَبِّدُونَ بِمَا بَلَغَ إِلَيْنَا مِنَ الْخَبَرِ وَلَمْ نَتَعَبَّدْ بِمَا فَهِمَهُ الرَّاوِي وَلَمْ يَأْتِ مَنْ قَدَّمِ عَمَلَ الرَّاوِي عَلَى رِوَايَتِهِ بِحُجَّةٍ تَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَحْثِ مَزِيدُ بَسْطٍ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى لَفْظِ الْخَبَرِ1.
وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ2 لِعَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي ذَلِكَ.
وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْخِلَافِ فَهُوَ خَبَرُ عَدْلٍ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ دَلِيلٌ يَخُصُّهَا مِنْ عُمُومِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَاسْتِدْلَالُهُمْ بحديث: "ادرءوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ"3 بَاطِلٌ فَالْخَبَرُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ يَدْفَعُ الشُّبْهَةَ عَلَى فَرْضِ وَجُودِهَا.
وَلَا يَضُرُّهُ أَيْضًا كَوْنُهُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ أَوِ السُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فَقَالُوا إِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا وَرَدَ بِالزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ كَانَ نَسْخًا لَا يُقْبَلُ.
وَالْحَقُّ: الْقَبُولُ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مُنَافِيَةٍ لِلْمَزِيدِ، فَكَانَتْ مقبولة، ودعوى أنها ناسخة ممنوعة،
__________
1 انظر صفحة: "165".
2 هو الحسين بن علي بن إبراهيم البصري، الفقية المتكلم، أبو عبد الله، الحنفي المعروف بالجعل، ولد سنة ثلاث وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة تسع وستين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "تحريم المتعة":شرح مختصر الكرخي في الفروع". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 224"، شذرات الذهب "3/ 38"، الفوائد البهية "67"، هدية العارفين "1/ 307".
3 أخرجه الحاكم بلفظ: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ... " إلخ، كتاب الحدود "4/ 384"، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات "8/ 238". والترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود "1424".
وأما لفظ: "ادرءوا الحدود بالشبهات" فقد ذكره ابن حجر في التلخيص الحبير وقال: فيه يزيد بن زياد الدمشقي وهو ضعيف، وقال عنه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، ورواه وكيع عنه موقوفًا، وهو أصح قاله الترمذي والبيهقي في سننه، ورواية وكيع أقرب إلى الصواب. وروي عن عدة من الصحابة كما ذكره الترمذي موقوفًا انظر التخليص الحبير "4/ 56" "1755".(1/153)
وَهَكَذَا إِذَا وَرَدَ الْخَبَرُ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ وَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَكَذَا إِذَا وَرَدَ مُقَيِّدًا لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ. وَقَسَّمَ الْهِنْدِيُّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا خَصَّصَ عُمُومَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَوْ قَيَّدَ مُطْلَقَهُمَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَا لَا يُعْلَمُ مُقَارَنَتُهُ لَهُ وَلَا تَرَاخِيهِ عَنْهُ فَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: يُقْبَلُ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَفَعَتْ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْهَا هَلْ كَانَتْ مُقَارَنَةً أَمْ لَا؟ قَالَ: وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى كَوْنِهِ مُخَصِّصًا مَقْبُولًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى كَوْنِهِ نَاسِخًا مَرْدُودًا.
الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ مُقَارَنَتُهُ لَهُ فَيَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُعْلَمَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ وَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ. لم يقبله؛ لأنه لَوْ قَبِلَهُ لَقُبِلَ نَاسِخًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَمَنْ جَوَّزَهُ قَبِلَهُ إِنْ كَانَ وَرَدَ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ وَأَمَّا إِذَا وَرَدَ بَعْدَهُ فَلَا يُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ انْتَهَى. وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ البحث في التخصيص للعام والتقييد للمطلق1.
حكم زيادة الثقة:
وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُ رَاوِيهِ انْفَرَدَ بِزِيَادَةٍ فِيهِ عَلَى مَا رَوَاهُ غَيْرُهُ إِذَا كَانَ عَدْلًا فَقَدْ يَحْفَظُ الْفَرْدُ مَا لَا يَحْفَظُهُ الْجَمَاعَةُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِلْمَزِيدِ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُنَافِيَةً فَالتَّرْجِيحُ وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ أَرْجَحُ مِنْ رِوَايَةِ الْوَاحِدِ، وَقِيلَ: لَا نَقْبَلُ رِوَايَةَ الْوَاحِدِ إِذَا خَالَفَتْ رِوَايَةَ الْجَمَاعَةِ "بِزِيَادَةٍ عَلَيْهَا"* وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِلْمَزِيدِ إِذَا كَانَ مَجْلِسُ السماع واحدًا وكانت الجماعة بحيث لا "تجوز"** عَلَيْهِمُ الْغَفْلَةُ عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَأَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ مَجْلِسُ السَّمَاعِ فَتُقْبَلُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَمِثْلُ انْفِرَادِ الْعَدْلِ بِالزِّيَادَةِ انْفِرَادُهُ بِرَفْعِ الْحَدِيثِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي وَقَفَهُ الْجَمَاعَةُ وَكَذَا انْفِرَادُهُ بِإِسْنَادِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَرْسَلُوهُ وَكَذَا انْفِرَادُهُ بِوَصْلِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَطَعُوهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى مَا رَوَوْهُ وَتَصْحِيحٌ لِمَا أَعْلَوْهُ.
وَلَا يَضُرُّهُ أَيْضًا كَوْنُهُ خَارِجًا مَخْرَجَ ضَرْبِ الأمثال. وروي عن إمام الحرمين أنه
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** "أ": لا يجوز.
__________
1 انظر صفحة: "354".(1/154)
مَوْضِعُ تَجَوُّزٍ، فَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَوْضِعَ تَجَوُّزٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا لِمَكَانِ الْعِصْمَةِ.
وَأَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى لَفْظِ الْخَبَرِ:
"فَاعْلَمْ"* أَنَّ لِلرَّاوِي فِي نَقْلِ مَا يَسْمَعُهُ أحوالا:
الحال الأولى:
أَنْ يَرْوِيَهُ بِلَفْظِهِ فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ كَمَا سَمِعَهَا، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ فَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ مَسْتَغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" 1 فَالرَّاوِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَذْكُرَ السُّؤَالَ أَوْ يَتْرُكَهُ وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ غَيْرَ مستغنٍ عَنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ كَمَا فِي سُؤَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: "أَيَنْقُصُ إِذَا جَفَّ": فَقِيلَ: نَعَمْ. فَقَالَ: "فَلَا إِذًا" 2، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْجَوَابُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ، فَإِذَا نَقَلَ الرَّاوِي السُّؤَالَ لَمْ يَحْتَمِلْ إِلَّا أَمْرًا وَاحِدًا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَذِكْرُ السُّؤَالِ "وَالسَّبَبِ"** مَعَ ذِكْرِ الْجَوَابِ وَمَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ أَوْلَى مِنَ الْإِهْمَالِ.
الْحَالُ الثانية:
أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ بَلْ بِمَعْنَاهُ، وَفِيهِ ثَمَانِيَةُ مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ عَارِفٍ بِمَعَانِي الْأَلْفَاظِ، لَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا. فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى. قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": بِالْإِجْمَاعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظٍ مُرَادِفٍ، كَالْجُلُوسِ مَكَانَ الْقُعُودِ أَوِ الْعَكْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ بِهِ مُسَاوِيًا لِلْأَصْلِ فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ فَلَا يَأْتِي مَكَانَ الْجَلِيِّ بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الْجَلَاءِ وَلَا مَكَانَ العام بالخاص ولا مكان
__________
* في "أ": فإنه علم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الطهارة باب الطهور للوضوء "1/ 22"، وأبو داود كتاب الطهارة: باب الوضوء بماء البحر "83" والترمذي كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور "69"، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي كتاب الطهارة، باب ماء البحر "59" "1/ 50"، وابن ماجه كتاب الطهارة باب الوضوء بماء البحر رقم "386"، وابن حبان في صحيحه "1243"، وابن خزيمة "111"، والحاكم في المستدرك "1/ 140"، كتاب الطهارة وصححه ووافقه الذهبي.
2 أخرج ابن ماجه بنحوه من حديث سعد بن أبي وقاص في كتاب التجارات باب بيع الرطب بالتمر "2264".
والنسائي، كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب "4559". والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة "1225". وأبو داود، كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر "3359". والحاكم في المستدرك بلفظ "إذا جف" كتاب البيوع "2/ 38" ووافقه الذهبي. وأخرجه مالك في الموطأ، كتاب البيوع، باب ما يكره من بيع التمر "2/ 624". وابن حبان في صحيحه "5003".(1/155)
الْمُطْلَقِ بِالْمُقَيَّدِ، وَلَا مَكَانَ الْأَمْرِ بِالْخَبَرِ وَلَا عَكْسَ ذَلِكَ.
وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَبَرُ مِمَّا تَعْبَّدْنَا بِلَفْظِهِ، كَأَلْفَاظِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَبَرُ مِنْ بَابِ الْمُتَشَابِهِ، كَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ. وَحَكَى الْكِيَا الطَّبَرِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْرِي هَلْ يُسَاوِيهِ اللَّفْظُ الَّذِي تَكَلَّمُ بِهِ الرَّاوِي، وَيَحْتَمِلُ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ أَمْ لَا.
وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَبَرُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، كَقَوْلِهِ: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" 1 "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ" 2، "الْحَرْبُ خَدْعَةٌ" 3، "الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ" 4، "الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ" 5، "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي" 6: لَمْ تَجُزْ رِوَايَتُهُ بالمعنى.
__________
1 رواه البخاري كتاب بدء الوحي، باب كيفية كان بدء الوحي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقم1، ومسلم بزيادة: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"، رقم "1907" كتاب الإمارة، باب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات". ورواه النسائي بلفظ: "إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى" برقم "75" باب النية في الوضوء، كتاب الطهارة.
2 أخرجه مالك في الموطأ من حديث على بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقال: إنه حديث حسن بل صحيح، في كتاب حسن الخلق، باب ما جاء في حسن الخلق "2/ 903"، والطبراني في الأوسط "8397"، والترمذي من حديث أبي هريرة، كتاب الزهد "2317". وابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة" "3967". وذكره البغوي في المصابيح، كتاب الآداب، باب حفظ اللسان "3769".
3 أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب الحرب خدعة من حديث جابر بن عبد الله "3030" ومسلم، كتاب الجهاد، باب جواز الخداع في الحرب "1739". والبيهقي في السنن، كتاب النكاح، باب من حرم عليه من خائنة الأعين دون المكيدة في الحرب "7/ 40"، والترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في الرخصة في الكذب والخديعة في الحرب "1675"، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب المكر في الحرب "2636"، وأحمد في مسنده "3/ 308"، وابن حبان في صحيحه "4763".
4 أخرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها، في البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد يستغله ثم يجد به عيبًا "1285" وقال حسن صحيح، وأبو داود كتاب البيوع، باب فيمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا "3508". وابن ماجه في التجارات، باب الخراج بالضمان "2242". والحاكم، كتاب البيوع "2/ 15". وابن حبان في صحيحه "4927".
5 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، كتاب الشرب والمساقاة، باب من حفر بئرًا في ملكه لم يضمن "2355". ومسلم، كتاب الحدود، باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار "1710". والنسائي، كتاب الزكاة، باب المعدن "2494" 5/ 45. والبيهقي في السنن، كتاب الزكاة، باب زكاة الركاز "4/ 155".
والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في العجماء جرحها جبار "1377". وابن ماجه كتاب الديات، باب الجبار "2673". وابن حبان في صحيحه "6005".
6 أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، كتاب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه "1341". والدارقطني، كتاب الأقضية، باب في المرأة تقتل إذا ارتدت "51". والبيهقي، كتاب الدعوى بنحوه، باب المتداعيين يتداعيان "10/ 256"، وذكره البغوي في المصابيح "2838".(1/156)
وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الطِّوَالِ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْقِصَارُ فَلَا يَجُوزُ رِوَايَتُهَا بِالْمَعْنَى وَلَا وَجْهَ لِهَذَا. قَالَ الْأَبْيَارِيُّ1 فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ لِلْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ صُوَرٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يبدل اللفظ بمرادفه كالجلوس بالقعود "فهذا"*وهذا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ.
وَثَانِيهَا: أَنْ يَظُنَّ دِلَالَتَهُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ بِذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ التَّبْدِيلِ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَقْطَعَ بِفَهْمِ الْمَعْنَى وَيُعَبِّرَ عَمَّا فَهِمَ بِعِبَارَةٍ يَقْطَعُ بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ مُتَرَادِفَةً فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْقَطْعُ بِفَهْمِ الْمَعْنَى مُسْتَنِدًا إِلَى اللَّفْظِ إِمَّا بِمُجَرَّدِهِ أَوْ إِلَيْهِ مَعَ الْقَرَائِنِ الْتَحَقَ بِالْمُتَرَادِفِ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: الْمَنْعُ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى مُطْلَقًا بَلْ يَجِبُ نَقْلُ اللَّفْظِ بِصُورَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْعَارِفِ وَغَيْرِهِ. هَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ وَأَهْلِ التَّحَرِّي فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ إِنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَنَقَلَهُ الْجُوَيْنِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ عَنْ مُعْظَمِ الْمُحَدِّثِينَ وَبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ2 وَبِهِ قَالَ الأستاذ أبو إسحق الإسفراييني. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْمَذْهَبِ مِنَ الحرج البالغ والمخالفة لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مِنَ الرُّوَاةِ كَمَا تَرَاهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرْوِيهَا جَمَاعَةٌ "مِنَ الصَّحَابَةِ"** فَإِنَّ غَالِبَهَا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ الِاتِّحَادِ فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بَلْ قَدْ تَرَى الْوَاحِدَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ يأتي في بعض الحالات بلفظ في "رواية"*** وَفِي أُخْرَى بِغَيْرِ ذَاكَ اللَّفْظِ مِمَّا يُؤَدِّي معناه وهذا أمر لا شك فيه
__________
* في "أ": وهذا.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "ب": الرواية.
__________
1 هو علي بن إسماعيل بن علي بن حسن الأبياري، شمس الدين، أبو الحسن، فقيه، أصولي، متكلم، توفي سنة ست عشرة وستمائة هـ، من آثاره: "شرح البرهان للجويني" "سفينة النجاة على طريقة الإحياء". ا. هـ. معجم المؤلفين "7/ 37".
2 هو محمد بن سيرين البصري الأنصاري، أبو بكر، إمام وقته في علوم الدين بالبصرة، نشأ بزازًا في أذنه صمم، اشتهر بالحديث وتعبير الرؤيا، توفي سنة عشر ومائة هـ، من آثاره: "تعبير الرؤيا" "منتخب الكلام في تفسير الأحلام". ا. هـ. تهذيب التهذيب "9/ 214"، الأعلام "6/ 154".(1/157)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا، وَبَيْنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا مَجَالٌ فَيَجُوزُ: النَّقْلُ بِالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ.
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَحْفَظَ الرَّاوِي اللَّفْظَ أَمْ لَا، فَإِنْ حَفِظَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فِي كَلَامِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَصَاحَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظِ اللَّفْظَ جَازَ لَهُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى، وَبِهَذَا جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ.
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَبَيْنَ الْأَخْبَارِ، فَتَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: أَمَّا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي فَيَجُوزُ رِوَايَتُهَا بِالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ: "لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ" 1 وروى أنه نهى بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ2، وَقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ" 3، وَرُوِيَ أَنَّهُ "أمر بقتل الأسودين في الصلاة"4؛ قال: هَذَا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ افْعَلْ أَمْرٌ وَلَا تَفْعَلْ نَهْيٌ فَيَتَخَيَّرُ الرَّاوِي بَيْنَهُمَا. "وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ خَفِيُّ الْمَعْنَى مُحْتَمَلًا كَقَوْلِهِ: "لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ" 5* وَجَبَ نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ وَلَا يعبر عنه بغيره.
__________
* في "أ": إن كان اللفظ في المعنى محتملًا لا طلاق في إغلاق.
__________
1 أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري، كتاب البيوع، باب الفضة بالفضة "177". ومسلم، كتاب المساقاة، باب الربا "1584". والنسائي، كتاب البيوع، باب بيع الذهب بالذهب "4584" "7/ 278". وابن الجارود "649". وابن حبان في صحيحه "5016".
2 أخرجه مسلم، من حديث عبادة، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا "1587". وأبو داود، كتاب البيوع، باب في الصرف "3349"، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الصرف وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد "4454". والبيهقي في السنن، كتاب البيوع، باب الاجناس التي ورد النص بجريان الربا فيها "5/ 277"، وابن حبان في صحيحه "5015".
3 أخرجه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة، كتاب جماع أبواب الأفعال المباحة في الصلاة، باب الأمر بقتل الحية والعقرب في الصلاة "869". والنسائي كتاب السهو، باب قتل الحية والعقرب في الصلاة "1201" "3/ 10". وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة "1245". وأبو داود. كتاب الصلاة، باب العمل في الصلاة "921". والحاكم في المستدرك، كتاب الصلاة "1/ 256"، ووافقه الذهبي عليه. وابن حبان في صحيحه "2352".
4 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "2/ 233". وعبد الرزاق في مصنفه "1754". الدارمي "1/ 354"، وأخرجه ابن الجارود "213" والبيهقي، كتاب الطهارة، باب قتل الحية والعقرب في الصلاة "2/ 266"، وابن ماجه بنفس رقم الحديث المتقدم.
5 أخرجه أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها كتاب الطلاق، باب الطلاق على غلط "2193". والحاكم في المستدرك، كتاب الطلاق "2/ 198"، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي "2046". والدارقطني، كتاب الصلاق "4/ 36"، والبيهقي، كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء في طلاق المكره "7/ 357". وأبو يعلي في مسنده "4444". والإغلاق: قال أبو داود: أظنه الغضب، وفسره أحمد أيضًا بالغضب، وقال الزيلعي في نصب الراية: قال شيخنا: والصواب والإكراه والجنون وكل أمر انغلق على صاحبه علمه وقصده. ا. هـ. نصب الراية "3/ 233".(1/158)
الْمَذْهَبُ السَّادِسُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمُحْكَمِ وَغَيْرِهِ فَتَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كَالْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ وَالْمَجَازِ الَّذِي لَمْ يَشْتَهِرْ.
الْمَذْهَبُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُودَعًا فِي جُمْلَةٍ لَا يَفْهَمُهُ الْعَامِّيُّ إِلَّا بِأَدَاءِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فَلَا يَجُوزُ رِوَايَتُهُ إِلَّا بِأَدَاءِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ بِلَفْظِهَا، كَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ.
الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يُورِدَهُ عَلَى قَصْدِ الِاحْتِجَاجِ وَالْفُتْيَا أَوْ يُورِدَهُ لِقَصْدِ الرِّوَايَةِ "فَتَجُوزُ"* الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ مَذَاهِبَ. وَيَتَخَرَّجُ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الأُوَل مَذَاهِبُ غَيْرُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ.
الْحَالُ الثالثة:
أَنْ يَحْذِفَ الرَّاوِي بَعْضَ لَفْظِ الْخَبَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ كَانَ الْمَحْذُوفُ مُتَعَلِّقًا بِالْمَحْذُوفِ مِنْهُ تَعَلُّقًا لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا لَمْ يَجُزْ بالاتفاق. حكاه الصفي الهندي وابن الأبياري فَالتَّعَلُّقُ اللَّفْظِيُّ كَالتَّقْيِيدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ وَالصِّفَةِ وَالتَّعَلُّقُ الْمَعْنَوِيُّ كَالْخَاصِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَامِّ وَالْمُقَيَّدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُطْلَقِ وَالْمُبَيَّنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْمَلِ وَالنَّاسِخِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنْسُوخِ، وَيَشْكُلُ عَلَى هَذَا الْمَحْكِيِّ مِنَ الِاتِّفَاقِ مَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي اللُّمَعِ وَالْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ مِنَ الْجَوَازِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَمْ لَا، وَفِي هَذَا ضَعْفٌ. فَإِنَّ تَرْكَ الرَّاوِي لِمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا رَوَاهُ لَا سِيَّمَا مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ تَعَلُّقًا لَفْظِيًّا خِيَانَةٌ فِي الرِّوَايَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَاخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: إِنْ كَانَ قَدْ نَقَلَ ذَلِكَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مَرَّةً بِتَمَامِهِ جَازَ أَنْ يَنْقُلَ الْبَعْضَ وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ، كَذَا قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"1 وَالشَّيْخُ الشِّيرَازِيُّ في "اللمع"2
__________
* في "أ": فيجوز.
__________
1 هو القاضي أبو بكر الباقلاني، واسم الكتاب "التقريب والإرشاد في أصول الفقه" وهو أجل كتاب مصنف في الأصول كما قال ابن السبكي: اختصر في التقريب والإرشاد الأوسط والصغير. ا. هـ. تبين كذب المفترى "217" الديباج المذهب "267"، وفيات الأعيان: "3/ 400".
2 وهو "اللمع في أصول الفقه"، للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الشيرازي، وله شرح عليه، وعليه شرحان أيضًا الأول: لعثمان بن عيسى الهمذاني في مجلدين: والثاني: لعبد الله بن أحمد البغدادي ولم يكمله. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1562".(1/159)
ثَانِيهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَى الرَّاوِي التُّهْمَةُ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا كَانَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الرَّاوِي وَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فَإِنْ كَانَ الرَّاوِي فَقِيهًا جَازَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ فَقِيهٍ لَمْ يَجُزْ. قَالَهُ ابْنُ فَوْرَكٍ وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ.
وَرَابِعُهَا: إِنْ كَانَ الْخَبَرُ مَشْهُورًا بِتَمَامِهِ جَازَ الِاقْتِصَارُ مِنَ الرَّاوِي عَلَى الْبَعْضِ وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ لِأَبِي إِسْحَاقَ.
وَخَامِسُهَا: الْمَنْعُ مُطْلَقًا.
وَسَادِسُهَا: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ حُكْمًا مُتَمَيِّزًا عما قبله والسامع فقيه عالم بوجه التميز* فَيَجُوزُ الْحَذْفُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الْمُخْتَارُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مُسْتَقِلًّا بِمَفْهُومِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ فِي مَاءِ الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" 1 فَيَجُوزُ لِلرَّاوِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى رِوَايَةِ إِحْدَى هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْمَتْرُوكِ يُوجِبُ خِلَافَ ظَاهِرِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُضْحِيَّةِ لِمَنْ قَالَ لَهُ لَيْسَ عِنْدِي إِلَّا جَذَعَةٌ مِنَ الْمَعْزِ فَقَالَ: "تُجْزِئُكَ وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ" 2 فَلَا يَجُوزُ الْحَذْفُ لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ تُجْزِئُكَ لَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ.
هَذَا حَاصِلُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وأنت خبير بأن كثيرًا من "الصحابة و"** التابعين وَالْمُحَدِّثِينَ يَقْتَصِرُونَ عَلَى رِوَايَةِ بَعْضِ الْخَبَرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى رِوَايَةِ بَعْضِهِ لَا سِيَّمَا فِي الْأَحَادِيثِ الطَّوِيلَةِ كَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي صِفَةِ حَجِّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3 وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَهُمْ قُدْوَةٌ لِمَنْ بعدهم
__________
* في "أ": التميز.
** ما بين القوسين ساقط من "أ".
__________
1 تقدم تخريجه في الصفحة "155".
2 أخرجه البخاري من حديث البراء بن عازب، كتاب الأضاحي، باب قول النبي صلى اله عليه وسلم لأبي بردة "ضح بالجذع من المعز ولن تجزي عن أحد بعدك" "5557". ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقت الأضاحي "1961".
والترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما جاء في الذبح بعد الصلاة "1508". والنسائي، كتاب الضحايا، باب ذبح الضحية قبل الإمام "406" 7/ 222. وأبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يجوز في الضحايا من السن "2800".
3 أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله، كتاب الحج، باب حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "1218"، وهو طويل. وأبو داود، كتاب المناسك، باب صفة حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "1905". كتاب المناسك، باب حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "3074".
وابن خزيمة "2755". وأحمد في مسنده "3/ 320". وعبد بن حميد "1135".(1/160)
فِي الرِّوَايَةِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَسْتَلْزِمَ ذلك الاقتصاد على البعض مفسدة.
الحال الرابع: أَنْ يَزِيدَ الرَّاوِي فِي رِوَايَتِهِ لِلْخَبَرِ عَلَى مَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ مَا زَادَهُ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ سَبَبِ الْحَدِيثِ أَوْ تَفْسِيرَ مَعْنَاهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا زَادَهُ حَتَّى يَفْهَمَ السَّامِعُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي.
قَالَ الْمَارَوْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: يَجُوزُ مِنَ الصَّحَابِيِّ زِيَادَةُ بَيَانِ السَّبَبِ لِكَوْنِهِ مُشَاهِدًا لِلْحَالِ وَلَا يَجُوزُ مِنَ التَّابِعِيِّ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْمَعْنَى: فَيَجُوزُ مِنْهُمَا، وَلَا وَجْهَ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْحَدِيثِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لِكُلِّ مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً عَلَى مُقْتَضَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِشَرْطِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ وَبَيْنَ التَّفْسِيرِ الْوَاقِعِ مِنْهُ بِمَا يَفْهَمُهُ السَّامِعُ.
الْحَالُ الخامس: إِذَا كَانَ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ فَاقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى تَفْسِيرِهِ بِأَحَدِهِمَا فَإِنْ كَانَ الْمُقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ هُوَ الصَّحَابِيَّ كَانَ تَفْسِيرُهُ كَالْبَيَانِ لِمَا هُوَ الْمُرَادُ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَصِرُ غَيْرَ صَحَابِيٍّ وَلَمْ يَقَعِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ هُوَ الْمُرَادُ فَلَا يُصَارُ إِلَى تَفْسِيرِهِ، بَلْ يَكُونُ لِهَذَا اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ حُكْمٌ هُوَ الْمُرَادُ الْمُشْتَرَكُ أَوِ الْمُجْمَلُ فَيَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى وُرُودِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ، والظاهر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْطِقُ بِمَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ وَيُخَلِّيهِ عَنْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ بِحَيْثُ لَا يَفْهَمُ الرَّاوِي لِذَلِكَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا أَرَادَهُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ بِمَا يَتَّضِحُ بِهِ الْمَعْنَى الْمُرَادُ، فَقَدْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ فَكَيْفَ لَا يَسْأَلُونَهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا، وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْجُوَيْنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا ذَكَرَ خَبَرًا وَأَوَّلَهُ وَذَكَرَ الْمُرَادَ مِنْهُ فَذَلِكَ مَقْبُولٌ، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: إِنَّمَا أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِذَا أَوَّلَ الصَّحَابِيُّ أَوْ خَصَّصَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ دَلِيلٍ وَإِلَّا فَالتَّأْوِيلُ الْمُعْتَضِدُ بِالدَّلِيلِ مَقْبُولٌ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلدَّلِيلِ لَا اتِّبَاعٌ لذلك التأويل.
الحال السادس: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ ظَاهِرًا فِي شَيْءٍ فَيَحْمِلُهُ الرَّاوِي مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ إِمَّا بِصَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ "إِلَى مَجَازِهِ"*، أَوْ بِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنِ الْوُجُوبِ إِلَى النَّدْبِ أَوْ عَنِ التَّحْرِيمِ إِلَى الْكَرَاهَةِ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يُفِيدُ صَرْفَهُ عَنِ الظَّاهِرِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ إِلَى أَنَّهُ يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ وَلَا يُصَارُ إِلَى خِلَافِهِ لِمُجَرَّدِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوْ فعله. وهذا هو الحق لأنا
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/161)
مُتَعَبِّدُونَ بِرِوَايَتِهِ لَا بِرَأْيِهِ كَمَا تَقَدَّمَ1.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ يُعْمَلُ بِمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابِيُّ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرُ بِمُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ قَدْ يَحْمِلُهُ "على"* على ذلك عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ اجْتِهَادًا مِنْهُ، وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا هِيَ رِوَايَتُهُ لَا فِي رَأْيِهِ، وَقَدْ يَحْمِلُهُ "عَلَى ذَلِكَ"** وَهْمًا مِنْهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرَى إِلَّا بِشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ وَالْقَرَائِنِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغٌ كَانَ الْعَمَلُ بِمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنًا، وَإِنْ كَانَ صَرْفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِضَرْبٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ، كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الظَّاهِرِ مُتَعَيِّنًا لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتِهَادُهُ مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَا يَتْرُكُ الظَّاهِرَ بِالْمُحْتَمَلِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ ذَلِكَ الْحَمْلَ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ مَسَارِحِ الِاجْتِهَادِ قَدْ يَكُونُ وَهْمًا، فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ عَلَى الْغَلَطِ، بِخِلَافِ الْعَمَلِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُ عَمِلَ بِمَا يَقْتَضِيهِ كلام الشارع، فكان "الحمل"*** عَلَيْهِ أَرْجَحَ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَتَأْوِيلِهِ وَجْهٌ سِوَى عِلْمِهِ بِقَصْدِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ التَّأْوِيلِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ بَلْ جُوِّزَ فَقَدْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ إِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا إِذَا تَرَكَ الصَّحَابِيُّ الْعَمَلَ بِمَا رَوَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَقَدْ قَدَّمْنَا2 الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى مَدْلُولِ الْخَبَرِ وَلَا وَجْهَ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ "يُحْتَمَلُ أَنَّهُ"**** قَدِ اطَّلَعَ عَلَى نَاسِخٍ لِذَلِكَ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ لِأَنَّا لَمْ نَتَعَبَّدْ بِمُجَرَّدِ هذا الاحتمال وأيضًا "ربما"***** ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك
__________
* في "أ": يحمله على ذلك على خلاف.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": العمل.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": فربما.
__________
1 انظر صفحة: "154".
2 انظر صفحة: "155".(1/162)
في ألفاظ الرواية
مدخل
...
فصل: في ألفاظ الرواية
اعلم أن الصحابي إِذَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَخْبَرَنِي، أَوْ حَدَّثَنِي، فَذَلِكَ لَا يحتمل(1/162)
الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما كان مرويًّا بهذه الألفاظ "أو مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهَا"1 كَشَافَهَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ كَذَا فَهُوَ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا إِذَا جَاءَ الصَّحَابِيُّ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنْ يَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا أَوْ أَمَرَ بِكَذَا أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا أَوْ قَضَى بِكَذَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاوِي مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ أَوْ مِنْ كِبَارِهِمْ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ رَوَى ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ ثَمَّ وَاسِطَةً فَمَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْحَقُّ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ حَتَّى يَنْقُلَ لَفْظَ الرَّسُولِ وَلَا حُجَّةَ لِهَذَا؛ فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ عَدْلٌ عَارِفٌ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ دَاوُدَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَإِنْ قَالَ الصَّحَابِيُّ أُمِرْنَا بِكَذَا أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا بِصِيغَةِ "الْفِعْلِ"2 الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْآمِرَ وَالنَّاهِيَ هُوَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ3 وَالْجُوَيْنِيُّ وَالْكَرْخِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ أَوِ النَّاهِي بعض الخلفاء "أو"4 الأمراء.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ بَعِيدٌ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ الظُّهُورُ.
وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا وَهُوَ الْوَقْفُ وَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَظُهُورَ وَجْهٍ يَدْفَعُ الْوَقْفَ إِذْ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ تَعَادُلِ الْأَدِلَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَعَدَمِ وِجْدَانِ مُرَجِّحٍ لِأَحَدِهِمَا.
وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "جَامِعِ الْأُصُولِ"5 قَوْلًا رَابِعًا، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يكون قائل ذلك
__________
1 ما بين قوسين ساقط "أ".
2 ما بين قوسين ساقط من "أ".
3 هو الإمام، أحمد بن إبراهيم، الجرجاني الإسماعيلي، الشافعي، شيخ الإسلام أبو بكر، الحافظ الحجة، شيخ الشافعية، ولد سنة سبع وسبعين ومائتين هـ، وتوفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 292"، تذكرة الحافظ "3/ 947"، شذرات الذهب "3/ 72".
4 في "أ": والأمراء.
5 هو المبارك بن محمد بن محمد الشيباني الجزري، أبو السعادات، مجد الدين المحدث، اللغوي، الأصولي ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة هـ، وتوفي سنة ست وستمائة هـ، من آثاره: "الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف" "المختار في مناقب الأخيار"، ومن مؤلفاته "جامع الأصول لأحاديث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وهو كتاب بناه على ثلاثة أركان، الأول: في المبادئ والثاني: في المقاصد والثالث: في الخواتيم، ولهذا الكتاب مختصرات كثيرة، منها: مختصر لهبة الله ابن البارزي. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "21/ 488"، كشف الظنون "1/ 535"، شذرات الذهب "5/ 22"، الأعلام "5/ 272".(1/163)
هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَيَكُونُ مَا رَوَاهُ بهذه الصيغة حُجَّةً لِأَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّفْصِيلِ لِمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ ضعف احتمال كون الآمر "أو"1 الناهي غَيْرَ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي "شَرْحِ الْإِلْمَامِ"2 قَوْلًا خَامِسًا وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ قَائِلِهِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَيَكُونُ حُجَّةً وَبَيْنَ كَوْنِ قَائِلِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً ولا وجه لهذا أيضًا تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ إِنَّمَا يُورِدُ ذَلِكَ مَوْرِدَ الِاحْتِجَاجِ وَالتَّبْلِيغِ لِلشَّرِيعَةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا التَّكْلِيفُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ وَيَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَيُرِيدَ غَيْرَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ الصَّحَابِيُّ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ لَهَا حُكْمَ الرَّفْعِ وَبِهَا تَقُومُ الْحُجَّةُ.
وَمِثْلُ هَذَا إِذَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا فَإِنَّهُ لَا يُحْمَلُ إِلَّا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَحَكَى ابْنُ فَوْرِكٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ خِلَافُهُ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى سُنَّةِ الْبَلَدِ وَسُنَّةِ الْأَئِمَّةِ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ وَالْمَقَامُ مَقَامُ تَبْلِيغٍ لِلشَّرِيعَةِ إِلَى الْأُمَّةِ لِيَعْمَلُوا بِهَا. فَكَيْفَ يَرْتَكِبُ مِثْلَ ذَلِكَ مَنْ هُوَ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ؟ قَالَ الْكَرْخِيُّ وَالرَّازِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ إِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّ الْمُتَلَقِّيَ مِنَ الْقِيَاسِ قَدْ يُقَالُ إِنَّهُ سُنَّةٌ لِاسْتِنَادِهِ إِلَى الشَّرْعِ، وَحَكَى هَذَا الْجُوَيْنِيُّ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ إِطْلَاقَ السُّنَّةِ عَلَى مَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِيَاسِ مُخَالِفٌ لِاصْطِلَاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَنَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْوَقْفَ وَلَا وَجْهَ لَهُ. وَأَمَّا التَّابِعِيُّ إِذَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا فَلَهُ حُكْمُ مَرَاسِيلِ التَّابِعِينَ هَذَا أَرْجَحُ مَا يُقَالُ فِيهِ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ "أَرَادَ"3 مَذَاهِبَ الصَّحَابَةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ العمل في عصرهم خلاف الظاهر، فإن
__________
1 في "أ": والناهي.
2 واسمه: "الإمام في شرح الإلمام في أحاديث الأحكام"، للإمام محمد بن علي، المعروف بابن دقيق العيد، قيل: إنه لم يؤلف في هذا النوع أعظم منه لما فيه من الاستنباطات والفوائد. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 158".
3 ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/164)
إِطْلَاقَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ وَتَبْلِيغَهُ إِلَى النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ سُنَّةَ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِذَا أَطْلَقَ الصَّحَابِيُّ السُّنَّةَ فَالْمُرَادُ بِهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك إذا أطلقها غَيْرُهُ مَا لَمْ تُضَفْ إِلَى صَاحِبِهَا كَقَوْلِهِمْ سُنَّةُ الْعُمَرَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قَالَ الصَّحَابِيُّ: كُنَّا نَفْعَلُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا أَوْ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا فَأَطْلَقَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَوَجَّهَ أَنَّهُ نَقْلٌ لِفِعْلِ جَمَاعَتِهِمْ مَعَ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ مِثْلُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ الْحُجَّةُ فِي التَّقْرِيرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي حُكْمِ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ فَلَا، فَقَدْ يُضَافُ فِعْلُ الْبَعْضِ إِلَى الْكُلِّ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نَفْعَلُ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فَقَالَ قَبِلَهُ أَبُو الْفَرَجِ1 مِنْ أَصْحَابِنَا وَرَدَّهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ2 وَالْوَجْهُ التفصيل بين أن يكون شرعًا "مستقرًا"3 كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ عِيدِ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. الْحَدِيثَ4، فَمِثْلُ هَذَا يَسْتَحِيلُ خَفَاؤُهُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ خَفَاؤُهُ فَلَا يَقْبَلُ كَقَوْلِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَوَى لَنَا بَعْضُ عُمُومَتِي أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ5 وَرَجَّحَ هَذَا التَّفْصِيلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَقِيلَ إِنَّ "ذِكْرَ الصَّحَابِيِّ ذَلِكَ"6 فِي مَعْرِضِ الْحُجَّةِ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ وَإِلَّا فَلَا، وَأَمَّا لَوْ قَالَ الصَّحَابِيُّ: كَانُوا يَفْعَلُونَ أَوْ كُنَّا نَفْعَلُ وَلَا يَقُولُ على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَقُومُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْنَدٍ إِلَى تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا هُوَ حِكَايَةٌ لِلْإِجْمَاعِ، "وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِذَا قَالَ التَّابِعِيُّ: كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا فَلَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَلَا حَجَّةَ فِيهِ، إِلَّا أن يصرح بنقل الإجماع"7.
__________
1 انظر ترجمته في الصفحة "175" حيث هو نفسه أبو الفرج المالكي.
2 هو القاضي عبد الوهاب بن علي الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "142"
3 في "أ": مستقلًّا.
4 أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر "985". وأبو داود، كتاب الزكاة، باب كم يؤدي في صدقة الفطر "1616". والنسائي، كتاب الزكاة، باب الزبيب "2512" "5/ 51". والبيهقي في السنن، كتاب الزكاة، باب من قال لا يخرج من الحنطة في صدقة الفطر إلا صاعًا "4/ 165". والدارقطني "2/ 146". وأحمد في مسنده "3/ 98". وابن خزيمة "2418". وابن حبان "3305".
5 أخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب كراء الأرض "1543". والنسائي، بنحوه في كتاب الأيمان، باب ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض "3909" "7/ 44". وابن ماجه، كتاب الرهون، باب المزارعة بالثلث والربع "2450". وأحمد في مسنده "2/ 463". والحميدي في مسنده "405". وذكره البغوي في المصابيح "2188". والمخابرة هي مزارعة الأرض على الثلث أو الربع أو بعض ما يخرج منها.
6 ما بين قوسين ساقط من "أ".
7 في "أ": ذكره الصحابي.(1/165)
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الرِّوَايَةِ مِنْ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ:
فَلَهَا مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى:
أَنْ يَسْمَعَ الْحَدِيثَ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْغَايَةُ فِي التَّحَمُّلِ لِأَنَّهَا طَرِيقَةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ وَهُمْ يَسْمَعُونَ وَهِيَ أَبْعَدُ مِنَ الْخَطَأِ وَالسَّهْوِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ قِرَاءَةَ التِّلْمِيذِ عَلَى الشَّيْخِ أَقْوَى مِنْ قِرَاءَةِ الشَّيْخِ عَلَى التِّلْمِيذِ لِأَنَّهُ إِذَا قَرَأَ التِّلْمِيذُ عَلَى الشَّيْخِ كَانْتِ الْمُحَافَظَةُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَإِذَا قَرَأَ الشَّيْخُ كَانَتِ الْمُحَافَظَةُ مِنْهُ وَحْدَهُ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ فَالْمُحَافَظَةُ فِي الطريقين كائنة من الجهتين، قال الماوردي والرويان: ي وَيَصِحُّ تَحَمُّلُ التِّلْمِيذِ عَنِ الشَّيْخِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ عَنْ قَصْدٍ أَوِ اتِّفَاقًا أَوْ مُذَاكَرَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ أَعْمَى "يُمْلِي مِنْ"* حِفْظِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصَمَّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التِّلْمِيذُ أَعْمَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أصمَّ، وَكَمَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ مِنْ حِفْظِ الشَّيْخِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كِتَابِهِ إِذَا كَانَ وَاثِقًا بِهِ ذَاكِرًا لِوَقْتِ سَمَاعِهِ لَهُ.
وَرُوِيَ عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ مِنَ الْكِتَابِ وَلَا وَجْهَ لذلك فإن يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ فَائِدَةِ الْكِتَابِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ مِنَ الْكِتَابِ الصَّحِيحِ الْمَسْمُوعِ أَثْبَتَ مِنَ الرِّوَايَةِ مِنَ الْحِفْظِ لِأَنَّ الْحِفْظَ مَظَنَّةُ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ وَالِاشْتِبَاهِ.
وَلِلتِّلْمِيذِ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى الْمَرَاتِبِ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي وَأَسْمَعَنِي وَحَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَسْمَعَنَا، إِذَا كَانَ الشَّيْخُ قَاصِدًا لِإِسْمَاعِهِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ جَمَاعَةٍ فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَيَقُولُ: سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ.
المرتبة الثانية:
أَنْ يَقْرَأَ التِّلْمِيذُ وَالشَّيْخُ يَسْمَعُ وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ يسمعون هَذَا عَرْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ التِّلْمِيذَ بِقِرَاءَتِهِ عَلَى الشَّيْخِ. كَأَنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِ مَا يَقْرَؤُهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةٌ صَحِيحَةٌ وَرِوَايَةٌ مَعْمُولٌ بِهَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ.
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَشَرْطُ صِحَّةِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ عَالِمًا بِمَا يَقْرَؤُهُ التِّلْمِيذُ عَلَيْهِ وَلَوْ فُرِضَ مِنْهُ تَصْحِيفٌ أَوْ تَحْرِيفٌ لَرَدَّهُ عَلَيْهِ. وَإِلَّا لَمْ "تَصِحَّ"** الرِّوَايَةُ عَنْهُ.
قَالَ: وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ شَيْخٍ يَسْمَعُ أَصْوَاتًا وَأَجْرَاسًا وَلَا يَأْمَنُ تَدْلِيسًا وَإِلْبَاسًا وَبَيْنَ شَيْخٍ لَا يَسْمَعُ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ
__________
* في "أ": على ما حفظه.
** في "أ": لم يصح.(1/166)
قَالَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الإمام لم أره في كلام القاضي، فإنه صَرَّحَ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ يَصِحُّ مِنْهُ التَّحَمُّلُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ. وَتَصِحُّ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ عَمَّنْ لَمْ يَعْلَمُ مَعْنَاهُ، وَهَذَا فِيمَا أَظُنُّ إِجْمَاعٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَكَيْفَ لَا وَفِي الْحَدِيثِ: "رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ" 1. وَلَوْ شَرَطْنَا عِلْمَ الرَّاوِي بِمَعْنَى الْحَدِيثِ لَشَرَطْنَا معرفة جميع وجوهه وينسد بذلك باب "الحديث"*.
قَالَ: وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بِجَوَازِ الْإِجَازَةِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ الْمُجِيزُ غَيْرَ مُحِيطٍ بِجُمْلَةِ مَا فِي الْكِتَابِ الْمُجَازِ، وَقَدْ وَافَقَ الْجُوَيْنِيُّ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ وَالْمَازِرِيُّ.
وَيَقُولُ التِّلْمِيذُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: قَرَأْتُ عَلَى فُلَانٍ، أَوْ أَخْبَرَنِي أَوْ حَدَّثَنِي قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُ أَخْبَرَنِي أَوْ حَدَّثَنِي بِدُونِ "تقييد"** تقييده بِقَوْلِهِ: قِرَاءَةً عَلَيْهِ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُبَارَكِ2 وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى3، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالنَّسَائِيُّ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الشَّيْخَ هُوَ الَّذِي قَرَأَ بِنَفْسِهِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ4 وَمَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ5 وَيَحْيَى بن سعيد القطان،
__________
* في "أ": الحديث.
** في "أ": تقييده.
__________
1 أخرجه أبو داود عن زيد بن ثابت، كتاب العلم، باب فضل نشر العلم "3660". الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع "2656". وأحمد في مسنده "5/ 183". والدارمي في سننه "1/ 175". وابن حبان في صحيحه "67". والطبراني "4890". وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 39".
2 هو عبد الله بن المبارك، أبو عبد الرحمن، المروزي، الحنظلي، تليمذ الإمام أبي حنيفة، وعد جماعة من أصحابه خصاله فقالوا: العلم والفقه والأدب واللغة والنحو والزهد والشعر والفصاحة والورع والإنصاف وقيام الليل والعبادة والشدة في رأيه وقلة الكلام فيما لا يعنيه وقلة الخلاف على أصحابه، توفي سنة إحدى وثمانين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 378"، الجواهر المضية "2/ 324"، الفوائد البهية "103".
3 هو ابن بكير "أبو بكر" بن عبد الرحمن، شيخ الإسلام، عالم خراسان، أبو زكريا التميمي الحافظ، ولد سنة اثنتين وأربعين ومائة هـ، وأدرك صغار التابعين وروى عن بعضهم، وتوفي سنة ست وعشرين ومئتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 512"، تهذيب التهذيب "11/ 396"، تذكرة الحافظ "2 / 415" تدريب الراوي: "2/ 16".
4 هو محمد بن مسلم بن عبيد الله، الزهري، المدني، نزيل الشام، المشهور بابن شهاب، ولد سنة ثمانٍ وخمسين هـ، وهو أول من دون الحديث، وأحد أكابر الحفاظ الفقهاء، توفي سنة أربع وعشرين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 326"، شذرات الذهب "1/ 162"، الأعلام "7/ 97".
5 هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون، الإمام الكبير، حافظ العصر شيخ الإسلام، ولد بالكوفة سنة سبع ومائة هـ، قال عنه يحيى بن آدم: ما رأيت أحدًا يختبر الحديث إلا ويخطئ إلا سفيان بن عيينة، توفي سنة ثمانٍ وتسعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 454". تذكرة الحفاظ "1/ 262"، تهذيب التهذيب "4/ 117".(1/167)
وَالْبُخَارِيُّ إِنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ كَالْقِرَاءَةِ مِنْهُ وَنَقَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَمُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ صَاحِبِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ يَقُولَ أَخْبَرَنَا وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنَا.
قَالَ الرَّبِيعُ1: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا قَرَأْتَ عَلَى الْعَالِمِ فَقُلْ: أَخْبَرَنَا. وَإِذَا قَرَأَ عَلَيْكَ فَقُلْ: حَدَّثَنَا.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ بِاصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ فِي الْآخَرِ وَالِاحْتِجَاجُ لَهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ لُغَوِيٍّ وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ مِنْهُمْ أَرَادُوا بِهِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ.
قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: بَيْنَ حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي فَرْقٌ لِأَنَّ أَخْبَرَنِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ وَحَدَّثَنِي لَا يَحْتَمِلُ "غَيْرَ"* السَّمَاعِ.
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ:
الْكِتَابَةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْإِجَازَةِ نَحْوَ أَنْ يَكْتُبَ الشَّيْخُ إِلَى التِّلْمِيذِ سَمِعْتُ مِنْ فُلَانٍ كَذَا وَقَدْ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَهُ عَنِّي وَكَانَ خَطُّ الشَّيْخِ مَعْرُوفًا، فَإِنْ تَجَرَّدَتِ الْكِتَابَةُ عَنِ الْإِجَازَةِ فَقَدْ أَجَازَ الرِّوَايَةَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ حَتَّى قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنَّهَا أَقْوَى مِنْ مُجَرَّدِ الْإِجَازَةِ. وَقَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ السَّمَاعِ قَالَ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبْلِغُ بِالْكِتَابَةِ "لِلْغَائِبِينَ"** كَمَا يُبْلِغُ بِالْخِطَابِ للحاضرين. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ تَارَةً وَيُرْسِلُ أُخْرَى. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي "الْمَدْخَلِ"2: الْآثَارُ فِي هَذَا كثيرة مِنَ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَفِيهَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ وَاسِعٌ عِنْدَهُمْ وَكَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِلَى عُمَّالِهِ بِالْأَحْكَامِ"*** شَاهِدَةً لِقَوْلِهِ، قَالَ: إِلَّا أَنَّ مَا سَمِعَهُ مِنَ الشَّيْخِ فَوَعَاهُ "أَوْ قُرِئَ"**** عَلَيْهِ وَأَقَرَّ بِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مما كتب به إليه،
__________
* في "أ": إلا.
** في "أ": إلى الغائبين.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": وقرأ.
__________
1 هو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل، الإمام المحدث، الفقيه الكبير، صاحب الإمام الشافعي، وناقل علمه، ولد سنة أربع وسبعين ومائة هـ، توفي سنة سبعين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 587"، تذكرة الحفاظ "2/ 586"، تهذيب التهذيب "3/ 245".
2 هو أحمد بن الحسين بن علي، الخسروجردي، الخراساني، الحافظ العلامة، الثبت، الفقيه، شيخ الإسلام، أبو بكر، ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة هـ، من تآليفه: "السنن" في عشر مجلدات، وكتاب "المدخل"، توفي سنة ثمانٍ وخمسين وأربعمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 163"، كشف الظنون "2/ 1007-1644".(1/168)
لِمَا يُخَافُ عَلَى الْكِتَابِ مِنَ التَّغْيِيرِ.
وَكَيْفِيَّةُ الرِّوَايَةِ أَنْ يَقُولَ: كَتَبَ إِلَيَّ، أَوْ أَخْبَرَنِي كِتَابَةً، فَإِنْ كَانَ "الْكَاتِبُ"* قَدْ ذَكَرَ الْأَخْبَارَ فِي كِتَابِهِ فَلَا بَأْسَ بِقَوْلِهِ أَخْبَرَنَا، وَجَوَّزَ الرَّازِيُّ أَنْ يَقُولَ التِّلْمِيذُ أَخْبَرَنِي مُجَرَّدًا عَنْ قَوْلِهِ كِتَابَةً.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ كِتَابَةً فَيَنْبَغِي أَنَّ يَكُونَ هَذَا أَدَبًا. لِأَنَّ الْقَوْلَ إِذَا كَانَ مُطَابِقًا جَازَ إِطْلَاقُهُ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَجَوَّزَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ1 إِطْلَاقَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا فِي الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَرْبَابِ النَّقْلِ وَغَيْرِهِمْ جَوَازُ الرِّوَايَةِ لِأَحَادِيثِ الْكِتَابَةِ، وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا وَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمُسْنَدِ، وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ صِحَّتِهَا عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ وَوُثُوقِهِ بِأَنَّهَا عَنْ كَاتِبِهَا، وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنَ الرِّوَايَةِ بِهَا، مِنْهُمُ الْمَازِرِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَمِمَّنْ نَقَلَ إِنْكَارَ قَبُولِهَا الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ2 وَالْآمِدِيُّ.
الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ:
الْمُنَاوَلَةُ وَهُوَ أَنْ يُنَاوِلَ الشَّيْخُ تِلْمِيذَهُ صَحِيفَةً، وَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
" الْوَجْهُ "** الْأَوَّلُ:
أَنْ تَقْتَرِنَ بِالْإِجَازَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْفَعَ أَصْلَهُ أَوْ فَرْعًا مُقَابِلًا عَلَيْهِ وَيَقُولُ هَذَا سَمَاعِيٌّ فَارْوِهِ عَنِّي، أَوْ يَأْتِيَ التِّلْمِيذُ إِلَى الشَّيْخِ بِجُزْءٍ فِيهِ سَمَاعُهُ فَيَعْرِضُهُ عَلَى الشَّيْخِ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ هُوَ مِنْ مَرْوِيَّاتِي فَارْوِهِ عَنِّي.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي "الْإِلْمَاعِ"3: إِنَّهَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِالْإِجْمَاعِ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِذَلِكَ، وَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ "فِيهِ"***.
قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَلَا نَقُولُ حَدَّثَنَا وَلَا أَخْبَرَنَا فِي كل حديث.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": في ذلك.
__________
1 الإمام، الحافظ، شيخ الإسلام، عالم الديار المصرية، أبو الحارث، ولد بقلقشنده، قرية من أعمال مصر سنة أربع وتسعين هـ، كان فقيه مصر، ومحدثها، ومحتشمها، توفي سنة خمس وسبعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 136"، الأعلام "5/ 248".
2 هو علي بن عمر بن أحمد، البغدادي، الدارقطني، الحافظ الكبير، شيخ الإسلام إليه النهاية في معرفة الحديث، ولد سنة ست وثلاثمائة هـ، في محلة دار قطن ببغداد، وهو أول من صنف القراءات وعقد لها بابا، من تصانيفه "كتاب السنن"، توفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة هـ ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 449"، شذرات الذهب "3/ 116"، الأعلام "4/ 314".
3 واسمه "الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي. ا. هـ كشف الظنون "1/ 158".(1/169)
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ1 وَمَالِكٍ: أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاوَلَةَ الْمُقْتَرِنَةَ بِالْإِجَازَةِ كَالسَّمَاعِ وَحَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ2.
الْوَجْهُ الثَّانِي:
أَنْ لَا تَقْتَرِنَ بِالْإِجَازَةِ. بَلْ يُنَاوِلُهُ الْكِتَابَ وَيَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا سَمَاعِي مِنْ فُلَانٍ وَلَا يَقُولُ: ارْوِهِ عَنِّي، فَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ: لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا الرِّوَايَةَ بِهَا وَبِهِ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالرَّازِيُّ،
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ لِلْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ: "لَا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ "مَكَانَ" * كَذَا وَكَذَا"، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وأخبرهم بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3، وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ4: لَا مَعْنَى لِإِفْرَادِ الْمُنَاوَلَةِ حَتَّى يَقُولَ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْإِجَازَةِ.
المرتبة الخامسة:
الإجازة "وهي"** أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ، أَوْ هَذَا الْكِتَابَ، أَوْ هَذِهِ الْكُتُبَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ بها ومنع ذلك الجماعة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وهو.
__________
1 هو إسحاق بن راهوية، الإمام الكبير، شيخ المشرق، سيد الحفاظ، أبو يعقوب، وهو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد، الحنظلي، ولكنه غلب عليه اسم ابن راهويه، ولد سنة إحدى وستين ومائة هـ، قال عن نفسه: أحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي، توفي سنة ثمانٍ وثلاثين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 358"، شذرات الذهب "2/ 89"، تهذيب التذيب "1/ 216".
2 هو محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة، الحافظ، الحجة، الفقية، شيخ الإسلام، ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين هـ، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة هـ، رحل إلى العراق والشام والجزيرة ومصر، تزيد مصنفاته على "140" مصنفًا منها: "التوحيد وإثبات صفة الرب" "صحيح ابن خزيمة" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 365" شذرات الذهب "2/ 286"، الأعلام "6/ 29".
3 ذكره البخاري تعليقًا في كتاب العلم باب ما يذكر في المناولة. وذكره ابن هشام في سيرته "2/ 601" تحت سرية عبد الله بن جحش. وقد ذكر ابن حجر أن ابن إسحاق خرجها مرسلة، انظر فتح الباري "1/ 155".
وأخرجه الطبراني في الكبير "1670". وقال ابن حجر في فتح الباري: أخرجه الطبراني من طريق جندب البجلي بإسناد حسن، ثم وجدت له شاهدًا من حديث ابن عباس عند الطبري في التفسير فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحًا.
4 لعله رزين بن معاوية عمار، الإمام المحدث الشهير، أبو الحسن العبدري الأندلسي، توفي بمكة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة هـ، من تآليفه: كتاب "تجريد الصحاح" قال الذهبي عنه: أدخل في كتابه زيادات لو تنزه عنها لأجاد. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "20/ 204"، تذكرة الحفاظ "4/ 1281"، كشف الظنون "1/ 345".(1/170)
قَالَ شُعْبَةُ1: لَوْ صَحَّتِ الْإِجَازَةُ لَبَطَلَتِ الرِّحْلَةُ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ2 لَوْ صَحَّتِ الْإِجَازَةُ لَذَهَبَ الْعِلْمُ.
وَمِنَ الْمَانِعِينَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ3، وَأَبُو الشَّيْخِ الْأَصْفَهَانِيُّ4، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ5 مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ: مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَكْذِبَ علي.
ويجاب عمن قَالَ هَؤُلَاءِ الْمَانِعُونَ: بِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الرِّحْلَةِ، وَأَيْضًا الْمُرَادُ مِنَ الرِّحْلَةِ تَحْصِيلُ طَرِيقِ الرِّوَايَةِ وَقَدْ حَصَلَتْ بِالْإِجَازَةِ وَلَا تَسْتَلْزِمُ ذَهَابَ الْعِلْمِ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ مَنْ رَوَى بِالْإِجَازَةِ تَرَكَ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا مِنْ طُرُقِ الرِّوَايَةِ وَهِيَ طَرِيقَةُ السَّمَاعِ وَالْكُلُّ طُرُقٌ لِلرِّوَايَةِ وَالْعِلْمُ مَحْفُوظٌ غَيْرُ ذَاهِبٍ بِتَرْكِ مَا هُوَ الْأَقْوَى.
وَأَمَّا قَوْلُ الدَّبَّاسِ: إِنَّ الْإِجَازَةَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الشَّيْخِ لِتِلْمِيذِهِ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَكْذِبَ عَلَيَّ فَهَذَا خُلْفٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَبَاطِلٌ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَحْصِيلِ طَرِيقِ الرِّوَايَةِ هُوَ حُصُولُ الثِّقَةِ بِالْخَبَرِ وَهِيَ هُنَا حَاصِلَةٌ وَإِذَا تَحَقَّقَ سَمَاعُ الشَّيْخِ وَتَحَقَّقَ إِذْنُهُ لِلتِّلْمِيذِ بِالرِّوَايَةِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْإِسْنَادِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّرِيقِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلرِّوَايَةِ "جملة، وبين الطريق المقتضية
__________
1 هو شعبة بن الحجاج، الإمام، الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث، أبو بسطام الأزدي، قيل إنه ولد سنة ثمانين هـ، قال يحيى بن معين: شعبة إمام المتقين، فلما توفي شعبة قال سفيان: مات الحديث، كانت وفاته ستين ومائة هـ. بالبصرة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 202"، تذكر الحفاظ "1/ 193"، تهذيب التهذيب "4/ 338".
2 هو عبيد الله بن عبد الكريم الرازي، سيد الحفاظ، محدث الري، ولد سنة نيف ومائتين هـ، حدث عنه كبار أئمة الحديث منهم الإمام مسلم. قال ابن أبي شيبة: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة، وتوفي سنة ستين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 65"، تهذيب التهذيب "7/ 30"، شذرات الذهب "2/ 148".
3 هو إبراهيم بن إسحاق البغدادي الحربي، الإمام، الحافظ، العلامة، شيخ الإسلام أبو إسحاق، ولد سنة ثمانٍ وتسعين ومائة وتوفي سنة خمس وثمانين ومائتين هـ، من آثاره: "غريب الحديث" في اللغة. ا. هـ.
سير أعلام النبلاء "13/ 356"، شذرات الذهب "2/ 190"، تذكرة الحفاظ "2/ 584".
4 هو عبد الله بن محمد بن جعفر، المعروف بأبي الشيخ، محدث أصبهان، أبو محمد، ولد سنة أربع وسبعين ومائتين هـ، من آثاره: كتاب "ثواب الأعمال" الذي عرضه على الطبراني فاستحسنه، توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة هـ، وله مصنفات كثيرة في الأحكام والتفسير. ا. هـ. سير أعلام النبلا "16/ 276"، هدية العارفين "1/ 447"، تذكرة الحفاظ "3/ 945".
5 هو محمد بن محمد بن سفيان، الفقيه، إمام أهل الرأي بالعراق، أخذ عن القاضي أبي حازم، وكان يوصف بالحفظ، ومعرفة الروايات، ولي القضاء بالشام، وخرج منها إلى مكة فمات بها، ولم نجد في تراجمه من ذكر له سنة وفاة. ا. هـ. تاج التراجم "336"، الجواهر المضية "3/ 323".(1/171)
لِلرِّوَايَةِ"* تَفْصِيلًا فِي اتِّصَافِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِأَنَّهَا طَرِيقٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِحْكَامِ إِنَّهُ بِدْعَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ لِلتِّلْمِيذِ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِجَازَةِ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي أَوْ حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِ ذَلِكَ إِجَازَةً فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ إِلَّا بِالْقَيْدِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي إِجَازَةً أَوْ أَخْبَرَنِي إِجَازَةً. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَأَجْوَدُ الْعِبَارَاتِ فِي الْإِجَازَةِ أَنْ يَقُولَ أَجَازَ لَنَا "قِيلَ"**: ويجوز أَنْ يَقُولَ أَنْبَأَنِي بِالِاتِّفَاقِ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ عَلَى أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُجِيزَ فِي مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لَكَ أَوْ لَكُمْ رِوَايَةَ الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ عَنِّي؛ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَعْلَى "أَنْوَاعِ"*** الْإِجَازَةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يُجِيزَ "لِمُعَيَّنٍ"**** فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لَكَ أَوْ لَكُمْ جَمِيعَ مَسْمُوعَاتِي، فَجَوَّزَ هَذَا الْجُمْهُورُ وَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْجُوَيْنِيُّ.
النَّوْعُ الثالث: أن يجيز غير معين بغير مُعَيَّنٍ "لِغَيْرِ"***** مُعَيَّنٍ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِمَنْ أَدْرَكَ حَيَاتِي، جَمِيعَ مَرْوِيَّاتِي، وَقَدْ جَوَّزَ هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْخَطِيبُ وَأَبُو الطيب الطبري، ومنعه آخرون وهذا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَجَازُ لَهُ أَهْلًا لِلرِّوَايَةِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا كَالصَّبِيِّ فَجَوَّزَ ذَلِكَ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ.
وَاحْتَجَّ الْخَطِيبُ لِلْجَوَازِ: بِأَنَّ الْإِجَازَةَ إِبَاحَةُ الْمُجِيزِ لِلْمُجَازِ لَهُ أن يرو ي عَنْهُ، وَالْإِبَاحَةُ تَصِحُّ لِلْمُكَلَّفِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ بِأَنْ لَا يَرْوِيَ مَنْ لَيْسَ بِمُتَأَهِّلٍ لِلرِّوَايَةِ إِلَّا بعد أن يصير متأهلًا لها.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وقيل يجوز.
*** في "أ": طرق.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": بغير.(1/172)
فصل: الحديث الصحيح والمرسل
الصَّحِيحُ مِنَ الْحَدِيثِ: هُوَ مَا اتَّصَلَ إِسْنَادُهُ بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطٍ مِنْ غَيْرِ شُذُوذٍ وَلَا عِلَّةٍ قَادِحَةٍ.
فَمَا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَمِنْ ذَلِكَ الْمُرْسَلُ، وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ التَّابِعِيُّ.(1/172)
الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا اصْطِلَاحُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ فَقَالُوا: الْمُرْسَلُ، قَوْلُ مَنْ لم يلق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ التَّابِعِينَ أَوْ مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ.
وَإِطْلَاقُ الْمُرْسَلِ على هذا وإن كان اصطلاحا، ً وَلَا مُشَاحَّةَ فِيهِ لَكِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ هُوَ الْمُرْسَلُ بِاصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى ضَعْفِهِ، وَعَدَمِ قِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ التَّابِعِيُّ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّ الْوَاسِطَةَ صَحَابِيٌّ لَا غَيْرَ حَتَّى يُقَالَ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ عُدُولٌ فَلَا يَضُرُّ حَذْفُ الصَّحَابِيِّ، وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مُدَّعٍ يَدَّعِي أَنَّ لَهُ صُحْبَةً وَلَمْ تَصِحَّ صُحْبَتُهُ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ إِلَى قَبُولِهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِقَبُولِ الْمُرْسَلِ: إِنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْمُسْنَدِ لِثِقَةِ التَّابِعِيِّ بِصِحَّتِهِ وَلِهَذَا أَرْسَلَهُ وَهَذَا غُلُوٌّ خَارِجٌ عَنِ الْإِنْصَافِ.
وَالْحَقُّ عَدَمُ الْقَبُولِ لِمَا "ذَكَرْنَا"* مِنَ الِاحْتِمَالِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَفَصَلَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ، فَقَبِلَ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ وَلَعَلَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذين يلونهم ثم يفشو الكذب" 1، وقيل هذا من قال به بأن يكون "ذلك"** الرَّاوِي مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ "فِي"*** أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْمُرْسَلِ إِذَا كَانَ مُرْسَلُهُ غَيْرَ مُحْتَرِزٍ، يُرْسَلُ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ، قَالَ: وَهَذَا الِاسْمُ وَاقِعٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى حَدِيثِ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ2 أَوْ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سهل بن حنيف3، أو
__________
* في "أ": ذكرت.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ "خير الناس قرني": في الأيمان باب إذا قال أشهد بالله أو شهدت بالله "6658" ومسلم في الفضائل باب فضل الصحابة "2533" وأحمد في مسنده "1/ 434"، والترمذي في المناقب، باب ما جاء في فضل من رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبه "3859" وقال: حسن صحيح. وابن ماجه: في الأحكام باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد "2362" وابن حبان في صحيحه "4330".
2 ولد في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أبوه من الطلقاء، حدث عن عمر، وعثمان، وعلي، وكعب، وطائفة، كان من فقهاء قريش وعلمائهم، وهو ثقة، قليل الحديث مات في خلافة الوليد بن عبد الملك. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "3/ 514"، تهذيب التهذيب "7/ 36"، الجرح والتعديل "5/ 329".
3 الأنصاري الأوسي المدني، الفقيه، المعمر، الحجة، واسمه أسعد باسم جده لأمه، ولد في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورآه فيما قيل، توفي سنة مائة هـ، على ما اتفقوا عليه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "3/ 517"، تهذيب التهذيب "1/ 263".(1/173)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ1 وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ مَنْ دُونَ هَؤُلَاءِ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ2 وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ3 وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ4 وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ5 وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ وَكَذَلِكَ عَلْقَمَةُ6 وَمَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ7 والحسن8 وابن سيرين والشعبي9
__________
1 هو أبو عبد الرحمن الأموي، الذي افتتح إقليم خراسان، رأى سيدنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ابن خال سيدنا عثمان، ولي البصرة لعثمان، تزوج بهند بنت معاوية، توفي سنة تسع وخمسين هـ، فقال معاوية: بمن نفاخر وبمن نباهي بعده. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "3/ 18"، تهذيب التهذيب "5/ 272".
2 هو ابن حزن بن أبي وهب المخرومي، القرشي، أبو محمد، سيدنا التابعين، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، كان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب، وأقضيته، حتى سمي راوية عمر، توفي بالمدينة سنة أربع وتسعين هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 217"، تهذيب التهذيب "4/ 84"، الأعلام "3/ 102".
3 هو ابن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، الإمام الزاهد، الحافظ، مفتي المدينة، أبو عمر، وأبو عبد الله، القرشي العدوي المدني، توفي بالمدينة سنة ست ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 457"، الأعلام "3/ 71"، تهذيب التهذيب "3/ 436"، شذرات الذهب "1/ 133".
4 القرشي الزهري، الحافظ، أحد الأعلام بالمدينة، قيل: اسمه عبد الله وقيل: إسماعيل، ولد سنة بضع وعشرين هـ، وتوفي بالمدينة سنة أربع وتسعين هـ، في خلافة الوليد، كان قاضيًا في إمارة سعيد بن العاص على المدينة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 287"، تهذيب التهذيب "12/ 115"، تذكرة الحفاظ "1/ 59".
5 حفيد أبي بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الإمام القدوة، الحافظ الحجة، ولد في خلافه علي رضي الله عنه، واختلف في وفاته، فقيل سنة خمس ومائة هـ، وقيل سبع وقيل اثنتي عشرة ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 53"، تهذيب التهذيب "8/ 333"، شذرات الذهب "1/ 135".
6 هو ابن قيس بن عبد الله، فقيه الكوفة، وعالمها ومقرئها، الإمام، الحافظ المجود، المجتهد الكبير، أبو شبل، ولد في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعداده في المخضرمين، وتوفي سنة اثنتين وستين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 53"، تهذيب التهذيب "7/ 276"، شذرات الذهب "1/ 70".
7 هو ابن مالك بن أمية الإمام، القدوة، العلم، أبو عائشة الوداعي الهمذاني، عداده في كبار التابعين والمخضرمين الذين أسلموا في حياة سيدنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي سنة اثنتين وستين وقيل ثلاث وستين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 63"، تذكرة الحفاظ "1/ 49"، شذرات الذهب "1/ 71".
8 هو الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي كان إمام أهل البصرة وحبر الأمة في زمنه، مولى زيد بن ثابت، له كتاب في "فضائل مكة"، توفي بالبصرة سنة عشرة ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 563"، الأعلام "2/ 226"، شذرات الذهب "1/ 136"، تهذيب التهذيب "2/ 236".
9 هو عامر بن شراحيل الشعبي، علامة عصره، أبو عمرو، راوية من التابعين، يضرب المثل بحفظه، ولد سنة تسع عشرة هـ، في الكوفة، وتوفي فيها سنة ثلاث ومائة هـ، ا. هـ، سير أعلام النبلاء "4/ 294"، الأعلام "3/ 251"، تذكرة الحفاظ "1/ 79"، شذرات الذهب "1/ 126".(1/174)
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ1 وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمُ الَّذِينَ صَحَّ لَهُمْ لِقَاءُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمُجَالَسَتُهُمْ وَنَحْوُهُ مُرْسَلُ مَنْ دُونَهُمْ كَحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ2، وَأَبِي حَازِمٍ3، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ4 عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَمَّى مُرْسَلًا، كَمُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَقَالَ آخَرُونَ: حَدِيثُ هَؤُلَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمَّى مُنْقَطِعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْقَوْا مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَأَكْثَرُ رِوَايَتِهِمْ عَنِ التَّابِعِينَ انْتَهَى.
وَفِي هَذَا التَّمْثِيلِ نَظَرٌ فَأَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ مَعْدُودَانِ فِي الصَّحَابَةِ.
وَأَيْضًا قَوْلُهُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: إِنَّ الزُّهْرِيَّ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ لَمْ يَلْقَوْا إِلَّا الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَقَدْ لَقِيَ الزُّهْرِيُّ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا، وَأَصْلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ مُرْسَلَ الثِّقَةِ يَجِبُ بِهِ الْحُجَّةُ وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَمَلُ كَمَا يَجِبُ بِالْمُسْنَدِ سَوَاءً، قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: مَرَاسِيلُ الثِّقَاتِ مَقْبُولَةٌ بِطَرِيقٍ أَوْلَى وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ مَنْ أَسْنَدَ لَكَ فَقَدْ أَحَالَكَ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ سَمَّاهُ لَكَ وَمَنْ أَرْسَلَ مِنَ الْأَئِمَّةِ حَدِيثًا مَعَ عِلْمِهِ وَدِينِهِ وَثِقَتِهِ فَقَدْ قَطَعَ لَكَ بِصِحَّتِهِ.
قَالَ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْحُجَّةِ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ فَعَلُوا الْأَمْرَيْنِ قَالَ وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَالِكِيُّ5 وأبو بكر الأبهري وهو قول أبي جعفر الطبري، وزعم
__________
1 الكوفي المقرئ الفقيه، أحد الأعلام، المفسر، الحافظ، الشهيد، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله، ولد في خلافة سيدنا علي رضي الله عنه، توفي سنة خمس وتسعين شيهدًا على يدي الحجاج بن يوسف الثقفي. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 231"، تذكرة الحفاظ "1/ 76"، شذرات الذهب "1/ 108".
2 هو قتادة بن دعامة، حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين، أبو الخطاب السدوسي البصري الضرير الأكمه، ولد سنة ستين هـ، جاء إلى سعيد بن المسيب ومكث عنده ثمانية أيام، فقال له في اليوم الثالث: ارتحل يا أعمى فقد أنزفتني "أي أخذت علمي كله". توفي سنة ثماني عشرة ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 269"، شذرات الذهب "1/ 153".
3 هو سلمة بن دينار، المخزومي، المديني، الإمام القدوة، الأعرج، ولد في أيام الزبير، روى عن سعيد بن المسيب، ووثقه ابن معين، وروى عنه ابن عيينة، وتوفي سنة أربعين ومائة، وكانت أمه رومية وهو فارسي. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 96"، تذكرة الحفاظ "1/ 133".
4 هو ابن قيس بن عمرو، الإمام، العلامة المجود، عالم المدينة في زمانه، تلميذ الفقهاء السبعة، سمع من أنس بن مالك، وأبي أمامة بن سهل، توفي سنة ثلاث وأربعين هـ، ولي قضاء المنصور، ومات بالهاشمية. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 468"، تهذيب التهذيب "11/ 221"، شذرات الذهب "1/ 212".
5 هو عمر "أبو عمرو" بن محمد الليثي، البغدادي "أبو الفرج"، لغوي فقيه، أصولي، أصله من البصرة نشأ ببغداد، توفي سنة ثلاثين وثلاثمائة هـ وقيل إحدى وثلاثين هـ، من آثاره: "الحاوي في مذهب مالك". "اللمع في أصول الفقه" اهـ. معجم المؤلفين "8/ 12".(1/175)
الطَّبَرِيُّ أَنَّ التَّابِعِينَ بِأَسْرِهِمْ أَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ الْمُرْسَلِ وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُمْ إِنْكَارُهُ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُمْ إِلَى رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ انتهى.
ويجاب عن قوله من أرسل مَعَ عِلْمِهِ وَدِينِهِ
وَثِقَتِهِ فَقَدْ قَطَعَ لَكَ بِصِحَّتِهِ إِنَّ الثِّقَةَ قَدْ يَظُنُّ مَنْ لَيْسَ بِثِقَةٍ ثِقَةً عَمَلًا بِالظَّاهِرِ وَيَعْلَمُ غَيْرُهُ مِنْ حَالِهِ مَا يَقْدَحُ فِيهِ وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ وَيُجَابُ عَنْ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ إِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ إِلَى رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ "صَحِيحِهِ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مُرْسَلَ بَعْضِ التَّابِعِينَ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ التَّابِعِيِّ ثِقَةً مُحْتَجًّا بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَبِمَا نَقَلَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا لَا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قِيلَ سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ عَنْهُمْ وَإِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ.
وَنَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ1: أَنَّ الْمُرْسَلَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَنْ إِمَامِ التَّابِعِينَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَنَقَلَهُ غَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ إِرْسَالَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَيْسَ بِتَدْلِيسٍ هُوَ رِوَايَةُ الرَّاوِي عَمَّنْ لَمْ يُعَاصِرْهُ أَوْ لَمْ يَلْقَهُ كَرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ2 وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ3 وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قِيلَ: هُوَ مَقْبُولٌ إِذَا كَانَ الْمُرْسَلُ ثِقَةً عَدْلًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ الْعَمَلُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ.
وَاخْتَلَفَ مُسْقِطُو الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الصَّحَابَةِ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يسمعه
__________
1 هو محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، الإمام الحافظ، العلامة النيسابوري الناقد، شيخ المحدثين، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة خمس وأربعمائة هـ، له تآليف تبلغ نحو "1500" مؤلفًا، منها: "تاريخ نيسابور" "المستدرك على الصحيحين" "الإكليل" "المدخل". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 162"، معجم المؤلفين "10/ 238"، الأعلام "6/ 227".
2 هو ابن حواري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن عمته صفية: ابن الزبير بن العوام. عالم المدينة، أبو عبد الله القرشي، أحد الفقهاء السبعة، ولد سنة ثلاث وعشرين وتوفي سنة ثلاث وتسعين هـ، من كلامه: رب كلمة ذل احتملتها فأورثتني عزًّا طويلًا ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 421"، تهذيب التهذيب "7/ 180"، شذرات الذهب "1/ 103".
3 هو ابن عبد الله، الإمام الحافظ القدوة، شيخ الإسلام، أبو عبد الله القرشي التيمي المدني، ولد سنة بضع وثلاثين هـ، حدث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسلمان وعائشة وغيرهم، وتوفي سنة ثلاثين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 353"، شذرات الذهب "1/ 177"، تذكرة الحفاظ "1/ 127".(1/176)
مِنْهُ، كَقَوْلِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ذُكِرَ لِي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ: "مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ" الْحَدِيثَ1، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ لَا يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ: لَا نَشُكُّ فِي عَدَالَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَرْوِي الرَّاوِي عن تابعي أو عن أعرابي لاتعرف صُحْبَتَهُ وَلَوْ قَالَ: لَا أَرْوِي لَكُمْ إِلَّا مِنْ سَمَاعِي أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ لَوَجَبَ عَلَيْنَا قَبُولُ مُرْسَلِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ مَقْبُولَةٌ، لِكَوْنِ جَمِيعِهِمْ عُدُولًا، وَأَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَا أَرْسَلُوهُ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا مَا رَوَوْهُ عَنِ التَّابِعِينَ فَقَدْ بَيَّنُوهُ، وَهُوَ أَيْضًا قَلِيلٌ نَادِرٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ ثُمَّ رَجَّحَ عَدَمَ قَبُولِ مَرَاسِيلِ غَيْرِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: وَالَّذِي نَخْتَارُهُ سُقُوطُ فَرْضِ اللَّهِ بِالْمُرْسَلِ بِجَهَالَةِ رَاوِيهِ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْخَبَرِ إِلَّا عَمَّنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ وَلَوْ قَالَ المرسِل: حَدَّثَنِيَ الْعَدْلُ الثِّقَةُ عِنْدِي بِكَذَا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَذْكُرَ اسمه.
__________
1 أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك في كتاب العلم باب من خص بالعلم قومًا دون قوم برقم "129". ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه بنحوه في الإيمان باب من مات لا يشرك بالله دخل الجنة "93". وأحمد في مسنده 3/ 344. وعبد بن حميد في مسنده برقم "1063" "1060".(1/177)
حكم الحديث المنقطع والمعضل:
مَسْأَلَةٌ: وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِالْحَدِيثِ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ الَّذِي سَقَطَ مِنْ رُوَاتِهِ وَاحِدٌ مِمَّنْ دُونَ الصَّحَابَةِ وَلَا بِالْمُعْضِلِ، وَهُوَ الَّذِي سَقَطَ مِنْ رُوَاتِهِ اثْنَانِ وَلَا بِمَا سَقَطَ مِنْ رُوَاتِهِ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ السَّاقِطُ أَوِ السَّاقِطَانِ أَوِ السَّاقِطُونَ أَوْ بَعْضُهُمْ غَيْرَ ثِقَاتٍ، وَلَا عِبْرَةَ بِكَوْنِ الرَّاوِي لِمَا هَذَا حال ثِقَةً مُتَثَبِّتًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ حَالِ مَنْ يَظُنُّهُ ثِقَةً مَا هُوَ جُرِّحَ فِيهِ.
وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ أَيْضًا بِحَدِيثٍ يَقُولُ فِيهِ بَعْضُ رِجَالِ إِسْنَادِهِ: عَنْ رَجُلٍ، أَوْ عَنْ شَيْخٍ، أَوْ عَنْ ثِقَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَالِفَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَلَا اعْتِبَارَ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْفَنِّ لَا يعرف ما يجب اعتباره.(1/177)
فصل: طرق ثبوت العدالة
مدخل
...
فصل: طرق ثبوت الْعَدَالَةِ
وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ لَكَ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا، وَأَقْوَى الطُّرُقِ الْمُفِيدَةِ لِثُبُوتِهَا: الِاخْتِبَارُ في الأحوال بطول الصحابة وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْثُرْ عَلَيْهِ "عَلَى"* فِعْلِ كَبِيرَةٍ، وَلَا عَلَى مَا يَقْتَضِي التَّهَاوُنَ بالدين والتساهل في الرواية،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/177)
فَهُوَ ثِقَةٌ، وَإِلَّا فَلَا.
ثُمَّ التَّزْكِيَةُ، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِخَبَرِ عَدْلَيْنِ مَعَ ذِكْرِ السَّبَبِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ تَعْدِيلٌ أَوْ بِدُونِ ذِكْرِهِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِهِ، وَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَدْلٌ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ "هُوَ"* عَدْلٌ رَضِيٌّ، وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا بَلْ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْ عَلَى مَا يُفِيدُ مُفَادَ أَحَدِهِمَا يَكْفِي عِنْدَ مَنْ يَقْبَلُ الْإِجْمَالَ، وَأَمَّا التَّعْدِيلُ مِنْ وَاحِدٍ فَقَطْ، فَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ الْأَبْيَارِيُّ: وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ.
قَالَ الْقَاضِي: وَالَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ وُجُوبَ قَبُولِ كُلِّ عَدْلٍ مَرْضِيٍّ، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، شَاهِدًا أَوْ مُخْبِرًا، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ اثْنَانِ، وَيَكْفِي فِي الرِّوَايَةِ وَاحِدٌ كَمَا يَكْفِي فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَمَا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي جَرْحِ رُوَاتِهِ وَلَا فِي تَعْدِيلِهِمْ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وَأَطْلَقَ فِي الْمَحْصُولِ قَبُولَ تَزْكِيَةِ الْمَرْأَةِ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ النِّسَاءُ فِي التَّعْدِيلِ لَا فِي الشَّهَادَةِ وَلَا فِي الرِّوَايَةِ ثم اختار قبول "قولها"** لها فِيهِمَا كَمَا "تُقْبَلُ"***رِوَايَتُهَا وَشَهَادَتُهَا انْتَهَى.
وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ هَذَا بِكَوْنِهَا مِمَّنْ "يَتَمَكَّنُ"**** من اختيار أَحْوَالِ مَنْ زَكَّتْهُ، كَأَنْ تَكُونَ مِمَّنْ تَجُوزُ لَهَا مُصَاحَبَتُهُ وَالِاطِّلَاعُ عَلَى أَحْوَالِهِ أَوْ يَكُونَ الذي وقعت تزيكة المرأة له "امْرَأَةً"***** مِثْلَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا سُؤَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَارِيَةِ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ عَنْ حَالِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ1.
وَقَدْ تَكُونُ التَّزْكِيَةُ بِأَنْ يحكم حاكم بشاهدته، كَذَا قَالَ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَغَيْرُهُمَا، قَالَ الْقَاضِيَ: وَهُوَ أَقْوَى مِنْ تَزْكِيَتِهِ بِاللَّفْظِ. وحكى الصفي الهندي الاتفاق على هذا،
__________
* في "أ": هذا.
** في "أ": قومه لها.
*** في "أ": يقبل.
**** في "أ": تمكن.
***** في "أ": له مثلها.
__________
1 أخرجه البخاري في الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا "2661". ومسلم في التوبة، باب حديث الإفك "2770". وأبو يعلى في مسنده "4927". وعبد الرزاق في المصنف "9748". وابن حبان في صحيحه "4212". والطبراني في المعجم الكبير "23/ 134".(1/178)
قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِ إِلَّا وَهُوَ عَدْلٌ عِنْدَهُ، وَقَيَّدَهُ الْآمِدِيُّ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى قَبُولَ الْفَاسِقِ الَّذِي لَا يَكْذِبُ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا إِذَا مَنَعْنَا حُكْمَ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ أَمَّا إِذَا أجزناه فعمله بِالشَّهَادَةِ ظَاهِرًا يَقُومُ مَعَهُ احْتِمَالُ أَنَّهُ حَكَمَ بِعِلْمِهِ بَاطِنًا.
وَمِنْ طُرُقِ التَّزْكِيَةِ الِاسْتِفَاضَةُ فِيمَنِ اشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَشَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْفِي.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْخَطِيبُ "وَنَقَلَهُ عَنْ"* مَالِكٍ، وَشُعْبَةَ، وَالسُّفْيَانَيْنِ1، وَأَحْمَدَ، وَابْنِ مَعِينٍ، وَابْنِ الْمَدِينِيِّ2 وَغَيْرِهِمْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ إِنَّمَا يَحْتَاجَانِ إِلَى التَّزْكِيَةِ مَتَى لَمْ يَكُونَا مشهورين بالعدالة "الرضا"** وكأن أمرهما متشكلًا مُلْتَبِسًا، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ أَقْوَى مِنْ "تَزْكِيَةِ"*** الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّ حَامِلِ عِلْمٍ مَعْرُوفُ الْعِنَايَةِ بِهِ، فَهُوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ فِي أَمْرِهِ عَلَى الْعَدَالَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ جرحه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ" 3، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَغَارِبَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي "ضُعَفَائِهِ"4 مِنْ جِهَةِ ابْنِ رِفَاعَةَ السَّلَامِيِّ5 عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرحمن العذري6 وقال: لا
__________
* في "أ": ومثله بنحو مالك.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": تقويه.
__________
1 وهما سفيان الثوري الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "141"، وسفيان بن عيينة الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "167".
2 وهو الإمام علي بن المدني بن عبد الله، أبو الحسن، أحد الأعلام، الحافظ، سمع من حماد بن زيد، قال البخاري: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند ابن المديني، وقال ابن مهدي: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 41"، شذرات الذهب "2/ 81"، تهذيب التهذيب "7/ 349".
3 أخرجه البزار في كتاب العلم برقم "86" وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما "601".
4 هو محمد بن عمرو بن موسى، العقيلي، الإمام الحافظ، الناقد، أبو جعفر، كان جليل القدر، عظيم الخطر، كان كثير التصانيف، من آثاره:"كتاب الضعفاء"، توفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 236"، تذكرة الحفاظ "3/ 833".
5 هو معان بن رفاعة، السلامي، الدمشقي، وقيل الحمصي، وثقه ابن المديني، وقال الجوزجاني: ليس بحجة، وهو صاحب حديث ليس بمتقن. ا. هـ. روى عن إبراهيم العذري وعن الخراساني. ا. هـ. تهذيب التهذيب "10/ 182"، الكامل في الضعفاء "6/ 328"، ميزان الاعتدال "4/ 134".
6 تابعي مقل في الرواية، قال صاحب لسان الميزان: ما علمته واهيًا، أرسل حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله". وذكره باسم العبدي. ا. هـ. ميزان الاعتدال "1/ 45".(1/179)
يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ وَهُوَ مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضِلٌ ضَعِيفٌ وَإِبْرَاهِيمُ قَالَ فِيهِ الْقَطَّانُ لَا نَعْرِفُهُ أَلْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ غَيْرِ هَذَا وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ "الْعِلَلِ"1: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ. فَقِيلَ لَهُ: تَرَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ؟ فَقَالَ: لَا هُوَ صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِيمَا قَالَهُ اتِّسَاعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ.
وَمِنْ طُرُقِ التَّزْكِيَةِ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الرَّاوِي حَكَاهُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَنَقَلَ فِيهِ الْآمِدِيُّ الِاتِّفَاقَ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ حَكَى الْخِلَافَ فِيهِ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"* وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ.
وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ فِيهِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعْدِيلٌ له.
والثاني: أن لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ.
وَالثَّالِثُ: قَالَ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ أَنَّهُ عَمِلَ بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَوَافَقَ "عَمُلُهُ"** الْخَبَرَ الَّذِي رَوَاهُ فَعَمِلَهُ لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُمْكِنَ تَجْوِيزُ أَنَّهُ عَمِلَ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَهُوَ تَعْدِيلٌ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ.
قَالَ وَفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِنَا عَمَلٌ بِالْخَبَرِ وَبَيْنَ قولنا "عمل"*** بِمُوجِبِ الْخَبَرِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُسْتَنَدُهُ وَالثَّانِي لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ لِدَلِيلٍ آخَرَ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنْ أَمْكَنَ حمله عَمَلِهِ"**** عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ وَإِلَّا فَهُوَ تَعْدِيلٌ، وَكَذَا قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ وَيُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ لَا يُوجَدَ مَا يُقَوِّي ذَلِكَ الْخَبَرَ، فَإِنْ وُجِدَ مَا يُقَوِّيهِ مِنْ عُمُومٍ أَوْ قِيَاسٍ وَعَلِمْنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِهِ لَمْ يَكُنْ لِاعْتِضَادِهِ بِذَلِكَ فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ.
وَمِنْ طريقة التَّزْكِيَةِ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ مَنْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ كيحيى بن
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": عليه.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": حمله على.
__________
1 هو أحمد بن محمد بن هارون، أبو بكر البغدادي الخلال، الإمام العلامة الحافظ الفقيه، ولد سنة أربع وثلاثين ومائة هـ، من آثاره: "الجامع في الفقه" "العلل" "السنة وألفاظ أحمد والدليل على ذلك من الأحاديث"، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة هـ، وهو شيخ الحنابلة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 297"، شذرات الذهب "2/ 261"، الأعلام "1/ 206".(1/180)
سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكٍ فَإِنَّ ذَلِكَ تَعْدِيلٌ كَمَا اخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَالْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هُوَ قَوْلُ "الْحُذَّاقِ"*، وَلَا بُدَّ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْ أَنْ يَظْهَرَ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ ظُهُورًا بَيِّنًا إِمَّا بِتَصْرِيحِهِ بِذَلِكَ أَوْ بِتَتَبُّعِ عَادَتِهِ بِحَيْثُ لَا تَخْتَلِفُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ ظُهُورًا بَيِّنًا فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحُفَّاظِ يَرْوُونَ أَحَادِيثَ الضُّعَفَاءِ لِلِاعْتِبَارِ وَلِبَيَانِ حَالِهَا، وَمِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ قَوْلُهُمْ: رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ وَقَوْلُهُمْ: رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَوْ أَحَدُهُمَا.
__________
* في "أ": الحذق.(1/181)
فرع: الخلاف في عدالة الْمُبْهَمِ
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَعْدِيلِ الْمُبْهَمِ، كَقَوْلِهِمْ: حَدَّثَنِيَ الثِّقَةُ أَوْ حَدَّثَنِيَ الْعَدْلُ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى عَدَمِ قَبُولِهِ، وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْبَلُ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا عِنْدَهُ فَرُبَّمَا لَوْ سَمَّاهُ "لَكَانَ"* مَجْرُوحًا عِنْدَ غَيْرِهِ، قَالَ الْخَطِيبُ: لَوْ صَرَّحَ بِأَنَّ جَمِيعَ شُيُوخِهِ ثقات ثم روى عمن لم يسمعه لَمْ نَعْمَلْ بِرِوَايَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ نَعْرِفَهُ إِذَا ذَكَرَهُ بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ قَالَ نَعَمْ لَوْ قَالَ الْعَالِمُ كُلَّ مَا أَرْوِي عَنْهُ وَأُسَمِّيهِ فَهُوَ عَدْلٌ رَضِيٌّ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ، كَانَ هَذَا الْقَوْلُ تَعْدِيلًا لِكُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَسَمَّاهُ كَمَا سَبَقَ. انْتَهَى.
وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ: حَدَّثَنِيَ الثِّقَةُ، وَكَذَا كَانَ يَقُولُ مَالِكٌ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَنْ لَمْ يُسَمِّهِ، أَمَّا إِذَا عَرَفَ بِقَرِينَةِ حَالٍ أَوْ مَقَالٍ كَانَ كَالتَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ فَيَنْظُرُ فِيهِ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنِيَ الثِّقَةُ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ1، فَهُوَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ2، وَإِذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فَهُوَ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ3 وَإِذَا قال: أخبرني الثقة عن
__________
* في "أ": كان.
__________
1 هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، شيخ الإسلام، أبو الحارث القرشي العامري، المدني، الفقيه، من آثاره: كتاب كبير في "السنن"، توفي سنة وثمان وخمسين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 139"، شذرات الذهب "1/ 245"، تهذيب التهذيب "9/ 303".
2 هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك، واسمه دينار الديلي، الإمام الثقة، المحدث، توفي سنة مائتين هـ، وقيل سنة تسع ومائتين هـ، له أحاديث بأسانيد عالية. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 486"، شذرات الذهب "1/ 359" تهذيب التهذيب "9/ 61".
3 هو يحيى بن حسان، الإمام الحافظ، القدوة، أبو زكريا، البصري، وقيل المصري، أصله من دمشق، ولد سنة أربع وأربعين ومائة هـ، روى عن مالك بن أنس والليث بن سعد وغيرهما، توفي سنة ثمانٍ ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 127"، تهذيب التهذيب "11/ 197"، والجرح والتعديل "9/ 135".(1/181)
الوليد بن كثير1، فهو [أبو أسامة2، وإذا قال: أخبرني الثقة عن الأوزاعي فَهُوَ] * عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ3، وَإِذَا قَالَ: أخبرني الثقة عن ابن جريح4، فَهُوَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ5، وَإِذَا قَالَ: أخبرني الثقة عن صالح مولى التوءمة6، فهو إبراهيم بن أبي يحيى7.
__________
* زيادة ضرورية استدركناها عن هامش النسخة "ب".
__________
1 أبو محمد المخزومي، المدني، الحافظ، كان أخباريًّا، علامة، ثقة، بصيرًا بالمغازي، حدث عن الأعرج وبشير بن يسار وغيرهما، وحدث عنه ابن عيينة والواقدي وجماعة، توفي سنة إحدى وخمسين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 63"، تهذيب التهديب "11/ 148"، شذرات الذهب "1/ 231".
2 هو حماد بن أسامة بن زيد، الكوفي، الحافظ، الثبت، كان من أئمة العلم، توفي سنة إحدى ومائتين هـ، وهو ابن ثمانين سنة فيما قبل. وحديثه في جميع الصحاح والدواوين. انظر: الجرح والتعديل: "2/ 132"، ميزان الاعتدال: "1/ 588"، سير أعلام النبلاء "9/ 277".
3 أبو حفص التنيسي الإمام، الحافظ، الصدوق، دمشقي سكن تنيس فنسب إليها، حدث عن الأوزاعي ومالك بن أنس وجماعة، وحدث عنه أبو عبد الله الشافي وابن محمد المسندي وجماعة، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة أربع عشرة ومائتين هـ، ا. هـ، سير أعلام النبلاء "10/ 213"، الجرح والتعديل "6/ 235".
4 هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الإمام، العلامة، الحافظ شيخ الحرم، أبو خالد صاحب التصانيف، أول من دون العلم بمكة، توفي سنة خمسين ومائة هـ، ولد هو وأبو حنيفة في عام واحد وماتا في عام واحد. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 325"، الجرح والتعديل "5/ 356"، تهذيب التهذيب "6/ 402".
5 هو الإمام الفقيه، أبو خالد، فقيه مكة، المخزومي، ولد سنة مائة هـ، حدث عن الزهري، وعمرو بن دينار وجماعة، وحدث عنه الحميدي، ومسدد وجماعة، توفي سنة ثمانين ومائة هـ، ا. هـ، سير أعلام النبلاء "8/ 177"، الجرح والتعديل "8/ 183"، تهذيب التهذيب "10/ 128".
6 هو صالح مولى التوءمة، المدني، وقد توفي سنة خمس وعشرين ومائة هـ، بعد أن هرم وخرف، لقيس أبا هريرة وجماعة. ا. هـ شذرات الذهب "1/ 166"، تهذيب التهذيب "4/ 408".
7 هو أبو إسحاق الأسلمي، الشيخ، العالم، المحدث، أحد الأعلام المشاهير، الفقيه ولد سنة مائة هـ، من آثاره: "الموطأ" وهو كتاب كبير أضعاف موطأ الإمام مالك، له أحاديث في مسند الشافعي، وتوفي سنة أربع وثمانين ومائة هـ, ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 450"، الجرح والتعديل "2/ 125"، تهذيب التهذيب "1/ 158.(1/182)
فرع آخر: الخلاف فِي قَبُولِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مَنْ دُونِ ذِكْرِ السَّبَبِ
هَلْ يُقْبَلُ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ مَنْ دُونِ ذِكْرِ السَّبَبِ أَمْ لَا؟(1/182)
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ فِيهِمَا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ السَّبَبِ فِيهِمَا، إِذَا كَانَ بَصِيرًا بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ السَّبَبِ بِخِلَافِ الْجَرْحِ "فَلَا يُقْبَلُ إِلَّا بِذِكْرِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّعْدِيلِ كَثِيرَةٌ فَيَشُقُّ ذِكْرُهَا"* بِخِلَافِ الْجَرْحِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَأَيْضًا سَبَبُ الْجَرْحِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، بخلاف سبب التعديل، وإلى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، قَالَ الْخَطِيبُ: وَذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَنُقَّادِهِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ الْجَرْحُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَلَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ إِلَّا بِذِكْرِ السَّبَبِ، قَالُوا: لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجَرْحِ يُبْطِلُ الثِّقَةَ وَمُطْلَقَ التَّعْدِيلِ لَا يُحَصِّلُ الثِّقَةَ؛ لِتَسَارُعِ النَّاسِ إِلَى الظَّاهِرِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ وَالْمُعَدِّلَ قَدْ يَظُنَّانِ مَا لَيْسَ بِجَارِحٍ جَارِحًا وَقَدْ يَظُنَّانِ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْعَدَالَةِ تَعْدِيلًا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَقَدْ يَكُونُ مَا أَبْهَمَهُ الْجَارِحُ مِنَ الْجَرْحِ هُوَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِهِ، وَعَلَى خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ مَا أَبْهَمَهُ مِنَ التَّعْدِيلِ هُوَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَعَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ مُخَالِفًا لِلْحَقِّ كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا.
وَعِنْدِي: أَنَّ الْجَرْحَ الْمَعْمُولَ بِهِ هُوَ أَنْ يَصِفَهُ بِضَعْفِ الْحِفْظِ أَوْ بِالتَّسَاهُلِ فِي الرِّوَايَةِ أَوْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى تَسَاهُلِهِ بِالدِّينِ. وَالتَّعْدِيلُ الْمَعْمُولُ بِهِ: هُوَ أَنْ يَصِفَهُ بِالتَّحَرِّي فِي الرِّوَايَةِ وَالْحِفْظِ لِمَا يَرْوِيهِ، وَعَدَمِ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى تَسَاهُلِهِ بِالدِّينِ فَاشْدُدْ عَلَى هَذَا يَدَيْكَ تَنْتَفِعْ بِهِ عِنْدَ اضْطِرَابِ أَمْوَاجِ الْخِلَافِ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا وَرَدَ الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ كَقَوْلِ الْجَارِحِ: لَيْسَ بِثِقَةٍ أَوْ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَوْ هُوَ ضَعِيفٌ، فَهَلْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْمَرْوِيِّ مَعَ هَذَا أَمْ لَا؟ قُلْتُ: يَجِبُ حِينَئِذٍ التَّوَقُّفُ حَتَّى يَبْحَثَ الْمُطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ فِي مُطَوَّلَاتِ الْمُصَنَّفَاتِ فِي هَذَا الشَّأْنِ "كَتَهْذِيبِ الْكَمَالِ" لِلْمِزِّيِّ1 وَفُرُوعِهِ وَكَذَا "تَارِيخُ الإسلام"2،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 واسمه: "تهذيب الكمال في معرفة الرجال" للحافظ يوسف بن الزكي المزي، و"الكمال في معرفة الرجال"، للإمام محب الدين بن النجار محمد بن محمود البغدادي.
2 وهو المعروف بـ"تاريخ الذهبي"، للإمام الحافظ شمس الدين أبي عبد الله الدمشقي، وهو تاريخ كبير، على السنوات، جمع فيه بين الحوادث والوفيات وانتهى إلى آخر سنة إحدى وأربعين وسبعمائة هـ، ا. هـ. كشف الظنون "1/ 294".(1/183)
و"تاريخ النبلاء"1، و"الميزان" للذهبي2.
__________
1 وهو "سير أعلام النبلاء" للحافظ الذهبي، وهو من جملة ما اختصره من تاريخه الكبير، مرتبًا على التراجم بحسب الوفيات، وله عليه ذيل، وسماه صلاح الدين الصفدي وابن دقماق "بتاريخ النبلاء"، وابن شاكر الكتبي "بتاريخ العلماء النبلاء" وتاج الدين السبكي "كتاب النبلاء" أما "سير أعلام النبلاء" فقد جاء مخطوطًا على طرر المجلدات. ا. هـ.
كشف الظنون "2/ 1015"، سير أعلام النبلاء المقدمة 91.
2 واسمه "ميزان الاعتدال في نقد الرجال"، للإمام الحافظ الذهبي، وهو مجلدان، وهو كتاب جليل في إيضاح نقله العلم، وألفه كتابه "المغني" وزاد عليه زيادات حسنة من الرواة المذكورين في الكتاب المذيل على الكامل لابن عدي. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1917".(1/184)
فرع ثالث: تعارض الجرح والتعديل والجمع بينهما
وفيه أقوال:
القول الْأَوَّلُ:
أَنَّ الْجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ وَإِنْ كَانَ الْمُعَدِّلُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْجَارِحِينَ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ الْخَطِيبُ وَالْبَاجِيُّ، وَنَقَلَ الْقَاضِي فِيهِ الْإِجْمَاعَ، قَالَ الرَّازِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ لِأَنَّ مَعَ الْجَارِحِ زِيَادَةَ عِلْمٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الْمُعَدِّلُ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْجَرْحَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مُفَسَّرًا. وَقَدِ اسْتَثْنَى أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مِنْ هَذَا مَا إِذَا جَرَّحَهُ بِمَعْصِيَةٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ التَّعْدِيلَ؛ لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي:
أَنَّهُ يُقَدَّمُ التَّعْدِيلُ عَلَى الْجَرْحِ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ قَدْ يُجَرِّحُ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جَارِحًا، وَالْمُعَدِّلَ إِذَا كَانَ عَدْلًا لَا يُعَدَّلُ إِلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الْمُوجِبِ لِقَبُولِهِ جَرْحًا، حَكَى هَذَا الطَّحَاوِيُّ1 عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ هَذَا الْقَوْلِ بِالْجَرْحِ الْمُجْمَلِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الْجَرْحُ مُفَسَّرًا لم يتم ما علل به من أَنَّ الْجَارِحَ قَدْ يُجَرِّحُ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جَارِحًا إِلَخْ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْأَكْثَرَ مِنَ الْجَارِحِينَ وَالْمُعَدِّلِينِ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَعَدَدُ الْمُعَدِّلِ إِذَا زَادَ قِيلَ إِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْجَارِحِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ سَبَبَ تَقْدِيمِ الْجَرْحِ اطِّلَاعُ الْجَارِحِ عَلَى زِيَادَةٍ وَلَا يَنْتَفِي ذَلِكَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بمرجح حكى هذا القول
__________
1 أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، أبو جعفر، فقيه، انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين هـ، في طحا بمصر، وتوفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "مشكل الآثار" "بيان السنة".ا. هـ. الجواهر المضية "1/ 102"، معجم المؤلفين "2/ 107".(1/184)
ابْنُ الْحَاجِبِ وَقَدْ جَعَلَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا كَانَ "عَدَدُ"* الْمُعَدِّلِينِ أَكْثَرَ فَإِنِ اسْتَوَوْا قُدِّمَ الْجَرْحُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ فِي "الْكِفَايَةِ"1 وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وَخَالَفَهُمْ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ فَقَالَ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا اسْتَوَى عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ وَالْجَارِحِينَ قَالَ: فَإِنْ كَثُرَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ وَقَلَّ عَدَدُ الْجَارِحِينَ فَقِيلَ: الْعَدَالَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْلَى انْتَهَى.
وَالْحَقُّ الْحَقِيقُ بِالْقَبُولِ: أَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ لِلْمُجْتَهِدِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّفْسِيرِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَإِذَا فَسَّرَ الْجَارِحُ مَا جَرَّحَ بِهِ وَالْمُعَدِّلُ مَا عَدَّلَ بِهِ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الرَّاجِحِ مِنْهُمَا مَنِ الْمَرْجُوحُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِقَبُولِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ الْمُجْمَلَيْنِ مِنْ عَارِفٍ فَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَنِدَ فِي جَرْحِهِ إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ بِخِلَافِ الْمُعَدِّلِ فَقَدْ يَسْتَنِدُ إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ وَأَيْضًا حَدِيثُ مَنْ تَعَارَضَ فِيهِ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ الْمُجْمَلَانِ قَدْ دَخَلَهُ الِاحْتِمَالُ فلا يقبل
__________
* في: "أ" عدم وهو تحريف.
__________
1 واسمه: "الكفاية في معرفة أصول الرواية"، للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1499".(1/185)
فصل: عدالة الصحابة
القول الأول:
اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَةِ الرَّاوِي، إِنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الصَّحَابَةِ، فَأَمَّا فِيهِمْ فَلَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمُ الْعَدَالَةُ فَتُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْخَلَفِ، وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ بِالْإِجْمَاعِ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ مَا وَرَدَ مِنَ الْعُمُومَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَعْدِيلِهِمْ كِتَابًا وَسُنَّةً، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1 وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 2 أَيْ: عُدُولًا وَقَوْلِهِ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِين} 3، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} 4*، وقوله:
__________
* في "أ": و {وَالسَّابِقُونَ} فقط.
__________
1 جزء من الآية "110" من سورة آل عمران.
2 جزء من الآية "143" من سورة البقرة.
3 جزء من الآية "18" من سورة الفتح.
4 جزء من الآية "100" من سورة التوبة.(1/185)
{وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي" 2، وَقَوْلِهِ فِي حَقِّهِمْ: "لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بلغ مد أحدكم وَلَا نَصِيفَهُ" 3 وَهُمَا فِي الصَّحِيحِ، وَقَوْلِهِ: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ" 4 عَلَى مَقَالٍ فِيهِ مَعْرُوفٍ.
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِي قَبُولِهِمْ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ أَحْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ نَقَلَةُ الشَّرِيعَةِ، وَلَوْ ثَبَتَ التَّوَقُّفُ فِي رِوَايَتِهِمْ، لَانْحَصَرَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى عَصْرِ الرَّسُولِ وَلَمَا اسْتَرْسَلَتْ عَلَى سَائِرِ الْأَعْصَارِ.
قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَأَمَّا مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ فَتِلْكَ أُمُورٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَوِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَالْمُخْطِئُ مَعْذُورٌ بَلْ مَأْجُورٌ، وَكَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ5: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ مِنْهَا سُيُوفَنَا فَلَا نُخَضِّبُ بِهَا أَلْسِنَتَنَا.
الْقَوْلُ الثَّانِي:
أَنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْعَدَالَةِ حُكْمُ غَيْرِهِمْ، فَيُبْحَثُ عَنْهَا، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: فَوَحْشِيٌّ قَتَلَ حَمْزَةَ وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَالْوَلِيدُ6 شَرِبَ الْخَمْرَ، فمن ظهر عليه خلاف العدالة
__________
1 جزء من الآية "29" من سورة الفتح.
2 تقدم تخريجه في الصفحة "173".
3 أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري في فضائل الصحابة، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو كنت متخذًا خليلًا" "3637". ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة "2541"، وأحمد في المسند "3/ 54". والترمذي، كتاب المناقب، باب "59" برقم "3861". والنسائي، كتاب فضائل الصحابة "203". وابن حبان في صحيحه "7255". والبغوي في شرح السنة "3859". والطيالسي "2183".
4 أخرجه ابن عدي في الكامل، "2/ 376"، وعبد بن حميد في المسند "المنتخب ص250" وابن عبد البر في جامع بيان العلم "2/ 90"، وحكم عليه الحافظ الذهبي بالوضع واتهم بعض رواة الأسانيد انظر الميزان "1/ 413"، "2/ 102". ووهن الحافظ ابن حجر، جميع طرقه، ونقل عن ابن حزم قوله: هذا خبر مكذوب موضع باطل. وعن البزار: هذا الكلام لم يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا. هـ. التلخيص الحبير "4/ 191". ويغني عنه ما في مسلم: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: قال: صلينا المغرب مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلى معه العشاء ... فقال: "النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتى فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" رقمه "2531".
5 هو ابن مروان بن الحكم، كان من أئمة الاجتهاد، وبعد خامس الخلفاء الراشدين، ولي إمارة المدينة في عهد الوليد، دامت خلافته سنتين وستة أشهر وأيام. كخلافة الصديق، توفي سنة إحدى ومائة هـ، ودفن بدير سمعان من أرض المعرة ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 114"، شذرات الذهب "1/ 119".
6 هو الخليفة، أبو العباس، الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، الدمشقي، الذي أنشأ جامع بني أمية، بويع بعهد من أبيه، فتح بوابة الأندلس وبلاد الترك، قيل: كان يختم في كل ثلاث، وختم في رمضان سبع عشرة ختمة، توفي سنة ست وتسعين هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 347"، شذرات الذهب "1/ 111".(1/186)
لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ وَالْوَلِيدُ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ إِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ. انْتَهَى.
وَهَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ جِدًّا فَوَحْشِيٌّ قَتَلَ حَمْزَةَ، وَهُوَ كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُقْدَحُ بِهِ فَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، بِلَا خِلَافٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْوَلِيدُ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ إِلَخْ، فَلَمْ يَقُلْ قَائِلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ يُخْرِجُ مَنْ كَانَ صَحَابِيًّا عَنْ صُحْبَتِهِ.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَقَدْ بَالَغَ إِبْرَاهِيمُ النَّظَّامُ فِي الطَّعْنِ فِيهِمْ، عَلَى مَا نَقَلَهُ "الْجَاحِظُ"* عَنْهُ فِي كِتَابِ "الْفُتْيَا"1، وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا، أَمَّا مُجْمَلًا فَإِنَّهُ رَوَى مِنْ طَعْنِ بَعْضِهِمْ فِي بعضٍ أَخْبَارًا كَثِيرَةً يَأْتِي تَفْصِيلُهَا، وَقَالَ رَأَيْنَا بَعْضَ الصَّحَابَةِ يَقْدَحُ فِي بَعْضٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَوَجُّهَ الْقَدْحِ إِمَّا فِي الْقَادِحِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا وَإِمَّا فِي الْمَقْدُوحِ فِيهِ إِنْ كَانَ الْقَادِحُ صَادِقًا.
وَالْجَوَابُ مُجْمَلًا: أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ دَالَّةٌ عَلَى سَلَامَةِ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَبَرَاءَتِهِمْ عَنِ الْمَطَاعِنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُحْسِنَ الظَّنَّ بِهِمْ إِلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى الطَّعْنِ فِيهِمْ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ عُدُولٌ قَبْلَ الْفِتَنِ لَا بَعْدَهَا فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْهُمْ، وَأَمَّا بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقًا أي: مِنَ الطَّرَفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَبِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ2 مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ لِاسْتِلْزَامِهِ إِهْدَارَ غَالِبِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلِينَ لِتِلْكَ الْحُرُوبِ هُمْ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّاخِلِينَ فِيهَا، وَأَيْضًا فِيهِ أَنَّ الْبَاغِيَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرُ معي وَهُوَ مُعَيَّنٌ بِالدَّلِيلِ الصَّحِيحِ وَأَيْضًا التَّمَسُّكُ بِمَا تَمَسَّكَتْ بِهِ طَائِفَةٌ يُخْرِجُهَا مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْبَغْيِ عَلَيْهَا عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْبَاغِيَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ عُدُولٌ إِلَّا مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا، وَبِهِ قَالَ جماعة من المعتزلة والشيعة،
__________
* في "أ": الحافظ: وهو الصواب لأننا لم نعثر على كتاب اسمه الفتيا للجاحظ.
__________
1 انتشرت مقدمة رسالة "الفتيا" للجاحظ في الجزء الأول من مجموعة رسائله التي حققها عبد السلام هارون، أما الرسالة نفسها فتعتبر بحكم المفقودة.
2 هو الزاهد، العابد، القدري، شيخ المعتزلة، وأولهم، أبو عثمان البصري، قال حفص بن غياث: ما رأيت أزهد منه وانتحل ما انتحل. وقال ابن المبارك: دعا إلى القدر فتركوه، مات بطريقه إلى مكة سنة ثلاث وأربعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 104"، تهذيب التهذيب "8/ 30"، شذرات الذهب "1/ 210".(1/187)
وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ تَمَسُّكَهُمْ بِمَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنَ الشُّبَهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُقْدِمُوا على ذلك جرأة على الله وتهاونًا بدينه، وجناب الصحابة أَمْرٌ عَظِيمٌ فَمَنِ انْتَهَكَ أَعْرَاضَ بَعْضِهِمْ فَقَدْ وَقَعَ فِي هُوَّةٍ لَا يَنْجُو مِنْهَا سَالِمًا، وَقَدْ كَانَ فِي أَهْلِ الشَّامِ صَحَابَةٌ صَالِحُونَ عَرَضَتْ لَهُمْ شُبَهٌ لَوْلَا عُرُوضُهَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ، وَلَا غَمَسُوا فِيهَا أَيْدِيَهُمْ وَقَدْ عَدَّلُوا تَعْدِيلًا عَامًّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَجَبَ عَلَيْنَا الْبَقَاءُ "عَلَى ... "* وَالتَّأْوِيلُ لِمَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَنْ كَانَ مُشْتَهِرًا مِنْهُمْ بِالصُّحْبَةِ، وَالْمُلَازَمَةِ فَهُوَ عَدْلٌ لَا يُبْحَثُ عَنْ عَدَالَتِهِ، دُونَ مَنْ قَلَّتْ صُحْبَتُهُ، وَلَمْ يُلَازِمْ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ رِوَايَةٌ، كَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِاسْتِلْزَامِهِ إِخْرَاجَ جَمَاعَةٍ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَقَامُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلِيلًا ثُمَّ انْصَرَفُوا كَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَأَمْثَالِهِمْ، قَالَ الْمِزِّيُّ: إِنَّهَا لَمْ تُوجَدْ رِوَايَةٌ عَمَّنْ يَلْمِزُ بِالنِّفَاقِ، وَقَالَ الْأَبْيَارِيُّ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِعَدَالَتِهِمْ ثُبُوتَ الْعِصْمَةِ لَهُمْ وَاسْتِحَالَةَ الْمَعْصِيَةِ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: قَبُولُ رِوَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ بَحْثٍ عَنْ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ وَطَلَبِ التَّزْكِيَةِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ ارْتِكَابٌ قَادِحٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَنَحْنُ عَلَى اسْتِصْحَابِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ السِّيَرِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، وما "صح"** فَلَهُ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ. انْتَهَى.
وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ عَدَالَةُ جَمِيعِ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ الصُّحْبَةُ، عَلِمْتَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ الرَّاوِي عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُسَمِّهِ كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً وَلَا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم.
__________
* في هامش "أ" قال كذا بالأصل وظاهره سقوطه ولعل الأصل على عموم التعديل.
** في "أ": يصح.(1/188)
فرع: التعريف بالصحابي
إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَنْ يَسْتَحِقُّ اسْمَ الصُّحْبَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنًا بِهِ وَلَوْ سَاعَةً، سَوَاءٌ رَوَى عَنْهُ أَمْ لَا.
وَقِيلَ: هُوَ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ، وَرَوَى عَنْهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الصُّحْبَةِ إِلَّا مَنْ "جَمَعَ"* بَيْنَهُمَا.
وَقِيلَ: هُوَ مَنْ ثَبَتَ لَهُ أَحَدُهُمَا إِمَّا طُولُ الصُّحْبَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ.
وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَإِنْ كَانَتِ اللُّغَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الصَّاحِبَ هُوَ مَنْ كثرت ملازمته.
__________
* في "أ": يجمع.(1/188)
فَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْفَضِيلَةِ لِمَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ إِلَّا مُجَرَّدُ اللِّقَاءِ الْقَلِيلِ أَوِ الرُّؤْيَةِ وَلَوْ مَرَّةً.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ اشْتِرَاطَ الْإِقَامَةِ مَعَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةً فَصَاعِدًا، أَوِ الْغَزْوِ مَعَهُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ.
وَقِيلَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لِاسْتِلْزَامِهِمَا خُرُوجَ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُ وَلَمْ يَبْقَوْا لَدَيْهِ إِلَّا دُونَ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا: لَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا دَلِيلٌ مِنْ لُغَةٍ وَلَا شَرْعٍ.
وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْوَاقِدِيِّ1 أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أن يكون بالغًا، وهو ضعيف لاستلزامه "خروج"* كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا عَصْرَ النُّبُوَّةِ ورووا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْلُغُوا إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَلَا تشترط الرؤية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَعْمَى مِثْلَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ قَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِالْعَدَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ لَا يَطْلُبُ تَعْدِيلَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَمَنِ اشْتَرَطَ فِي شُرُوطِ الصُّحْبَةِ شَرْطًا لَا يَطْلُبُ التَّعْدِيلَ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَيَطْلُبُهُ مَعَ عَدَمِهِ فَالْخِلَافُ معنوي لا لفظي.
__________
* في "أ": لخروج.
__________
1 هو محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، المدني، القاضي، العلامة، أبو عبد الله، أحد أوعية العلم، ولد بعد سنة عشرين ومائة هـ، سمع من صغار التابعين، قال عنه الذهبي: جمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، توفي سنة سبع ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 454"، شذرات الذهب "2/ 18"، تهذيب التهذيب "9/ 363".(1/189)
فرع آخر: طرق معرفة الصحابي
...
فرع آخر: طريق معرفة الصحابي
وَيُعْرَفُ كَوْنُ الصَّحَابِيِّ صَحَابِيًّا بِالتَّوَاتُرِ، وَالِاسْتِفَاضَةِ، وَبِكَوْنِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، أَوْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَبِخَبَرِ صَحَابِيٍّ آخَرَ مَعْلُومِ الصُّحْبَةِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إِنَّهُ صَحَابِيٌّ أَمْ لَا؟
فَقَالَ الْقَاضِي، أَبُو بَكْرٍ: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ وَازِعَ الْعَدَالَةِ يَمْنَعُهُ مِنَ الْكَذِبِ، إِذَا لَمْ يروَ عَنْ غَيْرِهِ مَا(1/189)
يُعَارِضُ قَوْلَهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَالنَّوَوِيُّ وَتَوَقَّفَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ بِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَزْمِ بِعَدَمِ الْقَبُولِ. فَقَالَ: وَمَنْ يَدَعُ الصُّحْبَةَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى نَعْلَمَ صُحْبَتَهُ وَإِذَا عَلِمْنَاهَا فَمَا رَوَاهُ فَهُوَ عَلَى السَّمَاعِ حَتَّى نَعْلَمَ غَيْرَهُ. انْتَهَى.
وَاعْلَمْ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِقَبُولِ خَبَرِهِ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ، بِأَنْ تَقُومَ الْقَرَائِنُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ وَإِلَّا لَزِمَ قَبُولُ خَبَرِ كَثِيرٍ مِنَ الْكَذَّابِينَ الَّذِينَ ادَّعَوُا الصُّحْبَةَ.(1/190)
المقصد الثالث: الإجماع
الفصل الأول: في مسماه لغة واصطلاحا
...
المقصد الثالث: الإجماع
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي مُسَمَّاهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": الْإِجْمَاعُ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْعَزْمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} 1.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ" 2.
وَثَانِيهِمَا: الِاتِّفَاقُ. يُقَالُ: أَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى كَذَا أَيْ صَارُوا ذَوِي جَمْعٍ كَمَا يُقَالُ أَلْبَنَ، وَأَتْمَرَ إِذَا صَارَ ذَا لَبَنٍ، وَذَا تَمْرٍ. انْتَهَى.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ إجماع الأمة يتعدى بعلى، والإجماع بمعنى العزيمة لا يتعدى بعلى، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِمَا حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي "الْمَقَايِيسِ"3 فَإِنَّهُ قَالَ: يُقَالُ: أَجْمَعْتُ عَلَى الْأَمْرِ إِجْمَاعًا وَأَجْمَعْتُهُ.
وَقَدْ جَزَمَ بِكَوْنِهِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ أَيْضًا الْغَزَالِيُّ.
وَقَالَ الْقَاضِي: الْعَزْمُ يَرْجِعُ إِلَى الِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَنِ اتَّفَقَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْأَوَّلُ أَيِ: الْعَزْمُ أَشْبَهُ بِاللُّغَةِ، وَالثَّانِي أي: الاتفاق أشبه بالشرع. انتهى.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ الثَّانِيَ وَإِنْ كَانَ أَشْبَهَ بِالشَّرْعِ فَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مَعْنًى لُغَوِيًّا، وَكَوْنَ اللَّفْظِ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَزْمِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يُقَالُ: أَجْمَعَ الْقَوْمُ إِذَا صَارُوا ذَوِي جَمْعٍ كَمَا يُقَالُ: أَلْبَنَ وَأَتْمَرَ إِذَا صَارَ ذَا لَبَنٍ وَتَمْرٍ. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَهُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهَدِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ على أمر من الأمور.
__________
1 جزء من الآية "71" من سورة يونس.
2 أخرجه النسائي من حديث حفصة رضي الله عنها في كتاب الصيام باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك "2334" 4/ 197. والترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل "730". وأبو داود كتاب الصيام باب النية في الصيام "2454". وابن ماجه في كتاب الصيام باب ما جاء في فرض الصوم من الليل والخيار في الصوم "1700". والدارمي في سننه في كتاب الصيام باب من لم يجمع الصيام من الليل "1650". وابن خزيمة في صحيحه برقم "1933".
3 واسمه: "مقاييس اللغة"، لأحمد بن فارس بين زكريا، وهو كتاب كما وصفه ياقوت الحموي: كتاب جليل، لم يصنف مثله، ويعني ابن فارس بكلمة مقاييسه "الاشتقاق الكبير"، الذي يرجع مفردات كل مادة إلى معنى أو معانٍ تشترك فيها هذه المفردات. ا. هـ. مقاييس اللغة مقدمة النشر.(1/193)
وَالْمُرَادُ بِالِاتِّفَاقِ الِاشْتِرَاكُ: إِمَّا فِي الِاعْتِقَادِ أَوْ فِي الْقَوْلِ، أَوْ فِي الْفِعْلِ.
وَيَخْرُجُ بِقَوْلِهِ: مجتهدي أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اتفاق العوام، فإنه لا عبرة بوفاتهم وَلَا بِخِلَافِهِمْ. وَيَخْرُجُ مِنْهُ أَيْضًا اتِّفَاقُ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ.
وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ اتِّفَاقُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ.
وَيَخْرُجُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ الْإِجْمَاعُ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِهِ.
وَيَخْرُجُ بِقَوْلِهِ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعُ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ هَذَا تَوَهُّمٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الإجماع؛ إذ لا إجماع يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبَعْدَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا حَاجَةَ لِلْإِجْمَاعِ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَصْرِ عَصْرُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَدَثَتْ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ فَلَا يُعْتَدُّ بِمَنْ صَارَ مُجْتَهِدًا بَعْدَ حُدُوثِهَا وَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِيهَا أَحْيَاءً.
وَقَوْلُهُ: عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ يَتَنَاوَلُ الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَالْعُرْفِيَّاتِ، وَاللُّغَوِيَّاتِ.
وَمَنِ اشْتَرَطَ فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ انْقِرَاضَ عَصْرِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُتَّفِقِينَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ زَادَ فِي الْحَدِّ قَيْدَ الِانْقِرَاضِ.
وَمَنِ اشْتَرَطَ عَدَمَ سَبْقِ خِلَافٍ مُسْتَقِرٍّ، زَادَ فِي الْحَدِّ قَيْدَ عَدَمِ كَوْنِهِ مَسْبُوقًا بِخِلَافٍ.
وَمَنِ اشْتَرَطَ عَدَالَةَ الْمُتَّفِقِينَ أَوْ بُلُوغَهُمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ زَادَ في الحد ما يفيد ذلك.(1/194)
الفصل الثاني: في إِمْكَانُ الْإِجْمَاعِ فِي نَفْسِهِ
...
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي إمكان الإجماع في نفسه
المقام الأول:
فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ النَّظَّامُ وَبَعْضُ الشِّيعَةِ: بِإِحَالَةِ إِمْكَانِ الْإِجْمَاعِ.
قَالُوا: إِنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ، الَّذِي لَا يَكُونُ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ مُحَالٌ، كَمَا أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ، عَلَى الْمَأْكُولِ الْوَاحِدِ وَالتَّكَلُّمِ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مُحَالٌ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ فِيمَا يَسْتَوِي فِيهِ الِاحْتِمَالُ كَالْمَأْكُولِ الْمُعَيَّنِ وَالْكَلِمَةِ الْمُعَيَّنَةِ أَمَّا عِنْدَ الرُّجْحَانِ بِقِيَامِ الدِّلَالَةِ أَوِ الْأَمَارَةِ الظَّاهِرَةِ فَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَذَلِكَ كَاتِّفَاقِ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ عَلَى نبوة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالُوا ثَانِيًا: إِنَّ اتِّفَاقَهُمْ فَرْعُ تَسَاوِيهِمْ فِي نَقْلِ الْحُكْمِ إِلَيْهِمْ، وَانْتِشَارَهُمْ فِي الْأَقْطَارِ يَمْنَعُ نَقْلَ الْحُكْمِ إِلَيْهِمْ.
وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ كَوْنِ الِانْتِشَارِ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ جَدِّهِمْ فِي الطَّلَبِ، وَبَحْثِهِمْ عَنِ الْأَدِلَّةِ، وَإِنَّمَا(1/194)
يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ قَعَدَ فِي قَعْرِ بَيْتِهِ لَا يَبْحَثُ وَلَا يَطْلُبُ.
قَالُوا ثَالِثًا: الِاتِّفَاقُ إِمَّا عَنْ قَاطِعٍ أَوْ ظَنِّيٍّ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ أَمَّا الْقَاطِعُ فَلِأَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ عَدَمَ نَقْلِهِ فَلَوْ كَانَ لِنَقْلٍ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ، كَيْفَ وَلَوْ نُقِلَ لَأَغْنَى عَنِ الْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا الظَّنِّيُّ: فَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ الِاتِّفَاقُ عَادَةً لِاخْتِلَافِ الْأَفْهَامِ وَتَبَايُنِ الْأَنْظَارِ.
وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ مَا ذُكِرَ فِي الْقَاطِعِ؛ إِذْ قَدْ يَسْتَغْنِي عَنْ نَقْلِهِ بِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ، الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ.
وَأَمَّا الظَّنِّيُّ فَقَدْ يَكُونُ جَلِيًّا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَفْهَامُ وَلَا تَتَبَايَنُ فِيهِ الْأَنْظَارُ، فَهَذَا -أَعْنِي مَنْعَ إِمْكَانِ الْإِجْمَاعِ فِي نفسه- هو المقام الأول.
المقام الثاني:
عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ إِمْكَانِهِ فِي نَفْسِهِ مَنَعَ إِمْكَانَ الْعِلْمِ بِهِ.
فَقَالُوا: لَا طَرِيقَ لَنَا إِلَى الْعِلْمِ بِحُصُولِهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْأَشْيَاءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وُجْدَانِيًّا، أَوْ لَا يَكُونُ وُجْدَانِيًّا.
أَمَّا الْوُجْدَانِيُّ: فَكَمَا يَجِدُ أَحَدُنَا مِنْ نَفْسِهِ مِنْ جُوعِهِ وَعَطَشِهِ وَلَذَّتِهِ، وَأَلَمِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ بِاتِّفَاقِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.
وَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ وُجْدَانِيًّا فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهَا؛ إِذْ كَوْنُ الشَّخْصِ الْفُلَانِيِّ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَوْ لَمْ يَقُلْ بِهِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْلِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا مَجَالَ أَيْضًا لِلْحِسِّ فِيهَا لِأَنَّ الْإِحْسَاسَ بِكَلَامِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، فَإِذًا الْعِلْمُ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ قَطْعًا وَمِنْ ذَلِكَ الَّذِي يَعْرِفُ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأُمَّةِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَسَائِرِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَإِنَّ الْعُمْرَ يَفْنَى دُونَ مُجَرَّدِ الْبُلُوغِ إِلَى كُلِّ مَكَانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ التي يسكنها أهل العلم فضلًا عن اختبار أَحْوَالِهِمْ، وَمَعْرِفَةِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ وَمَعْرِفَةِ كَوْنِهِ قَالَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ بِهِ، وَالْبَحْثِ عَمَّنْ هُوَ خَامِلٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاقِلِ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَخْفَى عَلَى الْبَاحِثِ فِي الْمَدِينَةِ الْوَاحِدَةِ، فَضْلًا عَنِ الْإِقْلِيمِ الْوَاحِدِ، فَضْلًا عَنْ جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ الَّتِي فِيهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ أَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الشَّرْقِ بِجُمْلَةِ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ وَالْعَكْسَ فَضْلًا عَنِ الْعِلْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى التَّفْصِيلِ وَبِكَيْفِيَّةِ مَذْهَبِهِ وَبِمَا يَقُولُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا(1/195)
وَأَيْضًا: قَدْ يَحْمِلُ بَعْضَ مَنْ يَعْتَبِرُ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، وَعَدَمِ الظُّهُورِ بِالْخِلَافِ التَّقِيَّةُ وَالْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَعْتَقِدُونَ شَيْئًا إِذَا خَالَفَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَضَرَّتِهِمْ.
وَعَلَى تَقْدِيرِ إِمْكَانِ مَعْرِفَةِ مَا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ بَلَدٍ وَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَمْرٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ أَوْ يَرْجِعَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ أَنْ يُجْمِعَ "عَلَيْهِ"* أَهْلُ بَلْدَةٍ أُخْرَى بَلْ لَوْ فَرَضْنَا حَتْمًا اجْتِمَاعَ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِمْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً قَائِلِينَ قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى الْحُكْمِ الْفُلَانِيِّ فَإِنَّ هَذَا مَعَ امْتِنَاعِهِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُخَالِفًا فِيهِ وَسَكَتَ تَقِيَّةً وَخَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ اتِّفَاقَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نُبُوَّةِ نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن أراد الاتفاق باطنًا وظاهرًا فذلك مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ وَالْعِلْمُ بِامْتِنَاعِهِ ضَرُورِيٌّ، وَإِنْ أَرَادَ ظَاهِرًا فَقَطِ اسْتِنَادًا إِلَى الشُّهْرَةِ وَالِاسْتِفَاضَةِ، فَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِجْمَاعِ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ: الْعِلْمُ بِمَا يَعْتَقِدُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بعد معرفة أنه لا حاصل له على الموافقة، وأنه يدين الله بِذَلِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِعَيْنِهِ وَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ النَّاقِلُ لِلْإِجْمَاعِ مِنْ مَعْرِفَةِ كُلِّ مَنْ يُعْتَبَرُ فِيهِ مِنْ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا، فَقَدْ أَسْرَفَ فِي الدَّعْوَى وَجَازَفَ فِي الْقَوْلِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ تَعَذُّرِ ذَلِكَ تَعَذُّرًا ظَاهِرًا وَاضِحًا.
وَرَحِمَ اللَّهُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَإِنَّهُ قال: من ادعى "وجود"** الْإِجْمَاعِ فَهُوَ كَاذِبٌ.
وَالْعَجَبُ مِنَ اشْتِدَادِ نَكِيرِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ تَصَوُّرَ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَادَةً فَإِنَّ إِنْكَارَهُ عَلَى الْمُنْكِرِ هُوَ الْمُنْكَرُ.
وَفَصَلَ الْجُوَيْنِيُّ بَيْنَ كُلِّيَّاتِ الدِّينِ، فَلَا يَمْتَنِعُ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا وَبَيْنَ الْمَسَائِلِ الْمَظْنُونَةِ قلا يُتَصَوَّرُ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا عَادَةً.
وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّفْصِيلِ، فَإِنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي دَلِيلُهَا الْإِجْمَاعُ وَكُلِّيَّاتُ الدِّينِ مَعْلُومَةٌ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَجَعَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: الْحَقُّ تَعَذُّرُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَا إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ حَيْثُ كَانَ الْمُجْمِعُونَ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ فِي قِلَّةٍ، وَأَمَّا الْآنَ وَبَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَكَثْرَةِ الْعُلَمَاءِ فلا مطمع للعلم بِهِ.
قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَحْمَدَ مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقُوَّةِ حِفْظِهِ وَشِدَّةِ اطِّلَاعِهِ على الأمور
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ" وجوب.(1/196)
الأمور النقلية. قال: والمنصف يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خَبَرَ لَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ إِلَّا مَا يَجِدُهُ مَكْتُوبًا فِي الْكُتُبِ، وَمِنَ البين أنه لا يحصل"الاطلاع"* إِلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْهُمْ أَوْ بِنَقْلِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ إِلَيْنَا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَا. انْتَهَى.
الْمَقَامُ الثَّالِثُ: النَّظَرُ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ إِلَى مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ
قَالُوا: لَوْ سَلَّمْنَا إِمْكَانَ ثبوت الإجماع عند الْإِجْمَاعِ عِنْدَ النَّاقِلِينَ لَهُ لَكَانَ نَقْلُهُ إِلَى من يحتج به من بعدهم مستحيل؛ لِأَنَّ طَرِيقَ نَقْلِهِ إِمَّا التَّوَاتُرُ أَوِ الْآحَادُ، وَالْعَادَةُ تُحِيلُ النَّقْلَ تَوَاتُرًا لِبُعْدِ أَنْ يُشَاهِدَ أَهْلُ التَّوَاتُرِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا "وَيَسْمَعُونَ"** ذَلِكَ مِنْهُمْ، ثُمَّ "يَنْقُلُونَهُ"*** إِلَى عَدَدٍ مُتَوَاتِرٍ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ إِلَى أَنْ يَتَّصِلَ "بِنَا"****.
وَأَمَّا الْآحَادُ: فَغَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ كَمَا سَيَأْتِي1.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ تَشْكِيكٌ فِي ضَرُورِيٍّ لِلْقَطْعِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى تَقْدِيمِ الْقَاطِعِ عَلَى الْمَظْنُونِ، وَلَا يَخْفَاكَ مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَأَيْضًا كَوْنُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ كُلِّ مُتَشَرِّعٍ لَا يُقَدِّمُ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ عَلَى الْقَطْعِيِّ وَلَا يَجُوزُ مِنْهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِيثَارٌ لِلْحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ عَلَى الْحُجَّةِ الْقَوِيَّةِ، وَكُلُّ عَاقِلٍ لَا يصدر منه ذلك.
المقام الرابع:
اخْتَلَفَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ إِمْكَانِهِ فِي نَفْسِهِ وَإِمْكَانِ الْعِلْمِ بِهِ وَإِمْكَانِ نَقْلِهِ إِلَيْنَا، هَلْ هُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى كَوْنِهِ حُجَّةً.
وَذَهَبَ النَّظَّامُ وَالْإِمَامِيَّةُ، وَبَعْضُ الْخَوَارِجِ إِلَى أنه: ليس بحجة، وإنما الحجة مستندة،
__________
* في "أ": الاطلاع عليه.
** في "أ": يسمعوا.
*** في "أ": ينقلوا.
**** في "أ": به.
__________
1 انظر صفحة: "210".(1/197)
إِنْ ظَهَرَ لَنَا، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَمْ نُقَدِّرْ لِلْإِجْمَاعِ دَلِيلًا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْحُجِّيَّةِ، هَلِ الدَّلِيلُ عَلَى حُجِّيَّتِهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ، أَمِ السَّمْعُ فَقَطْ؟
فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ السَّمْعُ فَقَطْ، وَمَنَعُوا ثُبُوتَهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ.
قَالُوا: لِأَنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ وَإِنْ بَعُدَ فِي الْعَقْلِ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فَلَا يَبْعُدُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ كَاجْتِمَاعِ الْكُفَّارِ عَلَى جَحْدِ النُّبُوَّةِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَيْضًا: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى تَخْطِئَةِ الْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِثْبَاتٌ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْإِجْمَاعَ دَلَّ عَلَى نَصٍّ قَاطِعٍ فِي تَخْطِئَةِ الْمُخَالِفِ فَفِيهِ إِثْبَاتُ الْإِجْمَاعِ بِنَصٍّ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجْمَاعِ وَهُوَ دَوْرٌ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنَ الْإِجْمَاعِ وَدِلَالَتَهَا عَلَى وُجُودِ النَّصِّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً فَلَا دَوْرَ وَلَا يَخْفَاكَ مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ التَّعَسُّفِ الظَّاهِرِ.
وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ وَلَا يُحْتَجُّ بِالْمَظْنُونِ عَلَى الْقَطْعِيِّ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دَلِيلُ النَّقْلِ من الكتاب والسنة.
فَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 1.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَمَعَ بَيْنَ مُشَاقَّةٍ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْوَعِيدِ فَلَوْ كَانَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُبَاحًا لَمَا جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْظُورِ فَثَبَتَ أَنَّ مُتَابَعَةَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ "مَحْظُورَةٌ، وَمُتَابَعَةَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ"* عِبَارَةٌ عَنْ مُتَابَعَةِ قَوْلٍ أَوْ فَتْوًى يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ أَوْ فَتْوَاهُمْ وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ مَحْظُورَةً وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُتَابَعَةُ قَوْلِهِمْ وَفَتْوَاهُمْ وَاجِبَةً.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِسَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ هُوَ إِجْمَاعُهُمْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَبِيلَهُمْ في متابعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِي مُنَاصَرَتِهِ أَوْ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ أَوْ فِيمَا بِهِ صَارُوا مُؤْمِنِينَ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": إِنَّ الْمُشَاقَّةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْكُفْرِ بِالرَّسُولِ وَتَكْذِيبِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 آية "115" من سورة النساء.(1/198)
وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالنُّبُوَّةِ.
وَيُجَابُ: بِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ حَالَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالنُّبُوَّةِ يَكُونُ تَكْلِيفًا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامًا عِنْدَ الْمُشَاقَّةِ كَانَ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاجِبًا عِنْدَ الْمُشَاقَّةِ لِأَنَّ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ ثَالِثًا وَهُوَ عَدَمُ الِاتِّبَاعِ أَصْلًا.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْمُشَاقَّةِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ.
قَوْلُهُ: الْمُشَاقَّةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْكُفْرِ، وَإِيجَابُ الْعَمَلِ عِنْدَ حُصُولِ الْكُفْرِ مُحَالٌ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَاقَّةَ لا تحصل إلا مع الْكُفْرِ، بَيَانُهُ: أَنَّ الْمُشَاقَّةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ كَوْنِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ فِي شِقٍّ وَالْآخَرِ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ، وَذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ أَصْلُ الْمُخَالَفَةِ سَوَاءٌ بَلَغَ حَدَّ الْكُفْرِ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُشَاقَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْكُفْرِ فلمَ قُلْتُمْ: إِنَّ حُصُولَ الْكُفْرِ يُنَافِي الْعَمَلَ بِالْإِجْمَاعِ؟ فَإِنَّ الْكُفْرَ بِالرَّسُولِ كَمَا يَكُونُ بِالْجَهْلِ بِكَوْنِهِ صَادِقًا فَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا بِأُمُورٍ أُخَرَ كَشَدِّ الزُّنَّارِ1 وَلُبْسِ الْغِيَارِ2 وَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي القاذورات، والاستخفاف بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِكَوْنِهِ نَبِيًّا وَإِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ بِاللِّسَانِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ نَبِيًّا وَشَيْءٍ مِنْ هذه الأنواع "كفر"* لَا يُنَافِي الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْإِجْمَاعِ.
ثُمَّ قَالَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ مُتَابَعَةِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، لَا بِشَرْطِ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ لَكِنْ بِشَرْطِ تَبَيُّنِ الْهُدَى أَوَّلًا. بِهَذَا الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مُشَاقَّةَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَطَ فِيهَا تَبَيُّنَ الْهُدَى، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَبَيُّنُ الْهُدَى شَرْطًا فِي التَّوَعُّدِ عَلَى "اتباع"** غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ "لِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا في المعطوف، واللام في الهدي للاستغراق، فليزم أَنْ لَا يَحْصُلَ التَّوَعُّدُ عَلَى"*** اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا عِنْدَ تَبَيُّنِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الهدى، ومن جملة
__________
* في "ب": من الكفر.
** في "ب": متابعة.
*** مابين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 الزنار: علامة للكفار، وهو خيط رفيع غليظ على أوساطهم خارج الثياب، وليس لهم إبداله بما يلطف كالمنديل "شفاء الغليل: 145".
2 الغيار: هو علامة للكفار كالزنار؛ وفي شرح المهذب: أن يخطوا على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونه لونها، وتكون الخياطة على الكتف دون الذيل، والأشبه أن لا تختص بالكتف "شفاء الغليل للخفاجي: 145".(1/199)
أَنْوَاعِ الْهُدَى ذَلِكَ الدَّلِيلُ الَّذِي لِأَجْلِهِ ذَهَبَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ إِلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى لِلتَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ، "وَأَيْضًا"* فَالْإِنْسَانُ إِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: إِذَا تَبَيَّنَ لَكَ صِدْقُ فُلَانٍ فَاتَّبِعْهُ، فُهِمَ مِنْهُ تَبَيُّنُ صِدْقِ قَوْلِهِ بِشَيْءٍ غَيْرِ قَوْلِهِ، فَكَذَا هُنَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَبَيُّنُ صِحَّةِ إِجْمَاعِهِمْ بِشَيْءٍ وَرَاءَ الْإِجْمَاعِ، وَإِذَا كُنَّا لَا نَتَمَسَّكُ بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا بَعْدَ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لِلتَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ.
سَلَّمْنَا أَنَّهَا تَقْتَضِي الْمَنْعَ "مِنْ"** مُتَابَعَةِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنْ هَلِ الْمُرَادُ عَنْ كُلِّ مَا كَانَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ عَنْ مُتَابَعَةِ بَعْضِ مَا كَانَ كَذَلِكَ. الْأَوَّلُ "مُمْتَنِعٌ"*** وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالِاسْتِدْلَالُ سَاقِطٌ أَمَّا الْمَنْعُ فَلِأَنَّ لَفْظَ الْغَيْرِ وَلَفْظَ السَّبِيلِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَفْظٌ مُفْرَدٌ فَلَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَمَّا بِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالِاسْتِدْلَالُ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ كُلَّ مَا كَانَ مُغَايِرًا لِكُلِّ مَا كَانَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، وَالثَّانِي مُسْلِمٌ وَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ فَإِنَّ عِنْدَنَا يَحْرُمُ بَعْضُ مَا غَايَرَ بَعْضَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ السَّبِيلُ الَّذِي صَارُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وَالَّذِي يُغَايِرُهُ هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيِّنٌ لِوَجْهَيْنِ:
"أَحَدُهُمَا"****: "أَنَّا"***** إِذَا قُلْنَا: لَا تَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الصَّالِحِينَ فَهُمِ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ مُتَابَعَةِ غَيْرِ سَبِيلِ الصَّالِحِينَ فِيمَا صَارُوا بِهِ صَالِحِينَ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ مُتَابَعَةِ سَبِيلِ غَيْرِ الصَّالِحِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ ارْتَدَّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا الْمَنْعُ مِنَ الكفر.
"سلمنا خطر اتِّبَاعِ"****** غَيْرِ سَبِيلِهِمْ مُطْلَقًا لَكِنَّ لَفْظَ السَّبِيلِ حَقِيقَةٌ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْمَشْيُ وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا بِالِاتِّفَاقِ فَصَارَ الظَّاهِرُ مَتُرُوكًا وَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْمَجَازِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ فَتَبْقَى الْآيَةُ مُجْمَلَةً.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنِ اتِّفَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ أَلْبَتَّةَ بَيْنَ الطَّرِيقِ الْمَسْلُوكِ وَبَيْنَ اتِّفَاقِ أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَشَرْطُ حُسْنِ التجوز حصول المناسبة
__________
* في "أ": أيضًا.
** في "أ": عن.
*** في "أ": ممنوع.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": لأنا.
****** في "أ": الثاني أن الآية غير سبيلهم إلخ وهو تحريف كما هو في هامشها.(1/200)
سَلَّمْنَا أَنَّهُ: يَجُوزُ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْ ذَلِكَ الِاتِّفَاقِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَيْضًا جَعْلُهُ مَجَازًا عَنِ الدَّلِيلِ الَّذِي لِأَجْلِهِ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ فَإِنَّهُمْ إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى الشَّيْءِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ عَنِ اسْتِدْلَالٍ "أَوْ لَا عَنِ اسْتِدْلَالٍ فَإِنْ كَانَ عَنِ اسْتِدْلَالٍ"* فَقَدْ حَصَلَ لهم سبيلان: الفتوى والاستدلال عليه فلم كان حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْفَتْوَى أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ؟ بَلْ هَذَا أَوْلَى فَإِنَّ بَيْنَ الدَّلِيلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَبَيْنَ الطَّرِيقِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْمَشْيُ مُشَابَهَةً فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْحَرَكَةَ الْبَدَنِيَّةَ فِي الطَّرِيقِ الْمَسْلُوكَةِ تُوَصِّلُ الْبَدَنَ إِلَى الْمَطْلُوبِ هَكَذَا الْحَرَكَةُ الذِّهْنِيَّةُ فِي مُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ مُوَصِّلَةٌ لِلذِّهْنِ إِلَى الْمَطْلُوبِ وَالْمُشَابَهَةُ إِحْدَى جِهَاتِ حُسْنِ الْمَجَازِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ تَقْتَضِي إِيجَابَ اتِّبَاعِهِمْ فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ الَّذِي لِأَجْلِهِ اتَّفَقُوا عَلَى الْحُكْمِ وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى إِيجَابِ الِاسْتِدْلَالِ، بِمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ الْإِجْمَاعُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ إِجْمَاعُهُمْ لَا عَنِ اسْتِدْلَالٍ فَالْقَوْلُ لَا عَنِ اسْتِدْلَالٍ خَطَأٍ فَيَلْزَمُ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ.
ثُمَّ قَالَ: سَلَّمْنَا دِلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ، لَكِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى "وُجُوبِ"** مُتَابَعَةِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ كُلِّهِمْ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْمُؤْمِنِينَ جَمْعٌ فَيُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ لِأَنَّ إِجْمَاعَ الْبَعْضِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ أَقْوَالَ الْفِرَقِ مُتَنَاقِضَةٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّ كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ يُوجَدُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يَكُونُ الْمَوْجُودُونَ فِي الْعَصْرِ كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ إِجْمَاعَ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ.
فَإِنْ قُلْتَ: الْمُؤْمِنُونَ هُمُ الْمُصَدِّقُونَ "وهم"*** والموجودون، وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يُوجَدُوا بَعْدُ فَلَيْسُوا الْمُؤْمِنِينَ.
قُلْتُ: إِذَا وُجِدَ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي لَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ هُمْ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عِنْدَ حُضُورِ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي. قَوْلًا لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي.
سَلَّمْنَا أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ هُمْ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ، لَكِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ الْآيَةُ مُخْتَصَّةً بِمُؤْمِنِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً لَكِنَّ التمسك
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/201)
بِالْإِجْمَاعِ إِنَّمَا يَنْفَعُ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَهْمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بَقُوا بِأَسْرِهِمْ إِلَى بَعْدِ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهَا اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ لَمْ تَدُلَّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي شَيْءٍ من الاجماعات الْمَوْجُودَةِ فِي الْمَسَائِلِ، بَلِ الْمَعْلُومُ خِلَافُهُ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَاتَ زَمَانَ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
ثُمَّ قَالَ: سَلَّمْنَا دِلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، لَكِنْ دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ أَمْ ظَنِّيَّةٌ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ.
قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّا نَجْعَلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةً.
قُلْتُ: إِنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُنْعَقِدَ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، بَلْ كُلُّهُمْ نَفَوْا ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ نَفَى كَوْنَهُ دَلِيلًا أَصْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ دَلِيلًا قَاطِعًا فَلَوْ أَثْبَتْنَاهُ دَلِيلًا ظَنِّيًّا لَكَانَ هَذَا تَخْطِئَةً لِكُلِّ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ.
وَالْعَجَبُ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْإِجْمَاعَ بِعُمُومَاتِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُنْكِرَ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْعُمُومَاتُ لَا يُكَفَّرُ، وَلَا يُفَسَّقُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِنْكَارُ لِتَأْوِيلٍ ثُمَّ يَقُولُونَ الْحُكْمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مَقْطُوعٌ، وَمُخَالِفُهُ كَافِرٌ وَفَاسِقٌ فَكَأَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا الْفَرْعَ أَقْوَى مِنَ الْأَصْلِ وَذَلِكَ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ.
سَلَّمْنَا دِلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لَكِنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَقْلِ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَكُلُّ مَا فِيهِ مَنْعٌ لِكُلِّ الْأُمَّةِ مِنَ الْقَوْلِ "بِالْبَاطِلِ"* وَالْفِعْلِ الْبَاطِلِ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون} 1 {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلْ} 2؛ وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَجُوزُ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُتَصَوَّرًا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَكَثِيرٌ، مِنْهَا: قِصَّةُ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْرِ فِيهَا ذكر الإجماع، ولو كان ذلك مدرجًا شَرْعِيًّا لَمَا جَازَ الْإِخْلَالُ بِذِكْرِهِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ أمتي" 3.
__________
* في "أ": الباطل.
__________
1 جزء من الآية "169" البقرة والآية "33" من سورة الأعراف.
2 جزء من الآية "188" من سورة البقرة.
3 أجرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو، كتاب الإمارة، باب قوله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم" "1924". وأخرجه الطبراني عن عقبة "17/ 870" عن أحمد بن رشدين عن أحمد بن صالح عن ابن وهب وأيضًا من طريق سعيد بن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب "17/ 869". وابن حبان في صحيحه "6836".(1/202)
ومنها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رقاب بعض" 1.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رءوسًا جُهَّالًا فَسَأَلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" 2.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ، وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّهَا أَوَّلُ ما ينسى" 3.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَرْتَفِعَ الْعِلْمُ وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ" 4.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِأَسْرِهَا تَدُلُّ عَلَى خُلُوِّ الزَّمَانِ عَمَّنْ يَقُومُ بِالْوَاجِبَاتِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ جَازَ الْخَطَأُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ جَوَازُهُ عَلَى الْكُلِّ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّنْجِ أَسْوَدَ، كَانَ الْكُلُّ أَسْوَدَ.
الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِدِلَالَةٍ أَوْ لِأَمَارَةٍ، فَإِنْ كَانَ لِدِلَالَةٍ فَالْوَاقِعَةُ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا كُلُّ عُلَمَاءِ الْعَالَمِ تَكُونُ وَاقِعَةً عَظِيمَةً، وَمِثْلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَجْمَعُوا وَكَانَ يَنْبَغِي اشْتِهَارُ تِلْكَ الدِّلَالَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يبقى في التمسك
__________
1 أخرجه البخاري من حديث ابن عمر، كتاب الديات، باب قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} "6868". ومسلم، كتاب الإيمان، باب معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا ترجعوا بعدي كفارًا" "66". وأبو داود كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان "4686". وابن أبي شيبة "15/ 30". والإمام أحمد في مسنده "2/ 85". وابن حبان في صحيحه "187". والنسائي، كتاب تحريم الذم، باب تحرير القتل "7/ 126". وابن ماجه، كتاب الفتن، باب لا ترجعوا بعدي كفارًا "3943".
2 أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو، كتاب العلم، باب كيف يطلب العلم "100"، ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه "2673". والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في ذهاب العلم "2652". وابن ماجه، المقدمة "52". الدارمي "1/ 77". وأحمد في مسنده "2/ 162، 190". وابن عبد البر في كتاب "جامع بيان العلم وفضله" "1/ 148-149". وابن حبان في صحيحه "4571".
3 أخرج الترمذي في حديث أبي هريرة بنحوه، كتاب الفرائض، باب ما جاء في تعليم الفرائض "2091" وابن ماجه، كتاب الفرائض، باب الحث على تعليم الفرائض "2719". والحاكم في المستدرك، كتاب الفرائض "4/ 332". وفي الباب من طريق عبد الله بن مسعود. وقال الذهبي: فيه حفص وهو واهٍ وذكره الحافظ المناوي في فيض القدير "3326". وقال ابن حجر: مدراه على حفص هذا وهو متروك.
4 أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه "2671". وابن ماجه، كتاب الفتن، باب أشراط الساعة "4045". وعبد الرزاق في المصنف "20801". وأحمد في المسند "3/ 176". وأبو يعلى في مسنده "2892".(1/203)
بِالْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ لِأَمَارَةٍ فَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْأَمَارَاتِ يَخْتَلِفُ حَالُ النَّاسِ فِيهَا، فَيَسْتَحِيلُ اتِّفَاقُ الْخَلْقِ عَلَى مُقْتَضَاهَا، وَلِأَنَّ فِي الْأُمَّةِ من لم يقل بقول الأمارة حجة، لا يُمْكِنُ اتِّفَاقُهُمْ لِأَجْلِ الْأَمَارَةِ عَلَى الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ لَا لِدِلَالَةٍ وَلَا لِأَمَارَةٍ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً بِالْإِجْمَاعِ فَلَوِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لَكَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ قَادِحٌ فِي الْإِجْمَاعِ، هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْمَحْصُولِ وَقَدْ أَسْقَطْنَا مِنْهُ مَا فِيهِ ضَعْفٌ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَى تَعَسُّفٍ وَفِي الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَا يَحْتَمِلُ الْمُنَاقَشَةَ.
وَقَدْ أَجَابَ عَنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ بِجَوَابَاتٍ مُتَعَسِّفَةٍ، يَسْتَدْعِي ذِكْرُهَا ذِكْرَ الْجَوَابِ عَلَيْهَا مِنَّا فَيَطُولُ الْبَحْثُ جِدًّا، وَلَكِنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ مَا قَدَّمْنَاهُ1 كَمَا يَنْبَغِي، عَلِمْتَ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ على مطلوب المستدلين منها.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 2.
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ كَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَسَطًا، وَالْوَسَطُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خِيَارُهُ فَيَكُونُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَوْ أَقْدَمُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ لَمَا اتَّصَفُوا بالخيرية، وإذا ثبت أنهم لم يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً.
لَا يُقَالُ: الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ يَقْتَضِي اتِّصَافَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِهَا، وَخِلَافُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ لِأَنَّا نَقُولُ يَتَعَيَّنُ تَعْدِيلُهُمْ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ تَجِبُ عِصْمَتُهُمْ عَنِ الْخَطَأِ قَوْلًا وفعلا، هذا تَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ عَدَالَةَ الرَّجُلِ عِبَارَةٌ عَنْ قِيَامِهِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُقَبَّحَاتِ وَهَذَا مِنْ فِعْلِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ وَسَطًا فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهُمْ وَسَطًا مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَدَالَتِهِمُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ.
وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّ الْوَسَطَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَجَعَلَهُ حَقِيقَةً فِي الْعَدْلِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْوَسَطَ مِنْ كُلِّ شَيْءِ خِيَارُهُ فلمَ قُلْتُمْ: بِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ "خَيْرِيَّةِ قَوْمٍ"* يَقْتَضِي اجْتِنَابَهُمْ لِكُلِّ الْمَحْظُورَاتِ، ولِمَ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ اجْتِنَابُهُمْ لِلْكَبَائِرِ وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَكِنَّهُ مِنَ الصَّغَائِرِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي خَيْرِيَّتِهِمْ
__________
* في "أ": عن خيرتهم.
__________
1 انظر صفحة "201-202".
2 جزء من الآية "143" من سورة البقرة.(1/204)
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَمَ بِكَوْنِهِمْ عُدُولًا لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَفِعْلُ الصَّغَائِرِ لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اجْتِنَابُهُمُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ اتِّصَافَهُمْ بِذَلِكَ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ "فيلزم"* فيجب وُجُوبُ تَحَقُّقِ عَدَالَتِهِمْ هُنَالِكَ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الشُّهُودِ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ حَالَ الْأَدَاءِ، لَا حَالَ التَّحَمُّلِ.
سَلَّمْنَا وُجُوبَ كَوْنِهِمْ عُدُولًا فِي الدُّنْيَا، لَكِنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْخِطَابِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا يَقْتَضِي عَدَالَةَ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ: بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِعَدَالَةِ أَحَدٍ إِلَّا وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مُطَابِقٌ لِلْخَبَرِ، فَلَمَّا أَطْلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَوْلَ بِعَدَالَتِهِمْ، وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ بِخِلَافِ شُهُودِ الْحَاكِمِ حَيْثُ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ جَازَتْ عَلَيْهِمُ الصَّغِيرَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْحَاكِمِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْبَاطِنِ، فَلَا جَرَمَ اكْتَفَى بِالظَّاهِرِ.
وَقَوْلُهُ: الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْعَدَالَةِ أَدَاءُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ عَدَالَتَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا.
يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ صَيْرُورَتَهُمْ عُدُولًا فِي الْآخِرَةِ، لَقَالَ: سَنَجْعَلُكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، وَلِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ عُدُولٌ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يَبْقَى فِي الْآيَةِ تَخْصِيصٌ لِأَمَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بهذه الفضيلة وكونه الْخِطَابَ لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ مَمْنُوعٌ وَإِلَّا لَزِمَ اخْتِصَاصُ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ بِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ النُّزُولِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَلَا يَخْفَاكَ مَا فِي هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ مِنَ الضَّعْفِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دِلَالَةٌ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ أَصْلًا فَإِنَّ ثُبُوتَ كَوْنِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ بِمَجْمُوعِهِمْ عُدُولًا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً شَرْعِيَّةً تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ "مَتْرُوكٌ"** إِلَى الشَّارِعِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَغَايَةُ مَا فِي الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ مَقْبُولًا إِذَا أَخْبَرُونَا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَأَمَّا كَوْنُ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَمْرٍ ديني يصيره دِينًا ثَابِتًا عَلَيْهِمْ، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَلَا هِيَ مَسُوقَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَا تَقْتَضِيهِ بِمُطَابَقَةٍ وَلَا تَضَمُّنٍ وَلَا الْتِزَامٍ.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} 1، "وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ المفسرة
__________
* في "أ": فيجب.
** ما بين قوسين ساقط من "1".
__________
1 جزء من الآية "110" من سورة آل عمران.(1/205)
عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنكر"*.
وهذه الخيرية توجب "الحقية"** لِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَإِلَّا كَانَ ضَلَالًا، فَمَاذَا بعد الحق إلا الضلال.
وَأَيْضًا لَوْ أَجْمَعُوا عَلَى الْخَطَأِ لَكَانُوا آمِرِينَ بِالْمُنْكِرِ وَنَاهِينَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَنْصُوصِ وَالتَّخْصِيصُ بِالصَّحَابَةِ لَا يُنَاسِبُ وُرُودَهُ فِي مُقَابَلَةِ أُمَمِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْآيَةَ مَهْجُورَةُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي اتِّصَافَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ وَالْمَعْلُومُ خِلَافُهُ، وَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَمْ نُسَلِّمْ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ.
هَكَذَا قِيلَ فِي الْجَوَابِ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْآيَةَ لَا دِلَالَةَ لَهَا عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ اتِّصَافَهُمْ بِكَوْنِهِمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً شَرْعِيَّةً تَصِيرُ دِينًا ثَابِتًا عَلَى كُلِّ الْأُمَّةِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ، بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَيَنْهَوْنَ عَمَّا هُوَ مُنْكَرٌ فِيهَا فَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَعْرُوفًا أَوْ مُنْكَرًا هُوَ الْكِتَابُ أَوِ السَّنَّةُ لَا إِجْمَاعُهُمْ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ يَصِيرُ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَنَّهُ دَلِيلٌ بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ الظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأُمَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِأَسْرِهَا، لَا أَهْلُ عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ، بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِمْ بِسَائِرِ أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ السُّنَّةِ، مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي "الْكَبِيرِ" مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
"لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ" 1.
وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ عُمُومَهُ يَنْفِي وُجُودَ الضَّلَالَةِ، وَالْخَطَأُ ضَلَالَةٌ، فَلَا يَجُوزُ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حَقًّا.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: $"إِنَّ اللَّهَ أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ: أَنْ لَا يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ نَبِيُّكُمْ فَتَهْلِكُوا، وَأَنْ لَا يَظْهَرَ أَهْلُ الْبَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، وَأَنْ لا تجتمعوا
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": الحقيقة.
__________
1 أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة "2167". وبنحوه أخرج الطبراني في الكبير "12/ 342" "13623". والحاكم، كتاب العلم "1/ 115". وروي أيضًا بنحوه عن ابن عباس عند الحاكم "1/ 116". والترمذي "2166" وقال: حسن غريب. وابن أبي عاصم في السنة "9".(1/206)
عَلَى ضَلَالَةٍ"1.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ بِدُونِ قَوْلِهِ: "وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ" الْخَ.
وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ كَوْنِ الْخَطَأِ الْمَظْنُونِ ضَلَالَةً.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ" 2.
وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ.
وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ.
وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ بِأَنَّهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِمَا هُوَ الْحَقُّ وَيَظْهَرُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ.
ثُمَّ قَدْ وَرَدَ تَعْيِينُ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يَتَمَسَّكُونَ بِهِ، وَيَظْهَرُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ بِسَبَبِهِ، فَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا: "لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ" 3. "وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ حَدِيثُ: "يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ" وَقَدْ قَدَّمْنَا4 أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ"*.
وَأَخْرَجَهُ بِنَحْوِ هَذَا اللَّفْظِ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ5، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا لِزُهَيْرٍ6: "لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا تُقَاتِلُ عَنْهُ عصابة من
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه أبو داود، كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها "4253" وأشارالسيوطي في الجامع الصغير لضعفه.
2 أخرجه البخاري في المناقب، باب "28" برقم "3640". مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تزال طائفة.." "1921" وأخرجه الطبراني في الكبير "20/ 402 "959". والإمام أحمد "4/ 244".
3 أخرجه مسلم من حديث عقبة، كتاب الإمارة، باب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تزال طائفة من أمتى ... " "1925". والطبراني في الكبير 17/ 314 "870". وابن حبان في صحيحه "6836".
4 انظر صفحة: "179".
5 أخرجه أبو داود كتاب الجهاد، باب في دوام الجهاد "2484" وأحمد "3/ 345".
6 هو زهير بن حرب بن شداد، الحرشي، النسائي، الحافظ، الحجة، أحد أعلام الحديث أبو خثيمة، ولد سنة ستين ومائة هـ، حدث عن ابن عيينة وهشيم وجماعة، وحدث عنه الشيخان، أبو داود، وابن ماجه، وجماعة توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 489"، تهذيب التهذيب "3/ 342" شذرات الذهب "2/ 80".(1/207)
الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ"1.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ حَدِيثُ: "مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ" 2، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ فِي "مُسْتَدْرَكِهِ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْمَنْعُ مِنْ مُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ؟ وَهُوَ كَوْنُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حُجَّةً ثَابِتَةً شَرْعِيَّةً "لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَأَيُّ مُلْجِئٍ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ وَجَعْلِهِ حُجَّةً شَرْعِيَّةً"* وَكِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ مَوْجُودَانِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كِتَابَهُ بِقَوْلِهِ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 3، فَلَا يُرْجَعُ فِي تَبْيِينِ الْأَحْكَامِ إِلَّا إِلَيْهِ وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} 4 وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّكَ إِذَا تَدَبَّرْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، وَعَرَفْتَ ذَلِكَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ تَبَيَّنَ لَكَ مَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ.
وَلَوْ سَلَّمْنَا جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ الْقَائِلُونَ بِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَإِمْكَانِهِ، وَإِمْكَانِ الْعِلْمِ بِهِ، فَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حَقًّا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ، كَمَا قَالُوا إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ "بَلْ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُقَلِّدِ"** اتِّبَاعُهُ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ بِخُصُوصِهِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا عَلِمْتَ مَا هُوَ الصَّوَابُ، وَسَنَذْكُرُ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَبَاحِثِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِدَفْعِ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِهَذَا الَّذِي حررناه هنا.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه مسلم، من حديث جابر بن سمرة، كتاب الإمارة، باب قوله: "لا تزال طائفة من أمتي.." "1922". وأحمد في مسنده "5/ 98" من طريق أسباط وأيضًا في "5/ 103". وابن حبان في صحيحه "6837".
2 أخرجه الترمذي من حديث الحارث الأشعري، كتاب الأمثال، باب ما جاء في مثل الصلاة والصوم والصدقة "2863". وابن خزيمة في صحيحه "1895". وأبو يعلى في مسنده "1571". والحاكم في المستدرك "1/ 118" ومن حديث أبي ذر في "1/ 117". والطيالسي "1161". والطبراني من طريق أبان بن يزيد "3427". وأبو داود من حديث أبي ذر "4758"، وأحمد في مسنده "4/ 130".
3 جزء من الآية "89" من سورة النحل.
4 جزء من الآية "59" من سورة النساء.(1/208)
الفصل الثالث: في ظنية الإجماع أو قطعيته
...
البحث الثالث: في ظنية الإجماع أو قطعيته
اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ بُرْهَانٍ، وَجَزَمَ بِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الدَّبُّوسِيُّ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَأَنَّهُ يُقَدَّمُ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا، وَلَا يُعَارِضُهُ دَلِيلٌ أَصْلًا، وَنَسَبَهُ إِلَى الْأَكْثَرِينَ، قال: بحيث يكفر مخالفه أو يضلل يبدع.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الرَّازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ: أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُعْتَبِرُونَ فَيَكُونُ حُجَّةً قَطْعِيَّةً، وَبَيْنَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَالسُّكُوتِيِّ، وَمَا نَدَرَ مُخَالِفُهُ فَيَكُونُ حُجَّةً ظَنِّيَّةً. وَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ1 وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْإِجْمَاعُ مَرَاتِبُ، فَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مِثْلُ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْهُورِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي سَبَقَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي الْعَصْرِ السَّابِقِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ فِي الْكُلِّ أَنَّهُ مَا يُوجِبُ الْعَمَلَ لَا الْعِلْمَ فَهَذِهِ مَذَاهِبُ أَرْبَعَةٌ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ يَثْبُتُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالظَّوَاهِرِ أَمْ لَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِمَا، قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى ثُبُوتِهِ بِهِمَا فِي الْعَمَلِ خَاصَّةً وَلَا يُنْسَخُ بِهِ قَاطِعٌ كَالْحَالِ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ "فَإِنَّهَا تُقْبَلُ فِي العمليات لا في الْعَلْمَانِيَّاتِ"* وَقَالَ: دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِهَا فِي الْعَمَلِيَّاتِ.
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ أَلْحَقْنَاهُ بها كان إلحاقًا بطريق القياس "ولا يجري ذلك في الأصول لأنها قواعد الشريعة فلا تنعقد لمجرد القياس"** وصحح هذا القول عبد الجبار والغزال. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": الْإِجْمَاعُ الْمَرْوِيُّ بِطَرِيقِ الْآحَادِ حُجَّةٌ، خِلَافًا لِأَكْثَرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ ظَنَّ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ حَاصِلٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْمَظْنُونِ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ نَوْعٌ مِنَ الحجة، فيجوز
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو علي بن محمد بن الحسين، البزدوي، أبو الحسن "فخر الدين"، فقيه أصولي، محدث، مفسر، ولد سنة أربعمائة هـ، وتوفي سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة هـ، من آثاره: "المبسوط" "شرح الجامع الكبير للشيباني" "كتاب في أصول الفقه" مشهور بأصول البزودي. ا. هـ, سير أعلام النبلاء "18/ 602"، الجواهر المضية "2/ 594"، الفوائد البهية "124"، معجم المؤلفين "7/ 192".(1/209)
التَّمَسُّكُ بِمَظْنُونِهِ، كَمَا يَجُوزُ بِمَعْلُومِهِ، قِيَاسًا عَلَى السُّنَّةِ وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِي تَفَاصِيلِهِ. انْتَهَى.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَالْمَسْأَلَةُ دَائِرَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ دَلِيلِ الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ، وَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، فَمَنْ شَرَطَ الْقَطْعَ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُفِيدًا فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَمْنَعْ، وَكَلَامُ الْجُوَيْنِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، بَلْ هُوَ جَارٍ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيٌّ.
وَإِذَا قُلْنَا بِالِاكْتِفَاءِ بِالْآحَادِ فِي نَقْلِهِ كَالسُّنَّةِ، فَهَلْ يَنْزِلُ الظَّنُّ الْمُتَلَقَّى مِنْ أَمَارَاتٍ، وَحَالَاتٍ مَنْزِلَةَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ مِنْ نَقْلِ الْعُدُولِ؟ قال الأبياري: فيه خلاف.(1/210)
الفصل الرابع: فيماينعقد به الإجماع
...
البحث الرابع: فيما يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ
اخْتَلَفُوا فِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الإجماع، فقال جماعة: لا بد له مِنْ مُسْتَنَدٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ لَهُمُ الِاسْتِقْلَالُ بِإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُسْتَنَدٍ، وَلِأَنَّهُ لَوِ انْعَقَدَ عَنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ لَاقْتَضَى إِثْبَاتَ "شَرْعٍ"*بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَحَكَى عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْ قَوْمٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِ مُسْتَنِدٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَفِّقَهُمُ اللَّهُ لِاخْتِيَارِ الصَّوَابِ مِنْ دُونِ مُسْتَنَدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي دِينِ اللَّهِ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ لَا فِي الْوُقُوعِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْخِلَافِ فِي الْوُقُوعِ، قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَقَعَ الْإِجْمَاعُ بِالتَّوَاطُؤِ وَلِهَذَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ لَا يَرْضَى بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِذَلِكَ، بَلْ يَتَبَاحَثُونَ حَتَّى أَحْوَجَ بَعْضَهُمُ الْقَوْلُ فِي الْخِلَافِ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ1، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ.
وَجَعَلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَصْلَ الْخِلَافِ، هَلِ الْإِلْهَامُ دَلِيلٌ أَمْ لَا؟ وَقَدِ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ، إِذَا كَانَ عَنْ دِلَالَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ عَنْ أَمَارَةٍ فَقِيلَ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كانت الأمارة جلية أو خفيفة.
__________
* في "أ" نوع.
__________
1 هي الملاعنة، وأصل الابتهال: الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره.
يقال بهله الله: أي لعنه، وفي النتزيل: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} . ا. هـ. القرطبي "4/ 104"(1/210)
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فَجَوَّزَ الْإِجْمَاعَ عَنْ قِيَاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا فِي جَوَازِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَنْهُ، فِي قِيَاسِ الْمَعْنَى عَلَى الْمَعْنَى وَأَمَّا قِيَاسُ الشُّبَهِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِذَا وَقَعَ عَنِ الْأَمَارَةِ وَهِيَ: الْمُفِيدُ لِلظَّنِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الظن صوابًا للدليل الدال عَلَى الْعِصْمَةِ.
وَالثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، فَالظَّاهِرِيَّةُ مَنَعُوهُ لِأَجْلِ إِنْكَارِهِمُ الْقِيَاسَ، وَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ: الْقِيَاسُ حُجَّةٌ وَلَكِنَّ الْإِجْمَاعَ إِذَا صَدَرَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ، وَاحْتَجَّ ابْنُ الْقَطَّانِ عَلَى ابْنِ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ قَدْ وَافَقَ عَلَى وُقُوعِهِ عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ فَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ كَوْنِ الْأَمَارَةِ جَلِيَّةً فَيَجُوزُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَنْهَا أَوْ خَفِيَّةً فَلَا يَجُوزُ حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِجْمَاعُ إِلَّا عَنْ أَمَارَةٍ وَلَا يَجُوزُ عَنْ دِلَالَةٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَنْهُ حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ1 فِي "الْمِيزَانِ" عَنْ مَشَايِخِهِمْ، وَهُوَ قَادِحٌ فِيمَا نَقَلَهُ الْبَعْضُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنْ دِلَالَةٍ.
ثُمَّ اختلف القائلون بجوز انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، هَلْ يَكُونُ حُجَّةً؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ.
وَحَكَى ابْنُ فَوْرَكٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، عَنْ قَوْمٍ مِنْهُمْ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً.
ثُمَّ اخنلفوا: هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ مُسْتَنَدِ الْإِجْمَاعِ أَمْ لَا؟
فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ طَلَبُ الدَّلِيلِ الَّذِي وَقَعَ الْإِجْمَاعُ بِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ أَوْ نُقِلَ إِلَيْهِ كَانَ أَحَدَ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ2: إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى حُكْمٍ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ دِلَالَةِ آيَةٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ، فإنه يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ إِلَّا عن دلالة ولا يجب معرفتها.
__________
1 هو محمد بن أحمد، أبو منصور، الحنفي، الأصولي، شيخ كبير، فاضل، جليل القدر، صاحب تحفة الفقهاء، توفي سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة هـ، واختلف في كنيته فذكره في الفوائد البهية بأبي بكر، وفي تاج التراجم، والجواهر المضية أبو منصور. ا. هـ. تاج التراجم "252"، الفوائد البهية "158"، الجواهر المضية "3/ 18".
وكتابه الميزان: اسمه ميزان الأصول في نتائج العقول، وهو في أصول الفقه. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1916".
2 هو علي بن أحمد، أبو الحسن الإسفراييني، فقيه، متكلم، جدلي، محدث، خطب في جامع دمشق سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة هجرية، من آثاره: "أدب الجدل"، وكتاب في الرد على المعتزلة وبيان عجزهم "معجم المؤلفين: 7/ 17". ولم تعرف سنة وفاته.(1/211)
الفصل الخامس: في اعتبار المجتهد المبتدع في الإجماع
...
البحث الخامس: في اعْتِبَارِ الْمُجْتَهِدِ الْمُبْتَدِعِ فِي الْإِجْمَاعِ
هَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدُ الْمُبْتَدِعُ، إِذَا كَانَتْ بِدْعَتُهُ تَقْتَضِي تَكْفِيرَهُ؟
فَقِيلَ: لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: بِلَا خِلَافٍ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي مُسَمَّى الْأُمَّةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْعِصْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ كُفْرَ نَفْسِهِ، قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِإِجْمَاعِنَا عَلَى كُفْرِهِ، بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُنَا وَحْدَهُ عَلَى كُفْرِهِ "لَوْ ثَبَتَ كُفْرُهُ"* وَإِثْبَاتُ كُفْرِهِ بِإِجْمَاعِنَا وَحْدَهُ دَوْرٌ. وَأَمَّا إذا وافقنا هو على أن مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَفَرَ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ كُفْرُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِجْمَاعِ "عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ، لَا لِإِجْمَاعِنَا وَحْدَهُ.
وَأَمَّا إِذَا اعْتَقَدَ مَا لَا يَقْتَضِي التَّكْفِيرَ، بَلِ التَّضْلِيلَ وَالتَّبْدِيعَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:
اعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِي الْإِجْمَاعِ"** لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ.
الثَّانِي:
لَا يُعْتَبَرُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ وِفَاقُ الْقَدَرِيَّةِ1، وَالْخَوَارِجِ2، والرافضة
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 وهم المعتزلة يسمون بالقدرية، والعدلية، وأصحاب العدل والتوحيد، وهم قد جعلوا لفظ القدر مشتركًا وقالوا: لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى، احترازًا من وصمة اللقب، إذ كان الذم به متفقًا عليه لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "القدرية مجوس هذه الأمة" ا. هـ. الملل والنحل "1/ 43".
2 هو اسم لكل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم، وشارع هذا الاسم على الذين خرجوا على سيدنا علي رضي الله عنه، وأولهم: الأشعت بن قيس الكندي، وهو أشد الناس خروجًا ومروقًا من الدين. ا. هـ. الملل والنحل "1/ 114".(1/212)
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَشْهَبُ1 عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ2 عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَرَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْجَوْزَجَانِيُّ3 عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ4.
وَحَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ5 عَنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: وَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِجْمَاعِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بِهِمُ الْأَهْوَاءُ كَمَنْ قَالَ بِالْقَدَرِ، وَمَنْ رَأَى الْإِرْجَاءَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اخْتِلَافِ آرَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَالْبَصْرَةِ6، إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ.
فَإِذَا قِيلَ: قَالَتِ الْخَطَّابِيَّةُ7، وَالرَّافِضَةُ: كَذَا، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى هؤلاء في الفقه؛ أنهم ليسوا من أهله.
__________
1 هو ابن عبد العزيز القيسي، أبو عمرو، الفقيه المصري، قيل اسمه مسكين، وأشهب لقبه كان صاحب الإمام مالك، ولد سنة خمس وأربعين ومائة هـ، وتوفي سنة أربع ومائتين. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 500" شذرات الذهب "2/ 12"، تهذيب التهذيب "1/ 359.
2 هو الإمام الحجة، المقرئ، الحافظ، أبو الفضل، العذري، البيروتي، ولد سنة تسع وستين ومائة هـ، حدث عنه أبو داود، والنسائي، وجماعة، وسمع من أبيه وتفقه به، وذكر أحاديث عن أبيه عن الأوزعي، توفي سنة سبعين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 471"، شذرات الذهب "2/ 160"، تهذيب التهذيب "5/ 131".
3 هو موسى بن سليمان، أبو سليمان، الإمام العلامة، الحنفي البغدادي، صاحب أبي يوسف ومحمد، من آثاره: "السير الصغير" "الصلاة" "الرهن" "نوادر الفتاوى"، عرض المأمون القضاء عليه فاعتذر، توفي سنة مائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 194" معجم المؤلفين "13/ 38"، هدية العارفين "2/ 477"، الفوائد البهية "216".
4 هو ابن فرقد الشيباني بالولاء، أبو عبد الله، الحنفي، العلامة، فقيه العراق صاحب أبي حنيفة، ولي القضاء للرشد بعد أبي يوسف، أصله من قرية حرسته في غوطة، من آثاره: "المبسوط" "الزيادات" "الآثار" وغيرها، توفي سنة تسع وثمانين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 134"، معجم المؤلفين "9/ 207"، شذرات الذهب "1/ 322".
5 هو إبراهيم بن خالد البغدادي، يكنى بأبي ثور، وأبي عبد الله الفقيه، صاحب الإمام الشافعي، قال ابن حبان: كان أحد أئمة الدنيا فقهًا، وعلمًا، وورعًا، وفضلًا، صنف الكتب، وفرع السنن، وذب عنها، توفي ببغداد سنة أربعين ومائتين هـ، ا. هـ. تذكرة الحفاظ "2/ 512"، سير أعلام النبلاء "12/ 72"، شذرات الذهب "2/ 93".
6 أهل الكوفة: هم أصحاب أبي حنيفة، وأهل البصرة: هم أهل الاعتزال.
7 هم أصحاب أبي الخطاب، محمد بن أبي زينب الأسدي، الذي عزا نفسه إلى جعفر بن محمد الصادق، فلما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه تبرأ منه، ولعنه، وأمر أصحابه بالبراءة منه، فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه، زعم أن الأئمة أنبياء ثم آلهة، وقال بإلهية جعفر بن محمد، وإلهيه آبائه رضي الله عنهم. ا. هـ. الملل والنحل "1/ 179".(1/213)
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: الْإِجْمَاعُ عِنْدَنَا إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ.
قَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْخَوَارِجِ: لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ، وَالِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ يَنْقُلُونَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ سَلَفَنَا الَّذِينَ أَخَذْنَا عَنْهُمْ أَصْلَ الدِّينِ.
وَمِمَّنِ اخْتَارَ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَاسْتَقْرَأَهُ مِنْ "كَلَامِ"* أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ: لَا يَشْهَدُ عِنْدِي رَجُلٌ لَيْسَ هُوَ عِنْدِي بِعَدْلٍ، وَكَيْفَ أُجَوِّزُ حُكْمَهُ. قَالَ الْقَاضِي يَعْنِي: الْجَهْمِيَّ1.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَيَنْعَقِدُ عَلَى غَيْرِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَةُ مَنْ عَدَاهُ إِلَى مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَهُ، كَذَا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ وَتَابَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ:
التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُبْتَدِعِينَ دَاعِيَةً، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً فَيُعْتَبَرُ، حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ "الْإِحْكَامِ" وَنَقَلَهُ عَنْ جَمَاهِيرِ سَلَفِهِمْ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّا نُرَاعِي الْعَقِيدَةَ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِخِلَافِ من أنكر القياس، ونسبه الأستاذ إِلَى الْجُمْهُورِ، وَتَابَعَهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ قَالُوا: لِأَنَّ مَنْ أَنْكَرَهُ لَا يَعْرِفُ طُرُقَ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالظَّوَاهِرِ فَهُوَ كَالْعَامِّيِّ، الَّذِي لَا مَعْرِفَةَ لَهُ.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يُفِيدُ خُرُوجَ مَنْ عَرَفَ الْقِيَاسَ، وَأَنْكَرَ الْعَمَلَ بِهِ كَمَا كَانَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ عَنْ عِلْمٍ بِهِ، لَا عَنْ جَهْلٍ لَهُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ السِّوَاكِ مِنْ "شَرْحِ مُسْلِمٍ": إِنَّ مُخَالَفَةَ دَاوُدَ لَا تَقْدَحُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، عَلَى الْمُخْتَارِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ.
وَقَالَ صَاحِبُ "الْمُفْهِمِ"2: جُلُّ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ، بل هم من جملة
__________
* في "أ": قول.
__________
1 هو جهم بن صفوان، أبو محرز الراسبي، السمرقندي، الكاتب المتكلم، رأس الضلالة، ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء، وجدل، كان ينكر الصفات، وينزه الباري عنها بزعمه، ويقول بخلق القرآن، ومات سنة ثمانٍ وعشرين ومائة هـ. ا. هـ، سير أعلام البنلاء "6/ 26" الكامل في التاريخ "5/ 394" الأعلام "2/ 141".
2 واسمه: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس، أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، المتوفى سنة ست وخمسين وستمائة هـ، وهو شرح على مختصر مسلم له، ذكر فيه: أنه لما لخصه ورتبه، وبوبه، شرح غريبه، ونبه على نكت من إعرابه، وعلى وجوه الاستدلال بأحاديثه. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 557".(1/214)
الْعَوَامِّ، وَإِنَّ مَنِ اعْتَدَّ بِهِمْ فَإِنَّمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ خِلَافَ الْعَوَامِّ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "الْمُلَخَّصِ": يُعْتَبَرُ كَمَا يُعْتَبَرُ خِلَافُ مَنْ يَنْفِي الْمَرَاسِيلَ، وَيَمْنَعُ الْعُمُومَ، وَمَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ مَدَارَ الْفِقْهِ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ.
وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ: الْمُحَقِّقُونَ لَا يُقِيمُونَ لِخِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ وَزْنًا؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيعَةِ صَادِرَةٌ عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعضر مِعْشَارِهَا.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ مَنْ عَرَفَ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ حَقَّ مَعْرِفَتِهَا وَتَدَبَّرَ آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَتَوَسَّعَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، عَلِمَ بِأَنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ "تَفِي بِجَمِيعِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ فِيهِمْ مِنْ أَكَابِرِ الْأَئِمَّةِ وَحُفَّاظِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَقَيِّدِينَ بِنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ"*
جَمْعٌ جَمٌّ، وَلَا عَيْبَ لَهُمْ إِلَّا تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا كِتَابٌ، وَلَا سُنَّةٌ وَلَا قِيَاسٌ مَقْبُولٌ.
وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا1
نَعَمْ قَدْ جَمَدُوا فِي مَسَائِلَ كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ تَرْكُ الْجُمُودِ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا وقع في مذهب غَيْرِهِمْ، مِنَ الْعَمَلِ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ألبتة قليلة جدًّا.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عجز بيت وصدره: وعيرها الواشون أني أحبها وهو لأبي ذؤيب الهذلي انظر الهذلين "1/ 21".(1/215)
الفصل السادس: اعتبار التابعي المجتهد في الإجماع
...
البحث السادس: اعتبار التابعي المجتهد في الإجماع
إِذَا أَدْرَكَ التَّابِعِيُّ عَصْرَ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لَمْ يَنْعَقِدْ إِجْمَاعُهُمْ إِلَّا بِهِ، كَمَا حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ: الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَأَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَنَقَلَهُ السَّرَخْسِيُّ -مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ. قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَثْبُتُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فِي الإشعار1؛ لأن إبراهيم
__________
1 هو أن يطعن في أسفل سنام الناقة ويجرحها من الجانب الأيمن أو الأيسر ا. هـ. الهداية "1/ 190".(1/215)
النَّخَعِيَّ1 كَانَ يَكْرَهُهُ، وَهُوَ مِمَّنْ أَدْرَكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ فَلَا يَثْبُتُ إِجْمَاعُهُمْ بِدُونِ قَوْلِهِ.
وَالْوَجْهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الصَّحَابَةَ عِنْدَ إِدْرَاكِ بَعْضِ مُجْتَهَدِي التَّابِعِينَ "لَهُمْ"* هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَا كُلُّهَا، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ فَرِيضَةٍ. فَقَالَ اسْأَلُوا ابْنَ جُبَيْرٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَكَانَ أَنَسٌ يُسأل فَيَقُولُ: سَلُوا مَوْلَانَا الْحَسَنَ فَإِنَّهُ سَمِعَ وَسَمِعْنَا وَحَفِظَ وَنَسِينَا.
وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ "ذَبْحِ"** الْوَلَدِ فَأَشَارَ إِلَى مَسْرُوقٍ. فَلَمَّا بَلَغَهُ جَوَابُهُ تَابَعَهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْمُجْتَهِدُ التَّابِعِيُّ، الَّذِي أَدْرَكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ فِي إِجْمَاعِهِمْ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، وَنَفَاهُ الْقِيَاسُ وَحَكَاهُ الباجي عن ابن خويز مِنْدَادَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْوَجِيزِ"2.
وَقِيلَ: إِنْ بَلَغَ التَّابِعِيُّ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ وَقَعَتْ حَادِثَةٌ فَأَجْمَعُوا عَلَيْهَا، وَخَالَفَهُمْ لَمْ يَنْعَقِدْ إِجْمَاعُهُمْ، وَإِنْ أَجْمَعُوا قَبْلَ بُلُوغِهِ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، فَمَنِ اعْتَبَرَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ اعْتَدَّ بِخِلَافِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِهِ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِذَا عَاصَرَهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ، ثُمَّ اجْتَهَدَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: يُعْتَبَرُ "أَوْ"*** لَا يُعْتَبَرُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ "إِجْمَاعُ"**** الصَّحَابَةِ عَلَى اجْتِهَادِ التَّابِعِيِّ، فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِهِمْ قَطْعًا.
قَالَ الْآمِدِيُّ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُهُمْ "دُونَهُ"***** اخْتَلَفُوا: فَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ، قَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَنْعَقِدْ إِجْمَاعُهُمْ "مَعَ مخالفته، وإن
__________
* في "أ": فيهم.
** في "أ": دلج وهو تحريف.
*** في "أ": ولا.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** في "أ": دونهم.
__________
1 هو الإمام، الحافظ، فقيه العراق، أبو عمران، إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، من أكابر التابعين صلاحًا، وصدقًا، ورواية، وحفظًا للحديث، توفي سنة ست وتسعين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "4/ 520" تهذيب التهذيب "1/ 177"، تذكرة الحفاظ "1/ 73".
2 واسمه: "الوجيز في الأصول" لأبي الفتح أحمد بن على المعروف: بابن برهان. الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "98". ا. هـ. كشف الظنون "2/ 2001".(1/216)
بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ انْعِقَادِ إِجْمَاعِهِمْ"* "لَمْ"** يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَنِ اشْتَرَطَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بِهِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ "سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا حَالَ إِجْمَاعِهِمْ أَوْ صَارَ مُجْتَهِدًا بَعْدَ ذَلِكَ فِي عَصْرِهِمْ"*** وَإِنْ بَلَغَ الِاجْتِهَادَ حَالَ انْعِقَادِ إِجْمَاعِهِمْ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عَصْرِهِمْ.
قَالَ: وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَتِهِ أَصْلًا، وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وأحمد بن حنبل في الرواية الأخرى.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وإلا لم يعتد.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/217)
الفصل السابع: حكم إجماع الصحابة
...
البحث السابع: حكم إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ
إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى اخْتِصَاصِ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَنْهُ: الْإِجْمَاعُ أَنْ يَتَّبِعَ مَا جَاءَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ فِي التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى شَيْءٍ سَلَّمْنَا، وَإِذَا أَجْمَعَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي "أَدَبِ الْجَدَلِ"1: النَّقْلُ عن داود بما إذا أجمعوا على نَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، فَأَمَّا إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى حُكْمٍ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ2 ذَهَبَ: دَاوُدُ وَأَصْحَابُنَا إِلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا هُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ تَوْقِيفٍ وَالصَّحَابَةُ هُمُ الَّذِينَ شهدوا التوقيف.
__________
1 ذكر في ترجمة أبي الحسن السهيلي السابقة، ص212.
2 لعله عبد الله بن وهب، الحافظ الكبير، أبو محمد الدينوري، روى عن أبي سعيد الأشج وطبقته، طوف الأقاليم، قال النيسابوري، كان أبو زرعة يعجز عن مذاكرته توفي سنة ثمانٍ وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام البنلاء "14/ 400"، شذرات الذهب "2/ 252"، تذكرة الحفاظ "2/ 754".(1/217)
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي إِجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ؟ قُلْنَا: هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْبَأَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ" 1.
وَالثَّانِي: أَنَّ سِعَةَ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَكَثْرَةَ الْعَدَدِ لَا تُمَكِّنُ مِنْ ضَبْطِ أَقْوَالِهِمْ، وَمَنِ ادَّعَى هَذَا لا يخفى على أحد كذبه.
__________
1 تقدم تخريجه في الصفحة "207".(1/218)
الفصل الثامن: حكم إجماع أهل المدينة
...
البحث الثامن: حكم إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى انْفِرَادِهِمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا أَجْمَعُوا لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ "اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ"1: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُ حُجَّةٌ، وَمَا سمعت أحد ذَكَرَ قَوْلَهُ إِلَّا عَابَهُ وَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدِي مَعِيبٌ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: إِنَّمَا أَرَادَ مَالِكٌ الْفُقَهَاءَ السَّبْعَةَ2 وَحْدَهُمْ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْأَوَّلُ.
وَيُشْكِلُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ "أَنَّهُ نَقَلَ فِي الْمُوَطَّأِ3 فِي بَابِ: الْعَيْبِ فِي الرَّقِيقِ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ"*عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ لَا يَجُوزُ، ولا يبرئ من
__________
* من بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 وهو للإمام محمد بن إدريس، الشافعي، ذكره ابن الجمع المؤسس. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 32".
2 وهم: أ- سعيد بن المسيب: المولود قبل موت عمر بأربع سنين المتوفى سنة أربع وتسعين هـ.
ب- عروة بن الزبير: ولد سنة تسع وعشرين هـ، وتوفي سنة أربع وتسعين هـ.
ج- أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: الملقب براهب قريش لعبادته توفي سنة أربع وتسعين هـ.
د- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي: توفي سنة سبع ومائة هـ.
هـ- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: توفي سنة ثمانٍ وتسعين هـ.
و سليمان بن يسار: توفي سنة سبع ومائة هـ.
ز- خارجة بن زيد بن ثابت: توفي سنة "مائة هـ".
وسموا بالفقهاء السبعة: لأنهم كانوا في المدينة في عصر واحد، ينشر عنهم العلم، والفتيا، وكان في عصرهم جماعة من الفقهاء التابعين، فلم يكن لهم مثل ما لهم. ا. هـ. شذرات الذهب "1/ 104".
3 وهو في الحديث للإمام مالك بن أنس، وهو كتاب قديم، مبارك، قصد فيه: جمع الصحيح لكن إنما جمع الصحيح عنده، لا على اصطلاح أهل الحديث، لأنه: يرى المراسيل والبلاغات صحيحة وللكتاب شروح كثيرة منها: شرح للسيوطي سماه: "كشف المغطا في شرح الموطا". ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1907".(1/218)
الْعَيْبِ أَصْلًا عِلْمُهُ أَوْ جَهْلُهُ، ثُمَّ خَالَفَهُمْ فَلَوْ كَانَ يَرَى أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ لَمْ تَسَعْ مُخَالَفَتُهُ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إِنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ بِحُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ النَّقْلَ الْمُسْتَفِيضَ، كَالصَّاعِ وَالْمُدِّ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَعَدَمِ وجوب الزكاة في الخضراوات مِمَّا تَقْتَضِي الْعَادَةُ بِأَنْ يَكُونَ فِي زَمَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَوْ تَغَيَّرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ لَعَلِمَ، فَأَمَّا مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ فَهُمْ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءٌ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ عَنْ شَيْخِهِ الْأَبْهَرِيِّ، وَقِيلَ: يُرَجَّحُ نَقْلُهُمْ عَنْ نَقْلِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا فِي الْقَدِيمِ وَرَجَّحَ رِوَايَةَ "أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ"*، وَحَكَى يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى1 قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا وَجَدْتَ مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى شَيْءٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي قَلْبِكَ شَكٌّ أَنَّهُ الْحَقُّ وَكُلَّمَا جَاءَكَ شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَلَا تَعْبَأْ بِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ نَقْلِيٍّ وَاسْتِدْلَالِيٍّ.
فَالْأَوَّلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ، مِنْهُ نَقْلُ شَرْعٍ مُبْتَدَأٍ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مِنْ"** قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَالْأَوَّلُ: كَنَقْلِهِمُ الصَّاعَ وَالْمُدَّ وَالْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَالْأَوْقَاتَ والأجناس ونحوه.
وَالثَّانِي: نَقْلُهُمُ الْمُتَّصِلُ كَعُهْدَةِ الرَّقِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كتركهم أخذ الزكاة من الخضراوات مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ تُزْرَعُ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ لَا "يَأْخُذُونَهَا مِنْهَا"*** قَالَ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ حُجَّةٌ يَلْزَمُ عِنْدَنَا الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَتَرْكُ الْأَخْبَارِ وَالْمَقَايِيسِ بِهِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِيهِ قَالَ:
وَالثَّانِي: وَهُوَ إِجْمَاعُهُمْ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا بِمُرَجَّحٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي يَعْقُوبَ الرَّازِيِّ2، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ فَوْرَكٍ، وَالطَّيَالِسِيِّ3، وَأَبِي الْفَرَجِ وَالْأَبْهَرِيِّ وَأَنْكَرَ كَوْنَهُ مَذْهَبًا لمالك.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": إما.
*** في "أ": يأخذون منها.
__________
1 هو ابن ميسرة بن حفص بن حيان، الإمام، شيخ الإسلام، المصري ولد سنة سبعين ومائة هـ، حدث عن ابن عيينة، وابن وهب، توفي سنة أربع وستين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النيلاء "12/ 348"، شذرات الذهب "2/ 149"، تهذيب التهذيب "11/ 440".
2 لم أجد بعد البحث المطول في كتب التراجم التي بين أيدينا أحدًا يعرف بأبي يعقوب الرازي سوى يوسف بن الحسين، الإمام العارف، أبي يعقوب، الصوفي، المكثر من الترحال، الذي أخذ عن أحمد بن حنبل وذي النون المصري المتوفى سنة أربع وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 248"، شذرات الذهب "2/ 245"، والله أعلم.
3 سليمان بن داود بن الجارود، الحافظ الكبير، صاحب المسند، أبو داود الفارسي البصري، كان يقول: كتبت عن ألف شيخ، وكان يسرد من حفظه ثلاثين ألف حديث توفي سنة ثلاث ومائيتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 338"، شذرات الذهب "2/ 12"، تهذيب التهذيب "4/ 176".(1/219)
ثَانِيهَا: أَنَّهُ مُرَجَّحٌ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشافعي.
ثالثها: أنه حجة "وإن لم"* ولم يُحَرَّمْ خِلَافُهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الحسين بن عمر1 قال أبي الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ2: أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْتَلَفَ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ كُلُّ ذَلِكَ نَقْلُ مُحَصَّلٍ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ فَإِنَّهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ تُحِيلُ الْعَادَةُ عَلَيْهِمُ التَّوَاطُؤَ عَلَى خِلَافِ الصِّدْقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ أَوْلَى مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ وَالظَّوَاهِرِ.
ثُمَّ قَالَ: وَالنَّوْعُ الِاسْتِدْلَالِيُّ إِنْ عَارَضَهُ خَبَرٌ فَالْخَبَرُ أَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا. وَقَدْ صَارَ جَمَاعَةٌ "مِنْ أَصْحَابِنَا"** إِلَى أَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْخَبَرِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ بِالْعِصْمَةِ إِجْمَاعُ كُلِّ الْأُمَّةِ لَا بَعْضُهَا.
وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْمِصْرَيْنِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الحرمين و"أهل"*** المصرين حُجَّةٌ وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ بِحُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ فَهُوَ قَائِلٌ بِحُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْمِصْرَيْنِ بِالْأَوْلَى، قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا خَصُّوا هَذِهِ الْمَوَاضِعَ يَعْنِي: الْقَائِلِينَ بِحُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِهَا لِاعْتِقَادِهِمْ تَخْصِيصَ الْإِجْمَاعِ بِالصَّحَابَةِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِلَادُ مَوَاطِنَ الصَّحَابَةِ مَا خَرَجَ مِنْهَا إِلَّا الشُّذُوذُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ لَمْ يُعَمِّمُوا فِي كُلِّ عَصْرٍ، بَلْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَقَطْ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ قِيلَ: إِنَّ الْمُخَالِفَ أَرَادَ زَمَنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ فَمُسَلَّمٌ لَوِ اجْتَمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ وَغَيْرُ مُسَلَّمٍ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِيهَا. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ "إِلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ"**** وذهب "الجمهور أيضًا إلى أن إجماع
__________
* في "أ": ولم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 لم أجد ترجمته فيما بين يدي من المصادر.
2 هو أحمد بن عمر بن إبراهيم، الأنصاري، القرطبي، فقيه مالكي، من رجال الحديث يعرف بابن المزين ولد سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمائة هـ، وتوفي سنة ست وخمسين هـ، من آثاره: "المفهم" وقد تقدم. ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 273".(1/220)
الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ"*.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ لِمَا وَرَدَ مَا يُفِيدُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ" 1، وَقَوْلِهِ: "اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ" 2 وَهُمَا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ فِي الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، لَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ حجة على غيرهم، فإن المجتهد "متعبد"** بِالْبَحْثِ عَنِ الدَّلِيلِ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ مَا يَظُنُّهُ حَقًّا، وَلَوْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ يُفِيدُ حُجِّيَّةَ قَوْلِ الْخُلَفَاءِ أَوْ بَعْضِهِمْ لَكَانَ حَدِيثُ: "رَضِيتُ لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ" 3 يُفِيدُ حُجِّيَّةَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَدِيثُ: "إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ" 4 يُفِيدُ حُجِّيَّةَ قَوْلِهِ وَهُمَا، حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ.
وَهَكَذَا حَدِيثُ: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ" 5 يُفِيدُ حُجِّيَّةَ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ؛ لِأَنَّ فِي رِجَالِهِ عَبْدَ الرَّحِيمِ "بْنَ زَيْدٍ6"*** الْعَمِّيِّ عَنْ أَبِيهِ وَهُمَا ضَعِيفَانِ
__________
* ما بين قوسين متكرر من "أ".
** في "أ": مستعبد.
*** ما ين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 تقدم تخريجه في الصفحة "95".
2 أخرجه الترمذي من حديث حذيفة، كتاب المناقب، باب مناقب أبي بكر وعمر "3663". وأحمد في المسند "5/ 399". وابن أبي شيبة "12/ 11". ابن سعد عن وكيع "2/ 324". وابن حبان في صحيحه "2/ 690". وذكره الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" "2/ 85".
3 أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن مسعود، كتاب معرفة الصحابة "3/ 317". وقال: هذا إسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي على ذلك. المناوي في فيض الكبير "4458". وصححه السيوطي. البزار "مختصر زوائد المسند" "2016". والطبراني في المعجم الكبير "8458".
4 أخرجه ابن ماجه من حديث أنس بلفظ: "وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" المقدمة، باب فضائل أصحاب رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "154". والنيهقي، كتاب الفرائض، باب ترجيح قول زيد بن ثابت على غيره من الصحابة في الفرائض "6/ 210". والحاكم في المستدرك، كتاب معرفة الصحابة "3/ 422"، وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأحمد في المسند "3/ 184".
وابن حبان في صحيحه "7131".
5 تقدم في الصفحة "186".
6 هو ابن الحواري العمي، البصري، أحد المتروكين، وهو من طبقة الرازي، يروي عن مالك بن دينار، وعن والده، قال عنه أبو زرعة: مضعف الحديث، والنسائي قال عنه: ليس بثقة، ولا مأمون، ولا يكتب حديثه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 358" تهذيب التهذيب "6/ 305" وسمي أبوه بالعمي: لأنه كلما سئل عن شيء قال: حتى أسال عمي.(1/221)
جِدًّا، بَلْ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحِيمِ كَذَّابٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مَتْرُوكٌ وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى فِيهَا حَمْزَةُ النَّصِيبِيُّ1 وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَا يُسَاوِي فَلْسًا. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ2: عَامَّةُ مَرْوِيَّاتِهِ مَوْضُوعَةٌ، وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَمِيلِ بْنِ زَيْدٍ3 وَهُوَ مجهول.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْعِتْرَةِ وَحْدَهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَقَالَتِ الزَّيْدِيَّةُ4 وَالْإِمَامِيَّةُ: هُوَ حجة، واستدلوا بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 5، وَالْخَطَأُ رِجْسٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مُطَهَّرِينَ عَنْهُ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يُفِيدُ أَنَّهُ فِي نسائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ: بِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَيْنِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا فِي تَفْسِيرِنَا الَّذِي سَمَّيْنَاهُ "فَتْحَ الْقَدِيرِ"6 فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ وَلَكِنْ لَا يَخْفَاكَ أَنَّ كَوْنَ الْخَطَأِ رِجْسٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةٌ وَلَا شَرْعٌ فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْقَذِرُ، وَيُطْلَقُ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْعَذَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَب} 7 وقوله: {مِنْ رِجْزٍ أَلِيم} 8 والرجز الرجس. واستدلوا بمثل قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 9، وَبِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ جِدًّا تَشْتَمِلُ عَلَى مَزِيدِ شَرَفِهِمْ وَعَظِيمِ فَضْلِهِمْ، وَلَا دِلَالَةَ فِيهَا عَلَى حُجِّيَّةِ قَوْلِهِمْ وَقَدْ أَبْعَدَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عَرَّفْنَاكَ فِي حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْأُمَّةِ مَا هُوَ الْحَقُّ، وَوُرُودُهُ عَلَى الْقَوْلِ بحجية بعضها أولى.
__________
1 هو حمزة بن أبي حمزة، ميمون، الجعفي، الجزري، النصيبي، نسبة إلى بلدة نصيبين في الجزيرة، روى عن عمر بن دينار وابن أبي مليكة، وجماعة، وروى عنه حمزة الزيات ويحيى بن أيوب وجماعة. ا. هـ. تهذيب التهذيب "3/ 28".
2 هو الإمام الحافظ الناقد، الجوال، عبد الله بن عدي بن عبد الله، أبو أحمد صاحب كتاب "الكامل" في الجرح والتعديل، ولد سنة سبع وسبعين ومائتين، وتوفي سنة خمس وستين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 154"، شذرات الذهب "3/ 51"، هدية العارفين "1/ 447".
3 هو الطائي، الكوفي، روى عن ابن عمر وكعب بن زيد، وروى عنه الثوري، وابن عياش، ذكره العقيلي في الضعفاء، قال عنه ابن حبان: واهي الحديث. ا. هـ. تهذيب التهذيب "2/ 114".
4 هى فرقة من الشيعة وهم أتباع زيد بن علي بن الحسين، ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها، ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم. ا. هـ. الملل والنحل "1/ 154".
5 جزء من الآية "33" من سورة الأحزاب.
6 واسمه: "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من التفسير" للقاضي أبي عبد الله محمد بن علي الشوكاني. ا. هـ. ذيل كشف الظنون "2/ 169".
7 جزء من الآية "71" من سورة الأعراف.
8 جزء من الآية "5" من سورة سبأ، والآية "11" من سورة الجاثية.
9 جزء من الآية "23" من سورة الشورى.(1/222)
الفصل التاسع: في عدم اعتبار من سيوجد في الإجماع
...
البحث التاسع: في عَدَمُ اعْتِبَارِ مَنْ سَيُوجَدُ فِي الْإِجْمَاعِ
اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَنْ سَيُوجَدُ، وَلَوِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ إِجْمَاعٌ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَكْلِيفَ فَلَا يَكُونُ فِي الْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي عيسى "الوراق1"* وأبي عبد الرحمن الشافعي، كما حكاه الأستاذ أبو منصور.
__________
* في "أ": الوراث وهو تحريف.
__________
1 هو محمد بن هارون، الوراق، أبو عيسى، باحث معتزلي، من أهل بغداد توفي فيها سنة سبع وأربعين ومائتين هـ، له تصانيف منها "المقالات في الإمامة" "المجالس". ا. هـ. الأعلام "7/ 128" معجم المؤلفين "12/ 85"، وعزاه إلى مروج الذهب "7/ 236".(1/223)
الفصل العاشر: في حكم انْقِرَاضُ عَصْرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِهِمْ
...
البحث العاشر: في حكم انْقِرَاضُ عَصْرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِهِمْ
اخْتَلَفُوا هَلْ يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ عَصْرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِهِمْ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فَوْرَكٍ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا فَلَا يُشْتَرَطُ، وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ بِالسُّكُوتِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْقَائِلِ فَيُشْتَرَطُ، رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ: إِنْ كَانَ عَنْ قِيَاسٍ كَانَ شَرْطًا وإلا فلا.(1/223)
الفصل الْحَادِيَ عَشَرَ: الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ
...
الْبَحْثُ الْحَادِيَ عَشَرَ: الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ
وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَهْلِ الاجتهاد بقول، وينتشر فِي الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فَيَسْكُتُونَ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمُ اعْتِرَافٌ، وَلَا إِنْكَارٌ.(1/223)
وَفِيهِ مَذَاهِبُ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ، قَالَهُ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، وَابْنُهُ وَالْمُرْتَضَى وَعَزَاهُ الْقَاضِي إِلَى الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ وَقَالَ: إِنَّهُ آخِرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ، وَالرَّازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ: إِنَّهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي:
أَنَّهُ إِجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَسْمِيَتِهِ إجماعا، مع اتفاقهم على وجوب العمل به.
وقال أبو حامد الإسفراييني1: هُوَ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا، وَفِي تَسْمِيَتِهِ إِجْمَاعًا "وَجْهَانِ"* أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَإِنَّمَا هُوَ حُجَّةٌ كَالْخَبَرِ، وَالثَّانِي يُسَمَّى إِجْمَاعًا وَهُوَ قَوْلُنَا. انْتَهَى.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ، بِأَنَّ سُكُوتَهُمْ ظَاهِرٌ فِي الْمُوَافَقَةِ إِذْ يَبْعُدُ سُكُوتُ الْكُلِّ مَعَ اعْتِقَادِ الْمُخَالَفَةِ عَادَةً فَكَانَ ذَلِكَ مُحَصِّلًا لِلظَّنِّ بِالِاتِّفَاقِ.
وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُ مَنْ سَكَتَ عَلَى الْإِنْكَارِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ، أَوْ لِعَدَمِ حُصُولِ مَا يُفِيدُهُ الِاجْتِهَادُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا أَوْ لِلْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ ذَلِكَ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَمَا سَلَفَ، وَبِهِ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَلَمْ يَصِرْ أَحَدٌ إِلَى عَكْسِ هَذَا الْقَوْلِ يعني أنه اجتماع لَا حُجَّةٌ، وَيُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ كَالْإِجْمَاعِ الْمَرْوِيِّ بِالْأَحَادِيثِ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِحُجِّيَّتِهِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ إِجْمَاعٌ بِشَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ لَا عَنْ رِضًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ فَوْرَكٍ "كتابه"2 في كتاب عن أكثر
__________
* في "أ": قولان.
__________
1 هو أحمد بن أبي طاهر، الأستاذ، العلامة، شيخ الإسلام، أبو حامد، ولد سنة أربع وأربعين وثلاثمائة هـ، توفي سنة ست وأربعمائة هـ، كان يفتي وهو ابن سبع عشرة سنة، ا. هـ، سير أعلام النبلاء "17/ 193". شذرات الذهب "3/ 178".
2 لعل المراد هو "شرحه على أوائل الأدلة في أصول الدين" للإمام أبي القاسم البلخي، الذي أملاه ابن فورك إملاء، وهي عبارة عن مسائل على طريقة الإملاء، لا كالشروح المعهودة. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 200".(1/224)
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ1 عَنِ الْحُذَّاقِ مِنْهُمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالرُّويَانِيُّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ2: إِنَّهُ أَصَحُّ الْأَوْجُهِ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ": إِنَّهُ الْمَذْهَبُ قَالَ: فَأَمَّا قَبْلَ الِانْقِرَاضِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا وَالثَّانِيَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ:
أَنَّهُ إِجْمَاعٌ إِنْ كَانَ فُتْيَا لَا حُكْمًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ صُدُورِهِ عَنِ الْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ.
وَقِيلَ: وَجْهُهُ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فِي حُكْمِهِ، فَلَا يَكُونُ السُّكُوتُ دَلِيلَ الرِّضَا، وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ احْتَجَّ لِقَوْلِهِ هَذَا بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْضُرُ مَجْلِسَ بَعْضِ الْحُكَّامِ وَنَرَاهُمْ يَقْضُونَ بِخِلَافِ مَذْهَبِنَا وَلَا نُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَلَا يَكُونُ سُكُوتُنَا رِضًا مِنَّا بِذَلِكَ.
الْقَوْلُ السَّادِسُ:
أَنَّهُ إِجْمَاعٌ إِنْ كَانَ صَادِرًا عن "حكم، لا إن كَانَ صَادِرًا عَنْ"* فُتْيَا، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ الصَّادِرَ مِنَ الْحَاكِمِ يَكُونُ عَنْ مُشَاوَرَةٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنِ الصَّيْرَفِيِّ.
الْقَوْلُ السَّابِعُ:
أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ مِنْ إِرَاقَةِ دَمٍ، أَوِ اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ كَانَ إِجْمَاعًا وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ وَفِي كَوْنِهِ إِجْمَاعًا، وَجْهَانِ حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى قَائِلٍ.
الْقَوْلُ الثَّامِنُ:
إِنْ كَانَ السَّاكِتُونَ أَقَلَّ كَانَ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، وَحَكَاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: الزَّرْكَشِيُّ، وَهُوَ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُهُ.
الْقَوْلُ التَّاسِعُ:
إِنْ كَانَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ كَانَ إِجْمَاعًا وَإِلَّا فَلَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي" وَالرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ": إِنْ كَانَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ فَإِذَا قَالَ الواحد منهم قولًا أو
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر، الإمام مقرئ العصر ابن سوار، الضرير، أحد الحذاق، ولد سنة اثنتي عشرة وأربعمائة هـ، توفي سنة ست وتسعين وأربعمائة هـ، ببغداد. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "19/ 225" شذرات الذهب "3/ 403"، معجم الأدباء "4/ 46".
2 هو عبد الكريم بن محمد، الرافعي القزويني، أبو القاسم، شيخ الشافعية، كان له مجلس بقزوين للتفسير والحديث، ولد سنة خمس وخمسين وخمسمائة هـ، وتوفي سنة ثلاث وعشرين وستمائة هـ، من آثاره: "التدوين في ذكر أخبار قزوين". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "22/ 252"، شذرات الذهب "5/ 108"، الأعلام "4/ 55".(1/225)
حَكَمَ بِهِ فَأَمْسَكَ الْبَاقُونَ فَهَذَا ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِمَّا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كَإِرَاقَةِ دَمٍ وَاسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا لِأَنَّهُمْ لَوِ اعْتَقَدُوا خِلَافَهُ لَأَنْكَرُوهُ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى ترك إنكار منكر. والثاني* إن كَانَ مِمَّا لَا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كَانَ حُجَّةً لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْ غَيْرِهِمْ وَفِي كَوْنِهِ إِجْمَاعًا يَمْنَعُ الِاجْتِهَادَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ إِجْمَاعًا لَا يَسُوغُ مَعَهُ الِاجْتِهَادُ، وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا سَوَاءٌ كَانَ الْقَوْلُ فُتْيَا أَوْ حُكْمًا عَلَى الصَّحِيحِ.
الْقَوْلُ الْعَاشِرُ:
أَنَّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مِمَّا يَدُومُ وَيَتَكَرَّرُ وُقُوعُهُ وَالْخَوْضُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ السُّكُوتُ إِجْمَاعًا، وَبِهِ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمَنْخُولِ": الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا فِي صُورَتَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: سُكُوتُهُمْ وَقَدْ قَطَعَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَاطِعٌ لَا فِي مَظِنَّةِ الْقَطْعِ وَالدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: مَا يَسْكُتُونَ عَلَيْهِ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْعَصْرِ، وَتَكُونُ الْوَاقِعَةُ بِحَيْثُ لَا يُبْدِي أَحَدٌ خِلَافًا فَأَمَّا إِذَا حَضَرُوا مَجْلِسًا فَأَفْتَى وَاحِدٌ وَسَكَتَ آخَرُونَ فَذَلِكَ اعْتِرَاضٌ لِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مَظْنُونَةً، وَالْأَدَبُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُعْتَرَضَ عَلَى الْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ.
الْقَوْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ:
أَنَّهُ إِجْمَاعٌ بِشَرْطِ إِفَادَةِ الْقَرَائِنِ الْعِلْمَ بِالرِّضَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوجَدَ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَا السَّاكِتِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى1، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهُ أَحَقُّ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ إِفَادَةَ الْقَرَائِنِ الْعِلْمَ بِالرِّضَا، كَإِفَادَةِ النُّطْقِ لَهُ فَيَصِيرُ كَالْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ.
الْقَوْلُ الثَّانِيَ عَشَرَ:
أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ لَا بَعْدَهَا، فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لِلسُّكُوتِ، لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ مِنْ عَدَمِ إِنْكَارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إِذَا أَفْتَى أَوْ حَكَمَ بِمَذْهَبِهِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَذَاهِبِ غَيْرِهِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ السَّابِقَةِ هَذَا فِي الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ إِذَا كان سكوتًا عن قول "لمذهب"**.
__________
* زيادة يقتضيها السياق.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 واسمه: "المستصفى في أصول الفقه" للإمام أبي حامد الغزالي، وصفه بأنه بسيط كالإحياء، ووجيز كجواهر القرآن، ووسيط ككيمياء السعادة، عليه تعاليق لسليمان بن محمد الغرناطي، ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1673".(1/226)
وَأَمَّا لَوِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى عَمَلٍ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ قَوْلٌ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ إِنَّهُ كَفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن العصمة ثابتة لإجماعهم كثوبتها لِلشَّارِعِ، فَكَانَتْ أَفْعَالُهُمْ كَأَفْعَالِهِ وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ: إِنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَقِيلَ بِالْمَنْعِ وَنَقَلَهُ الْجُوَيْنِيُّ عَنِ الْقَاضِي إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُ قَوْمٍ لَا يُحْصَوْنَ عَدَدًا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ "أَرَبٍ"* فَالتَّوَاطُؤُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ مُمْكِنٌ، وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْوُجُوبِ، وَبِهِ قَالَ الْجُوَيْنِيُّ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، وَقِيلَ إِنَّ كُلَّ فِعْلٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْبَيَانِ أَوْ مَخْرَجَ الْحُكْمِ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ، وبه قال ابن السمعاني
__________
* في "أ": أرباب وهو تحريف.(1/227)
الفصل الثاني عشر: حكم الإجماع على شيء بعد الإجماع على خلافه
...
البحث الثاني عشر: حكم الإجماع على شيء بعد الإجماع على خلافه
هل يجوز الإجماع على شيء قد وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ؟
فَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ الثَّانِي مِنَ الْمُجْمِعِينَ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ كما لو اجتمع أهل "عصر"* عَلَى حُكْمٍ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ مَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ الَّذِي ظَهَرَ لَهُمْ فَفِي جَوَازِ الرُّجُوعِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ فِي اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ عَصْرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، فَمَنِ اعْتَبَرَهُ جَوَّزَ ذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ لَمْ يُجَوِّزْهُ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَصَادُمُ الْإِجْمَاعَيْنِ، وَجَوَّزَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، قَالَ الرَّازِيُّ: وَهُوَ الْأَوْلَى، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ "الْأَوَّلِ"** حُجَّةً يَقْتَضِي امْتِنَاعَ حُصُولِ إِجْمَاعٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِإِمْكَانِ تَصَوُّرِ كَوْنِهِ حُجَّةً إِلَى غَايَةٍ هِيَ حُصُولُ إِجْمَاعٍ آخَرَ، قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَمَأْخَذُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَوِيٌّ. وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي"أَدَبِ*** الْجَدَلِ" لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا إِذَا أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلٍ ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ، فَعَنِ الشَّافِعِيِّ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ مثله لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ أُمَّتَهُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ
وَالثَّانِي: لَوْ صَحَّ وُقُوعُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ على التابعين الرجوع إلى قول الصحابة، قال: وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ وَصَوَابٌ، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مصيب، وليس بشيء. انتهى.
__________
* في "أ": مصر.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": آداب الجدل.(1/227)
الفصل الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي حُدُوثِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ سَبْقِ الْخِلَافِ
...
الْبَحْثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي حُدُوثِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ سَبْقِ الْخِلَافِ
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": إِذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ كَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ خِلَافًا لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَكَثِيرٍ مِنْ "فُقَهَاءِ"* الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ.
وَقِيلَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ الْخِلَافُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُمْ قَوْلٌ كَخِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَإِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ" صَارَتِ الْمَسْأَلَةُ إِجْمَاعِيَّةً بِلَا خِلَافٍ، وَحَكَى الْجُوَيْنِيُّ وَالْهِنْدِيُّ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ خَالَفَ فِي ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَقِرَّ الْخِلَافُ وَيَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِالْمَنْعِ وَإِلَيْهِ مَالَ الْغَزَالِيُّ وَنَقَلَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْوَجِيزِ" عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي "اللُّمَعِ"، وَنَقَلَ الْجُوَيْنِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأُصُولِ الْجَوَازَ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ وَالْآمِدِيُّ، وَقِيلَ بِالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ الْجَوَازُ فِيمَا كَانَ دَلِيلُ خِلَافِهِ "الْأَمَارَةَ وَالِاجْتِهَادَ دُونَ مَا كَانَ دَلِيلُ خِلَافِهِ"** الْقَاطِعِ عَقْلِيًّا كَانَ أَوْ نَقْلِيًّا، وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ إِجْمَاعَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ.
فَأَمَّا لَوْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ "أهل"*** عَصْرٍ ثُمَّ مَاتَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ وَبَقِيَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنَّهُ يَكُونُ قَوْلُ الْبَاقِينَ إِجْمَاعًا وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ وَالْهِنْدِيُّ، قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": لِأَنَّ بِالْمَوْتِ ظَهَرَ انْدِرَاجُ قَوْلِ ذَلِكَ الْقِسْمِ وَحْدَهُ تَحْتَ أَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَرَجَّحَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا قَالَ: لِأَنَّ الْمَيِّتَ فِي حُكْمِ الْبَاقِي الْمَوْجُودِ، وَالْبَاقُونَ هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَا كُلُّهَا، وَجَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ البغدادي في
__________
* في "أ": الفقهاء.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/228)
كِتَابِ "الْجَدَلِ"1، وَكَذَا الْخُوَارَزْمِيُّ فِي "الْكَافِي"2، وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلًا ثَالِثًا، فَقَالَ: إِنْ لَمْ يُسَوِّغُوا فِيهِ الِاخْتِلَافَ صَارَ حُجَّةً؛ لِأَنَّ قَوْلَ الطَّائِفَةِ الْمُتَمَسِّكَةِ بِالْحَقِّ لَا يَخْلُو مِنْهُ زَمَانٌ، وَقَدْ شَهِدَتْ بِبُطْلَانِ قَوْلِ الْمُنْقَرِضَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا حُجَّةً، وَإِنْ سَوَّغُوا فِيهِ الِاجْتِهَادَ لَمْ يَصِرْ إجماعًا لإجماع الطائفتين على تسويغ الخلاف.
__________
1 للبغدادي كتاب اسمه "معيار النظر" ولعله مراد المؤلف؛ لأننا لم نجد له كتابًا مسمى باسم "الجدل"، ا. هـ. هدية العارفين "1/ 606".
2 هو محمد بن محمد بن العباس بن أرسلان، أبو محمد، الخوارزمي الشافعي، ظهير الدين، فقيه، محدث، مؤرخ، صوفي، واعظ، كان يعظ بالمدرسة النظامية، ثم رجع إلى بلده، وتوفي فيها سنة ثمانٍ وستين وخمسمائة هـ، من آثاره: "تاريخ خوارزم" في ثمانية أجزاء و"الكافي" في الفقه. ا. هـ. هدية العارفين "2/ 403" معجم المؤلفين "12/ 196".(1/229)
الفصل الرابع عشر: إذا اختلفت أهل العصر في مسألة على قولين
...
الْبَحْثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ
فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ
اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:
الْمَنْعُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا قَوْلَ سِوَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، قَالَ الْكِيَا: إِنَّهُ صَحِيحٌ وَبِهِ الْفَتْوَى، وَجَزَمَ بِهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ وَلَمْ يَحْكِيَا خِلَافَهُ إِلَّا عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ دَاوُدَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي:
الْجَوَازُ مُطْلَقًا حَكَاهُ ابْنُ بُرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَنَسَبَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْقَاضِي عِيَاضٌ إِلَى دَاوُدَ وَأَنْكَرَ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى مَنْ نَسَبَهُ إِلَى دَاوُدَ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ:
أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْقَوْلَيْنِ إِنْ لَزِمَ مِنْهُ رَفْعُهُمَا لَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُهُ وَإِلَّا جَازَ، وَرُوِيَ هَذَا التَّفْصِيلُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَنَّ الْقَوْلَ الْحَادِثَ الرَّافِعَ لِلْقَوْلَيْنِ مُخَالِفٌ لِمَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلَ الْحَادِثَ الَّذِي لَمْ يَرْفَعِ الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُمَا، بَلْ مُوَافِقٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.
وَمِثْلُ الِاخْتِلَافِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الِاخْتِلَافُ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي فِي الْقَوْلِ الزَّائِدِ عَلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا مَا يَأْتِي فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْخِلَافِ.
ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ قَدِ اسْتَقَرَّ أَمَّا إِذَا لَمْ يَسْتَقِرَّ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ من إحداث قول آخر.(1/229)
الفصل الخامس عشر: في حكم إحداث دليل أو تأويل من غير إلغاء الدليل أو التأويل الأول
...
البحث الخامس عشر: في حكم إحداث دليل أو تأويل من غير إلغاء الدَّلِيلِ أَوِ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ
إِذَا اسْتَدَلَّ أَهْلُ الْعَصْرِ بِدَلِيلٍ وَأَوَّلُوا بِتَأْوِيلٍ فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِحْدَاثُ دَلِيلٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ إِلْغَاءِ للأول، أَوْ إِحْدَاثُ تَأْوِيلٍ غَيْرِ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ وَالِاخْتِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحُكْمِ عَلَى الشَّيْءِ بِكَوْنِهِ كذا، وأما في الِاسْتِدْلَالُ بِالدَّلِيلِ أَوِ الْعَمَلُ بِالتَّأْوِيلِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ عَنْ دِلَالَتِهِمْ، وَيَكُونُ إِجْمَاعًا عَلَى الدَّلِيلِ لَا عَلَى الْحُكْمِ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَحْكَامُهَا لَا أَعْيَانُهَا، نَعَمْ إِنْ أَجْمَعُوا عَلَى إِنْكَارِ الدَّلِيلِ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُهُ لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى الْوَقْفِ، وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ النَّصِّ فَيَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ، "وَذَهَبَ ابْنُ بُرْهَانٍ إِلَى تَفْصِيلٍ آخَرَ بَيْنَ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ فَلَا يَجُوزُ"* إِحْدَاثُهُ وَبَيْنَ الْخَفِيِّ فَيَجُوزُ، لِجَوَازِ اشْتِبَاهِهِ عَلَى الْأَوَّلِينَ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِحَّةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ إِبْطَالُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ إِلَّا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيَمْتَنِعَ.
وَأَمَّا إِذَا عَلَّلُوا الْحُكْمَ بِعِلَّةٍ فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُعَلِّلَهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى؟ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ: هِيَ كَالدَّلِيلِ فِي جَوَازِ إِحْدَاثِهَا، إِلَّا إِذَا قَالُوا: لَا عِلَّةَ إِلَّا هَذِهِ، أَوْ تَكُونُ الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ مُخَالِفَةً لِلْعِلَّةِ الْأُوْلَى فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ فَتَكُونُ حينئذ الثانية فاسدة
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/230)
الفصل السادس عشر: في وُجُودِ دَلِيلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ لَمْ يَعْلَمْهُ أهل الإجماع
...
البحث السادس عشر: في وُجُودِ دَلِيلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ لَمْ يَعْلَمْهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ
هَلْ يُمْكِنُ وُجُودُ دَلِيلٍ لَا معارض له اشتراك أَهْلُ الْإِجْمَاعِ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ؟
قِيلَ: بِالْجَوَازِ إِنْ كَانَ عَمَلُ الْأُمَّةِ مُوَافِقًا لَهُ، وَعَدَمِهِ إِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ، وَاخْتَارَ هَذَا الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ، وَقِيلَ: بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": يَجُوزُ اشْتِرَاكُ الْأُمَّةِ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بما لم يكفلوا بِهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ(1/230)
إِذَا كَانَ صَوَابًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ مَحْذُورٌ.
وَلِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَكَانَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِهِ سَبِيلًا لَهُمْ، وَكَانَ يَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ فيه حتى يحرم تفصيل الْعِلْمِ بِهِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": هُمَا مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: هَلْ يَجُوزُ اشْتِرَاكُ الْأُمَّةِ فِي الْجَهْلِ بِمَا لَمْ يُكَلَّفُوا بِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ.
الثَّانِيَةُ: هَلْ يُمْكِنُ وُجُودُ خَبَرٍ أَوْ دَلِيلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ وَتَشْتَرِكُ الْأُمَّةُ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ.
وَأَمَّا "إِذَا ذَكَرَ"* وَاحِدٌ مِنَ الْمُجْمِعِينَ خَبَرًا عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ.
فَقَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْوَجِيزِ": إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ "وَالْإِصْرَارُ عَلَى الإجماع، وقال قوم من الأصوليين: بل يجب عليه الرجوع إلى موجب الحديث"**، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ ذَلِكَ يَسْتَحِيلُ وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنَ الْمَذَاهِبِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَصَمَ الْأُمَّةَ عَنْ نِسْيَانِ حَدِيثٍ فِي الْحَادِثَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ خَرَجَ الْإِجْمَاعُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا، وَبَنَاهُ فِي "الْأَوْسَطِ"1 عَلَى الْخِلَافِ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، فَمَنْ قَالَ: لَيْسَ بِشَرْطٍ مَنَعَ الرُّجُوعَ، وَمَنِ اشْتَرَطَ جَوَّزَهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إِلَى الْحَدِيثِ احْتِمَالَاتٌ مِنَ النَّسْخِ، وَالتَّخْصِيصِ مَا لا يتطرق إلى الإجماع
__________
* في "أ": ذكر.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 واسمه "الأوسط في أصول الفقه"، للشهاب أحمد بن علي المعروف بابن برهان الشافعي، المتوفى سنة ثماني عشرة وخمسمائة. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 201".(1/231)
الفصل السابع عشر: قول العوام في الإجماع
مدخل
...
البحث السابع عشر: قول الْعَوَامِّ فِي الْإِجْمَاعِ
لَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ الْعَوَامِّ في الإجماع، ولا وِفَاقًا وَلَا خِلَافًا، عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَلَا يَفْهَمُونَ الْحُجَّةَ وَلَا يَعْقِلُونَ الْبُرْهَانَ.
وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ قَوْلُ الْأُمَّةِ حُجَّةً لِعِصْمَتِهَا مِنَ الْخَطَإِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ عَالِمِهَا وَجَاهِلِهَا، حَكَى هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَابْنُ بُرْهَانٍ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَنَقَلَهُ الْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بكر(1/231)
قَالَ فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ"1: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِذَا أَجْمَعَ "عُلَمَاءُ"* الْأُمَّةِ عَلَى حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ "فَهَلْ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عليه؟ قلنا: من الْأَحْكَامِ"** مِمَّا يَحْصُلُ فِيهِ اتِّفَاقُ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِهِمَا فَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الَّتِي تَشِذُّ عَنِ الْعَوَامِّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك، فقال بَعْضُهُمُ: الْعَوَامُّ يَدْخُلُونَ فِي حُكْمِ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا تَفَاصِيلَ الْأَحْكَامِ فَقَدْ عَرَفُوا عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ فِي تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ فَهَذَا مُسَاهَمَةٌ مِنْهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا عَلَى التَّفْصِيلِ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ زَعَمَ "أَنَّهُمْ"*** لَا يَكُونُونَ مُسَاهِمِينَ فِي الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْإِجْمَاعُ فِي التَّفَاصِيلِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي "الْمُعْتَمَدِ"2: اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ قَوْلِ الْعَامَّةِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَقَالَ قَوْمٌ الْعَامَّةُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهَا اتِّبَاعُ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ حَتَّى لَا تَسُوغَ مُخَالَفَتُهُمْ إِلَّا بِأَنْ يَتْبَعَهُمُ الْعَامَّةُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَّبِعُوهُمْ لَمْ يَجِبْ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي مِنَ الْعُلَمَاءِ اتِّبَاعُهُمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ حُجَّةٌ مُطْلَقًا، وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّ الْعَامَّةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْإِجْمَاعِ فِي الْعَامِّ دُونَ الْخَاصِّ.
قَالَ الرُّوْيَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ"3: إِنِ اخْتَصَّ بِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الْعُلَمَاءُ كَنَصْبِ الزَّكَوَاتِ، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا لَمْ يُعْتَبَرْ، وِفَاقُ الْعَامَّةِ مَعَهُمْ وَإِنِ اشْتَرَكَ فِي مَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَتَحْرِيمِ بِنْتِ الْبِنْتِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ إِجْمَاعُ الْعَوَامِّ مَعَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَصِحُّ عَنْ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ وَالثَّانِي يَعُمُّ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْعِلْمِ بِهِ.
قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ: إِجْمَاعُ الْخَاصَّةِ هَلْ يُحْتَاجُ مَعَهُمْ فِيهِ إِلَى إِجْمَاعِ الْعَامَّةِ، فِيهِ وَجْهَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَيْهِمْ. قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: حُكْمُ الْمُقَلِّدِ حُكْمُ الْعَامِّيِّ فِي ذَلِكَ؛ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمُقَلِّدِ والمجتهد.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 وهو للإمام أبي المعالي، عبد الملك بن عبد الله الجويني، الشافعي، لخصه من كتاب "التقريب في الفروع" للإمام قاسم بن محمد القفال الشاشي. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 466".
2 واسمه: "المعتمد في أصول الفقه". لأبي الحسين محمد بن علي، البصري، المعتزلي، الشافعي وهو كتاب كبير، ومنه أخذ فخر الدين الرازي كتاب "المحصول". ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1732".
3 واسمه: "بحر المذهب في الفروع" للشيخ الإمام عبد الواحد بن إسماعيل الروياني، وهو بحر كاسمه. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 226".(1/232)
فرع: إِجْمَاعِ الْعَوَامِّ
إِجْمَاعُ الْعَوَامِّ عِنْدَ خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ خُلُوِّهِ عَنْهُ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً أَمْ لَا؟ فَالْقَائِلُونَ باعتبارهم في الإجماع، مَعَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ، وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِمْ لَا يَقُولُونَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِأَنَّ الزَّمَانَ لَا يَخْلُو عَنْ قَائِمٍ بِالْحُجَّةِ فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُ هَذَا التقدير.(1/233)
الفصل الثامن عشر: الإجماع المعتبر
...
البحث الثامن عشر: الإجماع المعتبر
الْإِجْمَاعُ الْمُعْتَبَرُ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ هُوَ إِجْمَاعُ أَهْلِ ذَلِكَ الْفَنِّ الْعَارِفِينَ بِهِ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ قَوْلُ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ قَوْلُ جَمِيعِ الْأُصُولِيِّينَ، وَفِي الْمَسَائِلِ النَّحْوِيَّةِ قَوْلُ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمَنْ عَدَا أَهْلَ ذَلِكَ الْفَنِّ هُوَ فِي حُكْمِ الْعَوَامِّ فَمَنِ اعْتَبَرَهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ اعْتَبَرَ غَيْرَ أَهْلِ الْفَنِّ وَمَنْ لَا فَلَا.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ جِنِّيٍّ فَقَالَ فِي كِتَابِ "الْخَصَائِصِ"1: إِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي إِجْمَاعِ النُّحَاةِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْكَلَامِ، وَالْأُصُولِيِّ فِي الْأُصُولِ وَكُلُّ وَاحِدٍ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ، وَأَمَّا الْأُصُولِيُّ الْمَاهِرُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْفِقْهِ فَفِي اعْتِبَارِ خِلَافِهِ فِي الْفِقْهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَذَهَبَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّ خِلَافَهُ مُعْتَبَرٌ، قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَهُوَ الْحَقُّ.
وَذَهَبَ مُعْظَمُ الأصوليين منهم أبو الحسن ابن الْقَطَّانِ إِلَى أَنَّ خِلَافَهُ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُفْتِينَ، وَلَوْ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ لَزِمَ أَنْ يَسْتَفْتِيَ الْمُفْتِيَ فِيهَا، قَالَ إِلْكِيَا: وَالْحَقُّ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ مَنْ أَحْكَمَ "الْأَصْلَيْنِ"* الأصوليين فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهِمَا، قَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ "الدَّلَائِلِ"2: إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ لَا مَدْخَلَ لِغَيْرِهِمْ فِيهِ سَوَاءٌ الْمُتَكَلِّمُ وَغَيْرُهُ وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّنُوا الْعِلْمَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ وَهُمُ الْقَائِمُونَ بِعِلْمِ الْفِقْهِ، وَأَمَّا مَنِ انْفَرَدَ بِالْكَلَامِ لَمْ يَدْخُلْ فِي جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا يُعَدُّ خِلَافًا عَلَى مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانُوا حُذَّاقًا بدقائق الكلام.
__________
* في "أ": الأصولين.
__________
1 وهو كتاب في النحو لأبي الفتح عثمان بن جني، قال السيوطي في اقتراحه، وضعه في أصول النحو وجدله، ولكن أكثره خارج عن هذا. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 706".
2 واسمه: "دلائل الإعلام على أصول الأحكام" للإمام أبي بكر محمد بن عبد الله، الصيرفي، البغدادي، وهو كتاب في أصول الفقه. ا. هـ. ذيل كشف الظنون "1/ 476".(1/233)
الفصل التاسع عشر: مخالفة واحد من المجتهدين لأهل الإجماع
...
البحث التاسع عشر: مخالفة واحد من المجتهدين لأهل الإجماع
إِذَا خَالَفَ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ وَاحِدٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فَقَطْ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً، قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَلَا يُقَالُ لِهَذَا شَاذٌّ؛ لِأَنَّ الشَّاذَّ مَنْ كَانَ فِي الجملة ثم شذ "عنهم"* كيف يكون محجوجًا بِهِمْ وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْإِجْمَاعِ إِلَّا بِهِ قَالَ: إِلَّا أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ جِهَةِ الْحِكَايَةِ فَيَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِهِمْ أَمَّا مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ فَلَا لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْمَذْهَبُ انْعِقَادُ إِجْمَاعِ الْأَكْثَرِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطِ1 مِنْ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ2 وَالِدُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالشَّرْطُ أَنْ يَجْمَعَ جُمْهُورَ تِلْكَ الطَّبَقَةِ وَوُجُوهَهُمْ وَمُعْظَمَهُمْ وَلَسْنَا نَشْتَرِطُ قَوْلَ جَمِيعِهِمْ، وَكَيْفَ نَشْتَرِطُ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مَنْ لَمْ نَسْمَعْ بِهِ فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا "يَعْلَمُونَ"** وَيَتَسَتَّرُونَ بِالْعِلْمِ فَرُبَّمَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ أَخَذَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ جَارُهُ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اسْتَخْلَفُوا "أَبَا بَكْرٍ" انْعَقَدَتْ خِلَافَتُهُ بِإِجْمَاعِ الْحَاضِرِينَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ غَابَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَمِنْ حَاضِرِي الْمَدِينَةِ مَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْبَيْعَةَ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ مع اتفاق الأكثرين
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": يعلمون.
__________
1 هو عبد الرحيم بن محمد، أبو الحسن، شيخ المعتزلة البغداديين، له الذكاء المفرط، والتصانيف المهذبة، كان من بحور العلم، وهو من نظراء الجبائي، تنسب إليه فرقة الخياطية، من آثاره: "الانتصار" "الاستدلال"، توفي نحو سنة ثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 220"، الأعلام "3/ 347".
2 هو عبد الله بن يوسف بن عبد الله، شيخ الشافعية، أبو محمد، الطائي الجويني، والد إمام الحرمين، كان فقيهًا، مدققًا، محققًا، من آثاره: "التبصرة" "التذكرة" "التعليقة" "التفسير الكبير"، توفي سنة ثمانٍ وثلاثين وأربعمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 617".(1/234)
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ.
وَاحْتَجَّ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ قَوْلِ الْأَقَلِّ بِارْتِكَابِهِ الشُّذُوذَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الشُّذُوذَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ مَا يَشُقُّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ لَا فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ قَدْ شَذَّ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ خِلَافُهُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ حُجَّةٌ، وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ قُدِّرَ الْمُخَالِفُ مَعَ كَثْرَةِ الْمُجْمِعِينَ، لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا، وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ لِبُعْدِ أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ مُتَمَسِّكَ الْمُخَالِفِ.
وَقِيلَ: إِنَّ عَدَدَ الْأَقَلِّ إِنْ بَلَغَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ لَمْ يَنْعَقِدْ إِجْمَاعُ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا دُونَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ دُونَهُمْ كَذَا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بكر: إنه الَّذِي يَصِحُّ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقِيلَ: اتِّبَاعُ الْأَكْثَرِ أَوْلَى وَيَجُوزُ خِلَافُهُ حَكَاهُ الْهِنْدِيُّ.
وَقِيلَ: إنه لا ينعقد "الإجماع"* مع مخالفة الاثني دُونَ الْوَاحِدِ.
وَقِيلَ: لَا يَنْعَقِدُ مَعَ مُخَالَفَةِ الثلاثة دُونَ الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحِدِ، حَكَاهُمَا الزَّرَكْشِيُّ فِي "الْبَحْرِ".
وقيل: إن استوعب الجماعة الاجتهاد فيها يُخَالِفُهُمْ، كَانَ خِلَافُ الْمُجْتَهِدِ مُعْتَدًّا بِهِ، كَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ1 وَإِنْ أَنْكَرُوهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، وأبو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ2 مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ شَمْسُ الأئمة السرخسي: إنه الصحيح.
__________
* في "أ": إجماع.
__________
1 لغة هو الميل إلى الجور، أو الغلبة، أو الرفع.
وفي الاصطلاح: هو أن يزاد على المخرج شيء من أجزائه إذا ضاق عن فرض، وقد أفتى الصحابة بالعول كعمر بن الخطاب، فإنه شاور الصحابة في مسألة وقعت في عهده، فأشار العباس بالعول، وقال: أعيلوا الفرائض، وتابعوه على ذلك، ولم ينكر أحد إلا ابنه بعد موت أبيه العباس، ا. هـ. شرح السراجية للجرجاني "117".
2 هو محمد بن يحيى بن مهدي، أبو عبد الله، الفقيه، الجرجاني، أحد الأعلام، تفقه على أبي بكر الرازي، توفي سنة ثمانٍ وتسعين وثلاثمائة هـ، ذفن بجانب قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين. ا. هـ. الفوائد البهية "202" الجواهر المضية "3/ 397".(1/235)
الفصل الموفي عشرين: الإجماع المنقول بطريق الآحاد وحجيته
...
البحث الموفي عشرين: الإجماع المنقول بطريق الآحاد وحجيته
الْإِجْمَاعُ الْمَنْقُولُ بِطَرِيقِ الْآحَادِ حُجَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيُّ، وَنُقِلَ عَنِ الْجُمْهُورِ اشْتِرَاطُ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَحَكَى الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" عَنِ الْأَكْثَرِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
فَقَالَ: الْإِجْمَاعُ الْمَرْوِيُّ بِطَرِيقِ الْآحَادِ حُجَّةٌ "خِلَافًا"* لِأَكْثَرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ ظَنَّ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ حَاصِلٌ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْمَظْنُونِ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ نَوْعٌ مِنَ الْحُجَّةِ، فَيَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِمَظْنُونِهِ، كَمَا يَجُوزُ بِمَعْلُومِهِ، قِيَاسًا عَلَى السُّنَّةِ وَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَفَاصِيلِهِ انْتَهَى.
وَأَمَّا عَدَدُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ: فَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ خِلَافًا للقاضي، وَنَقَلَ ابْنُ بُرْهَانٍ عَنْ مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ يَجُوزُ انْحِطَاطُ عَدَدِهِمْ عَقْلًا عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ: وَعَنْ طَوَائِفَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْلًا، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ فَهَلْ يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: يَجُوزُ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً. "قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: الْمُشْتَرِطُونَ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أن ينقص عدد"** المجمعين عن عَدَدِ التَّوَاتُرِ مَا دَامَ التَّكْلِيفُ بِالشَّرِيعَةِ بَاقِيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يُتَصَوَّرُ، لَكِنْ يَقْطَعُ بِأَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ دُونَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ لَيْسَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ إِخْبَارَهُمْ عَنْ إِيمَانِهِمْ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ فَلَا تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعْلَمَ إِيمَانُهُمْ بِالْقَرَائِنِ لَا يُشْتَرَطُ "فيه ذلك"*** بَلْ يَكْفِي فِيهِ الظُّهُورُ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لِكَوْنِهِ كَاشِفًا عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَهُوَ يُوجِبُ كَوْنَهُ مُتَوَاتِرًا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا فِيمَا يَقُومُ مَقَامَ نَقْلِهِ مُتَوَاتِرًا وَهُوَ الْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَإِلَّا لَمْ يَقْطَعْ بِوُجُودِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِي الْعَصْرِ إِلَّا مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ فَقَوْلُهُ حُجَّةٌ "كَالْإِجْمَاعِ"****، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْوَاحِدِ أُمَّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّة} 1 ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": ذلك فيه.
**** في "أ": كإجماع.
__________
1 جزء من الآية "120" من سورة النحل.(1/236)
قَالَ الزَّرَكْشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ "الْوَدَائِعِ"1 فَقَالَ: وَحَقِيقَةُ الْإِجْمَاعِ، هُوَ الْقَوْلُ بِالْحَقِّ وَلَوْ مِنْ وَاحِدٍ فَهُوَ إِجْمَاعٌ وَكَذَا إِنْ حَصَلَ مِنِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ.
وَالْحُجَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ إِجْمَاعٌ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عنه "لما منعت بنو حنيفة من الزكاة"* فكانت "بمطالبة"** أَبِي بَكْرٍ لَهَا حَقًّا عِنْدَ الْكُلِّ، وَمَا انْفَرَدَ لِمُطَالَبَتِهَا غَيْرُهُ، هَذَا كَلَامُهُ، وَخِلَافُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ أَوْلَى، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَنَقَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حُجَّةٌ.
قَالَ إِلْكِيَا: الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَصَوُّرِ اشْتِمَالِ الْعَصْرِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْوَاحِدِ، وَالصَّحِيحُ تَصَوُّرُهُ، وَإِذَا قُلْنَا بِهِ فَفِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ خِلَافٌ، وَبِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. قَالَ: وَالَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ "لَمْ يَرَ فِي اخْتِصَاصِ"*** الْإِجْمَاعِ بِمَحَلٍّ مَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ، فسوى بين العدد والفرد. وأما المحققون سواء فإنهم يعبرون الْعَدَدَ، ثُمَّ يَقُولُونَ: الْمُعْتَبَرُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، فَإِذَا مُسْتَنِدُ الْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدٌ إِلَى طَرْدِ الْعَادَةِ بِتَوْبِيخِ مَنْ يُخَالِفُ الْعَصْرَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ يَسْتَدْعِي وُفُورَ عَدَدٍ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي الْعَصْرِ إِلَّا مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ اسْتِيعَابُ مَدَارِكِ الِاجْتِهَادِ.
__________
* في "أ": لما امتنعت بنو حنيفة من الزكاة.
** في "أ": مطالبة.
*** في "أ": لم يكن لاختصاص الإجماع.
__________
1 واسمه: "الوادئع لمنصوص الشرائع" لأبي العباس بن سريج، أحمد بن عمر، الشافعي، في مجلد متوسط يشتمل على أحكام مجردة عن الأدلة.(1/237)
خَاتِمَةٌ:
قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كَذَا، قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا، لِجَوَازِ الِاخْتِلَافِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ حزم في "الأحكام"؛ وَقَالَ فِي كِتَابِ "الْإِعْرَابِ"1: أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الرِّسَالَةِ"2، وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قَوْلُ الْقَائِلِ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الَّذِينَ كَشَفُوا الْإِجْمَاعَ وَالِاخْتِلَافَ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قَالَ لَا أَعْرِفُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا، فَإِنْ لَمْ يكن من أهل الاجتهاد وممن أحاط
__________
1 وهو لابن حزم، علي بن أحمد بن سعيد، وهو مخطوط، يتألف من "214" ورقة، كتب سنة إحدى وستين وسبعمائة في شستربتي "3482" ا. هـ. الأعلام "4/ 255".
2 وهي في أصول الفقه، للإمام محمد بن إدريس، الشافعي، صاحب المذهب، منها نسخة كتبت سنة "265" هـ في دار الكتب. ا. هـ. الأعلام "6/ 26".(1/237)
بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ، لَمْ يَثْبُتِ الْإِجْمَاعُ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَأَثْبَتَ الْإِجْمَاعَ "بِهِ قَوْمٌ، وَنَفَاهُ آخَرُونَ"*.
"قَالَ ابْنُ حَزْمٍ"**: وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا قَالَ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فَهُوَ إِجْمَاعٌ، وَهُوَ قَوْلٌ فاسد، و"لو"*** قَالَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ1 فَإِنَّا لا نعلم أحدًا مِنْهُ لِأَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَكِنْ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ مِنْهَا تَبِيعٌ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ فَإِنَّ قَوْمًا يَرَوْنَ الزَّكَاةَ عَلَى خَمْسٍ كَزَكَاةِ الْإِبِلِ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي "مُوَطَّئِهِ" -وَقَدْ ذَكَرَ الْحُكْمَ بِرَدِّ الْيَمِينِ-: وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَا بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ. وَالْخِلَافُ فِيهِ شَهِيرٌ. وَكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرَى رَدَّ الْيَمِينِ، وَيَقْضِي بِالنُّكُولِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَكَمُ2 وَغَيْرُهُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَهُمْ كَانُوا الْقُضَاةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِذَا كَانَ مِثْلَ مَنْ ذَكَرْنَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْخِلَافُ فَمَا ظَنُّكَ بغيره.
__________
* في "أ": تكرار حاصل في العبارة وأيضًا ما بين قوسين ساقط منها.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو محمد بن نصر بن الحجاج، المروزي، شيخ الإسلام، أبو عبد الله ولد ببغداد في سنة اثنتين ومائتين هـ، من آثاره: "تعظيم قدر الصلاة" "رفع اليدين" توفي سنة أربع وتسعين ومائتين هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 33" تهذيب التهذيب "9/ 489"، شذرات الذهب "2/ 216".
2 الحكم بن عتيبة، الإمام الكبير عالم أهل الكوفة، أبو محمد الكندي ويقال: أبو عمرو وأبو عبد الله، ولد نحو سنة ست وأربعين هـ، وتوفي سنة خمس عشرة ومائة هـ، "وترجح عندنا على غيره لتقدمه على غيره في الولادة والله أعلم" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 208"، تهذيب التهذيب "2/ 432"، شذرات الذهب "1/ 151".(1/238)
المقصد الرابع: في الأوامر والنواهي والعموم ...
الفصل الأول: في مَبَاحِثُ الْأَمْرِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: حَقِيقَةُ لَفْظِ الْأَمْرِ
...
الْمَقْصِدُ الرَّابِعُ: فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، والإطلاق والتقييد، والإجمال والتبيين، والناسخ والمنسوخ، والمؤول والمنطوق والمفهوم.
الفصل الأول: حَقِيقَةِ لَفْظِ الْأَمْرِ
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ، فَزَعَمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْفِعْلِ أَيْضًا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ، وَزَعَمَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَبَيْنَ الشَّيْءِ، وَبَيْنَ الصِّفَةِ، وَبَيْنَ الشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ فَقَطْ. لنا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ. انْتَهَى.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِ أَحَدِ الْمَعَانِي حَقِيقَةً لَا ينفي حقيقة ما عداه، والأولى أَنْ يُقَالَ: أَنَّ الَّذِي سَبَقَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ لَفْظِ أَلِفٍ، مِيمٍ، رَاءٍ، عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هُوَ الْقَوْلُ الْمَخْصُوصُ، وَالسَّبْقُ إِلَى الْفَهْمِ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، وَلَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا لَتَبَادَرَ إِلَى الْفَهْمِ جَمِيعُ مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ فِيهِ وَلَوْ كَانَ مُتَوَاطِئًا لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ الْقَوْلُ الْمَخْصُوصُ عَلَى انْفِرَادِهِ "وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا"* عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ: بِأَنَّهُ لَوْ كان حقيقة في الفعل لاطرد و"كان"** يُسَمَّى الْأَكْلُ أَمْرًا، وَالشُّرْبُ أَمْرًا، وَلَكَانَ يَشْتَقُّ لِلْفَاعِلِ اسْمَ الْأَمْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ قَامَ أَوْ قَعَدَ لَا يُسَمَّى آمِرًا.
وَأَيْضًا الْأَمْرُ لَهُ لَوَازِمُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا شَيْءٌ فِي الْفِعْلِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ.
وَأَيْضًا يَصِحُّ نَفْيُ الْأَمْرِ عَنِ الْفِعْلِ، فَيُقَالُ: مَا أَمَرَ بِهِ وَلَكِنَ فَعَلَهُ.
وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ كَوْنِ مِنْ شَأْنِ الْحَقِيقَةِ الِاطِّرَادُ، وَبِمَنْعِ لُزُومِ الِاشْتِقَاقِ فِي كُلِّ الْحَقَائِقِ، وَبِمَنْعِ عَدَمِ وُجُودِ شَيْءٍ مِنَ اللَّوَازِمِ فِي الْفِعْلِ وَبِمَنْعِ تَجْوِيزِهِمْ لِنَفْيِهِ مُطْلَقًا.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْفِعْلِ بِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْأَمْرِ فِي الْفِعْلِ، وظاهر الاستعمال الحقيقة، ومن ذلك
__________
* في "أ": واستدلاله.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/241)
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّور} 1 وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا الْعَجَائِبُ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَوْلُهُ: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} 2 أَيْ: مِنْ فِعْلِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر} 3 وقوله: {تَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِه} 4 وقوله: {مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِه} 5، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لِأَمْرٍ مَا يَسُودُ مَنْ يَسُودُ6
وَقَوْلُ الْعَرَبِ فِي أَمْثَالِهَا الْمَضْرُوبَةِ: لِأَمْرٍ مَا جُدِعَ قَصِيرُ أَنْفِهِ7، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي:
أَنَّهُ قَدْ خُولِفَ بَيْنَ جَمْعِ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ "وَبَيْنَ جَمْعِهِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ"* فَقِيلَ فِي الْأَوَّلِ: أَوَامِرُ وَفِي الثَّانِي أُمُورٌ، وَالِاشْتِقَاقُ عَلَامَةُ الْحَقِيقَةِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي الْفِعْلِ، مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ فَعَلَ أَمَّا قَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ الْقَوْلُ أَوِ الشَّأْنُ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ اسْمُ الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ لِعُمُومِ كَوْنِهِ شَأْنًا لَا لِخُصُوصِ كَوْنِهِ فِعْلًا، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ.
وَأَمَّا قوله سبحانه: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيد} 8 فلمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْقَوْلُ، بَلِ الْأَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْن} أَيْ أَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْقَوْلَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ شَأْنَهُ وَطَرِيقَتَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَة} فلمَ لَا يَجُوزُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى الظَّاهِرِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ إِذَا أراد
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "40" من سورة هود.
2 جزء من الآية "73" من سورة هود.
3 الآية "50" من سورة القمر.
4 جزء من الآية "65" من سورة الحج.
5 جزء من الآية "54" من سورة الأعراف.
6 عجز بيت وصدره.
عزمت على إقامة ذي صباح ... ..................................
والبيت لأنس بن مدركة. ا. هـ. شرح المفصل "3/ 12".
7 "لأمر ما جدع قصير أنفه" قالته الزباء عندما قيل لها إن قصيرًا بالباب فأمرت به فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع، وظهره وقد ضرب، وذلك عندما أراد عمرو بن الظرب الملك المعروف أن يغزوها فجدع أنف قصير وضرب ظهره وأرسله إلى الزباء ليدخل عليها بحيلة أنه قد آذاه الملك، ولجأ إليها ومعه هدايا فإذا هذه الهدايا مليئة بجنود مختفين فاستطاع بهذه الحيلة أن يغزوها ا. هـ. الكامل لابن الأثير "1/ 200".
8 جزء من الآية "97" من سورة هود.(1/242)
شيئًا وقع كلمح البصر.
وأما قوله: {تَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِه} وقوله: {مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِه} فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْأَمْرِ فِيهِمَا عَلَى الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْجَرْيَ وَالتَّسْخِيرَ إِنَّمَا حَصَلَ بِقُدْرَتِهِ لَا بِفِعْلِهِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ، وَهَكَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ الْمَذْكُورُ وَالْمَثَلُ الْمَشْهُورُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَنَّ الْأَصْلَ الْحَقِيقَةُ فَمُعَارَضٌ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأُمُورُ جَمْعَ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الشَّأْنِ، لَا بِمَعْنَى الْفِعْلِ، سَلَّمْنَا لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَمْعَ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو الْحُسَيْنِ بِقَوْلِهِ: بِأَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَدْرِ السَّامِعُ أَيَّ هَذِهِ الْأُمُورِ أَرَادَ، فَإِذَا قَالَ هَذَا أَمْرٌ بِالْفِعْلِ، أَوْ أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ، أَوْ تَحَرَّكَ هَذَا الْجِسْمُ لِأَمْرٍ، وَجَاءَ زَيْدٌ لِأَمْرٍ، عَقَلَ السَّامِعُ مِنَ الْأَوَّلِ الْقَوْلَ، وَمِنَ الثَّانِي الشَّأْنَ، وَمِنَ الثَّالِثِ أَنَّ الْجِسْمَ تَحَرَّكَ "بِشَيْءٍ"*. وَمِنَ الرَّابِعِ أَنَّ زَيْدًا جَاءَ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَتَوَقُّفُ الذِّهْنِ عِنْدَ السَّمَاعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْكُلِّ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَذَا التَّرَدُّدَ مَمْنُوعٌ، بَلْ لَا يُفْهَمُ مَا عَدَا الْقَوْلَ إِلَّا بِقَرِينَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا اسْتُعْمِلَ في موضع لا يليق بالقول
__________
* في "أ": لشيء.(1/243)
الفصل الثاني: الخلاف فِي حَدِّ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ
اخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَارْتَضَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّهُ الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهَذَا خَطَأٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ لَفْظَيِ الْمَأْمُورِ، وَالْمَأْمُورِ بِهِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الْأَمْرِ، فَيَمْتَنِعُ تَعْرِيفُهُمَا إِلَّا بِالْأَمْرِ، فَلَوْ عَرَّفَنَا الْأَمْرَ بِهِمَا لَزِمَ الدَّوْرُ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ الطَّاعَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مُوَافَقَةُ الْإِرَادَةَ فَالطَّاعَةُ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهَا إِلَّا بِالْأَمْرِ، فَلَوْ عَرَّفَنَا الْأَمْرَ بِهَا لَزِمَ الدَّوْرُ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي حَدِّهِ: إِنَّهُ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ افْعَلْ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ:(1/243)
الْأَوَّلِ: أَنَا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْوَاضِعَ مَا وَضَعَ لَفْظَةَ "افْعَلْ" لِشَيْءٍ أَصْلًا، حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنَ الْمُهْمَلَاتِ، فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَوْ تَلَفَّظَ الْإِنْسَانُ بِهَا مَعَ دُونِهِ لَا يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ أَمَرَ، وَلَوْ أَنَّهَا صَدَرَتْ عَنِ النَّائِمِ أَوِ السَّاهِي، أَوْ عَلَى سَبِيلِ انْطِلَاقِ اللِّسَانِ بِهَا اتِّفَاقًا أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ"لَا"* يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ أَمَرَ، وَلَوْ قدرنا أن الواضع وضع بإزاء معنى لَفَظَ افْعَلْ وَبِإِزَاءِ مَعْنَى "الْخَبَرِ"** لَفْظَةَ "افْعَلْ"***، لَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِلَفْظِ "افْعَلْ"**** آمِرًا وَبِلَفْظِ افْعَلْ مُخْبِرًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ تَحْدِيدَ مَاهِيَّةِ الْأَمْرِ بِالصِّيغَةِ الْمَخْصُوصَةِ بَاطِلٌ.
الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ تَحْدِيدَ مَاهِيَّةِ الْأَمْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَمْرٌّ، وَهِيَ حَقِيقَةٌ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، فَإِنَّ التُّرْكِيَّ قَدْ يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَتَنَاوَلُ "إِلَّا"***** الْأَلْفَاظَ الْعَرَبِيَّةَ.
فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُنَا: أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ احْتِرَازٌ عَنْ هَذَيْنِ الْإِشْكَالَيْنِ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمَا.
قُلْتُ: قَوْلُهُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ يَعْنِي بِهِ كَوْنَهُ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ طَلَبًا لِلْفِعْلِ، أَوْ يَعْنِي بِهِ شَيْئًا آخَرَ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِي فلا بد مِنْ بَيَانِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلُ صَارَ مَعْنَى حَدِّ الْأَمْرِ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ افْعَلْ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ "وَإِذَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ قَوْلُنَا: الْأَمْرُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ"****** كَافِيًا، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ التَّعَرُّضُ بِخُصُوصِ صِيغَةِ افْعَلْ ضَائِعًا.
الْوَجْهِ الثَّالِثِ: "أَنَّا"******* سَنُبَيِّنُ أَنَّ الرُّتْبَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَإِذَا ثَبَتَ فَسَادُ هَذَيْنِ الْحَدَّيْنِ فَنَقُولُ: الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ طَلَبُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الْقَيْدَ الْأَخِيرَ. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ مَا أَجَابَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَتَقْدِيرُ الْإِهْمَالِ أَوِ الصُّدُورِ لَا عَنْ قَصْدٍ لَيْسَ مِمَّا يَقْتَضِي النَّقْضَ بِهِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْكَلَامِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا النَّقْضُ بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ فَغَيْرُ وَارِدٍ فَإِنَّ مُرَادَ مَنْ حَدَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ الْحَدِّ لَيْسَ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا يَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ لَا غَيْرُهَا، وَأَمَّا عَدَمُ اعْتِبَارِ الرُّتْبَةِ فَمُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَيَرُدُّ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ارْتَضَاهُ آخَرُ وقال إنه الصحيح النهي فإن طلب الفعل بالقول؛ لأن الكف
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": فعل.
**** في "أ": فعل.
***** ما بين قوسين ساقط من "أ".
****** ما بين قوسين ساقط من "أ".
******* ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/244)
فِعْلٌ، وَيَرُدُّ عَلَى قَيْدِ الِاسْتِعْلَاءِ، قَوْلُهُ تَعَالَى حكاية عن فرعون {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} 1 وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى طَرْدِهِ قَوْلُ لقائل لمن دونه فعل "تهديدًا أو تعجيزًا أو غيرها، فَإِنَّهُ يَرُدُّ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ كَمَا سَيَأْتِي2، وَيَرُدُّ في طرده قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ افْعَلْ"* إِذَا صَدَرَ عَنْ مُبَلِّغٍ لِأَمْرِ الْغَيْرِ، أَوْ حَاكٍ لَهُ، وَيَرُدُّ عَلَى عَكْسِهِ افْعَلْ إِذَا صَدَرَ مِنَ الْأَدْنَى عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَلِذَلِكَ يُذَمُّ بِأَنَّهُ أَمَرَ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْإِيرَادِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ قَوْلُ افْعَلْ مُرَادًا بِهِ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ لَيْسَ قَوْلًا لِغَيْرِهِ افْعَلْ.
وَعَنْ الثَّالِثِ: بِمَنْعِ كَوْنِهِ أَمْرًا عِنْدَهُمْ لُغَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ عُرْفًا.
وَقَالَ قَوْمٌ فِي حَدِّهِ: هُوَ صِيغَةُ افْعَلْ مُجَرَّدَةً عَنِ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ عَنِ الْأَمْرِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ تَعْرِيفُ الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ وَلَا يُعَرَّفُ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّ أُسْقِطَ هَذَا الْقَيْدُ بَقِيَ صِيغَةُ افْعَلْ مُجَرَّدَةً فَيَلْزَمُ تجرده مطلقًا، حتى عما يؤكدكونه أَمْرًا.
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ الْقَرَائِنُ الصَّارِفَةُ عَمَّا يَتَبَادَرُ مِنْهَا إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إِطْلَاقِهَا.
وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ اقْتِضَاءُ فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى عَكْسِهِ بِاكْفُفْ وَانْتَهِ وَاتْرُكْ وَذَرْ فَإِنَّهَا أَوَامِرُ لَا يُصَدِّقُ عَلَيْهَا الْحَدُّ لِعَدَمِ اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ غَيْرَ الْكَفِّ فِيهَا.
وَاعْتُرِضَ عَلَى طَرْدِهِ بِلَا تَتْرُكْ، وَلَا تَنْتَهِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهَا نَوَاهٍ وَيَصْدُقُ عَلَيْهَا الْحَدُّ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَحْدُودَ هُوَ النَّفْسِيُّ، فَيَلْتَزِمُ أَنَّ مَعْنَى لَا تَتْرُكْ مَعْنَى الْأَمْرِ النَّفْسِيِّ، ومعنى اكفف وَذَرِ النَّهْيُ فَاطَّرَدَ وَانْعَكَسَ.
وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ صِيغَةُ افْعَلْ بِإِرَادَاتٍ ثَلَاثٍ، وُجُودِ اللَّفْظِ، وَدَلَالَتِهَا عَلَى الْأَمْرِ، وَالِامْتِثَالِ.
وَاحْتَرَزَ بِالْأُولَى عَنِ النَّائِمِ، إِذْ يَصْدُرُ عَنْهُ صِيغَةُ افْعَلْ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ وُجُودِ اللَّفْظِ، وَبِالثَّانِيَةِ عَنِ التَّهْدِيدِ وَالتَّخْيِيرِ وَالْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ وَنَحْوِهَا، وَبِالثَّالِثَةِ عَنِ الصِّيغَةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنِ الْمُبَلِّغِ، وَالْحَاكِي، فَإِنَّهُ لَا يريد الامتثال
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "110" الأعراف، والآية "35" الشعراء.
2 انظر صفحة: "253".(1/245)
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْمَحْدُودِ "اللفظ، أي الأمر الصيغي فلذلك الحد إرادة دلالتها، أَيِ الصِّيغَةِ عَلَى الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْمَحْدُودِ"* الْمَعْنَى النَّفْسِيُّ أَفْسَدَ الْحَدُّ جِنْسَهُ فَإِنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ بِصِيغَةٍ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَحْدُودِ اللَّفْظُ، وَبِمَا في الحد المعنى الذي هو الطالب، وَاسْتُعْمِلَ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْأَمْرِ فِي مَعْنَيَيْهِ اللَّذَيْنِ هُمَا الصِّيغَةُ الْمَعْلُومَةُ، وَالطَّلَبُ بِالْقَرِينَةِ العقلية.
وقيل في حده: إِنَّهُ إِرَادَةُ "الْفِعْلِ"**.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ وَلَا إِرَادَةَ، كَمَا فِي أَمْرِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ بِحَضْرَةِ مَنْ تَوَعَّدَ السَّيِّدَ عَلَى ضَرْبِهِ لِعَبْدِهِ بِالْإِهْلَاكِ إِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ أَمْرَ سَيِّدِهِ وَالسَّيِّدُ يَدَّعِي مُخَالَفَةَ الْعَبْدِ فِي أَمْرِهِ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الْإِهْلَاكَ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ عَبْدَهُ بِحَضْرَةِ الْمُتَوَعِّدِ لَهُ لِيَعْصِيَهُ ويشاهد المتوعد عصيانه ويخلص من الهلاك فههنا قَدْ أَمَرَ وَإِلَّا لَمْ يَظْهَرْ عُذْرُهُ، وَهُوَ مخالف الأمر ولا يريد منه العمل لا أنه لَا يُرِيدُ مَا يُفْضِي إِلَى هَلَاكِهِ، وَإِلَّا كَانَ مُرِيدًا هَلَاكَ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ مُحَالٌ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ مِثْلُهُ يَجِيءُ فِي الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَطْلُبُ مَا يَسْتَلْزِمُ هَلَاكَهُ، وَإِلَّا كَانَ "طَالِبًا"*** لِهَلَاكِهِ. وَدَفَعَ بِالْمَنْعِ، لِجَوَازِ أَنْ يَطْلُبُ الْعَاقِلُ الْهَلَاكَ لِغَرَضٍ إِذَا عُلِمَ عَدَمُ وُقُوعِهِ.
وَرُدَّ هَذَا الدَّفْعُ: بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي اللَّفْظِيِّ، أَمَّا النَّفْسِيُّ فَالطَّلَبُ النَّفْسِيُّ كَالْإِرَادَةِ النَّفْسِيَّةِ فَلَا يَطْلُبُ الْهَلَاكَ بِقَلْبِهِ كَمَا لَا يُرِيدُهُ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ إِرَادَةً لَوَقَعَتِ الْمَأْمُورَاتُ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ صِفَةٌ تُخَصِّصُ الْمَقْدُورَ بِوَقْتِ وُجُودِهِ، فَوُجُودُهَا فَرْعُ وُجُودِ مَقْدُورٍ مُخَصَّصٍ. وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ إِيمَانَ الْكُفَّارِ الْمَعْلُومُ عَدَمُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا شَكَّ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا وَيَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ مَعَ أَنَّهُ مُحَالٌ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ حَدِّ الْأَمْرِ بِإِرَادَةِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْإِرَادَةُ عِنْدَهُمْ بِالنِّسْبَةِ "إِلَى الْعِبَادِ"**** مَيْلٌ يَتْبَعُ اعْتِقَادَ النَّفْعِ أَوْ دَفْعَ الضَّرَرِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعِلْمُ بِمَا فِي الْفِعْلِ مِنْ المصلحة.
إذا تقرر لك ما ذكرناه وَعَرَفْتَ مَا فِيهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْأُصُولِ تعريف الأمر الصيغي؛ لأن
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": العقل وهو تصحيف.
*** في "أ": طلبًا.
**** في "أ": بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ميل إلخ.(1/246)
بَحْثَ هَذَا الْعِلْمِ عَنِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَهِيَ الألفاظ الموصلة من حيث "العلم"* بِأَحْوَالِهَا مِنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ وَغَيْرِهِمَا إِلَى قُدْرَةِ إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ، وَالْأَمْرُ الصِّيَغِيُّ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ صِيغَتُهُ الْمَعْلُومَةُ سَوَاءً كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ، أَوْ لَا. وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي صِيغَتِهِ الْمَعْلُومَةِ، الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الطَّلَبِ الْجَازِمِ مَعَ الِاسْتِعْلَاءِ، هَذَا بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ أَلِفٌ، مِيمٌ، رَاءٌ، بِخِلَافِ فَعْلِ الْأَمْرِ نَحْوَ اضْرِبْ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا ذُكِرَ، بَلْ يَصْدُقُ مَعَ الْعُلُوِّ وَعَدَمِهِ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْأَشْعَرِيُّ1 قَيْدَ الْعُلُوِّ، وَتَابَعَهُ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَاعْتَبَرَ الْعُلُوَّ الْمُعْتَزِلَةُ جَمِيعًا إِلَّا أَبَا الْحُسَيْنِ مِنْهُمْ وَوَافَقَهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ مِنَ الشافعية
__________
* في "أ": المعلوم.
__________
1 هو علي بن إسماعيل بن أبي بشر، العلامة، إمام المتكلمين، أبو الحسن الأشعري ولد سنة ستين ومائتين هـ، من آثاره: "العمد في الرؤية" "الموجز" "خلق الأعمال" وغيرها كثير، توفي سنة ثلاثين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 85"، شذرات الذهب "2/ 303".(1/247)
الفصل الثالث: حقيقة صيغة أفعل
مدخل
...
الفصل الثالث: حقيقة صيغة افعل
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِيغَةِ "افْعَلْ" وَمَا في معناها هَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ، أَوْ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ فَقَطْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ1.
قَالَ الرَّازِيُّ: وَهُوَ الْحَقُّ.
وَذَكَرَ الْجُوَيْنِيُّ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، قِيلَ: وَهُوَ الَّذِي أَمْلَاهُ الْأَشْعَرِيُّ عَلَى أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ، وَعَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا حَقِيقَةُ النَّدْبِ.
وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ والقاضي: بالوقف، فقيل: إنهما تَوَقَّفَا فِي أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَقِيلَ تَوَقَّفَا بِأَنْ قَالَا: لَا نَدْرِي بِمَا هُوَ حقيقة فيه أصلًا.
__________
1 هو عبد الله بن عمر، أبو سعيد، أو أبو الخير، "ناصر الدين"، قاض مفسر، علامة، ولد في المدينة البيضاء "بفارس"، ولي قضاء شيراز مدة، توفي سنة خمس وستمائة هـ، من آثاره: "لب اللباب في الإعراب" "أنوار التنزيل وأسرار التأويل". ا. هـ. معجم المؤلفين "6/ 98" بغية الوعاة "286"، الأعلام "4/ 110".(1/247)
وَحَكَى السَّعْدُ فِي "التَّلْوِيحِ"1 عَنِ الْغَزَالِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، أَنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى الْوَقْفِ فِي تَعْيِينِ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ حَقِيقَةً، وَحَكَى أَيْضًا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ الْوَقْفُ فِي تَعْيِينِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ، لَا فِي تَعْيِينِ الْمَوْضُوعِ لَهُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ بِالِاشْتِرَاكِ لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ.
وَقِيلَ: أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَهُوَ الطَّلَبُ: أَيْ تَرْجِيحُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، وَنَسَبَهُ شَارِحُ التَّحْرِيرِ2 إِلَى أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ3 وَمَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَهُوَ الْإِذْنُ بِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الفعل، وبه قال الْمُرْتَضِي مِنَ الشِّيعَةِ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الشِّيعَةِ: إِنَّهَا مشتركة بين الثلاثة المذكورة والتهديد.
اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ لُغَةً وَشَرْعًا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، أَوْ شرعا فَقَطْ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَلْخِيُّ4، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، وَالْجُوَيْنِيُّ وَأَبُو طَالِبٍ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ.
أَمَّا الْعَقْلُ، فَإِنَّا نَعْلَمُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ أَنَّهُمْ أَطْبَقُوا عَلَى ذَمِّ عَبْدٍ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ سَيِّدِهِ، وَأَنَّهُمْ يصفونه بالعصيان ولا يذم ويوصف بِالْعِصْيَانِ إِلَّا مَنْ كَانَ تَارِكًا لِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَدْ تَكَرَّرَ اسْتِدْلَالُ السَّلَفِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ مَعَ تَجَرُّدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ عَلَى الْوُجُوبِ. وشاع ذلك وذاع بلا نكير. فأوجب العلم العادي باتفاقهم "على أنه له"*.
وَاعْتُرِضَ: بِأَنَّ اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَا عَلَى الْوُجُوبِ كَانَ فِي صِيَغٍ مِنَ الْأَمْرِ مُحْتَفَّةً بِقَرَائِنِ الْوُجُوبِ، بدليل استدلالهم بكثير منها على الندب
__________
* في "أ": عليه.
__________
1 هو "التلويح إلى كشف غوامض التنقيح" للسعد التفتازاني، انظر ترجمته ص46.
2 هو "التقرير والتحبير" للإمام محمد بن أمير حاج الذي شرح فيه كتاب "التحرير في أصول الفقه للإمام ابن الهمام، ولقد ذكر الشارح: أن المصنف قد حرر من مقاصد هذه العلم ما لم يحرره كثير، مع جمعه بين اصطلاحي الحنفية والشافعية على أحسن نظام وترتيب. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 358".
3 هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي، السمرقندي، أبو منصور، متكلم أصولي، توفي بسمرقند، من آثاره: "شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة" "تأويلات أهل السنة" "بيان وهم المعتزلة" "تأويلات القرآن" "مأخذ الشرائع في أصول الفقه"، توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. معجم المؤلفين "11/ 300" الفوائد البهية "195" هدية العارفين "2/ 36".
4 هو المعروف بالكعبي، سبقت ترجمته في الصفحة "129".(1/248)
وأجيب: بأن استدلالهم مِنْهَا عَلَى النَّدْبِ إِنَّمَا كَانَ بِقَرَائِنَ صَارِفَةٍ عن المعنى الحقيقي وهو الوجوب، مُعَيِّنَةٍ لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَهُوَ النَّدْبُ، عَلِمْنَا ذَلِكَ بِاسْتِقْرَاءِ الْوَاقِعِ مِنْهُمْ فِي الصِّيَغِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهَا الْوُجُوبُ، وَالصِّيَغِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهَا النَّدْبُ فِي الْكِتَابِ والسنة، وعلمنا بالتتبع أن فَهْمَ الْوُجُوبِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَةٍ لِتَبَادُرِهِ إِلَى الذِّهْنِ بِخِلَافِ فَهْمِ النَّدْبِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إليها.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ أَيْضًا بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ فِي الْأُصُولِ؛ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ مُخْتَلَفٌ فِي حُجِّيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ1، وَلَا يَسْتَدِلُّ بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ فِي الْأُصُولِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ لَوْ سَلِمَ كَوْنُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ ظَنِّيًّا لَكَفَى فِي الْأُصُولِ، وَإِلَّا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِأَكْثَرِ الظَّوَاهِرِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَالْقَطْعُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَتَبَّعَ مَسَائِلَ الْأُصُولِ. وَأَيْضًا نَحْنُ نَقْطَعُ بِتَبَادُرِ الْوُجُوبِ مِنَ الْأَوَامِرِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِهِ لُغَةً وَشَرْعًا.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 2 وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامَ بِالِاتِّفَاقِ، بَلِ الذَّمُّ، وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي الْإِخْلَالِ بِالسُّجُودِ بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ لَهُ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ لِلْمَلَائِكَةِ: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيس} 3 فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْقَرَائِنِ الْوُجُوبُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَالًّا عَلَى الْوُجُوبِ لَمَا ذَمَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى التَّرْكِ، وَلَكَانَ لِإِبْلِيسَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّكَ ما أَلْزَمْتَنِي السُّجُودَ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُون} 4 فَذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ فِعْلِ مَا قِيلَ لَهُمُ افْعَلُوهُ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ يُفِيدُ النَّدْبَ لَمَا حَسُنَ هَذَا الْكَلَامُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لهم: الأولى أن تفعلوا ويجوز لكم تَرْكُهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَذُمَّهُمْ عَلَى تركه.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا: بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا ذمهم لأنهم لم يعتقدوا حقية الْأَمْرِ، لَا لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْمَأْمُورَ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عليه قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين} 5.
وَأَيْضًا فَصِيغَةُ افْعَلْ قَدْ تُفِيدُ الْوُجُوبَ عِنْدَ اقْتِرَانِ بَعْضِ الْقَرَائِنِ بِهَا، فَلَعَلَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما ذمهم لأنه "كان قد"* وجدت قرينة دالة على الوجوب.
__________
* في "أ": قد كان قد.
__________
1 انظر صفحة "223".
2 جزء من الآية "12" من سورة الأعراف.
3 جزء من الآية "34" من سورة البقرة.
4 الآية "48" من سورة المرسلات.
5 الآية "49" من سورة المرسلات.(1/249)
وَأُجِيبَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ فِي قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين} إِمَّا أَنْ يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ تَرَكُوا الرُّكُوعَ لَمَّا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا أَوْ غَيْرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ أَنْ يَسْتَحِقُّوا الذَّمَّ بِتَرْكِ الرُّكُوعِ، وَالْوَيْلُ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ، وَإِنْ "كَانَ"* الثَّانِي لَمْ يَكُنْ إِثْبَاتُ الْوَيْلِ لِلْإِنْسَانِ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ مُنَافِيًا لِثُبُوتِ الذَّمِّ لِإِنْسَانٍ آخَرَ بِسَبَبِ تَرْكِهِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الثَّانِي: بِأَنَّ الله سبحانه وتعالى إنما ذمهم لمجرد أنهم تركوا الركوع لَمَّا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْشَأَ الذَّمِّ هَذَا الْقَدْرُ لَا الْقَرِينَةُ.
وَاسْتَدَلُّوا أيضًا بقوله سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1 أَيْ يُعْرِضُونَ عَنْهُ بِتَرْكِ مُقْتَضَاهُ: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} لِأَنَّهُ رَتَّبَ عَلَى تَرْكِ مُقْتَضَى أَمْرِهِ إِصَابَةَ الْفِتْنَةِ فِي الدُّنْيَا أَوِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الْآخِرَةِ، فَأَفَادَتِ الْآيَةُ بِمَا تَقْتَضِيهِ إِضَافَةُ الْجِنْسِ مِنَ الْعُمُومِ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يُفِيدُ الْوُجُوبَ شرعًا، مع تجرده عن القرائن؛ إذ لولا ذلك لَقَبُحَ التَّحْذِيرُ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} 2 أي تَرَكْتَ مُقْتَضَاهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ به عاصٍ، وكل عاصٍ مُتَوَعَّدٌ، وَهُوَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِقَوْلِهِ تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّم} 3، والأمر الذي أمره به هو قوله تعالى: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} 4 وَهُوَ أَمْرٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الْقَرَائِنِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ السِّيَاقَ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ.
وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ كَوْنِهِ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} 5 والقضاء بمعنى الحكم و"أمرًا" مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، أَوْ حَالٌ، أَوْ تَمْيِيزٌ، وَلَا يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ مَا هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} 6؛ لأن عطف الرسول عليه يمنع ذلك، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحُكْمُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ القول لا الفعل.
__________
* في "يكن.
__________
1 جزء من الآية "63" من سورة النور.
2 جزء من الآية "93" من سورة طه.
3 جزء من الآية "23" من سورة الجن.
4 جزء من الآية "142" من سورة الأعراف.
5 جزء من الآية "36" من سورة الأحزاب.
6 جزء من الآية "11" من سورة فصلت.(1/250)
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} 1 وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْأَمْرُ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ بِمَجَازٍ عَنْ سُرْعَةِ الْإِيجَادِ كَمَا قِيلَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوُجُودُ مُرَادًا بِهَذَا الْأَمْرِ، أَيْ: أَرَادَ اللَّهُ أنه كلما وُجِدَ الْأَمْرَ يُوجَدُ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَكَذَا فِي كل أمر من الله تعالى، ومن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أمتي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ" 2 وَكَلِمَةُ "لَوْلَا" تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره "فههنا"* تُفِيدُ انْتِفَاءَ الْأَمْرِ لِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ. فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْأَمْرُ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَالْإِجْمَاعُ قَائِمٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، فَلَوْ كَانَ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورًا بِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ قَائِمًا عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ. فَلَمَّا لَمْ يوجد الأمر عَلِمْنَا أَنَّ الْمَنْدُوبَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ. وَاعْتَرَضَ على هذا الاستدلال: بأنه لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مُرَادَهُ لَأَمَّرَتْهُمْ عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ بِقَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَيْهِ لا مجرد الأمر.
وَرُدَّ بِأَنَّ كَلِمَةَ "لَوْلَا" دَخَلَتْ عَلَى الْأَمْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَمْرُ حَاصِلًا، وَالنَّدْبُ حَاصِلٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ النَّدْبُ أَمْرًا، والإلزام التَّنَاقُضُ وَالْمُرَادُ مُجَرَّدُ الْأَمْرِ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا وقع في قصة بريرة لَمَّا رَغَّبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّجُوعِ إِلَى زَوْجِهَا، فَقَالَتْ: أَتَأْمُرُنِي بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: "لَا، إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ" 3 فَنَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ مِنْهُ، مَعَ ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّدْبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ الْأَمْرَ النَّدْبَ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ بِالْأَوَامِرِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
__________
* في "أ": هنا.
__________
1 جزء من الآية "40" من سورة النحل.
2 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة في الجمعة باب السواك يوم الجمعة "887" مالك في الموطأ في الطهارة باب ما جاء في السواك "1/ 66" والإمام أحمد في مسنده "2/ 245" والبيهقي في السنن "1/ 37" وابن حبان في صحيحه "1068" وذكره الشافعي في الأم "1/ 23".
3 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الطلاق، باب شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زوج بريرة "5283". وابن ماجه في الطلاق باب خيار الأمة إذا أعتقت "2075" والنسائي في آداب القضاء باب شفاعة الحاكم للخصوم قبل فصل الحكم "5432" "8/ 245". والإمام أحمد في مسنده 1/ 215 "1844". وابن حبان في صحيحه بنحوه "4270".(1/251)
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ لَفْظَ "افْعَلْ" إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْوُجُوبِ فَقَطْ، أَوْ فِي الندب فقط، أَوْ فِي غَيْرِهِمَا، وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْآخِرَةُ بَاطِلَةٌ، فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلنَّدْبِ فَقَطْ لَمَا كَانَ الْوَاجِبُ مَأْمُورًا بِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ فَقَطْ، وَلَوْ كَانَ لَمَا لزم الجمع بين الراجح فِعْلُهُ مَعَ جَوَازِ تَرْكِهِ، وَبَيْنَ الرَّاجِحِ فِعْلُهُ مَعَ الْمَنْعِ مِنْ تَرْكِهِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِمَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِمَا، وَأَنْ يكون الأمر حقيقة فيما لا "ترجيح"* فِيهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ رُجْحَانَ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وجب أن يكون مانعًا من الترك.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي النَّدْبِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأَتَوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ كَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ" 1 فَرَدَّ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَتِنَا وَهُوَ مَعْنَى النَّدْبِ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّهُ دَلِيلٌ لِلْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ لَا لِلْقَائِلِينَ بِالنَّدْبِ؛ لِأَنَّ مَا لَا نَسْتَطِيعُهُ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا؛ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا مَا نَسْتَطِيعُهُ، وَالْمَنْدُوبُ لَا حَرَجَ فِي تَرْكِهِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِعَبْدِهِ اسْقِنِي "وَقَوْلِهِ"** أُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنِي "فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يفهمون من أحدهما ما يفهمون مِنَ الْآخَرِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ قَوْلَهُ: اسْقِنِي يُفِيدُ طَلَبَ، الْفِعْلِ مَعَ الْإِرَادَةِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْ تَسْقِيَنِي"*** فَلَيْسَ إِلَّا مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ بِكَوْنِهِ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ وَلَيْسَ فِيهِ طَلَبٌ لِلْفِعْلِ، وَهَذَا أشف مَا احْتَجُّوا بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَدْفُوعًا بِمَا سَمِعْتَ، وَقَدِ احْتَجُّوا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يفيد شيئًا.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، أَوْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِبَاحَةِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِطْلَاقُهَا عَلَيْهِمَا، أَوْ عَلَيْهَا، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ.
وَأُجِيبَ بِمَا تقدم، من أن المجاز أولى من الاشتراك، وأيضًا كان يلزم أن تكون الصيغة
__________
* في "أ": ترجح.
** في "أ": وبين قوله.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "7288" ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه "1337". وأحمد في مسنده "2/ 258". والنسائي "5/ 110". والدارقطني "2/ 181". وابن خزيمة في صحيحه "2508". وابن حبان في صحيحه "18". والبيهقي في سننه "4/ 326".(1/252)
حَقِيقَةً فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْأَمْرِ الَّتِي سَيَأْتِي1 بيانها لأنه قد أُطْلِقَ عَلَيْهَا وَلَوْ نَادِرًا وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِمُطْلَقِ الطَّلَبِ: بأنه قد ثَبَتَ الرُّجْحَانُ فِي الْمَنْدُوبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الواجب، وَجَعْلُهَا لِلْوُجُوبِ بِخُصُوصِهِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ، وَأَيْضًا مَا ذَكَّرُوهُ هُوَ إِثْبَاتُ اللُّغَةِ بِلَوَازِمِ الْمَاهِيَّاتِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الرُّجْحَانَ لَازِمًا لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَجَعَلُوا صِيغَةَ الْأَمْرِ لَهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَاللُّغَةُ لَا تُثْبِتُ بذلك.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ، بِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ تَعْيِينُ الصيغة لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَثَبَتَ بِدَلِيلٍ وَلَا دَلِيلَ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى تَعْيِينِهَا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْوُجُوبِ كَمَا قَدَّمْنَا2.
وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّ الرَّاجِحَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ، فَلَا تَكُونُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَانِي إِلَّا بِقَرِينَةٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ3 مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَمَنْ أَنْكَرَ اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ الْمُخَالِفِ لِأَمْرِ سَيِّدِهِ لِلذَّمِّ، وَأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ اسْمُ الْعِصْيَانِ، فَهُوَ مُكَابِرٌ وَمُبَاهِتٌ، فَهَذَا يَقْطَعُ النِّزَاعَ بِاعْتِبَارِ الْعَقْلِ.
وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ وَمَا وَرَدَ مِنْ حَمْلِ أَهْلِهِ لِلصِّيَغِ الْمُطْلَقَةِ مِنَ الأوامر على الوجوب ففيما ذَكَرْنَاهُ سَابِقًا مَا يُغْنِي عَنِ التَّطْوِيلِ، وَلَمْ يأت من خالف هذا بشيء يعد به أصلًا.
__________
1 انظر صفحة: "254-255".
2 انظر صفحة: "247".
3 انظر صفحة: "248".(1/253)
صيغ الأمر ومعانيه:
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي المعنى الحقيقي للصيغة كما عَرَفْتَ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ اسْتِعْمَالِهَا فَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي معانٍ كَثِيرَةٍ، قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: صِيغَةُ افْعَلْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ وجهًا:
للإيجاب كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاة} 1.
وَلِلنَّدْبِ كَقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} 2، ويقرب منه التأديب كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: "كُلْ مِمَّا يَلِيكَ" 3؛ فَإِنَّ الْأَدَبَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَعَلَهُ بعضهم قسمًا مغايرًا
__________
1 جزء من الآية "43" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "33" من سورة النور.
3 أخرجه البخاري من حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه في الأطعمة باب التسمية على الطعام "5376". ومسلم في الأشربة باب آداب الطعام والشراب "2022". والترمذي في الأطعمة باب ما جاء في التسمية على الطعام "1857". وأبو داود في الأطعمة باب الأكل باليمين "3777". وابن ماجه في الأطعمة باب الأكل باليمين "3267". والإمام أحمد في مسنده 4/ 26.(1/253)
للمندوب.
وللإرشاد كقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا} 1 {فَاكْتُبُوهُ} 2.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ أَنَّ النَّدْبَ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَالْإِرْشَادَ لِمَنَافِعِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْتَقِصُ الثَّوَابُ بِتَرْكِ الِاسْتِشْهَادِ فِي الْمُدَايَنَاتِ وَلَا يَزِيدُ بِفِعْلِهِ.
وَلِلْإِبَاحَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} 3.
وللتهديد مثل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 4، {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} 5، ويقرب منه الإنذار كقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا} 6 وَإِنْ كَانَ قَدْ جَعَلُوهُ قِسْمًا آخَرَ.
وَلِلِامْتِنَانِ مثل: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} 7.
وللإكرام: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِين} 8.
وللتسخير: {كُونُوا قِرَدَة} 9.
وللتعجيز: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه} 10.
وللإهانة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم} 11.
وللتسوية: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} 12.
وللدعاء: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} 13.
وَلِلتَّمَنِّي كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: "أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ ألا انجل"14.
__________
1 و2 جزء من الآية "282" من سورة البقرة.
3 جزء من الآية "24" من سورة الحاقة.
4 جزء من الآية "40" من سورة فصلت.
5 جزء من الآية "64" من سورة الإسراء.
6 جزء من الآية "30" من سورة إبراهيم.
7 جزء من الآية "114" من سورة النحل.
8 جزء من الآية "46" من سورة الحجر.
9 جزء من الآية "65" من سورة البقرة.
10 جزء من الآية "23" من سورة البقرة.
11 جزء من الآية "49" من سورة الدخان.
12 جزء من الآية "16" من سورة الطور.
13 جزء من الآية "28" من سورة نوح.
14 قائل هذا البيت امرؤ القيس وهو في معلقته المشهورة:
ألا أيها الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وهو من البحر الطويل ا. هـ. شرح المعلقات السبع "39".(1/254)
وَلِلِاحْتِقَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} 1.
وللتكوين: {كُنْ فَيَكُون} 2 انتهى.
فهذه خمسة عشر مَعْنًى، وَمَنْ جَعَلَ التَّأْدِيبَ وَالْإِنْذَارَ مَعْنَيَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ جعلها سبعة عشر مَعْنًى، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَعَانِي الْإِذْنَ نَحْوَ قوله تعالى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَات} 3، والخبر نحو: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} 4، والتفويض نحو: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض} 5 والمشورة كقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} 6، وَالِاعْتِبَارَ نَحْوَ: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر} والتكذيب نحو: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم} 8، والالتماس كقولك لنظيرك: "افعل". والتلهيف9 نحو: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُم} 10 والتصبير نحو: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} 11 فتكون جملة المعاني ستة وعشرين معنى.
__________
1 جزء من الآية "80" من سورة يونس، والآية "43" من سورة الشعراء.
2 جزء من الآية "82" من سورة يس.
3 جزء من الآية "51" من سورة المؤمنون.
4 جزء من الآية "82" من سورة التوبة.
5 جزء من الآية "72" من سورة طه.
6 جزء من الآية "102" من سورة الصافات.
7 جزء من الآية "99" من سورة الأنعام.
8 جزء من الآية "111" من سورة البقرة.
9 مأخوذ من اللهف وهو: الأسى والحزن والغيظ. ا. هـ. لسان العرب مادة لهف وكذلك الصحاح.
10 جزء من الآية "119" من سورة آل عمران.
11 جزء من الآية "42" من سورة المعارج.(1/255)
الفصل الرابع: هل الأمر يفيد تكرار أم لا
...
الفصل الرابع: هل الأمر يفيد التكرار أم لا
ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ بِاعْتِبَارِ الْهَيْئَةِ الْخَاصَّةِ مَوْضُوعَةٌ لِمُطْلَقِ الطَّلَبِ، مِنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ بِالْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ، وَاخْتَارَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْجُوَيْنِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ.
قَالَ السُّبْكِيُّ: وأراه رَأْيَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، يَعْنِي الشَّافِعِيَّةَ، وَاخْتَارَهُ أَيْضًا من المتعزلة أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ قَالُوا جَمِيعًا: إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِأَقَلَّ مِنْ(1/255)
مَرَّةٍ فَصَارَتِ الْمَرَّةُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، لَا أَنَّ الْأَمْرَ يَدُلُّ عَلَيْهَا بِذَاتِهِ.
وقال جماعة: إن صِيغَةَ الْأَمْرِ تَقْتَضِي الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ لَفْظًا، وَعَزَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِلَى أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ الْأَشْبَهُ بِمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَائِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، وجماعة من قدماء الحنفية، وقال جماعة: إنها تَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ مُدَّةَ الْعُمْرِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَإِنَّمَا قَيَّدُوهُ بِالْإِمْكَانِ لِتَخْرُجَ أَوْقَاتُ ضَرُورِيَّاتِ الْإِنْسَانِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمُسْتَصْفَى": إِنَّ مُرَادَهُمْ مِنَ التَّكْرَارِ الْعُمُومُ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا التكرار الْمُسْتَوْعِبَ لِزَمَانِ الْعُمُرِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْقَائِلِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ دُونَ أَزْمِنَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالنَّوْمِ وَضَرُورِيَّاتِ الْإِنْسَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَنَّ الصِّيغَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّكْرَارِ هِيَ الْمُعَلِّقَةُ عَلَى شَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلْمَرَّةِ، وَتَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى هَذَا الْوَقْفِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ لَا نَدْرِي أَوُضِعَ لِلْمَرَّةِ أَوْ لِلتَّكْرَارِ أَوْ لِلْمُطْلَقِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ لَا يَدْرِي مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَهَا، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أبو بكر وجماعة وروي عن الجويني.
احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِإِطْبَاقِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى هَيْئَةِ الْأَمْرِ لَا دَلَالَةَ لَهَا إِلَّا عَلَى الطَّلَبِ فِي خُصُوصِ زَمَانٍ وَخُصُوصِ الْمَطْلُوبِ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ، وَغَيْرِهِمَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْمَادَّةِ وَلَا دَلَالَةَ لَهَا إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْهَيْئَةِ وَالْمَادَّةِ أَنَّ تَمَامَ مَدْلُولِ الصِّيغَةِ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ فَقَطْ وَالْبَرَاءَةُ بِالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ تَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِتَحَقُّقِ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِإِدْخَالِهِ فِي الْوُجُودِ بِهَا، وَلِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لِلْمَرَّةِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الِامْتِثَالَ يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ فَيَكُونُ لَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُصُولَهُ بِهَا لَا يَسْتَدْعِي اعْتِبَارَهَا جُزْءًا مِنْ مَدْلُولِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ عَلَى تقدير الإطلاق كما عَرَفْتَ.
وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ أَيْضًا بِأَنَّ مَدْلُولَ الصِّيغَةِ طَلَبُ حَقِيقَةِ الْفِعْلِ، وَالْمَرَّةُ وَالتَّكْرَارُ خَارِجَانِ عَنْ حقيقته فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الِامْتِثَالُ بِهِ فِي أَيِّهِمَا وجد ولا يتقيد بأحدهما.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا: بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ الْحَقِيقَةُ الْمُقَيِّدَةُ بِالْمَرَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ الْحَقِيقَةُ الْمُقَيِّدَةُ بِالتَّكْرَارِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْمَرَّةَ وَالتَّكْرَارَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، كَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْمَوْصُوفِ على الصفة المعينة منهما.(1/256)
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ دَلَالَةِ الْمَادَّةِ عَلَى الْمَرَّةِ وَالتَّكْرَارِ، وَالْكَلَامُ فِي الصِّيغَةِ هَلْ هِيَ تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا أَمْ لَا؟ وَاحْتِمَالُ الصِّيغَةِ لَهُمَا لَا يَمْنَعُ ظُهُورَ أَحَدِهِمَا، وَالْمُدَّعِي إِنَّمَا هُوَ لِلدَّلَالَةِ ظَاهِرًا لا نصًّا.
"وَاحْتَجَّ"* الْقَائِلُونَ بِالتَّكْرَارِ: أَنَّهُ تَكَرَّرَ الْمَطْلُوبُ فِي النهي فَعَمَّ الْأَزْمَانَ فَوَجَبَ التَّكْرَارُ فِي الْأَمْرِ لِأَنَّهُمَا طَلَبٌ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ وَقَدْ تَقَرَّرَ بُطْلَانُهُ.
وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لأن النهي لطلب التَّرْكِ وَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالتَّرْكِ، فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْرُ لِطَلَبِ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ وَهُوَ يَتَحَقَّقُ بوجوده مرة.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا: بِأَنَّهُ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ إِثْبَاتِهِ يَحْصُلُ بِمَرَّةٍ هُوَ عَيْنُ النزاع إذ المخالف يَقُولَ هُوَ لِلتَّكْرَارِ لَا لِلْمَرَّةِ.
وَأُجِيبَ عَنْ أَصْلِ التَّكْرَارِ: بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْمَنْعُ مِنْ فِعْلِ غَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ وَمِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْبَشَرِ أَنَّهُ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ آخَرَ، فَيَتَعَطَّلُ عَمَّا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَعَنْ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ بِخِلَافِ النَّهْيِ فَإِنَّ دَوَامَ التَّرْكِ لَا يَشْغَلُهُ عَنْ شيء من الأفعال، وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَدْلُولِ الصِّيغَةِ هَلْ تَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ أَمْ لَا؟ وَإِرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ التَّكْرَارَ لَا تَسْتَلْزِمُ كَوْنَ التَّكْرَارِ مَدْلُولًا لِلصِّيغَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى التَّكْرَارِ لَكِنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّكْرَارِ أَيْضًا بأن الأمر نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، وَهِيَ كُلُّ مَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمِنْهَا تَرْكُهُ، وَهُوَ أَيِ النَّهْيُ يَمْنَعُ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ دَائِمًا فيتكرر الأمر في المأمور به إذ لو لم يتكرر وَاكْتُفِيَ بِفِعْلِهِ مَرَّةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَضْدَادِهِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ.
وَأُجِيبَ: بأن تكرر النهي الذي تضمنه الأمر فرع تَكَرُّرِ الْأَمْرُ فَإِثْبَاتُ تَكَرُّرِ الْأَمْرِ بِتَكَرُّرِ النَّهْيِ دَوْرٌ لِتَوَقُّفِ كُلٍّ مِنَ التَّكْرَارَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ إِذَا كَانَ معلقًا على شرط أو صفة، بأنه قد تَكَرَّرَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} 1.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَا عِلَّةٌ، فَيَتَكَرَّرُ الْمَأْمُورُ بِهِ بِتَكَرُّرِهَا اتِّفَاقًا، ضَرُورَةُ تَكَرُّرِ الْمَعْلُولِ بِتَكَرُّرِ علته، والنزاع إنما هو في دلالة الصيغة مجردة.
__________
* في "أ": احتج.
__________
1 جزء من الآية "6" من سورة المائدة.(1/257)
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": أَنَّ صِيغَةَ "افْعَلْ" لِطَلَبِ إِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْمَصْدَرِ فِي الْوُجُودِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَدُلَّ عَلَى التَّكْرَارِ، بَيَانُ الْأُولَى: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا مَا جَاءَ عَلَى التَّكْرَارِ كَمَا في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 1 وَمِنْهَا مَا جَاءَ عَلَى غَيْرِ التَّكْرَارِ، كَمَا فِي الْحَجِّ وَفِي حَقِّ الْعِبَادِ أَيْضًا قَدْ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ، فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ أَوْ بِشِرَاءِ اللَّحْمِ لَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ التَّكْرَارُ، وَلَوْ ذَمَّهُ السَّيِّدُ عَلَى تَرْكِ التَّكْرَارِ لِلْأُمَّةِ الْعُقَلَاءِ، وَلَوْ كَرَّرَ الْعَبْدُ الدخول حَسُنَ مِنَ السَّيِّدِ أَنْ يَلُومَهُ، وَيَقُولَ لَهُ إني أمرتك بالدخول، وقد دَخَلْتَ فَيَكْفِي ذَلِكَ وَمَا "أَمَرْتُكَ"* بِتَكْرَارِ الدُّخُولِ، وَقَدْ يُفِيدُ التَّكْرَارَ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: احْفَظْ دابتي فحفظها ثم أطلقها يُذَمُّ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الِاشْتِرَاكُ وَالْمَجَازُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِ اللَّفْظِ حقيقة في القدر الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا طَلَبُ إِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْمَصْدَرِ فِي الْوُجُوهِ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى التَّكْرَارِ لِأَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا بِهِ تَمْتَازُ إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى لَا بِالْوَضْعِ وَلَا بِالِاسْتِلْزَامِ, وَالْأَمْرُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ عَلَى التَّكْرَارِ، وَلَا عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ به عَلَى طَلَبِ الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِدْخَالُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ بِأَقَلَّ مِنَ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَصَارَتِ المرة الواحدة من "ضرورات"** الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، فَلَا جَرَمَ دَلَّ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ثُمَّ أَطَالَ الْكَلَامَ اسْتِدْلَالًا لِلْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ وَدَفْعًا لِحُجَجِ الْمَذَاهِبِ الْآخِرَةِ "بِمَا"*** قَدْ تَقَدَّمَ حَاصِلُ مَعْنَاهُ.
وَإِذَا عَرَفْتَ جَمِيعَ مَا حَرَّرْنَاهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَهْلُ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ.
هَذَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مُجَرَّدًا عَنِ التَّعْلِيقِ بِعِلَّةٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ شرط.
أما إذا كان مُعَلَّقًا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ فَإِنْ كَانَ معلقا عَلَى عِلَّةٍ فَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْعِلَّةِ وَإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِثُبُوتِهَا فَإِذَا تَكَرَّرَتْ تكرر، وليس التكرار مستفادًا ههنا من الأمر وإن كان مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ، فَقَدْ ذَهَبَ كثير ممن قال إِنَّ الْأَمْرَ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ إِلَى أَنَّهُ مع هذا التعليق يقتضي التكرار و"لكن"**** لَا مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ، بَلْ مِنْ حَيْثُ التعليق لها على ذلك
__________
* في "أ": وما أمرناك.
** في "أ": ضروريات.
*** في "أ": مما.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "43" من سورة البقرة.(1/258)
الشَّرْطِ، أَوِ الصِّفَةِ، إِنْ كَانَ فِي الشَّرْطِ أَوِ الصِّفَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ "أَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ"* "فَلَا تكرار"**، وإلا فَلَا تَكْرَارَ كَقَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: اشْتَرِ اللَّحْمَ إن دَخَلْتَ السُّوقَ، وَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أُعْطَ الرجل العالم درهمًا أو اعْطِ الرَّجُلَ الْفَقِيرَ دِرْهَمًا.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلصِّيغَةِ عَلَى التَّكْرَارِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ تُفِيدُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَصَلَتْ حَصَلَ التَّكْرَارُ وَإِلَّا فَلَا يَتِمُّ اسْتِدْلَالُ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَى التَّكْرَارِ بِصُورَةٍ خَاصَّةٍ اقْتَضَى الشَّرْعُ أَوِ اللُّغَةُ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَلَيْسَ النِّزَاعُ إِلَّا فِي مُجَرَّدِ دَلَالَةِ الصِّيغَةِ مَعَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ، فَالتَّطْوِيلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ بِذِكْرِ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَّرَهَا أهل الأصول لا يأتي بفائدة.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وإلا فلا.(1/259)
الفصل الخامس: هل يقتضي الأمر الفور أم لا
اخْتُلِفَ فِي الْأَمْرِ هَلْ يَقْتَضِي الْفَوْرَ أَمْ لا؟ فالقائلون "إنه"* يَقْتَضِي التَّكْرَارَ يَقُولُونَ: بِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ مِمَّا لَزِمَهُمْ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْأَوْقَاتِ بِالْفِعْلِ الْمَأْمُورِ عَلَى مَا مَرَّ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ فَيَقُولُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ يَفُوتُ الْأَدَاءُ بِفَوَاتِهِ، أَوْ لَا وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ لِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَفُوتُ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعُزِيَ إِلَى الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ.
قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ نَصٌّ، وَإِنَّمَا فُرُوعُهُمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِطَلَبِ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ طَلَبِ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ وَطَلَبِهِ عَلَى التَّرَاخِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ إِشْعَارٌ بِخُصُوصِ كَوْنِهِ فَوْرًا أَوْ تَرَاخِيًا. انتهى.
وقيل: إنه يقتضي الفور، فيحب الْإِتْيَانُ بِهِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ لِلْفِعْلِ المأمور به، وَعُزِيَ إِلَى الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْقَاضِي: الْأَمْرُ يُوجِبُ إِمَّا الْفَوْرَ أَوِ الْعَزْمَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ فِي ثَانِي الْحَالِ.
__________
* في "أ": بأنه.(1/259)
وَتَوَقَّفَ الْجُوَيْنِيُّ فِي أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ لِلْفَوْرِ أو التراخي قال: فَيَمْتَثِلُ الْمَأْمُورُ بِكُلٍّ مِنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي لِعَدَمِ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَعَ التَّوَقُّفِ فِي إِثْمِهِ بِالتَّرَاخِي لَا بِالْفَوْرِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ وُجُوبِ التَّرَاخِي، وَقِيلَ بِالْوَقْفِ فِي الِامْتِثَالِ، أَيْ لَا نَدْرِي هَلْ يَأْثَمُ إِنْ بَادَرَ أَوْ إِنْ أَخَّرَ لِاحْتِمَالِ وُجُوبِ التَّرَاخِي.
اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّكْرَارِ الْمُسْتَلْزِمِ لِاقْتِضَاءِ الْفَوْرِ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الذي قبل هذا، وقد تقدم1 دَفْعُهُ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ فِي غَيْرِ الْمُقَيَّدِ بِوَقْتٍ لِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ بِمَا تَقَدَّمَ2 أَيْضًا، مِنْ أَنَّ دَلَالَتَهُ لَا تَزِيدُ عَلَى مُجَرَّدِ الطلب بفور أو تراخي لا بحسب المادة، ولا بِحَسَبِ الصِّيغَةِ لِأَنَّ هَيْئَةَ الْأَمْرِ لَا دَلَالَةَ لَهَا إِلَّا عَلَى الطَّلَبِ فِي خُصُوصِ زَمَانٍ، وَخُصُوصِ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْمَادَّةِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهَا إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ فَلَزِمَ أَنَّ تَمَامَ مَدْلُولِ الصِّيغَةِ طَلَبُ الْفِعْلِ فَقَطْ، وَكَوْنُهَا دَالَّةً عَلَى الْفَوْرِ، أَوِ التَّرَاخِي خَارِجٌ عَنْ مَدْلُولِهِ، وإنما يُفْهَمُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهَا حقيقة للقدر المشترك بين القسمين دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ وَالْمَوْضُوعِ لِإِفَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ بين الْقِسْمَيْنِ لَا يَكُونُ فِيهِ إِشْعَارٌ بِخُصُوصِيَّةِ أَحَدِهِمَا عَلَى التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةَ مُغَايِرَةٌ لِمُسَمَّى اللفظ وغير لازمة "له"* فَثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِخُصُوصِ كَوْنِهِ فَوْرًا وَلَا بِخُصُوصِ كَوْنِهِ تَرَاخِيًا.
وَاحْتَجُّوا أيضًا بأنه يَحْسُنُ مِنَ السَّيِّدِ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: افْعَلِ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ فِي الْحَالِ، أَوْ غَدًا، وَلَوْ كَانَ كَوْنُهُ فَوْرًا دَاخِلًا فِي لَفْظِ "افْعَلْ" لَكَانَ الْأَوَّلُ تَكْرَارًا وَالثَّانِي نَقْضًا وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِنَا: تَفْعَلُ وَبَيْنَ قَوْلِنَا افْعَلْ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ خَبَرٌ3 وَالثَّانِي إِنْشَاءٌ4، لَكِنَّ قَوْلَنَا تَفْعَلُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّهُ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ، وَإِلَّا لَكَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ سِوَى كَوْنِ أَحَدِهِمَا خَبَرًا وَالثَّانِي إِنْشَاءً.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْفَوْرِ: بِأَنَّ كل مخبر بكلام خبري كزيد قَائِمٌ، وَمُنْشِئٌ كَبِعْتُ وَطَالِقٌ، يَقْصِدُ الْحَاضِرَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَنِ الْقَرَائِنِ حَتَّى يَكُونَ مَوْجُودًا لِلْبَيْعِ والطلاق بما ذكر، فكذا الأمر
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر صفحة: "256".
2 انظر صفحة: "258".
3 وهو كلام يحتمل الصدق والكذب لذاته، نحو: "المطر غزير". ا. هـ. جواهر البلاغة "53".
4 وهو كلام لا يحتمل صدقًا ولا كذبًا لذاته، نحو: "اغفر" ا. هـ. جواهر البلاغة "75".(1/260)
والجامع بينه وبين الخبر كَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَبَيْنَهُ وبين سائر الإنشاءات التي يقصد بها الحاضر كَوْنُ كُلٍّ مِنْهَا إِنْشَاءً.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَاسُوا الْأَمْرَ فِي إِفَادَتِهِ الْفَوْرَ عَلَى الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ لِلْجَامِعِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَعَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ غَيْرُ جَائِزٍ فَكَيْفَ مَعَ اخْتِلَافِهِ فَإِنَّهُ فِي الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ تُعَيِّنُ الزَّمَانُ الْحَاضِرُ "لِلظَّرْفِيَّةِ"* وَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ لأن الحاصل لا يُطْلَبُ.
وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا: بِأَنَّ النَّهْيَ يُفِيدُ الْفَوْرَ فَكَذَا الْأَمْرُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا كَوْنُهُمَا طَلَبًا.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ1 بُطْلَانُهُ.
وَأَيْضًا: الْفَوْرُ فِي النَّهْيِ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّرْكُ مُسْتَمِرًّا عَلَى مَا مَرَّ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ.
وَأَيْضًا: الْمَطْلُوبُ بِالنَّهْيِ وَهُوَ "الِامْتِثَالُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بالفور، فالفور يثبت بضرورة"** الامتثال "لا أنه"*** يُفِيدُ الْفَوْرَ، فَالْمُرَادُ أَنَّ الْفَوْرَ ضَرُورِيٌّ فِي الِامْتِثَالِ لِلنَّهْيِ.
وَاحْتَجُّوا ثَالِثًا: بِأَنَّ الْأَمْرَ نَهْيٌ عَنِ الْأَضْدَادِ، وَالنَّهْيُ لِلْفَوْرِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلْفَوْرِ.
وَأُجِيبَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّفْعِ بِمِثْلِ هَذَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا.
وَاحْتَجُّوا رَابِعًا: بِأَنَّ اللَّهَ ذَمَّ إِبْلِيسَ عَلَى عَدَمِ الْفَوْرِ بِقَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 2، حَيْثُ قَالَ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} 3 فدل على أنه للفور، وإلا لَمَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَضَيَّقْ عَلَيْهِ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ ذَلِكَ حِكَايَةُ حَالٍ فَلَعَلَّهُ كَانَ مَقْرُونًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ الضَّعْفِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُجَرَّدُ التَّجْوِيزِ مُسَوِّغًا لدفع الأدلة لم يَبْقَ دَلِيلٌ إِلَّا وَقِيلَ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِإِبْلِيسَ مُقَيَّدٌ بِوَقْتٍ، وَهُوَ وَقْتُ نَفْخِ الرُّوحِ فِي آدَمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين} 4 فَذَمُّ إِبْلِيسَ عَلَى تَرْكِهِ الِامْتِثَالَ لِلْأَمْرِ فِي ذلك الوقت المعين.
__________
* في "أ": للمظروفية.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ" لأنه.
__________
1 انظر صفحة: "260".
2 جزء من الآية "12" من صور الأعراف.
3 جزء من الآية "34" من سورة البقرة.
4 جزء من الآية "72" من صورة ص.(1/261)
واحتجوا خامسًا بقوله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم} 1 وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات} 2.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَوْ دَلَّتَا عَلَى وُجُوبِ الْفَوْرِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْمُسَارَعَةِ وَالِاسْتِبَاقِ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ دَلَالَةُ نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ. وَاحْتَجُّوا سَادِسًا: بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ لَجَازَ إِمَّا إِلَى بَدَلٍ أَوْ "إِلَى"* غَيْرِ بَدَلٍ، وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ بَاطِلٌ.
أَمَّا فَسَادُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ فَإِذَا أَتَى بِهَذَا الْبَدَلِ وَجَبَ أن يسقط عنه التكليف وبالاتفاق لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا فَسَادُ الْقِسْمِ الثَّانِي: فَذَلِكَ يمنع من كونه واجبا؛ لأنه يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ.
وَأُجِيبَ: بِاخْتِيَارِ الشق الأول، ويقوم البدل مقام الْمُبْدَلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا فِي كُلِّ الأوقات فلا يَلْزَمُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْبَدَلِ سُقُوطُ الْأَمْرِ بِالْمُبْدَلِ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْإِتْيَانَ بِتِلْكَ الْمَاهِيَّةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، فَهَذَا الْبَدَلُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِتَمَامِهِ فَوَجَبَ سُقُوطُ الْأَمْرِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يتم ما ذَكَرُوهُ مِنَ الْجَوَابِ بِتَقْدِيرِ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ لِلتَّكْرَارِ، وَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ3.
وَاحْتَجُّوا سَابِعًا: بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِلَى وقت معين أو إلى آخِرِ أَزْمِنَةِ الْإِمْكَانِ، وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ في غير المؤقت، والثاني تكليف ما لا يطلق لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ، وَالتَّكْلِيفُ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ مَجْهُولٍ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ.
وَأُجِيبَ بِالنَّقْضِ الْإِجْمَالِيِّ وَالنَّقْضِ التَّفْصِيلِيِّ، أَمَّا الْإِجْمَالِيُّ فَلِجَوَازِ التَّصْرِيحِ بِالْإِطْلَاقِ، بِأَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ افعل ولك التأجير فَإِنَّهُ جَائِزٌ إِجْمَاعًا، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الدَّلِيلِ جار فيه، وأما التفصيل، فَبِأَنَّهُ إِنَّمَا يُلْزِمُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ بإيجاب التأخير إلى آخر أزمنة الإمكان، أما جواز التأخير إلى وقت يعينه الْمُكَلَّفُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يطاق لتمكنه مِنَ الِامْتِثَالِ فِي أَيِّ وَقْتٍ أَرَادَ إِيقَاعَ الفعل فيه.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "133" من سورة آل عمران.
2 جزء من الآية "48" من سورة المائدة.
3 انظر صفحة "255".(1/262)
وَاحْتَجَّ الْقَاضِي لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ1 بِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِإِحْدَاهَا أَجْزَأَ، وَلَوْ أَخَلَّ بِهَا عَصَى، وَأَنَّ الْعَزْمَ يَقُومُ مَقَامَ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ عَاصِيًا إِلَّا بِتَرْكِهِمَا.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الطَّاعَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالْفِعْلِ بِخُصُوصِهِ، فَهُوَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ؛ فَوُجُوبُ الْعَزْمِ لَيْسَ مُقْتَضَاهُ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُوَيْنِيُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْوَقْفِ بِأَنَّ الطَّلَبَ مُتَحَقِّقٌ، وَالشَّكَّ فِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ فَوَجَبَ الْفَوْرُ لِيَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بيقين.
واعترض عَلَيْهِ: بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يُلَائِمُ مَا تقدم له مِنَ التَّوَقُّفِ فِي كَوْنِ الْأَمْرِ لِلْفَوْرِ وَأَيْضًا وُجُوبُ الْمُبَادَرَةِ يُنَافِي قَوْلَهُ الْمُتَقَدِّمَ، حَيْثُ قَالَ: أقطع بأن المكلف مهما أتى بالمأمور به فهو موقع بحكم الصيغة للمطلوب.
واعتراض عَلَيْهِ أَيْضًا: بِأَنَّ التَّأْخِيرَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، بَلِ التَّأْخِيرُ جَائِزٌ حَقًّا لِمَا تَقَدَّمَ2 مِنَ الْأَدِلَّةِ، فَالْحَقُّ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنه لِمُطْلَقِ الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِفَوْرٍ وَلَا تَرَاخٍ، وَلَا يُنَافِي هَذَا اقْتِضَاءُ بَعْضِ الْأَوَامِرِ للفور كقول القائل: اسقني أطعمني فإنما ذلك من حيث إن مِثْلَ هَذَا الطَّلَبِ يُرَادُ مِنْهُ الْفَوْرُ فَكَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى إِرَادَتِهِ بِهِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْأَوَامِرِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَى خُصُوصِ الْفَوْرِ أَوْ التراخي كما عرفت.
__________
1 وهي كفارة اليمين، فإن التخيير فيها ثابت بين الإطعام والكسوة المذكور والإعتاق المذكور في قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} المائدة "89".
2 انظر صفحة: "261".(1/263)
الْفَصْلُ السَّادِسُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ
ذهب الجمهور من أهل الأصول، من الحنفية والشافعية والمحدثين إلى أن الشيء المعين إذا أُمِرَ بِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِهِ نَهْيًا عن الشيء الْمُعَيَّنِ الْمُضَادِّ لَهُ سَوَاءً كَانَ الضِّدُّ وَاحِدًا كَمَا إِذَا أَمَرَهُ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الْكُفْرِ، وَإِذَا أَمَرَهُ بِالْحَرَكَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ السُّكُونِ، أَوْ كَانَ الضِّدُّ مُتَعَدِّدًا كَمَا إِذَا أَمَرَهُ بِالْقِيَامِ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: ليس نَهْيًا عَنِ الضِّدِّ وَلَا يَقْتَضِيهِ عَقْلًا، وَاخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَقِيلَ إِنَّهُ نُهِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الْأَضْدَادِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،(1/263)
وَالْمُحَدِّثِينَ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ نُهِيَ عَنِ الضد من عمم فقال: إنه نَهْيٌ عَنِ الضِّدِّ فِي الْأَمْرِ الْإِيجَابِيِّ وَالْأَمْرِ النَّدْبِيِّ، فَفِي الْأَوَّلِ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَفِي الثَّانِي نَهْيُ كَرَاهَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ الْإِيجَابِيِّ دُونَ النَّدْبِيِّ، وَمِنْهُمْ أَيْضًا مَنْ جَعَلَ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرًا بِضِدِّهِ كَمَا جُعِلَ الأمر بالشيء نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى كون الأمر بالشيء نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وَسَكَتَ عَنِ النَّهْيِ وَهَذَا مَعْزُوٌّ إِلَى الْأَشْعَرِيِّ وَمُتَابِعِيهِ. وَاتَّفَقَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده، والنهي عَنِ الشَّيْءِ لَيْسَ أَمْرًا بِضِدِّهِ؛ وَذَلِكَ لِنَفْيِهِمُ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ، وَمَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذَا النَّفْيِ أي نَفْيَ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنًا لِإِثْبَاتِ ضِدِّهِ أَوْ نَفْيِهِ اخْتَلَفُوا هَلْ يُوجِبُ كُلٌّ مِنَ الصِّيغَتَيْنِ حُكْمًا فِي الضِّدِّ أَمْ لَا فَأَبُو هَاشِمٍ وَمُتَابِعُوهُ قَالُوا: لَا يُوجِبُ شَيْءٌ مِنْهُمَا حُكْمًا فِي الضِّدِّ بَلِ الضِّدُّ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ قَالَا: الْأَمْرُ يُوجِبُ حُرْمَةَ الضِّدِّ، وَفِي عِبَارَةٍ أُخْرَى عَنْهُمْ يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَفِي عِبَارَةٍ ثَالِثَةٍ عَنْهُمْ يَقْتَضِيهَا.
وَقَالَ الرَّازِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ، وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ1 وَأَتْبَاعُهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْأَمْرُ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الضِّدِّ، وَلَوْ كَانَ إِيجَابًا وَالنَّهْيُ يقتضي كون الضد سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ تَحْرِيمًا.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ صَدْرُ الْإِسْلَامِ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَمْرِ الْفَوْرِ لَا التَّرَاخِي، وَفِي الضِّدِّ الْوُجُودِيِّ الْمُسْتَلْزِمِ لِلتُّرْكِ لَا فِي التَّرْكِ، قَالُوا: وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ بِأَنْ يُقَالَ لِلَفْظِ الْأَمْرِ نهي، وللفظ نهي، وللفظ النهي أَمْرٌ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْأَمْرَ مَوْضُوعٌ بِصِيغَةِ افْعَلْ والنهي موضوع بصيغة لا تفعل، وليس النزاع أيضًا "مفهومهما"* لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ، بَلِ النِّزَاعُ فِي أَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ عَيْنُ طَلَبِ تَرْكِ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ النَّهْيُ "وَفِي أَنَّ"** وطلب الترك الذي هو النهي عين طَلَبِ فِعْلِ ضِدِّهِ، الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ. "هَكَذَا"***حَرَّرُوا مَحَلَّ النِّزَاعِ.
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي كَوْنِ الأمر بالشيء نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَقَطْ، إِذَا قِيلَ بِأَنَّهُ لَيْسَ نهيا عَنْ ضِدِّهِ أَوْ بِهِ وَبِفِعْلِ الضِّدِّ إِذَا قيل بأنه نَهْيٌ عَنْ فِعْلِ الضِّدِّ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرًا ونهيًا وعصى بهما وهكذا في النهي.
__________
* في "أ": مفهومها.
** في "أ": وطلب الترك.
*** في "أ": وهكذا.
__________
1 هو طاهر الملقب بصدر الإسلام ابن برهان صاحب المحيط والذخيرة محمود بن تاج الدين الصدر السعيد أحمد بن برهان الدين الكبير عبد العزيز بن مازة. ا. هـ. الفوائد البهية "85" تاج التراجم "137".(1/264)
استدل القائلون بأن الأمر بالشيء نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الأمر بالشيء نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، لَكَانَ إِمَّا مِثْلَهُ أَوْ ضده أو خلافه، واللازم باطل بأقسامه، أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَلِأَنَّ كُلَّ مُتَغَايِرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي صِفَاتِ النَّفْسِ، أَوْ لَا، وَالْمَعْنَى بِصِفَاتِ النَّفْسِ: مَا لَا يَحْتَاجُ الْوَصْفُ بِهِ إِلَى تَعَقُّلِ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ كَالْإِنْسَانِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ، وَالْحَقِيقَةِ وَالْوُجُودِ بِخِلَافِ الْحُدُوثِ، وَالتَّحَيُّزِ فَإِنْ تُسَاوِيَا فِيهَا فَهُمَا مِثْلَانِ كَسَوَادَيْنِ، أَوْ بَيَاضَيْنِ وَإِلَّا فإما أن يتنافيا بأنفسهما، أي يَمْتَنِعَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ، وَاحِدٍ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتَيْهِمَا أَوْ لَا، فَإِنْ تَنَافَيَا بِأَنْفُسِهِمَا فَضِدَّانِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَإِلَّا فَخِلَافَانِ كَالسَّوَادِ وَالْحَلَاوَةِ.
وَأَمَّا انْتِفَاءُ اللَّازِمِ بِأَقْسَامِهِ، فَلِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا ضِدَّيْنِ أو مِثْلَيْنِ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَهُمَا يَجْتَمِعَانِ إِذْ جَوَازُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ وَالنَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ مَعًا وَوُقُوعُهُ ضَرُورِيٌّ، وَلَوْ كَانَا خِلَافَيْنِ لَجَازَ اجْتِمَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ ضِدِّ الْآخَرِ، وَمَعَ خِلَافِهِ لِأَنَّ الْخِلَافَيْنِ حُكْمُهُمَا كَذَلِكَ كَمَا يَجْتَمِعُ السَّوَادُ وَهُوَ خِلَافُ الْحَلَاوَةِ مَعَ الْحُمُوضَةِ وَمَعَ الرَّائِحَةِ، فَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ مَعَ ضِدِّ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِضِدِّهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَكُونُ الأمر "بالشيء"* حينئذ طَلَبَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي وَقْتٍ طُلِبَ فِيهِ عدمه.
وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ كَوْنِ لَازِمِ كُلِّ خِلَافَيْنِ ذَلِكَ، أَيْ جَوَازِ اجْتِمَاعِ كُلٍّ مَعَ ضِدِّ الْآخَرِ، لجواز تلازمهما "على ما هو التحقيق من عَدَمِ اشْتِرَاطِ"** جَوَازِ الِانْفِكَاكِ فِي الْمُتَغَايِرَيْنِ كَالْجَوْهَرِ1 مَعَ الْعَرَضِ وَالْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ فَلَا يُجَامِعُ أحد الخلافين على تقدير تلازمهما الضد للآخر، وَحِينَئِذٍ فَالنَّهْيُ إِذَا ادَّعَى كَوْنَ الْأَمْرِ إِيَّاهُ إذا كان طلب ترك ضد المأمور به: اخترنا كونهما خلافين، ولا يَجِبُ اجْتِمَاعُ النَّهْيِ اللَّازِمِ مِنَ الْأَمْرِ مَعَ ضِدِّ طَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا زَعَمُوا كَالْأَمْرِ بالصلاة والنهي عن الأكل فإنهما خلافان، ولا يلزم من كونهما خِلَافَيْنِ اجْتِمَاعُ الصَّلَاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَعَ إِبَاحَةِ الْأَكْلِ "الَّتِي هِيَ"*** ضِدُّ النَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا: بِأَنَّ فِعْلَ السُّكُونِ عَيْنُ تُرْك الحركة، وطلب فعل السكون طلب لترك الحركة، وطلب تركها هي النهي.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": لجواز تلازمهما الضد للآخر وحينئذ فالنهي جواز ... إلخ وهو خطأ. ولعل الصواب لجواز تلازمهما المبني على ما هو التحقيق من عدم اشتراط جواز ... إلخ.
*** في "أ": الذي هو.
__________
1 هو حقيقة الموجود ومقوماته، ويقابله العرض. ا. هـ. الصحاح مادة جهر.
2 وهو الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع، أي: محل يقوم به كاللون المحتاج في وجوده إلى جسم يحله ويقوم به. ا. هـ. التعريفات "192".(1/265)
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ النِّزَاعَ عَلَى هَذَا يَرْجِعُ لَفْظِيًّا فِي تَسْمِيَةِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ تَرْكًا لِضِدِّهِ، وفي تسميته طلبه نَهْيًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ فَلَمْ يثبت فيها ما يفيده ذلك.
ورد بمنع كون النزاع لَفْظِيًّا، بَلْ هُوَ فِي وَحْدَةِ الطَّلَبِ الْقَائِمِ بالنفس، بأن يكون طلب الفعل عين طَلَبِ تَرْكِ ضِدِّهِ.
وَأُجِيبَ ثَانِيًا: بِحُصُولِ الْقَطْعِ بِطَلَبِ الْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ خُطُورِ الضِّدِّ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَوْنِ فِعْلِ السُّكُونِ عين تَرْكِ الْحَرَكَةِ فِيمَا كَانَ أَحَدُهُمَا تَرْكَ الْآخَرِ لا في الأضداد الوجودية، فطلب ترك أحدهما لا يكون طَلَبًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ تَرْكُهُ فِي ضِمْنِ ضِدٍّ آخَرَ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بالشيء ليس نَهْيًا عَنِ "الضِّدِّ"* وَلَا نَقِيضِهِ. بِأَنَّهُ: لَوْ كان الأمر بالشيء عَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الضِّدِّ وَمُسْتَلْزِمًا لَهُ لَزِمَ تَعَقُّلُ الضِّدِّ، وَالْقَطْعُ حَاصِلٌ بِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ مَعَ عَدَمِ خُطُورِ الضِّدِّ عَلَى الْبَالِ "وَهَكَذَا الكلام في النهي"**.
وَاعْتُرِضَ "عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ"*** بِأَنَّ الَّذِي لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ مِنَ الْأَضْدَادِ إِنَّمَا هُوَ الْأَضْدَادُ الْجُزْئِيَّةُ، وَلَيْسَتْ مُرَادَّةً لِلْقَائِلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَالنَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، بَلِ الْمُرَادُ الضِّدُّ الْعَامُّ، وَهُوَ مَا لَا يُجَامِعُ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَتَعَقُّلُهُ لَازِمٌ لِلْأَمْرِ والنهي؛ إذ طلب الفعل موقوف على العلم بعدمه لانتفاء طلب الحاصل المعلوم حُصُولُهُ، وَالْعِلْمُ بِالْعَدَمِ مَلْزُومٌ لِلْعِلْمِ بِالضِّدِّ الْخَاصِّ، والضد الخاص ملزوم للضد العام، فلا بد مِنْ تَعَقُّلِ الضِّدِّ الْعَامِّ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ، وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الِاعْتِرَاضِ مِنْ عَدَمِ التَّوَارُدِ، فَإِنَّ شَرْطَ التَّوَارُدِ الَّذِي هو مدار الاعتراض كون مورد الإيجاب1 والسلب2 لِلْمُتَخَاصِمَيْنِ، بِحَيْثُ يَكُونُ قَوْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى طَرَفِ النَّقِيضِ لِقَوْلِ الْآخَرِ، وَالْمُسْتَدِلُّ إِنَّمَا نَفَى خُطُورَ الضِّدِّ الْخَاصِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَقَوْلُ الْمُعْتَرِضِ: إِنَّ الَّذِي لَا يَخْطُرُ هُوَ الْأَضْدَادُ الْجُزْئِيَّةُ مُوَافَقَةً مَعَهُ فِيهَا فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ، نَعَمْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ مُرَادَ الْمُعْتَرِضِ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ غَلَطِ الْمُسْتَدِلِّ مِنْ حيث إنه اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مُرَادُ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنِ الضِّدِّ، فَزَعَمَ أَنَّ مُرَادَهُ الْأَضْدَادُ الْجُزْئِيَّةُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الضِّدُّ الْعَامُّ، وَلَا يَصِحَّ نَفْيُ خُطُورِهِ بِالْبَالِ لِمَا تَقَدَّمَ فَحِينَئِذٍ تنعقد المناظرة3 بينهما ويتحقق التوارد
__________
* في "أ": ضده.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو الإثبات، وقضية موجبة أي: مثبتة نحو: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} .
2 هو النفي، وقضية سالبة، أي: منفية نحو: لا يخذل من قصد الحق.
3 هي النظر بالبصيرة من الجانيين في النسبة بين الشيئين إظهارًا للصواب. ا. هـ. التعريفات "298".(1/266)
وَأَيْضًا: هَذَا الِاعْتِرَاضُ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُعْتَرِضِ: إِنَّ مَا لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ هُوَ الْأَضْدَادُ الْجُزْئِيَّةُ، يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: إِنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الْفِعْلِ مَلْزُومُ الْعِلْمِ بِالضِّدِّ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْجُزْئِيَّ1 نَقِيضُ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ2 عِنْدَ اتِّحَادِ النِّسْبَةِ.
وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ تَوَقُّفِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ عَلَى الْعَمَلِ بِعَدَمِ التَّلَبُّسِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ فِي حَالِ الْأَمْرِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مُسْتَقْبَلٌ، فَلَا حَاجَةَ لِلطَّالِبِ إِلَى الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا فِي الْحَالِ من وجود الفعل أو عَدَمِهِ، وَلَوْ سُلِّمَ تَوَقًّفُ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ عَلَى "الفعل"* بِعَدَمِ التَّلَبُّسِ بِهِ فَالْكَفُّ عَنِ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ، فَقَدْ تَحَقَّقَ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ مِنَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ التَّلَبُّسِ بِهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ شُهُودَ الْكَفِّ "عَنِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ الْعِلْمَ بِفِعْلِ ضِدٍّ خَاصٍّ لِحُصُولِ شُهُودِ الْكَفِّ"** بِالسُّكُونِ عَنِ الْحَرَكَةِ اللَّازِمَةِ لِمُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ المأمور به، ولو سُلِّمَ لُزُومُ تَعَقُّلِ الضِّدِّ فِي الْجُمْلَةِ فَمُجَرَّدُ تعقله لَيْسَ مَلْزُومًا؛ لِتَعَلُّقِ الطَّلَبِ بِتَرْكِهِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الضِّدِّ لِجَوَازِ الِاكْتِفَاءِ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ بِمَنْعِ تَرْكِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَتَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ ضِدٌّ لَهُ، وَقَدْ تَعْقِلُ حيث منع عنه لكنه فَرَّقَ بَيْنَ الْمَنْعِ عَنِ التَّرْكِ وَبَيْنَ طَلَبِ الْكَفِّ عَنِ التَّرْكِ.
وَتَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْآمِرَ بِفِعْلٍ غير مجوز تركه، فقد يخطر بباله تركه من حيث إنه لا يجوز مَلْحُوظًا بِالتَّبَعِ لَا قَصْدًا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُقَالُ منع تَرْكَهُ، وَلَا يُقَالُ طَلَبَ الْكَفَّ عَنْ تَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَوَجُّهٍ قَصْدِيٍّ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ بأن أمر الإيجاب طلب فعل يُذَمُّ بِتَرْكِهِ فَاسْتَلْزَمَ النَّهْيَ عَنْ تَرْكِهِ وَعَمَّا يَحْصُلُ التَّرْكُ بِهِ، وَهُوَ الضِّدُّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ فَاسْتَلْزَمَ الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ.
وَاعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ: بِأَنَّهُ لَوْ تَمَّ لَزِمَ تَصَوُّرُ الْكَفِّ عَنِ الْكَفِّ عَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِكُلِّ أَمْرِ إِيجَابٍ، وَتَصَوُّرُ الْكَفِّ عَنِ الْكَفِّ لَازِمٌ لِطَلَبِ الْكَفِّ عَنِ الْكَفِّ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لِلْقَطْعِ بِطَلَبِ الْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ خُطُورِ الْكَفِّ عن الكف، ولو سلم تصور الكف عن الكف منع كَوْنُ الذَّمِّ بِالتُّرْكِ جُزْءَ الْأَمْرِ الْإِيجَابِيِّ أَوْ لازم مَفْهُومَهُ لُزُومًا عَقْلِيًّا، وَاسْتِلْزَامُ الْأَمْرِ الْإِيجَابِيِّ النَّهْيَ عن تركه فرع كون
__________
* في "أ": العلم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو كل مفهوم ذهني يتميز بأنه محدود الأبعاد ضمن فرد واحد. ا. هـ. ضوابط المعرفة "34" وانظر السلم المنورق شرح الدمنهوري "25".
2 هو كل مفهوم ذهني لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإن كان لا يصدق في الواقع إلا على فرد واحد فقط، أو لا يوجد منه في الواقع أي فرد. ا. هـ. ضوابط المعرفة "35". وانظر شرح السلم المنورق "25".(1/267)
الذم بِالتَّرْكِ جُزْءًا أَوْ لَازِمًا.
وَمَا قِيلَ: مِنْ أنه لو سُلِّمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ مُتَضَمِّنٌ لِلنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ لَزِمَ أَنْ لَا مُبَاحَ؛ إِذْ تَرَكَ المأمور به وَضِدِّهِ يَعُمُّ الْمُبَاحَاتِ، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْهَا وَالْمَنْهِيُّ مِنْهُ لَا يَكُونُ مُبَاحًا، فَغَيْرُ لَازِمٍ؛ إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الضِّدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الضِّدُّ الْمُفَوِّتُ لِلْأَمْرِ، وَلَيْسَ كُلُّ ضِدٍّ مُفَوِّتًا وَلَا كُلُّ مُقَدَّرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ ضِدًّا مُفَوِّتًا، كَخَطْوَةٍ فِي الصَّلَاةِ، وَابْتِلَاعِ رِيقِهِ، وَفَتَحَ عَيْنِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا أُمُورٌ مُغَايِرَةٌ بِالذَّاتِ لِلصَّلَاةِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُطْلَقُ "عَلَيْهَا"* الضِّدُّ لِلصَّلَاةِ لَكِنَّهَا لَا تُفَوِّتُ الصَّلَاةَ.
وَزَادَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ، كَمَا أن الأمر بشيء يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ دَلِيلًا آخَرَ فَقَالُوا: إن النهي طلب ترك فعل وَتَرْكُهُ بِفِعْلِ أَحَدِ أَضْدَادِهِ، فَوَجَبَ أَحَدُ أَضْدَادِهِ وَهُوَ الْأَمْرُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْصُلُ الْوَاجِبُ إلا به واجب.
ودفع بأنه يَلْزَمُ كَوْنُ كُلٍّ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُضَادَّةِ وَاجِبًا كالزنا، فإنه من حيث كونه تركًا لِلِّوَاطِ لِكَوْنِهِ ضِدًّا لَهُ يَكُونُ وَاجِبًا، وَيَكُونُ اللواط من حيث كونه تركًا للزنا واجبًا.
وَدُفِعَ أَيْضًا: بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يُوجَدُ مباح؛ لأن كل مباح تَرْكُ الْمُحَرِّمِ وَضِدٌّ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: غَايَةُ مَا يَلْزَمُ وُجُوبُ أَحَدِ الْمُبَاحَاتِ الْمُضَادَّةِ لَا كلها، فيقال: إِنَّ وُجُوبَ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِأَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُنَافِي الْإِبَاحَةَ كَمَا فِي خِصَالِ الكفارة.
وَدُفِعَ أَيْضًا: بِمَنْعِ وُجُوبِ مَا لَا يَتِمُّ الواجب أو المحرم إلا به.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ أَوِ الْمُحَرَّمُ إِلَّا بِهِ لَجَازَ تركه، وذلك يستلزم جواز تَرْكِ الْمَشْرُوطِ فِي الْوَاجِبِ، وَجَوَازَ فِعْلِ الْمَشْرُوطِ فِي الْمُحَرَّمِ بِدُونِ شَرْطِهِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ.
وَاسْتَدَلَّ الْمُخَصِّصُونَ لِأَمْرِ الْإِيجَابِ: بِأَنَّ اسْتِلْزَامَ الذَّمِّ لِلتَّرْكِ الْمُسْتَلْزِمِ "لِلنَّهْيِ"** إِنَّمَا هُوَ فِي أَمْرِ الْوُجُوبِ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُ: بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الضِّدِّ وَلَوْ إِيجَابًا، وَالنَّهْيَ يَقْتَضِي كون الضد سُنَّةً مُؤَكَّدَةً بِمِثْلِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ: بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان واحد وإلا فعن الكل، وَأَنَّ النَّهْيَ أَمْرٌ بِالضِّدِّ الْمُتَّحِدِ وَفِي الْمُتَعَدِّدِ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ ذِكْرَ الْكَرَاهَةِ فِي جَانِبِ الْأَمْرِ، وَذِكْرَ السُّنِّيَّةِ فِي جانب النهي يوجب الاختلاف بينهم.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": للنفي.(1/268)
وإذا عَرَفْتَ مَا حَرَّرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالرُّدُودِ "لَهَا"* فَاعْلَمْ: أَنَّ الْأَرْجَحَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، فَإِنَّ اللَّازِمَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ تَصَوُّرُ الْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ مَعًا كَافِيًا فِي الْجَزْمِ بِاللُّزُومِ، بِخِلَافِ اللَّازِمِ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْمَلْزُومِ هُنَاكَ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِاللَّازِمِ، وَهَكَذَا النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ بالمعنى الأعم.
__________
* في "أ": بها.(1/269)
الفصل السابع: الإتيان بالمأمور به
اعْلَمْ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ، الَّذِي أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ قَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ، هَلْ يُوجِبُ الْإِجْزَاءَ أم لا؟ وقد فُسِّرَ الْإِجْزَاءُ بِتَفْسِيرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الِامْتِثَالِ بِهِ.
وَالْآخَرُ: سُقُوطُ الْقَضَاءِ بِهِ، فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ "لَا شَكَّ"* أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وجهه يقتضي تحقق الإجزاء الْمُفَسَّرِ بِالِامْتِثَالِ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَعْنَى الامتثال وحقيقته ذلك، وإن فسر بسقوط القضاء فقد اختلف فيه: فقال جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ به على وجهه يَسْتَلْزِمُ سُقُوطَ الْقَضَاءِ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: لَا يَسْتَلْزِمُ.
اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالِاسْتِلْزَامِ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ سُقُوطَ الْقَضَاءِ لَمْ يُعْلَمِ امْتِثَالٌ أبدًا، واللازم منتفٍ فالملزوم مِثْلُهُ، أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَا يَسْقُطَ عَنْهُ بَلْ يجب عليه فِعْلُهُ مَرَّةً أُخْرَى قَضَاءً، وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ إِذَا فَعَلَهُ لَمْ يَسْقُطْ كَذَلِكَ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ اللَّازِمِ فَمَعْلُومٌ قَطْعًا وَاتِّفَاقًا.
وَأَيْضًا إِنَّ الْقَضَاءَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِدْرَاكِ مَا قَدْ فَاتَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْأَدَاءِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ على وجهه، ولم يَفُتْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَحَصَلَ الْمَطْلُوبُ بِتَمَامِهِ، فَلَوْ أَتَى بِهِ اسْتِدْرَاكًا لَكَانَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ، خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِ.
لَنَا وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أنه أتى بما أُمِرَ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ لأن
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/269)
الْمَسْأَلَةَ مَرْفُوضَةٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا يَلْزَمُ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ لَبَقِيَ إما متناولًا للمأتي أَوْ لِغَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يكون الأمر قد كان متناولًا لِغَيْرِهِ ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ مَأْتِيًّا بِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ الْمَأْتِيُّ بِهِ تَمَامَ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ هَذَا خَلْف.
والثاني: أنه لا يخلو إما يجب عليه فعله ثانيا، وثالثًا، أو ينقصى عَنْ عُهْدَتِهِ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَالْأَوَّلُ باطل لما بينا على أن الأمر لا يُفِيدُ التَّكْرَارَ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَطْلُوبُ لِأَنَّهُ لَا معنى للإجزاء إِلَّا كَوْنُهُ كَافِيًا فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الأمر.
والثالث: أنه لو لم يقتض الإجزاء لَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: افْعَلْ فإذا فعلت لا يجزئ عنك، لو قال ذلك أحد لَعُدَّ مُنَاقِضًا.
احْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِوُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ بِمُجَرَّدِهِ فَالْأَمْرُ يجب أن لا يدل على الإجزاء بمجرده.
والثاني: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعِبَادَاتِ يَجِبُ عَلَى الشَّارِعِ فيها إتمامها، والمضي فيها، ولا تجزئه عن المأمور به كَالْحُجَّةِ الْفَاسِدَةِ وَالصَّوْمِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَا يُفِيدُ إِلَّا كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِهِ، فَأَمَّا أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ يَكُونُ سَبَبًا لِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ فَذَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بمجرد الأمر.
والجواب عن الأول: أَنَّا إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ أن نقول: النهي يدل على "أنه"* مَنْعِهِ مِنْ فِعْلِهِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يقول: إنك لو أتيت به لَجَعَلْتَهُ سَبَبًا لِحُكْمٍ آخَرَ، أَمَّا الْأَمْرُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إِلَّا عَلَى اقْتِضَائِهِ الْمَأْمُورَ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِذَا أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بتمام المقتضى فوجب أن لا يَبْقَى الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِشَيْءٍ.
وَعَنِ الثاني: أن تلك الأفعال مُجْزِئَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْرِ الْوَارِدِ بِإِتْمَامِهَا، وَغَيْرُ مُجْزِئَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ اقْتَضَى إِيقَاعَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا عَلَى حد الوجه الذي وقع، بل عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَذَلِكَ الْوَجْهُ لَمْ يُوجَدْ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْإِتْيَانَ بِتَمَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ يوجب أن لا يَبْقَى الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ هُوَ المراد بالإجزاء.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/270)
الفصل الثامن: هل يجب القضاء بأمر جديد أم بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ
اخْتَلَفُوا هَلِ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ أَوْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ؟ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا صُورَتَانِ:
الصُّورَةُ الْأُولَى:
الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ، كَمَا إِذَا قَالَ افْعَلْ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَضَى، فَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ هَلْ يَقْتَضِي إِيقَاعَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِيمَا بَعْدُ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَقِيلَ لَا يَقْتَضِي لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ "افعل" هذا الفعل يوم الْجُمُعَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ "بِفِعْلِهِ بَعْدَهُ"* وَإِذَا لم يَتَنَاوَلْهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ.
الثَّانِي: أَنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ تَارَةً لَا تَسْتَلْزِمُ وجوب القضاء كما في صلاة الْجُمُعَةِ وَتَارَةً تَسْتَلْزِمُهُ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَتِمُّ الاستدلال، فلا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ إِلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ وَهُوَ الْحَقُّ، وإليه ذهب الجمهور، "جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ"** وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّ وجوب القضاء يستلزمه الأمر بِالْأَدَاءِ فِي الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ غَيْرُ داخل في الأمر بالفعل.
وَرُدَّ: بِأَنَّهُ دَاخِلٌ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْفِعْلِ المعين وَقْتُهُ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَجُوزَ التَّقْدِيمُ عَلَى ذلك الوقت الْمُعَيَّنِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:
الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: افْعَلْ، وَلَا يُقَيِّدُهُ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلِ الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فَهَلْ يَجِبُ فِعْلُهُ فِيمَا بَعْدُ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ فَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْفَوْرِ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْفِعْلَ مُطْلَقًا فَلَا يَخْرُجُ الْمُكَلَّفُ عَنِ الْعُهْدَةِ إِلَّا بِفِعْلِهِ، وَمَنْ قَالَ بِالْفَوْرِ قَالَ إِنَّهُ يَقْتَضِي الْفِعْلَ بَعْدَ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ.
وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِالْفَوْرِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ، بَلْ لَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ زَائِدٍ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: افْعَلْ هَلْ مَعْنَاهُ افْعَلْ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، فَإِنْ عَصَيْتَ فَفِي الثَّالِثِ، فَإِنْ عَصَيْتَ فَفِي الرَّابِعِ ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا، أَوْ مَعْنَاهُ فِي الثَّانِي مِنْ غَيْرِ بَيَانِ حَالِ الزَّمَانِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ اقْتَضَى الْأَمْرُ الْأَوَّلُ الْفِعْلَ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي لَمْ يَقْتَضِهِ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانٍ، فَلَا يَخْرُجُ الْمُكَلَّفُ عَنْ عَهِدَتْهُ إِلَّا بِفِعْلِهِ، وَهُوَ أَدَاءٌ وَإِنْ طَالَ التَّرَاخِي لِأَنَّ تَعْيِينَ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ لَهُ لَا دليل عليه، واقتضاؤه
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وذهب جماعة وهو الصواب.(1/271)
الفور لا يستلزم أَنَّهُ بَعْدَ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ قَضَاءً، بَلْ غَايَةُ مَا يَسْتَلْزِمُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ آثِمًا بِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُقَيَّدَ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَا يَقْتَضِي إِيقَاعَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ آخَرَ: بِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ لَكَانَ مقتضيًا لِلْقَضَاءِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ، أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فبينة؛ إذ الوجوب أخص مِنَ الِاقْتِضَاءِ، وَثُبُوتُ الْأَخَصِّ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْأَعَمِّ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ اللَّازِمِ فَلِأَنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ قَوْلَ القائل "صم يوم الخميس" لا يقتضي "صوم"* يوم الْجُمُعَةِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاقْتِضَاءِ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ أصلًا.
وَاسْتُدِلَّ لَهُمْ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ لَاقْتَضَاهُ، وَلَوِ اقْتَضَاهُ لَكَانَ أَدَاءً فَيَكُونَانِ سَوَاءً فَلَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ.
وَأُجِيبَ عَنْ "هَذَا"** بِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُقَيَّدَ بِوَقْتِ أَمْرٍ بِإِيقَاعِ الفعل في ذلك الوقت الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا فَاتَ قَبْلَ إِيقَاعِ الْفِعْلِ فِيهِ بَقِيَ الْوُجُوبُ مَعَ نَقْصٍ فِيهِ فَكَانَ إِيقَاعُهُ فيما بعد قضاء.
وَيُرَدُّ هَذَا بِمَنْعِ بَقَاءِ الْوُجُوبِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِمُ: الْوَقْتُ لِلْمَأْمُورِ بِهِ كَالْأَجَلِ لِلدِّينِ، فكما أن الدَّيْنَ لَا يَسْقُطُ بِتَرْكِ تَأْدِيَتِهِ فِي أَجَلِهِ الْمُعَيَّنِ، بَلْ يَجِبُ الْقَضَاءُ فِيمَا بَعْدَهُ، فَكَذَلِكَ المأمور به إذا لم يفعل في وقته الْمُعَيَّنِ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِالْإِجْمَاعِ على عدم سقوط الدين إذا انقضى وَلَمْ يَقْضِهِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّ الدِّينَ يجوز تقديمه على أجله الْمُعَيَّنِ بِالْإِجْمَاعِ "بِخِلَافِ"*** مَحَلِّ النِّزَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ لَكَانَ أَدَاءً لِأَنَّهُ أمر بفعله بعد ذلك الوقت المعين، فَكَانَ كَالْأَمْرِ بِفِعْلِهِ ابْتِدَاءً.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ بَعْدَ انْقِضَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَ، أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فَمَا قَالُوهُ "مُلْتَزِم"**** ولا يضرنا ولا ينفعهم.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": واستدلوا محل النزاع وقوله بخلاف ساقطة منها.
**** في "أ": يلزم.(1/272)
الفصل التاسع: هل الأمر بالأمر بالشيء أمر به أم لا؟
اختلفوا هل الأمر بالأمر بالشيء أمر بِذَلِكَ الشَّيْءِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الثَّانِي، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى الْأَوَّلِ.
احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ: بأنه لو كان الأمر بالأمر بالشيء أمر بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ: مر عَبْدَكَ بِبَيْعِ ثَوْبِي تَعَدِّيًا عَلَى صَاحِبِ الْعَبْدِ بِالتَّصَرُّفِ فِي عَبْدِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَكَانَ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ لَا تَبِعْهُ مناقضًا لقوله للسيد مر عَبْدَكَ بِبَيْعِ ثَوْبِي لِوُرُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ السُّبْكِيُّ: إِنَّ لُزُومَ التَّعَدِّي مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ هُوَ أَمْرُ عَبْدِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِ سَيِّدِهِ "وَهُنَا أَمْرُهُ بِأَمْرِ سَيِّدِهِ"* فَإِنَّ أَمْرَهُ لِلْعَبْدِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَمْرِ سَيِّدِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: مر عَبْدَكَ إِلَخْ، هَلْ هُوَ أَمْرٌ لِلْعَبْدِ بِبَيْعِ الثَّوْبِ أَمْ لَا، لَا فِي أَنَّ السَّيِّدَ إذا أمر عبده بموجب "مر عَبْدَكَ" هَلْ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ ذَلِكَ أَمْرٌ لِلْعَبْدِ من قبل القائل "مر عبدك" " بجعل"** السَّيِّدَ سَفِيرًا أَوْ وَكِيلًا "أَمْ لَا؟ "***.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُنَاقَضَةِ، فَقَدْ أُجِيبَ عنه: بأن الْمُرَادَ هُنَا مَنَعَهُ مِنَ الْبَيْعِ بَعْدَ طَلَبِهِ مِنْهُ، وَهُوَ نَسْخٌ لِطَلَبِهِ مِنْهُ.
وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَوَامِرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَأْمُرَنَا، فَإِنَّا مَأْمُورُونَ بِتِلْكَ الْأَوَامِرِ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْمَلِكِ لِوَزِيرِهِ بِأَنْ يَأَمْرَ فُلَانًا بكذا، فإن الملك هو الآمر بذلك الْمَأْمُورِ، لَا الْوَزِيرُ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ فُهِمَ ذَلِكَ فِي الصُّورَتَيْنِ مِنْ قَرِينَةِ أَنَّ الْمَأْمُورَ أَوَّلًا هو رسول وَمُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ وَأَنَّ الْوَزِيرَ هُوَ مَبْلَغٌ عَنِ الْمَلِكِ، لَا مِنْ لَفْظِ الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَأْمُورِ "الْأَوَّلِ"****، وَمَحَلُّ النِّزَاعِ هُوَ هَذَا.
أَمَّا لَوْ قَالَ: قُلْ لِفُلَانٍ افْعَلْ كَذَا، فَالْأَوَّلُ آمِرٌ وَالثَّانِي مُبَلِّغٌ بِلَا نِزَاعٍ، كَذَا نَقْل عَنِ السُّبْكِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ.
وَاخْتَارَ السَّعْدُ التَّسْوِيَةَ بينهما، والأول أَوْلَى، قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": فَلَوْ قَالَ زَيْدٌ لعمرو كل
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": يجعل.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في هامش "أ" قوله بالمأمور الأول كذا بالأصل وصوابه بالمأمور الثاني تدبر.(1/273)
مَا أَوْجَبَ عَلَيْكَ زَيْدٌ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْكَ، فَالْأَمْرُ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَكِنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ كُلُّ مَا أَوْجَبَ عَلَيْكَ فُلَانًا فَهُوَ واجب، وأما لَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و"مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ" 1 فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الصَّبِيِّ. انْتَهَى. وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي السُّنَنِ.
وَمِمَّا يَصْلُحُ مِثَالًا لِمَحَلِّ النِّزَاعِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر وقد طلق ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ "مَرّه فليراجعها" 2.
وقيل: إنه ليس مما يَصْلُحُ مِثَالًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِالْأَمْرِ مِنَ الشَّارِعِ بِالْمُرَاجَعَةِ، حَيْثُ قَالَ: "فَلْيُرَاجِعْهَا" بِلَامِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِثَالًا لَوْ قَالَ: مُرْهُ بِأَنْ يُرَاجِعَهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ قُلْ لِفُلَانٍ افْعَلْ كَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الخلاف فيه3.
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 404. وأبو داود في الصلاة باب متى يؤمر الغلام بالصلاة "495". والترمذي في السنن في كتاب الصلاة باب متى يؤمر الصبي بالصلاة "299". وقال: حسن صحيح. والدارقطني في سننه في الصلاة بأب الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها "1/ 230". وذكره البغوي في المصابيح "400".
2 أخرجه مسلم في الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وأنه لو خالف وقع الطلاق "1471". والبخاري بلفظ: "ليراجعها" كتاب التفسير، باب سورة الطلاق "4908" وابن ماجه في الطلاق، باب الحامل كيف تطلق "2023". وأحمد في مسنده "2/ 26". والبيهقي في السنن، كتاب الطلاق، باب ما جاء في طلاق السنة وطلاق البدعة "7/ 325". وأبو داود، في الطلاق، باب في طلاق السنة "2181". والنسائي، كتاب الطلاق، باب ما يفعل إذا طلق تطليقه وهي حائض "3397" "6/ 141". وأبو يعلى في مسنده "5440".
3 انظر صفحة: "273".(1/274)
الفصل العاشر: الأمر بالماهية ومقتضاه
اختلفوا أهل الأمر بالماهية الكلية، يقتضي الأمر بها، أو بشيء من جزئياتها اختلفوا أَمْ هُوَ أَمْرٌ بِفِعْلٍ مُطْلَقٍ تَصْدُقُ عَلَيْهِ الماهية ويخبر به عنها صِدْقُ الْكُلِّيِّ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الثَّانِي.
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: بِالْأَوَّلِ.
احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ: بِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ يَسْتَحِيلُ وجودها في الأعيان فلا تُطْلَبُ، وَإِلَّا امْتَنَعَ الِامْتِثَالُ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.(1/274)
ووجه ذلك: أنها لو وُجِدَتْ فِي الْأَعْيَانِ لَزِمَ تَعُدُّدُهَا كُلِّيَّةً فِي ضمن الجزئية، فمن حيث إنها مَوْجُودَةٌ تَكُونُ شَخْصِيَّةً جُزْئِيَّةً، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا الماهية الكلية تكون كلية وأنه مُحَالٌ، فَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: "بِعْ هَذَا الثَّوْبَ" فإن هذا لا يكون أمر بِبَيْعِهِ بِالْغَبَنِ، وَلَا بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ، وَلَا بِالثَّمَنِ الْمُسَاوِي؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مُشْتَرِكَةٌ فِي مُسَمَّى البيع، وَتَمْيِيزُهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِخُصُوصِ كَوْنِهِ بِالْغَبَنِ أَوْ بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ أَوِ الْمُسَاوِي، وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ، وَغَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لَهُ، فَالْأَمْرُ بِالْبَيْعِ الَّذِي هُوَ جِهَةُ الِاشْتِرَاكِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِمَا بِهِ يَمْتَازُ كُلُّ واحد من الأنواع عن الآخر لا بِالذَّاتِ وَلَا بِالِاسْتِلْزَامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَمْرُ بالجنس لا يكون ألبتة أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، لَكِنْ إِذَا دَلَّتِ القرينة على إرادة بعض الأنواع حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ بُرْهَانِيَّةٌ يَنْحَلُّ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْمَقَامَ وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَرَامُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ عِلْمِ الْمَعْقُولِ مِنْ أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ ثَلَاثٌ:
الْأَوَّلُ:
الْمَاهِيَّةُ1 لَا بِشَرْطِ شَيْءٍ مِنَ الْقُيُودِ، وَلَا بِشَرْطِ عَدَمِهَا، وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْمَنْطِقِ الْمَاهِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ، وَيُسَمُّونَهَا الْكُلِّيَّ الطَّبِيعِيَّ، وَالْخِلَافُ فِي وُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ مَعْرُوفٌ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ وُجُودَ الطَّبِيعِيِّ بِمَعْنَى وُجُودِ أَشْخَاصِهِ.
وَالثَّانِيَةُ:
الْمَاهِيَّةُ بِشَرْطِ لَا شَيْءَ، أَيْ: بِشَرْطِ خُلُوِّهَا عَنِ الْقُيُودِ، وَيُسَمُّونَهَا الْمَاهِيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهَا لَا تُوجَدُ فِي الْخَارِجِ.
وَالثَّالِثَةُ:
الْمَاهِيَّةُ بِشَرْطِ شَيْءٍ مِنَ الْقُيُودِ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ.
وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ الْمَاهِيَّةَ قَدْ تُؤْخَذُ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَعَ بَعْضِ الْعَوَارِضِ، كَالْإِنْسَانِ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ، فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْمُتَعَدِّدِ وَبِالْعَكْسِ، وَكَالْمُقَيَّدِ بِهَذَا الشَّخْصِ، فلا يَصْدُقُ عَلَى فَرْدٍ آخَرَ، وَتُسَمَّى الْمَاهِيَّةَ الْمَخْلُوطَةَ، وَالْمَاهِيَّةَ بِشَرْطِ شَيْءٍ، وَلَا ارْتِيَابَ فِي وُجُودِهَا فِي الْأَعْيَانِ، وَقَدْ تُؤْخَذُ بِشَرْطِ التَّجَرُّدِ عَنْ جَمِيعِ الْعَوَارِضِ، وَتُسَمَّى الْمُجَرَّدَةَ، وَالْمَاهِيَّةُ بِشَرْطِ لَا شَيْءَ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا لَا تُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ، بَلْ فِي الْأَذْهَانِ، وَقَدْ تُؤْخَذُ لَا بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً أَوْ مُجَرَّدَةً، بَلْ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يُقَارِنَهَا شَيْءٌ مِنَ العوارض، وأن لا يُقَارِنَهَا، وَتَكُونُ مَقُولًا عَلَى الْمَجْمُوعِ حَالَ الْمُقَارَنَةِ، وَهِيَ الْكُلِّيُّ الطَّبِيعِيُّ، وَالْمَاهِيَّةُ لَا بِشَرْطِ شَيْءٍ، وَالْحَقُّ وُجُودُهَا فِي الْأَعْيَانِ، لَكِنْ لَا مِنْ حيث كَوْنِهَا جُزْءًا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الْمُحَقَّقَةِ، عَلَى مَا هُوَ رَأْيُ الْأَكْثَرِينَ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يوجد شيء تصدق هي عليه، وتكون عينه بحسب الخارج، وإن تغايرا بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ، وَبِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَاهُ يَظْهَرُ لَكَ بُطْلَانُ قَوْلِ: مَنْ قَالَ إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِهَا، وَلَمْ يَأْتُوا بِدَلِيلٍ يدل على ذلك دلالة مقبولة.
__________
1 تطلق غالبًا على الأمر المتعقل، مثل المتعقل من الإنسان، وهو الحيوان الناطق مع قطع النظر عن الوجود الخارجي. ا. هـ. التعريفات "250".(1/275)
الفصل الحادي عشر: تعاقب الأمرين المتماثلين والمتغايرين
اختلفوا إذا تعاقب أمران بِمُتَمَاثِلَيْنَ، هَلْ يَكُونُ الثَّانِي لِلتَّأْكِيدِ، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ الْفِعْلَ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ لِلتَّأْسِيسِ1، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ الْفِعْلَ مُكَرَّرًا، وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: صِلْ رَكْعَتَيْنِ، صَلِّ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ الْجُبَائِيُّ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنه لِلتَّأْكِيدِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ: إِلَى أَنَّهُ لِلتَّأْسِيسِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: بِالْوَقْفِ فِي كَوْنِهِ تَأْسِيسًا أو تأكيدا وبه قال أبو الحسن البصري.
واحتج الْقَائِلُونَ بِالتَّأْكِيدِ: بِأَنَّ التَّكْرِيرَ قَدْ كَثُرَ فِي التَّأْكِيدِ، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ وإلحاق الأقل به أَوْلَى، وَبِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ مِنَ التَّكْلِيفِ الْمُتَكَرِّرِ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ.
وَيُجَابُ بِمَنْعِ كَوْنِ التَّأْكِيدِ أَكْثَرَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ دَلَالَةَ كُلِّ لَفْظٍ عَلَى مَدْلُولٍ مُسْتَقِلٍّ هُوَ "الأصل والظاهر"*، الْأَصْلُ الظَّاهِرُ وَبِمَنْعِ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَصْلِيَّةِ الْبَرَاءَةِ أَوْ ظُهُورِهَا، فَإِنَّ تَكْرَارَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى مَدْلُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا وَظَاهِرًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ كُلِّ كَلَامٍ وَظَاهِرَهُ الْإِفَادَةُ لَا الْإِعَادَةُ.
وَأَيْضًا التَّأْسِيسُ "أَكْثَرِيٌّ"** وَالتَّأْكِيدُ "أَقَلِّيٌّ"*** وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ يَفْهَمُ لُغَةَ الْعَرَبِ.
وَإِذَا تقرر لك رجحان هذا المذهب عَرَفْتَ مِنْهُ بُطْلَانَ مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ: مِنْ أَنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ التَّرْجِيحُ فِي التَّأْسِيسِ وَالتَّأْكِيدِ.
أَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنِ الْفِعْلَانِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، صُمْ يَوْمًا، وَهَكَذَا إِذَا كَانَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ قامت القرينة الدلالة عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّأْكِيدُ نَحْوُ صُمِ الْيَوْمَ صم اليوم، ونحو صلِ ركعتين صلِ الركعتين، فَإِنَّ التَّقَيُّدَ بِالْيَوْمِ، وَتَعْرِيفَ الثَّانِي يُفِيدَانِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَهَكَذَا إِذَا اقْتَضَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الْمُرَادَ التَّأْكِيدُ نَحْوَ اسْقِنِي مَاءً،
__________
* في "أ": الأصل الظاهر.
** في "أ": أكثر.
*** في "أ": أقل.
__________
1 عبارة عن إفادة معنى آخر لم يكن أصلًا قبله، فالتأسيس خير من التأكيد لأن حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة.(1/276)
اسْقِنِي مَاءً، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ التَّأْكِيدُ بِحَرْفِ العطف نحو: صلِ ركعتين وصلِ الركعتين؛ لِأَنَّ التَّكْرِيرَ الْمُفِيدَ لِلتَّأْكِيدِ لَمْ يُعْهَدْ إِيرَادُهُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا والحمل على الأكثر أَوْلَى.
أَمَّا لَوْ كَانَ الثَّانِي مَعَ الْعِطْفِ معرفًا فالظاهر التأكيد نحو صلِ ركعتين وَصَلِّ الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ اللَّامِ عَلَى إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى إرادة التأسيس.(1/277)
الفصل الثاني: في النواهي
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى النَّهْيِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا
...
الْبَابُ الثَّانِي: فِي النَّوَاهِي
وَفِيهِ مَبَاحِثُ ثَلَاثَةٌ:
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى النَّهْيِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا
اعْلَمْ: أَنَّ النَّهْيَ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الْمَنْعُ، يقال: نهاه عن كذا أي مَنَعَهُ عَنْهُ، وَمِنْهُ سُمِّي الْعَقْلُ نُهْيَةً؛ لِأَنَّهُ يَنْهَى صَاحِبَهُ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا يُخَالِفُ الصَّوَابَ وَيَمْنَعُهُ عَنْهُ، وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ الْقَوْلُ الْإِنْشَائِيُّ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ كَفٍّ عَنْ فِعْلٍ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ، فَخَرَجَ الْأَمْرُ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ فَعْلٍ غَيْرُ كَفٍّ، وَخَرَجَ الِالْتِمَاسُ وَالدُّعَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا اسْتِعْلَاءَ فِيهِمَا.
وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ قَوْلَ الْقَائِلِ: "كُفَّ عَنْ كَذَا"*.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ "مُلْتَزِمٌ لِكَوْنِهِ"** مِنْ جُمْلَةِ أَفْرَادِ النَّهْيِ، فَلَا يُرِدْ النَّقْضُ بِهِ، وَلِهَذَا قِيلَ إِنَّ اخْتِلَافَهُمَا بِاخْتِلَافِ الحيثيات والاعتبارات، فقولنا: كف عَنِ الزِّنَا بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ إِلَى الْكَفِّ أَمْرٌ وَإِلَى الزِّنَا نَهْيٌ.
وَأَوْضَحُ صِيَغِ النَّهْيِ: "لَا تَفْعَلْ كَذَا" وَنَظَائِرُهَا، وَيَلْحَقُ بِهَا اسْمُ لَا تفعل من أسماء الأفعال1، "كمه" فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا تَفْعَلْ، وَ"صَهٍ" فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا تَتَكَلَّمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ2 فِي حَدِّ الأمر ما إذا رجعت إليه عرفت ما يرد فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْكَلَامِ اعْتِرَاضًا وَدَفْعًا
__________
* في "أ": كف بقيد عن كذا.
** في "أ": يلتزم بكونه.
__________
1 وهو ما كان بمعنى الأمر أو الماضي، مثل: رويدًا زيدًا، أي: أمهله. وهيهات الأمر، أي: بعد ا. هـ. التعريفات "40".
2 انظر صفحة: "243".(1/278)
المبحث الثاني: النهي الحقيقي ومعناه
اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى النَّهْيِ الْحَقِيقِيِّ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ هُوَ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ الحق، وَيَرِدُ فِيمَا عَدَاهُ مَجَازًا كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلَ" 1 فَإِنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} 2 فَإِنَّهُ لِلدُّعَاءِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاء} 3 فَإِنَّهُ لِلْإِرْشَادِ، وَكَمَا فِي قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الَّذِي لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ: لَا تَمْتَثِلْ أَمْرِي؟! فَإِنَّهُ لِلتَّهْدِيدِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْك} 4 فَإِنَّهُ لِلتَّحْقِيرِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا} 5 فَإِنَّهُ لِبَيَانِ الْعَاقِبَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} 6 فَإِنَّهُ لِلتَّأْيِيسِ، وَكَمَا فِي قَوْلِكَ لِمَنْ يُسَاوِيكَ: "لَا تَفْعَلْ" فَإِنَّهُ لِلِالْتِمَاسِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ يَرُدُّ مَجَازًا لِمَا وَرَدَ لَهُ الْأَمْرُ كَمَا تَقَدَّمَ7، وَلَا يُخَالِفُ الْأَمْرَ إِلَّا فِي كَوْنِهِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، وَفِي كَوْنِهِ لِلْفَوْرِ فَيَجِبُ تَرْكُ الْفِعْلِ فِي الْحَالِ.
قِيلَ: وَيُخَالِفُ الْأَمْرَ أَيْضًا فِي كَوْنِ تَقَدُّمِ الْوُجُوبِ قَرِينَةً دالة على أنه للإباحة، ونقل الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الإجماع على أنه لا يكون تَقَدُّمُ الْوُجُوبِ قَرِينَةً لِلْإِبَاحَةِ، وَتَوَقَّفَ الْجُوَيْنِيُّ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ، وَمُجَرَّدُ هَذَا التَّوَقُّفِ لَا يَثْبُتُ له الطعن فِي نَقْلِ الْأُسْتَاذِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ: بِأَنَّ الْعَقْلَ يَفْهَمُ الْحَتْمَ مِنَ الصِّيغَةِ الْمُجَرَّدَةِ "عَنِ الْقَرَائِنِ"* وَذَلِكَ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ.
__________
* في "أ": القرينة.
__________
1 أخرجه الترمذي بنحوه من حديث أبي هريرة، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم وأعطان الإبل "348" وقال: حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب الصلاة في أعطان الإبل وقراح الغنم "768" وفي الزوائد: إسناده صحيح، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه "895". وابن حبان في صحيحه "1384". والبيهقي، كتاب الصلاة، باب كراهة الصلاة في أعطان الإبل "2/ 449". قال الترمذي: وفي الباب عن جابر بن سمرة والبراء وسبرة بن معبد وعبد الله بن مغفل وابن عمر وأنس.
2 جزء من الآية "8" من سورة آل عمران.
3 جزء من الآية "101" من سورة المائدة.
4 جزء من الآية "88" من سورة النجم.
5 جزء من الآية "42" من سورة إبراهيم.
6 جزء من الآية "7" من سورة التحريم.
7 انظر صفحة: "247".(1/279)
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِاسْتِدْلَالِ السَّلَفِ بِصِيغَةِ النَّهْيِ الْمُجَرَّدَةِ "عَلَى"* التَّحْرِيمِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْكَرَاهَةِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَرْجُوحِيَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.
وَأُجِيبَ بِمَنْعِ ذَلِكَ بَلِ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ هُوَ التَّحْرِيمُ.
وَقِيلَ: مُشْتَرَكٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِلَّا كَانَ جَعْلُهُ لِأَحَدِهِمَا تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَكُونُ لِلتَّحْرِيمِ إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ قَطْعِيًّا، وَيَكُونُ لِلْكَرَاهَةِ إِذَا كان الدليل ظنيًّا.
وَرُدَّ: بِأَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي طَلَبِ التَّرْكِ، وَهَذَا طَلَبٌ قَدْ يُسْتَفَادُ بِقَطْعِيٍّ فَيَكُونُ قطعيًّا، وقد يستفاد بظني فيكون ظنيًّا.
__________
* في "أ": عن.(1/280)
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ لِلْفَسَادِ
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِالْفِعْلِ، بِأَنَّ طَلَبَ الْكَفِّ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ لِعَيْنِهِ، أَيْ لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِجُزْئِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَنْشَأُ النَّهْيِ قُبْحًا ذَاتِيًّا كَانَ النَّهْيُ مقتضيًا لِلْفَسَادِ الْمُرَادِفِ لِلْبُطْلَانِ، سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ حِسِّيًا كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ شَرْعِيًّا كَالصَّلَاةِ والصوم، والمراد عندهم أنه يقتضيه شَرْعًا لَا لُغَةً.
وَقِيلَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ لغة كما يقتضيه شَرْعًا.
وَقِيلَ: إِنَّ النَّهْيَ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ إِلَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَقَطْ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ، وَبِهِ قال أبو الحسين البصري، والغزالي، والرازي، وابن الملاحمي1 وَالرَّصَّاصُ2.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى اقْتِضَائِهِ لِلْفَسَادِ شرعا: بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ لَمْ يَزَالُوا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الْفَسَادِ فِي أَبْوَابِ الرِّبَوِيَّاتِ، وَالْأَنْكِحَةِ وَالْبُيُوعِ، وَغَيْرِهَا.
وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يُفْسِدْ لَزِمَ مِنْ نَفْيِهِ حِكْمَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا النَّهْيُ، وَمِنْ ثُبُوتِهِ حِكْمَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا الصِّحَّةُ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَتَيْنِ إِنْ كَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ تَعَارَضَتَا وتساقطتا، فكان فعله كلا
__________
1 لم نجد ترجمته فيما بين أيدينا من الكتب.
2 هو أحمد بن حسن بن الرصاص، الفقيه، الحنفي، النحوي، المتوفى سنة تسعين وسبعمائة هجرية بدمشق، من آثاره: "شرح الألفية في النحو". ا. هـ. معجم المؤلفين "1/ 191".(1/280)
فِعْلٍ، "فَامْتَنَعَ"* النَّهْيُ عَنْهُ لِخُلُوِّهِ عَنِ الْحِكْمَةِ. وَإِنْ كَانَتْ حِكْمَةُ النَّهْيِ مَرْجُوحَةً فَأَوْلَى؛ لِفَوَاتِ الزَّائِدِ مِنْ مَصْلَحَةِ الصِّحَّةِ، وَهِيَ مَصْلَحَةٌ خَالِصَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ رَاجِحَةً امْتَنَعَتِ الصِّحَّةُ، لِخُلُوِّهِ عَنِ المصلحة أيضًا، بل لفوت قَدْرِ الرُّجْحَانِ مِنْ مَصْلَحَةِ النَّهْيِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ اقْتِضَائِهِ لِلْفَسَادِ لُغَةً، بِأَنَّ فَسَادَ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ سَلْبِ أَحْكَامِهِ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ النَّهْيِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةً قَطْعًا.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِيهِ لُغَةً كَمَا يَقْتَضِيهِ شرعا، بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يَزَالُوا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الْفَسَادِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى الْفَسَادِ لِدَلَالَةِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ، لَا لِدَلَالَةِ اللُّغَةِ.
واستدلوا ثَانِيًا: بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ لِمَا تَقَدَّمَ1، وَالنَّهْيُ نَقِيضُهُ، وَالنَّقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَيَكُونُ النَّهْيُ مقتضيًا لِلْفَسَادِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ شرعا، لَا لُغَةً فَاقْتِضَاءُ الْأَمْرِ لِلصِّحَّةِ لُغَةً مَمْنُوعٌ، كَمَا أَنَّ اقْتِضَاءَ النَّهْيِ لِلْفَسَادِ لُغَةً مَمْنُوعٌ.
واستدال الْقَائِلُونَ: بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ إِلَّا فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ: بِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا لو صَحَّتْ لَكَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا نَدْبًا؛ لِعُمُومِ أَدِلَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْعِبَادَاتِ فَيَجْتَمِعُ النَّقِيضَانِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِطَلَبِ الفعل والنهي لطلب التَّرْكِ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَأَمَّا عَدَمُ اقْتِضَائِهِ لِلْفَسَادِ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ فَلِأَنَّهُ لَوِ اقْتَضَاهُ فِي غيرها لكان غُسْلُ النَّجَاسَةِ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ، وَالذَّبْحُ بِسِكِّينٍ مَغْصُوبَةٍ، وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ، وَالْبَيْعُ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ، وَالْوَطْءُ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ غَيْرَ مُسْتَتْبَعَةٍ لِآثَارِهَا مِنْ زوال النجاسة، وَحِلِّ الذَّبِيحَةِ، وَأَحْكَامِ الطَّلَاقِ، وَالْمِلْكِ، وَأَحْكَامِ الْوَطْءِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ.
وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ كَوْنِ النَّهْيِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ لِذَاتِ الشَّيْءِ أَوْ لجزئه، بل لأمر خارج، ولو سُلِّمَ لَكَانَ عَدَمُ اقْتِضَائِهَا لِلْفَسَادِ لِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، فلا يرد النقض بِهَا.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا، لَا فِي الْعِبَادَاتِ وَلَا فِي الْمُعَامَلَاتِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ دَلَّ عَلَى الْفَسَادِ لغة أو شَرْعًا، لَنَاقَضَ التَّصْرِيحَ بِالصِّحَّةِ لُغَةً أَوْ شرعا وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا بُطْلَانُ اللازم: فلأن
__________
* في "أ": وامتنع.
__________
1 انظر صفحة: "269".(1/281)
الشَّارِعَ لَوْ قَالَ نَهَيْتُكَ عَنِ الرِّبَا نَهْيَ تحريم ولو فَعَلْتَ لَكَانَ الْبَيْعُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُوجِبًا لِلْمَلِكِ لَصَحَّ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ، لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا.
وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ؛ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِخِلَافِ النَّهْيِ قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ لَهُ عَنِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ نَدَّعِ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَهُ الْفَسَادُ فَقَطْ.
وَذَهَبَتِ الحنفية إلى: أن ما لا تتوقف مَعْرِفِتُهُ عَلَى الشَّرْعِ كَالزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ لِعَيْنِهِ، وَيَقْتَضِي الْفَسَادَ إِلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِوَصْفِهِ، أَوِ الْمُجَاوِرِ لَهُ، فَيَكُونُ النَّهْيُ حِينَئِذٍ عَنْهُ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ كَالنَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِ الْحَائِضِ، وَأَمَّا الْفِعْلُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مَا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى الشَّرْعِ فَالنَّهْيُ عَنْهُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَلَمْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مَقْبُولٍ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ كُلَّ نَهْيٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَفَسَادَهُ الْمُرَادِفَ لِلْبُطْلَانِ، اقْتِضَاءً شَرْعِيًّا، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ اقْتِضَائِهِ لِذَلِكَ فَيَكُونُ هَذَا الدَّلِيلُ قَرِينَةً صَارِفَةً لَهُ مِنْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ إِلَى مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ.
وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى هَذَا ما ورد في الحديث الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل أمر ليس عليه أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" 1 وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ، وَمَا كَانَ رَدًّا أَيْ: مَرْدُودًا كَانَ بَاطِلًا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ مَعَ اخْتِلَافِ أَعْصَارِهِمْ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالنَّوَاهِي عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ النَّهْيِ مقتضيًا للفساد، وصح عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إذا أمرتكم بأمر فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِنْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ" 2 فَأَفَادَ وُجُوبَ اجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَدَعْ عَنْكَ مَا "رَاوَغُوا3"*به من الرأي.
__________
* في "أ": روغوا.
__________
أخرجه البخاري من حديث عائشة، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود "2697". ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثان الأمور "1718". وأبو داود، كتاب السنة، وباب في لزوم السنة "4606". والبيهقي، كتاب آداب القاضي "10/ 119". وابن حبان في صحيحه "26".
2 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر "1337". والنسائي في السنن، كتاب مناسك الحج، باب وجوب الحج "2618". والترمذي في السنن، كتاب العلم، باب في الانتهاء عما نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "2679". وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في السنن، المقدمة "2". والبيهقي في السنن، كتاب الحج، باب وجوب الحج مرة واحدة "4/ 326". وابن حبان في صحيحه "18".
3 راغ الثعلب روغًا وروغانًا: ذهب يمنة ويسرة في سرعة خديعة، فهو لا يستر في جهة، ويستعار هذا المعنى للرجل المخادع. ا. هـ. المصباح المنير مادة روغ.(1/282)
هَذَا إِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ لِذَاتِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ؛ أَمَّا لَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لِوَصْفِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ النَّهْيِ عَنْ عَقْدِ الرِّبَا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الزِّيَادَةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، بَلْ عَلَى فَسَادٍ نَفْسِ الْوَصْفِ.
وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ: بِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لِوَصْفِهِ لَوْ دَلَّ عَلَى فَسَادِ الْأَصْلِ لَنَاقَضَ التَّصْرِيحَ بِالصِّحَّةِ كَمَا مَرَّ.
وَأَيْضًا كَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ طَلَاقُ الْحَائِضِ، وَلَا ذَبْحُ مِلْكِ الْغَيْرِ لِحُرْمَتِهِ إِجْمَاعًا.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ: إِلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْأَصْلِ، محتجيين بِأَنَّ النَّهْيَ ظَاهِرٌ فِي الْفَسَادِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِهِ لِذَاتِهِ أَوْ "لِوَصْفِهِ"* وَمَا قِيلَ مِنْ جَوَازِ التَّصْرِيحِ بِالصِّحَّةِ فَمُلْتَزَمٌ إِنْ وَقَعَ، وَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى فَسَادِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ صَوْمِهِ1 وَلَيْسَ ذَلِكَ لِذَاتِهِ، وَلَا لِجُزْئِهِ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ بَلْ لِكَوْنِهِ صَوْمًا فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَهُوَ وَصْفٌ لِذَاتِ الصَّوْمِ.
قَالَ بَعْضُ المحققين من أهل الأصول: إن النهي عن الشيء لوصفه هو أن ينهي عَنِ الشَّيْءِ مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ نَحْوَ "لَا تُصَلِّ كذا" ولا "تبع كذا" وحاصله ما يُنْهَى عَنْ وَصْفِهِ لَا مَا يَكُونُ الْوَصْفُ عِلَّةً لِلنَّهْيِ.
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ نَحْوُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَقِيلَ: لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ لِعَدَمِ مُضَادَّتِهِ لِوُجُوبِ أَصْلِهِ لِتَغَايُرِ الْمُتَعَلِّقِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُضَادُّ وُجُودَ أَصْلِهِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَتْبَاعُهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَهُوَ كَالنَّهْيِ عَنِ الصَّوْمِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ لِذَاتِهِ، وَلِجُزْئِهِ، وَلِوَصْفٍ لَازِمٍ، وَلِوَصْفٍ مُجَاوِرٍ، وَيَحْكُمُونَ فِي بَعْضٍ بِالصِّحَّةِ وَفِي بَعْضٍ بِالْفَسَادِ فِي الأصل، أو في الوصف ولهم في
__________
* في "أ": لصفاته.
__________
1 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نهى عن صيام يومين يوم الفطر ويوم الأضحى"، كتاب الصوم، باب صوم النحر "1993" ومسلم، كتاب الصوم، باب تحريم صوم يومي العيدين "1138". مالك في الموطأ، كتاب الصيام، باب صيام يوم الفطر والأضحى والدهر "1/ 300". والبيهقي في السنن، كتاب الصيام، باب الأيام التي نهى عن صومها "4/ 297". وابن حبان في صحيحه "3958". وأحمد في المسند "4/ 511، 529".(1/283)
ذَلِكَ فُرُوقٌ وَتَدْقِيقَاتٌ لَا تَقُومُ بِمِثْلِهَا الْحُجَّةُ.
نعم النهي عن الشيء لذته أو لجزته الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ يَقْتَضِي فَسَادَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ لِلْوَصْفِ الْمُلَازِمِ يَقْتَضِي فَسَادَهُ مَا دَامَ ذَلِكَ الْوَصْفُ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ لِوَصْفٍ مُفَارِقٍ أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْهُ عِنْدَ إِيقَاعِهِ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَعِنْدَ إِيقَاعِهِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَارِجِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ إِيقَاعِهِ مُقَيَّدًا بِهِمَا يستلزم فساده ما داما قيدًا له.(1/284)
الفصل الثالث: في الْعُمُومُ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِ
...
الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي الْعُمُومِ
وَفِيهِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِ
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ شُمُولُ أَمْرٍ لِمُتَعَدِّدٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ لَفْظًا أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: عَمَّهُمُ الْخَيْرُ إِذَا شَمَلَهُمْ وَأَحَاطَ بِهِمْ.
وَأَمَّا حَدُّهُ فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ بِحَسَبِ وَضْعٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِ الرِّجَالُ فَإِنَّهُ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، وَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ النَّكِرَاتُ، كَقَوْلِهِمْ رَجُلٌ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رِجَالِ الدُّنْيَا، وَلَا يَسْتَغْرِقُهُمْ، وَلَا التثنية، ولا الجميع؛ لأن لفظ رجلان ورجال يَصْلُحُ لِكُلِّ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَلَا يُفِيدَانِ الِاسْتِغْرَاقَ، وَلَا أَلْفَاظُ الْعَدَدِ كَقَوْلِنَا: خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِكُلِّ خَمْسَةٍ وَلَا يَسْتَغْرِقُهُ. وَقَوْلُنَا: بِحَسَبِ وَضْعٍ وَاحِدٍ احْتِرَازٌ عَنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، وَالَّذِي لَهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، فَإِنَّ عُمُومَهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَتَنَاوَلَ مَفْهُومَيْهِ مَعًا. انْتَهَى.
وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى بَعْضِ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِّ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ: الْعَامُّ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ.
وَرُدَّ عَلَيْهِ الْمُشْتَرَكُ إِذَا اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ أَفْرَادِ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَانْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ عَنْهُ بِزِيَادَةِ قَيْدِ بِوَضْعٍ وَاحِدٍ ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ نَحْوُ عَشَرَةٍ وَمِائَةٍ وَنَحْوُهُمَا لِأَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْمُتَعَدِّدِ الَّذِي يُفِيدُهُ، وَهُوَ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ.
وَدُفِعَ بِمِثْلِ مَا ذَكَرَهُ فِي "الْمَحْصُولِ".
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ1: هُوَ مساواة بعض ما تناوله لبعض.
__________
1 هو الحسن "أو الحسين" بن قاسم، شيخ الشافعية ببغداد، أول من صنف في الخلاف، من آثاره: "المحرر" "الإفصاح" "العدة"، توفي سنة خمسين وثلاثمائة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 62"، شذرات الذهب "3/ 3"، الأعلام "2/ 210".(1/285)
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا مساوٍ لِلْآخَرِ وَلَيْسَ بِعَامٍّ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: أَقَلُّ الْعُمُومِ شَيْئَانِ، كَمَا أَنَّ الْخُصُوصَ وَاحِدٌ، وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ الشُّمُولُ، وَالشُّمُولُ حَاصِلٌ فِي التَّثْنِيَةِ، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّثْنِيَةَ لَا تُسَمَّى عُمُومًا لَا سِيَّمَا إِذَا قُلْنَا: أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، فَإِذَا سُلِبَ عَنِ التَّثْنِيَةِ أَقَلُّ الْجَمْعِ، فَسَلْبُ الْعُمُومِ عَنْهَا أَوْلَى. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْعُمُومُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ هُوَ الْقَوْلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا، وَالتَّثْنِيَةُ عِنْدَهُمْ عُمُومٌ لِمَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْجَمْعِ وَالشُّمُولُ، الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْوَاحِدِ. وَلَا يَخْفَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الدَّالُّ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِجَامِعٍ وَلَا مَانِعٍ، أَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ بِجَامِعٍ، فَلِخُرُوجِ لَفْظِ الْمَعْدُومِ، وَالْمُسْتَحِيلِ فَإِنَّهُ عَامُّ وَمَدْلُولُهُ لَيْسَ بشيء، وأيضًا الموصولات مع صلاتها مع جُمْلَةِ الْعَامِّ وَلَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ فَلِأَنَّ كُلَّ مُثَنًّى يَدْخُلُ فِي الْحَدِّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جَمْعٍ لِمَعْهُودٍ وَلَيْسَ بِعَامٍّ.
وَقَدْ أُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْمَعْدُومَ وَالْمُسْتَحِيلَ شَيْءٌ لُغَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا فِي الِاصْطِلَاحِ.
وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّ الْمَوْصُولَاتِ هِيَ الَّتِي "ثَبَتَ لَهَا الْعُمُومُ""1".
وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: اشْتُهِرَ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْعُمُومَ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ عُمُومٌ وَمَا دُونَهُ عُمُومٌ وَأَقَلُّ الْعُمُومِ اثْنَانِ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إِنَّ الْعَامَّ هُوَ مَا دَلَّ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ اشْتَرَكَتْ فِيهِ مُطْلَقًا ضَرْبَةً؛ فَقَوْلُهُ: مَا دَلَّ جِنْسٌ، وَقَوْلُهُ: عَلَى مُسَمَّيَاتٍ يُخْرِجُ نَحْوَ زَيْدٍ، وَقَوْلُهُ: بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ اشْتَرَكَتْ فِيهِ يُخْرِجُ نَحْوَ عَشَرَةٍ، فَإِنَّ الْعَشَرَةَ دَلَّتْ عَلَى آحَادٍ لَا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ اشْتَرَكَتْ فِيهِ لِأَنَّ آحَادَ الْعَشَرَةِ أَجْزَاءُ الْعَشَرَةِ لَا جُزْئِيَّاتُهَا، فَلَا يَصْدُقُ عَلَى وَاحِدٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ عَشَرَةٌ.
وَقَوْلُهُ: "مُطْلَقًا" لِيُخْرِجَ الْمَعْهُودَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَرَكَتْ فِيهِ مَعَ قَيْدٍ خَصَّصَهُ بِالْمَعْهُودَيْنِ وَقَوْلُهُ: "ضَرْبَةً" أَيْ دُفْعَةً وَاحِدَةً لِيُخْرِجَ نَحْوَ "رَجُلٍ" مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مُفْرَدَاتِهِ بَدَلًا لَا شُمُولًا.
وَيَرِدُ عَلَيْهِ خُرُوجُ نَحْوِ عُلَمَاءِ الْبَلَدِ مِمَّا يُضَافُ مِنَ الْعُمُومَاتِ إِلَى مَا يُخَصِّصُهُ، مَعَ أَنَّهُ عَامٌّ قُصِدَ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ، وَوَجْهُ وُرُودِ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارِهِ فِي التَّعْرِيفِ "لقيد""2" الإطلاق، مع
__________
* في "أ": زيادة وهي ثبت لها العموم والصلات مبينات لها.
** في "أ": بقيد.(1/286)
أَنَّ الْعَامَّ الْمُضَافَ قَدْ قُيِّدَ بِمَا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الَّذِي اشْتَرَكَتِ الْمُسَمَّيَاتُ فِيهِ هُوَ عُلَمَاءُ الْبَلَدِ مُطْلَقًا لَا "الْعُلَمَاءُ"*، وَعَالِمُ الْبَلَدِ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِقَيْدٍ وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْعُلَمَاءُ، "فَأُورِدَ"** عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَدِ اعْتَبَرَ الْإِفْرَادَ فِي الْعَامِّ، وَعُلَمَاءُ الْبَلَدِ مُرَكَّبٌ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْعَامَّ إِنَّمَا هُوَ الْمُضَافُ، مِنْ حَيْثُ إنه مضاف والمضاف إِلَيْهِ خَارِجٌ.
وَأُورِدَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ، كَرِجَالٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ، وَهِيَ آحَادُهُ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَرَكَتْ فِيهِ، وَهُوَ مَفْهُومُ رَجُلٍ مُطْلَقًا لِعَدَمِ الْعَهْدِ وَلَيْسَ بِعَامٍّ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ الِاسْتِغْرَاقَ.
وَقَدْ أُورِدَ عَلَى الْمُعْتَبِرِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي حَدِّ الْعَامِّ مُطْلَقًا, مُفْرَدًا كَانَ أَوْ جَمْعًا أن دلالته على الفرد تضمنيه؛ إِذْ لَيْسَ الْفَرْدُ مَدْلُولًا مُطَابِقِيًّا؛ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ الْمُطَابِقِيَّ هُوَ مَجْمُوعُ الْأَفْرَادِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي الْمَفْهُومِ الْمُعْتَبَرِ فِيهِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلَا خَارِجًا وَلَا لَازِمًا، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ أَيِ: الفرد مما صدق عَلَيْهِ الْعَامُّ لِصَيْرُورَتِهِ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ مِمَّا يَصْدُقُ عَلَى إِفْرَادِهِ بَدَلًا، بَلْ شُمُولًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالْكُلِّ تَعْلِيقُهُ بِكُلِّ جُزْئِيٍّ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالْكُلِّ تَعْلِيقُهُ بِالْجُزْءِ لُزُومًا لُغَوِيًّا "لَا عَقْلِيًّا"*** وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَكْفِي فِي الرُّسُومِ؛ وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَإِذَا عَرَفْتَ مَا قِيلَ فِي حَدِّ الْعَامِّ عَلِمْتَ أَنَّ أَحْسَنَ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا1 عَنْ صَاحِبِ "الْمَحْصُولِ"، لَكِنْ مَعَ زِيَادَةِ قَيْدِ "دَفْعَةً"، فَالْعَامُّ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ بِحَسَبِ وضع واحد دفعة.
__________
* في "أ": العالم.
** في "أ": وورد.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 انظر صفحة: "285".(1/287)
المسألة الثانية: "العموم من عوارض الألفاظ"
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ فَإِذَا قِيلَ: هَذَا لَفْظٌ عَامٌّ، صَدَقَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ يَرْجِعَانِ إِلَى الْكَلَامِ، ثُمَّ الْكَلَامُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ(1/287)
الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ "وَهُوَ الَّذِي يَعُمُّ وَيَخُصُّ، وَالصِّيَغُ وَالْعِبَارَاتُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُسَمَّى بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ إِلَّا تَجَوُّزًا، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يَرْجِعَانِ إِلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ بِالنَّفْسِ"* دُونَ الصِّيَغِ. انْتَهَى.
وَاخْتَلَفَ الْأَوَّلُونَ فِي اتِّصَافِ الْمَعَانِي بِالْعُمُومِ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَلْفَاظِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا تَتَّصِفُ بِهِ حَقِيقَةً كَمَا تَتَّصِفُ بِهِ الْأَلْفَاظُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا تَتَّصِفُ بِهِ مَجَازًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا.
احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا: بِأَنَّ الْعُمُومَ حَقِيقَةٌ فِي شُمُولِ أَمْرٍ لِمُتَعَدِّدٍ، فَكَمَا صَحَّ فِي الْأَلْفَاظِ بِاعْتِبَارِ شُمُولِ لَفْظٍ لمعانٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِحَسَبِ الْوَضْعِ، صَحَّ فِي الْمَعَانِي بِاعْتِبَارِ شُمُولِ "مَعْنًى"** لمعانٍ مُتَعَدِّدَةٍ "لِأَنَّهُ"*** لَا يُتَصَوَّرُ شُمُولُ أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ لِأُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَعُمُومِ الْمَطَرِ وَالْخِصْبِ "وَالْقَحْطِ لِلْبِلَادِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: عَمَّ الْمَطَرُ وَعَمَّ الْخِصْبُ"**** وَنَحْوُهُمَا، وَكَذَلِكَ مَا يَتَصَوَّرُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهَا شَامِلَةٌ لِجُزْئِيَّاتِهَا الْمُتَعَدِّدَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهَا. وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمَنْطِقِيُّونَ: الْعَامُّ مَا لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ، وُقُوعَ الشَّرِكَةِ فِيهِ وَالْخَاصُّ بِخِلَافِهِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْعَامَّ شُمُولُ أَمْرٍ لِمُتَعَدِّدٍ، وَشُمُولُ الْمَطَرِ وَالْخِصْبِ ونحوهما ليس كذلك؛ إذ لموجود فِي مَكَانٍ غَيْرُ الْمَوْجُودِ فِي الْمَكَانِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَفْرَادٌ مِنَ الْمَطَرِ وَالْخِصْبِ.
وَأَيْضًا مَا ذَكَرُوهُ عَنِ الْمَنْطِقِيِّينَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُمْ "إِنَّمَا"***** يُطْلِقُونَ ذَلِكَ عَلَى الْكُلِّيِّ لَا عَلَى الْعَامِّ.
وَرُدَّ بِمَنْعِ كَوْنِهِ يُعْتَبَرُ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ لُغَةً هَذَا الْقَيْدُ، بَلْ يَكْفِي الشُّمُولُ، سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ أَمْرٌ وَاحِدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هَذَا، هُوَ مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ، فَمَنْ قَالَ مَعْنَاهُ شُمُولُ أَمْرٍ لِمُتَعَدِّدٍ "وَاعْتَبَرُوا وَحْدَةَ الْأَمْرِ وَحْدَةً شَخْصِيَّةً"****** مَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِهِ حَقِيقَةً عَلَى الْمَعَانِي، فَلَا يُقَالُ هَذَا الْمَعْنَى عَامٌّ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ لَا شُمُولَ لَهُ، وَلَا يَتَّصِفُ بالشمول لمتعدد إلا الموجود
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": لفظ.
*** في "أ": بحسب.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** ما بين قوسين ساقط من "أ".
****** ما بين قوسين ساقط من "أ": ومكانها إلا الموجود الذهني شخصيته ... إلخ.(1/288)
الذِّهْنِيُّ، وَوَحْدَتُهُ لَيْسَتْ بِشَخْصِيَّةٍ، فَيَكُونُ عِنْدَهُ إِطْلَاقُ الْعُمُومِ عَلَى الْمَعَانِي مَجَازًا لَا حَقِيقَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّازِيُّ.
وَمَنْ فَهِمَ مِنَ اللُّغَةِ أَنَّ الْأَمْرَ الْوَاحِدَ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الشُّمُولُ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ أَعَمُّ مِنَ الشَّخْصِيِّ وَمِنَ النَّوْعِيِّ أَجَازَ إِطْلَاقَ الْعَامِّ عَلَى الْمَعَانِي حَقِيقَةً.
وَقِيلَ: إِنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ صِحَّةِ تَخْصِيصِ الْمَعْنَى الْعَامِّ، كَمَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْعَامِّ لَا فِي اتِّصَافِ الْمَعَانِي بِالْعُمُومِ، وَفِيهِ بُعْدٌ، فَإِنَّ نُصُوصَ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ خِلَافَهُمْ فِي اتِّصَافِ الْمَعَانِي بِالْعُمُومِ.(1/289)
المسألة الثالثة: "تَصَوُّرِ الْعُمُومِ فِي الْأَحْكَامِ"
هَلْ يُتَصَوَّرُ الْعُمُومُ فِي الْأَحْكَامِ حَتَّى يُقَالَ حُكْمُ قَطْعِ السَّارِقِ عَامٌّ؟
أَنْكَرَهُ الْقَاضِي، وَأَثْبَتَهُ الْجُوَيْنِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيُّ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْحَقُّ بِنَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلٍ أَوْ إِلَى وَصْفٍ يَرْجِعُ إِلَى الذَّاتِ فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي لَمْ يُتَصَوَّرِ الْعُمُومُ لِمَا تَقَدَّمَ1 فِي الْأَفْعَالِ، وَإِنْ قُلْنَا يَرْجِعُ إِلَى قَوْلٍ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَالسَّارِق} 2 يَشْمَلُ كُلَّ سَارِقٍ فَنَفْسُ الْقَطْعِ فِعْلٌ، وَالْأَفْعَالُ لَا عُمُومَ لَهَا، قَالَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ3 الْحَنَفِيُّ فِي كِتَابِهِ "مَسَائِلِ الْخِلَافِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ"4: دَعْوَى الْعُمُومِ فِي الْأَفْعَالِ لَا تَصِحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَدَلِيلُنَا: أَنَّ الْعُمُومَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةٍ، وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَصِحُّ الْعُمُومُ إِلَّا فِي الْأَلْفَاظِ، وَأَمَّا فِي الْأَفْعَالِ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا تَقَعُ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ عُرِفَتِ اخْتُصَّ الْحُكْمُ بِهَا، وَإِلَّا صَارَ مُجْمَلًا، فَمَا عُرِفَتْ صِفَتُهُ مِثْلَ قَوْلِ الرَّاوِي: "جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ"5 فَهَذَا مَقْصُورٌ عَلَى السَّفَرِ، وَمِنَ الثاني قوله في
__________
1 انظر صفحة: "287".
2 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.
3 هو الحسين بن علي بن محمد، القاضي العلامة، أبو عبد الله، الصيمري، الحنفي، كان من الفقهاء المناظرين، صدوقًا، وافر العقل، توفي سنة ست وثلاثين وأربع مائة. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 615"، شذرات الذهب "3/ 256"، الأعلام "2/ 245".
4 ذكره الزركلي عند ترجمة الصيمري، باسم: "مسائل الخلاف في أصول الفرق". ا. هـ. الأعلام "2/ 245".
5 أخرجه مسلم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "جمع في سفرة سافرها ... " في كتاب صلاة المسافرين باب الجمع بين الصلاتين في السفر "706". والنسائي في المواقيت باب الوقت الذي يجمع فيه المسافر بين الظهر والعصر "586" 1/ 285. وأبو داود في الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين "1206". وابن خزيمة في صحيحه "966". وابن حبان في صحيحه "1591". وابن ماجه في إقامة الصلاة باب الجمع بين الصلاتين في السفر "1070".(1/289)
السَّفَرِ "فَلَا يُدْرَى أَنَّهُ كَانَ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا"1 فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ، وَلَا يُدَّعَى فِيهِ الْعُمُومُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: أَطْلَقَ الْأُصُولِيُّونَ أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ لَا "يُتَصَوَّرَانِ"* إِلَّا فِي الْأَقْوَالِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْأَفْعَالِ، أَعْنِي فِي ذَوَاتِهَا، فَأَمَّا فِي أَسْمَائِهَا فَقَدْ يَتَحَقَّقُ، وَلِهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْعُمُومَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ، كَمَا هُوَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَلْفَاظِ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَعَانِيَ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ يُوصَفُ بِهِ مَجَازًا.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "الْإِفَادَةِ"2: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْعُمُومِ إِلَّا الْقَوْلُ فَقَطْ، وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ ادِّعَاؤُهُ فِي الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ، وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ: حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى عُمُومِ الْخِطَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صِيغَةٌ "تَعُمُّ"** كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 3 فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ تَنَاوُلُ التَّحْرِيمِ لَهَا عَمَّهَا بِتَحْرِيمِ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْأَكْلِ، وَالْبَيْعِ وَاللَّمْسِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَحْكَامِ ذِكْرٌ فِي التَّحْرِيمِ بِعُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" 4 عَامٌّ فِي الإجزاء والكمال "قال"***: وَالَّذِي يَقُولُهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: اخْتِصَاصُهُ بِالْقَوْلِ وإن وصفهم بالجور وَالْعَدْلَ بِأَنَّهُ عَامٌّ مَجَازٌ. انْتَهَى.
فَعَرَفْتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وُقُوعَ الْخِلَافِ فِي اتِّصَافِ الْأَحْكَامِ بِالْعُمُومِ كَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي اتِّصَافِ الْمَعَانِي بِهِ.
__________
* في "أ": يتصور.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 لم أعثر على هذه الرواية فيما بين يدي من كتب الحديث.
2 هو "الإفادة في أصول الفقه"، انظر شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف، ترجمة رقم "266".
3 جزء من الآية "3" من سورة المائدة.
4 تقدم تخريجه في الصفحة "156".(1/290)
المسألة الرابعة: "الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ"
اعْلَمْ: أَنَّ الْعَامَّ عُمُومُهُ شُمُولِيٌّ، وَعُمُومُ الْمُطْلَقِ بَدَلِيٌّ، وَبِهَذَا يَصِحُّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ أَطْلَقَ عَلَى الْمُطْلَقِ اسْمَ الْعُمُومِ، فَهُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَوَارِدَهُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، فَصَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعُمُومِ عَلَيْهِ(1/290)
"مِنْ هَذِهِ"* الْحَيْثِيَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ عُمُومِ الشُّمُولِ وَعُمُومِ الْبَدَلِ، أَنَّ عُمُومَ الشُّمُولِ كُلِّيٌّ يُحْكَمُ فِيهِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ، وَعُمُومَ الْبَدَلِ كُلِّيٌّ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُ مَفْهُومِهِ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، وَلَكِنْ لَا يُحْكَمُ فِيهِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، بَلْ عَلَى فَرْدٍ شَائِعٍ فِي أَفْرَادِهِ يَتَنَاوَلُهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا دُفْعَةً.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قُيُودِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، سَلْبًا كَانَ ذَلِكَ الْقَيْدُ أَوْ إِيجَابًا فَهُوَ الْمُطْلَقُ، وَأَمَّا اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ مَعَ قَيْدِ الْكَثْرَةِ فَإِنْ كَانَتِ الْكَثْرَةُ كَثْرَةً مُعَيَّنَةً بِحَيْثُ لَا تَتَنَاوَلُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فَهُوَ اسْمُ الْعَدَدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْكَثْرَةُ كَثْرَةً مُعَيَّنَةً فَهُوَ الْعَامُّ، وَبِهَذَا ظَهَرَ خَطَأُ مَنْ قَالَ الْمُطْلَقُ هُوَ الدَّالُّ عَلَى وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ فَإِنَّ كَوْنَهُ وَاحِدًا وَغَيْرَ مُعَيَّنٍ قَيْدَانِ زَائِدَانِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ. انتهى.
فيجعل في كلامه هذا معنى الْمُطْلَقُ عَنِ التَّقْيِيدِ، فَلَا يَصْدُقُ إِلَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَهُوَ غَيْرُ مَا عَلَيْهِ الِاصْطِلَاحُ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ وَغَيْرِهِمْ كَمَا عَرَفْتَ مِمَّا قَدَّمْنَا.
وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْعَامِّ، فَقَالَ: الْعَامُّ هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَنَاوِلُ، وَالْعُمُومُ تَنَاوُلُ اللَّفْظِ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ، فَالْعُمُومُ مَصْدَرٌ، وَالْعَامُّ، فَاعِلٌ مُشْتَقٌّ مِنْ هَذَا الْمَصْدَرِ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ وَالْفِعْلَ غَيْرُ الْفَاعِلِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ الْإِنْكَارُ عَلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ وَابْنِ بُرْهَانٍ وَغَيْرِهِمَا فِي قَوْلِهِمْ: الْعُمُومُ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ، فَإِنْ قِيلَ: أَرَادُوا بِالْمَصْدَرِ اسْمَ الْفَاعِلِ، قُلْنَا: اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ مَجَازٌ، وَلَا ضَرُورَةَ لِارْتِكَابِهِ مَعَ إِمْكَانِ الْحَقِيقَةِ.
وَفَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ الْأَعَمِّ وَالْعَامِّ، بِأَنَّ الْأَعَمَّ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَى وَالْعَامُّ فِي اللَّفْظِ، فَإِذَا قِيلَ هَذَا أَعَمُّ تَبَادَرَ الذِّهْنُ لِلْمَعْنَى، وَإِذَا قِيلَ هذا عام تبادر الذهن للفظ.
__________
* في "أ": باعبتار.(1/291)
المسألة الخامسة: "صيغ العموم"
ذهب الجمهور إلى الْعُمُومَ لَهُ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ حَقِيقَةً، وَهِيَ أَسْمَاءُ الشَّرْطِ، وَالِاسْتِفْهَامِ وَالْمَوْصُولَاتُ، وَالْجُمُوعُ الْمُعَرَّفَةُ تَعْرِيفَ الجنس، والمضافة، واسم الجنس، والنكرة المنفية، والمفردة المحلي بِاللَّامِ، وَلَفْظُ كُلٍّ، وَجَمِيعٍ وَنَحْوِهَا، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى عُمُومِ هَذِهِ الصِّيَغِ وَنَحْوِهِ ذِكْرًا مُفَصَّلًا.(1/291)
قَالُوا: لِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَى الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ لِتَعَذُّرِ جَمْعِ الْآحَادِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَلْفَاظٌ مَوْضُوعَةٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ وَالْإِفْهَامُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ لَا تَضْرِبْ أَحَدًا، فُهِمَ مِنْهُ الْعُمُومُ حَتَّى لَوْ ضَرَبَ وَاحِدًا عُدَّ مُخَالِفًا، وَالتَّبَادُرُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ وَالنَّكِرَةُ فِي النَّفْيِ لِلْعُمُومِ حَقِيقَةً فَلِلْعُمُومِ صِيغَةٌ، وَأَيْضًا لَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يَسْتَدِلُّونَ بِمِثْلِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 1 و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} 2، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَحْتَجُّونَ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ "بمثل"* عند الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَقَالَ: "لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِي شَأْنِهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} " 3 وما ثابت أَيْضًا مِنِ احْتِجَاجِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ تَرْكُ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَالْعُدُولُ إِلَى التَّيَمُّمِ مَعَ شِدَّةِ الْبَرْدِ. فَقَالَ سَمِعْتُ الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} 4 فَقَرَّرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ5؛ وَكَمْ يَعُدُّ الْعَادُّ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَادِّ.
وَمَا أُجِيبَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّهُ إنما فهم بِالْقَرَائِنِ جَوَابٌ سَاقِطٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْتَابِ6 مِنَ المالكية، ومحمد بن شجاع البلخي7 مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ، وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصِّيَغِ مَوْضُوعٌ فِي الخصوص، وهو أقل الجمع أما
__________
* في "أ": عند.
__________
1 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.
2 جزء من الآية "2" من سورة النور.
3 الآيتان هما "7-8" من سورة الزلزلة. والحديث أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب الشرب والمساقاة، باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار "1/ 2371". مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة "987".النسائي في السنن، كتاب الخيل "3565" "6/ 216". مالك في الموطأ، كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد "2/ 444". والبيهقي في السنن، كتاب الزكاة، باب من رأى في الخيل صدقة "4/ 119". ابن حبان في صحيحه "4672".
4 جزء من الآية "29" من سورة النساء.
5 أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة باب إذ خاف الجنب البرد أيتيمم "334"، والحاكم في المستدرك في الطهارة "1/ 177". والبيهقي في السنن في الطهارة باب التيمم في السفر إذا خاف الموت أو العلة من شدة البرد 1/ 226. وعبد الرزاق في المصنف "878". وابن حبان في صحيحه "1315".
6 لم أجد ترجمته فيما بين يدي من المصادر.
7 الثلجي، ويقال ابن الثلجي، أبو عبد الله البغدادي الحنفي، فقيه، أهل العراق في وقته والمقدم في الفقه والحديث وقراءة القرآن مع ورع وعبادة، توفي سنة ست وستين ومائتين، من آثاره: "المضاربة" "تصحيح الآثار" "الرد على المشبهة". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 379"، الجواهر المضية "3/ 173".(1/292)
اثْنَانِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ، عَلَى الْخِلَافِ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، وَلَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ إِلَّا بِقَرِينَةٍ.
قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، وَالْإِمَامُ فِي "الْبُرْهَانِ": يَزْعُمُونَ أَنَّ الصِّيَغَ الْمَوْضُوعَةَ لِلْجَمْعِ نُصُوصٌ فِي الْجَمْعِ مُحْتَمِلَاتٌ فِيمَا عَدَاهُ إِذَا لَمْ تَثْبُتْ قَرِينَةٌ تقتضي تعديها على أَقَلِّ الْمَرَاتِبِ. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ مَوْضُوعٌ لِلْخُصُوصِ مُجَرَّدُ دَعْوَى لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ لُغَةً وَشَرْعًا وَعُرْفًا، وَكُلُّ مَنْ يَفْهَمُ لُغَةَ الْعَرَبِ وَاسْتِعْمَالَاتِ الشَّرْعِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ هَذَا.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُرْجِئَةِ1: إِنَّ شَيْئًا مِنَ الصِّيَغِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِذَاتِهِ، وَلَا مَعَ الْقَرَائِنِ، بَلْ إِنَّمَا يَكُونُ الْعُمُومُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ.
قَالَ فِي "الْبُرْهَانِ": نَقَلَ مصنفوا الْمَقَامَاتِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْوَاقِفِيَّةِ2 أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ لِمَعْنَى الْعُمُومِ صِيغَةً لَفْظِيَّةً، وَهَذَا النَّقْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ زَلَلٌ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُنْكِرُ إِمْكَانَ التَّعْبِيرِ عَنْ مَعْنَى الْجَمْعِ بِتَرْدِيدِ أَلْفَاظٍ تُشْعِرُ بِهِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: رَأَيْتُ الْقَوْمَ وَاحِدًا وَاحِدًا، لَمْ يَفُتْنِي مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِقَطْعِ تَوَهُّمِ مَنْ يَحْسَبُهُ خُصُوصًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ الْوَاقِفِيَّةُ لَفْظَةً وَاحِدَةً مُشْعِرَةً بِمَعْنَى الْجَمْعِ. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ: أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ مَدْفُوعٌ بِمِثْلِ مَا دُفِعَ بِهِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَبِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ إِهْمَالَ الْقَرَائِنِ الْمُقْتَضِيَةِ لِكَوْنِهِ عَامًّا شَامِلًا عِنَادٌ وَمُكَابَرَةٌ.
وَقَالَ قَوْمٌ بِالْوَقْفِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ وَذَهَبَ إِلَيْهِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ سَبَرُوا اللُّغَةَ وَوَضْعَهَا، فَلَمْ يَجِدُوا فِي وَضْعِ اللُّغَةِ صِيغَةً دَالَّةً عَلَى الْعُمُومِ، "سَوَاءٌ وَرَدَتْ مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً"* بِالْقَرَائِنِ فَإِنَّهَا لَا تُشْعِرُ بِالْجَمْعِ، بَلْ تَبْقَى عَلَى التَّرَدُّدِ، هَذَا وَإِنْ صَحَّ النَّقْلُ فِيهِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ عِنْدِي بِالتَّوَابِعِ الْمُؤَكِّدَةِ لمعنى الجمع، كقول القائل: رأيت القوم
__________
* في "أ": زيادة وهي: مقيدة بضروب من التأكد قال في البرهان ومما زال فيه الناقلون عن أبي الحسن ومتبعيه أن الصيغة وإن تقيدت بالقرائن فإنها ... إلخ.
__________
1 وهم القائلون لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم فرق متعددة، وأول من قال بالإرجاء هو: غيلان الدمشقي، والإرجاء: هو تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا، من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار. ا. هـ. الملل والنحل "1/ 139".
2 هم أصحاب مذهب الوقف القائل بعدم الحكم بشيء مما قيل في الحقيقة: في العموم والخصوص أو الاشتراك. "انظر الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي 2/ 222".(1/293)
أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ أَبْصَعِينَ1، فَلَا يُظَنُّ بِذِي عَقْلٍ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهَا. انْتَهَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْوَاقِفِيَّةُ فِي مَحَلِّ الْوَقْفِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:
وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَئِمَّتِهِمْ: الْقَوْلُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.
الثَّانِي:
أَنَّ الْوَقْفَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الكرخي. قال: وربما ظن مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ بِوَعِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُجَوِّزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ.
الثَّالِثُ:
الْقَوْلُ بِصِيَغِ الْعُمُومِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُرْجِئَةِ.
الرَّابِعُ: الْوَقْفُ فِي الْوَعِيدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُصَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا.
الْخَامِسُ:
الْوَقْفُ فِي الْوَعِيدِ دُونَ الْوَعْدِ، قَالَ الْقَاضِي: وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِمَا يَلِيقُ بِالشَّطْحِ، وَالتُّرَّهَاتِ2 دُونَ الْحَقَائِقِ.
السَّادِسُ:
الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ لَا يَسْمَعَ قَبْلَ اتِّصَالِهَا بِهِ شَيْئًا مِنْ أَدِلَّةِ السَّمْعِ وَكَانَتْ وَعْدًا أَوْ وعيدًا، فيعلم أن المراد بها للعموم، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ قَبْلَ اتِّصَالِهَا بِهِ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ، وَعَلِمَ انْقِسَامَهَا إِلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَلَا يُعْلَمُ حِينَئِذٍ الْعُمُومُ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي اتَّصَلَتْ بِهِ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ".
السَّابِعُ:
الْوَقْفُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ خطاب الشرع "منه"* صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَعَرَفَ تَصَرُّفَاتِهِ فَلَا وَقْفَ فِيهِ، كَذَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ.
الثَّامِنُ:
التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْكِيدِ فَيَكُونَ لِلْعُمُومِ، دُونَ مَا إِذَا لَمْ يَتَقَيَّدْ.
التَّاسِعُ:
أَنَّ لَفْظَةَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ فِي الشَّرْعِ أَفَادَتِ الْعُمُومَ دُونَ غَيْرِهَا، حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَقَدْ عَلِمْتَ انْدِفَاعَ مَذْهَبِ الْوَقْفِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِعَدَمِ تَوَازُنِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُخْتَلِفُونَ فِي الْعُمُومِ، بَلْ لَيْسَ بِيَدِ غَيْرِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ مِمَّا يَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّوَقُّفِ وَلَا مُقْتَضَى لَهُ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ كَوْنَ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي لَا سُتْرَةَ بِهِ وَلَا شُبْهَةَ فِيهِ، ظَاهِرٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْهَمُ فَهْمًا صَحِيحًا، وَيَعْقِلُ الْحُجَّةَ، وَيَعْرِفُ مقدارها في نفسها ومقدار ما يخالفها.
__________
* في "أ": عنه.
__________
1 وهي من ألفاظ التوكيد، وقال الحضري في حاشيته: إنه يؤتى بعد أجمع بأكتع ثم بأبصع، وزاد الكوفيون: ثم بأبقع، وكذا بعد أجمعون وأخواته، ولا يجوز تقديم بعضها على بعض. ا. هـ. حاشية الخضري على ابن عقيل "2/ 75".
2 مفردها "الترهة": وهي القول الخالي من نفع. ا. هـ. المعجم الموسيط مادة تره وشطح: الشطح في الفعل أو القول: التباعد والاسترسال. ا. هـ. المعجم الوسيط مادة شطح.(1/294)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ كُلَّ صِيغَةٍ مِنْ تِلْكَ الصِّيَغِ لِلْعُمُومِ وَفِيهِ فُرُوعٌ
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ فِي:
مَنْ، وَمَا، وَأَيْنَ، وَمَتَى، للاستفهاز؟
فَهَذِهِ الصِّيَغُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْعُمُومِ فَقَطْ، أو للخصوص فقط أَوْ لَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، أَوْ لَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ وَالْكُلُّ بَاطِلٌ إِلَّا الْأَوَّلَ.
أَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْخُصُوصِ فَقَطْ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسُنَ مِنَ الْمُجِيبِ أَنْ يُجِيبَ بِذِكْرِ كُلِّ الْعُقَلَاءِ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، لَكِنْ لَا نِزَاعَ فِي حُسْنِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِالِاشْتِرَاكِ، فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسُنَ الْجَوَابُ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ جَمِيعِ الْأَقْسَامِ الْمُمْكِنَةِ.
مَثَلًا إِذَا قَالَ: مَنْ عِنْدَكَ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ تَقُولَ: سَأَلْتَنِي عَنِ الرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ، فَإِذَا قَالَ: عَنِ الرِّجَالِ، فَلَا بُدَّ أَنْ تقول: سألتني عن العرب أو الْعَجَمِ، فَإِذَا قَالَ: عَنِ الْعَرَبِ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَقُولَ: عَنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرَ، وَهَكَذَا إلى أن تأتي على جميع "التقسيمات"* الْمُمْكِنَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ وَبَيْنَ مَرْتَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الْخُصُوصِ، أَوْ بَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْمَرَاتِبِ الْمُمْكِنَةِ فِي الْخُصُوصِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ بِهِ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْسُنَ مِنَ الْمُجِيبِ ذِكْرُ الْجَوَابِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ كُلِّ تِلْكَ الْأَقْسَامِ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، فَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ مُحْتَمِلًا لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَلَوْ أَجَابَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ مَا عَنْهُ وَقَعَ السُّؤَالُ لَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَثَبَتَ أَنْ لَوْ صَحَّ الِاشْتِرَاكُ لَوَجَبَتْ هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتُ، لَكِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ لَا عَامَّ إِلَّا وَتَحْتَهُ عَامٌّ آخَرُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ التقسيمات الممكنة غير
__________
* في "أ": الأقسام.(1/295)
مُتَنَاهِيَةٍ، وَالسُّؤَالُ عَنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مُحَالٌ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُمْ يَسْتَقْبِحُونَ مِثْلَ هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتِ.
وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّيغَةُ غَيْرَ مَوْضُوعَةٍ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَبَطَلَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ.
الْفَرْعُ الثَّانِي:
فِي صِيغَةِ مَنْ وَمَا فِي الْمُجَازَاةِ فَإِنَّهَا لِلْعُمُومِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأُكْرِمُهُ؛ لَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لَمَا حَسُنَ مِنَ الْمُخَاطَبِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى مُوجِبِ الْأَمْرِ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ جَمِيعِ الْأَقْسَامِ، لَكِنَّهُ قَدْ حَسُنَ ذَلِكَ بِدُونِ اسْتِفْهَامٍ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاكِ كَمَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا.
وَأَيْضًا لَوْ قَالَ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأُكْرِمُهُ، حَسُنَ مِنْهُ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَحُسْنُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ ضَرُورَةً، وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْجِنْسِ "لَا بُدَّ أَنْ"* يَصِحَّ دُخُولُهُ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِمَّا أَنْ لَا يُعْتَبَرَ مَعَ الصِّحَّةِ الْوُجُوبُ أَوْ يُعْتَبَرَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَمْ يَبْقَ فَرْقٌ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ كَقَوْلِكَ: جَاءَنِي فُقَهَاءُ إِلَّا زَيْدًا، وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ، كَقَوْلِكَ: جَاءَنِي الْفُقَهَاءُ إِلَّا زَيْدًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ يَقْتَضِي إِخْرَاجَ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ تَحْتَ اللَّفْظِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ:
فِي أَنَّ صِيغَةَ كُلٌّ وَجَمِيعٌ يُفِيدَانِ الِاسْتِغْرَاقَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي كُلُّ عَالِمٍ فِي الْبَلَدِ أَوْ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْبَلَدِ، فَإِنَّهُ يُنَاقِضُهُ قَوْلُكُ: مَا جَاءَنِي كُلُّ عَالِمٍ فِي الْبَلَدِ، وَمَا جَاءَنِي جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْبَلَدِ، وَلِذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ فِي تَكْذِيبِ الْآخَرِ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا أَفَادَ الْكُلُّ الِاسْتِغْرَاقَ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ عَنِ الْكُلِّ لَا يُنَاقِضُ الثُّبُوتَ فِي الْبَعْضِ، وَأَيْضًا صِيغَةُ الْكُلِّ وَالْجَمِيعِ مُقَابِلَةٌ لِصِيغَةِ الْبَعْضِ، وَلَوْلَا أَنَّ صِيغَتَهُمَا غَيْرُ مُحْتَمِلَةٍ لِلْبَعْضِ، لَمْ تَكُنْ مُقَابِلَةً، وَأَيْضًا إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: ضَرَبْتُ كُلَّ مَنْ فِي الدَّارِ أَوْ ضَرَبْتُ جَمِيعَ مَنْ فِي الدَّارِ سَبَقَ إِلَى الْفَهْمِ الِاسْتِغْرَاقُ، ولو كانت صيغة الكل أو الجمع مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لَمَّا كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْهُومَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ مُبَادَرَةُ الْفَهْمِ إِلَى أَحَدِهِمَا أَقْوَى مِنْهَا إِلَى الْآخَرِ."وَأَيْضًا إِذَا"** قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: اضْرِبْ كُلَّ مَنْ دَخَلَ دَارِي، أَوْ جَمِيعَ مَنْ دَخَلَ دَارِي، فَضَرَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّنْ دَخَلَ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ بِضَرْبِ جَمِيعِهِمْ، وَلَهُ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ إِذَا تَرَكَ الْبَعْضَ مِنْهُمْ، وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: أَعْتِقْ كُلَّ عَبِيدِي، أَوْ جَمِيعَ عَبِيدِي ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَحْصُلِ الِامْتِثَالُ إِلَّا بِعِتْقِ كُلِّ عَبْدٍ له، ولا يحصل
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": وإذا.(1/296)
امْتِثَالُهُ بِعِتْقِ الْبَعْضِ، وَأَيْضًا لَا يَشُكُّ عَارِفٌ بِلُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: جَاءَنِي رِجَالٌ، وَجَاءَنِي كُلُّ الرِّجَالِ، وَجَمِيعُ الرِّجَالِ، فَرْقًا ظَاهِرًا، وَهُوَ دَلَالَةُ الثَّانِي عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ إِذَا أَرَادُوا التَّعْبِيرَ عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ جَاءُوا بِلَفْظِ كُلٌّ، وَجَمِيعٌ، وَمَا يُفِيدُ مَفَادَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَكُونَا لِلِاسْتِغْرَاقِ لَكَانَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهُمَا عِنْدَ إِرَادَتِهِمْ لِلِاسْتِغْرَاقِ عَبَثًا.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: لَيْسَ بَعْدَ كُلٌّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَلِمَةٌ أَعَمُّ مِنْهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَقَعَ مُبْتَدَأً بِهَا أَوْ تَابِعَةً، تَقُولُ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، وَجَاءَنِي الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَيُفِيدُ أَنَّ الْمُؤَكَّدَ بِهِ عَامٌّ وَهِيَ تَشْمَلُ الْعُقَلَاءَ، وَغَيْرَهُمْ وَالْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ، وَالْمُفْرَدَ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعَ فَلِذَلِكَ كَانَتْ أَقْوَى صِيَغِ الْعُمُومِ، وَتَكُونُ فِي الْجَمِيعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، تَقُولُ كُلُّ النِّسَاءِ، وَكُلُّ الْقَوْمِ، وَكُلُّ رَجُلٍ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَعْنَى قَوْلِهِمْ: كُلُّ رَجُلٍ: كُلُّ رِجَالٍ، فَأَقَامُوا رَجُلًا مَقَامَ رِجَالٍ؛ لِأَنَّ رَجُلًا شَائِعٌ في الجنس، والرجال الجنس، ولا يؤكد بها المثنى استغناء عنه بكل، وَلَا يُؤَكَّدُ بِهَا إِلَّا ذُو أَجْزَاءٍ، وَلَا يُقَالُ: جَاءَ زَيْدٌ كُلُّهُ. انْتَهَى.
وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّفْيُ عَلَى كُلٌّ، وَبَيْنَ أَنْ تَتَقَدَّمَ هِيَ عَلَيْهِ، فَإِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ نَحْوَ: كُلُّ الْقَوْمِ لَمْ يَقُمْ أَفَادَتِ التَّنْصِيصَ عَلَى انْتِفَاءِ قِيَامِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَإِنْ تَقَدَّمَ النَّفْيُ عَلَيْهَا مِثْلَ: لَمْ يَقُمْ كُلُّ الْقَوْمِ لَمْ تَدُلَّ إِلَّا عَلَى نَفْيِ الْمَجْمُوعِ، وَذَلِكَ بصدق بِانْتِفَاءِ الْقِيَامِ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ عُمُومَ السَّلْبِ وَالثَّانِي سَلْبَ الْعُمُومِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ يُحْكَمُ فِيهِ بِالسَّلْبِ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ، وَالثَّانِيَ لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ إِنَّمَا أَفَادَ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ بَعْضِهِمْ.
قَالَ "الْقَرَافِيُّ"*: وَهَذَا شَيْءٌ اخْتُصَّتْ بِهِ كُلٌّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ صِيَغِ الْعُمُومِ، قَالَ: وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَرْبَابِ الْبَيَانِ، وَأَصْلُهَا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ" لَمَّا قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ1. انتهى.
__________
* في "أ": الفراء.
__________
1 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، كتاب الأذان، باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس "714". مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له "573". والنسائي في السنن، كتاب السهو، باب ما يفعل من سلم في ركعتين ناسيًا وتكلم "1225" "3/ 22". الترمذي، كتاب الصلاة باب ما جاء في الرجل يسلم في الركعتين من الظهر والعصر "399". مالك في الموطأ، كتاب الصلاة، باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيًا "1/ 93". أبو داود، كتاب الصلاة، باب السهو في السجدتين "1008"، وابن حبان في الصحيح "2249".(1/297)
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فِي مَعْنَى كُلٌّ فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ لَفْظَ جَمِيعٌ هُوَ بِمَعْنَى كُلٌّ الْإِفْرَادِيِّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: أَنَّهَا لِلْعُمُومِ الْإِحَاطِيِّ، وقيل: يفترقان من جهة كون دلالة على كل فَرْدٍ بِطْرِيقِ النُّصُوصِيَّةِ بِخِلَافِ جَمِيعٌ.
وَفَرَّقَتِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ كُلٌّ تَعُمُّ الْأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الانفراد، وجميع تَعُمُّهَا عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الزَّجَّاجَ1 حَكَى هَذَا الْفَرْقَ عَنِ الْمُبَرِّدِ2.
الْفَرْعُ الرَّابِعُ:
لَفْظُ أَيُّ فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ صِيَغِ العموم، إذا كانت شريطة أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنى} 3 وقوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} 4؛ وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي صِيَغِ الْعُمُومِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَالْقَاضِيَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَالرَّازِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ، قَالُوا: وَتَصْلُحُ لِلْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "التَّخْلِيصِ"5: إِلَّا أَنَّهَا تتناول على جهة الانفراد دُونَ الِاسْتِغْرَاقِ، وَلِهَذَا إِذَا قُلْتَ: أَيُّ الرَّجُلَيْنِ عِنْدَكَ، لَمْ يُجِبْ إِلَّا بِذِكْرِ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي "الْقَوَاطِعِ"6: وَأَمَّا كَلِمَةُ أَيُّ فَقِيلَ: كَالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا تَصْحَبُهَا لَفْظًا وَمَعْنًى، تَقُولُ: أَيُّ رَجُلٍ فَعَلَ هَذَا وَأَيَّ دَارٍ دَخَلَ؟ قال الله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} وَهِيَ فِي الْمَعْنَى نَكِرَةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ. انْتَهَى.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ: أَنَّهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ الْبَدَلِيِّ لَا الشُّمُولِيِّ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهَا للعموم والشمولي، وَتَوَسَّعَ الْقَرَافِيُّ فَعَدَّى عُمُومَهَا إِلَى الْمَوْصُولَةِ وَالْمَوْصُوفَةِ فِي النِّدَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعَدِّهِ كَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْقُشَيْرِيِّ لِأَجْلِ قَوْلِ النُّحَاةِ: إِنَّهَا بِمَعْنَى بَعْضُ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ أَيَّ وَقْتٍ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يتكرر
__________
1 هو إبراهيم بن السيري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، عالم بالنحو واللغة كان في فتوته يخرط الزجاج، مال إلى النحو فعلمه المبرد، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، من آثاره: "معاني القرآن" "الاشتقاق" "الأمالي" في الأدب واللغة. ا. هـ. الأعلام "1/ 40"، سير أعلام النبلاء "14/ 360"، معجم المؤلفين "1/ 33"، شذرات الذهب "2/ 259".
2 هو محمد بن يزيد، أبو العباس، إمام النحو، البصري، النحوي، الأخباري، أخذ عن المازني والسجستاني، من آثاره: "الكامل في الأدب"، توفي سنة ست وثمانين ومائتين. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 576"، شذرات الذهب "2/ 190".
3 جزء من الآية "110" من سورة الإسراء.
4 جزء من الآية "38" من سورة النمل.
5 هو "التخليص في أصول الفقه"، انظر شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف، ترجمة رقم "266".
6 واسمه: "القواطع في اصول الفقه"، لأبي المظفر، منصور بن محمد، السمعاني، المتوفى سنة تسع وثمانين وأربعمائة. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1357".(1/298)
الطَّلَاقُ بِتَكْرَارِ الدُّخُولِ كَمَا فِي كُلَّمَا.
وَالْحَقُّ: أَنَّ عَدَمَ التَّكْرَارِ لَا يُنَافِي الْعُمُومَ، وَكَوْنُ مَدْلُولِهَا أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ بَقِيَّةِ الصِّيَغِ فِي الِاسْتِفْهَامِ.
وَقَالَ صَاحِبُ "اللُّبَابِ"1 مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبُو زَيْدٍ فِي "التَّقْوِيمِ": كَلِمَةُ أَيُّ نَكِرَةٌ لَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ بِنَفْسِهَا إِلَّا بِقَرِينَةٍ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} ولم يقل يأتوني، لو قَالَ لِغَيْرِهِ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْتَهُ فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُمْ لَمْ يُعْتَقْ إِلَّا وَاحِدٌ، فَإِنَّ وَصْفَهَا بِصِفَةٍ عَامَّةٍ كَانَتْ لِلْعُمُومِ بِقَوْلِهِ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ، فَضَرَبُوهُ جَمِيعًا عَتَقُوا، لِعُمُومِ فِعْلِ الضَّرْبِ، وَصَرَّحَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَقَالَ: وَأَمَّا أَيُّ فَهِيَ اسْمٌ مُفْرَدٌ يَتَنَاوَلُ جُزْءًا مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُضَافَةِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} فَجَاءَ بِهِ وَاحِدٌ وَقَالَ: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 2، وَصَرَّحَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالشَّاشِيُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَأَنَّ الْعَبِيدَ يُعْتَقُونَ جَمِيعًا فِيهِمَا وَجَزَمَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي "التَّحْرِيرِ"3 بِأَنَّهَا في الشرط والاستفهام ككل مَعَ النَّكِرَةِ، وَكَالْبَعْضِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا "قَرَّرَهُ"* النُّحَاةُ فِيهَا فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَيَّ رَجُلٍ تَضْرِبْ أَضْرِبْ، وَبَيْنَ أَيَّ "الرَّجُلَيْنِ"** تَضْرِبْ أَضْرِبْ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى.
الْفَرْعُ الْخَامِسُ:
النَّكِرَةُ فِي النَّفْيِ فَإِنَّهَا تَعُمُّ وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ: أَكَلْتُ الْيَوْمَ شَيْئًا، فَمَنْ أَرَادَ تَكْذِيبَهُ قَالَ: مَا أَكَلْتَ الْيَوْمَ شَيْئًا، فَذِكْرُهُمْ هَذَا النَّفْيَ عن تَكْذِيبِ ذَلِكَ الْإِثْبَاتِ يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى كَوْنِهِ مُنَاقِضًا لَهُ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: مَا أَكَلْتُ الْيَوْمَ شَيْئًا لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لَمَا تَنَاقَضَا؛ لِأَنَّ السَّلْبَ الْجُزْئِيَّ لَا يُنَاقِضُ الْإِيجَابَ الْجُزْئِيَّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنِ النَّكِرَةُ فِي النَّفْيِ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ قَوْلُنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيًا لِجَمِيعِ الْآلِهَةِ سِوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَتَقَرَّرَ بِهَذَا أَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ بِمَا أَوْ لَنْ أَوْ لَمْ أو ليس أو
__________
* في "أ": جوزه.
** في "أ": الرجل.
__________
1 هو الإمام، جلال الدين مطهر بن الحسن، ويقال المطهر بن الحسن اليزدي، أبو سعد، المتوفى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة هـ، وله شرح على مختصر القدوري "الكتاب" سماه "اللباب"، وهو في مجلدين، ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1632". وهو مطبوع.
2 جزء من الآية "7" من سورة الكهف.
3 واسمه "التحرير" في أصول "الفقه" للعلامة كمال الدين الشهير بابن الهمام، المتوفى سنة إحدى وستين وثمانمائة هـ، وهو مجلد، رتب على مقدمة وثلاث مقالات، جمع فيه علمًا جمًّا وله شروح كثيرة. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 358".(1/299)
لَا مُفِيدَةٌ لِلْعُمُومِ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلَى فِعْلٍ نَحْوَ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا، أَوْ عَلَى الِاسْمِ نَحْوَ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، وَنَحْوَ مَا أَحَدٌ قَائِمًا وَمَا قَامَ أَحَدٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "الْإِفَادَةِ": قَدْ فَرَّقَ أَهْلُ اللُّغَةِ بَيْنَ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ، وَمَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، وَبَيْنَ دُخُولِهِ عَلَى النَّكِرَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الْجِنْسِ، فيما جَاءَنِي رَجُلٌ، وَمَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ، فَرَأَوْا تَسَاوِيَ اللَّفْظَيْنِ فِي الْأَوَّلِ، وَأَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ فِيهِ، وَافْتِرَاقُ الْمَعْنَى فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا جَاءَنِي رَجُلٌ يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُلُّ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا دَخَلَتْ مِنْ أَخْلَصَتِ النَّفْيَ لِلِاسْتِغْرَاقِ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: هِيَ لِلْعُمُومِ ظَاهِرًا عِنْدَ تَقْدِيرِ مِنْ، فَإِنْ دَخَلَتْ مِنْ كَانَتْ نَصًّا، وَالْمَشْهُورُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ الْخِلَافُ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَالْمُبَرِّدِ، فَسِيبَوَيْهِ قَالَ: إِنَّ الْعُمُومَ مُسْتَفَادٌ مِنَ النَّفْيِ قَبْلَ دُخُولِ مِنْ، وَالْمُبَرِّدُ قَالَ: أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ لَفْظِ مِنْ؛ وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ، وَكَوْنُ مِنْ تُفِيدُ النُّصُوصِيَّةَ بِدُخُولِهَا، لَا يُنَافِي الظُّهُورَ الْكَائِنَ قَبْلَ دُخُولِهَا.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ1: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، وَمَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ؛ مِنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِتَأْكِيدِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى.
وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ قَبْلَ دُخُولِ مِنْ لَمَّا كَانَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة} 2 و {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} 3 مُقْتَضِيًا لِلْعُمُومِ، وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ حُرُوفِ النَّفْيِ الدَّاخِلَةِ عَلَى النَّكِرَةِ بِفَرْقٍ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ حُكْمَ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ حُكْمُ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الصُّوَرِ فَهُوَ لِنَقْلِ الْعُرْفِ لَهُ عَنِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ.
الْفَرْعُ السَّادِسُ:
لَفْظُ مَعْشَرُ وَمَعَاشِرُ وَعَامَّةُ، وَكَافَّةُ وَقَاطِبَةً، وَسَائِرُ مِنْ صِيَغِ العموم في مثل قوله تعالى:
__________
1 هو محمد بن يوسف بن علي، الغرناطي، الأندلسي، أثير الدين، أبو حيان، من كبار العلماء بالعربية والتفسير والحديث والتراجم واللغات، ولد سنة أربع وخمسين وستمائة هـ، وتوفي سنة خمس وأربعين وسبعمائة هـ في القاهرة، بعد أن كف بصره، من آثاره: "البحر المحيط - طبقات نحاة الأندلس". ا. هـ. شذرات الذهب "6/ 145" إيضاح المكنون "1/ 24". ذيل تذكرة الحفاظ "23" معجم المؤلفين "12/ 130".
2 جزء من الآية "3" من سورة سبأ.
3 جزء من الآية "48" من سورة البقرة.(1/300)
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْس} 1 و"نحن معاشر الأنبياء لا نورث" 2 وجاءني القوم عامة، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة} و"ارتدت العرب قاطبة"4 وجاءني سَائِرُ النَّاسِ إِنْ كَانَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ سُورِ الْبَلَدِ وَهُوَ الْمُحِيطُ بِهَا كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ5، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَسْأَرَ بِمَعْنَى أَبْقَى فَلَا تَعُمُّ.
وَقَدْ حَكَى الْأَزْهَرِيُّ6 الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمَعْنَى الثَّانِي، وَغَلَّطُوا الْجَوْهَرِيَّ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ بِأَنَّهُ قَدْ وَافَقَ الْجَوْهَرِيَّ عَلَى ذَلِكَ السِّيرَافِيُّ فِي "شَرْحِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ"7 وَأَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْكَاتِبِ"8 وَابْنُ بري وغيرهم والظاهر أنها للعموم
__________
1 جزء من الآية "33" من سورة الرحمن.
2 أخرجه البخاري من حديث عائشة في فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "3711". ومسلم، كتاب الاجتهاد، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا نورث، ما تركنا فهو صدقة" "1759". وأبو داود، كتاب الخراج والإمارة، باب صفايا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "2969". والبيهقي، كتاب قسم الفيء والغنيمة "6/ 300". وأحمد في والإمارة "1/ 9". وابن حبان في صحيحه "4823".
3 جزء من الآية "36" من سورة التوبة.
4 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الإيمان باب كفر المرتدين بعد موت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم "32". والبخاري في الزكاة باب وجوب الزكاة "1399"، وأبو داود في الزكاة باب وجوبها "1556". والترمذي في الإيمان باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "2607". والنسائي في الزكاة باب مانع الزكاة "2442" "5/ 14".
5 هو إسماعيل بن حماد، أبو نصر بن حماد التركي، الأتراري، أحد من يضرب به المثل في ضبط اللغة، وهو أول من حاول الطيران ومات في سبيله، سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، من آثاره: "الصحاح". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 80" الأعلام "1/ 313"، شذرات الذهب "3/ 142".
6 هو محمد بن أحمد بن الأزهر بن طلحة، الأزهري، أبو منصور، العلامة اللغوي، الشافعي، كان رأسًا في اللغة والفقه، ثقة، ثبتًا، دينًا، من آثاره: "تهذيب اللغة" "التفسير" "تفسير ألفاظ المزني" "علل القراءات"، توفي سنة سبعين وثلاثمائة، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 315"، هدية العارفين "2/ 49"، شذرات الذهب "3/ 72".
7 هو الحسن بن عبد الله بن المرزبان، أبو سعيد، العلامة، إمام النحو، صاحب التصانيف، من آثاره: "ألفات القطع والوصل" "الإقناع" "أخبار النحاة".
وله كتاب يسمى: "شرح كتاب سيبويه"، وهو شرح أعجب المعاصرين له، حتى حسده الفارسي لظهور مزاياه على تعليقته التي علقها عليه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 247"، كشف الظنون "2/ 1427"، شذرات الذهب "3/ 65".
8 هو موهوب بن أحمد بن محمد، الإمام العلامة، اللغوي النحوي أبو منصور، إمام الخليفة المقتفى، ولد سنة ست وستين وأربعمائة هـ، من آثاره: "المعرب" و"التكملة في لحن العامة"، توفي سنة أربعين وخمسمائة هـ.
وله كتاب: "شرح أدب الكاتب"، طبع بمصر سنة "1350" هـ مصدرًا بمقدمة بليغة وافية لشيخ الأدب مصطفى صادق الرافعي، وأدب الكاتب لأبي محمد عبد الله بن مسلم، المعروف، بابن قتيبة النحوي، المتوفى سنة سبعين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "20/ 89" هدية العارفين "2/ 483"، كشف الظنون "1/ 48".
9 هو عبد الله بن بري بن عبد الجبار بن بري، المقدسي، ثم البصري، النحوي، الشافعي، أبو محمد، ولد سنة تسع وتسعين وأربعمائة هـ، من آثاره: "جواب المسائل العشر" "حواش على الصحاح" توفي سنة اثنتين وثمانيين وخمسمائة هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "21/ 137" الكامل لابن الأثير "9/ 175".(1/301)
وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا شمول ما "دلت"* عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ أَوِ الْبَاقِي كَمَا نَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَرَافِيُّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ.
الْفَرْعُ السَّابِعُ:
الْأَلِفُ وَاللَّامُ الْحَرْفِيَّةُ لَا الِاسْمِيَّةُ، تُفِيدُ الْعُمُومَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجَمْعِ، سَوَاءٌ كَانَ سَالِمًا أَوْ مُكَسَّرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ أَوِ الْكَثْرَةِ، وَكَذَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْجَمْعِ كَرَكْبٍ وَصَحْبٍ، وَقَوْمٍ وَرَهْطٍ، وَكَذَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اقْتِضَائِهَا لِلْعُمُومِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى مَذَاهِبَ ثَلَاثَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إذا كان هناك معهود حمل عَلَى الْعَهْدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُمِلَتْ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْعَهْدِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا تُحْمَلُ عِنْدَ فَقْدِ الْعَهْدِ عَلَى الْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ اسْتِغْرَاقٍ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ "الْمِيزَانِ"1، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ.
وَالرَّاجِحُ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ هُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ" مُسْتَدِلًّا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ: لَنَا وُجُوهٌ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَنْصَارَ لَمَّا طَلَبُوا الْإِمَامَةَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ أبو بكر بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ" 2، وَالْأَنْصَارُ سَلَّمُوا تِلْكَ الْحُجَّةَ، وَلَوْ لَمْ يَدُلَّ الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِلَامِ الْجِنْسِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ لَمَا صَحَّتْ تِلْكَ الدَّلَالَةُ؛ لأن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ"، لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ لَوَجَبَ أَنْ لَا ينافي وجود إمام من قوم آخرين.
__________
* في "أ": دخلت.
__________
1 صاحب "ميزان الأصول في نتائج العقول" في أصول الفقه، هو الشيخ الإمام علاء الدين، شمس النظر، أبو بكر محمد بن أحمد السمرقندي، الحنفي، الأصولي، المتوفى سنة ثلاثة وخمسين وخمسمائة. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1916".
2 أخرجه البيهقي من حديث أنس بن مالك، كتاب قتال أهل البغي، باب الأئمة من قريش "8/ 144". وأحمد في مسنده "3/ 183". والحاكم في المستدرك "4/ 75"، وسكت عنه الذهبي. وأبو يعلى في مسنده "3644". والطبراني في الأوسط "6606".(1/302)
فال: الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ يُؤَكَّدُ بِمَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ فِي أَصْلِهِ الاستغراق، أما أنه يؤكد فكقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} 1 وَأَمَّا أَنَّهُ بَعْدَ التَّأْكِيدِ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ فَبِالْإِجْمَاعِ.
"الْوَجْهُ الثَّالِثُ"*: الْأَلِفُ وَاللَّامُ إِذَا دَخَلَا فِي الاسم صار "بهما"** مَعْرِفَةً كَمَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَيَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى مَا بِهِ تَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ بِالصَّرْفِ إِلَى الْكُلِّ معلوم للمخاطب، فأما الصرف إلى ما دون فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمَعْرِفَةَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَجْمُوعِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَكَانَ مَجْهُولًا.
قَالَ: الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ أَيِّ وَاحِدٍ كَانَ مِنْهُ "ذَلِكَ"***.
وَذَلِكَ يُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَمِمَّنْ حَكَى إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى إِفَادَةِ هَذَا التَّعْرِيفِ لِلْعُمُومِ ابْنُ الْهُمَامِ فِي "التَّحْرِيرِ"، وَحَكَى أَيْضًا إِجْمَاعَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ لِعُمُومِ فَائِدَتِهِ وَلِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنِ الْمُعْظَمِ، وَصَاحِبُ "الْمِيزَانِ" عَنْ أَبِي بَكْرٍ السَّرَّاجِ النَّحْوِيِّ2، فَقَالَ: إِذَا تَعَارَضَ جِهَةُ الْعَهْدِ وَالْجِنْسِ يُصْرَفُ إِلَى الْجِنْسِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبَيْعِ قالا لأن الجنس يدخل تحته العهد، والعهد لا يدخل تحت الْجِنْسُ، وَرُوِيَ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّ عُمُومَهُ لَيْسَ مِنْ صِيغَتِهِ، بَلْ مِنْ قَرِينَةِ نَفْيِ الْمَعْهُودِ فَتَعَيَّنَ الْجِنْسُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقُشَيْرِيِّ.
قَالَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسُ3: إِنَّهُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلتَّعْرِيفِ وَلَيْسَتْ إِحْدَى جِهَتَيِ التَّعْرِيفِ بِأَوْلَى مِنَ الثَّانِيَةِ، فَيَكْتَسِبُ اللَّفْظُ جِهَةَ الْإِجْمَالِ لِاسْتِوَائِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا. انْتَهَى.
وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَحْثِ يَطُولُ جِدًّا فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْأُصُولِ، وَأَهْلُ النَّحْوِ، وَأَهْلُ الْبَيَانِ، بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا إِلَّا بَيَانَ مَا هُوَ الْحَقُّ وَتَعْيِينَ الرَّاجِحِ مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَمَنْ أَمْعَنَ
__________
* ما قوسين ساقط من "أ". ومكانها: أما أنه بعد التأكيد وهو تكرار.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 الآية "30" من سورة الحجر و"73" من سورة ص.
2 هو: محمد بن السري، البغدادي، النحوي، أبو بكر، صاحب المبرد، انتهى إليه علم اللسان، من آثاره: "أصول العربية" "شرح سيبويه" "احتجاج القراء" وغيرها، توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 483"، شذرات الذهب "2/ 273".
3 هو إليكا الطبري المتقدم ترجمته في الصفحة "98".(1/303)
النَّظَرَ وُجَوَّدَ التَّأَمُّلَ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ الْحَمْلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، إِلَّا أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ مَا يَقْتَضِي الْعَهْدَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي تَعْرِيفِ الْجِنْسِ.
وَأَمَّا تَعْرِيفُ الْجَمْعِ مُطْلَقًا وَاسْمُ الْجَمْعِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَهْدِمُ الْجَمْعِيَّةَ وَيُصَيِّرُهَا لِلْجِنْسِ، وَهَذَا يَدْفَعُ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ.
الْفَرْعُ الثَّامِنُ:
تَعْرِيفُ الْإِضَافَةِ: وَهُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعُمُومِ، كَالْأَلِفِ وَاللَّامِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ الْمُضَافِ جَمْعًا نَحْوَ عَبِيدُ زَيْدٍ أَوِ اسْمَ جَمْعٍ، نَحْوَ جَاءَنِي رَكْبُ الْمَدِينَةِ، أَوِ اسْمَ جِنْسٍ نَحْوَ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 1، وَمَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتِ الشَّامُ قَفِيزَهَا، وَصَاعَهَا، وَقَدْ صَرَّحَ الرَّازِيُّ: بِأَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُضَافَ يَعُمُّ مَعَ اخْتِيَارِهِ بِأَنَّ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَا يَعُمُّ.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فِي "النِّهَايَةِ"2: وَكَوْنُ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ لِلْعُمُومِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا "لَهُمْ"*، لَكِنَّ نَفْيَهُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَلَامِ التَّعْرِيفِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ عُمُومَ الْإِضَافَةِ أَقْوَى، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ حَنَثَ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ، لِعَدَمِ تَنَاهِي أَفْرَادِهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءَ الْبَحْرِ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِكُلِّهِ. انْتَهَى.
وَفِي هَذَا الْفَرْقِ نَظَرٌ، وَلَا يُنَافِي إِفَادَةَ إِضَافَةِ اسْمِ الْجِنْسِ لِلْعُمُومِ مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ فِيمَنْ قَالَ: زَوْجَتِي طَالِقٌ، وَلَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تُطَلَّقُ إِلَّا وَاحِدَةٌ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْعُرْفَ قَدْ خَصَّ هَذِهِ الصُّورَةَ وَأَمْثَالَهَا عَنِ الْمَوْضُوعِ اللُّغَوِيِّ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ حَكَى الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهَا تُطَلَّقُ الْأَرْبَعُ جَمِيعًا، بِخِلَافِ مَا عَدَا هَذِهِ الصُّورَةَ وَأَمْثَالَهَا، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَالِي صَدَقَةٌ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُم} 3 وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هو الطهور ماؤه الحل مَيْتَتُهُ" 4.
الْفَرْعُ التَّاسِعُ:
الْأَسْمَاءُ الْمَوْصُولَةُ، كَالَّذِي، وَالَّتِي، والذين، واللات، وذو الطائية5،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "34" من سورة إبراهيم.
2 واسمه: "نهاية الوصول إلى علم الأصول"، لصفي الدين محمد بن عبد الرحيم الهندي، وهو كتاب حسن جدًّا، ذكره السبكي، ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1991".
3 جزء من الآية "187" من سورة البقرة.
4 تقدم تخريجه في الصفحة "155".
5 وهي خاصة ببني طيئ، والمشهور بناؤها، وقد تعرب، كقوله: فحسبي من ذي عندهم ما كفانيا. ا. هـ. أوضح المسالك "1/ 159".(1/304)
وَجَمْعُهَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْقَرَافِيُّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ بِأَنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ تَقْتَضِي الْعُمُومَ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الْأَشْعَرِيِّ: إِنَّهَا تَجْرِي فِي بَابِهَا مَجْرَى اسْمٍ مَنْكُورٍ "كَقَوْلِنَا: رَجُلٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، فَلَا يُصَارُ إِلَى أَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَالْإِبْهَامُ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَةٍ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ"* كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك} 1 {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى} 2، {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} 3، وَمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ فَلِقَرِينَةٍ تُخَصِّصُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ اللُّغَوِيِّ.
الْفَرْعُ الْعَاشِرُ:
نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الشيئين كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة} 4، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَطَوَائِفُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ.
وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ.
اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ نَكِرَةٌ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ، وَكَذَلِكَ تُوصَفُ بِهَا النَّكِرَاتُ دُونَ الْمَعَارِفِ.
وَاسْتَدَلَّ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" لِلْآخَرِينَ بِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ مُطْلَقًا -أَيْ: فِي الْجُمْلَةِ- أَعَمُّ مِنْ نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، أَوْ مِنْ بَعْضِهَا وَالدَّالُّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لَا إِشْعَارَ فِيهِ بِهِمَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُهُمَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكْفِيَ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمُسَاوَاةِ الِاسْتِوَاءُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، أَوْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الِاسْتِوَاءِ مِنْ كُلِّ الوجوه، والأول باطل، وإلا لوجوب إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُسَاوَاةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، مِنْ كَوْنِهِمَا مَعْلُومَيْنِ، وَمَوْجُودَيْنِ، وَمَذْكُورَيْنِ، وَفِي سَلْبِ مَا عَدَاهُمَا عَنْهُمَا، وَمَتَى صَدَقَ عَلَيْهِ الْمُسَاوِي وَجَبَ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُسَاوِي؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْعُرْفِ كَالْمُتَنَاقِضَيْنِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: هَذَا يُسَاوِي ذَاكَ، فَمَنْ أَرَادَ تَكْذِيبَهُ قال: لا يساويه، والمناقضان لا يصدقان معًا فوجب أن لا يصدق عَلَى شَيْئَيْنِ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَغَيْرُ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا عَلِمْنَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ في المساواة المساواة من كل الوجوه
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "4" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "101" من سورة الأنبياء.
3 جزء من الآية "10" من سورة النساء.
4 جزء من الآية "20" من سورة الحشر.(1/305)
وحينئذ يكفي في نفي المساواة نفي الِاسْتِوَاءُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ هُوَ الْجُزْئِيُّ، فَإِذَا قُلْنَا لَا يَسْتَوِيَانِ لَا يُفِيدُ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ عَدَمَ إِشْعَارِ الْأَعَمِّ بِالْأَخَصِّ إِنَّمَا هُوَ فِي طَرِيقِ الْإِثْبَاتِ لَا في طريق النفي، فإن نفي الْأَعَمَّ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَخَصِّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ مثله في كل نفي، فلا يعم نَفْيٌ أَبَدًا إِذْ يُقَالُ فِي لَا رَجُلَ: رَجُلٌ أَعَمُّ مِنَ الرَّجُلِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ، فَلَا يُشْعَرُ بِهِ وَهُوَ خِلَافُ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: لَا مُسَاوَاةَ فَإِنَّمَا يُرَادُ نَفْيُ مُسَاوَاةٍ يَصِحُّ انْتِفَاؤُهَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْعُمُومِ، وَهُوَ من قبيل ما يخصصه العقل نحو قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 1 أَيْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يُخْلَقُ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَرْجِعَ الْخِلَافِ إِلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْإِثْبَاتِ هَلْ مَدْلُولُهَا لُغَةً الْمُشَارَكَةُ فِي كُلِّ الْوُجُوهِ حَتَّى يَكُونَ اللَّفْظُ شَامِلًا أَوْ مَدْلُولُهَا الْمُسَاوَاةُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، حَتَّى يَصْدُقَ بِأَيِّ وَجْهٍ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لَمْ يَكُنِ النَّفْيُ لِلْعُمُومِ؛ لِأَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ الْمُوجَبِ جُزْئِيٌّ سَالِبٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي كَانَ لِلْعُمُومِ؛ لِأَنَّ نَقِيضَ الْجُزْئِيِّ الْمُوجَبِ كُلِّيٌّ سَالِبٌ.
وَخُلَاصَةُ هَذَا أَنَّ صِيغَةَ "لا يستوي"* الاستواء إِمَّا لِعُمُومِ سَلْبِ التَّسْوِيَةِ، أَوْ لِسَلْبِ عُمُومِ التَّسْوِيَةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ شَيْءٍ مِنْ أفرادها، وعلى الثاني ثُبُوتُ الْبَعْضِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْمَذْهَبِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ حَرْفَ النَّفْيِ سَابِقٌ وَهُوَ يُفِيدُ سَلْبَ العموم لا عموم السلب، وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي وَقَعَ الْمِثَالُ بِهَا فَقَدْ صُرِّحَ فِيهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْأُمُورِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2 فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، وَقَدْ رَجَّحَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ مِنَ الْمُتَوَاطِئِ لَا مِنْ بَابِ الْعَامِّ، وَتَقَدَّمَهُ إِلَى تَرْجِيحِ الإجمال إليكا الطَّبَرِيُّ.
الْفَرْعُ الْحَادِي عَشَرَ:
إِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الشَّرْطِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ فَهَلْ يَكُونُ النَّفْيُ لَهُ نَفْيًا لِمَصْدَرِهِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فَيَقْتَضِي الْعُمُومَ أَمْ لَا؟ حَكَى الْقَرَافِيُّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَعُمُّ، وَقَالَ: إِنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ فِي "الْإِفَادَةِ" نَصَّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَلَمْ يُصَرَّحْ بِمَفْعُولِهِ نَحْوَ: لَا أَكَلْتُ، وَإِنْ أَكَلْتُ، وَلَا كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى مَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ، فَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أنه يعم.
__________
* في "أ": الاستواء.
__________
1 جزء من الآية "62" من سورة الزمر.
2 جزء من الآية "20" من سورة الحشر.(1/306)
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعُمُّ وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَجَعَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ نَحْوَ: يُعْطِي وَيَمْنَعُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولٍ لَا بِالْخُصُوصِ وَلَا بِالْعُمُومِ.
قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُتَعَدِّي وَاللَّازِمِ، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا عَلَى السَّوَاءِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْآمِدِيِّ وَالصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ، أَنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي إِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَوِ الشَّرْطِ هَلْ يَعُمُّ مَفَاعِيلَهُ أَمْ لَا، لَا فِي الْفِعْلِ اللَّازِمِ فَإِنَّهُ لَا يَعُمُّ.
وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِ مَصْدَرَيْهِمَا، فَيَكُونُ النَّفْيُ لَهُمَا نَفْيًا لَهُمَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَأَمَّا فِيمَا عَدَا الْمَصْدَرَ فَالْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَفْعُولٍ بِهِ فَحَذْفُهُ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِتَعْمِيمِهِ قَالُوا لَا يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا عَلَى جِهَةِ الْجَمْعِ، بَلْ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا الْمَاهِيَّةَ مُقَيَّدَةً، وَلَا يَنْبَغِي لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُنَازِعَ فِي ذلك.
الفرع الثاني عشر:
الأمر للجميع بصيغة الجمع كقوله: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} 1 عُمُومُهُ وَخُصُوصُهُ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، "وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ"* أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَشَارَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ غِلْمَانِهِ وَقَالَ: قُومُوا، فَمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْقِيَامِ مِنْهُمُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ لِلشُّمُولِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْقَرِينَةِ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": لِأَنَّ تِلْكَ الْقَرِينَةَ إِنْ كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الصِّيغَةِ فَقَدْ حَصَلَ مُرَادُنَا، وَإِلَّا فَلْنَفْرِضْ هَذِهِ الصِّيغَةَ مُجَرَّدَةً عَنْهَا وَيَعُودُ الْكَلَامُ. انْتَهَى.
وَمِمَّنْ صَرَّحَ أَنَّ عُمُومَ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْأَمْرِ وَخُصُوصَهَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَرْجِعِهَا الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ"، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فِي "النِّهَايَةِ"، وَذَكَرَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ افْعَلُوا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الْأَوْلَى أَنْ يُصْرَفَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، سَوَاءٌ كَانُوا ثَلَاثَةً أَوْ أَكَثَرَ، وَأَطْلَقَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التقريب"2 أن المطلقات لا عموم فيها
__________
* في "أ": يدل عليه.
__________
1 جزء من الآية "110" من سورة البقرة.
2 واسمه "التقريب في الفروع"، للإمام أبي الفتح، سليم بن أيوب الرازي، الذي تقدمت ترجمته "110" ا. هـ. كشف الظنون "1/ 446".(1/307)
فَائِدَةٌ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: أَنَّ أَعْلَى صِيَغِ الْعُمُومِ أَسْمَاءُ الشَّرْطِ، وَالنَّكِرَةُ فِي النَّفْيِ، وَادَّعَيَا الْقَطْعَ بِوَضْعِ ذَلِكَ لِلْعُمُومِ، وَصَرَّحَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" أَنَّ أَعْلَاهَا أَسْمَاءُ الشَّرْطِ، وَالِاسْتِفْهَامِ ثُمَّ النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ لِدَلَالَتِهَا بِالْقَرِينَةِ لَا بِالْوَضْعِ، وَعَكَسَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فَقَدَّمَ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ عَلَى الْكُلِّ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: أَبْيَنُ وجوه العموم، وألفاظ "الْجُمُوعِ"* ثُمَّ اسْمُ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، وَظَاهِرُهُ أن الإضافة دون ذلك في المرتبة، وَعَكَسَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي "تَفْسِيرِهِ"1 فَقَالَ: الْإِضَافَةُ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَالنَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ في سياق النفي والتي بمن أَدَلُّ مِنَ الْمُجَرَّدَةِ عَنْهَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ مَجِيءَ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ مُعَرَّفَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَكْثَرُ مِنْ مَجِيئِهَا مُضَافَةً.
وَقَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ فِي "التَّلْوِيحِ"2: أَلْفَاظُ الْعُمُومِ أَرْبَعَةٌ:
أَحَدُهَا: عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ كَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَالثَّانِي: عَامٌّ بِمَعْنَاهُ لَا بِصِيغَتِهِ كَالرَّهْطِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، قَالَ: وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ: أَلْفَاظٌ مُبْهَمَةٌ نَحْوَ مَا وَمَنْ، وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ أَحَدٍ.
وَالرَّابِعُ: النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ نَحْوَ لَمْ أَرَ رَجُلًا، وَذَلِكَ يَعُمُّ لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْكَلَامِ، وَتَحْقِيقِ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْإِفْهَامِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ بِصِيغَتِهِ.
فَالْعُمُومُ فِيهِ مِنَ الْقَرِينَةِ فَلِهَذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا3 فِي الْفَرْعِ الثَّالِثِ مَا يُفِيدُ أن لفظ كل أقوى صيغ العموم.
__________
* في "أ": الجمع.
__________
1 واسمه: "مفاتيح الغيب" للإمام فخر الدين الرازي، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "19"، وهو المعروف "بالتفسير الكبير"، قال ابن خلكان: جمع فيه كل غريب، وهو كبير جدًّا، لكنه لم يكمله. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1756".
2 لم نجد أحدًا ممن ترجم لإلكيا الهراس ذكر له هذا الكتاب.
2 انظر صفحة "296".(1/308)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي عُمُومِ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ لِلْقِلَّةِ أَوْ لِلْكَثْرَةِ
قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ الْمُنَكَّرَ لَيْسَ بِعَامٍّ لِظُهُورِهِ فِي العشرة، فما دونها؛ وأما "جموع"* الكثرة المنكرة، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ، وخالف في ذلك
__________
* في "أ": جمع.(1/308)
الْجَبَّائِيُّ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ بُرْهَانٍ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَاخْتَارَهُ الْبَزْدَوِيُّ وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ1 وهو أحد وجهي الشافعي، كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ "وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ"*.
احْتَجَّ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُنَكَّرَ لَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ عَنْ قَرِينَةِ الْعُمُومِ، نَحْوَ رَأَيْتُ رِجَالًا، اسْتِغْرَاقُ الرِّجَالِ، كَمَا أَنَّ رَجُلًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ الِاسْتِغْرَاقُ لِأَفْرَادِ مَفْهُومِهِ، وَلَوْ كَانَ لِلْعُمُومِ لَتَبَادَرَ مِنْهُ ذَلِكَ فَلَيْسَ الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ عَامًّا كَمَا أَنَّ رَجُلًا "كَذَلِكَ"**.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ" لَنَا أَنَّ لَفْظَ رِجَالٍ يُمْكِنُ نَعْتُهُ بِأَيِّ جَمْعٍ شِئْنَا، فَيُقَالُ: رِجَالٌ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسَةٌ، فَمَفْهُومُ قَوْلِكَ: رِجَالٌ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُورِدَ التَّقْسِيمِ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَالْمُورِدُ لِلتَّقْسِيمِ بِالْأَقْسَامِ يَكُونُ مُغَايِرًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ "وَغَيْرَ مُسْتَلْزِمٍ لَهَا، فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الْمُرَادِ لَا يَكُونُ لَهُ إِشْعَارٌ بِتِلْكَ الْأَقْسَامِ"*** فَلَا يَكُونُ دَالًّا عَلَيْهَا، وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فهي مما لا بد فيه فثبت أنه يفيد الثَّلَاثَ فَقَطْ.
احْتَجَّ الْقَائِلُونَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعُمُومَ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِطْلَاقُهُ عَلَى كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْجُمُوعِ، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْجَمِيعِ فَقَدْ حَمَلْنَاهُ عَلَى جَمِيعِ حَقَائِقِهِ، فَكَانَ أَوْلَى.
وَأُجِيبَ بِمَنْعِ إِطْلَاقِهِ عَلَى كُلِّ مَرْتَبَةٍ حَقِيقَةً، بل هو القدر الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا كَمَا تَقَدَّمَ2، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْخُصُوصِ أَصْلًا.
وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعُمُومِ لَكَانَ مُخَصَّصًا بِالْبَعْضِ، وَاللَّازِمُ منتفٍ لِعَدَمِ الْمُخَصِّصِ وَامْتِنَاعِ التَّخْصِيصِ بِلَا "مُخَصِّصٍ"****.
وَأُجِيبَ بِالنَّقْضِ بِرَجُلٍ وَنَحْوِهِ، مِمَّا لَيْسَ لِلْعُمُومِ ولا مختصًّا بالبعض، بل شائع يصلح للجمع، وَلَا يَخْفَاكَ ضَعْفُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لِلْعُمُومِ، فَإِنَّ دَعْوَى عُمُومِ رِجَالٍ لِكُلِّ رَجُلٍ مُكَابَرَةٌ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَمُعَانَدَةٌ لِمَا "يَفْهَمُهُ"***** كُلُّ عَارِفٍ بِهَا.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": كذا.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
**** في "أ": بلا خصوص.
***** في "أ": يعرفه.
__________
1 هو أحمد بن علي بن ثعلب، الحنفي، المعروف بابن الساعاتي، أبو العباس، مظفر الدين، فقيه، أصولي، أديب، ولد في بعلبك، وتوفي سنة أربع وتسعين وستمائة هـ، من آثاره: "بديع النظام الجامع بين كتابي البزدوي والأحكام". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 235"، الفوائد البهية "27"، معجم المؤلفين "2/ 4".
2 انظر صفحة: "305".(1/309)
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ
اخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي لَفْظِ الْجَمْعِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْجِيمِ وَالْمِيمِ وَالْعَيْنِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَإِلْكِيَا الْهَرَّاسُ، وَسُلَيْمٌ الرازي، فإن "ج، م، ع" مَوْضُوعُهَا يَقْتَضِي ضَمَّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ فِي الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ: بَلْ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا يُقَالُ: جَمَعْتُ الثَّوْبَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: لَفْظُ الْجَمْعِ فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعْنَيَانِ، الْجَمْعُ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ جَمَعَ يَجْمَعُ جَمْعًا، وَالْجَمْعُ الذي هو اللقب، وَهُوَ اسْمُ الْعَدَدِ قَالَ: وَبَعْضُ مَنْ لَمْ يهتد إلى الْفَرْقِ خَلَطَ الْبَابَ، فَظَنَّ أَنَّ الْجَمْعَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى اللَّقَبِ مِنْ جُمْلَةِ الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْجَمْعُ بِمَعْنَى الضَّمِّ، فَالْوَاحِدُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْوَاحِدِ فَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَثَبَتَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَخَالَفَ بِهَذَا الْقَوْلِ جَمِيعَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَسَائِرَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ أَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ فِي مَدْلُولِ مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} 1، وَقَوْلِ الْقَائِلِ: ضَرَبْتُ رُءُوسَ الرَّجُلَيْنِ، وَقَطَعْتُ بُطُونَهُمَا، بَلِ الْخِلَافُ فِي الصِّيَغِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمْعِ، سَوَاءٌ كان للسلامة أو التكسير، وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْغَزَالِيُّ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفِي أَقَلِّ الْجَمْعِ مَذَاهِبُ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ أَقَلَّهُ اثْنَانِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَكَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ2.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، وَحَكَاهُ ابن خوازمنداد، عَنْ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ الْبَاجِيُّ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ "الْمَصَادِرِ"3 عَنِ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو منصور
__________
1 جزء من الآية "4" من سورة التحريم.
2 هو عبد الملك بن الإمام عبد العزيز بن الماجشون، التيمي، المدني، المالكي، تلميذ الإمام مالك، أبو مروان، قال ابن عبد البر: كان فقيهًا فصيحًا، دارت عليه الفتيا في زمانه، وعلى أبيه قبله، توفي سنة ثلاث عشرة ومائتين هـ، وقيل: أربع عشرة ومائتين هـ. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 359"، تهذيب التهذيب "6/ 408"، الجرح والتعديل "5/ 358".
3 هو محمود بن علي بن محمود الحمصي المعروف بتاج الرازي الحكيم الشيعي المتوفى سنة خمسين وثلاثين وسبعمائة هـ. من آثاره: "الأمالي العراقية" و"المصادر" ا. هـ. هدية العارفين "2/ 408"، إيضاح المكنون "2/ 491".(1/310)
عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الدَّهَّانِ1 النَّحْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ2 وَأَبِي يُوسُفَ، وَالْخَلِيلِ3 وَنَفْطَوَيْهِ4.
قَالَ: وَسَأَلَ سِيبَوَيْهِ الْخَلِيلَ فَقَالَ: الِاثْنَانِ جَمْعٌ.
وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 5 لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا إِلَهًا مَعَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالُوا: {كَمَا لَهُمْ آلِهَة} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَارَ لَهُمْ إِلَهَانِ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْآلِهَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَة} 6 فَأَطْلَقَ الْإِخْوَةَ وَالْمُرَادُ أَخَوَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا إِجْمَاعًا.
وأجيب: بأنه قد ورد للاثنين مجازًا كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ: "لَيْسَ الْأَخَوَانِ إِخْوَةً فِي لِسَانِ قَوْمِكَ"، فَقَالَ عُثْمَانُ: "لَا أَنْقُضُ أَمْرًا كَانَ قَبْلِي وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ"7، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَيْهَقِيُّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عُثْمَانُ، بَلْ عَدَلَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَبِمِثْلِ هَذَا يُجَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ من قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُون} 8، والمراد موسى وهارون
__________
1 هو سعيد بن المبارك بن علي، أبو محمد الأنصاري، المعروف بابن الدهان، النحوي، المولود سنة أربع وتسعين وأبعمائة هـ، كان من أعيان النحاة وأفاضل اللغويين، قال العماد الكاتب: هو سيبويه عصره، ووحيد دهره، توفي سنة تسع وستين وخمسمائة هـ، من آثاره: "تفسير القرآن وشرح الإيضاح والفصول في النحو". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "20/ 581" معجم الأدباء "11/ 219"، هدية العارفين "1/ 391".
2 هو ابن داود الظاهري، تقدمت ترجمته في الصفحة "135".
3 هو الخليل بن أحمد بن عمر، أبو عبد الرحمن، الفراهيدي، البصري المولود سنة مائة هـ، وكان رأسًا في لسان العرب، دينًا، ورعًا، وهو منشئ علم العروض، توفي سنة ستين ومائة هـ، وقيل سبعين ومائة هـ، من آثاره: "كتاب العين والإيقاع والجمل" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "7/ 429" معجم الأدباء "11/ 72" الجرح والتعديل "3/ 380".
4 هو إبراهيم بن محمد بن عرفة، الأزدي، الواسطي، أبو عبد الله، المشهور بنفطويه، المولود سنة أربع وأربعين ومائتين هـ، كان عالمًا بالعربية واللغة والحديث، وكان فقيها عالما بمذهب داود الأصبهاني، توفي سنة ثلاثة وعشرين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "غريب القرآن وكتاب البارع" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 75"، معجم الأدباء "1/ 254"، شذرات الذهب "2/ 298".
5 جزء من الآية "138" من سورة الأعراف.
6 جزء من الآية "11" من سورة النساء.
7 أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض باب فرض الأم "6/ 227". والحاكم في المستدرك "4/ 335" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ولم أهتد إلى حديث في صحيح ابن خزيمة.
8 جزء من الآية "15" من سورة الشعراء.(1/311)
وَأَيْضًا قَدْ قِيلَ بِمَنْعِ كَوْنِ الْمُرَادِ مُوسَى وهارون فقط بل هما من فرعون وأما استدلالهم بما عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمْعٌ بَلْ قَالَ جَمَاعَةٌ يَعْنِي أَنَّهُمَا تَنْعَقِدُ بِهِمَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَحَكَاهُ ابْنُ الدَّهَّانِ النَّحْوِيُّ عَنْ جُمْهُورِ النُّحَاةِ وَقَالَ ابْنُ خَرُوفٍ فِي شَرْحِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ إِنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَهُوَ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ وَالسَّبْقُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ وَلَمْ يَتَمَسَّكْ مَنْ خَالَفَهُ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ واحد هذا حَكَاهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ وَأَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ صِحَّةَ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ وَإِرَادَةِ الْوَاحِدِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} الْمُرَادُ بِالْمُرْسَلِينَ نُوحٌ قَالَ الْقَفَّالُ(1/312)
الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي "الْأُصُولِ"1 بَعْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ: وَقَدْ يَسْتَوِي حُكْمُ التَّثْنِيَةِ وَمَا دُونَهَا بديل كَالْمُخَاطِبِ لِلْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، فِي قَوْلِهِ: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُون} 2 و {إِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} 3، وَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ لِلْوَاحِدِ: افْعَلَا، افْعَلُوا، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ مَجَازٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ حَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ، وَلَمْ يَأْتِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ أَصْلًا، بَلْ جَاءَ بِاسْتِعْمَالَاتٍ وَقَعَتْ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ خَارِجَةٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي جَوَازِ التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَنِ الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ، بَلِ النِّزَاعُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ مَعْنَاهُ حَقِيقَةً.
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: الْوَقْفُ، حَكَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي "شَرْحِ الْمَحْصُولِ"4 عَنِ الْآمِدِيِّ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُ الْآمِدِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ: وَإِذَا عُرِفَ مَأْخَذُ الْجَمْعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَعَلَى النَّاظِرِ الِاجْتِهَادُ فِي التَّرْجِيحِ، وَإِلَّا فَالْوَقْفُ لازم، هذا كلامه، وَمُجَرَّدُ هَذَا لَا يَكْفِي فِي حِكَايَتِهِ مَذْهَبًا. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا الْمَوْطِنَ لَيْسَ مِنْ مُوَاطِنِ الْوَقْفِ، فَإِنَّ مَوْطِنَهُ إِذَا تَوَازَنَتِ الْأَدِلَّةُ مُوَازَنَةً يَصْعُبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهَا، وَأَمَّا مِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يَأْتِ مَنْ خَالَفَ الْجُمْهُورَ بِشَيْءٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّلِيلِ، فَضْلًا عَنْ أن يكون صالحًا لموازنة ما يخالفه.
__________
1 هو الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي، وهو كتاب في أصول الشافعية. ا. هـ. سير أعلام البنلاء "16/ 284".
2 جزء من الآية "99" من سورة المؤمنون.
3 جزء من الآية "9" من سورة الحجر.
4 هو عبارة عن شرح على كتاب "المحصول" في أصول الفقه" وهو شرح حافل، للإمام شمس الدين، محمد بن محمود الأصفهاني، "الأصبهاني" المتوفى سنة ثمانٍ وسبعين وستمائة هـ، وعلق عليه بعض العلماء. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1615".(1/313)
المسألة التاسعة: "الخلاف فِي عُمُومِ الْفِعْلِ الْمُثْبَتِ"
الْفِعْلُ الْمُثْبَتُ إِذَا كَانَ لَهُ جِهَاتٌ فَلَيْسَ بِعَامٍّ فِي أَقْسَامِهِ؛ لأنه يقع على صفة وحدة فَإِنَّ عُرِّفَ تَعَيَّنَ وَإِلَّا كَانَ مُجْمَلًا يُتَوَقَّفُ فِيهِ، مِثْلَ قَوْلِ الرَّاوِي: "صَلَّى بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشفق"1 فلا يحمل على
__________
1 أخرجه مسلم من حديث بريدة، كتاب المساجد باب أوقات الصلوات الخمس "613" والترمذي كتاب الصلاة باب "115" منه "أي مواقيت الصلاة" "152" بنحوه وقال: حسن غريب صحيح، وابن ماجه، كتاب الصلاة باب مواقيت الصلاة "667". والنسائي، كتاب المواقيت، باب أول وقت المغرب "518" 1/ 258. والبيهقي في السنن، كتاب الصلاة. باب من قال للمغرب وقتان "1/ 370". وابن حبان في صحيحه "1492" وابن الجارود في المنتقي "151".(1/313)
الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ، وَكَذَلِكَ "صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ"1 فَلَا يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، هَكَذَا قَالَ الْقَاضِي "أَبُو بَكْرٍ"*، وَالْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ. وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ فِعْلٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاعِلَ لَمْ يَفْعَلْ كُلَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ فِعْلِهِ فَلَا مَعْنَى لِلْعُمُومِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَكَمَا لَا عُمُومَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحْوَالِ الْفِعْلِ، فَلَا عُمُومَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَشْخَاصِ، بَلْ يَكُونُ خَاصًّا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" 2، وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ دَلِيلَ التَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني} 4 وَنَحْوِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَائِرُ أُمَّتِهِ مِثْلُهُ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ.
وَأَطْلَقَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُثْبَتَ لَيْسَ بِعَامٍّ فِي أَقْسَامِهِ، ثُمَّ اخْتَارَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ"5 "وَقَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ"6 أَنَّهُ يَعُمُّ الْغَرَرَ وَالْجَارَ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَى ذَلِكَ شَيْخُهُ الْإِبْيَارِيُّ، وَالْآمِدِيُّ وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَيْسَ بِحِكَايَةٍ لِلْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ، بَلْ حِكَايَةٍ لِصُدُورِ النَّهْيِ مِنْهُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَالْحُكْمِ مِنْهُ بِثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ الصَّحَابِيِّ يَجِبُ أَنْ
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه مسلم من حديث ابن عمر، كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره "1329". وأبو داود، كتاب المناسك، باب الصلاة في الكعبة "2032". وابن ماجة كتاب المناسك، باب دخول الكعبة "3063". والنسائي، كتاب المساجد، باب الصلاة في الكعبة "691" 2/ 33. وابن حبان في صحيحه "3202".
2 تقدم تخريجه في الصفحة "105".
3 جزء من الآية "7" من سورة الحشر.
4 جزء من الآية "31" من سورة آل عمران.
5 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر "1513". وأبو داود، كتاب البيوع، باب بيع الغرر "3376". والنسائي كتاب البيوع، باب بيع الحصاة "4530" "7/ 262". والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر "1230" وقال: حسن صحيح. وابن ماجه، كتبا التجارات، باب النهي عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر "2194". وابن حبان في صحيحه "4951".
6 أخرجه البخاري في البيوع باب بيع الأرض والدور والعروض مشاعًا غير مقسوم "2214" وأحمد في مسنده "3/ 339" وابن ماجه في الشفعة باب إذا وقعت الحدود فلا شفعة "2497"، وأبو داود في البيوع والإجارات، باب في الشفعة "3515". ومالك في الموطأ في الشفعة باب ما تقع فيه الشفعة "2/ 713". والنسائي في البيوع باب ذكر الشفعة وأحكامها "7/ 321". وابن حبان في صحيحه برقم "5185".(1/314)
تَكُونَ مُطَابِقَةً لِلْمَقُولِ لِمَعْرِفَتِهِ بِاللُّغَةِ وَعَدَالَتِهِ، وَوُجُوبِ مطابقة الرواية لمسموع.
وَبِهَذَا تَعْرِفُ ضَعْفَ مَا قَالَهُ فِي "الْمَحْصُولِ" مِنْ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ نَهَى عَنْ بَيْعِ الغرر والحكم منه ثبوت الشُّفْعَةِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْمَحْكِيِّ، لَا فِي الْحِكَايَةِ، وَالَّذِي رَآهُ الصَّحَابِيُّ حَتَّى رَوَى النَّهْيَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِصُورَةٍ، وَاحِدَةٍ وَأَنْ يَكُونَ عَامًّا، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِالْعُمُومِ.
قَالَ: وَأَيْضًا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ"1 لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَكَذَا "إِذَا قَالَ"* سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَضَيْتُ بِالشُّفْعَةِ" لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ حِكَايَةً عَنْ قَضَاءٍ لِجَارٍ مَعْرُوفٍ وَيَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْرِيفِ، وَقَوْلُهُ: قَضَيْتُ، حِكَايَةٌ عَنْ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ ماضٍ، فَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَضَيْتُ بِالشُّفْعَةِ" وَقَوْلُ الرَّاوِي: أَنَّهُ قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ، فَالِاحْتِمَالُ فِيهِمَا قَائِمٌ، وَلَكِنَّ جَانِبَ الْعُمُومِ رَاجِحٌ "انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ جَانِبَ العموم راجح"** في الصورتين كليهما. أما في قَوْلُهُ: "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ" "وَقَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ" فَرُجْحَانُ عُمُومِهِ وَضَعْفُ دَعْوَى احْتِمَالِ كَوْنِهِ خَاصًّا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ لِمَا قَدَّمْنَا، وَقَدْ نَقَلَ الْآمِدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" وَهُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ، وَإِنْ قَالَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْحِكَايَةِ لِثِقَةِ الْحَاكِي وَمَعْرِفَتِهِ.
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْأُصُولِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَقْتَرِنَ الْفِعْلُ بِحَرْفِ أَنَّ فَيَكُونَ لِلْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ: "قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ"2 وَبَيْنَ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ فَيَكُونَ خَاصًّا نَحْوَ "قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ"، وَقَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَصَحَّحَهُ، وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ، وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ النِّزَاعَ لَفْظِيًّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَانِعَ لِلْعُمُومِ يَنْفِي عُمُومَ الصِّيغَةِ الْمَذْكُورَةِ، نَحْوَ أَمَرَ وَقَضَى، وَالْمُثْبِتُ لِلْعُمُومِ فِيهَا هُوَ بِاعْتِبَارِ دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ. انْتَهَى.
وَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ كَذَا فَلَا يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ كَانَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى التَّكْرَارِ لَا لَفْظَ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا نَحْوَ كَانَ يَجْمَعُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي قَوْلِ الرَّاوِي "جَمَعَ"*** وَنَحْوِهُ، وَهَذَا إِذَا دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى عَدَمِ الْخُصُوصِ كَوُقُوعِهِ بَعْدَ إِجْمَالٍ أَوْ إِطْلَاقٍ أَوْ عُمُومِ "صِيغَةٍ أَوْ صِفَةٍ" فَيُفْهَمُ أنه بيان فنتبعه.
__________
* في "أ": قول.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس، كتاب الأقضية، باب وجوب الحكم بشاهد ويمين "1712"، وأبو داود، كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد "3608"، وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين "2370". والبيهقي في السنن، كتاب الشهادات، باب القضاء باليمين مع الشاهد "10/ 167". والإمام أحمد في المسند "1/ 248" "2224".
2 تقدم تخريجه في الصفحة "156".(1/315)
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي عُمُومِ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
...
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي عموم نحو قوله تعالى: خذ من أمولهم صدقة
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة} 1 يَقْتَضِي أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يُخَصَّ بِدَلِيلٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَخْرَجُ هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌّ فِي الْأَمْوَالِ، وَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضُ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، فَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ فِي بَعْضِ الْمَالِ دُونَ بَعْضٍ.
قال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَوْلَا دَلَالَةُ السُّنَّةِ لَكَانَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ الْأَمْوَالَ كُلَّهَا سَوَاءٌ، وَأَنَّ الزَّكَاةَ فِي جَمِيعِهَا لَا فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهَا جَمْعٌ مُضَافٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: خُذْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً؛ إِذْ مَعْنَى الْعُمُومِ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بِمَنْعِ كَوْنِ مَعْنَى الْعُمُومِ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَعُمُّ، بَلْ إِذَا أَخَذَ مِنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً وَاحِدَةً فَقَدْ أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً، وَإِلَّا لَزِمَ أَخْذُ الصَّدَقَةِ مِنْ كُلِّ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ وَنَحْوِهِمَا، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْجَمْعَ لِتَضْعِيفِ الْمُفْرَدِ، وَالْمُفْرَدُ خُصُوصًا مِثْلَ الْمَالِ وَالْعِلْمِ، وَالْمَالُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُفْرَدُ فَيَكُونُ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ أَوِ الْإِضَافَةِ جَمِيعَ الْأَفْرَادِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ بِالْأَمْوَالِ وَالْعُلُومِ وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْقَرَائِنِ، وَقَدْ دَلَّ الْعُرْفُ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ في مثل {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الْأَنْوَاعُ لَا الْأَفْرَادُ، وَأَمَّا مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أن معنى الجمع
__________
1 جزء من الآية "103" من سورة التوبة.(1/316)
الْعَامِّ هُوَ الْمَجْمُوعُ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، أو كل واحد من الجموع لَا مِنَ الْآحَادِ، حَتَّى بَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ، فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ اللَّامَ وَالْإِضَافَةَ يَهْدِمَانِ الْجَمْعَ وَيُصَيِّرَانِهِ لِلْجِنْسِ.
وَذَهَبَ الْآمِدِيُّ إِلَى الْوَقْفِ فَقَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ وَمَأْخَذُ الْكَرْخِيِّ دَقِيقٌ. انْتَهَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنِ الْكَرْخِيِّ، فَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ بُرْهَانٍ مَا تَقَدَّمَ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي عُمُومَ وُجُوبِ "الْحَقِّ"* فِي سَائِرِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْعُمُومِ أَنَّ لَفْظَ مِنْ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ تَمْنَعُ مِنَ الْعُمُومِ.
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ مِن لَا بُدَّ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ صِفَةٌ لِلصَّدَقَةِ، وَالتَّقْدِيرُ كَائِنَةً أَوْ مَأْخُوذَةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الْعُمُومَ لِأَنَّ مَعْنَى كَائِنَةٍ أَوْ مَأْخُوذَةٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ أَنْ لَا يَبْقَى نَوْعٌ مِنَ الْمَالِ إِلَّا وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ {مِنْ أَمْوَالِهِم} إِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ {خُذ} فَالْمُتَّجِهُ "قَوْلُ"** الْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ مُطْلَقٌ، وَالصَّدَقَةَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَيَحْصُلُ الِامْتِثَالُ بِصَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ {صَدَقَة} "فالأقوى"*** قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. إِذَا كَانَتْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ دَلَالَةَ الْعُمُومِ الْكَائِنَةَ فِي أَمْوَالِهِمْ، فإنها كلية، فالواجب حينئذ أخذها مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ، عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْعُمُومِ وَلَا نَظَرَ إِلَى تَنْكِيرِ صَدَقَةً "لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ لِلْأَمْوَالِ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بخذ وَإِنِ اعْتُبِرَ لَفْظُ صَدَقَةً"**** وَأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَلَا عُمُومَ لَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَيْضًا. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ دُخُولَ مِن ههنا عَلَى الْأَمْوَالِ لَا يُنَافِي مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، بَلْ هُوَ عَيْنُ مُرَادِهِمْ؛ لِأَنَّهَا لَوْ حُذِفَتْ لَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَخْذِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ "نَوْعٍ"***** بَعْضُهُ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ هُوَ مَا وَرَدَ تَقْدِيرُهُ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مِنَ الْعُشْرِ فِي بَعْضٍ، وَنِصْفِ الْعُشْرِ فِي بَعْضٍ آخَرَ، وَرُبُعِ الْعُشْرِ فِي بَعْضٍ آخَرَ، وَنَحْوَ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرِيعَةِ كَزَكَاةِ الْمَوَاشِي، ثُمَّ هَذَا الْعُمُومُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ بِمَا يُفِيدُ تَخْصِيصَهُ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ دُونَ بَعْضٍ، فَوَجَبَ بِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الخاص
__________
* في "أ": الأخذ.
** في "أ": ما قال الكرخي.
*** في "أ": فالقول.
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".
***** ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/317)
المسألة الحادية عشر: الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَمْعِ
...
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: "الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَمْعِ"
الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَمْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ عَلَى أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: مَا يُخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْآخَرِ بِحَالٍ، كَرِجَالٍ لِلْمُذَكَّرِ وَنِسَاءٍ لِلْمُؤَنَّثِ، فَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ.
الثَّانِي: مَا يَعُمُّ الْفَرِيقَيْنِ بِوَضْعِهِ، وَلَيْسَ لِعَلَامَةِ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ فِيهِ مَدْخَلٌ كَالنَّاسِ، وَالْإِنْسِ، وَالْبَشَرِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْإِجْمَاعِ.
الثَّالِثُ: ما يشملهما بأصل وضعه، ولا يختص بِأَحَدِهِمَا إِلَّا بِبَيَانٍ، وَذَلِكَ نَحْوُ "مَا، وَمِنْ" فَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِثْلُ النَّاسِ وَالْبَشَرِ وَنَحْوِهِمَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} 1 فَلَوْلَا عُمُومُهُ لَهُمَا لَمْ يَحْسُنِ التَّقْسِيمُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ وَإِلْكِيَا الْهَرَّاسُ فِي "التَّلْوِيحِ" وَحَكَاهُ غَيْرُهُمَا عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَنَّهُمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا: أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ لِعَدَمِ دُخُولِهَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" 2، لَكِنَّ الْمَوْجُودَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهَا تَعُمُّ الْجَمِيعَ، وَصَرَّحَ بِهِ الْبَزْدَوِيُّ، وَشُرَّاحُ كِتَابِهِ3، وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ وَغَيْرُهُمْ؛ إِذْ نَقَلَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي مِنْ أَرِقَّائِي فَهُوَ حُرٌّ، دَخَلَ فِيهِ الْإِمَاءُ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّقَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَصِيَّةً، أَوْ تَوْكِيلًا، أَوْ إذنًا في أمر، لم يختص بالذكور، وَأَمَّا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فَخَصَّ الْخِلَافَ بِمَا إِذَا كَانَتْ شَرْطِيَّةً.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَنْ الْمَوْصُولَةِ وَالِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ جَارٍ فِي الْجَمِيعِ. انْتَهَى.
__________
1 جزء من الآية "124": من سورة النساء.
2 أخرجه البخاري من حديث ابن عباس، كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله "3017". والترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في المرتد "1458". وأبو داود، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد "4351". والنسائي، كتاب التحريم، باب الحكم في المرتد "4072" "7/ 104". وابن ماجه، كتاب الحدود، باب المرتد عن دينه "2535". وابن حبان في صحيحه "4475".
3 واسمه: "أصول الإمام فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي"، واشتهر باسم "كشف الأسرار"، وهو كتاب عظيم الشأن، جليل البرهان، محتوٍ على لطائف الاعتبار بأوجز العبارات، تأبى على الطلبة مرامه، واستعصى على العلماء زمامه، فشرحه جمع من الفحول، منهم: أكمل الدين البابرتي. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 112".(1/318)
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ دَعْوَى اخْتِصَاصِ مَنْ بِالذُّكُورِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ "إِلَى مَنْ يَعْرِفُ لُغَةَ الْعَرَبِ، بَلْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ"* إِلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ.
الرَّابِعُ: مَا يُسْتَعْمَلُ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فِي الْمُؤَنَّثِ، وَبِحَذْفِهَا فِي الْمُذَكَّرِ، وَذَلِكَ الْجَمْعُ السَّالِمُ نَحْوَ مُسْلِمِينَ لِلذُّكُورِ وَمُسْلِمَاتٍ لِلْإِنَاثِ، وَنَحْوَ فَعَلُوا وَفَعَلْنَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النِّسَاءُ فِيمَا هُوَ لِلذُّكُورِ إِلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا لَا يَدْخُلُ الرِّجَالُ فيما هو النساء إِلَّا بِدَلِيلٍ.
قَالَ الْقَفَّالُ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْأَسْمَاءَ وُضِعَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُسَمَّى فَحَصَلَ كُلُّ نَوْعٍ بِمَا يُمَيِّزُهُ فَالْأَلِفُ وَالتَّاءُ جُعِلَتَا عَلَمًا لِجَمْعِ الْإِنَاثِ، وَالْوَاوُ وَالْيَاءُ وَالنُّونُ لِجَمْعِ الذُّكُورِ وَالْمُؤْمِنَاتُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَاتَلُوا خِلَافُ قَاتَلْنَ، ثُمَّ قَدْ تَقُومُ قَرَائِنُ تَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ دُخُولُ الْإِنَاثِ فِي الذُّكُورِ، وَقَدْ لَا تَقُومُ قَرَائِنُ فَيُلْحَقْنَ بِالذُّكُورِ بِالِاعْتِبَارِ وَالدَّلَائِلِ، كَمَا يُلْحَقُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ بِالْمَذْكُورِ بِدَلِيلٍ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا إِجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ، فَلَوْلَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ لِلْمُذَكَّرِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْغَالِبَ، وَلَمْ يَكُنْ حَظُّهُ فِيهَا كَحَظِّ الْمُؤَنَّثِ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا "اسْتَقَلَّ"** إِفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِوَصْفٍ فَغُلِّبَ الْمُذَكَّرُ وَجُعِلَ الْحُكْمُ لَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ تَوَابِعُ. انْتَهَى.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَنْصُورِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَإِلْكِيَا الْهَرَّاسُ، وَنَصَرَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَنَقَلَهُ عَنْ مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ مُعْظَمِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ إِلَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنِ ابْنِ خوازمنداد وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الْحَنَابِلَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ.
وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عَدَمِ التَّنَاوُلِ إِلَّا عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ عِنْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ لِاخْتِصَاصِ الصِّيغَةِ لُغَةً وَوُقُوعِ التَّصْرِيحِ بِمَا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ مَعَ مَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ فِي نَحْوِ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات} 1، وَقَدْ ثَبَتَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ: مَا نَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ إِلَّا الرِّجَالَ ... فَنَزَلَتْ2.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": استثقل.
__________
1 جزء من الآية "35" من سورة الأحزاب.
2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث أم سلمة "6/ 301، 305". والنسائي في الكبرى "11404". انظر تحفة الأشراف للمزي "13/ 1819"، وابن جرير الطبري في تفسيره "12/ 10".(1/319)
قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَالنُّحَاةِ أَنَّ جَمْعَ الْمُذَكَّرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُؤَنَّثَ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى تَنَاوُلِهِ الْجِنْسَيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اشْتِرَاكُ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي الْأَحْكَامِ لَمْ تُقْصَرِ الْأَحْكَامُ عَلَى الذُّكُورِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَحَاصِلُهُ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي ظُهُورِهِ لِاشْتِهَارِهِ عُرْفًا.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَكَلَامُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ يُشْعِرُ بِتَخْصِيصِ الْخِلَافِ بِالْخِطَابَاتِ الْوَارِدَةِ مِنَ الشَّرْعِ لِقَرِينَةٍ عَلَيْهِ وَهِيَ الْمُشَارَكَاتُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. قَالَ: وَاتَّفَقَ الْكُلُّ أَنَّ الْمُذَكَّرَ لَا يَدْخُلُ تحته وإن وَرَدَ مُقْتَرِنًا بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ.
وَمِنْ أَقْوَى مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالتَّعْمِيمِ: إِجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ، وَعَلَى هَذَا وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} 1 فِي خِطَابِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ.
وَيُجَابُ عَلَى هَذَا: بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَصْلِ الْوَضْعِ، وَلَا بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ، بَلْ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ إِرَادَةِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ إِرَادَتُهُ مِنْهُ. إِذَا وَرَدَ مُطْلَقًا بِغَيْرِ قَرِينَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ صِيغَةَ الذُّكُورِ عند إطلاقها موضوعة لتناول الجميع، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَاضِحٌ لَا يَنْبَغِي الْخِلَافُ فِي مِثْلِهِ، وَلَمْ يَأْتِ الْقَائِلُونَ بِالتَّنَاوُلِ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالُوهُ لَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ العقل.
__________
1 جزء من الآية "38" من سورة البقرة.(1/320)
المسألة الثانية عشر: في عموم الخطاب بمثل يا أيها الناس
...
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِي عُمُومِ الْخِطَابِ بِمِثْلِ "يا أيها الناس ... "
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ بِمِثْلِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَنَحْوِهَا مِنَ الصِّيَغِ يَشْمَلُ الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَعُمُّهُمْ شَرْعًا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إن كان الخطاب في حقوق الله تعالى فَإِنَّهُ يَعُمُّهُمْ دُونَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَلَا يَعُمُّهُمْ.
وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ خُرُوجُهمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ "لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى رَفْعِ"* الْخِطَابِ عَنْهُمْ بِهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: إِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ اتِّبَاعًا لِمُوجِبِ الصِّيغَةِ، وَلَا يَخْرُجُونَ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يَأْتِ الْقَائِلُونَ بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، فَإِنَّ مَا زَعَمُوهُ مِنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ بَعْضِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِمْ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ اقْتَضَى ذَلِكَ فَكَانَ كَالْمُخَصِّصِ لعموم الصيغة الشاملة لهم.
__________
* في "ب": لدليل على رفع.(1/320)
المسألة الثالثة عشرة: "دُخُولِ الْكَافِرِ فِي الْخِطَابِ الصَّالِحِ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ"
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى دُخُولِ الْكَافِرِ فِي الْخِطَابِ الصَّالِحِ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ نَحْوَ: {يَا أَيُّهَا النَّاس} إِذَا وَرَدَ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: يَدْخُلُونَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ دُخُولِ الْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ إِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ فَهُوَ مُكَابَرَةٌ، وَإِنْ زَعَمُوا التَّنَاوُلَ لَكِنَّ الْكُفْرَ وَالرِّقَّ فِي الشَّرْعِ خَصَّصَهُمْ، فَهُوَ بَاطِلٌ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُمَا مُكَلَّفَانِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا الْخِطَابُ الْخَاصُّ بِالْمُسْلِمِينَ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ فَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَشْمَلُ غَيْرَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ اخْتَارَ التَّعْمِيمَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ لِعُمُومِ التَّكْلِيفِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ "إِنَّمَا"* خُصِّصُوا "بِالذِّكْرِ"** مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّشْرِيفِ لا خطاب التخصيص بدليل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} 1، وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّنَاوُلِ بِالصِّيغَةِ لَا بِأَمْرٍ خَارِجٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَفْظًا وَإِنْ قُلْنَا أَنَّهُمْ مخاطبون إلا بدليل منفصل.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "278" من سورة البقرة.(1/321)
المسألة الرابعة عشرة: "الْخِطَابِ الشَّفَاهِيِّ"
الْخِطَابُ الْوَارِدُ شَفَاهًا فِي عَصْرِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ: {يَا أَيُّهَا النَّاس} 1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 2، وَيُسَمَّى خِطَابَ الْمُوَاجَهَةِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لا خلاف في شموله من بَعْدَهُمْ مِنَ الْمَعْدُومِينَ حَالَ صُدُورِهِ، لَكِنْ هَلْ بِاللَّفْظِ أَوْ بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ.
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَشْمَلُهُمْ بِاللَّفْظِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَشْمَلُهُمْ بِاللَّفْظِ لِمَا عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِأَهْلِ زمانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 3، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً" 4، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا} 5 منهم إِلَى قَوْلِهِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِم} 6، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي "شَرْحِ الْعُنْوَانِ": الْخِلَافُ فِي أَنَّ خِطَابَ الْمُشَافَهَةِ هَلْ يَشْمَلُ غَيْرَ الْمُخَاطَبِينَ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُنْظَرَ إِلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ لُغَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِمَّا أن يقال إن المحكم يُقْصَرُ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا عُلِمَ قَطْعًا مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ عَامَّةٌ إِلَّا حَيْثُ يَرِدُ التَّخْصِيصُ. انْتَهَى.
وبالجملة فلا فائدة لنقل ما احتج بها الْمُخْتَلِفُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ الْخِطَابَ الشَّفَاهِيَّ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَوْجُودِينَ "بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ لَا إِلَى الْمَعْدُومِينَ، وَنَقْطَعُ بِأَنَّ غَيْرَ الْمَوْجُودِينَ"* وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمُ الْخِطَابُ، فَلَهُمْ حُكْمُ الْمَوْجُودِينَ فِي التَّكْلِيفِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، حَيْثُ كَانَ الْخِطَابُ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى تخصيصهم بالموجودين.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "21" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "153" من سورة البقرة وفي غيرها كثير.
3 جزء من الآية "19" من سورة الأنعام.
4 أخرج مسلم نحوه من حديث جابر، كتاب المساجد "521". والبخاري في التيمم، باب التيمم "335". والنسائي في الغسل، باب التيمم بالصعيد "1/ 210" "430". والبيهقي في السنن، كتاب الطهارة، باب التيمم بالصعيد الطيب "1/ 212". وابن حبان في صحيحه "6398".
5 جزء من الآية "2" من سورة الجمعة.
6 جزء من الآية "3" من سورة الجمعة.(1/322)
المسألة الخامسة عشرة: "الْخِطَابِ الْخَاصِّ بِالْأُمَّةِ"
الْخِطَابُ الْخَاصُّ بِالْأُمَّةِ نَحْوَ: يَا أَيُّهَا الْأُمَّةُ، لَا يَشْمَلُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي كِتَابِ "الْإِفَادَةِ": وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْخِطَابُ بِلَفْظٍ يَشْمَلُ الرَّسُولَ نَحْوَ: {يَا أَيُّهَا النَّاس} 1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 2 {يَا عِبَادِي} 3 فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَشْمَلُهُ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ لَا يَشْمَلُهُ، "وَقَالَ أَبُو بكر الصيرفي وَالْحَلِيمِيُّ: إِنْ كَانَ يَتَنَاوَلُهُ بِالْقَوْلِ نَحْوَ قُلْ فَلَا يَشْمَلُهُ"* وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ شَامِلًا، لَهُ وَاسْتَنْكَرَ هَذَا التَّفْصِيلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِيهِمَا جَمِيعًا مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ خِطَابَهُ إِلَيْنَا فَلَا مَعْنَى لِلتَّفْرِقَةِ.
وَفَصَّلَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ بِتَفْصِيلٍ آخَرَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْخِطَابُ مِنَ الْكِتَابِ فهو مبلغ عن الله سبحانه، والمبلغ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السُّنَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا أَوْ لَا، فَإِنْ قُلْنَا مُجْتَهِدٌ فَيَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْمُخَاطِبَ هَلْ يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ أَمْ لَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فَهُوَ مُبَلِّغُ وَالْمُبَلِّغُ "إِذَنْ"** دَاخِلٌ تَحْتَ الْخِطَابِ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ الْخِطَابَ بِالصِّيغَةِ التي تشمله يتناوله بمتقضى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَلَا شُبْهَةَ حَيْثُ كَانَ الْخِطَابُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سبحانه تعالى. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ مِنْ جِهَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِي دُخُولِ الْمُخَاطِبِ فِي خِطَابِهِ.
وَمَا قِيلَ: مِنْ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَدْفُوعٌ بِظُهُورِ الْفَائِدَةِ فِي الْخِطَابَاتِ الْعَامَّةِ "إِذَا"*** فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُخَالِفُهَا، فَإِنْ قُلْنَا: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ كَانَ فِعْلُهُ تَخْصِيصًا، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِدَاخِلٍ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُخَصِّصًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ. وَأَمَّا الْخِطَابُ المختص بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} 4 {يَا أَيُّهَا النَّبِي} 5 فذهب
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": وإذا.
__________
1 جزء من الآية "21" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "153" من سورة البقرة.
3 جزء من الآية "53" من سورة الزمر.
4 جزء من الآية "40" من سورة المائدة.
5 جزء من الآية "1" من سورة الطلاق، والآية "1" من سورة التحريم.(1/323)
الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْأُمَّةُ إلا بدليل من خارج، وقيل إه يَشْمَلُ الْأُمَّةَ؛ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهَؤُلَاءِ إِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنَ اللَّفْظِ فَهُوَ جَهَالَةٌ، وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1 وما يجري مجرى ذلك فهو "خرج"* عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا إِنَّمَا أُوجِبَ عَلَى الْأُمَّةِ لَا بِمُجَرَّدِ الْخِطَابِ الْمُتَنَاوِلِ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطْ، بَلْ بِالدَّلِيلِ الْآخَرِ. انْتَهَى.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَمَا قَالُوهُ بَعِيدٌ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّعْبِيرِ بِالْكَبِيرِ عَنْ أَتْبَاعِهِ فَيَكُونَ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً.
وَحُكِيَ "عَنْ"** إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ قال: إما أن ترد الصيغة في التَّخْصِيصِ أَوْ لَا، فَإِنْ وَرَدَتْ فَهُوَ خَاصٌّ، وَإِلَّا فَهُوَ عَامٌّ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى التَّخْصِيصِ، وَلَا عَلَى التَّعْمِيمِ. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ ضَعْفُ هَذَا التَّفْصِيلِ وَرَكَاكَةُ مَأْخَذِهِ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي نَفْسِ الصِّيغَةِ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِلَا شَكٍّ فَوُرُودُهَا، فِي مَحَلِّ التخصيص لا يزيدها تخصيصًا باعتبار اللفظ، ورودها فِي مَحَلِّ التَّعْمِيمِ لَا يُوجِبُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الدَّلِيلِ "الدَّالِّ عَلَى التَّعْمِيمِ"*** فَهُوَ غير محل النزاع.
__________
* في "أ": خارج.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "7" من سورة الحشر.(1/324)
المسألة السادسة عشرة: حكم الخطاب الخاص بواحد من الأمة
الْخِطَابُ الْخَاصُّ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ إِنْ صُرِّحَ بِالِاخْتِصَاصِ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تجزئك ولا تجزئ أحدًا بعدك" 1 فَلَا شَكَّ فِي اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ الْمُخَاطَبِ؛ وَإِنْ لَمْ يُصَرَّحْ فِيهِ بِالِاخْتِصَاصِ بِذَلِكَ الْمُخَاطَبِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ الْمُخَاطَبِ، وَلَا يتناول غيره إلا بدليل من خارج.
__________
تقدم تخريجه في الصفحة "160".(1/324)
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يَعُمُّ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ كَحُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ"1، وما روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ" 2، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ عَلَى أَنَّ حُكْمَ غَيْرِ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ كَحُكْمِهِ، كَانَ لَهُ حُكْمُهُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي نَفْسِ تِلْكَ الصِّيغَةِ الْخَاصَّةِ، هَلْ تَعُمُّ بِمُجَرَّدِهَا أَمْ لَا؟
فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَعُمُّهَا بِلَفْظِهَا فَقَدْ جَاءَ بِمَا لَا تُفِيدُهُ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَلَا تَقْتَضِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: هُوَ عَامٌّ بِالشَّرْعِ لَا "بِوَضْعِ اللُّغَةِ"* لِلْقَطْعِ بِاخْتِصَاصِهِ بِهِ لُغَةً.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ؛ إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْخِطَابَ خَاصٌّ لُغَةً بِذَلِكَ الْوَاحِدِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ عَامٌّ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَقِيلَ: بَلِ الْخِلَافُ مَعْنَوِيٌّ لَا لَفْظِيٌّ، لِأَنَّا نَقُولُ: الأصل ما هو؟ هل هو مورد الشرعي أَوْ مُقْتَضَى اللُّغَةِ؟
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ التَّعْمِيمَ منتفٍ لُغَةً ثابت شرعًا، والخلاف في أن للعادة هل تقتضي بِالِاشْتِرَاكِ بِحَيْثُ يَتَبَادَرُ فَهْمُ أَهْلِ الْعَرَبِ إِلَيْهَا أولًا، فَأَصْحَابُنَا -يَعْنِي الشَّافِعِيَّةَ- يَقُولُونَ: لَا قَضَاءَ لِلْعَادَةِ في ذلك، كما لا قضاء للغة والخصم يقول إنها تقتضي بِذَلِكَ. انْتَهَى.
وَالْحَاصِلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَقُّ. وَيُوجِبُهُ الْإِنْصَافُ عَدَمُ التَّنَاوُلِ لِغَيْرِ الْمُخَاطَبِ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةِ، بَلْ بِالدَّلِيلِ الْخَارِجِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ الاستدلال بأقضيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَاصَّةِ بِالْوَاحِدِ، أَوِ الْجَمَاعَةِ الْمَخْصُوصَةِ عَلَى ثُبُوتِ مِثْلِ ذَلِكَ لِسَائِرِ الْأُمَّةِ فَكَانَ هَذَا مَعَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عُمُومِ الرِّسَالَةِ، وَعَلَى اسْتِوَاءِ أَقْدَامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُفِيدًا لِإِلْحَاقِ غَيْرِ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ بِهِ فِي ذلك الحكم عند الإطلاق "إلا"** إلى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ.
فَعَرَفْتَ بِهَذَا أَنَّ الرَّاجِحَ التَّعْمِيمُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، لَا كَمَا قِيلَ: إِنَّ الرَّاجِحَ التَّخْصِيصُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّعْمِيمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قام كما ذكرناه.
__________
* في "أ": بالوضعي للقطع.
** في "أ": إلى.
__________
1 ذكره في كشف الخفاء قال: ليس له أصل بهذا اللفظ كما قال العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي. ا. هـ. كشف الخفاء "1/ 364".
2 أخرجه الترمذي من حديث أميمة بنت رقيقة في السير باب ما جاء في بيعة النساء "1597" وقال: حسن صحيح. والنسائي في البيعة، باب بيعة النساء "4192" "7/ 149". ومالك في الموطأ كتاب البيعة باب ما جاء في البيعة "2/ 982". والإمام أحمد في المسند "6/ 357". والحميدي في مسنده "341".(1/325)
المسألة السابعة عشرة: حكم دخول المخاطِب تحت عموم خطابه
اختلفو افِي المخاطِب -بِكَسْرِ الطَّاءِ- هَلْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ "يُخَصِّصُهُ. وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ إِلَّا بِدَلِيلٍ"*.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا وَرَدَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفظ عام في إيجاب "حكم"** حُكْمِهِ أَوْ حَظْرِهِ، أَوْ إِبَاحَتِهِ، هَلْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى دُخُولِهِ فِيهِ أَمْ لَا؟ قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْأَوْسَطِ"1: ذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْآمِرَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ، وَنَقَلَ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ دُخُولَهُ. انْتَهَى.
وَنَقْلُهُ لِهَذَا الْقَوْلِ عَنْ مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ يُخَالِفُ نَقْلَ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ، وَالرَّازِيِّ فِي "الْمَحْصُولِ" وَابْنِ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى"2 وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا دُخُولَ الْمُخَاطِبِ فِي خِطَابِهِ مَذْهَبَ الْأَكْثَرِينَ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: إِنَّ خِطَابَهُ يَتَنَاوَلُهُ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ عَادَةً؛ فَذَهَبَ إِلَى التَّفْصِيلِ، وَتَابَعَهُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ إِلْكِيَا الْهَرَّاسُ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ تَعْرِضُ فِي الْأَمْرِ مَرَّةً، وَفِي النَّهْيِ مَرَّةً، وَفِي الْخَبَرِ مَرَّةً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى دُخُولِهِ. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ مُرَادُ الْقَائِلِ بِدُخُولِهِ فِي خِطَابِهِ أَنَّ مَا وُضِعَ لِلْمُخَاطَبِ يَشْمَلُ الْمُتَكَلِّمَ وَضْعًا، فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَشْمَلُهُ حُكْمًا فَمُسَلَّمٌ إذا دل عليه دليل أو كان الوضع شاملًا له كألفاظ العموم.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": حكمه.
__________
1 واسمه: "الأوسط في أصول الفقه"، للشهاب أحمد بن علي، المعروف بابن برهان، الشافعي، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "98"، ا. هـ. كشف الظنون "1/ 201".
2 وهو مختصر لكتابه المسمى "منتهى السهول والأمل في علمي الأصول والجدل" لابن الحاجب المالكي، وهو المشهور: "بمختصر المنتهى، ومختصر ابن الحاجب"، وهو غريب في صنعه، بديع في فنه، لغاية إيجازه يضاهي الألغاز، وبحسن إيراده يحاكي الإعجاز، اعتنى بشأنه الفضلاء فشرحوه. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1853".(1/326)
المسألة الثامنة عشرة: عُمُومِ الْمُقْتَضَى
اخْتَلَفُوا فِي الْمُقْتَضَى هَلْ هُوَ عَامٌّ أَمْ لَا؟ وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ تَصْوِيرِهِ قَبْلَ نَصْبِ الْخِلَافِ فِيهِ، فَنَقُولُ: المقتضِي بِكَسْرِ الضَّادِ، هُوَ اللَّفْظُ الطَّالِبُ لِلْإِضْمَارِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِإِضْمَارِ شَيْءٍ، وَهُنَاكَ مُضْمَرَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَهَلْ تُقَدَّرُ جَمِيعُهَا، أَوْ يُكْتَفَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ التَّقْدِيرُ هُوَ المقتضَى بِفَتْحِ الضَّادِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا لِذَلِكَ أَمْثِلَةً، مِثْلَ قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 1 و"قدره بَعْضُهُمْ: وَقْتُ إِحْرَامِ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ: وَقْتُ أَفْعَالِ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ"*، وَمِثْلُ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ" 2 فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَسْتَقِيمُ بِلَا تَقْدِيرٍ، لِوُقُوعِهِمَا مِنَ الْأُمَّةِ، فَقَدَّرُوا فِي ذَلِكَ تَقْدِيرَاتٍ مُخْتَلِفَةً، كَالْعُقُوبَةِ، وَالْحِسَابِ، وَالضَّمَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات" 3 وأمثال ذلك كثيرة، فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ فَائِدَةً، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْجَمِيعِ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ لَفْظٌ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ انْتَهَى.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ، بَلْ يُقَدَّرُ مِنْهَا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إِرَادَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ دليل على إرادته، وَاحِدٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ كَانَ مُجْمَلًا بَيْنَهَا وَبِتَقْدِيرِ الْوَاحِدِ مِنْهَا الَّذِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَتَنْدَفِعُ الْحَاجَةُ فَكَانَ ذِكْرُ مَا عَدَاهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ.
وَأَيْضًا قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيمَا تَقْتَضِيهِ الضَّرُورَةُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَقَدِ اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وفخر الدين الرازي،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 جزء من الآية "197" من سورة البقرة.
2 أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي "2045". والحاكم في المستدرك، كتاب الطلاق، "2/ 198" وقال: حديث صحيح. والدارقطني في السنن، كتاب النذور "4/ 170". والبيهقي في السنن، كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء في طلاق المكره "7/ 356" وقال: جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات. وابن حبان في صحيحه "7219". وفي الباب عن عبد الله بن عمر، وعقبة بن عامر، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وغيرهم.
3 تقدم تخريجه في الصفحة "156".(1/327)
وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" مُسْتَدِلًّا لِلْقَائِلِينَ بِعُمُومِ الْمُقْتَضَى: بِأَنَّ إِضْمَارَ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ إِضْمَارِ الْآخَرِ، فَإِمَّا أَنْ لَا يُضْمَرَ حُكْمٌ أَصْلًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ تَعْطِيلٌ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ، أَوْ يُضْمَرَ الْكُلُّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
هَكَذَا اسْتَدَلَّ لَهُمْ وَلَمْ يُجِبْ عَنْ ذَلِكَ.
وَأَجَابَ الْآمِدِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ إِضْمَارُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ قُلْنَا بِإِضْمَارِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ إِضْمَارُ حُكْمٍ مَا، وَالتَّعْيِينُ إِلَى "الدَّلِيلِ"*؛ ثُمَّ أُورِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْإِجْمَالُ.
وَأَجَابَ: بِأَنَّ إِضْمَارَ الْكُلِّ يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْثِيرُ مُخَالَفَةِ "الدَّلِيلِ"** وَكُلٌّ مِنْهُمَا، يَعْنِي: الْإِجْمَالَ، وَإِضْمَارُ الْكُلِّ خِلَافُ الْأَصْلِ.
قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: وَإِذَا قُلْنَا لَيْسَ بِمُجْمَلٍ فَقِيلَ: يُصْرَفُ إِطْلَاقُهُ فِي كُلِّ عَيْنٍ إِلَى الْمَقْصُودِ وَاللَّائِقِ بِهِ، وَقِيلَ: يُضْمَرُ الْمَوْضِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ مستغنٍ عَنِ الدَّلِيلِ، حَكَى ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ.
قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي "شَرْحِ الْمَحْصُولِ": إِنْ قُلْنَا الْمُقْتَضَى لَهُ عُمُومٌ أُضْمِرَ الْكُلُّ، وَإِنْ قُلْنَا لَا عُمُومَ لَهُ فَهَلْ يُضْمَرُ مَا يُفْهَمُ مِنَ اللَّفْظِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الشَّرْعِ، أَوْ يُضْمَرُ حُكْمٌ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَتَعْيِينُهُ إِلَى الْمُجْتَهِدِ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ، وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ، وَالثَّالِثُ التَّوَقُّفُ. انْتَهَى.
وَهَذَا الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا لَمْ يُفْهَمْ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِ الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ لِتَقْدِيرِهَا، أَمَّا إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ لِلتَّقْدِيرِ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تقديره كقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1 {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 2 فَإِنَّهُ قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَفِي الثَّانِيَةِ الوطء
__________
* في "أ": الشارح.
** في "أ": الأصل.
__________
1 جزء من الآية "3" من سورة المائدة.
2 جزء من الآية "23" من سورة النساء.(1/328)
المسألة التاسعة عشرة: عُمُومِ الْمَفْهُومِ
اخْتَلَفُوا فِي الْمَفْهُومِ هَلْ لَهُ عموم أم لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لَهُ عُمُومًا، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْغَزَالِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ عُمُومًا وَيَتَمَسَّكُ بِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ بِأَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ، وَالْمَفْهُومَ لَيْسَتْ دَلَالَتُهُ لَفْظِيَّةً فَإِذَا قَالَ "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ" 1، فَنَفْيُ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ لَيْسَ بِلَفْظٍ حَتَّى يَعُمَّ أَوْ يَخُصَّ.
وَرَدَّ ذَلِكَ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ لَا تُسَمِّيهِ عُمُومًا لِأَنَّكَ لَا تُطْلِقُ لَفْظَ الْعَامِّ إِلَّا عَلَى الْأَلْفَاظِ، فَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ هَلْ لَهُ عُمُومٌ أَمْ لَا "فرع على أن المفهوم حجة أَمْ لَا؟ "*، وَمَتَى ثَبَتَ كَوْنُ الْمَفْهُومِ حُجَّةً لَزِمَ الْقَطْعُ بِانْتِفَائِهِ عَمَّا عَدَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ. انْتَهَى.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا خَالَفَ فِي التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ إِنَّمَا وُضِعَ لِلَّفْظِ لَا لِلْمَعْنَى.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إِنَّمَا أَرَادَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْعُمُومَ لَمْ يَثْبُتْ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ فَقَطْ، بَلْ بِوَاسِطَتِهِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَالَ: الْخِلَافُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ الْإِبْيَارِيُّ فِي "شَرْحِ الْبُرْهَانِ"2: أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّ لِلْمَفْهُومِ عُمُومًا مُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ لَهُ "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ" فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلًا آخَرَ، وَهُوَ لَا زَكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَهُوَ وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَكَانَ عَامًّا فِي الْمَقْصُودِ، أَمَّا إِذَا وَجَدْنَا صُورَةً مِنْ صُوَرِ الْمَفْهُومِ مُوَافِقَةً لِلْمَنْطُوقِ بِهِ، فَهَلْ نَقُولُ بَطَلَ الْمَفْهُومُ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يُتَمَسَّكَ بِهِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الصُّورَةِ، أَوْ نَقُولُ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، هَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ.
قَالَ: وَالْأَشْبَهُ بِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُسْتَنَدَ الْمَفْهُومِ مَاذَا؟ هَلْ هُوَ الْبَحْثُ عَنْ فَوَائِدِ التَّخْصِيصِ؛ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُمُومٌ، وَإِنْ قُلْنَا استناده إلى عرف لغوي فصحيح،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 سيأتي تخريجه في الصفحة "393".
2 وهو للإمام علي بن إسماعيل بن حسن، الأبياري، شرح فيه كتاب "البرهان" للشيخ أبي المعالي الجويني، إمام الحرمين. ا. هـ. معجم المؤلفين "7/ 37".(1/329)
وَخَرَجَ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا كَمَا زَعَمُوا. انْتَهَى.
قَالَ الْعَضُدُ1 فِي "شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": وَإِذَا حُرِّرَ مَحَلُّ النِّزَاعِ لَمْ يَتَحَقَّقْ خِلَافٌ؛ لِأَنَّهُ إن فرض النزاع في أن مفهومي المرافقة وَالْمُخَالَفَةِ يثْبُتُ بِهِمَا الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ مَا سوى المنطوق من الصور أول، فَالْحَقُّ "الْإِثْبَاتُ، وَهُوَ مُرَادُ الْأَكْثَرِ وَالْغَزَالِيُّ لَا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِمَا بِالْمَنْطُوقِ أَوْ لَا، فَالْحَقُّ"* النَّفْيُ وَهُوَ مُرَادُ الْغَزَالِيِّ، وَهُمْ لَا يُخَالِفُونَهُ فِيهِ، وَلَا ثالث ههنا يُمْكِنُ فَرْضُهُ مَحَلَّ النِّزَاعِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ يَعُودُ إِلَى تَفْسِيرِ الْعَامِّ بِأَنَّهُ مَا يُسْتَغْرَقُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ أَوْ مَا يُسْتَغْرَقُ فِي الْجُمْلَةِ. انْتَهَى.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: مَا ذَكَرُوهُ مِنْ عُمُومِ الْمَفْهُومِ حَتَّى يُعْمَلَ بِهِ فِيمَا عَدَا الْمَنْطُوقَ، يَجِبُ تَأْوِيلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا إِذَا كَانَ الْمَنْطُوقُ جُزْئِيًّا، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ بِالْمَفْهُومِ إِنَّمَا هُوَ نَقِيضُ الْمَنْطُوقِ، وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ الْمُثْبِتِ جُزْئِيٌّ سَالِبٌ وَنَقِيضَ الْجُزْئِيِّ الْمُثْبِتِ كُلِّيٌّ سَالِبٌ، وَمِنْ هَاتَيْنِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا كَانَ مَنْطُوقُهُ كُلِّيًّا سَالِبًا كَانَ مَفْهُومُهُ جُزْئِيًّا سَالِبًا، فَيَجِبُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْمَفْهُومَ عَامٌّ على ما إذا كان المنطوق به خالصًا لِيَجْتَمِعَ أَطْرَافُ الْكَلَامِ. انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ فِي كَوْنِ الْعُمُومِ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ فَقَطْ أَمْ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، وَكَذَلِكَ سَيَأْتِي2 إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَحْثِ الْمَفْهُومِ مَا إِذَا تَأَمَّلْتَهُ زَادَكَ بَصِيرَةً.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عبد الرحمن بن ركن الدين، أحمد بن عبد الغفار، البكري، القاضي، عضد الدين الإيجي، الحنفي، ولد سنة سبعمائة هـ، وتوفي سنة ست وخمسين وسبعمائة هـ، من آثاره: "جواهر الكلام في مختصر المواقف" "الرسالة العضدية في الوضع" وله "شرح مختصر منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل" لابن الحاجب، وهو اعتنى بتصنيفه، وأفرغه في قالب الكمال وألبسه حلة الجمال، وعليه حواش ا. هـ, العارفين "1/ 527"، كشف الظنون "2/ 1853"، معجم المؤلفين "5/ 119".(1/330)
المسألة الموفية للعشرون: الاستفصال
...
المسألة الموفية للعشرين: الِاسْتِفْصَالِ
قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ، فِي حِكَايَةِ الْحَالِ، مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ، يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ العموم في المقام.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": مِثَالُهُ أَنَّ ابْنَ غَيْلَانَ1 أَسْلَمَ عَلَى عشْر نِسْوَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمْسِكْ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ" 2 وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ كَيْفِيَّةِ وُرُودِ عَقْدِهِ عَلَيْهِنَّ، فِي الْجَمْعِ وَالتَّرْتِيبِ، فَكَانَ إِطْلَاقُهُ الْقَوْلَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَتَّفِقَ تِلْكَ الْعُقُودُ مَعًا أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ.
وَهَذَا فِيهِ نظر، لاحتمال أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ "خُصُوصَ الْحَالِ"* فَأَجَابَ بِنَاءً عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ. انْتَهَى.
وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ رَاجِحًا وَلَيْسَ بمساوٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ راجحًا.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هكذا في الأصل: "ابن غيلان"، ولكن صاحب القصة هو غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي، أسلم بعد فتح الطائف، روى ابن عباس شيئًا من شعره، وهو ممن وفد على كسرى، كان له معه خبر طريف وظريف، توفي سنة ثلاث وعشرين للهجرة، ا. هـ. الإصابة "3/ 186"، الكامل لابن الأثير "3/ 41".
2 أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة "1128". وابن ماجه، كتاب النكاح، كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة "1953". والحاكم في المستدرك، كتاب النكاح "2/ 193". والبيهقي في السنن، كتاب النكاح، باب عدد ما يحل من الحرائر والإماء "7/ 149". وابن حبان في صحيحه "4156".(1/330)
المسألة الحادية والعشرون: حذف المتعلق
...
المسألة الحادية والعشرين: حَذْفِ الْمُتَعَلِّقِ
ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ حَذْفَ الْمُتَعَلِّقِ يُشْعِرُ بِالتَّعْمِيمِ، نَحْوَ زَيْدٌ: يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلام} 1، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْعُمُومِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ الْأُصُولِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيهِ بَحْثٌ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أُخِذَ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنْ دَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فَالتَّعْمِيمُ مِنْ عُمُومِ الْمُقَدَّرِ سَوَاءٌ ذُكِرَ أَوْ حُذِفَ وَإِلَّا فَلَا دَلَالَةَ عَلَى التَّعْمِيمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُمُومَ فِيمَا ذُكِرَ إِنَّمَا هُوَ لِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ عَامٌّ، وَالْحَذْفَ إِنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الاختصار لا للتعميم. انتهى.
__________
1 جزء من الآية "25" من سورة يونس.(1/331)
المسألة الثانية والعشرون: حكم الكلام الوراد في جهة المدح أو الذم
...
المسألة الثانية والعشرين: حكم الكلام الوارد في جهة المدح أو الذم
الكلام العام في طَرِيقَةِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ نَحْوَ: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم} 1، ونحو {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون} 2، ذهب الجمهور إلى أنه عام ولا يخرج عن كونه عامًّا حسبما تقضيه الصِّيغَةُ كَوْنُهُ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَجْهَيْنِ فِي ذَلِكَ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ عُمُومِهِ عن القاساني وَالْكَرْخِيِّ، نَقَلَهُ عَنِ الْأَوَّلِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ وَعَنِ الثَّانِي ابْنُ بُرْهَانٍ.
وَقَالَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسُ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَقَالَ: لا يحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة} 3 عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي قَلِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَثِيرِهِمَا، بَلْ مَقْصُودُ الْآيَةِ الْوَعِيدُ لِتَارِكِ الزَّكَاةِ، وكذا لا يحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 4 عَلَى مَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَحِلُّ، وَكَانَ فِيهَا بَيَانُ أَنَّ الْفَرْجَ لَا يَجِبُ حِفْظُهُ عَنْهُمَا ثُمَّ إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَفْصِيلِ مَا يَحِلُّ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ صِيرَ فِيهِ إِلَى مَا قُصِدَ تَفْصِيلُهُ، مِثْلُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 5. انْتَهَى.
وَالرَّاجِحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَ قَصْدِ الْعُمُومِ وَالْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ، وَمَعَ عَدَمِ التَّنَافِي يَجِبُ التَّمَسُّكُ بِمَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَأْتِ مَنْ مَنَعَ مِنْ عُمُومِهِ عِنْدَ قَصْدِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ بما تقوم به الحجة.
__________
1 الآيتين "13/ 14" من سورة الانفطار.
2 الآية "5" من سورة المؤمنون.
3 جزء من الآية "34" من سورة التوبة.
4 جزء من الآيتين "5/ 6" من سورة المؤمنون.
5 جزء من الآية "23" من سورة النساء.(1/331)
المسألة الثالثة والعشرون: حكم الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ
وُرُودُ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ: وَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَحَكَوْا ذَلِكَ إِجْمَاعًا كَمَا رَوَاهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ".
قَالَ: وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْصِيلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ جَوَابًا فَإِمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ الِابْتِدَاءُ بِهِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ تَابِعٌ لِلسُّؤَالِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ، حَتَّى كَأَنَّ السُّؤَالَ مُعَادٌ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَامًّا فَعَامٌّ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَخَاصٌّ.(1/332)
مِثَالُ خُصُوصِ السُّؤَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَم} 1، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ" قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "فَلَا إِذًا"2، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: وطأت فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا فَيَقُولُ: عَلَيْكَ الْكَفَّارَةُ؛ فَيَجِبُ قَصْرُ الْحُكْمِ عَلَى السَّائِلِ وَلَا يَعُمُّ غَيْرَهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْمُكَلَّفِينَ، أَوْ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ بِصِفَتِهِ.
وَمِثَالُ عُمُومِهِ مَا لَوْ سُئِلَ عَمَّنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَقَالَ: يُعْتِقُ رَقَبَةً، فَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ وَاطِئٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَقَوْلُهُ: يُعْتِقُ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالْوَاحِدِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ جَوَابًا عَمَّنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بِلَفْظٍ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ جَامَعَ، كَانَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ وَصَارَ السُّؤَالُ مُعَادًا فِي الْجَوَابِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ حَالُ غَيْرِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ كَحَالِهِ فِي كُلِّ وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ لِلْحُكْمِ3.
وَجَعَلَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" مِنْ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلَهُ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ" 4 قَالَ: لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهُ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُبْتَدَأَ بِهِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمِيرُ شَأْنٍ، وَمِنْ شَأْنِهِ صَدْرُ الْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَا قَبْلَهُ.
قَالَ: وَقَدْ رَجَعَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَجَعَلَهُ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ بُرْهَانٍ وَغَيْرُهُ.
وَإِنِ اسْتَقَلَّ الْجَوَابُ بِنَفْسِهِ، بِحَيْثُ لَوْ وَرَدَ مُبْتَدَأً لَكَانَ كَلَامًا تَامًّا مُفِيدًا لِلْعُمُومِ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أخصَّ أَوْ مُسَاوِيًا أَوْ أعمَّ.
الأول: أن يكون الجواب مساويًا له، يَزِيدُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ، كَمَا لَوْ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ.
فَقَالَ مَاءُ الْبَحْرِ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِلَا خلاف، وكذلك قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَغَيْرُهُمْ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَخَصَّ مِنَ السُّؤَالِ، مِثْلَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ فَيَقُولُ: مَاءُ الْبَحْرِ طَهُورٌ فَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَاءِ الْبَحْرِ وَلَا يَعُمُّ بِلَا خِلَافٍ كَمَا حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَغَيْرُهُمَا.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَعَمَّ مِنَ السؤال وهما قسمان:
__________
1 جزء من الآية "44" من سورة الأعراف.
2 تقدم تخريجه في الصفحة "155".
3 انظر التبصرة "144": والمستصفى "2/ 60".
4 تقدم تخريجه في الصفحة: "155" مختصرًا.(1/333)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْهُ فِي حُكْمٍ آخَرَ غَيْرِ مَا سُئِلَ عَنْهُ، كَسُؤَالِهِمْ عَنِ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، وَجَوَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "هو الطهور ماؤه والحل مَيْتَتُهُ" 1 فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّائِلِ، وَلَا بِمَحَلِّ السُّؤَالِ مِنْ ضَرُورَتِهِمْ إِلَى الْمَاءِ وَعَطَشِهِمْ، بَلْ يَعُمُّ حَالَ الضَّرُورَةِ وَالِاخْتِيَارِ، كذا قال ابن فورك، وصاحبا "المعتمد" و"* "المحصول" وغيرهما، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَابْنِ بُرْهَانٍ أَنَّهُ يَجْرِي فِي هَذَا الْخِلَافِ الْآتِي فِي الْقَسَمِ الثَّانِي، وَلَيْسَ بِصَوَابٍ كَمَا لَا يَخْفَى.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَعَمَّ مِنَ السُّؤَالِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الَّذِي وَقَعَ السُّؤَالُ عنه، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ مَاءِ بِئْرِ بُضَاعَةَ: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" 2، وَكَقَوْلِهِ لَمَّا سُئِلَ عَمَّنِ اشْتَرَى عَبْدًا فَاسْتَعْمَلَهُ ثُمَّ وَجَدَ فِيهِ عَيْبًا: "الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ" 3، وَهَذَا الْقِسْمُ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وفيه مذاهب:
المذهب الأول: الْأَوَّلُ أَنَّهُ يَجِبُ قَصْرُهُ عَلَى مَا خَرَجَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَابْنُ بُرْهَانٍ، وَابْنُ السمعاني، عن المزني4، وأبي ثور القفال، وَالدَّقَّاقِ، وَحَكَاهُ أَيْضًا الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَحَكَاهُ أَيْضًا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَالْبَاجِيُّ عَنْ أَبِي الْفَرَجِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَحَكَاهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي الْبُرْهَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ إِنَّهُ الَّذِي صَحَّ عِنْدَنَا مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا قال الغزالي في المنخول، وتبعه فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ". قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: والذي فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّ عَنِ الشَّافِعِيِّ خِلَافُهُ ونقل هذا المذهب القاضي أبي الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ بُرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ مالك
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 تقدم تخريجه في الصفحة: "155".
2 أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري، كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة "67". والنسائي، كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة "325" "1/ 174". والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء "66" وقال: هذا حديث حسن. وأخرجه الدارقطني، كتاب الطهارة باب الماء المتغير "10/ 31". والبيهقي في السنن، كتاب الطهارة، باب الماء الكثير لا ينجس بنجاسة تحدث فيه ما لم يتغير "1/ 257". ونقل ابن حجر في التلخيص الحبير "1/ 31" أن الإمام أحمد بين حنبل ويحيى بن معين وأبا محمد بن ترم صححوه.
3 تقدم تخريجه في الصفحة: "156".
4 هو إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل، الإمام العلامة، فقيه الملة، علم الزهاد، تلميذ الإمام الشافعي، ولد سنة خمس وسبعين ومائة، من آثاره: "المختصر" في الفقه، توفي سنة أربع وستين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "12/ 492" الجرح والتعديل "2/ 204".(1/334)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ عُدُولَ الْمُجِيبِ عَنِ الْخَاصِّ الْمَسْئُولِ عَنْهُ إِلَى الْعَامِّ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ الْعُمُومِ، وَلِأَنَّ الْحُجَّةَ قَائِمَةٌ بِمَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ، وَهُوَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَوُرُودُهُ عَلَى السَّبَبِ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَابْنُ بُرْهَانٍ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَابْنُ الْقَطَّانِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ، وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ. قَالَ: وَالْأَصْلُ أَنَّ الْعُمُومَ لَهُ حُكْمُهُ إِلَّا أَنْ يَخُصَّهُ دَلِيلٌ، وَالدَّلِيلُ قَدِ اخْتَلَفَ فَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ دَلَالَةٌ يَعْقِلُ بِهَا الْمُخَاطَبُ أَنَّ جَوَابَهُ الْعَامَّ يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى مَا أُجِيبَ عَنْهُ، أَوْ عَلَى جِنْسِهِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَهُوَ عَامٌّ فِي جميع ما يقع عليه عمومه، وحكا هَذَا الْمَذْهَبَ ابْنُ كِجٍّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْعِرَاقِيِّينَ.
قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِلَفْظِ الرَّسُولِ، دُونَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، وَلَوْ قَالَ ابتداء وجب حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، فَكَذَلِكَ إِذَا صَدَرَ جَوَابًا. انْتَهَى.
وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ؛ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ لِلْعِبَادِ إِنَّمَا هُوَ بِاللَّفْظِ الْوَارِدِ عَنِ الشَّارِعِ، وَهُوَ عَامٌّ وَوُرُودُهُ عَلَى سُؤَالٍ خَاصٍّ لَا يَصْلُحُ قَرِينَةً لِقَصْرِهِ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَلْيَأْتِ بِدَلِيلٍ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْقَصْرِ عَلَى السَّبَبِ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَإِذَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ مَا يَقْتَضِي قَصْرَ ذَلِكَ الْعَامِّ الْوَارِدِ فِيهِ عَلَى سَبَبِهِ لَمْ يُجَاوَزْ بِهِ مَحَلَّهُ، بَلْ يُقْصَرْ عَلَيْهِ، وَلَا جَامِعَ بَيْنَ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ بِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى أَسْبَابٍ خَاصَّةٍ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ شَامِلًا لَهَا.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: الْوَقْفُ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، وَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ هُنَا لَمْ تَتَوَازَنْ حَتَّى يَقْتَضِيَ ذَلِكَ التَّوَقُّفَ.
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ هُوَ سُؤَالَ سَائِلٍ فَيَخْتَصُّ بِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ السبب مجرد وقوع حادثة كان وذلك القوم الْعَامُّ وَارِدًا عِنْدَ حُدُوثِهَا فَلَا يَخْتَصُّ بِهَا كَذَا حَكَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي "شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ"1.
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إِنْ عَارَضَ هَذَا الْعَامَّ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ عُمُومٌ آخَرُ خَرَجَ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ، فَإِنَّهُ يُقْصَرُ عَلَى سَبَبِهِ وَإِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى.
وَهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا مُسْتَقِلًّا، فَإِنَّ هَذَا الْعَامَّ الْخَارِجَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ إِذَا صَلُحَ لِلدَّلَالَةِ فَهُوَ دَلِيلٌ خَارِجٌ يُوجِبُ الْقَصْرَ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا.
__________
1 واسمه "كشف الأسرار"، للشيخ الإمام، علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري الحنفي، وهو شرح من أعظم الشروح، وأكثرها إفاده وبيانًا. ا. هـ. كشف الظنون "1/ 112".(1/335)
المسألة الرابعة والعشرون: خلاف العلماء فيما إذا ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الحكم
ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الْحُكْمِ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إِذَا وَافَقَ الْخَاصُّ الْعَامَّ فِي الْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ بِمَفْهُومِهِ يَنْفِي الْحُكْمَ عَنْ غَيْرِهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَفْهُومِ خَصَّصَ بِهِ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي1 فِي مَسْأَلَةِ التَّخْصِيصِ بِالْمَفْهُومِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ فَلَا يُخَصَّصُ بِهِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" 2 مَعَ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ: "دِبَاغُهَا طَهُورُهَا" 3 فَالتَّنْصِيصُ عَلَى الشَّاةِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ؛ لِأَنَّهُ تَنْصِيصٌ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِلَفْظٍ لَا مَفْهُومَ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ مَفْهُومِ اللَّقَبِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ خَصَّصَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ لَمْ يُخَصِّصْ بِهِ، وَلَا مُتَمَسَّكَ لِمَنْ قَالَ بِالْأَخْذِ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي4.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" 5 وَفِي لفظ آخر "وتربتها
__________
1 انظر صفحة: "393".
2 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس بلفظ: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"، كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ "366، ومالك في الموطأ، كتاب الصيد، باب ما جاء في جلود الميتة "2/ 498". وأخرجه أبو داود: كتاب اللباس، في أهب الميتة "4123". كتاب الفرع، باب جلود الميتة "4252" "7/ 173". عن ابن عباس بلفظ "أيما إهاب دبغ فقد طهر". والترمذي بهذا اللفظ، كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت "1728" وقال: حسن صحيح. وابن ماجه، كتاب اللباس، باب لبس جلود الميتة إذا دبغت "3609". وابن حبان في صحيحه "1288".
3 أخرجه أبو داود من حديث ميمونة بلفظ "يطهرها الماء والقرظ" "4126". والنسائي، كتاب الفروع والعتيرة "7/ 174". والبيهقي في سننه "1/ 19". أحمد في مسنده "6/ 334". والطحاوي "1/ 471". والدارقطني "1/ 45".
4 انظر صفحة: "393".
5 جزء من حديث تقدم تخريجه في الصفحة: "322".(1/336)
ظهورًا"1 وَقَوْلُهُ: "الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ" 2 مَعَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ "الْبُرُّ بِالْبُرِّ" 3 إِلَخْ، وَقَدِ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ على عدم التخصيص بالمواقف لِلْعَامِّ "بِأَنَّ الْمُخَصِّصَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنَافِيًا لِلْعَامِّ"* وَذِكْرُ الْحُكْمِ عَلَى بَعْضِ الْأَفْرَادِ الَّتِي شَمِلَهَا الْعَامُّ لَيْسَ بمنافٍ فَلَا يَكُونُ ذِكْرُهُ مُخَصِّصًا، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وُقُوعَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ لَمَّا كَانَ أَبُو ثَوْرٍ مِمَّنْ يَقُولُ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ ظُنَّ أَنَّهُ يَقُولُ بِالتَّخْصِيصِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مَا فَائِدَةُ هَذَا الْخَاصِّ مَعَ دُخُولِهِ فِي الْعَامِّ؟
قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهُ عَدَمَ جَوَازِ تَخْصِيصِهِ أَوِ التَّفْخِيمَ لَهُ أَوْ إِثْبَاتَ الْمَزِيدِ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْرَادِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنْ كَانَ أَبُو ثَوْرٍ نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَهَا لَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي مَفْهُومِ اللقب فلا يدل على ذلك
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه البخاري من حديث جابر، باب التيمم "335"، ومسلم، كتاب المساجد، "521". والنسائي في الغسل، باب التيمم بالصعيد "1/ 209". وابن حبان في صحيحه "6398". وأحمد في مسنده "3/ 304" وابن أبي شيبة "11/ 432". والدارمي "1/ 322". والبيهقي في السنن "1/ 212".
2 أخرجه مسلم من حديث معمر بن عبد الله، كتاب المساقاة، باب الربا "1592". والطبراني في الكبير "2/ 447"، "1094". والبيهقي في السنن، كتاب البيوع، باب جواز التفاضل بالجنسين "5/ 283". والإمام أحمد في المسند "6/ 401". وابن حبان في صحيحه "5011".
3 أخرجه البخاري من حديث عمر، كتاب البيوع، باب ما يذكر في بيع الطعام "2134". ومسلم كتاب المساقاة باب الربا "1586". وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الصرف وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد "2253". والنسائي، في السنن كتاب البيوع، باب بيع التمر بالتمر متفاضلًا "4572" "7/ 233". وأبو داود، كتاب البيوع، باب في الصرف "3348". وابن حبان في صحيحه "5013".(1/337)
المسألة الخامسة والعشرون: في عموم العلة المعلقة بالحكم
إِذَا عَلَّقَ الشَّارِعُ حُكْمًا عَلَى عِلَّةٍ هَلْ تَعُمُّ تِلْكَ الْعِلَّةُ حَتَّى يُوجَدَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا فِي كُلِّ صُورَةٍ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ بِالْعُمُومِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَا يَعُمُّ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ هَلِ الْعُمُومُ بِاللُّغَةِ أَوْ بِالشَّرْعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الْعُمُومَ بِالشَّرْعِ لَا بِاللُّغَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الصِّيغَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، بَلِ اقْتَضَى ذَلِكَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ ثَبَتَ التَّعَبُّدُ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي1.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْعُمُومِ، بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ جُزْءَ عِلَّةٍ وَالْجُزْءُ الْآخَرُ خُصُوصِيَّةَ الْمَحَلِّ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاحْتِمَالِ لَا يَنْتَهِضُ لِلِاسْتِدْلَالِ، فَلَا يُتْرَكُ بِهِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي تَقْيِيدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْعِلَّةُ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِدَلِيلِ نَقْلٍ أَوْ عَقْلٍ، لَا بِمُجَرَّدِ مَحْضِ الرَّأْيِ وَالْخَيَالِ الْمُخْتَلِّ، وَسَيَأْتِي2 بِمَعُونَةِ اللَّهُ إِيضَاحُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى.
__________
1 انظر صفحة: "91جـ2".
2 انظر صفحة: "105 جـ2".(1/337)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ هَلْ هُوَ حقيقة في الباقي أم مجاز
اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِّ إِذَا خُصَّ هَلْ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْبَاقِي أَمْ مَجَازًا، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْبَاقِي مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ التَّخْصِيصُ بِمُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظٍ أَوْ بِغَيْرِهِ وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ.
قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْأَوْسَطِ": وَهُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَنَسَبَهُ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ إِلَى الْمُحَقِّقِينَ وَوَجَّهَهُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْمَجْمُوعِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْبَعْضُ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَجَازُ.
وَأَيْضًا لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ كَمَا كَانَ حَقِيقَةً فِي الْكُلِّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا فَيَكُونَ حَقِيقَةً فِي مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ.
وَأَيْضًا قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَجَازَ خَيْرٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ كَمَا تَقَدَّمَ1، فيكون مقدمًا عليه.
وذهب جماعة عن أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيمَا بَقِيَ مُطْلَقًا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنِ الْحَنَابِلَةِ.
قَالُوا: وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا حَقِيقَةً بِاتِّفَاقٍ فَالتَّنَاوُلُ باقٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّهُ طَرْدُ عَدَمِ تَنَاوُلِ الْغَيْرِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ كَانَ يَتَنَاوَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَالْآنَ يَتَنَاوَلُهُ وَحْدَهُ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّهُ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ غَيْرِ قرينة.
__________
1 انظر صفحة: "241".(1/338)
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مَعَ الْقَرِينَةِ؛ إِذِ السَّابِقُ مَعَ عَدَمِهَا هُوَ الْعُمُومُ، وَهَذَا دَلِيلُ الْمَجَازِ.
قَالَ الْعَضُدُ: وَقَدْ يُقَالُ إِرَادَةُ الْبَاقِي مَعْلُومَةٌ دُونَ الْقَرِينَةِ، إِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إِلَى الْقَرِينَةِ عَدَمُ إِرَادَةِ الْإِخْرَاجِ. انْتَهَى.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ إِرَادَةَ الْبَاقِي وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ يَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَةٍ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ خُصَّ بِمُتَّصِلٍ لَفْظِيٍّ كَالِاسْتِثْنَاءِ فَحَقِيقَةٌ، وَإِنَّ خُصَّ بِمُنْفَصِلٍ فَمَجَازٌ، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَابْنُ بُرْهَانٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ عَنِ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ. قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: وَإِلَيْهِ مَالَ الْقَاضِي، وَنَقَلَهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ".
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ مَعَ التَّخْصِيصِ بِمُتَّصِلٍ كَلَامٌ وَاحِدٌ.
وَيُجَابُ: بِأَنَّ ذَلِكَ الْمُخَصِّصَ الْمُتَّصِلَ هُوَ الْقَرِينَةُ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِفَهْمِ إِرَادَةِ الْبَاقِي مِنْ لَفْظِ الْعُمُومِ وَهُوَ مَعْنَى الْمَجَازِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَرِينَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ مُتَّصِلَةٍ أَوْ مُنْفَصِلَةٍ.
وَذَهَبَ عَبْدُ الْجَبَّارِ إِلَى عَكْسِ هَذَا الْقَوْلِ، حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْأَوْسَطِ" وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَحَكَى الْآمِدِيُّ أَنَّهُ إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ لَفْظِيٍّ كَانَ حَقِيقَةً في الباقي، سواء كان ذلك المخصص اللفظ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا، وَإِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ غَيْرِ لَفْظِيٍّ كَانَ مَجَازًا، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَرِينَةَ قَدْ تَكُونُ لَفْظِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ لَفْظِيَّةٍ، وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ فِي "الْمُعْتَمَدِ" عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهُ: إِنْ خُصَّ بِالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ، وَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ لَهُ بِمَا لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُخَصِّصُ مُسْتِقَلًّا فَهُوَ مَجَازٌ، سَوَاءٌ كَانَ عَقْلِيًّا أَوْ لَفْظِيًّا، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْعَامِّ أَرَدْتُ بِهِ الْبَعْضَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا فَهُوَ حَقِيقَةٌ، كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ، وَالصِّفَةِ.
وَاخْتَارَ هَذَا فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَالْمُخْتَارُ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَرِينَةَ الْمُخَصِّصَةَ إِنِ اسْتَقَلَّتْ بِنَفْسِهَا صَارَ مَجَازًا وَإِلَّا فَلَا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْقَرِينَةَ الْمُخَصِّصَةَ الْمُسْتَقِلَّةَ ضَرْبَانِ: عَقْلِيَّةٌ وَلَفْظِيَّةٌ، أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَكَالدَّلَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْقَادِرِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْخِطَابِ بِالْعِبَادَاتِ، وَأَمَّا اللَّفْظِيَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْعَامِّ أَرَدْتُ بِهِ الْبَعْضَ الْفُلَانِيَّ، وَفِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ يَكُونُ الْعَامُّ مَجَازًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ هُوَ بِعَيْنِهِ فِي الْبَعْضِ فَقَدْ صَارَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مُسَمَّاهُ لِقَرِينَةٍ مُخَصِّصَةٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَجَازُ.
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَفْظُ الْعُمُومِ وَحْدَهُ حَقِيقَةٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ، وَمَعَ الْقَرِينَةِ(1/339)
الْمُخَصِّصَةِ حَقِيقَةٌ فِي الْخُصُوصِ.
قُلْتُ: فَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُفْضِي إِلَى أَنْ لَا يُوجَدَ فِي الدنيا مجازًا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا لَفْظَ إِلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ وَحْدَهُ حَقِيقَةٌ فِي كَذَا، وَمَعَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَ مَجَازًا عَنْهُ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ بِقَرِينَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِنَفْسِهَا هَلْ هُوَ مَجَازٌ أَمْ لَا. انْتَهَى.
وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ كَوْنِهِ يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ، وَمُجَرَّدُ إِمْكَانِ أَنْ يُقَالَ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، بَلِ الِاعْتِبَارُ بِالدَّلَالَةِ الْكَائِنَةِ فِي نَفْسِ الدَّالِّ مَعَ عَدَمِ فَتْحِ بَابِ الْإِمْكَانِ الْمُفْضِي إِلَى سَدِّ بَابِ الدَّلَالَةِ مُطْلَقًا، فَضْلًا عَنْ سَدِّ بَابِ مُجَرَّدِ الْمَجَازِ.
وَحَكَى الْآمِدِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ إِنْ بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ جَمْعٌ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ، وَاخْتَارَهُ الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مَذْهَبًا مُسْتَقِلًّا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ "مِنْ"* أَنْ يَبْقَى أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ: إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّ الْجَمْعِ، فَأَمَّا إِذَا بَقِيَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَوْ تَكَلَّمَ النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ أَرَدْتُ زَيْدًا خَاصَّةً، فَإِنَّهُ يصير مجازًا بل خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، وَالْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ لَيْسَا بِجَمْعٍ. انْتَهَى.
وَهَكَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مَذْهَبًا مُسْتَقِلًّا مَا اخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ حَقِيقَةً فِيمَا بَقِيَ ومَجَازًا فِيمَا أُخْرِجَ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ هُوَ فِيمَا بَقِيَ فَقَطْ، هَلْ يَكُونُ الْعَامُّ فِيهِ حَقِيقَةً أَمْ لا؟
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/340)
المسألة السابعة والعشرون: حجية العام بعد التخصيص
اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِّ بَعْدَ تَخْصِيصِهِ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً أَمْ لَا، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا خُصَّ بِمُبَيَّنٍ، أَمَّا إِذَا خُصَّ بِمُبْهَمٍ كَمَا لو قال تعالى: "اقتلوا الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بَعْضَهُمْ"1، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَفْرَادِ، بِلَا خِلَافٍ؛ إِذْ مَا مِنْ فَرْدٍ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْرَجَ، وَأَيْضًا إِخْرَاجُ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ يُصَيِّرُهُ مَجْهُولًا، وَقَدْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالْأَصْفَهَانِيُّ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَمَا نَقَلُوهُ مِنَ الاتفاق فليس بصحيح.
__________
1 إشارة إلى الآية "5" من سورة التوبة {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم} التي جاءت عامة المشركين بدون استثناء أو تخصيص.(1/340)
وقد حَكَى ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْوَجِيزِ" الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَبَالَغَ فَصَحَّحَ الْعَمَلَ بِهِ مَعَ "الْإِبْهَامِ"*، وَاعْتَلَّ بِأَنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى فَرْدٍ شَكَكْنَا فِيهِ هَلْ هُوَ مِنَ الْمُخْرَجِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَنَعْمَلُ بِهِ إِلَى أَنْ "نَعْلَمَ"** بِالْقَرِينَةِ بِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُخَصِّصَ مُعَارِضٌ لِلَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُعاَرِضًا عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْإِضْرَابِ عَنِ الْمُخَصِّصِ، وَالْعَمَلِ بِالْعَامِّ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَدْ رَدَّ الْهِنْدِيُّ هَذَا الْبَحْثَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي الْكُلِّ الْمَخْصُوصِ وَغَيْرِهِ وَلَا قَائِلَ بِهِ. انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِإِحَالَةِ هَذَا مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى تَأَخُّرِهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّخْصِيصُ بِمُبَيَّنٍ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ مُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْكُلِّ فَيَكُونُ حُجَّةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِ ذَلِكَ الْكُلِّ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نِسْبَةَ اللَّفْظِ إِلَى كُلِّ الْأَقْسَامِ عَلَى السَّوِيَّةِ فَإِخْرَاجُ الْبَعْضِ مِنْهَا بِمُخَصِّصٍ لَا يَقْتَضِي إِهْمَالَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى مَا بَقِيَ، وَلَا يَرْفَعُ التَّعَبُّدَ بِهِ، وَلَوْ تَوَقَّفَ كَوْنُهُ حُجَّةً فِي الْبَعْضِ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْكُلِّ لَلَزِمَ الدَّوْرُ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَأَيْضًا الْمُقْتَضِي لِلْعَمَلِ بِهِ فِيمَا بَقِيَ مَوْجُودٌ، وَهُوَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَالْمُعَارِضُ مَفْقُودٌ فَوُجِدَ الْمُقْتَضِي وَعُدِمَ الْمَانِعُ، فَوَجَبَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ عَنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْعُمُومَاتِ الْمَخْصُوصَةِ، وَشَاعَ ذَلِكَ وَذَاعَ.
وَأَيْضًا قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَا مِنْ عموم إلا وقد خص، وأن لَا يُوجَدُ عَامٌّ غَيْرُ مُخَصَّصٍ، فَلَوْ قُلْنَا إنه غير حجة فما بَقِيَ لَلَزِمَ إِبْطَالُ كُلِّ عُمُومٍ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أن غالب هذه الشريعة المطهرة إنما ثبتت بِعُمُومَاتٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا بَقِيَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمَا صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ"، وَحَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَحَكَاهُ الْغَزَالِيُّ عَنِ الْقَدَرِيَّةِ، قَالَ: ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَبْقَى أَقَلُّ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، والحنفية، والجبائي،
__________
* في "أ": الإبهام.
** في "أ": نعمل.(1/341)
وَابْنُهُ1 إِلَى أَنَّ الصِّيغَةَ الْمَوْضُوعَةَ لِلْعُمُومِ إِذَا خُصَّتْ صَارَتْ مُجْمَلَةً، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، كَسَائِرِ الْمَجَازَاتِ، وَإِلَيْهِ مَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ. انْتَهَى.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَعْنَى الْعُمُومِ حَقِيقَةٌ غَيْرُ مُرَادٍ مَعَ تَخْصِيصِ الْبَعْضِ، وَسَائِرُ مَا تَحْتَهُ مِنَ الْمَرَاتِبِ مَجَازَاتٌ، وَإِذَا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ غَيْرَ مُرَادَةٍ، وَتَعَدَّدَتِ الْمَجَازَاتُ، كَانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا فِيهَا، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا "وَالْبَاقِي أَحَدُ الْمَجَازَاتِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا"*.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَتِ الْمَجَازَاتُ مُتَسَاوِيَةً، وَلَا دَلِيلَ عَلَى تَعَيُّنِ أَحَدِهَا، وَمَا قَدَّمْنَا مِنَ الأدلة فقد دَلَّتْ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الْبَاقِي فَيُصَارُ إِلَيْهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ خُصَّ بِمُتَّصِلٍ كَالشَّرْطِ و"الاستثناء"** وَالصِّفَةِ فَهُوَ حُجَّةٌ فِيمَا بَقِيَ، وَإِنْ خُصَّ بِمُنْفَصِلٍ فَلَا، بَلْ يَصِيرُ مُجْمَلًا، حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، عَنِ الْكَرْخِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الثَّلْجِيِّ، بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْجِيمِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: فِي الْعَامِّ إِذَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِاللَّفْظِ، وَصَارَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ، وَكَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ وَبَيْنَ الدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ، فَيَقُولُ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ مَانِعٍ بَقَاءَ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ قَوْلَهُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِاللَّفْظِ مُجَرَّدُ دَعْوَى، لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، وَقَوْلُهُ: وَصَارَ حُكْمُهُ ... إِلَخْ ضم دَعْوَى إِلَى دَعْوَى، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الدَّلَالَةِ، وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَمَنْ قَالَ بِرَفْعِهَا أَوْ بِعَدَمِ ظُهُورِهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ أَصْلًا.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّ التَّخْصِيصَ إِنْ لَمْ يَمْنَعِ اسْتِفَادَةَ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ وَتَعَلُّقِهِ بِظَاهِرِهِ جَازَ التَّعَلُّقُ بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 2؛ لأن القيام الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْقَتْلُ بِاسْمِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ، وَيُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ الظَّاهِرُ لَمْ يَجُزِ التَّعَلُّقُ بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3؛ لِأَنَّ قِيَامَ الدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ وَالْحِرْزِ، وكون
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب، الجبائي، أبو الهاشم، تقدمت ترجمته ص"141".
2 جزء من الآية "5" من سورة التوبة.
3 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.(1/342)
الْمَسْرُوقِ لَا شُبْهَةَ لِلسَّارِقِ فِيهِ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْقَطْعُ بِعُمُومِ اسْمِ السَّارِقِ، وَيُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ تِلْمِيذُ الْكَرْخِيِّ.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ دَلَالَةُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَهِيَ كَائِنَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالِاخْتِلَافُ بِكَوْنِ الدلالة فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ لَا يَقْتَضِي مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى سُقُوطِ دَلَالَةِ الدَّالِّ أَصْلًا وَظَاهِرًا.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ:
إِنْ كَانَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ قَبْلَ التَّخْصِيصِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَـ {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} فَهُوَ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ بَيِّنٌ قَبْلَ إِخْرَاجِ الذِّمِّيِّ، وَإِنْ كَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ، وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ قَبْلَ التَّخْصِيصِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلاة} 1 فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ قَبْلَ إِخْرَاجِ الْحَائِضِ وَنَحْوِهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَلَيْسَ هُوَ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ.
الْقَوْلُ السَّادِسُ:
أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَيِّنُ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ، هَكَذَا حَكَى هَذَا الْمَذْهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ، وَقَالَ إِنَّهُ تَحَكُّمٌ، وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: لَعَلَّهُ قَوْلُ مَنْ لَا يجوِّز "التَّخْصِيصَ أَلْبَتَّةَ"*.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ لِهَذَا الْقَائِلِ: بِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ، وَالْبَاقِي مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَرُدَّ بِمَنْعِ كَوْنِ الْبَاقِي مَشْكُوكًا فِيهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ.
الْقَوْلُ السَّابِعُ:
أَنَّهُ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي وَاحِدٍ فَقَطْ، حَكَاهُ فِي "الْمَنْخُولِ" عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، وَهُوَ أَشَدُّ تَحَكُّمًا مِمَّا قَبْلَهُ.
الْقَوْلُ الثَّامِنُ:
الْوَقْفُ، فَلَا يُعْمَلُ بِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَجَعَلَهُ مُغَايِرًا لِقَوْلِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ وَمَنْ مَعَهُ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْوَقْفَ إِنَّمَا يَحْسُنُ عِنْدَ تَوَازُنِ الْحُجَجِ وَتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
__________
* في "أ": تخصيص التثنية وهو خطأ.
__________
1 جزء من الآية "110" من سورة البقرة.(1/343)
المسألة الثامنة والعشرون: عَطْفِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ عَلَيْهِ
إِذَا ذُكِرَ الْعَامُّ وَعُطِفَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَفْرَادِهِ مِمَّا حَقُّ الْعُمُومِ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 1، فَهَلْ يَدُلُّ ذِكْرُ الْخَاصِّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مراد باللفظ العام أم
__________
1 جزء من الآية "238" من سورة البقرة.(1/343)
لَا؟ وَقَدْ حَكَى الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ" عَنْ وَالِدِهِ فِي "كِتَابِ الْوَصِيَّةِ" أَنَّهُ حَكَى اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الْمَخْصُوصُ "بِالذِّكْرِ"* لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَامِّ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا تَحْتَهُ لَمْ يَكُنْ لِإِفْرَادِهِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَعَلَى هَذَا جَرَى أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ جِنِّي، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ1 إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى لَيْسَتِ الْعَصْرَ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ.
قَالَ الرُّويَانِيُّ أَيْضًا: وَقَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْعُمُومِ، وَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ، وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ مَرَّةً بِالْعُمُومِ، وَمَرَّةً بِالْخُصُوصِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَقَامَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي "شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى".
وَإِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ خَاصًّا فَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ، وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ يُوجِبُهُ، وَقِيلَ بالوقف.
ومثال هذه المسألة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" 2 فَقَالَ الْأَوَّلُونَ: لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، لِقَوْلِهِ: "لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ"، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ.
وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ بَلْ هُوَ خَاصٌّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ، بِقَرِينَةِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ قَالُوا: وَالْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو الْعَهْدِ هُوَ الْحَرْبِيُّ فَقَطْ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُعَاهَدَ يُقْتَلُ بِالْمُعَاهَدِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ هُوَ الْحَرْبِيَّ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
قال الأولون: وهذا التقدير ضعيف لوجوه:
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 أخرجه مسلم كتاب المساجد، باب دليل من قال الصلاة هي الصلاة الوسطى هي صلاة العصر "269". ومالك في الموطأ. كتاب صلاة الجماعة، باب الصلاة الوسطى "1/ 138". وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في وقت صلاة العصر "410". والنسائي، كتاب الصلاة، باب المحافظة على صلاة العصر "471" "1/ 236". والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة "2982". وقال: حسن صحيح. والإمام أحمد في المسند "6/ 72".
2 أخرج بنحوه أبو داود، كتاب الديات، باب أيقاد المسلم بالكافر من حديث علي "4530" والنسائي، كتاب القسامة، باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس "4748" "8/ 19". وابن حبان عن أبن عمر، في صحيحه "5996".(1/344)
أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَطْفَ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" كَلَامٌ تَامٌّ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ قَوْلِهِ بِكَافِرٍ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالْمُرَادُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْعَهْدَ عَاصِمٌ مِنَ الْقَتْلِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي "غَرِيبِ الْحَدِيثِ"1 بِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ" جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: "فِي عَهْدِهِ" لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ" لَتُوُهِّمَ أَنَّ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْعَهْدُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ لَا يُقْتَلُ، فَلَمَّا قَالَ: "فِي عَهْدِهِ" عَلِمْنَا اخْتِصَاصَ النَّهْيِ بِحَالَةِ الْعَهْدِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ حَمْلَ الْكَافِرِ المذكور على الحرب لَا يَحْسُنُ؛ لِأَنَّ إِهْدَارَ دَمِهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ قَتْلَ مُسْلِمٍ بِهِ.
وَقَدْ أَطَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يَقْتَضِي التَّطْوِيلَ.
وَقَدْ قِيلَ -عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ-: مَا وَجْهُ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ؟ إِذْ لَا يَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ لِقَوْلِهِ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" مُطْلَقًا مَعَ قَوْلِهِ: "لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ".
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ2: بِأَنَّ عَدَاوَةَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِلْكُفَّارِ كَانَتْ شَدِيدَةً جِدًّا فَلَمَّا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ" "خَشِيَ"* أن ينجرد هَذَا الْكَلَامُ فَتَحْمِلُهُمُ الْعَدَاوَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَتْلِ كُلِّ كَافِرٍ مِنْ مُعَاهَدٍ وَغَيْرِهِ، فَعَقَّبَهُ بقوله:
"ولا ذو عهد في عهده".
__________
* في "أ": حتى.
__________
1 واسمه "الغريب المصنف"، للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام، وهو مجلدان، ألفه في نحو أربعين سنة، وهو أول من صنف في هذا الفن. ا. هـ. الأعلام "5/ 176"، كشف الظنون "2/ 1204".
2 وهو إبراهيم بن أحمد المروزي: الإمام الكبير، شيخ الشافعية، فقيه بغداد من آثاره: "كتاب في السنة" و"شرح مختصر المزني"، توفي سنة أربعين وثلاثمائة هـ، ودفن عند ضريح الإمام الشافعي، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 429"، شذرات الذهب "2/ 355"، الأعلام "1/ 28".(1/345)
المسألة التاسعة والعشرون: هل يجوز العمل بالعام قَبْلَ الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ؟
نَقَلَ الْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قبل البحث على الْمُخَصِّصِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْبَحْثِ، وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا إِلَى أَنْ يَغْلِبَ الظَّنُّ بِعَدَمِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي أبو بكر(1/345)
الْبَاقِلَّانِيُّ إِلَى الْقَطْعِ بِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ إِذِ الْقَطْعُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَاشْتِرَاطُهُ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِكُلِّ عُمُومٍ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ فِي حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ نَظَرًا، فَقَدْ قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ مَا لَمْ يُسْتَقْصَ فِي طَلَبِ الْمُخَصِّصِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُخَصِّصُ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ.
وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ ابْتِدَاءً، مَا لَمْ يَظْهَرْ دَلَالَةٌ مُخَصِّصَةٌ.
وَاحْتَجَّ الصَّيْرَفِيُّ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَوْ لَمْ يَجُزِ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِ الْمُخَصِّصِ، لَمْ يَجُزِ التَّمَسُّكُ بِالْحَقِيقَةِ إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ هَلْ يُوجَدُ مَا يَقْتَضِي صَرْفَ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَذَاكَ مِثْلُهُ.
بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزِ التمسك بالعام إلا بعد طلب المخص، لَكَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْخَطَأِ الْمُحْتَمَلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي التَّمَسُّكِ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَيَجِبُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَبَيَانُ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْحَقِيقَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِ مَا يُوجِبُ الْعُدُولَ إِلَى الْمَجَازِ، هُوَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْعُرْفِ، بِدَلِيلٍ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ الْأَلْفَاظَ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ أَنَّهُ هَلْ وُجِدَ مَا يُوجِبُ الْعُدُولَ أَمْ لَا؟، وَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ، وَجَبَ أَيْضًا في الشرع، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ" 1.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّخْصِيصِ، وَهَذَا يُوجِبُ ظَنَّ عَدَمِ التَّخْصِيصِ، فَيَكْفِي فِي إِثْبَاتِ ظَنِّ الْحُكْمِ.
وَاحْتَجَّ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّ بِتَقْدِيرِ قِيَامِ الْمُخَصِّصِ لَا يَكُونُ الْعُمُومُ حُجَّةً فِي صُورَةِ التَّخْصِيصِ، فَقَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ وُجُودِ الْمُخَصِّصِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ حُجَّةً، وَأَنْ لَا يَكُونَ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَكُونَ حجة إبقاء للشيء على حكم الأصل.
الجواب: أَنَّ ظَنَّ كَوْنِهِ حُجَّةً أَقْوَى مِنْ ظَنِّ كَوْنِهِ غَيْرَ حُجَّةٍ؛ لِأَنَّ إِجْرَاءَهُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّخْصِيصِ.
وَلَمَّا ظَهَرَ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ التَّفَاوُتِ كَفَى ذَلِكَ فِي ثبوت. انتهى كلام "المحصول".
__________
1 هو موقوف على ابن مسعود. أما مرفوعًا فلا يصح.
والموقوف رواه الحاكم في المستدرك، كتاب معرفة الصحابة "3/ 78" وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. والطبراني في الكبير 9/ 113 "8583". والإمام أحمد في المسند "1/ 379". والبغوي في شرح السنة "105". وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي "959" فإنه قال: موقوف حسن وأخرجه البزار والطيالسي.(1/346)
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعُرْفِ وَجَبَ فِي الشَّرْعِ مَمْنُوعٌ.
وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ زَاعِمًا أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطل، فإن ذلك ليس من قوله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَجْهٍ مُعْتَبَرٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّخْصِيصِ، فَيَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالدَّلِيلِ الْعَامِّ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْمُمَارِسِينَ لِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْعَارِفِينَ بِهَا، فَإِنَّ عَدَمَ وُجُودِ الْمُخَصِّصِ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ يُسَوِّغُ لَهُ التَّمَسُّكَ بِالْعَامِّ، بَلْ هُوَ فَرْضُهُ الَّذِي تَعَبَّدَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَقْدِيرَ وُجُودِ الْمُخَصِّصِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُسْقِطُ قِيَامَ الْحُجَّةِ بِالْعَامِّ، وَلَا يُعَارِضُ أَصَالَةَ عدم الوجود وظهوره.(1/347)
المسألة الموفية للثلاثين: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ وَالْعَامِّ الَّذِي أريد به الخصوص
...
الْمَسْأَلَةُ الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ وَالْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ"1 فِي كِتَابِ الْبَيْعِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مَا كَانَ الْمُرَادُ أَقَلَّ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ الْمُرَادُ بِهِ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ هُوَ الْأَقَلُّ. قَالَ: وَيَفْتَرِقَانِ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ "لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ، وَالْعَامَّ الْمَخْصُوصَ يَصِحُّ الاحتجاج بظاهره اعتبارًا بالأكثر. وقال المرودي في "الحاوي"2: الفرق بينهما في وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَكْثَرَهُ، وَمَا لَيْسَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَقَلَّ، وَالْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ"*. مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَقَلَّ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ أَكْثَرَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى اللَّفْظِ، وَفِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ اللَّفْظِ أَوْ مُقْتَرِنٌ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي "شَرْحِ الْعُنْوَانِ"3: يَجِبُ أَنْ يُتَنَبَّهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِنَا: هذا عام أريد به
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 واسمها: "التعليقة الكبرى في الفروع"، لأبي حامد، محمد بن أحمد، الغزالي، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة: "33". ا. هـ. كشف الظنون "424".
2 واسمه: "الحاوي في الفروع"، للقاضي أبي الحسن، علي بن محمد الماوردي، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة: "135".
3 "عنوان الوصول في الأصول" وشرحه للشيخ تقي الدين، ابن دقيق العيد. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1176".(1/347)
الْخُصُوصُ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ، فَإِنَّ الثَّانِي أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إِذَا أَرَادَ بِاللَّفْظِ أَوَّلًا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْعُمُومِ، ثُمَّ أَخْرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، كَانَ عَامًّا مَخْصُوصًا، وَلَمْ يَكُنْ عَامًّا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، ثم ويقال: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْضِ الَّذِي أُخْرِجَ، وَهَذَا مُتَوَجَّهٌ إِذَا قَصَدَ الْعُمُومَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا نَطَقَ بِالْعَامِّ مُرِيدًا بِهِ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفَرَّقَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَهُمَا بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إِذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ الْعَامَّ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ بَعْضًا مُعَيَّنًا، فَهُوَ الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَإِنْ أَرَادَ سَلْبَ الْحُكْمِ عَنْ بَعْضٍ مِنْهُ فَهُوَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ.
مِثَالُهُ: قَامَ النَّاسُ، فَإِذَا أَرَدْتَ به إِثْبَاتَ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ مَثَلًا لَا غَيْرَ، فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَإِنْ أَرَدْتَ بِهِ سَلْبَ الْقِيَامِ عَنْ زَيْدٍ فَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مَعْنَوِيٍّ يَمْنَعُ إِرَادَةَ الْجَمِيعِ، فَيَتَعَيَّنُ لَهُ الْبَعْضُ، وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ يَحْتَاجُ إِلَى تَخْصِيصِ اللَّفْظِ غَالِبًا، كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَالْغَايَةِ.
قَالَ: وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ: هُوَ أَنْ يُطْلَقَ الْعَامُّ وَيُرَادَ بِهِ بَعْضُ مَا يَتَنَاوَلُهُ، وَهُوَ مَجَازٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي بَعْضِ مَدْلُولِهِ، وَبَعْضُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، قَالَ: وَشَرْطُ الْإِرَادَةِ فِي هَذَا أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِأَوَّلِ اللَّفْظِ وَلَا يَكْفِي طَرْدُهَا فِي أَثْنَائِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نقل اللفظ من مَعْنَاهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَيْسَتِ الْإِرَادَةُ فِيهِ إِخْرَاجًا لِبَعْضِ الْمَدْلُولِ، بَلْ إِرَادَةَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ مَوْضِعِهِ، كَمَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ مَجَازُهُ.
وَأَمَّا الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، فَهُوَ الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ مَعْنَاهُ مُخْرِجًا مِنْهُ بَعْضَ أَفْرَادِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ مُقَارَنَتُهَا لِأَوَّلِ اللَّفْظِ، وَلَا تَأَخُّرُهَا عَنْهُ بَلْ يَكْفِي كَوْنُهَا فِي أَثْنَائِهِ كَالْمَشِيئَةِ فِي الطَّلَاقِ.
وَهَذَا مَوْضِعُ خِلَافِهِمْ فِي أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ مَجَازٌ أَوْ حَقِيقَةٌ.
وَمَنْشَأُ التَّرَدُّدِ: أَنَّ إِرَادَةَ إِخْرَاجِ بَعْضِ الْمَدْلُولِ هَلْ يَصِيرُ اللَّفْظُ مُرَادًا بِهِ الْبَاقِي أَوْ لَا؟ وَهُوَ يُقَوِّي كَوْنَهُ حَقِيقَةً، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْمَجَازِ، وَالنِّيَّةُ فِيهِ مُؤَثِّرَةٌ فِي نَقْلِ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى1 النَّحْوِيُّ: إِذَا أَتَى بِصُورَةِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، فَهُوَ مَجَازٌ
__________
1 الرماني، النحوي، المعتزلي، العلامة، أبو الحسن، له نحو مائة مصنف، منها: "شرح كتاب سيبويه، الجمل، صنعة الاستدلال، المعلوم والمجهول"، توفي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "16/ 533" شذرات الذهب.(1/348)
إِلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، إِذَا صَارَ الْأَظْهَرُ الْخُصُوصَ، كَقَوْلِهِمْ: غَسَلْتُ ثِيَابِي وَصَرَمْتُ1 نَخْلِي، وَجَاءَتْ بَنُو تَمِيمٍ، وَجَاءَتِ الْأَزْدُ2. انْتَهَى.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مما أثاره المتأخرون، وليس وكذلك، فَقَدْ وَقَعَتِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْع} 3 هَلْ هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَوْ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْعَامَّ الذي أريد الخصوص هو ما كان مصحوبًا بالقرينة عند التَّكَلُّمِ بِهِ عَلَى إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِهِ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ سَوَاءً كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَكْثَرَهُ أَوْ أَقَلَّهُ، فَإِنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّفْرِقَةِ بِمَا قِيلَ مِنْ إِرَادَةِ الْأَقَلِّ فِي الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَإِرَادَةِ الْأَكْثَرِ فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مَجَازٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَأَمَّا الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، فَهُوَ الَّذِي لَا تَقُومُ قَرِينَةٌ عِنْدَ تَكَلُّمِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بَعْضَ أَفْرَادِهِ، فَيَبْقَى مُتَنَاوِلًا لِأَفْرَادِهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ عِنْدَ هَذَا التَّنَاوُلِ حَقِيقَةٌ فَإِذَا جَاءَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِ الْبَعْضِ مِنْهُ، كَانَ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي أَمْ مجاز؟
__________
1 الصرم: القطع البائن، قال الجوهري: صرمت الشيء صرما: قطعته ا. هـ. لسان العرب مادة صرم.
2 لغة في الأسد، وهي أيضًا تجمع قبائل وعمائر كثيرة في اليمن. ا. هـ. لسان العرب مادة أزد.
3 جزء من الآية "275" من سورة البقرة.(1/349)
الفصل الرَّابِعُ: فِي الْخَاصِّ وَالتَّخْصِيصِ وَالْخُصُوصِ وَفِيهِ ثَلَاثُونَ مسألة
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِ
...
الْبَابُ الرَّابِعُ: فِي الْخَاصِّ وَالتَّخْصِيصِ وَالْخُصُوصِ وَفِيهِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِ
فَقِيلَ: الْخَاصُّ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مُسَمَّى وَاحِدٍ.
وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْوَحْدَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ قَدْ يَكُونُ بِإِخْرَاجِ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ، وَقَدْ يَكُونُ بِإِخْرَاجِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، أَوْ صِنف مِنْ أَصْنَافِهِ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْمُسَمَّى الْوَاحِدِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا أَوْ نَوعًا أَوْ صِنفًا، لَكِنَّهُ يُشْكِلُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ أَفْرَادٍ مُتَعَدِّدَةٍ، نَحْوَ: أُكْرِمَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَعَمْرًا، وَبَكْرًا.
ثُمَّ يُرَدُّ عَلَى هَذَا الْحَدِّ أَيْضًا أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ دَالٍّ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، سَوَاءً كَانَ مُخْرِجًا "مِنْ عُمُومٍ"* أَوْ لَا.
وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا دَلَّ عَلَى كَثْرَةٍ مَخْصُوصَةٍ.
وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ: بِأَنَّ التَّخْصِيصَ قَدْ يَكُونُ بِفَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ نَحْوَ: أُكْرِمَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَلَيْسَ زَيْدٌ وَحْدَهُ بِكَثْرَةٍ.
وَأَيْضًا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةٍ، سَوَاءً كَانَ مُخْرِجًا مِنْ عُمُومٍ أَمْ لَا، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهَذَيْنَ الْحَدَّيْنِ تَحْدِيدُ الخاص من حيث هو خاص "من غَيْرِ اعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُخْرِجًا مِنْ عُمُومٍ، وَلَكِنَّهُ يَأْبَى ذَلِكَ كَوْنُ الْمَقَامِ مَقَامَ تَحْدِيدِ الْخَاصِّ الْمُخْرِجِ مِنَ الْعَامِّ، لَا تَحْدِيدَ الْخَاصِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَاصٌّ"**.
وَأَمَّا التَّخْصِيصُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ هُنَا، فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْإِفْرَادُ، وَمِنْهُ الْخَاصَّةُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَمْيِيزُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ بِالْحُكْمِ. كَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ.
وَيَرِدُ عَلَيْهِ: الْعَامُّ الذي أريد به الخصوص.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".(1/350)
وَقِيلَ: بَيَانُ مَا لَمْ يَرِدْ بِلَفْظِ الْعَامِّ.
وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا: بَيَانُ مَا لَمْ يَرِدْ بِالْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَلَيْسَ مِنَ التَّخْصِيصِ.
وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ1: التَّخْصِيصُ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْعَامِّ وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ: بِأَنَّ التَّخْصِيصَ هُوَ بَيَانُ مَا لَمْ يَرِدْ بِالْعَامِّ، لَا بَيَانَ مَا أُرِيدَ بِهِ.
وَأَيْضًا: يَدْخُلُ فِيهِ الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: التَّخْصِيصُ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ.
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّ لَفْظَ الْقَصْرِ يَحْتَمِلُ الْقَصْرَ فِي التَّنَاوُلِ أَوِ الدَّلَالَةِ، أَوِ الْحَمْلِ، أَوْ الِاسْتِعْمَالِ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: هُوَ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْخِطَابُ عَنْهُ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّ مَا أُخْرِجَ فَالْخِطَابُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الخطاب بتقدير عدم المخصص.
وقيل: هو تَعْرِيفُ أَنَّ الْعُمُومَ لِلْخُصُوصِ.
وَأُورِدَ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعْرِيفُ التَّخْصِيصِ بِالْخُصُوصِ، وَفِيهِ دَوْرٌ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّخْصِيصِ الْمَحْدُودِ، التَّخْصِيصُ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَبِالْخُصُوصِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِّ هُوَ الْخُصُوصُ فِي اللُّغَةِ فَتَغَايَرَا فَلَا دَوْرَ.
قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: إِذَا ثَبَتَ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِبَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْخِطَابِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مَا عَدَاهُ، وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْخِطَابِ فَخَرَجَ مِنْهُ بِدَلِيلٍ وَإِلَّا لَكَانَ نَسْخًا وَلَمْ يَكُنْ تَخْصِيصًا، فَإِنَّ الْفَارِقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالتَّخْصِيصَ بَيَانُ مَا قُصِدَ "لَهُ اللَّفْظُ"* الْعَامُّ.
قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: مَعْنَى قَوْلِنَا إِنَّ العموم مخصوص، أن المتكلم به قدر أَرَادَ بَعْضَ مَا وُضِعَ لَهُ دُونَ بَعْضٍ وَذَلِكَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْمَخْصُوصِ الَّذِي يُوضَعُ فِي الْأَصْلِ لِلْخُصُوصِ، وَإِرَادَةُ الْبَعْضِ لَا تُصَيِّرُهُ مَوْضُوعًا فِي الْأَصْلِ لِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً لكان العام خاص وَهُوَ متنافٍ وَإِنَّمَا يَصِيرُ خَاصًّا بِالْقَصْدِ، كَالْأَمْرِ يَصِيرُ أَمْرًا بِالطَّلَبِ وَالِاسْتِدْعَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ هذا القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي.
__________
* في "أ": باللفظ.
__________
1 هو محمد بن أحمد بن محمد بن عباد، العبادي، الهروي، الشافعي، القاضي أبو عاصم، من آثاره: "المسبوط، الهادي، أدب القاضي، طبقات الفقهاء"، توفي سنة ثمانٍ وخمسين وأربعمائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "18/ 180" هدية العارفين "2/ 71"، شذرات الذهب "3/ 306".(1/351)
وَأَمَّا الْخُصُوصُ: فَقِيلَ هُوَ كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَنَاوِلًا لِبَعْضِ مَا يَصْلُحُ لَهُ لَا لِجَمِيعِهِ.
وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ: بِالْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ.
وَقِيلَ: هُوَ كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَنَاوِلًا لِلْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ، الَّذِي لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ.
وَيُعْتَرَضُ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِالْوَحْدَةِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ الْعَسْكَرِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْخُصُوصِ، بِأَنَّ الْخَاصَّ هُوَ مَا يُرَادُ بِهِ بَعْضُ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ لَفْظُهُ بِالْوَضْعِ، وَالْخُصُوصُ مَا اخْتَصَّ بِالْوَضْعِ لَا بِالْإِرَادَةِ.
وَقِيلَ: الْخَاصُّ مَا يَتَنَاوَلُ أَمْرًا وَاحِدًا بِنَفْسِ الْوَضْعِ، وَالْخُصُوصُ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا دُونَ غَيْرِهِ، وَكَانَ يَصِحُّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ.
وَأَمَّا الْمُخَصِّصُ: فَيُطْلَقُ عَلَى معانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَيُوصَفُ الْمُتَكَلِّمُ بِكَوْنِهِ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ، وَيُوصَفُ النَّاصِبُ لِدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ بِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ، وَيُوصَفُ الدَّلِيلُ بِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ، كَمَا يُقَالُ: السُّنَّةُ تُخَصِّصُ الْكِتَابَ، وَيُوصَفُ الْمُعْتَقِدُ لِذَلِكَ بِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ.
وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذَا الْبَابِ ذِكْرُ حَدِّ التَّخْصِيصِ دُونَ الْخَاصِّ وَالْخُصُوصِ، فَالْأَوْلَى فِي حَدِّهِ أَنْ يُقَالَ هُوَ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومِ، على تقدير عدم المخصص.(1/352)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ
اعْلَمْ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّخْصِيصُ شَدِيدَ الشَّبَهِ بالنسخ لاشتراكهما في اختصاص الحكم بعض مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، احْتَاجَ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ إِلَى بَيَانِ الْفِرَقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ تَرْكُ بَعْضِ الْأَعْيَانِ، وَالنَّسْخَ تَرْكُ "بَعْضِ الْأَزْمَانِ"*، كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّخْصِيصَ يَتَنَاوَلُ الْأَزْمَانَ، وَالْأَعْيَانَ، وَالْأَحْوَالَ بِخِلَافِ النَّسْخِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْأَزْمَانَ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الْأَعْيَانَ وَالْأَزْمَانَ لَيْسَا مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالنَّسْخُ يَرِدُ عَلَى الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَالتَّخْصِيصُ يَرِدُ عَلَى الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فَرْقٌ مُسْتَقِلٌّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يكون هو الوجه الثالث.
__________
* في "أ": ترك الأعيان.(1/352)
الرَّابِعُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ، بِخِلَافِ النَّسْخِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِكُلِّ الْأَفْرَادِ ذكره البيضاوي.
الْخَامِسُ: أَنَّ النَّسْخَ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ، بِطَرِيقٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ، قَالَهُ أَيْضًا الْأُسْتَاذُ، واختاره البيضاوي. واعترض عليه إمام الحرمين.
السَّادِسُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ تَقْلِيلٌ، وَالنَّسْخَ تَبْدِيلٌ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ.
السَّابِعُ: أَنَّ النَّسْخَ يَتَطَرَّقُ إِلَى كُلِّ حُكْمٍ، سَوَاءً كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَشْخَاصٍ كَثِيرَةٍ، وَالتَّخْصِيصَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَّا إِلَى الْأَوَّلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْ هَذَا بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: التَّخْصِيصُ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ بِمَأْمُورٍ، وَاحِدٍ وَالنَّسْخُ يَدْخُلُ فِيهِ.
الثَّامِنُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ يُبْقِي دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى مَا بَقِيَ تَحْتَهُ، حَقِيقَةً كَانَ أَوْ مَجَازًا، عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ، وَالنَّسْخَ يُبْطِلُ دَلَالَةَ حَقِيقَةِ الْمَنْسُوخِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ بالكلية.
الوجه التَّاسِعُ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ النَّسْخِ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ التَّخْصِيصِ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمَخْصُوصِ.
الْعَاشِرُ: أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى، وَلَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا الْإِطْلَاقُ وَقَعَ فِي كُتُبِ الْعُلَمَاءِ كثيرًا "وهو غَيْرُ مُسَلَّمٍ"*."وَالْمُرَادُ"** أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ قَدْ تَنْسَخُ بَعْضَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَمَّا كُلَّهَا فَلَا؛ لِأَنَّ قَوَاعِدَ الْعَقَائِدِ لَمْ تُنْسَخْ "وَكَذَلِكَ حِفْظُ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ"***.
الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ، فَإِنَّهُ بَيَانُ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ، ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَالْعَبَّادِيُّ فِي "زِيَادَاتِهِ"1.
الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانُ مَا أُرِيدَ بِالْعُمُومِ، وَالنَّسْخَ بَيَانُ مَا لم يرد بالمنسوخ؛ ذكره الماوردي.
__________
* وفي العبارة ولعله: "وهو غير مسلم"، كما تدل عليه عبارة القرافي في شرح التنقيح. كما في هامش النسخة "أ".
** في "أ": أو المراد.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 وهو في فروع الشافعية، لأبي عاصم، محمد بن أحمد العبادي، وله: "زيادة الزيادات على زيادة الزيادات" وأصله في مجلد لطيف، يعبر عنه الرافعي بفتاوى العبادي ا. هـ. كشف الظنون "2/ 974".(1/353)
الثَّالِثَ عَشَرَ:
أَنَّ التَّخْصِيصَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِالْعَامِّ، أَوْ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ، أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَنْسُوخِ، وَلَا مُقْتَرِنًا بِهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ.
الرَّابِعَ عَشَرَ:
أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَوْلٍ وَخِطَابٍ، وَالتَّخْصِيصَ قَدْ يَكُونُ بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ، وَالْقَرَائِنِ وَسَائِرِ أَدِلَّةِ السَّمْعِ.
الْخَامِسَ عَشَرَ:
أَنَّ التَّخْصِيصَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْإِجْمَاعِ، وَالنَّسْخَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْإِجْمَاعِ.
السَّادِسَ عَشَرَ:
أَنَّ التَّخْصِيصَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، وَالنَّسْخَ يَخْتَصُّ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ.
السَّابِعَ عَشَرَ:
أَنَّ التَّخْصِيصَ عَلَى الْفَوْرِ، وَالنَّسْخَ عَلَى التَّرَاخِي، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ.
الثَّامِنَ عَشَرَ:
أَنَّ تَخْصِيصَ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ وَاقِعٌ، وَنَسْخَهُ بِهِ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَهَذَا فِيهِ مَا سَيَأْتِي1 مِنَ الْخِلَافِ.
التَّاسِعَ عَشَرَ:
أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَدْخُلُ فِي غَيْرِ الْعَامِّ، بِخِلَافِ النَّسْخِ، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ حُكْمَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ.
الْمُوفِي عِشْرِينَ:
أَنَّ التَّخْصِيصَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُمُومِ عِنْدَ الْخِطَابِ مَا عَدَاهُ، وَالنَّسْخَ يُحَقِّقُ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مُرَادٌ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُرَادٍ فِيمَا بَعْدَهُ، هَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْفُرُوقِ. وَغَيْرُ خافٍ عَلَيْكَ أَنَّ بَعْضَهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَبَعْضَهَا يُمْكِنُ دخوله في البعض الآخر منها.
__________
1 انظر صفحة: "355".(1/354)
المسألة الثالثة: تخصيص العمومات وجوازه
اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ، سَلَفًا وَخَلَفًا، عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ لِلْعُمُومَاتِ جَائِزٌ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمَسُّكٍ بِهَا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ لَا عَامَّ إِلَّا وَهُوَ مَخْصُوصٌ، إِلَّا قَوْلَهُ تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} 1، قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ2: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ عَامٌّ غَيْرَ مَخْصُوصٍ إِلَّا أَرْبَعَةَ مَوَاضِعَ:
__________
1 جزء من الآية "16" من سورة الحجرات.
2 هو عبد الكريم بن علي بن عمر، الأنصاري، العراقي، الشافعي، الضرير، علم الدين، فقيه، أصولي، مفسر، أديب، ولد سنة ثلاثٍ وعشرين وستمائة هـ، وتوفي سنة أربعٍ وسبعمائة هـ، من آثاره: "شرح التنبيه للشيرازي" "الانتصار للزمخشري من ابن المنير". ا. هـ. معجم المؤلفين "5/ 319"، هدية العارفين "1/ 610"، كشف الظنون "2/ 1477"، الأعلام "4/ 53".(1/354)
أحدها: قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 1 فَكُلُّ مَا سُمِّيَتْ أُمًّا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رضاع "أو أمَّ أمٍّ"* وَإِنْ عَلَتْ فَهِيَ حَرَامٌ.
ثَانِيهَا: قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان} 2 {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} 3.
ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} 4.
رَابِعُهَا: قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} 5 وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا: بِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلَاتِ، وَهِيَ أَشْيَاءُ، وَقَدْ أُلْحِقَ بِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 6.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ بِمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَقَالَ: إِنَّ التَّخْصِيصَ يَسْتَلْزِمُ الكذب، كما قال من قال بنفس الْمَجَازِ: إِنَّهُ يَنْفِي فَيَصْدُقُ فِي نَفْيِهِ، وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ صِدْقَ النَّفْيِ إِنَّمَا يَكُونُ بِقَيْدِ الْعُمُومِ، وَصِدْقَ الْإِثْبَاتِ بِقَيْدِ الْخُصُوصِ، فَلَمْ يَتَوَارَدِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ.
وَمَا قَالُوهُ: مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْبِدَاءَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ أُرِيدَ الْعُمُومُ الشَّامِلُ لِمَا خُصِّصَ، لَكِنَّهُ لَمْ يُرَدِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا أُرِيدَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ خِلَافَ مَنْ خَالَفَ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ، مِمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ بِالْأَخْبَارِ لَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْإِنْشَاءَاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَيَّدَهُ بِذَلِكَ الْآمِدِيُّ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَمَذْهَبٌ عن حلية التحقيق والحق عاطل.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو جزء من الآية "23" من سورة النساء.
2 الآية "26" من سورة الرحمن.
3 جزء من الآية "185" من سورة آل عمران.
4 جزء من الآية "16" من سورة الحجرات.
5 جزء من الآية "189" من سورة آل عمران.
6 جزء من الآية "6" من سورة هود.(1/355)
المسألة الرابعة: قولهم فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ بَقَائِهِ بعد التخصيص
اختلفوا في المقدر الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ بَقَائِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ عَلَى مَذَاهِبَ:
الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ جَمْعٍ يُقَرِّبُ مِنْ مَدْلُولِ الْعَامِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ(1/355)
عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ: وَإِلَيْهِ مَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ.
قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: مَا نَسَبَهُ الْآمِدِيُّ إِلَى الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، نَعَمِ اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيُّ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي:
أَنَّ الْعَامَّ إِنْ كَانَ مُفْرَدًا كَمَنْ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ، نَحْوَ اقْتُلْ مَنْ فِي الدَّارِ، وَاقْطَعِ السَّارِقَ، جَازَ التَّخْصِيصُ إِلَى أَقَلِّ الْمَرَاتِبِ وَهُوَ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَصْلُحُ لَهُمَا جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَالْمُسْلِمِينَ جَازَ إِلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ وَذَلِكَ إِمَّا ثَلَاثَةٌ أَوِ اثْنَانِ عَلَى الْخِلَافِ، قَالَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ.
قَالَ الشَّيْخُ: أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِي: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ إِلَى وَاحِدٍ، فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ جَمْعًا، كَمَنْ وَالْأَلِفِ وَاللَّامِ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:
التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّخْصِيصُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَالْبَدَلِ، فَيَجُوزُ إِلَى الْوَاحِدِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: حَكَاهُ ابْنُ الْمُطَهِّرِ1، وَهَذَا الْمَذْهَبُ دَاخِلٌ فِي الْمَذْهَبِ السَّادِسِ كَمَا سَيَأْتِي2.
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يَجُوزُ إِلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ مُطْلَقًا، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، حَكَاهُ ابْنُ بُرْهَانٍ وَغَيْرُهُ.
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ:
أَنَّهُ يَجُوزُ إِلَى الْوَاحِدِ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ، حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "التَّلْخِيصِ"3 عَنْ مُعْظَمِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ. وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي "الْقَوَاطِعِ"4 عَنْ سَائِرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، مَا عَدَا الْقَفَّالَ. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إسحاق الإسفراييني في "أصوله"5 عَنْ إِجْمَاعِ الشَّافِعِيَّةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي "العدة"6 عن أكثر
__________
1 لعله الحسين بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي، المعروف بالعلامة الحلي، جمال الدين، أبو منصور، عالم مشارك في الفقه والأصول والكلام، وغير ذلك، ولد بالحلة، وتوفي سنة ست وعشرين وسبعمائة هـ، من آثاره: "منتهى المطلب في الفقه". ا. هـ. كشف الظنون "1/ 346"، إيضاح المكنون "1/ 10"، معجم المؤلفين "3/ 303".
2 انظر صفحة: "357".
3 لعل المراد "تلخيص نهاية المطلب في دراية المذهب" ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1990".
4 واسمه "القواطع في أصول الفقه"، لمنصور بن محمد السمعاني، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "109" ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1357".
5 لعل المراد به هو: "الجامع الجلي والخفي في أصول الدين والرد على الملحدين" انظر كشف الظنون "1/ 539".
6 واسمه: "عدة العالم والطريق السالم" في أصول الفقه، لابن الصباغ، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة "109". ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1129".(1/356)
الشَّافِعِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَنَسَبُهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ إِلَى الْجُمْهُورِ.
الْمَذْهَبُ السَّادِسُ: إِنْ كَانَ التَّخْصِيصُ بِمُتَّصِلٍ، فَإِنْ كَانَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوِ الْبَدَلِ جَازَ إِلَى الْوَاحِدِ نَحْوَ: أُكْرِمَ النَّاسُ إِلَّا الْجُهَّالَ، وَأُكْرِمَ النَّاسُ إِلَّا تَمِيمًا، وَإِنْ كَانَ بِالصِّفَةِ أَوِ الشَّرْطِ فَيَجُوزُ إِلَى اثْنَيْنِ، نَحْوَ: أُكْرِمَ الْقَوْمُ الْفُضَلَاءُ، أَوْ إِذَا كَانُوا فُضَلَاءَ.
وَإِنْ كَانَ التَّخْصِيصُ بِمُنْفَصِلٍ، وَكَانَ فِي الْعَامِّ الْمَحْصُورِ الْقَلِيلِ كَقَوْلِكَ: قَتَلْتُ كُلَّ زِنْدِيقٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً، وَلَمْ تَقْتُلْ سِوَى اثْنَيْنِ جَازَ إِلَى اثْنَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْعَامُّ غَيْرَ مَحْصُورٍ، أَوْ كَانَ مَحْصُورًا كَثِيرًا جَازَ بِشَرْطِ كَوْنِ الْبَاقِي قَرِيبًا مِنْ مَدْلُولِ الْعَامِّ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَاخْتَارَهُ.
قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي "شَرْحِ الْمَحْصُولِ": وَلَا نَعْرِفُهُ لِغَيْرِهِ.
احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُ كُلَّ مَنْ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَقْتُلْ إِلَّا ثَلَاثَةً عُدَّ لَاغِيًا مُخْطِئًا فِي كَلَامِهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَكْرَمْتُ كُلَّ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يُكْرِمْ إِلَّا ثَلَاثَةً أَوْ قَتَلْتُ جَمِيعَ بَنِي تَمِيمٍ، وَلَمْ يَقْتُلْ إِلَّا ثَلَاثَةً.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ إِلَى اثْنَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ، بِأَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ الْجَمْعِ، عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَيُجَابُ: بِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَامِّ وَالْجَمْعُ لَيْسَ بِعَامٍّ وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ إِلَى وَاحِدٍ، بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: أُكْرِمَ النَّاسُ إِلَّا الْجُهَّالَ، وَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ وَاحِدًا.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ الْعَامِّ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الصُّورَةِ اتِّفَاقِيَّةٌ، ولا يعتبر بها فالناس ههنا لَيْسَ بِعَامٍّ، بَلْ هُوَ لِلْمَعْهُودِ كَمَا فِي قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاس} 1 فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْمَعْهُودُ، وَهُوَ نُعَيْمُ بْنُ مسعود، والمعهود ليس بعام.
استدلوا أَيْضًا بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: أَكَلْتُ الْخُبْزَ، وَشَرِبْتُ الْمَاءَ، وَالْمُرَادُ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِمَّا يتناوله الماء والخبز.
__________
1 جزء من الآية "173" من سورة آل عمران. وسبب نزولها قيل: إنها نزلت في نعيم ين مسعود عندما قال هذا الكلام مرفوعًا من أبي سفيان ليثبط عزيمة المسلمين عن الحزوة إلى بدر الصفرى لميعاد أبي سفيان.
وقيل: نزلت في وفد عبد القيس حين مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليثبطوا عزيمتهم.
وقيل: الناس هنا المنافقون. ا. هـ. تفسير القرطبي "4/ 279".(1/357)
وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ فِي الْمِثَالَيْنِ لَيْسَ بِعَامٍّ، بَلْ هُوَ لِلْبَعْضِ الْخَارِجِيِّ المطابق للمعهود والذهني، وهو الخبز والماء المقرر في الذهني أَنَّهُ يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ، وَهُوَ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ.
وَالَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولًا لِلْعَامِّ، وَلَوْ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَعَلَى بَعْضِ التَّقَادِيرِ، كَمَا تَشْهَدُ لِذَلِكَ الِاسْتِعْمَالَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَالْكَلِمَاتُ الْعَرَبِيَّةُ، وَلَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِ الْبَاقِي بِكَوْنِهِ أَكْثَرَ مِمَّا قَدْ خُصِّصَ، أو بكونه أقرب إلى مدلول العام، فإنه هَذِهِ الْأَكْثَرِيَّةَ وَالْأَقْرَبِيَّةَ لَا تَقْتَضِيَانِ كَوْنَ ذَلِكَ الأكثر الأقرب هُمَا مَدْلُولَا الْعَامِّ عَلَى التَّمَامِ، فَإِنَّهُ بِمُجَرَّدِ إِخْرَاجِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ يَصِيرُ الْعَامُّ غَيْرَ شَامِلٍ لِأَفْرَادِهِ، كَمَا يَصِيرُ غَيْرَ شَامِلٍ لَهَا عِنْدَ إِخْرَاجِ أَكْثَرِهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يقال ههنا: إِنَّ الْأَكْثَرَ فِي حُكْمِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ، وَلِهَذَا يَأْتِي الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي كَوْنِ دَلَالَةِ الْعَامِّ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ، أَوِ الْمَجَازِ، وَلَوْ كَانَ الْمُخْرَجُ فَرْدًا وَاحِدًا.
وَإِذَا عَرَفْتَ أنه لا وجه للتقييد يكون الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ أَكْثَرَ أَوْ أَقْرَبَ إِلَى مَدْلُولِ الْعَامِّ، عَرَفْتَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّقْيِيدِ بِكَوْنِهِ جَمْعًا؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ لَا فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الصِّيغَةِ مُفْرِدَةً لَفْظًا كَمَنَ وَمَا وَالْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، وَبَيْنَ كَوْنِهَا غَيْرَ مُفْرَدَةٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ الَّتِي أَلْفَاظُهَا مُفْرِدَةٌ لَا خِلَافَ فِي كَوْنِ مَعَانِيهَا مُتَعَدِّدَةً، وَالِاعْتِبَارُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي لَا بِمُجَرَّدِ الألفاظ(1/358)
المسألة الخامسة: الْمُخَصِّصِ
اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَصِّصِ عَلَى قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "الْمُلَخَّصِ" وَابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْوَجِيزِ".
أَحَدُهُمَا:
إِنَّهُ إِرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ، وَالدَّلِيلُ كَاشِفٌ عَنْ تِلْكَ الْإِرَادَةِ.
وَثَانِيهِمَا:
إِنَّهُ الدَّلِيلُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّخْصِيصُ، وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ ابْنُ بُرْهَانٍ، وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي "مَحْصُولِهِ" فَإِنَّهُ قَالَ: الْمُخَصِّصُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ إِرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّهَا الْمُؤَثِّرَةُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الدَّالِّ عَلَى الْإِرَادَةِ مَجَازًا.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي "الْمُتَعَمِّدِ": الْعَامُّ يَصِيرُ عِنْدَنَا خَاصًّا بِالْأَدِلَّةِ، وَيَصِيرُ خَاصًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمُخَصِّصَ حَقِيقَةٌ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ، لَكِنَّ لَمَّا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ يُخَصِّصُ بِالْإِرَادَةِ أُسْنِدَ(1/358)
التَّخْصِيصُ إِلَى إِرَادَتِهِ، فَجُعِلَتِ الْإِرَادَةُ مُخَصِّصَةً. ثُمَّ جُعِلَ مَا دَلَّ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ اللَّفْظِيُّ أَوْ غَيْرُهُ مُخَصِّصًا فِي الِاصْطِلَاحِ، وَالْمُرَادُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ الدَّلِيلُ، فَنَقُولُ: الْمُخَصِّصُ لِلْعَامِّ إِمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ الْمُنْفَصِلُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَسْتَقِلَّ، بَلْ يَتَعَلَّقُ مَعْنَاهُ بِاللَّفْظِ إِلَى قَبْلِهِ فَهُوَ الْمُتَّصِلُ. فَالْمُنْفَصِلُ سَيَأْتِي1 إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا الْمُتَّصِلُ: فَقَدْ جَعَلَهُ الْجُمْهُورُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ، وَالشَّرْطَ وَالصِّفَةَ، وَالْغَايَةَ. وَزَادَ الْقَرَافِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ: بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، "وَنَازَعَ"* الْأَصْفَهَانِيَّ فِي ذَلِكَ قَائِلًا: إِنَّهُ فِي نِيَّةِ طَرْحِ مَا قَبْلَهُ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَقَدْ وَجَدْتُهَا بِالِاسْتِقْرَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ، هَذِهِ الْخَمْسَةَ وَسَبْعَةً أُخْرَى، وَهِيَ: الْحَالُ، وَظَرْفُ الزَّمَانِ، وَظَرْفُ الْمَكَانِ، وَالْمَجْرُورُ مَعَ الْجَارِّ، وَالتَّمْيِيزُ، وَالْمَفْعُولُ مَعَهُ، وَالْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ، فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ لَيْسَ فِيهَا وَاحِدٌ يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ.
وَمَتَى اتَّصَلَ بِمَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ عُمُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ صَارَ غَيْرَ مستقل بنفسه.
__________
* في "أ": تابع.(1/359)
المسألة السادسة: حكم الاستثناء من الجنس
لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجِنْسِ، كَقَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَهُوَ الْمُتَّصِلُ، وَلَا تَخْصِيصَ إِلَّا بِهِ.
وَأَمَّا الْمُنْقَطِعُ: فَلَا يُخَصَّصُ بِهِ نَحْوَ: جَاءَنِي الْقَوْمُ إِلَّا حِمَارًا، فَالْمُتَّصِلُ مَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ مِنْهُ يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَ "وَالْمُنْقَطِعُ مَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ مِنْهُ لَا يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَ"*، وَفِي مَعْنَى هَذَا مَا قِيلَ: إِنَّ الْمُتَّصِلَ مَا كَانَ الثَّانِي جُزْءًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَالْمُنْقَطِعَ مَا لَا يَكُونُ الثَّانِي جُزْءًا مِنَ الْأَوَّلِ.
قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ1: وَلَا بُدَّ فِي الْمُنْقَطِعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي قَبْلَ إِلَّا قَدْ دَلَّ عَلَى مَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ مَالِكٍ2: لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ الدُّخُولِ فِي الْأَوَّلِ، كَقَوْلِكَ: قَامَ القوم إلا حمارًا،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو أبو بكر السراج، الذي تقدمت ترجمته في الصفحة: "303".
2 هو محمد بن عبد الله، بن مالك، الطائي، نزيل دمشق، أبو عبد الله، جمال الدين، الولود سنة ستمائة هـ، كان إمامًا في القراءات واللغة والنحو. وغير ذلك، توفي سنة اثنتين وسبعين وستمائة هـ، من آثاره: "تسهيل الفوائد في النحو وسبك المنظوم وفك المختوم".ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 339"، معجم المؤلفين "10/ 234"، كشف الظنون "1/ 82".(1/359)
فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْمَ تَبَادَرَ الذِّهْنُ إِلَى أَتْبَاعِهِمُ الْمَأْلُوفَةِ، فَذَكَرَ الْحِمَارَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لِذَلِكَ، هو فمستثنى تَقْدِيرًا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ من غير الجنس، ولكن بشترط أَنْ يُتَوَهَّمَ دُخُولُهُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِوَجْهٍ مَا، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ كَقَوْلِهِ:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ1
فَالْيَعَافِيرُ قَدْ تُؤَانَسُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِهَا مَنْ يُؤَانَسُ بِهِ إِلَّا هَذَا النَّوْعُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، هَلْ وَقَعَ فِي اللُّغَةِ أَمْ لَا، فَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَأَوَّلَهُ تَأْوِيلًا رَدَّهُ بِهِ إِلَى الْجِنْسِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى.
وَقَالَ العضد في شرحه لـ"مختصر الْمُنْتَهَى": لَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي صِحَّتِهِ لُغَةً.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا: هَلْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ أَمْ لَا، فَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَهُ فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ2: لَا يُنْكِرُ وُقُوعَهُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا أَعْجَمِيٌّ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا: هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ عَلَى مَذَاهِبَ:
الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ3 عَنِ ابْنِ جِنِّي.
قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ، وَعَلَى هَذَا فَإِطْلَاقُ لفظ الاستثناء على المستثنى "المتصل"* المنقطع هو بالاشتراك اللفظي.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو من بحر الرجز، وهو لجران العود واسمه عامر بن الحارث، شاعر جاهلي أدرك الإسلام. ا. هـ. شرح المفصل "2/ 80". وديوان جران العود "53" وأوضح المسالك "2/ 230".
2 هو عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي، أبو محمد الغرناطي، مفسر، فقيه، عارف بالأحكام والحديث، له "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" وغيره، توفي سنة اثنين وأربعين وخمسمائة هـ: انظر ترجمته ومراجعها في الأعلام "3/ 282".
3 هو أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي، الموصلي، الضرير، المعروف بابن الخباز، شمس الدين، عالم في النحو، واللغة، والفقه، والعرض، والفرائض، توفي سنة تسع وثلاثين وستمائة هـ، من آثاره: "شرح ميزان العربية" و"شرح اللمع" لابن جني. ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 202"، كشف الظنون "1/ 155" معجم المؤلفين "1/ 200".(1/360)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي:
أَنَّهُ مَجَازٌ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، قَالُوا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ لَا يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً، لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: بَلْ هُوَ مَعْنَوِيٌّ، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَهُ حَقِيقَةً جَوَّزَ التَّخْصِيصَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
ثُمَّ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، اخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، فَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يُخَصَّصُ بِهِ، وَبَحْثُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي التَّخْصِيصِ، وَلَا يُخَصَّصُ إِلَّا بِالْمُتَّصِلِ فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ.(1/361)
المسألة السابعة: إقامة الحجة عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الِاسْتِثْنَاءَ
قَدْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ، أَوْ غَيْرَ دَاخِلٍ قَالَ: وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ:
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مَعَ القوم امتنع إخراجه من النسبة، وإلا لزام تَوَارُدُ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ مَا لَا يَدْخُلُ لَا يَصِحُّ إِخْرَاجُهُ.
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ تَوَارُدُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، لَوْ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ بَعْدَ تَقْدِيرِ الْإِخْرَاجِ، أَمَّا إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تَوَارُدَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: جَاءَنِي عشرة إلا ثلاثة، إنما هو سبعة، وإلا ثَلَاثَةً قَرِينَةُ إِرَادَةِ السَّبْعَةِ مِنَ الْعَشَرَةِ، إِرَادَةُ الْجُزْءِ بِاسْمِ الْكُلِّ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمُخَصِّصَاتِ لِلْعُمُومِ.
وَرَدَّهُ ابْنُ الْحَاجِبِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ إِخْرَاجٌ، وَالْعَشَرَةُ نَصٌّ فِي مَدْلُولِهَا، وَالنَّصُّ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَخْصِيصٌ، وَإِنَّمَا التَّخْصِيصُ فِي الظَّاهِرِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَمَا قَالَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يُخْرِجُ شَيْئًا فَإِذَا قُلْتَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، فَإِنَّكَ أَخْبَرْتَ بِالْقِيَامِ عَنِ الْقَوْمِ، الَّذِينَ لَيْسَ فِيهِمْ زَيْدٌ وَزَيْدٌ، مَسْكُوتٌ عَنْهُ، لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالْقِيَامِ وَلَا بِنَفْيِهِ.
قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَهَذَا الْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَ بِهِ الْجُمْهُورُ لَا يَسْتَقِيمُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} 1، فلو أراد الألف من لفظ الألف لم
__________
1 جزء من الآية "14" من سورة العنكبوت.(1/361)
تَخَلَّفَ مُرَادُهُ عَنْ إِرَادَتِهِ فَعَلِمَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ، إِلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِنْ لَفْظِ الْأَلْفِ.
وَأَجَابَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: بِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ جَاءَنِي عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً، بِمَنْزِلَةِ سَبْعَةٍ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ، وَأَنَّهُمَا كَاسْمَيْنِ وُضِعَا لِمُسَمًّى وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا مُفْرَدٌ، وَالْآخَرُ مُرَكَّبٌ وَجَرَى صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" عَلَى هَذَا، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَاسْتَنْكَرَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ إِنَّهُ مُحَالٌ لَا يَعْتَقِدُهُ لَبِيبٌ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ خَارِجٌ عَنْ قَانُونِ اللُّغَةِ؛ إِذْ لَمْ يُعْهَدْ فِيهَا لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ، وُضِعَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ دَلَالَةَ الِاسْتِثْنَاءِ بِطَرِيقِ الْإِخْرَاجِ.
وَأَجَابَ آخَرُونَ: بِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُرَادٌ بِتَمَامِهِ، ثُمَّ أُخْرِجَ الْمُسْتَثْنَى، ثُمَّ حُكِمَ بِالْإِسْنَادِ بَعْدَهُ تَقْدِيرًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ ذِكْرًا، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِكَ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً: عَشَرَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ، ثُمَّ أَخْرَجْتَ ثَلَاثَةً، ثُمَّ أُسْنِدَ إِلَى الْبَاقِي تَقْدِيرًا، فَالْمُرَادُ بِالْإِسْنَادِ مَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِخْرَاجِ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَرَجَّحَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْجَوَابِ، وَالْجَوَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، بِأَنَّ الْأَفْرَادَ فِي غَيْرِ هَذَا مُرَادَةٌ بِكَمَالِهَا، وَفِي الْجَوَابِ الَّذِي قَبْلَهُ هِيَ مُرَادَةٌ بِكَمَالِهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا هو لتفسير النسبة لا لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ الْمُرَادِ.
وَأَيْضًا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَجْوِبَةِ، أَنَّ جَوَابَ الْجُمْهُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ تَخْصِيصٌ، وَعَلَى الْجَوَابِ الثَّانِي لَيْسَتْ بِتَخْصِيصٍ، وَعَلَى الثَّالِثِ مُحْتَمَلَةٌ. فَقِيلَ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا تَخْصِيصٌ، وَقِيلَ لَيْسَتْ بِتَخْصِيصٍ.
قَالَ "الْمَازِرِيُّ"*: أصل هذه الخلاف في الاسثناء مِنَ الْعَدَدِ هَلْ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ كَقَرِينَةٍ غَيَّرَتْ وَضْعَ الصِّيغَةِ أَوْ لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَإِنَّمَا كَشَفَتْ عَنِ الْمُرَادِ بِهَا، فَمَنْ جَعَلَ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ كَالنُّصُوصِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ سِوَى مَا يُفْهَمُ مِنْهَا، قَالَ بِالْأَوَّلِ، وَيُنْزِلُ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَدٍ مَا، وَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى كَجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِمَجْمُوعٍ هُوَ الدَّالُّ عَلَى الْعَدَدِ الْمَنْفِي، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ كَالنُّصُوصِ فَإِنَّ الْعَشَرَةَ اسْتُعْمِلَتْ فِي عَشَرَةٍ نَاقِصَةٍ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ قَرِينَةً لَفْظِيَّةً دَلَّتْ عَلَى الْمُرَادِ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَمَا دَلَّ قَوْلُهُ: "لَا تَقْتُلُوا الرُّهْبَانَ" عَلَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 1.
قَالَ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَذْهَبَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّكَ اسْتَعْمَلْتَ الْعَشَرَةَ فِي سَبْعَةٍ مَجَازًا، دل عليه قوله:
__________
* في "أ": الماوردي.
__________
1 جزء من الآية "5" من سورة التوبة.(1/362)
إِلَّا ثَلَاثَةً، وَالْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْمَجْمُوعَ يُسْتَعْمَلُ فِي السَّبْعَةِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ عِنْدَهُ أَنَّكَ تَصَوَّرْتَ مَاهِيَّةَ الْعَشَرَةِ، ثُمَّ حَذَفْتَ مِنْهَا ثَلَاثَةً، ثُمَّ حَكَمْتَ بِالسَّبْعَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ الْبَاقِي مِنْ عَشَرَةٍ، أُخْرِجَ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ، أَوْ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً لَهُ عِنْدِي، وَكُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَيْءٍ بَدَأَ بِاسْتِحْضَارِهِ فِي ذِهْنِهِ، فَهَذَا الْقَائِلُ بَدَأَ بِاسْتِحْضَارِ الْعَشَرَةِ فِي ذِهْنِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ الثَّلَاثَةَ، ثُمَّ حكم، كما أنك تخرج عشرة دراهم من الْكِيسِ، ثُمَّ تَرُدُّ مِنْهَا إِلَيْهِ ثَلَاثَةً ثُمَّ تَهَبُ الْبَاقِيَ، وَهِيَ السَّبْعَةُ. انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِأَنَّ الْإِسْنَادَ إِنَّمَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَاهُ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فَالْمَسْأَلَةُ قَلِيلَةُ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ تَقَرَّرَ وُقُوعُهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، تَقَرُّرًا مَقْطُوعًا بِهِ، لَا يَتَيَسَّرُ لِمُنْكِرٍ أَنْ يُنْكِرَهُ، وَتَقَرَّرَ أَنَّ مَا بَعْدَ آلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ خَارِجٌ عَنِ الْحُكْمِ لِمَا قَبْلَهَا بِلَا خِلَافٍ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ إِلَّا فِي صِحَّةِ تَوْجِيهِ مَا تَقَرَّرَ وُقُوعُهُ وَثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ.
وَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَقَامِ يَكْفِي فِي ذَلِكَ، وَيَنْدَفِعُ بِهِ تَشْكِيكُ مَنْ شَكَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، فَلَا نُطَوِّلُ بِاسْتِيفَاءِ مَا قِيلَ فِي أَدِلَّةِ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ وَمَا قيل عليها.(1/363)
المسألة الثامنة: شُرُوطِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ
يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ شُرُوطٌ.
الْأَوَّلُ:
الِاتِّصَالُ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَفْظًا: بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ وَاحِدًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الِاتِّصَالِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْطَعَهُ لِعُذْرٍ كَسُعَالٍ أَوْ عُطَاسٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، مِمَّا لَا يُعَدُّ فَاصِلًا بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ، فَإِنِ انْفَصَلَ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ لَغْوًا وَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": الِاسْتِثْنَاءُ إِخْرَاجُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ عَنِ الْجُمْلَةِ بِلَفْظِ إلا أو أُقِيمَ مَقَامَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ: أَنَّ الَّذِي يُخْرِجُ بَعْضَ الْجُمْلَةِ عَنْهَا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَوِيًا، كَدَلَالَةِ الْعَقْلِ، وَالْقِيَاسِ، وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ هَذَا التَّعْرِيفِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًا، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا، فَيَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِالدَّلَالَةِ، وَإِلَّا كَانَ لَغْوًا، وَهَذَا أَيْضًا خَارِجٌ عَنِ الْحَدِّ، أَوْ مُتَّصِلًا، وَهُوَ إِمَّا لِلتَّقْيِيدِ بِالصِّفَةِ أَوِ الشَّرْطِ أَوِ الْغَايَةِ، أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ.
أَمَّا التَّقْيِيدُ بِالصِّفَةِ، فَالَّذِي خَرَجَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَفْظُ التَّقْيِيدِ بِالصِّفَةِ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ أَكْرَمَنِي بَنُو تَمِيمٍ الطِّوَالُ خَرَجَ مِنْهُمُ الْقِصَارُ، وَلَفْظُ الطِّوَالِ لَا يَتَنَاوَلُ الْقِصَارَ، بِخِلَافِ قَوْلِنَا أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِلَّا زَيْدًا، فَإِنَّ الْخَارِجَ وَهُوَ زَيْدٌ تَتَنَاوَلُهُ صِيغَةُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا هُوَ الِاحْتِرَازُ عَنِ التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ. وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِالْغَايَةِ، فَالْغَايَةُ قَدْ تَكُونُ دَاخِلَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى الْمَرَافِق} 1 بخلاف
__________
1 جزء من الآية "6" من سورة المائدة.(1/363)
الِاسْتِثْنَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيفَ الْمَذْكُورَ لِلِاسْتِثْنَاءِ مُنْطَبِقٌ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى اشْتِرَاطِ الِاتِّصَالِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ عَنْهُ فَقِيلَ: إِلَى شَهْرٍ، وَقِيلَ: إِلَى سَنَةٍ، وَقِيلَ: أَبَدًا.
وَقَدْ رَدَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالُوا: لَمْ يَصِحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، لِمَا يَلْزَمُ مِنَ ارْتِفَاعِ الثِّقَةِ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ لِإِمْكَانِ تَرَاخِي الِاسْتِثْنَاءِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّمَا هُوَ فِي التَّعْلِيقِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهُ تَعَالَى خَاصَّةً، كَمَنْ حَلَفَ وَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْإِخْرَاجِ بِإِلَا وَأَخَوَاتِهَا.
قَالَ: وَنَقَلَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مُدْرِكَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} 1
قَالَ: الْمَعْنَى إِذَا نَسِيتَ قَوْلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُلْ بَعْدَ، ذَلِكَ، وَلَمْ يُخَصِّصْ. انْتَهَى.
وَمَنْ قَالَ: بِأَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لَمْ تَصِحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَعَلَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي "مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ"2 وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ بِلَفْظِ: "إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى يَمِينٍ فَلَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ إِلَى سَنَةٍ"3.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ هَذَا غَيْرُ الْحَاكِمِ مِنْ طُرُقٍ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ4 وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ سعيد بن منصور5: ... حدثنا
__________
1 جزء من الآيتين "23-24" من سورة الكهف.
2 واسمه: "المستدرك على الصحيحين"، للإمام المعروف بالحاكم النيسابوري، تقدمت ترجمته في الصفحة "180" اعتنى فيه في عدد الحديث على ما في الصحيحين مما رأه على شرط الشيخين، أو على شرط واحد منهما، وما أداه اجتهاده إلى تصحيحه، وإن لم يكن على شرط واحد منهما. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1672".
3 أخرج الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس موقوفًا عليه بنحوه في الأيمان والنذور "4/ 303" والطبراني في المعجم الكبير "11069". والطبري في تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} "9/ 229". والبيهقي في السنن في الإيمان باب الحالف يسكت بين يمينه واستثنائه "10/ 48".
4 هو محمد بن عمر بن أحمد بن أبي عيسى المديني، الأصبهاني، الشافعي، أبو موسى، الحافظ، الثقة، شيخ المحدثين، المولود سنة إحدى وخمسمائة هـ، قال الذهبي عنه: كان حافظ المشرق في زمانه، توفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة هـ، من آثاره: "كتاب الترغيب والترهيب، وتتمة الغرييين". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "21/ 152"، شذرات الذهب "4/ 273"، هدية العارفين "2/ 100".
5 هو ابن شعبة، أبو عثمان الخراساني، المروزي، المحدث، المفسر، سكن مكة وتوفي فيها سنة سبع وعشرين ومائتين هـ، من آثاره: "كتاب السنن، وتفسير القرآن الكريم". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 586"، شذرات الذهب "2/ 62"، معجم المؤلفين "4/ 232".(1/364)
أَبُو مُعَاوِيَةَ1 قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ2 عَنْ مُجَاهِدٍ3 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ سَنَةٍ، وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ، فَالرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ صَحَّتْ، وَلَكِنَّ الصَّوَابَ خِلَافَ مَا قَالَهُ.
وَيَدْفَعُهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَن حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ فَرَأَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ" 4 وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزًا عَلَى التَّرَاخِي لَمْ يُوجِبِ التَّكْفِيرَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَلَقَالَ: فَلْيَسْتَثْنِ أَوْ يُكَفِّرْ.
وَأَيْضًا: هُوَ قَوْلٌ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ جَمِيعِ الْإِقْرَارَاتِ وَالْإِنْشَاءَاتِ لِأَنَّ من وقع ذلك منه يمكن أَنْ يَقُولَ مِنْ بَعْدُ: قَدِ اسْتَثْنَيْتُ فَيُبْطِلُ حُكْمَ مَا وَقَعَ مِنْهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
وَأَيْضًا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ لِجَوَازِ أَنْ يَرِدَ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ.
وَقَدِ احْتُجَّ لِمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَا أَخْرَجُهُ أَبُو دَاوُدَ5 وَغَيْرُهُ، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا" ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ" 6 وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ السكوت يمكن أن يكون بعارض يعرض يمنع عن الكلام
__________
1 هو محمد بن حازم، مولى بني سعد، أبو معاوية السعدي، الكوفي، الضرير، المولود سنة ثلاث عشرة ومائة هـ، وعمي وهو ابن أربع سنين، كان حافظًا، حجة، محدث الكوفة، توفي، سنة خمس وتسعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "9/ 73"، تذكرة الحفاظ "1/ 294"، الجرح والتعديل "7/ 246".
2 هو سليمان بن مهران، الأسدي، أبو محمد، أصله من بلاد الري، منشأه ووفاته بالكوفة، تابعي جليل، كان عالمًا بالقرآن والحديث والفرائض، قال الذهبي عنه: رأسًا في العلم النافع والعمل الصالح. توفي سنة ثمانٍ وأربعين ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "6/ 226"، تهذيب التهذيب "4/ 222"، الأعلام "3/ 135".
3 هو مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي، الأسود، شيخ القراء، والمفسرين، أخذ القرآن والتفسير والفقه عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، توفي سنة أربع ومائة هـ، وهو ساجد. ا. هـ. شذرات الذهب "1/ 125"، سير أعلام النبلاء "4/ 449"، تهذيب التهذيب "10/ 42".
4 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب الأيمان، باب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها "1650" بلفظ: "من حلف على يمين فرأى ... " الترمذي في النذور والإيمان، باب ما جاء في الكفارة قبل الحنث "1530". الإمام أحمد في المسند "2/ 361". البيهقي في السنن، كتاب الإيمان، باب الكفارة قبل الحنث "10/ 53". ابن حبان في صحيحه "4349".
5 هو سليمان بن الأشعث بن شداد السجستاني، شيخ السنة، مقدم الحفاظ، محدث البصرة، المولود سنة اثنتين ومائتين هـ، ألف عدة كتب أشهرها "السنن" الذي يعتبر أحد الكتب الستة. قال الصاغاني: فيه لين لأبي داود السجستاني الحديث كما لين لداود عليه السلام الحديد. توفي سنة خمس وسبعين ومائتين هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 203"، شذرات الذهب "2/ 167"، تذكرة الحفاظ "2/ 591".
6 أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث ابن عباس "2675". ابن حبان في صحيحه "4343". والطبراني في الكبير "11742". وأبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت "3286" والبيهقي في السنن، كتاب الأيمان "10/ 47-48". وقال ابن أبي حاتم، كما في العلل "1/ 440" الفقرة "1322": وأن المرسل أشبه بالصواب.(1/365)
وَأَيْضًا غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْيَمِينِ بَعْدَ سُكُوتِهِ وَقْتًا يَسِيرًا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ "هُوَ مَا عَرَفْتَ مِنْ جَوَازِهِ بَعْدَ سَنَةٍ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي "مدرج السَّالِكِينَ"1: إِنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ"* أَنَّهُ إِذَا قَالَ شَيْئًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ عِنْدَ الذِّكْرِ قَالَ: وَقَدْ غَلَّطَ عَلَيْهِ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ كَلَامَهُ. انْتَهَى.
وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَدْفَعُهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَوْ بَعْدَ يَوْمٍ أو أسبوع أو سنة.
وعن طاوس2: يَجُوزُ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ. وَعَنْ عَطَاءٍ3: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ عَلَى مِقْدَارِ حَلْبِ نَاقَةٍ غَزِيرَةٍ.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ إلى سنتين.
واعلم: أن الاسثناء بَعْدَ الْفَصْلِ الْيَسِيرِ وَعِنْدَ التَّذَكُّرِ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ، مِنْهَا حَدِيثُ: "لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا" الْمُتَقَدِّمُ.
وَمِنْهَا: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا" فقال العباس: إلا الإذخر، فإن لقينهم وبيوتهم فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إلا الإذخر" 4.
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 هو محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف بابن قيم الجوزية، الإمام شمس الدين، أبو عبد الله الدمشقي، الحنبلي، المولود سنة إحدى وتسعين وستمائة هـ، فقيه، أصولي، مجتهد، مفسر، متكلم، مشارك في غير ذلك أيضًا لازم ابن تميمة، وسجن معه في قلعة دمشق، وتوفي سنة إحدى وخمسين وسبعمائة هـ، من آثاره: "زاد المعاد، إغاثة اللهفان، الجواب الكافي، بدئع الفرائد"، وله "مدارج السالكين" شرح فيه منازل السائرين إلى الحق المبين، وهو كتاب في أحوال السلوك. ا. هـ. هدية العارفين "2/ 158" كشف الظنون "2/ 1828"، معجم المؤلفين "9/ 106".
2 هو طاوس بن كيسان، أبو عبد الرحمن الفارسي، ثم اليمني، الفقيه القدوة، الحافظ، عالم اليمن، سمع من زيد بن ثابت، وعائشة وأبي هريرة، وغيرهم رضي الله عنهم، توفي سنة ست ومائة هـ، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "5/ 38"، شذرات الذهب "1/ 133"، الجرح والتعديل "4/ 500".
3 هو عطاء بن أبي رباح بن أسلم، أبو محمد القرشي، ولد أثناء خلافة عثمان رضي الله عنه، حدث عن عائشة وأم سلمة وعثمان بن عفان وغيرهم، كان ثقة، فقيهًا، عالمًا، كثير الحديث، أدرك مائتين من الصحابة، توفي سنة خمس عشرة ومائة هـ، ا. هـ. تهذيب التهذيب "7/ 199" سير أعلام النبلاء "5/ 78".
4 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه، في كتاب الحج باب تحريم مكة، وتحريم صيدها "1353"، والنسائي في كتاب مناسك الحج باب حرمة مكة "2874" 5/ 203". والبخاري مرسلًا في المغازي باب رقم "53" الحديث "4313" وأخرجه أيضًا متصلًا من حديث ابن عباس برقم "1834" وأبو داود: في كتاب المناسك باب تحريم مكة "2018". وابن الجارود في المنتقى "509". وابن جبان في صحيحه برقم "3720".(1/366)
وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ -أَيْضًا فِي حديث سليمان- عليه السلام لَمَّا قَالَ: "لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ"1.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: "إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ" 2.
الشَّرْطُ الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرَ مُسْتَغْرَقٌ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، مِنْهُمُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" فَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى فَسَادٍ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ فَقَالَ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": الِاسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرِقُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَقَلَّ مِمَّا بَقِيَ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ "أَيْ: يَكُونُ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ"* وَاخْتَلَفُوا "فِيمَا إِذَا كَانَ المستثنى أكثر مما بقي من المستثى مِنْهُ"** فَمَنَعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ النُّحَاةِ: مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ لَمْ تَرِدْ بِهِ اللُّغَةُ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا نَقُصَ يَسِيرًا لَمْ يَزَلْ عَنْهُ اسْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَلَوِ اسْتَثْنَى أَكْثَرَ لَزَالَ الِاسْمُ.
قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: لَوْ قَالَ لَهُ عِنْدِي مِائَةٌ إِلَّا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، مَا كَانَ مُتَكَلِّمًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ عَبَثًا مِنَ الْقَوْلِ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ "الْمَسَائِلِ"3: إِنَّ ذَلِكَ، يَعْنِي اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ لَا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ،
__________
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": اختلفوا إذا كان أكثر مما بقي منه.
__________
__________
1 أخرجه مسلم في الأيمان، باب الاستثناء في اليمين وغيرها "1654". البخاري في النكاح، باب قول: الرجل: لأطوفن الليلة على نسائي "55242". والنسائي في الأيمان والنذور، باب إذا حلف فقال له رجل: إن شاء الله هل له استثناء "3840" 7/ 26. والبيهقي في السنن، كتاب الأيمان، باب من قال وايم الله "10/ 44". وأحمد في مسنده "2/ 229". وابن حبان في صحيحه "4337".
2 أخرجه الترمذي: من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة الأنفال "3084". في الحديث عن أسارى بدر وهو الصواب لأن استثناء سهيل بن بيضاء حصل منهم ولم يكن ذلك في صلح الحديبية ولعله سبق قلم من المؤلف. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده "3632" "1/ 383".
3 هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة، الدينوري، أبو محمد، من أئمة الأدب ومن المصنفين الذين بعد صيتهم ولد ببغداد وسكن الكوفة وتوفي ببغداد سنة ست ومائتين هـ، من آثاره: "المعارف، عيون الأخبار، المشبه في الحديث والقرآن، والمسائل والأجوبة". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "13/ 296". شذرات الذهب "2/ 169"، الأعلام "4/ 137".(1/367)
لِأَنَّ تَأْسِيسَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى تَدَارُكِ قَلِيلٍ مِنْ كَثِيرٍ، أَغْفَلْتَهُ أَوْ نَسِيتَهُ لِقِلَّتِهِ، ثُمَّ تَدَارَكْتَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ كَلَامِ الزَّجَّاجِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إِنَّهُ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ النُّحَاةِ، وَأَجَازَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْهُمْ، وَأَجَازَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ: نَحْوَ: عِنْدِي لَهُ عَشَرَةٌ إِلَّا تِسْعَةٌ، فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ السِّيرَافِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ مِنَ النُّحَاةِ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِين} 1 وَالْمُتَّبِعُونَ لَهُ هُمُ الْأَكْثَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} 2 وقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين} 3.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ" 4 وَقَدْ أَطْعَمَ سُبْحَانَهُ وَكَسَا الْأَكْثَرُ مِنْ عِبَادِهِ بِلَا شَكٍّ.
وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ: بِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ.
وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَانِعِينَ مِنَ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ5 مِنَ النُّحَاةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ، لَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ.
وَأَمَّا جَوَازُ اسْتِثْنَاءِ الْمُسَاوِي فَبِالْأَوْلَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ وَاقِعٌ فِي اللُّغَةِ، وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} 6.
وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْمَازِرِيُّ، وَالْآمِدِيُّ عَنِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْمُسَاوِي وَلَا وَجْهَ لذلك.
__________
1 جزء من الآية "42" من سورة الحجر.
2 جزء من الآية "13" من سورة سبأ.
3 جزء من الآية "103" من سورة يوسف.
4 حديث قدسي أخرجه مسلم من حديث أبي ذر ولم أهتد إلى رواية بكر مطولًا في كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم "2577". وابن ماجه: في كتاب الزهد باب ذكر التوبة "4257" والترمذي في صفة القيامة بباب رقمه "48"، رقم الحديث "2495". والحاكم في المستدرك كتاب، التوبة والإنابة، "4/ 241". وعبد الرزاق في المصنف "20272". وابن حبان في صحيحه "619".
5 هو عبد الله بن جعفر درستويه، أبو محمد الفارسي، النحوي، تلميذ المبرد، المولود سن ثمانٍ وخمسين ومائتين هـ، برع في العربية، ورزق الإسناد العالي، وكان ثقة، توفي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "كتاب الإرشاد في النحو، شرح الفصيح وغريب الحديث". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "15/ 531". شذرات الذهب "2/ 375".
6 الآيتان "2-3" من سورة المزمل.(1/368)
وَمِنَ الْمَانِعِينَ اسْتِثْنَاءَ الْمُسَاوِي ابْنُ قُتَيْبَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: الْقَلِيلُ الَّذِي يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ هُوَ الثُّلُثُ فَمَا دُونَهُ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
أَنْ يَلِيَ الْكَلَامَ بِلَا عَاطِفٍ، فَأَمَّا إِذَا وَلِيَهُ حَرْفُ الْعَطْفِ، نَحْوَ: عِنْدِي لَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَإِلَّا دِرْهَمًا، أَوْ فَإِلَّا دِرْهَمًا كَانَ لَغْوًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: بِالِاتِّفَاقِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
أَنْ لَا يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مُشَارٍ إِلَيْهِ كَمَا لَوْ أَشَارَ إِلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ لِفُلَانٍ إِلَّا هَذَا وَهَذَا، فَقَالَ: إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "النِّهَايَةِ": أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إِذَا أَضَافَ الْإِقْرَارَ إِلَى مُعَيَّنٍ اقْتَضَى الْإِقْرَارُ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ فِيهَا، فَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْبَعْضِ كَانَ رُجُوعًا عَنِ الْإِقْرَارِ. انْتَهَى.
وَالْحَقُّ جَوَازُهُ، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ وَمُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ فِي ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ مَوْقُوفٌ عَلَى انْتِهَائِهِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مُشَارٍ إِلَيْهِ وغير مشار إليه.(1/369)
المسألة التاسعة: الاستثناء من النفي والخلاف فيه
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ.
وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِثْبَاتٌ، وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إِثْبَاتًا وَجَعَلُوا بَيْنَ الْحُكْمِ بِالْإِثْبَاتِ وَالْحُكْمِ بِالنَّفْيِ وَاسِطَةً وَهِيَ عَدَمُ الْحُكْمِ، قَالُوا: فَمُقْتَضَى الِاسْتِثْنَاءِ بَقَاءُ الْمُسْتَثْنَى غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ، لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ.
وَاخْتَلَفَ كَلَامُ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ، فَوَافَقَ الْجُمْهُورُ فِي "الْمَحْصُولِ" وَاخْتَارَ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ فِي "تَفْسِيرِهِ".
وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَدَعْوَى الْوَاسِطَةِ مَرْدُودَةٌ، عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَ لَهَا وَجْهٌ لَكَانَ مِثْلَ ذَلِكَ لَازِمًا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْإِثْبَاتِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ.
وَأَيْضًا نَقْلُ الْأَئِمَّةِ عَنِ اللُّغَةِ يُخَالِفُ مَا قَالُوهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ صَحِيحًا لَمْ تَكُنْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ تَوْحِيدًا، فَإِنَّ قَوْلَنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ نَفْيٍ؛ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إله إلا الله" 1.
__________
1 أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه، في كتاب الصلاة باب فضل استقبال القبلة "392". وأبو داود في كتاب الجهاد باب على ما يقاتل المشركون "2641". والترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمرت بقتالهم حتى يقولوا ... " "2608". وقال: حسن صحيح، والبيهقي في السنن كتاب الصلاة، باب في فرض القبلة وفضل استقبالها "2/ 3". والنسائي في تحريم الدم "3976" "7/ 75"، وابن حبان في صحيحه "5895".(1/369)
وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: ثَنَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا صَرَفْتَهُ عَنْ وَجْهِهِ: فَإِذَا قُلْتَ: لَا عَالِمَ إِلَّا زَيْدٌ فههنا أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا:
هَذَا الْحُكْمُ.
وَالثَّانِي:
نَفْسُ الْعِلْمِ.
فَقَوْلُكَ: إِلَّا زَيْدٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْأَوَّلِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ تَحَقُّقُ الثُّبُوتِ؛ إِذِ الِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا يُزِيلُ الْحُكْمَ بِالْعِلْمِ، فَيَبْقَى الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتًا عَنْهُ غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الثَّانِي، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَحَقُّقُ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْعَدَمِ يُحْصِلُ الْوُجُودَ لَا مَحَالَةَ؛ لِكَوْنِ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى؛ إِذِ الْأَلْفَاظُ وُضِعَتْ دَالَّةً عَلَى الْأَحْكَامِ الذِّهْنِيَّةِ لَا عَلَى الْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى.
وَحَكَى عَنْهُمُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" أَنَّهُمُ احتجوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا نكاح إلا بولي" 1 و"لا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ" 2 وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَحَقُّقُ النِّكَاحِ عِنْدَ حُضُورِ الْوَلِيِّ، وَلَا تَحَقُّقُ الصَّلَاةِ عِنْدَ حُضُورِ الْوُضُوءِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صحتها عِنْدَ عَدَمِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ.
هَكَذَا حَكَى عَنْهُمُ فِي "الْمَحْصُولِ" وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ.
وَيُجَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: بِمَنْعِ مَا قَالُوهُ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ الْإِثْبَاتُ مِنَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، لَكَانَ مُسْتَفَادًا مِنَ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ.
وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ النِّزَاعُ فِيمَا يُفِيدُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ تَمَامِ مَا اشْتَرَطَ الشَّرْعُ فِي النِّكَاحِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ النِّزَاعُ فِيمَا يُفِيدُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، فَدُخُولُ الْبَاءِ فِي الْمُسْتَثْنَى قَدْ أَفَادَ مَعْنَى غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي مَعَ عَدَمِهَا، فَإِنَّ دُخُولَهَا لَيْسَ بِمُخْرِجٍ مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ لَا نِكَاحَ إِلَّا الْوَلِيُّ، وَلَا صَلَاةَ إِلَّا الطَّهُورُ، بَلْ قُلْنَا: "إِلَّا بِوَلِيٍّ" و"إلا بِطَهُورٍ" فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقٍ هُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَا نِكَاحَ يَثْبُتُ بوجه إلا
__________
1 أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم "4076" والبيهقي في سننه في كتاب النكاح، لا نكاح إلا بشاهدين عدلين "7/ 125" وابن عدي في الكامل "6/ 358".
وورد أيضًا من حديث عدة من الصحابة منهم ابن عباس أخرجه ابن ماجه من طريقه من كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي "1880"، والدارقطني 3/ 221. والإمام أحمد في مسنده 1/ 250. وابن حبان أيضًا من حديث أبي موسى الأشعري برقم "4077".
2 أخرجه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ $"لا تقبل صلاة بغير طهور"، كتاب الطهارة باب وجوب الطهارة للصلاة "224". والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور "1". وابن ماجه "8". وابن ماجه في سننه، كتاب الطهارة وسننها، باب لا يقبل الله صلاة بغير طهور "271". وابن الجارود في المنتقي "65".(1/370)
مُقْتَرِنًا بِوَلِيٍّ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ التَّقْدِيرَاتِ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي "شَرْحِ الْإِلْمَامِ": وَكُلُّ هَذَا عِنْدِي تَشْغِيبٌ. وَمُرَاوَغَاتٌ جَدَلِيَّةٌ وَالشَّرْعُ خَاطَبَ النَّاسَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، يَعْنِي كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِهَا لِإِثْبَاتِ مَقْصُودِ التَّوْحِيدِ وَحَصَلَ الْفَهْمُ مِنْهُمْ بِذَلِكَ وَالْقَبُولُ لَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا احْتِيَاجٍ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَلَوْ كَانَ وَضْعُ اللَّفْظِ لَا يُفِيدُ التَّوْحِيدُ لَكَانَ أَهَمُّ الْمُهِمَّاتِ تَعْلِيمَ اللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ الأعظم.(1/371)
المسألة العاشرة: اختلاف العلماء فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ، هَلْ يعود إلى الجميع أم لا
اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ، هَلْ يَعُودُ إِلَى الْجَمِيعِ، أَوْ إِلَى الْأَخِيرَةِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} 1.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِهَا، مَا لَمْ يَخُصَّهُ دَلِيلٌ.
وَقَدْ نَسَبَ ابْنُ الْقَصَّارِ2 هَذَا الْمَذْهَبَ إِلَى مَالِكٍ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذَاهِبَ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَنَسَبَهُ صَاحِبُ "الْمَصَادِرِ" إِلَى الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ الْحَنَابِلَةِ قَالَ: وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ قَالَ: فِي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يُقْعَدُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ" 3 قَالَ: أَرْجُو أن يكون الاستثناء على كله.
__________
1 الآيات "68-69-70" من سورة الفرقان.
2 هو علي بن عمر بن أحمد، البغدادي، المعروف بابن القصار، أبو الحسن، شيخ المالكية، فقيه أصولي، ولي قضاء بغداد، كان ثقة، قليل الحديث، توفي سنة سبع وتسعين وثلاثمائة هـ، من آثاره: "كتاب في مسائل الخلاف وعيون الأدلة". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 107"، شذرات الذهب "3/ 149"، معجم المؤلفين "7/ 12".
3 أخرجه مسلم من حديث أبي مسعود البدري عقبة بن عمرو رضي الله عنه، في كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة "673". وأبو داود: في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة "582". والترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في من أحق بالإمامة "235": وقال: حسن صحيح. وابن ماجه: في كتاب إقامة الصلاة، باب من أحق بالإمامة "980" والنسائي في كتاب الإمامة، باب من أحق بالإمامة "779" "2/ 72" والحميدي في مسنده "457".(1/371)
وذهب أبو حنيفة، وجمهور أصحابه "أَنَّهُ يَعُودُ"* إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّعْمِيمِ، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ.
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي "الْقَوَاعِدِ"1: أَنَّهُ الْأَشْبَهُ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ "الْمُعْتَمَدِ" عَنِ الظَّاهِرِيَّةِ.
وَحَكَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ بُرْهَانٍ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةً إِلَى الْوَقْفِ، حَكَاهُ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْمُرْتَضَى مِنَ الشِّيعَةِ.
قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ": وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ" بَعْدَ حِكَايَةِ الْوَقْفِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَالْمُرْتَضَى: إِلَّا أَنَّ الْمُرْتَضَى تَوَقَّفَ لِلِاشْتِرَاكِ، وَالْقَاضِي لَمْ يَقْطَعْ بِذَلِكَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ الْقَوْلَ فِيهِ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا.
وَأَدْخَلَهَا فِي التَّحْقِيقِ: مَا قِيلَ إِنَّ الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ إِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ مُتَعَلِّقَةً بِالْأُخْرَى، أَوْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَا مُخْتَلِفَتَيِ الِاسْمِ وَالْحُكْمِ، أَوْ مُتَّفِقَتَيِ الِاسْمِ مُخْتَلِفَتَيِ الحكم، أو مخنلفتي الِاسْمِ مُتَّفِقَتَيِ الْحُكْمِ.
فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِكَ: أَطْعِمْ رَبِيعَةَ، واخلع على مضر، إلى الطوال، والأظهر ههنا اخْتِصَاصُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِنَفْسِهَا "إِلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى مُسْتَقِلَّةٍ بِنَفْسِهَا"** إِلَّا وَقَدْ تَمَّ غرضه من الْأُولَى، فَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ، لَمْ يَكُنْ قَدْ تَمَّ غَرَضُهُ وَمَقْصُودُهُ من الجملة الأول.
وَالثَّانِي: كَقَوْلِنَا أَطْعِمْ رَبِيعَةَ وَاخْلَعْ عَلَى رَبِيعَةَ إِلَّا الطُّوَالَ.
وَالثَّالِثُ: كَقَوْلِنَا أَطْعِمْ رَبِيعَةَ، وَأَطْعِمْ مضر، إلا الطوال، والحكم أيضًا ههنا كَمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى أُخْرَاهُمَا إِلَّا وَقَدْ تَمَّ غَرَضُهُ مِنَ الْأُولَى بِالْكُلِّيَّةِ.
__________
* في "أ": عوده.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 واسمه: "القواعد في الجدل والمنطق والأصلين" للشيخ شمس الدين الأصفهاني وتقدمت ترجمته في الصفحة: "46" وهو من أحسن تصانيفه. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1359".(1/372)
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ مُتَعَلِّقَةً بِالْأُخْرَى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأُولَى مُضْمَرًا فِي الثَّانِيَةِ كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، إِلَّا الطِّوَالَ، أَوِ اسْمُ الْأُولَى مُضْمَرًا فِي الثَّانِيَةِ، كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ رَبِيعَةَ وَاخْلَعْ عَلَيْهِمْ، إِلَّا الطِّوَالَ فَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَا "تَسْتَقِلُّ إِلَّا"* مَعَ الْأُولَى، فَوَجَبَ رُجُوعُ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَيْهِمَا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً أَوْ مُخْتَلِفَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فَهُوَ كَقَوْلِنَا: أَكْرِمْ رَبِيعَةَ، وَالْعُلَمَاءُ هُمُ الْمُتَكَلِّمُونَ، إِلَّا أَهْلَ الْبَلْدَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَلِيهِ، لِاسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَتَيْنِ بِنَفْسِهَا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات} الْآيَةَ1، فَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَأَنْوَاعُ الْكَلَامِ مُخْتَلِفَةٌ، فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى أَمْرٌ، وَالثَّانِيَةُ نَهْيٌ، وَالثَّالِثَةُ خَبَرٌ، فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِاسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَتَيْنِ بِنَفْسِهَا، "وَالْإِنْصَافُ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ"** حَقٌّ، لَكِنَّا إِذَا أَرَدْنَا الْمُنَاظَرَةَ اخْتَرْنَا التَّوَقُّفَ، لَا بِمَعْنَى "دَعْوَى"*** الِاشْتِرَاكِ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّا لَا نَعْلَمُ حُكْمَهُ فِي اللُّغَةِ مَاذَا، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي. انْتَهَى.
قَالَ ابن فارس في كتاب "فقه الْعَرَبِيَّةِ": إِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَوْدِهِ إِلَى الْجَمِيعِ عَادَ كَآيَةِ الْمُحَارِبَةِ2، وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَنْعِهِ امْتَنَعَ كَآيَةِ الْقَذْفِ3، انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ كَانَ الْمُعْتَمَدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ حَيْثُ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ.
وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْجُمَلَ إِذَا تَعَاطَفَتْ صَارَتْ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، قَالُوا بِدَلِيلِ الشَّرْطِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ، بِالْمَشِيئَةِ، فَإِنَّهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ إِجْمَاعًا.
وأجيب: بأن ذلك مسلم في المفردات، وأما في الجمل فممنوع.
__________
* في "أ": لا تستقل كلامًا إلا.
** ما بين قوسين ساقط من "أ": ومكانه: تكرار لقوله: وأما إذا كانت القصة واحدة.
*** ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 وتمامها {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} النور "4-5".
2 وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} "33" من سورة المائدة.
3 أي الآيتين "4-5" من سورة النور. انظر الحاشية "1".(1/373)
وَأُجِيبُ أَيْضًا عَنِ الْقِيَاسِ عَلَى الشَّرْطِ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ بِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ يَتَقَدَّمُ كَمَا يَتَأَخَّرُ.
وَيُجَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْجُمَلَ الْمُتَعَاطِفَةَ لَهَا حُكْمُ الْمُفْرِدَاتِ، وَدَعْوَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْمُفْرَدَاتِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا.
وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِثْلَ هَذَا الْفَرْقِ. لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُفِيدُ مَفَادَ الشَّرْطِ فِي الْمَعْنَى.
وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي: بِأَنَّ رُجُوعَ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى مَا يَلِيهِ مِنَ الْجُمَلِ هُوَ الظَّاهِرُ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ دَعْوَى الظُّهُورِ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنَّ الْقَيْدَ الْوَاقِعَ بَعْدَ جُمَلٍ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ مَنْ عُودِهِ إِلَى جَمِيعِهَا لَا مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ، وَلَا مِنْ خَارِجٍ عَنْهُ فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِهَا، وَإِنْ مَنَعَ مَانِعٌ فَلَهُ حُكْمُهُ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا مَا حَكَوْهُ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَجَعَلُوهُ مَذْهَبًا رَابِعًا مِنْ أَنَّ الْجُمَلَ إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مَسُوقَةً لِمَقْصُودٍ وَاحِدٍ انْصَرَفَ إِلَى الْجَمِيعِ، وَإِنْ سِيقَتْ لِأَغْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ، فَإِنَّ كَوْنَهَا مَسُوقَةً لِأَغْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ هُوَ مَانِعٌ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجَمِيعِ.
وَكَذَا لَا يُنَافِي هَذَا مَا جَعَلُوهُ مَذْهَبًا خَامِسًا، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ أَنَّ الْوَاوَ لِلِابْتِدَاءِ كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ، وَالنُّحَاةَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا الْبَغَادِدَةَ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَاوِ لِلِابْتِدَاءِ هُوَ مَانِعٌ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجَمِيعِ.
وَكَذَلِكَ لَا يُنَافِي هَذَا مَا حَكَوْهُ مَذْهَبًا سَادِسًا، مِنْ كَوْنِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ إِنْ كَانَتْ إِعْرَاضًا وَإِضْرَابًا عَنِ الْأُولَى اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ وَالْإِضْرَابَ مَانِعٌ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَقَدْ أَطَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَسَاقُوا مِنْ أَدِلَّةِ الْمَذَاهِبِ مَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَإِنَّ بَعْضَهَا احْتِجَاجٌ بِقِصَّةٍ خَاصَّةٍ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِمَا اخْتَصَّتْ بِهِ، وَبَعْضَهَا يَسْتَلْزِمُ الْقِيَاسَ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ.(1/374)
المسألة الحادية عشرة: حكم الوصف الوارد بعد المستثنى
إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ جُمْلَةٌ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ تَرْجِعُ إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الْمُسْتَثْنَى فَإِذَا قَالَ: عِنْدِي لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا مِائَةً، قَضَيْتُ ذَلِكَ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ رَاجِعًا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيَكُونُ مُقِرًّا بِتِسْعِمِائَةٍ مُدَّعِيًا لِقَضَائِهَا فَإِنْ بَرْهَنَ عَلَى دَعْوَاهُ فَذَلِكَ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَرْجِعُ الْوَصْفُ إِلَى الْمُسْتَثْنَى فَيَكُونُ مُقِرًّا بِأَلْفٍ مُدَّعِيًا لِقَضَاءِ مِائَةٍ مِنْهُ.
وَهَكَذَا إِذَا جَاءَ بَعْدَ الْجُمَلِ ضَمِيرٌ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، نَحْوَ: أَكْرِمْ بَنِي هَاشِمٍ، وَأَكْرِمْ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَجَالِسْهُمْ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ أَوِ الْوَصْفُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِبَعْضِ الْجُمَلِ دُونَ بَعْضٍ، كَانَ لِلَّتِي يَصْلُحُ لَهَا دُونَ غَيْرِهَا: نَحْوَ: أَكْرِمِ الْقَوْمَ، وَأَكْرِمْ زَيْدًا الْعَالِمَ، وَأَكْرِمِ الْقَوْمَ، وَأَكْرِمْ زَيْدًا وَعَظِّمْهُ.(1/374)
المسألة الثانية عشرة: التخصيص بالشرط
مدخل
...
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: التَّخْصِيصُ بِالشَّرْطِ
وَحَقِيقَتُهُ فِي اللُّغَةِ الْعَلَامَةُ، كَذَا قِيلَ.
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ: بِمَا فِي "الصِّحَاحِ"1 وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ، بِأَنِ الَّذِي بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ هُوَ الشَّرَطُ بِالتَّحْرِيكِ، وَجَمْعُهُ أَشْرَاطٌ، وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، أَيْ: عَلَامَاتُهَا.
وَأَمَّا الشَّرْطُ، بِالسُّكُونِ: فَجَمْعُهُ شُرُوطٌ، هَذَا جَمْعُ الْكَثْرَةِ فِيهِ، وَيُقَالُ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ مِنْهُ أَشْرُطٌ كَفُلُوسٍ وَأَفْلُسٍ.
وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الشَّرْطُ مَا لَا يُوجَدُ الْمَشْرُوطُ دُونَهُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ عِنْدَهُ.
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الدَّوْرَ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ الشَّرْطُ بِالْمَشْرُوطِ، وهو مشتق منه فيتوقف "تعقله"* على تعلقه، وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِأَنَّ جُزْءَ السَّبَبِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ الْمُسَبِّبُ بِدُونِهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ عِنْدَهُ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَأُجِيبُ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ قَوْلِنَا: شَرْطُ الشَّيْءِ مَا لَا يُوجَدُ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِدُونِهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ تَصَوُّرَ حَقِيقَةِ الْمَشْرُوطِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ فِي تَعَقُّلِ ذَلِكَ.
وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّ جُزْءَ السبب قد يوجب الْمُسَبِّبُ بِدُونِهِ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ آخَرُ.
وَقَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": إِنَّ الشَّرْطَ هُوَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمُؤَثِّرُ فِي تَأْثِيرِهِ، لَا فِي ذَاتِهِ.
وَقَالَ: وَلَا تُرَدُّ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ، لِأَنَّهَا نَفْسُ الْمُؤَثِّرِ، وَالشَّيْءُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا جزء العلة،
__________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
__________
1 واسمه: "الصحاح في اللغة" لأبي نصر الجوهري، وتقدمت ترجمته في الصفحة "301"، قال في مقدمته: قد أودعت فيه ما صح عندي من هذه اللغة التي شرف الله تعالى مراتبها على ترتيب لم أسبق إليه، وتهذيب لم أغلب عليه، بعد تحصيلها رواية ودراية. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1071".(1/375)
وَلَا شَرْطِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِي ذَاتِهَا. انْتَهَى.
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ الْقَدِيمِ، ولا يتصور ههنا تأثير ومؤثر "إذا"* إِذِ الْمُحْوِجُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ هُوَ الْحُدُوثُ. وَقِيلَ: الشَّرْطُ مَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيُهُ نَفْيَ أَمْرٍ آخَرَ، لَا عَلَى جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ، فَيَخْرُجُ السَّبَبُ وَجُزْؤُهُ.
وَرَدَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ يَتَوَقَّفُ عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى الْمُمَيَّزِ بَيْنَهُمَا، فَفِيهِ تَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ فِي الْخَفَاءِ.
وَقِيلَ: هُوَ مَا اسْتَلْزَمَ عَدَمُهُ عَدَمَ أَمْرٍ مُغَايِرٍ، وَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ.
وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي حَدِّهِ: أَنَّهُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ، وَلَا دَخْلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ وَالْإِفْضَاءِ، فَيَخْرُجُ جُزْءُ السَّبَبِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ السَّبَبُ، لَكِنْ لَهُ دَخْلٌ فِي الْإِفْضَاءِ إِلَيْهِ وَيَخْرُجُ سَبَبُ الشَّيْءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَتَخْرُجُ الْعِلَّةُ لِأَنَّهَا وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهَا الْوُجُودُ فَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُؤَثِّرَةٌ.
__________
* في "ب": إذا.(1/376)
أَقْسَامُ الشَّرْطِ:
وَالشَّرْطُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: عَقْلِيٍّ، وَشَرْعِيٍّ، وَلُغَوِيٍّ، وَعَادِيٍّ.
فَالْعَقْلِيُّ: كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ بِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِحَيَاةٍ، فَقَدْ تَوَقَّفَ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِهَا عَقْلًا.
وَالشَّرْعِيُّ: كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ هُوَ الْحَاكِمُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُوجَدُ إلا بطهارة، فقط تَوَقَّفَ وُجُودُ الصَّلَاةِ عَلَى وُجُودِ الطَّهَارَةِ شَرْعًا.
وَاللُّغَوِيُّ: كَالتَّعْلِيقَاتِ، نَحْوَ إِنْ قُمْتَ قُمْتُ، وَنَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَإِنَّ أَهْلَ اللغة وضعوا هذا التركيب ليدل على أن مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ الشَّرْطِ هُوَ الشَّرْطُ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ هُوَ الْجَزَاءُ، وَيُسْتَعْمَلُ الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ في السبب الجعلي، كما يقال: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ الدخول سبب الطلاق، يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ وَجُودَهُ، لَا مُجَرَّدَ كَوْنِ عَدَمِهِ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِهِ، مِنْ غَيْرِ سَبَبِيَّتِهِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ الغزالي، والقرافي، وابن الحاجب، وشراح "كتابه"1.
__________
1 هو "مختصر منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل" وتقدم الكلام عليه في الصفحة "326" وممن شرحه سعد الدين التفتازاني، وأكمل الدين البابرتي.(1/376)
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ النُّحَاةِ فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ: بِأَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبٌ، وَالثَّانِي مُسَبَّبٌ.
وَالشَّرْطُ الْعَادِي: كَالسُّلَّمِ لِصُعُودِ السَّطْحِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنْ لَا يُوجَدَ الصُّعُودُ إِلَّا بِوُجُودِ السُّلَّمِ أَوْ نَحْوَهُ، مِمَّا يَقُومُ مَقَامَهُ.
ثُمَّ الشَّرْطُ قَدْ يَتَّحِدُ، وَقَدْ يَتَعَدَّدُ وَمَعَ التَّعَدُّدِ قَدْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ شَرْطًا "عَلَى الْجَمْعِ، فَيَتَوَقَّفُ الْمَشْرُوطُ عَلَى حُصُولِهَا جَمِيعًا، وَقَدْ يَكُونُ لِكُلِّ واحد شرطًا"* مستقلًّا فيحصل المشروط بحصول أي وَاحِدٍ مِنْهَا، فَإِذَا قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ وَأَكَلْتِ وَشَرِبْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بِالدُّخُولِ وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَإِنْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدار أَوْ أَكَلْتِ أَوْ شَرِبْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا.
وَاعْلَمْ: أَنَّ الشَّرْطَ كَالِاسْتِثْنَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الِاتِّصَالِ، وَفِي تَعَقُّبِهِ لِجُمَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الشَّرْطَ الدَّاخِلَ عَلَى الْجُمَلِ، هَلْ يَرْجِعُ حُكْمُهُ إِلَيْهَا بِالْكُلِّيَّةِ؟
فَاتَّفَقَ الْإِمَامَانِ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، عَلَى رُجُوعِهِ إِلَى الْكُلِّ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهِ، حَتَّى إِنَّهُ إِذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا اخْتَصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا اخْتَصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى.
وَالْمُخْتَارُ التَّوَقُّفُ كَمَا تَقَدَّمَ1 فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ.
ثُمَّ قَالَ: اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ اتِّصَالِ الشَّرْطِ بِالْكَلَامِ، وَدَلِيلُهُ مَا مَرَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ "يَحْسُنُ"** التَّقْيِيدُ بِشَرْطٍ يَكُونُ الْخَارِجُ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْبَاقِي، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. انْتَهَى.
فَقَدْ حُكِيَ الِاتِّفَاقُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ كما نراه
__________
* ما بين قوسين ساقط من "1".
** في "أ": يجوز.
__________
1 انظر صفحة: "372".(1/377)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: التَّخْصِيصُ بِالصِّفَةِ
وَهِيَ كَالِاسْتِثْنَاءِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ مُتَعَدِّدٍ، وَالْمُرَادُ بِالصِّفَةِ هُنَا هِيَ الْمَعْنَوِيَّةُ عَلَى مَا حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ، لَا مُجَرَّدُ النَّعْتِ الْمَذْكُورِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.(1/377)
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فِي "النِّهَايَةِ": الْوَصْفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَعْنَاهُ التَّخْصِيصُ، فَإِذَا قُلْتَ: رَجُلٌ شَاعَ هَذَا فِي الرِّجَالِ، فَإِذَا قُلْتَ: طَوِيلٌ اقْتَضَى ذَلِكَ تَخْصِيصًا، فَلَا تَزَالُ تَزِيدُ وَصْفًا، فَيَزْدَادُ الْمَوْصُوفُ اخْتِصَاصًا، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْوَصْفُ قَلَّ الْمَوْصُوفُ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَلَا خِلَافَ فِي اتِّصَالِ التَّوَابِعِ، وَهِيَ النَّعْتُ وَالتَّوْكِيدُ، وَالْعَطْفُ وَالْبَدَلُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": الصِّفَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَذْكُورَةً عُقَيْبَ شَيْءٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِنَا: رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا شَكَّ في عودها إليها أو عقيب شيئين، وههنا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُتَعَلِّقًا بِالْآخَرِ، كَقَوْلِكَ: أكرم العرب والعجم المؤمنين، فههنا الصفة تكون عائدة إليهما، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، كَقَوْلِكَ: أَكْرِمِ العلماء وجالس الفقهاء الزهاد، فههنا الصِّفَةُ عَائِدَةٌ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ لِلْبَحْثِ فِيهِ مَجَالٌ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ. انْتَهَى.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إِنْ كَانَتِ الصِّفَاتُ كَثِيرَةً، وَذُكِرَتْ عَلَى "الْجَمْعِ"* عَقِبَ جُمْلَةٍ تَقَيَّدَتْ بِهَا، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ، فَلِوَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا، وَإِنْ ذُكِرَتْ "عَقِبَ"** جُمَلٍ، فَفِي الْعَوْدِ إِلَى كُلِّهَا أَوْ إِلَى الْأَخِيرَةِ خِلَافٌ. انْتَهَى.
وَأَمَّا إِذَا تَوَسَّطَتِ الصِّفَةُ بَيْنَ جُمَلٍ، فَفِي عُودِهَا إِلَى الْأَخِيرَةِ خِلَافٌ، كَذَا قِيلَ، وَلَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الصِّفَةَ تَكُونُ لِمَا قَبْلَهَا لَا لِمَا بَعْدَهَا لِعَدَمِ جَوَازِ تقدم الصفة على الموصوف.
__________
* في "أ": الجميع.
** في "أ": عقيب.(1/378)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: التَّخْصِيصُ بِالْغَايَةِ
وَهِيَ نِهَايَةُ الشَّيْءِ الْمُقْتَضِيَةُ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَهَا، وَانْتِفَائِهِ بَعْدَهَا وَلَهَا لَفْظَانِ، وَهَمَا: حَتَّى وَإِلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1 وقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق} 2.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": التَّقْيِيدُ بِالْغَايَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيمَا وَرَاءَ الْغَايَةِ بِالْخِلَافِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَوْ بَقِيَ فِيمَا وَرَاءَ الْغَايَةِ لَمْ تَكُنِ الْغَايَةُ مَقْطَعًا، فَلَمْ تَكُنِ الْغَايَةُ غاية، قال:
__________
1 جزء من الآية "222" من سورة البقرة.
2 جزء من الآية "6" من سورة المائدة.(1/378)
وَيَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْغَايَتَيْنِ، كَمَا لَوْ قِيلَ: لَا تقربوهن حتى يطهرن وحتى يغتسلن، فههنا الغاية في الحقيقة هي الأخيرة، عبر عَنِ الْأُولَى بِالْغَايَةِ مَجَازًا لِقُرْبِهَا مِنْهَا وَاتِّصَالِهَا بها.
قال الزركشي: ونوزع بأن هاتين الغايتين لشيئين؛ لأن التحريم الناشئ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ غَايَةُ انْقِطَاعِ الدَّمِ، فَإِذَا انقطع حدث تحريم آخر، ناشئ عن عدم الْغُسْلِ، وَالْغَايَةُ الثَّانِيَةُ غَايَةُ هَذَا التَّحْرِيمِ.
وَقَدْ أَطْلَقَ الْأُصُولِيُّونَ كَوْنَ الْغَايَةِ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ، وَلَمْ يُقَيِّدُوا ذَلِكَ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْغَايَةِ الَّتِي تَقَدَّمَهَا لَفْظٌ يَشْمَلُهَا، لَوْ لَمْ يُؤْتَ بها كقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة} 1 فَإِنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ لَوْ لَمْ يُؤْتَ بِهَا لَقَاتَلْنَا الْمُشْرِكِينَ، أَعْطُوا الْجِزْيَةَ أَوْ لَمْ يُعْطُوهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْغَايَةِ نَفْسِهَا، هَلْ تَدْخُلُ فِي الْمُغَيَّا، كَقَوْلِكَ: أَكَلْتُ حَتَّى قُمْتُ، هَلْ يَكُونُ الْقِيَامُ مَحَلًّا لِلْأَكْلِ أَمْ لَا، وَفِي ذَلِكَ مَذَاهِبُ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهَا تَدْخُلُ فِيمَا قَبْلَهَا.
وَالثَّانِي:
لَا تَدْخُلُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ كَمَا حَكَاهُ فِي "الْبُرْهَانِ".
وَالثَّالِثُ:
إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِهِ دخلت وإلا فلا، حكاه أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَنِ الْمُبَرِّدِ.
وَالرَّابِعُ:
إِنْ تَمَيَّزَتْ عَمَّا قَبْلَهَا بِالْحِسِّ، نَحْوَ {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} 2 لَمْ تَدْخُلْ، وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزْ بِالْحِسِّ مِثْلَ {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق} 3 دَخَلَتِ الْغَايَةُ وَهِيَ الْمَرَافِقُ، وَرَجَّحَ هَذَا الْفَخْرُ الرازي.
والخامس:
إن اقترنت بـ: من لَمْ يَدْخُلْ نَحْوَ: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ لَمْ تَدْخُلْ، وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ تَحْدِيدًا وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَعَ، وَحَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ" عَنْ سِيبَوَيْهِ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ خَرُوفٍ، وَقَالَ لم يذكر سيبويه "منها حرفًا"* منهما وَلَا هُوَ مَذْهَبُهُ.
وَالسَّادِسُ:
الْوَقْفُ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ.
وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ فِي غَايَةِ الِانْتِهَاءِ.
وَأَمَّا فِي غاية الابتداء ففيها مذهبان: الدخول وعدمه.
__________
* في "أ": حرفًا منهما.
__________
1 جزء من الآية "29" من سورة التوبة.
2 جزء من الآية "187" من سورة البقرة.
3 جزء من الآية "6" من سورة المائدة.(1/379)
وَجَعَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ الْخِلَافَ فِي الْغَايَتَيْنِ، غَايَةِ الِابْتِدَاءِ وَغَايَةِ الِانْتِهَاءِ عَلَى السَّوَاءِ، فَقَالَ: وَفِيهَا مَذَاهِبُ تَدْخُلَانِ، وَلَا تَدْخُلَانِ، وَتَدْخُلُ غَايَةُ الِابْتِدَاءِ دُونَ الِانْتِهَاءِ، وَتَدْخُلَانِ إِنِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ لَا إِنِ اخْتَلَفَ وَتَدْخُلَانِ إِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ مَا بَعْدَهُمَا عَمَّا قَبْلَهُمَا بِالْحِسِّ، وَإِلَّا لَمْ تَدْخُلَا فِيمَا قَبْلَهُمَا، "وَفِيمَا قَالَهُ"* نَظَرٌ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُتَقَدِّمَةَ هِيَ فِي غَايَةِ الِانْتِهَاءِ، لَا فِي غَايَةِ الِابْتِدَاءِ.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَوْضَحُهَا عَدَمُ الدُّخُولِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ غَايَةِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ.
وَالْكَلَامُ فِي الْغَايَةِ الْوَاقِعَةِ بعد متعدد كما تقدم1 في الاستثناء.
__________
* في "أ": وفيه: نظر.
__________
1 انظر صفحة: "363".(1/380)