.........................................................
__________
= المتشابه أم يفوضون العلم فيه إلى الله؟ وبمعنى آخر: هل الوقوف على لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] لازم، وما معنى التأويل فيها؟
يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الوقف على لفظ الجلالة؛ لأن التأويل المذكور في الآية هو معرفة الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها، ورأى آخرون أن التأويل الوارد فيها بمعنى المآل والعاقبة، وشاركوا شيخ الإسلام في القول بالوقف المذكور؛ لأن الراسخين في العلم لا يعلمون مآل أخبار القرآن وعواقب أمره على سبيل التفصيل والتحديد والكنه والحقيقة، وهذا قريب من قول شيخ الإسلام؛ إذ هذه الأمور من الغيب الذي استأثر الله به، بينما رأى فريق ثالث أن التأويل مستعمل عند السلف بمعنى التفسير والبيان؛ فقال هؤلاء بالوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وكلا الفريقين مصيب فيما ذهب إليه؛ لأن أصحاب القول بالوقف على لفظ الجلالة يستبعدون أن يكون هناك بشر يشارك الله في علم غيوبه، وأصحاب القول بالوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يستبعدون أن يكون تفسير القرآن وبيان معناه لا يعلمه إلا الله، في الوقت الذي أنزل فيه ليفهم ويتدبر.
ولم يقف فريق آخر من علماء الكلام والفقه والتفسير على مأخذ كل رأي من الآراء المذكورة، وعلى الأصل الذي بنوا عليه رأيهم، ووجدوا بين أيديهم روايات مختلفة عن السلف، كل يختار رأيًا في الوقف؛ فصوروا أن في المسألة نزاعًا وخلافًا بين السلف، وليس الأمر على التحقيق كذلك، وكان عليهم أن يمعنوا النظر أكثر وأكثر؛ فإن المسألة ليست محل نزاع لو عرف مأخذ كل رأي وأصل كل قول؛ فإن جميع الأقوال التي رويت على أن الوقف على لفظ الجلالة محمولة على أن المراد بالتأويل في الآية عواقب أخبار القرآن ومصائرها، وجميع ما روي على أن الوقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} محمول على أن التأويل المذكور هو التفسير والبيان.
وبهذا يزول الإشكال والاشتباه الذي نشأ بين المتأخرين لعدم تفرقتهم بين معنى الآية وبين تأويلها، وعدم إدراكهم ما قد يترتب على إهمال التفرقة بين المعنيين من آراء ربما قد احتجموا عنها لو تنبهوا إلى ذلك.
تعرض السلفيون -وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى- لهذه المشكلة التي فرقت كلمة العلماء، ووضعوا أيديهم على بدايتها متعمقين في أسبابها، باحثين عن نتائجها، =(3/324)
......................................................
__________
= متسائلين: هل يجوز عقلا أن يتكلم الله بكلام لا معنى له عند المخاطب، وهل يجوز كذلك أن يقول الرسول لأمته: إن ربكم قد خاطبكم بكلام لا يعلم معناه إلا هو، وهل يجوز أن يقول لهم: إن القرآن أنزل ليتدبر في الوقت الذي لا يعلم معناه إلا الله؟
إن المشكلة تزداد خطورة خصوصًا في نظر شيخ الإسلام ابن تيمية حين يرى أن وظيفة الرسول هي البلاغ الموصوف بأنه {بَلاغٌ مُبِينٌ} ، وأن وظيفة القرآن أنه أنزل: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً} ، ثم يكون الرسول نفسه لا يفهم معنى ما تكلم به بدعوى أنه لا يعلم تأويله إلا الله، وبدعوى أن الصفات من المتشابه.
لعل هذه المشكلة كانت سببًا في أن ابن تيمية قد خصص حياته لخدمتها من قريب ومن بعيد؛ فهو إن خاض غمار الفلسفة أو علم الكلام، أو ناقش الفقهاء والصوفية؛ فسلاحه في كل ميدان هو آيات الكتاب، أو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح؛ لأنه ليس هناك آية لا معنى لها، أو مصروفة عن ظاهرها، بل كل آيات القرآن واضحة في معناها، وليس هناك لبس ولا خفاء، ولقد تتبع ابن تيمية أقوال السلف تتبع الخبير بمصادرها، واضعًا أدلة هؤلاء وهؤلاء أمام النصوص؛ فظهر له الغث من السمين، والصحيح من الخطأ، والسليم من السقيم.
وفي القول السابق ادعاء أنه يوجد في ظاهر النصوص ما يوهم التشبيه، وهذا ليس بصحيح،
والخلاصة أنه ما من قول يدعي أن هذه الآية أو تلك من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله؛ إلا وقد تكلم السلف في بيان معناها، حتى من أطلق المتشابه على نصوص الصفات مريدا بذلك حقائقها وكيفياتها التي هي عليها، فهذا يسوغ أن يسمى متشابها؛ لأن حقائق الصفات وما هي عليه من الكيفيات لا يعلمه إلا الله، وهذا هو تفويض الكيفية الذي يقول به السلف؛ إلا أننا على الرغم من ذلك نعلم معنى الاسم والصفة؛ فنعلم معنى سميع وبصير وعليم، ومعنى السمع والبصر والعلم، ونعلم معنى أن له يدين ووجها، كل هذا ونحوه نعلم معناه بمقتضى لغة التخاطب، ولا يقتضي علمنا بمعاني هذه النصوص أن تكون مثل ما في الشاهد من سمع المخلوق وبصره وعلمه ويديه ووجهه، ومع هذا كله؛ فلا ينبغي إطلاق لفظ المتشابه على الصفات لأجل هذا إلا به، ولهذا لم يؤثر عن السلف إطلاقه عليها.
وكذا إذا تتبعنا أقوال العلماء في معنى المتشابه؛ فلا نجد رأيًا إلا وقد بين السلف معناه ووضحوه، فإذا جعلنا المتشابه هو المنسوخ كما روي عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي =(3/325)
قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، كَمَا أَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ وَتَشَابُهَهَا وَاقِعٌ ذَلِكَ فِي بَعْضِ فُرُوعٍ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، بَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَيْضًا فِي التَّشَابُهِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمَنَاطِ؛ فَإِنَّ الْإِشْكَالَ الْحَاصِلَ فِي الذَّكِيَّةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالْمَيْتَةِ مِنْ بَعْضِ فُرُوعِ أَصْلِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الْمَنَاطَاتِ البينة، وهي الأكثر، فإذا اعتبر هذا
__________
= وغيرهم؛ علمنا يقينا أن العلماء يعلمون معنى المتشابه لأنهم يعلمون معنى المنسوخ، سواء كان منسوخا لفظه أو لفظه ومعناه، وهذا يدل على كذب من قال عن ابن عباس وابن مسعود أن الراسخين في العلم لا يعلمون معنى المتشابه.
وإذا جعلنا المتشابه أخبار القيامة وما فيها؛ فمعلوم بين المسلمين أن وقت قيام الساعة وحقيقة أمرها لا يعلمه إلا الله، لكن ذلك لا يدل على أننا لم نفهم معنى الخطاب الذي خوطبنا به في ذلك، والفرق واضح بين معرفة الخبر وبين حقيقة المخبر عنه.
وإذا جعلنا المتشابهات أوائل السور المفتتحة بحروف المعجم؛ فهذه الحروف ليست كلاما تاما مكونا من الجمل الاسمية والفعلية، ولهذا؛ فلا تعرف لأن الإعراب جزء من المعنى، بل ينطق بها موقوفة كما يقال: أب ت، ولهذا تكتب في صورة الحروف المقطعة لا بصورة اسم الحرف.
يقول ابن تيمية: "فإذا كان على هذا كل ما سوى هذه محكمًا حصل المقصود؛ فإنه ليس المقصود إلا معرفة كلام الله وكلام رسوله.
وانظر موقف شيخ الإسلام من المتشابه ورده على مفوضة المعنى في: "تفسير سورة الإخلاص" "ص143 وما بعدها"، و"الحموية" "160-163"، "مجموعة الرسائل "1/ 189"، و"مجموع الفتاوى" "3/ 54-67 و5/ 35-37، 234، 347-439 و10/ 560 و13/ 279-280، 374-375، 384-385 و16/ 173، 407-422"، و"الإمام ابن تيمية وموقفه من التأويل" "ص164 وما بعدها"، وقد أخطأ رشيد رضا في "تفسير المنار" "3/ 165" عندما نقل عن ابن تيمية أن المتشابه عنده آيات الصفات خاصة، ومثلها أحاديث الصفات.
وانظر في المسألة: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة "ص62، 73"، و"منهج ودراسات" "ص23-24" للشنقيطي، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" "2/ 472-500"، وكتابنا "الردود والتعقبات" "ص77-82"، و"التيسير في قواعد علم التفسير" "ص188 وما بعده" للكافيجي.(3/326)
الْمَعْنَى؛ لَمْ يُوجَدِ التَّشَابُهُ فِي قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ وَلَا فِي أَصْلٍ عَامٍّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُؤْخَذَ التَّشَابُهُ عَلَى أَنَّهُ الْإِضَافِيُّ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ [لَا] 1 فَرْقَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ حَصَلَ فِي الْعَقَائِدِ الزَّيْغُ والضلال، وليس هو المقصود2 ههنا، ولا هو مقصود صريح باللفظ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا بِالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ تعالى قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الآية [آل عمران: 7] ؛ فَأَثْبَتَ فِيهِ مُتَشَابِهًا، وَمَا هُوَ رَاجِعٌ لِغَلَطِ3 النَّاظِرِ لَا يُنْسَبُ إِلَى الْكِتَابِ حَقِيقَةً، وَإِنْ نسب إليه؛ فبالمجاز.
__________
1 سقطت إلا من "ط"، ولذا قال "د": "لعله سقط منه لفظ "لا"؛ أي: فعند ملاحظة التشابه الإضافي لا يوجد فرق بين الأصول والفروع، وقوله: "ومن تلك الجهة"؛ أي: وبسبب التشابه الإضافي في الأصول جاء الزيغ في العقائد؛ كما تقدم له أمثلته". ونحوه عند "م".
2 أي: إنما المقصود بنفيه عن الأصول هو التشابه الحقيقي، وليس الإضافي مقصودا في هذا المبحث، كما أنه ليس مقصودا بلفظ الآية وإن كان داخلا فيها بالمعنى كما ذكره سابقا. "د".
3 الناشئ من عدم ضمه لأطراف الأدلة بعضها إلى بعض كما سبق؛ فليس في نفس الأدلة اشتباه، إنما هو من تقصيره أو اتباع هواه. "د".(3/327)
المسألة الخامسة 1:
تسليط التأويل على المتشابه فيه تفصيل فيا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ مِنَ الْإِضَافِيِّ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْإِضَافِيِّ؛ فَلَا بُدَّ مِنْهُ إِذَا تَعَيَّنَ بِالدَّلِيلِ كَمَا بُيِّنَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ، وَالْمُطْلَقُ بِالْمُقَيَّدِ، وَالضَّرُورِيُّ بِالْحَاجِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَجْمُوعَهُمَا هُوَ الْمُحْكَمُ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْحَقِيقِيِّ؛ فَغَيْرُ لَازِمٍ تَأْوِيلُهُ؛ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ فِي بَابِ الْإِجْمَالِ وَالْبَيَانِ أَنَّ الْمُجْمَلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا2 لِأَنَّهُ3 إِمَّا أَنْ يَقَعَ بَيَانُهُ بِالْقُرْآنِ الصَّرِيحِ أَوْ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ، أَوْ لَا، فَإِنْ وَقَعَ بَيَانُهُ بِأَحَدِ هَذِهِ؛ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّشَابُهِ، وَهُوَ الْإِضَافِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَالْكَلَامُ فِي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ تَسَوُّرٌ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْمُودٍ.
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِهِمْ لَمْ يَعْرِضُوا4 لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا تَكَلَّمُوا فِيهَا بِمَا يقتضي تعيين
__________
1 انظر: "الاعتصام" "1/ 221"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 145، 275-276 و17/ 378 و389-390".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "موحدا"، وعلق "د": "راجع المسألة الثانية عشرة في باب البيان والإجمال تجد في أولها أنه؛ إما لا يتعلق بالمجمل تكليف، وإما أنه لا وجود له، أي: إذا وقفنا على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وعليه؛ فلعل الأصل هنا إن كان "موجودا"؛ أي: على فرض وجود المجمل بمعنى المتشابه الحقيقي".
3 الضمير للحال والشأن كما يعلم بالتأمل؛ لأن هذا التشقيق لا يجيء في المجمل الحقيقي الذي يقول فيه: "إن كان موجودا"، وكذا الضمير في "بيانه" للمجمل مطلقا. "د".
قلت: قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "17/ 386": "وقد قال كثير من السلف: إن المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به"، وانظر الآثار الواردة في ذلك عند ابن جرير في "التفسير" "3/ 185-186".
4 أي: لم يتعرضوا ويتصدوا له في باب ضرب، من قولهم: عرض له أشد العرض واعترض له؛ قابله بنفسه كما في "شرح القاموس". "د".
قلت: انظر الموقف السليم من المتشابه: "القواعد الحسان لتفسير القرآن" "ص70-71" للسعدي، و"إعلام الموقعين" "2/ 294-295، 304".(3/328)
تَأْوِيلٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهُمُ الْأُسْوَةُ وَالْقُدْوَةُ، وإلى ذَلِكَ؛ فَالْآيَةُ مُشِيرَةٌ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه} الآية [آل عمران: 7] .
ثُمَّ قَالَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 7] .
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْلَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأُمَّةِ إِلَى تَسْلِيطِ التَّأْوِيلِ عَلَيْهَا أَيْضًا رُجُوعًا إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ اتِّسَاعِ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهَا، مِنْ جِهَةِ الْكِنَايَةِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالتَّمْثِيلِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاتِّسَاعِ؛ تَأْنِيسًا لِلطَّالِبِينَ، وَبِنَاءً عَلَى اسْتِبْعَادِ الْخِطَابِ بِمَا لَا يُفْهَمُ، مَعَ إِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وَهُوَ أَحَدُ1 الْقَوْلَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ؛ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَكِنَّ الصَّوَابَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْغَزَّالِيُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِأُمُورٍ ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِـ"إِلْجَامُ العوام"2؛ فطالعه من هنالك.
__________
1 وعليه؛ فلا يوجد المتشابه بالمعنى الحقيقي. "د".
قلت: انظر تعليقنا على "ص323-326".
2 "ص34".(3/329)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
إِذَا تَسَلَّطَ التَّأْوِيلُ عَلَى الْمُتَشَابِهِ؛ فَيُرَاعَى فِي الْمُؤَوَّلِ بِهِ أَوْصَافٌ ثَلَاثَةٌ: أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَعْنًى صَحِيحٍ فِي الِاعْتِبَارِ، مُتَّفَقٍ1 عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَيَكُونُ اللَّفْظُ الْمُؤَوَّلُ قَابِلًا لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمُؤَوَّلَ بِهِ إِمَّا أَنْ يَقْبَلَهُ اللَّفْظُ أَوْ لَا2، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ؛ فَاللَّفْظُ نَصٌّ لَا احْتِمَالَ فِيهِ، فَلَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَإِنْ قَبِلَهُ اللَّفْظُ؛ فإما أن يجري على مقتضى العلم3 أو لا، فإن جرى على ذلك؛ فلا
__________
1 هذا هو الوصف الثاني، ولم يبن عليه شيئًا في بيانه الآتي، وكأنه لازم للوصف الأول، وهو صحة المعنى في الاعتبار؛ لأنه لا يكون كذلك إلا حيث يتفق عليه في الجملة وإن خولف في التفصيل؛ فرجع الأمر إلى شرطين:
الأول: صحة المعنى في الاعتبار بأن يكون متفقًا مع الواقع المعترف به إجمالًا ممن يعتد بهم.
والثاني: أن يكون وضع اللفظ قابلًا له لغة بوجه من وجوه الدلالة حقيقة أو مجازًا أو كناية، جاريًا في ذلك على سنن اللغة العربية. "د".
قلت: مما ينبغي التنبه له في الأول: معرفة مراد المتكلم بكلامه، لا معرفة ما يحتمله اللفظ من المعاني من جهة اللغة فحسب، وفي الثاني أن يعلم أن ورود اللفظ بمعنى لا يلزم منه أن يكون هذا المعنى ملازمًا له في جميع النصوص الأخرى، وإن اختلف السياق، وكذا الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في النصوص؛ فغلبته فيه دليل على عدم خروجه عن معنى النص؛ فالحمل على الأغلب أولى من الحمل على غيره، انظر في هذا كله ومع التمثيل عليه: "مجموع فتاوى ابن تيميه" "6/ 13، 14، 366 و7/ 286"، و"الصواعق المرسلة" "1/ 192، 193"، و"إرشاد الفحول" "ص176"، و"أضواء البيان" "1/ 328"، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" "2/ 552-555". وفي "د" "إذ تسلط..".
2 في الأصل و"ف": "أم لا".
3 يعني أن اللفظ إذا كان قابلًا بحسب اللغة للمعنى المؤول به ينظر: هل معنى التركيب بعد اعتبار هذا التأويل يجري على مقتضى ما نعلمه في هذه القضية من الخارج، أم لا يجري بل يخالف الواقع المعلوم لنا من طريق غير هذا الخبر؟ فإن جرى على ذلك؛ فلا يصح طرحه لأن =(3/330)
إِشْكَالَ فِي اعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَابِلٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنَ اللَّفْظِ لَا يَأْبَاهُ؛ فَاطِّرَاحُهُ إِهْمَالٌ لِمَا هُوَ مُمْكِنُ الِاعْتِبَارِ قَصْدًا، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى إِهْمَالِهِ أَوْ مَرْجُوحِيَّتِهِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَجْرِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحْمِلَهُ اللَّفْظُ عَلَى حَالٍ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مَعَ تَرْكِ اللَّفْظِ الظَّاهِرِ2 رُجُوعًا إِلَى الْعَمَى، وَرَمْيًا فِي جَهَالَةٍ؛ فَهُوَ تَرْكٌ لِلدَّلِيلِ لِغَيْرِ شَيْءٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَبَاطِلٌ.
هَذَا وَجْهٌ.
وَوَجْهٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّ التَّأْوِيلَ إِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَى الدَّلِيلِ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ؛ فَالنَّاظِرُ3 بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُبْطِلَ الْمَرْجُوحَ جُمْلَةً اعْتِمَادًا عَلَى الرَّاجِحِ، وَلَا يُلْزِمُ نَفْسَهُ الْجَمْعَ، وَهَذَا نَظَرٌ يُرْجَعُ إِلَى مِثْلِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ على الجملة، وإما
__________
= الشرطين قد تحققا؛ فاللفظ قابل، والمعنى المقصود من التركيب لا يأباه، أي: لا يأبى اعتبار هذا التأويل في مفرد من مفرداته؛ لأن المعنى المقصود من التركيب مع اعتبار هذا التأويل في مفرد من مفرداته يرجع إلى معنى صحيح في الواقع لا يخالف المعلوم لنا من قبل، وبهذا يتبين أن اللفظ في قوله: "والمعنى المقصود من اللفظ" ليس هو اللفظ المفرد الذي فيه التأويل، وإلا؛ لكان حاصله أن المعنى المقصود من اللفظ المؤول لا يأبى المعنى المؤول به اللفظ؛ فيتحد الآبي والمأبي، بل اللفظ هو اللفظ الخبري، والمعنى المقصود منه هو المعنى التركيبي. "د".
1 أي: ولو قبله اللفظ. "د". قلت: في "ط": "حال الدليل" بدون "و".
2 وهو اللفظ المتشابه الظاهر في معناه الوضعي، أي: تركه إلى معنى لا يجري على اعتبار صحيح في مقتضى العلم يكون رجوعًا إلى عدم صرف، وقوله: "ترك الدليل"؛ أي: وهو اللفظ الظاهر المتشابه. "د".
قلت: انظر في هذا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 191".
3 أي: أن الناظر في أمر تعارض عليه دليلان، أحدهما راجح والآخر مرجوح، له طريقان في التخلص من المعارضة؛ إما أن يهدر المرجوح بما يقتضي إهداره، وإما أن يحمله على معنى يكون صحيحًا متفقًا عليه، ولا يعارض دليله الراجح، أما أنه يحمل المرجوح على وجه آخر لا يعارض الراجح، ولكنه لا يكون صحيحًا في ذاته أو لا يوافقه عليه الخصم؛ فعمل باطل حقيقة أو صناعة. "د".(3/331)
أَنْ لَا يُبْطِلَهُ وَيَعْتَمِدَ الْقَوْلُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ، فَذَلِكَ الْوَجْهُ إِنْ صَحَّ وَاتَّفَقَ1 عَلَيْهِ؛ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ؛ فَهُوَ نَقْضُ الْغَرَضِ لأنه رام تصحيح دليله المرجوح بشيء2 لَا يَصِحُّ؛ فَقَدْ أَرَادَ تَصْحِيحَ الدَّلِيلِ بِأَمْرٍ باطل، وذلك يقتضي بطلانه عندما رَامَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، هَذَا خُلْفٌ.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ3، وَهُوَ أَنَّ تَأْوِيلَ الدَّلِيلِ مَعْنَاهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ كَوْنُهُ دَلِيلًا فِي الجملة؛ فرده إلى ما لا يَصِحُّ رُجُوعٌ إِلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ لَا يَصِحُّ عَلَى وَجْهٍ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَمِثَالُهُ تَأْوِيلُ4 مَنْ تَأَوَّلَ لَفَظَ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النِّسَاءِ: 125] بِالْفَقِيرِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُصَيِّرُ الْمَعْنَى الْقُرْآنِيَّ غَيْرَ صَحِيحٍ5، وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ غَوَى مِنْ قَوْلِهِ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّه
__________
1 أي: حتى يسلم الخصم صحة المعنى في ذاته؛ فيتأتى له دعوى حمل المرجوح عليه. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "لشيء".
3 لا يبعد عما قبله. "د".
4 انظر طائفة من الأمثلة القرآنية أولت تأويلًا فاسدًا في "التحبير" للسيوطي "باب غرائب التفسير، النوع الثاني والتسعون، ص335-336"؛ ففيه أمثلة أظهر، وفيه: "هذا النوع من زياداتي".
قال أبو عبيدة: وفي كُنَّاشاتي "قصاصاتي المنثورة" أمثلة كثيرة، وكذا في تأويلات خاطئة لأحاديث نبوية، عسى أن أنشط لجمعها في تأليف مستقل، يسر الله ذلك بمنه وكرمه، وسيذكر المصنف في "4/ 225 وما بعدها" أمثلة على هذا الموضوع.
5 لأن إبراهيم الذي يقدم العجل السمين المشوي لضيوفه من عند أهله لا يصح أن يعد فقيرًا؛ فهذا غير صحيح في الاعتبار، لم يجر على مقتضى العلم، وما بعده تخلف فيه شرط قبول اللفظ المؤول له، ومثال بيان تخلف فيه الجميع؛ لأن اللفظ لا يقبله، لا من الإشارة في "هذا"، ولا من العطف في قوله: "وهدى ... إلخ"، ولا يجري على مقتضى العلم. "د".(3/332)
فَغَوَى} [طه: 121] أَنَّهُ مِنْ غَوِيَ1 الْفَصِيلُ لِعَدَمِ صِحَّةِ غَوَى بِمَعْنَى غَوِيَ2؛ فَهَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّأْوِيلُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَمِثَالُ مَا تَخَلَّفَتْ فِيهِ الْأَوْصَافُ تَأْوِيلُ بَيَانِ3 بْنِ سَمْعَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاس} [آلِ عمران: 138] .
فصل
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِبَابِ التَّأْوِيلِ، بَلْ هُوَ جارٍ فِي بَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ؛ فَإِنَّ الِاحْتِمَالَيْنِ4 قَدْ يَتَوَارَدَانِ عَلَى مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ، فَيَفْتَقِرُ إلى الترجيح فيهما؛ فذلك ثانٍ عن قَبُولِ الْمَحَلِّ لَهُمَا، وَصِحَّتِهِمَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَالدَّلِيلُ في الموضعين واحد.
__________
1 بالكسر: إذا بَشِم من شرب اللبن؛ أي: فالتأويل فاسد لأن ما في القرآن بالفتح، وسيأتي له هذا في المسألة التاسعة من الطرف الثاني من الأدلة. "د"، ونحوه في "م".
قلت: كتب في هامش الأصل ما نصه: "في المصباح": غوى غيًا من باب ضرب؛ انهمك في الجهل، وهو خلاف الرشد، وغوي الفصيل، غوي من باب تعب؛ فسد جوفه من شرب اللبن، وفساد هذا التأويل ظاهر".
2 انظر: "الاعتصام" "1/ 301 - ط ابن عفان" للمصنف.
3 يأتي للمؤلف في المسألة التاسعة المشار إليها آنفًا بيان عن بيان هذا. انظر "4/ 225، 226".
وقال "ف": "هو بيان بن سمعان التميمي الهندي اليمني الشيعي، وله شرذمة تنسب إليه تسمى البيانية، تنتحل نحلًا باطلة".
قلت: انظر عن حاله وكفره "الفصل" "4/ 185" لابن حزم، و"الملل والنحل" "152"، و"الفرق بين الفرق" "236"، و"لسان الميزان" "2/ 69".
4 لعل الأصل: "الدليلين"، وسيأتي بسطه في مبحث التعارض من كتاب الاجتهاد. "د".
قلت: قال ابن القيم في "الصواعق المرسلة" "1/ 187": "وبالجملة؛ فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح، والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الفاسد، ولا فرق بين باب الخبر والأمر في ذلك".(3/333)
[الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْإِحْكَامِ وَالنَّسْخِ.
وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى] 1:
اعْلَمْ أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ هي الموضوعة أولًا، وهي التي2 نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ تَبِعَهَا أَشْيَاءُ بِالْمَدِينَةِ، كَمُلَتْ بِهَا تِلْكَ الْقَوَاعِدُ الَّتِي وُضِعَ أَصْلُهَا بِمَكَّةَ، وَكَانَ أَوَّلُهَا3 الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، ثُمَّ تَبِعَهُ مَا هُوَ مِنَ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ؛ كَالصَّلَاةِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ4، وَنَهَى عَنْ كُلِّ مَا هُوَ كُفْرٌ أَوْ تَابِعٌ لِلْكُفْرِ؛ كَالِافْتِرَاءَاتِ الَّتِي افْتَرَوْهَا مِنَ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ [تَعَالَى، وَمَا جُعِلَ لِلَّهِ] وَلِلشُّرَكَاءِ الَّذِينَ ادَّعَوْهُمُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَسَائِرُ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَوْجَبُوهُ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ مِمَّا يَخْدِمُ أَصْلَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا؛ كَالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَخْذِ الْعَفْوِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِ، وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّبْرِ، وَالشُّكْرِ، وَنَحْوِهَا، وَنَهَى عَنْ مَسَاوِئِ الأخلاق من الفحشاء، والمنكر، والبغي،
__________
1 ما بين المعقوفين سقط من "ط".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "والذي نزل ... ".
3 أي: القواعد المكية. "ف".
4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 160 و17/ 126".(3/335)
وَالْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالتَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، والفساد في الأرض، والزنى، وَالْقَتْلِ، وَالْوَأْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ سَائِرًا فِي دِينِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْجُزْئِيَّاتُ الْمَشْرُوعَاتُ بِمَكَّةَ قَلِيلَةً، وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ كَانَتْ فِي النُّزُولِ وَالتَّشْرِيعِ أَكْثَرُ.
ثُمَّ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاتَّسَعَتْ خُطَّةُ1 الْإِسْلَامِ؛ كَمُلَتْ2 هُنَالِكَ الْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ عَلَى تَدْرِيجٍ؛ كَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، وَتَحْرِيمِ3 الْمُسْكِرَاتِ، وَتَحْدِيدِ الْحُدُودِ الَّتِي تَحْفَظُ الْأُمُورَ الضَّرُورِيَّةَ وَمَا يُكَمِّلُهَا وَيُحَسِّنُهَا، وَرَفْعِ الْحَرَجِ بِالتَّخْفِيفَاتِ4 وَالرُّخَصِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، [وَإِنَّمَا ذَلِكَ] كُلُّهُ تَكْمِيلٌ لِلْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ.
فَالنَّسْخُ إِنَّمَا وَقَعَ مُعْظَمَهُ بِالْمَدِينَةِ؛ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي تَمْهِيدِ الْأَحْكَامِ، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَجِدُ مُعْظَمَ النُّسَخِ إِنَّمَا هُوَ لما كان فيه تأنيس أولًا للقريب
__________
1 الخطة: بوزن سدرة، وجمعها خطط كسدر؛ أي: اتسعت بلاده. "ف".
2 تراجع المسألة الثامنة من كتاب الأدلة ليفهم معنى كمال تلك الأصول، وأنه ليس الغرض أن هناك أصولا لم تكن حاصلة رأسا في مكة ثم أنشئت في المدينة، ويدل عليه أيضا قوله أول مسألتنا: "التي وضع أصلها بمكة". "د".
3 تقدم في المسألة الثامنة أن تحريم المسكر داخل إجمالا في حفظ النفس؛ فالذي كان بالمدينة في ذلك إكماله بالتصريح بتحريمه، ووضع الحدود في شربه، والنص على تحريم القليل منه من باب التكميل أيضا. "د"
4 لا ينافي هذا قوله الآتي: "إنما هو لما كان فيه تأنيس.... إلخ" الذي يقتضي أنه روعي أولًا التخفيف ثم روعي التشديد بالمدينة؛ لأن التخفيف بالرخص إنما جاء بعد تفصيل التكاليف التي كانت مطلقة، وتفصيلها اقتضى اقترانها بمشقات وحرج في بعض الأحيان، فروعيت الرخص؛ فهي حتى مع الرخص أشد منها حينما كانت بمكة بدون رخص، ويحسن بك أن تراجع المسألة الخامسة من باب النسخ في كتاب "الأحكام" "3/ 196" للآمدي؛ لتزداد بصيرة في هذا الموضوع، وتعرف الخلاف في جواز نوع النسخ الذي جعله المؤلف معظم النسخ. "د"(3/336)
الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَاسْتِئْلَافٌ لَهُمْ، مِثْلَ كَوْنِ الصَّلَاةِ كَانَتْ صَلَاتَيْنِ ثُمَّ صَارَتْ خَمْسًا، وَكَوْنِ إِنْفَاقِ الْمَالِ مُطْلَقًا بِحَسَبِ الْخِيَرَةِ1 فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ صار محدودًا مقدارًا، وأن القبلة كانت بالمدينة ببيت الْمَقْدِسِ ثُمَّ صَارَتِ الْكَعْبَةَ، وكحِلّ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ2 ثُمَّ تَحْرِيمِهِ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ ثُمَّ صَارَ ثَلَاثًا، وَالظِّهَارُ كَانَ طَلَاقًا ثُمَّ صَارَ غَيْرَ3 طَلَاقٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ أَصْلُ الْحُكْمِ فِيهِ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أُزِيلَ، أَوْ كَانَ أَصْلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ قَرِيبًا خَفِيفًا ثم أحكم.
__________
1 أي: في نوعه ومقداره، وإلا؛ فالإنفاق مطلوب من أول التشريع لا خيرة فيه بمعنى الإباحة، وهذا معنى قوله: "في الجملة". "د"
وكتب "ف": "بفتح الياء، بمعنى: الخيار".
2 التحقيق أن نكاح المتعة أبيح في غزوة الفتح ثلاثة أيام ثم حرم؛ فالتحليل كان لضرورة وقتية ثم نسخ، وكلاهما كان بالمدينة؛ فالمثال على ما ترى. "د".
وقال "ف": "أي: مؤبدًا إلى يوم القيامة؛ فالحل منسوخ خلافًا لمن زعم عدم نسخه".
3 يعني: وهو أشد لأنه يحتاج لكفارة بخلاف الطلاق. "د".(3/337)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُنَزَّلَ بِمَكَّةَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ هُوَ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ فِي الدِّينِ عَلَى غَالِبِ الْأَمْرِ؛ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ النَّسْخَ فِيهَا1 قَلِيلٌ لَا كَثِيرٌ؛ لِأَنَّ2 النَّسْخَ لَا يَكُونُ فِي الْكُلِّيَّاتِ وُقُوعًا، وَإِنْ أَمْكَنَ عَقْلًا.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ3 الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حِفْظِ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهُ شَيْءٌ، بَلْ إِنَّمَا أَتَى بِالْمَدِينَةِ مَا يُقَوِّيهَا وَيُحْكِمُهَا وَيُحَصِّنُهَا، وَإِذَا كَانَ كذلك؛ لم يثبت نسخ
__________
1 أي: على أن النسخ لا يكون في الكليات، لا على أصل الدعوى؛ فهو استدلال على مقدمة الدليل. "د".
2 ذكر المؤلف ثلاثة أوجه في الاستدلال على أن النسخ فيما نزل بمكة قليل -أو نادر كما يقول بعد-:
أ- وجه خاص، وهو أن أكثر ما نزل بها كليات، وهي لا نسخ فيها، أما أن أكثر ما نزل بها كليات؛ فقد تقرر في المسألة الأولى، وأما أن الكليات لا نسخ فيها؛ فدليله الاستقراء التام، وأن الشريعة مبنية ... إلخ، وإذا صحت المقدمتان؛ ثبت أنه لا نسخ في أكثر الأحكام المكية، بل في القليل منها، وهو المطلوب.
ب- ما أضافه بقوله: "وإلى هذا؛ فإن الاستقراء....إلخ"، وحاصله أن من تتبع الناسخ والمنسوخ من الأحكام الجزئية نفسها تبين له أن ما نسخ من الجزئيات أقل من المحكم منها، وهذا كما يصح دليلًا على قلة النسخ في الأحكام المكية يدل على قلته في الأحكام المدنية أيضًا، وإن كان سياقه للاستدلال على المكي.
ج- في قوله: "ووجه آخر وهو أن الأحكام ... إلخ"، وهو كسابقه عام للمكي والمدني، ولذلك أحال عليهما في الفصل عند الاستدلال على أن الأمر كذلك في سائر الأحكام. "د".
3 أي: في الأحكام المنزلة بمكة، لا في الأحكام الكلية؛ حتى لا يتنافى مع قوله بعد: "لا يكون فيها وقوعًا ... إلخ"، وقوله: "لم يثبت نسخ لكلي"، ولو قال فيه؛ لكان نصًا في المراد. "د".(3/338)
لِكُلِّيٍّ أَلْبَتَّةَ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ كُتُبَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ تحقق هذا المعنى؛ فإنما يكون النسخ من الجزيات منها، والجزيات المكيه قليلة.
وإلى هذا؛ فإن الاستقرار يُبَيِّنُ أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ الْفَرْعِيَّةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَقِيَ مُحْكَمًا قَلِيلَةٌ، وَيَقْوَى1 هَذَا فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْمَنْسُوخَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ وَغَيْرَ الْمَنْسُوخِ مِنَ الْمُحْكِمِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] .
فَدُخُولُ النُّسَخِ فِي الْفُرُوعِ المكية قليل، وهي قَلِيلَةٌ؛ فَالنُّسَخُ فِيهَا قَلِيلٌ [فِي قَلِيلٍ] ، فَهُوَ إِذًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَكِّيَّةِ نَادِرٌ2.
وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْكَامَ إِذَا ثَبَتَتْ عَلَى الْمُكَلَّفِ؛ فَادِّعَاءُ النَّسْخِ فِيهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ3 لِأَنَّ ثُبُوتَهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ أَوَّلًا مُحَقَّقٌ؛ فَرَفْعُهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقٍ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ4 الْقُرْآنَ وَلَا الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِلْمَقْطُوعِ بِهِ بِالْمَظْنُونِ؛ فاقتضى
__________
1 لأنه حينئذ يكون مقابلًا للمحكم الذي نصت الآية على أنه أم الكتاب وأصله والغالب فيه. "د".
2 أي: لأنه قليل فيما هو في ذاته قليل. "د".
3 يشبه كلام ابن النحاس الآتي بعد؛ فلعله مأخذه. "د".
4 نعم هو قول الأكثرين، وحجتهم واضحة، وإنما قبلوا تخصيص المتواتر بالآحاد ولم يقبلوا نسخه به لأن الأول بيان وجمع بين الدليلين، بخلاف النسخ؛ فإنه إبطال. "د".
قلت: انظر توسعا في المسألة في: "الرسالة" "106"، و"التبصرة" "264"، و"المنخول" "292"، و"المستصفى" "1/ 80" و"أصول السرخسي" "2/ 67"، و"المحصول" "3/ 519"، و"الإحكام" "4/ 617" لابن حزم، و"الإحكام" "7/ 217" للآمدي، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "17/ 195-197"، و"البحر المحيط" "4/ 97-98"، و"كشف الأسرار" "7/ 175"، و"المسودة" "201-204"، و"تيسير التحرير" "3/ 203"، و"إرشاد الفحول" "191" و"مذكرة في أصول الفقه" "84".(3/339)
هَذَا أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَكِّيَّةِ يَدَّعِي نَسْخَهُ لَا يَنْبَغِي قَبُولُ تِلْكَ الدَّعْوَى فِيهِ إِلَّا مَعَ قَاطِعٍ بِالنَّسْخِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَلَا دَعْوَى الْإِحْكَامِ فِيهِمَا.
فَصْلٌ
وَهَكَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مَكِّيَّةٌ كَانَتْ أَوْ مَدَنِيَّةٌ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ غَالِبَ1 مَا ادُّعِيَ فِيهِ النَّسْخُ إِذَا تَأَمَّلْ2؛ وَجَدْتَهُ مُتَنَازِعًا فِيهِ، وَمُحْتَمَلًا، وَقَرِيبًا مِنَ التَّأْوِيلِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ، مِنْ كَوْنِ الثَّانِي بَيَانًا لِمُجْمَلٍ، أَوْ تَخْصِيصًا لِعُمُومٍ، أَوْ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْجَمْعِ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى الْأَصْلِ مِنَ الْإِحْكَامِ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي.
وَقَدْ أَسْقَطَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ "النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ"3 كَثِيرًا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: "أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ فُرِضَتْ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِهَا".
قَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ: "فَلَمَّا ثَبَتَتْ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْأَحَادِيثِ4 الصِّحَاحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُزَالَ إِلَّا بِالْإِجْمَاعِ أَوْ حَدِيثٍ يُزِيلُهَا ويبين نسخها، ولم
__________
1 ومنه يعلم أن الطريقة التي جرى عليها مثل الجلالين في "التفسير" ليست على ما ينبغي، وإن كان جريًا على الاصطلاح الآتي في المسألة بعد؛ فهو تساهل في التعبير غير محمود في بيان كلام الله تعالى. "د".
2 في "م" و"ط": "تؤمل".
3 طبع في مجلدين سنة "1413هـ" عن مكتبة الثقافة الدينية بمصر، بتحقيق د. عبد الكبير المدعري.
4 في مطبوع "الناسخ والمنسوخ" و"ط": " ... وبالأسانيد".(3/340)
يأتِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ"1 انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنْهُ.
وَوَجْهٌ رَابِعٌ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ النَّسْخِ وَنُدُورِهِ؛ أَنَّ تَحْرِيمَ مَا هُوَ مُبَاحٌ بِحُكْمِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ2 كَالْخَمْرِ وَالرِّبَا؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُمَا3 بَعْدَ مَا كَانَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ لَا يُعَدُّ نَسْخًا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ4 الْأَصْلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي حَدِّ النَّسْخِ: إِنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ5 بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ، وَمِثْلُهُ رَفْعُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِدَلِيلٍ.
وَقَدْ كَانُوا فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى أَنْ نَزَلَ6: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238] .
__________
1 "الناسخ والمنسوخ" "ص294".
2 انظر له: "حاشية التفتازاني" "2/ 185".
3 في "ط": "كالخمر والزنا فإن تحريمها ... ".
4 يدل على أن الخمر كان مباحا بحكم الأصل قبل نزول تحريمه بالمدينة، وهذا يحتاج إلى الجمع بينه وبين ما سبق له أن تحريمه داخل في الأصل المكي إجمالًا وهو حرمة الجناية على النفس والأعضاء. "د".
5 أي: والمباح بحكم الأصل والعادة الجارية قبل الشرع لا يعتبر حكمًا شرعيًا. "د".
قلت: انظر في تعريفات النسخ: "الإحكام" "7/ 180" للآمدي، و"الإحكام" "4/ 59" لابن حزم، و"البرهان" "2/ 56" للزركشي، وأثبت الدكتور مصطفى زيد في كتابه "النسخ في القرآن الكريم" "1/ 60 وما بعدها" الأقوال التي ذكرت في حده، وناقشها مناقشة مطولة؛ فانظره فإنه مفيد.
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} ، 8/ 198/ رقم 4534"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، 2/ 383/ رقم 539" عن زيد بن أرقم؛ قال: "كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة؛ حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238] ؛ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام". لفظ مسلم.
قال ابن حبان في "صحيحه" "6/ 27-28 - مع الإحسان": "هذا الخبر يوهم من لم يطلب العلم من مظانه أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة"، قال: "وذاك أن زيد بن أرقم من =(3/341)
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْتَفِتُونَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى أن نزل1 "قوله": {الَّذِينَ هُم
__________
= الأنصار، وقال: كنا نتكلم في الصلاة بالحاجة، وليس مما يذهب إليه الواهم فيه في شيء منه، وذلك أن زيد بن أرقم كان من الأنصار الذين أسلموا بالمدينة، وصلوا بها قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إليهما، وكانوا يصلون بالمدينة كما يصلي المسلمون بمكة في إباحة الكلام في الصلاة لهم، فلما نُسخ ذلك بمكة؛ نُسخ كذلك بالمدينة؛ فحكى زيد ما كانوا عليه، لا أن زيدًا حكى ما لم يشهده".
وقال "ف": "القنوت هنا: الإمساك عن الكلام".
1 أخرج الحاكم في "المستدرك" "2/ 393"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 283" "والحازمي في "الاعتبار" "60"، وابن جرير في "التفسير" "18/ 3"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص227" عن ابن سيرين؛ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى رفع رأسه إلى السماء، تدور عيناه ينظر ههنا وههنا؛ فأنزل الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ؛ فطأطأ ابن عون رأسه، ونكس في الأرض".
وصله الحاكم عن أبي هريرة، وقال البيهقي عن المرسل: "هذا هو المحفوظ"، وقال: "ورواه حماد بن زيد عن أيوب مرسلا، وهذا هو المحفوظ"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولولا خلاف فيه على محمد؛ فقد قيل عنه مرسلًا"، قال الذهبي: "الصحيح مرسل" "وهذا الذي رجحه شيخنا في "الإرواء" "2/ 71-73/ رقم 354"، وعزاه ابن ضويان في "منار السبيل" "1/ 92" لأحمد في "الناسخ والمنسوخ"، وسعيد بن منصور في "السنن". وانظر: "زاد المعاد" "1/ 249"؛ فالحديث ضعيف.
وسرد ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 308" ما ورد عن ابن سيرين، وأتبعه بقوله: "وروي عن غيره أن المؤمنين كانوا يلتفتون في الصلاة ويتكلمون؛ فنسخ الله ذلك"، ثم قال "2/ 309": "وحديث ابن سيرين باطل، وما روى غيره لا أصل له، إنما روي في "الصحيحين": "إنا كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} ؛ فأُمرنا بالسكوت".
قلت: قضية الكلام مضى تخريجها في الحديث السابق، والمصنف نقل عن ابن العربي ولم ينقل حكمه على الحديث، ومثل هذا يقع كثيرا له؛ فهو لا يفلِّي الأخبار، ولا يمحص الآثار، ولا يبحث عن ناقليها، وشاب كتابه -وهو جوهرة عديمة النظير-بمثل هذا، عفا الله عنا وعنه بمنه وكرمه، وألمح ابن العربي أيضا في "أحكام القرآن" "3/ 1295" لتضعيف هذا الحديث، والله الموفق. وفي "ط": "نزلت".(3/342)
فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 2] ، قَالُوا: وَهَذَا إِنَّمَا نَسَخَ أَمْرًا1 كَانُوا عَلَيْهِ. وَأَكْثَرُ الْقُرْآنِ2 عَلَى ذَلِكَ، مَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ مِنَ الْإِبَاحَةِ؛ فَهُوَ مِمَّا لَا يُعَدُّ نَسْخًا، وَهَكَذَا كُلُّ مَا أَبْطَلَهُ الشَّرْعُ مِنْ أَحْكَامِ3 الْجَاهِلِيَّةِ.
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ، وَنَظَرْتَ إِلَى الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لَمْ يَتَخَلَّصْ فِي يَدِكَ مِنْ مَنْسُوخِهَا إِلَّا مَا هو نادر، على أن ههنا مَعْنًى يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهُ لِيُفْهَمَ اصْطِلَاحُ الْقَوْمِ في النسخ، وهي:
__________
1 أي: فليس نسخًا لحكم شرعي، بل تعمير للذمة بعد أن كانت غير مشغولة، وقد تفنن في تسمية هذا النوع تحريم ما هو مباحة بالإباحة الأصلية، أو رفع براءة الذمة بدليل، أو نسخ أمر كانوا عليه، وهي عبارات ثلاث استعملها في معنى واحد زيادة في إيضاح الفرق بينه وبين نسخ الحكم الشرعي. "د".
2 أي: أكثر تشريع القرآن رفع ونقض لما كانوا عليه، وإن كان أمهلهم مدة وأخذهم بالتدريج في تشريع ما به إصلاح عاداتهم وعبادتهم؛ فلا يعد نسخًا لأنه إنشاء لأحكام لم يسبقها تشريع في موضوعها. "د".
3 في "م": "الأحكام".(3/343)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ النَّسْخَ عِنْدَهُمْ فِي الْإِطْلَاقِ أَعَمُّ مِنْهُ فِي كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ1؛ فَقَدْ يُطْلِقُونَ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ نَسْخًا، وَعَلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ نَسْخًا، وَعَلَى بَيَانِ الْمُبْهَمِ وَالْمُجْمَلِ نَسْخًا، كَمَا يُطْلِقُونَ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ نَسْخًا؛ لِأَنَّ جميع ذلك مشترك في معنى واحدًا، وَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِ اقْتَضَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَقَدِّمَ غَيْرُ مُرَادٍ فِي التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا جِيءَ بِهِ آخِرًا؛ فَالْأَوَّلُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى جَارٍ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، فَإِنَّ الْمُطْلَقَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ مَعَ مُقَيِّدِهِ؛ فَلَا إِعْمَالَ لَهُ فِي إِطْلَاقِهِ، بَلِ الْمُعْمَلُ هُوَ الْمُقَيَّدُ، فَكَأَنَّ2 الْمُطْلَقَ لَمْ يُفِدْ مَعَ مُقَيِّدِهِ شَيْئًا؛ فَصَارَ مِثْلَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَكَذَلِكَ الْعَامُّ مَعَ الْخَاصِّ؛ إِذْ كَانَ ظَاهِرُ الْعَامِّ يَقْتَضِي شُمُولَ الْحُكْمِ لِجَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، فَلَمَّا جَاءَ الْخَاصُّ أَخْرَجَ حُكْمَ ظَاهِرِ الْعَامِّ عَنِ الِاعْتِبَارِ؛ فأشبه الناسخ والمنسوخ؛ إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ لَمْ يُهْمَلْ مَدْلُولُهُ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا أُهْمِلَ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ3 الخاص،
__________
1 انظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 29-30، 272-273"، و"الإحكام" لابن حزم "4/ 67"، و"فهم القرآن" "398" للمحاسبي، و"إعلام الموقعين" "1/ 29"، و"تفسير القرطبي" "2/ 288"، و"الفوز الكبير في أصول التفسير" "ص112-113" للدهلوي، و"النسخ في دراسات الأصوليين" "521"، و"أحكام القرآن" "1/ 197"، ومقدمة محقق "الناسخ والمنسوخ" "1/ 197" لابن العربي، و"محاسن التأويل" "1/ 13"، و"الإتقان" "2/ 22" لنادية العمري، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" "ص88-90" لمكي بن أبي طالب.
2 إنما قال "كأن"؛ لأن الواقع أن المطلق لم يهمل مدلوله جملة كما سيأتي في العام بعد؛ فيقال نظيره هنا، أي أن الذي أهمل إنما هو الاحتمالات الأخرى لغير المقيد. "د".
3 أي: أهمل منه ما دل الخاص على إهماله، وهو ما عدا مدلول الخاص. "د". قلت: في الأصل: "وإنما العمل عليه ... ".(3/344)
وَبَقِيَ السَّائِرُ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَالْمُبَيَّنُ مَعَ الْمُبْهَمِ1 كَالْمُقَيَّدِ مَعَ الْمُطْلَقِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ؛ استهل إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّسْخِ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي لِرُجُوعِهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ.
وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْثِلَةٍ تُبَيِّنُ الْمُرَادُ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ2 أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الْإِسْرَاءِ: 18] إِنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشُّورَى: 20] .
وَعَلَى هَذَا التَّحْقِيقِ تقييد لمطلق؛ إذ كَانَ قَوْلُهُ: {نُؤْتِهِ مِنْهَا} مُطْلَقًا، وَمَعْنَاهُ مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي "الْآيَةِ" الْأُخْرَى: {لِمَنْ نُرِيد} ، وَإِلَّا فَهُوَ إِخْبَارٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا3 النسخ.
__________
1 كما يأتي مثاله بعد فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} مع قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم} الآية. "د".
2 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص254" بإسناد ضعيف، وقال: "والقول الآخر إنها غير منسوخة، وهو الذي لا يجوز غيره؛ لأن هذا خبر ... ".
وانظر: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 355" لابن العربي، و"نواسخ القرآن" "219-220" لابن الجوزي.
3 أي: لا يدخل النسخ مدلول الخبر وثمرته إن كان مما لا يتغير؛ كالإخبار بوجود الإله وبصفاته؛ فدخول النسخ في هذا المدلول محال بإجماع، أما إذا كان مما يتغير كإيمان زيد وكفر عمرو؛ ففيه خلاف، والمختار جوازه، وأما نسخ تلاوة الخبر أو نسخ تكليفنا به كما إذا كلفنا بأن نخبر بشيء ثم ورد نسخ التكليف بذلك؛ فكل من هذين جائز لأنه من التكليف فيدخله النسخ، فانظر معنى الآية: هل هو مما يتغير فيدخله النسخ على المختار، أم لا يتغير فلا يدخله؟ وقالوا: إن من أمثلة ما لا يتغير أن تقول: أهلك الله زيدًا؛ لأنها حادثة واحدة تقع مرة واحدة؛ فلا يتأتى فيها التغيير، والتحقيق أن بعض الأخبار يجوز في مدلولها النسخ كما إذا كان الخبر عامًا؛ فيأتي الثاني يبين تخصيصه وقصره على البعض كما في الآية؛ إلا أنه يكون على اصطلاح المتقدمين لا اصطلاح الأصوليين، وكلامه في هذا. راجع "الإحكام" "3/ 163" للآمدي. "د".(3/345)
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون....} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُون} [الشُّعَرَاءِ: 224-226] : هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} 1 الآية [الشعراء: 227] .
قال مكي2: "وقد ذكر ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِيهَا حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ؛ أَنَّهُ قَالَ: مَنْسُوخٌ".
قَالَ: "وَهُوَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى3 مُرْتَبِطٌ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بيّنَه حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ4 فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ الَّذِينَ عَمَّهُمُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ، وَالنَّاسِخُ
__________
1 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص240" بإسناد ضعيف، وقال بعد كلام: "..... هذا الذي تسميه العرب استثناء لا نسخا....".
وأخرج أبو داود في "سننه" "كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر، رقم "5016" من طريق علي بن حسين بن واقد المروزي -وهو صدوق يهم- عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس؛ قال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون} ؛ فنسخ من ذلك واستثنى؛ فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} .
وأخرج نحوه ابن جرير في "التفسير" "19/ 179"، وابن النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص240" عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهذا إسناد حسن.
والشاهد أن النسخ هنا بمعنى التخصيص؛ كما هو ظاهر من قوله: "واستثنى"، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 323" لابن العربى.
2 في كتابه "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" "ص373-374".
3 في مطبوع "الإيضاح": "الاستثناء".
4 قال "ف": "الأنسب: "بيّن حرف الاستثناء أنه ... " إلخ، أو "نبه حرف الاستثناء أنه" ا. هـ.
رد عليه "د" بقوله: "إنه بدل من الضمير في بينه؛ فالكلام واضح لا يحتاج لتصحيح كما ظن". قلت: نص عبارة مكي في "الإيضاح" "ص374": " ... بالمستثنى منه، يليه حرف الاستثناء الذي يلزمه؛ فبين أنه في بعض الأعيان ... "، ومنه يظهر صواب ما عند "ف".(3/346)
منفصل1 من الْمَنْسُوخِ رَافِعٌ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ بِغَيْرِ حَرْفٍ".
هَذَا مَا قَالَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ النَّسْخِ؛ إِذْ لَمْ يَعْتَبِرْ فِيهِ الِاصْطِلَاحَ الْخَاصَّ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النُّورِ: 27] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَة} الآية [النور: 29] 2.
وَلَيْسَ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَيْءٍ؛ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} ] يُثْبِتُ3 أَنَّ الْبُيُوتَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْمَسْكُونَةُ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] : إنه منسوخ4
__________
1 لأنه قد أخذ في تعريفه أن يكون الدليل الناسخ متأخرًا عن المنسوخ، ويلزمه أن يكون بغير حروف الاستثناء. "د". وفي "د": "منفصل عن ... "، وفي مطبوع "الإيضاح" "ص314": "منفصل من المنسوخ، وهو رافع لحكم المنسوخ، وهو بغير حرف الاستثناء".
2 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص231" بإسناد ضعيف، وقال المحاسبي في "فهم القرآن" "ص426": "وقد كان بعض من مضى يرى أن آية الاستئذان منسوخة، والعلماء اليوم مجمعة أنها ثابتة؛ إلا أن بعضهم رأى أن دق الباب يجري من الاستئذان".
وانظر: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 316-317"، وأحكام القرآن "3/ 1347-1352"، كلاهما لابن العربي.
3 بل في نفس الآية الأخرى ما يثبت أنها خاصة بالمسكونة؛ لأن قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} يقتضي ذلك. "د". في "ط": "بينت" بدل "يثبت"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
4 وبه قال عطاء، وهو مبني على أن الآية الثانية في الجهاد، وقد بين الفخر مع هذا أنه لا يلزم النسخ، وقيل: إنها في أحكام التفقه في الدين لا دخل لها بالجهاد كما قاله المؤلف؛ إلا أنه لا داعي إذن لقوله: "ولكنه نبه.... إلخ" لأن هذا هو معنى النسخ. "د".(3/347)
بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة} 1 [التَّوْبَةِ: 122] ، وَالْآيَتَانِ فِي مَعْنَيَيْنِ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنْ لَا يَجِبَ النَّفِيرُ عَلَى الْجَمِيعِ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُول} [الْأَنْفَالِ: 1] : مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه} [الْآيَةَ] 2 [الْأَنْفَالِ: 41] ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بَيَانٌ لِمُبْهَمٍ3 فِي قَوْلِهِ: {لِلَّهِ وَالرَّسُول} .
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْء} [الْأَنْعَامِ: 69] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} الآية4 [النساء: 140] ، وَآيَةُ الْأَنْعَامِ5 خَبَرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَالْأَخْبَارُ لَا
__________
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب في نسخ نفير العامة، رقم 2505"، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 385"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 47"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص201" من طرق عنه، ولا تسلم أي طريق من طرقه من ضعف، ولكن الضعف يسير في كل منها، وهو قابل للجبر، والله الموفق.
وانظر لزامًا: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 248-251" لابن العربي، و"فهم القرآن" "ص463-464" للحارث المحاسبي، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" "ص315".
2 أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 400"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 217"، وذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص182"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 224"، والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "464"، ومكي في "الإيضاح" "ص295"" وما بين المعقوفتين من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة.
3 في "م": "المبهم".
4 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص168-169" بإسناد ضعيف، وانظر: "فهم القرآن" "ص416-417"، و"الإيضاح" "ص282".
5 نزل بمكة: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُون} الآية؛ فشكا المسلمون أنهم يحرمون =(3/348)
تَنْسَخ وَلَا تُنْسَخ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين
__________
= من المسجد الحرام والطواف؛ إذ كان كلما حصل من المشركين خوض واستهزاء تركوا المكان الذي يجلسون فيه، وهذا حرج؛ فنزلت الرحمة والرخصة بقوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُون} ؛ أي: الشرك والمعاصي، {مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى} ؛ فأبيح لهم البقاء في أماكنهم مع تذكير الخائضين وإرشادهم، ثم إن المنافقين في المدينة كانوا يجالسون أحبار اليهود ويسمعون منهم الهزء والطعن في الإسلام والقرآن؛ فنزلت الآية: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَاب} خطابا للمنافقين بأنه نزل عليكم في القرآن أن إذا سمعتم آيات الله ... إلخ إلى أن قال: إنكم أيها المنافقون إذًا مثل هؤلاء الأحبار الكفار، وعليه؛ فالمراد بما أنزل عليهم في الكتاب هو آية: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُون} إلخ الموجبة لقيامهم من مجلس الخائضين. راجع الفخر الرازي في الآيتين، وعلى ما قاله يكون حصل نسخ مرتين: نسخ لعزيمة القيام بالتخفيف وإباحة الجلوس مع الذكرى، وكل من الناسخ والمنسوخ في سورة الأنعام، ونسخ للتخفيف ثانيًا بآية: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَاب} إلخ في سورة النساء، وقد قالوا: إن هذا لا يعهد مثله في الشريعة؛ كما قاله ابن القيم في غير موضع من كتابه "زاد المعاد"، هذا ثم لا يخفى أن قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُون} يفيد حكمًا شرعيًا هو رفع الحرج؛ فيصح أن يكون ناسخًا ومنسوخًا لأنه ليس بخبر معنى، خلافًا لما قاله المؤلف أولًا وآخرًا، وسيأتي مثله في الأمر غير الصريح. "د".
قلت: نقل ابن العربي في "ناسخه" "2/ 211" أن الذي عليه أهل التفسير أنه لا نسخ في هذه الآية، قال: "لأنه خبر، والآيتان محكمتان، ومعنى الآية أنه إذا نهى عن المنكر؛ فليس عليه حساب من فعله"، ثم تعقب هذا القول بكلام شديد، قال: "هذه غباوة ظاهرة، ليس هذا بخبر، بل هو صريح أمر؛ لأن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه} ، فإن نسيت فتذكرت؛ فقم ساعة تذكارك عنهم، ولا تقعد بعد ذلك معهم، وهذا منسوخ بأمره بالقتل والقتال بلا إشكال، والآية التي في النساء مثلها؛ فإنه نهاهم الله أن يجالسهم إذا سمعهم يكفرون، وهذه أيضًا منسوخة بالأمر بالقتال إذا كان مأجورًا أن يقوم عنهم إذا سمعهم يستهزئون بآيات الله ويكفرون، وصار بعد ذلك مأمورًا بأن يقاتلهم ويقيم الحد بالقتل في ذلك عليهم، وهذا نسخ بين".(3/349)
فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} الآية [النساء: 8] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ1.
وَقَالَ مِثْلَهُ الضَّحَّاكُ والسُّدِّي وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ".
وَقَالَ ابن المسيِّب: "مسخه الْمِيرَاثُ وَالْوَصِيَّةُ"2.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مُمْكِنٌ؛ لِاحْتِمَالِ [حَمْلِ] 3 الْآيَةِ عَلَى النَّدْبِ، وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْقُرْبَى مَنْ لَا يَرِثُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَضَرَ} [فقيد] كما
__________
1 أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه -كما في "فتح الباري" "8/ 242"- والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص115"، وابن الجوزي في "الناسخ والمنسوخ" "ص199" من أوجه ضعيفة؛ كما قال ابن حجر.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} ، 5/ 388/ رقم 4576" عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال عن الآية: "هي محكمة، وليست بمنسوخة".
وأخرج البخاري أيضًا في "صحيحه" "كتاب الوصايا، باب قوله الله عز وجل {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} ، 5/ 388/ رقم 2759" عن ابن عباس؛ قال: "إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت، ولا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون الناس، هما واليان: وال يرث وذاك الذي يرزق، ووال لا يرث؛ فذاك الذي يقول بالمعروف، يقول: لا أملك لك أن أعطيك".
وأخرج نحوه الحاكم في "المستدرك" "2/ 302-303"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 266-267".
2 قال ابن حجر في "الفتح" "8/ 243": "وصح ذلك -أي: النسخ- عن سعيد بن المسيب، وهو قول القاسم بن محمد وعكرمة وغير واحد، وبه قال الأئمة الأربعة وأصحابهم".
قلت: وأسند النسخ عن الضحاك: سعيد بن منصور في "سننه" "3/ 1172"، وابن جرير في "تفسيره" "8/ 10/ رقم 8680 - ط شاكر"، وفيه جويبر، وهو ضعيف.
وانظر: "تفسير القرطبي" "5/ 48-49"، و"أحكام القرآن" للشافعي "ص147-149"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 146-147"، و"أحكام القرآن" "1/ 329"، كلاهما لابن العربي، و"فهم القرآن" "ص439-440" للمحاسبي، و"الإيضاح" "ص210"، وفيه ما عند المصنف.
3 ما بين المعقوفين سقط من الأصل.(3/350)
تَرَى1 الرِّزْقَ بِالْحُضُورِ؛ [فَدَلَّ أَنَّ] 2 الْمُرَادَ غَيْرُ الْوَارِثِينَ، وَبَيَّنَ الْحَسَنُ3 أَنَّ الْمُرَادَ النَّدْبُ أَيْضًا بِدَلِيلِ آيَةِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ فَهُوَ مِنْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبْهَمِ.
وَقَالَ هُوَ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 284] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: [ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] ، مَعَ أَنَّ الْأَخْبَارَ لَا تُنْسَخُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ فِي وُسْعِ الْإِنْسَانِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ] : {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 4 [الْبَقَرَةِ:
__________
1 هكذا في "ط" فقط، وسقط ما بين المعقوفتين من الأصل والنسخ المطبوعة، ولذا قال "ف": "في العبارة تحريف، ولعل الأصل بدليل قوله "إذا حضر"، حيث قيد الرزق بالحضور؛ فدل على أن المراد غير الوارثين لأن الوارث يرزق مطلقًا حضر أو غاب". وتابعه "م"، أما "د"؛ فقال: "تحريف، ولعل الأصل: لما شرط الرزق بالحضور كان المراد.... إلخ".
2 كذا في "ط"، وبدله في غيره: "فإن".
3 أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" "1/ 149" -ومن طريقه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "116"- وابن جرير في "تفسيره" "8/ 9/ رقم 8667، 8671"، وسعيد بن منصور في "تفسيره" "3/ 1170/ رقم 579"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص254" من طرق عن الحسن بألفاظ منها: "هي محكمة، وذلك عند قسمة ميراث الميت". لفظ عبد الرزاق.
و"هي ثابتة، ولكن الناس بخلوا وشحوا". أحد ألفاظ ابن جرير.
و"فغير قرابة الميث يرضخ -والرضخ: العطية القليلة- لهم القدح أو الشيء؛ فكان يقول لهم: إنها لم تنسخ". لفظ سعيد بن منصور، وإسناده صحيح.
ويتأكد الندب بما قاله مكي في "الإيضاح" "ص210-211": "ويدل على أنها على الندب قوله في آخر الآية: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} ؛ أي: إن لم تعطوهم شيئًا ولم توصوا لهم؛ فقولوا لهم قولا حسنا، وأيضًا؛ فإنها لو كانت فرضا لكان الذي لهم معلوما محدودا كسائر الفرائض"، ثم ذكر أن الإجماع عليه، وقال: "وهذا هو الصواب إن شاء الله، وهو مذهب مالك وأكثر العلماء"، ثم قال: "فالآية محكمة على الندب والترغيب غير منسوخة".
4 أخرج النسخ عن ابن مسعود: أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 506"، وابن جرير =(3/351)
286] بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ1 الْآيَةَ بِكِتْمَانِ الشهادة2؛ إذ تقدم3 قوله
__________
= في "التفسير" "6/ 112/ رقم 6478 - ط شاكر".
وأخرجه عن ابن عباس: أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 515"، وأحمد في "المسند" "1/ 322"، والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "ص436"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 287"، وابن جرير في "التفسير" "رقم 6458، 6459، 6461، 6462" -وصححه الحاكم ووافقه الذهبي- والشافعي في "مسند" "422 - رواية المزني"، والطبراني في "الكبير" "رقم 10769، 10770"، والطحاوي في "المشكل" "رقم 1626-1628 - ط الجديدة"، وأبو داود في "ناسخه"، وعبد بن حميد، والبيهقي في "الشعب" -كما في "الدر المنثور" "2/ 128"- وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "فتح الباري" "8/ 206".
1 معنى الآية على كلام ابن عباس: إن تبدوا ما في أنفسكم وما تعلمونه في موضوع الشهادة بأن تقولوا لصاحب الحق: نعلم الشيء ولكنا لا نشهد به عند الحكام، أو تخفوه بألا تطلعوا صاحب الحق على ما تعلمونه؛ يحاسبكم به الله على كل حال لأنه كتمان للشهادة ومضيع للحق، فيكون قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ... } إلخ من باب بيان المجمل لقوله: {وَلا تَكْتُمُوا} ؛ فقد كان يحتمل الأمرين كما يحتمل أحدهما فقط، وعليه لا تكون آية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} مرتبطة بهذه الآية؛ فقوله: "بدليل ... إلخ" سقط منه كلام تقديره1: "وليس بمنسوخ بدليل ... "، أما على رواية أنه لما نزلت آية: {وَإِنْ تُبْدُوا} شق الأمر على الصحابة وجثوا على ركبهم أمامه صلى الله عليه وسلم، وقالوا: كلفنا من الأمر ما نطيق، من صوم وصلاة ... إلخ، ولكن نزلت هذه الآية وليس في وسعنا تنزيه النفس عن الهواجس والخواطر السيئة؛ فأنزل الله آية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، يعني: فلا يكلفكم بالخواطر وما يكون في النفس غير العزم على الفعل الذي تطيقونه؛ فيكون معنى كونها ناسخة لآية {وَإِنْ تُبْدُواْ} أنها مبينة لإجمالها أو مخصصة لها ببعض ما يشمله قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} .
والحاصل أنه على رأي ابن عباس لا تعلق لآية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ} بآية: {وَإِنْ تُبْدُواْ} [البقرة: 283] ، وتكون هذه محكمة ولا تخصيص فيها، بل هي مبينة لإجمال آية: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} ، وأما إذا جرينا على رواية جثو الصحابة على الركب؛ فتكون آية: {لا يُكَلِّفُ} مخصصة أو مبينة لإجمال آية: {وَإِنْ تُبْدُوا} الذي كان بظاهره يشمل الهواجس والخواطر؛ فنزلت الآية =
1 أثبتناه من "ط" وحده بنحوه، وهو بين معقوفتين.(3/352)
{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [الْبَقَرَةِ: 283] ، ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 284] ؛ فَحَصَلَ أَنَّ ذَلِكَ من باب
__________
= مخرجة لما عدا العزم الذي في الوسع اجتنابه، ويكون قوله: "فحصل أن ذلك من باب التخصيص ... إلخ" "صحيحا، لكن بما شرحناه، ويكون في الكلام سقط آخر قبل قوله: "فحصل" تقديره: وعلى فرض رواية الجثو وعدم مسايرة ابن عباس تكون آية: {لا يُكَلِّفُ} مخصصة أو مبينة لآية {وَإِنْ تُبْدُوا} لا ناسخة، ولا يخفى عليك أن الكلام لا يستقيم إلا بتقدير شيء ساقط منه؛ لأن ابن مسعود الذي يقول كما في البخاري ومسلم: "والله الذي لا إله إلا هو؛ ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تعالى تبلغه الإبل؛ لركبت إليه"، الذي يقول ذلك لا يقول: إنها منسوخة بدليل أن ابن عباس فسر الآية، ولكنه إذا قال بالنسخ؛ فإنما يقول بعلمه هو.
هذا وقد روى البغوي* في "تفسيره" [1/ 514] بجملة طرق؛ أن ابن عباس يقول: إنها منسوخة بآية: {لا يُكَلِّفُ} راويا حديث جثو الصحابة وشدة ما لحقهم بسبب هذه الآية، ومعنى كونها منسوخة على رأيه هذا أن تكون مخصوصة أو مبنية بها على ما شرحناه، ولم يذكر البغوي عنه الوجه الذي ذكره المؤلف من رجوعها إلى قوله: {وَلا تَكْتُمُوا} ، بل ذكر وجها آخر عنه: إنها محكمة على أن معنى يحاسبكم يخبركم به، وأن الحساب لا يستلزم العقاب، وأنها تتلاقى مع حديث: "فأما المؤمن؛ فيقول له ربه: ألم تفعل كذا، ألم تفعل كذا؟ ثم يقول: سترتها عليك في الدنيا واليوم أغفرها لك، وأما الفاجر؛ فيحاسبه على شركه وكفره"، وهذا معنى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} ، ولا شك أن هذا غير ما نقله المؤلف عنه هنا. "د".
2 أخرج أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 502"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 247"، وابن جرير في "التفسير" "رقم 6450، 6454" من طريق يزيد بن أبي زياد عن مِقْسم عن ابن عباس في هذه الآية؛ قال: "نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها".
ويزيد ضعيف، كبر فتغير، صار يتلقن، وكان شيعيًا، ومقسم صدوق، وكان يرسل؛ فالأثر ضعيف.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "رقم 6449" من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس.
3 في "ط": "إذ قد تقدم".
__________
* أورد ذلك من غير إسناد، وقد سبق أن خرجناه؛ فاقتضى التنبيه.(3/353)
تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، أَوْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النُّورِ: 31] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ1 بِقَوْلِهِ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} الْآيَةَ [النُّورِ: 60] ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، إِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعُمُومِ.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 5] أَنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2 [الْأَنْعَامِ: 121] ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ [أَنَّ] 3 طَعَامَهُمْ حَلَالٌ بِشَرْطِ التَّسْمِيَةِ؛ فَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ4، لَكِنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ هِيَ آيَةُ الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ في الوجه الأول، وفي الثاني بالعكس5.
__________
1 أخرج نحوه ابن جرير في "التفسير" "18/ 165"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص200"، وقال: "وكذلك قال الضحاك، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الآية فيمن يخاف الافتتان بها، وهذه الآية في العجائز؛ فلا نسخ"، وحكاه ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 317-318"، وقال مكي في "الإيضاح" "366": "فهذا بالتخصيص أشبه منه بالنسخ".
2 حكاه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص145"، ومكي في "الإيضاح" "ص261" عن أبي الدرداء وعبادة، وحكاه ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 214-215" عن عكرمة، وحكاه ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "156" عن جماعة منهم الحسن وعكرمة، ورجحوا جميعا أن المراد بالنسخ إن صح؛ التخصيص.
3 زيادة من "د" و"ط"، وسقطت من الأصل و"م" و"ف".
4 في "ف": "تخصيص"، وقال: "لعله التخصيص"، وفي "ط": "تخصيص العموم".
5 إلا أنه يتوقف على صحة تخصيص المتقدم للمتأخر؛ لأن سورة المائدة متأخرة عن الأنعام، وهو رأي الأكثر، يقولون: يخصص العام بالخاص مطلقًا تقدم أو تأخر، وقال بعضهم: لا يخصص الكتاب الكتاب مطلقًا تقدم المخصص أو تأخر، وقال إمام الحرمين وأبو حنيفة: "إنما يتخصص العام بالخاص إذا تقدم العام في التاريخ، وإلا كان العام المتأخر ناسخًا". "د".(3/354)
وَقَالَ عَطَاءٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الْأَنْفَالِ: 16] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الْأَنْفَالِ: 65] إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ1، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ، وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ} ؛ فَكَأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ وَكَانُوا مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَلَا تَعَارُضَ وَلَا نَسْخَ بِالْإِطْلَاقِ2 الْأَخِيرِ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 24] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ [عَلَى] خَالَتِهَا3، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ العموم.
__________
1 حكماء النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص184"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 226-228"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص165-166"، وقال: "وقال آخرون: هي محكمة، وهذا هو الصحيح؛ لأنها محكمة في النهي عن الفرار؛ فيحمل النهي على ما إذا كان العدو أعلى من عدد المسلمين، وقد ذهب إلى نحو هذا ابن جرير".
قلت: وذلك في "تفسيره" "9/ 135"، وخطأ ابن العربي في "أحكام القرآن" "2/ 366" القول بالنسخ، وقال عنه: "وهذا خطأ من قائله؛ لأن المسلمين كانوا يوم بدر ثلاث مائة ونيفا، والكفار كانوا تسع مائة ونيفا؛ فكان للواحد ثلاثة، وأما هذه المقابلة -وهي الواحد بالعشر- فلم ينقل أن المسلمين صافوا المشركين عليها قط، ولكن البارئ فرض ذلك عليهم أولا، وعلله بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه، وهو الثواب، وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه، ثم نسخ ذلك، قال ابن عباس: كان هذا ثم نسخ بعد مدة طويلة وإن كانت إلى جنبها".
2 في "ط": "بإطلاق".
وانظر: "فهم القرآن" "459-460" للمحاسبي، و"الإيضاح" "ص296-297".
3 انظر: "الناسخ والمنسوخ" "ص122" للنحاس، ومضى تخريج حديث الجمع بين المرأة وعمتها في "ص82" وهو في "الصحيحين"، وأفاد ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 162" ما عند المصنف، وزاد أيضا على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها؛ فقال: "ومن حرم من جهة الرضاع غير الأم والأخت".
وانظر: "نواسخ القرآن" "124" لابن الجوزي، و"الإيضاح" "ص218-219" لمكي بن أبي طالب، وما بين المعقوفتين ليست في "د".(3/355)
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فِي قَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشُّورَى: 5] : نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي غَافِرٍ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} 1 [غَافِرٍ: 7] .
وَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ آيَةَ غَافِرٍ مُبَيِّنَةٌ لِآيَةِ الشُّورَى؛ إِذْ هُوَ خَبَرٌ مَحْضٌ2، وَالْأَخْبَارُ لَا نَسْخَ فِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ: "هَذَا لَا يَقَعُ فيه3 نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نُسْخَةِ4 تِلْكَ الْآيَةِ، لَا5 فَرْقَ بَيْنَهُمَا، يَعْنِي أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِحْدَاهُمَا تُبَيِّنُ الْأُخْرَى".
قَالَ: "وَكَذَا6 يَجِبُ أَنْ يُتَأَوَّلَ لِلْعُلَمَاءِ، وَلَا يُتَأَوَّلُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ العظيم، إذا كان لما قالوه وجه".
__________
1 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص253"، وحكاه ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص218" عن ابن منبه والسدي ومقاتل بن سليمان، وقال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 351، 354-355": "ليس هذا نسخًا، إنما هو تخصيص عموم، والتخصيص يدخل في العموم؛ كان جزاء أو تكليفا باتفاق".
قلت: ويلزم من القول بالنسخ أن الملائكة استغفرت أولا للمشركين، وهذا كذب لأن الله جل وعز يقول: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، ولم يكن الملائكة يشفعون لمن في الأرض ممن قد علموا أن الله لا يغفر له أبدا، قاله المحاسبي في كتابه "فهم القرآن" "474-475"، وانظر كلامه أيضا: "358-359"، وكلام مكي بن أبي طالب في "الإيضاح" "ص399".
وورد في غير "د": "التي في الطور"، وهو خطأ.
2 أي: ولا يؤول إلى تكليف حتى يدخله النسخ؛ إذ لو كان بمعنى الأمر لصح دخول النسخ فيه. "د".
3 هكذا في "الناسخ والمنسوخ" لابن النحاس و"ط"، "وفي الأصل وباقي النسخ: فيها".
4 وهل قرأها ابن النحاس: "نسختها" اسما مبتدأ خبره الآية التي ... إلخ، أم قرأها فعلا؟ الأول أقرب إلى غرضه، وأيسر في تأويله كلامه. "د".
قلت: الكلمة جاءت في "م": "نسق".
5 في "ط": "لأنه لا".
6 في "ط": "وكذلك".(3/356)
قَالَ: "وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشُّورَى: 5] ؛ قَالَ: لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ"1.
وَعَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الْآيَةَ: [التَّوْبَةِ: 34] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 2 [التَّوْبَةِ: 103] ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ3 لِمَا يُسَمَّى كَنْزًا، وَأَنَّ الْمَالَ إِذَا أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ لَا يُسَمَّى كَنْزًا، وَبَقِيَ مَا لَمْ يُزَكَّ دَاخِلًا تَحْتَ التَّسْمِيَةِ؛ فَلَيْسَ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 102] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 4 [التَّغَابُنِ: 16] ، وَقَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ5، وَهَذَا مِنَ الطِّرَازِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الآيتين مدنيتان، ولم
__________
1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 190" -ومن طريقه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "253"- والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "ص428".
2 حكاه مكي في "الإيضاح" "ص314"، وابن العربي في "أحكام القرآن" "2/ 930"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 259"، وأسنده ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص154" عن عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ به.
3 بدليل الأحاديث والآثار الكثيرة الواردة في أن الكنز هو الذي لا تؤدى زكاته، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} ، 8/ 324/ رقم 4661" عن خالد بن أسلم؛ قال: "خرجنا مع عبد الله بن عمر؛ فقال: هذا قبل أن تنزل الزكاة؛ فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال".
4 أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 128"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص107"، والمحاسبي في "فهم القرآن" "ص470"، وابن جرير في "التفسير" "7/ 68، 69/ رقم 7557 - ط شاكر"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "107".
5 قاله مكي في "الإيضاح" "ص203"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ =(3/357)
تَنْزِلَا إِلَّا بَعْدَ تَقْرِيرِ أَنَّ الدِّينَ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ مَرْفُوعٌ فَصَارَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 102] : فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التَّغَابُنِ: 16] ؛ فَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالنَّسْخِ أَنَّ إِطْلَاقَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مقيدة بِسُورَةِ التَّغَابُنِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [الْبَقَرَةِ: 228] : إِنَّهُ نَسَخَ1 مِنْ ذَلِكَ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، بِقَوْلِهِ: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الْأَحْزَابِ: 49] ، وَالَّتِي يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ وَالَّتِي لَمْ تَحِضْ بَعْدُ وَالْحَامِلَ بِقَوْلِهِ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُر.....} إِلَى قَوْلِهِ: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 2 [الطَّلَاقِ: 4] .
وقال ابن عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ فِي قَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ،
__________
= 126"، والقرطبي في "تفسيره" "4/ 157"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "108" و"زاد المسير" "1/ 432"، وقال: "قال شيخنا علي بن عبد الله: والاختلاف في نسخها وإحكامها يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها؛ فالمعتقد نسخها يرى أن {حَقَّ تُقَاتِهِ} الوقوف مع جميع ما يجب له ويستحقه، وهذا يعجز الكل عن الوفاء به؛ فتحصيله من الواحد ممتنع، والمعتقد إحكامها يرى أن {حَقَّ تُقَاتِهِ} أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته؛ فكان قوله تعالى: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} مفسرا لـ {حَقَّ تُقَاتِهِ} ، لا ناسخا ولا مخصصا.
1 يريد: وحكمه يجري على ما سبق من أنه بيان وتخصيص. "د".
2 ذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص76"، ومكي في "الإيضاح" "ص176"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 84-85"، وأسنده عن قتادة ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "86-87"، وقال: "واعلم أن القول الصحيح المعتمد عليه أن هذه الآية كلها محكمة؛ لأن أولها عام في المطلقات، وما ورد في الحامل، والآيسة والصغيرة؛ فهو مخصوص من جملة العموم، وليس على سبيل النسخ، وأما الارتجاع؛ فإن الرجعية زوجة". وانظر: "فهم القرآن" "419-420" للمحاسبي.(3/358)
وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الْكَهْفِ: 29] ، وَقَوْلِهِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التَّكْوِيرِ: 28] : إِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِيرِ: 29] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَهُوَ مَعْنَى لَا يَصِحُّ نَسْخُهُ؛ فَالْمُرَادُ1 أَنَّ إِسْنَادَ الْمَشِيئَةِ لِلْعِبَادِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ هِيَ مُقَيَّدَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ2.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التَّوْبَةِ: 97] ، وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} [التَّوْبَةِ: 98] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [التوبة: 99] 3، وهذا من
__________
1 يستأنس بهذا لتصحيح النقص الذي أشرنا إليه في المسألة الثانية من المتشابه. "د".
2 قال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 352" عند هذا الموطن: "وقد سقط فيها ابن حبيب لليدين والفم؛ حتى تكلم فيها بأمر لم تعلم حقيقته ولم تفهم"، ثم سرد قوله الذي ذكره المصنف، وقال: "وهذا جهل عظام، وخطب جسام؛ فإن الحقائق لا تنسخ لا سيما إذا كانت في العقائد، وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} عقيدة حق، وكلمة صدق، ولم تزل الحقيقة كذلك ولا تزال، ولم يختلف قط هذا بحال حتى يمحى في حالة ويثبت في أخرى، كما أن قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} ، وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} عقيدة حق وكلمة صدق، متفقة متسقة، غير مختلفة ولا مفترقة"، وذكر نحو ما عند المصنف.
وانظر أيضا: "2/ 287"، و"نواسخ القرآن" "ص215".
3 قال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 261" عند هذا الموطن: "لقد مني ابن حبيب بالوهم أو بنقل ما لم يقل عنه، ومني بالرد ممن لا يعلم، قال بعضهم: وهذا خبر لا ينسخ، ومتى بلغنا إلى هذا الحد؟ وليست الآية في شيء من هذا الغرض، إنما سميت براءة: الفاضحة؛ لأنه لم يزل ينزل: ومنهم، ومنهم ... حتى ظننا أنها لا تبقي أحدا؛ فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} ، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} ، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} ، {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} ، ومن الأعراب من يكره الغزو، يرى أن الذي ينفقه مغرم، ومنهم من يرى أن الذي ينفقه قربة ... "، ثم قال: "فأي نسخ في هذا لولا التسور على الدين، والتصور بصورة علماء المسلمين، والله ينصرنا بالحق، ويشرح صدورنا للعلم برحمته".
وانظر لزاما: "أحكام القرآن" "2/ 1011-1012" له.(3/359)
الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا يَصِحُّ نَسْخُهَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عموم1 الأعراب مخصوص فيمن2 كَفَرَ دُونَ مَنْ آمَنَ.
وَقَالَ أَبُو عَبِيدٍ3 وَغَيْرُهُ: إِنَّ قَوْلَهُ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ
__________
1 أي: في الآية الأولى مخصوص بالآية الأخيرة، أما الآية الوسطى مع الأخيرة؛ فلا تعارض بينهما لأن كلا منهما صريح في بعض الأعراب؛ فلا يتوهم فيهما نسخ ولا تخصيص. "د".
2 في "د": "بمن".
3 سرد الآثار والأقوال في المسألة في كتابه "الناسخ والمنسوخ" "ص147-154"، ثم قال بعد أن ذكر أن شهادة التائب من القذف جائزة ما نصه: "وهذا قول أهل الحجاز جميعا، وأما أهل العراق؛ فيرون شهادته غير مقبولة أبدا وإن تاب، وكلا الفريقين إنما تأول فيما نرى الآية؛ فالذي لا يقبلها يذهب إلى أن الكلام انقطع من عند قوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ، ثم استأنف؛ فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ؛ فأوقع التوبة على الفسق خاصة دون الشهادة، وأما الآخرون؛ فذهبوا إلى أن الكلام بعضه معطوف على بعض، فقال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، ثم أوقعوا الاستثناء في التوبة على كل الكلام، ورأوا أنه منتظم له".
ثم قال: "والذي يختار هذا القول؛ لأن من قال به أكثر وأعلى، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمن وراءه مع أنه في النظر على هذا أصح، ولا يكون المتكلم بالفاحشة أعظم جرما من راكبها، ألا ترى أنهم لا يختلفون في العاهر أنه مقبول الشهادة إذا تاب؟ فراميه بها أيسر جرمًا إذا نزع عما قال وأكذب نفسه؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله عز وجل التوبة من عبده كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن، من ذلك قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} ، ثم قال بعد ذلك: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ؛ فليس يختلف المسلمون أن هذا الاستثناء ناسخ للآية من أولها، وأن التوبة لهؤلاء جميعا بمنزلة واحدة، وكذلك قوله عز وجل في الطهور حين قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} ، ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ؛ فصار التيمم لاحقا بمن وجب عليه الاغتسال كما لحق من وجب عليه الوضوء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر عمارا وأبا ذر بذلك، وعلى هذا المعنى تأول من رأى شهادة القاذف جائزة؛ لأنه كلام واحد بعضه معطوف على بعض وبعضه تابع بعضا، ثم انتظمه الاستثناء وأحاط به".(3/360)
الْفَاسِقُونَ} [النُّورِ: 4] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الْآيَةَ [النُّورِ: 5] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ1 مِثْلُهُ.
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزُّمَرِ: 53] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 2 الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 48] ، [وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 93] ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ.
وَفِي قَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}
__________
1 أخرج أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 275"، وابن جرير في "التفسير" "18/ 62"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 153" عن ابن عباس في قَوْلَهُ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، قال: ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ، قال: "فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله عز وجل تقبل". وهذا ليس بنسخ، وإنما هو استثناء.
وانظر: "أحكام القرآن" "3/ 1327"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 313-315"، كلاهما لابن العربي، و"نواسخ القرآن" "199" لابن الجوزي، و"فهم القرآن" "ص466-467" للمحاسبي، و"الإيضاح" "ص364" لمكي بن أبي طالب.
2 انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد "رقم 479"، و"الإيضاح" "ص398" لمكي، و"تفسير ابن جرير" "8/ 101/ رقم 8867 - ط شاكر"، و"فهم القرآن" "471" للمحاسبي.
وقال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 350" بعد كلام: ".... فصارت الآية من جميع هذه الوجوه ساقطة في باب النسخ، ضعيفة في باب التخصيص، والله أعلم".
3 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة، وأثبته من الأصل و"ط" و"الإيضاح" "ص398".(3/361)
[الْأَنْبِيَاءِ: 98] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ:1 بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 2 [الْأَنْبِيَاءِ: 101] .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] منسوخ بها
__________
1 لأن من المعبودين عيسى وأمه كثيرا من الملائكة. "د".
2 أخرج الطبراني في "الكبير" "12/ 153/ رقم 12739"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1758 - موارد"، ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 173، 174" بسنده إلى ابن عباس؛ قال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ، قال عبد الله بن الزبعرى: أنا أخصم لكم محمدا؛ فقال: يا محمد! أليس فيما أنزل الله عليك {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ؟ قال: "نعم". قال: فهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيزا، وهذه بنو تميم تعبد الملائكة؛ فهؤلاء في النار؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} .
وفي إسناده عاصم بن بهدلة، ضعفه جماعة.
وأخرجه البزار من طريق آخر عن ابن عباس، وفيه: "ثم نسختها {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ ... } "، وفيه شرحبيل بن سعد مولى الأنصار، وثقه ابن حبان، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات، قاله الهيثمي في "المجمع" "7/ 68".
وأخرجه من طرق أخرى: الحاكم في "المستدرك" "2/ 385"، وابن جرير في "التفسير" "17/ 97"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص206"، والهروي في "ذم الكلام" "ص165"، وابن أبي حاتم والحارث بن أبي أسامة وابن مردويه في "تفاسيرهم"، ومن طريق ابن مردويه والواحدي والحارث ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 172"، والضياء في "المختارة"، والخبر عند ابن هشام في "السيرة" "1/ 259"، وابن كثير في "البداية والنهاية" "3/ 88-89"، وقال عنه في "تحفة الطالب" "رقم 235": "مشهور في كتب التفسير والسير والمغازي"، وسيأتي لفظه بتمامه عند المصنف "4/ 24"، وقال ابن حجر: "هذا حديث حسن".
وانظر: "الإيضاح" "ص93، 351-352"، و"فهم القرآن" "ص357 و473" للمحاسبي.(3/362)
أَيْضًا1، وَهُوَ إِطْلَاقُ النَّسْخِ فِي الْأَخْبَارِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
قَالَ مَكِّيٌّ2: "وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ هَذَا لَوْ نُسِخَ لَوَجَبَ زَوَالُ حُكْمِ دُخُولِ الْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كُلِّهِمُ النَّارَ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إِزَالَةُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَحُلُولُ3 الثَّانِي مَحَلَّهُ، وَلَا يَجُوزُ زَوَالُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا بِكُلِّيَّتِهِ، إنما زال بعضه؛ فهو تخصيص4 وبيان".
__________
1 أي: وكأن الأول ما حصل، وهو وإن لم يفد أنهم ومعبودهم ممن سبقت لهم الحسنى؛ إلا أنه قد زال كونهم حصب جهنم، وهو غير صحيح، هذا مراده. "د".
قلت: قال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 303" بعد كلام: "وهذا يبطل أن يكون ناسخا من وجهين ظاهرين:
أحدهما: أن الأول عموم، والثاني خصوص؛ والخصوص لا ينسخ العموم، وإنما يخصه.
الثاني: أن هذا ليس بتكليف بحكم ولا بفعل تعلق بأمر ونهي، وإنما هو وعيد ووعد، وليس فيها نسخ؛ إلا على الوجه الذي قدرناه من ارتفاع سبب الوعيد ليرتفع الوعيد بارتفاع سببه، وهذا بين لمن تأمله، والله أعلم".
2 انظر: "زاد المسير" "5/ 256"، و"تفسير القرطبي" "11/ 136"، و"الوسيط" "3/ 190"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 289-291" لابن العربي، و"نواسخ القرآن" "ص193"، وفيه: "وهذا من أفحش الإقدام على الكلام في كتاب الله سبحانه بالجهل، وهل بين الآيتين تناف؟ فإن الأولى تثبت أن الكل يردونها، والثانية تثبت أنه ينجو منهم من اتقى، ثم هما خبران، والأخبار لا تنسخ".
3 في تفسيره "الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره"، ونحوه في "الإيضاح" "ص93، 345-346".
4 أي: لمن يدخل النار من المعبودين، ويبقى الكلام في ورودها؛ فهل هو مخصص أيضا بآية: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} مع أن آية الورود فيها ما يفيد بقاء عمومها، وهو قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} ؟ وهو الذي يفيده حديث مسلم: "لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة أحد". فقالت حفصة: بلى يا رسول الله. فانتهرها، فقالت: وإن منكم إلا واردها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية ". وكذا حديث ابن مسعود، راجع: "التيسير" في الآيتين، وعليه؛ فالآية الثانية لا يتعلق بها نسخ ولا تخصيص، وهذا هو الذي درج عليه شراح الحديث. "د".(3/363)
وَفِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا 1 أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ: [النِّسَاءِ: 2] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 25] ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِشَرْطِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ2.
وَالْأَمْثِلَةُ هُنَا كَثِيرَةٌ تُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ النَّسْخِ بَيَانُ مَا3 فِي تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ مُجَرَّدِ ظَاهِرِهِ4 إِشْكَالٌ وَإِيهَامٌ لِمَعْنًى غَيْرِ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ؛ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ إِطْلَاقِ الْأُصُولِيِّينَ؛ فَلْيُفْهَمْ هَذَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
__________
1 المراد بالطول الغنى والسعة كما فسره ابن عباس ومجاهد، والمراد بالمحصنات المؤمنات هنا الحرائر. "ف".
2 انظر: "الإيضاح" "ص219-220" لمكي بن أبي طالب، و"أحكام القرآن" "1/ 394" لابن العربي.
3 لفظ "ما" واقع على الدليل من الكتاب أو السنة، ومعنى الكلام حينئذ واضح، لا حاجة فيه إلى حذف ولا تغيير في لفظه. "د".
4 هكذا في الأصل و"د" و"ط" و"ف"، وعلق "ف": "لعله من مجرد ظاهرها من إشكال، تأمل" ا. هـ. وهكذا أثبتها "م".(3/364)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ لَمْ يَقَعْ1 فِيهَا نَسْخٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النَّسْخُ فِي أُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ بِدَلِيلِ الِاسْتِقْرَاءِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَعُودُ بِالْحِفْظِ عَلَى الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ ثَابِتٌ، وَإِنْ فُرِضَ نَسْخُ بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا؛ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَجْهٍ آخَرَ مِنَ الْحِفْظِ، وَإِنْ فُرِضَ النَّسْخُ فِي بَعْضِهَا إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ؛ فَأَصْلُ الْحِفْظِ باقٍ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْجِنْسِ رَفْعُ الْجِنْسِ.
بَلْ زَعَمَ الْأُصُولِيُّونَ2 أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ مُرَاعَاةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَوْجُهُ الْحِفْظِ بِحَسَبِ كُلِّ مِلَّةٍ، وَهَكَذَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ فِي الْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ، وَقَدْ قَالَ3 اللَّهُ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] .
وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الْأَحْقَافِ: 35] .
وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ كَثِيرٍ4 مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الْأَنْعَامِ: 90] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} الآية [المائدة:
__________
1 هذا الكلام سبق، ولكنه أعاده مقدمة لقوله بعد: "بل زعم الأصوليون"، واستدلاله بالآيات على كلام الأصوليين. "د".
2 انظر: "تعليل الأحكام" "285" للشلبي، و"المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" "ص155" ليوسف العالم.
3 ففي الآية الأولى إقامة أصل الدين وعدم التفرق فيه، وفي الثانية الصبر وهو من مكارم الأخلاق، وهكذا الآيات بعدها فيها أصول الصلاة، والصيام، وإنفاق المال للفقراء، والقصاص "د".
4 في "ط": "كثيرا".(3/365)
وَكَثِيرٌ مِنَ الْآيَاتِ أُخْبِرَ فِيهَا بِأَحْكَامٍ كُلِّيَّةٍ كَانَتْ فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهِيَ فِي شَرِيعَتِنَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الْحَجِّ: 78] .
وَقَالَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] .
وَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 183] .
وَقَالَ: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17] .
وقال: {كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس} [الْمَائِدَةِ: 45] .
إِلَى سَائِرٍ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الضَّرُورِيَّاتِ.
وَكَذَلِكَ الْحَاجِيَّاتُ؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يُكَلَّفُوا بِمَا لَا يُطَاقُ، هَذَا وَإِنْ كَانُوا قَدْ كُلِّفُوا بِأُمُورٍ شَاقَّةٍ؛ فَذَلِكَ لَا يَرْفَعُ أَصْلَ اعتبار الحاجيات، ومثل ذلك التحسينات؛ فقد قال تعالى1: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 29] ، وَقَوْلُهُ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الْأَنْعَامِ: 90] يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ دُخُولَ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ؛ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
__________
1 انظر كيف يعد ما في هذه الآية من ضد التحسينات ومكارم الأخلاق، لا من ضد الضروريات، لا سيما قطع السبيل. "د".
وكتب "م" ما نصه: "في اعتبار المؤلف ما ذكر في الآية من باب الحاجيات نظر، فإن بعضها على الأقل من باب الضروريات؛ فتأمل، والله يعصمك".(3/366)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [الْمَائِدَةِ: 48] ؛ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ1 عَلَى الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، وَبِهِ تَجْتَمِعُ مَعَانِي الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، فَإِذَا كَانَتِ الشَّرَائِعُ قَدِ اتَّفَقَتْ فِي الْأُصُولِ مَعَ وُقُوعِ النَّسْخِ فِيهَا وَثَبَتَتْ وَلَمْ تُنْسَخْ؛ فَهِيَ فِي الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ الْجَامِعَةِ لِمَحَاسِنِ الْمِلَلِ أَوْلَى2، وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم.
__________
1 أي: فيحمل عليه بخصوصه بحيث لا يتناول الكليات، لا سيما الضروريات المحفوظة في كل ملة وإن اختلفت تفاصيل الحفظ. "د".
2 انظر التوسع في هذا عند ابن تيمية: "قاعدة في توحد الملة وتعدد الشرائع" مطبوع وضمن "مجموع الفتاوى" له "19/ 106-128"، و"مجموعة الرسائل المنيرية" "3/ 128-165"، والشوكاني في رسالته المطبوعة "إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع"، وانظر منها "ص19-27، 48 وما بعدها"، وابن العربي في "أحكامه" "4/ 1654-1655"، والقسطلاني في "إرشاد الساري" "5/ 416".
وانظر في عدم جواز النسخ في الأخبار: "درء تعارض العقل والنقل" "5/ 208"، و"أحكام أهل الذمة" "2/ 590-591"، و"فهم القرآن" "359" للمحاسبي.(3/367)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَسْتَلْزِمُ طَلَبًا وَإِرَادَةً1 مِنَ الْآمِرِ؛ فَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِرَادَةَ إِيقَاعِهِ، وَالنَّهْيُ يَتَضَمَّنُ طَلَبًا لِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عنه وإرادة لعدم إيقاعه، ومع
__________
1 ليس المراد بها أثر الصفة التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه؛ لأن هذه لا تلازم الأمر عند أهل السنة كما سيقول، بل ذلك عند المعتزلة؛ حتى اضطروا إلى التزام أنه تعالى يريد الشيء ولا يقع ويقع وهو لا يريده، وقد استدل السنيون بجملة أدلة منها إيمان أبي لهب مطلوب بالاتفاق، وهو ممتنع الوقوع، وإلا؛ لانقلب العلم جهلا، وإذا كان ممتنعا؛ فلا تصح إرادته بالاتفاق منا ومنهم، وقد اعترف أبو علي وابنه أبو هاشم بأن الطلب غير الإرادة، قال ابن برهان: "لنا ثلاث إرادات: إرادة إيجاد الصيغة، وإرادة صرف اللفظ عن غير جهة الأمر، وإرادة الامتثال"، والأخيرة هي محل النزاع بيننا وبين أبي علي وابنه، وقد ذكر هذه الثلاث الغزالي والإمام، واحتج أبو علي بأن الصيغة كما ترد للطلب تأتي للتهديد، ولا فارق إلا الإرادة، وأجيب بأن التهديد مجاز، والمؤلف ذكر رابعا. "د".
قلت: انظر في المسألة: "البحر المحيط" "4/ 65"، و"المحصول" "2/ 19 وما بعدها"، و"التمهيد" "1/ 124"، و"المسودة" "54"، و"البرهان" "1/ 204"، و"المستصفى" "1/ 415"، و"التبصرة" "18"، و"روضة الناظر" "2/ 601"، والمقرر فيها جميعا أنه لا يشترط في كون الأمر أمرا إرادة الآمر، وهذا مذهب أهل السنة، ونسب إلى الآئمة الأربعة، وهو مذهب الجماهير وقول الأكثرين، والاشتراط مذهب المعتزلة؛ كما تراه في "المعتمد" "1/ 50"، و"المغني" "17/ 113-114" لعبد الجبار، والمتأمل في المسألة يعلم أن المصنف يفصل في المسألة كما سيأتي، وأن الخلاف من باب "لا مشاحة في الاصطلاح" على حد تعبيره.(3/369)
هَذَا؛ فَفِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَتَضَمَّنَانِ أَوْ يَسْتَلْزِمَانِ إِرَادَةً1، بِهَا يَقَعُ الْفِعْلُ أو الترك أو لا يقع.
ويبان ذَلِكَ أَنَّ الْإِرَادَةَ جَاءَتْ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ2:
أَحَدُهُمَا 3:
الْإِرَادَةُ الخَلْقية الْقَدَرِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِكُلِّ مُرَادٍ؛ فَمَا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهُ كَانَ، وَمَا أَرَادَ أَنْ لَا يَكُونَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَوْنِهِ، -أَوْ تَقُولُ-4: وَمَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ؛ فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَوْنِهِ.
وَالثَّانِي:
الْإِرَادَةُ الْأَمْرِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ5 بِطَلَبِ إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَعَدَمِ إيقاع
__________
1 أي: من المأمور والمنهي؛ لأنه بإرادته يقع الفعل أو لا يقع، وإن كانت إرادته لا تكون نافذة إلا بمشيئة الله، وما تشاءون إلا أن يشاء الله. "د".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "2/ 412-414 و8/ 58-61، 8/ 159-161، 187-190، 197-200، 440-442، 476-478 و10/ 24-27 و11/ 266 و17/ 62-65".
3 في الأصل: "إحداهما".
4 التشقيق في العبارة مبني على أن الأعدام التي لا توجد؛ هل تعلقت الإرادة بألا توجد، أو أنه لم تتعلق الإرادة بوجودها فقط؟ وليس بلازم تعلقها بعدم الوجود كما قالوه في المكلف به في النهي الكف أو نفي الفعل، فمن قال: نفي الفعل؛ قيل عليه: إنه عدم لا يصلح أثرا للقدرة، يعني: ولا يصلح أثرا للإرادة فيجيب بأنه يصلح؛ إذ يمكنه ألا يفعل فيستمر العدم، ويمكنه أن يفعل فلا يستمر؛ فيصلح العدم أن يكون متعلقًا للقدرة والإرادة، وعليه؛ فالعبارة الثانية أوسع في الشمول من الأولى. "د".
5 ظاهره أن الإرادة تنص على الطلب نفسه، مع أنه لو كان كذلك؛ لنافى غرضه من تعلقها بنفس المراد على معنى محبته والعناية بشأنه، ولكان هذا هو الذي أجاب به الفخر عن استشكال آية: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} كما سيأتي، مع أن جوابه مبني على المعنى الأول في الإرادة، لذلك يلزم فهمه على معنى أنها ملازمة للطلب، ويدل عليه قوله: "فتعلقت إرادته بالمعنى الثاني ... إلخ"، ولا ينافيه قوله بعد: "وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع"؛ لأنه يجب حمله على ما قرره هنا. "د".(3/370)
المنهي عنه، ومعنى هذه الإرادة أنه يجب1 فِعْلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَرْضَاهُ، [وَيُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمَأْمُورُ وَيَرْضَاهُ] 2 مِنْهُ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ3 النَّهْيُ يُحِبُّ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَيَرْضَاهُ.
فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ؛ فَتَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي بالأمر؛ إذ الأمر يستلزمها لأن حقيقته4 إِلْزَامِ الْمُكَلَّفِ الْفِعْلَ أَوِ التَّرْكَ5؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِلْزَامُ مُرَادًا، وَإِلَّا لَمْ يكن إلزاما ولا تصور لَهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ.
وَأَيْضًا؛ فَلَا يُمْكِنُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرِيدَ الْإِلْزَامَ مَعَ الْعُرُوِّ عَنْ إِرَادَةِ إِيقَاعِ الْمُلْزَمِ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَانَ أَهْلَ الطَّاعَةِ؛ فَكَانَ أَيْضًا مُرِيدًا لِوُقُوعِ الطَّاعَةِ مِنْهُمْ، فَوَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْقَدَرِيُّ، وَلَمْ يَعْنِ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ؛ فَلَمْ يُرِدْ وُقُوعَ الطَّاعَةِ مِنْهُمْ؛ فَكَانَ الْوَاقِعُ التَّرْكَ، وَهُوَ مُقْتَضَى إِرَادَتِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالْإِرَادَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا يَسْتَلْزِمُهَا الْأَمْرُ؛ فَقَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ، وَيَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ، وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي؛ فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يُرِيدُ، وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا لَا يُرِيدُ.
وَالْإِرَادَةُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ قَدْ جَاءَتْ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَقَالَ: تَعَالَى فِي الْأُولَى:
__________
1 في الأصل: "يجب" بياء وجيم، وهو تحريف، وصوابه: "يحب"، وكذا فيما بعده. "ف". قلت: ووقعت على الجادة في جميع النسخ.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 هكذا في الأصول و"ط"، قال "ف": "لعله: وكذلك [في] النهي" ا. هـ.
قلت: وقد أضافها "م" كعادته.
4 في "ط": "حقيقة".
5 في العبارة تسامح لا يخفى؛ فإن الترك ليس حقيقة الأمر. "ف".(3/371)
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 125] .
وَفِي حِكَايَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] .
وقال تعالى: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الْبَقَرَةِ: 253] .
وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا.
وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ 1 بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] .
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 6] .
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 26-28] .
__________
1 في الفخر: استدل به المعتزلة على أنه يقع من العبد ما لا يريده الله؛ لأنه إذا تكلف المريض وصام يكون قد فعل العسر الذي لم يرده الله، وأجاب بأنه لم يرد الأمر به وإن كان يريد نفس العسر، ولم أجد في "الآلوسي" ولا في "البغوي" أيضا تفسير الإرادة بالرضا والمحبة في هذه الآيات كما قاله المؤلف، ومتى ثبت له مستند من اللغة؛ كان أفضل حل لإشكالات المعتزلة في مثل هذه الآيات، أما صاحب "القاموس"؛ فقال: "الإرادة: المشيئة"، وأما شارحه؛ فلم يزد شيئا، وقال في "اللسان": "أراد الشيء: شاءه"، ثم قال: "أراد الشيء: أحبه، وعني به"؛ فتم للمؤلف ما أراد رحمه الله. "د".
قلت: انظر "التفسير الكبير" "5/ 78-79" للرازي.(3/372)
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الْأَحْزَابِ: 33] .
وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا أَيْضًا.
وَلِأَجْلِ عَدَمِ التَّنَبُّهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ وَقَعَ الْغَلَطُ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ فَرُبَّمَا نَفَى بَعْضُ النَّاسِ الْإِرَادَةَ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُطْلَقًا1، [وَرُبَّمَا نَفَاهَا بَعْضُهُمْ عَمَّا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ مُطْلَقًا وَأَثْبَتَهَا2 فِي الْأَمْرِ مُطْلَقًا] 3، وَمَنْ عَرَفَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَلْتَبِسْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَحَاصِلُ الْإِرَادَةِ الْأَمْرِيَّةِ أَنَّهَا إِرَادَةُ التَّشْرِيعِ4، وَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهَا بِإِطْلَاقٍ، وَالْإِرَادَةُ الْقَدَرِيَّةُ هِيَ إِرَادَةُ التَّكْوِينِ، فَإِذَا رَأَيْتَ فِي هَذَا التَّقْيِيدِ5 إِطْلَاقَ لَفْظِ الْقَصْدِ6 وَإِضَافَتِهِ إِلَى الشَّارِعِ؛ فَإِلَى مَعْنَى الْإِرَادَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ أُشِيرُ، وَهِيَ أَيْضًا إِرَادَةُ التَّكْلِيفِ، وهو شهير7 في عرف8 الْأُصُولِيِّينَ أَنْ يَقُولُوا: "إِرَادَةَ التَّكْوِينِ"، [وَيَعْنُونَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ إِرَادَةُ التَّكْلِيفِ] وَيَعْنُونَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي9 الَّذِي يَجْرِي ذِكْرُهُ بِلَفْظِ الْقَصْدِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، ولا مشاحة في الاصطلاح، والله المستعان.
__________
1 أخذا بظاهر رأي أهل السنة في عدم التلازم بين الأمر والإرادة، غافلا عن تعدد معنى الإرادة. "د".
2 أخذا بظاهر رأي المعتزلة في تضمن الأمر الإرادة أو استلزامه لها. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
4 أي: التي تقع في مقام التشريع كما في الآيات الأخيرة، ومثله يقال في قوله: "إرادة التكوين". "د".
5 أي: التصنيف، وهو هذا الكتاب. "ف".
6 وسترى منه في المسألة الثانية الشيء الكثير. "د".
7 لعل في العبارة تحريفا، وتحريرها: "وقد اشتهر فِي عِلْمِ الْأُصُولِيِّينَ أَنْ يَقُولُوا: إِرَادَةَ التَّكْوِينِ، ويعنون بها المعنى الثاني". "ف".
8 كذا في "ط"، وفي غيره: "علم".
9 فيطلقون إرادة التكوين على إرادة التشريع، وهو خلاف اصطلاح هذا الكتاب، وقد لا تخلوا العبارة من تحريف. "د". قلت: لا تحريف مع إثبات ما بين المعقوفتين، وهو من انفراد "ط".(3/373)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقَاتِ1 يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى إِيقَاعِهَا، كَمَا أَنَّ النَّهْيَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَهُ لِتَرْكِ إِيقَاعِهَا.
وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ وَاقْتِضَاءُ التَّرْكِ2، وَمَعْنَى الِاقْتِضَاءِ الطَّلَبُ، وَالطَّلَبُ يَسْتَلْزِمُ3 مَطْلُوبًا وَالْقَصْدُ4 لِإِيقَاعِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ، وَلَا مَعْنَى لِلطَّلَبِ إِلَّا هَذَا.
وَوَجْهٌ ثَانٍ أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ طَلَبٌ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ لِإِيقَاعِ الْمَطْلُوبِ لَأَمْكَنَ5 أَنْ يَرِدَ أَمْرٌ مَعَ الْقَصْدِ لِعَدَمِ إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَأَنْ يَرِدَ النهي مَعَ الْقَصْدِ لِإِيقَاعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ الْأَمْرُ أَمْرًا وَلَا النَّهْيُ نَهْيًا، هَذَا خُلْفٌ، وَلَصَحَّ6 انْقِلَابُ الْأَمْرِ نَهْيًا وَبِالْعَكْسِ، وَلَأَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى إِيقَاعِ فِعْلٍ أَوْ عَدِمَهُ7؛ فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُبَاحًا8 أَوْ مسكوتا عن
__________
1 انظر التقييد بالمطلقات؛ هل سببه أن الأمر دائما لا يكون إلا بمطلق، فيكون لبيان الواقع؟ "د".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "22/ 529-530".
2 أي: أو الكف، على الخلاف في معنى النهي. "د".
3 أي: لأنه معنى نسبي لا يتحقق إلا بطالب ومطلوب. "د".
4 هو عين الدعوى. "د".
5 لأن فرض ذلك حينئذ لا يكون محالا؛ فيتحقق حينئذ معنى الإمكان. "د".
6 لازم لقوله: "لأمكن ... إلخ"؛ فقد رتب على هذا الفرض في هذا الوجه ثلاثة لوازم باطلة: ألا يكون الأمر أمرا، وهو سلب الشيء عن نفسه، وانقلاب كل من الأمر والنهي إلى الآخر، وهو قلب الحقائق، والثالث أن يكون الْمَأْمُورُ بِهِ أَوِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُبَاحًا أَوْ مسكوتًا عن حكمه، وهو قلب للحقيقة أيضا. "د".
7 في "م": "وعدمه".
8 أي: إن اعتبر الأمر المذكور دليلًا شرعيًا لا قصد فيه لإيقاع الفعل ولا عدمه، وهذا هو حقيقة المباح، وقوله: "أو مسكوتًا عنه"؛ أي: إذا لم يعتبر دليلًا شرعيا رأسًا، وهذا الثاني توسيع في الغرض، وإلا؛ فأصل الكلام أن هناك صيغة لم يقصد بها إيقاع الفعل ولا عدمه، وهذا هو المباح لا غير، ومحل اللازم المحال قوله: "فيكون المأمور به أو المنهي عنه ... إلخ".(3/374)
حُكْمِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُحَالٌ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ هُوَ كَلَامُ السَّاهِي وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ بِاتِّفَاقٍ، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا:
أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ مَقْصُودًا إِلَى إِيقَاعِهِ؛ فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ، فَإِنَّ جَوَازَهُ يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الْقَصْدِ إِلَى إِيقَاعِهِ، وَالْقَصْدُ إِلَى إِيقَاعِ مَا لَا يُمْكِنُ1 إِيقَاعُهُ عَبَثٌ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ2 إِلَى الْأَمْرِ بِمَا لَا يُطَاقُ عَبَثًا، وَتَجْوِيزُ الْعَبَثِ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ؛ فَكُلُّ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ مُحَالٌ وَذَلِكَ اسْتِلْزَامُ الْقَصْدِ إِلَى الْإِيقَاعِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَمْرَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ إِلَى الْإِيقَاعِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَحْظُورٌ عَقْلِيٌّ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ.
__________
1 أي: عادة حتى يتكرر الحد الأوسط؛ فإن هذا هو ما لا يطاق الذي جوز التكليف به وإن لم يقع، أما ما لا يمكن عقلا؛ فلا، وسيأتي في قوله: "لأن حقيقته إلزام ما لا يقدر على فعله" ما يفيد ذلك. "د".
2 لو قال: فيلزم أن يكون الأمر الذي يلزمه القصد إلى إيقاع ما لا يطاق عبثًا؛ لكان أوضح، أو يحذف كلمة القصد ويكتفي عنها بقوله بعد: "وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع"؛ أي: وسبب المحال استلزام ... إلخ، ولكنه في الجواب الآتي يجعل القصد منصبًا على الأمر نفسه، لا على المأمور به، ويأتي للكلام بقية هناك؛ فتنبه. "د".(3/375)
وَالثَّانِي:
أَنَّ مِثْلَ1 هَذَا يَلْزَمُ فِي السَّيِّدِ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهَ بِحَضْرَةِ مَلِكٍ قَدْ تَوَعَّدَ السَّيِّدَ عَلَى ضَرْبِ عَبْدِهِ، زَاعِمًا أَنَّهُ لَا يُطِيعُهُ، وَطَلَبَ تَمْهِيدَ عُذْرِهِ بِمُشَاهَدَةِ الْمَلِكِ؛ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ الْعَبْدَ وَهُوَ غَيْرُ قَاصِدٍ لِإِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَا يَسْتَلْزِمُ قَصْدَهُ لِإِهْلَاكِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ2 لَا يَصْدُرُ مِنَ الْعُقَلَاءِ؛ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا وَهُوَ آمِرٌ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ؛ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ آمِرٍ قَاصِدًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ حَرْفًا بِحَرْفٍ3، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّ هَذَا لَازِمٌ فِي أَمْرِ التَّعْجِيزِ، نَحْوَ {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الْحَجِّ: 15] ، وَفِي أَمْرِ التَّهْدِيدِ نَحْوَ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فُصِّلَتْ: 40] ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعْجِزَ وَالْمُهَدِّدَ غَيْرُ قَاصِدٍ لِإِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي تِلْكَ الصِّيغَةِ.
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى إِيقَاعِ مَا لَا يُطَاقُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ حُصُولُهُ؛ إِذِ الْقَصْدُ إِلَى الْأَمْرِ4 بِالشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِرَادَةَ الشَّيْءِ، إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَمْرَ إِرَادَةُ الفعل، وهو رأي المعتزلة5،
__________
1 إنما قال "مثله"؛ لأنه مما يطاق، غاية ما فيه أنه لا يصدر عن العقلاء وإن أمكن؛ إلا أنه يشارك الأول في أن كلا لا يصدر عن العاقل. "د".
2 عورض هذا بأنه لا يصدر عن العاقل أيضا طلب تكذيب نفسه المؤدي لإهلاك نفسه في تصوير هذا، مع أنهم اتفقوا جميعا على دلالة الأمر على الطلب، وأنه لا ينفك عنه، وإن اختلفوا في استلزامه الإرادة؛ فما هو جوابهم فهو جوابنا. "د".
3 أي: في الإشكالين جميعا. "د".
4 أي: الذي يستلزم قصد إيقاعه لا يستلزم إرادة حصوله، ولا يخفى عليك أن لفظ القصد هنا ليس هو محل القصد في موضوع المسألة؛ لأنه في موضوع المسألة واقع على المطلوب، لا على نفس الأمر؛ فلا يشتبه عليك، ولو حذفه؛ لكان أظهر، وقد سبق نظيره. "د".
5 يقولون: إن الإرادة تستلزم الأمر والرضا والمحبة. "د".(3/376)
وَأَمَّا الْأَشَاعِرَةُ؛ فَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْإِرَادَةِ، وَإِلَّا وَقَعَتِ1 الْمَأْمُورَاتُ كُلُّهَا.
وَأَيْضًا، لَوْ فُرِضَ فِي تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ عَدَمُ الْقَصْدِ إِلَى إِيقَاعِهِ؛ لَمْ يَكُنْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ إِلْزَامُ فِعْلِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِلْزَامُ الْفِعْلِ هُوَ الْقَصْدُ إِلَى أَنْ يَفْعَلَ أَوْ لَازَمَ الْقَصْدَ إِلَى أن يفعل، فإذا عدم2 ذَلِكَ؛ فَلَا تَكْلِيفَ بِهِ؛ فَهُوَ طَلَبٌ لِلتَّحْصِيلِ3 لَا طَلَبٌ لِلْحُصُولِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَاضِحٌ.
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْأَسْئِلَةِ، فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ؛ فَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُحَصِّلَ4 مَا أَمَرَ بِهِ، وَلَمْ يَطْلُبْ حُصُولَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ طَلَبِ التَّحْصِيلِ وَطَلَبِ الحصول.
__________
1 أي: أو لم يقع ما يريده منها؛ فلم يقع مراد الله ووقع مراد عبده، ولا تخفى شناعته وإن التزمه المعتزلة. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "علم"، وقال "د": "لعل الأصل: "عدم" بالدال؛ أي: فحيث كان تكليف ما لا يطاق هو إلزام المكلف به، وإلزام الفعل هو قصد أن يفعل، فحيث يعدم القصد؛ فلا تكليف، وهو خلاف الفرض".
3 وتكون فائدة التكليف ابتلاء الشخص واختباره بتوجهه لمبادئ الامتثال أو عدم توجهه، وكان حقه أن يذكر هذا؛ لأنه في الحقيقة هو الجواب عن لزوم العبث، وأما كون حصوله غير مقصود؛ فهو مما يقوي العبث لا أنه يزيله ويدفعه. "د".
4 لا يخفى عليك ضعف هذا الجواب لأنه لا يطلب تحصيله أيضا؛ لأن العاقل لا يطلب تحصيل ما فيه هلاكه بمقتضى تصويره المسألة؛ فالأحسن ما قالوه، وهو أن هذا صيغة أمر لا حقيقته كما في أمر التعجيز والإباحة، ثم وجدت الاعتراض مقررا في المسألة من جانب المعتزلة بأن العاقل لا يطلب ما فيه مضرته وتحقيق عقابه؛ فما يكون جواب أصحابنا عند تفسير الأمر بالطلب يكون جوابًا للمعتزلة عن تفسيره بالإرادة، وإن كانت الإرادة عندهم يلزم في تخلف مرادها شناعة، انظر تقريره في "الإحكام" للآمدي [2/ 119] . "د".(3/377)
وَأَمَّا أَمْرُ التَّعْجِيزِ وَالتَّهْدِيدِ؛ فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ1 بِأَمْرٍ، وَإِنْ قِيلَ: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَجَازِ؛ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ2 إِذِ الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ مَجَازِيًّا فَيَسْتَلْزِمُ قَصْدًا بِهِ يَكُونُ3 أَمْرًا، فَيُتَصَوَّرُ4 وَجْهُ الْمَجَازِ، وَإِلَّا؛ فَلَا يَكُونُ أَمْرًا دُونَ قَصْدٍ إلى إيقاع المأمور به بوجه.
__________
1 ولذلك أخرجوه من تعريف الأمر بظهور أن المراد بالأمر الصيغة مرادًا منها ما يتبادر عند الإطلاق، وهو الطلب. "د".
2 أي: يجري على ما تقدم من أن المقصود التحصيل لا الحصول، وكلامه صريح في أن فرض كونه مجازا لا يفيد بمجرده في دفع الإشكال؛ لأنه يستلزم أيضًا القصد الذي يكون به أمر ... إلخ، وهذا إنما يظهر فيما لو جعلنا صيغة الخبر طلبًا ومجازًا؛ فيجيء فيه أنه لا بد من قصد إيقاع المطلوب، وموضوعنا بالعكس، وهو أن صيغة الأمر إذا أخرجت عما وضع له الأمر الحقيقي وهو الطلب رأسًا إلى معنى آخر كالإباحة والتهديد والتعجيز والتسخير ... إلخ؛ فليس هنا طلب يحتاج إلى قصد إيقاع المطلوب؛ فعليك بالتأمل. "د".
3 في "ط": "يكون به".
4 لا يتوقف وجه المجاز على هذا، راجع ما في الإسنوي في هذا المقام؛ فقد ذكر فيه القرائن والعلاقات بين معنى الأمر الموضوع له وبين المعاني الأخرى التي استعمل فيها لفظه. "د".(3/378)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ1 لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا:
أَنَّهُ لَوِ اسْتَلْزَمَ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ لَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالْمُطْلَقِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ، هَذَا خُلْفٌ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ الشَّارِعُ: "أَعْتِقْ رَقَبَةً"؛ فَمَعْنَاهُ أَعْتِقْ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَلَوْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ لَكَانَ مَعْنَاهُ: أَعْتِقِ الرَّقَبَةَ الْمُعَيَّنَةَ الْفُلَانِيَّةَ؛ فَلَا يكون أمرًا بمطلق ألبتة.
__________
1 أي: غير المقيد بقيد خاص اختلفوا فيه، قال في "الإحكام" "2/ 269": "قال أصحابنا: الأمر إنما تعلق بالماهية الكلية المشتركة، ولا تعلق له بشيء من جزئياتها، [وذلك] كالأمر بالبيع؛ فإنه لا يكون أمرا بالبيع بالغبن الفاحش ولا بثمن المثل؛ إذ هما متفقان في مسمى البيع، ومختلفان بصفتهما، والأمر إنما تعلق بالقدر المشترك، وهو غير مستلزم لما تخصص به كل واحد من الأمرين؛ فلا يكون الأمر المتعلق بالأعم متعلقا بالأخص؛ إلا أن تدل القرينة على إرادة أحد المعنيين"، ثم قال "2/ 270": "وهو غير صحيح؛ لأن ما به الاشتراك بين الجزئيات معنى كلي لا تصور لوجوده في الأعيان، وإلا كان موجودا في جزئياته، ويلزم من ذلك انحصار ما يصلح اشتراك كثيرين فيه فيما لا يصلح لذلك، وهو محال، وعلى هذا؛ فليس معنى اشتراك الجزيئات في المعني الكلي هو أن الحد المطابق للطبيعة الموصوفة بالكلية مطابق للطبيعة الجزئية، بل إن تصور وجوده؛ فليس في غير الأذهان"، ثم قال: "وطلب الشيء يستدعي كونه متصورا في نفس الطالب، وإيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه؛ فلا يكون متصورا في نفس الطالب، فلا يكون أمرا به، ولأنه يلزم منه التكليف بما لا يطاق، ومن أُمر بالفعل مطلقًا لا يقال: إنه مكلف بما لا يطاق، فإذًا الأمر لا يكون بغير الجزئيات الواقعة في الأعيان، لا بالمعنى الكلي" ا. هـ.
قال "د": "أما المؤلف؛ فله رأي آخر غير هذين الرأيين؛ كما سيتبين لك عند الجواب عن الإشكال الأول".
قلت: قرر شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "16/ 79" أنه "ليس تقييد المطلق رفعًا لظاهر اللفظ، بل ضم حكم آخر إليه"، وهذا وما قاله المصنف مسلك حسن؛ فإنه يجب الفرق بين ما يثبته اللفظ وبين ما ينفيه، وانظر: "المسودة" "ص149"، و"المحصول" "2/ 254".(3/379)
وَالثَّانِي:
أَنَّ الْأَمْرَ مِنْ بَابِ الثُّبُوتِ، وَثُبُوتُ الْأَعَمِّ لَا يَسْتَلْزِمُ [ثُبُوتَ] 1 الْأَخَصِّ؛ فَالْأَمْرُ بِالْأَعَمِّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْأَخَصِّ، وَهَذَا عَلَى اصْطِلَاحِ بَعْضِ2 الْأُصُولِيِّينَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْكُلِّيَّاتِ الذِّهْنِيَّةَ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا بِالْمُقَيَّدِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ3 مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا4؛ لَزِمَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ وُقُوعًا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَيَّنْ فِي النَّصِّ، وَلَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَأْمُورٍ، وَهَذَا مُحَالٌ5، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ؛ فَتَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لَازِمٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِمَجْهُولٍ، وَالْمَجْهُولُ لَا يُتَحَصَّلُ بِهِ امْتِثَالٌ؛ فَالتَّكْلِيفُ بِهِ مُحَالٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُقَيَّدِ؛ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ قَصْدُ الشَّارِعِ مُتَعَلِّقًا بِالْمُقَيَّدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُقَيَّدٌ6؛ فَلَا يَكُونُ مَقْصُودًا لَهُ لأنا قد فرضناه أَنَّ قَصْدَهُ إِيقَاعَ الْمُطْلَقِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ قصد في إيقاع المقيد؛ لم يكن
__________
1 سقط من "ط".
2 سيأتي له في الجواب أن المعتبر عند العرب غير ذلك، وهو ما يريد حمل الكلام عليه بعد، يعني: فهذا الدليل مبني على هذا الاصطلاح الذي لم يكن يبن كلامه عليه، وهو يضعف هذا الدليل. "د".
3 لا يلزم من كونه مقيدا بقيد مخصوص أن يكون معينا؛ لأن التعيين إنما يكون بتشخصه تشخصا تامًا لا اشتراك فيه، ومجرد التقييد بقيد مخصوص كتقييد البيع بثمن المثل لا يفيد هذا التشخص؛ فصح كلامه، ولا يقال: كيف يكون الفرض أنه أمر بمقيد، ويشقق فيه بين كونه معينا وغير معين؟ "د".
4 وهو جزئي من جزئيات لا تتناهى، ولم يعينه الشارع بنص؛ فالتكليف به حينئذ تكليف بما ليس في وسع المكلف الوصول إلى ما يعينه ويحدده ليمتثل بفعله. "د".
5 أي: محال أن يقع الشيء الواحد المعين من كل واحد من المأمورين؛ لأن الجزئي الذي يفعله زيد غير الذي يقوم به عمرو، وهكذا، ويكون التكليف به تكليفا بمحال، وإنما يلزم أن يكون هذا المعين بالنسبة إلى كل المأمورين لأنه المطلوب الموجه إلى سائرهم بلفظ واحد مطلق أريد منه هذا المعين كما هو الفرض. "د".
6 أما من حيث إنه فرد تحقق فيه المطلق المقصود إيقاعه فيتعلق به القصد. "د".(3/380)
قَصْدُهُ إِيقَاعَ الْمُطْلَقِ، هَذَا خُلْفٌ لَا يُمْكِنُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعَارَضٌ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا 1:
أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُطْلَقٌ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدِ؛ لَكَانَ التَّكْلِيفُ بِهِ مُحَالًا أَيْضًا لِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُوجَدُ في الخارج، وإنما مَوْجُودٌ فِي الذِّهْنِ، وَالْمُكَلَّفُ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُوجَدَ فِي الْخَارِجِ؛ إِذْ لَا يَقَعُ بِهِ الِامْتِثَالُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِهِ فِي الْخَارِجِ، وَإِذْ ذَاكَ يَصِيرُ مُقَيَّدًا [لَا مُطْلَقًا] 2؛ فَلَا يَكُونُ بِإِيقَاعِهِ مُمْتَثِلًا، وَالذِّهْنِيُّ لَا يُمْكِنُ إِيقَاعُهُ فِي الخارج؛ فيكون3 التَّكْلِيفُ بِهِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِهِ مُسْتَلْزِمًا لِلْأَمْرِ بِالْمُقَيَّدِ، وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ الْأَمْتِثَالُ؛ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، بَلِ الْقَوْلُ4 بِهِ.
وَالثَّانِي:
أَنَّ الْمُقَيَّدَ لَوْ لَمْ يُقْصَدْ فِي الْأَمْرِ بِالْمُطْلَقِ لَمْ5 يَخْتَلِفِ الثَّوَابُ بِاخْتِلَافِ الْأَفْرَادِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْمُكَلَّفِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ الْأَمْرِ بِالْمُطْلَقِ عَلَى تساوٍ، فَكَانَ يَكُونُ الثَّوَابُ عَلَى تساوٍ أَيْضًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَقَعُ الثَّوَابُ عَلَى مَقَادِيرِ الْمُقَيَّدَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ؛ فَالْمَأْمُورُ بِالْعِتْقِ إِذَا أَعْتَقَ أَدْوَنَ الرِّقَابِ كَانَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ، وَإِذَا أَعْتَقَ الْأَعْلَى كَانَ ثَوَابُهُ أَعْظَمَ، وَقَدْ سُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ؛ فَقَالَ: "أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أهلها" 6،
__________
1 هذا الاعتراض هو بعينه دليل الآمدي على عدم صحة رأس المسألة هنا كما نقلناه لك، وقد ترك اللازم الأول في كلامه، واكتفى بلزوم التكليف بما لا يطاق. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة، وأثبته من الأصل و"ط".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "فلا يكون"، ولذا كتب "د": "لا يستقيم المعنى إلا بحذف كلمة "لا".
قلت: سبقة "ف"؛ فقال: "لعله: فيكون، تأمل" ا. هـ.
4 في "ط": "إليه، والقول".
5 في "ط": "يقصد بالأمر لم ... ".
6 أخرجه البخاري في الصحيح "كتاب العتق، باب أي الرقاب أفضل، 5/ 148/ رقم 2518"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 84" عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا.(3/381)
وَأَمَرَ بِالْمُغَالَاةِ فِي أَثْمَانِ الْقُرُبَاتِ كَالضَّحَايَا1، وَبِإِكْمَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا2 مِنَ الْعِبَادَاتِ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهَا أَعْظَمَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَصْدَ الْأَعْلَى فِي أَفْرَادِ الْمُطْلَقَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ ثَوَابًا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ فِي أَفْرَادِ الْمُطْلَقَاتِ مُوجِبًا لِلتَّفَاوُتِ فِي الدَّرَجَاتِ؛ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْمُقَيَّدَاتِ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ وإن حصل الأمر بالمطلقات.
__________
1 يدل عليه فعله صلى الله عليه وسلم مما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا/ رقم 2796"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأضاحي، باب ما جاء فيما يستحب من الأضاحي، 4/ 85/ رقم 1496"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الضحايا"، باب الكبش، 7/ 221"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأضاحي، باب ما يستحب من الأضاحي/ رقم 3128"، والحاكم في المستدرك "4/ 228" عن ابن سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن فحيل، يأكل في سواد، وينظر في سواد، ويشرب في سواد، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
و"الأقرن": ذو القرنين، و"الفحيل": الكريم المختار للفحلة، ويقال: المنجب في ضرابه، وأراد به النبل وعظم الخلقة، و"يأكل في سواد ... " أراد أن فمه وما أحاط بملاحظ عينه من وجهه وأرجله أسود، وسائر بدنه أبيض.
والأقرب إلى لفظ المصنف ما أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 424"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 231"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 69/ رقم 1384"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 268" عن أبي الأسد -بالسين، وقيل بالشين المعجمة- السلمي عن أبيه عن جده؛ قال: كنت سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر فجمع كل رجل منا درهمًا، فاشترينا أضحية بسبعة رداهم؛ فقلنا: يا رسول الله! لقد أغلينا بها. قال: "إن أفضل الضحايا أغلاها ثمنًا وأنفسها".
وإسناده ضعيف، أبو الأسد -أو الأشد- مجهول، وكذا أبوه، وقيل: إن جده عمرو بن عبس، وفيه أيضًا عثمان بن زفر الجهني، وهو مجهول أيضا؛ كما في "التقريب"، وممن أشار إلى ضعفه الهيثمي في "المجمع" "4/ 21"، وانظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 1678".
2 وهذه كانت صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، أخرجه البخاري، ومضى تخريجه.(3/382)
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْمُطْلَقِ عِنْدَ الْعَرَبِ لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّكْلِيفَ بِأَمْرٍ ذِهْنِيٍّ، بَلْ مَعْنَاهُ التَّكْلِيفُ بِفَرْدٍ1 مِنَ الْأَفْرَادِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ، أَوِ الَّتِي يَصِحُّ وُجُودُهَا فِي الْخَارِجِ مُطَابِقًا لِمَعْنَى اللَّفْظِ، [بِحَيْثُ] 2 لَوْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ صُدِّقَ وَهُوَ الِاسْمُ النَّكِرَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِذَا قَالَ: "أَعْتِقْ رَقَبَةً"3؛ فَالْمُرَادُ طَلَبُ إِيقَاعِ الْعِتْقِ بِفَرْدٍ مِمَّا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهَا4 لَمْ تُضَعْ لَفَظُ الرَّقَبَةِ إِلَّا عَلَى فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ غَيْرِ مُخْتَصٍّ بِوَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسِ، هَذَا هُوَ الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، وَالْحَاصِلُ أن الأمر به أمر بواحد مما5 فِي الْخَارِجِ، وَلِلْمُكَلَّفِ اخْتِيَارُهُ فِي الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ.
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ الَّذِي الْتَفَتَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ إِلَيْهِ مَفْهُومًا مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ بِالْمُطْلِقِ أَوْ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّفَاوُتُ فِي أَمْرٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْ مقتضى مفهوم
__________
1 وبهذا يكون قد قال في المسألة قولًا وسطًا؛ فالأمر عنده ليس متوجهًا إلى الماهية الذهنية لما ورد عليه من إشكالات، ولا إلى المقيد لما ورد عليه من إشكالات، بل إلى فرد من الأفراد الخارجية التي يصدق عليها معنى اللفظ، وللمكلف اختياره في أحدها، ويؤول هذا إلى أن المكلف به الماهية المتحققة في فرد ما مما تصدق عليه تلك الماهية؛ فلا ترد الإشكالات التي تقدمت في هذه المسألة وفي المسألة الرابعة من كتاب الأدلة، وقد عرفت فيما نقلناه عن الآمدي أن هذه المسألة كما هي من مسائل الأصول المدونة، وقد خالف المؤلِّف في البحث عن هذه المسألة طريقته في هذا المؤلَّف؛ ليفيد أن له اختيارًا خاصًا يخلص من الإشكالات فيها. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".
3 أي معناه: وإلا؛ فلفظ الرقبة لا صدق له، وإذا كان الصادق هو معناه وصدقه حملة عليه حمل الكلي على جزئيه قطعًا؛ رجعنا إلى أن التكليف بماهية المطلق المتحققة في فرد ما من أفرادها، وهذا هو المعنى الذي جرى عليه سابقًا في المسألة الرابعة. "د".
4 في "ط": "فكأنها".
5 كذا في "ط"، وفي غيره: "كما"، وكتب "د": "لعل الأصل: مما في الخارج".(3/383)
[الْمُطْلَقِ] 1، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ؛ فَإِنَّ التَّفَاوُتَ إِنَّمَا فُهِمَ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ؛ كَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الرِّقَابِ أَعْلَاهَا2، وَأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى جَمِيعِ آدَابِهَا الْمَطْلُوبَةِ أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي نَقَصَ مِنْهَا بَعْضُ ذَلِكَ3، وَكَذَا سَائِرُ المسائل؛ فمن هنالك كان مقصودًا للشارع4، وَلِذَلِكَ كَانَ نَدْبًا لَا وُجُوبًا وَإِنْ كَانَ الأصل واجبًا لأنه زاد عَلَى مَفْهُومِهِ؛ فَإِذَا الْقَصْدُ إِلَى تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ عَلَى بَعْضٍ يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ إِلَى الْأَفْرَادِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ بِالْمُطْلَقِ، بَلْ [بِدَلِيلٍ مِنْ] 5 خَارِجٍ؛ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الْمُطْلَقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُطْلَقٌ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ إِلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُقَيَّدٌ.
بِخِلَافِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ؛ فَإِنَّ أَنْوَاعَهُ مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ بِالْإِذْنِ، فَإِذَا أَعْتَقَ الْمُكَلَّفُ رَقَبَةً، أَوْ ضَحَّى بِأُضْحِيَةٍ، أَوْ صَلَّى صَلَاةً وَمِثْلُهَا مُوَافِقٌ لِلْمُطْلَقِ؛ فَلَهُ أَجْرُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْمُطْلَقِ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمّ فَضْلٌ زَائِدٌ، فَيُثَابُ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى النَّدْبِ الْخَارِجِيِّ، وَهُوَ مُطْلَقٌ أَيْضًا، وَإِذَا كَفَّرَ بِعِتْقٍ؛ فَلَهُ أَجْرُ الْعِتْقِ، أَوْ أَطْعَمَ فَأَجْرُ الْإِطْعَامِ، أَوْ كَسَا فَأَجْرُ الْكِسْوَةِ بِحَسَبِ مَا فَعَلَ، لَا لِأَنَّ6 لَهُ أَجْرُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَا كَفَرَ [بِهِ] 7؛ فَإِنَّ تَعْيِينَ الشَّارِعِ الْمُخَيَّرَ فِيهِ يَقْتَضِي قَصْدَهُ إِلَى ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ فِي الْمُطْلَقَاتِ8 يَقْتَضِي عَدَمَ قَصْدِهِ إِلَى ذَلِكَ.
وَقَدِ انْدَرَجَ هُنَا أَصْلٌ آخر، وهي:
__________
1 سقط من "ط".
2 مضى ما يدل عليه "ص381".
3 مضى ما يدل عليه "ص382".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "مقصود الشارع".
5 كذا في "ط"، وبدل ما بين المعقوفتين في غيره: "من دليل".
6 في "ط": "لا أن له"، وقال "د": "لعله: "لا أن له"، ويكون محصل الفرق أن ثواب الزائد من دليل خارجي المطلق، ومن نفس دليل الواجب في المخير".
7 زيادة من "م"، وسقطت من الأصل و"ف" و"د" و"ط".
8 في "م": "المطلق".(3/384)
المسألة الرابعة:
وترجمتها أن الأمر بالمخير1 يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى أَفْرَادِهِ الْمُطْلَقَةِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
الْمَطْلُوبُ الشَّرْعِيُّ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ شَاهِدُ الطَّبْعِ خَادِمًا لَهُ وَمُعِينًا عَلَى مُقْتَضَاهُ2، بِحَيْثُ يَكُونُ الطَّبْعُ الْإِنْسَانِيُّ بَاعِثًا عَلَى مُقْتَضَى الطَّلَبِ؛ كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْوِقَاعِ، وَالْبُعْدِ3 عَنِ اسْتِعْمَالِ الْقَاذُورَاتِ مِنْ أَكْلِهَا وَالتَّضَمُّخِ بِهَا، أَوْ كَانَتِ الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ مِنَ الْعُقَلَاءِ4 فِي مَحَاسِنَ الشِّيَمِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مُوَافِقَةً لِمُقْتَضَى ذَلِكَ الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ طَبِيعِيٍّ؛ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ5، وَالْحِفْظِ6 عَلَى النِّسَاءِ وَالْحَرَمِ7، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وإنما قيد بعدم المنازع تحرزًا من الزنى ونحوه8 مما
__________
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "المخير".
2 لفظ: "مقتضى" مقتحم، والأصل: "معينًا عليه"؛ كما يدل عليه قوله: "باعثًا على مقتضى الطلب" الذي هو المطلوب. "د".
3 جعله فيما يأتي مما يقتضيه الوازع الطبيعي والمحاسن العادية معًا، وهو ظاهر في الأكل والتضمخ كما هنا، أما مجرد إصابة الثوب بمثل البول؛ فإنه يظهر رجوعه لمحاسن العادات" "د".
4 في "ط": "بين العقلاء".
5 في الأصل و"ط": "منازع طبعي؛ كستر العورات".
6 جعله من مقتضى عادة العقلاء في محاسن الشيم، وقد يتوقف فيه ويجعل من دواعي الطبع المحافظة على النساء والحرم والأولاد، بل ربما يقال: إنه طبع في الحيوان كله، وما يرى في بعض أفراد الإنسان من ضعف الغيرة؛ فذلك لعوارض، ونقول: إنه ضعف فقط لا تجرد منها. "د".
7 حرم الرجل عياله ونساؤه وما يحمي ويقاتل عنه. "ف".
8 من أكل أموال الناس بالباطل كالسرقة والربا ... إلخ؛ فإن محاسن الشيم وإن كانت تقتضي عدم السرقة والتعدي على الغير في نفسه وماله وعرضه؛ إلا أن هناك منازعًا من الطبع يطلب الدخول في هذه الأشياء طلبًا لما يراه مصلحة له؛ فشدد فيها النهي. "د".(3/385)
يَصُدُّ فِيهِ الطَّبْعُ عَنْ مُوَافَقَةِ الطَّلَبِ.
وَالثَّانِي: مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ كَالْعِبَادَاتِ مِنَ الطِّهَارَاتِ، وَالصَّلَوَاتِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ1 الْمُرَاعَى فِيهَا الْعَدْلُ الشَّرْعِيُّ، وَالْجِنَايَاتُ2، وَالْأَنْكِحَةُ الْمَخْصُوصَةُ بِالْوَلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ؛ فَقَدْ يَكْتَفِي الشَّارِعُ فِي طَلَبِهِ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ3 وَالْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ؛ فَلَا يَتَأَكَّدُ الطَّلَبُ تَأَكُّدَ غَيْرِهِ، حَوَالَةً عَلَى الْوَازِعِ الْبَاعِثِ عَلَى4 الْمُوَافَقَةِ دُونَ الْمُخَالَفَةِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُتَأَكِّدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ حُدُودٌ مَعْلُومَةٌ زِيَادَةً عَلَى مَا أُخْبِرَ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ5 الْأُخْرَوِيِّ؟
وَمِنْ هُنَا يُطْلِقُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تِلْكَ الْأُمُورِ أَنَّهَا سُنَنٌ، أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، أَوْ مُبَاحَاتٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ خُولِفَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِيهَا مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً؛ لَمْ يَقَعِ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْمُقْتَضَى، كَمَا جَاءَ فِي قَاتِلِ6 نَفْسِهِ أَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي جَهَنَّمَ بما قتل به نفسه7.
__________
1 فإن قواعد المعاملات التي سنها الشارع ليتعامل على مقتضاها الخلق لا يقال فيها: اقتضاه الطبع ولا محاسن العادات من العقلاء، بل هي تشريع موازين في المعاملات، علم الله سبحانه أنها تحقق العدل بين الخلق، وتمنع الجور والغبن، وتحسم مادة الخصومات والمنازعات بينهم؛ لأنهم يجدون في هذه القواعد حكمًا يحتكمون إليه في جميع مرافقهم ومعاوضاتهم. "د".
2 هذا مما احترز عنه بقيد عدم المنازع الطبيعي. "د".
3 في "ط": "بمقتضى الحيلة الطبعية".
4 هكذا في "د" و"ط" و"م"، وفي الأصل: "من"، وفي "ف": "عن"، وقال: "الأنسب على الموافقة".
5 أي: على المخالفة. "د".
6 كذا في "د"، وفي الأصل و"ف" و"ط" و"م": "قتل"، قال "ف": "لعله فيمن قتل".
7 يدل عليه ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب شرب السم والدواء به =(3/386)
وَجَاءَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ1 أَنَّ مَنْ صَلَّى بِنَجَاسَةٍ نَاسِيًا؛ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِلَّا اسْتِحْسَانًا، وَمَنْ صَلَّى بِهَا عَامِدًا أَعَادَ أَبَدًا مِنْ حَيْثُ خَالَفَ الْأَمْرَ الْحَتْمَ؛ فَأَوْقَعَ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لَفْظَ: "السُّنَّةِ" اعْتِمَادًا عَلَى الْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ2 وَالْمَحَاسِنِ الْعَادِيَّةِ، فَإِذَا خَالَفَ3 ذَلِكَ عَمْدًا رَجَعَ إِلَى الْأَصْلِ4 مِنَ الطَّلَبِ الْجَزْمِ؛ فَأَمَرَ بِالْإِعَادَةِ أَبَدًا.
وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يأتِ نَصٌّ جَازِمٌ فِي طَلَبِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَاللِّبَاسِ الْوَاقِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالنِّكَاحِ الَّذِي بِهِ بَقَاءُ النَّسْلِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَعْرِضِ الْإِبَاحَةِ أَوِ النَّدْبِ؛ حَتَّى إِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ فِي مَظِنَّةِ مُخَالَفَةِ الطَّبْعِ أُمِرَ5 وأبيح له المحرم، إلى أشباه ذلك.
__________
= وما يخاف منه والخبيث، 10/ 247/ رقم 5778"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 103/ رقم 109" عن أبي هريرة مرفوعًا: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا".
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من حلف بملة سوى الإسلام، 11/ 537/ رقم 6652"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 104/ رقم 110" عن ثابت بن الضحاك مرفوعًا، وذكر حديثًا في آخره: "ومن قتل نفسه بشيء عذبه الله به يوم القيامة".
قال "ف": "فويل لمن يحمله ضعف الدين والهمة على ارتكاب رذيلة الانتحار الفاشية في هذا العصر".
1 انظر: "المدونة الكبرى" "1/ 22"، و"عقد الجواهر الثمينة" "1/ 18-19".
2 في "ط": الطبعي.
3 في "ط": "وخولف".
4 أي: مقصود الشارع في الواقع ونفس الأمر، وإن لم يوجه فيه الخطاب الجزم اعتمادًا على الباعث النفسي عند المكلف. "د".
5 بخطاب النهي عن الضد: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} كما هو أحد التفاسير في الآية، وقوله: "وأبيح له المحرم" كأكل الميتة. "د".(3/387)
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ قَرَّرَهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ مِنَ التَّأْكِيدِ فِي الْمُؤَكَّدَاتِ، وَالتَّخْفِيفِ فِي الْمُخَفَّفَاتِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ خَادِمٌ طَبْعِيٌّ بَاعِثٌ عَلَى مُقْتَضَى الطَّلَبِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ مُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ يُمَانِعُهُ وَيُنَازِعُهُ؛ كَالْعِبَادَاتِ لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ تَكْلِيفٍ.
وَكَمَا يَكُونُ ذَلِكَ1 فِي الطَّلَبِ الْأَمْرِيِّ كَذَلِكَ يَكُونُ فِي النَّهْيِ؛ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّاتِ عَلَى الضَّرْبَيْنِ؛ فَالْأَوَّلُ كَتَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ، وَكَشْفِ الْعَوْرَاتِ، وَتَنَاوُلِ السُّمُومِ، وَاقْتِحَامِ الْمَهَالِكِ وَأَشْبَاهِهَا، وَيَلْحَقُ بِهَا اقْتِحَامُ الْمُحَرَّمَاتِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ عَاجِلَةٍ، وَلَا بَاعِثٍ طَبْعِيٍّ؛ كَالْمَلِكِ الْكَذَّابِ، وَالشَّيْخِ الزَّانِي، وَالْعَائِلِ الْمُسْتَكْبِرِ2، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا قَرِيبٌ مِمَّا تُخَالِفُهُ الطِّبَاعُ وَمَحَاسِنُ الْعَادَاتِ؛ فَلَا تَدْعُو إِلَيْهِ شَهْوَةٌ، وَلَا يَمِيلُ إِلَيْهِ عَقْلٌ سَلِيمٌ؛ فَهَذَا الضَّرْبُ لَمْ يُؤَكَّدْ بحد3 معلوم في
__________
1 أي: التقسيم إلى الضربين، وقوله: "كتحريم الخبائث ... إلخ"، ذكر فيه أمثلة لصنفي الضرب الأول، ثم أجرى حكم الضرب الأول الأمري على هذا؛ فقال: "فهذا الضرب ... إلخ"؛ إلا أنه أغفل الضرب الثاني من المنهيات، فلم يمثل له ولم يذكر حكمه كما فعل في الأوامر. "د".
2 ستأتي الإشارة إلى الحديث الوارد في ذلك قريبًا، قال "ف": "والعائل: الفقير".
3 أي: بعدد كذبات الملك، وزنيات الشيخ، وكيفية استكبار العائل، وقوله: "ولا وضعت له عقوبة معينة"؛ أي: باعتبار هذه الأوصاف زيادة عن حد الزنا مثلًا ممن كان غير شيخ، وقد يقال: إن هذا جارٍ أيضًا في الكذب والاستكبار لشهوة، فإن لم يوضع لهما حد معلوم عددًا ولا كيفية ولا وضعت لهما عقوبة دنيوية خاصة؛ فالمثال ظاهر الأثر في الزنا لا فيهما، ومما هو داخل في اقتحام المحرمات لغير شهوة ما تواتر عن أمة الترك في هذه الأيام أنهم يتهافتون على أكل لحم الخنزير لا لشعوة، ولكن ليفهموا رئيس حكومتهم المدعو مصطفى كمال كما أنهم شديدو الامتثال له في اطراح الأوامر الإسلامية، وأنهم صاروا إلى الفرنجة في كل شيء، أما أنه ليس لشهوة؛ فظاهر من أن القوم لم يألفوه، بل كانوا يستقذرونه إلى سنة واحدة مضت، وهم يقلدون في هذا شر تقليد؛ لأنهم لا يعرفون أن لحم الخنزير لا يأكله الفرنجة إلا بعد مباحث خاصة ليتحققوا من سلامته من الجراثيم القتالة التي يصاب بها هذا الحيوان بالتوارث أو العدوى، وقد أعدوا لذلك آلات وعددًا بكتريولوجية كما شوهد في بلغاريا الألمانية، وهذا بالضرورة بعض أسباب منع أكله في الدين الإسلامي. "د".(3/388)
الْغَالِبِ، وَلَا وُضِعَتْ لَهُ عُقُوبَةٌ مُعَيَّنَةٌ، بَلْ جَاءَ النَّهْيُ فِيهِ كَمَا جَاءَ الْأَمْرُ فِي الْمَطْلُوبَاتِ الَّتِي لَا1 يَكُونُ الطَّبْعُ خَادِمًا لَهَا؛ إِلَّا أَنَّ مُرْتَكِبَ هَذَا لَمَّا كَانَ مُخَالِفًا لوازع الطبع ومقتضى العادة، [زيادة] 2 إِلَى مَا فِيهِ مِنِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الشَّرْعِ، أَشْبَهَ بِذَلِكَ الْمُجَاهِرَ بِالْمَعَاصِي، الْمُعَانِدَ فِيهَا، بَلْ هُوَ هُوَ؛ فَصَارَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ أَعْظَمَ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي لِنَفْسِهِ حَظًّا عَاجِلًا، وَلَا يَبْقَى لَهَا فِي مَجَالِ الْعُقَلَاءِ بَلِ الْبَهَائِمِ مَرْتَبَةٌ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ مِنَ الْوَعِيدِ فِي الثَّلَاثَةِ: "الشَّيْخُ الزَّانِي وَأَخَوَيْهِ"3 مَا جَاءَ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ.
بِخِلَافِ الْعَاصِي بِسَبَبِ شَهْوَةٍ عَنَّتْ، وَطَبْعٍ غَلَبَ، نَاسِيًا لِمُقْتَضَى الْأَمْرِ، وَمُغْلَقًا عَنْهُ بَابُ الْعِلْمِ بِمَآلِ الْمَعْصِيَةِ، وَمِقْدَارِ مَا جَنَى بِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة} الْآيَةَ: [النِّسَاءِ: 17] .
أَمَّا الَّذِي لَيْسَ لَهُ داعٍ إِلَيْهَا، وَلَا بَاعِثٌ عَلَيْهَا؛ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُعَانِدِ الْمُجَاهِرِ4، فَصَارَ هَاتِكًا لِحُرْمَةِ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ مُسْتَهْزِئًا بِالْخِطَابِ؛ فَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ أَشَدَّ، وَلَكِنْ كُلَّ مَا كَانَ الْبَاعِثُ فِيهِ عَلَى المخالفة الطبع جعل فيه في الغالب5
__________
1 إنما ينتظم المعنى على حذف "لا" كما يدل عليه سابق الكلام ولاحقه. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، 1/ 102-103/ رقم 107" عن أبي هريرة مرفوعًا: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر".
4 في "ط": "بالمجاهرة".
5 ومن غير الغالب الغصب؛ فهو مما يقتضيه الطبع، ولم يجعل له حد مخصوص ولا عقوبة بدنية خاصة لمكان التحرز منه وسهولة تخليص المغصوب بالترافع للحاكم، والغاصب غالبًا يدعي الحق في المغصوب؛ فلم يبقَ إلا إثبات الحق لصاحبه بالترافع، وإنما ورد فيه الخبر ببيان من الجزاء الأخروي؛ كحديث: "من غصب قيد شبر طوقه من سبع أرضين" * وأمثاله، مع الزجر والأدب في الدنيا بما يراه الحاكم. "د".
__________
* أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين، 6/ 292/ رقم 3195، وكتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، 5/ 103/ رقم 2453"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، 3/ 1231-1232/ رقم 1612" بنحوه.(3/389)
حُدُودٌ وَعُقُوبَاتٌ مُرَتَّبَةٌ، إِبْلَاغًا فِي الزَّجْرِ عَمَّا تَقْتَضِيهِ الطِّبَاعُ، بِخِلَافِ مَا خَالَفَ الطَّبْعَ أَوْ كَانَ الطَّبْعُ وَازِعًا عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ.
فَصْلٌ
هَذَا الْأَصْلُ وُجِدَ مِنْهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ جُمَلٌ؛ فَوَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِأَجْلِهَا لِيَكُونَ النَّاظِرُ فِي الشَّرِيعَةِ مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا وَقَعَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّنْزِيهِ1 فِيمَا يُفْهَمُ مِنْ مَجَارِيهَا؛ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي كَوْنِهَا مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالْوِقَاعِ.
وَكَذَلِكَ وَجُوهُ الِاحْتِرَاسِ مِنَ الْمُضِرَّاتِ وَالْمُهْلِكَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْحَقُ بِالضَّرُورِيَّاتِ، وَهُوَ مِنْهَا فِي الِاعْتِبَارِ الِاسْتِقْرَائِيِّ شَرَعًا، وَرُبَّمَا وُجِدَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ2 مِنْ هَذَا؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ من المجتهد
__________
1 في "ط": "أو التنزيه".
2 فستر العورة في الصلاة واجب ولو في خلوة*، وهو من محاسن العادات ومكارم الأخلاق، أما سترها عن غير الزوج والزوجة، فهو مكمل للضروري لأنها تثير الشهوة، فكشفها ذريعة للزنا الداخل تحريمه في قسم الضروريات. "د".
__________
* كذا قال النووي في "شرح مسلم" "4/ 32"، ونازع في ذلك ابن القطان في "أحكام النظر" "ص112".(3/390)
عَلَى بالٍ؛ إِلَّا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ هُوَ الْحُكْمُ الْمُتَحَكِّمُ، وَالْقَاعِدَةُ الَّتِي لَا تَنْخَرِمُ، فَكُلُّ أَحَدٍ وَمَا رَأَى، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فِي كِتَابِ1 الْمَقَاصِدِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا تَقَيَّدَ بِهِ هُنَا أَيْضًا، [والله أعلم] 2.
__________
1 في المسألة الثالثة من النوع الرابع. "2/ 305".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".(3/391)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
كُلُّ خَصْلَةٍ أُمِرَ بِهَا أَوْ نُهِيَ عَنْهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَقْدِيرٍ؛ فَلَيْسَ الْأَمْرُ أَوِ النَّهْيُ فِيهَا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا؛ كَالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَخْذِ الْعَفْوِ مِنَ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِ، وَالصَّبْرِ، وَالشُّكْرِ، وَمُوَاسَاةِ ذِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ، وَالِاقْتِصَادِ فِي الْإِنْفَاقِ وَالْإِمْسَاكِ، وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ، وَالتَّوْفِيَةِ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَاتِّبَاعِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالذِّكْرِ لِلَّهِ، وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَالِاسْتِقَامَةِ، وَالِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ، وَالْخَشْيَةِ، وَالصَّفْحِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالدُّعَاءِ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ، وَالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالتَّفْوِيضِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ، وَحِفْظِ الْأَمَانَةِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَابْتِغَاءِ الْآخِرَةِ، وَالْإِنَابَةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّقْوَى، وَالتَّوَاضُعِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ، وَالتَّزْكِيَةِ1، وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ، وَاتِّبَاعِ الْأَحْسَنِ، وَالتَّوْبَةِ، وَالْإِشْفَاقِ، وَالْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ نَزْغِ الشَّيْطَانِ، وَالتَّبَتُّلِ2، وَهَجْرِ الْجَاهِلِينَ، وَتَعْظِيمِ اللَّهِ، وَالتَّذَكُّرِ، وَالتَّحَدُّثِ بِالنِّعَمِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْحَقِّ، وَالرَّهْبَةِ، وَالرَّغْبَةِ، وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ، وَالْمُرَاقَبَةُ، وَقَوْلُ الْمَعْرُوفِ، وَالْمُسَارِعَةُ إِلَى الْخَيِّرَاتِ، وَكَظْمُ الْغَيْظِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ، وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالتَّثَبُّتُ فِي الْأُمُورِ، وَالصَّمْتُ، وَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ، وَإِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالْإِخْبَاتُ3 وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ، وَالشَّدَّةُ عَلَى الكفار، والرحمة للمؤمنين، والصدقة.
__________
1 للنفس بمعنى التطهير لها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} ، وهي غير التزكية الآتية في المنهيات التي بمعنى الثناء عليها، {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} . "د".
2 التبتل هو الانقطاع إلى الله تعالى والإخلاص إليه. "ف".
3 الخشوع. "د".(3/392)
هذا كله في المأمورات1. وأما المنهيات؛ فكالظلم2، وَالْفُحْشُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَاتِّبَاعُ السُّبُلِ الْمُضِلَّةِ، والإسراف، والإقتار، والإثم3، الغفلة، والاستكبار، والرضى بِالدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَالتَّفَرُّقُ فِي الْأَهْوَاءِ4 شِيَعًا، وَالْبَغْيُ وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَكُفْرُ النِّعْمَةِ، وَالْفَرَحُ بِالدُّنْيَا، وَالْفَخْرُ بِهَا، وَالْحُبُّ لَهَا، وَنَقْصُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَاتِّبَاعُ الْآبَاءِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، والطغيان، والركون للظالمين، والإعراض عن الذكرى5، وَنَقْضُ الْعَهْدِ، وَالْمُنْكَرُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالتَّبْذِيرُ6، وَاتِّبَاعُ الظُّنُونِ، وَالْمَشْيُ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا، وَطَاعَةُ مَنِ اتبع
__________
1 وإن كانت هذه المأمورات يدخل بعضها في البعض الآخر، وبعضها لازم لبعض آخر؛ إلا أنه أراد أن يذكر الخصال حسبما وردت بها الأوامر، وهذه كلها واردة في الكتاب والسنة، وكذا يقال في المنهيات. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "فالظلم".
3 الذنب مطلقًا. "د".
4 سواء أكانت دينية أم غير دينية، مما يؤدي إلى التفرق واختلاف الكلمة؛ فيغاير اتباع السبل المضلة لأنه خاص بالدين، {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} [الأنعام: 153] ، ولا يلزم في تحققه التفرق شيعًا. "د".
5 كذا في "ط"، وفي غيره: "الذكر".
6 انظر: هل له معنى يغاير به الإسراف المتقدم ولو بالعموم والخصوص حتى لا يكون تكرارًا محضًا؟ نعم، إنهما وردا في القرآن: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 3] ، {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] ، ولكنه كان يحسن إذا أراد ذكرهما معًا لهذا الغرض أن يذكرهما متواليين، ومثله يقال في "المنكر" و"الإثم" و"الإجرام"؛ إذ الثلاثة بمعنى واحد وإن اختلفت بالاعتبار، وكذا ينظر في "الظن" الآتي مع "اتباع الظنون" هنا، وقد يقال: إن اتباع الظن في مقام البرهان والتعويل عليه حسبما أشير إليه في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] غير نفس الظن السيئ وإن لم يعول عليه صاحبه ولا بنى عليه حكمًا، {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّن} [الحجرات: 12] ، وظاهر أيضًا أن اتباع الهوى يكون في الرأي والمذهب، وهو غير اتباع الشهوات والانقياد لحكم اللذائذ الحسية المنهي عنها. "د".(3/393)
هَوَاهُ، وَالْإِشْرَاكُ فِي الْعِبَادَةِ، وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ، وَالصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْإِجْرَامُ، وَلَهْوُ الْقَلْبِ، وَالْعُدْوَانُ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَالْكَذِبُ، وَالْغُلُوُّ فِي الدِّينِ، وَالْقُنُوطُ، وَالْخُيَلَاءُ، وَالِاغْتِرَارُ بِالدُّنْيَا، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، وَالتَّكَلُّفُ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَالِاسْتِعْجَالُ1، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ، وَالنَّمِيمَةُ، وَالشُّحُّ، وَالْهَلَعُ2، وَالدَّجَرُ3، وَالْمَنُّ، وَالْبُخْلُ، وَالْهَمْزُ وَاللَّمْزُ، وَالسَّهْوُ عَنِ الصَّلَاةِ، وَالرِّيَاءُ، وَمَنْعُ الْمَرَافِقِ، وَكَذَلِكَ اشْتِرَاءُ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَلُبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وكتم العلم، وقساوة4 الْقَلْبِ، وَاتِّبَاعُ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَالْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَإِتْبَاعُ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَاتِّبَاعُ الْمُتَشَابِهِ، وَاتِّخَاذُ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ، وَحُبُّ الْحَمْدِ بِمَا لَمْ يفعل، والحسد، والترفع عن حكم الله، والرضى بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ، وَالْوَهْنُ لِلْأَعْدَاءِ وَالْخِيَانَةُ، وَرَمْيُ الْبَرِيءِ بالذنب وهو البهتان، ومشاقة الله
__________
1 كما ورد في الحديث: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي"، وفي رواية: "يستعجل" *، وفي الحديث: "الإناة من الله والعجلة من الشيطان" **. "د".
2 الهلع: أفحش الجزع، وقد ورد: "شر ما في المرء شح هالع، وجبن خالع" ***. "د".
3 الدجر محركًا: الحيرة، وهي منهي عنها؛ لأنها لازمة لعدم الصبر والاعتماد على الله. "د". قلت: وفي "ط": "والزجر".
4 في "د": "وقسوة".
__________
* أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل، 8/ 153"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل، 2735" عن أبي هريرة مرفوعًا.
** أخرجه الترمذي "2012" عن سهل بن سعد وضعفه، وهو في "ضعيف سنن الترمذي" "رقم 346" لشيخنا الألباني حفظه الله تعالى.
*** أخرجه أبو داود "3511"، وابن حبان "808 – موارد"، وأحمد "2/ 302-303"، وأبو نعيم "9/ 50" عن أبي هريرة، وإسناده صحيح.(3/394)
وَالرَّسُولِ، وَاتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَيْلُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالْجَهْرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَالِارْتِشَاءُ عَلَى إِبْطَالِ الْأَحْكَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَنِسْيَانُ اللَّهِ، وَالنِّفَاقُ، وَعِبَادَةُ اللَّهِ عَلَى حَرْفٍ، وَالظَّنُّ، وَالتَّجَسُّسُ، وَالْغِيبَةُ، وَالْحَلِفُ الكاذب1.
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي وَرَدَتْ مُطْلَقَةً فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَمْ يُؤْتَ فِيهَا بِحَدٍّ مَحْدُودٍ إِلَّا أَنَّ مَجِيئَهَا فِي الْقُرْآنِ2 عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
أَنْ تَأْتِيَ عَلَى الْعُمُومِ والإطلاق في كل شيء3، وعلى كل
__________
1 في "د": "الكاذبة".
2 أي: مثلًا، وإلا؛ ففي السنة كذلك. "ف".
3 أي: من المناطات والأمور التي تتعلق بها، وقوله: "وعلى كل حال"؛ أي: لم يفرق في النص عليها بين حال المأمور والمنهي وحال آخر؛ فلم تبين النصوص حينئذ أنها تكون واجبة إذا كان كذا ومندوبة إذا كان كذا، ولا محرمة إذا كان كذا ومكروهة إذا كان كذا، بل تجيء في هذا الضرب مطلقة إطلاقًا تامًا بدون تفريق بين مراتبها الكثيرة وتفاصيلها المختلفة في قوة الطلب أو النهي حتى يصل إلى الوجوب أو التحريم، وقد يصل إلى الكفر أو عدم قوته؛ فلا يتجاوز المندوب أو المكروه، وهذا الضرب هو الغالب في غالب هذه الخصال من نوع الأوامر الذي ذكر فيه ثلاثًا وسبعين خصلة، وكذا من نوع النواهي الذي ذكر فيه إحدى وتسعين خصلة، ولا يقال: إن بعض المنهيات؛ كالإشراك في العبادة، والقنوط من رحمة الله، والاستهزاء بآيات الله، ونسيان الله وغيرها مما لا تتفاوت أفراده؛ لأن هذه درجة واحدة هي الكفر؛ لأنا نقول: بل هي متفاوتة أيضًا، ألا ترى في الإشراك حديث: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيره تركته وشركه"*؛ فهذا قد يكون رياء وهو نوع من الشرك، وكذا يقال: إن غفلة القلب عن تأدية أوامر الله نسيان لله وقد تعد استهزاء بآيات الله، فهما بذلك من المعاصي التي لا تبلغ درجة الكفر، وقد تقدم له في تفسير {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] أنها نزلت في مضارة الزوجة بالطلاق ثم الرجعة ثم الطلاق ... إلخ، وهكذا لو تأملت الباقي؛ لوجدت الأمر على ما قرره. "د".
__________
* مضى تخريجه "2/ 355، 3/ 10"، وهو صحيح.(3/395)
حَالٍ، لَكِنْ بِحَسَبِ كُلِّ مَقَامٍ، وَعَلَى مَا تُعْطِيهِ شَوَاهِدُ الْأَحْوَالِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، لَا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، وَلَا حُكْمٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ وُكِلَ ذَلِكَ إِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ؛ فَيَزِنُ بِمِيزَانِ نَظَرِهِ، وَيَتَهَدَّى لِمَا هُوَ اللَّائِقُ وَالْأَحْرَى فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ، آخِذًا مَا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَحَاسِنِ الْعَادِيَّةِ؛ كَالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَإِنْفَاقِ عَفْوِ الْمَالِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ 1 عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ؛ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ" إِلَخْ2.
فَقَوْلُ3 اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النَّحْلِ: 90] لَيْسَ الْإِحْسَانُ فِيهِ مَأْمُورًا بِهِ أَمْرًا جَازِمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا غَيْرَ جَازِمٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ يَنْقَسِمُ بِحَسَبِ الْمَنَاطَاتِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ إِحْسَانَ الْعِبَادَاتِ بِتَمَامِ أَرْكَانِهَا مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ، وَإِحْسَانَهَا بِتَمَامِ آدَابِهَا مِنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ؟
وَمِنْهُ إِحْسَانُ الْقِتْلَةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَإِحْسَانُ الذَّبْحِ إِنَّمَا هُوَ مَنْدُوبٌ لَا وَاجِبٌ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الذَّبْحِ مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ إِذَا كَانَ هَذَا الْإِحْسَانُ رَاجِعًا إِلَى تَتْمِيمِ الْأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ، وَكَذَلِكَ الْعَدْلُ فِي عَدَمِ الْمَشْيِ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَ كالعدل في أحكام الدماء والأمور وَغَيْرِهَا؛ فَلَا يَصِحُّ إِذًا إِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النَّحْلِ: 90] أَنَّهُ أَمْرُ إِيجَابٍ أَوْ أَمْرُ نَدْبٍ؛ حَتَّى يُفَصَّلَ الْأَمْرُ فِيهِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ تَارَةً، وَإِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا تَارَةً أُخْرَى، بِحَسَبِ ظُهُورِ الْمَعْنَى وخفائه.
__________
1 هو فعل الحسن ضد القبيح. "د".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، 3/ 1548/ رقم 1955" عن شداد بن أوس مرفوعًا، وتتمته: "وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".
3 أي: فيؤخذ من هذا الأصل هذا المعنى في الآية. "د".(3/396)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي:
أَنْ تَأْتِيَ فِي أَقْصَى مَرَاتِبِهَا1، وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْوَعِيدَ مَقْرُونًا بِهَا فِي الْغَالِبِ، وَتَجِدُ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْهَا أَوْصَافًا لِمَنْ مَدَحَ اللَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَنْهِيَّ عَنْهَا أَوْصَافًا لِمَنْ ذم الله من الكافرين.
__________
1 أي: تارة تأتي الأوامر والنواهي مطلقة دون أن تقترن بعظيم الوعد ولا شديد الوعيد، وتارة يأتي الأمر بالخصلة في أفضل مرتبته من تأكيد أمره وتفخيم شأنه؛ حتى لا يسع المكلف التساهل فيه، سواء أكان أمرًا صريحًا أم في معنى الصريح؛ كما في قوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} [آل عمران: 31] الآيتين، وقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9، التغابن: 16] مع قوله: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [التغابن: 17] الآية، وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13 والفتح: 17] الآيتين، وكما في حديث: "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حق الله فيها؛ إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت" * الحديث، وفي طلب الرفق بمخلوقات الله: "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها" ** الحديث، "الرحمة شجنة من الرحمن؛ من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله" ***، وهكذا ما لا يحصى من الأوامر والنواهي لقوله تعالى: {لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّه} الآية [يوسف: 87] ، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} الآية، والمشاقة أن يكون المرء في شقٍ والشرع في شقٍ آخر؛ فهي المخالفة مطلقًا، ولكن في الآية جاءت على أقصى مرتبة كما يدل عليه الوعيد، ومنه: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين} الآية [آل عمران: 28] ، والحديث: "لا تكذبوا علي؛ فإنه من كذب علي متعمدًا يلج النار"، وكأحاديث الرياء وما فيها من التشديد والتهويل في أمره. "د".
__________
* أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة/ رقم 987".
** أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب منه، 6/ 515/ رقم 3482"، وكتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء/ رقم 2365"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب تحريم تعذيب الهرة، 4/ 1760/ رقم 2242".
*** أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب من وصلها وصله الله، 10/ 417/ رقم 5988"، ومسلم في "صحيحه" كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم، 4/ 1981/ رقم 2555".(3/397)
وَيُعَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَسْبَابُ التَّنْزِيلِ لِمَنِ اسْتَقْرَأَهَا؛ فَكَانَ الْقُرْآنُ آتِيًا1 بِالْغَايَاتِ تَنْصِيصًا عَلَيْهَا، مِنْ حَيْثُ كَانَ الْحَالُ وَالْوَقْتُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَمُنَبِّهًا بِهَا عَلَى مَا هُوَ دَائِرٌ2 بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، حَتَّى يَكُونَ الْعَقْلُ3 يَنْظُرُ فِيمَا بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ مَا دَلَّهُ دَلِيلُ الشَّرْعِ؛ فَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَرَاتِبِ بِحَسَبِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ؛ كَيْ لَا يَسْكُنَ إِلَى حَالَةٍ هِيَ مَظِنَّةُ الْخَوْفِ لِقُرْبِهَا مِنَ الطَّرَفِ الْمَذْمُومِ، أَوْ مَظِنَّةُ الرَّجَاءِ لِقُرْبِهَا مِنَ الطَّرَفِ الْمَحْمُودِ، تَرْبِيَةُ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا4 الْمَعْنَى [عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ] فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ مَوْتِهِ حِينَ قَالَ لَهُ: "أَلَمْ تَرَ أَنَّهُ نَزَلَتْ آيَةُ الرَّخَاءِ مَعَ آيَةِ الشِّدَّةِ، وآية
__________
1 في الأصل و"ف": "آت"، قال "ف": "قوله الأنسب: آتيًا بالنصب خبر كان الناقصة ونصب قوله: ومنبه، بعده عطفًا عليه، ويبعد من جهة المعنى جعل كأن حرفًا للتشبيه، ويدل لذلك ما يأتي عند قوله، وَأَيْضًا؛ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْقُرْآنُ آتِيًا بِالطَّرَفَيْنِ ... إلخ".
2 لا يقال: إنما يظهر ذلك إذا كانت الغايتان المذكورتان في الدليل الشرعي متعلقتين بخصلة واحدة، واقترن الأمر بها بالوعد العظيم، والنهي عن ضدها بالوعيد الشديد؛ فيكون لها طرف محمود، وطرف مذموم، وبينهما مراتب ينظر العقل في قربها وبعدها من الطرفين، وهذا غير مطرد في الأوامر والنواهي؛ لأنا نقول: بل الأمر كذلك لأنه بفرض أنه لم يرد في الخصلة الواحدة إلا الأمر؛ فالطرف الثاني المذموم وهو النهي وإن لم ينص عليه دليل خاص؛ فدليله هو نفس الأمر الذي يقتضي النهي عن ضده"، وكذا يقال في عكسه، على أن هذا ليس بلازم في معنى الطرفين هنا، بل المراد الطرف العام الذي يستوجب الرجاء بامتثال الأوامر التي فيها الوعد جملة، والطرف المقابل له وهو الطرف العام الذي يستوجب الخوف من غضب الله جملة، وإن كان ذلك في عدة خصال لا في خصلة واحدة ينظر بين طرفيها، وهذا المعنى الثاني هو المناسب؛ لما رواه في قصة أبي بكر، ولمساق الكلام الآتي إلى قوله: "فيزن المؤمن أوصافه المحمودة فيخاف ويرجو، ويزن أوصافه المذمومة فيخاف أيضًا ويرجو". "د". وفي "ط": "ومنبه بها على ... ".
3 في "ف": "الفعل"، وحشى عليه بقوله: "صوابه العقل، بقاف معجمة قبلها عين مهملة".
4 في "ط": "من هذا".(3/398)
الشِّدَّةِ مَعَ آيَةِ الرَّخَاءِ؛ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاغِبًا رَاهِبًا؛ فَلَا يَرْغَبُ رَغْبَةً يَتَمَنَّى فِيهَا عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُ، وَلَا يَرْهَبُ رَهْبَةً يُلْقِي فِيهَا بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، أَوَلَمَ تَرَ يَا عُمَرُ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ حُسْنٍ، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ قُلْتُ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ أَكُونَ مِنْهُمْ، وَذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَجَاوَزَ لَهُمْ عَمَّا كَانَ لَهُمْ مِنْ سَيِّئٍ، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ؛ قُلْتُ: إِنِّي مُقَصِّرٌ، أَيْنَ عَمَلِي مِنْ أَعْمَالِهِمْ؟ "1، هَذَا مَا نَقَلَ، وَهُوَ مَعْنَى2 مَا تَقَدَّمَ.
فَإِنْ صَحَّ؛ فَذَاكَ، وَإِلَّا؛ فَالْمَعْنَى صَحِيحٌ يَشْهَدُ لَهُ الِاسْتِقْرَاءُ.
وقد روي: "أَوَلَمَ تَرَ يَا عُمَرُ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ ما كان لهم من حسن، فيقول القائل: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُمْ؛ فَيَطْمَعُ، وَذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَجَاوَزَ لَهُمْ عَمَّا كَانَ لَهُمْ مِنْ سَيِّئٍ، فَيَقُولُ قَائِلٌ: مِنْ أَيْنَ أدركُ دَرَجَتَهُمْ؟ فَيَجْتَهِدُ"3. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَحِيحٌ أَيْضًا يَتَنَزَّلُ عَلَى الْمُسَاقِ الْمَذْكُورِ، فَإِذَا
__________
1 أخرجه ابن زبر في "وصايا العلماء" "ص32-33" بإسناد ضعيف وفيه انقطاع أيضًا، أبو المليح الهذلي لا يعرف له سماع من أبي بكر ولا عمر، ورواه عنه عبيد الله بن أبي حميد أبو الخطاب، قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال: "يروي عن أبي المليح عجائب"، وقال النسائي: "متروك"، وقال دحيم: "ضعيف".
2 هو على هذه الرواية مال إلى الخوف عند ذكر أهل النار؛ لما ذكر أهل الجنة لم تسكن نفسه إلى الرجاء، بل ذكر تقصيره ليجتهد؛ فلم يرج، بل هو خائف في الحالتين، وليس دائرًا بين الأمرين الذي هو المعنى المتقدم، أما في الرواية بعد؛ فالمعنى فيها يوافق ما تقدم، والظاهر أن الرواية الأولى تبين حال أبي بكر نفسه، وهي غلبة الخوف عليه كما هو معروف عنه، والرواية الثانية يقولها على لسان غيره رضي الله عنه. "د".
3 أخرجه ابن زبر في "وصايا العلماء" "ص34-35" بإسناد ضعيف منقطع، قتادة بن دعامة لم يدرك أبا بكر.(3/399)
كَانَ الطَّرَفَانِ مَذْكُورَيْنِ؛ كَانَ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ جَائِلًا بَيْنَ هَاتَيْنِ الأَخِيَّتين1 الْمَنْصُوصَتَيْنِ، فِي مَحَلٍّ مَسْكُوتٍ عَنْهُ لَفْظًا، مُنَبَّهٍ عَلَيْهِ تَحْتَ نَظَرِ الْعَقْلِ، لِيَأْخُذَ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَدِقَّةِ نَظَرِهِ، وَيَقَعُ التَّوَازُنُ بِحَسَبِ الْقُرْبِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْآخَرِ. وَأَيْضًا؛ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْقُرْآنُ آتِيًا بِالطَّرَفَيْنِ الْغَائِبَيْنِ2 حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الْمُسَاقُ؛ فَإِنَّمَا أَتَى بِهِمَا فِي عِبَارَاتٍ مُطْلَقَةٍ تُصَدَّقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ فَكَمَا يَدُلُّ الْمُسَاقُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَقْصَى3 الْمَحْمُودِ أَوِ الْمَذْمُومِ فِي ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ، كَذَلِكَ قَدْ يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ مُقْتَضَاهُ، فَيَزِنُ الْمُؤْمِنُ أَوْصَافَهُ الْمَحْمُودَةَ؛ فَيَخَافُ وَيَرْجُو، وَيَزِنُ أَوْصَافَهُ الْمَذْمُومَةَ فَيَخَافُ أَيْضًا وَيَرْجُو.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا نَظَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَان} [النَّحْلِ: 90] ؛ فَوَزَنَ نَفْسَهُ فِي مِيزَانِ الْعَدْلِ، عالمًا أَقْصَى الْعَدْلِ الْإِقْرَارُ بِالنِّعَمِ لِصَاحِبِهَا وَرَدُّهَا إِلَيْهِ ثُمَّ شُكْرُهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ الدُّخُولُ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ، وَالْخُرُوجُ عَنِ الْكُفْرِ وَاطِّرَاحُ تَوَابِعِهِ، فَإِنْ وَجَدَ نَفْسَهُ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ؛ فَهُوَ يَرْجُو أَنَّ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ، وَيَخَافُ أَنْ لا يكون بلغ4 فِي هَذَا الْمَدَى غَايَتَهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَوْفِيَةِ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَإِنْ نَظَرَ بِالتَّفْصِيلِ؛ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، فَإِنَّ الْعَدْلَ كَمَا يُطْلَبُ فِي الْجُمْلَةِ يُطْلَبُ فِي التَّفْصِيلِ؛ كَالْعَدْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ إِنْ كَانَ حَاكِمًا وَالْعَدْلُ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ؛ حَتَّى الْعَدْلِ فِي الْبَدْءِ بِالْمَيَامِنِ5 فِي لِبَاسِ النَّعْلِ وَنَحْوِهِ، كَمَا أَنَّ هَذَا جارٍ فِي ضده
__________
1 تثنية الأخية بفتح الهمزة وكسر الخاء وتشديد الياء، وهي العروة تشد بها الدابة مثنية في الأرض، وجمعها أخايا أو أخي مشددًا. "ف".
2 هكذا في الأصول، وفي "ط": "الغائلين"، قال "ف": "لعله الفائتين بدليل ما تقدم".
3 أي: كما في الضرب الثاني. "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "يبلغ".
5 في "ف" في الموضعين: "بالميامن"، وعقب في الموضع الأول بقوله: "لعله بالمياسر، تأمل".(3/400)
وَهُوَ الظُّلْمُ؛ فَإِنَّ أَعْلَاهُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لُقْمَانَ: 13] .
ثُمَّ فِي التَّفَاصِيلِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ، أَدْنَاهَا مَثَلًا الْبَدْءُ بِالْمَيَاسِرِ1، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَوْصَافِ وَأَضْدَادُهَا؛ فَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ.
فَلِأَجْلِ هَذَا قِيلَ: إِنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ لَيْسَتْ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ بَلْ مِنْهَا مَا يَكُونُ مِنَ الْفَرَائِضِ أَوْ مِنَ2 النَّوَافِلِ فِي الْمَأْمُورَاتِ ومنها ما يكون من المحرمات أومن الْمَكْرُوهَاتِ فِي الْمَنْهِيَّاتِ، لَكِنَّهَا3 وُكِلَتْ إِلَى أَنْظَارِ الْمُكَلَّفِينَ لِيَجْتَهِدُوا فِي نَحْوِ هَذِهِ الْأُمُورِ.
كَانَ النَّاسُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يَتَوَقَّفُونَ عَنِ الْجَزْمِ بِالتَّحْرِيمِ، وَيَتَحَرَّجُونَ عَنْ أَنْ يَقُولُوا: حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ، هَكَذَا صُرَاحًا، بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الشَّيْءِ إِذَا سُئِلُوا عَنْهُ: لَا أُحِبُّ هَذَا، وَأَكْرَهُ هَذَا، وَلَمْ أَكُنْ لِأَفْعَلَ هَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ4؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ مُطْلَقَةٌ فِي مَدْلُولَاتِهَا، غَيْرُ مَحْدُودَةٍ فِي الشَّرْعِ تَحْدِيدًا يُوقَفُ عِنْدَهُ لَا يُتعدى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النَّحْلِ: 116] .
وَقَدْ جَاءَ مِمَّا يُعَضِّدُ هَذَا الْأَصْلَ زِيَادَةٌ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فِيهَا قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} الْآيَةَ: [الْأَنْعَامِ: 82] ، فَإِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الصَّحَابَةُ: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لُقْمَانَ: 13] .
وَفِي رِوَايَةٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؛ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم،
__________
1 انظر الحاشية السابقة.
2 في "ط": "ومن".
3 في الأصل: "لأنها".
4 انظر: "إعلام الموقعين" "1/ 31 - وما بعده".(3/401)
وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ بِذَلِكَ، أَلَا تَسْمَعُ 1 إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لُقْمَانَ: 13] ! " 2. وَفِي "الصَّحِيحِ": "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ" 3.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ -وَذَكَرَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَهَمَّهُمَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ-: فَضَحِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: "مَا لَكُمْ وَلَهُنَّ؟ إِنَّمَا خَصَصْتُ بِهِنَّ الْمُنَافِقِينَ، أَمَّا قَوْلِي: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ؛ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه} الآية: [المنافقين: 1] ؛ أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ؟ ". قُلْنَا: لَا. قَالَ: "لَا عَلَيْكُمْ، أنتم من ذلك برآء، وأما
__________
1 فتكون الآية من قبيل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ؛ فلا يقال: كيف يتأتى لبس الإيمان بالشرك ولا يوجد الإيمان معه؟! وفي قصة الصحابة في الآية والحديث الدلالة الواضحة على أن هذه المطلقات من النواهي غير الصريحة لم تحدد تحديدًا يوقف عنده؛ فهي في الآية والحديث في أعلى مراتب النهي، وقد فهم الصحابة أنها شاملة للمراتب الأخرى. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب ظلم دون ظلم، 1/ 87/ رقم 32، وكتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، 6/ 389/ رقم 3360، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة} 6/ 465/ رقم 3428، 3429، وكتاب التفسير، باب {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} ، 8/ 294/ رقم 4629، وباب سورة لقمان، 8/ 513/ رقم 4776، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة، 12/ 264/ رقم 6918، وباب ما جاء في المتأولين، 12/ 303/ رقم 6937"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه، 1/ 114-115/ رقم 124" عن ابن مسعود رضي الله عنه.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، 1/ 89/ رقم 23"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1/ 78/ رقم 59" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.(3/402)
قَوْلِي: إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ؛ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ [اللَّهُ] 1 عَلَيَّ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنّ} الْآيَاتِ الثَّلَاثَ [التَّوْبَةِ: 75-78] ؛ أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ؟ ". قُلْنَا: لَا. قَالَ: "لَا عَلَيْكُمْ، أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآءُ، وَأَمَّا قَوْلِي: إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ؛ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَال} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 72] ؛ فَكُلُّ إِنْسَانٍ مُؤْتَمَنٍ عَلَى دَيْنِهِ، فَالْمُؤْمِنُ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَيَصُومُ وَيُصَلِّي فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْمُنَافِقُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ؟ ". قُلْنَا: لَا. قَالَ: "لَا عَلَيْكُمْ، أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بَرَآءُ" 2.
وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ وَجَدَ مِنْ هَذَا مَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ فِي اعْتِمَادِ هَذَا الْأَصْلِ، وَبِاللَّهِ التوفيق.
__________
1 كذا في الأصل و"م" و"ف" و"ط"، وسقطت من "د".
2 ذكره سهل بن عبد الله التستري في "تفسيره" "ص48-49" من غير إسناد، ولا إخاله يصح، ولم يذكره السيوطي في "الدر" في مواطن الآيات المذكورة.(3/403)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:
الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي ضَرْبَانِ1 صَرِيحٌ، وَغَيْرُ صَرِيحٍ، فَأَمَّا الصَّرِيحُ؛ فَلَهُ نَظَرَانِ:
أَحَدُهُمَا:
مِنْ حَيْثُ مُجَرَّدِهِ لَا يُعْتَبَرُ2 فِيهِ عِلَّةٌ مَصْلَحِيَّةٌ، وَهَذَا3 نَظَرُ مَنْ يَجْرِي مَعَ مُجَرَّدِ الصِّيغَةِ4 مَجْرَى التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ؛ فَلَا فَرْقَ عِنْدَ صَاحِبِ هَذَا النَّظَرِ بَيْنَ أَمْرٍ وَأَمْرٍ، وَلَا بَيْنَ نَهْيٍ وَنَهْيٍ؛ كَقَوْلِهِ: {أَقِيمُوا الصَّلاة} مَعَ قَوْلِهِ: "اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ" 5.
وَقَوْلِهِ: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه} [الْجُمُعَةِ: 9] مَعَ قَوْلِهِ: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَةِ: 9] .
وَقَوْلِهِ: "وَلَا تَصُومُوا يَوْمَ النَّحْرِ" 6 مَثَلًا مَعَ قوله: "لا تواصلوا" 7.
__________
1 أي: باعتبار الصيغة. "د".
2 أي: حتى يقال: إنه يفهم الغرض من الأمر والنهي بميزان تلك المصلحة. "د".
3 هذا طريق الظاهرية. "د".
4 في الأصل: "الصفة".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال، 4/ 206/ رقم 1966"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، 2/ 774-775/ رقم 1103" عن أبي هريرة، والمذكور بعض ألفاظ مسلم.
وقال "ف" و"م" في معنى "اكلفوا": "هو من كلفت بالأمر إذا أولعت به وأحببته".
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم النحر، 4/ 240/ رقم 1993"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، 2/ 799/ رقم 1138" عن أبي هريرة؛ قال: "ينهى عن صيامين وبيعتين: الفطر والنحر، والملامسة والمنابذة".
ونحوه في الصحيحين" عن أبي سعيد، وسيأتي "ص469". وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 53" عن أبي سعيد، وفيه: "ولا تصوموا يوم الفطر ولا يوم الأضحى".
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" "8/ 388" عن أبي سعيد مرفوعًا بلفظ: "لا تصوموا يومين: يوم الفطر، ويوم النحر".
7 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1961" عن أنس و"رقم 1963" عن أبي سعيد.(3/404)
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْهَمُ1 فِيهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَهَذَا نَحْوَ مَا فِي "الصَّحِيحِ"؛ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ عَلَى أُبَيِّ ابن كَعْبٍ وَهُوَ يُصَلِّي؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "يَا أُبَيُّ! "؛ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُجِبْهُ، وَصَلَّى فخفف فَخَفَّفَ ثُمَّ انْصَرَفَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أُبَيُّ! مَا مَنَعَكَ أن تجيبني إذ دَعَوْتُكَ؟ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كُنْتُ أُصَلِّي. فَقَالَ: "أَفَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الْأَنْفَالِ: 24] ؟ ". قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا أَعُودُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ2 عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وَأَنَّهُ صَاحِبُ الْقِصَّةِ؛ فَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِشَارَةٌ3 إِلَى النَّظَرِ لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مُعَارِضٌ.
وَفِي أَبِي دَاوُدَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَاءَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ؛ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: "اجْلِسُوا". فَجَلَسَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ له: "تعال يا
__________
1 أي: بمقتضى القرائن، وسيأتي في بيان النظر الثاني ما يتضح به تطبيق وجهة هذا النظر الأول على هذه الآيات والأحاديث التي مثل بها هنا. "د".
2 مضى تخريجه "ص298".
3 قد يقال: إن الآية مخصصة لآية: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} التي أوجبت على المصلي ألا يتكلم؛ فالنبي صلى الله صلى الله عليه وسلم يرشده إلى التخصيص، وأنه تجب عليه الاستجابة للرسول -ولو في الصلاة- بمقتضى هذه الآية، على أي وجه نظر إلى الأمر؛ فلا دلالة فيه على غرض المؤلف. "د".(3/405)
عَبْدَ اللَّهِ" 1.
وَسَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالطَّرِيقِ يَقُولُ: "اجْلِسُوا". فَجَلَسَ بِالطَّرِيقِ، فَمَرَّ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟ ". فَقَالَ سَمِعْتُكَ تَقُولُ اجْلِسُوا. فَقَالَ لَهُ: "زَادَكَ اللَّهُ طاعة"2.
__________
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب الإمام يكلم الرجل في خطبته، 1/ 286/ رقم 1091" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "2/ 206"- من طريق مخلد بن يزيد عن ابن جريج عن عطاء عن جابر به.
وقال أبو داود عقبه: "هذا يعرف مرسلًا، إنما رواه الناس عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومخلد هو شيخ". قلت: قال ابن حجر عنه في "التقريب": "صدوق له أوهام".
ومن أوهامه وصله لهذا الحديث، وقد خالفه الوليد بن مسلم؛ فرواه عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس لا عن جابر.
أخرجه ابن خزيمة في "الصحيح" "3/ 141-142/رقم 1780"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 283-284"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 205-206".
وقال ابن خزيمة قبله: "إن كان الوليد بن مسلم ومن دونه حفظ ابن عباس في هذا الإسناد؛ فإن أصحاب ابن جريج أرسلوا هذا الخبر عن عطاء* عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وضعفه شيخنا الألباني بقوله في التعليق على "صحيح ابن خزيمة": "قلت: فيه مع الإرسال الذي أشار إليه الحافظ -أي: ابن خزيمة- عنعنة ابن جريج، وكذا الوليد، وكان يدلس تدليس التسوية، وهشام بن عمار كان يتلقن".
بقي بعد هذا أمر، وهو أن ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 166/ 1632" أورد هذا الحديث بقوله: "وروي عن ابن مسعود أنه جاء يوم الجمعة ... "، ثم قال: "ذكره أبو داود في "كتاب الجمعة" من "السنن"؛ فأوهم صنيعه هذا المصنف -الشاطبي- أن الحديث من مسند ابن مسعود، وليس هو كذلك بل هو -عن أبي داود- من مسند جابر، والمصنف ينقل كثيرًا من الأحاديث ويعزوها أو يحكم عليها تقليدًا لغيره، وقد أكثر في هذا الكتاب من النقل عن ابن عبد البر رحمه الله تعالى.
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "3/ 256-257"، والديلمي في "الفردوس" وابن عساكر في "تاريخ دمشق"، كما في "كنز العمال" "رقم 37170، 37171" بإسناد منقطع؛ فهو ضعيف.
__________
* انظر: "مسند الحارث" "1015 - زوائده"، و"ذم الكلام" "279".(3/406)
وَفِي الْبُخَارِيِّ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: "لَا يُصَلِّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ" 1، فَأَدْرَكَهُمْ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي الطَّرِيقِ؛ فَقَالَ بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، وَلَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم؛ فلم يعنف2 واحدة من الطائفتين.
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً، 2/ 436/ رقم 946، وكتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، 7/ 407-408/ رقم 4119"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، 3/ 1391/ رقم 1770" عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.
2 عدم التعنيف لا يدل على صواب النظرين؛ لأن المجتهد المخطئ مأجور، فضلًا عن كونه لا يعنف؛ فليس في الحديث ما يدل على غرض المؤلف من صحة النظر إلى مجرد الأمر، على أن المؤخرين للصلاة قد يكونون فهموا من النهي عن الصلاة أن هناك مصلحة دينية أو دنيوية علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يبادر لبيانها لهم؛ فلا يكونون قد استندوا لمجرد الأمر. "د".
قلت: وسمعت شيخنا الألباني -حفظه الله- مرارًا يقول عن الصلاة في بني قريظة: إنها من قضايا الأعيان، ولن تتكرر، ولذا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن الفريقين، مع أن أحد الفريقين مصيب لا كلاهما، قال حفظه الله في التعليق على حديث "رقم 1981" من "السلسة الضعيفة" ما نصه: "يحتج بعض الناس اليوم بهذا الحديث على الدعاة من السلفيين، وغيرهم، الذين يدعون إلى الرجوع فيما اختلف فيه المسلمون إلى الكتاب والسنة، يحتج أولئك على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر خلاف الصحابة في هذه القصة، وهي حجة داحضة واهية؛ لأنه ليس في الحديث إلا: "أنه لم يعنف واحدًا منهم"، وهذا يتفق تمامًا مع حديث الاجتهاد المعروف، وفيه أن من اجتهد فأخطأ فله أجر واحد؛ فكيف يعقل أن يعنف من قد أجر؟! وأما حمل الحديث على الإقرار للخلاف؛ فهو باطل لمخالفته للنصوص القاطعة الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والسنة عند التنازع والاختلاف؛ كقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ، وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَة =(3/407)
...........................................................................................................
__________
= مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية.
وإن عجبي لا يكاد ينتهي من أناس يزعمون أنهم يدعون إلى الإسلام، فإذا دعوا إلى التحاكم إليه؛ فقالوا: قال عليه الصلاة والسلام: "اختلاف أمتي رحمة"، وهو حديث ضعيف لا أصل له كما تقدم تحقيقه في أول هذه السلسلة، وهم يقرءون قول الله تعالى في المسلمين حقًا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
ووجدت كلامًا جيدًا حول هذا الحديث للحافظ ابن كثير في كتابه "الفصول في اختصار سيرة الرسول" "ص152-153"، قال رحمه الله تعالى: "قال ابن حزم [في "جامع السيرة" "ص192"] : وهؤلاء هم المصيبون وأولئك مخطئون مأجورون، وعلم الله لو كنا هناك لم نصلِّ العصر إلا في بني قريظة ولو بعد أيام".
قلت: أما ابن حزم؛ فإنه معذور لأنه من كبار الظاهرية، ولا يمكنه العدول عن هذا النص، ولكن في ترجيح أحد هذين الفعلين على الآخر نظر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدًا من الفريقين، فمن يقول بتصويب كل مجتهد؛ فكل منهما مصيب ولا ترجيح، ومن يقول بأن المصيب واحد -وهو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، لدلائل من الكتاب والسنة كثيرة- فلا بد على قوله من أن أحد الفريقين له أجران بإصابة الحق وللفريق الآخر أجر؛ فنقول وبالله التوفيق: الذين صلوا العصر في وقتها حازوا قصب السبق؛ لأنهم امتثلوا أمره صلى الله عليه وسلم في المبادرة إلى الجهاد وفعل الصلاة في وقتها، ولا سيما صلاة العصر التي أكد الله سبحانه المحافظة عليها في كتابه بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} ، وهي العصر على الصحيح المقطوع به -إن شاء الله- من بضعة عشر قولًا، والتي جاءت السنة بالمحافظة عليها، فإن قيل: كان تأخير الصلاة للجهاد حينئذ جائزًا، كما أنه صلى الله عليه وسلم أخر العصر والمغرب يوم الخندق واشتغل بالجهاد، والظهر أيضًا، كما جائ في حديث رواه النسائي [في "المجتبى" "1/ 297"، وفيه انقطاع عن ابن مسعود، ورواه عن أبي سعيد بإسناد صحيح؛ كما في "النيل" "2/ 32"] من طريقين؛ فالجواب أنه بتقدير تسليم هذا وأنه لم يتركها يومئذ نسيانًا، فقد تأسف على ذلك حيث يقول لما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله! ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب. فقال: "والله ما صليتها"، وهذا يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ناسيًا لها لما هو فيه من الشغل؛ كما جاء في "الصحيحين" عن علي رضي الله عنه؛ قال: =(3/408)
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَسَخُوا الْبَيْعَ الْوَاقِعَ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ؛ لِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْع} [الْجُمُعَةِ: 9] .
وَهَذَا وَجْهٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ يُمْكِنُ الِانْصِرَافُ إِلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِهِ عَامًّا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَرْجَحَ مِنْهُ، وَلَهُ مَجَالٌ فِي النَّظَرِ مُنْفَسِحٌ؛ فَمِنْ وُجُوهِهِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَخْلُو أَنْ نَعْتَبِرَ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمَصَالِحَ، أَوَّلًا، فَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْهَا؛ فَذَلِكَ أَحْرَى فِي الْوُقُوفِ مَعَ مُجَرَّدِهَا، وَإِنِ اعْتَبَرْنَاهَا؛ فَلَمْ يَحْصُلْ1 لَنَا مِنْ مَعْقُولِهَا أَمْرٌ يَتَحَصَّلُ2 عِنْدَنَا دُونَ3 اعْتِبَارِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي؛ فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ عَلِمْنَاهَا عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَنَحْنُ جَاهِلُونَ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ فَقَدْ عَلِمْنَا أن حد الزنى مثلا لمعنى الزجر بكونه4 في
__________
= قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا".
والحاصل أن الذين صلوا العصر في الطريق جمعوا بين الأدلة، وفهموا المعنى؛ فلهم الأجر مرتين، والآخرين حافظوا على أمره الخاص؛ فلهم الأجر رضي الله عنهم جميعهم وأرضاهم". انتهى، وما بين المعقوفتين من إضافاتي، وانظر: "تفسير ابن كثير "3/ 486 - ط المعرفة"، و"مدارج السالكين" "1/ 386 - ط الفقي".
1 أي لم يتحقق عندنا فيما نعقله من أنواع المصلحة في المأمورات والمنهيات ما يصح أن نعتمده ونجري تفهم الأوامر على مقتضاه، مغفلين النظر إلى صريح الأمر أو النهي، وذلك لمعنيين: أحدهما أنا قد نعقل الحكمة في أمر كالزجر في رجم الزاني المحصن، ولكن لا نعقل لماذا تعين هذا طريقًا للزجر، مع أنه كان يمكن الزجر بضرب العنق أو الجلد حتى يموت مثلًا، وهكذا؛ فهذا المقدار من العلم الإجمالي بالمصلحة لا يصح أن يبنى عليه شيء قد يكون فيه إهدار الأمر والنهي، وسيأتي المعنى الثاني في قوله: "وكثيرًا مما يظهر ... إلخ". "د".
2 أي: حتى يصح أن نفهم بواسطته تجديد المصلحة أو المفسدة التي يقصدها الشارع بالأمر أو النهي. "د".
3 أي: بأن نجعل تلك المصلحة ميزانًا لتفهم الأمر والنهي، بحيث تجعل المصلحة هي الحاكمة في توجيه الأوامر والنواهي الشرعية، وإن أدت إلى عدم اعتبار معناها الأصلي، ويؤول هذا إلى اعتبار المصلحة دونهما. "د".
4 في "ط": "فكونه".(3/409)
الْمُحْصَنِ الرَّجْمَ، دُونَ ضَرْبِ الْعُنُقِ، أَوِ الْجَلْدِ إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ إِلَى عَدَدٍ مَعْلُومٍ، أَوِ السَّجْنِ، أَوِ الصَّوْمِ، أَوْ بَذْلِ مَالٍ كَالْكَفَّارَاتِ، وَفِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ دون رجم، أَوِ الْقَتْلِ أَوْ زِيَادَةِ عَدَدِ الْجَلْدِ عَلَى الْمِائَةِ أَوْ نُقْصَانِهِ عَنْهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الزَّجْرِ الْمُمْكِنَةِ فِي الْعَقْلِ.
هَذَا كُلُّهُ لَمْ نَقِفْ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا حُدَّ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِذَا لَمْ نَعْقِلْ ذَلِكَ -وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلْعُقُولِ- دَلَّ عَلَى أَنَّ فِيمَا حُدَّ مِنْ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لَا نَعْلَمُهَا، وَهَكَذَا يُجْرَى الْحُكْمُ فِي سَائِرِ مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، أَمَّا التَّعَبُّدَاتُ1؛ فَهِيَ أَحْرَى بِذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ لَنَا إِذًا وِزْرٌ2 دُونَ الْوُقُوفِ مَعَ مُجَرَّدِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
وَكَثِيرًا3 مَا يَظْهَرُ لَنَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ لِلْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ مَعْنًى مَصْلَحِيٌّ، وَيَكُونُ4 فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، يُبَيِّنُهُ نَصٌّ آخَرُ يُعَارِضُهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى ذَلِكَ النَّصِّ دُونَ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَأَيْضًا5؛ فَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ لَا بد فيه من معنى
__________
1 أي: التي مبناها على مجرد التلقي دون النظر إلى المعقول من المصالح والحكم. "د".
2 بفتحتين: الملجأ والمعتصم. "ف".
3 مقابل لقوله: "وَإِنْ عَلِمْنَاهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَنَحْنُ جَاهِلُونَ بِهَا على التفصيل"؛ أي: قد نعلمها إجمالًا، وهذا هو المعنى الأول، وقد نفهم ببادئ النظر أنا عرفناها ثم يتبين أنها غير ما فهمناه، بسبب وقوفنا على نص آخر، أو بسبب اكتشاف قاعدة من أحكام الكون نفهم بها مصلحة للحكم الشرعي غير ما كنا نفهمها، يعني: وإذا لم نتحقق تعيين الحكمة للأمر؛ فلا يمكننا الخروج عما تقتضيه الصيغ بحسب ظاهرها. "د".
4 في "ط": "فيكون".
5 انظر: هل يستقل هذا بأن يكون وجهًا ثالثًا مغايرًا لما سبق، بحيث لا يستغنى عنه بقوله: "أما التعبدات.... إلخ؟ وإن كان في هذا لاحظ التعبد في الجميع. "د".(3/410)
تَعَبُّدِيٍّ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ لَمْ يَكُنْ لِإِهْمَالِهِ سَبِيلٌ؛ فَكُلُّ مَعْنَى يُؤَدِّى إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَإِذَا الْمَعْنَى1 الْمَفْهُومُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِنْ كَرَّ عَلَيْهِ بِالْإِهْمَالِ؛ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا؛ فَالْحَاصِلُ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَهُ؛ فَآلَ الْأَمْرُ فِي الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اعْتِبَارِهَا مَعَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي إِعْرَاضٌ عَنْ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ الْمَعْلُومَةِ؛ كَمَا فِي قَوْلِ2 الْقَائِلِ: لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الَّذِي بَالَ فِيهِ الْإِنْسَانُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَالَ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ صَبَّهُ فِي الْمَاءِ؛ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ.
لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا أَيْضًا مَعَارِضٌ بِمَا يُضَادُّهُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ فِي تَتَبُّعِ الْمَعَانِي مَعَ إِلْغَاءِ الصِّيَغِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شاةٌ" 3: إِنَّ الْمَعْنَى قِيمَةُ شَاةٍ؛ لِأَنَّ المقصود سد الخلة، وذلك حاصل
__________
1 أي: الحكمة المعقولة للأمر والنهي إذا كانت تعارضهما وتؤدي إلى إهمالهما وإبطال مقتضاهما؛ فلا سبيل للأخذ بهذه الحكمة والبناء عليها، وسيأتي تمثيله بالشاة في الزكاة، وإن كانت لا تعارضهما، فمن باب أولى أن العمل إنما هو بمقتضاهما؛ فالمآل أنهما المرجع ومبنى الأحكام دون المعنى المصلحي، حتى على اعتبار المصالح. "د".
2 قال الفقهاء: لا فرق بين أن يقع البول في الماء مباشرة أو في إناء ثم يصب فيه، خلافًا للظاهرية وقوفًا منهم عند حرفية الدليل في حديث: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يتوضأ من هـ"، أو: "يغتسل منه"، أو: "فيه" * على الروايات الثلاث، حتى فرقوا بين البول فيه والتغوط فيه؛ فحرموا الأول دون الثاني، قال النووي: "وهو أقبح ما نقل عنهم من الجمود على الظاهر"؛ فقولهم بهذا الفرق إعراض منهم عن مقاصد الشرع الظاهرة. "د".
3 أخرج البخاري في "صحيحة" "كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، 4/ 317/ رقم 1454" ضمن حديث طويل فيه: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة".
__________
* انظر لتخريجه "نصب الراية" "1/ 101، 112".(3/411)
بِقِيمَةِ الشَّاةِ؛ فَجَعَلَ الْمَوْجُودَ مَعْدُومًا، وَالْمَعْدُومَ مَوْجُودًا، وَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا تَكُونَ الشَّاةُ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ عَيْنُ الْمُخَالَفَةِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهِ الْمُخَالَفَةِ النَّاشِئَةِ عَنْ تَتَبُّعِ الْمَعَانِي.
وَإِذَا كَانَتِ الْمَعَانِي غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ بِإِطْلَاقٍ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَقْصُودُ الصِّيَغِ؛ فَاتِّبَاعُ أَنْفُسِ الصِّيَغِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ وَاجِبٌ لِأَنَّهَا مَعَ الْمَعَانِي كَالْأَصْلِ مَعَ الْفَرْعِ، وَلَا يَصِحُّ اتِّبَاعُ الْفَرْعِ مَعَ إِلْغَاءِ الْأَصْلِ، وَيَكْفِي مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى رُجْحَانِ هَذَا النَّحْوِ مَا ذُكِرَ.
وَالثَّانِي مِنَ النَّظَرَيْنِ: هُوَ مِنْ حَيْثُ يُفْهَمُ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي قَصْدٌ شَرْعِيٌّ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ1، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنَ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ أَوِ الْمَقَالِيَّةِ الدالة على
__________
1 أي: استقراء ما ورد في الكتاب والسنة من الأوامر أو النواهي في خصوص هذه المأمورات أو المنهيات؛ فإن تنوع الصيغ في مختلف التراكيب مع الالتفات للقرائن المحتفة بها يدل على عين المصلحة المقصود للشارع تحصيلها، وفيه إشارة إلى دفع ما سبق من أنه لا يمكن تحديد المصلحة وتعيينها؛ فيقول هنا: إن ذلك ممكن باستقراء موارد هذه الأوامر وبالقرائن، وحينذاك تعرف المصلحة عينًا، ويصح أن يبنى عليها فهم الغرض من الأمر والنهي كما سيمثل له، أما مثاله هناك في حد الزنا؛ فيمكن أن يقال: نحن لا ندعي أن كل أمر يفهم منه قصد الشارع في المصلحة قصدًا محدودًا معينًا بمعرفة حكمته وسره، بل نقول: إذا دل الاستقراء على مقصود الشارع محدودا معينا، وإن لم تعرف الحكمة الخاصة؛ عول على المقصد وإن لزمه تأويل لفظ الأمر واستعماله في معنى مجازي، وإن لم نتحقق بالاستقراء والقرائن مقصوده كذلك؛ كان مما يحب فيه الوقوف عند الأمر والنهي حسب وضعه الأصلي، وكما أن فيه دفع الشق الأول وهو عدم تعيين المصلحة وتحديدها، فإن فيه دفع الشق الثاني السالف، وهو قوله: "وكثيرًا ما يظهر ببادئ الرأي ... إلخ؛ فكأنه يقول له: وما لنا ببادئ الرأي وأوله؟ إنما نقول بحسب الاستقراء وتتبع القرائن، فإذا كان كذلك؛ فإنه لا يتبين بنص آخر خلاف المعنى المصلحي الذي يبنى عليه فهم الأمر على حقيقته، على فرض توقف فهم قصد الشارع من الأمر على العلم بالمعنى المصلحي تفصيلًا. "د".(3/412)
أَعْيَانِ الْمَصَالِحِ فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَالْمَفَاسِدِ فِي الْمَنْهِيَّاتِ1؛ فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ: {أَقِيمُوا الصَّلاة} الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَالْإِدَامَةُ2 لَهَا، وَمِنْ قَوْلِهِ: "اكْلَفُوا مِنَ العمل ما لكم له طَاقَةٌ" 3 الرِّفْقُ بِالْمُكَلَّفِ خَوْفَ الْعَنَتِ أَوِ الِانْقِطَاعِ، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْسُ التَّقْلِيلِ مِنَ الْعِبَادَةِ، أَوْ تَرْكُ الدَّوَامِ عَلَى التَّوَجُّهِ لِلَّهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه} [الْجُمُعَةِ: 9] مَقْصُودُهُ الْحِفْظُ عَلَى إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ فِيهَا، لَا الْأَمْرُ بِالسَّعْيِ إِلَيْهَا فَقَطْ.
وَقَوْلُهُ: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَةِ: 9] جارٍ مَجْرَى التَّوْكِيدِ لِذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَةِ الشَّاغِلِ عَنِ السَّعْيِ، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ مُطْلَقًا4 فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، عَلَى حَدِّ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ5، أَوْ بَيْعِ الرِّبَا، أَوْ نَحْوِهِمَا6.
وَكَذَلِكَ إِذَا قال: "لا تصوموا يوم النحر" 7 المفهوم مَثَلًا قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَى تَرْكِ إِيقَاعِ الصَّوْمِ فِيهِ خُصُوصًا، وَمِنْ قَوْلِهِ: "لَا تُوَاصِلُوا" 8، أَوْ قوله: "لا
__________
1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" 25/ 282-283 و29/281-292".
2 وهذا فُهِم بتتبع الأوامر الواردة في المحافظة على الصلاة، ومن القرائن المحتفة بهذه الأوامر وهي فعله صلى الله عليه وسلم وفعل صحابته في إقامه الصلاة مع القرائن المقالية؛ كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات} [البقرة: 238] ، وهكذا. "د".
3 مضى تخريجه "ص404".
4 أي: بل ذلك لمن تلزمه الجمعة فقط، لأنه يكون معطلًا له وشاغلًا عنها؛ فليس النهي عنه مقصودًا لذاته، بل هو تبعي مكمل لطلب إقامة الجمعة؛ فلذلك قال: "جارٍ مجرى التوكيد"؛ لأن الأمر بالسعي متضمن للنهي عما يشغل عنه؛ فكان التصريح بهذا المنهي كالتأكيد. "د".
5 سيأتي تخريجه "ص416".
6 في الأصل: "نحوها".
7 مضى تخريجه "ص404"، وهو صحيح.
8 مضت الأحاديث التي فيها النهي عن ذلك.(3/413)
تَصُومُوا الدَّهْرَ" 1 الرِّفْقُ بِالْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيمَا لَا يُحْصِيهِ وَلَا يَدُومُ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُوَاصِلُ وَيَسْرُدُ الصَّوْمَ2، كان يصوم حتى يقال3: لا يفطر، ويفطر حتى يقال3: لا يصوم4.
وواصل عليه الصلاة والسلام، وواصل السلف الصالح مع علمهم بالنهي؛ تحققًا بأن مغزى النهي الرفق والرحمة5، لا أن مقصود النهي عدم إيقاع الصوم ولا تقليله.
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي مَغْزَاهَا رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُفْهَمُ مِنْ مَغْزَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْإِبَاحَةُ6، وَإِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ لَا تَقْتَضِي بِوَضْعِهَا الْأَصْلِيِّ ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [الْمَائِدَةِ: 2] ، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْض} [الْجُمُعَةِ: 10] ؛ إِذْ عُلِمَ قطعًا أن مقصود
__________
1 ورد في النهي عن صيام الدهر أحاديث كثيرة، تراها في "صحيح البخاري" "كتاب الصوم، باب صوم الدهر، 4/ 220"، و"صحيح مسلم" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو....، 2/ 812-818"، ومنها ما عند مسلم "رقم 1159": "لا صام من صام الأبد".
2 مضى تخريجه "2/ 239"، وفي "ط": "ويسرد الصيام".
قال "ف": "أي: يواليه ويتابعه تعليمًا للأمة كيف تجاهد نفسها وتصبر عند صدمات الشدائد".
3 في "ط": "يقولوا".
4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب ما يذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم، 4/ 215/ رقم 1971"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، 2/ 811/ 1157" عن ابن عباس؛ قال: "ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا قط غير رمضان، ويصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم".
5 كما جاء النص به، وقد مضى "2/ 240".
6 وقد ذكروا للأمر ستة عشر معنى مجازيًا، وقالوا: يجب أن تكون الإباحة وغيرها معلومة من غير الصيغة، حتى يكون العلم قرينة على إرادة غير الطلب. "د".(3/414)
الشَّارِعِ لَيْسَ مُلَابَسَةَ الِاصْطِيَادِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ، وَلَا الِانْتِشَارَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَدْ زَالَ، وَهُوَ انْقِضَاءُ1 الصَّلَاةِ، وَزَوَالُ2 حُكْمِ الْإِحْرَامِ.
فَهَذَا النَّظَرُ يُعَضِّدُهُ الِاسْتِقْرَاءُ أَيْضًا، وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ.
وَأَيْضًا؛ فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ شَرْعًا، وَأَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهَا، فَلَوْ تَرَكْنَا اعْتِبَارَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لَكُنَّا قَدْ خَالَفْنَا3 الشَّارِعَ مِنْ حَيْثُ قَصْدِنَا مُوَافَقَتَهُ، فَإِنَّ الْفَرْضَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَقَعَ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا أَلْغَيْنَا النَّظَرَ فِيهَا فِي التَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ؛ كُنَّا قَدْ أَهْمَلْنَا فِي الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِ الْأَمْرِ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِيهِ؛ فَيُوشِكُ4 أَنْ نُخَالِفَهُ فِي بَعْضِ مَوَارِدِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوِصَالَ وَسَرْدَ5 الصِّيَامِ قَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَقَدْ وَاصَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بأصحابه حين نهاهم فلم ينتهوا6.
__________
"1 و2" من إضافة الصفة للموصوف فيهما، والمقصود هو الموصوف. "د".
وكتب "ف": "أي: السبب بوصف الزوال هو انقضاء الصلاة وزوال حكم الإحرام، وإلا؛ فالإحرام والصلاة هما السببان المانعان".
3 أي: قد تحصل المخالفة من حيث قصدنا الموافقة بفعل مقتضى الصيغة مجردة عن القرائن التي تحدد معناها؛ كما سيقول: "فيوشك.. إلخ". "د".
4 لأن إهمال اعتبار المصلحة التي ورد الأمر أو النهي لتحقيقها يجعلنا غير ضابطين لحدود الأمر أو النهي؛ لأنه لا يكون لنا مرشد إلى مقصد الشارع سوى مجرد الصيغة، وقد لا تكون كافية في تحديد المقصد، فإذا التزمنا الوقوف معها فقط؛ فقد ننحرف عن الغرض الذي يرمي إليه الشرع، كما في مثاله بعد الذي كان يلزمه المحظوران المذكوران. "د".
5 في "ط": "أو سرد".
6 حتى قال لهم: "لو تأخر الشهر لزدتكم"؛ كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا، قاله المصنف "1/ 526"، وكان يقول: "لَوْ مُدَّ لَنَا فِي الشَّهْرِ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يدع المتعمقون تعمقهم، وتخريجه هناك في التعليق عليه، والله الموفق للخيرات، والهادي للصالحات.(3/415)
وَفِي هَذَا أَمْرَانِ إِنْ أَخَذْنَا بِظَاهِرِ النَّهْيِ:
أحدهما:
أنه نهاهم فلم ينتهوا؛ فلوا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ ظَاهِرُهُ لَكَانُوا قَدْ عَانَدُوا نَهْيَهُ بِالْمُخَالَفَةِ مُشَافَهَةً، وَقَابَلُوهُ بِالْعِصْيَانِ صُرَاحًا، وَفِي الْقَوْلِ بِهَذَا مَا فِيهِ.
وَالْآخَرُ:
أَنَّهُ وَاصَلَ بِهِمْ حِينَ لَمْ يَمْتَثِلُوا نَهْيَهُ، وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لَكَانَ تَنَاقُضًا1، وَحَاشَى لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ النَّهْيُ لِلرِّفْقِ بِهِمْ خَاصَّةً، وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يُسَامِحُوا أَنْفُسَهُمْ بِالرَّاحَةِ، وَطَلَبُوا فَضِيلَةَ احْتِمَالِ التَّعَبِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ؛ أَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُرِيَهُمْ بِالْفِعْلِ مَا نَهَاهُمْ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ دُخُولُ الْمَشَقَّةِ، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ نَهْيَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الرِّفْقُ بِهِمْ، وَالْأَخْلَقُ بِالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَا يَصْبِرُونَ عَلَى احْتِمَالِ اللَّأْوَاءِ2 فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِمْ.
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ أَشْيَاءَ وَأَمَرَ بِأَشْيَاءَ، وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ فِيهَا إِطْلَاقًا لِيَحْمِلَهَا الْمُكَلَّفُ فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ عَلَى التَّوَسُّطِ، لَا عَلَى مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ فَجَاءَ الْأَمْرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَسَائِرِ الْمَنَاهِي الْمُطْلَقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ جُعِلَ لَهُ النَّظَرُ فِيهَا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ وَمُنَّتُهُ3، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى مَعَ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ مُجَرَّدًا مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي.
وَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ4، وَذَكَرَ مِنْهُ أشياء؛ كبيع
__________
1 لأنه أقرهم على الوصال على أنه عبادة، مع أنه لو أخذ النهي على ظاهره لكان معصية، ولا يقال: إنه نسخ؛ لأن الحكم الأول بقي على حاله. "د".
2 أي: المشقة والشدة. "ف".
3 بضم الميم: القوة، وخص بعضهم بها قوة القلب. "ف".
4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والذي فيه غرر، 4 /1153/رقم 1513" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "نهى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بيع الحصاة، وعن بيع الغرر".(3/416)
الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُزْهَى1، وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ2، وَالْحَصَاةِ3 وَغَيْرِهَا.
وَإِذَا أَخَذْنَا بِمُقْتَضَى مُجَرَّدِ الصِّيغَةِ امْتَنَعَ عَلَيْنَا بَيْعٌ كَثِيرٌ مِمَّا هُوَ جَائِزٌ بيعه
__________
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها، 4/ 397/ رقم 2167" عن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعٍ الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن النخل حتى يزهو. قيل: وما يزهو؟ قال: "يحمار أو يصفار".
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، 4/ 398/ رقم 2199"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، 3/ 1166/ رقم 1534" عن ابن عمر مرفوعًا: "لا تتبايعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها".
وكتب "ف" هنا ما نصه: "هي مضارع أزهى النبت يزهى إذا احمر أو اصفر، ويقال: زها النبت يزهو إذ
انبت ثمره، وقيل: هما بمعنى الاحمرار والاصفرار، قال أبو الخطاب: لا يقال للنخل إلا يزهي، ولا يقال فيه يزهو. اهـ بتصرف".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الغرر وحبل الحبلة، 4/ 356"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب تحريم بيع حبل الحبلة، 3/ 1153-1154/ رقم 1514"، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية: "كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها"، فالمحتصل من معنى "بيع حبل الحبلة"، أي: بيع نتاج النتاج، أو أن يجعلوه أجلًا يتبايعون إليه.
3 مضى في التعليق على "2/ 522" حديث أبي هريرة: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر"، وتقدم هناك معنى بيع الحصاة، وقد فسر بعدة تفاسير، وكلها فيها الخطر والغرر الذي يجعلها كالقمار.
وقال "ف": "في الحديث نهي عن بيع الحصاة، وهو أن يقول المشتري أو البائع: إذا نبذت الحصاة إليك؛ فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يقول: بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا رميت بها، أو بعتك من الأرض إلى حيث تنتهي حصاتك، والكل فاسد من بيوع الجاهلية، وغرر لما فيها من الجهالة".
قلت: انظر فيه أيضًا "المعلم بفوائد مسلم" "2/ 160".(3/417)
وَشِرَاؤُهُ؛ كَبَيْعِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْقَسْطَلِ1 فِي قِشْرِهَا، وَبَيْعِ الْخَشَبَةِ2 وَالْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ، وَالْمَقَاثِي كُلِّهَا، بَلْ كَانَ يَمْتَنِعُ كُلُّ مَا فِيهِ وَجْهٌ مَغَيَّبٌ؛ كَالدِّيَارِ، وَالْحَوَانِيتِ الْمُغَيَّبَةِ الْأُسُسِ، وَالْأَنْقَاضِ3، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصٌّ بِالْجَوَازِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِحُّ4 فِيهِ الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْدُودٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ غَرَرًا مُتَرَدِّدًا5 بَيْنَ السَّلَامَةِ وَالْعَطَبِ؛ فَهُوَ مِمَّا خُصَّ بِالْمَعْنَى6 الْمَصْلَحِيِّ، وَلَا يُتْبَعُ فِيهِ اللفظ بمجرده.
__________
1 في "التذكرة": هو عند أهل مصر اسم للنبت المسمى شاه بلوط، وهو المعروف الآن بأبي فروة. "ف".
2 في "ط": "الخشب".
3 جمع نقض -بكسر النون- وهو اسم البناء المنقوض إذا هدم، وفي الاستعمال هنا توسع لا يخفى. "ف".
4 قال شراح الحديث: يستثنى من بيع الغرر أمران: الأول ما يدخل في المبيع تبعًا بحيث لو أفرد لم يصح بيعه، والثاني ما يتسامح فيه؛ إما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه وتعيينه، ومما يدخل تحت ما ذكر بيع أساس البناء، واللبن في الضرع، والحمل في بطن الدابة، والقطن المحشو في الجبة، إذا كانت تبعًا. "د".
5 أليس الجوز واللوز وأمثالهما مما تردد بين السلامة والعطب عند العقلاء؟ فالأفضل الرجوع إلى ما قلناه عن شراح الحديث من أن مثل هذا يتسامح فيه عادة للمشقة في معرفته، وكان يلزم إذا منع شرعًا دخوله في المعاوضات أن يحصل حرج ومشقة؛ فاقتضى التوسعة والرخصة. "د".
قلت: انظر "إعلام الموقعين" "1/ 360 وما بعده - ط دار الحديث"، و"المعلم بفوائد مسلم" "2/ 159-160" للمازري.
6 ألم يرد من الشارع في ذلك شيء من القول أو الفعل أو التقرير لبيع الدور ذات الأسس المغيبة في الأرض، والمقاثئ كالبطيخ، والجوز واللوز ونحوهما مما لا يعرف طعمه وموافقته إلا بكسره؟ يبعد جدًا أن ينقضي عهده صلى الله عليه وسلم ولا يكون في هذه الأشياء معاملة، حتى نضطر إلى أن القول بأنها إنما خصصت من الغرر بالمعنى المصلحي؛ أي: من المصالح المرسلة، على أنه قد يقال: كيف أنها تعد مرسلة مع أن اللفظ الوارد يشملها؟ إلا أن يقال: بل مراده الاستحسان، نعود للسؤال فنقول: ألم يكن البطيخ في عهده صلى الله عليه وسلم يباع ويشترى في السوق جهارًا؟ ففي "زاد المعاد" "4/ 353" أنه صح في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام يأكل البطيخ بالرطب، ويقول: "يدفع حر هذا برد هذا". "د".
قلت: أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأطعمة، باب القثاء، 9/ 572/ رقم 5447"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأشربة، باب أكل القثاء بالرطب/رقم 2043" عن عبد الله بن جعفر؛ قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل القثاء بالرطب"، والزيادة المذكورة عند أبي داود "رقم 3835"، والترمذي "رقم 1845"، وابن ماجه "رقم 3225"، وإسنادها صحيح.(3/418)
وَأَيْضًا؛ فَالْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ عَلَى تساوٍ فِي دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْهَا أَمْرُ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ وَمَا هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةٍ لَا تُعْلَمُ مِنَ النُّصُوصِ، وَإِنْ عُلِمَ مِنْهَا بَعْضٌ؛ فَالْأَكْثَرُ مِنْهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَمَا حَصَلَ لَنَا الْفَرْقُ بَيْنَهَا إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْمَعَانِي، وَالنَّظَرِ إِلَى الْمَصَالِحِ، وَفِي أَيِّ مَرْتَبَةٍ1 تَقَعُ، وَبِالِاسْتِقْرَاءِ2 الْمَعْنَوِيِّ، وَلَمْ نَسْتَنِدْ فِيهِ لِمُجَرَّدِ الصِّيغَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ فِي الْأَمْرِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَّا عَلَى قِسْمٍ وَاحِدٍ، لَا عَلَى أَقْسَامٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالنَّهِيُ كَذَلِكَ أَيْضًا، بَلْ نَقُولُ: كَلَامُ الْعَرَبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنِ اعْتِبَارِ مَعْنَى3 الْمُسَاقِ فِي دَلَالَةِ الصِّيَغِ، وَإِلَّا صَارَ ضحكة وهزءة4، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ أَسَدٌ أَوْ حِمَارٌ، أَوْ عَظِيمُ الرَّمَادِ، أَوْ جَبَانُ الْكَلْبِ، وفلانة بعيدة مهوى القرط5، وما لا
__________
1 أمن الضروريات هي، أم من الحاجيات، أم من التحسينات؟ "د".
2 أي: في موارد الأوامر وما يحتف بها من القرائن الحالية والمقالية كما سبق. "د".
3 ليكون قرينة ضابطة لغرض المتكلم، وصارفة له إلى حيث يريد وإن لم يكن هو المعنى الأصلي؛ كما مثله بعد. "د".
4 في "اللسان": "رجل ضحكة؛ بالتسكين: يضحك منه، وعن الليث: الضحكة؛ بفتح الحاء: الرجل الكثير الضحكة، يعاب عليه" ا. هـ. ورجل هزأة؛ بالتسكين: يهزأ به، وقيل: يهزأ منه. ا. هـ. "ف".
5 كناية عن لازمه وهو طول الجيد، وقد عدوه من الكناية القريبة، كما في قول عمر بن أبي ربيعة:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم "د"
أما "ف"؛ فقال: "بضم فسكون: نوع من الحلي يعلق في الأذن يعرف بالحلق، ويقال له لغة أيضًا: الشنف؛ بفتح فسكون".(3/419)
يَنْحَصِرُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ، لَوِ اعْتُبِرَ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى مَعْقُولٌ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
وَعَلَى هَذَا الْمُسَاقِ يَجْرِي التَّفْرِيقُ1 بَيْنَ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَصَبِّهِ مِنَ الْإِنَاءِ فِيهِ.
وَقَدْ حَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ2 عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ3 أَنَّهُ نَاظَرَ أَبَا بَكْرِ بْنَ دَاوُدَ الْأَصْبَهَانِيَّ فِي الْقَوْلِ بِالظَّاهِرِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ3: "أَنْتَ تَلْتَزِمُ الظَّوَاهِرَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزَّلْزَلَةِ: 7] ؛ فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّتَيْنِ؟ فَقَالَ مُجِيبًا: الذَّرَّتَانِ ذَرَّةٌ وَذَرَّةٌ. فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ3: فَلَوْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَنِصْفٍ؟ فَتَبَلَّدَ وَانْقَطَعَ"4.
وَقَدْ نَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَذْهَبَ دَاوُدَ بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ5، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ تَغَالِيًا فِي رَدِّ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ؛ فالعمل بالظواهر أيضًا
__________
1 أي: فلو اعتبر اللفظ بمجرده فيه كما اعتبره الظاهرية؛ لم يكن له معنى معقول، بل المعقول مما سيق له الحديث أنه لا فرق بين الأمرين؛ لأن كلا منهما قد يكون سببًا في تنجيس الماء وإفساده. "د".
2 في كتابه "البرهان في أصول الفقه" "2/ 881".
3 في "ط" في المواضع كلها: "ابن شريح"، وهو خطأ.
4 في "البرهان" "2/ 881": "فتبلد وظهر خزيه".
5 انظر آراء شديدة تهاجم الظاهرية في: "عارضة الأحوذي" لابن العربي "10/ 108-112"، و"طبقات الشافعية الكبرى" "2/ 45"، و"لسان الميزان" "2/422-424"، وكتابنا هذا "5/ 149".
ومن أحسن ما قيل في أهل الظاهر وأكثره موضوعية نقد ابن القيم الجوزية في "إعلام الموقعين" "2/ 26-40" الذي ذكر فيه أن لأهل الظاهر حسنات يقابلها سيئات؛ فقد أحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها والمحافظة عليها.
وانظر: "الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي" "ص143 وما بعدها".(3/420)
عَلَى تَتَبُّعٍ وتغالٍ بَعِيدٌ عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ، كَمَا أَنَّ إِهْمَالَهَا إِسْرَافٌ أَيْضًا، كَمَا تَقَدَّمَ [تَقْرِيرُهُ] فِي آخِرِ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَسَيُذْكَرُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَعَمِلَ الْعَامِلُ عَلَى مُقْتَضَى الْمَفْهُومِ مِنْ عِلَّةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ فَهُوَ جارٍ عَلَى السَّنَنِ الْقَوِيمِ، مُوَافِقٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي وِرْدِهِ وَصَدَرِهِ، وَلِذَلِكَ أَخَذَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَنْفُسَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالتَّحَرِّي فِي الْأَخْذِ بِالْعَزَائِمِ، وَقَهَرُوهَا تَحْتَ مَشَقَّاتِ التَّعَبُّدِ؛ فَإِنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ وَارِدَةٌ مَقْصُودَةٌ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي {لِنَنْظُرَ 1 كَيْفَ تَعْمَلُون} [يُونُسَ: 14] ، وَ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْكِ: 2] .
لَكِنَّ لَمَّا كَانَ الْمُكَلَّفُ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ، ضَعِيفًا فِي عَزْمِهِ ضَعِيفًا فِي صَبْرِهِ؛ عَذَرَهُ رَبُّهُ الَّذِي عَلِمَهُ كَذَلِكَ وَخَلَقَهُ عَلَيْهِ؛ فَجَعَلَ2 لَهُ مِنْ جِهَةِ ضَعْفِهِ رِفْقًا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ فِي الدُّخُولِ فِي الْأَعْمَالِ، وَأَدْخَلَ فِي قَلْبِهِ حُبَّ الطَّاعَةِ وَقَوَّاهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ مَعَهُ عِنْدَ صَبْرِهِ عَلَى بَعْضِ الزَّعَازِعِ الْمُشَوَّشَةِ، وَالْخَوَاطِرِ الْمُشْغِبَةِ3، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الرِّفْقِ بِهِ أَنْ جَعَلَ لَهُ مَجَالًا فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عن صَدَمَاتِهِ، وَتَهْيِئَةً لَهُ فِي أَوَّلِ الْعَمَلِ بِالتَّخْفِيفِ، اسْتِقْبَالًا بِذَلِكَ ثِقَلَ الْمُدَاوَمَةِ، حَتَّى لَا يَصْعُبَ عليه البقاء فيه والاستمرار عليه، فإذا دخل الْعَبْدَ حُبُّ الْخَيْرِ، وَانْفَتَحَ لَهُ يُسْرُ الْمَشَقَّةِ؛ صار
__________
1 في المطبوع: "لينظر" بلام وياء، وفي [الأعراف: 129] {فَيَنْظُر} ، وفي [يونس: 14] : {لِنَنْظُر} بنون.
2 وقال: "اكفلوا من العمل ما لكم به طاقة"، ونحوه من موجبات الرفق. "د".
3 في "اللسان": "قال الجوهري: التشويش التخليط، وقال أبو منصور: لا أصل له في العربية، وإنما هو من كلام المولدين، وأصله التهويش وهو التخليط. "المشغبة"؛ أي: الموقعة في الشغبة بسكون الغين، وهو الفتنة والعامة تفتحها". "ف".(3/421)
الثَّقِيلُ عَلَيْهِ خَفِيفًا، فَتَوَخَّى مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ بِقَوْلِهِ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 8] ، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذَّارِيَاتِ: 56] .
فَكَأَنَّ الْمَشَقَّةَ وضدها إضافيان لا حقيقيتان1 كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسَائِلِ الرُّخَصِ فَالْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ، وَكُلُّ أَحَدٍ فَقِيهُ نَفْسِهِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الْمُرَادُ بِهِمَا الرِّفْقُ وَالتَّوْسِعَةُ عَلَى الْعَبْدِ؛ اشْتَرَكَتِ الرُّخْصُ مَعَهُمَا فِي هَذَا الْقَصْدِ، فَكَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الْعَزَائِمِ مَقْصُودًا أَنْ يَمْتَثِلَ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَفِي الرِّفْقِ رَاجِعًا إِلَى جِهَةِ الْعَبْدِ: إِذَا اخْتَارَ مُقْتَضَى الرِّفْقِ؛ فَمِثْلَ الرُّخْصَةِ، وَإِذَا اخْتَارَ خِلَافَهُ؛ فَعَلَى مُقْتَضَى الْعَزِيمَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا قَوْلُهُ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 8] وَأَشْبَاهُهُ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي غَيْرُ الصَّرِيحَةِ؛ فَضُرُوبٌ:
أَحَدُهَا:
مَا جَاءَ مَجِيءَ الْإِخْبَارِ عَنْ تَقْرِيرِ الْحُكْمِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} [الْبَقَرَةِ: 183] .
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنّ} [الْبَقَرَةِ: 233] .
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 2 [النِّسَاءِ: 141] .
{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِين} [الْمَائِدَةِ: 89] .
وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ؛ فَهَذَا ظَاهِرُ الْحُكْمِ، وَهُوَ جارٍ مَجْرَى الصَّرِيحِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَالثَّانِي:
مَا جَاءَ مَجِيءَ مَدْحِهِ أَوْ مَدْحِ فَاعِلِهِ فِي الأوامر، أو ذمه أو ذم فاعله
__________
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "حقيقتان".
2 فالمراد النهي عن جعل المؤمنين أنفسهم تحت سلطة الكافرين بأي طريق كان، وليس هذا خبرًا محضًا، وإلا؛ لكان بخلاف مخبره، وهو محال. "د".(3/422)
فِي النَّوَاهِي، وَتَرْتِيبِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْأَوَامِرِ وَتَرْتِيبِ الْعِقَابِ فِي النَّوَاهِي أَوِ الْإِخْبَارِ1 بِمَحَبَّةِ اللَّهِ فِي الْأَوَامِرِ وَالْبُغْضِ وَالْكَرَاهِيَةِ أَوْ عَدَمِ الْحُبِّ فِي النَّوَاهِي.
وَأَمْثِلَةُ هَذَا الضَّرْبِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الْحَدِيدِ: 19] .
وَقَوْلِهِ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُون} [الْأَعْرَافِ: 81] .
وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النِّسَاءِ: 13] .
وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا} [النِّسَاءِ: 14] .
وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} [آلِ عِمْرَانَ: 134] .
وَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الْأَعْرَافِ: 31] .
{وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر} [الزُّمَرِ: 7] .
{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزُّمَرِ: 7] .
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَإِنَّ هذه الأشياء الدالة عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ فِي الْمَحْمُودِ، وَطَلَبِ التَّرْكِ فِي الْمَذْمُومِ، مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ.
وَالثَّالِثُ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ؛ كَالْمَفْرُوضِ فِي مَسْأَلَةِ "مَا لا2 يتم
__________
1 في "ط": "والإخبار".
2 كغسل جزء من الرأس لاستيفاء غسل الوجه؛ فهذا لا يتم عادة غسل الوجه بدونه؛ فهل يجب غسل هذا الجزء وجوبًا تابعًا لإيجاب غسل الوجه، أم لا يجب شرعًا وإن كان لا بد منه عادة؟ وإذا لم يفعله المكلف؛ فهل يأثم بتركه غير إثمه بترك غسل الوجه، أم لا إثم إلا بالأخير فقط؟ والمختار كما عند ابن الحاجب أن ما لا يتم الواجب إلا به ليس بواجب شرعًا إلا إذا كان شرطًا شرعيًا، وأما الشرط العقلي أو العادي؛ فالمختار أنه لا يجب تبعًا، وليس هنا إلا وجوب واحد لغسل الوجه، وقيل: الشروط كلها واجبة، وقيل: كلها غير واجبة، وهذا الخلاف في غير الأسباب، أما =(3/423)
الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ"، وَفِي مَسْأَلَةِ "الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ1 عَنْ ضِدِّهِ؟ "، و"كون الْمُبَاحِ مَأْمُورًا بِهِ"2 بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْكَعْبِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي هِيَ لُزُومِيَّةٌ لِلْأَعْمَالِ، لَا مَقْصُودَةٌ لِأَنْفُسِهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا وَفِي اعْتِبَارِهَا، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَكِنْ إِذَا بَنَيْنَا عَلَى اعْتِبَارِهَا؛ فَعَلَى الْقَصْدِ الثَّانِي لَا عَلَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ هِيَ أَضْعَفُ3 فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْأَوَامِرِ والنواهي الصريحة التبعية؛ كقوله: {وَذَرُوا
__________
= الأسباب؛ فقد نقل الإجماع على وجوبها، بل قالوا: إن التكليف في المسببات إنما هو في الحقيقة بأسبابها كالحز بالسكين بالنسبة للقتل؛ لأن المسببات غير مقدورة، والمقدور هو السبب كما تقدم. "د".
قلت: انظر في القاعدة: "البحر المحيط" "1/ 223"، و"مذكرة في أصول الفقه" "ص26"، و"البرهان" "1/ 257"، و"الإحكام" "1/ 110" للآمدي، و"المسودة" "60"، و"المستصفى" "1/ 71". و"التمهيد" "1/ 322"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص160"، و"القواعد" للمقري "2/ 393، القاعدة الرابعة والأربعون بعد المائة"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 159".
1 والمختار أنه ليس نهيًا عن ضده، بل ولا يتضمنه، والكلام فيه يرجع في كثير من مباحثه إلى الكلام في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به، وفي كل منهما لا يوجد تعلق لخطاب شرعي، مع أنه لا تكليف بغير تعلق الخطاب. "د".
قلت: انظر في القاعدة: "المحصول" "2/ 199"، و"البحر المحيط" "2/ 416"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 174-178 و10/ 531-532 و11/ 673-675 و16/ 37، 20/ 118-119، 159-160".
2 انظر في هذه القاعدة: "المستصفى" "1/ 74"، و"إحكام الفصول" "ص193" للباجي، و"المسودة" "ص65"، و"البرهان" "1/ 102"، و"البحر المحيط" "1/ 241، 279"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 161 وما بعدها"، وما مضى "1/ 175 و3/ 220".
3 ولذلك اختلف في أنها أوامر ونواهي شرعية بخلاف الصريحة التبعية؛ فلا يتأتى فيها الاختلاف في هذا وإن اختلف في ترتب أحكام خاصة عليها؛ كنسخ البيع وقت النداء. "د".(3/424)
الْبَيْع} [الْجُمُعَةِ: 9] ؛ لِأَنَّ رُتْبَةَ الصَّرِيحِ لَيْسَتْ كَرُتْبَةِ الضِّمْنِيِّ فِي الِاعْتِبَارِ أَصْلًا.
وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ أَنَّ الْمَقَاصِدُ الشَّرْعِيَّةُ ضَرْبَانِ: مَقَاصِدٌ أَصْلِيَّةٌ وَمَقَاصِدٌ تَابِعَةٌ؛ فَهَذَا الْقِسْمُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مُسْتَمَدٌّ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِقْهٌ كَثِيرٌ1، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَسْأَلَةٍ2 تُقَرِّرُهَا فِي فَصْلٍ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، حَتَّى تُتَّخَذَ دُسْتُورًا لِأَمْثَالِهَا فِي فِقْهِ الشَّرِيعَةِ بِحَوْلِ اللَّهِ.
فصل
"الغضب" عند الفقهاء هو التعدي على الرقاب، و"التعدي" مُخْتَصٌّ بِالتَّعَدِّي عَلَى الْمَنَافِعِ دُونَ الرِّقَابِ3.
فَإِذَا قَصَدَ الْغَاصِبُ تَمَلُّكَ رَقَبَةِ الْمَغْصُوبِ؛ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، آثِمٌ4 فِيمَا فَعَلَ مِنْ جِهَةِ مَا قَصَدَ، وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الرَّقَبَةَ؛ فَكَانَ النَّهْيُ أَوَّلًا عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الرَّقَبَةِ، وَأَمَّا التَّعَدِّي عَلَى الْمَنَافِعِ؛ فَالْقَصْدُ فِيهِ تَمَلُّكُ الْمَنَافِعِ دُونَ الرَّقَبَةِ؛ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ الِانْتِفَاعِ مِنْ جِهَةِ مَا قَصَدَ، وَهُوَ لَمْ يقصد إلا
__________
1 أي: يترتب على تمييز المقاصد الأصلية عن المقاصد التابعة فقه كثير لمسائل الشريعة، وإدراك لأحكام تفاريع كثيرة مما ينبني على كل منهما. "د".
2 أي: من مسائل المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة المناسبة لهذا المقام بخصوصه مقام الأمر والنهي الأصلي والتبعي، وما يترتب على كل منهما من حيث اعتباره وعدمه؛ ليستفاد منها حكم أمثالها في الأوامر والنواهي الأصلية والتبعية في غير مسألة الغصب والتعدي التي عقد لها الفصل. "د".
3 انظر: "المدونة الكبرى" "4/ 184-185"، و"عدة البروق في جمع ما في المذهب من الجموع والفروق" "ص926 وما بعدها" للونشريسي.
4 ويؤدب وجوبًا بما يراه الحاكم. "د".(3/425)
الْمَنَافِعَ، لَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُلْزِمُهُ1 الْآخَرُ بِالْحُكْمِ التَّبَعِيِّ، وَبِالْقَصْدِ الثَّانِي لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ.
فَإِذَا كَانَ غَاصِبًا؛ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلرِّقَابِ لَا لِلْمَنَافِعِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ يَوْمَ الْغَصْبِ، لَا بِأَرْفَعِ2 الْقِيَمِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ تَابِعٌ، فَإِذَا كَانَ تَابِعًا؛ صَارَ النَّهْيُ عَنِ الِانْتِفَاعِ تَابِعًا لِلنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الرَّقَبَةِ، فَلِذَلِكَ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْمَنَافِعِ؛ إِلَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ3 الْعُلَمَاءِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ مُشَارِكَةٌ4 فِي الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام:
__________
1 لأن غصب الرقبة يتبعه الاستيلاء على المنفعة، وعدم تمكين المالك منها، كذلك التعدي على المنفعة لا يكون إلا إذا استولى على الرقبة، وحال بينها وبين مالكها؛ فهما عمليًّا متلازمان، ولا يفرق بينهما إلا بالقصد، ومتى قصد أحدهما كان الثاني تابعًا له، وهناك يجيء الكلام في اختلاف الأحكام، وظاهر أنه بالاعتراف أو بالقرائن يعرف قصده من الغصب أو التعدي حتى يرتب الحاكم حكمه، والتلازم في هذا غير التلازم الذي أشار إليه فيما لا يتم الواجب إلا به، وفي مسألة الأمر بالشيء وما معهما؛ فلذلك قال بعد أن قرر ما يتعلق بالغصب: "وهذا البحث جارٍ ... إلخ"؛ فمسألة الغصب والتعدي صنف آخر مما يندرج في المقاصد الأصلية والتابعة غير صنف ما لا يتم الواجب إلا به، وما معه كما هو ظاهر. "د".
2 أي: من حين الغصب إلى وقت الحكم. "د".
3 قال ابن القاسم: "وأعتمد أن ربه إذا أخذ القيمة؛ فلا غلة له"، وقال بعضهم: إن غلة المغصوب لمالكه إذا كان أرضًا أو عقارًا استعملا في السكنى أو الزرع أو الكراء مثلا، وكذا غلة الحيوان التي لا تحتاج إلى تحريك؛ كالصوف، واللبن، وأما غلة الحيوان الحاصلة من التحريك؛ كالركوب، والإجارة، والحرث وما أشبه ذلك؛ فللغاصب في مقابلة الإنفاق عليه لأن الخراج بالضمان، وأما ما عطل ولم يستغل كمن غصب أرضًا بورًا؛ فلا كراء عليه، وإذا قصد غصب المنفقة؛ فعليه الكراء. "د".
4 أي: فالغاضب يقصد الرقبة والمنافع معًا قصدًا أصليًا. "د".(3/426)
"الْخَرَاجُ 1 بِالضَّمَانِ" 2، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِانْتِفَاعِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ، بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْغَصْبِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ صَحِيحًا عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ؛ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ3 مَعَ النَّهْيِ الضِّمْنِيِّ.
وَهَذَا الْبَحْثُ جارٍ فِي مَسْأَلَةِ "مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ؛ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ "، فَإِنْ قُلْنَا: "غَيْرُ وَاجِبٍ"؛ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ قُلْنَا: "وَاجِبٌ"؛ فَلَيْسَ وُجُوبُهُ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ "الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ؟ "، و"النهي عَنِ الشَّيْءِ هَلْ هُوَ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ"، فَإِنْ قُلْنَا بِذَلِكَ؛ فَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حُكْمٌ مُنْحَتِمٌ إِلَّا عِنْدَ فرضه بالقصد الأول، وليس
__________
1 أي: وقد دخل المغضوب في ضمان الغاصب من وقت الاستيلاء عليه. "د".
2 مضى تخريجه "ص204"، وهو صحيح، كتب "ف" هنا ما نصه: "الخراج غلة العابد والأمة، قال ابن الأثير -في تفسير الحديث-: يريد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة عبدًا كان أو أمة أو ملكًا، وذلك أن يشتريه فيستغله زمانًا ثم يعثر على عيب قديم؛ فله رد العين المبيعة وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن على البائع شيء، و"باء" الضمان متعلقة بمحذوف تقديره الخراج مستحق بالضمان؛ أي: بسببه" ا. هـ. ولأبي عبيد وغيره من أهل العلم ما يشبه هذا".
وقال "ماء": "أي غلة المشتري للمشتري، بسبب أنه في ضمانه، وذلك بأن يشتري شيئًا ويستغله زمانًا ثم يعثر -أي: يطلع منه- على عيب دلسه البائع ولم يطلع عليه؛ فله رده -أي الشيء المشترى- على البائع، والرجوع عليه بالثمن جميعه، وأن الغلة التي استغلها المشترى؛ فهي له لأنه كان في ضمانه، ولو هلك من ماله".
3 أي: البيع إذا فرض أنه لم ينه عنه صراحة، بل اكتفى باندراجه ضمن الأمر في قوله: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ؛ فيكون شبيهه وهو النهي التبعي عن الاستيلاء على منافع المغصوب كذلك؛ أي: لا يرتب عليه حكم النهي؛ فلا يعتد بقيمة المنافع ولا تضمن، لأن النهي عنها حينئذ ليس أصليًا بل تبعي، وقد عرفنا أن التبعي حتى الصريح كما ورد في {وَذَرُوا الْبَيْع} [الجمعة: 9] لم يرتب عليه حكمه؛ فهذا أولى. "د".(3/427)
كَذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا؛ فَضَمَانُهُ ضَمَانُ1 التَّعَدِّي لَا ضَمَانُ الْغَصْبِ؛ فَإِنَّ الرَّقَبَةَ تَابِعَةٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ صَارَ النَّهْيُ عَنْ إِمْسَاكِ الرَّقَبَةِ تَابِعًا لِلنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَنَافِعِ، فَلِذَلِكَ يَضْمَنُ بِأَرْفَعِ2 الْقِيَمِ مُطْلَقًا، وَيَضْمَنُ مَا قَلَّ وَمَا كَثُرَ، وَأَمَّا ضَمَانُ الرَّقَبَةِ فِي التَّعَدِّي؛ فَعِنْدَ التَّلَفِ3 خَاصَّةً، مِنْ حَيْثُ كَانَ تَلَفُهَا عَائِدًا عَلَى الْمَنَافِعِ بِالتَّلَفِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُمَا وَاحِدًا؛ لَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَالِكٌ وَلَا غَيْرُهُ، قَالَ مَالِكٌ فِي الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ: "إِذَا حَبَسَ الْمَغْصُوبَ أَوِ الْمَسْرُوقَ عَنْ أَسْوَاقِهِ وَمَنَافِعِهِ ثُمَّ رَدَّهُ بِحَالِهِ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ4 وَإِنْ كان مستعيرًا5 أو متكاريًا ضمن قيمته"6
__________
1 فرقوا بين ضمان الغصب وضمان التعدي بأمور: منها أن التلف بسماوي يضمنه في الغصب لا التعدي، ومنها أن تغير السوق في الغصب لا يعتبر، وفي التعدي يعتبر مفوتًا فيضمن أعلى القيم، والسرقة كالغصب، ومنها أن الفساد اليسير من الغاصب يوجب للمالك أخذ قيمة المغصوب إن شاء واليسير من المتعدي يستوجب أخذ أرش النقص الحاصل فقط مع نفس المتعدى عليه، ومنها أنه إذا تعيب المغصوب بغير تعدي الغاصب خير ربه بين أخذه معيبًا ولا شيء له في نظير العيب وبين أخذ القيمة يوم الغصب، ومن صور التعدي زيادة المكتري والمستعير على المسافة المشترطة أو المدة المشترطة أو الحمل المشترط بغير إذن ربه ورضاه؛ فواضح أن المقصود فيهما المنافع، والذات تابعة. "د".
2 لأن من منافعها قيمتها؛ فأرفع القيم لها داخل في منافعها، فيضمنه مطلقًا سواء أكان الأرفع سابقًا ثم رخصت، أم لاحقًا بعدما كانت رخيصة، وسواء أكان للمتعدي دخل في علو القيمة أم لم يكن، كما يضمن غلتها قليلة كانت أو كثيرة. "د".
3 أي: التلف بتعديه هو؛ لأن التلف بتعديه لا فرق فيه بين الغصب والتعدي. "د".
4 أي: لا أعلى القيم ولا المنافع. "د".
قلت: في "د" و"ف": "ربه أن".
5 أي: وزاد على ما اشترط، كما أسلفنا؛ فيكون تعدي بالزيادة. "د".
6 انظر: "المدونة الكبرى" "4/ 182 - ط دار الكتب العلمية".(3/428)
وَهَذَا التَّفْرِيعُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَإِلَّا فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى غَيْرِهِ؛ فَالْمَأْخَذُ آخَرُ، وَالْأَصْلُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ1 ثَابِتٌ.
فَالْقَائِلُ2 بِاسْتِوَاءِ الْبَابَيْنِ يَنْبَنِي قَوْلَهُ عَلَى مَآخِذَ:
- مِنْهَا: الْقَاعِدَةُ الَّتِي يَذْكُرُهَا أَهْلُ الْمَذْهَبِ، وَهِيَ: "هَلِ الدَّوَامُ كَالِابْتِدَاءِ؟ "3، فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ الدَّوَامُ كَالِابْتِدَاءِ؛ فَذَلِكَ جَارٍ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْغَصْبِ؛ فَالضَّمَانُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَالْمَنَافِعُ تَابِعَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَالِابْتِدَاءِ؛ فَالْغَاصِبُ فِي كُلِّ حِينٍ كَالْمُبْتَدِئِ لِلْغَصْبِ، فَهُوَ ضَامِنٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ ضَمَانًا جَدِيدًا: فَيَجِبُ أَنْ يَضْمَنَ الْمَغْصُوبَ بِأَرْفَعِ4 الْقِيَمِ كَمَا قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ، قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: "لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَمَتَى لَمْ يَرُدَّهُ؛ كَانَ كَمُغْتَصِبِهِ حِينَئِذٍ".
- وَمِنْهَا: الْقَاعِدَةُ الْمُتَقَرِّرَةُ، وَهِيَ "أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا يَمْلِكُهَا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا بَارِيهَا تَعَالَى، وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ مِنْهَا الْمَنَافِعُ"5، وَإِذَا كَانَ كذلك؛ فهل القصد إلى
__________
1 أي: هنا وهو أن الأمر والنهي التبعيين غير منحتمين، وإنما المنحتم المقصود الأصلي ثابت، والمخالف للمشهور لا يفرع على ما ينافيه، بل على مآخذ أخرى لا تخرم هذا الأصل، أي: فمع بقاء اعتبار هذا الأصل يتأتى للمخالف مخالفة المشهور بناء على تلك المآخذ التي سيذكر منها أربعة؛ لأن كونه غير منحتم بمجرده لا ينافي أن ينضم إليه ما يجعله قويًا متأكدًا ينبني عليه ما ينبني على المقصد الأصلي، وبهذا يتضح معنى قوله بعد: "فَإِذَا نَظَرَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ بِالْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ ظهر وجه الخلاف"، وذلك لأنه لولا ثبوت هذه القاعدة وكان التبعي منحتمًا؛ لكان الواجب في الغصب ضمان المنافع قطعًا، ولم يكن للخلاف وجه. "د".
2 كالشافعية. "د".
3 انظر عنها: "إيضاح المسالك" "ص163" للونشريسي، و"قواعد المقري" "رقم 56".
4 أي: فيعتبر تغير الأسواق ويكون مفتونًا. "د".
5 انظر عنها: "المعيار المعرب" "5/ 334"، و"المعلم" للمازري "2/ 210"، و"الملكية ونظرية العقد في الفقه الإسلامي" "ص72" لمحمد أبو زهرة.(3/429)
مِلْكِ الرِّقَابِ مُنْصَرِفٌ إِلَى مِلْكِ الْمَنَافِعِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ مُنْصَرِفٌ إِلَيْهَا إِذْ أَعْيَانُ الرِّقَابِ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَعْيَانٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَنَافِعِ الْمَقْصُودَةِ؛ فَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْغَصْبِ وَالتَّعَدِّي فِي1 ضِمَانِ الْمَنَافِعِ، وإن قلنا: ليس بمنصرف؛ فهو مقتضى2 التَّفْرِقَةِ.
- وَمِنْهَا: أَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا قَصَدَ تَمَلُّكَ الرَّقَبَةِ؛ فَهَلْ يَتَقَرَّرُ لَهُ عَلَيْهَا شُبْهَةُ مِلْكٍ بِسَبَبِ ضَمَانِهِ لَهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَتَقَرَّرُ عَلَيْهَا [شُبْهَةُ مَالِكٍ] 3، كَالَّذِي فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ" 4، فَكَانَتْ كُلُّ غَلَّةٍ، وَثَمَنٍ يَعْلُو أَوْ يَسْفُلُ، أَوْ حَادِثٍ يَحْدُثُ لِلْغَاصِبِ وَعَلَيْهِ بِمُقْتَضَى الضَّمَانِ؛ كَالِاسْتِحْقَاقِ وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يتقرر له عليها شبهة ملك، بل المغضوب عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ؛ فَكُلُّ مَا يَحْدُثُ مِنْ غَلَّةٍ وَمَنْفَعَةٍ فَعَلَى مِلْكِهِ فَهِيَ لَهُ؛ فَلَا بُدَّ لِلْغَاصِبِ مِنْ غُرْمِهَا لِأَنَّهُ قَدْ غَصَبَهَا أَيْضًا.
وَأَمَّا5 مَا يَحْدُثُ مِنْ نَقْصٍ؛ فَعَلَى الغاصب بعدائه6 لأن نقص الشيء
__________
1 في "د": "لا ضمان".
2 في "د": "بمقتضى".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 مضى تخريجه "ص204".
5 تكميل لقوله: "وإن قلنا: إنه لا يتقرر.... إلخ" يريد به دفع ما يقال إذا كان كذلك؛ فالمعقول إذا حدث نقص بسماوي ألا يضمن في الغصب أيضًا، فأجاب بأنه ضمن لتعديه بالغصب؛ لأن النقص يرجع للذات، وهو ضامن لها، فيضمن أبعاضها، وقوله: "كما يضمن التعدي على المنافع" علمت أن ذلك إنما يكون في النقص الحاصل بتعديه لا بسماوي، وأن الغاصب يضمن مطلقًا. "د".
6 بفتح المهملتين، مصدر "عدا"؛ أي: ظلم. "ف".(3/430)
المغضوب إِتْلَافٌ لِبَعْضِ ذَاتِهِ، فَيَضْمَنُهُ كَمَا يَضْمَنُ الْمُتَعَدِّي عَلَى الْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الذَّاتِ مِنْ جُمْلَةِ المنافع، هذا أيضا ً مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ الْخِلَافُ.
- وَمِنْهَا: أن يقال: هل المغضوب إِذَا رُدَّ بِحَالِهِ إِلَى يَدِ صَاحِبِهِ يُعَدُّ كَالْمُتَعَدِّي فِيهِ لِأَنَّ الصُّورَةَ فِيهِمَا مَعًا وَاحِدَةٌ، وَلَا أَثَرَ لِقَصْدِ الْغَصْبِ إِذَا كَانَ الْغَاصِبُ قَدْ رَدَّ مَا غَصَبَ اسْتِرْوَاحًا مِنْ قَاعِدَةِ مَالِكٍ فِي اعْتِبَارِ الْأَفْعَالِ دُونَ النَّظَرِ إِلَى الْمَقَاصِدِ، وَإِلْغَائِهِ الْوَسَائِطَ، أَمْ لَا يُعَدُّ كَذَلِكَ؟ فَالَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ مَالِكٍ هُنَا أَنَّ لِلْقَصْدِ أَثَرًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ لَا أَثَرَ لَهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ مَالِكٌ فِي الْغَاصِبِ أَوِ السَّارِقِ إِذَا حَبَسَ الشَّيْءَ الْمَأْخُوذَ عَنْ أَسْوَاقِهِ ثُمَّ رَدَّهُ بِحَالِهِ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعِيرًا أَوْ مُتَكَارِيًا ضَمِنَ قِيمَتَهُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ1: "لَوْلَا مَا قَالَهُ مَالِكٌ؛ لَجَعَلْتُ عَلَى السَّارِقِ مِثْلَ مَا جُعِلَ عَلَى الْمُتَكَارِي".
فَهَذِهِ أَوْجُهٌ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْخِلَافِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَلَيْهَا، مَعَ بَقَاءِ الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى حَالِهَا، وَهَى أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْأَوَامِرِ أَوِ النَّوَاهِي بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ فَحُكْمُهُ مُنْحَتِمٌ، بِخِلَافِ مَا كَانَ مِنْهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، فَإِذَا نَظَرَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ بِالْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ ظَهَرَ وَجْهُ الْخِلَافِ، وَرُبَّمَا2 خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ أَشْيَاءُ تَرْجِعُ إِلَى الِاسْتِحْسَانِ، وَلَا تَنْقُضُ أَصْلَ الْقَاعِدَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ إِذَا عُرِضَتْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَبَيَّنَ3 مِنْهُ وَجْهُ صِحَّةِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ بُطْلَانِهَا، ووجه مذهب ابن
__________
1 في "المدونة الكبرى" "4/ 182 - ط دار الكتب العلمية".
2 يريد أخذ الحيطة لتثبيت هذا الأصل بأنه لا تضره مخالفة بعض الفروع له؛ لأن ذلك إنما جاء من مراعاة دليل شرعي آخر، وهو الاستحسان. "د".
3 لأن إقامة الصلاة فيها استيلاء على بعض منافعها، والنهي عنه تابع للنهي عن الاستيلاء على الذات؛ فيعود الكلام السابق برمته، بما في ذلك من الوجوه الأربعة التي ينبني عليها الخلاف في الصحة والبطلان. "د".(3/431)
حَنْبَلٍ وَأَصْبُغَ وَسَائِرِ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِهَا.
وَقَدْ أَذْكَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةً أُخْرَى تَرْجِعُ1 إِلَى هَذَا المعنى، وهي:
__________
1 أي: من جهة أن المعتبر هو المتبوع، هذا هو المقدار الذي تشترك فيه المسألتان، وما عداه يختلفان فيه؛ فموضوعها مختلف، وكون الاعتبار للمتبوع مختلف من حيث إنه في هذه يكون التابع ملغى وساقط الاعتبار شرعًا لأن اعتباره ينافي اعتبار المتبوع، بخلافه في المسألة السابقة؛ فإنه فقط غير منحتم بمجرده، وقد يعتبر إذا انضم إليه ما يقويه، واعتباره لا ينافي اعتبار المتبوع، وسيأتي له أن التابع لا يتعلق به أمر ولا نهي، مع أنه في المسألة السابقة تعلق به الأمر والنهي، لكن لا على وجه الانحتام. "د".(3/432)
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:
الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى مُتَلَازِمَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا مَأْمُورًا1 بِهِ وَالْآخِرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ عِنْدَ فَرْضِ الِانْفِرَادِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا فِي حُكْمِ التَّبَعِ لِلْآخَرِ وَجُودًا أَوْ عَدَمًا2 فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ3 مِنَ الِاقْتِضَاءَيْنِ مَا انْصَرَفَ إِلَى جِهَةِ الْمَتْبُوعِ، وَأَمَّا مَا انْصَرَفَ إِلَى جِهَةِ التَّابِعِ؛ فَمُلْغًى وَسَاقِطُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا:
مَا تَقَدَّمَ4 تَقْرِيرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، هَذَا5 وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ هُنَالِكَ غَيْرَ صَرِيحٍ وَهُنَا صَرِيحٌ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِذَا ثَبَتَ حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ، وَلِذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ الْقَائِلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ لَمْ يبنَ على كون النهي تبعيًّا6، وإنما
__________
1 يعني: مأذونا فيه؛ ليعم المباح كما سيأتي في الأمثلة. "د".
2 في "ط": "عرفًا".
3 أي: عند الاجتماع "د".
قلت: انظر في المسألة: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 295-305".
4 أي: في الفرق بين القصد الأصلي والتابع، واعتبار الأول دون الثاني، وبيان ذلك في الغصب والتعدي، وإن كان التابع هناك، كان الاقتضاء المتعلق به غير صريح بخلافه هنا؛ لأنه لا فرق بينهما متى ثبت حكم التبعية، إنما الفرق آتٍ من جهة القصد الأصلي والتبعي لا غير، والدليل كما ترى استئناس لا يصلح وحده أن يكون دليلًا في مسألة أصولية، مع العلم باختلاف موضوعي المسألتين، أما باقي الأدلة؛ فجيد. "د".
5 كلمة "هذا" للفصل بين الكلامين، وهي تقع قليلًا في كلام المؤلفين. "ف".
6 يعني: أن النهي مع كونه صريحًا لم يلتفت للبناء على الصراحة، ويرتب الحكم بالبطلان عليه في هذه الجهة، بل بناه على كونه مقصودًا قصدًا أصليًا؛ كالسعي سواء بسواء في أن كلا مقصود لذاته، وقد ذكر هذا تأييدًا لقوله: "فلا فرق بينهما إذا ثبت حكم التبعية"، ولكن يقال له: من أين لك هذا، ولم لا يجوز أن يكون مبناه على النهي الصريح وإن كان تبعيًا؟ فهذه دعوى محتاجة لدليل، ولا يفيد فيه ما يأتي من الدليلين بعده؛ لأنهما ليسا متلازمين كما هو موضوع الأدلة الآتية، بل موضوع المسألة هنا. "د".(3/433)
بَنَى الْبُطْلَانَ عَلَى كَوْنِهِ مَقْصُودًا.
وَالثَّانِي:
أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِذَا تَوَارَدَا عَلَى الْمُتَلَازِمَيْنِ؛ أَمَّا أَنْ يَرِدَا مَعًا عَلَيْهِمَا1، أَوْ لَا يَرِدَا أَلْبَتَّةَ، أَوْ يَرِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ إِذْ قَدْ فَرَضْنَاهُمَا مُتَلَازِمَيْنِ؛ فَلَا يُمْكِنُ الِامْتِثَالُ فِي التَّلَبُّسِ بِهِمَا لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَمِنْ حَيْثُ أَخَذَ فِي الْعَمَلِ صَادَمَهُ النَّهْيُ عَنْهُ، وَمِنْ حَيْثُ تَرَكَهُ صَادَمَهُ الْأَمْرُ؛ فَيُؤَدِّي إِلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَعَلَ أَوْ تَرَكَ2، وَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ3؛ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَالثَّانِي كَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الطَّلَبَيْنِ تَوَجَّهَا فَلَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُمَا مَعًا؛ فَلَمْ يبقَ إِلَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ أَحَدُهُمَا دُونَ الثَّانِي، وَقَدْ فَرَضْنَا أَحَدَهُمَا مَتْبُوعًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا، وَالْآخَرُ تَابِعًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ ثَانِيًا؛ فَتَعَيَّنَ تَوَجُّهُ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَتْبُوعِ دُونَ مَا تَعَلَّقَ بِالتَّابِعِ، وَلَا يَصِحُّ الْعَكْسُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَعْقُولِ.
وَالثَّالِثُ:
الِاسْتِقْرَاءُ مِنَ الشَّرِيعَةِ؛ كَالْعَقْدِ عَلَى الْأُصُولِ مَعَ مَنَافِعِهَا4 وَغَلَّاتِهَا، وَالْعَقْدِ عَلَى الرِّقَابِ مَعَ مَنَافِعِهَا وَغَلَّاتِهَا؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يُقْصَدُ فِي نَفْسِهِ؛ فَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الرِّقَابَ ويتبعها منافعها، وله أيضًا أن
__________
1 بحيث يعتبر كل من الاقتضاءين في محله فقط؛ فيكون أحدهما مأمورًا به والآخر منهيًّا عنه، لا أن كل من الاقتضاءين متوجه إلى كل من المحلين كما هو ظاهر العبارة. "د".
2 أي: أن فعل أو ترك؛ فكل منهما إذا أخذ به صادمه الآخر فيجتمع عليه الأمر والنهي معًا. "د".
قال "ف": "الأنسب العطف بالواو".
3 أي: وموضوع المسألة ليس فرضيًّا وعقليًّا فقط، بل هو واقع كالأمثلة. "د".
4 أي: التي قد لا تكون موجودة وقت العقد، بل قد لا توجد أصلًا وذلك مما كان يقتضي فساد العقد لو انفردت، لكنها لما كانت تابعة للمقصود الأصلي؛ جاز العقد عليها مع المتبوع؛ فلم تعتبر جهة النهي وهي ما فيها من الغرر والجهالة. "د".(3/434)
يَتَمَلَّكُ أَنْفُسَ الْمَنَافِعِ خَاصَّةً، وَتَتْبَعُهَا الرِّقَابُ مِنْ جِهَةِ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ، وَيَصِحُّ الْقَصْدُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَمِثْلُ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ يَتَبَيَّنُ فِيهَا وَجْهُ التَّبَعِيَّةِ بِصُوَرٍ لَا خِلَافَ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ فِي شِرَاءِ الدَّارِ أَوِ الْفَدَّانِ1 أَوِ الْجَنَّةِ2 أَوِ الْعَبْدِ أَوِ الدَّابَّةِ أَوِ الثَّوْبِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ عَقْدٌ عَلَى الرِّقَابِ لَا عَلَى الْمَنَافِعِ التَّابِعَةِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَدْ تَكُونُ مَوْجُودَةً3، وَالْغَالِبُ أَنْ تَكُونَ وَقْتَ الْعَقْدِ مَعْدُومَةً، وَإِذَا كَانَتْ مَعْدُومَةً؛ امْتَنَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا لِلْجَهْلِ بِهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَمِنْ كُلِّ طَرِيقٍ؛ إِذْ لَا يَدْرِي مِقْدَارَهَا وَلَا صِفَتَهَا وَلَا مُدَّتَهَا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ لَا يَدْرِي هَلْ تُوجَدُ مِنْ أَصْلٍ أَمْ لَا؛ فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا عَلَى فَرْضِ انْفِرَادِهَا4 لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَالْمَجْهُولِ، بَلِ الْعَقْدُ عَلَى الْأَبْضَاعِ5 لِمَنَافِعِهَا جَائِزٌ، وَلَوِ انْفَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ6؛ لَامْتَنَعَ مُطْلَقًا إِنْ كَانَ وَطْئًا، وَلَامْتَنَعَ فِيمَا سوى البضع أيضًا إلا بضابط
__________
1 في "اللسان": "الفدان بتشديد الدال: المزرعة" ا. هـ. "ف".
2 الجنة: البستان والحديقة، وقيل: لا تكون الجنة في كلام العرب إلا وفيها نخل، فإن لم يكن فيها ذلك وكانت ذات شجر؛ فهي حديقة، وليست بجنة. "ف".
3 وسيأتي أن هذه قسمان أحدهما حكمه حكم المعدومة أيضا. "د".
4 أي: ولكن مع تبعيتها للرقاب يكون النهي ساقط الاعتبار شرعًا. "د".
5 جمع بضع بالضم: وهو الفرج؛ فالكلام على تقدير مضاف، أي ذوات الفرج، والواقع أن العقد على الرقيق مطلقًا إنما هو لمنافعه، وليس لمالكه التصرف في ذاته كسائر مملوكاته. "د".
ونحوه عند "م" مختصرًا.
6 على تقدير مضاف كسابقه، أما في قوله "سوى البضع"؛ فلا يحتاج لتقدير، سواء أكان بالمعنى السابق أم كان بمعنى الوطء، أي: فالعقد على ذات الرقيق ورقبته جعل منافعه من الوطء وغيره مباحة مطلقًا لكونها تابعة للذات، ولو كانت وحدها؛ لامتنعت إما مطلقًا كالوطء، وإما إذا لم تستوفِ شرطها من تعينها بضابط يميزها، وهذا الموضع هو الذي سيقول فيه في الجواب عن الإشكال الثاني: "وظهر لك حكمة الشارع في إجازة ملك الرقاب ... إلخ".(3/435)
يُخْرِجُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ؛ كَالْخِدْمَةِ، وَالصَّنْعَةِ، وَسَائِرِ مَنَافِعِ الرِّقَابِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ. وَالْعَكْسُ كَذَلِكَ1 أَيْضًا كَمَنَافِعِ الْأَحْرَارِ، يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا فِي الْإِجَارَاتِ عَلَى الْجُمْلَةِ2 بِاتِّفَاقٍ، وَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الرِّقَابِ بِاتِّفَاقٍ3، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَالْعَقْدُ عَلَى الْمَنَافِعِ فِيهِ يَسْتَتْبِعُ الْعَقْدَ عَلَى الرَّقَبَةِ؛ إِذِ الْحُرُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ زَمَنَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ رَقَبَتِهِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ أَثَرُ كَوْنِ الرَّقَبَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا، لَكِنْ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى الْجُمْلَةِ يُعْطَى أَنَّ التَّوَابِعَ مَعَ الْمَتْبُوعَاتِ لَا يُتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ تَوَابِعُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا قُصِدَتِ ابْتِدَاءً، وَهِيَ إِذْ ذَاكَ مَتْبُوعَةٌ لَا تَابِعَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ بِأُمُورٍ:
أَحَدِهَا:
أَنَّ الْعُلَمَاءَ4 قَالُوا: إِنَّ الرِّقَابَ -وَبِالْجُمْلَةِ الذَّوَاتِ5- لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ6 فِي التَّمَلُّكِ شَرْعًا مَنَافِعُ الرِّقَابِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ هِيَ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الْعِبَادِ [بِالْمَصَالِحِ] 7، لَا أَنْفُسَ الذَّوَاتِ؛ فذات الأرض أو
__________
1 أي: فيصح العقد على ذات الرقيق وتتبعه المنافع التي منها البضع، ولو انفرد هذا لمنع، والحر يصح العقد على منافعه وتتبعه ذاته، ولو انفردت ذاته؛ لم يصح العقد عليها، والبضع في الأول تابع، والرقبة في الثاني تابعة؛ فلم يؤخذ فيهما بدليل النهي. "د".
2 أي: إذا وجد الضابط المذكور. "د".
3 لأنه تملك والحر لا يملك. "د".
4 نحو المذكور عند المازري في "المعلم" "2/ 210-211".
5 أعم لأن الرقاب جمع رقبة، وهي لغة المملوك من الرقيق. "د".
6 هذه المقابلة كانت تقتضي أن يقال: إن الذوات لا يملكها إلا الله، ولا يقصد شرعًا تمليكها للخلق، يعني: والمنافع وإن كانت لا يملكها إلا الله، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الزخرف: 85] ؛ إلا أن الشارع يقصد تمليكها للعبيد حسبما يناسبهم في ذلك، أما التقابل في عبارته؛! فليس بجيد. "د".
7 سقط من "ط".(3/436)
الدار أو الثواب أَوِ الدِّرْهَمِ مَثَلًا لَا نَفْعَ فِيهَا وَلَا ضُرٌّ مِنْ حَيْثُ هِيَ ذَوَاتٌ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ1 المقصود بها من حيث إن الأرض تزرع مثلا، والدار تسكن، والثواب يُلْبَسُ، وَالدِّرْهَمَ2 يُشْتَرَى بِهِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْمَنْفَعَةِ؛ فَهَذَا ظَاهِرٌ حَسْبَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْعَقْدُ أَوَّلًا إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْمَنَافِعِ خَاصَّةً، وَالرِّقَابُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمِلْكِ؛ فَلَا تَابِعَ وَلَا مَتْبُوعَ، وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَشْبَاهِهِ تَابِعٌ وَمَتْبُوعٌ بَطَلَ، فَكُلُّ مَا فُرِضَ3 مِنَ الْمَسَائِلِ خَارِجٌ عَنْ تَمْثِيلِ الْأَصْلَ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهِ أَوَّلًا وَاقِعًا فِي الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ ثَانِيًا.
وَالثَّانِي:
إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الذَّوَاتَ هِيَ الْمَعْقُودُ4 عَلَيْهَا؛ فَالْمَنَافِعُ هِيَ الْمَقْصُودُ [أَوَّلًا] 5 مِنْهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الذَّوَاتَ لَا نَفْعَ فيها ولا ضر من حيث هي ذوات؛ فَصَارَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا هِيَ الْمَنَافِعُ، وَحِينَ كَانَتِ المنافع لا تحصل على
__________
1 ومثله يقال فيما يؤكل ويشرب مثلًا، فإنما حصل المقصود به من حيث منفعته من التغذية والإرواء وهكذا؛ فلا يقال: إن هذا ينتفع به ذاته، ولكنه اختار التمثيل بما هو واضح القصد إلى منفعته لا إلى ذاته، وترك النوع الذي ذكرناه لأنه يشتبه أمره في بادئ النظر، وغرضه المهم ترويج الإشكال؛ فلا يأتي فيه إلا بما هو أقرب توصيلًا إلى هذا الغرض؛ فهو رحمه الله في طريقة الجدل صناع. "د".
2 في "ط": "أو الدار ... أو الثوب.... أو الدرهم".
3 أي: أن جميع الصور التي ذكرتها لتحقيق هذا الأصل فيها إنما فرضتها في ملك الذوات؛ فتكون المنافع تابعة، أو في ملك المنافع فقط؛ فتكون الذوات تابعة، وحيث إن ملك الذوات بطل ولا يوجد إلا ملك المنافع؛ فحقق أولًا متلازمين في الوجود، أحدهما تابع والآخر متبوع في صور لا يفرض فيها ملك الذوات، ثم استدل على الحكم الذي تدعيه فيه من إلغاء حكم التابع، أما ما صنعت؛ فإنه بناء فروض على فروض، ومثل هذا ليس من العلم في شيء على ما سبق من المقدمات. "د".
4 أي: مقصودة بالتملك شرعًا؛ ليكون تسليمًا لما منعه أولًا، أما كون المعقود عليه والذي تجري عليه الصيغ هو الذوات؛ فلم يكن محل المنع هناك، بل كان المنع لقصد تملكها رأسًا؛ فهنا يقول: سلمنا قصد تملكها، لكن ليس قصدًا أوليًّا؛ فإنها إنما حصلت واستولى عليها لمنافعها. "د"
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".(3/437)
الْجُمْلَةِ إِلَّا عِنْدَ تَحْصِيلِ الذَّوَاتِ؛ سَعَى الْعُقَلَاءُ فِي تَحْصِيلِهَا؛ فَالتَّابِعُ إِذًا فِي الْقَصْدِ هِيَ الذَّوَاتُ وَالْمَتْبُوعُ هُوَ1 الْمَنَافِعُ فَاقْتَضَى هَذَا بِحُكْمِ مَا تُحُصِّلَ2 أَوَّلًا أَنْ تَكُونَ الذَّوَاتُ مَعَ الْمَنَافِعِ فِي حُكْمِ3 الْمَعْدُومِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ إِذْ لَا تَكُونُ ذَاتُ الْحُرِّ تَابِعَةً لِحُكْمِ مَنَافِعِهِ بِاتِّفَاقٍ، بَلْ لَا تَكُونُ الْإِجَارَةُ وَلَا الْكِرَاءُ فِي شَيْءٍ يَتْبَعُهُ ذَاتُ ذَلِكَ الشَّيْءِ؛ فَاكْتِرَاءُ الدَّارِ يُمَلِّك مَنْفَعَتَهَا وَلَا يَتْبَعُهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مُسْتَأْجِرٍ مِنْ أَرْضٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ عَرَضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا أَصْلٌ مُنْخَرِمٌ إِنْ كَانَ مَبْنِيًّا4 عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّا وَجَدْنَا الشَّارِعَ نَصَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: "مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ؛ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ" 5، وَقَالَ: "مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ؛ فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ" 6؛ فَهَذَانَ حديثان لم يجعلا
__________
1 في "ط": "هي".
2 في "ط": "تأصل"، وقال "د": "أي: القاعدة والأصل الذي ذكرته".
3 أي: دائمًا، وفي كل صورة فرضت، وهو خلاف ما أصلت. "د".
4 لأن تصويره فيها أدى إلى هذا الباطل، وهو تبعية الذوات في كل مادة للمنافع؛ فحاصل هذا الإشكال الثاني نقض إجمالي، ومآل ما بعده إلى المعارضة بإثبات أن كلًّا من الذوات والمنافع منفصل عن الآخر؛ فلا تبعية بينهما، والمعارضة مبنية على ما اعتبره الشرع في مسألتي النخل والعبد، ومآل الرابع معارضة مبنية على الجاري بين العقلاء في المعاملة التي أقرها الشرع من اعتبار كل منهما وعدم إلغاء المنافع في جانب الأصل. "د".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممرًا أو شرب في حائط أو نخل، 5/ 49/ رقم 2379، وكتاب الشروط، باب إذا باع نخلا قد أبرت، 5/ 313/ رقم 2716"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب البيوع، باب من باع نخلا عليها ثمر، 3/ 1172/ رقم 1543" عن ابن عمر مرفوعًا، وفي آخره: "إلا أن يشترط المبتاع".
قال "ف": "أبرت؛ بضم أوله وكسر الباء المشددة؛ أي: أصلحت ولقحت" ا. هـ.
6 هو قطعة من الحديث السابق، أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 2379"، ومسلم في "صحيحه" "رقم 1543 بعد80"، ولفظه: "..... ومن ابتاع عبدًا؛ فماله للذي باعه؛ إلا أن يشترط المبتاع"، ولفظ البخاري: "ومن ابتاع عبدًا وله مال؛ فماله للذي باعه؛ إلا أن يشترط المبتاع".(3/438)
الْمَنْفَعَةَ لِلْمُبْتَاعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، مَعَ أَنَّهَا عِنْدَكُمْ1 تَابِعَةٌ لِلْأُصُولِ كَسَائِرِ مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ، بَلْ جَعَلَ فِيهِمَا التَّابِعَ لِلْبَائِعِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ انْفِصَالِ الثَّمَرَةِ عَنِ الْأَصْلِ حُكْمًا، وَهُوَ يُعْطَى فِي الشَّرْعِ انْفِصَالَ التَّابِعِ مِنَ الْمَتْبُوعِ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا تَقَدَّمَ؛ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا.
وَالرَّابِعُ:
أَنَّ الْمَنَافِعَ مَقْصُودَةٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُقَلَاءِ وَأَرْبَابِ الْعَوَائِدِ، وَإِنْ فُرِضَ الْأَصْلُ مَقْصُودًا؛ فَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ، وَلِذَلِكَ يُزَادُ فِي ثَمَنِ الْأَصْلِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْمَنَافِعِ، وَيَنْقُصُ مِنْهُ2 بِحَسَبِ نُقْصَانِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَكَيْفَ تَكُونُ الْمَنَافِعُ مُلْغَاةً وَهِيَ مَثْمُونَةٌ3، مُعْتَدٌّ بِهَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، مقصودة؟ فهذا4 يقتضي القصد إليها عدم الْقَصْدِ إِلَيْهَا مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْقَصْدَ إِلَيْهَا عَادِيٌّ وَعَدَمُ الْقَصْدِ إِلَيْهَا شَرْعِيٌّ، فَانْفَصَلَا فَلَا تَنَاقُضَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: كَوْنُ الشَّارِعِ غَيْرَ قَاصِدٍ لَهَا فِي الْحُكْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الْقَصْدِ إِلَيْهَا عُرْفًا وَعَادَةً؛ لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ إِجْرَاءَ5 الْأَحْكَامِ عَلَى الْعَوَائِدِ،
__________
1 أي: بمقتضى الأصل المستدل عليه. "د".
2 في "ف": "منها"، وقال: "الأنسب "منه"؛ أي: من ثمن الأصل".
3 في "القاموس" و"شرحه": "أثمنه سلعته وأثمن له: أعطاه ثمنها، وأثمن المتاع فهو مثمن: صار ذا ثمن، وأثمن البيع: سمى له ثمنًا، وليس في المادة مثمون". "د".
وقال "م": "صوابه "وهي مثمّنة"؛ لأن الفعل من مثال أكرم".
4 أي: ما أورد في مادة هذه المعارضة منضمًا إلى أصل القاعدة بإلغاء المنافع في جانب الأصل، هذا والاعتراض بهذا المحال يمكن ترتيبه على الثالث أيضًا، زيادة عن مخالفته لما يقضي به حكم الشارع. "د".
5 كما تقدم في المسألة الخامسة عشرة من النوع الرابع من كتاب المقاصد "العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا". "د".(3/439)
وَمِنْ أُصُولِهِ مُرَاعَاةُ1 الْمَصَالِحِ وَمَقَاصِدُ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا، أَعَنَى: فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَصَالِحَ الْأُصُولِ هِيَ الْمَنَافِعُ، وَأَنَّ الْمَنَافِعَ مَقْصُودَةٌ عَادَةً وَعُرْفًا لِلْعُقَلَاءِ؛ ثَبَتَ2 أَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَقَدْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمَنَافِعَ مُلْغَاةٌ شَرْعًا مَعَ الْأُصُولِ؛ فَهِيَ إِذًا مُلْغَاةٌ فِي عَادَاتِ الْعُقَلَاءِ، لَكِنْ تَقَرَّرَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ فِي عَادَاتِ الْعُقَلَاءِ، هَذَا خُلْفٌ مُحَالٌ.
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَا أَصَّلُوهُ3 صَحِيحٌ وَلَا يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِنَا؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ4 أَيْضًا لَيْسَ5 للعبد فيها ملك حقيقي إلا مثل ما له فِي الصِّفَاتِ وَالذَّوَاتِ؛ فَكَمَا تُضَافُ الْأَفْعَالُ إِلَى الْعِبَادِ كَذَلِكَ تُضَافُ إِلَيْهِمُ الصِّفَاتُ وَالذَّوَاتُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنَّ مِنَ الْأَفْعَالِ مَا هُوَ لَنَا مُكْتَسَبٌ، وَلَيْسَ لَنَا مِنَ الصِّفَاتِ وَلَا الذَّوَاتِ شَيْءٌ مُكْتَسَبٌ لَنَا، وَمَا أُضِيفَ لَنَا مِنَ الْأَفْعَالِ كَسْبًا؛ فَإِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ لِمُسَبِّبَاتٍ هِيَ أَنْفُسُ6 الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ أَوْ طَرِيقٌ إليها، ومن جهتها
__________
1 وهي تقتضي مراعاة العوائد، وقوله: "مصالح الأصول"؛ أي: المصالح المقصودة عادة للعقلاء من هذه الأصول. "د".
2 لأن قصد الشارع يلزم أن يكون مبنيًّا على قصد العقلاء وعرفهم؛ فتكون مقصودة للشارع بمقتضى هذا، غير مقصودة له بمقتضى القاعدة؛ فبقي الاعتراض بالمعارضة الأخيرة كما هو، وهذا المقدار كافٍ في تثبيت الاعتراض المذكور، ولكنه زاد عليه قوله: "وقد قلتم ... إلخ" ليرتب عليه محظورًا وهو أن تكون مقصودة في عادات العقلاء، غير مقصودة فيها. "د".
3 وهو أن الذوات لا يملكها إلا الله؛ لأنه خالقها مدها بأسباب بقائها؛ فهو المالك الحقيقي. "د".
4 ورد في الأصل و"ف" و"ط": "لأن الصفات أيضا والأفعال ليس".
قلت: وصوب "ف" ما أثبتناه.
5 أي: على مذهب الأشاعرة؛ لأنه ليس خالقًا لفعل من الأفعال المنسوبة إليه. "د".
6 فتناول الماء سبب للري الذي هو المنفعة، والحرث سبب للنبات، وليس النبات هو المنفعة، بل طريق إليه قريب أو بعيد؟ أي: فالأفعال المنسوبة إلينا نسبة ضعيفة بالكسب ليست هي المنافع، بل هي أسباب لها قريبة أو بعيدة؛ فآل الأمر إلى أنه لا فرق بين المنافع والذوات في أنها ليست مقدورة لنا، فليس ملكنا لها ملكًا حقيقيًّا ولا كسبيًّا، وقد سلمتم نسبة المنافع لنا؛ فسلموا نسبة ما كان مثلها وهو الذوات إلينا بلا فارق، على المعنى الذي يليق بنا في الأمرين معًا. "د".(3/440)
كُلِّفْنَا فِي الْأَسْبَابِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَأَمَّا أَنْفُسُ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُسَبَّبَاتٌ؛ فَمَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، حَسْبَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، فَكَمَا يَجُوزُ إِضَافَةُ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ إِلَيْنَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ دَاخِلَةٍ تَحْتَ قُدْرَتِنَا؛ كَذَلِكَ الذَّوَاتُ يَصِحُّ إِضَافَتُهَا إِلَيْنَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِنَا.
وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مِنْهَا مَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْإِتْلَافِ وَالتَّغْيِيرِ؛ كَذَبْحِ الْحَيَوَانِ وَقَتْلِهِ لِلْمَأْكَلَةِ، وَإِتْلَافِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَأُبِيحَ لَنَا إِتْلَافُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إِذَا كَانَ مُؤْذِيًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ مُؤْذِيًا وَكَانَ إِتْلَافُهُ تَكْمِلَةً لِمَا1 لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ وَلَا حَاجِيٍّ مِنَ الْمَنَافِعِ؛ كَإِزَالَةِ الشَّجَرَةِ الْمَانِعَةِ لِلشَّمْسِ عَنْكَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فجواز التصرف في أنفس الذوات بالإتلاف والتغير وَغَيْرِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ تَمَلُّكِهَا شَرْعًا، وَلَا يَبْقَى بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَنْ أَطْلَقَ تِلْكَ الْعِبَارَةَ -أَنَّ الذَّوَاتَ لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا اللَّهُ- سِوَى الْخِلَافِ فِي اصْطِلَاحٍ، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْمَعْنَى؛ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ مِلْكُ الذَّوَاتِ وَكَانَتِ الْمَنَافِعُ نَاشِئَةً عَنْهَا؛ صَحَّ كَوْنُ الْمَنَافِعِ تَابِعَةً، وَتُصُوِّرَ2 مَعْنَى الْقَاعِدَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ سُلِّمَ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ فِي التَّفْصِيلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، أَمَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَنَافِعُ؛ فَكَذَلِكَ نَقُولُ، إِلَّا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا ضَابِطَ لَهَا إِلَّا ذَوَاتُهَا الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنَافِعَ الأعيان لا تنحصر، وإن انحصرت
__________
1 قيد به لأنه لو كان إتلافه تكملة لضروري من المنافع؛ لكان مطلوبًا لا مباحًا؛ فلا يتوقف على كونه مملوكًا للمتلف، فلا يدل على مدعاه، كإتلاف جدار لغيرك لتسد بأنقاضه ثلمة في جسر ماء انطلق ويخشى منه على البلد إن لم تسرع بهدم الجدار مثلًا. "د".
2 أي: واقعًا في الشريعة؛ فصح أن تستدل عليه. "د".(3/441)
الْأَعْيَانُ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَثَلًا قَدْ هُيّئ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ إِلَى كُلِّ مَا يَصْلُحُ لَهُ الْآدَمِيُّ مِنَ الخِدم، وَالْحِرَفِ، وَالصَّنَائِعِ، وَالْعُلُومِ، وَالتَّعَبُّدَاتِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ تَكَادُ تَفُوتُ الْحَصْرَ، وَكُلُّ نَوْعٍ تَحْتَهُ أَشْخَاصٌ مِنَ الْمَنَافِعِ لَا تَتَنَاهَى، هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْعَادَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَمِيعِ هذه الأمور؛ فدخوله في جنس واحد معرقًا فِيهِ أَوْ فِي بَعْضِ أَصْنَافِهِ يَكْفِي1 فِي حَصْرِ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنَ الْمَنَافِعِ، بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ شَخْصٍ مِنْهَا تَصِحُّ مُؤَاجَرَتُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَيْرِ بِأُجْرَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا عُمُرُهُ2، وَكَذَلِكَ كَلُّ رَقَبَةٍ مِنَ الرِّقَابِ وَعَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا؛ فَالنَّظَرُ إِلَى الْأَعْيَانِ نَظَرٌ إِلَى كُلِّيَّاتِ الْمَنَافِعِ.
وَأَمَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْمَنَافِعِ فَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا فِي حَيِّزٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَحْصُرُ3 مِنْهَا بَعْضٌ إِلَيْهِ يَتَوَجَّهُ الْقَصْدُ بِحَسَبِ الْوَقْتِ وَالْحَالِ وَالْإِمْكَانِ، فَحَصَلَ الْقَصْدُ مِنْ جِهَتِهَا جُزْئِيًّا لَا كُلِّيًّا، وَلَمْ تَنْضَبِطِ الْمَنَافِعُ مِنْ جِهَتِهَا4 قَصْدًا، لَا فِي الْوُقُوعِ وُجُودًا وَلَا فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا شَرْعًا؛ لِحُصُولِ الْجَهَالَةِ حَتَّى يُضْبَطَ مِنْهَا بَعْضٌ إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ، وَشَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ جُزْئِيٌّ لَا كُلِّيٌ، فَإِذَا النَّظَرُ إِلَى الْمَنَافِعِ خُصُوصًا5 نَظَرٌ إِلَى جُزْئِيَّاتِ الْمَنَافِعِ، وَالْكُلِّيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجُزْئِيِّ طَبْعًا وَعَقْلًا، وَهُوَ أَيْضًا مُقَدَّمٌ شَرْعًا كَمَا مَرَّ6.
__________
1 أي: أن ما لا يتناهى في المنافع وجزئيات الصنعة يمكن ضبطه وحصره بنسبته إلى هذا العبد. "د".
2 متعلق بمحذوف؛ أي: ويستمر هكذا في طول حياته، ولا يصح تعلقه بقوله: "ينتفع"، ولا بقوله: "تصح"؛ كما هو ظاهر. "د".
3 في "ط": "حصر".
4 أي: من جهة نفس النافع، وقوله: "لا في الوقوع وجودًا"؛ كما أشار إليه بقوله: "وكل نوع تحته ... إلخ"، وقوله: "ولا في العقد ... إلخ" تابع للوجود، وقوله: "حتى يضبط منها ... إلخ"؛ أي: فتنضبط قصدًا فيهما، ولكنه نظر جزئي. "د".
5 أي: والنظر إليها من جهة الذات التي لها تلك المنافع نظر كلي. "د".
6 أي: في صدر المسألة الأولى من كتاب الأدلة. "د".(3/442)
فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ هَذَا -عَلَى تَسْلِيمٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَنَافِعُ- أَنَّ الذَّوَاتَ هِيَ الْمُقَدَّمَةُ الْمَقْصُودَةُ أَوَّلًا، الْمَتْبُوعَةُ، وَأَنَّ الْمَنَافِعَ هِيَ التَّابِعَةُ، وَظَهَرَ لَكَ حِكْمَةُ الشَّارِعِ فِي إِجَازَةِ مِلْكِ الرِّقَابِ لِأَجْلِ الْمَنَافِعِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ وَلَا مَحْصُورَةٍ، وَمَنْعِ مِلْكِ الْمَنَافِعِ خُصُوصًا1 إِلَّا عَلَى الْحَصْرِ وَالضَّبْطِ وَالْعِلْمِ الْمُقَيَّدِ الْمُحَاطِ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّ أَنْفُسَ الرِّقَابِ ضَابِطٌ كُلِّيٌّ لِجُمْلَةِ الْمَنَافِعِ؛ فَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ جِهَةِ الْكُلِّيَّةِ الْحَاصِلَةِ، بِخِلَافِ أَنْفُسِ الْمَنَافِعِ مُسْتَقِلَّةٍ بِالنَّظَرِ فِيهَا؛ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ فِي أَنْفُسِهَا، وَلَا مَعْلُومَةٌ أَمَدًا وَلَا حَدًّا وَلَا قَصْدًا وَلَا ثَمَنًا وَلَا مَثْمُونًا، فَإِذَا رُدَّتْ2 إِلَى ضَابِطٍ يَلِيقُ بِهَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَاتِ أَمْكَنَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَالْقَصْدُ فِي الْعَادَةِ إِلَيْهَا؛ فَإِنْ أَجَازَهُ3 الشَّارِعُ جَازَ، وَإِلَّا امْتَنَعَ.
وَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مِنَ الْمَنَافِعِ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ؛ فَالرِّقَابُ تَابِعَةٌ؛ إِذْ هِيَ الْوَسَائِلُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا مُطْلَقًا؛ فَمَمْنُوعٌ بِمَا تَقَدَّمَ4، وَإِنْ أَرَادَ تَبَعِيَّةً مَا فَمُسَلَّمٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَحْظُورٌ؛ فَإِنَّ الْأُمُورَ5 الْكُلِّيَّةَ قَدْ تَتْبَعُ جُزْئِيَّاتِهَا بِوَجْهٍ مَا، وَلَا يلزم من ذلك تبعيتها لها مطلقًا.
__________
1 أي: دون الرقاب. "د".
قلت: في "ف" و"م": "ومنع مالك"، والأصل لا يرجح شيئًا؛ لأن مالك وملك تكتب فيه: "ملك".
2 في الأصل: "أردنا"، وهو خطأ.
3 بأن كان مستوفيًا للشروط الأخرى غير العلم. "د".
4 من هذا البيان، وأن النظر إلى الأعيان نظر كلي، وأنه المقدم طبعًا وشرعًا.... إلخ "د".
5 أي: والأصول مع منافعها كذلك؛ لأنه اعتبر في المنافع انضباطها بالأعيان كانضباط الجزئيات بكليها، وقوله: "أولا ترى" يقوى به التشبيه الذي جاء به ليوضح المقام. "د".(3/443)
وَأَيْضًا؛ فَالْإِيمَانُ1 أَصْلُ الدِّينِ، ثُمَّ إِنَّكَ تَجِدُهُ وَسِيلَةً وَشَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ، حَسْبَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، وَالشَّرْطُ مِنْ تَوَابِعِ الْمَشْرُوطِ؛ فَيَلْزَمُ إِذًا عَلَى مُقْتَضَى السُّؤَالِ أَنْ تَكُونَ الْأَعْمَالُ هِيَ الْأُصُولُ وَالْإِيمَانُ تَابِعٌ لَهَا، أَوَّلًا تَرَى أَنَّهُ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا؟ لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ التَّبَعِيَّةُ إِنْ ظَهَرَتْ فِي الْأَصْلِ جُزْئِيَّةً لَا كُلِّيَّةً.
وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ بِانْفِرَادِهَا يَتْبَعُهَا الْأُصُولُ، مِنْ حَيْثُ2 إِنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُسْتَوْفَى إِلَّا مِنَ الْأُصُولِ؛ فَلَا تَخْلُو الْأُصُولُ مِنْ إِبْقَاءِ يَدِ الْمُنْتَفِعِ عَلَيْهَا وَتَحْجِيرِهَا عَنِ انْتِفَاعِ صاحبها بها، كالعقد على الأصول سواء، وهي مَعْنَى الْمِلْكِ؛ إِلَّا أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، ومنقضٍ بِانْقِضَائِهَا؛ فَلَمْ يُسَمَّ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ مِلْكًا، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ الْعَادِيَّ وَالشَّرْعِيَّ قَدْ جَرَى بِأَنَّ التَّمَلُّكَ فِي الرِّقَابِ هُوَ التَّمَلُّكُ الْمُطْلَقُ الْأَبَدِيُّ، الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ إِلَّا بِالْمَوْتِ، أَوْ بِانْتِفَاعِ صَاحِبِهَا بِهَا أَوِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا.
وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ نَفْسَهُ مِنَ الذِّمِّيِّ3 لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ مَنْفَعَةَ الْمُسْلِمِ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ رَقَبَتَهُ، وَامْتَنَعَ4 شِرَاءُ الشَّيْءِ عَلَى شَرْطٍ فِيهِ تَحْجِيرٌ؛
__________
1 مثال شرعي للأصل وتوابعه يحقق فيه تبعية الأصل لهذه اللواحق باعتبار من الاعتبارات، وإن لم يكن مما نحن فيه. "د".
2 أي: من جهة هذه التبعية الجزئية التي تقتضي بعض أحكام التبعية الكلية، وهي هنا إبقاء يد المنتفع عليها، وقوله: "كالعقد على الأصول سواء"؛ أي: في خصوص هذا. "د".
3 قال ابن القاسم في "المدونة الكبرى" "3/ 444": "وقد بلغني أن مالكًا كره أن يؤاجر المسلم نفسه من النصراني".
4 في م: "ومنع".(3/444)
كَشِرَاءِ الْأَمَةِ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ، أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ1 وَلَا يَهَبَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَجَرَ عَلَيْهِ بَعْضَ مَنَافِعِ الرَّقَبَةِ؛ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمْلُكْهَا مِلْكًا تَامًّا، وَلَيْسَ بِشَرِكَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَلَى الشِّيَاعِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَانْظُرْ فِي تَعْلِيلِ2 مَالِكٍ الْمَسْأَلَةَ3 فِي بَابِ مَا يُفْعَلُ بِالْوَلِيدَةِ إِذَا بِيعَتْ فِي "الْمُوَطَّأِ"4؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ الْمُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مُؤَسِّسٌ لَا مُنْخَرِمٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ شَاهِدٌ5 عَلَى صِحَّةِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الثَّمَرَةَ لَمَّا بَرَزَتْ فِي الْأَصْلِ بَرَزَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ؛ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَهَا أَوَّلًا بِسَبَبِ سَبْقِ اسْتِحْقَاقِهِ لِأَصْلِهَا، عَلَى حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لِلْأَصْلِ، فَلَمَّا صَارَ الْأَصْلُ لِلْمُشْتَرِي وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ اشْتِرَاطٌ، وَكَانَتْ قَدْ أُبْرِزَتْ وَتَمَيَّزَتْ بِنَفْسِهَا عَنْ أَصْلِهَا؛ لَمْ تَنْتَقِلِ الْمَنْفَعَةُ إِلَيْهِ بِانْتِقَالِ الْأَصْلِ، إِذْ كَانَتْ قَدْ تَعَيَّنَتْ مَنْفَعَةٌ لِمَنْ كَانَ الْأَصْلُ إِلَيْهِ، فَلَوْ صَارَتْ لِلْمُشْتَرِي إِعْمَالًا لِلتَّبَعِيَّةِ؛ لَكَانَ هَذَا الْعَمَلُ بِعَيْنِهِ قَطْعًا وَإِهْمَالًا لِلتَّبَعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَائِعِ، وَهُوَ السَّابِقُ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّبَعِيَّةِ؛ فَثَبَتَتْ أَنَّهَا [لَهُ] 6 دُونَ الْمُشْتَرِي.
وَكَذَلِكَ مَالُ الْعَبْدِ لَمَّا بَرَزَ فِي يَدِ الْعَبْدِ ولم ينفصل7 عنه أشبه الثمرة مع
__________
1 أو: لا يبيع إلا له مثلًا، ولذا قالت السيدة عائشة لأم ولد زيد بن أرقم: "بئسما شريت" لما اشترت منه الجارية، وتشارطا على أنها لا تبيعها إلا له. "د".
2 هو بمعنى التعليل المذكور؛ فما هنا محصله. "د".
3 في "ط": "للمسألة".
4 قال مالك في "الموطأ" "2/ 616 رواية يحيى": "فيمن اشترى جارية على شرط أن يبيعها ولا يهبها أو ما أشبه ذلك من الشروط؛ فإنه لا ينبغي للمشتري أن يطأها، وذلك أنه لا يجوز له أن يبيعها ولا أن يهبها، فإذا كان لا يملك ذلك منها؛ فلم يملكها ملكًا تامًا لأنه قد استثني عليه فيها ما ملكه بيد غيره، فإذا دخل هذا الشرط؛ لم يصح، وكان بيعًا مكروهًا".
5 فهو لنا لا علينا، قلب المعارضة؛ فجعلها دليلًا للمعارض. "د".
6 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وفي "ط": "فثبت أنها له".
7 أي: بانتزاع السيد له. "د".(3/445)
الْأَصْلِ؛ فَاسْتَحَقَّهُ الْأَوَّلُ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ الثَّانِي لَهُ، فَإِنِ اشْتَرَطَهُ الْمُشْتَرِي؛ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنَّمَا جَازَ اشْتِرَاطُهُ وَإِنَّ تَعَلَّقَ بِهِ الْمَانِعُ1 مِنْ أَجْلِ بَقَاءِ التَّبَعِيَّةِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الثَّمَرَةَ قَبْلَ الطِّيبِ مُضْطَرَّةٌ إِلَى أَصْلِهَا لَا يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إِلَّا مَعَ اسْتِصْحَابِهِ؛ فَأَشْبَهَتْ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ الْأَصْلِ.
وَكَذَلِكَ مَالُ الْعَبْدِ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ2 شِرَاؤُهُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْعَبْدِ وَفِي حَوْزِهِ، لَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ إِلَّا بِحُكْمِ الِانْتِزَاعِ؛ كَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تَطِبْ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّبَعِيَّةَ لِلْأَصْلِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ3، غَيْرَ أَنَّ مَسْأَلَةَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَمَالِ الْعَبْدِ تَعَارَضَ فِيهَا جِهَتَانِ لِلتَّبَعِيَّةِ: جِهَةُ الْبَائِعِ وِجِهَةُ الْمُشْتَرِي؟ فَكَانَ الْبَائِعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ الْأَوَّلُ، فَإِنِ اشْتَرَطَهُ الْمُبْتَاعُ انْتَقَلَتِ التَّبَعِيَّةُ، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا. وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الْمَنَافِعِ لَا إِشْكَالَ فِي حُصُولِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الْأَصْلِ يَبْقَى النَّظَرُ: هَلْ [هِيَ] 4 مَقْصُودَةٌ مِنْ حَيْثُ أَنْفَسِهَا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، أَمْ هِيَ مَقْصُودَةٌ مِنْ حَيْثُ رُجُوعِهَا إِلَى الْأَصْلِ كَوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ؟
فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّهَا مَقْصُودَةٌ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِقْلَالِ: فَغَيْرُ صَحِيحٍ لأن المنافع
__________
1 وهو الغرر والجهالة. "د".
2 أي: ما لم يرد إلى ضابط يميزه حدًا وقصدًا وثمنًا.... إلخ، أما مع العبد؛ فلا حاجة إلى شيء من هذا، وهو روح المسألة. "د".
3 في جميع الأصول ولواحقها، أي: حتى في مسألتي الحديث؛ فدعوى أن الحديث يعطي انفصال التابع عن المتبوع غير صحيح، بل هو يؤيد التبعية. "د".
4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"م" و"ط"، وكتب "ف": "الأنسب: "هل هي مقصودة؟ " بذكر الضمير العائد على المنافع".(3/446)
الَّتِي1 لَمْ تَبْرُزْ إِلَى الْوُجُودِ بَعْدُ مَقْصُودَةٌ، وَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مَعَ الْأَصْلِ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بمقصودة إلا من جهة الأصل؛ فالقصد راجح إِلَى الْأَصْلِ، فَالشَّجَرَةُ إِذَا اشْتُرِيَتْ أَوِ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ خِدْمَةً أَوْ صِنَاعَةً وَلَمْ يَسْتَفِدْ مَالًا، وَالْأَرْضُ قَبْلَ أَنْ تُكْرَى أَوْ تَزْدَرِعَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ مَقْصُودٌ فِيهَا هَذِهِ الْمَنَافِعُ وَغَيْرُهَا؛ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ الْأَعْيَانِ وَالرِّقَابِ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِ الْمَنَافِعِ إِذْ هِيَ غَيْرُ2 مَوْجُودَةٍ بَعْدُ؛ فَلَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ إِذَا قُصِدَ الِاسْتِقْلَالُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْأَصْلُ.
فَالْمَنَافِعُ إِنَّمَا هِيَ كَالْأَوْصَافِ فِي الْأَصْلِ؛ كَشِرَاءِ الْعَبْدِ الْكَاتِبِ3 لِمَنْفَعَةِ الْكِتَابَةِ، أَوِ الْعَالِمِ4 لِلِانْتِفَاعِ بِعِلْمِهِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِهِ الَّتِي لَا تَسْتَقِلُّ فِي أَنْفُسِهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَقِلَّ؛ لِأَنَّ أَوْصَافَ الذَّاتِ لَا يُمْكِنُ اسْتِقْلَالُهَا دُونَ الذَّاتِ قَدْ5 زِيدَ فِي أَثْمَانِ الرِّقَابِ لِأَجْلِهَا؛ فَحَصَلَ لِجِهَتِهَا6 قِسْطٌ مِنَ الثمن؛
__________
1 قصر الكلام عليها -مع أن القاعدة التي فيها المناقشة أوسع من ذلك- ليتأتى له في هذا الفرض إلزامه بأنها غير مقصودة على حكم الاستقلال؛ فيثبت به أنه لا تنافي بين القصد وعدم الاستقلال. "د".
2 ومع ذلك؛ فإنه يزيد الثمن وينقص بسببها، ألا ترى أن الشجرة المعتاد إثمارها وإن لم يكن فيها ثمر يزيد ثمنها عن الشجرة مثلها التي اعتيد عدم إثمارها؟ فالمنافع مقصودة، ويزيد وينقص الثمن للأصل بسببها، وإن لم تكن المنافع موجودة بالفعل. "د".
3 في الأصل و"ف": "المكاتب"، وهو خطأ، يرده السياق؛ فتأمل.
4 إلا أن المثالين وإن كانت المنفعة فيهما غير مستقلة لأنها وصف للذات؛ إلا أن التهيئة حاصلة في المثالين للانتفاع بالعلم والكتابة، فهما من القسم الثالث الآتي في الفصل بعده، وفرضه كان في القسم الأول ولا مانع؛ فستعرف أن حكم الأول والثالث واحد على الجملة، وغرضه تحقيق القصد مع عدم الاستقلال، وهو واضح في المثالين لكون المنفعة فيهما وصف ذات، ولو مثل بما ذكرناه من الشجرة المعتادة الإثمار؛ لكان أوفق مما فرضه أولًا. "د".
5 الجملة حال من ضمير لا تستقل أو معطوفة عليها بإسقاط الواو، أو استئناف لتطبيق المثال في قوله: "كشراء"، والمعنى أنها مع كونها أوصافًا صرفة غير مستقلة زيدت أثمار الرقاب لأجلها، وقوله: "بالكلية"؛ أي: بطريق كلي كما قال سابقًا: إنه يكفي لحصر ما لا يتناهى من المنافع نوطها بالذات الخاصة. "د".
قلت: ولعل هذا رد على "ف"، حيث قال: "لعله ولهذا قد زيد"، ووقع في "ط": "وقد".
6 أي: بسببها وإن لم تكن مقصودة على الاستقلال، وهذا حسم لروح الاعتراض. "د".(3/447)
لَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِقْلَالِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الرِّقَابِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الرِّقَابَ هِيَ ضَوَابِطُ الْمَنَافِعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ1؛ انْدَفَعَ التَّنَافِي وَالتَّنَاقُضُ، وَصَحَّ الْأَصْلُ الْمُقَرَّرُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ2 أَنَّ الطَّلَبَيْنِ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى هَذَا الْمَجْمُوعِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ الطَّلَبُ إِلَى الْمَتْبُوعِ خَاصَّةً.
فَصْلٌ
وَبَقِيَ هُنَا تَقْسِيمٌ مُلَائِمٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ مَنَافِعَ الرِّقَابِ وَهَى الَّتِي قُلْنَا إِنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا عَلَى الْجُمْلَةِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا:
مَا كَانَ فِي أَصْلِهِ بِالْقُوَّةِ لَمْ يَبْرُزْ إِلَى الْفِعْلِ لَا حُكْمًا وَلَا وُجُودًا؛ كَثَمَرَةِ الشَّجَرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ، وَوَلَدِ الْحَيَوَانِ قَبْلَ الْحَمْلِ، وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ، وَوَطْءٍ قَبْلَ3 حُصُولِ التَّهْيِئَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلَا خِلَافَ في هذا القسم أن المنافع هنا
__________
1 أي: كون المنافع مقصودة غير مستقلة. "د".
2 أي: حاصل هذا الأصل أنه لم يحصل توارد الطلبين المتنافيين أمرًا ونهيًا على الأصل وتابعه، بل توجه الطلب دائما إنما هو إلى المتبوع، وهذا هو المراد بكون الطلب المتوجه إلى التابع ملغى وساقط الاعتبار، أي: ما كان متوجها إليه عند انفراده لا يتوجه إليه عند كونه تابعا. "د".
3 لا يحتاج إليه في المثالين الأولين؛ فإنه قيدهما بما يناسبهما، فهو قيد في خدمة العبد وما بعده، فإن المنفعة فيهما لم تبرز وجودا وهو واضح؛ لأن وجود الأمثلة الأربعة في أصلها بالقوة والاستعداد فقط، ولا حكمًا لأنها لم تعطِ حكم البارز المحسوس كما سيأتي في القسم الثالث. "د". وقال "ف": "هو قيد فيما تقدمه من الأمثلة"، وفي الأصل: "ووطئ قبل التهيئة".
قلت: في "ط": "ووطء الجارية قبل....".(3/448)
غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ فِي الْحُكْمِ؛ إِذْ لَمْ تَبْرُزْ إِلَى الْوُجُودِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَسْتَقِلَّ؛ فَلَا قَصْدَ إِلَيْهَا هُنَا أَلْبَتَّةَ، وَحُكْمُهَا التَّبَعِيَّةُ كَمَا1 لَوِ انْفَرَدَتْ فِيهِ الرَّقَبَةُ بِالِاعْتِبَارِ.
وَالثَّانِي:
مَا ظَهَرَ فِيهِ حُكْمُ الِاسْتِقْلَالِ وَجُودًا وَحُكْمًا أَوْ حُكْمًا عَادِيًّا أَوْ شَرْعِيًّا؛ كَالثَّمَرَةِ بَعْدَ الْيُبْسِ، وَوَلَدِ الْحَيَوَانِ بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ أُمِّهِ، وَمَالِ الْعَبْدِ بَعْدَ الِانْتِزَاعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ حُكْمَ التَّبَعِيَّةِ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ، وَحُكْمُهُ2 مَعَ الْأَصْلِ حُكْمُ غَيْرِ الْمُتَلَازِمَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا قَصْدًا، لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا.
وَالثَّالِثُ:
مَا فِيهِ الشَّائِبَتَانِ؛ فَمُبَايَنَةُ الْأَصْلِ فِيهِ ظَاهِرَةٌ، لَكِنْ عَلَى غَيْرِ الِاسْتِقْلَالِ؛ فَلَا هُوَ مُنْتَظِمٌ فِي سِلْكِ الْأَوَّلِ وَلَا فِي الثَّانِي، وَهُوَ ضَرْبَانِ: الْأَوَّلُ: مَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ مَحْسُوسًا؛ كَالثَّمَرَةِ الظَّاهِرَةِ قَبْلَ مُزَايَلَةِ3 الْأَصْلِ، وَالْعَبْدِ ذِي الْمَالِ الْحَاضِرِ تَحْتَ مِلْكِهِ، وَوَلَدِ الْحَيَوَانِ قبل الاستغاء عَنْ أُمِّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْآخَرُ: مَا كَانَ فِي حُكْمِ الْمَحْسُوسِ؛ كَمَنَافِعِ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا حَصَلَتْ فِيهِ التَّهْيِئَةُ لِلتَّصَرُّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ؛ كَاللُّبْسِ، وَالرُّكُوبِ، وَالْوَطْءِ، وَالْخِدْمَةِ، وَالِاسْتِصْنَاعِ، وَالِازْدِرَاعِ، وَالسُّكْنَى، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّرْبَيْنِ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَ صَاحِبِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَانْفَرَدَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا وَاحِدٌ.
__________
1 أي: فلا فرق بين أن يقول: بعت الشجرة بمنافعها التي تحدث مثلا، وبعت الشجرة، بدون ذكر المنافع، أما القسم الثاني؛ فتعتبر المنافع شيئًا آخر منفصلا تمام الانفصال عن الأصل، ويجري على كل حكمه الخاص به. "د".
2 في "ف": "وحكم"، وقد استظهر "ف" و"م" المثبت.
3 أي: وقبل اليبس والاستغناء عن أصلها. "د".(3/449)
فَالطَّرَفَانِ1 يَتَجَاذَبَانِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَلَكِنْ لَمَّا ثَبَتَتِ التَّبَعِيَّةُ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ ارْتَفَعَ تَوَارُدُ الطَّلَبَيْنِ عَنْهُ2، وَصَارَ الْمُعْتَبَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِجِهَةِ الْمَتْبُوعِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَمَّا بَرَزَ التَّابِعُ وَصَارَ مِمَّا يَقْصِدُ؛ تَعَلُّقَ الْغَرَضِ فِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ، أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ.
وَلَا يُنَازَعُ فِي هَذَا أَيْضًا؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ الْمُثْمِرَةُ فِي قِيمَتِهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُثْمِرَةً، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ دُونَ مَالٍ لَا تَكُونُ قِيمَتُهُ كَقِيمَتِهِ مَعَ الْمَالِ، وَلَا الْعَبْدُ الْكَاتِبُ3 كَالْعَبْدِ غَيْرِ الْكَاتِبِ، فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ بِسَبَبِ تَجَاذُبِ الطَّرَفَيْنِ فِيهِ.
__________
1 الطرفان هما القسم الأول والقسم الثاني؛ لأنهما طرفان من جهة المعنى في الاستقلال وعدمه لا من جهة الوضع في عبارة الكتاب كما فهم بعضهم، وقوله: "صاحبه" تحريف بدل "سابقيه"؛ أي: أن كل واحد من ضربي القسم الثالث اجتمع مع كل واحد من القسمين السابقين في وصف وخالفه في وصف كما أوضحه سابق الكلام، "والحكم فيهما"؛ أي: الضربين المذكورين، "واحد" لا فرق بين المحسوس وما كان في حكمه، وقوله: "يتجاذبان" حقه "يتجاذبانهما"؛ أي: الضربين، أي أن الأول والثاني يطلبان أن يأخذ الضربان حكمهما. "د".
أما "ف"؛ فقال: "هما القسم الأول والثالث من هذا التقسيم"!!
2 أي: ارتفع عن القسم تعلق الطلبين به أمرًا ونهيًا، ولم يبقَ إلا ما يتعلق بالمتبوع فقط، شأن المتلازمين كما هو الأصل الذي تقرر، ولكن بقي لتجاذب الطرفين اعتبار آخر من جهة الجوائح وكلفة السبق وغير ذلك مما يترتب اختلاف حكمه على اختلاف النظر والاجتهاد، بناء على قوة جذب أحد الطرفين لصور هذا القسم الثالث بضربيه؛ فبين ذلك بقوله: "ومن جهة أخرى لما برز" إلى آخر الفصل. "د".
3 جاء في الأمثلة المذكورة باثنين للمحسوس، وواحد لغير المحسوس، وهما الضربان المشار إليهما في كلامه؛ فالكلام متسق جميعه. "د".
قلت: ورد في الأصل: "المكاتب" بدل "الكاتب".(3/450)
وَأَيْضًا؛ فَلَيْسَ تَجَاذُبُ الطَّرَفَيْنِ [فِيهِ] 1 عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، بَلْ يَقْوَى الْمَيْلُ إِلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فِي حَالٍ، وَلَا يَقْوَى فِي حَالٍ أُخْرَى، وأنت تعلم أن الثمرة حين بروزها [وَقَبْلَ] 2 الْإِبَارِ3 لَيْسَتْ فِي الْقَصْدِ وَلَا فِي الْحُكْمِ كَمَا بَعْدَ الْإِبَارِ وَقَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَلَا هِيَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ كَمَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَقَبْلَ الْيُبْسِ؛ فَإِنَّهَا قَبْلَ الْإِبَارِ لِلْمُشْتَرِي، فَإِذَا أُبِّرَتْ؛ فَهِيَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ، فَتَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، فَإِذَا بَدَا صَلَاحُهَا؛ فَقَدْ قَرُبَتْ مِنَ الِاسْتِقْلَالِ وَبَعُدَتْ مِنَ التَّبَعِيَّةِ؛ فَجَازَ بَيْعُهَا بِانْفِرَادِهَا، وَلَكِنَّ مَن اعْتَبَرَ الِاسْتِقْلَالَ قَالَ: هِيَ مَبِيعَةٌ عَلَى حُكْمِ الْجَذِّ4 كَمَا لَوْ يَبِسَتْ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ؛ فَلَا جَائِحَةَ فِيهَا.
وَمَنِ اعْتَبَرَ عَدَمَ الِاسْتِقْلَالِ وَأَبْقَى حُكْمَ التَّبَعِيَّةِ؛ قَالَ: حُكْمُهَا عَلَى التَّبَعِيَّةِ لِمَا5 بَقِيَ مِنْ مَقَاصِدِ الْأَصْلِ6 فِيهَا وَوَضْعَ7 فِيهَا الْجَوَائِحَ اعْتِبَارًا بِأَنَّهَا لما افترقت إلى الأصل كانت كالمضمومة إِلَيْهِ التَّابِعَةِ لَهُ؛ فَكَأَنَّهَا عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْأَصْلِ، وَحِينَ8 تَعَيَّنَ وَجْهُ الِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى الْمُعْتَادِ صَارَتْ كَالْمُسْتَقِلَّةِ؛ فَكَانَتِ الْجَائِحَةُ الْيَسِيرَةُ مُغْتَفِرَةٌ فيها؛ لأن اليسير في الكثير كالتبع.
__________
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وأثبته من الأصل و"ف" و"م" و"ط".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"د"، وأثبته من "ف" و"م" و"ط".
3 هو مصدر أبر النخل والزرع، يأبُره ويأبِره -بضم الباء وكسرها-: إذا أصلحه. "ف".
4 بالذال المعجمة؛ أي: الصرم والقطع، يقال: جَذّ النخل يجذّه جذًّا، كما يقال: جَدَّ النخل جدًّا -بالمهملة-: إذا صرمه. "ف" قلت: هي في "ط": "الجد....، يبست في ... ".
5 يؤخذ من قوله بعد: "وَلَمْ يَبْقَ لَهَا مَا تَضْطَرُّ إِلَى الْأَصْلِ فيه" أن اللام لتعليل قوله: "وحكمه ... إلخ". "د".
6 أي: لا المقاصد التكميلية؛ كبقاء النضارة، وحفظ المائية. "د".
7 أي: وضعها عن المشتري وتكون خسارتها على البائع؛ لأنها لم تستقل عن أصلها، فما يصيبها على حسابه، وهذا هو فائدة جذب الطرف الأوّل لها. "د".
8 هذا هو فائدة جذب الطرف الثاني لها.(3/451)
وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفُوا فِي السَّقْيِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ: هَلْ هُوَ عَلَى الْبَائِعِ، أَمْ عَلَى المبتاع؟ فإذا انتهى الطيب من الثَّمَرَةِ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا مَا تَضْطَرُّ إِلَى الْأَصْلِ فِيهِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ عَلَى جِهَةِ التَّكْمِلَةِ مِن بَقَاءِ النَّضَارَةِ وَحِفْظِ الْمَائِيَّةِ؛ اخْتُلِفَ: هَلْ بَقِيَ فِيهَا حُكْمُ الْجَائِحَةِ، أَمْ لَا؟ بِنَاءً1 عَلَى أَنَّهَا اسْتَقَلَّتْ بِنَفْسِهَا وَخَرَجَتْ عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَصْلِ مُطْلَقًا أَمْ لَا، فَإِذَا انْقَطَعَتِ الْمَائِيَّةُ وَالنَّضَارَةُ؛ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِقْلَالِ، فَانْقَطَعَتِ التَّبَعِيَّةُ، وَعَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ يَجْرِي الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ.
فَصْلٌ
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَتَرَكَّبُ فَوَائِدُ:
- مِنْهَا: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ تَبَعِيَّةٌ جارٍ2 فِي الْحُكْمِ مَجْرَى التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ الْمُتَّفَقِ3 عَلَيْهِ، مَا لم يعارضه أصل آخر4، كمسألة الإجارة
__________
1 مرتب على النفي قبله، وقوله: "مطلقًا" أي: يسيرة كانت الجائحة أو كثيرة. "د".
2 ومنه ما قاله أبو حنيفة من جواز الشرب في الإناء المفضض، والجلوس على السرج والكرسي المفضضين، إذا كان يتقي موضع الفضة، وعلل الجواز بأن ذلك تابع له ولا عبرة بالتوابع. "د".
قلت: انظر المسألة في "الخلافيات" "1/ مسألة رقم 6" للبيهقي، وتعليقي عليها.
3 هو القسم الأول في الفصل قبله، فمن اكترى دارًا أو أرضًا فيها شجر مثمرٌ لم يبد صلاحه، وكانت قيمة الثمر ثلث مجموع الأجرة فأقل، وكانت الإجارة إلية مدة محدودة يطيب فيها الثمر لا مشاهرة، وكان الغرض منع التضرر من دخول غير المستأجر الأرض أو الدار لأجل الشجر؛ فإنه يجوز إدخال الشجر المثمر في الإجارة لأنه لما كانت قيمته الثلث فأقل كان تابعًا للأصل، وهو الدار والأرض؛ فجاز، وإن كانت الثمرة قبل بدو صلاحها لا يجوز اشتراؤها منفردة؛ فعوملت معاملة اشتراء الثمرة التي لم يبد صلاحها تبعًا لأصلها. "د".
4 كسد الذرائع، وتقديم درء المفاسد وقاعدة التعاون، وغيرها مما يأتي في مسألة الصباغة آخر المسألة. "د".(3/452)
عَلَى الْإِمَامَةِ، مَعَ1 الْأَذَانِ أَوْ خِدْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَمَسْأَلَةِ اكْتِرَاءِ الدَّارِ تَكُونُ فِيهَا الشَّجَرَةُ، أَوْ مُسَاقَاةِ الشَّجَرِ يَكُونُ بَيْنَهَا الْبَيَاضُ الْيَسِيرُ2، وَمَسْأَلَةِ الصَّرْفِ3 وَالْبَيْعِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا يَسِيرًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَلَازَمُ فِي الْحِسِّ4 أَوْ فِي الْقَصْدِ أَوْ فِي الْمَعْنَى، وَيَكُونُ بَيْنَهَا قلَّة وَكَثْرَةٌ؛ فَإِنَّ لِلْقَلِيلِ مَعَ
__________
1 تكره الأجرة على الإمامة من المصلين، أما من الوقف؛ فكإعانة، قال ابن عرفة في جوازها على إمامة الفرض: "ثالثها: تجوز إن كانت تبعًا للأذان"، أي: ومثله -بل أولى- خدمة المسجد؛ لأن مشقتها أشد من مشقة الإمامة، فلما كانت تابعة لما هو جائز جازت، ومعلوم جواز الأجرة على الأذان وخدمة المسجد؛ فقد كان يعطي عمر أجرًا على الأذان، لكن قال ابن حبيب: "إنما كان يعطي من بيت المال إعانة كأعطية الولاة والقضاة، ولا يجوز لهؤلاء أن يأخذوا ممن يقضون لهم". "د".
قلت: انظر "الفروق" "3/ 2"، و"القواعد" للمقري "2/ 432-433، القاعدة السابعة والثمانون بعد المائة".
2 أي بحيث يكون كراؤه الثلث فأقل من مجموع كرائه مع قيمة ثمرة الشجر عادة بعد إسقاط كلفة الثمر، بشرط أن يكو البذر من طرف العامل، كما أن جميع عمل المساقاة من طرقه، وأن يكون الجزء الذي يخصه منه كالجزء المشترط له في المساقاة على الشجر؛ إن كان ربعًا فربع، أو ثلثًا فثلث، وهكذا حتى تتحقق التبعية للشجر، ومثل ذلك في المساقاة على الزرع إذا كان فيه شجر تابع له بأن كان الثلث قيمة فأقل؛ فيدخل في المساقاة تبعًا، ويكون الحكم للمتبوع هو الشجر أو الزرع ساريًا على التابع، وإن لم يكن الحكم كذلك إذا انفرد التابع؛ فإن الأحكام مختلفة بين مساقاة الزرع ومساقاة الشجر؛ وبين مساقاة الشجر والمزارعة التي منها مثال المؤلف. "د".
3 يحرم اجتماع البيع والصرف في عقد واحد لتنافي لوازمهما لجواز الأجل والخيار في البيع دون الصرف، إلا أن يكونا بدينار واحد، كأن يشتري شاة وخمسة دراهم بدينار، أو يجتمع البيع والصرف فيه، كأن يشتري عشرة أثواب وعشرة دراهم بأحد عشر دينارًا وكان الدينار بعشرين درهمًا؛ فجعل الصرف تابعًا للبيع. "د".
4 كالمثال الثاني والثالث، وقوله: "أو القصد" كمثال الأول، وقوله: "أو المعنى"؛ أي: كالبيع والصرف؛ فدفع الحاجة اقتضى البيع، وهو نفسه اقتضى هذا الصرف ليتم التبادل في هذه الصفقة. "د".
قلت: انظر أيضا: "عدة البروق" "ص: 550 وما بعدها".(3/453)
الكثير حكم التبيعة، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ فِي الْوُجُودِ، وَلَكِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْقَلِيلَ إِذَا انْضَمَّ إِلَى الْكَثِيرِ فِي حُكْمِ الْمُلْغَى قَصْدًا؛ فَكَانَ كَالْمُلْغَى حُكْمًا.
- وَمِنْهَا1 أَنَّ كُلَّ تَابِعٍ قُصِدَ؛ فَهَلْ تَكُونُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ لِأَجْلِهِ مَقْصُودَةً عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ، أَمْ هِيَ مَقْصُودَةٌ على الجملة والتفصيل؟ والحق الذي تقتضيه التبيعة أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ جُمَلِيًّا لَا تَفْصِيلِيًّا؛ إِذْ لَوْ كَانَ تَفْصِيلِيًّا لَصَارَ إِلَى حُكْمِ الِاسْتِقْلَالِ؛ فَكَانَ النَّهْيُ وَارِدًا عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ إِذَا فُرِضَ هَذَا الْقَصْدُ، فَإِنْ كَانَ جُمَلِيًّا؛ صَحَّ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ؛ فَلَهُ جِهَتَانِ:
جِهَةُ زِيَادَةِ الثَّمَنِ لِأَجْلِهِ.
وَجِهَةُ عَدَمِ الْقَصْدِ إِلَى التَّفْصِيلِ فِيهِ.
فَإِذَا فَاتَ ذَلِكَ التَّابِعُ؛ فَهَلْ يُرْجَعُ بِقِيمَتِهِ أَمْ لَا؟ يُخْتَلَفُ فِي ذَلِكَ، وَلِأَجْلِهِ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ دَاخِلَةٍ تَحْتَ هَذَا الضَّابِطِ، كَالْعَبْدِ إِذَا رُد بِعَيْبٍ وَقَدْ كَانَ أَتْلَفَ مَالَهُ؛ فَهَلْ يَرْجِعُ على البائع بالثمن كله، أو لَا2 وَكَذَلِكَ ثَمَرَةُ الشَّجَرَةِ، وَصُوفُ الْغَنَمِ، وَأَشْبَاهُ ذلك.
__________
1 هذه الفائدة مكونة من فائدتين ترتبت إحداهما على الأخرى؛ فحكم التبعية استفيد منه أولًا أن القصد جملي لا تفصيلي، وإلا؛ لكان مستقلًا فامتنع، وهو لم يمتنع؛ فليس مستقلًا، فليس تفصيليًّا، وترتبت فائدة أخرى على هذه التبعية، وهي وجود جهتين له تقضي كل منهما بحكم كان سببًا في اختلاف الفقهاء في التفريع في هذا المقام على ما ذكره. "د".
2 فإن راعينا زيادة الثمن لأجل المال رجع على البائع بما عدا قيمة مال العبد، وإن راعينا عدم القصد إلى التفصيل فيه رجع بالثمن كله، وكان المال لاحظ له في الثمن. "د".(3/454)
- وَمِنْهَا: قَاعِدَةُ: الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ؛ فَالْخَرَاجُ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ، فَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ حَاصِلًا فِيهِ شَرْعًا؛ فَمَنَافِعُهُ تابعة، سواء طرأ بعد ذلك استحقاق أم لَا، فَإِنْ طَرَأَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ كَانَ كَانْتِقَالِ الْمِلْكِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ1 وَتَأَمَّلْ مَسَائِلَ الرُّجُوعِ2 بالغلَّات فِي الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ عَدَمِ الرُّجُوعِ؛ تَجِدْهَا جَارِيَةً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.
- وَمِنْهَا: فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ مَا كَانَ تَابِعًا لِلشَّيْءِ الْمُسْتَصْنَعِ فِيهِ، هل3 يضمنه الصناع؛ كَجَفْنِ السَّيْفِ، وَمِنْدِيلِ [الثَّوْبِ] 4، وَطَبَقِ الْخُبْزِ، وَنُسْخَةِ الْكِتَابِ الْمُسْتَنْسَخِ، وَوِعَاءِ الْقَمْحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَابِعٌ؛ كَمَا يَضْمَنُ نَفْسَ الْمُسْتَصْنَعِ أَمْ لَا؟ فَلَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ الصانع.
__________
1 أي: كأن الملك استؤنف الآن عند طرو الاستحقاق؛ فليس للمستحق شيء من الغلة التي حصلت قبل ثبوت الاستحقاق. "د".
2 كما قال خليل: "والغلة لذي الشبهة للحكم"؛ أي: من يوم وضع يده إلى يوم الحكم؛ كوارث من غير غاصب، وموهوب من غير غاصب، ومشترٍ كذلك، إن لم يعلموا بأنها مستحقة لغير من انتقلت منه إليهم؛ فلا رجوع عليهم بالغلة التابعة للملك الحاصل شرعًا بهذه الأسباب، بخلاف ما إذا علموا؛ فإنه لا تبعية حينئذ لملك صحيح فترد الغلة للمستحق، فكل من الرد وعدمه مبني على القاعدة المشار إليها، وهي إعطاء التابع حكم المتبوع. "د".
3 في المسألة أقوال ثلاثة: قيل: لا يضمن غير ما يصنعه نفسه، سواء أكان عمل المصنوع يحتاج له كالكتاب المستنسخ منه، أم لا؛ كعلبة وضع فيها القماش ليوصله فيها للخياط، وقيل يضمن التابع مطلقًا احتاج له المصنوع في صناعته أم لا، وقيل: إنما يضمن التابع إذا كان يحتاج إليه المصنوع؛ كالكتاب الذي يستنسخ منه، والمؤلف جمع من الأمثلة ما يحتاج إليه وما لا يحتاج. "د".
قلت: لابن رحال المعداني كتاب "تضمين الصناع"، وهو مطبوع، وفيه تفصيل وتقعيد لهذه المسألة.
4 سقط من "ط".(3/455)
- وَمِنْهَا: فِي الصَّرْفِ مَا كَانَ مِنْ حِلْيَةِ1 السيف والمصحف ونحوهما تابعًا أو غير2 تَابِعٍ.
وَمَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ3.
فَصْلٌ 4
وَمِنَ الْفَوَائِدِ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا5 منفعة فيه من المعقود عليه في
__________
1 المحلى بأحد النقدين يجوز بيعه بأحد النقدين إن أبيحت التحلية؛ كسيف ومصحف، وكان في نزع الحلية فساد أو غرم، وعجل المعقود عليه، لا بد من هذه الشروط سواء كانت الحلية تابعة أم لا، بيع بصنفه أو غير صنفه، ويزاد في البيع بصنفه رابع، وهو أن تكون الحلية الثلث فأقل؛ فيكون تابعًا، وهذا ما يعنيه المؤلف؛ إلا أنه يبقى الكلام حينئذ في تسميته صرفًا، مع أن الصرف في عرفهم بيع النقد بنقد من غير صنفه، وأما بصنفه عددًا؛ فهو مبادلة وبه وزنًا مراطلة، فمسألتنا من المبادلة أو المراطلة؛ لأنها فيما كان من صنفه، أما ما كان غير صنفه؛ فلا يلزم فيه الشرط الرابع الذي يحقق موضوع التبعية كما عرفت. "د".
2 في "د": "وغيره".
3 ومنها جواز حمل المحدث المصحف إذا كان تابعًا لحمله أمتعته، ومنها ما إذا اشترى جملة أشياء ثم ظهر أن بعضها لا يجوز بيعه؛ فإنه يرد الكل وليس له التمسك بالباقي الحلال بما يخصه من الثمن إلا إذا كان وجه الصفقة؛ فيعد متبوعًا، ومثله ما قالوه في العيوب وجواز التمسك بالجزء الذي ليس فيه عيب بما يقابله من الثمن إذا كان وجه الصفقة، وهكذا من المسائل المتفرعة على هذا الأصل. "د".
4 ما تحته وكثير من أمثلة تقعيد وعميق وتفريع لما عند المازري في "المعلم بفوائد مسلم" "2/ 157 وما بعدها".
5 اشترطوا في المعقود عليه أن يكون منتفعًا به انتفاعًا شرعيًا، واحترزوا به عن الحيوان محرم الأكل إذا أشرف على الموت بحيث لم يبلغ حد السياق؛ لأنه لا ينتفع به، عن آلة اللهو، وهذا ظاهر في ذاته، ولكن على أي شيء في المسألة السابقة يتفرع هذا؟ نعم، إن الذي يظهر تفريعه عليها القسم الثالث بتفاصيله الآتية وما ذكر قبله تمهيد وتوطئة للمقصود. "د".(3/456)
الْمُعَاوَضَاتِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَوْ مَنَافِعُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا حَرَامًا أَنْ ينتفع به؛ فلا إشكال في أن جارٍ مَجْرَى مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا حَلَالًا؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِهِ وَعَلَيْهِ.
وَهَذَانَ الْقَسَمَانِ وَإِنْ تُصُوِّرَا فِي الذِّهْنِ بعيدٌ أَنْ يُوجَدَا فِي الْخَارِجِ؛ إِذْ مَا مِنْ عَيْنٍ مَوْجُودَةٍ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا إِلَّا وَفِيهَا جِهَةُ مَصْلَحَةٍ وَجِهَةُ مَفْسَدَةٍ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا فِي كِتَابِ1 الْمَقَاصِدِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ؛ فَيَرْجِعُ الْقَسَمَانِ إِذًا إِلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنْ يكون بعض المنافع حلالًا وبعضها حرامًا؛ فههنا مُعْظَمُ نَظَرِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَوَّلًا ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَصَالَةِ عُرْفًا، وَالْجَانِبُ الْآخَرُ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْعَادَةِ؛ إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ2 عَلَى الْخُصُوصِ وَعَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ لِمَا هُوَ مَقْصُودٌ بِالْأَصَالَةِ وَالْعُرْفِ، وَالْآخَرُ لَا حُكْمَ لَهُ؛ لِأَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا الْجَانِبَ التَّابِعَ لَمْ يَصِحَّ3 لَنَا تَمَلُّكُ عَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ، وَلَا عَقْدٌ عَلَيْهِ لِأَجْلِ مَنَافِعِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنَافِعَ محرمة، وهو من الأدلة4 على سقوط
__________
1 في المسألة الخامسة من النوع الأول، حيث قرر أنه لا يوجد شيء من الأمور المبثوثة في هذه الدنيا متمحضًا للمصلحة ولا للمفسدة، ولكن إذا رجحت المصلحة، قيل: إنه مصلحة وكان مطلوبًا، وبالعكس، وقوله: "هذا الاعتبار"؛ أي: عدم التمحض وبناء المبحث عليه. "د".
2 الاستثناء منقطع، وسيأتي حكم هذه الصورة في قوله: "اللهم ... إلخ". "د".
3 لما عرفت من تمحض عين ما للمصلحة؛ فإذًا كل عين فيها جهة مفسدة ولو تابعة، فلو اعتبر الجانب التابع أيضًا؛ لم تبقَ عين يمكن تملكها. "د".
4 لأنه يترتب عليه نهاية الضيق والحرج، بل قد يكون التبادل من مرتبة الضروري، ويترتب على منعه الإخلال بالضروري، وهذا الدليل المتين لم يسبق له إقامته على مسألة إلغاء التابع؛ فلذا قال: "وهو من الأدلة ... إلخ"؛ أي: فليضم إلى الأدلة الثلاثة التي قدمها في صدر المسألة. "د".(3/457)
الطَّلَبِ فِي جِهَةِ التَّابِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّ جِهَةَ التَّبَعِيَّةِ يُلْغَى فِيهَا مَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنَ الطلب؛ فكذلك ههنا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَاقِدِ قَصْدٌ إِلَى الْمُحَرَّمِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَإِنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: اعْتِبَارُ الْقَصْدِ الْأَصِيلِ وَإِلْغَاءِ التَّابِعِ1 وَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا؛ فَيَرْجِعُ إِلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ.
وَالْآخَرُ: اعْتِبَارُ الْقَصْدِ الطَّارِئِ؛ إِذْ صَارَ بِطَرَيَانِهِ2 سَابِقًا أَوْ كَالسَّابِقِ، وَمَا سِوَاهُ كَالتَّابِعِ؛ فَيَكُونُ الْحُكْمُ لَهُ، وَمِثَالُهُ فِي أَصَالَةِ الْمَنَافِعِ الْمُحَلِّلَةِ3 شِرَاءُ الْأَمَةِ بِقَصْدِ4 إِسْلَامِهَا لِلْبِغَاءِ كَسْبًا بِهِ، وَشِرَاءُ الْغُلَامِ لِلْفُجُورِ بِهِ، وَشِرَاءُ الْعِنَبِ لِيُعْصَرَ خَمْرًا، وَالسِّلَاحِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَبَعْضِ الْأَشْيَاءِ لِلتَّدْلِيسِ بِهَا، وفي أصالة
__________
1 سيأتي له حكاية الاتفاق على حرمة شراء العنب ليعصر خمرًا. "د".
قلت: وبما وقع في هذا النوع مسائل تُشكل على العالِم؛ فيلحظ المسألة بعين فكرته، فيرى المنفعة المحرَّمة ملتبسًا أمرُها: هل هي مقصودة أم لا، ويرى ما سواها منافع مقصودة محللة؛ فيمتنع من التحريم لأجل كون المقصود من المنافع محللًا، ولا ينشط لإطلاق الإباحة لأجل الإشكال في تلك المنفعة المحرَّمة؛ هل هي مقصودة أم لا؟ فيقف ههنا المتورِّع، ويتساهل آخر فيقول بالكراهة ولا يمنع ولا يحرم، ولكنه يكره لأجل الالتباس، فاحتفظ بهذا الأصل؛ فإنه من مُذْهَبَات العلم، ومن قتله علمًا هان عليه جميع مسائل الخلاف الورادة في هذا الباب، وأفتى وهو على بصيرة في دين الله تعالى، قاله المازري في "المعلم" "2/ 158".
2 لو قال: إذ صار بسبب قصده على الخصوص سابقًا ... إلخ؛ لكان ظاهرًا. "د".
3 أي: مثال ما كان القصد فيه إلى الطارئ بالخصوص، وكان المقصد الأصلي فيه الحل شراء الأمة ... إلخ؛ فإن شراء الجارية يقصد به عرفًا قصدًا أوليًّا الخدمة والتسري مثلًا، وعكسه يقال في أصالة المنافع المحرمة؛ فإن شراء الخمر مثلًا الأصل فيه الشرب المحرم. "د".
4 وسيأتي حكاية الاتفاق على تحريم هذه الأمثلة "د".(3/458)
الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ شِرَاءُ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَالضَّرْعِ وَالزَّرْعِ عَلَى رَأْيِ مَنْ مَنَعَ1 ذَلِكَ، وَشِرَاءُ2 السِّرقين لِتَدْمِينِ الْمَزَارِعِ، وَشِرَاءُ الْخَمْرِ لِلتَّخْلِيلِ، وَشِرَاءُ شَحْمِ الْمَيْتَةِ لِتُطْلَى بِهِ السُّفُنُ أَوْ يَسْتَصْبِحَ بِهِ النَّاسُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَالْمُنْضَبِطُ هُوَ الْأَوَّلُ3، وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ مَا يُقْصَدُ بالأصالة
__________
1 اختلفوا في جواز بيع كلب الصيد والحراسة، مع اتفاقهم على جواز قنيته؛ فبعضهم أجازه وحمل النهي عن ثمن الكلب الوارد في الحديث على ما ليس للصيد والحراسة، ويكون اعتبر القصد الطارئ لما فيه من المصلحة متبوعًا وما سواه تابعًا، وبعضهم منعه حملًا للحديث على العموم؛ فيكون اعتبر المتبوع ما كان غالبًا، وهو عدم قصد الحراسة والصيد، وإن كان هذا يختلف فيه الأغلب عرفًا باختلاف البلاد؛ إلا أنه الآن في مقام التمثيل لما كان في الأصل محرمًا باعتبار القصد الأصلي عرفًا، ولكنه قصد فيه اعتبار طارئ جعله سابقًا أو كالسابق مما يقتضي خروجه عن التحريم إلى الحل؛ فكان مقتضاه أن يقول: على رأي من أجازه؛ لأنا إذا جرينا على رأي من منع بيع كلب الصيد كنا ألغينا التابع، وإن كان مقصودًا على الخصوص ورجعنا به للضرب الأول، ولم نكن اعتبرنا القصد الطارئ الذي هو بصدد تمثيله. "د".
قلت: انظر في مسألة "بيع كلب الصيد والحراسة": "المعلم" "2/ 158"، و"القبس" "2/ 798-799"، و"المنتقى" "5/ 28" للباجي، و"المجموع" "9/ 228"، و"المغني" "4/ 189". وفي "ط": " ... أو للضرع أو الزرع ... ".
2 التدمين: هو بفتح أوله وكسر: الدمال أو الدمان الذي يوضع في الأرض لإصلاحها، وهو ما توطأته الدواب من البعر والتراب، ويقال له السرجين أيضًا. "ف".
قلت: وفي الأصل: "الزبل"، وكتب "د" ما نصه: "اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع مطلقًا فيهما، والجواز لضرورة إصلاح الأرض به، وكان يناسب أن يؤخر قوله: "على رأي ... إلخ" عن هذه الأمثلة مع ملاحظة إبدال منع بأجاز".
قلت: انظر "المعلم" "2/ 158".
3 أي: الوجه الأول من الوجهين المذكورين، وهو اعتبار القصد الأصلي وإلغاء القصد الطارئ ولو قصد على الخصوص، وقوله: "المنضبط"؛ أي: المطرد حكمه، أي: وأما اعتبار الطارىء؛ فإن وجد في بعض الفروع ما يمكن تطبيقها عليه؛ إلا أنه لا يطرد. "د".(3/459)
وَالْعَادَةِ هُوَ الَّذِي جَاءَ فِي الشَّريعة الْقَصْدُ إِلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ؛ فَإِنَّ شِرَاءَ الْأَمَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فِي التَّسَرِّي إنْ كَانَتْ مِنْ عليِّ1 الرَّقِيقِ، أَوِ الْخِدْمَةِ إِنْ كَانَتْ مِنَ الْوَخْشِ2، وَشِرَاءَ الْخَمْرِ لِلشُّرْبِ، وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ لِلْأَكْلِ، هُوَ الْغَالِبُ الْمُعْتَادُ عِنْدَ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي نَحْوِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 23] ، فَوَجَّهَ التحليل والتحريم عل أَنْفُسِ الْأَعْيَانِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَفْهُومٌ.
وَكَذَلِكَ قَالَ: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَةِ: 188] .
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النِّسَاءِ: 10] ، وَأَشْبَاهِهِ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا فِي غَيْرِ الْأَكْلِ لِأَنَّ أَوَّلَ الْمَقَاصِدِ وَأَعْظَمَهَا هُوَ الْأَكْلُ، وَمَا سوى ذلك ما يقصد بالتبع، ولا3 يُقْصَدُ فِي نَفْسِهِ عَادَةً إِلَّا بِالتَّبَعِيَّةِ لَا حُكْمَ لَهُ.
وَقَدْ وَرَدَ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ وَأَخَوَاتِهَا، وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَحْمِ الْمَيْتَةِ: إِنَّهُ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهِ النَّاسُ؛ فأوردَ مَا دَلَّ عَلَى مَنْعِ الْبَيْعِ، وَلَمْ يَعْذُرْهُمْ بِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ لأن المقصود وهو الْأَكْلُ محرَّم، وَقَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحومُ فجَملوها؛ فَبَاعُوهَا وأكلوا أثمانها" 4.
__________
1 في "م": "على".
2 بفتح الواو وسكون الخاء والمعجمة: الدّنيء. "ف".
3 في "د": "وما لا".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236، وكتاب التفسير، باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُر} ، 8/ 295/ رقم 4633"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1207/ رقم 1581" عن جابر عن عبد الله رضي الله عنه.
وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما سيأتي قريبًا.
قال "ف": "حرم الله عليهم من الشحوم ما يكون على الأمعاء والكرش والكلى من البقر والغنم، قال تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 164] ، وجملوها: أي: أذابوها، يقال: جمل الشحم: أذابه كأجمله واجتمله" ا. هـ.(3/460)
وَقَالَ فِي الْخَمْرِ: "إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا" 1.
وَ "إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ "2 لِأَجْلِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمُحَرَّمِ فِي الْعَادَةِ هُوَ الَّذِي تَوَجَّهَ إِلَيْهِ التَّحْرِيمُ وَمَا سِوَاهُ تَبَعٌ لَا حُكْمَ لَهُ.
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَجَازُوا نِكَاحَ الرَّجُلِ لِيَبَرَّ يَمِينَهُ إِذَا حَلَفَ أَنَّ يَتَزَوَّجَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْبَقَاءَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ النِّكَاحِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ، وَلَا تُعْتَبَرُ3 فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَوَابِعٌ، وَلَوْ كَانَتِ التَّوَابِعُ مَقْصُودَةً شَرْعًا حَتَّى يَتَوَجَّهَ عَلَيْهَا مُقْتَضَاهَا مِنَ الطَّلَبِ؛ لَمْ يَجُزْ كَثِيرٌ مِنَ الْعُقُودِ لِلْجَهَالَةِ بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ الْمَقْصُودَةِ، بَلْ لَمْ يَجُزِ النِّكَاحُ لِأَنَّ الرجل إذا
__________
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم الخمر، 3/ 1206/ رقم 1579"، ومالك في "الموطأ" "2/ 846"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب بيع الخمر، 7/ 307-308" عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا.
2 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في ثمن الخمر والميتة، 3/ 280/ رقم 3488"، وأحمد في "المسند" "1/ 242، 293، 322"، والطبراني في "الكبير" "رقم 12887"، وابن حبان في "الصحيح" "11/ 313/ رقم 4938 - الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 13-14" عن ابن عباس ضمن حديث أوله: "قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم ... "، وصنيع المصنف هنا موهم أن هذه القطعة جزء من الحديث السابق، وهو ليس كذلك، فلو فصل الحديثين بقوله: "وقال"؛ لكان أليق.
3 راجع الفصل اللاحق للمسألة الثالثة عشرة في الأسباب. "د".
قلت: في "ط": "ولا تعتبر بأنفسها".(3/461)
نَكَحَ لَزِمَهُ الْقِيَامُ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالْإِنْفَاقِ وَسَائِرِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ إِلَى بَذْلِ الصَّدَاقِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ كَالْعِوَضِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْبُضْعِ، وَهَذَا ثَمَنٌ مَجْهُولٌ؛ فَالْمَنَافِعُ التَّابِعَةُ لِلرَّقَبَةِ1 الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا أَوْ لِلْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ سَابِقَةٌ فِي الْمَقَاصِدِ الْعَادِيَّةِ، هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ، وَمَا سِوَاهَا مِمَّا هُوَ تَبَعٌ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ؛ إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ قَصْدًا فَيَكُونَ فِيهِ نَظَرٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا حُكْمَ لَهُ فِي2 ظَاهِرِ الشَّرْعِ؛ لِعُمُومِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ3، وَلِخُصُوصِ الْحَدِيثِ فِي سُؤَالِهِمْ عَنْ شَحْمِ الْمَيْتَةِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يُقْصَدُ لِطِلَاءِ السُّفُنِ وَلِلِاسْتِصْبَاحِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مِمَّا يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِالشَّحْمِ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَصْدَ الْخَاصَّ لَا يُعَارِضُ4 الْقَصْدَ الْعَامَّ.
فَإِنْ5 صَارَ التَّابِعُ غَالِبًا فِي الْقَصْدِ، وَسَابِقًا فِي عرف بعض الأزمنة حتى
__________
1 أي: المنافع المقصودة قصدًا أوليًّا التابعة للرقبة مباشرة، وكذا المنافع التابعة لهذا النوع من المنافع، هذان هما المعتبران، أما ما سواهما من التوابع؛ فلا، ففي النكاح المقصود الأول النسل مثلًا، ويتبعه الاستمتاع، أما بقاء ذلك ودوامه؛ فليس واحدًا منهما، فلذلك جاز النكاح للبر باليمين، هذا إذا قلنا: إن غرضه من النكاح المشار إليه سابقًا، ويصح أن يكون المراد لم يجز عقد النكاح مطلقًا لأن المنافع التابعة مجهولة؛ فما صح إلا بعد طرح النظر في التوابع. "د". وفي "ط": "الرقبة المعقود عليه".
2 في الأصل: "وفي".
3 أي: على عدم اعتبار حكم التابع في مخالفة حكم المتبوع؛ فبعد ما تردد وقال: "المنضبط هو الأول والشواهد عليه كثيرة ... إلخ"، عاد فتوى عنده ذلك، واستظهر أنه لا حكم للتابع ولو قصد إليه بالخصوص، وهذا لا ينافي ما لاحظناه عليه من أنه كان الموافق للمقام هناك أن يقول: "على رأي من أجاز" لا "من منع"؛ لأن الكلام كان في فرض وتقدير لا في إعطاء أحكام متفرعة قطعًا. "د".
4 أي: فيبقى الحكم كما هو حلًّا أو حرمة. "د".
5 هذا هو النتيجة الأصولية، وإن كانت المباحث السابقة والترديدات والاستظهارات لا تخلو من فوائد وتثقيف في سبيل فقه الدين وطريقة التوصل إلى قواعده. "د".(3/462)
يَعُودَ مَا كَانَ بِالْأَصَالَةِ كَالْمَعْدُومِ الْمُطَّرَحِ1؛ فَحِينَئِذٍ يَنْقَلِبُ الْحُكْمُ، وَمَا أَظُنُّ هَذَا يَتَّفِقُ هَكَذَا بِإِطْلَاقٍ، وَلَكِنْ إِنْ فُرِضَ اتِّفَاقُهُ انْقَلَبَ الْحُكْمُ، وَالْقَاعِدَةُ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ2 كَمَا وُضِعَتْ فِي الشَّرْعِ وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ3، وَلَكِنَّ الْقَصْدَ إِلَى التَّابِعِ كَثِيرٌ؛ فَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ مَا يُقْصَدُ مِثْلُهُ عُرْفًا، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ اعْتِبَارًا بِالِاحْتِمَالَيْنِ، وَقَاعِدَةُ الذَّرَائِعِ أَيْضًا مَبْنِيَّةٌ عَلَى سَبْقِ4 الْقَصْدِ إِلَى الْمَمْنُوعِ، وَكَثْرَةُ ذَلِكَ فِي ضَمِّ الْعَقْدَيْنِ، وَمَنْ لَا يَرَاهَا بَنَى عَلَى أَصْلِ القصد في انفكاك العقدين
__________
1 في "م": "المطروح".
2 لأن القاعدة "اعتبار ما قصد غالبًا عرفًا"، فلو تغير المقصود عرفًا؛ فالتغير فيه لا فيها. "د".
3 أي: وإن لم يتفق صيرورة التابع متبوعًا في القصد عرفًا، ولكنه صار يقصد كثيرًا كثرة لا تصيره متبوعًا؛ فهل يعتبر؟ قال: إذا بنى على القاعدة من اعتبار ما يقصد مثله عرفًا؛ فإنه يعتبر لأنهم لم يشترطوا في هذه القاعدة كونه بحيث يصير متبوعًا، بل مجرد قصد مثله عرفًا، وهو متحقق في هذا الفرض، وقوله: "الاحتمالين"؛ أي: المعبر عنهما سابقًا بالوجهين: اعتبار القصد الأصيل، واعتبار الطارئ؛ إلا أن هذا يكون ههنا أقوى لكون القصد إلى التابع قيد هنا بالكثرة، وفي الكلام السابق لم يقيد بها، ولعل هذا هو الفارق، حيث حكم آنفًا على ذي الوجهين بأنه لا اعتبار له في ظاهر الشرع، وهنا قال: "المسألة مختلف فيها" مما يؤخذ منه الفرق بين ما كثر القصد إليه وغيره. "د".
4 بدون مراعاة لكونه تابعًا، بل يكفي كثرة حصول ذلك كما قال: "وكثرة ذلك في ضم العقدين"؛ أي: في ضم بعضهما إلى بعض في عقدة واحدة كبيع أدى إلى بيع وسلف كما قال خليل وشراحه: "ومنع عند مالك -للتهمة لأجل ظن قصد ما منع شرعًا سدًا للذريعة- بيع كثر قصد الناس له للتوصل إلى الربا الممنوع كبيع وسلف"؛ أي: كبيع جائز في الظاهر يؤدي إلى بيع وسلف، كأن يبيع سلعتين بدينارين لشهر ثم يشتري إحداهما بدينار نقدًا؛ فآل الأمر إلى بيع للسلعة بأحد الدينارين وسلف الدينار الآخر يدفعهما بعد شهر، ومثله سلف بمنفعة؛ كبيعه سلعة بعشرة لأجل ويشتريها بخمسة نقدًا، وإنما قال: "عند مالك"؛ لأنه لا خلاف في منع صريح البيع والسلف، وليس من الذريعة، إنما الذريعة مثل ما ذكره خليل. "د".(3/463)
عُرْفًا، وَأَنَّ الْقَصْدَ الْأَصْلِيَّ خِلَافُ1 ذَلِكَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ تَبَعًا فِي الْقَصْدِ الْعَادِيِّ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يَسْبِقُ الْقَصْدَ إِلَيْهِ عَادَةً بِالْأَصَالَةِ؛ كَالْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي الْمُحَرَّمَةِ إِذَا فَرَضْنَا الْعَيْنَ وَالصِّيَاغَةَ2 مَقْصُودَتَيْنِ مَعًا عُرْفًا أَوْ يَسْبِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ عُرْفًا؛ فَهَذَا بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ فِيهِ بِاجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَيْهِمَا مُتَلَازِمَانِ؛ فَلَا بُدَّ مِنِ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا وَاطِّرَاحِ الْآخَرِ حُكْمًا، أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ التَّبَعِيَّةِ كَمَا مَرَّ فَيَسْقُطُ الطَّلَبُ الْمُتَوَجِّهُ إِلَى التَّابِعِ، وَأَمَّا عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا؛ فَيَصِيرُ التَّابِعُ عَفْوًا3، وَيَبْقَى التَّعْيِينُ4؛ فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَمَوْضِعُ إِشْكَالٍ، وَيَقِلُّ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا فُرِضَ وُقُوعُهُ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ وَمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ.
وَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ5 فِي نَحْوِ هَذَا الْقِسْمِ فِي الْبُيُوعِ: "يَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالْمَمْنُوعِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ مَقْصُودَةً يَقْتَضِي أن لها حصة من الثمن،
__________
1 أي: فلا تعتبر هذه الكثرة ما دامت على خلاف الأصل في المقاصد، والأصل في مسألة العقدين انفكاكهما هذا، ولكن قد يدعي أن الأصل عند اجتماع العقدين سبق القصد إلى الممنوع. "د".
2 قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 601": "وأنت ترى مذهب مالك المعروف في بلادنا أن الحلي المصنوع من الذهب والفضة لا يجوز بيعه بجنسه إلا وزنًا بوزن، ولا اعتبار بقيمة الصياغة أصلًا، والصاغة عندنا كلهم -أو غالبهم- إنما يتبايعون على ذلك: أن يستفضلوا قيمة الصياغة أو إجارتها، ويعتقدون أن ذلك جائز لهم! ".
3 أي: لم يتعلق به طلب، فضلًا عن سقوطه. "د".
4 أي: هل التابع هو صوغها حليًا لمن لا يجوز له استعماله -والأصل هو تملك الذهب والفضة- أم الأمر العكس؟ فعلى الأول يجوز البيع والشراء، وعلى الثاني لا يجوز. "د".
5 في "المعلم بفوائد مسلم" "2/ 157-158 - ط دار الغرب".(3/464)
وَالْعَقْدُ وَاحِدٌ1 عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا سَبِيلَ إِلَى تَبْعِيضِهِ، وَالْمُعَاوَضَةُ عَلَى الْمُحَرَّمِ مِنْهُ مَمْنُوعَةٌ؛ فَمَنْعُ الْكُلِّ لِاسْتِحَالَةِ التَّمْيِيزِ، وَإِنَّ2 سَائِرَ الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ يَصِيرُ ثَمَنُهَا مَجْهُولًا لَوْ قُدِّرَ انْفِرَادُهُ بِالْعَقْدِ"3، هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ4.
وَأَيْضًا؛ فقاعدة الذرائع تقوى ههنا، إِذَا قَدْ ثَبَتَ الْقَصْدُ5 إِلَى الْمَمْنُوعِ.
وَأَيْضًا فَقَاعِدَةُ "مُعَارَضَةِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ لِجَلْبِ الْمَصَالِحِ" جَارِيَةٌ هُنَا؛ لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ، وَلِأَنَّ قَاعِدَةَ التعاون6 تَقْضِي بِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ عَلَى مِثْلِ هَذَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَلِذَلِكَ يُمْنَعُ بِاتِّفَاقٍ شِرَاءُ العنب للخمر قصدًا،
__________
1 العبارة في "المعلم": " ... كون هذه المنفعة المحرمة مقصودة تؤذن بأن لها حصة من الثمن، وأن العقد اشتمل عليها كما اشتمل على سائر المنافع سواها، وهو عقد واحد ... ".
2 أي: ووجه ثانٍ لمنعه وهو لزوم الجهالة في ثمن ما عدا المنافع المحرمة. "د".
قلت: عبارة المازري في "المعلم": "وأن الباقي من المنافع ... ".
3 في "المعلم": "انفراده بالتعاوض".
4 وانظر لِمَ لَمْ يجرِ هنا ما جرى في مساقاة الشجر يكون بينه البياض اليسير، واجتماع البيع والصرف في دينار، وهكذا مما جعل فيه القليل الممنوع تابعًا للكثير الجائز؛ فكان يفصل هنا فيما إذا كانت قيمة الصياغة الثلث فأقل فتكون تابعة، وما إذا كانت قيمة العين الثلث فأقل فتكون تابعة، ويترتب على ذلك الجواز وعدمه، ويكون تفريعًا على الفائدة الأولى من الفصل الثاني، ولا فرق إلا أنه فيما سبق كان أصل المنع للغرر والجهالة، وهذا المنع لنفس الانتفاع بالمبيع؛ فلعل لهذا دخلًا في التفرقة، وسيأتي توجيهه. "د". وفي "ط": "متجه".
5 أما فيما ذكره من سبق القصد إلى الممنوع وكثرته في ضم العقدين كأمثلة خليل السابقة؛ فإنه كان فيها تهمة القصد إلى الممنوع فقط، بسبب كثرة ذلك في مثله؛ فما هنا أقوى. "د". وفي "ط": "إذ قد".
6 أي: التعاون بالجائز على الممنوع الذي هو ممنوع شرعًا، يعني: ولما وجدت أصول أخرى كثيرة معارضة لقاعدة التبعية ألغي جانب اعتبار التبعية، كما أشار إليه أول الفصل الثاني بقوله: "ما لم يعارضه أصل آخر". "د". وفي "ط": "التعاون هنا تقتضي".(3/465)
وَشِرَاءُ السِّلَاحِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَشِرَاءُ الْغُلَامِ لِلْفُجُورِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَصْدُ تَبَعِيًّا؛ فَهَذَا أَوْلَى1 أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَى الْحُكْمِ بِالْمَنْعِ فِيهِ لَكِنَّهُ2 مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ3 النَّظَرُ الْخِلَافِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ بالنسبة إلى مقطع الحكم، وكون المعارضة فاسة [أَوْ غَيْرَ فَاسِدَةٍ] 4، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِذَلِكَ بَسْطٌ في كتاب المقاصد.
__________
1 لأنه ليس أحد الجانبين تبعًا للآخر، بل كل منهما يسبق القصد إليه كما هو الفرض في هذا الضرب، بخلاف شراء العنب وما معه. "د".
2 لعل الأصل: "لكونه"، وهذا التعليل إنما ينتج لو كان الغرض قصد الخلاف والوفاق على المالكية القائلين بسد الذرائع ومن يشاركهم في ذلك الأصل. "د".
3 جواب سؤال تقديره أنه كان مقتضى هذه القواعد الأصولية أن يتفقوا على منع هذا الضرب، مع أنهم اختلفوا فيه، فقال: بل هم متفقون على المنع والحرمة، والخلاف إنما هو في فساد المعاوضة وصحتها، ومعلوم أنه لا يلزم من القول بالحرمة القول بالفساد، والشافعية والمالكية يقولون: إن لم يدل دليل على الصحة كان فاسدا، سواء أكان الدليل متصلًا أو منفصلًا، وعند الحنفية خلاف فيه بالنسبة لبعض صوره. "د".
4 سقط من "ط".(3/466)
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:
وُرُودُ1 الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى شَيْئَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِتَابِعٍ2 لِلْآخَرِ، وَلَا هُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي الْوُجُودِ وَلَا فِي الْعُرْفِ الْجَارِي؛ إِلَّا أَنَّ الْمُكَلِّفَ ذَهَبَ قَصْدُهُ إِلَى جَمْعِهِمَا مَعًا فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ، وَفِي غَرَضٍ وَاحِدٍ؛ كَجَمْعِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلْنَصْطَلِحْ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَلَى وَضْعِ الْأَمْرِ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ3؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا وَاحِدٌ، ولأن4 الْأَمْرَ قَدْ يَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه} [الْجُمُعَةِ: 10] .
وَإِنَّمَا5 قَصَدَ هُنَا الِاخْتِصَارَ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ، وَالْمَعْنَى في المساق المفهوم؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ تَابِعٍ فِي الْقَصْدِ بِالْفَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُمَا عَلَى حُكْمِ الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ يَأْبَاهُ، وَالْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ في التصرفات،
__________
1 في "ف" و"م" و"د": "ورد"، ولذا علق "د" بقوله: "لعل فيه سقط كلمة "إذا"، ويكون جوابها قوله: "فمعلوم ... إلخ"، ويكون قوله: "ولنصطلح ... إلخ" معترضًا.
قلت: والمثبت من الأصل و"ط"، وعليه؛ فلا حاجة للتعليق السابق.
2 أي: بأي نوع من أنواع التبعية التي تقدمت في المسألة السابقة وفصولها؛ فقوله: "متلازمان ... إلخ" بيان للتبعية المنفية.
3 أي: في موضع ما يشمل الإباحة، بحيث يكون المراد به ما يكون طلبًا أو تخييرًا، وسيأتي في الأمثلة الجمع بين الأختين، وكل منهما مباح عند الانفراد، والجمع بين بيع وسلف، والبيع مباح والسلف مندوب مأمور به، وقوله: "الحكم فيهما واحد"؛ أي: في هذا المقام لأنهما يقابلان النهى هنا؛ فما يثبت للمأمور به إذا اجتمع مع المنهي عنه؟ وقد يثبت للمباح إذا اجتمع مع المنهي عنه، وقوله: "لأن الأمر" لعل الأصل: "ولأن الأمر"؛ فهو تعليل ثان لاختياره هذا الاصطلاح، لا أنه تعليل لكون حكمهما واحدًا لأنه لا يظهر، وكان يمكنه أن يضع بدل كلمة "المأمور" كلمة "المأذون فيه"، وهي تشملها في الاصطلاح العام؛ إلا أن عبارته أخصر. "د".
4 في الأصل و"ف" و"د": "لأن"، وزيادة الواو من "م" و"ط".
5 في "ف": "وإذا".(3/467)
وَلِأَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ مِنَ الشَّرْعِ عَرَّفَ أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرًا فِي أَحْكَامٍ لَا تَكُونُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ.
وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ بَيْنَ مَأْمُورٍ وَمَنْهِيٍّ مَعَ الِاجْتِمَاعِ بَيْنَ مَأْمُورَيْنِ أَوْ مَنْهِيَّيْنِ؛ فَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ " 1، وكل مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ لَجَازَ.
وَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ مَعَ جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ بِانْفِرَادِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا، وَقَالَ: "إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ؛ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ" 2، وَهُوَ دَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي مَسْأَلَتِنَا مِنْ حَيْثُ كَانَ لِلْجَمْعِ حُكْمٌ لَيْسَ لِلِانْفِرَادِ؛ فَكَانِ الاجتماع مؤثرًا، وهو
__________
1 أخرج أحمد في "المسند: "2/ 174، 178-179، 205"، والطيالسي في "المسند" "2257"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده/رقم 3504"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب كراهية بيع ما ليس عندك/رقم 1234"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع، 7/ 288"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، 2/ 737-738/رقم 2188"، والدارمي في السنن "2/ 253"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 601"، والدارقطني في "السنن" "3/ 15"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 17"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 339-340، 348" بإسناد صحيح عن عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا بلفظ: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك".
وصححه الحاكم، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ولفظ الطيالسي: "نهى عن سلف وبيع ... ".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، 9/ 160/ رقم 5109"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، 2/ 1028/ رقم 1408" عن أبي هريرة رضي الله عنه.(3/468)
دَلِيلٌ، وَكَانَ تَأْثِيرُهُ فِي قَطْعِ1 الْأَرْحَامِ وَهُوَ رَفْعُ الِاجْتِمَاعِ، [وَهُوَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى تَأْثِيرِ الِاجْتِمَاعِ] 2.
وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ إِفْرَادِ يَوْمِ3 الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ مَا قَبْلَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ4.
وَكَذَلِكَ نَهَى عَنْ تَقَدُّمِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ5 وَعَنْ صِيَامِ يوم الفطر6 لمثل ذلك أيضًا.
__________
1 أي: ففي عبارة الحديث نفسها -بقطع النظر عن عبارة النهي الواردة فيه- ما يفيد أن الجمع ينشأ عنه ما لم يكن عند الانفراد، كما أن نفس النهي عن الجمع يفيد ذلك، ولو لم يقل: "إذا فعلتم ... " إلخ؛ فقوله: "قطعتم أرحامكم"؛ أي: قطعتم هذه الصلة، وهذا الاجتماع المعنوي بينكم بهذا الجمع. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 وهذا من اجتماع مأمور به ومنهي عنه؛ فأثر ذلك الجمع الأمر بهما معًا، وقوله: "وكذلك نهى عن تقدم ... إلخ" بالعكس؛ فرمضان وحده مطلوب"، وجمع يوم من شعبان إليه منهي عنه، وكذا يقال في يوم الفطر. "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة، 4/ 232/رقم 1985"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا، 2/ 801/ رقم 1144" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة؛ إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده"، لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة؛ إلا يومًا قبله أو بعده".
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، 4/ 127، 128/ رقم 1914"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ 2/ 762/ رقم 1082" عن ابن عباس مرفوعا: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه".
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد بيت المقدس، 3/ 70/ رقم 1197، وكتاب الصيام، باب صوم يوم الفطر، 4/ 239/ رقم 1991"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، 2/ 779-800/ رقم 827" عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر".(3/469)
وَنَهَى عَنْ جَمْعِ الْمُفْتَرِقِ وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ1 خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ2 تَأْثِيرًا لَيْسَ لِلِانْفِرَادِ، وَاقْتِضَاؤُهُ أَنَّ لِلِانْفِرَادِ حُكْمًا لَيْسَ لِلِاجْتِمَاعِ يُبَيِّنُ أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ حُكْمًا لَيْسَ لِلِانْفِرَادِ، وَلَوْ فِي سَلْبِ3 الِانْفِرَادِ.
وَنَهَى عَنِ الْخَلِيطَيْنِ فِي الْأَشْرِبَةِ4؛ لِأَنَّ لِاجْتِمَاعَهُمَا تَأْثِيرًا فِي تَعْجِيلِ صِفَةِ الإسكار.
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مجتمع، 3/ 314/ رقم 1450" عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما، مضى تخريجه "1/ 423" وعن سعد وغيرهما.
قال "د": "وهو يفيد أن للاجتماع والافتراق حكمًا يعول عليه ما لم تكن له نية سيئة، فيعامل بنقيض قصده؛ فالأصل ثابت في الحديث".
2 اقتصر على هذا، والحديث فيه الأمران لأن الذي يعنيه الآن أن يكون للاجتماع حكم ليس للانفراد، ولذلك لما أخذ الثاني أخذه مع تغيير الأسلوب ليجعله راجعًا إلى غرضه في الاجتماع أيضًا، وهو أنه يؤثر في الانفراد بسلبه؛ لأنه لا انفراد مع الاجتماع، ويكفيه هذا في غرضه، وسيأتي مقابل ذلك في قوله: "وللافتراق أيضًا تأثير ... إلخ". "د".
3 إلا أن سلب صفة الانفراد عند الاجتماع لم يفقد الأجزاء خاصتها؛ لما سيجيء في توجيه مقابله، فإزالة هذه الصفة لا تفيد عدم الاعتداد بكل من الأجزاء على حدة، وإعطاءه ما يناسبه من الحكم. "د".
4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر والزبيب وغيرهما مما يسكر، 3/ 1572/ رقم 1981" عن أنس؛ قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط التمر والزهو، ثم يشرب، وإن ذلك عامة خمورهم يوم حرمت الخمر".
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرًا، 10/ 67/ رقم 5601"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين، 3/ 1574" عن جابر بن عبد الله، أن النبي نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر".(3/470)
وَعَنِ التَّفْرِقَةِ1 بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا2، وَهُوَ فِي "الصحيح".
__________
1 لأنه يفوت مصلحة الاجتماع برعايتها لابنها سكون نفسها برؤيته، ولذلك يفسخ العقد عند مالك إذا كان العقد المتضمن لذلك عقد معاوضة. "د".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين أو بين الوالدة وولدها في البيع، 3/ 580/ رقم 1283"، وأحمد في "المسند" "5/ 414"، والدارمي في "السنن" "2/ 228"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 55-56"، والدارقطني في "السنن" "3/ 67"، والطبراني في "الكبير" "4/ 217"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 126" بإسناد حسن عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا: "من فرق بين الوالدة وولدها؛ فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة".
وفي الباب عن أبي موسى، أخرج ابن ماجه في "السنن" "رقم 2250"، والدارقطني في "السنن" "3/ 67" عنه؛ قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين الوالدة وولدها، وبين الأخ وأخيه"، وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن إسماعيل.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 55"، والدارقطني في "السنن" "3/ 67" عن عمران بن حصين بلفظ: "ملعون من فرق ... "، وهو منقطع، طليق بن محمد -مع ما قيل فيه- لم يسمع من عمران، قاله المنذري في "الترغيب والترهيب" "5/ 51".
وفي الباب عن عبادة بن الصامت وعلي كما سيأتي في الحديث الآتي، وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 15-16"، و"سنن سعيد بن منصور" "رقم 2654-2661 - ط الأعظمي"، وقول المصنف عن الحديث: "وهو في "الصحيح" غير صحيح، بل الثابت في "صحيح مسلم" "كتاب الجهاد والسير، باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى، 3/ 1375-1376/ رقم 1755" من حديث سلمة بن الأكوع في الحديث الطويل، الذي أوله: "غزونا فزارة وعلينا أبو بكر ... "، وفيه: "وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم، معها ابنة لها من أحسن العرب، فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر؛ فنفلني أبو بكر ابنتها".
وأخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الجهاد"، وبوب عليه "باب الرخصة في المدركين يفرق بينهم، 3/ 64/ رقم 2697"، وأحمد في "المسند" "4/ 46، 51".
وانظر في تحديد اسم المرأة وابنتها في: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" "رقم 703" مع تعليقنا عليه.
وقال ابن العربي في "القبس" "2/ 800" في فقه المسألة: "اختلف العلماء على ثلاثة أقوال؛ فمنهم من قال: إن ذلك لحق الأم في التولية، وقيل: لحق الطفل، وقيل: لحق الله؛ فالبيع فاسد في ذلك؛ إلا على القول بأنه حق للأم فيقف على إجازتها".(3/471)
وَعَنِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ1، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وهو كثير في الشريعة.
__________
1 أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين أو بين الوالدة وولدها في البيع، 3/ 581/ رقم 1284"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب النهي عن التفريق بين السبي، 2/ 755-756/ رقم 2249"، وأحمد في "المسند" "1/ 97-98، 102، 126-127"، والدارقطني في "السنن" "3/ 66"، والمخلص في "فوائده" "ق28/ ب"، والبزار في "البحر الزخار" "2/ 227/ رقم 624" من طرق عن علي رضي الله عنه؛ قال: وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين، فبعت أحدهما، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي! ما فعل غلامك؟ ". فأخبرته؛ فقال: "رده، رده". لفظ الترمذي وغيره.
ولفظ البزار وغيره: "كان عندي غلامان أخوان، فأردت بيع أحدهما؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعهما جميعًا، أو أمسكهما جميعًا".
والحديث ورد بألفاظ مختلفة، وبطرق متعددة، وضعفه شيخنا الألباني في تعليقه على "المشكاة" "رقم 3362".
اختلف فيه على بعض الرواة كما بسطه الدارقطني في "العلل" "رقم 401"، ورجح البيهقي صحة الحديث لشواهده، ولكن بلفظ: "إنه باع جارية وولدها ففرق بينهما؛ فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك"، وليس فيه ما يدل على ما ذكره المصنف، أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في "السنن" "3/ 63-64/ رقم 2696" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "9/ 126"- والدارقطني في "السنن" "3/ 66"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 55"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 375-376"، وإسناده منقطع؛ لأن ميمون بن أبي شبيب لم يدرك عليًا، كما قال أبو داود، وانظر: "التلخيص الحبير" "3/ 16".
قلت: ويشهد له ما تقدم في الحديث السابق، والله الموفق.(3/472)
وَأَيْضًا، فَإِذَا أُخِذَ الدَّلِيلُ فِي الِاجْتِمَاعِ أَعَمَّ1 مِنْ هَذَا؛ تَكَاثَرَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى اعْتِبَارِهِ فِي الْجُمْلَةِ، كَالْأَمْرِ بِالِاجْتِمَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفْرِقَةِ2؛ لِمَا فِي الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَيْسَتْ فِي الِانْفِرَادِ؛ كَالتَّعَاوُنِ [وَالتَّظَاهُرِ، وَإِظْهَارِ أُبَّهَةِ الْإِسْلَامِ وَشَعَائِرِهِ، وَإِخْمَادِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتِ الْجَمَاعَاتُ وَالْجُمُعَاتُ وَالْأَعْيَادُ، وَشُرِعَتِ الْمُوَاصَلَاتُ] 3 بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ خُصُوصًا وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عُمُومًا، وَقَدْ مُدِحَ الِاجْتِمَاعُ وَذُمَّ الِافْتِرَاقُ، وَأُمِرَ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَذَمِّ ضِدِّهَا وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَأَيْضًا؛ فَالِاعْتِبَارُ النَّظَرِيُّ يَقْضِي أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ أَمْرًا زَائِدًا لَا يُوجَدُ مَعَ الِافْتِرَاقِ، هَذَا وَجْهُ تَأْثِيرِ الِاجْتِمَاعِ.
وللافتراق أيضًا تأثير من جهة أخرى، فإنه إِذَا كَانَ لِلِاجْتِمَاعِ معانٍ لَا تَكُونُ فِي الِافْتِرَاقِ؛ فَلِلِافْتِرَاقِ4 أَيْضًا معانٍ لَا تُزِيلُهَا5 حَالَةُ الاجتماع؛ فالنهي عن
__________
1 أي: بقطع النظر عما قيد به أولًا من الجمع بين مأمورين أو مأمور ومنهي عنه ... إلخ، فإن الأمر بالاجتماع لا يقال فيه: إنه واحد مما صور فيه الكلام أولًا. "د".
2 في الأصل و"ط": "الفرقة".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".
4 أي: للمفترقات أيضًا "ف"، وكتب "د": "وانظر لِمَ لم يذكر من آثاره ما أشار له في الحديث المتقدم من أن لتفريق الخليطين نعمهما أثرًا في الزكاة بزيادتها أو نقصها ما لم يفعلا ذلك خشية الصدقة".
5 لم يقل: ليست توجد عن الاجتماع، بل اقتصر في كل المحاولة الآتية على أن يثبت أن الأمور المتعددة عند اجتماعها لا تفقد كل واحد منها خواصها؛ أي: فمعاني المجتمعات التي تثبت لها عند الانفراد لا تزال متحققة عند الاجتماع، وهذا هو الذي يعنيه، وسيرتب عليه التعارض واختلاف النظر؛ فلا يصح أن تكون المقابلة بين الانفراد والاجتماع إلا على هذا الوجه، لا بأن تكون على أن معاني الافتراق لا توجد عند الاجتماع، وقوله: "وللانفراد في الاجتماع خواص لا تبطل به"؛ أي: لا يصح ولا يعقل أن تبطل بالاجتماع؛ لأن بطلانها يبطل المعنى الذي في الاجتماع كما مثل، فإن الأعضاء عند الاجتماع حافظة لخاصتها ولو لم يكن كذلك، بل صار المجموع بمنزلة اليد أو الرجل أو العين فقط لم يكن هو الإنسان؛ فاحتفاظ كل واحد بخاصته حفظ للإنسان المكون من هذه المجتمعات؛ فهذا كالترقي على ما قبله؛ كأنه يقول: ليس فقط أن الاجتماع لا يهدم خاصة كل واحد على انفراده، بل إن الاجتماع نفسه لا يتحقق إلا بهذا الحفظ. "د".(3/473)
الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ مُجْتَمِعَيْنِ قَضَى بِأَنَّ لِافْتِرَاقِهِمَا1 مَعْنًى هُوَ2 مَوْجُودٌ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ إِذْ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنَّهُمَا نَشَأَ بَيْنَهُمَا مَعْنًى زَائِدٌ لِأَجْلِهِ وَقَعَ النَّهْيُ، وَزِيَادَةُ الْمَعْنَى فِي الِاجْتِمَاعِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُعْدِمَ مَعَانِي الِانْفِرَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمِثْلُهُ3 الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَمَا4 فِي مَعْنَاهُ مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الْأَدِلَّةِ.
وَأَيْضًا؛ فَإِنْ كَانَ لِلِاجْتِمَاعِ معانٍ لا تكون في الانفراد؛ فللأفراد5 فِي الِاجْتِمَاعِ خَوَاصٌّ لَا تَبْطُلُ بِهِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَمِعَيْنِ مَعَانِيَ لَوْ بَطَلَتْ لَبَطَلَتْ مَعَانِي الِاجْتِمَاعِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْضَاءِ مَعَ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ مَجْمُوعَهَا هُوَ الْإِنْسَانُ، وَلَكِنْ لَوْ فُرِضَ اجتماعها من وجه واحد وعلى6 تَحْصِيلِ مَعْنَى وَاحِدٍ؛ لَبَطَلَ الْإِنْسَانُ، بَلِ الرَّأْسُ يُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُهُ الْيَدُ، وَالْيَدُ تُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُهُ الرِّجْلُ، وَهَكَذَا الْأَعْضَاءُ الْمُتَشَابِهَةُ كَالْعِظَامِ وَالْعَصَبِ وَالْعُرُوقِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فافهم مثله في سائر7 الاجتماعات.
__________
1 أي: بأن لهما عند الافتراق. "د".
2 سقط من "ط".
3 فمنافع الزوجية موجودة في كل من الأختين عند اجتماعهما أيضا، ولكن النهي ورد للمعنى الزائد في الاجتماع. "د".
4 في "ط": "ومما".
5 في "ط" كذا، وفي غيره: "فللانفراد".
6 كذا في "ط"، وفي غيره: "أو على".
7 لكن هذا ليس جمعًا اعتباريًا كاجتماع الشيئين المتباينين في عقدة وصيغة واحدة مثلًا؛ فهناك لأعضاء الإنسان نظام طبيعي يجعل الحياة مشتركة والعمل موزعًا كما يقول، وأين من هذا مجرد جمع الشيئين في صيغة أو قصد واحد؟ فلعل المراد بهذا التشبيه التقريب، وإلا؛ فكيف يبني على مجرد هذا قاعدة أصولية في الشريعة تبنى عليها أحكام وتفاريع؟ نعم، إن الأحكام مبنية كما سبق على مجرى العادة في الإنسان، سواء كانت طبيعية أو غيرها، ولكنها تكون حقيقة لا تشبيهًا واعتبارًا. "د".(3/474)
فَالْأَمْرُ1 بِالِاجْتِمَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْفُرْقَةِ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِفَوَائِدِ2 الْأَفْرَادِ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ، فَمِنْ حَيْثُ حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ بِالِاجْتِمَاعِ؛ فَهِيَ حَاصِلَةٌ مِنْ جِهَةِ الِافْتِرَاقِ أَيْضًا حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ، وَأَيْضًا؛ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الِاجْتِمَاعُ فِي شَيْئَيْنِ يَصِحُّ اسْتِقْلَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ يَصِحُّ أَنْ يُعْتَبَرَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْضًا؛ فَيَتَعَارَضَانِ فِي مِثْلِ مَسْأَلَتِنَا حَتَّى يُنْظَرَ فِيهَا؛ فَلَيْسَ اعْتِبَارُ الِاجْتِمَاعِ وَحْدَهُ بِأَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الِانْفِرَادِ. وَلِكُلٍّ وَجْهٌ تَتَجَاذَبُهُ أَنْظَارُ الْمُجْتَهِدِينَ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَحِينَ امْتَزَجَ الْأَمْرَانِ فِي الْمَقْصِدِ3 صَارَا فِي الْحُكْمِ كَالْمُتَلَازِمَيْنِ فِي الْوُجُودِ اللَّذَيْنِ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ [مَعًا] 4 فِيهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُتَلَازِمَيْنِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمَا بِالْأَمْرِ أَوْ بِالنَّهْيِ أَوْ لَا5؛ فَإِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُجْرَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الِانْفِكَاكِ وَالِاسْتِقْلَالِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْوُجُودِيِّ وَالِاسْتِعْمَالِ، إِذَا كَانَ الشَّأْنُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ عَنْ صَاحِبِهِ، وَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ في مسألة
__________
1 وهو الدليل على تأثير الاجتماع بالمعنى الأعم السالف: "غير مبطل"؛ أي: بالدليلين السابقين، وهذا منه شروع في استغلال المقامات السالفة من أول المسألة إلى هنا لتأصيل القاعدة الآتية. "د".
2 بل كل واحد من أفراد الإنسان المندمجين في هذا الاجتماع حافظ لسائر خواصه كما هو واضح، وقوله: "فمن حيث حصلت الفائدة ... إلخ"، هذا مرتب على مجموع ما قرره من أن لكل من الاجتماع وأجزائه تأثيرًا حاصلًا عند الاجتماع، وقوله: "وأيضًا" هذا إشارة إلى فرض المسألة، وأنه ليس أحد المجتمعين تابعًا للآخر، بل بحيث يصح استقلال كل منهما بالحكم؛ فهل يعتبر تأثير الاجتماع أم يعتبر بقاء أثر الانفراد؟ يعني: فيكون هناك مدركًا لأصحاب النظر والاجتهاد، أحدهما مبني على تأثير الاجتماع، والآخر مبني على حفظ المفترقات خواصها عند الاجتماع. "د".
3 في "ط": "القصد".
4 سقط من "ط".
5 أي: لا يتوجه عليهما معا حكم واحد بالأمر أو النهي، بل لكل حكمه، وهذا نظر من يلتفت لبقاء الخواص للمنفردات عند الاجتماع، وما قبله لما قبله؛ فقوله: "فإن من العلماء ... إلخ" بيان لقوله: "أولًا". "د".(3/475)
"الصَّفْقَةِ تَجْمَعُ بَيْنَ حَرَامٍ وَحَلَالٍ"1، وَوَجْهُ كُلِّ قَوْلِ مِنْهُمَا قَدْ ظَهَرَ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الَّذِي يُسَاعِدُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَإِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ تَأْثِيرُ الِاجْتِمَاعِ وَأَنَّ لَهُ حُكْمًا لَا يَكُونُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ؛ فَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَجْمُوعِ كَالتَّابِعِ2 مَعَ الْمَتْبُوعِ؛ فَإِنَّهُ صَارَ جُزْءًا مِنَ الْجُمْلَةِ، وَبَعْضُ الْجُمْلَةِ تَابِعٌ لِلْجُمْلَةِ.
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مُبَاحًا بِالْجُزْءِ مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ، أَوْ مَنْدُوبًا بِالْجُزْءِ وَاجِبًا بِالْكُلِّ، وَسَائِرُ الْأَقْسَامِ الَّتِي يَخْتَلِفُ3 فِيهَا حُكْمُ الْجُزْءِ مَعَ الْكُلِّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعًا، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْجُمْلَةِ وَجَدْنَا مَحَلَّ النَّهْيِ مَوْجُودًا فِي الْجُمْلَةِ، فَتَوَجَّهَ4 النَّهْيُ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَوَجْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَعْلِيلِ الْمَازِرِيِّ [وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ] 5.
لِأَنَّا نقول: إن صار كل واحد من الجزأين كَالتَّابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعِ؛ فَلَيْسَ جُزْءُ6 الْحَرَامِ بِأَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا، وَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ لَا يُنْكَرُ، وَلَهُ مُعَارِضٌ وَهُوَ اعْتِبَارُ الْأَفْرَادِ كَمَا مَرَّ، وَأَمَّا تَوْجِيهُ الْمَازِرِيِّ؛ فَاعْتِبَارُهُ مُخْتَلَفٌ7 فِيهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ فَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ إليه مجتهد، ويمكن أن لا.
__________
1 انظر عنها: "معالم السنن" "5/ 24" للخطابي.
2 أي: وقد تقدم أنه لا حكم للتابع غير حكم المتبوع. "د".
3 في "ط": "وسائر الأحكام التي تختلف ... ".
4 في "ط": "فيتوجه".
5 سقط من "ط".
6 في الحقيقة لم يجعل المتبوع هو الجزء الحرام، بل الهيئة المكونة منه ومن غيره التي اقتضت المفسدة والنهي يعتمد المفسدة. "د".
7 بقي عليه أن يجيب عن القواعد التي ذكرها من درء المفاسد وسد الذرائع والتعاون، وليس من السهل على المجتهد الإغضاء عن ثلاث قواعد أصولية مهمة كهذه، في مقابلة قاعدة تأثير الانفراد وبقاء خواصه التي لم تثبت في نفسها إلا بمجرد التشبيه البعيد بأعضاء الإنسان ... إلخ. "د".(3/476)
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ:
الْأَمْرَانِ1 يَتَوَارَدَانِ عَلَى شَيْئَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ تَابِعٍ لِصَاحِبِهِ، إِذَا ذَهَبَ قصد المكلف إلى جمعهما2 في عمل واحد أو في3 غرض واحد؛ فقد تقدم أن للجميع تأثير، وَأَنَّ فِي الْجَمْعِ مَعْنًى لَيْسَ فِي الِانْفِرَادِ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الِانْفِرَادِ لَا يَبْطُلُ بِالِاجْتِمَاعِ.
وَلَكِنْ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا منافي الأحكام لأحكام الآخر، أَوْ لَا؛ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ4 رَجَعَ فِي الْحُكْمِ إِلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الشَّيْئَيْنِ يَجْتَمِعَانِ5 قَصْدًا وَذَلِكَ مُقْتَضَى الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَهُ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ تَقْتَرِنُ بِهِ؛ فَهِيَ مَنُوطَةٌ بِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْمَصَالِحِ الْمَوْضُوعَةِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ، كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ عَادَةً أَوْ عِبَادَةً، فَإِنِ اقْتَرَنَ عَمَلَانِ وَكَانَتْ أَحْكَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُنَافِي أَحْكَامَ الْآخَرِ، فَمِنْ حَيْثُ صَارَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْقَصْدِ الِاجْتِمَاعِيِّ اجْتَمَعَتِ الْأَحْكَامُ الْمُتَنَافِيَةُ الَّتِي وُضِعَتْ المصالح؛ فتنافت وجوه المصالح وتدافعت، وإذا تنافت؛
__________
1 تشترك هذه المسألة مع ما قبلها في أن الشيئين اللذين قصد المكلف جمعهما في عمل واحد ليس أحدهما تابعًا لآخر بوجه من أوجه التبعية المتقدمة، وتخالفها في أن تلك ورد الأمر فيها على أحد الشيئين، والنهي على الآخر عند الانفراد، أما هذه؛ فلم يتوجه فيها نهي لأحد الشيئين، ولكن لكل منهما لوازم معتبرة شرعًا، وهذه اللوازم متنافية، فهل يعتبر تنافي اللوازم موجبا لعدم صحة اجتماعهما في عمل واحد وغرض واحد فيبطل العقد، أم لا؟ "د".
2 في "د": "جمعها"، وفي "ط": "جمعهما معًا".
3 هكذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "وفي".
4 راجعة للصورة الأولى، وهي ما كان بين أحكامهما تنافٍ. "ف".
5 في الأصل و"ف" و"ط": "الشيء مجتمعان، وكتب "ف": "لعله "الشيئين يجتمعان قصدًا".(3/477)
لَمْ تبقَ مَصَالِحَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حالة الانفراد، فاستقرت الحال فيها عَلَى وَجْهِ اسْتِقْرَارِهَا فِي اجْتِمَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ فَاسْتَوَيَا فِي تَنَافِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّ النَّهْيَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ، وَالْأَمْرَ يَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ، وَاجْتِمَاعُهُمَا يُؤَدِّي إِلَى الِامْتِنَاعِ كَمَا مَرَّ؛ فَامْتَنَعَ مَا كَانَ مِثْلُهُ.
وَأَصْلُ هَذَا نَهِيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ1؛ لِأَنَّ بَابَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي الْمُغَابَنَةَ وَالْمُكَايَسَةَ، وَبَابُ السَّلَفِ يَقْتَضِي الْمُكَارَمَةَ وَالسَّمَاحَ وَالْإِحْسَانَ، فَإِذَا اجْتَمَعَا دَاخَلَ السَّلَفَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْبَيْعِ؛ فَخَرَجَ السَّلَفُ عَنْ أَصْلِهِ؛ إِذْ كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ نَسِيئَةً، فَرَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ الْمُسْتَثْنَى2 مِنْهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَا اسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ الصَّرْفُ3 أَصْلُهُ الْمُغَابَنَةُ وَالْمُكَايَسَةُ، وَالْمُكَايَسَةُ فِيهِ وَطَلَبُ الرِّبْحِ مَمْنُوعَةٌ، فَإِذَا رَجَعَ السَّلَفُ إِلَى أَصْلِهِ بِمُقَارَنَةِ الْبَيْعِ؛ امتنع من وجهتين4:
إِحْدَاهُمَا: الْأَجَلُ الَّذِي فِي السَّلَفِ.
وَالْأُخْرَى: طَلَبُ الرِّبْحِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْمُكَايَسَةُ أَنَّهُ لَمْ يَضُمَّ إِلَى الْبَيْعِ إِلَّا وَقَدْ دَاخَلَهُ فِي قَصْدِ الِاجْتِمَاعِ ذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَعَلَى هَذَا يَجْرِي الْمَعْنَى فِي إِشْرَاكِ الْمُكَلِّفِ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهَا مِمَّا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ؛ إِمَّا وُجُوبًا، أَوْ نَدْبًا، أَوْ إِبَاحَةً5 إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَبَعًا6 للآخر،
__________
1 مضى تخريجه "ص468".
2 في "ط": "مستثنى منه".
3 صوابه البيع، وقوله: "والمكايسة فيه"؛ أي: في السلف. "د".
4 في "د": "جهتين".
5 لا يظهر عطفه على ما قبله إلا على اصطلاحه في المسألة قبلها. "د".
6 كالتبرد والنظافة وإيقاظ الحواس مع رفع الحدث بالوضوء والغسل، وكالحمية مع العبادة بالصوم، والصحة مع تأدية الفريضة في السفر للحج، وهكذا مما كان شأنه التبعية للعبادة في القصد، وقد تقدم له الخلاف بين ابن العربي والغزالي في خروج العبادة عن الإخلاص وعدمه، بناء =(3/478)
وَكَانَتْ أَحْكَامُهُمَا مُتَنَافِيَةً مِثْلَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالذَّبْحِ والكلام المنافي1 في الصلاة، وجمع2 النية الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ فِي الصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَالنَّدْبِ مَعًا، وَجَمْعِ3 فَرْضَيْنِ مَعًا فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ؛ كَظُهْرَيْنِ، أَوْ عَصْرَيْنِ، أَوْ ظُهْرٌ وَعَصْرٌ، أَوْ صَوْمُ رَمَضَانَ أَدَاءً وَقَضَاءً مَعًا، إِلَى أشباه ذلك.
__________
= على صحة انفكاك القصدين كما هو نظر ابن العربي، أو على مجرد الاجتماع وجودًا ولو صح الانفكاك كما هو رأي الغزالي، راجع الفصل التالي للمسألة السادسة من النوع الرابع في المقاصد، وقد تقدم آنفًا أنه إذا كان أحدهما تبعًا للآخر، وكانت أحكامهما متنافية كاجتماع البيع والصرف في دينار واحد؛ فلا يضر لإلغاء التابع، فإذا حمل كلامه في التابع على مثل صورة الصرف والبيع المذكورة يظهر كلامه، ولا يتعارض مع ما سبق، ولا مع ما يأتي بعد من جعل التبرد وما معه مما فيه الخلاف؛ فيتعين أن يحمل قوله هنا: "إذا لم يكن تبعًا" على ما يماثل الصورة المذكورة وإن كانت في المعاملات، وكلامه فيما يجتمع مع العبادات. "د".
1 في "ط": "المتنافي".
2 كمن يعيد صلاته مع الجماعة مثلًا، فينوي بها أنها فرض ونفل معًا؛ فقد جمع بين متنافيين في الأحكام، فالفرض يأثم بتركه والنفل لا يأثم، والفرض تسن فيه الجماعة والنفل لا، والفرض تقام له الصلاة والنفل لا، والفرض يجب فيه القيام على القادر والنفل لا، وهكذا، وكمن ينوي بالظهر الفرض والركعات المطلوبة قبله أو بعده ندبًا؛ فإن هناك تنافيًا ظاهرًا بين كونها معتبرة قبلًا أو بعدًا وبين تأديتها بها الآن، ولذلك لم يجز مثل هذا أحد، أما إذا نوى الظهر وتحية المسجد مثلا؛ فقالوا: إنه بذلك يثاب ويسقط عنه طلب التحية، وإن لم ينو سقطت التحية ولا ثواب، وقالوا: إن من عليه قضاء رمضان له أن ينوي معه مثل نفل صوم عاشوراء والأيام البيض ويوم عرفة، والواقع أن النفل أعم من الفرض من جهة شروطه وما يطلب فيه؛ فيمكن أن يجتمع معه النفل بدون منافاة إذا لم يكن مانع آخر يقتضي المنافاة مثل الصورتين اللتين ذكرناهما، ولم نر خلافًا في نية تحية المسجد مع الفرض، وقوله: "والعبادة"؛ أي: مطلقًا ولو غير صلاة، وقد عرفت مسألة الصيام، ومثلها الحج مع العمرة النافلة مع أنهما صحيحان. "د".
قلت: انظر في بيان الجمع بين عبادتين بأكثر من نية: "الأشباه والنظائر" "39" لابن نجيم، ط دار الفكر - دمشق، و"قواعد ابن رجب" "ق18 - بتحقيقي".
3 لأنهما متنافيان من جهة أن أحدهما عن واجب لوقت خاص، والآخر عن واجب لوقت آخر، ولذلك لم تجز كفارة واحدة عن مقتضى كفارات مثلًا. "د".(3/479)
وَلِأَجْلِ هَذَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ جَمْعِ عُقُودِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا خِلَافٌ، فَالْجَوَازُ يَنْبَنِي عَلَى الشَّهَادَةِ بِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الِانْفِرَادِ1 حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ؛ فَمَنَعَ مِنِ اجْتِمَاعِ الصَّرْفِ وَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، وَالْقِرَاضِ وَالْبَيْعِ، وَالْمُسَاقَاةِ وَالْبَيْعِ، وَالشَّرِكَةِ وَالْبَيْعِ، والجُعْل والبيع -والإجازة فِي الِاجْتِمَاعِ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَالْبَيْعِ- وَمَنَعَ مِنِ اجْتِمَاعِ2 الْجُزَافِ وَالْمَكِيلِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اجْتِمَاعِ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ.
وَهَذَا كُلُّهُ لِأَجْلِ اجْتِمَاعِ الْأَحْكَامِ3 الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فَالصَّرْفُ مَبْنِيٌّ على غاية التضييف حَتَّى شُرِطَ فِيهِ التَّمَاثُلُ الْحَقِيقِيُّ فِي الْجِنْسِ4 وَالتَّقَابُضُ الَّذِي لَا تَرَدُّدَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ5، وَلَا بَقَاءَ عَلَقَةٍ6، وَلَيْسَ الْبَيْعُ كَذَلِكَ.
وَالنِّكَاحُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُكَارَمَةِ وَالْمُسَامَحَةِ وَعَدَمِ الْمُشَاحَّةِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهَ الصَّدَاقَ نِحْلَةً، وَهِيَ الْعَطِيَّةُ لَا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، وَأُجِيزَ فِيهِ نِكَاحُ التَّفْوِيضِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ مَبْنِيَّانِ عَلَى التَّوْسِعَةِ؛ إذ هما مستثنيان من أصل
__________
1 كما قال أشهب: لا يحرم الصرف والبيع، وأنكر أن يكون مالك حرمه نظرًا إلى أن العقد احتوى على أمرين كل منها جائز على الانفراد، قال: "وإنما حرم مالك الذهب بالذهب على أن يكون مع كل منهما سلعة، قال ابن عرفة: وهو أوجه في النظر، وإن كان خلاف المشهور" "د".
2 الممنوع اجتماع جزاف من حب مع مكيل منه في عقد واحد، وكذا جزاف من أرض مع مكيل منها، وكذا اجتماع جزاف من حب مع مكيل من أرض؛ لأن في ذلك خروج أحدهما عن أصله أو خروجهما معًا عن أصلهما؛ إذ الأصل في الحب الكيل، وأصل الأرض أن تباع جزافًا، أما إذا اشترى أرضًا جزافًا مع مكيل حب؛ فلا مانع لأنهما جاءا على أصلهما. "د".
3 في "ط": "كله لاجتماع الأحكام".
4 فلا يجوز الصرف بتصديق في الجنس، وكذا في العدد أو الوزن، بل لا بد من التحقق من هذا كله قبل البت في الصرف. "د".
5 قالوا: إنه أضيق ما يطلب فيه المناجزة. "د". وفي "ط": "التي لا تردد ... ".
6 ولو بأن يوكل غيره في القبض بغير حضوره. "د".(3/480)
مَمْنُوعٍ، وَهُوَ الْإِجَارَةُ الْمَجْهُولَةُ؛ فَصَارَا1 كَالرُّخْصَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى رَفْعِ الْجَهَالَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْمَثْمُونِ وَالْأَجَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَأَحْكَامُهُ تُنَافِي أَحْكَامَهُمَا.
وَالشَّرِكَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَعْرُوفِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى إِقَامَةِ الْمَعَاشِ لِلْجَانِبَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ، وَالْبَيْعُ يُضَادُّ ذَلِكَ، وَالْجُعْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْجَهَالَةِ بِالْعَمَلِ، وَعَلَى أَنَّ الْعَامِلَ بِالْخِيَارِ2، وَالْبَيْعُ يَأْبَى هَذَيْنِ، وَاعْتِبَارُ الْكَيْلِ فِي الْمَكِيلِ3 قَصْدٌ إِلَى غَايَةِ الْمُمْكِنِ فِي الْعِلْمِ بِالْمَكِيلِ، وَالْجُزَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فِي الْعِلْمِ بِالْمَبْلَغِ لِلِاجْتِزَاءِ فِيهِ بِالتَّخْمِينِ الَّذِي لَا يُوَصِّلُ إِلَى عِلْمٍ، وَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعَ لَمْ تُوجَدْ؛ فَهُوَ4 عَلَى أَصْلِ الْجَهَالَةِ، وَإِنَّمَا جَازَتْ لِحَاجَةِ التَّعَاوُنِ كَالشَّرِكَةِ، وَالْبَيْعِ لَيْسَ5 كَذَلِكَ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي عَقْدٍ عَلَى بَتٍّ فِي سِلْعَةٍ وَخِيَارٍ فِي أُخْرَى، وَالْمَنْعُ بِنَاءٌ عَلَى تَضَادِّ الْبَتِّ وَالْخِيَارِ.
وَكَمَا اخْتَلَفُوا فِي جَمْعِ الْعَادِيَيْنَ فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى الشَّهَادَةِ بِتَضَادِّ الْأَحْكَامِ فِيهِمَا أَوْ عَدَمِ تَضَادِّهَا6؛ كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي جَمْعِ الْعِبَادِيِّ مَعَ الْعَادِي؛ كَالتِّجَارَةِ7 فِي الْحَجِّ أَوِ الْجِهَادِ، وَكَقَصْدِ التَّبَرُّدِ مَعَ الوضوء، وقصد
__________
1 في الأصل: "فصار".
2 لأن الجعل لا يلزم بالعقد، بخلاف البيع ما لم يكن على الخيار. "د".
3 في "ط": "بالمكيل".
4 في "ط": "فهي".
5 أي: فلا يجوز اجتماعهما، لكن المعروف في المذهب غير هذا، ونص خليل عدم فسادها مع البيع، قال الشراح: فلا تفسد مع البيع لعدم منافاتهما، سواء أكانت الإجارة في نفس المبيع أم في غيره؛ إلا أنها إذا كانت في غير المبيع لا يشترط فيها شيء، وإذا كانت فيه كما إذا اشترى منه قماشًا ليخيطه له ثوبًا اشترط لها شروط كعدم تأخير العمل ... إلخ. "د".
6 في "ط": "تضادهما".
7 التجارة في الحج ورد الإذن فيها بقوله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] ، وإن خالف أبو مسلم وادعى المنع وحمل الآية على ما بعد الفراغ من أعمال الحج؛ فهو محجوج بالآثار الصحيحة، فضلًا عن كونه يبعد بالآيه عن سبب النزول. "د".(3/481)
الْحِمْيَةِ مَعَ الصَّوْمِ، وَفِي بَعْضِ الْعِبَادَتَيْنِ كَالْغُسْلِ بِنْيَةِ الْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ1، وَقَدْ مَرَّ هُنَا وَفِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ مَعَ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ، وَبِاللَّهِ التوفيق.
وإن كانا غير متنافيي الْأَحْكَامِ؛ فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنِ اعْتِبَارِ قَصْدِ الِاجْتِمَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَبْلُ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُحْدِثَ الِاجْتِمَاعُ حُكْمًا يَقْتَضِي النَّهْيَ، أَوْ لَا.
فَإِنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ صَارَتِ الْجُمْلَةُ مَنْهِيًّا عَنْهَا وَاتَّحَدَتْ جِهَةُ2 الطَّلَبِ، فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ أَلْغَى الطَّلَبَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْأَجْزَاءِ، وَصَارَتِ الْجُمْلَةُ شَيْئًا وَاحِدًا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِمَّا الْأَمْرُ وَإِمَّا النَّهْيُ؛ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرُ إِنِ اقْتَضَى الْمَصْلَحَةَ، وَيَتَعَلَّقُ به النهي إن3 اقْتَضَى مَفْسَدَةً؛ فَالْفَرْضُ هُنَا أَنَّهُ اقْتَضَى مَفْسَدَةً؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ؛ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَالْجَمْعِ بَيْنَ صَوْمِ أَطْرَافِ رَمَضَانَ مَعَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، وَالْخَلِيطَيْنِ فِي الْأَشْرِبَةِ، وَجَمْعِ الرَّجُلَيْنِ فِي الْبَيْعِ سِلْعَتَيْهِمَا عَلَى رَأْيِ مَنْ رَآهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ4 فَإِنَّ الْجَمْعَ يَقْتَضِي عدم
__________
1 هذا مذهب الجمهور خلافًا لابن حزم في "المحلى" "2/ 43"، ونقل عدم الإجزاء عن جماعة من السلف، وساق آثارًا كثيرة تدل عليه، وفاته ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" "1/ 282" بإسناد حسن عن عبد الله بن أبي قتادة؛ قال: "دخل علي أبي وأنا أغتسل يوم الجمعة؛ فقال: غسل من جنابة أو للجمعة؟ قلت: من جنابة. قال: أعد غسلًا آخر؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى". وانظر تبويب البيهقي في "الكبرى" عليه.
2 في "ط": "والحدث جهة....".
3 في "د": "إذا".
4 انظر: "شرح الزرقاني على مختصر خليل" "6/ 43".(3/482)
اعْتِبَارِ الْإِفْرَادِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْجَهَالَةِ1 فِي الثَّمَنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعِينَ، وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْلُومَةً؛ فَامْتَنَعَ لِحُدُوثِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا.
وَأَمَّا الْمُجِيزُ؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اعْتَبَرَ أَمْرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَيِ السِّلْعَتَيْنِ لَمَّا قَصَدَا إِلَى جَمْعِ سلعتيهما في البيع صار ذلك [في] 2 مَعْنَى الشَّرِكَةِ فِيهِمَا3، فَكَأَنَّهُمَا قَصَدَا الشَّرِكَةَ أَوَّلًا، ثُمَّ بِيْعَهُمَا وَالِاشْتِرَاكَ فِي الثَّمَنِ، وَإِذَا كَانَا فِي حُكْمِ الشَّرِيكَيْنِ، فَلَمْ يَقْصِدَا إِلَى مِقْدَارِ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ السِّلْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ كَجُزْءِ السِّلْعَةِ الْوَاحِدَةِ؛ فَهُوَ قَصْدٌ تَابِعٌ لِقَصْدِ الْجُمْلَةِ؛ فَلَا أَثَرَ لَهُ، ثُمَّ الثَّمَنُ يُفَضُّ عَلَى4 رُءُوسِ الْمَالَيْنِ إِذَا أَرَادَا الْقِسْمَةَ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي ذَلِكَ؛ إِذْ لَا جَهَالَةَ5 فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الِاجْتِمَاعِ حُدُوثُ فَسَادٍ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يَقْتَضِي النَّهْيَ؛ فَالْأَمْرُ مُتَوَجَّهٌ؛ إِذْ لَيْسَ إِلَّا أَمْرٌ أو نهي على الاصطلاح المنبه عليه.
__________
1 أي: المؤدية إلى التنازع والشحناء، على خلاف المصلحة الاجتماعية بين الناس. "د".
2 سقطت إلا من "ط"، وكتب "ف": "ولعله "في المعنى".
3 وقع خلاف بين الفقهاء في المحل في الشركة؛ فاتفقوا على جوازها في النقدين، واختلفوا في العروض قيميًّاكان أو مثليًّا أو عدديًّا متقاربًا وغير متقارب، والراجح الجواز، وهو ما أومأ إليه المصنف، وانظر في المسألة: "فتح القدير" "5/ 16"، و"بدائع الفوائد" "6/ 59"، و"المغني" 5/ 14"، و"حاشية الشرقاوي" على التحرير" "2/ 11"، و"كشاف القناع" "2/ 254"، و"الإقناع" "1/ 292"، و"الشركات في الفقة الإسلامي" "ص37" للخفيف، و"الشركات في الشريعة الإسلامية" "1/ 108-115" للخياط.
4 أي: يفرق على حسب رءوس الأموال. "ف". قلت: في "ط": "يقبض على".
5 لأن رأس مال كل منهما هو ما دفعه ثمنًا لسلعته، وهو معلوم. "د".(3/483)
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ
الْأَمْرَانِ1 يَتَوَارَدَانِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَاجِعًا إِلَى الجملة2، والآخر راجع إِلَى بَعْضِ تَفَاصِيلِهَا أَوْ إِلَى بَعْضِ أَوْصَافِهَا، أَوْ إِلَى بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا؛ فَاجْتِمَاعُهُمَا جَائِزٌ حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ.
وَالَّذِي يُذْكَرُ هُنَا أَنَّ أَحَدَهُمَا تَابِعٌ وَالْآخَرُ مَتْبُوعٌ وَهُوَ3 الْأَمْرُ الرَّاجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَمَا سِوَاهُ تَابِعٌ؛ لِأَنَّ مَا يَرْجِعُ إِلَى التَّفَاصِيلِ أَوِ الْأَوْصَافِ أَوِ الْجُزْئِيَّاتِ كَالتَّكْمِلَةِ لِلْجُمْلَةِ وَالتَّتِمَّةِ لَهَا، وَمَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فَطَلَبُهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ لَا مُطْلَقًا، وَهَذَا [مَعْنَى كَوْنِهِ تَابِعًا، وَأَيْضًا4، فَإِنَّ هَذَا الطَّلَبَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ يُتَصَوَّرُ وُقُوعَ مُقْتَضَاهُ دُونَ] 5 مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْجُمْلَةِ، بَلْ إِنْ فُرِضَ فَقْدُ الْأَمْرِ بِالْجُمْلَةِ لَمْ يُمْكِنْ6 إِيقَاعُ التَّفَاصِيلِ؛ لِأَنَّ التَّفَاصِيلَ لَا تُتَصَوَّرُ إِلَّا فِي مُفَصَّلٍ، وَالْأَوْصَافَ لَا تُتَصَوَّرُ إِلَّا فِي مَوْصُوفٍ، وَالْجُزْئِيَّ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْكُلِّيِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَطَلَبُهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ لِطَلَبِ الْجُمْلَةِ.
وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَالصَّلَاةِ -بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَلَبِ الطَّهَارَةِ الْحَدَثِيَّةِ وَالْخَبَثِيَّةِ، وَأَخْذِ الزِّينَةِ، وَالْخُشُوعِ، وَالذِّكْرِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالدُّعَاءِ، واستقبال القبلة، وأشباه
__________
1 الأمر هنا على حقيقته لا على الاصطلاح في المسألتين السابقتين. "د".
2 أي: إلى نفس المطلق، وقوله: "بعض تفاصيلها"؛ أي: أجزائها؛ كالقراءة، والذكر في الصلاة، وقوله: "بعض أوصافها؛ أي: كتطويل الركوع والسجود فيها وكونها بخشوع، وقوله: "بعض جزئياتها"؛ كصلاة الظهر أو التهجد أو الوتر، وهكذا من الجزئيات الداخلة تحت كل صلاة. "د".
3 في "ط": "فالمتبوع هو ... ".
4 دليل ثانٍ على أن ما سوى الأمر بالجملة تابع للأمر بها وليس مستقلًّا. "د".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
6 أي: من حيث كونها تفاصيل مع فرض فقدان الأمر بالجملة. "ف". وعنده بدل "يمكن": "لكن"، وقال: "وهكذا بالأصل، ولعله يمكن".(3/484)
ذَلِكَ، وَمِثْلُ الزَّكَاةِ مَعَ انْتِقَاءِ أَطْيَبِ1 الْكَسْبِ [فِيهَا] وَإِخْرَاجِهَا فِي وَقْتِهَا وَتَنْوِيعِ2 الْمُخْرَجِ وَمِقْدَارِهِ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ، مَعَ تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ، وَتَرْكِ الرَّفَثِ3، وَعَدَمِ التَّغْرِيرِ4، وَكَالْحَجِّ مَعَ مَطْلُوبَاتِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ كَالتَّفَاصِيلِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَالْأَوْصَافِ التَّكْمِيلِيَّاتِ، وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ مَعَ الْعَدْلِ وَاعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ5، وَالْبَيْعُ مَعَ تَوْفِيَةِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَحُسْنُ الْقَضَاءِ وَالِاقْتِضَاءِ وَالنَّصِيحَةُ6، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْنِيَّةٌ فِي الطلب على طلب ما رجعت
__________
1 هو وما يليه للوصف، وتنويع المخرج ومقداره للجزئي. "د".
وفي "ف": "انتقاء" بالفاء، ولعله بالقاف كما يقتضيه المعنى.
2 كونه من النقدين أو الزروع أو الأنعام، ومقداره كون الواجب في الأول ربع العشر مثلًا، وهكذا؛ فكل هذه الأوامر تابعة لـ {آتُوا الزَّكَاة} ، وقوله: "مع تعجيل الإفطار"، هذا وما بعده في الصوم وكلها من الأوصاف الكمالية فيه. "د".
3 السحور هو بضم السين: الفعل، وبفتحها: ما يؤكل آخر الليل، وقد ورد إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يؤخره حتى يبقى على الفجر قدر ما يقرأ القارئ خمسين آية.
والرفث: الفحش. "ف"، وقال "ماء": "الجماع".
4 التغرير: التعرض للهلكة والأذى، وقد ورد النهي عن تعرض الصائم لما يفسد صومه من المباشر ومقدمات الجماع والمبالغة في المضمضة والاستنشاق؛ لأن ذلك كله مظنة لإفساد الصوم، ومثله الحجامة للحاجم والمحتجم. "د".
قال "ف": "كذا بالأصل؛ فليتأمل". ا. هـ.
5 المماثلة في الحرية والإسلام مثلًا، بحيث لا يقتل الحر بالعبد ولا المسلم بالكافر؛ فهذان مكملان لهذا الضروري. "د".
6 الأمثلة الأربعة متعلقة بالبيع من باب الأوصاف؛ إلا أنه يقال: إن البيع من المباح، وهذه الأمور الأربعة الأوامر فيها بين واجب ومندوب، وكيف يقال فيه: تواردت الأوامر على المتبوع باعتباره في نفسه وباعتبار تفاصيله؛ إلا أن يقال: إن البيع من الضروريات أو الحاجيات على ما سبق؛ فهو إذا مطلوب تتوجه إليه الأوامر باعتبار ذاته كما تتوجه إليه باعتبار توابعه، على أنه وإن كان أصله الإباحة بالجزء؛ فإنه مطلوب بالكل. "د".(3/485)
إِلَيْهِ، وَانْبَنَتْ عَلَيْهِ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُفْرَضَ1 إِلَّا وَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْأُمُورِ الْمَطْلُوبَةِ الْجُمَلِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ التَّوَابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعَاتِ.
بِخِلَافِ2 الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ كَالشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ قَبْلَ الطِّيبِ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ لَمْ يَرِدْ عَلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ إِلَّا عَلَى حُكْمِ الِاسْتِقْلَالِ، [فَلَوْ فَرَضْنَا عَدَمَ الِاسْتِقْلَالِ] 3 فِيهَا؛ فَذَلِكَ رَاجِعٌ إلى صيروة الثَّمَرَةِ كَالْجُزْءِ التَّابِعِ لِلشَّجَرَةِ4، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الِاجْتِمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَصْدِ إِلَى الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا مَعًا؛ فَارْتَفَعَ النَّهْيُ بِإِطْلَاقٍ عَلَى ما تقدم، وحصل5 من ذلك اتحاد
__________
1 في "ط": "تعرض" بالعين.
2 أي: فالأمر فيهما بالعكس؛ ففي توارد الأمرين لم يرد الأمر بالتابع إلا مستندًا للأمر بالمتبوع، بحيث لا يتأتى الأمر بالتابع وحده مقطوعًا فيه النظر عما جعل تابعًا له، بخلاف توارد الأمر والنهي؛ فإنه ما توجه النهي على التابع مثلا إلا مع قطع النظر عن المتبوع، حتى إذا نظر إلى المتبوع سقط النهي وأُلغي، هذا في ذاته ظاهر، ولكن الكلام في فائدة هذه المسألة عمليًّا، ولا يخفى أن معنى الاتحاد الذي ذكره بعد هو اتحاد في مورد الأوامر، على معنى أن ما يرد على التفاصيل والأوصاف وارد على الجملة باعتبار هذه الأوصاف، وإن كان هذا لا يقتضي ألا يكون للأمر بالأوصاف أثر جديد زائد على الأمر الوارد على المتبوع باعتبار التابع أقوى من الوارد على نفس المتبوع، وذلك كالتوفية في الكيل والميزان بالنسبة للبيع، وقد يكون بالعكس كما في الأمر بتأخير السحور، وقد يكون آتيًا ببيان أن هذا التفصيل تتوقف عليه الجملة كجزء أصلي منها أو كشرط، وهكذا، وسيأتي له في المسألة الثالثة عشرة بيان أوفى تعلم منه فائدة جليلة عملية لمسألتنا هذه، وقد أشار إليه هنا إشارة إجمالية بقوله: "وعلى هذا الترتيب جرت الضروريات مع الحاجيات ... إلخ"؛ أي: فالضروريات تعتبر هي الجملة، وهي المتبوع والأصل، وما عداها من الحاجيات والتحسينات تفاصيل تابعة بين مؤكدة وغير مؤكدة. "د".
3 سقط من "ط".
4 في "ف": "الشجرة"، واستظهر المحقق الصواب.
5 رجوع إلى أصل المسألة وتلخيصها. "د".(3/486)
الْأَمْرِ إِذْ ذَاكَ، بِمَعْنَى تَوَارُدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ بِاعْتِبَارِهَا فِي نَفْسِهَا وَاعْتِبَارِ تَفَاصِيلِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا وَأَوْصَافِهَا.
وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ جَرَتِ الضَّرُورِيَّاتُ مع الحاجيات والتحسينات؛ فَإِنَّ التَّوْسِعَةَ وَرَفْعَ الْحَرَجِ يَقْتَضِي شَيْئًا يُمْكِنُ فِيهِ التَّضْيِيقُ وَالْحَرَجُ، وَهُوَ الضَّرُورِيَّاتُ بِلَا شَكِّ1، وَالتَّحْسِينَاتُ مُكَمِّلَاتٌ وَمُتَمِّمَاتٌ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ تَسْتَلْزِمَ أُمُورًا تَكُونُ مُكَمِّلَاتٍ لَهَا؛ لِأَنَّ التَّحْسِينَ وَالتَّكْمِيلَ وَالتَّوْسِيعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَوْضُوعٍ إِذَا فُقِدَ فِيهِ ذَلِكَ عُدَّ غَيْرَ حَسَنٍ وَلَا كَامِلٍ وَلَا مُوَسَّعٍ، بَلْ قَبِيحًا مَثَلًا أَوْ نَاقِصًا أَوْ ضَيِّقًا أَوْ حَرِجًا؛ فَلَا بُدَّ من رجوعها إلى أمر آخر مطلوب أَنْ يَكُونَ تَحْسِينًا وَتَوْسِيعًا تَابِعٌ فِي الطَّلَبِ لِلْمُحْسِنِ وَالْمُوَسَّعِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَلَبِ التَّبَعِيَّةِ وَطَلَبِ الْمَتْبُوعِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ تصور في الموضع قسم آخر، وهي:
__________
1 في "ط": "بالشك".(3/487)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:
فَنَقُولُ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى [الْجُمْلَةِ، وَالْآخَرُ رَاجِعٌ إِلَى] بَعْضِ أَوْصَافِهَا أَوْ جُزْئِيَّاتِهَا1 أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا مَا يُبَيِّنُ جَوَازَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَلَهُ صُورَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَرْجِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالنَّهْيُ إِلَى أَوْصَافِهَا، وَهَذَا كَثِيرٌ؛ كَالصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَالصَّلَاةِ مَعَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَصِيَامِ أَيَّامِ الْعِيدِ، وَالْبَيْعِ الْمُقْتَرِنِ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ، وَالْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الْعَدْلِ فِيهِ، وَالْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ فِي الْبُيُوعِ وَنَحْوِهَا، إِلَى مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَرْجِعَ النَّهْيُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالْأَمْرُ إِلَى أَوْصَافِهَا، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَالتَّسَتُّرِ بِالْمَعْصِيَةِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَنِ ابْتُلِيَ مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيْءٍ؛ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ" 2.
__________
1 الضمير راجع إلى الجملة المفهومة من السياق. "ف". وفي "ط": "وجزئياتها".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 295-305".
2 أخرج الطحاوي في "المشكل" "1/ 20"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 244"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 330" عن ابن عمر؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام بعد أن رجم الأسلمي؛ فقال: "اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها، فمن ألم؛ فليستتر بستر الله تعالى، وليتب إلى الله؛ فإنه من يبد لنا صفحته يقم عليه كتاب الله".
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وقال شيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 663": "وهو كما قالا"، وعزاه أيضًا إلى أبي عبد الله القطان في "حديثه" "56/ 1"، والعقيلي في "الضعفاء" "203"، وأبي القاسم الحنائي في "المنتقى من حديث الجصاص وأبي بكر الحنائي" "160/ 2"، وابن سمعون في "الأمالي" "2/ 183/ 2".
قلت: إسناده حسن من أجل أسد بن موسى، صدوق، وباقي إسناد المتقدمين على =(3/488)
وَإِتْبَاعِ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النِّسَاءِ: 17] .
وَرَوَى: "مَنْ مَشَى مِنْكُمْ إلى طمع فليمش رويدًا" 1.
__________
= شرطهما، وأسد لم يخرجا له، ولا أحدهما، ولذا قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 487": "ليس على شرط البخاري"، وحسن إسناده العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 135".
وأخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 825 - رواية يحيى، ورقم 6769 - رواية أبي مصعب، و698 - رواية محمد بن الحسن الشيباني" ومن طريقه الشافعي في "الأم" "6/ 145"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 326"، و"المعرفة" "13/ رقم 17484، 17509" - عن زيد بن أسلم مرسلًا بلفظ: "من أصاب من هذه القاذورات شيئًا؛ فليستتر بستر الله، فإنه من ... ".
قال ابن عبد البر في "التمهيد" "5/ 321" و"الاستذكار" "24/ 85": "لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث، ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ من وجه من الوجوه"، ومراده من حديث مالك، وإلا؛ فقد ذكر أن ابن وهب قد وصله في "موطئه" عن ابن عباس من طريق آخر، وبلفظ آخر، وقد ورد موصولًا -كما رأيت- من حديث ابن عمر، والعجب من إمام الحرمين؛ فإنه قال في النهاية عن هذا الحديث: "حديث متفق على صحته"، وقد تعجب منه ابن الصلاح وقال: "أوقعه فيه عدم إلمامه بصناعة الحديث التي يفتقر إليها كل عالم"؛ لأن في اصطلاحهم أن المتفق عليه ما رواه الشيخان معًا، انظر: "شرح الزرقاني على موطأ مالك" "4/ 147".
1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "10/ 170-171/ رقم 10239"، و"الأوسط" -كما في "المجمع" "10/ 286"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 188 و8/ 340"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "2/ 158-159" مختصرًا دون ذكر ما عند المصنف- والقضاعي في "مسند الشهاب" "1/ 146-147، 261/ رقم 199، 422"، وابن الأعرابي، ومن طريقه الخطابي في "العزلة" "ص36 - ط القديمة وص106 - ط المحققة"، ووقع في الطبعتين إسناد هذا الحديث للحديث الآتي بعده فيه، وهو خطأ؛ إذ سرد الخطابي الحديث، ثم قال: "أخبرنا" على أنه للمتن السابق"، وفي الطبعتين: "أخبرنا"، جميعهم من طريق إبراهيم بن زياد العجلي ثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن ابن مسعود مرفوعًا: "الغنى اليأس عما في أيدي الناس، ومن مشى منكم إلى طمع فليمش رويدًا". قال أبو نعيم: "غريب من حديث عاصم، تفرد به عنه أبو بكر فيما أرى"، =(3/489)
وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ1 الْأُصُولِيُّونَ، فَلَا مَعْنًى لِإِعَادَتِهِ هُنَا.
وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَيُؤْخَذُ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ مَعْنَى2 كَلَامِهِمْ فِي الْأَوَّلِ، فَإِلَيْكَ النَّظَرُ فِي التَّفْرِيعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَنْجَرُّ هُنَا الْكَلَامُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهِيَ:
__________
= وقال في الموطن الأول: "تفرد به إبراهيم عن أبي بكر".
قلت: وإبراهيم بن زياد متروك، ولذا قال الحضرمي محمد بن عبد الله: "قلت لإبراهيم بن زياد: هذا -أي: روايته الحديث- رأيتَه في المنام؟ ". فغضب، وقال: "تقول هذا؟ ". قال أبو الفتح الأزدي: "إبراهيم بن زياد متروك الحديث". قال ابن الجوزي، وضعفه الصغاني في "الدر الملتقط" "رقم 11"، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" "260"، وعزاه السيوطي في "الجامع الصغير" للعسكري في "المواعظ"، وأشار إلى ضعفه، وكذا شيخنا الألباني في "ضعيفه" "رقم 3939". وانظر عن معناه: "تفسير القرطبي" "13/ 69".
1 وأن له أثرًا بفساد ما تعلق به النهي إذا كان للتحريم في العبادات خاصة، أو فيها وفي غيرها، والتفصيل بين ما تعلق النهي لعين الفعل وما تعلق بوصف ملازم، وما تعلق بوصف منفك، والخلاف في ذلك كله. "د".
2 المقام يحتاج إلى فضل تأمل، فإن مثل اتباع السيئة الحسنة كل منهما أمر منفصل عن الآخر عملًا ووقتًا، وكأنه قال: إذا صدرت منك سيئة؛ فالمطلوب منك أن تتدارك الأمر بفعل حسنة، هل هذا إلا طلب واحد بخلاف المثالين اللذين معه؟ فإنه توجه النهي للجملة والطلب للتابع ظاهر فيهما. "د".(3/490)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ 1:
وَذَلِكَ تَفَاوُتُ الطَّلَبِ فِيمَا كَانَ مَتْبُوعًا مَعَ التَّابِعِ لَهُ، وَأَنَّ الطَّلَبَ المتوجه للجملة أعلا رُتْبَةً وَآكَدُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الطَّلَبِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى التَّفَاصِيلِ أَوِ الْأَوْصَافِ أَوْ خُصُوصِ الْجُزْئِيَّاتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ [الْمَتْبُوعَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ] التَّابِعَ2 مَقْصُودٌ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، [وَمَا قُصِدَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ آكَدُ فِي الشَّرع وَالْعَقْلِ مِمَّا يَقْصِدُ الثَّانِي] ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يُلْغَى جَانِبُ التَّابِعِ فِي جَنْبِ الْمَتْبُوعِ، فَلَا يُعْتَبَرُ التَّابِعُ إِذَا كَانَ اعْتِبَارُهُ يَعُودُ عَلَى الْمَتْبُوعِ بِالْإِخْلَالِ3، أَوْ يَصِيرُ مِنْهُ كَالْجُزْءِ أَوْ كَالصِّفَةِ أَوِ التَّكْمِلَةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَهَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِيمَا تَقَدَّمَ وَكُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْمَتْبُوعِ فِي الِاعْتِبَارِ وَضَعْفِ التَّابِعِ؛ فَالْأَمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَتْبُوعِ آكَدُ4 فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالتَّابِعِ.
__________
1 هذه المسألة مرتبطة بالمسألة الحادية عشرة ارتباط الفرع بأصله؛ فهي مبنية عليها، وهي الفائدة العملية لها. "د".
2 في "ف": "المتبوع"، وقال: "كذا بالأصل، والصواب أن التابع…إلخ لأنه هو الذي يقصد ثانيًا بالعرض"، وما بين المعقوفتين فقط من "ط"، وفيه "التابع إنما يقصد بالقصد…".
3 كما سبق في المسألة الثامنة، وقوله: "أو يصير منه كالصفة"؛ كما في المسألة الحادية عشرة، ومعنى عدم اعتباره ظاهر في الأول؛ لأن النهي مثلًا يرد على التابع كثمرة الشجرة قبل بدو صلاحها، فإذا بيعت تابعة للأصل ألغي النهي، أما إلغاء التابع في الثاني؛ فليس على معنى إهداره، بل معناه أنه متوجه إلى المكمل والموصوف باعتبار الوصف والتكملة، وليس هذا إلغاء حقيقة بل اعتبارًا فقط، ويحتمل أن يقرأ قوله: "أو يصير" بالنصب وأو بمعنى إلا. "د".
4 تقدم النظر في هذا بأنه قد لا يطرد؛ كما في مثال البيع وصفته من التوفية في الكيل مثلًا، وبالتتبع تجد في الشريعة من هذا أمثلة كثيرة؛ كصفات الصلاة النافلة المعتبرة من أركانها، وكأجزائها من القراءة والركعات فعلًا، وسيأتي يقول في الضابط: "فإن لم يصح؛ فذلك المطلوب قائم مقام الركن، والجزء من الضروري المقام، وبه يقيد الكلام هنا"، يعني: إلا إذا كان قصده ثانويًّا، ولكنه صار كجزء المتبوع؛ فلا يكون أضعف من المتبوع. "د".(3/491)
وَبِهَذَا التَّرْتِيبِ يُعْلَمُ أَنَّ الْأَوَامِرَ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تَجْرِي فِي التَّأْكِيدِ مَجْرًى وَاحِدًا، وَأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَصْدٍ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّ الْأَوَامِرَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ لَيْسَتْ كَالْأَوَامِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأُمُورِ الْحَاجِيَّةِ وَلَا التَّحْسِينِيَّةِ، وَلَا الْأُمُورِ الْمُكَمِّلَةِ1 لِلضَّرُورِيَّاتِ كَالضَّرُورِيَّاتِ أَنْفُسِهَا، بَلْ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ مَعْلُومٌ، بَلِ الْأُمُورُ الضَّرُورِيَّةُ لَيْسَتْ فِي الطَّلَبِ عَلَى وزانٍ وَاحِدٍ؛ كَالطَّلَبِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَصْلِ الدِّينِ لَيْسَ فِي التَّأْكِيدِ كَالنَّفْسِ وَلَا النَّفْسُ كَالْعَقْلِ، إِلَى سَائِرِ أَصْنَافِ الضَّرُورِيَّاتِ.
وَالْحَاجِيَّاتُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الطَّلَبُ بِالنِّسْبَةِ إلى التمتعات المتاحة2 الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا كَالطَّلَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ما له معارض؛ كالتمتع بالذات الْمُبَاحَةِ مَعَ اسْتِعْمَالِ الْقَرْضِ3، والسَّلم، وَالْمُسَاقَاةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَلَا أَيْضًا طَلَبُ هَذِهِ كَطَلَبِ الرُّخَصِ الَّتِي يَلْزَمُ فِي تَرْكِهَا حَرَجٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَا طَلَبُ هَذِهِ كَطَلَبِ مَا يَلْزَمُ فِي تَرْكِهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَكَذَلِكَ التَّحْسِينِيَّاتُ4 حَرْفًا بِحَرْفٍ.
فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي الشَّرِيعَةِ بِأَنَّ الأمر للوجوب5، أو للندب، أو للإباحة.
__________
1 كحرمة النظر المكملة لحرمة الزنا، وحرمة شرب القليل من الخمر التي من شأنها عدم الإسكار مكملة لحرمة شرب الكمية المسكرة شأنًا. "د".
2 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "الممتعات المباحة".
3 لما فيه من النسيئة؛ فهو مستثنى من المحرم للتوسعة ودفع الحرج، ومثله القراض والسلم وما معه، كلها دخلها نوع من الترخيص لدفع الحرج؛ فليست تستوي مع المباحات التي لا تعارضها كليات أخرى في الشريعة، فطلب هذه أقل من طلب المباحات التي لا معارض لها، وما في تركه حرج على الجملة كالتيمم في بعض أحواله، وما يَلْزَمُ فِي تَرْكِهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ كأكل الميتة للمضطر آكد؛ لأنه واجب إذا خشي الهلاك، وهي درجة تكليف ما لا يطاق لو كلف بالصبر. "د". وفي "ط": القراض ... وما أشبه ذلك".
4 أي: فليس طلب ستر العورة للمرأة الحرة كطلب إكرام الضيف، ومنع الربا ليس كطلب الورع في المتشابهات، وليس طلب مندوبات الطهارة كطلب أصل الطهارة، وكل هذه الأمثلة من مرتبة التحسينيات. "د".
5 أي: كما هو رأي الجمهور، وقال الرازي: "إنه الحق"، وقال أبو هاشم وعامة المعتزلة =(3/492)
أَوْ مُشْتَرَكٌ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ1 فِي تَقْرِيرِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ الْأَمْرُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لِلْوُجُوبِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَكَانَ الْمَعْنَى يَرْجِعُ2 إِلَى اتَّباع الدَّلِيلِ في كل أمر، وإذا كان كذلك؛
__________
= حقيقة في الندب، وتوقف الأشعري والقاضي في أنه موضوع لأيهما، وقيل: توقفا فيه بمعنى أنه لا يدرى مفهومه؛ فيحتمل أن يكون مشتركًا بينهما وبين التهديد والتكوين والتعجيز، إلى آخر المعاني التي تذكر للأمر، وقيل: مشترك بين الوجوب والندب، وقيل: مشترك بينهما وبين الإباحة أيضًا، وقيل: هو للإباحة لأن الجواز محقق ولكل دليل في كتب الأصول، وقوله: "إلى هذا المعنى يرجع ... إلخ" لعله يعني أنه ينبغي رجوع إلى هذا وإن كان بعيدًا من كلامه، أما ظاهر كلامه من أن في تقريرهم ما يؤخذ منه الرجوع لهذا؛ فلا يظهر، وقولهم: "إنه للوجوب ما لم يدل دليل ... إلخ" لا يفيد مدعاه؛ لأن الخلاف في وضعه لغة أو شرعًا لأي معنى من هذا المعاني، فمن يقول بوضع لواحد منها يقول إنه مجاز في غيره، ومعلوم أن المجاز لا بد له من قرين؛ فهي الدليل الذي ينقله المؤلف عنهم بقوله: "ما لم يدل دليل" وشتان بين هذا وبين أن ما ذهب إليه من أن الأمر لم يوضع لواحد من هذا المعاني بخصوصه، وكيف يتأتى هذا ممن يقول إنه حقيقة في الوجوب أو حقيقة في الندب مثلًا، إنما كان يصح تقريبه ممن قال بالاشتراك الذي لا بد له من قرينة، أو ممن قال بالوقف كما قال المؤلف: إنه أقرب المذاهب إلى القبول!! "د".
قلت: الراجح أنه للوجوب، وهو مذهب الجماهير واختيار كثير من المحققين، وانظر في المسألة: "المحصول" "2/ 44 وما بعدها"، و"البحر المحيط" "2/ 423" و"التمهيد" "1/ 145" و"المستصفى" "1/ 423"، و"البرهان" "1/ 216"، و"الإحكام" "1/ 329" لابن حزم و"الإحكام" "2/ 144" للآمدي، و"روضة الناظر" "2/ 604"، وأصول السرخسي" "1/ 14"، و"إحكام الفصول" "ص195"، و"ميزان الأصول" "1/ 220"، و"التلويح" "1/ 150 – مع التوضيح"، و"المرآة" "1/ 28 – مع حاشية الإزميري"، و"جمع الجوامع" "1/ 291 – مع شرح المحلّي"، و"المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي" "ص704–706".
1 أي: يذكر وهو بيان لقوله غير ذلك، وقوله إلى هذا المعنى لا متعلق بقوله: "يرجع" الواقع خبرًا عن قوله: "فإطلاق"؛ فافهم. "ف".
2 بعيد من معنى قولهم: "مالم يدل ... إلخ"؛ فإنه يفيد أن القائل بالوجوب مثلا يطلق القول فيه بدون دليل، ولا يخرج عنه إلا إذا وجد دليل على خلافه، وشتان بين المعنيين، وانظر قوله: "لكن إطلاق القول فيما لم يظهر دليله صعب" الذي يفيد أنهم يطلقونه مع عدم الدليل؛ فلا يتم رجوع كلامهم إلى ما ذكره. "د".(3/493)
رَجَعَ إِلَى مَا ذُكِرَ، لَكِنَّ إِطْلَاقَ الْقَوْلِ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلُهُ صَعْبٌ، وَأَقْرَبُ الْمَذَاهِبِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبُ الْوَاقِفِيَّةِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُرْشِدُ إِلَى اعْتِبَارِ جِهَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجِهَاتِ دُونَ صَاحِبَتِهَا.
فَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أن ينتظر فِي كُلِّ أَمْرٍ: هَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ [طَلَبَ الضَّرُورِيَّاتِ، أَوِ الْحَاجِيَّاتِ، أَوِ التَّكْمِيلِيَّاتِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قِسْمِ الضَّرُورِيَّاتِ -مَثَلًا- نَظَرَ هَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ] فِيهَا1 بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، أَمْ بِالْقَصْدِ الثَّانِي؟ فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ فَهُوَ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ2، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَطْلُوبِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي نَظَرَ؛ هَلْ يَصِحُّ إِقَامَةُ أَصْلِ الضَّرُورِيِّ فِي الْوُجُودِ بِدُونِهِ حَتَّى يُطْلَقَ3 عَلَى الْعَمَلِ اسْمُ ذَلِكَ الضَّرُورِيِّ، أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ؛ فَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ قَائِمٌ مقام الركن والجزء المقوِّم4 لِأَصْلِ الضَّرُورِيِّ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِدُونِهِ؛ فَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَلَكِنَّهُ مُكَمِّلٌ5 وَمُتَمِّمٌ؛ إِمَّا مِنَ الْحَاجِيَّاتِ، وَإِمَّا مِنَ التَّحْسِينِيَّاتِ، فَيَنْظُرُ فِي مَرَاتِبِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ أَوْ نَحْوِهِ، بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ في الشرع في كل جزء منها6.
__________
1 الأوضح أن يقول: "هل هو مطلوب فيه ... إلخ". "م".
2 أي: الذي فرض توجه الطلب إليه. "د".
3 أي: بحيث يبقى الضروري المذكور قائمًا، ولا ينهدم بانهدام هذا التابع كصلاة مثلا لم يستعمل لها السواك، أو لم يفعل سنة من سننها؛ فإنها لا تزال يطلق عليها شرعًا اسم الصلاة. "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "المقام"، وكتب "د": "لعل الأصل هكذا: "والجزء لأصل الضروري المقام" بضم الميم: صفة للضروري".
5 يعني: وهذا هو الذي يقال فيه: إنه أضعف في الطلب من المتبوع، أما ما يعتبر جزءًا ينهدم الأصل بانهدامه؛ فلا يقال فيه ذلك. "د".
6 في "ط": "الاستقرار في كل جزء منه".(3/494)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ، عَلَى الْقَصْدِ الأول ليس أمرًا بِالتَّوَابِعِ1، بَلِ التوابعُ إِذَا كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا مفتقرةٌ إِلَى اسْتِئْنَافِ أَمْرٍ آخَرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُطْلَقَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُقَيَّدَاتِ؛ فَالتَّوَابِعُ هُنَا رَاجِعَةٌ إِلَى تَأْدِيَةِ الْمَتْبُوعَاتِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، والأمرُ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِهَا مُطْلَقًا لَا مُقَيَّدًا، فَيَكْفِي فِيهَا إِيقَاعُ مُقْتَضَى2 الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ؛ فَلَا يَسْتَلْزِمُ إِيقَاعَهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ دُونَ وَجْهٍ، وَلَا عَلَى صِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ وَجْهٍ أَوْ صِفَةٍ عَلَى الْخُصُوصِ، واللفظُ لَا يُشْعَرُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى تَجْدِيدِ أَمْرٍ يَقْتَضِي الْخُصُوصَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
[فَصْلٌ]
وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُفْتَقِرٌ فِي أَدَاءِ مُقْتَضَى الْمُطْلَقَاتِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ إِلَى دَلِيلٍ، فَإِنَّا إِذَا فَرَضْنَاهُ مَأْمُورًا بِإِيقَاعِ عَمَلٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَثَلًا، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ وَجْهٍ مَخْصُوصٍ؛ فَالْمَشْرُوعُ فِيهِ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ لَا يَكُونُ مَخْصُوصًا بِوَجْهٍ وَلَا بِصِفَةٍ3 بَلْ أَنْ يَقَعَ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَعُ الْأَعْمَالُ الِاتِّفَاقِيَّةُ الدَّاخِلَةُ تَحْتَ الْإِطْلَاقِ؛ فَالْمَأْمُورُ بِالْعِتْقِ مَثَلًا أُمِر بِالْإِعْتَاقِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تقييد
__________
1 المراد بالتوابع هنا ما هو أخص مما سبق له في معناها كما قال بعد: "فالتوابع هنا راجعة ... إلخ" يعني: ليس أمرًا بجزئي خاص من جزئيات المأمور به معتبر من توابعه، وليس المراد أنه ليس أمرًا بأي تابع؛ فذلك لا يصح لأنه فيما سبق اعتبر الأجزاء مثلًا من توابع الكل كما قال في القراءة والذكر والخشوع بالنسبة للصلاة، ولا يعقل أن يقال: إن الأمر بالصلاة مثلا ليس أمرًا بالركعات والقراءات والسجدات، وفائدة المسألة قوله: "وينبني على هذا ... إلخ". "د".
2 كما تقدم أن المطلوب بالمطلق فرد مما يصدق عليه اللفظ لا فرض خاص، أي: فإذا أريد ذلك الخاص كان لا بد له من دليل يخصه، والمقيدات معتبرة توابع كما تقدم في المسألة الحادية عشرة؛ فإنها جزئيات، والمراد مما قصد بالقصد الأول ما عبر عنه فيها بالجملة، وقوله: "فلا بد من تعيين....إلخ"؛ أي: حيث كانت مأمورًا بها كما هو الفرض. "د".
3 في "ط": "صفة".(3/495)
مثلا بكونه ذكر دُونَ أُنْثَى، وَلَا أَسْوَدَ دُونَ أَبْيَضَ وَلَا كَاتِبًا دُونَ صَانِعٍ1، وَلَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَإِذَا الْتَزَمَ هُوَ فِي الْإِعْتَاقِ نَوْعًا مِنْ هذه الأنوع دُونَ غَيْرِهِ؛ احْتَاجَ فِي هَذَا الِالْتِزَامِ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِلَّا؛ كَانَ التزامُه غيرَ مَشْرُوعٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا الْتَزَمَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا أَنْ يَقْرَأَ بِالسُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا دَائِمًا2، أَوْ أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْ مَاءِ [الْبِئْرِ دُونَ مَاءِ] 3 السَّاقِيَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي هِيَ تَوَابِعٌ لِمُقْتَضَى الْأَمْرِ فِي الْمَتْبُوعَاتِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا، لَمْ يَصِحَّ فِي التَّشْرِيعِ، وَهُوَ عُرْضَةٌ4 لِأَنْ يكُرّ5 عَلَى الْمَتْبُوعِ بِالْإِبْطَالِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْمَأْمُورِ الْمَتْبُوعِ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَمْرٌ آخَرُ يَقْتَضِي بَعْضَ الصِّفَاتِ أَوِ الْكَيْفِيَّاتِ التَّوَابِعِ؛ فَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ أَنَّ الْمَشْرُوعَ عَمَلٌ مُطْلَقٌ، لَا يَخْتَصُّ فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ بِوَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَلَا وَصْفٍ دُونَ وَصْفٍ؛ فَالْمُخَصَّصُ6 لَهُ بِوَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ أَوْ وَصْفٍ دُونَ وَصْفٍ لَمْ يُوقِعْهُ عَلَى مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ؛ فَافْتَقَرَ إِلَى دَلِيلٍ [يَدُلُّ] عَلَى ذَلِكَ التَّقْيِيدِ، أَوْ صَارَ مُخَالِفًا لمقصود الشارع.
__________
1 أراد بالصانع من له حرفة أخرى غير صنع لكتابة بدليل المقابلة، أو لعله صائغ بالغين المعجمة. "ف".
2 كما في الأذكار الخلوتية، ومثلها صلوات الأسبوع لياليه وأيامه؛ كما في "قوت القلوب" "1/ 58" وما بعدها"، و"الإحياء" "1/ 197"، وانظر: "فوائد حديثية" "ص111" لابن القيم وتعليقي عليه.
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأشار لذلك ناسخُه.
4 أي: لأن هذا المقيد متى وقف عنده، فقد لا يتيسر له فعله، كما في مثال التزام الوضوء من البئر، وقد يبطل ثوابه بمخالفة قصد الشارع في التزام ما لم يشرعه، وعده مشروعًا. "د".
5 مضارع كر من باب قتل. "ف".
6 أي: فالملتزم تخصيصه، وإلا؛ فهو لا يقع في الوجود إلا مخصصًا. "د".(3/496)
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْقِرَاءَةِ1 فِي الْمَسْجِدِ؛ فَقَالَ: "لَمْ يَكُنْ بِالْأَمْرِ الْقَدِيمِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أُحْدِثَ"، قَالَ: "وَلَنْ يَأْتِيَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوُّلُهَا وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ"، وَقَالَ أَيْضًا: "أَتَرَى النَّاسَ الْيَوْمَ أَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ مِمَّنْ مَضَى؟ ".
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ2: [يُرِيدُ أَنَّ] الْتِزَامَ الْقِرَاءَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِإِثْرِ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، أَوْ عَلَى وَجْهٍ مَا مَخْصُوصٍ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ سُنَّةٌ مِثْلَ مَا [يُفْعَلُ] بِجَامِعِ قُرْطُبَةَ أَثَرَ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ فَرَأَى ذَلِكَ بِدْعَةً".
قَالَ: "وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ؛ فَلَا بَأْسَ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا وَجْهَ لِكَرَاهِيَتِهَا" وَالَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ جَمِيعًا فَيَقْرَءُونَ3 فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ؛ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ.
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ لِلدُّعَاءِ؛ فَكَرِهَهُ، فَقِيلَ لَهُ: فَالرَّجُلُ يَكُونُ فِي مَجْلِسِهِ فيجتمع الناس إليه ويكبرون4.
__________
1 سيأتي تقييده في كلام ابن رشد. "د". والنقل من "العتبية" "1/ 242- مع شرحها".
2 في "البيان والتحصيل" "1/ 242"
3 وهو ما تقدم له تسميته بطريق الإدارة، أي: يديرون الكلمات بينهم على صوت واحد كما ذكره في "الاعتصام" "2/ 30-31 و2/ 58-59 - ط ابن عفان"، وهو المسمى في عرف زماننا بالقراءة الليثية، وهي مع كونها ليست من عمل السلف فيها ضرر أنه قد يبني بعضهم على قراءة بعض مما يؤدي إلى سقوط بعض الكلمات من بعض القارئين، ومن ذلك حسنت تسميتها بالإدارة، كما يدير الشركاء مال الشركة بينهم ويبني بعضهم عمله على عمل شريكه. "د".
قلت: انظر أيضًا: "الحوادث والبدع" "ص161"، و"البيان والتحصيل" "1/ 298".
4 لعلها "ويكثرون" بالمثلثة، فإن كان بالباء؛ فيكون من كبُر بالضم في الماضي والمضارع أي عظم، لا أنه من كبَّر بالتشديد من التكبير؛ أي قول: الله أكبر؛ لأنه غير الدعاء الذي جعله سببًا للاجتماع أولًا وآخرًا. "د".(3/497)
قَالَ: "يَنْصَرِفُ، وَلَوْ أَقَامَ فِي مَنْزِلِهِ كَانَ خَيْرًا لَهُ"1.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ2: "كَرِهَ هَذَا وَإِنْ3 كَانَ الدُّعَاءُ حَسَنًا وَأَفْضَلُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ لِذَلِكَ بِدْعَةٌ4 وَقَدْ رُوي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أفضلُ الهدْي هدْيُ مُحَمَّدٍ، وشرُّ الْأُمُورِ مُحدَثاتُها، وكلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" 5" وَكَرِهَ مَالِكٌ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ أَنْ يَقْصِدَ6 الْقَارِئُ مَوَاضِعَ السُّجُودِ فَقَطْ لِيَسْجُدَ فِيهَا7، وَكَرِهَ فِي "الْمُدَوَّنَةِ"8 أَنْ يَجْلِسَ9 الرِّجْلُ لِمَنْ سَمِعَهُ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ لَا يريد بذلك تعلمًا
__________
1 نقل نحوه عنه مالك: الطرطوشي في "الحوادث والبدع" "ص115 - ط المغربية".
وأبو شامة في "الباعث" "29 - بتحقيقي"، والسيوطي في "الأمر بالاتباع" "ص181–182 – بتحقيقي"، وهو في "العتبية" "1/ 274 – مع شرحها".
2 في "البيان والتحصيل" "1/ 274".
3 في "م": "لو".
4 انظر في بدعية ذلك: "الاعتصام" "1/ 463" – ط ابن عفان"، و"الباعث" "117-123 – بتحقيقي"، و"الحوادث والبدع" "ص115-116" للطرطوشي، و"البدع والنهي عنها" "ص46" لابن وضّاح، و"السنن الكبرى" "5/ 118"، و"تاريخ دمشق" "16/ ق660-661 – المخطوط المصوّر"، و"المغني" "2/ 259 - مع الشرح الكبير"، و"المجموع" "8/ 277" و"اقتضاء الصراط المستقيم" "ص309-310"، و"الأمر بالاتباع" "ص181-185 – بتحقيقي".
5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 2/ 592/ رقم 867" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعًا، ولكن بلفظ: "وخير الهدي ... " إلخ. "خطبة الحاجة" لشيخنا الألباني.
6 أي: فالقصد إليها للسجود وصف واعتبار زائد يحتاج إى دليل. "د".
7 انظر في بدعية ذلك: "المدونة الكبرى" "1/ 200"، و"الباعث على إنكار البدع والحوادث" "261" لأبي شامة، و"الأمر بالاتباع" "ص192" للسيوطي، كلاهما بتحقيقي.
8 "1/ 201" ونحوه في "العتبية" "1/ 278".
9 أي: ليسجد السجدة تبعًا له؛ لأنه لا يطلب بها إلا إذا جلس عند القارئ يتعلم منه، أي ليستفيد حفظًا أو تجويدًا كما هو مذهبه، ويبقى النظر في إدخال هذا في سلك الالتزامات التي يعيبها ويقول: إنها محتاجة لدليل لا وجود له. "د".(3/498)
وَأَنْكَرُ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ1 فِي الْمَسَاجِدِ وَيُجْتَمَعُ عَلَيْهِ، وَرَأَى أَنْ يُقَامَ. وَفِيهَا2: "وَمَنْ قَعَدَ إِلَيْهِ فَعَلِمَ أَنَّهُ يُرِيدُ قِرَاءَةَ سَجْدَةٍ قَامَ عَنْهُ وَلَمْ يَجْلِسْ مَعَهُ".
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ3: "سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الِاعْتِمَادَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى لَا يُحَرِّكَ رِجْلَيْهِ قَدْ عُرِفَ وَسُمِّىَ؛ إِلَّا أَنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَكَانَ مَسَاءً4 يَعْنِي يُساء الثَّنَاءَ عَلَيْهِ".
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: "جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يُرَوِّحَ الرَّجُلُ قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَنْ يُقْرِنَهُمَا5 حَتَّى لَا يَعْتَمِدَ عَلَى إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حُدُودِ الصَّلَاةِ؛ إِذْ لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ الْمَرْضِيِّينَ الْكِرَامِ، وَهُوَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ"6.
وَعَنْ مَالِكٍ نَحْوَ هَذَا فِي الْقِيَامِ لِلدُّعَاءِ، وَفِي الدُّعَاءِ عِنْدَ خَتْمِ القرآن7.
__________
1 إذا كان ملتزمًا لذلك؛ كان من موضوعه. "د".
2 أي: في "المدونة" "1/ 201".
3 نحو في "المدونة الكبرى":1/ 196"، والمذكور لفظ "العتبية"؛ كما في "الاعتصام" "2/ 542 – ط ابن عفان".
4 بفتح الميم: مصدر ساء يسوء، والثناء: الذكر بوصف حسن أو قبيح، والمعنى: أن هذا الرجل كان إذا ذكر يذكر بما يسوء، ولذلك كره الإمام أن يذكره. "ف".
5 أي: فالمكروه هو التزام أن يجعل رجليه متقارنين، بحيث يكون الاعتماد في كل الصلاة عليهما معًا بحالة متساوية، يقول: إن هذا التضييق بالتزام هذا القيد لم يأت فيه دليل؛ فهو بدعة. "د".
6 "البيان والتحصيل" "1/ 296"، ونقله المصنف عن ابن رشد في "الاعتصام" "2/ 542" بحروفه.
7 انظر: "الباعث" "ص261".(3/499)
وَفِي الِاجْتِمَاعِ لِلدُّعَاءِ عِنْدَ الِانْصِرَافِ مِنَ الصَّلَاةِ1، وَالتَّثْوِيبِ لِلصَّلَاةِ2، وَالزِّيَادَةِ فِي الذَّبْحِ عَلَى التَّسْمِيَةِ المعلومة، أو القراءة فِي الطَّوَافِ دَائِمًا3، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ4، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ فِي النَّاسِ، يَكُونُ الْأَمْرُ وَارِدًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ فَيُقَيَّدُ بِتَقْيِيدَاتٍ تُلْتَزَمُ، مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "لَا يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا مِنْ صِلَاتِهِ، يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ 5 إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ" 6.
__________
1 انظر كلامًا مسهبًا، وتحريرا بديعا غاية للمصنف في بدعية ذلك في: "الاعتصام" "1/ 452-479 - ط ابن عفان"، و"الفتاوى" له "ص127-129"، وقد أثارت هذه المسألة على المصنف بعض معاصريه، وأثر هو في بعض تلاميذه ومحبيه؛ فنزعوا مثله للمنع، انظر التفصيل ذلك في: "المعيار المعرب" "1/ 280-284، 286"، و"نفح الطيب" "5/ 512"، و"أزهار الرياض" "2/ 7".
2 انظر: "الاعتصام" "1/ 327، 328 - ط ابن عفان"، و"الفتاوى" "ص207" للشاطبي، و"المعيار المعرب" "2/ 467".
3 انظر: "المدونة الكبرى" "1/ 426".
4 انظر في تقرير الكراهة: "الحاوي" "1/ 392" للسيوطي، و"تفسير القاسمي" "12/ 147-148، النور: 16"، و"نفحة الريحانة" "4/ 429" للمحبي، و"معجم المناهي اللفظية" "ص214".
5 أي: بحيث يكون يمينه إلى المصلين، ويساره إلى القبلة وقت التسبيح والتحميد أو عند مفارقة مكان صلاته، أي: فذلك بدعة ليست من الدين؛ فهي من حظ الشيطان ونصيبه، أما الانصراف منها بالسلام؛ فيندب فيه التيامن بتسليمة التحليل. "د".
6 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، 2/ 337/ رقم 852"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين، 2/ 492/ رقم 707" عن ابن مسعود؛ قال: "لا يجعل =(3/500)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ1 أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا؛ فَقَالَ: [بَلْ] نَلْتَفِتُ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَنَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ" كَأَنَّهُ [كَرِهَ] 2 الْتِزَامَ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ، وَرَآهُ مِنَ الأمور التي لم يرد3 التزامها.
__________
1 مثل أنس، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، 2/ 337" تعليقًا: "كان أنس ينفتل عن يمينه وعن يساره، ويعيب على من يتوخى -أو من يعمد- الانفتال عن يمينه"، ووصله مسدد في "مسنده الكبير"؛ كما في "الفتح" "2/ 338".
وأخرج مسلم في "صحيحه" "رقم 708" بسنده إلى السدي قال: "سألت أنسًا: كيف أنصرف إذا صليت؛ عن يمين، أو عن يساري؟ قال: أما أنا فأكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه".
قال ابن حجر في "تغليق التعليق" "2/ 341": "والجمع بين هذين الأثرين أن أنسًا كان ينكر على من يرى الانصراف عن اليمين حتمًا واجبًا، أما كونه يفعل على سبيل الاستحباب؛ فلعله كان لا ينكره إن شاء الله جمعًا بين روايته ورأيه، والله أعلم.
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 339-340/ ط دار الفكر"، وعبد الرزاق في "المصنف" "2/ 241/ رقم 3212" عن واسع بن حبان؛ قال: "كنت أصلي وابن عمر يسند ظهره إلى جدار القبلة، فانصرفت عن يساري؛ فقال: ما يمنعك أن تنصرف عن يمينك؟ قلت: لا؛ إلا أني رأيتك فانصرفت إليك. فقال: أصبت، إن ناسًا يقولون: تنصرف عن يمينك، وإذا كنت تصلي فانصرف إن أحببت عن يمينك أو عن يسارك".
وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 241/ رقم 3211" عن نافع؛ قال: "ما كان ابن عمر يبالي على أي ذلك انصرف، عن يمينه أو عن شماله. قال: وذلك أني سألته عن ذلك".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د" والأصل، وأثبته من "م" و"ف" و"ط".
3 كيف هذا وقد ورد النهي الشديد عن الالتفات في الصلاة بجملة أحاديث، خرج بعضها الشيخان والنسائي، وبعضها أبو داود والبخاري والنسائي، وقد نص المالكية على كراهته بغير حاجة مهمة، وعند الشافعية والحنفية أيضًا كراهته. "د". قلت: الصواب "سئل عن الانفتال" وليس "الالتفات"، وإلا؛ فقد كان ابن عمر يكره الالتفات كما في "مصنف ابن أبي شيبة" "2/ 41"، وكان يتغيظ منه غيظًا شديدًاكما في "الأوسط" "3/ 96" لابن المنذر، ولم يكن يلتفت في صلاته كما في "الموطأ" "1/ 137".(3/501)
وقال عمر: "واعجبًا لك يابن الْعَاصِ، لَئِنْ كُنْتَ تَجِدُ ثِيَابًا؛ أَفَكُلُّ النَّاسِ يَجِدُ ثِيَابًا؟ وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُ لَكَانَتْ سُنَّةً، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أره"1.
هَذَا فِيمَا لَمْ يَظْهَرِ2 الدَّوَامُ فِيهِ؛ فَكَيْفَ مَعَ الِالْتِزَامِ؟
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا وَالْأَخْبَارُ كَثِيرَةٌ، جَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْتِزَامَ الْخُصُوصَاتِ فِي الْأَوَامِرِ الْمُطْلَقَةِ مُفْتَقِرٌ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِلَّا كَانَ قَوْلًا بِالرَّأْيِ وَاسْتِنَانًا بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ انْبَنَتْ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَسْأَلَةِ أَنَّ الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد.
__________
1 أخرج مالك في "الموطأ" "1/ 50 - رواية يحيى و1/ 56/ رقم 137 - رواية أبي مصعب" عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب "أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ركب فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرس ببعض الطريق قريبًا من بعض المياه، فاحتلم عمر وقد كاد أن يصبح، فلم يجد مع الركب ماء؛ فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب، فدع ثوبك يغسل. فقال له عمر بن الخطاب: واعجبا لك يا عمرو بن العاص ... إلخ". وإسناده صحيح. وأخرجه البيهقي "1/ 170" وفي "المعرفة" "1/ 265"، والخطيب في "التالي" "رقم 203 - بتحقيقي"، وانظر: "الاستذكار" "3/ 116". وفي "ط": "لو فعلتها لم أره".
2 أي: ومع ذلك خشي أن يداوم عليه، كما قال: "لكانت سنة". "د".(3/502)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:
الْمَطْلُوبُ الْفِعْلِ1 بِالْكُلِّ هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ2، وَقَدْ يَصِيرُ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، كَمَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ هُوَ الْمَطْلُوبُ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ يَصِيرُ مَطْلُوبَ الْفِعْلِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي3 وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْرُجُ4 عَنْ أَصْلِهِ مِنَ الْقَصْدِ الْأَوَّلِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَيُتَبَيَّنُ مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ حَيْثُ قَصْدِ الشَّارِعِ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ؛ فَيُتَنَاوَلُ عَلَى الْوَجْهِ5 الْمَشْرُوعِ، وَيُنْتَفَعُ بِهِ كَذَلِكَ، وَلَا يُنْسَى حَقُّ اللَّهِ فيه لا في
__________
1 سواء أكان من المباحات أو من المندوبات أو من الواجبات المطلوبة طلب العزائم؛ كما سيشير إليه بعد في قوله: "وهكذا الحكم في المطلوب طلب الندب ... إلخ"، وإن كان المهم الذي سيفرع عليه فوائد المسألة هو بيان الفرق في أولية القصد وثانويته بين نوعي المباح المطلوب الفعل بالكل والمطلوب الترك بالكل، والذي سماه فيما تقدم ما لا حرج فيه، وعالج إخراجه من المخير فيه بين الفعل والترك، راجع المسألة الثالثة والمسألة الرابعة من المباح. "د".
2 قال "ماء": "أعني مقصد الشارع".
3 سيأتي تمثيله بالغناء المتضمن لراحة النفس والبدن، والراحة منشطة على الخير والعبادة ... إلخ؛ فالشارع لم يقصد إلى الغناء مباشرة، بل باعتبار ما تضمنه من الراحة المعينة على الخير؛ فقصده إليه بالتبع لتضمنه الراحة المنشطة التي تكون به وبالمطلوب بالكل وغير ذلك. "د".
4 يأتي بيانه في الوجوه بعد، من مثل قوله: "وجدت المذموم تصرف المكلف في النعم، لا أنفس النعم"، ومثله قوله: "إن جهة الامتنان لا تزول أصلًا"، ومثل قوله: "وأيضًا؛ فإن وجه الذم قد تضمن النعمة، واندرجت تحته لكنه غطى عليها هواه"؛ أي: فهي حتى عند كونها انتقلت إلى القصد الثاني لا يزال ما يتعلق به القصد الأول باقيًا فيها، كما قال: "ولم يهدم أصل المصلحة، وإلا؛ لانهدم أصل المباح"، وكذا يقال في المطلوب الترك بالكل. "د".
5 يأتي شرحه وما بعده في مثال الرغيف الآتي. "د".(3/503)
سَوَابِقِهِ وَلَا فِي لَوَاحِقِهِ وَلَا فِي قَرَائِنِهِ، فَإِذَا أَخَذَ عَلَى ذَلِكَ الْوِزَانِ؛ كَانَ مُبَاحًا بِالْجُزْءِ مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ، فَإِنَّ الْمُبَاحَاتِ إِنَّمَا وَضَعَهَا الشَّارِعُ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى وَفْقِ الْمَصَالِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بِحَيْثُ لَا تَقْدَحُ فِي دُنْيَا وَلَا فِي دِينٍ، وَهُوَ الِاقْتِصَادُ فِيهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ جُعِلَتْ نِعَمًا، وَعُدَّتْ مِنَنًا، وَسُمِّيَتْ خَيْرًا وَفَضْلًا.
فَإِذَا خَرَجَ الْمُكَلَّفُ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الحد [إلى] أن تكون1 ضرارًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الدِّينِ؛ كَانَتْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مَذْمُومَةً لِأَنَّهَا صَدَّتْ عَنْ مُرَاعَاةِ وُجُوهِ الْحُقُوقِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ وَالْمُقَارِنَةِ أَوْ عَنْ بَعْضِهَا؛ فَدَخَلَتِ الْمَفَاسِدُ بَدَلًا عَنِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا سَبَبُ ذَلِكَ تَحَمُّلُ الْمُكَلَّفِ مِنْهَا مَا لَا يَحْتَمِلُهُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يَكْتَفِي مِنْهَا بِوَجْهٍ مَا2، أَوْ بِنَوْعٍ مَا، أَوْ بِقَدْرٍ مَا، وَكَانَتْ مَصَالِحُهُ تُجْرَى عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ زَادَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا فَوْقَ مَا يُطِيقُهُ تَدْبِيرُهُ وَقُوَّتُهُ الْبَدَنِيَّةُ وَالْقَلْبِيَّةُ؛ كَانَ مُسْرِفًا، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ عَنْ حَمْلِ الْجَمِيعِ؛ فَوَقَعَ الِاخْتِلَالُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ؛ كَالرَّجُلِ يَكْفِيهِ لِغِذَائِهِ مَثَلًا رَغِيفٌ، وَكَسْبُهُ الْمُسْتَقِيمُ إِنَّمَا يَحْمِلُ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ لِأَنَّ تَهْيِئَتَهُ لَا تَقْوَى عَلَى غَيْرِهِ؛ فَزَادَ عَلَى الرَّغِيفِ مِثْلَهُ؛ فَذَلِكَ إِسْرَافٌ مِنْهُ فِي جِهَةِ اكْتِسَابِهِ أَوَّلًا مِنْ حَيْثُ كَانَ يَتَكَلَّفُ كُلْفَةَ مَا يَكْفِيهِ مَعَ التَّقْوَى، فَصَارَ يَتَكَلَّفُ كُلْفَةَ اثْنَيْنِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْمُخَالَفَةِ، وَفِي جِهَةِ تَنَاوُلِهِ؛ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ نَفْسَهُ مِنَ الْغِذَاءِ فَوْقَ مَا تَقْوَى عَلَيْهِ الطِّبَاعُ فَصَارَ [ذَلِكَ] شَاقًّا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا ضَاقَ نَفْسُهُ وَاشْتَدَّ كَرْبُهُ، وَشَغَلَهُ عَنِ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ الْمَطْلُوبِ فِيهَا الْحُضُورُ مَعَ الله تعالى،
__________
1 كذا في "ط" والأصل، وفي "د" و"ف" و"م": "بأن تكون"، وصوب "ف" المثبت.
2 أي: من وجوه الكسب مثلًا في صنعة لها فروع متعددة، وقوله: "أو بنوع" كتجارة مثلًا، وقوله: "بقدر" بأن كان يكفيه من الأول أو الثاني حد فيتعلق في كل منهما بما هو خارج عن كفايته، مع كونه لا يحتمله استعداده، ومثله تعدد الزوجات وتنوع المآكل والملابس والمساكن ومقادير ذلك وهكذا. "د".(3/504)
وَفِي جِهَةِ عَاقِبَتِهِ؛ فَإِنَّ أَصْلَ كُلِّ دَاءٍ الْبَرَدَةُ1، وَهَذَا قَدْ عَمِلَ عَلَى وَفْقِ الدَّاءِ فيوشك أن يقع به.
__________
1 هي بفتحات: التخمة وثقل الطعام على المعدة، وفي حديث ابن مسعود: "كل داء أصله البردة". "ف".
قلت: الحديث ضعيف بمفرداته كلها، كما أفاده السخاوي في "المقاصد الحسنة" "ص62".
فورد مرفوعًا عن ثلاثة من الصحابة، هم:
أنس بن مالك: أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 513"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 204"، وأبو نعيم في "الطب النبوي" "ق27"، وابن السني -كما في "المنهج السوي" "رقم 96"- والمستغفري في "الطب النبوي" -وهو مطبوع قديمًا في طهران، لم أظفر به للآن- والداقطني في "العلل" -كما في "إتحاف السادة المتقين" "7/ 400"- وفي إسناده تمام بن نجيح، وهو هالك، يروي أشياء موضوعة عن الثقات، كأنه المتعمد لها.
عبد الله بن عباس: أخرجه ابن عيد في "الكامل" "6/ 2318"، وأبو نعيم في "الطب النبوي" "ق27"، وفيه مسلمة بن علي، قال البخاري وأبو زرعة: "منكر الحديث"، وقال ابن معين ودحيم: "ليس بشيء"، وقال النسائي والدارقطني والبرقاني: "متروك".
أبو سعيد الخدري: أخرجه ابن عيد في "الكامل" "3/ 981"، وأبو نعيم في "الطب النبوي" "ق27-28"، وابن السني -كما في "المنهج السوي" "رقم 97"-.
قال ابن عدي: "والحديث بهذا الإسناد باطل".
قلت: هو من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد، ورواية دراج عن أبي الهيثم مشهور ضعفها.
وورد عن ابن مسعود قوله، يرويه الأعمش عن خيثمة عنه، قاله ابن قتيبة في "غريبه" "2/ 225"، والخطابي في "غريبه" "3/ 263" و"إصلاح خطأ المحدثين" "ص33 - ط لجنة الشبيبة السورية بالقاهرة، سنة 1355هـ -1936م"، وقال: "البرَدة؛ مفتوحة الراء: التخمة، أصحاب الحديث يقولوا: البُرْدَة "البَرْد"، وهو غلط.
وقال ابن قتيبة: "وسميت التخمة بردة، لأنها تبرد حرارة الجوع والشهوة وتذهب بها، وما أكثر ما تأتي "فعلة" في الأدواء والعاهات". وذكر الزمخشري في "الفائق" "1/ 102" أنه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه.
ورجح الدارقطني أنه من قول الحسن، وقال: "وهو أشبه بالصواب".
وانظر: "تذكرة الحفاظ" "رقم 119" لابن ظاهر المقدسي، و"الميزان" "1341"، و"إتحاف السادة المتقين" "7/ 400"، و"الدرر المنتثرة" "15".(3/505)
وَهَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ أَحْوَالِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي حِينِ الْإِسْرَافِ؛ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْجَالِبُ عَلَى نَفْسِهِ الْمَفْسَدَةَ، لَا نَفْسَ الشَّيْءِ الْمُتَنَاوَلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ غِذَاءٌ تَقُومُ بِهِ الْحَيَاةُ.
فَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْحَالَةَ1؛ وَجَدْتَ الْمَذْمُومَ تَصَرُّفَ الْمُكَلَّفِ فِي النِّعَمِ، لَا أَنْفُسِ2 النِّعَمِ إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ آلَةً لِلْحَالَةِ الْمَذْمُومَةِ ذُمَّتْ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَهُوَ الْقَصْدُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَصْدِ الْمُكَلَّفِ الْمَذْمُومِ، وَإِلَّا؛ فَالرَّبُّ تَعَالَى قَدْ تَعَرَّفَ إِلَى عَبْدِهِ بِنِعَمِهِ، وَامْتَنَّ بِهَا قَبْلَ النَّظَرِ فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مَحْمُودَةٌ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا ذُمت حِينَ صَدَّتْ مَنْ صَدَّتْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ3، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ جِهَةَ الِامْتِنَانِ لَا تَزُولُ4 أَصْلًا، وَقَدْ يَزُولُ الْإِسْرَافُ رَأْسًا، وَمَا هُوَ دَائِمٌ لَا يَزُولُ عَلَى حَالٍ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ مَا قَدْ يَزُولُ؛ فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا أَخَذَ الْمُبَاحَ كَمَا حُدَّ5 لَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الذَّمِّ
__________
1 في الأصل: "الحاجة".
2 في "ط": "نفس".
3 في الأصل و"ط": "حين صدت عن سبيل الله من صدت".
4 وحيث إنها لا تزول رأسًا، فتجيء مع جهة الإسراف المذموم ويغطي عليها؛ فهذا قريب من قوله: "وأيضًا؛ فإن وجه الذم ... إلخ"؛ فهما متلازمان شديدا القرب، إلا أنه لوحظ في الأول مجرد عدم الزوال، ولوحظ في الثاني الاندراج تحت وجه الذم وتغطيته عليه؛ فلذلك جعلهما في معنى دليل واحد، وترجم لما بعدهما بالثالث لا بالرابع" "د".
5 في "ف": "كما حاله"، واستظهر المحقق المثبت، وهو الصواب.(3/506)
شَيْءٌ، وَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ دَاعِي هَوَاهُ وَلَمْ يُرَاعِ مَا حُدَّ لَهُ، صَارَ مَذْمُومًا فِي الْوَجْهِ الَّذِي اتَّبَعَ فِيهِ هَوَاهُ، وَغَيْرَ مَذْمُومٍ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ.
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ وَجْهَ الذَّمِّ قَدْ تَضَمَّنَ النِّعْمَةَ وَانْدَرَجَتْ تَحْتَهُ، لَكِنْ غَطَّى عَلَيْهَا هَوَاهُ، وَمِثَالُهُ أَنَّهُ إِذَا تَنَاوَلَ مُبَاحًا عَلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ؛ فَقَدْ1 حَصَلَ لَهُ فِي ضِمْنِهِ جَرَيَانُ مَصَالِحِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَشُوبَةً؛ فَبِمَتْبُوعِ هَوَاهُ2، وَالْأَصْلُ هُوَ النِّعْمَةُ، لَكِنَّ هَوَاهُ أَكْسَبَهَا بَعْضَ أَوْصَافِ الْفَسَادِ، وَلَمْ يَهْدِمْ أَصْلَ الْمَصْلَحَةِ، وَإِلَّا؛ فَلَوِ انْهَدَمَ أَصْلُ الْمَصْلَحَةِ لَانْعَدَمَ أَصْلُ الْمُبَاحِ لِأَنَّ الْبِنَاءَ إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ أَصْلُ الْمُبَاحِ وَإِنْ كَانَ مَغْمُورًا تَحْتَ أَوْصَافِ الِاكْتِسَابِ وَالِاسْتِعْمَالِ الْمَذْمُومِ3؛ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ4 عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْمُبَاحِ مَذْمُومًا وَمَطْلُوبَ التَّرْكِ إِنَّمَا هُوَ بِالْقَصْدِ الثاني لا بقصد الْأَوَّلِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ مُصَرِّحَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ كقوله تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ
__________
1 هكذا في "م"، وفي الأصل و"ف" و"د" و"ط": "قد".
2 ولعله: "فبمتبوعيته هواه"؛ أي: بسبب جعله هواه متبوعًا؛ فتأمل. "ف".
3 الاستعمال المذموم هو التعسف بعينه؛ لأن أصل المباح مشروع وغير مذموم، ومأتى الذم هو كيفية هذا الاستعمال وتوجيهه؛ إذ فيه الخروج عن الاعتدال والاقتصاد في التصرف، وقد وردت في الاقتصاد والاعتدال والإنصاف وذم الغلو والإجحاف نصوص كثيرة، ذكر بعضًا منها السخاوي في "الجواب الذي انضبط"، انظره بتحقيقنا، وانظر "الوسيطة في الإسلام" لمحمد مدني، و"نظرية التعسف في استعمال الحق" "254-257" للأستاذ فتحي الدريني.
4 أي: كما يدل على صحة قوله هناك: "وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْرُجُ عَنْ أَصْلِهِ من القصد الأول"؛ كما أشرنا لذلك، وهو ظاهر باعتبار أحدهما الذي شرحه هنا وهو المطلوب الفعل، وإنما اقتصر على إفادة دلالته على ما قال؛ لأنه الذي جعله رأس المسألة، ثم ينظر في المطلوب الترك: هل يؤخذ من كلامه الآتي ما يدل على أنه أيضًا عندما صار مطلوبًا بالقصد الثاني بقي ما يتعلق به القصد الأول؟ فعليك بالتأمل؛ لأن قوله: "وكل منهما لا يخرج عن أصله" دعوى أخرى غير أصل المسألة، تحتاج إلى بيان ودليل. "د".(3/507)
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النَّحْلِ: 72] .
[وَقَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا} ، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ] وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243، يوسف: 38] .
وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ... } إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14] .
فَهَذِهِ الْآيَاتِ وَأَشْبَاهُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بُثَّ فِي الْأَرْضِ مِنَ النِّعَمِ وَالْمَنَافِعِ عَلَى أَصْلِ مَا بُثَّ؛ إِلَّا أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَمَّا وُضِعَ لَهُ فِيهَا اخْتِيَارٌ بِهِ يُنَاطُ1 التَّكْلِيفُ دَاخَلَتْهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ الشَّوَائِبُ، لَا مِنْ جِهَةِ مَا وُضِعَتْ لَهُ أَوَّلًا؛ فَإِنَّهَا مِنَ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ خَالِصَةٌ، فَإِذَا جَرَتْ فِي التَّكْلِيفِ بِحَسَبِ الْمَشْرُوعِ؛ فَذَلِكَ هُوَ الشُّكْرُ، وَهُوَ جَرْيُهَا على ما وضعت له أَوَّلًا، وَإِنْ جَرَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَهُوَ الْكُفْرَانُ، وَمِنْ ثَمَّ انْجَرَّتِ الْمَفَاسِدُ وَأَحَاطَتْ بِالْمُكَلَّفِ، وَكُلٌّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 96] .
وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا". فَقِيلَ: أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَقَالَ: "لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا 2 بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ مِمَّا
__________
1 في "ف": "نياط"، واستظهر المثبت، وهو الصواب.
2 أي: إذا سار في طريقه واستعمله في حدود، فإذا انحرف به عن حده؛ جر إلى المفاسد، ولكن ليس هذا من طبيعة الخير، وإنما هو مما دخل عليه، كما أشار إليه الحديث؛ فإن الربيع به حياة الإنسان والحيوان، ومع ذلك؛ فقد تستعمل الماشية من آثاره النابتة ما يقتلها أو يقرب من قتلها، وذلك من تصرفها هي، فإذا كان ما أكلته ضارًا بطبعه؛ فيكون ذلك من تركها النافع وتناولها الضار، وإذا كان ما أكلته في ذاته نافعًا ولكنها زادت عن حاجتها منه؛ يكون المثل أظهر، ورواية البخاري وبعض روايات مسلم هكذا: "مما بنبت الربيع"، وفي بعض روايات مسلم: "كل ما ينبت الربيع"، والمعنى عليه متعين في الوجه الثاني، وأن جميع ما ينبته المطر يضر إذا استعمل على غير وجهه، أما إذا استعمل على وجهه وبالمقدار المناسب كعمل آكلة الخضر؛ فإنه لا يضر، والحبط انتفاخ بطن البعير من المرعى الوخيم، يقال: حبط بطنه إذا انتفخ فمات. "د".(3/508)
يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ" 1 الحديث.
وأيضًا؛ فباب سد الذرائع مع هَذَا الْقَبِيلِ؛ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى طَلَبِ تَرْكِ مَا ثَبَتَ طَلَبُ2 فِعْلِهِ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ، وَهُوَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفَاصِيلِهِ؛ فَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ مِمَّا يُبْطِلُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى مِثْلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [الْبَقَرَةِ: 104] .
وَقَوْلِهِ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الْأَنْعَامِ: 108] .
وَشِبْهُ ذَلِكَ، وَالشَّوَاهِدُ فِيهِ كَثِيرَةٌ.
وَهَكَذَا3 الْحُكْمُ فِي الْمَطْلُوبِ طَلَبَ النَّدْبِ، قَدْ يَصِيرُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي مَطْلُوبَ التَّرْكِ، حَسْبَمَا تَنَاوَلَتْهُ أَدِلَّةُ التَّعَمُّقِ وَالتَّشْدِيدِ4، وَالنَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ5،
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 11/ 244/ رقم 6427" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومضى "1/ 177".
وفي الأصل: "للربيع".
والحَبَط، بفتحتين: وجع يأخذ الإبل في بطونها من كلأ تستوبله، والمرض الحُباط -بالضم-، وقوله: "يُلِم" -بضم فكسر- أي: يقرب من القتل، وهو مثل المفرط في جمع الدنيا، مع منع ما جمعه من حقه. "ف".
2 المراد بالطلب الإذن وسيأتي في المسألة الثامنة عشرة، يقول في "سد الذرائع": "هو مَنَعَ الْجَائِزَ لِئَلَّا يَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى الْمَمْنُوعِ"، وقد أولنا الجائز هناك بهذا أيضًا. "د".
3 تكميل لبقية أنواع ما دخل في القسم الأول من المسألة، ولما كان كون طلب المندوب والواجب بالقصد الأول لا يحتاج إلى بيان كما احتاج المباح، وإنما الحاجة فيهما إلى بيان أنهما قد يصيران مطلوبي الترك بالقصد الثاني اقتصر عليه. "د". وفي "ط": "وهذا".
4 انظر ما مضى "1/ 527 و2/ 208، 228".
5 انظر ما مضى "1/ 526، 2/ 208".(3/509)
وَسَرْدِ الصِّيَامِ1، وَالتَّبَتُّلِ2، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَمِثْلُهُ الْمَطْلُوبُ طَلَبَ الْوُجُوبِ عَزِيمَةً، قَدْ يَصِيرُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي مَطْلُوبَ التَّرْكِ، إِذَا كَانَ مُقْتَضَى الْعَزِيمَةِ فِيهِ مُشَوِّشًا3 وَعَائِدًا عَلَى الْوَاجِبِ بِالنُّقْصَانِ؛ كَقَوْلِهِ: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" 4، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَدْ يَصِيرُ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ رَاجِعٌ إِلَى مَا بُثَّ فِي الْأَرْضِ وَعَلَى مَا وُضِعَ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى سَوَاءٍ5؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] .
__________
1 انظر ما مضى "2/ 240"، وفي "ط": "أو سرد".
2 انظر ما مضى "1/ 522، 2/ 228".
3 وهو ما تبلغ المشقة فيه حالة لا طاقة للمكلف بالصبر عليها طبعًا؛ كالمرض الذي يعجز فيه عَنِ اسْتِيفَاءِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِهَا مَثَلًا، أو عن الصوم خوف فوت النَّفْسِ، أَوْ شَرْعًا؛ كَالصَّوْمِ الْمُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى إتمام أركانها؛ فهذا الضرب رَاجِعٌ إِلَى حَقِّ اللَّهِ، فَالتَّرَخُّصُ فِيهِ مَطْلُوبٌ، وقد جاء في مثله: "ليس من البر ... " الحديث كما تقدم له في المسألة الخامسة من مبحث الرخص؛ فقد صار المطلوب واجبًا بالقصد الأول، مطلوب الترك بالقصد الثاني عند هذه العوارض. "د".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلِّل عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، 4/ 183/ رقم 1946"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، 2/ 786/ رقم 1115" عن جابر رضي الله عنه، ومضى تخريجه مفصلًا "1/ 517".
5 راجع إلى المدح والذم؛ أي: فليس القصد الأول للشارع فيها أنها ممدوحة كما هي الدعوى. "د".(3/510)
وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] .
وَقَوْلُهُ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 31] .
وَقَدْ مَرَّ أَنَّ التَّكَالِيفَ وُضِعَتْ لِلِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ لِيَظْهَرَ فِي الشَّاهِدِ مَا سَبَقَ الْعِلْمُ بِهِ فِي الْغَائِبِ، وَقَدْ سَبَقَ الْعِلْمُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، لَكِنْ بِحَسَبِ ذَلِكَ الِابْتِلَاءِ، وَالِابْتِلَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا لَهُ1 جِهَتَانِ، لَا بِمَا هُوَ ذُو جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِذَلِكَ تَرَى النِّعَمَ الْمَبْثُوثَةَ فِي الْأَرْضِ لِلْعِبَادِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ، وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا، وَتَصَرُّفَاتُ الْمُكَلَّفِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا عَلَى سَوَاءٍ، فَإِذَا عُدَّتْ نِعَمًا وَمَصَالِحَ مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِ؛ فَهِيَ مَعْدُودَةٌ فِتَنًا وَنِقَمًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَصَرُّفَاتِهِمْ أَيْضًا، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَبْثُوثَةَ للانتفاع ممكنة في جهتي المصلحة والمفسدة ومهيئة لِلتَّصَرُّفَيْنِ مَعًا، فَإِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ الْمَبْثُوثَةُ فِي الْأَرْضِ لِلتَّكْلِيفِ بِهَذَا الْقَصْدِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ فَكَيْفَ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ؟ حَتَّى يُعَدَّ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ هُوَ بَثُّهَا نِعَمًا فَقَطْ؟ وَكَوْنُهَا نِقَمًا وَفِتَنًا إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَصْدِ الثَّانِي.
فَالْجَوَابُ أَنْ لَا مُعَارَضَةَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ الَّتِي نَصَّتْ عَلَى أَنَّهَا نِعَمٌ مُجَرَّدَةٌ مِنَ الشَّوَائِبِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا مَا هُوَ ظَاهِرُهَا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ، أَوْ يُرَادُ بِهَا أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا الثَّانِي لَا يَصِحُّ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ2 فِي العقل ولا يوجد
__________
1 في غير "د": "يكون له"، وكتب "د": "لعله: "بما له جهتان" كما يدل عليه لاحقه".
2 هذا الوجه الأول لإثبات أنه لا تصح المعارضة، وذلك بنقض دليلها نقضًا إجماليًّا بأنه لو صح لما صحت جهة امتنان الله بها المقتضية أنها نعم خالصة، وأيضًا؛ فإننا باستقراء أنواع النعم نتحقق أنها نعم خالصة قطعًا كما صنع، والوجه الثاني بإزالة سبب الشبهة التي انبنت عليها المعارضة، وذلك أن ما يرى من كون هذه الأشياء نقمًا على البعض ليس آتيًا من جهتها، بل من جهة سوء التصرف فيها من المكلف كما سيوضحه؛ فتغاير الوجهان. "د".(3/511)
فِي السَّمْعِ أَنْ يُخْبِرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَمْرٍ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّا إِنْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَبْثُوثَاتِ لَيْسَتْ بِنِعَمٍ خَالِصَةٍ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِقَمٍ خَالِصَةٍ؛ فَإِخْبَارُ اللَّهِ عَنْهَا بِأَنَّهَا نِعَمٌ وَأَنَّهُ امْتَنَّ بِهَا وَجَعَلَهَا حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ وَمَظِنَّةً لِحُصُولِ الشُّكْرِ مُخَالِفٌ لِلْمَعْقُولِ، ثُمَّ إِذَا نَظَرْنَا فِي تَفَاصِيلِ النِّعَمِ؛ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 6-7] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ} [النَّحْلِ: 10] .
إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا؛ أَفَيَصِحُّ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهَا نِعَمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ وَنِقَمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ؟ هَذَا كُلُّهُ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْمَعْقُولِ [وَالْمَنْقُولِ] 1.
وَالشَّوَاهِدُ2 لِهَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ هُدًى وَرَحْمَةً وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَأَنَّهُ النُّورُ الْأَعْظَمُ، وَطَرِيقُهُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِيهِ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 26] .
وَأَنَّهُ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 2] لَا لِغَيْرِهِمْ.
وَأَنَّهُ: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لُقْمَانَ: 3] . إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أُنزل الْقُرْآنُ لِيَكُونَ هُدًى لِقَوْمٍ وَضَلَالًا لِآخَرِينَ، أَوْ: هُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ هُدًى أَوْ ضَلَالًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذَا التَّوَهُّمِ.
__________
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في "ط": "والشاهد".(3/512)
لَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَصِحُّ بِالِاعْتِبَارَيْنِ الْمَذْكُورِينَ1 فِي أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَأَنَّهَا سُلَّمٌ إِلَى السَّعَادَةِ، وَجِدٌّ لَا هَزْلٌ، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38] .
لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا حَقٌّ2 إِذَا حَمَلْنَا التَّعَرُّفَ3 بِالنِّعَمِ عَلَى ظَاهِرِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، كَمَا يَصِحُّ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى وَشِفَاءً وَنُورًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فَمَحْمُولٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخِلُّ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فِي بَثِّ النِّعَمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ النِّعَمِ تَئُولُ بِأَصْحَابِهَا إِلَى النِّقَمِ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ الْمُكَلَّفِ4؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ نِقَمًا فِي أَنْفُسِهَا، بَلِ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى غير
__________
1 أحدهما الاعتبار المجرد عن الْحِكْمَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الدُّنْيَا، مِنْ كَوْنِهَا متعرفًا للحق ومستحقًا لشكر الواضع لها، والثاني: الاعتبار المنظور فيه لهذه الحكمة، وسيأتي للمؤلف في المسألة الثالثة من تعارض الأدلة بيان مسهب حسن جدًّا في توجيه الاعتبارين، يعني: وعليه، فيصح توجه المدح والذم إلى النعم بهذين الاعتبارين. "د".
2 أي: صحيح توجيه الأمرين إلى النعم بهذين الاعتبارين، ولكن على أنهما ليسا مستويين، بل الأصل هو الوجه الممدوح وهو التعرف بالنعم؛ كما يدل عليه ظاهر الآيات، وما عداه من الفتن واللهو والغرور ليس بالقصد الأول، بل باعتبار العوارض الخارجة عما قصد منها قصدًا أوليًّا، كما يقال في هداية القرآن: هي الأصل الذي لا شك فيه، وقد عرض لأصحاب النفوس الفاسدة ما جعله يزيدهم غيًّا وضلالًا بالطعن فيه بأنه سحر وكذب إلى آخر إفكهم، وعند التأمل لا يجد أنه ضللهم في شيء من الحقائق كانوا عرفوها وبسببه انحرفوا عنها، وإنما كل ما يتعلق بإضلالهم به زيادتهم في الكفر بجحده والطعن فيه وفيمن جاء به، فلم يكن أحد على هدى ثم ضل بسبب القرآن؛ فاعرف هذه السانحة، وهي تؤيد ما يريده المؤلف، وأن ذلك ليس من القصد الأول بالقرآن، وفي قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] إشارة إلى هذا كما يأتي. "د".
3 في "م": "التعريف".
4 في الأصل و"ف" و"ط": "التكليف"، واستظهر "ف" الصواب وقال: "أي: استعماله المكلف لها وأخذه إياها على غير وجهها" ا. هـ.(3/513)
الْوَجْهِ الْمَقْصُودِ فِيهَا هُوَ الَّذِي صَيَّرَهَا كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ مِهَادًا وَالْجِبَالِ أَوْتَادًا وَجَمِيعَ مَا أَشْبَهَهُ نِعَمٌ ظَاهِرَةٌ لَمْ تَتَغَيَّرْ1؛ فَلَمَّا صَارَتْ تُقَابَلُ بِالْكُفْرَانِ بِأَخْذِهَا عَلَى غَيْرِ مَا حُدَّ2 صَارَتْ عَلَيْهِمْ وَبَالَا، وَفِعْلُهُمْ فِيهَا هُوَ الْوَبَالُ فِي الْحَقِيقَةِ، لَا هِيَ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَعَانُوا بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى مَعَاصِيهِ.
وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ جَرَى شَأْنُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا مُثِّلَتْ أَصْنَامُهُمُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فِي ضَعْفِهِ، تَرَكُوا التَّأَمُّلَ وَالِاعْتِبَارَ فِيمَا قِيلَ لَهُمْ حَتَّى يَتَحَقَّقُوا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَأَخَذُوا فِي ظَاهِرِ التَّمْثِيلِ بِالْعَنْكَبُوتِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى الْمَقْصُودِ3، وَقَالُوا: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة: 26] ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْحَقِيقَةِ السَّابِقَةِ فِيمَنْ شَأْنُهُ هَذَا بِقَوْلِهِ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [الْبَقَرَةِ: 26] .
__________
1 في "ط": "لا تتغير".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "غير مأخذ".
3 أخرج الواحدي في "أسباب النزول" "ص14" من طريق عبد الغني بن سعيد الثقفي عن موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} [البقرة: 26] ، قال: وذلك أن الله ذكر آلهة المشركين، فقال: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} [الحج: 73] ، وذكر كيد الآلهة، فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيتم حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شيء يصنع بهذا؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ... } .
وإسناده ضعيف جدًّا، فيه عبد الغني، وهو واهٍ جدًّا، وذكر المشركين لا يلائم كون الآية مدنية، قاله السيوطي في "لباب النقول" "ص16".
وأخرج عبد الرزاق "1/ 41"، وابن جرير "1/ 177"، وابن أبي حاتم "1/ 93/ رقم 274"، كلهم في "التفسير" عن معمر عن قتادة، قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران!! فأنزل الله الآية، وحكاه الواحدي في "أسباب النزول" "ص14" نحوه عن الحسن وقتادة بلا إسناد بلفظ: "قالت اليهود".
وأخرجه ابن أبي حاتم "برقم 273"، وابن جرير "1/ 177" عن السدي بلفظ: "قال المنافقون"، وهو أنسب. وانظر: "4/ 212".(3/514)
ثُمَّ اسْتَدْرَكَ الْبَيَانَ الْمُنْتَظَرَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 26] نَفْيًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أُنْزِلَ بِقَصْدِ الْإِضْلَالِ لِقَوْمٍ وَالْهِدَايَةِ لِقَوْمٍ، أَيْ: هُوَ هُدًى كَمَا قَالَ أَوَّلًا {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 2] ، لَكِنَّ الْفَاسِقِينَ1 يَضِلُّونَ بِنَظَرِهِمْ إلى غيرهم الْمَقْصُودِ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، كَذَلِكَ هُوَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى صَوْبِ الْحَقِيقَةِ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ مِنْ أَجْلِهِ، وَهَذَا الْمَكَانُ يُسْتَمَدُّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى2، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ صَارَتِ النِّعَمُ نِعَمًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَكَوْنُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَخْذِهِمْ لَهَا عَلَى غَيْرِ الصَّوْبِ الْمَوْضُوعِ فِيهَا، وَذَلِكَ مَعْنَى الْقَصْدِ الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ هُوَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ3؛ فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَادِمٌ لِمَا يُضَادُّ الْمَطْلُوبَ الْفِعْلِ؛ صَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا قَطْعُ الزَّمَانِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ قَصْدٌ ينتظر حصوله منه على الخصوص؛ فسماع4 الْغِنَاءُ الْمُبَاحُ مَثَلًا لَيْسَ بِخَادِمٍ لِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ وَلَا حَاجِيٍّ وَلَا تَكْمِيلِيٍّ، بَلْ قَطْعُ الزَّمَانِ بِهِ صَدٌّ عَمًّا هُوَ خَادِمٌ5 لِذَلِكَ؛ فَصَارَ خَادِمًا لِضِدِّهِ.
وَوَجْهٌ ثَانٍ: أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اللَّهْوِ الَّذِي سَمَّاهُ الشَّارِعُ بَاطِلًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} [الْجُمُعَةِ: 11] ، يَعْنِي: الطبل أو المزمار أو الغناء.
__________
1 في "ط": "الفاسقون".
2 حيث تقرر فيها أن الإرادة جاءت على معنيين: قدرية، وأمرية، وأنه تعالى أعان أهل الطاعة؛ فجاء فعلهم على وفق الإرادتين، ولم يعن أهل المعصية؛ فجاء فعلهم على وفق الأولى فقط، وتقدم له إشارة إليه آنفًا في قوله: "وكل بقضاء الله وقدره". "د".
3 أي: وإن كان لا حرج في جزئيه بالقصد الثاني، بل قد يكون مطلوبًا بهذا القصد. "د".
4 هكذا في الأصل، وفي غيره: "فصار".
5 لم يقل: "صد عن هذه الأمور الثلاثة"؛ لأنه لو كان كذلك لكان منهيًّا عنه بالجزء أيضًا لا بالكل فقط، وإنما هو معطل للمباحات الأخرى من طريق الكسب وغيرها، الخادمة للمراتب الثلاثة، فيكون خادمًا لضد هذه المراتب، فكان مذمومًا بالقصد الأول. "د".(3/515)
[أَوِ اللَّعِبَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لُقْمَانَ: 6] ، وَهُوَ الْغِنَاءُ] ، وَقَالَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِلدُّنْيَا: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} 1 الْآيَةَ [مُحَمَّدٍ: 36] . وَفِي الْحَدِيثِ: "كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِلَّا ثَلَاثَةً2"3. فَعَدَّهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ إِلَّا الثَّلَاثَةُ، فَإِنَّهَا4 لَمَّا كَانَتْ تَخْدِمُ أَصْلًا ضَرُورِيًّا أَوْ لَاحِقًا بِهِ؛ اسْتَثْنَاهَا، وَلَمْ يَجْعَلْهَا بَاطِلًا.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ لَمْ يَقَعِ الِامْتِنَانُ بِهِ، وَلَا جَاءَ فِي مَعْرِضِ تَقْرِيرِ النِّعَمِ كَمَا جَاءَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ؛ فَلَمْ يَقَعِ امْتِنَانٌ بِاللَّهْوِ مِنْ حَيْثُ [هُوَ] 5 لَهْوٌ، وَلَا بِالطَّرَبِ وَلَا بِسَبَبِهِ6 مِنْ جِهَةِ مَا يُسَبِّبُهُ، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ العائدة
__________
1 فاللهو ذكر في هذه الآية في معرض الذم، وقد جعل الطبل وما معه في الآية السابقة من اللهو، فيكون الطبل وما معه مما هو في معرض الذم في نظر الشارع بالقصد الأول. "د".
2 تقدم أنها الزوجة والفرس وآلات الرمي.
3 الحديث صحيح بشواهده، كما بينته فيما مضى "1/ 202"، ولله الحمد.
4 في الأصل: "لأنها".
5 زيادة من الأصل و"م" و"ط".
6 أي: والامتنان بالثلاثة المذكورة وأمثالها ليس من جهة أنها لهو، بل من جهة ما فيها من الفائدة الخادمة للنسل كما في الأول، أو للدين كما في غيره، فانظر إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} الآية [الروم: 21] ، وقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ، وقد فسرت القوة ببعض ما تنطلق عليه من رمي النبل، وما وقع فيه من الفائدة، وإن كان ظاهره من اللهو، لكنه لما جرت به محاسن العادات، ففيها التزاوج، وتأديب الخيل، وتعلم الرماية، أما قسم الغناء وما معه، فإنه خارج عن العادات المستحسنة، ويمكن أن يعتبر قوله: "وهو على وفق ... إلخ" وجهًا آخر مستأنفًا؛ كأنه يقول: وأيضًا؛ فإن ما فيه الفائدة المذكورة جارٍ على وفق محاسن العادات، بخلاف هذا القسم فخارج عنها، وهذا دليل على ذمه بالقصد الأول، وإن كان ظاهر كلامه أنه من الوجه الثالث؛ إلا أنه يبقى الكلام في ضابط محاسن العادات وسيئاتها: هل ما يتفق على كونه حسنا في كل أمة وكل وقت، أم ما هو؟ "د".(3/516)
لِخِدْمَةِ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ مَا جَرَى فِي مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا القسم خارج عنها بالجملة.
ويتحقق ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ وُجُوهَ التَّمَتُّعَاتِ هُيِّئَتْ لِلْعِبَادِ أَسْبَابُهَا خَلْقًا وَاخْتِرَاعًا؛ فَحَصَلَتِ الْمِنَّةُ بِهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَا تَجِدُ لِلَّهْوِ أَوِ اللَّعِبِ تَهْيِئَةً تَخْتَصُّ1 بِهِ فِي أَصْلِ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَبْثُوثَةٌ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ جِهَتِهَا تَعَرُّفٌ بِمِنَّةٍ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الْأَعْرَافِ: 32] .
وَقَالَ: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرَّحْمَنِ: 10-22] .
وَقَوْلِهِ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النَّحْلِ: 8] .
إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ2، وَلَا تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ تَعَرُّفَ اللَّهِ إِلَيْنَا بِشَيْءٍ خُلِقَ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حُصُولَ اللَّذَّةِ وَرَاحَةِ النَّفْسِ وَالنَّشَاطِ لِلْإِنْسَانِ مَقْصُودٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَبْثُوثًا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، كَلَذَّةِ الطَّعَامِ، والشراب، والوقاع،
__________
1 أي: لم يخلق شيء ليكون بأصل الخلقة للهو واللعب، ولكن هذين يصرف إليهما ما خلق للفوائد مما يكون قابلًا للتلهي به، ولذلك لم يحصل من جهة اللهو تعرف بالنعم وامتنان بها كما أشار إليه في الآيات، فالأولى جعل الامتنان فيها بإخراج وخلق ما يعدونه زينة لهم، والثانية بذكر الأرض وما فيها من المنافع الغذائية للإنسان، وبالبحرين وأنه يخرج منهما ما به الزينة، ولم يمتن بالتزين بهما، وكذا الآية الثالثة، وقد جعل الزينة فيها تابعة لمنافع الركوب، وهذا كله مما يحقق الوجه الثالث الذي يقول فيه: إنه لم يقع الامتنان باللهو، أي: لأنه إذا لم يخلق شيء يختص بأصل خلقته للهو، فلا يتأتى الامتنان به كذلك. "د".
2 تتميم لقوله: "وَلَا تَجِدُ لِلَّهْوِ أَوِ اللَّعِبِ تَهْيِئَةً تَخْتَصُّ به في أصل الخلق". "د".(3/517)
وَالرُّكُوبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَطَلَبُ هَذِهِ اللَّذَّاتِ بِمُجَرَّدِهَا مِنْ مَوْضُوعَاتِهَا جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُطْلَبْ1 مَا وَرَاءَهَا مِنْ خِدْمَةِ الْأُمُورِ وَنَحْوِهَا، فَلْيَكُنْ جَائِزًا أَيْضًا فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ بِالتَّفَرُّجِ فِي الْبَسَاتِينِ، وَسَمَاعِ الْغِنَاءِ، وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ فِعْلُهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:
- مِنْهَا: بَثُّهَا2 فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ.
- وَمِنْهَا3: أَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَصْدِ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النَّحْلِ: 6] .
وَقَالَ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النَّحْلِ: 8] .
وَقَالَ: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا 4 وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] .
__________
1 وحيث سلمتم أن هذه اللذات ومروحات النفس تقصد وإن لم يقصد معها ما يخدم الضروري، وهي حينما تتجرد عن قصده لا يكون فرق بينها وبين السماع وأنواع اللهو، يلزم أن تسلموا بجوازها وقصدها قصدًا أوليًّا، وبهذا يعلم أنه يصلح دليلًا معارضًا، فانظر لِمَ لَمْ يعده رابعًا مع الثلاثة بعده؟ "د".
2 أي: انتشارها ومصاحبيتها لأنواعه، حتى كأنها ملازمة لها، أي: فحكم الجواز في القسم الأول يكون منصبا عليها أيضًا. "د".
3 معارضة للوجه الثالث. "د".
4 سيأتي له الكلام عليه بما يفيد أن اتخاذهم منه سكرًا ليس من مواضع الامتنان، فلا شأن له بإفادة الحل حتى نحتاج إلى القول بالنسخ كما صنعه بعض المفسرين. "د".
وقال "ف": "السكر: الخمر، وإليه ذهب الجمهور، والآية نزلت بمكة والخمر إذ ذاك كانت حلالًا وتحريمها إنما كان بالمدينة اتفاقا؛ فالآية منسوخة بآية المائدة".
وروي عن ابن عباس أن السكر هو الخل بلغة الحبشة. وعن أبي عبيدة أنه المطعوم المتفكه به.
وعن علماء الحنفية أنه ما لا يسكر من الأنبذة؛ فلا نسخ في الآية.
والرزق الحسن التمر والزبيب وغير ذلك" ا. هـ.(3/518)
وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي معرض الامتنان بالنعم والتجمل بالأموال والتزين1 لها، وَاتِّخَاذُ السَّكَرِ رَاجِعٌ2 إِلَى مَعْنَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ.
- وَمِنْهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِنْ كَانَتْ خَادِمَةً لِضِدِّ الْمَطْلُوبِ بِالْكُلِّ، فَهِيَ خَادِمَةٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ أَيْضًا3؛ لِأَنَّهَا مِمَّا فِيهِ تَنْشِيطٌ وَعَوْنٌ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوِ الْخَيْرِ، كَمَا كَانَ الْمَطْلُوبُ بِالْكُلِّ كَذَلِكَ، فَالْقِسْمَانِ مُتَّحِدَانِ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ اسْتِدْعَاءَ النَّشَاطِ وَاللَّذَّاتِ4 إِنْ كَانَ مَبْثُوثًا5 فِي الْمَطْلُوبِ بِالْكُلِّ؛ فَهُوَ فِيهِ خَادِمٌ للمطلوب بالفعل، وَأَمَّا إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ ذَلِكَ؛ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ، وَهَى مَسْأَلَةُ النِّزَاعِ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ تَكُونَ اللَّذَّةُ وَالنَّشَاطُ فِيمَا هُوَ خَادِمٌ لِضَرُورِيٍّ أَوْ نَحْوِهِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "كُلُّ لهوٍ بَاطِلٌ إِلَّا ثلاثة" 6؛
__________
1 في الأصل: "التزين".
2 بل لا شيء أدخل في باب اللهو من تناول المسكر. "د".
3 أي: وإن كانت خادمةً لضد بعض المطلوب بالكل، فهي خادمة لبعض آخر منه كالعبادة وفعل الخير؛ لما فيها من تنشيط البدن، وراحة النفس من الأتعاب والهموم الموجبة للفتور والكسل عن الأعمال، عبادة وغيرها. "د".
4 في الأصل و"ط": "واللذة".
5 ففرق بين ما يكون استدعاء النشاط تابعًا لخدمة ضروري كما هو القسم الأول وبين ما يكون مجرد لهو، والثاني محل النزاع، والذي يدل لنا الحديثان بعد، ولا يخفى عليك صلاحية هذا الجواب لرد الأدلة الثلاثة المعارضة، بل الأربعة على ما قررناه. "د".
6 الحديث صحيح بشواهده، كما بينته فيما مضى "1/ 202"، ولله الحمد والمنة.(3/519)
فَاسْتَثْنَى مَا فِيهِ خِدْمَةٌ لِمَطْلُوبٍ مُؤَكَّدٍ، وَأَبْطَلَ الْبَوَاقِيَ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلُّوا مَلَّةً؛ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَدِّثْنَا "يَعْنُونَ بِمَا يُنَشِّطُ النُّفُوسَ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} 1 الآية [الزمر: 23] .
__________
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "رقم 13" ثنا حجاج، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 248" من طريق وكيع بن الجراح، كلاهما عن المسعودي عن عون بن عبد الله به.
وسماع وكيع من المسعودي -وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة- بالكوفة قديم قبل اختلاطه، بخلاف سماع حجاج بن محمد الأعور، نص على ذينك الإمام أحمد، كما في "الكواكب النيرات" "ص288، 293".
إلا أن عون بن عبد الله روايته عن الصحابة مرسلة فيما قيل كما في "تهذيب الكمال" "22/ 454"؛ فكيف روايته سبب النزول؟ فهو مرسل، بل معضل بلا شك.
وقد ذكره الواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183" من غير سند.
وأخرج ابن جرير في "التفسير" "23/ 211" بسند ضعيف عن ابن عباس؛ قال: قالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا؟ قال: فنزلت: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} .
وأخرج إسحاق بن راهويه في "المسند" -كما في "المطالب العالية" "3/ 343 وق136/ ب -المسندة"- ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" "2/ 345"، وابن حبان في "الصحيح" "14/ 92/ رقم 6209 - الإحسان"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص182-183": أخبرنا عمرو بن محمد القرشي ثنا خلاد الصفار عن عمرو بن قيس الملائي عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه؛ قال: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسول الله! لو قصصت علينا. فأنزل الله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... } [يوسف: 1-3] ؛ فتلاها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمانًا، فقالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا. فأنزل الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] ، كل ذلك يؤمرون بالقرآن. قال خلاد: وزاد فيه حين قالوا: يا رسول الله! ذكرنا. فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] .
وأخرجه بنحوه ابن جرير في "التفسير" "12/ 90" مختصرًا من طريق محمد بن سعيد =(3/520)
فَذَلِكَ1 فِي مَعْنَى أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ بِالْجِدِّ فِيهِ غَايَةَ مَا طَلَبْتُمْ2 وَذَلِكَ مَا بُثَّ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَالْحِكَمِ، وَالْمَوَاعِظِ، وَالتَّحْذِيرَاتِ، وَالتَّبْشِيرَاتِ الْحَامِلَةِ عَلَى الِاعْتِبَارِ، وَالْأَخْذِ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا فِيهِ النَّجَاةُ وَالْفَوْزُ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَهَذَا خلاف ما طلبوه.
__________
= العطار، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 740" عن الحسين بن عمرو العنقري، والبزار في "المسند" "رقم 86 - مسند سعد و3/ 352-353/ رقم 1153" عن الحسين بن عمرو والحسين بن الأسود وإسماعيل بن حفص، جميعهم عن عمرو بن محمد به.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "المذكر والتذكير" "رقم 24": ثنا حسين بن الأسود به.
قال البزار عقبه: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن سعد [إلا] بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه عن سعد إلا مصعب، ولا عن مصعب إلا عمرو بن مرة، ولا عن عمرو بن مرة إلا عمرو بن قيس، ولا عمر بن قيس إلا خلاد بن مسلم".
قلت: إسناده جيد، رجاله ثقات رجال مسلم، غير خلاد وهو ثقة، وثقة ابن معين في رواية الدوري، وقال في رواية عثمان بن سعيد الدارمي: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: "حديث مقارب".
وأعله الهيثمي في "المجمع" "10/ 219" بالحسين بن عمرو، وقال عنه: "وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات".
والحسين بن عمرو توبع؛ كما يظهر لك من التخريج السابق.
وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "4/ 496" لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وصححه الحاكم/ ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في "المطالب": "هذا حديث حسن"، وفي "ف": "فقال: يا رسول الله! "، والصحيح: "فقالوا"، كما أثبتناه.
1 في "ط": "فكان ذلك".
2 انظره مع قوله: "وهذا خلاف ما طلبوه" لتوقف بينهما، ولعل الفرض بهذا أنه أولى ما يقع طلبكم له؛ كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] ، فأجيبوا إلى خير مما طلبوا، يعني: ولو كان ما طلبوه مما فيه اللهو واللعب مما يقصد شرعًا لأجابهم إليه، ولما ازدادت رغبتهم في طلبهم الأول لم يجبهم إليه مباشرة، بل بما يكون مبثوثًا فيه فقط مع كونه خادمًا لأصل ضروري، وهو الدين. "د".(3/521)
قَالَ الرَّاوِي: "ثُمَّ مَلُّوا مَلَّةً، فَقَالُوا: حَدِّثْنَا شَيْئًا فَوْقَ الْحَدِيثِ وَدُونَ الْقُرْآنِ! فَنَزَلَتْ سُورَةُ يُوسُفَ1" فِيهَا آيَاتٌ وَمَوَاعِظُ، وَتَذْكِيرَاتٌ وَغَرَائِبُ تَحُثُّهُمْ عَلَى الْجِدِّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَتَرُوحُ مَنْ تَعَبِ أَعْبَاءِ التَّكَالِيفِ مَعَ ذَلِكَ؛ فَدُلُّوا عَلَى ما تضمن قصدهم مما هُوَ2 خَادِمٌ لِلضَّرُورِيَّاتِ، لَا مَا هُوَ خَادِمٌ لِضِدِّ ذَلِكَ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: "إِنَّ لِكُلِّ عابد شرة، ولكل شرة فَتْرَةٌ؛ فَإِمَّا إِلَى سُنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ؛ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ 3؛ فَقَدْ هلك" 4.
__________
1 مضى تخريجه في الحديث السابق.
2 كذا في "ط"، وفي الأصل: "هما"، وفي غيرهما: "بما هو".
3 إنما يظهر الشاهد في الحديث على وراية: "ومن كانت فترته إلى غير ذلك"، وهو يشمل اللهو واللعب، وذلك كما هو الواقع أن كثيرًا ممن تشددوا في العبادة حصل لهم بعدها فترة وارتخاء عنها، ثم مالوا إلى اللهو واللعب وملاذ النفوس، والبدعة بالمعنى الذي يحدده لها المؤلف، وهو أنها لا تكون إلا في عبادة ليس لها أصل فيما ورد عن الشارع، إذا أخذ بها في معنى الحديث يبعد أن يكون حكمها حكم اللهو واللعب الذي يقصده كالغناء وما معه الذي هو موضوع كلامنا. "د".
4 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 158، 165، 188، 210"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 88"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 51"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 11 - الإحسان"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "2/ 126/ رقم 1026"، وابن عبد البر في "التمهيد" "1/ 196" عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا، وإسناده صحيح.
وأخرجوه بألفاظ، الأول منها في "مسند أحمد": "إن لكل عابد"، وعند غيره " [إن] لكل عامل"، أو "إن لكل عمل"، وعندهم جميعهم: "شرة" بالراء، وفي الأصول كلها: "شدة" بالدال، وهو خطأ، و"الشرة" هي الحرص على الشيء والرغبة والنشاط، قال الطحاوي: "فوقفنا بذلك على أنها هي الحدة في الأمور التي يريدها المسلمون من أنفسهم في أعمالهم التي يتقربون بها إلى ربهم عز وجل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب منهم فيها ما دون الحدة التي لا بد من القصر عنها والخروج منها إلى غيرها، وأمرهم بالتمسك من الأعمال الصالحة بما قد يجوز دوامهم عليه ولزومهم إياه، حتى يلقوا ربهم عز وجل". =(3/522)
وَأَمَّا آيَاتُ الزِّينَةِ وَالْجَمَالِ وَالسَّكَرِ؛ فَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِيهَا1 لِتَبَعِيَّتِهَا لِأُصُولِ تِلْكَ النِّعَمِ، لَا أَنَّهَا [هِيَ] الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ فِي تِلْكَ النِّعَمِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَمَالَ وَالزِّينَةَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ خَادِمٌ2 لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] .
__________
= وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 2453"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 349"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 89"، وتمام في "الفوائد" "5/ 61-62/ رقم 1669 - ترتيبه" بإسناد جيد.
وعن ابن عباس أخرجه الطحاوي في "المشكل" "2/ 88"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1027"، والبزار، ورجاله رجال الصحيح، كما في "مجمع الزوائد" "2/ 258-259".
1 أي: ذكرت الزينة وما معها في الآيات المذكورة تبعًا لما ذكر فيها من أصول النعم المعتد بها، كالدفء، وحمل الأثقال إلى الجهات البعيدة، وغيرها من المنافع التي أشار إليها هنا إجمالًا، وفصلها في آيات أخرى، كاللبن، والجلود تتخذ منها البيوت، وغير ذلك كما قال فيه: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} [المؤمنون: 21] ، ومما يحقق غرضه أنه مع تكرير ذكر النعم إجمالًا وتفصيلًا لم يذكر الجمال والزينة في الآيات الأخرى، أعني: التي في معرض الامتنان، لا التي مثل آية: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ} [الكهف: 46] ؛ فإن هذه من باب آية: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ، وعدم ذكره في الآيات الأخرى يدل على أنها إنما ذكرت فيما ذكرت فيه تبعًا، وقد عرفت منزلة التابع في المسائل السابقة، هذا ومتى كان نائب فاعل "ذكرت" عائدًا على نفس الزينة وما معها كما قررنا لا على لفظ آيات، فالعبارة مستقيمة لا تحتاج إلى تصحيح. "د".
قلت: يرد "د" في كلامه هذا على "ف"، حيث قال: "لعله فيه -أي: في كتاب الله تعالى-" ا. هـ.
وتابعه "م"، فأثبتها في المتن: "ذكرت فيه"، وقال في الهامش: في "د" ذكرت فيها".
2 أي: وتقدم أن ما كان مبثوثًا فيه، فهو خادم للمطلوب بالفعل. "د".(3/523)
وقوله عليه الصلاة: "إن الله جميل يجب الْجَمَالَ" 1.
"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى 2 أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ" 3.
وَأَمَّا السَّكَرُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النَّحْلِ: 67] ؛ فَنَسَبَ إِلَيْهِمُ اتِّخَاذَ السَّكَرِ وَلَمْ يُحَسِّنْهُ، وَقَالَ: {وَرِزْقًا حَسَنًا} [النَّحْلِ: 67] ؛ فَحَسَّنَهُ.
فَالِامْتِنَانُ بِالْأَصْلِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّصَرُّفُ لَا بِنَفْسِ التَّصَرُّفِ؛ كَالِامْتِنَانِ بِالنِّعَمِ الْأُخْرَى الْوَاقِعِ فِيهَا التَّصَرُّفُ؛ فَإِنَّهُمْ تَصَرَّفُوا بِمَشْرُوعٍ وَغَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَلَمْ يُؤْتَ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ قَطُّ عَلَى طَرِيقِ الِامْتِنَانِ بِهِ كَسَائِرِ النِّعَمِ، بَلْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا} الآية [يونس: 59] ؛ فتفهم هذا.
__________
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، 1/ 93/ رقم 91" عن ابن مسعود رضي الله عنه.
2 أي: فرؤية أثر النعمة مما يخدمها، وقد جعل هذا الحديث وما قبله شاهدًا للمباح بالجزء المطلوب بالكل على جهة الندب، وأنه لو تركه الناس كلهم لكان مكروها، راجع المسألة الثانية في المباح، ومثله هناك بالتمتع بالطيبات من مأكل وملبس ... إلخ". "د".
3 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء أن الله تعالى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، 5/ 123-124/ رقم 2819" -وقال: "هذا حديث حسن"- والطيالسي في "المسند" "رقم 2261"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 51" عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والحديث حسن، وله شواهد كثيرة، منها:
حديث عمران بن حصين أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 438"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 291 و7/ 10"، والطحاوي في "المشكل" "4/ 151"، والحاكم في "المعرفة" "ص161"، والطبراني في "الكبير" "18/ 135"، وابن أبي الدنيا في "الشكر" "رقم 50" بلفظ: "إذا أنعم الله عز وجل على عبده نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، وإسناده صحيح.
وانظر سائر الشواهد في: "المجمع" "5/ 132-133"، و"غاية المرام" "رقم 75".(3/524)
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ؛ فَإِنَّهَا إِنْ فُرِضَ كَوْنُهَا خَادِمَةً لِلْمَأْمُورِ بِهِ فَهِيَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ كَمُلَاعَبَةِ الزَّوْجَةِ، وَتَأْدِيبِ الْفَرَسِ، وَغَيْرِهِمَا، وَإِلَّا؛ فَخِدْمَتُهُمَا لِلْمَأْمُورِ بِهِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، إذ1 كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ الَّذِي لَعِبَ فِيهِ يُمْكِنُهُ فِيهِ عَمَلُ مَا يُنَشِّطُهُ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ كَمُلَاعَبَةِ الزَّوْجَةِ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَرِيحَ بِتَرْكِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَالِاسْتِرَاحَةُ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالنَّوْمِ وَغَيْرِهِ رَيْثَمَا يَزُولُ عَنْهُ كَلَالُ الْعَمَلِ لَا دَائِمًا كُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحَةٌ؛ لِأَنَّهَا خَادِمَةٌ لِلْمَطْلُوبِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ.
أَمَّا الِاسْتِرَاحَةُ إِلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ مِنْ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ؛ فَهُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ جَاءَ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُدَاوَمَةٍ؛ فَقَدْ أَتَى بِأَمْرٍ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ2 خَادِمٌ لِلْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ؛ فَصَارَتْ خِدْمَتُهُ لَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَبَايَنَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ إِذْ جِيءَ فِيهِ بِالْخَادِمِ لَهُ ابْتِدَاءً، وَهَذَا إِنَّمَا جِيءَ فِيهِ بِمَا هُوَ خَادِمٌ لِلْمَطْلُوبِ التَّرْكِ، لَكِنَّهُ تَضَمَّنَ خِدْمَةَ الْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ إِذَا3 لَمْ يُدَاوَمْ عَلَيْهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.
فَصْلٌ
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ تَدْقِيقٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كِلَا الْقِسْمَيْنِ قَدْ تَضَمَّنَ4 ضِدَّ مَا اقْتَضَاهُ فِي وَضْعِهِ الْأَوَّلِ؛ فالواجب العمل على ما
__________
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "إذا"، وكتب "د": "لعل الأصل: "إذ"؛ فهو تعليل لسابقه".
2 أي: النشاط والراحة التي هي خادم لما يطلب فعله من ضروري أو حاجي مثلا؛ أي: فليس خادما للمطلوب الفعل مباشرة، بل بواسطة، ولكنه يخدم مطلوب الترك مباشرة، أما القسم الأول؛ كالأكل، والشرب وتأديب الفرس مثلا؛ فهو خادم لأصل من الأصول مباشرة، فلذلك اختلف حكمهما. "د".
3 فإذا داوم عليه وضيع الوقت فيه؛ لم يكن خدم به شيئًا من المصالح، بل كان مضيعًا لها؛ فلهذا نهي عن الدوام. "د".
4 كما هي عبارته أول المسألة حيث قال فيهما: "وقد يصير مطلوب ... إلخ"، وقوله: "على ما يقتضيه الحال ... إلخ"؛ أي: فإن أدى استعماله إلى تفويت مصلحة نهي عنه، وإلا فلا. "د".(3/525)
يَقْتَضِيهِ الْحَالُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِلْمُبَاحِ أَوْ تَرْكِ الِاسْتِعْمَالِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فِيمَا يَظْهَرُ، إِلَّا تَعْلِيقُ الْفِكْرِ بِأَمْرٍ صِنَاعِيٍّ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْحَزْمِ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ أُمُورٌ1 فِقْهِيَّةٌ، وَأُصُولٌ عَمَلِيَّةٌ.
- مِنْهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُطْلَبُ الْخُرُوجُ عَنْهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ عِنْدَ اعْتِرَاضِ الْعَوَارِضِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفَاسِدِ، وَمَا لَا يُطْلَبُ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَإِنِ اعْتَرَضَتِ الْعَوَارِضُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْمَشْرُوعَةَ بِالْأَصْلِ إِذَا دَاخَلَتْهَا الْمُنَاكِرُ؛ كَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالْمُخَالَطَةِ، وَالْمُسَاكَنَةِ إِذَا كَثُرَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ وَاشْتَهَرَتِ الْمُنَاكِرُ، بِحَيْثُ صَارَ الْمُكَلَّفُ عِنْدَ أَخْذِهِ فِي حَاجَاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي أَحْوَالِهِ لَا يَسْلَمُ فِي الْغَالِبِ مِنْ لِقَاءِ الْمُنْكَرِ أَوْ مُلَابَسَتِهِ؛ فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي الْكَفَّ عَنْ كُلِّ مَا يُؤَدِّيهِ إِلَى هَذَا، وَلَكِنَّ الْحَقَّ يَقْتَضِي أَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنِ اقْتِضَاءِ حَاجَاتِهِ، كَانَتْ مَطْلُوبَةً بِالْجُزْءِ أَوْ بِالْكُلِّ، وَهَى إِمَّا مَطْلُوبٌ بِالْأَصْلِ2، وَإِمَّا خَادِمٌ لِلْمَطْلُوبِ بِالْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ فُرِضَ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ أَدَّى إِلَى التَّضْيِيقِ وَالْحَرَجِ3، أَوْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ فَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ ذلك، لكن مع الكف عما
__________
1 أي: فروع في مسائل متنوعة، وقوله: "وأصول عملية"؛ أي: قواعد كلية تفيد عملا كما سيقول: "فإذا أخذ قضية عامة استمر واطرد". "د".
2 يرجع إلى قوله: "مطلوبة بالجزء"، وما بعده يرجع إلى ما بعده. "د".
3 يرجع إلى قوله: "خادم"، وقوله: "أو تكليف" راجع إلى قوله: "إما مطلوب بالأصل" فإن الحاجي خادم للضروري الذي هو حفظ الحياة في البيع والشراء والمساكنة مثلا، فإن كانت الحاجة إليه لا تصل إلى حفظ الحياة الذي هو ضروري، وكان يتحرج فقط بتركه؛ كان خادمًا للمطلوب الأول. "د".(3/526)
يُسْتَطَاعُ الْكَفُّ عَنْهُ، وَمَا سِوَاهُ؛ فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ لِأَنَّهُ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ1 لَا بِحُكْمِ الْأَصْلِ.
وَقَدْ بَسَطَهُ2 الْغَزَّالِيُّ فِي كِتَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنَ "الْإِحْيَاءِ" عَلَى وَجْهٍ أَخَصَّ3 مِنْ هَذَا، فَإِذَا أَخَذَ قَضِيَّةً عَامَّةً اسْتَمَرَّ وَاطَّرَدَ.
[وَقَدْ] 4 قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ5 فِي مَسْأَلَةِ دُخُولِ الْحَمَّامِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ جَوَازَهُ: "فَإِنْ قِيلَ: فَالْحَمَّامُ دَارٌ يغلب فيها المنكر؛ فدخلوها إِلَى أَنْ يَكُونَ [حَرَامًا] 4 أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا؛ فَكَيْفَ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا؟ قُلْنَا: الْحَمَّامُ مَوْضِعُ تداوٍ وَتَطَهُّرٍ؛ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ النَّهْرِ، فَإِنَّ الْمُنْكَرَ قَدْ غَلَبَ فِيهِ بِكَشْفِ العورات،
__________
1 أي: لضروريه أو حاجيه فقط، ولو كان بحكم الأصل مباحًا لما ألزم بالوقوف عند حد، وقد سماه عفوًا كما سبق له في ذكر مرتبة العفو، وأنها مرتبة غير الأحكام الخمسة، وليست داخلة في المباح.
2 في "ف": "بسط"، واستظهر المثبت، وهو الصواب.
3 لأنه بناه على أن المناكر تأتي من طبيعة المباحات إذا استرسل فيها دون حد، أما هنا؛ فالمناكر التي مثل بها المؤلف عارضة، خارجة عن نفس المباحات، لا دخل للمؤلف في جلبها؛ فهو يقول: "إذا أخذ الموضوع عاما أدخل على المباحات مطلقا ما يقتضي حظرها، سواء أكان من جهتها هي أم كان من عوارض خارجة عنها؛ فإنها تؤخذ بقدر الحاجة في وقت الحاجة، مع التحرز بقدر الاستطاعة من الوقوع في المحظورات دفعا للحرج ولتكليف ما لا يطاق، ويكون ما لابسها من المحظورات من باب العفو". "د".
قلت: قال الغزالي في "إحياء علوم الدين" "2/ 97": "إن أكثر المباحات داعية إلى المحظورات حتى استكثار الأكل واستعمال الطيب للمتعزب؛ فإنه يحرك الشهوة، ثم الشهوة تدعو إلى الفكر، والفكر يدعو إلى النظر، والنظر يدعو إلى غيره ... " إلى أن قال: "وهكذا المباحات كلها، إذا لم تؤخذ بقدر الحاجة في وقت الحاجة مع التحرز من غوائلها بالمعرفة أولا، ثم بالحذر ثانيا؛ فقلما تخلو عاقبتها عن خطر، وكذا كل ما أخذ بالشهوة؛ فقلما يخلو عن خطر" ا. هـ.
4 سقط من "ط".
5 انظر كلامًا له عن الحمام في "عارضة الأحوذي" "10/ 244-246".(3/527)
وَتَظَاهُرِ الْمُنْكَرَاتِ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ الْمَرْءُ دَخَلَهُ، وَدَفَعَ الْمُنْكَرَ عَنْ بَصَرِهِ وَسَمِعَهُ مَا أَمْكَنُهُ، وَالْمُنْكَرُ الْيَوْمَ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُلْدَانِ؛ فَالْحَمَّامُ كَالْبَلَدِ عُمُومًا، وَكَالنَّهْرِ خُصُوصًا. هَذَا مَا قَالَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى1.
وَهَكَذَا النَّظَرُ فِي الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ بِالْأَصْلِ كُلِّهَا، وَهَذَا إِذَا أَدَّى الِاحْتِرَازُ مِنَ الْعَارِضِ لِلْحَرَجِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَيْهِ وَكَانَ فِي الْأَمْرِ الْمَفْرُوضِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ [سِعَةً] 2 كَسَدِّ الذَّرَائِعِ؛ فَفِي الْمَسْأَلَةِ نَظَرٌ، وَيَتَجَاذَبُهَا طَرَفَانِ3؛ فَمَنِ اعْتَبَرَ الْعَارِضَ سَدَّ فِي بُيُوعِ الْآجَالِ وَأَشْبَاهِهَا مِنَ الْحِيَلِ، وَمَنِ اعْتَبَرَ الْأَصْلَ لَمْ يَسُدَّ مَا لَمْ يَبْدُ الْمَمْنُوعُ صُرَاحًا4.
وَيَدْخُلُ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ النَّظَرُ فِي تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ5؛ فَإِنَّ لِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ6 رُسُوخًا حَقِيقِيًّا، وَاعْتِبَارُ غَيْرِهِ تَكْمِيلِيٌّ مِنْ بَابِ التعاون، وهو
__________
1 وقد عقد لهذا المعنى المسألة الثانية عشرة من المباح [1/ 287] ، وفصله هناك تفصيلًا وافيًا. "د".
2 سقط من "ط".
3 إلا أنه في "5/ 199" تمسك بأصل الإباحة، ولم يلتفت إلى التفريق بين المراتب؛ فقال: " ... الْأُمُورَ الضَّرُورِيَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْحَاجِيَّةِ أَوِ التكميلية، إذا اكتنفها مِنْ خَارِجٍ أُمُورٌ لَا تُرْضَى شَرْعًا؛ فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ صَحِيحٌ، عَلَى شَرْطِ التحفظ، بحسب الاستطاعة من غير حرج"، وذكر أمثلة مختلطة، منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما قد يكون من المرتبة الثالثة كشهود الجنائز.
4 فإن ظهر أنه يقع في الممنوع غالبًا أو قطعا، مع فرض المسألة وهو أنه في سعة ليس فيها حرج ولا تكليف ما لا يطاق؛ فإنه لا خلاف في اعتبار المحظور وتقرير حرمة الدخول في هذا المباح. "د".
5 كما في جادة الطريق ونحوها يغلب عليها أن تصيبها النجاسة، لكن الأصل في الأشياء الطهارة؛ فهل تصح الصلاة فيها مع الشك؟ ينبني الحكم بالصحة أو البطلان على الخلاف في ترجيح الأصل على الغالب كما هو رأي مالك، أو العكس كما هو رأي ابن حبيب. "د".
6 في الأصل: "الاعتبار بالأصل".(3/528)
ظَاهِرٌ.
أَمَّا إِذَا1 كَانَ الْمُبَاحُ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ؛ فَعَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، [إِذْ] لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَمِعَ إِلَى الْغِنَاءِ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مُبَاحٌ إِذَا حَضَرَهُ مُنْكِرٌ أَوْ كَانَ فِي طَرِيقِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبِ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا هُوَ خَادِمٌ لِمَطْلُوبِ الْفِعْلِ؛ فَلَا يُمْكِنُ2 وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمُكَلَّفُ حَظَّهُ مِنْهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْكِهِ جُمْلَةً، وَكَذَلِكَ اللَّعِبُ وَغَيْرُهُ.
وَفِي كِتَابِ "الْأَحْكَامِ" بَيَانٌ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي فَصْلِ الرُّخَصِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّحْذِيرِ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا مَعَ عَدَمِ التَّحْذِيرِ مِنِ اجْتِنَابِهَا أَوِ اكْتِسَابِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ حَذَّرَ السَّلَفُ مِنَ التَّلَبُّسِ بِمَا يَجُرُّ إِلَى الْمَفَاسِدِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ أَوْ كَانَ خَادِمًا لِلْمَطْلُوبِ؛ فَقَدْ تَرَكُوا الْجَمَاعَاتِ وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ وَأَشْبَاهَهَا مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَحَضَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ التَّزَوُّجِ وَكَسْبِ الْعِيَالِ؛ لِمَا دَاخَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَاتَّبَعَهَا3 مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ تَرَكَ4 الْجُمُعَاتِ، وَالْجَمَاعَاتِ، وَتَعْلِيمَ الْعِلْمِ، وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ مُخَالَطَةِ النَّاسِ،
__________
1 هذا مقابل قوله: "وذلك أن القواعد المشروعة بالأصل"، وبها ينجلي الفرق. "د".
2 تفريع على النفي، وبيانه أنه لو كان مطلوب الفعل أو خادما له وحضره المنكر وعولنا على المنع منه بسبب ذلك لحصل الحرج بعدم استيفاء المكلف حظه من ذلك المباح؛ فلذا أبيح له الدخول فيه غير مبالٍ بما يلحقه، أما هنا؛ فليس كذلك، فحظه منه كالعدم؛ فلا بد من تركه جملة لما اتصل به من المنكر، فقوله: "فلا بد من تركه" تفريع على قوله: "لأنه غير مطلوب ... إلخ"، ومعنى "لا يمكن" لا يجوز. "د".
3 في "ط": "واستبعها".
4 التحقيق في سبب الترك أنه اعتراه سلس لازمه، وكان لا يحب أن يذكر ذلك للناس؛ لما فيه من رائحة الشكوى من قضاء الله تعالى؛ فليس مما نحن فيه. "د".(3/529)
وَهَكَذَا غَيْرُهُ، وَكَانُوا [عُلَمَاءَ، وَفُقَهَاءَ، وَأَوْلِيَاءَ، وَمُثَابِرِينَ عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ وَطَلَبِ الْمَثُوبَاتِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَهُ دَلِيلٌ فِي الشَّرِيعَةِ؛ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ] 1: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقُطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ" 2، وَسَائِرُ مَا جَاءَ فِي طَلَبِ الْعُزْلَةِ3، وَهَى مُتَضَمِّنَةٌ لِتَرْكِ كَثِيرٍ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ بِالْكُلِّ أَوْ بِالْجُزْءِ نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا، خَادِمًا لِمَطْلُوبٍ أَوْ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ؛ فَكَيْفَ بِالْمُبَاحِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُرَدُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّا إِنَّمَا تَكَلَّمْنَا فِي جَوَازِ الْمُخَالَطَةِ فِي طَلَبِ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ وَغَيْرِهَا4، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ؛ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْنَا مَا هُوَ مَطْلُوبٌ بِالْجُزْءِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَعَرَّضْ5 فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلنَّظَرِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا وَقَعَ التَّحْذِيرُ فِيهِ وَمَا فَعَلَ السَّلَفُ مِنْ ذَلِكَ إنما هو بناء على
__________
1 سقط من "ط".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتن، 1/ 69/ رقم 19" عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وفيه: " ... أن يكون خير مال المسلم غنم ... ".
قال "ف": "شعف الجبال؛ أي: رءوسها، والمراد بمواقع القطر: الأودية والصحاري".
3 كما تراه في كتاب "العزلة" للخطابي، و"الرسالة المغنية في السكون ولزوم البيوت" لابن البناء البغدادي "ت471هـ"، و"الأمر بالعزلة في آخر الزمان" لابن الوزير "ت 840هـ"، وكلها مطبوعة.
4 أي: من الحاجية، وهي التي يؤدي الكف عنها إلى ضيق وحرج. "د".
قال "ف": "ولعله: لا عن غيرها، فتأمل".
5 انظره في قوله: "لَا بُدَّ لَهُ مِنِ اقْتِضَاءِ حَاجَاتِهِ كَانَتْ مطلوبة بالجزء أو بالكل"، قوله: "وَهَكَذَا النَّظَرُ فِي الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ بِالْأَصْلِ كُلِّهَا"، وجعله ما فيه السعة محل نظر، يجري فيه الخلاف في سد الذرائع ومسألة تعارض الأصل والغالب، وهل يقال: إن الحاجات الضرورية ليست مما يطلب بالجزء، وكذلك الحاجية المؤدية إلى الضيق والحرج الفادح. "د".(3/530)
مُعَارِضٍ أَقْوَى فِي اجْتِهَادِهِمْ مِمَّا تَرَكُوهُ، كَالْفِرَارِ مِنَ الْفِتَنِ، فَإِنَّهَا فِي الْغَالِبِ قَادِحَةٌ فِي أُصُولِ1 الضَّرُورِيَّاتِ، كَفِتَنِ سَفْكِ الدِّمَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَاطِلِ، [أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ] ، أَوْ لِلْإِشْكَالِ الْوَاقِعِ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ بِالتَّلَبُّسِ، مَعَ الْمَفْسَدَةِ الْمُنْجَرَّةِ بِسَبَبِهِ، أَوْ تَرْكِ2 وَرِعِ الْمُتَوَرِّعِ يَحْمِلُ عَلَى نَفْسِهِ مَشَقَّةً يَحْتَمِلُهَا، وَالْمَشَقَّاتُ تَخْتَلِفُ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ؛ فَكُلُّ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِنَا عَلَى حَالٍ.
فَصْلٌ
- وَمِنْهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَنْقَلِبُ بِالنِّيَّةِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ طَاعَةً وَمَا لَا يَنْقَلِبُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا خَادِمًا لِمَأْمُورٍ بِهِ تُصُوِّرَ فِيهِ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْوِقَاعَ وَغَيْرَهَا تَسَبَّبَ فِي إِقَامَةِ مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُتَنَاوَلِ فِي الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا مِنَ اللَّذَّةِ وَالطِّيبِ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ يُعْتَدُّ بِهِ إِلَّا فِي أَخْذِهِ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ؛ فَإِذَا أَخَذَ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ؛ فَهُوَ الْمُبَاحُ بِعَيْنِهِ، وَإِذَا أَخَذَ مِنْ جِهَةِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ؛ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْكُلِّ3 لِأَنَّهُ فِي الْقَصْدِ الشرعي خادم للمطلوب،
__________
1 أما الجمعة والجماعات؛ فمن مكملات إقامة الدين، لما فيها من إظهار أبهة الإسلام وقوة أهله إلى آخر ما سبق. "د".
2 عطف في المعنى على قوله: "للإشكال"؛ أي: أو كان الترك لورع المتورع يحمل نفسه مشقة يطيقها هو وإن لم يطقها كثير من الناس، لا أن ذلك بسبب أنهم لا يقولون بجواز الدخول في المباحات المذكورة؛ فيصح أن يكون "ترك" فعلا مبنيًّا للمجهول؛ أي: ترك ما ذكر لأجل ورع المتورع من هؤلاء. "د". وفي "ط": "ترك ورع لمتورع".
3 بمراجعة المسألتين الثانية والثالثة من المباح يتضح المقام، ويعلم أن كون المباح مطلوبًا بالكل لا يتوقف على أخذه من جهة الإذن كما هو ظاهر العبارة، وأن المباح المطلوب بالكل لا بد أن يكون خادمًا لمطلوب، وأنه يوصف الفعل بِكَوْنِهِ مُبَاحًا إِذَا اعْتُبِرَ فِيهِ حَظُّ الْمُكَلَّفِ فقط؛ حتى يكون أخذًا له من جهة اختياره وإرادته لا غير، وأن الحظ على ضربين: فما كان داخلا تَحْتَ الطَّلَبِ؛ فَلِلْعَبْدِ أَخْذُهُ مِنْ جِهَةِ الطَّلَبِ ولا يفوته حظه، والثاني غير داخل تحت الطلب كالسماع وأنواع اللهو؛ فلا يتأتى أخذه إلا من جهة اختياره وحظه، ويعلم أيضا أن قوله: "فهو مطلوب بالكل" ليس حمل موطأة يقصد منه التعريف، بل المراد أنه لا يتأتى أن يؤخذ من جهة الإذن إلا إذا كان مما يدخل تحت الطلب بالكل، يعني: ومتى أخذ كذلك بريء من الحظ وخرج عن كونه مباحًا إلى كونه طاعة. "د".(3/531)
وَطَلَبُهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ قَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ صَحَّ فِي الْمُبَاحِ الَّذِي هُوَ خَادِمُ الْمَطْلُوبِ1 الْفِعْلِ انْقِلَابُهُ طَاعَةً؛ إِذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا قَصْدَ الْأَخْذِ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْإِذْنِ، وَأَمَّا مَا كَانَ خَادِمًا لِمَطْلُوبِ التَّرْكِ، فَلَمَّا كَانَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ بِالْكُلِّ؛ لَمْ يَصِحَّ2 انْصِرَافُهُ إِلَى جِهَةِ الْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْإِذْنِ وَقَدْ فُرِضَ عَدَمُ الْإِذْنِ فِيهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا أُخِذَ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ؛ فَلَيْسَ بِطَاعَةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ أَنْ يَنْقَلِبَ طَاعَةً؛ فَاللَّعِبُ مَثَلًا لَيْسَ فِي خِدْمَةِ الْمَطْلُوبَاتِ كَأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَشُرْبِهَا؛ فَإِنَّ هَذَا دَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي جِنْسِ الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا دَارَ بِهَا، بِخِلَافِ اللَّعِبِ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي جِنْسِ مَا هُوَ ضِدٌّ لَهَا، وَحَاصِلُ هَذَا الْمُبَاحِ أَنَّهُ مِمَّا لَا حَرَجَ فِيهِ خَاصَّةً، لَا أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ كَالْمُبَاحِ حَقِيقَةً، وَقَدْ مَرَّ3 بَيَانُ ذَلِكَ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ مَسْأَلَةُ السَّمَاعِ الْمُبَاحِ؛ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ يَنْقَلِبُ بِالْقَصْدِ طَاعَةً، وَإِذَا عُرِضَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَبَيَّنَ الْحَقُّ4 فيه إن شاء
__________
1 في الأصل و"ط": "للمطلوب".
2 لأنه إنما كان يصح انصرافه إليه لو كان يخدمه، مع أنه إنما يخدم ضده، وأيضا إنما ينصرف إليه لو كان داخلًا تحت الطلب "أي الكلي"، ومعلوم أنه مطلوب الترك بالكل، وحينئذ؛ فلا يتأتى أخذه من جهة الإذن حتى يبرأ من الحظ؛ فينقلب طاعة. "د".
3 أي: في المسألة الرابعة من المباح. "د".
4 أي: وأنه غير معقول انقلابه طاعة؛ لأنه من قسم المنهي عنه بالكل؛ فلا يتأتى أن ينظر إليها بأخذ المكلف له من حيث طلب الشارع له لأنه لم يطلبه جزئيًّا، وهو ظاهر، ولا كليًّا؛ لأنه منهي عنه. "د".(3/532)
اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا سَلَّمَنَا أَنَّ الْخَادِمَ لِمَطْلُوبِ التَّرْكِ مَطْلُوبُ التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ فَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ يَصِيرُ مَطْلُوبَ الْفِعْلِ بِالْقَصْدِ الثاني، فاللعب والغناء ونحوهما إِذَا قُصِدَ بِاسْتِعْمَالِهَا التَّنْشِيطُ عَلَى وَظَائِفِ الْخِدْمَةِ وَالْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ؛ فَقَدْ صَارَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ طَاعَةً؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَنْقَلِبُ بِالنِّيَّةِ طَاعَةً؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ اعْتِبَارَ وَجْهِ النَّشَاطِ عَلَى الطَّاعَةِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ لَعِبٌ أَوْ غِنَاءٌ، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا تَضَمَّنَ مِنْ ذَلِكَ، لَا1 بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ اسْتَوَى مَعَ النَّوْمِ مَثَلًا، وَالِاسْتِلْقَاءُ عَلَى الْقَفَا، وَاللَّعِبُ مَعَ الزَّوْجَةِ، فِي مُطْلَقِ الِاسْتِرَاحَةِ، وَبَقِيَ اخْتِيَارُ كَوْنِهِ لَعِبًا عَلَى الْجُمْلَةِ أَوْ غِنَاءً تَحْتَ حُكْمِ اخْتِيَارِ الْمُسْتَرِيحِ فَإِذَا أَخَذَهُ مِنِ اخْتِيَارِهِ فَهُوَ سَعْيٌ فِي حَظِّهِ؛ فَلَا طَلَبَ، وَإِنْ أَخْذَهُ مِنْ جِهَةِ الطَّلَبِ؛ فَلَا طَلَبَ2 فِي هَذَا الْقِسْمِ كَمَا تَبَيَّنَ.
وَلَوِ اعْتُبِرَ3 فِيهِ مَا تَضَمَّنَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي؛ لَمْ يَضُرَّ الْإِكْثَارُ مِنْهُ وَالدَّوَامُ عَلَيْهِ، وَلَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ خِدْمَةَ المطلوب الفعل، فكأن
__________
1 أي: لم يكن اعتبار للغناء بالقصد الأول، بل باعتبار ما تضمنه من الراحة المعينة على فعل الخير، أما هو نفسه؛ فليس معينًا بل صادًّا عن المطلوب. "د".
2 أي: بالقصد الأول المعتد به، يعني: ولا طاعة بدون طلب شرعي؛ لأنها امتثال أمر الشارع. "د".
3 أي: لو اعتبر ما تضمنه بالقصد الثاني، واعتد به في نظر الشارع حتى يكون مطلوبًا؛ فيؤخذ من جهة الطلب فينقلب طاعة، لو كان كذلك ما نهى الشارع عن استدامته؛ لأنه يكون حينئذ خادمًا لمطلوب الشارع، والواقع والفرض أنه خادم لضده مباشرة، ومطلوب الترك بالكل؛ فهذا يدل على أن ما تضمنه بالقصد الثاني لا ينقله إلى الطاعة. "د". وفيه سقط من "ط".(3/533)
يَكُونَ مَطْلُوبَ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، هَذَا خُلْفٌ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ هَذَا شَبِيهًا بِفِعْلِ الْمَكْرُوهِ طَلَبًا لِتَنْشِيطِ النَّفْسِ عَلَى الطَّاعَةِ؛ فَكَمَا أَنَّ الْمَكْرُوهَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يَنْقَلِبُ طَاعَةً كَذَلِكَ [مَا كَانَ] 1 فِي مَعْنَاهُ أَوْ شَبِيهًا بِهِ.
فَصْلٌ
- وَمِنْهَا: بَيَانُ وَجْهِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُنَاسٍ بِكَثْرَةِ الْمَالِ، مَعَ عِلْمِهِ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِيهِ؛ كَقَوْلِهِ لِثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ: "قَلِيلٌ تُؤَدِي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ" 2، ثُمَّ دَعَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَيَقُولُ الْقَائِلُ: لَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ يَضُرُّ بِهِ فلمَ دَعَا لَهُ؟ وَجَوَابُ هَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ دُعَاءَهُ لَهُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فِي الِاكْتِسَابِ أَوْ أَصْلِ3 الطَّلَبِ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي دُعَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ.
وَمِثْلُهُ التَّحْذِيرُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ مَعَ أَصْلِ مَشْرُوعِيَّةِ الِاكْتِسَابِ لَهُ4 كَقَوْلِهِ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ". قِيلَ5 وَمَا بَرَكَاتُ الْأَرْضِ؟ قَالَ: "زَهْرَةُ الدُّنْيَا". فَقِيلَ: هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَقَالَ: "لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ" 6 الْحَدِيثَ.
وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فأعطاني،
__________
1 سقط من "ط".
2 الحديث ضعيف جدًّا؛ كما بينته بإسهاب في التعليق على "2/ 448".
3 في "ط": "وأصل".
4 في "ط": "مشروعية اكتسابه".
5 في "ط": "قال".
6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس عليها، 11/ 244/ رقم 6427" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
قال "ف": "أي أنه في نضارته كثمرة حلوة المذاق خضرة اللون".(3/534)
[ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي] ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ هَذَا المال خضرة حلوة" 1 الْحَدِيثَ، وَقَالَ: "الْمُكْثِرُونَ هُمُ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 2 الْحَدِيثَ.
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا أَشَارَ بِهِ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ أَصْلِ الِاكْتِسَابِ الْمُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ، وَلَا عَنِ الزَّائِدِ عَلَى مَا فَوْقَ الْكِفَايَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْمَقْصُودَ فِي الْمَالِ شَرْعًا مَطْلُوبٌ، وَإِنَّمَا الِاكْتِسَابُ خَادِمٌ لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ الِاكْتِسَابُ مِنْ أَصِلِهِ حَلَالًا إِذَا رُوعِيَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ، كَانَ صَاحِبُهُ مَلِيًّا أَوْ غَيْرَ مَلِيٍّ، فَلَمْ يُخْرِجْهُ النَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهِ عَنْ كَوْنِهِ مَطْلُوبًا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ أَصْلِيٌّ، وَالنَّهْيُ تَبَعِيٌّ؛ فَلَمْ يَتَعَارَضَا، وَلِأَجْلِ هَذَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَعْمَلُونَ فِي جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي دُنْيَاهُمْ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.
والفوائد المبنية عليها كثيرة.
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1472"، ومسلم في "صحيحه" كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، 2/ 717/ رقم 1035" عن حكيم بن حزام رضي الله عنه مرفوعًا.
وما بين المعقوفتين سقط من "م"، وفي "د" تكرر مرة رابعة.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاستقراض، باب أداء الديون، 5/ 54-55/ رقم 2388" عن أبي ذر مرفوعا بلفظ: "إن الأكثرين هم الأقلون؛ إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ... ".
وأخرجه أحمد في "المسند" "2/ 391" باللفظ الذي أورده المصنف عن أبي هريرة مرفوعًا. وفي "ط": "هم المقلون".(3/535)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِي التَّأْكِيدِ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الطَّلَبِ الْفِعْلِيِّ أَوِ التَّرْكِيِّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنِ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَالْمَفَاسِدِ النَّاشِئَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ.
وَعَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يُتَصَوَّرُ انْقِسَامُ الِاقْتِضَاءِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَهِيَ: الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالتَّحْرِيمُ.
وَثَمَّ اعْتِبَارٌ آخَرُ لَا يَنْقَسِمُ فِيهِ ذَلِكَ الِانْقِسَامِ، بَلْ يَبْقَى الْحُكْمُ تَابِعًا لِمُجَرَّدِ الِاقْتِضَاءِ، وَلَيْسَ لِلِاقْتِضَاءِ إِلَّا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ.
وَالْآخَرُ: اقْتِضَاءُ التَّرْكِ.
فَلَا فَرْقَ فِي مُقْتَضَى الطَّلَبِ بَيْنَ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ، وَلَا بَيْنَ مَكْرُوهٍ وَمُحَرَّمٍ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ جَرَى عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْأَحْوَالِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِمَّنِ اطَّرَحَ مُطَالَبَ الدُّنْيَا جُمْلَةً، وَأَخَذَ بِالْحَزْمِ وَالْعَزْمِ فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ؛ إِذْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ فِي الْعَمَلِ بِهِمَا، وَلَا بَيْنَ مَكْرُوهٍ وَمُحَرَّمٍ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِمَا، بَلْ رُبَّمَا أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَنْدُوبِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى السَّالِكِ، وَعَلَى الْمَكْرُوهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ عَدُّوا الْمُبَاحَاتِ مِنْ قَبِيلِ الرُّخَصِ كَمَا مَرَّ1 فِي أَحْكَامِ الرُّخَصِ، وَإِنَّمَا أَخَذُوا هذا المأخذ من طريقين:
__________
1 في الإطلاق الرابع للرخصة، وهو أن كل ما كان توسعة على العباد مطلقًا؛ فهو رخصة، والعزيمة هي الأولى التي نبه عليها بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَاتِ: 56] ؛ فالأصل أنهم ملك، وليس لهم عليه من حق ولا حظ، بل عليهم التوجه الكلي لعبادته، وترك كل ما يشغل عنها حتى من المباحات؛ فالإذن لهم في نيل حظوظهم رخصة وتوسعة. "د".(3/536)
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ، وَهُوَ رَأْيُ مَنْ1 لَمْ يَعْتَبِرْ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي إِلَّا مُجَرَّدَ الِاقْتِضَاءِ، وَهُوَ2 شَامِلٌ لِلْأَقْسَامِ كُلِّهَا، وَالْمُخَالَفَةُ فِيهَا كُلُّهَا مُخَالَفَةٌ لِلْآمِرِ وَالنَّاهِي، وَذَلِكَ قَبِيحٌ شَرْعًا، دَعِ الْقَبِيحَ عَادَةً، وَلَيْسَ3 النَّظَرُ هُنَا فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مِنْ ذَمٍّ أَوْ عِقَابٍ، بَلِ النَّظَرُ إِلَى مُوَاجَهَةِ الْآمِرِ بِالْمُخَالَفَةِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ بَالَغَ فِي الْحُكْمِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ حَتَّى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، وَعَدَّ كُلَّ مُخَالَفَةٍ كَبِيرَةً، وَهَذَا رَأْيُ أَبِي الْمَعَالِي فِي "الْإِرْشَادِ"؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَرَ الِانْقِسَامَ إِلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُخَالَفَةِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي، وَإِنَّمَا صَحَّ عِنْدَهُ الِانْقِسَامُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَالَفَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي، وَمَا رَآهُ يَصِحُّ فِي الِاعْتِبَارِ4.
وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وله اعتبارات:
__________
1 هو أبو منصور الماتريدي، قال: إن صيغة الأمر للطلب أي ترجيح الفعل على الترك، وعزاه في "الميزان" [1/ 207] إلى شيوخ سمرقند، وقالوا في النهي ما قالوه في الأمر؛ فيكون معناه طلب الكف أي ترجيح الترك على الفعل، وقوله: "الآمر" بصيغة اسم الفاعل كما يدل عليه تقريره بعد ومقابلته في الطريق الثاني بقوله: "من جهة معنى الأمر"؛ إلا أن قوله: "وهو رأي ... إلخ" يتوقف على أن أبا منصور إنما ذهب إلى أنه موضوع للطلب بناء على اعتباره جهة الأمر، وهو يحتاج إلى نص منه؛ إلا أن يقال: معناه أنه يوافق هذا الرأي. "د".
2 أي: الاقتضاء؛ لأنه الطلب بلا شرط شيء. "د".
3 أي: وإلا لجاء الفرق بين المكروه والحرام، وعدنا إلى التقسيم باعتبار تفاوت المفسدة الناشئة عن المخالفة، وقوله: "بهذا الاعتبار"؛ أي: مواجهة الآمر بالعصيان والمخالفة، والمعقول أنه باعتبار الآمر لا فرق. "د".
قلت: وفي "ف": " ... عادة وشرعًا، وليس ... "، وقال: "كذا بالأصل ولعل كلمة "وشرعًا" زائدة، والمعنى: اترك القبح العادي ولا تنظمه في سلك البيان؛ فإنه مفروغ منه ومسلم" ا. هـ.
4 انظر تعليق ابن القيم وبيانه مراد أبي المعالي في "مدارج السالكين" "1/ 315 - ط الفقي". وكلام أبي المعالي في "الإرشاد" "ص328 - ط أسعد تميم".(3/537)
أَحَدُهَا: النَّظَرُ إِلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ بِمُقْتَضَاهَا؛ فَإِنَّ امْتِثَالَ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابَ النَّوَاهِي مِنْ حَيْثُ هِيَ تَقْتَضِي التَّقَرُّبَ مِنَ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ، كَمَا أَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَقْتَضِي ضِدَّ ذَلِكَ؛ فَطَالِبُ الْقُرْبِ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَبَيْنَ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَقْتَضِيهِ حَسْبَمَا دَلَّتْ1 عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ، كَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَقْتَضِي نَقِيضَ الْقُرْبِ، وَهُوَ إِمَّا الْبُعْدُ، وَإِمَّا الْوُقُوفُ عَنْ زِيَادَةِ الْقُرْبِ، وَالتَّمَادِي فِي الْقُرْبِ هُوَ الْمَطْلُوبُ؛ فَحَصَلَ مِنْ تِلْكَ2 أَنَّ الْجَمِيعَ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ فِي قَصْدِ التَّقَرُّبِ وَالْهَرَبِ عَنِ الْبُعْدِ.
وَالثَّانِي: النَّظَرُ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ [عِنْدَ الِامْتِثَالِ، وَضِدُّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ مَرَّ أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ] 3؛ فَالْبَانِي عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ لَا يَفْتَرِقُ عِنْدَهُ طَلَبٌ مِنْ طَلَبٍ، كَالْأَوَّلِ4 فِي الْقَصْدِ إِلَى التَّقَرُّبِ.
وَأَيْضًا5؛ فَإِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ فِي مراتب الأوامر والنواهي راجعا إلى تكميل6 خَادِمٍ، وَمُكَمِّلٍ مَخْدُومٍ، وَمَا هُوَ كَالصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ؛ فمتى حصلت
__________
1 كما سيأتي في الحديث بعد التقرب بهما معًا، وقد أخر المكروه والحرام عن قوله: "حسبما دلت عليه الشريعة"، مع أنه سيأتي له في الأحاديث التي يذكرها بعد ما يدل عليه، فلو قدمه عليه ليكون راجعا للجميع؛ لكان أظهر. "د".
2 في "ط": "ذلك".
3 سقط من "ط".
4 أي: كالتقرير الذي قرر به الاعتبار الأول؛ فالكل إما طلب مصلحة أو درء مفسدة. "د".
5 وجه ثانٍ مبني على الاعتبار الثاني، ومحصله أن المندوب مآله إلى أنه خادم مكمل للواجب، وهذا مخدوم مكمل به، وأنه معه كالصفة للموصوف، ولا تكمل الواجبات إلا بالمندوبات؛ فالحكم على الموصوف يسري على الوصف بلا تمييز بينهما. "د".
6 في "م": "مكمل".(3/538)
الْمَنْدُوبَاتُ كَمُلَتِ الْوَاجِبَاتُ، وَبِالضِّدِّ، فَالْأَمْرُ1 رَاجِعٌ إِلَى كَوْنِ الضَّرُورِيَّاتِ آتِيَةً عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا؛ فَكَانَ الِافْتِقَارُ إِلَى الْمَنْدُوبَاتِ كَالْمُضْطَرِّ إِلَيْهِ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، فَزَاحَمَتِ الْمَنْدُوبَاتُ الْوَاجِبَاتِ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الِافْتِقَارِ؛ فَحُكِمَ عَلَيْهَا بِحُكْمٍ وَاحِدٍ.
وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يُنْظَرُ فِي الْمَكْرُوهَاتِ مَعَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ رَائِدًا لَهَا2 وَأُنْسًا بَهَا؛ فَإِنَّ الْأُنْسَ بِمُخَالَفَةِ مَا يُوجِبُ3 بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ الْأُنْسَ بِمَا فَوْقَهَا؛ حَتَّى قِيلَ4: "الْمَعَاصِي بَرِيدُ الكفر".
__________
1 أي: المسمى في عرف غير هؤلاء طلبًا غير جازم أو مندوبًا هو منصب في الحقيقة على الواجب معتبرًا فيه الكمال، ويصح أن يكون مراده أن الأمر مطلقًا سواء تعلق في ظاهر اللفظ بالواجب أو بالمندوب مآله قصد تأدية الواجبات على وجهها الأكمل، وهو لا يتحقق إلا بالواجب والمندوب معًا. "د".
2 تمهد لها وتسهل على النفس حصولها، كما يمهد الرائد لمن وراءه، ومتى تمرنت النفس على المخالفة الخفيفة جرؤت على أكبر منها؛ كما في حديث البخاري: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده"؛ أي: فلا يزال يترقى من سرقة أمثال هذه الأمور التافهة حتى يسرق الأمور التي يتقطع فيها يده. "د".
قلت: والحديث الذي أورده الشارح أخرجه البخاري في "صحيحه" "12/ 81/ رقم 6783، 6799"، ومسلم في "صحيحه" "3/ 1314/ رقم 1687" عن أبي هريرة، ومضى تخريحه "2/ 39".
وفي "ط": "رائدًا إليها"، وفي الأصل و"ف": "رائدًا عليها"، وقال "ف": "الأنسب رائدًا لهم من راد لهم الكلأ يروده رودًا، وهو رائد؛ أي: طالب به لأجلهم؛ فكذا المكروهات هنا كأنها تطلب المحرمات وتسعى إليها".
3 في الأصل: "فإن الإنسان بمخالفة توجب"، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
4 أسنده البيهقي في "الشعب" "5/ 44/ رقم 7223" إلى أبي جعفر بن حمدان عن أبي حفص به، ونسبها ابن القيم في "مدارج السالكين" "1/ 425 - ط الفقي" إلى بعض السلف، وتكلم عليها بما يشفي ويغني.(3/539)
وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 14] .
وَتَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ1.
وَحَدِيثُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ...." 2 ... إلخ.
__________
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ، رقم 3334، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 418"، و"التفسير" "2/ 505/ رقم 678"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، رقم 4244"، وأحمد في "المسند" "2/ 297"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 87 و30/ 62"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 517"، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 210/ رقم 930 - الإحسان"، والبيهقي في "الشعب" "5/ رقم 7203"، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه في "تفاسيرهم" -كما في "الدر المنثور" "6/ 325"- بإسناد حسن عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت نكته سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب؛ صقلت قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه؛ فهو الران الذي ذكره الله {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ".
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الذهبي في "المهذب" -فيما نقل المناوي في "فيض القدير"-: "إسناده صالح".
قال "د": "ومعنى ران على قلبه: غطاه، أي: فالمعاصي الرائنة على قلوبهم كانت سببا في شقائهم بالكفر، وهذا وإن كان غير ما نحن فيه إلا أنه تقريب للموضوع، وهو أن الأنس بالمخالفة يعد النفس لما فوقها، وإن كانت الآية في الحرام المؤدي إلى الكفر، لا في المكروه المؤدي إلى الحرام، أما الحديثان بعد؛ فدليلان على كلا النظرين السابقين برمتهما، فالقرب والمصلحة وتكميل الواجب في حديث: "ما تقرب إليَّ عبدي"، والبعد والمفسدة وخدمة الحرام في حديث: "الحلال بين"؛ فعليك بالتأمل حتى لا تحتاج إلى الإطالة.
2 مضى تخريجه "ص306"، وهو في "الصحيحين".(3/540)
فَقَوْلُهُ1: "كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ 2 أَنْ يَقَعَ فِيهِ" 3
وَفِي قِسْمِ الِامْتِثَالِ قَوْلُهُ: "وَمَا تَقَرَّبَ إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عَلَيْهِ" 4 الْحَدِيثَ.
وَالثَّالِثُ: النَّظَرُ إِلَى مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ بِالشُّكْرَانِ أَوْ بِالْكُفْرَانِ، مِنْ حَيْثُ كَانَ امْتِثَالُ الأوامر واجتناب النواهي شكرانا على الإطلاق، وكان خلاف ذلك كفرانا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا كَانَتِ النِّعْمَةُ عَلَى الْعَبْدِ مَمْدُودَةً مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْفَرْشِ بِحَسَبِ الِارْتِبَاطِ الْحُكْمِيِّ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الْجَاثِيَةِ: 13] .
وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إِبْرَاهِيمَ: 32-34] .
وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
فَتَصْرِيفُ النِّعْمَةِ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ شُكْرَانٌ لِكُلِّ نِعْمَةٍ وَصَلَتْ إِلَيْكَ، أَوْ
__________
1 إما أن يكون خبره محذوفًا يدل عليه سابق الكلام كما أشرنا إليه، وإما أن يكون الأصل هكذا: "إلى آخر قوله"، والأول غير مألوف في تأليفه". "د".
2 أي: فكثيرًا ما يكون عدم الورع بارتكاب المشتبه فيه سببا للوقوع في محرم، حيث يكون المشتبه فيه؛ إما مكروهًا، أو خلاف الأولى فقط. "د".
3 قطعة من حديث النعمان بن بشير، المتقدم "ص306"، وهو في "الصحيحين".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقاق، باب التواضع، 11/ 340-341/ رقم 6502"، وغيره عن أبي هريرة ضمن حديث إلهي.
قال "د": "فأنت ترى النوافل كملت الفرائض حتى أوصلت العبد إلى هذه الدرجة محبة الله وما تفرع عليها".(3/541)
كَانَتْ سَبَبًا فِي وُصُولِهَا إِلَيْكَ، وَالْأَسْبَابُ الْمُوَصِّلَةُ ذَلِكَ إِلَيْكَ لَا تَخْتَصُّ بِسَبَبٍ دُونَ سَبَبٍ وَلَا خَادِمٍ دُونَ خَادِمٍ؛ فَحَصَلَ شُكْرُ النِّعَمِ الَّتِي فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَتَصْرِيفُهَا فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ كُفْرَانٌ لِكُلِّ نِعْمَةٍ وَصَلَتْ إِلَيْكَ أَوْ كَانَتْ سَبَبًا فِيهَا كَذَلِكَ أَيْضًا.
وَهَذَا النَّظَرُ ذَكَرَهُ الْغَزَّالِيُّ فِي "الْإِحْيَاءِ"1، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَمْرٍ وَأَمْرٍ وَلَا [بَيْنَ] نَهْيٍ وَنَهْيٍ؛ فَامْتِثَالُ كُلِّ أَمْرٍ شُكْرَانٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمُخَالَفَةُ كُلِّ أَمْرٍ كُفْرَانٌ على الإطلاق، ثم أَوْجُهٌ أُخَرُ يَكْفِي مِنْهَا مَا2 ذُكِرَ، وَهَذَا النَّظَرُ3 رَاجِعٌ إِلَى مُجَرَّدِ اصْطِلَاحٍ لَا إِلَى مَعْنًى يُخْتَلَفُ فِيهِ؛ إِذْ لَا يُنْكِرُ أَصْحَابُ هذا النظر انقسام الأوامر والنواهي كما يقوله4 الْجُمْهُورُ بِحَسَبِ التَّصَوُّرِ5 النَّظَرِيِّ، وَإِنَّمَا أَخَذُوا فِي نَمَطٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ يُقَالُ لَهُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَاتِ: 56] أَنْ يَقُومَ بِغَيْرِ التَّعَبُّدِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي مَرَاتِبِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي يُشْبِهُ الْمَيْلَ إلى مساحة الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ فِي طَلَبِ حُقُوقِهِ، وَهَذَا غَيْرُ لائق بمن لا يملك لنفسه شيئًا فِي6 الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ حَقٌّ عَلَى السَّيِّدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَبْدٌ، بَلْ عَلَيْهِ بَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَالرَّبُّ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.
فَصْلٌ
وَيَقْتَضِي هَذَا النَّظَرُ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ مُخَالَفَةٍ تَحْصُلُ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الشَّارِعِ قَبِيحَةٌ شَرْعًا؛ ثَبَتَ أَنَّ المخالف
__________
1 انظر: "4/ 88".
2 في "ط": "لما".
3 أي: الذي بنى عليه هذه المسألة كلها وهو الاعتبار الصوفي. "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "يقول".
5 أو كما قال في صدر المسألة: "بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنِ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ". "د".
6 في "د": "لا في ... ".(3/542)
مَطْلُوبٌ بِالتَّوْبَةِ عَنْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ1 أَوِ النَّهْيِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ نَاقَضَتِ التَّقَرُّبَ، أَوْ مِنْ حَيْثُ نَاقَضَتْ وَضْعَ الْمَصَالِحِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ كُفْرَانًا لِلنِّعْمَةِ.
وَيَنْدَرِجُ هُنَا الْمُبَاحُ عَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ حَيْثُ جَرَى عِنْدَهُمْ مَجْرَى الرُّخَصِ، وَمَذْهَبُهُمُ الْأَخْذُ بِالْعَزَائِمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ الرُّخَصِ فِيمَا اسْتَطَاعَ الْمُكَلَّفُ؛ فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُبَاحِ مَرْجُوحٌ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِذَا كَانَ مَرْجُوحًا؛ فَالرَّاجِحُ الْأَخْذُ بِمَا يُضَادُّهُ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرَكُ شَيْءٍ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ مُخَالَفَةٌ؛ فَالنُّزُولُ إِلَى الْمُبَاحِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُخَالَفَةٌ2 فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُخَالَفَةً فِي الْحَقِيقَةِ.
وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يُتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ في اليوم سبعين مرة".3
__________
1 المناسب للطريق الأول في كلامه أن يقول: "مخالفة الأمر والنهي"، كما يناسب أن يزيد بعد قوله: "ناقضت وضع المصالح"؛ فيقول: "أو من حيث لم يأتِ بالفرائض على كمالها المطلوب" ليكون تفريعًا على الشق الثاني من الاعتبار الثاني من الطريق الثاني". "د".
2 أي: فيحتاج هذا المباح إلى التوبة. "د". وفي "ط": "الوجه مخالف".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الدعوات: باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة، 11/ 101/ رقم 6307" عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "والله؛ إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".
وأخرجه بلفظ المصنف النسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 431" عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي آخره "مائة مرة".
وأخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، 4/ 2075-2076" عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: "يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة".(3/543)
وَقَوْلُهُ: "إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ" الْحَدِيثَ1.
وَيَشْمَلُهُ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النُّورِ: 31] .
وَلِأَجْلِهِ أَيْضًا جَعَلَ الصُّوفِيَّةُ بَعْضَ مَرَاتِبِ الْكَمَالِ إِذَا اقْتَصَرَ السَّالِكُ عَلَيْهَا دُونَ مَا فَوْقَهَا نَقْصًا وَحِرْمَانًا؛ فَإِنَّ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا فَوْقَ مَا تقضيه الْمُرَتَّبَةُ الَّتِي دُونَهَا، وَالْعَاقِلُ لَا يَرْضَى بِالدُّونِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِالِاسْتِبَاقِ إِلَى الْخَيِّرَاتِ مُطْلَقًا، وَقُسِّمَ الْمُكَلَّفُونَ إِلَى أَصْحَابِ الْيَمِينِ [وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ وَالسَّابِقِينَ، وَإِنْ كَانَ السَّابِقُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ] 2، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ 3، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}
__________
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منة، 4/ 2075" عن الأغر المزني مرفوعًا: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".
وأخرجه من حديثه أيضًا أحمد في "المسند" "4/ 260"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب في الاستغفار، رقم 1515"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 442"، والطبراني في "الكبير" "رقم 888، 889".
ومعنى "ليغان" ما قاله "ف": "أي: ليغطى عليه، من قولهم: غين على الرجل كذا أي: غطى عليه".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من "ف" و"ط" و"م"، وسقط من الأصل و"د".
3 أي: وهم السابقون كما قال في أول السورة: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10-11] ؛ فالمقربون لهم روح وريحان وجنة نعيم، ولم نضف مثل ذلك لأصحاب اليمين، وإنما اضاف إليهم السلامة من العذاب من جهة أنهم من أصحاب اليمين؛ فدل على تفاوت مراتب الكمال وفضل السابقين المقربين مع أن الكل من أصحاب اليمين، هذا بالنظر للآية التي جمع فيها أصحاب اليمين مع السابقين الذين هم المقربون، وإن كان أسند في أول السورة إلى أصحاب اليمين أنهم: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 28-29] إلى آخر النعم التي أعدها لهم. "د".(3/544)
الْآيَةَ: [الْوَاقِعَةِ: 88-89] ؛ فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتَجَارُوا فِي مَيْدَانِ1 الْفَضَائِلِ، حَتَّى يَعُدُّوا مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي ازْدِيَادٍ نَاقِصًا، وَمَنْ لَمْ يُعَمِّرْ أَنْفَاسَهُ بَطَّالًا2.
وَهَذَا مَجَالٌ لَا مَقَالَ فِيهِ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا نَبَّهَ حَدِيثُ النَّدَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ3،
__________
1 في الأصل: "ميزان"، وفي "ط": "يتجاوزوا في الميدان".
2 في الأصل: "باطلًا".
3 أخرج الترمذي في "جامعه" "أبواب الزهد، باب منه، 4/ 603-604/ رقم 2403"، وابن عدي في "الكامل" "7/ 2660"، والدارمي في "السنن" "رقم 11"، وابن الشجري في "الأمالي" "2/ 35"، والبغوي في "التفسير" "4/ 247"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 178" بإسناد ضعيف فيه يحيى بن عبيد الله عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما من أحد يموت إلا ندم؛ إن كان محسنًا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم ألا يكون نزع"، قال "د": "وبتطبيقه على عبارته تجد تفاوتا في المعنى؛ فالحديث فيه الندم لكل شخص عند موته، وأما كون ذلك يوم القيامة للجميع دفعة؛ فيحتاج إلى دليل غير هذا الحديث، وأيضًا معنى "نزع" غير معنى "أحسن"؛ فلعله اطلع على غير هذا الحديث، أما الأخذ بالمعنى في هذا؛ فلا يصح الجواب به لأنه يشترط فيه اتحاد المعنى وإن لم يكن مستوفيًا لجميع مضمون الحديث، ومع ذلك؛ فحديث الترمذي بنفسه كاف في غرضه".
قلت: حسرة أهل النار يوم القيامة ثابتة واردة في القرآن، أما أهل الجنة؛ فورد في ذلك أحاديث مرفوعة، أصرحها ما أخرجه الخطيب البغدادي في "تالي التلخيص" "رقم 164 – بتحقيقي" بسنده إلى معاذ بن جبل رفعه: "ما يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت لم يذكروا الله فيها".
وإسناده ساقط، فيه عبد الله بن الحسين المصيصي، قال ابن حبان: "يسرق الأخبار ويقلبها، لا يحتج بما انفرد به".
وأصحها ما أخرجه أحمد "2/ 463"، وابن حبان "2322 – موارد" عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما قعد قوم مقعدًا لا يذكرون الله عز وجل ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة، وإن دخلوا الجنة للثواب"، وإسناده صحيح.
وأخرج نحوه أبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" "321"، والنسائي في "الكبرى" –كما في "تحفة الأشراف" "3/ 349"، والقاضي إسماعيل في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" "55" عن أبي سعيد الخدري، وتمام التخريج تجده في تعليقي على "جلاء الأفهام" لابن القيم.(3/545)
حَيْثُ تَعُمُّ الْخَلَائِقَ كُلَّهُمْ؛ فَيَنْدَمُ الْمُسِيءُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَحْسَنَ، وَالْمُحْسِنُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدِ ازْدَادَ إِحْسَانًا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إِثْبَاتٌ لِلنَّقْصِ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ لَا نَقْصَ فِيهَا.
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِإِثْبَاتِ نَقْصٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتٌ رَاجِحٌ وَأَرْجَحُ، وَهَذَا مَوْجُودٌ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَنَّةَ مِائَةُ دَرَجَةٍ1، وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِهَا2 فِي الْأَكْمَلِيَّةِ وَالْأَرْجَحِيَّةِ، وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُم} [البقرة: 253] .
[وقال: {فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض} [الْإِسْرَاءِ: 55] 3.
وَمَعْلُومٌ أَنْ لَا نَقْصَ فِي مَرَاتِبِ النُّبُوَّةِ؛ إِلَّا أَنَّ الْمُسَارَعَةَ فِي الْخَيْرَاتِ تَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ بِأَقْصَى الْمَرَاتِبِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَادَةً، فَلَا يَلِيقُ بِصَاحِبِهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى مَرْتَبَةٍ دُونَ مَا فَوْقَهَا؛ فَلِذَلِكَ قد تستنقص النفوس الإقامة ببعض
__________
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الجهاد، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، 6/ 11/ رقم 2790، وكتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، 13/ 404/ رقم 7423" ضمن حديث طويل عن أبي هريرة، فيه: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ... ".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، 6/ 320/ رقم 3256"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يُرى الكوكب في السماء، 4/ 2177/ رقم 2831" عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم".
3 سقط من "ط".(3/546)
الْمَرَاتِبِ مَعَ إِمْكَانِ الرُّقِيِّ، وَتَتَحَسَّرُ إِذَا رَأَتْ شُفُوفَ1 مَا فَوْقِهَا عَلَيْهَا، كَمَا يَتَحَسَّرُ أَصْحَابُ النَّقْصِ حَقِيقَةً إِذَا رَأَوْا مَرَاتِبَ الْكَمَالِ؛ كَالْكُفَّارِ، وَأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا فَضَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دُورِ الْأَنْصَارِ وَقَالَ: "فِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ" 2. قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! خُيِّر دُورُ الْأَنْصَارِ فجُعِلنا3 آخِرًا. فَقَالَ: "أَوْ لَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْخِيَارِ؟ " 4.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "قَدْ فَضَّلَكُمْ على كثير" 5.
فهذا يشير إلى رُتَبَ الْكَمَالِ تَجْتَمِعُ فِي مُطْلَقِ الْكَمَالِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَرَاتِبُ أَيْضًا؛ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، والله أعلم.
__________
1 أي: فضل ما فوقها عليها زيادة ما هو فيه من نعمة وخير. "ف".
2 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثيرة، منها "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789، 3790"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949-1950/ رقم 2511" عن أبي سعيد الساعدي رضي الله عنه مرفوعًا.
وفي الباب عن أبي حميد كما سيأتي قريبًا. وفي "ط": "وفي كل ... ".
3 الرواية كما في البخاري في مناقب الأنصار بصيغة المبني للمجهول في خير وجعل، وهذا هو ما يقتضيه سياق الكلام، لا بصيغة الأمر كما في أصل النسخة؛ أي: فمع أنهم من الخيار لم يقنعوا بذلك، ولم يرضوا بمرتبة دون ما فوقها، وبهذا صح الاستدلال به على فضل تطلب المراتب العالية. "د". وفي هذا رد على "ف" حيث قال: "ولعله واجعلنا" طلب المفاضلة، ولو بجعله آخرًا". وضبط ناسخ "ط": "خير" بفتح الخاء المعجمة، وسكون الياء آخر الحروف.
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3791"عن أبي حميد الساعدي به.
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789" عن أبي أسيد مرفوعًا، وهو قطعة من الحديث قبل السابق.(3/547)
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: "حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ"1 رَاجِعٌ2 إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وهو ظاهر [فيه] 3، والله أعلم.
__________
1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته "التوبة" "ص45" بعد كلام: "وبهذا يعرف قول من قال: "حسنات الأبرار سيئات المقربين"، مع أن هذا اللفظ ليس محفوظًا عمن قوله حجة؛ لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإنما هو كلام وله معنى صحيح، وقد يحمل على معنى فاسد.
أما معناه الصحيح؛ فوجهان:
أحدهما: أن الأبرار يقتصرون على أداء الواجبات وترك المحرمات، وهذا الاقتصار سيئة في طريق المقربين، ومعنى كونه سيئة أن يخرج صاحبه عن مقام المقربين؛ فيحرم درجاتهم، وذلك مما يسوء من يريد أن يكون من المقربين؛ فكل من أحب شيئًا وطلبه إذا فاته محبوبه ومطلوبه ساءه ذلك؛ فالمقربون يتوبون من الاقتصار على الواجبات، لا يتوبون من نفس الحسنات التي يعمل مثلها الأبرار، بل يتوبون من الاقتصار عليها، وفرق بين التوبة من فعل الحسن وبين التوبة من ترك الأحسن والاقتصار على الحسن.
الثاني: أن العبد قد يؤمر بفعل يكون حسنًا منه؛ إما واجبًا، وإما مستحبًّا لأن ذلك مبلغ علمه وقدرته، ومن يكون أعلم منه وأقدر لا يؤمر بذلك، بل يؤمر بما هو أعلى منه، فلو فعل هذا ما فعله الأول كان ذلك سيئة"، ثم قال بعد أن ذكر أمثلة:
"وأما المعنى الفاسد؛ فأن يظن الظان أن الحسنات التي أمر الله بها أمرًا عاما يدخل فيه الأبرار ويكون سيئات للمقربين، مثل من يظن أن الصلوات الخمس ومحبة الله ورسوله والتوكل على الله وإخلاص الدين لله ونحو ذلك هي سيئات في حق المقربين؛ فهذا قول فاسد غلا فيه قوم من الزنادقة المنافقين المنتسبين إلى العلماء والعباد؛ فزعموا أنهم يصلون إلى مقام المقربين الذي لا يؤمرون فيه بما يؤمر به عموم المؤمنين من الواجبات، ولا يحرم عليهم ما يحرم على عموم المؤمنين من المحرمات؛ كالزنا، والخمر، والميسر، وكذلك زعم قوم في أحوال القلوب التي يؤمر بها جميع المؤمنين أن المقربين لا تكون هذه حسنات في حقهم، وكلا هذين من أخبث الأقوال وأفسدها".
2 أي: يعتبرها المقربون سيئات لنقص رتبتها عن مراتب فوقها، وهو من هذا الباب. "د".
3 سقط من "ط".(3/548)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَطْلُوبَةِ مَا هُوَ حَقٌّ1 لِلَّهِ [وَمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ وَأَنَّ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ فَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ] 2 كَمَا أَنَّ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ وَعَلَى ذَلِكَ يَقَعُ التَّفْرِيعُ هُنَا بِحَوْلِ اللَّهِ؛ فَنَقُولُ: الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي يُمْكِنُ أَخْذُهَا امْتِثَالًا مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدًا3 عَنِ النَّظَرِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَمَعْنَى ذلك أن المكلف إذا سمع مثلًا بقول اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آلِ عِمْرَانَ: 97] ؛ فَلِامْتِثَالِهِ هَذَا الْأَمْرَ مَأْخَذَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمُتَدَاوَلُ أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى [قُدْرَتِهِ عَلَى] قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَإِلَى زَادٍ يَبْلُغُهُ، وَإِلَى مَرْكُوبٍ يَسْتَعِينُ بِهِ، وَإِلَى الطَّرِيقِ إِنْ كَانَ مَخُوفًا أَوْ مَأْمُونًا، وَإِلَى اسْتِعَانَتِهِ بِالرُّفْقَةِ وَالصُّحْبَةِ لِمَشَقَّةِ الْوَحْدَةِ وَغَرَرِهَا4، وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُعُودُ عَلَيْهِ فِي قَصْدِهِ بِالْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوْ بِالْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا حَصَلَتْ لَهُ أَسْبَابُ السفر وشروطه العاديات؛ انتهض للامتثال،
__________
1 أي: صرف، والله غني عنه؛ فهو راجع إلى مصلحة العباد دنيا أو أخرى، وهو العبادات والتحليل والتحريم وحفظ الضروريات الخمس وغير ذلك، ومنها ما كان حقا لله والعبد، ولكن حق الله مغلب؛ كحفظ النفس؛ إذ ليس للعبد إسلام نفسه للقتل، وَالثَّالِثُ مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الْحَقَّانِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مغلب؛ كالعتق للعبد مثلا، هذا ولكنه في التفريع أجمل، ومع كونه أطلق في العبادات أنها حق الله؛ فإنه هنا جعل شروط الوجوب من حق المكلف، وهذا معقول. "د".
2 سقط من "ط".
3 أي: فلا يعتبر حق العبد مطلقًا بجانب حق الله، بل كأنه ليس للعبد حق أصلًا، ولا يقال: إنه تتعارض الأوامر التعلقة بحق الله تعالى حينئذ مع الأوامر المتعلقة بحق العبد؛ لأن هذه تعتبر رخصًا والأولى عزائم، ولا تعارض بينهما. "د".
4 في "د": "وغرورها".(3/549)
وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ عَلِمَ أَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَنْحَتِمْ1 عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِ وُرُودِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، غَافِلًا وَمُعْرِضًا2 عَمَّا سِوَى ذَلِكَ فَيَنْتَهِضُ إِلَى الامتثال كيف أمكنه، لا يثنه عَنْهُ إِلَّا الْعَجْزُ الْحَالِيُّ3 أَوِ الْمَوْتُ آخِذًا لِلِاسْتِطَاعَةِ4 أَنَّهَا بَاقِيَةٌ مَا بَقِيَ مِنْ رَمَقِهِ بَقِيَّةٌ، وَأَنَّ الطَّوَارِقَ5 الْعَارِضَةَ وَالْأَسْبَابَ الْمُخَوِّفَةَ لَا توازي عظمة أمر الله فتسقط، أَوْ لَيْسَتْ بِطَوَارِقَ وَلَا عَوَارِضَ فِي مَحْصُولِ الْعَقْدِ الْإِيمَانِيِّ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ.
وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
فَأَمَّا الْمَأْخَذُ الْأَوَّلُ: فجارٍ عَلَى اعْتِبَارِ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ مَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الاستطاعة المشروطة راجع إليها6.
__________
1 أي: إذا نظر في تحقق شروط الوجوب في نفسه وعدم تحققها ولم يجدها متحققة، أو بعضها عرف أن الطلب لم ينحتم، يعني: ولكنه لا يزال متوجهًا بدليل أنه إذا عالج الذهاب للحج مثلًا حتى أداه صح وكان طاعة، ولا يكون كذلك إلا والطلب الأصلي متوجه، ويكون عدم إثمه بعدم الفعل رخصة، وإن كانت بالمعنى الأعم؛ لأن قيام السبب لحكم الوجوب ليس كاملًا. "د".
2 في "ط": "أو معرضًا".
3 أي: الحاصل بالفعل، لا ما يطرأ في تقديره باعتبار؛ فقد بعض الشروط والأسباب العادية. "د".
4 هو حال من فاعل ينتهض والمعنى معتبرًا وملاحظا أن الاستطاعة باقية ما بقي فيه رمق. "ف".
5 لعلها: "الطوارئ" بالهمز؛ فإنها بالقاف من الطرق أو الطروق وهو القدوم ليلًا مثلًا لا تناسب، وكثيرًا ما تقدمت في كلامه بالهمز لا بالقاف، وقوله: "أو ليست بطوارئ" نظر أرقى مما قبله. "د".
6 فكأن الحق لله في هذه العبادة يثبت حتما عند استيفاء شروطها، فإذا لم تستوفِ؛ كان من حق العباد التخلي عنها. "د". وفي "ط": "في الاستطاعة راجع في الاستطاعة المشروعة راجع إليها".(3/550)
وَأَمَّا الثَّانِي؛ فجارٍ عَلَى إِسْقَاطِ اعْتِبَارِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ1 مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْإِسْقَاطِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَأْخَذِ أَشْيَاءُ:
أَحَدُهَا: مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْعَبْدِ التَّعَبُّدُ بِإِطْلَاقٍ، وَأَنَّ عَلَى اللَّهِ ضَمَانُ الرِّزْقِ، كان ذلك مع تعاطي الأسباب أو لا2؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذَّارِيَاتِ: 56-57] .
[وَقَوْلُهُ] 3: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] .
فَهَذَا وَاضِحٌ فِي أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعِبَادِ؛ فَالْمُقَدَّمُ حَقُّ اللَّهِ، فَإِنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مَضْمُونَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالرِّزْقُ مِنْ أَعْظَمِ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَاقْتَضَى الْكَلَامُ أَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ4 بِعِبَادَةِ اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ الرِّزْقِ، وَإِذَا ثَبَتَ هذا
__________
1 في المسألة السابعة من الأسباب، وأن ذلك لصاحب الحال الذي يغلب عليه أن الأسباب والمسببات بيد الله، وأنه لا أثر مطلقا لهذه الأسباب، ويغفل عن العادة الموضوعة في الأسباب. "د".
2 تقدم في المسألة الثانية من الأسباب أن قوله تعالى: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه: 132] ، وأمثاله مما ضمن فيه الرزق ليس راجعًا إلى التسبب، بل إلى الرزق المتسبب فيه، ولو كان المراد التسبب؛ لما طلب المكلف بتكسب عَلَى حَالٍ، وَلَوْ بِجَعْلِ اللُّقْمَةِ فِي الْفَمِ أو ازدراع الحب ... إلخ، لكن ذلك باطل باتفاق، وقوله: "فهذا واضح ... إلخ" هو من الخفاء بمكان؛ لأنه أين التعارض في الآيتين، وأين الترجيح بعد ما قال سابقا: إن ضمان الرزق لا شأن له بالتسبب كما عرفت؟ وكما سيأتي لنا في الدليل الثالث في آية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ} [طه: 132] .
3 سقط من "ط".
4 يعني: دون أن يدخل في الأسباب الموضوعة لذلك، لكن أين هذا من الآيات ولم يكن في الآيات تعليق؟ ولو ضمنيًّا يقتضي أن تترك الأسباب رأسًا؛ فيأتي الرزق بمجرد الاشتغال بالعبادة والواقع والذي تدل عليه الأدلة الشرعية أنه لا رابطة بين الرزق والإيمان، فضلًا عن سائر الطاعات، =(3/551)
فِي الرِّزْقِ؛ ثَبَتَ فِي غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمَصَالِحِ الْمُجْتَلَبَةِ وَالْمَفَاسِدِ الْمُتَوَقَّاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْجَمِيعِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 1 [يُونُسَ: 107] .
وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْأَنْعَامِ: 71] .
وَقَالَ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2 [الطَّلَاقِ: 3] بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطَّلَاقِ: 2-3] .
فَمَنِ اشْتَغَلَ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى؛ فَاللَّهُ كَافِيهِ، وَالْآيَاتُ في هذا المعنى كثيرة.
__________
= بل ربما كان الآمر بالعكس، وأن سعة الرزق لغير المؤمنين، ويدل عليه حديث عمر: "ادع الله أن يوسع على أمتك"، فقال له: "أفي شك أنت يابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم ... " إلخ، وأما آيه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3] ؛ فمحل الجزاء قوله: {مِنْ حَيْثُ} كما يدل عليه الحديث في قصة رجل أشجع المتقدمة في المسألة الثانية في الرخص، وسيأتي لنا كلام آخر في الدليل الثالث يتعلق بهذا المبحث. "د".
1 أي: أيُّ ضر وأيُّ خير أراده لك؟! فليس لغيره دفعه عنك ولا جلبه إليك، لا يغالبه أحد، هذا ظاهر، ولكنه كلفنا فيما وضع له أسبابًا بالأخذ فيها وإن لم يكن لها تأثير في الفعل. "د".
2 نعم، وقد ورد "اعقلها وتوكل"*، و: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا" **؛ فالطير التي شبه بها من يتوكل نهاية التوكل تأخذ في الأسباب فتغدو وتروح؛ فلا منافاة بين التوكل واعتقاد أن الأسباب لا أثر لها رأسا، وأنه تعالى خالق السبب والمسبب معًا مع امتثال الأمر بالأخذ في السبب. "د".
__________
* انظر تخريجه "1/ 304".
** انظر تخريجه "1/ 303".(3/552)
وَالثَّانِي: مَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُعْطُوكَ شَيْئًا لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ لَكَ؛ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنْ يَمْنَعُوكَ شَيْئًا كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ؛ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ" 1 الْحَدِيثَ؛ فَهُوَ كُلُّهُ نَصٌّ فِي تَرْكِ الِاعْتِمَادِ2 عَلَى الْأَسْبَابِ، وَفِي الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ وَالْأَمْرِ بطاعة الله.
__________
1 أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في "الكبير" "11/ 223/ رقم 11560"، والبيهقي في "الأسماء" "رقم 126" من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
وأخرجه من حديث ابن عباس أيضًا بلفظ مقارب: الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 667/ 2516" –قال: "حسن صحيح"- وأحمد في "المسند" "1/ 293، 307"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 430/ رقم 2556"، والطبراني في "الدعاء" "رقم 41-43" و"الكبير" "11/ 123/ رقم 11243"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 541، 542"، والآجري في "الشريعة" "198"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 634"، وابن السني في "عمل اليوم الليلة" "رقم 427"، والبيهقي في "الشعب" "1/ 148" و"الآداب" "رقم 1073"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 314" من طرق عن ابن عباس، وبعضها فيه ضعف.
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "1/ 460-461": "وقد رُوي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غفرة، وابن أبي مليكة، وغيرهم، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي، كذا قاله ابن منده وغيره". وانظر: "فتح الباري" "11/ 492"؛ ففيه شواهد أخرى للحديث، وهو صحيح.
2 ترك الاعتماد على الأسباب ليس تركًا للأسباب؛ لأن الاعتماد عليها عند المؤمن معناه النظر إليها بأنها إن لم تكن لا يوجد الله المسبب، كما هو مجرى العادة، وعدم الاعتماد عليها بهذا المعنى لا ينافي الأخذ بها امتثالًا للأمر مع إغفال مجرى العادة، كما هو دأب من يغلب عليهم شهود التوحيد في الأفعال. "د".(3/553)
وَأَحَادِيثُ الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ1؛ كَقَوْلِهِ: "اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَد مِنْكَ الْجَدُّ" 2.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي ابْنِ صَيَّادٍ: "إِنْ يَكُنْهُ؛ فَلَا تُطِيقُهُ" 3.
وَقَالَ: "جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ" 4.
وَقَالَ: "لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا، وَلِتَنْكِحَ فإن لها
__________
1 أي: وغيرهما؛ فالحديثان الأولان فيهما، والباقي في أمور أخرى تتعلق بالقدر أيضًا. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، 2/ 325/ رقم 844، وكتاب الرقاق، باب ما يكره من قيل وقال، 11/ 306/ رقم 6473" مختصرًا و"كتاب الاعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال، 13/ 264/ رقم 7292"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، 1/ 414-415/ رقم 593" عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مرفوعًا.
قال "ف": "الجَد؛ بالفتح: الغنى والحظ، ومنك معناه عندك، أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، وإنما ينفعه عمله بالطاعات كما قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] " ا. هـ.
3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، 4/ 2240/ رقم 2924" عن عبد الله بن مسعود بلفظ: "إن يكن الذي ترى؛ فلن تستطيع قتله".
وأخرجه "4/ 2244/ رقم 2930" عن عمر بلفظ: "إن يكنه فلن تسلط عليه".
قال "د": "أي: إنه مهما كان لديك من قوة السبب والقدرة على قتل مثله فلن تقتله؛ لأن ما في قدر الله ليس كذلك".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل والخصاء، 9/ 117/ رقم 5076" عن أبي هريرة؛ قال: قلت: يا رسول الله! إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت له مثل ذلك؛ فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة! ... " وذكره.(3/554)
مَا قُدِّرَ لَهَا" 1.
وَقَالَ فِي الْعَزْلِ: "وَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا هِيَ كَائِنَةٌ" 2.
وَفِي الْحَدِيثِ: "الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ [اللَّهُ] 3.
وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ من الزنى أدرك ذلك لا محالة" 4.
__________
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب القدر، باب {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} ، 11/ 494/ رقم 6601"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك، 2/ 1033/ رقم 1413" عن أبي هريرة مرفوعًا.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العتق، باب من ملك من الأعراب رقيقا ... 5/ 170/ رقم 2542، وكتاب النكاح، باب العزل، 9/ 305/ رقم 5210"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب حكم العزل، 2/ 1061/ رقم 1438" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب القدر، باب المعصوم من عصم الله، 11-501/ رقم 6611، وكتاب الأحكام، باب بطانة الإمام وأهل مشورته، 13/ 189/ رقم 7198" عن أبي سعيد مرفوعًا، ونصه: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفته؛ إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمر بالمعروف وتخضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه؛ فالمعصوم من عصم الله تعالي". وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 29، 88" وغيره. وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الاستئذان، باب زنى الجوارح دون الفرج، رقم 6243، وكتاب القدر، باب {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} ، رقم 6612"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القدر القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره، 4/ 2046/ رقم 2657" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال "د": "وهو وما قبله من الأحاديث التي تذكر في باب القدر، وهو مقام آخر غير طلب التسبب المطلوب في العبادات والعادات، ولذلك لما ورد معناها على الصحابة فهموا منها ترك الأسباب، وقالوا: أفلا نتكل؟ قال عليه الصلاة والسلام: "اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له" 1، فلماذا تأتي بها دليلًا على خصوص ترك الأسباب في العادات مع أنها عامة كما ترى؟ ولو أخذت كذلك؛ لوقف التسبب في الطاعات أيضًا، وبالجملة؛ فالمأخذان المذكوران غير ظاهرين لأنهما في مقام آخر لا ينافي الأخذ بالأسباب" "د".
__________
1 انظر تخريجه: "1/ 334".(3/555)
إِلَى سَائِرِ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَصْلَ الْأَسْبَابِ التَّسَبُّبُ، وَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَا تَرُدُّ شَيْئًا، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُعْطِي وَالْمَانِعُ، وَأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ هِيَ الْعَزِيمَةُ الْأُولَى.
وَالثَّالِثُ: مَا ثَبَتَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ [وَسَلَامُهُ] 1؛ فَقَدَّمُوا طَاعَةَ اللَّهِ عَلَى حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ، فَقَدْ قَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى تفطرت2 قدماه.
__________
1 زيادة من الأصل.
2 الشواهد التي ساقها المؤلف هنا محل بحث، أما قيامه عليه السلام حتى تفطرت قدماه؛ فإنما يصح أن يكون دليلًا إذا ثبت أنه في ذلك زاد عما طلب منه حتمًا على وجه الخصوصية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1] ، وقوله: "أفلا أكون عبدا شكورا؟ " جوابا لمن قال له: لِمَ تجهد نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ لا ينافي أن يكون الشكر بالامتثال، وأما تبليغه رسالة ربه على خوف من قومه؛ فمعلوم أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالتبليغ حتمًا، {قُمْ فَأَنْذِرْ ... } إلى قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 2-7] ، وهذا في أول الأوامر بالتبليغ جاء حتما، ومثله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] ، واقترن الأمر الحتم بكفالة التأييد {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر: 94-95] ، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ....} إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر: 36-37] ، وما وصل إليه الأمر بالتبليغ إلا بعد أن ثبته الله تعالى وطمأنه باطلاعه على باهر قدرته، وعظيم جنده المالئين للسماوات =(3/556)
.................................................
__________
= والأرض، وأن واحدا من الجند كجبريل الذي أراه له قبل ذلك1 على هيئته الأصلية يستطيع سحق الأرض ومن عليها، بعد هذا كله جاء له الأمر الحتم بالتبليغ مع قرنه بالتأييد على ما عرفت، وقد سبق للمؤلف أنه لا ينحصر التسبب في الأسباب المشهورة، وأنه ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يجد قوتا أمر أهله بالصلاة"2 أخذا من قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ... } [طه: 132] ، وأن ذلك سبب خاص للرزق من باب الكرامة له عليه السلام وهو يحقق ما قلناه في الدليل الأول؛ فلا تؤخذ الآية عامة للاستدلال بها على ما يريد؛ فكيف يعد هذا مما نحن فيه، وأنه مع دواعي خوفه وعدم استكمال الشروط أو الأسباب بلغ الرسالة؛ لكنه لو قال: إنه في تبليغ الرسالة زاد عما طلب منه؛ فكان شديد الحرص على إيمان قومه وتلبية دعوته، وكان يعمل لذلك فوق الجهد والطاقة، ويألم أشد الألم لعدم مسارعتهم إلى الإيمان وإجابة الدعوة؛ حتى وردت الآيات لتخفف عنه ما كان يجد مثل: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] ، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 99] ، وأمثال ذلك، وقد لاحظ صلى الله عليه وسلم أصل الأمر بالدعوة جادا فيه معرضا عما سوى ذلك، نعم، هذا هو الذي يصح أن يعد دليلا على مدعاه، وآية: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39] تؤيد ما ذكرنا؛ فإن عدم خشية غيره تعالى ما جاء إلا من التأييد بالقوة التي عرفوها واطمأنوا إليها مع الوعد بذلك؛ ألا ترى إلى موسى عليه السلام لما عرضت عليه الرسالة لفرعون طلب أولا تقويته بهارون الأفصح منه، وأنه يخاف قتله قصاصا لمن قتله من قوم فرعون، فلما ضم إليه هارون؛ قالا معا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45] ، فلما سمعا التأييد بقوله تعالى: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] سارعا إلى تنفيذ المطلوب بدون خوف من جند فرعون وصولته، وقول هود: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود: 55] أبلغ دليل على أنه مأمور عالم أنه مؤيد غاية التأييد؛ فليس مما نحن فيه أيضًا، وإلا لكان إلقاء باليد إلى التهلكة بدون موجب، وليس هناك فائدة تعود على هداية قومه التي ندبه الله لها من تسليط أمته بأجمعها على كيده والفتك به، نعم، إن مسألتي ابن أم مكتوم وجندع بن ضمرة وأخيه3 مما نحن فيه؛ فإنهم أخذوا بالأمر: {قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] بدون نظر إلى الرخصة في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17] ، وذلك داخل في الرخصة بالإطلاق الأول المشهور؛ إذ أن ذلك جاء بلفظ رفع الحرج أي مع بقاء أصل الطلب متوجها وإن لم يكن حتما. "د".
__________
1 كما هو ثابت في "صحيح البخاري" "رقم 3232، 4856، 4857" وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه.
2 انظر تخريجه "1/ 333".
3 سيأتي تفصيل ذلك في كلام المصنف قريبًا.(3/557)
وَقَالَ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا" 1.
وَبَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ2 [مِنْ قَوْمِهِ حِينَ تَمَالَئُوا عَلَى إِهْلَاكِهِ] ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ وَقَالَ اللَّهُ لَهُ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التَّوْبَةِ: 51] .
وَقَالَ لَهُ: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الْأَحْزَابِ: 48] .
فَأَمَرَهُ بِاطِّرَاحِ مَا يَتَوَقَّاهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَسْبُهُ3.
وَقَالَ: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39] .
__________
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ، 8/ 584/ رقم 4837"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صفة القيامة والجنة والنار، 4/ 2172/ رقم 2820" عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 4836"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2819" وغيرهما عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
2 لو قال: على ما تراكم حوله من دواعي الخوف من قومه مثلا؛ لكان أليق؛ فسيأتي في وصف الرسل: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39] ، فلم يبلغها وعنده شيء من الخوف. "د". وما بين المعقوفتين بعدها سقط من "ط".
3 أي: كافيه شرهم وأذاهم؛ كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] . "ف".(3/558)
وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الْأَحْزَابِ: 38] .
وَقَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ وَهُوَ يُبَلِّغُهُمُ الرِّسَالَةَ: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} الْآيَةَ [هُودٍ: 55-56] .
وَقَالَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45] .
فَقَالَ اللَّهُ لَهُمَا: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] .
وكان عبد الله بن أُمِّ مَكْتُومٍ قَدْ نَزَلَ عُذْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النِّسَاءِ: 95] ، وَلَكِنَّهُ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: إِنِّي أَعْمَى لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفِرَّ؛ فَادْفَعُوا إليَّ اللِّوَاءَ وَأَقْعِدُونِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ1. فَيَتْرُكَ مَا مَنَحَ مِنَ الرُّخْصَةِ، وَيُقَدِّمَ حَقَّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ.
ورُوي عَنْ جُنْدَعِ2 بْنِ ضَمْرَةَ أَنَّهُ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَلَمَّا أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ وَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ فِيهَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الدِّينَ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَلَا تَكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ؛ قَالَ لِبَنِيهِ: "إِنِّي أَجِدُ حِيلَةً فَلَا أُعْذَرُ، احْمِلُونِي عَلَى سَرِيرٍ". فَحَمَلُوهُ، فَمَاتَ بِالتَّنْعِيمِ وَهُوَ يُصَفِّقُ يَمِينَهُ عَلَى شَمَالِهِ وَيَقُولُ: "هَذَا لَكَ وَهَذَا لِرَسُولِكَ"3 الْحَدِيثَ.
__________
1 أخرج نحوه عبد الله بن المبارك في كتابه "الجهاد" "رقم 110"، وفي إسناده ضعف.
2 أوله جيم مضمومة بعدها نون ساكنة، ودال مهملة مفتوحة، انظر: "الإكمال" "3/ 125"، و"المؤتلف والمختلف" "ص933" للدارقطني، وفي الأصل: "جندب".
3 أخرج ابن جرير في "التفسير" "5/ 240"، وأبو يعلى في "المسند" "5/ 81/ رقم 2679" والواحدي في "أسباب النزول" "132"، وابن أبي حاتم في "التفسير" -كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 372"- وابن منده وعبد الغني بن سعيد في "تفسيره" -وهو الثقفي، أحد الضعفاء- كما في "الإصابة" "1/ 252-253" من طريقين عن ابن عباس نحوه، وفي كل منهما ضعف؛ =(3/559)
وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وأخٌ لِي أُحُدًا، فَرَجَعْنَا جَرِيحَيْنِ، فَلَمَّا أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ؛ قُلْتُ لِأَخِي أَوْ قَالَ لِي: أَتَفُوتُنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَاللَّهِ مَا لَنَا مِنْ دَابَّةٍ نَرْكَبُهَا، وَمَا مِنَّا إِلَّا جَرِيحٌ ثَقِيلٌ؛ فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْتُ أَيْسَرَ جُرْحًا مِنْهُ، فَكَانَ إِذَا غُلِبَ حَمَلْتُهُ عُقْبة1 وَمَشَى عُقْبَةً؛ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.
وَفِي النَّقْلِ مِنْ هَذَا النَّحْوِ كَثِيرٌ، وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ فِي فَصْلِ الرُّخَصِ وَالْعَزَائِمِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ إِذَا وُقِفَ مَعَهَا حَسْبَمَا تَقَرَّرَ اقْتَضَتِ اطِّرَاحَ الْأَسْبَابِ جُمْلَةً، أَعَنِي مَا كَانَ مِنْهَا عَائِدًا إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَهَا وَأَمَرَ بِهَا، وَاسْتَعْمَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ2 والتابعون
__________
= ففي أحدهما أشعث بن سوار وعبد الرحمن بن زياد المحاربي وهما ضعيفان، وفي الأخرى شريك، وهو ضعيف لسوء حفظه.
وأخرجه الفاكهي "4/ 62/ رقم 2382"، والأزرقي "2/ 212"، كلاهما في "أخبار مكة"، وابن جرير في "التفسير" "5/ 239"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 14"، وعبد الرزاق في "التفسير" "1/ 171"، وعبد بن حميد وابن المنذر -كما في "الدر المنثور" "2/ 208"- بإسناد صحيح إلى عكرمة نحوه.
وأخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" "رقم 2384" عن ابن جريج نحوه، وأخرجه البلاذري والسراج من طريق سعيد بن جبير نحوه؛ كما في "الإصابة" "1/ 252".
فالقصة مدارها على المراسيل، والمرفوع منها ضعيف، وفيها يذكر سبب نزول قول الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا} [النساء: 100] .
وانظر: "تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "1/ 352-352".
1 عُقْبة؛ بضم فسكون: النوبة والشوط، وانظر إلى هذه النية الخالصة والجهاد العظيم رضي الله عنهم، ولذلك كانوا خير القرون. "ف".
2 في "ط": "والصحابة".(3/560)
بَعْدَهُ وَهَى عُمْدَةُ مَا حَافَظَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ.
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ فِي الطَّلَبِ؛ فَمِنْهَا مَا هُوَ مَطْلُوبٌ حَتْمًا كَالْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ، وَسَائِرِ الضَّرُورِيَّاتِ الْمُرَاعَاةِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِحَتْمٍ كَالْمَنْدُوبَاتِ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الْمَنْدُوبَاتِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً؟ هَذَا [مِمَّا] لَا يَسْتَقِيمُ فِي النَّظَرِ.
وَأَيْضًا؛ فَالْأَدِلَّةُ الْمُعَارِضَةُ لِمَا تَقَدَّمَ أَكْثَرُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [الْبَقَرَةِ: 195] .
وَقَوْلِهِ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 1 الآية [البقرة: 197] .
وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَسْتَعِدُّ الْأَسْبَابَ لِمَعَاشِهِ وَسَائِرِ أَعْمَالِهِ مِنْ جِهَادٍ وَغَيْرِهِ، وَيَعْمَلُ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، وَالسُّنَّةُ الْجَارِيَةُ فِي الْخَلْقِ الْجَرَيَانُ عَلَى الْعَادَاتِ، وَمَا تَقَدَّمَ لَا يَقْتَضِيهِ2؛ فَلَا بُدَّ مِنْ صِحَّةِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ صَحَّ بَطَلَ الْآخَرُ، وَلَيْسَ مَا دَلَّلْتُمْ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِمَّا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ، وَالتَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ تحكم.
__________
1 قد يقال: إن هذه الآية على تفسيرها بالنهي عما يؤدي بالنفس إلى هلاكها لا تصلح دليلا هنا؛ لأن هذا ليس من حقوق العباد، بل من حق الله تعالى؛ كما تقدم للمؤلف أن حفظ النفس من حق الله تعالى، وكما قال هنا: "وسائر الضروريات المراعاة ... إلخ"؛ فلا يجوز للشخص أن يسلم نفسه للهلاك، وكذا يقال في آية: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ} ؛ فإنها وإن كان ظاهرها طلب الأخذ بأسباب حفظ النفس من الأعداء؛ فهي في الحقيقة طلب إعداد آلة الجهاد في سبيل الله؛ فهو واجب مكمل لواجب الجهاد الذي هو من حق الله تعالى قطعا. "د".
2 يريد: بل يقتضي خلافه، أما مجرد كونه لا يقتضيه؛ فلا يقتضي أنه ينافيه ويعارضه حتى يطلب التخلص منه. "د".(3/561)
فالجواب: أن ما نقدم لَا يَدُلُّ عَلَى اطِّرَاحِ الْأَسْبَابِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ1 بَعْضِ الْأَسْبَابِ خَاصَّةً2 -وَهَى الْأَسْبَابُ الَّتِي يَقْتَضِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى- عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ، عَلَى وَجْهٍ اجْتِهَادِيٍّ شَرْعِيٍّ قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ؛ فَلَيْسَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْأَسْبَابِ وَاسْتِعْمَالُهُ لَهَا تَعَارُضٌ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِعْلَ مَنِ اطَّرَحَهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَعَمَلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى اطِّرَاحِهَا كَذَلِكَ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَنَدْبُهُ3 إِلَى ذَلِكَ كَمَا تَبَيَّنَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَقَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ الْأَسْبَابِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَجْهُ الْفِقْهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، عِنْدَ ذِكْرِ كَيْفِيَّةِ الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ، هَذَا جَوَابُ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فُرِضَتْ أَعْظَمُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَيْفَ كَانَتْ، وَإِنَّمَا فُسِّحَ لِلْمُكَلَّفِ فِي أَخْذِ حَقِّهِ وَطَلَبِهِ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ وَالتَّوْسِعَةِ لَا مِنْ بَابِ عَزَائِمِ الْمَطَالِبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الرُّخَصِ وَالْعَزَائِمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْعَزَائِمُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مَا لَمْ يُعَارِضْ مُعَارِضٌ.
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ نَدْبًا إِنَّمَا هِيَ مِنْ بَابِ التحسينيات، [وَقَدْ مَرَّ أَنَّ أَصْلَ التَّحْسِينِيَّاتِ] خَادِمٌ لِلضَّرُورِيَّاتِ، وَإِنَّهَا رُبَّمَا أَدَّى الْإِخْلَالُ بِهَا إِلَى الْإِخْلَالِ بِالضَّرُورِيَّاتِ، وَإِنَّ الْمَنْدُوبَاتِ بِالْجُزْءِ وَاجِبَاتٌ بِالْكُلِّ؛ فَلِأَجْلِ هَذَا كُلِّهِ قَدْ يَسْبِقُ4 إِلَى النَّظَرِ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَاجِبَاتِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهُوَ نَظَرٌ فِقْهِيٌّ صحيح مستقيم في النظر.
__________
1 أي: أن المأخذ الثاني ليس مبينا على إسقاط الأسباب رأسا، بل إسقاط الأسباب التي تتعلق بحق العبد، والاحتفاظ بالأسباب المتعلقة بحق الرب؛ فقوله: ليس هناك تعارض؛ أي: لأن الأمر بها والأخذ لا يقتضي الدلالة على تقديمها حتما على الأسباب المتعلقة بحق الله تعالى؛ فهذه مقدمة باعتبار هذا النظر وأدلته. "د".
2 في "ط": "الأسباب على بعض وهي ... ".
3 في "ط": "وندب".
4 هو كما ترى من الخطابة. "د".(3/562)
وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَلَا مُعَارَضَةَ فِيهِ، فَإِنَّ أَدِلَّتَهُ لَا تَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ1 أَصْلًا وَإِذَا لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ [فِيهَا] 2 مُعَارَضَةٌ أَصْلًا وَإِلَى هَذَا كُلِّهِ؛ فَإِنَّ تَقْدِيمَ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ3 يُعَارِضُ فِي تَقْدِيمِ حَقِّ اللَّهِ مُعَارِضٌ يَلْزَمُ مِنْهُ تَضْيِيعُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ إِذَا شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مَثَلًا لِمَرَضِهِ، وَلَكِنَّهُ صَامَ؛ فَشَغَلَهُ أَلَمُ الْمَشَقَّةِ بِالصَّوْمِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى كَمَالِهَا، وَإِدَامَةِ الْحُضُورِ فِيهَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ عَادَتْ عَلَيْهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى تَقْدِيمِ حَقِّ اللَّهِ إِلَى الْإِخْلَالِ بِحَقِّهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَلَيْسَ تَقْدِيمُ حَقِّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ بِنَكِيرٍ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ الْأَحَقُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا فِقْهٌ فِي الْمَسْأَلَةِ حَسَنٌ جِدًّا4، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَأْخِيرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا5 يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِ الْمُكَلَّفِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، أَمَّا مَا كَانَ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادِ؛ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تعالى، وقد تبين هذا في موضعه.
__________
1 في "ف" و"ط": "حقوق الله على حقوق العباد" بتقديم وتأخير، وهو خطأ.
وفي هذا الموضع من حاشية الأصل قال المحشي: "يعني أن الأدلة السابقة تدل على جواز اطراح حظ العبد وتقديم حد الله، وأن الجواز ليس بمستوي الطرفين، بل تقديم حق الله أولى، وأدلة حقوق العباد تدل على جواز مراعاة حظ العبد، وهذا لا ينافي الأول؛ فلا تعارضها، وبالجملة؛ فأدلة الجانبين متفقة على الجواز، وتزيد الجانب الأول؛ فإن الأولى والأرجح تقديم حق الله، وهذا واضح جدًّا في عدم التعارض؛ فتأمل".
2 سقط من "ط".
3 وفي الحقيقة يرجع إلى تقديم حق الله تعالى. "د".
4 نعم، فقه حسن، ولكن هذه المسألة ينقصها بسط التفريع على مسألة الحقوق كما أشرنا إليه، كما ينقصها أكثر من هذا تحرير الأدلة وإحكامها، كما تعودناه من المؤلف رحمه الله. "د".
5 في "ط": "مما".(3/563)
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:
الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَتَوَارَدَانِ عَلَى الْفِعْلِ وَأَحَدُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ الْأَصْلِ1، وَالْآخَرُ رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ التَّعَاوُنِ، [هَلْ يُعْتَبَرُ الْأَصْلُ أَوْ جِهَةُ التَّعَاوُنِ] 2؟ أَمَّا اعْتِبَارُهُمَا مَعًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَلَا يَصِحُّ3، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّفْصِيلِ؛ فَالْأَمْرُ إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى جِهَةِ الْأَصْلِ أَوِ التَّعَاوُنِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ4؛ فَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ5 إِلَى قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ؛ فَإِنَّهُ مَنَعَ الْجَائِزَ6، لِئَلَّا يَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى الْمَمْنُوعِ، وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ7، وَحَاصِلُ الْخِلَافِ فِيهِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: اعْتِبَارُ الْأَصْلِ؛ إِذْ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُنْضَبِطُ، وَالْقَانُونُ الْمُطَّرِدُ.
وَالثَّانِي: اعْتِبَارُ جِهَةِ التَّعَاوُنِ؛ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْأَصْلِ مؤدٍ إِلَى المآل8
__________
1 وهو إقامة الضروري أو الحاجي، وقوله إلى جهة التعاون؛ أي: بأن يكون الفعل في ذاته غير مطلوب، ولكن يتوصل به إلى المطلوب. "ف".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 لأنه يؤدي إلى تكليف ما لا يطاق وقوعًا، مع الاتفاق على عدمه. "د".
4 ومثاله مشتري الأغذية من الأسواق لاحتكارها؛ فأصل الشراء مأذون فيه لكسب المعاش، ولكنه قد يؤدي إلى التضييق على الجمهور، والاحتكار ممنوع إذا أدى إلى ذلك كما رواه مالك* عن عمر؛ قال: "لا حكرة في سوقنا ... " الحديث. "د".
5 فمنهم من يعملها مطردة فيمنع الأصل كمالك، ومنهم من يخصها بمواضع قد يكون منها هذا وقد لا يكون، وقوله: "فإنه منع الجائز" مبني على إعمالها. "د".
6 أي: المأذون فيه؛ لأن الموضوع الأمر. "د".
7 وأنه متفق عليه في الجملة، وأنه حصل اختلاف في بعض التفاصيل. "د".
8 كذا في "ط"، وفي غيره: "الملال"، وكتب "د": "صوابه: "المآل" كما يعينه المقام =
__________
* في "الموطأ" "404 - رواية يحيى و2/ 356/ رقم 2598 - وراية أبي مصعب".(3/564)
..................................
__________
ولاحق الكلام، أو كما سيأتي في المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد.
وتلخيص المسألة أنه إذا ورد أمر ونهي على فعل باعتبارين: اعتبار أصله وذاته بقطع النظر عما يؤول إليه ويترتب عليه، ويعين هو عليه واعتبار المآل والتعاون، وكان أصل الفعل من الضروريات أو الحاجيات؛ فإما أن يرد الأمر على أصله والنهي على ما يؤدي إليه، أو بالعكس.
فإن كان الأول؛ ففيه خلاف:
1- اعتبار الأصل وقطع النظر عما يؤول إليه، ووجهه أن الأصل هو المطرد والمنضبط.
2 اعتبار جهة التعاون والمآل لأن اعتبار الأصل وقطع النظر عن المآل يؤدي إلى هذا المآل المنهي عنه، وأيضًا يفتح باب الحيل لأن الحيل مبنية على أن يكون الشيء مستوفيا في ذاته شرائط الحل ولو صورة، ويقطع فيها النظر عما يؤول إليه من المفسدة الشرعية المنهي عنها، كما هو معروف في مثل حيل العقود المؤدية إلى الربا، فإن ظاهرها الحل باعتبار ذاتها وإن أدت إلى الربا.
3- التفصيل، إن غلبت جهة التعاون الممنوعة روعي الأصل؛ لأنه إن لم يراع بطل العمل بالأصل المأذون فيه، وهو ضروري أو حاجي؛ فيؤدي إلى تكليف ما لا يطاق أو إلى الحرج -ويساعده ما تقدم في الفصل الأول من المسألة الخامسة عشرة؛ فراجعة برمته- وإن لم تغلب؛ فالاجتهاد.
وإن كان الثاني وهو توجه النهي إلى الأصل والطلب إلى التعاون؛ فالحكم اعتبار النهي الذي في الأصل لئلا يؤدي إلى إلغاء النهي، والتوسل بالممنوع شرعا إلى مطلوب ضعيف استحساني وهو من جهة التعاون؛ كالمثل الذي ذكره المؤلف: "يسرق ليتصدق"، وهو باطل: "ليتها لم تزن ولم تتصدق"، ومحل اعتبار النهي ما لم يكن فيه معارضة مصلحة الخاصة مع مصلحة العامة؛ فتقدم المصلحة العامة، وذلك كتلقي الركبان؛ فإنه ضروري أو حاجي لكسب الشخص لعياله، وإهمال هذا الكسب وتركه منهي عنه، ولكنه يؤدي إلى مصلحة العامة، حيث يشترون من السوق حاجاتهم بدون تعنت الوسيط الذي يرفع الأثمان؛ فهو منهي عنه، يؤدي إلى مطلوب هو إرفاق العامة؛ فقدمت مصلحة العامة، ومثله بيع الحاضر للبادي هو من الضروري أو الحاجي، وهو نصح مطلوب، وتركه منهي عنه، لكن هذا الترك فيه "تعاون ورفق بأهل الحضر؛ لأن البدوي يبيع لهم حسبما يفهم هو في الأسعار، ولكن الحاضر إذا باع له يقف على الأسعار الجارية في الحضر، وفيه تضييق عليهم؛ فألغي النهي عن ترك النصح، وروعي المطلوب وهو التعاون رفقا بالحضر، وتقديما للمصلحة =(3/565)
الْمَمْنُوعِ، وَالْأَشْيَاءِ إِنَّمَا تَحِلُّ وَتُحَرَّمُ بِمَآلَاتِهَا، وَلِأَنَّهُ فَتَحَ بَابَ الْحِيَلِ1.
وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ جِهَةَ التَّعَاوُنِ غَالِبَةً أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ غَالِبَةً؛ فَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ وَاجِبٌ؛ إِذْ لَوِ اعْتُبِرَ الْغَالِبُ هُنَا لَأَدَّى إِلَى انْخِرَامِ الْأَصْلِ جُمْلَةً، وَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَالِبَةً؛ فَالِاجْتِهَادُ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَظَاهِرُهُ شَنِيعٌ لأنه إلغاء لجهة النهي2 ليتوصل إلى
__________
= العامة، وكذا تضمين الصناع -والصانع أمين كالوكيل، والمودع بالفتح- وأصل الحكم إلى الضمان فيما بأيديهم للناس، وجعلهم ضامنين منهي عنهن حفظا لحقوقهم، لكنه يؤدي إلى مصلحة عامة المسلمين؛ فألغى النهي في الأصل، وروعي جانب التعاون والمآل، وهو المصلحة العامة لأنه نزل منزلة الضروري والحاجي.
هذا وباب الحكم على الخاصة لأجل العامة واسع، ومنه نزع الملكية الخاصة للمنافع العامة، ومنه ما وقع في زمن معاوية رضي الله عنه من نقل قتلى أحد من مقابرهم إلى جهة أخرى لإجراء العين الجارية بحانب أحد، وكان ذلك بمحضر الصحابة ولم ينكروا عليه، وقد يكون منه تشريح جثث الأموات لفائدة طب الأحياء، إلى غير ذلك، وبهذا التلخيص تعلم ما كتبه بعضهم هنا".
قلت: يعني بذلك "ف" حيث قال هنا: "فتحتاج النفس إلى ما ينشطها بفعل ما ليس بمطلوب لتستعين به على الفعل المطلوب" انتهى.
وانظر في تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي: "بداية المجتهد" "2/ 138"، و"فتح القدير" "6/ 106"، وانظر في نزع الملكية الخاصة: "الاختيار شرح المختار" "3/ 483-484"، و"المدخل الفقهي" "1/ 227"، وانظر في التشريح: "شفاء التباريح والأدواء" لليعقوبي، و"أحكام الجراحة الطبية" "ص169 وما بعدها" للشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي، و"أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية" "2/ 5-70".
1 لأن الحاجة إلى الخروج عما في التزامه مشقة تستوجب البحث عن الحيلة للتخلص منه كما يقال: "الحاجة تفتق الحلية". "ف".
2 إذ لا أثر له حينئذ، وظاهره طلب المنهي عنه ليتوصل به إلى المأمور به، وهو شنيع، ولكنه قد يصح إذا كان في المنهي عنه ما في المأمور به، فينزل منزلته ويترجح عليه كما في منع تلقي الركبان، وهم التجار الذين يجلبون البضائع لمنفعة العامة؛ فإنه مأمور به لأجل منفعة أهل السوق ومنهي عنه لأنه من باب منع الارتفاق المطلوب، ورجح الجانب الأول لأنه من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة كما قال؛ فتدبر. "ف". وفي "ط": "النهي للتوصل إلى ... ".(3/566)
الْمَأْمُورِ بِهِ تَعَاوُنًا، وَطَرِيقُ التَّعَاوُنِ مُتَأَخِّرٌ فِي الِاعْتِبَارِ عَنْ طَرِيقِ إِقَامَةِ الضَّرُورِيِّ وَالْحَاجِيِّ لِأَنَّهُ تَكْمِيلِيٌّ، وَمَا هُوَ إِلَّا بِمَثَابَةِ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ لِيَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَوْ يَبْنِيَ قَنْطَرَةً، وَلَكِنَّهُ صَحِيحٌ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ عَلَى الْخَاصَّةِ لِأَجْلِ الْعَامَّةِ، كَالْمَنْعِ مِنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ1؛ فَإِنَّ مَنْعَهُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ؛ إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ مَنْعِ الِارْتِفَاقِ وَأَصْلُهُ ضَرُورِيٌّ أَوْ حَاجِيٌّ لِأَجْلِ أَهْلِ السُّوقِ، وَمَنْعِ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي2 لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَنْعٌ مِنَ النَّصِيحَةِ؛ إِلَّا أَنَّهُ إِرْفَاقٌ لِأَهْلِ الْحَضَرِ، وَتَضْمِينُ الصُّنَّاعِ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ؛ فَإِنَّ جِهَةَ التَّعَاوُنِ هُنَا أَقْوَى.
وَقَدْ أَشَارَ الصَّحَابَةُ عَلَى الصِّدِّيقِ؛ إِذْ قَدَّمُوهُ خَلِيفَةً بِتَرْكِ التِّجَارَةِ وَالْقِيَامِ بِالتَّحَرُّفِ عَلَى الْعِيالِ3 لِأَجْلِ مَا هُوَ أَعَمُّ فِي التَّعَاوُنِ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَعِوَضُهُ4 مِنْ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا5 النوع صحيح كما تفسر، والله أعلم.
__________
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب هل يبيع حاضر لبادٍ بغير أجر، 4/ 370/ رقم 2158"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي، 3/ 1157/ رقم 1521" عن ابن عباس؛ قال: "نهى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ تتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لبادٍ، فقلت لابن عباس: ما قوله حاضر لبادٍ؟ قال: لا يكون له سمسارًا". وفي الباب عن غيره.
2 انظر الحديث المتقدم.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 184-185"، ووكيع في "أخبار القضاة" "1/ 104"، والبلاذري في "أنساب الأشراف" "ص44-45 الشيخان أبو بكر وعمر وولدهما"، والمحب الطبري في "الرياض النضرة" "1/ 202، 252" من طرق به.
4 في الأصل و"ط": "عوضوه".
5 في "ط": "فهذا".(3/567)
الاستدراكات:
الاستدراك1:
قلت: مقوله مالك في "المدونة الكبرى" "1/ 5"، ونقلها القرافي في "الذخيرة" "1/ 183"، وابن عبد البر في "التمهيد" "18/ 270"، والراعي في "انتصار الفقير السالك" "ص286"، وفيها: "نكره" بالنون، وكذا في "ط"، وفي غيره بالياء آخر الحروف.
قال المازري في "المعلم" "1/ 242": "اختلف في غسل الإناء من ولوغ الكلب؛ هل هو تعبد، أو لنجاسته؟ فعندنا أنه تعبد، واحتج أصحابنا بتحديد غسله سبع مرات أنه لو كانت العلة النجاسة لكان المطلوب الإنقاء وقد يحصل في مرة واحدة، واختلف عندنا؛ هل يغسل الإناء من ولوغ الكلب المأذون في اتخاذه؟ فيصح أن يبنى الخلاف على الخلاف في الألف واللام من قوله: "إذا ولغ الكلب"؛ هل هي للعهد، أو للجنس؟ فإن كانت للعهد اختص بذلك بالمنهي عن اتخاذه، لأنه قد قيل: إنما سبب الأمر بالغسل التغليظ عليهم لينتهوا عن اتخاذها، وهل يغسل الإناء من ولوغه في الطعام؟ فيه أيضًا خلاف، ويصح أن يبنى على خلاف أهل الأصول في تخصيص العموم بالعادة إذ الغالب عندهم وجود الماء لا الطعام".
وألزم العراقي في "طرح التثريب" "2/ 122" مالكًا بالقول فيه؛ فقال متعقبا قوله:(3/569)
"ما أدري ما وجه ضعفه، وقد أنكر مالك على أهل العراق ردهم لحديث المصراة، وهو بهذا الإسناد من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة؛ فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: وهل في هذا الإسناد لأحد مقال؟ وصدق رحمه الله، وقد قال البخاري: إن هذا الإسناد أصح أسانيد أبي هريرة" ا. هـ.
ويروي ابن القاسم عن مالك أكثر أقواله المخالفة للأحاديث الثابتة؛ فلا أدري كيف وقع هذا؟ وقد علل بعض المعاصرين أن ذلك راجع إلى كون أن ابن القاسم كان صاحب رأي، ولم يكن صاحب حديث كما قال مسلمة بن قاسم، كذا!! ولا يخلو من نظر إلا إن كان لا ينقل نص مالك، إنما ينقل فهمه، والله أعلم.
تنبيه:
قال الشيخ محمود شلتوت في "الفتاوى" "ص86-78":
"وقد فهم كثير من العلماء أن العدد في الغسل مع الترتيب مقصودان لذاتهما؛ فأوجبوا غسل الإناء سبع مرات، كما أوجبوا أن تكون إحداهن بالتراب، ولكن الذي نفهمه هو الذي فهمه غيرهم من العلماء، وهو أن المقصود من العدد مجرد الكثرة التي يتطلبها الاطمئنان على زوال أثر لعاب الكلب من الآنية، وأن المقصود من التراب استعمال مادة مع الماء من شأنها تقوية الماء في إزالة ذلك الأثر، وإنما ذكر التراب في الحديث لأنه الميسور لعامة الناس ولأنه كان هو المعروف في ذلك الوقت مادة قوية في التطهير، واقتلاع ما عساه يتركه لعاب الكلب في الإناء من جراثيم، ومن هنا نستطيع أن نقرر الاكتفاء في التطهير المطلوب بما عرفه العلماء بخواص الأشياء من المطهرات القوية، وإن لم تكن ترابًا، ولا من عناصرها التراب" ا. هـ.
قلت: وكلامه متعقب كما تراه في تعليقي على المجلد الثالث من "الخلافيات" للبيهقي.(3/570)
فهرس الموضوعات
...
الموضوعات والمحتويات
الموضوع الصفحة
المسألة الأولى:
الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في العبادات والعادات 7
نظرية الدافع والباعث وأهميتها 7-8
أهمية النيات في التفريق بين أحكام العبادات وأحكام غيرها 8-9
تخريج حديث صيد البر والبحر وذكر علله 10-12
فإن قيل: المقاصد معتبرة في الجملة وليس على الإطلاق، أدلة ذلك 12
- منها: الإكراه الواجب على الأعمال شرعا 12
التسلسل والإكراه 12
العبث في الأحكام 12
- منها: الأعمال ضربان: عادات وعبادات والأولى لا تحتاج إلى نية وذكر أمثلة على ذلك 13
من لم يشترط النية في الوضوء وغيرها 13-15
- منها: مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ قَصْدُ الامتثال عقلا وهو النظر الأول
الإجابة على ذلك بأن الْمَقَاصِدَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَعْمَالِ ضَرْبَانِ: 16-17
ضَرْبٌ هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ كُلِّ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ مختار يصح أن يقال
فيه إِنَّ كُلَّ عَمَلٍ مُعْتَبَرٌ بِنِيَّتِهِ فِيهِ شَرْعًا 17
وضرب آخر: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كُلِّ فِعْلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ ضرورة التعبديات من حيث هي تعبديات 18(3/571)
ووجه آخر في الإجابة الرد على تفاصيل ما ذكروا 18
الرد على مسألة الإكراه 18-19
الرد على مسألة النية في العادات 19
الخلاف في الصوم وغيرهما 19-21
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: 23
قَصْدُ الشَّارِعِ مِنَ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ فِي الْعَمَلِ مُوَافِقًا
لِقَصْدِهِ فِي التشريع ودليله واضح 23
بيع الشيء المباح لمن يستعمله في حرام 23
مبدأ سد الذرائع 23
مبدأ نظرية الباعث 23-24
قصد الشارع وضع الشريعة لمصالح العباد 23-24
المحافظة على الضروريات 24
الخلافة في الأرض؛ والتنبيه على خطأ شائع 24
الخلافة العامة والخاصة 25-26
فصل: المقاصد والتروك والأفعال والأحكام الخمسة 26
دخول المكلف في الأسباب 26
القصد الموافق والمخالف 26
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: 27
كُلُّ مَنِ ابْتَغَى فِي تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ غَيْرَ مَا شُرِعَتْ لَهُ، فَقَدْ
نَاقَضَ الشريعة، وكل مناقضة باطلة 27-28
الاجتهاد فرض كفائي 28
الدليل على أَنَّ مَنِ ابْتَغَى فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ توضع له فهو
مناقض: 28
الأول: الأفعال والتروك من حيث هي متماثلة عقلا 28
مسألة التحسين والتقبيح العقليين 28-29
الثاني: حاصل القصد أَنَّ مَا رَآهُ الشَّارِعُ حَسَنًا فَهُوَ
عِنْدُ هذا القاصد ليس بحسن وهكذا العكس 29
الثالث: الأخذ فِي خِلَافِ مَآخِذِ الشَّارِعِ مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ إِلَى
تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ(3/572)
درء المفسدة مشاقة ظاهرة 29-30
الرابع: أنه آخذ في غير مشروع حقيقة 30
الخامس: أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِنَّمَا كُلِّفَ بِالْأَعْمَالِ مِنْ جِهَةِ
قصد الشارع بها في الأمر والنهي 30-31
التمثيل على ذلك في الحاشية بالنكاح إذا قصد به تحليل الزوجة لغيره 30
السادس: هذا استهزاء بآيات الله وأحكامه من آياته 31
أمثلة من المصنف على ذلك 31
الاعتراض على المسألة بأمثلة من الشرع 31
منها: نكاح الهازل وطلاقه، وقد سبقت في المسألة الأولى وكذلك المكره 31-32
ومنها: الحيل 32
الإجابة عن ذلك 32-33
المسألة: الرابعة: 34
أقسام الفعل والترك مع القصد:
الأول: أن يكون "الفعل أو الترك" موافقا للشرع والقصد عنده الموافقة 34
الثاني: أن يكون مخالفا وقصده المخالفة 34
الثالث: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ مُوَافِقًا وَقَصْدُهُ المخالفة وهو ضربان:
الأول منهما: أن يعلم الموافقة في الفعل والترك 34
الثاني: أن لا يعلم 34
ذكر الأمثلة: على الضرب الأول مثل: الواطئ لزوجته وهو ظان أنها أجنبية
وغيرها من أمثلة 34-35
توضيح الأمر الأصولي وتجاذب طرفيه 35
أمثلة على الضرب الثاني 37
القسم الرابع منها: وهو ضربان كالسابق:
أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ مُخَالِفًا وَالْقَصْدُ موافقا، بالعلم والجهل 37
فأما مع العلم فهو الابتداع 37-38
ذكر الأدلة على حرمة البدع بعموم، ثم الاستشكال بأن من البدع
ما هو غير مذموم بل هو إما مندوب أو واجب 38-39
الجواب عن هذا الإشكال بنقض الأمثلة واحدا واحدا 39(3/573)
التفريق بين المصالح المرسلة والبدع 41
- ومع الجهل فله وجهان: 42
الأول: كون القصد موافقا، أي مع مخالفة الفعل أو الترك
الثاني: كون العمل مخالفا 42
النية والقصد في هذا الضرب 42-45
إعمال جانب القصد وجانب الموافقة في الفعل أو الترك معا في المسألة لأمور: 45
الأول: اجتمع في متناول المحرم غير عالم بالتحريم؛ موافقة القصد ومخالفة الفعل 45-46
توضيح ذلك بالأمثلة من السنة وحياة السلف 46
النكاح بغير إذن الولي وتخريج حديثها 48-50
الثاني: اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان 50
الثالث: الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى رَفْعِ الْخَطَأِ عَنْ هَذِهِ الأمة 51
الاختلاف فيما تعلق به رفع المؤاخذة 51
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: 53
جَلْبُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ المأذون فِيهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَلْزَمَ عنه إضرار الغير 53
الثاني: لزوم ذلك عنه وهو ضربان أيضًا: 53
قصد ذلك وعدم قصده وهذا ضربان أيضًا 53
الضرر العام والخاص وهذا ضربان: 53
متابعة التقسيم 55
ثم توضيح أحكام الأقسام هذه 55
الأقسام الثمانية وسردها من حاشية الأصل 55
الأول: ما لا يلزم عليه إضرار الغير
الثاني: ما يلزم عليه الإضرار ويقصد الفاعل الإضرار
الثالث: ما لا يقصد فيه، وكان الإضرار اللازم عاما
الرابع: ما لا قصد فيه، والإضرار اللازم خاص والفعل محتاج إليه.
الخامس: ما كان كذلك والفعل غير محتاج إليه ويؤدي إلى مفسدة قطعا
السادس: أن تكون المفسدة على سبيل الندور(3/574)
السابع: أن تكون على سبيل الكثرة ولزومها أغلبي
الثامن: ما لزومها غير أغلبي
الأول: باقٍ على أصله من الأذن 55
الثاني: لا إشكال في منع القصد إلى الإضرار 55
النظرية الحديثة لسوء استعمال الحق والتعسف فيه 56
الثالث: لا يَخْلُو أَنْ يَلْزَمَ مِنْ مَنْعِهِ الْإِضْرَارُ بِهِ بحيث لا ينجبر أو لا 57
مسألة الترس التي فرضها الأصوليون 57
الرابع: الموضع يَحْتَمِلُ نَظَرَيْنِ:
نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْحُظُوظِ، ونظر من جهة إسقاطها وأمثلة مهمة 58
أمثلة في القسم الرابع 59
ذكر أمثلة لظلم عام تخلص منه فرد 59
ومناقشة بالعودة على مسألة الإضرار ورد الإشكال 61
وجهان في المسألة مع ردها إلى المسألة الثالثة: 62
الأول: إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على السواء 62
أمثلة على ذلك من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف 62
الثاني: الإيثار على النفس؛ وأمثلة من سيرة السلف 66
إيثار بالملك من المال 68
وبالنفس 69
الصوفية والإيثار 70
الإيثار مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة، وتحمل المضرة اللاحقة بلا عتب،
دون إخلال بمقصد شرعي 71
القسم الخامس: وله نظران
الأول: مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ قَاصِدًا لِمَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ شَرْعًا، مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِضْرَارٍ بِأَحَدٍ 72
الثاني أن يكون عالما بلزوم المضرة 72
القبول والإجزاء والصحة لا تسلتزم الثواب عليها عند القرافي 73-74
القسم السادس: وهو على أصله من الإذن 74
القسم السابع: وهذا يحتمل الخلاف، وهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع،(3/575)
اعتبار الظن أرجح لأمور: 75
الأول: أَنَّ الظَّنَّ فِي أَبْوَابِ الْعَمَلِيَّاتِ جارٍ مَجْرَى العلم 75
الثاني: أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ دَاخِلٌ في هذا القسم 75-76
الثالث: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ المنهي عنه 76
القسم الثامن: وهذا القسم مَوْضِعُ نَظَرٍ وَالْتِبَاسٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَمْلُ عَلَى
الأصل من صحة الإذن، باستدلالات أخرى غير مرتبة عند المصنف 77
مناقشة المصنف في بعض ما أورده من أمثلة 81
سد الذرائع والاحتياط والأخذ بالحزم 85
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: 86
كُلُّ مَنْ كُلِّفَ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ عَلَى غَيْرِهِ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ مَعَ الِاخْتِيَارِ
والدليل على ذلك أوجه 86
الاستثناء في ذلك 87
المسألة السابعة: 88
كل مكلف بمصالح غيره الدنيويه، إما أن يكون قادرا على مصالحه الخاصة
مع مصالح الغير، وإما أن لا يقدر فإن كانت مصالح الغير عامة فعليهم أن يقوموا
بمصالحه إن صح أن يقوموا بها عنه؛ وإن كانت خاصة سقطت 88-89
تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة 89
فصل: قيام الغير بمصالح المكلف بوجه لا يخل بمصالحهم ولا يضر به 89
يقوم بمصلحة المكلف بيت المال أو الأوقاف 90
لا يعطى مباشرة لخوف المنة وإعطاء الأمثلة المشابهة لذلك 90
لا يجوز له القيام بنفسه لكلفة القيام بالوظيفتين 91
منع أخذ الأجرة من الخصمين 91
فصل: إذا كانت المصلحة الدنيوية العامة لا يمكن أن يقوم بها غيره تعارض في
المسألة "قاعدة منع التكليف بما لا يطاق" و"قاعدة تقديم المصلحة العامة على الخاصة" 92
الخلاف حاصل، وإذا أسقط المكلف حظوظه قدمت المصلحة العامة 92
ويدل عليه قاعدة الإيثار، وقصص الإيثار الواردة عن السلف 92-93
أما الأخروية كالعبادات العينية أو النواهي المخاطب بها عينا فلها تفصيل إن كان هناك(3/576)
إخلال بالمصلحة العامة أو الخاصة 94-96
فصل: قد تَكُونُ الْمَفْسَدَةُ مِمَّا يُلْغَى مِثْلُهَا فِي جَانِبِ عظم المصلحة 96
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: 98
التَّكَالِيفُ إِذَا عُلِمَ قَصْدُ الْمَصْلَحَةِ فيها، فللمكلف في الدخول تحتها ثلاث أحوال:
الأول: أن يقصد بها ما فهم من قصد الشارع في شرعها دون أن يخليه من قصد
التعبد وإلا حرم خيرا كثيرا 98
الثاني: أَنْ يَقْصِدَ بِهَا مَا عَسَى أَنْ يَقْصِدَهُ الشارع وهذا أكمل من الأول 98-99
الثالث: أَنْ يَقْصِدَ مُجَرَّدَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فَهِمَ قَصَدَ المصلحة أو لم يفهم وهذا أكمل وأسلم 99
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: 101
كُلُّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، فَلَا خِيَرَةَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى حَالٍ وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ
فِي نفسه، فله فيه الخيرة 101
حقوق الله لا تسقط ولا ترجع لاختيار المكلف 101
ثبت ذلك بالاستقراء 101
إحياء النفوس وكمال العقول والأجسام من خلق الله في العباد 102-103
تقدم أَنَّ كُلَّ حَقٍّ لِلْعَبْدِ لَا بُدَّ فِيهِ من تعلق حق الله به، وحق العبد ثبت بإثبات الشارع له 103-104
حق العبد له فِيهِ الِاخْتِيَارُ مِنْ حَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ ذلك دون الاستقلال 104
المسألة العاشرة: 106
الحيل: هو التوسط لإسقاط حكم أو قلبه ولا ينقلب ولا يسقط إلا بالواسطة فهو مشتمل
على مقدمتين: 106
الأولى: قَلْبُ أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي ظاهر الأمر 106
الثانية: جَعْلُ الْأَفْعَالِ الْمَقْصُودِ بِهَا فِي الشَّرْعِ مَعَانٍ وَسَائِلَ إِلَى قَلْبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ 106
هَلْ يَصِحُّ العمل على وفقه؟ 106
توضيح الحيل قبل الإجابة 106-108
المسألة الحادية عشرة: 109
الحيل بالمعنى السابق غير مشروعة في الجملة، لَكِنْ فِي خُصُوصِيَّاتٍ يُفْهَمُ مِنْ(3/577)
مجموعها منعها، والنهي عنها على القطع 109
سرد الأدلة 109-119
المسخ والقذف 113
استحلال السحت 114
تعقب الحافظ ابن حجر 115
الربا والرشاوي والتحليل 116
المسألة الثانية عشرة: 120-163
الحيل: مقدمة – الْأَعْمَالَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِأَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا قُصِدَ بها المصالح
التي شرعت لأجلها فإن كان الفعل مُوَافِقًا وَالْمَصْلَحَةُ مُخَالِفَةً فَالْفِعْلُ
غَيْرُ صَحِيحٍ وَغَيْرُ مشروع 120
الأمثلة:
الشهادتان وسائر العبادات 121
الزكاة 121-122
فدية الزوجة خوف أن لا يقيما حدود الله 123
اشتمال الشريعة على مصلحة كلية ومصلحة جزئية 123
فصل: عودة إلى الحيل 124
الحيل الباطلة مَا هَدَمَ أَصْلًا شَرْعِيًّا وَنَاقَضَ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً 124
الحيل ثلاثة أقسام الأوليان قطعيان: 124
الأول: لَا خِلَافَ فِي بُطْلَانِهِ، كَحِيَلِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ 124
الثاني: لا خلاف في جوازه، كالنطق للمكره على كلمة الكفر 124
تقديم المصالح والمفاسد الأخروية على الدنيوية 124
الثالث: محل إشكال وغموض لعدم تبين دليل واضح قطعي مثل:
وجود مقصد للشارع واضح أو لم يثبت أنه على خلاف مصلحة شرعية 125
حسن الظن بالعلماء 125
نكاح المحلل 125-126
هل يَلْزَمُ إِذَا شُرِعَتِ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ لِمَصْلَحَةٍ أَنْ تُوجَدَ الْمُصْلِحَةُ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ(3/578)
أفرادها عينا 126
الحيل والبيوع والبنوك الإسلامية وكلمة عن الربا 127
العينة 128
الذرائع وأقسامها: 131
الأول: ما يسد باتفاق كسب الأصنام 131
الثاني: ما لا يسد باتفاق 131
الثالث: المختلف فيه، كمسألة الحيل 131
خلاصة كلام المصنف فيه فائدة عظمى في أنه جاء بأدلة مجيزي
الحيل لتقريب المذاهب الفقهية للطلاب حتى لا يكون هناك تعصب 131-132
فصل: خاتمة لكتاب المقاصد تكون بيانا له 132
معرفة مقصود الشارع، وينقسم إلى ثلاثة أقسام: 132
الأول: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَقْصِدَ الشَّارِعِ غَائِبٌ عَنَّا حتى يأتينا ما يعرفنا به 132
الثاني: في الطرف الآخر من الأول إلا أنه ضربان: 133
الأول: دعوى أن مقصود الشَّارِعِ لَيْسَ فِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ، وَلَا مَا يفهم منها، وإنما
المقصود أمر آخر 133
الضرب الثاني: أن يُقَالَ: إِنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ الِالْتِفَاتُ إِلَى مَعَانِي الألفاظ، بحيث لا
تعتبر الظواهر والنصوص 133
الثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعا، بحيث لا يخل المعنى بالنص ولا بالعكس
وهذا الذي أخذ به فحول العلماء ويعرف من أكثر من جهة: 134
الجهة الأولى: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي 134
توضيح هذه الجملة 134-135
الجهة الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي، والعلل تعرف بمسالكها المعروفة غير
المعلومة لا بد فيه من التوقف، وهنا له نظران: 135
الأول: أن لا تتعدى الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ أَوِ السبب المعين 136
الثاني: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ الْمَوْضُوعَةِ شَرْعًا أَنْ لَا يُتَعَدَّى بِهَا مَحَالُّهَا حَتَّى
يُعْرَفَ قَصْدُ الشارع لذلك التعدي 136
وهما مَسْلَكَانِ مُتَعَارِضَانِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ وَالْآخَرَ لا يقتضيه والمجتهد(3/579)
أهل لهذا الموضع فلا يبقى تعارض 137
الالتفات إلى المعاني في العادات هو الأصل، والتعبد في جهة العبادات
والخروج عن هذا المقتضى نادر والتمثيل عليه من مذهب مالك 138
الجهة الثَّالِثَةُ: أَنَّ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ والعبادية مقاصد
أصلية ومقاصد تابعة 139
مضادة مقصد العامل لمقصد الشارع وضرب أمثلة على ذلك:
التمثيل على ذلك بالنكاح 139-141
التمثيل في باب العبادات 140-141
فصل: إثبات المقاصد التابعة في العبادات 142
الحديث عن الاستخارة الشرعية والبدعية 143
الفوائد الدنيوية والأخروية في العبادات 144
المواهب التي يهبها الله للعبد في الدنيا والآخرة 145
الاضطرار إلى السؤال 145
إظهار الأعمال للاتباع 146
التَّعَبُّدُ بِقَصْدِ تَجْرِيدِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى عالم الأرواح ورؤية الملائكة 147
الخوارق 147
تخريج حديث: "من أخلص لله أربعين صباحا ... " وقصة حوله 148-149
سؤال الصحابة عن الهلال، وما نزل فيها 149
العلم والعمل، والمعرفة بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَى مِقْدَارِ الْمَعْرِفَةِ بِمَصْنُوعَاتِهِ
والعالم الروحاني 150
الخوارق:
أولا: طلب الخوارق بالدعاء ولفتح البصيرة لا نكير فيه، إنما فيمن عبد لتحصيلها فقط 150-151
ثانيا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ نَجِدْ مَا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، لَكَانَ لَنَا بَعْضُ الْعُذْرِ في التخطي
عن عالم الغيب والشهادة إلى عالم الغيب 151
ثالثا: أن أصل هذا التطلب الخاص فلسفي 152
رابعا: أَنَّ طَلَبَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنَ الرُّوحَانِيَّاتِ وَعَجَائِبِ الْمُغَيَّبَاتِ(3/580)
كَطَلَبِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنَ المحسوسات النائية 152
خامسا: أنه لو فرض كونه سائغا فهو محفوف بعوارض كثيرة 152
الابتلاء 152-153
فعل الطاعات لأغراض دنيوية 153-154
أقسام المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية: 154
الأول: ما يقتضي تأكيدها 154
الثاني: ما يقتضي نقضها 154
الثالث: ما لا يقتضي تأكيدا ولا ربطا، ولا يقتضي رفع المقاصد الأصلية عينا 155
صحة ذلك في العادات دون العبادات 155
العزل عن النساء 155
الجهة الرابعة: السُّكُوتُ عَنْ شَرْعِ التَّسَبُّبِ أَوْ عَنْ شَرْعِيَّةِ العمل مع قيام المعنى
المقتضي له 156
سكوت الشارع عن الحكم على ضربين:
الأول: السكوت عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا دَاعِيَةَ لَهُ تَقْتَضِيهِ، وَلَا موجب يقدر لأجله 157
الثاني: أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ وَمُوجِبُهُ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ 157
سجود الشكر عند مالك 158
تعريف البدع وتمثيلها 159-163
كتاب الأدلة الشرعية
النظر فيها على الجملة والتفصيل 165
الأدلة ومعناها 165
بحث الأصولي في الأدلة الشرعية 165
النظر في الأدلة الشرعية على الجملة والكلام فيها في كليات تتعلق بها
وفي العوارض اللاحقة لها 167
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: 171
لَمَّا انْبَنَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى قَصْدِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ
وَالْحَاجِيَّاتِ والتحسينات، وكانت هذه الوجوه مبثوثة في جميع أبواب الشريعة وأدلتها 171-172
أهمية هذه المسألة في مسائل الأصول 171(3/581)
النظر في الأدلة التفصيلية مع القواعد الكلية وارتباطهما في فهم الشريعة 171-172
هل يجوز للمجتهد استنباط الأحكام من القواعد دون الأدلة 172-174
سرد مجموعة من الأدلة على أصل المسألة 172
كتاب رزين من مظان الضعف 173
معنى: "لا يهلك على الله إلا هالك ... " 173
اعتبار الجزئيات بالكليات والعكس 173-174
التفريق بين المجتهد الذي استقرأ الأدلة، والمجتهد الذي تابع غيره 174
القدح في الكلي أو الجزئي مؤثر في الآخر 175
مخالفة جزئي للكلي 176
حكم الأكثري حكم الأغلب 176
إذا فرضت المخالفة في بعض الجزئيات، فليس لجزئي من الكلي 177
الحكم بالقاعدة دون الأدلة 177
التمثيل له بحفظ النفس، كالقصاص بالمثقل وكقتل الجماعة بالفرد 177-178
الرخص في الصلاة، مثل فيه 178
والصوم في السفر 178-179
الرخص عموما 178-179
البيوع والمستثنيات من القواعد 179
تبيان اعتبار المصالح في الشرع، وما لا يفهم منها بالعقل وتعارض قواعد المصالح
والترجيح فيها 179-180
النظر في الكلي بحسب جريانه في الجزئي، والنظر في الجزئي من حيث
يرد إلى الكلي 181
العسل وتوضيح معنى الشفاء فيه 181
امتناع وجود خبر في الشريعة بخلاف مخبره 181
اعتبار الجزئي وعدم اعتباره جهتان هنا 182
وظيفة المجتهد مع الأدلة 183
المسألة الثانية: 184
أقسام الأدلة الشرعية(3/582)
الأول: الدليل القطعي كأدلة وجوب الطهارة 184
الثاني: الدليل الظني الراجع إلى أصل قطعي وعليه عامة أخبار الآحاد وما
فيه تبيان لنص الكتاب 184
الثالث: الدليل الظني غير الراجع لدليل قطعي وهو مضاد للشرع 184
الرابع: الدليل الظني غير الراجع لدليل قطعي وهو غير مضاد للشرع ولا موافق له 184
مناقشة المصنف في قوله: "قطعي" وإخراج القياس من أدلته 184
الأول: لا يحتاج إلى بيان والثاني: من أمثلته:
ما جاء في النهي عن جملة من البيوع 185
النهي عن الإضرار والتعدي والجنايات على الأغيار 185-186
الثالث: الظني المعارض للأصل القطعي، ولا يشهد له أصل قطعي 186
الدليل على ذلك:
الأول: مخالفته لأصول الشريعة، فلا يعد منها ما هو مخالف لها 186
الثاني: عدم وجود ما يشهد له بصحته 186
مثال على ذلك في المناسب الغريب وقصة من أفتى بإيجاب شهرين متتابعين على من
ظاهر امرأته أو جامعها في نهار رمضان كحكم ابتدائي 186-188
توضيح للمناسب الغريب 186
توضيح أن أخبار الآحاد ليس كلها مما يشهد لها أصل قطعي 186
هذا القسم على ضربين
الأول: أن تكون مخالفته للأصل قطعية، فيرد 188
الثاني: أن تكون ظنية: 188
أ- إِمَّا بِأَنْ يَتَطَرَّقَ الظَّنُّ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الظني 188
ب- وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْأَصْلِ لَمْ يَتَحَقَّقْ كونه قطعيا 188
هذا مجال المجتهدين 188
دخول الظاهرية في هذا الباب في باب معارضة نص بنص آخر أو قاعدة أخرى
إذ لا يوجد تناقض في هذا لأسباب 188
مسألة فرعية خَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا كَمُلَتْ شُرُوطَ صِحَّتِهِ، هَلْ يجب عرضه على الكتاب 189
تخريج حديث في الباب 189(3/583)
رد خبر الواحد بالقياس وكشف غلط على مالك وأبي حنيفة 190
أمثلة من سيرة السلف فيمن رد حديثا لمخالفته ما عنده من أحاديث أو غيرها من النصوص، أو لمخالفته قاعدة ثابتة عنده
رد عائشة لحديث تعذيب الميت ببكاء أهله عليه 190-191
وردها لحديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء 191-192
وردت هي وابن عباس حديث غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء 192
تفسير المهراس 192
تبيان وجه الصواب فيمن اعترض على أبي هريرة 193
رد عائشة لحديث ابن عمر في الشؤم 194
قصة عمر مع وباء الطاعون في سفره إلى الشام تعود إلى هذا الأصل 194
مالك يتوقف في حديث ولوغ الكلب 195-196
حديث خيار المجلس 196-197
معارضة مالك في المسألة 197-198
حديث: صيام الولي عن الميت 198
حديث إكفاء قدور الطبخ في الحرب قبل تقسيم الغنيمة 198-199
صيام ست من شوال 199
الرضعات وبيان وجه لم يظهر للشيخ دراز 199-200
سد الذرائع والمصالح المرسلة عند مالك 199-200
ومثله عند أبي حنيفة:
قدم خبر القهقهة على القياس 200
رد خبر القرعة في المماليك الستة 200-201
خبر الواحد المعارض لقاعدة 201
عودة إلى ولوغ الكلب في مذهب مالك 201
حديث العرايا وقاعدة الربا 201
قاعدة الربا في بيع الرطب بالتمر 202
أبو حنيفة وأهل الحديث 203
أهل العراق ومالك وحديث المصراة 204-205(3/584)
النهي عن بيع كتب الفقه 205
الرابع: الظَّنِّيُّ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ ولا يعارض أصلا قطعيا فهو من
باب المناسب الغريب 206-207
التمثيل عليه بالقاتل لموروثه، ومطلق زوجته في مرض الموت 206-207
فصل: المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي 207
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: 208
الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تُنَافِي قَضَايَا العقول: 208
الوجه الأول: أَنَّهَا لَوْ نَافَتْهَا، لَمْ تَكُنْ أَدِلَّةً لِلْعِبَادِ على حكم شرعي ولا غيره 208
الوجه الثاني: أَنَّهَا لَوْ نَافَتْهَا، لَكَانَ التَّكْلِيفُ بِمُقْتَضَاهَا تَكْلِيفًا بما لا يطاق 208
الوجه الثالث: أن مورد التكليف العقل، وبفقدانه يرتفع التكليف رأسا 209
الوجه الرابع: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْكُفَّارُ أَوَّلَ من رد الشريعة به، وهذا
معلوم من حرصهم على ذلك 209
الوجه الخامس: أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى جَرَيَانِهَا عَلَى مُقْتَضَى العقول 210
مناقشة الدعوى في أصل المسألة: 210
أولا: أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ أصلا 210
ثانيا: المتشابهات الموجودة في الشريعة 211
ثالثا: فيها ما اختلفت فيه العقول حتى اختلفت فرقا 211
الإجابة عن المناقشات واحدا واحدا
الإجابة عن فواتح السور 212
الإجابة عن المتشابهات 212
احتجاج النصارى بالتثليث من القرآن 213
مسائل نافع بن الأزرق لابن عباس 213-216
المسألة الرابعة: 217
ارتباط هذه المسألة بمسألة: "يستحيل كون الشيء واحدا واجبا حراما من جهة واحدة" ... ومسألة: "إذا أمر بفعل مطلق فالمطلوب ... " 217
الْمَقْصُودُ مِنْ وَضْعِ الْأَدِلَّةِ تَنْزِيلُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ على حسبها وأفعال الْمُكَلَّفِينَ لَهَا اعْتِبَارَانِ: 217(3/585)
اعتبار من جهة معقوليتها، ومن جهة وقوعها في الخارج 218
توضيح المسألة بمسألة الدار المغصوبة وسبب الاختلاف فيها وأماكن الخلاف بين العلماء 217-218
الأدلة على اعتبار 219
أحدها: في الأول؛ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ أَوِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَوِ الْمُخَيَّرَ فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ حَقَائِقُ الْأَفْعَالِ الَّتِي تنطلق عليها تلك الأسماء 219
تعلق الأوامر والنواهي بالمطلق 219
الاعتبار الثاني: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّخْيِيرِ إِنَّمَا هو أن يقوم المكلف بمقتضاها، ولا تكون أمورًا ذهنية 219
ثانيها: في الأول؛ أَنَّا لَوْ لَمْ نَعْتَبِرِ الْمَعْقُولَ الذِّهْنِيَّ فِي الأفعال؛ لزمت شناعة مذهب الكعبي؛ لأن كل من فعل أو قول فمن لوازمه ترك الحرام 220
والثاني من الاعتبارين: لَوِ اعْتَبَرْنَا الْمَعْقُولَ الذِّهْنِيَّ مُجَرَّدًا عَنِ الْأَوْصَافِ الْخَارِجِيَّةِ، لَزِمَ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ الْأَوْصَافُ الْخَارِجِيَّةُ بإطلاق وهو باب واسع 220
النيات في العادات 220
ثالثها: في الأول؛ أَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا الْأَفْعَالَ مِنْ حَيْثُ هِيَ خَارِجِيَّةٌ فَقَطْ، لَمْ يَصِحَّ لِلْمُكَلَّفِ عَمَلٌ
إِلَّا في النادر 221
أما الثاني: فإن الْأُمُورَ الذِّهْنِيَّةَ مُجَرَّدَةٌ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ تُعْقَلُ وما لا يعقل لا يكلف به 222
خلط العمل الصالح بالعمل السيء 221، 223-224
فصل: ويتصدى النظر فِيمَا يَصِيرُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَصْفًا لِصَاحِبِهِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ النَّظَرَانِ، وَمَا لَا يَصِيرُ كذلك، فلا يجريان فيه 224
المسألة الخامسة: 227
الأدلة الشرعية ضربان: ما يرجع إلى النقل المحض، وما يرجع إلى الرأي المحض 227
قد يكون ما يرجع باتفاق وما يرجع باختلاف 227-228
فصل: الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ فِي أَصْلِهَا مَحْصُورَةٌ فِي الضَّرْبِ الأول؛ لأن الثاني ثبت عن طريقه 228
ما كان يرجع إلى النقل المحض فهو مستند الأحكام التكليفية من جهتين: 228(3/586)
الأولى: من جهة دلالته على الأحكام الجزئية الفرعية 228
الثانية: من جِهَةُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الَّتِي تَسْتَنِدُ إِلَيْهَا الأحكام
الجزئية الفرعية 228
فصل: إِنَّ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى الكتاب من وجهين: 229
الأول: أَنَّ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهَا إِنَّمَا يَدُلُّ عليه الكتاب
من وجهين: 229
الأول: أَنَّ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهَا إِنَّمَا يَدُلُّ عليه الكتاب 230
الثَّانِي: أَنَّ السُنَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُبِيِّنَةً لِلْكِتَابِ وشارحة لمعانيه 231
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: 231
كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَمَبْنِىٌّ عَلَى مقدمتين: 231
الأولى: راجعة إلى تحقيق مناط الحكم، وهذه نظرية 231
والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي، وهذه نقلية 231
ضرب الأمثلة في الفقه على الخمر والطهارات 232
وفي اللغة والعقليات 233
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: 235
كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ مُطْلَقًا غَيْرُ مُقَيِّدٍ، وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ قَانُونٌ، وَلَا ضَابِطٌ مَخْصُوصٌ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف 235
وكل ما ثبت مقيدًا ... فهو راجع إلى معنى تعبدي 235
المسألة الثامنة: 236
الأصول الكلية المدنية جزئية بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ أَوْ تكميلًا 236
بيان ذلك في الضروريات الخمس: 236
الدين 236
الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 236
النفس 236
العقل: وتبيان ذلك في مسألة الخمر 237-238
النسل: وتبيان أهمية ذلك في تحريم الزنا 238
المال 238
العرض 238
تبيان ذلك في الأصل المكي 239
وفي صيام عاشوراء، وفي الجهاد 240(3/587)
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: 241
كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يُمْكِنُ أَخْذُهُ كليا سواء كان كليا أو جزئيا 241
وكذلك عموم التشريع 242
أصل شرعية القياس 242
ومنها أن الله قَالَ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} فَإِنَّ نَفْسَ التَّزْوِيجِ لَا صِيغَةَ لَهُ تَقْتَضِي عموما أو غيره 242
وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين ذلك بقوله وفعله 243
تخريج حديث "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" 243-244
تخريج حديث "إني لأنسى أو أنسى لأسن" 245
المسألة العاشرة: 247
الأدلة الشرعية ضربان: 247
الأول: أن يكون على طريقة البرهان العقلي 247
الثاني: مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فِي النِّحْلَةِ، وَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الدالة على الأحكام التكليفية 248
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: 249
إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي اللَّفْظِ لَمْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِىِّ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَعْمِيمِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُسْتَعْمَلًا عند العرب في مثل ذلك اللفظ 249
توضيح ذلك بالأمثلة 249-251
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: 252
كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يخلو أن يكون له ثلاث حالات من حيث عمل السلف به:
الأول: أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ دَائِمًا أَوْ أَكْثَرِيًّا 252
الثاني: أَنْ لَا يَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا قَلِيلًا أَوْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ أَوْ حَالٍ من الأحوال 252-253
الترجيح بين العمل الأكثري وغيره، وهناك مسائل ترجيح أخرى 253
قضايا الأعيان وحجيتها 254
وهذا القسم ضربان: 254
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ فِيهِ لِلْعَمَلِ الْقَلِيلِ وَجْهٌ يصلح أن يكون سببا للقلة 254
ذكر الأمثلة مثل إمامة جبريل وغيرها 255-256(3/588)
تعقب السيوطي في "الأزهار المتناثرة" في حديث "أسفروا بالفجر" 257
المحافظة على الأوقات 258
الاغتسال يوم الجمعة 259
قيام النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان 259-260
توضيح للأمثلة التي ذكرها المصنف 263
مشروعية الجماعة للنافلة 264
الثَّانِي: مَا كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَأْتِي عَلَى وُجُوهٍ:
مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُحْتَمَلًا في نفسه 267
مثل القيام للقادم 267-268
إذا احتمل الموضوع طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر 269
قصة المعانقة وتقبيل اليد 269-270
سجود الشكر عند مالك 270
العمل على شيء أقوى من الحديث عند مالك 270
التشهد والأذان عند مالك 271
سجود الشكر وعودة إليه 271-272
ووجه آخر: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَلِيلُ خَاصًّا بِزَمَانِهِ أَوْ بصاحبه الذي عمل به 272
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا فُعِلَ فَلْتَةً، فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ ذلك الصحابي ولا غيره 273
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ رَأْيًا لِبَعْضِ الصحابة لم يتابع عليه 274
كأكل أبي طلحة البرد وهو صائم 274
أمثلة أخرى 275
ومنها: أَنْ يَكُونَ عُمِلَ بِهِ قَلِيلًا ثُمَّ نُسِخَ فترك العمل به جملة؛ مثل الصيام عن الميت 276
والسجود في المفصل 278
أما من عمل بالقليل فيلزمه لوازم منها 280
الأول: المخالفة للأولين 280
الثاني: استلزام ترك ما داوموا عليه ومخالفتهم 280
الثالث: أن ذلك ذريعة إلى اتدراس أعلام ما داموا عليه واشتهار ما خالفه 280(3/589)
والقسم الثالث من أقسام المسألة:
أَنْ لَا يَثْبُتَ عَنِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِهِ عَلَى حَالٍ، فَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا قَبْلَهُ 280
كلمة في التحذير من مخالفة السلف 280-281
السنة والرافضة والخلافة 281
الباطنية وفرق الاعتقادات الأخرى 281-282
قراءة القرآن بالإدارة 283
دعاء المؤذنين بالليل 283
كلمة جامعة عن الابتداع والمصالح المرسلة عند السلف 283-284
وفيه التحذير من أن اختراع البدع والاحتجاج بأن السلف أحدثوا أمورا لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كجمع المصحف بأنه من تتبع المتشابه 283-284
احتجاجه بأن ذلك من المسكوت عنه لا دليل فيه؛ لأن المسكوت عنه
على وجهين: 284-285
الوجه الأول: أَنْ تَكُونَ مَظِنَّةُ الْعَمَلِ بِهِ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يشرع له أمر زائد 285
الثاني: أَنْ لَا تُوجَدَ مَظِنَّةُ الْعَمَلِ بِهِ ثُمَّ توجد، فيشرع له أمر زائد....
وهو المصالح المرسلة 285
الْمُطْلَقَ إِذَا وَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ 285
فصل المخالفة لعمل الأولين مختلفة المراتب، ولكنها تقع من أحد شخصين: إما مجتهد بذل غاية الوسع فلا حرج، وإن لم يبذل فهو آثم 286
قد لا يكون مجتهدا وأدخل لنفسه خطأ 286-287
أهل الاجتهاد لَا يَخْتَلِفُونَ إِلَّا فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ 287
العمل مخلص للأدلة من شوائب الاحتمالات المقدرة الموهنة 288
الفرق وأهل الضلالات لا يعجزون عن الاستدلال لمذاهبهم وذكر أمثلة على ذلك 288-289
وكذلك النصارى 289
التحري لعمل السلف وفهمهم هو الصواب 289
المسألة الثالثة عشرة:
أَخْذَ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ يَقَعُ فِي الْوُجُودِ على وجهين: 290
الأول: أَنْ يُؤْخَذَ الدَّلِيلُ مَأْخَذَ الِافْتِقَارِ وَاقْتِبَاسِ مَا تضمنه من الحكم ليعرض عليه(3/590)
النازلة 290
الثاني: أَنْ يُؤْخَذَ مَأْخَذَ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى صِحَّةِ غَرَضِهِ في النازلة العارضة 290
وهذا شأن أهل البدع 290
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: 290
اقْتِضَاءُ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَحَالِّهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: 292
أَحَدُهُمَا: الِاقْتِضَاءُ الْأَصْلِيُّ قَبْلَ طُرُوءِ الْعَوَارِضِ، وَهُوَ الْوَاقِعُ عَلَى الْمَحَلِّ مجردا
عن التوابع والإضاقات 292
الثاني: الِاقْتِضَاءُ التَّبَعِيُّ، وَهُوَ الْوَاقِعُ عَلَى الْمَحَلِّ مَعَ اعتبار التوابع والإضافات 292
هل يصح الاقتصار في الاستدلال على الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ، أَمْ لَا بُدَّ من اعتبار التوابع والإضافات حتى يقيد دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها 292
أخذ الْمُسْتَدِلُّ الدَّلِيلَ عَلَى الْحُكْمِ مُفْرَدًا مُجَرَّدًا عَنِ اعتبار الواقع صح الاستدلال،
وإلا فلا يصح 292
توضيح ذلك بالأمثلة 292
{لَاْ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ} ونزول {غَيْر أُولِيْ الْضَّرَرِ} 293
حديث: "من نوقش الحساب عذب" 293
"ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" 294
والأمثلة لا تحصى 295
فصل: مواضع تعين المناط: 296
الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام كنزول الآيات على سبب 296
أَنْ يُتَوَهَّمَ بَعْضُ الْمَنَاطَاتِ دَاخِلًا فِي حُكْمٍ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي الحكم 297
وَمِنْهَا أَنْ يَقَعَ اللَّفْظُ الْمُخَاطَبُ بِهِ مُجْمَلًا، بحيث لا يفهم المقصود به ابتداء 298
إذا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ تَعْيِينٌ فَيَصِحُّ أَخْذُهُ عَلَى وفق الواقع مفروض الوقوع 300
النظر الثاني في عوارض الأدلة 303
فينحصر في خمسة فصول:
الفصل الأول: الإحكام والتشابه 305
المسألة الأولى 305
إطلاق المحكم على وجهين خاص وعام 305(3/591)
المسألة الثانية: في التشابه 307
فوائد هذه المسألة 307
ثبت التشابه بقلة في النصوص "الأدلة" لأمور: 307
الأول: النص الصريح 307
الثاني: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَوْ كَانَ كَثِيرًا لَكَانَ الِالْتِبَاسُ والإشكال كثيرا 308
الثالث: الاستقراء 308
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ الْمُتَشَابِهُ قَلِيلًا؟ وَهُوَ كثير على الوجه الذي أراده المصنف 309
القواعد الكلية لا تجري على الاطراد 309
ثم إن المسائل المتفق عليها قليلة والمختلف عليها كثيرة 309
الْأَدِلَّةَ الَّتِي يَتَلَقَّى مَعْنَاهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ لَا تتخلص من القوادح العشرة المذكورة 310
الكلام في أخبار الآحاد وضعف الأسانيد، والاختلاف فيها 311
وهناك القياس 311
مقدمتا الاستدلال الشرعي؛ "الشرعية"؛ و"نظرية" تتعلق بتحقيق المناط 311
الجواب عن هذه الإشكالات وأن التشابه إنما هو بحسب الواقع قبل البيان 311-312
لا بد من جمع النصوص في المسألة وعدم أخذ طرف منها 312
مثل المعتزلة في اتباع المتشابه 313
وجميع أهل الطوائف 313
المسألة الثالثة 313-314
المتشابه الواقع في الشريعة حقيقي وإضافي 315
فالأول: هو المراد بالآية، وهو قليل، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ
بِهِ تكليف سوى مجرد الإيمان 315
اختلاف النصارى في شأن سيدنا عيسى عليه السلام وبالتالي
إفكهم وافتراؤهم على الله جل وعلا 315-316
الهوى والفساد عند النصارى 316-317
الثاني: وهو الإضافي، وسبب ذم من اتبع هذا النوع 317
طرح أمثلة على النوع الثاني 317
الثالث: التشابه فيه ليس بعائد على الأدلة، إنما على مناطها
كالاشتباه في الميتة والذكية 318(3/592)
فصل: المتشابه هو الحقيقي فقط 318
إخراج مسائل الخلاف من المتشابهات بإطلاق 318
انتقاد المصنف في أسلوبه 318
مسائل العقيدة التي تكلم فيها السلف أو سكتوا عنها 319
نظر المجتهد في الأدلة وإصابة الحق 319
الإجماع والقياس 319-320
الخلاف في الأمة فرقا ومذاهب فقية 320
دخول علوم إلى الشرع لا يحتاج إليها 320-321
المسألة الرابعة: 322
التشابه الحقيقي لَا يَقَعُ فِي الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ في الفروع الجزئية بالاستقراء، ولأن الْأُصُولَ لَوْ دَخَلَهَا التَّشَابُهُ، لَكَانَ أَكْثَرُ الشَّرِيعَةِ كذلك، وهو باطل 322
بيان عن الفرق الضالة وانحرافها في الأصول 323
تمييز الكلام بين الأصول والقواعد الكلية 323
عودة مجددة إلى آيات الصفات وإيهامها للتشبيه 323
الوقوف في قوله تعالى: 323
{وَمَا ْيَعْلَمُ تَأْوِيْلَهُ إِلَّا اللهُ والْرَاسِخُوْنَ فِيْ العِلْمِ يَقُوْلُوْنَ آمَنَّا بِهْ} 324
هل في القرآن كلمات لا معنى لها 325
المنسوخ والمتشابه 325-326
أخبار يوم القيامة، وفواتح السور 326
التفويض في الصفات 326
اختلاط الميتة بالذكية 326
المسألة الخامسة: 328
التأويل في المتشابه 328
الإضافي والحقيقي 328
المسألة السادسة: 330
ما يشترط في المؤول به أو ما يراعى في وصفه: 330
أولا: أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَعْنًى صَحِيحٍ فِي الِاعْتِبَارِ متفق عليه في الجملة بين المختلفين 330(3/593)
ثانيا: أن يكون وضع اللفظ قابلا له بوجه من الوجوه 330
معرفة مراد المتكلم بكلامه 330
التأويل يُسَلَّطُ عَلَى الدَّلِيلِ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَقْوَى منه 331
معنى التأويل أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ كَوْنُهُ دَلِيلًا في الجملة 332
أمثلة من التأويلات الفاسدة: 332
تأويل "الخليل" 332
و"غوى" 332
فصل: جريان ما سبق على باب التعارض والترجيح 333
التأويل الصحيح والفاسد 333
الفصل الثاني في الإحكام والنسخ 335
المسألة الأولى: 335
القواعد المكية والأحكام المدنية 335
ذكر بعض الأحكام الإسلامية التي شرعت في مكة، وبعض المعاصي
التي كانت عند عرب الجاهلية 335
الأصول المكية كثيرة والأحكام قليلة 335
إكمال الأحكام في المدينة 336
النسخ والرخص في المدينة أكثر منها في مكة 336
النسخ وقع على أحكام كانت استئلافا للناس 336
المسألة الثانية: 336-337
النسخ في الكليات -مكية، أو مدينة- لا يقع، ثبت ذلك بالاستقراء من تتبع الناسخ والمنسوخ، ولأن الأحكام التي ثبتت على المكلف لا ترفع إلا بما هو ثابت قبلها 338
الأحكام المكية أكثرها كليات فالنسخ فيها قليل على عكس المدنيات 339
نسخ القرآن بخبر الآحاد أو بالمتواتر 339
فصل: إسقاط كثير من النسخ المدعى على جملة آيات وأحكام -ليست كليات- بالتأمل والجمع بين النصوص 340
مناقشة "الجلالين" في ادعاء النسخ 340
التمثيل على زكاة الفطر 340(3/594)
تحريم المباح ليس بنسخ 341
تعريف النسخ 341
تمثيل على ما حرم بعد الإباحة: الخمر، والكلام في الصلاة 341
نقد المصنف في النقل عن الآخرين وفي عدم تمحيصه للأخبار 342
عبارات لتحريم ما هو مباح 342
المسألة الثالثة: 344
معاني النسخ عن المتقدمين: 344
تقييد ما أطلق وتخصيص ما عمم وتبيين ما أبهم 344
النسخ الذي عرف سابقا 344-345
هل النسخ يدخل على الأخبار وثمراتها؟ وبحث هام فيها! 345
نسخ التلاوة ونسخ التكليف 345-346
أمثلة على معاني النسخ عند الأقدمين ومناقشتها وتفسيرها
على الوجه الأفضل 345
الهمم والخواطر 352
التخصيص والنسخ ومثال يخرج عليهما 354
الفرار من المعركة 355
حسن الظن بالعلماء 356
النسخ في الأخبار 356
النسخ في التهديد والوعيد 359
شهادة التائب من القذف 360-361
التيمم 360
المسألة الرابعة: 365
القواعد الكلية وما يحفظها ثابتة لا يدخلها نسخ 365
الضروريات مراعاة في كل ملة 365
مراعاة الحاجيات، والتكليف بما لا يطاق 365
اختلاف الأحكام الجزئية بين الشرائع 367
الفصل الثالث في الأوامر والنواهي 369
المسألة الأولى: 369(3/595)
الطلب والإرادة من الآمر في الأمر والنهي 369
الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة في إرادة الله الأمر ووقوعه 369
معاني الإرادة في الشريعة: الخلقية القدرية الكونية والأمرية 370
ذكر آيات وأحاديث على الإرادتين 372
تأويل الإرادة 372
عدم التمييز بينهما سبب للوهم 373
ذكر اصطلاح المصنف بكلمة "قصد الشارع" والقصد 373
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: 374
الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقَاتِ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى إِيقَاعِهَا كَمَا أَنَّ النَّهْيَ
يَسْتَلْزِمُ قَصْدَهُ لترك إيقاعها 374
ثلاثة أوجه للاستدلال على هذه المقولة 374
إشكالات عليها 375
الإجابة عليها 376
مناقشة للمصنف في بعض الإجابات 377
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: 379
الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بالمقيد 379
مناقشة وتوضيح لرأي المصنف 379
الوجه الأول: لولا ذلك لانتفى أن يكون أمرًا بالمطلق 379
الثاني: ثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص 379
الثالث: أن التقييد تعيين ولكان تكليفا بما لا يطاق 380
معارضة ما سبق 381
والجواب عنه 383
الواجب المخير 384
المسألة الرابعة: الأمر بالمخير يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى أَفْرَادِهِ
الْمُطْلَقَةِ الْمُخَيَّرِ فيها 385
المسألة الخامسة: 385
المطلوب الشرعي ضربان: 385
الأول: مَا كَانَ شَاهِدُ الطَّبْعِ خَادِمًا لَهُ وَمُعِينًا على مقتضاه 385(3/596)
الثاني: ما لم يكن كذلك كالعبادات 385
في الأول يَكْتَفِي الشَّارِعُ فِي طَلَبِهِ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ
والعادات الجارية 386
إطلاق كثير من العلماء على أمور أنها سنن أو مندوبات
أو مباحات ومعناها 386
النصوص الجازمة غير موجودة في طلب الأمور العادية 387
أما الضَّرْبُ الثَّانِي: فَإِنَّ الشَّارِعَ قَرَّرَهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ 388
يكون ذلك في الأوامر والنواهي، وَيَلْحَقُ بِهَا اقْتِحَامُ الْمُحَرَّمَاتِ
لِغَيْرِ شَهْوَةٍ عَاجِلَةٍ ولا باعث طبيعي 388
الكلام عن لحم الخنزير وفصحه عند الكفار 388
العصيان بسبب الشهوة 389
المعاند المجاهر 389
فَصْلٌ: هَذَا الْأَصْلُ وُجِدَ مِنْهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ جُمَلٌ 390
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: 392
كُلُّ خَصْلَةٍ أُمِرَ بِهَا أَوْ نُهِيَ عَنْهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَقْدِيرٍ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ أَوِ النَّهْيُ فِيهَا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا 392
ذكر جملة من الأوامر والخصال الحسنة 392
ذكر جملة من المنهيات والخصال السيئة 393
الإسراف والتبذير والفرق بينهما 393
ألفاظ المنكر والإثم والإجرام 393
ما سبق في الأوامر والنواهي جاءت في القرآن على ضربين: 395
الأول: أَنْ تَأْتِيَ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَكِنْ
بِحَسَبِ كُلِّ المقام 395-396
سرد لمعاصٍ أخرى 395
توضيح للضرب الأول بالأمثلة 396
الضرب الثاني: أن تأتي في أقصى مراتبها، مقرونة بالوعيد في النواهي وبالمدح لفاعلها وبالنعيم في الأوامر 397
توقف السلف بالجزم بالتحريم 401
المسألة السابعة: 404(3/597)
الأوامر والنواهي على ضربين: صريح وغير صريح 404
والصريح له نظران: 404
الأول: مِنْ حَيْثُ مُجَرَّدِهِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عِلَّةٌ مصلحية 404
الخلاف بين الصحابة في صلاة العصر في بني قريظة 407
احتجاج المبتدعة به على أهل السنة 407
رد التنازع إلى الكتاب والسنة 407
المحافظة على الأوقات 408
إصابة الحق 408
اعتبار المصالح وتحقيقها في الأحكام 409
الالتفات إلى المعاني 410
البول في الماء الراكد 411
القيم في الزكاة 411
النظر الثاني: هُوَ مِنْ حَيْثُ يُفْهَمُ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي قصد شرعي
بحسب الاستقراء في خصوصها 411
اعتبار المصالح في الأحكام 412
الوصال في الصيام 413-416
بيوع منهي عنها 416-418
تساوي الأوامر والنواهي من جهة اللفظ في دلالة الاقتضاء 419
اعتبار السياق في كلام العرب 419
الظاهرية هل هي بدعة 420
فصل: عمل الْعَامِلُ عَلَى مُقْتَضَى الْمَفْهُومِ مِنْ عِلَّةِ الْأَمْرِ والنهي 421
قيام السلف بالعبادات والاجتهاد فيها 421
تيسير الرب العبادات على المكلفين 421
المشتقات والرخص 421-422
فصل: ضروب الأوامر والنواهي غير الصريحة: 422
أَحَدُهَا: مَا جَاءَ مَجِيءَ الْإِخْبَارِ عَنْ تَقْرِيرِ الحكم 422
الثاني: مَا جَاءَ مَجِيءَ مَدْحِهِ أَوْ مَدْحِ فَاعِلِهِ فِي الْأَوَامِرِ، أَوْ ذَمِّهِ أَوْ ذَمِّ فَاعِلِهِ في النواهي(3/598)
وترتيب الثواب والعقاب والمحبة والكره 422-423
الثالث: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ كَالْمَفْرُوضِ فِي مَسْأَلَةِ
ما لا يتم الواجب إلا به 423-424
فصل: معاني الغصب والتعدي عند العلماء واختلافهم فيه وهل يختص ذلك بالمنافع دون الرقاب وبحث مباحث أخرى تحتها 425-432
المسألة الثامنة: 433
توارد الأمر والنهي على متلازمين عند فرض الانفراد، مع حكم تبعية أحدهما للآخر المعتبر ما انصرف إلى المتبوع 433
أدلة ذلك: 433
الأول: الفرق الأول بين القصد الأصلي والتابع وإن كان الأمر والنهي
هناك غير صريح وهنا صريح 433
الثاني: أنهما إما أن يردا معا أو لا يردا ألبتة أو أحدهما دون الآخر والأول والثاني غير صحيحين والثالث أحدهما تابع والآخر متبوع 434
الثالث: الاستقراء 434
الإشكالات الواردة على ما سبق 436
الأول: ما قيل أن الرقاب والذوات لا يملكها إلا الله والمنافع للعباد 436
الثاني: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الذَّوَاتَ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا فالمنافع هي المقصودة 437
الثالث: ما وجد من النصوص الشرعية 438
الرابع: قصد المنافع عند العقلاء 439
الإجابة عن الإشكالات 439
الجواب عن الأول 440
الجواب عن الثاني 441
الجواب عن الثالث 445
الجواب عن الرابع 446
القصد إلى المنافع 447
ضوابط المنافع بالكلية 447
فصل: أقسام منافع الرقاب: 448
الأول: مَا كَانَ فِي أَصْلِهِ بِالْقُوَّةِ لَمْ يَبْرُزْ إلى الفعل لا حكمًا ولا موجودًا 448(3/599)
الثاني: مَا ظَهَرَ فِيهِ حُكْمُ الِاسْتِقْلَالِ وَجُودًا وَحُكْمًا أو حكمًا عاديًّا أو شرعيًّا 449
الثالث: ما فيه الشائبتان، وهو ضربان: 449
أحدها: ما كان هذا المعنى فيه محسوسا 449
ثانيها: ما كان في حكم المحسوس 449
تبيان وجه الخلاف بمثال السقي بعد بدو الصلاح 451
فصل: فوائد تتركب على هذا الأصل 452
مِنْهَا: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ تبعية جارٍ في الحكم التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ أصل آخر 452
ذكر أمثلة على ذلك وتوضيحها 452
وَمِنْهَا: أَنَّ كُلَّ تَابِعٍ قُصِدَ، فَهَلْ تَكُونُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ لِأَجْلِهِ مَقْصُودَةً
عَلَى الْجُمْلَةِ لَا على التفصيل 454
وَمِنْهَا: قَاعِدَةُ الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ فَالْخَرَاجُ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ 455
ومنها: تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ مَا كَانَ تَابِعًا لِلشَّيْءِ الْمُسْتَصْنَعِ فيه 455
وَمِنْهَا: فِي الصَّرْفِ مَا كَانَ مِنْ حِلْيَةِ السيف والمصحف 456
التنبية على أن مسائلها كثيرة 456
فصل: ومن الفوائد: 456
أَنَّ كُلَّ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عليه
وما فيه منفعة أو منافع فهو أحد ثلاثة أقسام: 457
الأول: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا حَرَامًا أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ 457
الثاني: أن يكون جميعها حلالًا 457
التنبيه على بعد هذين القسمين عن الواقع 457
الثالث: ما اختلطا 457
وهو قسمان: 457
الأول: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَصَالَةِ عُرْفًا وَالْجَانِبُ
الْآخَرُ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْعَادَةِ 457
قصد العاقد إلى المحرم على الخصوص وهو يحتمل وجهين: 458
الوجه الأول: اعتبار القصد الأصيل وإلغاء التابع 458(3/600)
الوجه الثاني: اعتبار القصد الطارئ 458
فائدة حول اختلاط المنافع المحللة بالمحرمة 458
بدء ذكر الأمثلة وتوضيحها بالأصل السابق بما يشفي العليل 458
توجيه الوجه الأول وتقويته 459
القسم الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ تَبَعًا فِي الْقَصْدِ الْعَادِيِّ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مما يسبق القصد إليه عادة بالأصالة 459-460
ذكر بعض القواعد تحت هذه المسألة 465
المسألة التاسعة: 467
حال الاجتماع وحال الانفراد في الشرع 467
وُرُودُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى شَيْئَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْآخَرِ وَلَا هُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي الْوُجُودِ وَلَا فِي الْعُرْفِ الْجَارِي؛ إِلَّا أَنَّ الْمُكَلِّفَ ذَهَبَ قَصْدُهُ إِلَى جَمْعِهِمَا مَعًا في
عمل واحد وفي غرض واحد 467
توضيح تأثير الاجتماع وتأثير التفرق وأن للاجتماع ما ليس
للانفراد والعكس 468
سرد أمثلة من الكتاب والسنة على تأثير الاجتماع 468
كلمة عن الاجتماع والجماعة والفرقة 473
ذكر معاني الافتراق التي لا تزيلها حالة الاحتجاج 473
ذكر أمثلة في توضيح وتثبيت هذا الأصل 473
التأكيد على معاني الانفراد التي ليست في الاجتماع
ومعاني الاجتماع التي ليست في الانفراد 474 -475
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: 477
الْأَمْرَانِ يَتَوَارَدَانِ عَلَى شَيْئَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ تَابِعٍ لِصَاحِبِهِ إِذَا ذَهَبَ قصد المكلف إلى جمعهما في عمل واحد أو في غَرَضٍ وَاحِدٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْجَمْعِ تَأْثِيرًا، وَأَنَّ فِي الْجَمْعِ مَعْنًى لَيْسَ فِي الِانْفِرَادِ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الِانْفِرَادِ لَا يَبْطُلُ بِالِاجْتِمَاعِ 477
حالة حصول تنافي بين الأعمال ضمن القاعدة السابقة 477
بيع وسلف وتطبيق ما سبق عليه 478
مسألة الانفكاك في النيات واجتماعها 478
جمع العقود عند مالك 480(3/601)
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: 484
الْأَمْرَانِ يَتَوَارَدَانِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا
رَاجِعًا إِلَى الأمر المطلق، والآخر راجع إِلَى بَعْضِ تَفَاصِيلِهَا،
أَوْ إِلَى بَعْضِ أَوْصَافِهَا أَوْ إِلَى بَعْضِ
جُزْئِيَّاتِهَا فَاجْتِمَاعُهُمَا جَائِزٌ حَسْبَمَا ثبت في الأصول 484
سرد مجموعة من الأمثلة 484
الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ 486
التوسعة ورفع الحرج 487
المسألة الثانية عشرة: 488
الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وأحدهما رَاجِعٌ إِلَى بَعْضِ أَوْصَافِهَا أَوْ
جُزْئِيَّاتِهَا أَوْ نحو ذلك 488
صورتا المسألة 488
الأول: أَنْ يَرْجِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالنَّهْيُ إِلَى أوصافها ... وذكر أمثلة توضيحية 488
الثاني: أَنْ يَرْجِعَ النَّهْيُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالْأَمْرُ إِلَى أوصافها.. وذكر أمثلة توضيحية 488
المسألة الثالثة عشرة: 491
تَفَاوُتُ الطَّلَبِ فِيمَا كَانَ مَتْبُوعًا مَعَ التَّابِعِ له، وأن الطلب المتوجه للجملة أعلا رُتْبَةً وَآكَدُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الطَّلَبِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى التَّفَاصِيلِ أَوِ الْأَوْصَافِ أَوْ خُصُوصِ الْجُزْئِيَّاتِ 491
جريان الأوامر في الشريعة في التأكيد على أكثر من مجرى أو قصد واحد 492
إطلاق القول في الأمر ... هل هو للوجوب أو غيره 492
ترجيح الأمر للوجوب 493
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ 495
الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ عَلَى الْقَصْدِ الأول ليس أمرًا بالتوابع 495
دليل ذلك وما ينبني عليه في أداء المكلف للمطلقات 495
مثال ذلك في الإعتاق المطلق 496
بيان أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْمَأْمُورِ الْمَتْبُوعِ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَمْرٌ آخَرُ يقتضي بعض الصفات أو الكيفيات التوابع 496
تمثيل ذلك بما يوضح معنى من معاني البدعة 497(3/602)
فائدة المسألة: التزام الخصوصيات فِي الْأَوَامِرِ الْمُطْلَقَةِ
مُفْتَقِرٌ إِلَى دَلِيلٍ وَإِلَّا كان قولًا بالرأي 502
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: 503
الْمَطْلُوبُ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ يَصِيرُ مَطْلُوبَ
التَّرْكِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، كَمَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّرْكِ
بِالْكُلِّ هو المطلوب الترك بالقصد الأول 503
توضيح الأول وهو المطلوب الفعل: 503
الأول: أَنَّهُ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ حَيْثُ قَصْدِ الشَّارِعِ فيه وهو الأصل 503
النعم والإسراف والاقتصاد فيها وكذلك شكرها 504
الثاني: أَنَّ جِهَةَ الِامْتِنَانِ لَا تَزُولُ أَصْلًا وَقَدْ يزول الإسراف أيضًا 506
الثالث: أن الشريعة مصرحة بهذا المعنى 507
ذكر بعض الآيات والأحاديث 507-508
باب سد الذرائع أيضًا 509
معارضة ما سبق - بأن الْمَدْحَ وَالذَّمَّ رَاجِعٌ إِلَى مَا بُثَّ فِي الأرض 510
التكاليف وضعت للابتلاء والاختبار 511
الجواب على الاعتراض من وجهين 511
توضيح الثاني وهو المطلوب الترك للكل 515
أولا: لأنه خادم لما يضاد المطلوب الفعل فصار مطلوب الترك 515
الثاني: أن الغناء -وهو المضروب مثلًا- مِنْ قَبِيلِ اللَّهْوِ الَّذِي سَمَّاهُ الشَّارِعُ بَاطِلًا 515
الثالث: أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ لَمْ يَقَعِ الِامْتِنَانُ بِهِ، ولا جاء في معرض تقرير النعم 516
معارضة ما سبق بأن حصول اللذة وراحة النفس مقصود للإنسان وطلبها مع اللذات جائز ... فليكن اللهو واللعب ... جائز 517
دليل المعارضة: الأول بثها في القسم الأول 518
الثاني: نصوص القرآن 518
الثالث: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِنْ كَانَتْ خَادِمَةً لِضِدِّ الْمَطْلُوبِ بِالْكُلِّ فَهِيَ خَادِمَةٌ
لِلْمَأْمُورِ بِهِ أَيْضًا 519
الجواب عليها وجهًا وجهًا 519
فصل: فائدة بحث المسألة: 525(3/603)
مِنْهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُطْلَبُ الْخُرُوجُ عَنْهُ من المباحات عند اعتراض العوارض المقتضية للمفاسد، وما لا يطلب الخروج عنه 526
النظر في تعارض الأصل والغالب 528
تحذير السَّلَفُ مِنَ التَّلَبُّسِ بِمَا يَجُرُّ إِلَى الْمَفَاسِدِ 529
فَصْلٌ: وَمِنْهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَنْقَلِبُ بِالنِّيَّةِ من المباحات طاعة
وما لا ينقلب 531
وَمِنْهَا: بَيَانُ وَجْهِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُنَاسٍ بِكَثْرَةِ الْمَالِ مَعَ
عِلْمِهِ بسوء عاقبتهم فيه 534
المسألة السادسة عشرة: 536
الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِي التَّأْكِيدِ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الطَّلَبِ
الْفِعْلِيِّ أَوِ التَّرْكِيِّ، وَإِنَّمَا ذلك بحسب
تفاوت المصالح
والمفاسد الناشئة 536
الصوفية وإطراح الدنيا ومساواة الواجب بالمندوب والمحرم بالمكروه 536
المباحات والرخص 536
مأخذهم في الأمر من طريقين: 536
الأول: مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ، وَهُوَ رَأْيُ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي
إِلَّا مُجَرَّدَ الِاقْتِضَاءِ 537
الثاني: مِنْ جِهَةِ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَهُ اعْتِبَارَاتٌ: 537
أحدها: النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها 538
الثاني: النَّظَرُ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي مِنْ جلب المصالح
ودرء المفاسد عند الامتثال 538
الثالث: النَّظَرُ إِلَى مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ بِالشُّكْرَانِ أَوْ بِالْكُفْرَانِ 541
فصل: ويقتضي ما سبق التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ مُخَالَفَةٍ تَحْصُلُ
بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ به أو فعل المنهي عنه 542
الصوفية ومراتبهم 544
مراتب الناس في الدنيا وفي الآخرة 544
المسألة السابعة عشرة: 549
الأوامر والنواهي وإمكانية أخذها امتثالا من جهة ما هو حق لله مُجَرَّدًا عَنِ النَّظَرِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهَا حُقُوقُ العباد 549(3/604)
مأخذ الامتثال في مثل قَوْلَهُ تَعَالَى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 549
الأول: النظر في نفسه بالنسبة إلى قطع الطريق
، وإلى زاد يبلغه ... وما يعود عليه مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي
تُعُودُ عَلَيْهِ فِي قَصْدِهِ
بالمصلحة الدنيوية أو بالمفسدة 549
الثاني: أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِ وُرُودِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ من الله،
غافلا ومعرضا عما سوى ذلك 550
المأخذ الأول: مأخذ جارٍ على اعتبار حقوق العباد -
وهو ما يخص الفقهاء 550
والثاني: جارٍ على إسقاط اعتبارها والدليل على صحته: 551
الأول: مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ
مِنَ الْعَبْدِ التَّعَبُّدُ بِإِطْلَاقٍ 551
التقوى لله وكفاية الله له 551
الثاني: ما جاء في السنة من ذلك 553
الثالث: ما ثبت من هذا العمل من الأنبياء صلوات الله عليهم فقدموا
طاعة الله على حقوق أنفسهم 556
مناقشة المصنف فيما ذهب إليه من استدلالات وما نقله
من نصوص عن الصحابة والسلف 556
إطراح الأسباب جملة 558
التنبيه على أن حقوق الله ليست على وزان واحد 561
مناقشة المصنف لنفسه ثم الإجابة على الإشكالات 561
ما تقدم يدل على تقديم بعض الأسباب التي يقتضيها حق الله 562
حقوق الله أعظم من حقوق العباد 562
فصل: تأخير حقوق العباد يرجع إلى المكلف لا إلى غيره 562
المسألة الثامنة عشرة 564
توارد الأمر والنهي عَلَى الْفِعْلِ وَأَحَدُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ الْأَصْلِ
والآخر راجع إلى جهة التعاون 564
إذا اعتبر الأول الراجع إلى سد الذرائع فهو منع الجائز 564
ويحتمل ثلاثة أوجه: 564
الأول: اعتبار الأصل 564(3/605)
الثاني: اعتبار جهة التعاون 564
"تفصيل المسألة وتوضيحها" 564-565
الثالث: التفصيل وترجيح الغالب 564-565
الاستدراكات 569
الموضوعات والمحتويات 571(3/606)
المجلد الرابع
كتاب الأدلة الشرعية
تابع الطرف الأول: في أحكام الأدلة العامة
الفصل الرابع: في العموم والخصوص
...
تابع الطرف الأول: في أحكام الأدلة عامة
الفصل الرابع: في العموم والخصوص
ولا بد مِنْ مُقَدِّمَةٍ تُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ههنا، والمرادُ الْعُمُومُ الْمَعْنَوِيُّ، كَانَ لَهُ صِيغَةٌ مَخْصُوصَةٌ أَوْ لَا، فَإِذَا قُلْنَا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَفِي تَحْرِيمِ الظُّلْمِ أَوْ غَيْرِهِ: إِنَّهُ عَامٌّ فَإِنَّمَا مَعْنَى1 ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، بِدَلِيلٍ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ أَوْ لَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ هُنَا إِنَّمَا هِيَ الِاسْتِقْرَائِيَّةُ، المحصِّلة بِمَجْمُوعِهَا الْقَطْعَ بِالْحُكْمِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَالْخُصُوصُ بِخِلَافِ الْعُمُومِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَنَاطُ النظر وتحقق؛ فيتعلق به مسائل:
__________
1 سيأتي ذكره في المسألة السادسة، ويستدل عليه هناك بجملة وجوه. "د".(4/7)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
إِذَا ثَبَتَتْ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ أَوْ مُطْلَقَةٌ1. فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا مُعَارَضَةُ قَضَايَا الْأَعْيَانِ، وَلَا حِكَايَاتِ2 الْأَحْوَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَاعِدَةَ مَقْطُوعٌ بِهَا بِالْفَرْضِ؛ لِأَنَّا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ فِي الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَقَضَايَا الْأَعْيَانِ مَظْنُونَةٌ أَوْ مُتَوَهَّمَةٌ، وَالْمَظْنُونُ لَا يَقِفُ لِلْقَطْعِيِّ وَلَا يُعَارِضُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ مُحْتَمِلَةٍ لِاسْتِنَادِهَا3 إِلَى الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَقَضَايَا الْأَعْيَانِ مُحْتَمِلَةٌ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ4 عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهَا، أَوْ عَلَى ظَاهِرِهَا وَهِيَ مُقْتَطَعَةٌ وَمُسْتَثْنَاةٌ5 مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ؛ فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِبْطَالُ كُلِّيَّةِ الْقَاعِدَةِ بِمَا هَذَا شَأْنُهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَضَايَا الْأَعْيَانِ جُزْئِيَّةٌ، وَالْقَوَاعِدُ الْمُطَّرِدَةُ كُلِّيَّاتٌ، وَلَا تنهض
__________
1 لم ترد مقيدة، وقوله: "قضايا الأعيان" كما ورد مسحه -صلى الله عليه وسلم- على عمامته*، فلا يؤثر ذلك في قاعدة وجوب مسح نفس الرأس في الوضوء، ويكون مسح العمامة متى كانت روايته قوية مستثنى للعذر بجرح أو مرض بالرأس يمنع من مباشرة المسح عليها، وكما سيأتي في الفصل التالي في قضية قتل موسى للقبطي. "د".
قلت: انظر عن تخصيص العام بقضايا الأعيان: "البحر المحيط" "3/ 405" للزركشي.
2 كالحكايات التي [ستأتي "ص59"] ** عن عثمان وعمر من تركهم في بعض الأحيان ما هو مشروع باتفاق كالأضحية خوفًا من اعتقاد الناس فيه غير حكمه كالوجوب مثلًا. "د".
3 أي: فالأدلة القطعية التي أنتجت هذه القاعدة حددت معناها بحيث صارت لا تحتمل إرادة غير ظاهرها. "د".
4 في "ط": "لأن تكون ... ".
5 أي: مع بقاء العموم في الباقي بعد الاستثناء. "د".
__________
* انظر تخريجه والتعليق عليه في "3/ 272".
** بدلها في المطبوع: "تقدمت".(4/8)
الْجُزْئِيَّاتُ أَنْ تَنْقُضَ الْكُلِّيَّاتِ، وَلِذَلِكَ تَبْقَى أَحْكَامُ الْكُلِّيَّاتِ جَارِيَةً فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا مَعْنَى الْكُلِّيَّاتِ عَلَى الْخُصُوصِ، كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّفَرِيَّةِ1 بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلِكِ الْمُتْرَفِ، وَكَمَا فِي الْغِنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَالِكِ النِّصَابِ وَالنِّصَابُ لَا يُغْنِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَبِالضِّدِّ فِي مَالِكِ غَيْرِ النِّصَابِ وَهُوَ بِهِ غَنِيٌّ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لَوْ عَارَضَتْهَا؛ فَإِمَّا أَنْ يُعملا مَعًا، أَوْ يُهْمَلَا، أَوْ يُعْمَلَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، أَعْنِي فِي مَحَلِّ الْمُعَارَضَةِ؛ فَإِعْمَالُهُمَا مَعًا بَاطِلٌ2، وَكَذَلِكَ إِهْمَالُهُمَا؛ لِأَنَّهُ إِعْمَالٌ3 لِلْمُعَارَضَةِ فِيمَا بَيْنَ الظَّنِّيِّ وَالْقَطْعِيِّ، وَإِعْمَالُ الْجُزْئِيِّ دُونَ الْكُلِّيِّ تَرْجِيحٌ لَهُ عَلَى الْكُلِّيِّ، وَهُوَ خِلَافُ الْقَاعِدَةِ؛ فَلَمْ يبقَ إِلَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ، وَهُوَ إِعْمَالُ الْكُلِّيِّ دُونَ الْجُزْئِيِّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ عَلَى بَابَيِ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ؛ فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ صَحِيحٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمَظْنُونَةِ وَمَا ذَكَرْتَ جارٍ فِيهَا؛ فَيَلْزَمُ إِمَّا بُطلان مَا قَالُوهُ، وَإِمَّا بُطْلَانُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، لَكِنْ مَا قَالُوهُ صَحِيحٌ؛ فَلَزِمَ إِبْطَالُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.
[فَالْجَوَابُ] 4 مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا5: أَنَّ مَا فُرِضَ فِي السُّؤَالِ لَيْسَ من مسألتنا بحال؛ فإن ما نحن
__________
1 فإن العلة للرخصة بالإفطار أو القصر المشقة، وليست متحققة في الملك الذي يستعمل وسائل الترف في سفره، وهكذا ما بعده في الغنى بالنسبة إلى تحديد النصاب فيمن لا يجعله النصاب غنيًّا، وعكسه. "د". وفي "ط": "المشقة السفرية".
2 لأنه يستلزم التكليف بالضدين معًا، وهو لا يجوز. "د".
3 لأن إهمال الدليلين أو التوقف فيهما فرع عن تعارضهما مع عدم الترجيح لأحدهما، والواقع خلافه؛ لأنه لا معارضة إلا عند التساوي. "د". وفي "ط": "إهمال".
4 سقط من "ط".
5 أين ثانيهما؟ "د".(4/9)
فِيهِ مِنْ قَبِيلِ مَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْجُزْئِيُّ مُعَارِضًا وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمُعَارِضٍ؛ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ إِذَا كَانَتْ كُلِّيَّةً، ثُمَّ وَرَدَ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ وَقَضِيَّةٍ عَيْنِيَّةٍ مَا يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ الْمُعَارَضَةَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ وَحْدَهَا، مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا مُوَافِقًا لَا مُخَالِفًا فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنْ لَا مُعَارَضَةَ1 هُنَا، وَهُوَ هُنَا مَحَلُّ التَّأْوِيلِ لِمَنْ تَأَوَّلَ، أَوْ مَحَلُّ عدم2 الاعتبار إن لاق بِالْمَوْضِعِ الِاطِّرَاحَ وَالْإِهْمَالَ كَمَا3 إِذَا ثَبَتَ لَنَا أَصْلُ التَّنْزِيهِ كُلِّيًّا عَامًّا ثُمَّ وَرَدَ مَوْضِعٌ ظاهره التشبيه في أمر
__________
1 أي: والعموم معتبر ويؤول الجزئي بما يليق به من المحامل التي تقبلها اللغة والأصول الدينية، وذلك حيث يكون الجزئي لا يليق به أن يطرح، بأن كان كتابًا أو سنة متواترة ولو معنى، وقوله: "أو محل عموم الاعتبار" لعل الأصل: "اعتبار العموم" هكذا بالتقديم والتأخير، أي: مع طرح الدليل الجزئي وعدم الاعتداد به إذا لم يكن كسابقه، بأن كان سنة دخلتها علة من العلل، كأن كانت مرسلة أو موقوفة أو مقطوعة أو كذب الأصل فيها الفرع، وكل من المحلين العموم فيه معتبر قطعًا لا رائحة للتخصيص فيه، إلا أن الأول لقوة الجزئي سندًا وعدم إمكان طرحه كان محل التأويل، والثاني لضعف سنده لا حاجة فيه إلى التأويل بدون ضرورة. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "عموم".
3 تقدم لك تمثيل قضايا الأعيان بالمسح على العمامة* وليس في مسألة التنزيه قضايا أعيان ولا حكاية حال، إنما فيها أدلة شرعية جزئية ربما يدل ظاهرها على المعارضة، كحديث: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ... إلخ "، وكما في آية: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} [الفتح: 10] ، وهكذا، وأصل الكلام في قضايا أصول الفقه أو قضايا الفقه نفسه؛ كمثالي الملك المترف والنصاب لا في أصول العقائد.
وبالجملة؛ فالمقام مشكل لأنا إذا جرينا على التقرير الماضي جميعه من أول المسألة إلى أول الجواب من أن الكلام في مسألة من أصول الفقه ورد عليه أن الأدلة لا سيما الرابع لا تظهر في كليات فروع الفقه، وأيضًا؛ فالجواب ضعيف لأنه ما الذي يعرف به أن في الجزئي ليس معارضًا في الحقيقة وإن فهم فيه المعارضة، فإما أن تئوله، وإما نسقطه، وأنه في هذه الحالة غير ما أريد بالمخصص ظاهره من غير تأويل ولا احتمال، وأيضًا؛ فلا معنى للتمثيل بمسألة التنزيه وعصمة الأنبياء، ولا يقال: إن هذا مجرد تشبيه وليس تمثيلًا لما نحن فيه؛ فهو تشبيه يقرب الغرض من الفرق بين ما يتوهم فيه التخصيص وليس بتخصيص وبين ما يكون المراد ظاهر المخصص لأنا نقول: البعد =
__________
* ليس الأمر كذلك؛ فقد ثبت فيه أحاديث، كما قدمناه.(4/10)
خَاصٍّ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خِلَافُ ظَاهِرِهِ، عَلَى مَا أَعْطَتْهُ قَاعِدَةُ التَّنْزِيهِ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْكُلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ، وَكَمَا إِذَا ثَبَتَ لَنَا أَصْلُ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ جَاءَ قَوْلُهُ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ" 1 وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ لِاحْتِمَالِ حَمْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْرِمُ2 ذَلِكَ الْأَصْلَ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْعُمُومِ؛ فَشَيْءٌ آخَرُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَعْمَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَصِّصِ ظَاهِرُهُ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا احْتِمَالٍ؛ فحينئذ يعمل ويعتبر كما قاله الأصوليون، وليس ذلك مما نحن فيه.
__________
= شاسع بين المقامين؛ لأن التنزيه وعصمة الأنبياء من المقطوع في عمومه بالأدلة القطعية والنقلية، فكل ما ورد مخالفًا لذلك من جزئيات الأدلة يعلم أنه ليس بمخصص، فيجري فيه أحد الأمرين المذكورين: إما التأويل، أو الإهمال، ولا كذلك القضايا العامة في الفروع لأنها جميعها قابلة للتخصيص حتى بخبر الآحاد، فلا طريق لمعرفة ما يراد منه ظاهره ليكون مخصصًا وما لم يرد حتى تئوله أو نطرحه، وإن جرينا على أن هذه المسألة في قضايا العقائد -وهو الذي يناسب ما يذكره في الفعل بعده تفريعًا على هذه المسألة- خرجت عما نحن فيه، ولم يناسبها التقرير السابق في قوله: "مقتطعة مستثناة من ذلك الأصل"، وقوله: "ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية ... إلخ"، وبالجملة؛ فلا بد أن أن يكون لسقوط الوجه الثاني أثر في التباس الجواب، وربما كان قوله: "كما إذا ثبت ... إلخ" مرتبطًا بما سقط من الوجه الثاني، والله أعلم، وقد يقال: إن المسألة الأولى يراد بها ما هو أعم من الأصوليين، فعليك بتتبع التقرير من أول المسألة والتمثيل والإشكال والجواب بناء على التعميم في الأصول المذكورة، فلعلك تصل إلى إزالة بعض ما أشرنا إليه من إشكالات المسألة. "د".
قلت: وانظر ما قدمناه "2/ 195، 257 و3/ 319، 323" من قواعد وكليات تخص تأويل الصفات؛ ففيه ما يثلج الصدر، ويريح الفؤاد.
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، 6/ 388/ رقم 3357، 3358 وكتاب النكاح، باب اتخاذ السراري، 9/ 126/ رقم 5084"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل -عليه السلام- 4/ 1840/ رقم 2371" عن أبي هريرة مرفوعًا.
2 في الأصل: "لا يخرج".(4/11)
فَصْلٌ:
وَهَذَا الْمَوْضِعُ كَثِيرُ الْفَائِدَةِ1، عَظِيمُ النَّفْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَمَسِّكِ بِالْكُلِّيَّاتِ إِذَا عَارَضَتْهَا الْجُزْئِيَّاتُ [وَقَضَايَا الْأَعْيَانِ2] ، فَإِنَّهُ إِذَا تَمَسَّكَ بِالْكُلِّيِّ كَانَ لَهُ الْخِيَرَةُ فِي الْجُزْئِيِّ فِي حَمْلِهِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فَإِنْ تَمَسَّكَ بِالْجُزْئِيِّ لَمْ يُمْكِنْهُ مَعَ التَّمَسُّكِ الْخِيَرَةُ3 فِي الْكُلِّيِّ؛ فَثَبَتَ فِي حَقِّهِ الْمُعَارَضَةُ، وَرَمَتْ بِهِ أَيْدِي الْإِشْكَالَاتِ فِي مهاوٍ بَعِيدَةٍ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلْمُتَشَابِهَاتِ، وَتَشَكُّكٌ فِي الْقَوَاطِعِ الْمُحْكَمَاتِ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَمِنْ فوائده سُهُولَةِ الْمُتَنَاوَلِ فِي انْقِطَاعِ الْخِصَامِ وَالتَّشْغِيبِ الْوَاقِعِ مِنَ الْمُخَالِفِينَ.
وَمِثَالُ هَذَا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ، وَقَدْ وَرَدَ عَلَى "غَرْنَاطَةَ" بَعْضُ "طَلَبَةِ"4 الْعُدْوَةِ الْأَفْرِيقِيَّةِ؛ فَأَوْرَدَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْعِصْمَةِ الْإِشْكَالَ الْمُورَدَ فِي قَتْلِ مُوسَى لِلْقِبْطِيِّ، وَأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْضِي بِوُقُوعِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [الْقَصَصِ: 15] .
وَقَوْلِهِ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] .
__________
1 الفوائد التي ذكرت في هذا الفصل إنما تبنى على الكليات المقطوع بها التي لا تقبل تخصيصًا ولا استثناء، ومعلوم أن ذلك في أصول العقائد لا في أصول الفقه. "د".
2 مثلوا لها بإذنه -صلى الله عليه وسلم- بلبس الحرير للحكة، وللحنابلة قولان في صحة التخصيص بتلك القضايا، ولكن التحقيق أن التخصيص إنما هو بالعلة المصرح بها التي لأجلها ورد الإذن، فإذا لم تكن مصرحة؛ فلا تخصيص. "د" وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
3 لأن الكلي على ما تقدم غير محتمل، بل متحدد المعنى لا يقبل تأويلًا، فإذا اعتبر ظاهر الجزئي؛ فلا مناص من المعارضة. "د". وفي "ط": "به الخيرة".
4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".(4/12)
فَأَخَذَ مَعَهُ فِي تَفْصِيلِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ1 بِمُجَرَّدِهَا، وَمَا ذَكَرَ فِيهَا مِنَ التَّأْوِيلَاتِ بِإِخْرَاجِ2 الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا، وَهَذَا الْمَأْخَذُ لَا يَتَخَلَّصُ، وَرُبَّمَا وَقَعَ الِانْفِصَالُ عَلَى غَيْرِ وِفَاقٍ؛ فَكَانَ مِمَّا ذَاكَرْتُ بِهِ بَعْضَ الْأَصْحَابِ فِي ذَلِكَ: [أَنَّ] الْمَسْأَلَةَ سَهْلَةٌ فِي النَّظَرِ إِذَا رُوجِعَ بِهَا الْأَصْلُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فَيُقَالُ لَهُ: الْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَعَنِ الصَّغَائِرِ بِاخْتِلَافٍ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ مُوسَى كَبِيرَةً، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ أَيْضًا مِنَ الصَّغَائِرِ، [وَهُوَ صَحِيحٌ] 3؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُ ذَنْبًا، فَلَمْ يَبْقَ4 إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِذَنْبٍ5، وَلَكَ فِي التَّأْوِيلِ السَّعَةُ6 بِكُلِّ مَا يَلِيقُ بِأَهْلِ النُّبُوَّةِ وَلَا يَنْبُو عَنْهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ، وَرَأَى ذَلِكَ7 مَأْخَذًا عِلْمِيًّا فِي الْمُنَاظَرَاتِ، وَكَثِيرًا مَا يَبْنِي عليه النظار، وهو حسن، والله أعلم.
__________
1 في "ط": "تفاصيل ألفاظ الأئمة ... ".
2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "إخراج".
3 في الأصل: "الصحيح"، وسقط ما بين المعقوفتين من "ط".
4 في الأصل: "يتبين".
5 لجواز أن يكون عليه السلام قد رأى أن في الوكز دفع ظالم عن مظلوم؛ ففعله غير قاصد به القتل، وإنما وقع القتل مترتبًا عليه من غير قصد. "ف".
6 منه أنه -عليه السلام- بعد أن وقع منه ما وقع تأمل؛ فظهر له إمكان الدفع بغير الوكز، وأنه لم يتثبت في رأيه لما اعتراه من الغضب؛ فعلم أنه فعل خلاف الأولى بالنسبة إلى أمثاله، فقال ما قال على عادة المقربين في استفظاعهم، خلاف الأولى. "ف".
7 في الأصل و"ف" و"ط": "ورأى مثله".(4/13)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
وَلَمَّا كَانَ قَصْدُ الشَّارِعِ ضَبْطَ الْخَلْقِ إِلَى الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ1 وَكَانَتِ الْعَوَائِدُ قَدْ جَرَتْ بِهَا سُنَّةُ اللَّهِ أَكْثَرِيَّةً لَا عَامَّةً، وَكَانَتِ الشَّرِيعَةُ مَوْضُوعَةً عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الْوَضْعِ؛ كَانَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُلْتَفَتِ إِلَيْهِ إِجْرَاءُ الْقَوَاعِدِ عَلَى الْعُمُومِ الْعَادِيِّ، لَا الْعُمُومِ الْكُلِّيِّ التَّامِّ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ عَنْهُ جُزْئِيٌّ مَا.
أَمَّا كَوْنُ الشَّرِيعَةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَضْعِ؛ فَظَاهِرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَضْعَ التَّكَالِيفِ عَامٌّ؟ وَجَعَلَ عَلَى ذَلِكَ عَلَامَةَ الْبُلُوغِ، وَهُوَ مَظِنَّةٌ لِوُجُودِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَكُونُ عِنْدَهُ فِي الْغَالِبِ لَا عَلَى الْعُمُومِ؛ إِذْ لَا يَطَّرِدُ وَلَا يَنْعَكِسُ كُلِّيًّا عَلَى التَّمَامِ؛ لِوُجُودِ مَنْ يَتِمُّ عَقْلُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَمَنْ يَنْقُصُ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا، إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ الِاقْتِرَانُ.
وَكَذَلِكَ نَاطَ الشَّارِعُ الْفِطْرَ وَالْقَصْرَ بِالسَّفَرِ لِعِلَّةِ الْمَشَقَّةِ2، وَإِنْ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ قَدْ تُوجَدُ بِدُونِهَا وَقَدْ تُفْقَدُ مَعَهَا3، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يَعْتَبِرِ الشَّارِعُ تِلْكَ النَّوَادِرَ، بَلْ أَجْرَى الْقَاعِدَةَ مَجْرَاهَا، وَمِثْلُهُ حَدُّ الْغِنَى بِالنِّصَابِ، وَتَوْجِيهُ الْأَحْكَامِ
__________
1 لأنه لا يتأتى ذلك من الجزئيات لاستحالة حصرها؛ فلا بد في التشريع العام من قواعد عامة. "د".
أما "ف"؛ فقال: "أي: برجوعهم إليها أو إلى بمعنى الباء".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 133 و34/ 206-207"، و"البحر المحيط" "6/ 92" للزركشي.
2 جعل المشقة علة نظرًا إلى أنها المترتب عليها الترخيص في الأصل، ولكن لما كانت غير منضبطة لاختلافها بحسب الأشخاص والأحوال؛ نيط الترخيص بمظنتها، وهو السفر؛ فهو العلة، أي: الوصف الظاهر المنضبط، وهذا هو المشهور عند الأصوليين. "ف".
3 الأنسب تذكير الضمير لرجوعه إلى السفر. "ف".(4/14)
بِالْبَيِّنَاتِ1، وَإِعْمَالُ2 أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسَاتِ الظَّنِّيَّةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ تَتَخَلَّفُ مُقْتَضَيَاتُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَدَمِ التَّخَلُّفِ؛ فَاعْتُبِرَتْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ كُلِّيَّةً عَادِيَّةً لَا حَقِيقِيَّةً.
وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ تَجِدُ سائر القواعد التكليفية.
وإذا ثبت3 ذلك ظهر أن لا بد مِنْ إِجْرَاءِ الْعُمُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ مُنْضَبِطَةٌ بِالْمَظِنَّاتِ، إِلَّا إِذَا ظَهَرَ مَعَارِضٌ4؛ فَيُعْمَلُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحُكْمُ فِيهِ، كَمَا إِذَا عَلَّلْنَا الْقَصْرَ بِالْمَشَقَّةِ؛ فَلَا يَنْتَقِضُ بِالْمَلِكِ الْمُتْرَفِ وَلَا بِالصِّنَاعَةِ الشَّاقَّةِ، وَكَمَا لَوْ عَلَّلَ الرِّبَا فِي الطَّعَامِ بِالْكَيْلِ5؛
__________
1 أي: مع أن البينة قد تخطئ، وقد تكذب، ومع ذلك يجب ترتيب الحكم على الشهادة؛ فقد يكون الحكم في الواقع خطأ، لكنه نادر لا يعتد به؛ لأنه لا طريق غيره لإجراء العدالة بين الناس، حسبما جرت به العادة الإلهية فيهم. "د".
2 في الاستدلال بها على الأحكام الشرعية، مع أنها محتملة لما يجعلها غير صالحة للأخذ بها، وبناء الأحكام الشرعية العملية عليها، ومثله أو أشد منه يقال في القياسات، وكلها ظنية بين ضعيفة وقوية، كما هو معروف من أنه يتوجه على القياس نحو أربعة وعشرين اعتراضًا تجعل الأخذ به غير مقطوع بصحته في الواقع، ولكن الشرع مع ذلك اعتبره بناء على أنه يوصل إلى الصواب عادة. "د".
3 في "ط": "وإذ ثبت".
4 وذلك كما إذا ظهر كذب الشهود فيرد وينقض، وكما إذا ظهر نص في مقابلة القياس فيرجع للنص لفساد اعتبار القياس حينئذ؛ فقوله: "كما إذا ... إلخ" راجع لما قبل إلا. "د".
5 لا يخفى أن الكيل وصف طردي ليس فيه المناسبة التي يترتب عليها الحكم عند ذوي العقول السليمة، وقيل: العلة الوزن كما هو رأي أبي حنيفة، ورواية عند أحمد وعند مالك والشافعي أن العلة القوت، ورجحه ابن القيم، وأما الدراهم والدنانير؛ فمذهب أبي حنيفة أن العلة كونهما موزونين، وعند مالك والشافعي أن العلة الثمنية، وقال ابن القيم: إنه الصواب؛ لأن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي جعل ضابطًا لقيم الأموال، فيجب أن يكون مضبوطًا محدودًا لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كانت ترتفع وتنخفض لكانت كالسلع؛ ففسد أن تكون أصلًا =(4/15)
فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَا لَا يَتَأَتَّى كَيْلُهُ1 لِقِلَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ كَالتَّافِهِ مِنِ الْبُرِّ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّلْنَاهُ فِي النَّقْدَيْنِ بِالثَّمَنِيَّةِ لَا يَنْتَقِضُ بِمَا لَا يَكُونُ ثَمَنًا لِقِلَّتِهِ، أَوْ عَلَّلْنَاهُ فِي الطَّعَامِ بِالِاقْتِيَاتِ؛ فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ اقْتِيَاتٌ؛ كَالْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا اعْتَرَضَتْ عِلَّةُ الْقُوتِ بِمَا يُقْتَاتُ فِي النَّادِرِ؛ كَاللَّوْزِ، وَالْجَوْزِ، وَالْقِثَّاءِ، وَالْبُقُولِ، وَشِبْهِهَا، بَلِ الِاقْتِيَاتُ إِنَّمَا اعْتَبَرَ الشَّارِعُ مِنْهُ مَا كَانَ مُعْتَادًا مُقِيمًا لِلصُّلْبِ عَلَى الدَّوَامِ وَعَلَى الْعُمُومِ2، وَلَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُهُ في جميع الأقطار3.
__________
= يرجع إليه في تقويم الأموال وحاجة الناس إلى أصل ترد إليه القيم حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يكون إلا بما يستمر على حالة واحدة حتى ترتفع المنازعات وتنقطع الخصومات بالرجوع إليه، ولو أبيح دراهم بدراهم متخالفة في وصف ككون إحداهما صحيحة والأخرى مكسرة أو صغيرة وكبيرة وهكذا؛ لصارت الدراهم متجرًا وجر إلى ربا النسيئة فيها ولا بد, والأثمان لا تقصد لأعيانها، بل ليتوصل بها إلى السلع، فإذا صارت هي سلعًا تقصد لأعيانها فسدت مصالح الناس، وهذا أمر معقول يختص بالنقدين، لا يتعداه إلى كل موزون كما يقول أبو حنيفة، وبالجملة؛ فقد منع ربا الفضل في النقدين لأنه مفوت لمصلحة انضباط القيم ونقض لأساس التعامل؛ ولأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، ومنع في الطعام سدًّا لهذه الذريعة في الأقوات التي تشتد حاجة الناس إليها ولتفاضل في النقدين والطعام حرام ووسيلة للحرام. "د".
قلت: انظر في علة الربا: "المغني" "4/ 125, مع الشرح الكبير"، و"إعلام الموقعين" "2/ 137"، و" الفروع" "5/ 148", و"المبسوط" "12/ 113"، و"عمدة القاري" "11/ 253"، و"المجموع" "9/ 445"، و"حاشية الخرشي" "3/ 412"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "29/ 473"، و"الربا والمعاملات المصرفية" "ص94 وما بعدها".
1 الكيل والثمنية والقوت ليست علة بمعنى الحكمة كالمشقة في السفر، وإنما هي الأوصاف المنضبطة التي نيط بها الحكم وجعلت علامة على وجود الحكمة، فإذن الذي يقال: إنه متى وجد الكيل أو الثمنية أو القوت حرم التفاضل، سواء أوجدت الحكمة وهي سد الذريعة وحفظ ما تشتد إليه حاجة الناس في الأقوات والأثمان، أم لم توجد، ولا يقال: وجد الكيل أم لم يوجد، كما لا يقال: وجد السفر أم لم يوجد؛ لأن الوصف الذي نيط به الحكم لا بد منه؛ فتأمل. "د".
2 بحيث لا تفسد البنية بالاقتصار عليه. "د".
3 كأنه يقول أيضًا: إنه لا يلزم أن تكون العادة عادة في جميع الأقطار، وهذا يرجع إلى تقييد أصل المسألة، وأن العموم العادي الذي يقول: إنه مبنى الأحكام الشرعية لا يلزم اتحاده في جميع الأقطار؛ إلا أن ذلك إن صح؛ ففي مثل الاقتيات والثمنية اللذين يختلفان في بعض الأقطار، بحيث يكون الثمن فيها غير الذهب والفضة، وبحيث يكون القوت فيها غير هذه الأصناف أو غير بعضها، أما العادة في جعل البلوغ مظنة للعقل الذي هو مناط التكليف والشهادات، وفي مسألة الخمر قليله وكثيره، وفي مسألة مجرد الإيلاج؛ فالعادة فيه مطردة لا فرق بين قطر وآخر. "د".(4/16)
وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ الْحَدَّ عُلِّقَ فِي الْخَمْرِ عَلَى نَفْسِ التَّنَاوُلِ حِفْظًا عَلَى الْعَقْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ أُجْرِيَ الْحَدُّ فِي الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُذْهِبُ الْعَقْلَ مَجْرَى الْكَثِيرِ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ فِي تَنَاوُلِ1 الْكَثِيرِ، وَعُلِّقَ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْإِيلَاجِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ حِفْظَ الْأَنْسَابِ؛ فَيُحَدُّ مَنْ لَمْ يُنْزِلْ لِأَنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ مَعَ الْإِيلَاجِ الْإِنْزَالُ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا.
فَلْيَكُنْ عَلَى بَالٍ مِنَ النَّظَرِ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ الْقَوَاعِدَ العامة إنما تنزل على العموم العادي.
__________
1 يعني أن العادة أن من يتناول القليل يتناول الكثير؛ فتحريم القليل والحد فيه من مكملات ضروري حفظ العقل. "د".(4/17)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
لَا كَلَامَ فِي أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيَغًا وَضْعِيَّةً، وَالنَّظَرُ فِي هَذَا مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَإِنَّمَا يُنْظَرُ هُنَا فِي أَمْرٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَطَالِبِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا، ولكنه أكيد التقرير ههنا، وَذَلِكَ أَنَّ لِلْعُمُومِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّيَغُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ نَظَرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
بِاعْتِبَارِ مَا تَدُلُّ عليه الصيغة في أهل وَضْعِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ1، وَإِلَى هَذَا النَّظَرِ قَصْدُ2 الْأُصُولِيِّينَ فَلِذَلِكَ يَقَعُ التَّخْصِيصُ عِنْدَهُمْ بِالْعَقْلِ3 وَالْحِسِّ4 وسائر5 المخصصات المنفصلة.
__________
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 442/ 442-445".
2 ويتضح بما أثبته الآمدي في كتاب "الأحكام" "2/ 460" في قسم التخصيص بالمنفصل ومناقشته بالأوجه الثلاثة التي تقتضي أنه لا يصح التخصيص به، ثم تخلص بالجواب بأنه إذا نظر إلى أصل وضع الألفاظ من العموم صح التخصيص، وإذا نظر إلى عدم إرادة العموم من اللفظ، فإنه لا تخصيص، وأنه لا منافاة بين كون اللفظ دالا على المعنى لغة وبين كونه غير مراد من اللفظ. "د".
3 كما مثلوا له بقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل} [الزمر: 162] ، فالعقل دليل على تخصيص الخلق بغير ذلك وصفاته، وكذلك القدرة. "د".
قلت: انظر "المحصول" "3/ 73"، و"المستصفى" "2/ 100"، و"العدة" "2/ 547"، و"البرهان" "1/ 408"، و"التمهيد" "2/ 101"، و"المسودة" "ص118".
4 كما في قوله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] ، وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] ، {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42] ؛ فالحس دليل على أنها لم تدمر الجبال والأنهار وغيرها مما أتت عليه؛ فإنه خلاف المشاهد. "د".
قلت: انظر: "المحصول" "3/ 75"، و"المستصفى" "2/ 99"، و"نهاية السول" "2/ 141"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص215". 5 كتخصيص الكتاب والسنة بغير الاستثناء والشرط والوصف والغاية. "د".
قلت: انظر "المحصول" "3/ 71 وما بعدها"، و"روضة الناظر" "2/ 722 وما بعدها".(4/18)
وَالثَّانِي:
بِحَسَبِ1 الْمَقَاصِدِ الِاسْتِعْمَالِيَّةِ الَّتِي تَقْضِي الْعَوَائِدُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْوَضْعِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَهَذَا الِاعْتِبَارُ اسْتِعْمَالِيٌّ، وَالْأَوَّلُ قِيَاسِيٌّ.
وَالْقَاعِدَةُ فِي الْأُصُولِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْأَصْلَ الِاسْتِعْمَالِيَّ إِذَا عَارَضَ الْأَصْلَ الْقِيَاسِيَّ كَانَ الْحُكْمُ لِلِاسْتِعْمَالِيِّ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ هُنَا أَنَّ الْعَرَبَ [قَدْ] تُطْلِقُ أَلْفَاظَ الْعُمُومِ بِحَسَبِ مَا قَصَدَتْ تَعْمِيمَهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ خَاصَّةً، دُونَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَلْفَاظُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ الْإِفْرَادِيِّ؛ كَمَا أَنَّهَا [أَيْضًا] 2 تُطْلِقُهَا وَتَقْصِدُ بِهَا تَعْمِيمَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقْتَضَى الْحَالِ؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَأْتِي بِلَفْظِ عُمُومٍ3 مِمَّا يَشْمَلُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ نَفْسَهُ وَلَا يُرِيدُ4 أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مُقْتَضَى الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَقْصِدُ بِالْعُمُومِ صِنْفًا مِمَّا يَصْلُحُ اللَّفْظُ لَهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَصْنَافِ، كَمَا5 أَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ
__________
1 في "ط": "باعتبار".
2 سقط من "ط".
3 لما حصروا التخصيص بالمنفصل في العقل والحس والدليل السمعي؛ قال القرافي: "الحصر غير ثابت؛ فقد يقع التخصيص بالعوائد كقولك: رأيت الناس فما رأيت أكرم من زيد، فإن العادة تقضي أنك لم تر كل الناس"، ولا يخفى أن ما قاله القرافي إجمال ما بسطه المؤلف، ونقل بعض أمثلته ابن خروف، ولا يخفى أن التخصيص إن كان لدليل شرعي؛ لزم أن تكون العادة مشتهرة في عهد النبوة، أما العادات الطارئة؛ فإنها تخصص ما يجري بين أهل تلك العادة من المحاورات في التعبير. "د".
4 في "ط": "ولا يقصد".
5 هذا من باب التشبيه لا التمثيل لما نحن فيه؛ لأنه عكس الموضوع، لكنه يقرره ويوضحه. "د".(4/19)
ذِكْرَ الْبَعْضِ فِي لَفْظِ1 الْعُمُومِ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذِكْرِ الْبَعْضِ الْجَمِيعَ؛ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَمْلِكُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ2، وَالْمُرَادُ جَمِيعَ الْأَرْضِ، وَضُرِبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، وَمِنْهُ {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْن} [الرَّحْمَنِ: 17] .
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 3 [الزُّخْرُفِ: 84] .
فَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ؛ فَلَيْسَ الْمُتَكَلِّمُ بِمُرَادٍ، وَإِذَا قَالَ: أَكْرَمْتُ النَّاسَ، أَوْ قَاتَلْتُ الْكُفَّارَ، فَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَنْ لَقِيَ مِنْهُمْ؛ فَاللَّفْظُ عَامٌّ فِيهِمْ خَاصَّةً، وَهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ دُونَ مَنْ لَمْ يَخْطُرْ بِالْبَالِ.
قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ4: "وَلَوْ حَلَفَ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ لَيَضْرِبَنَّ جَمِيعَ مَنْ فِي الدَّارِ وَهُوَ مَعَهُمْ فِيهَا، فَضَرَبَهُمْ وَلَمْ يَضْرِبْ نَفْسَهُ؛ لَبَرَّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ: اتَّهَمَ الْأَمِيرُ كُلَّ مَنْ فِي الْمَدِينَةِ فَضَرَبَهُمْ؛ فَلَا يَدْخُلُ الْأَمِيرُ فِي التُّهَمَةِ وَالضَّرْبِ".
قَالَ: "فَكَذَلِكَ5 لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ الْبَارِي تَعَالَى تَحْتَ الْإِخْبَارِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تعالى: {خَلَقَ كُلَّ شَيْء} [الزُّمَرِ: 62] لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقْصِدُ ذَلِكَ وَلَا تَنْوِيهِ، وَمِثْلُهُ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْبَقَرَةِ: 282] ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِنَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَكِنَّ الْإِخْبَارَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ6 جَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ، وَعِلْمُهُ بِنَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ شَيْءٌ آخَرُ".
قَالَ: "فَكُلُّ مَا وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهِ مِنْ نَحْوِ هَذَا، فلا تعرض فيه لدخوله تحت
__________
1 أي: في مكان لفظ العموم؛ فيكون اللفظ دالًّا على البعض، وهو يريد الجميع. "د".
2 وهذا من باب الكناية التي تفيد المطلوب بدليل؛ فهي أوقع في باب الإفادة لأن من ملك حدي الشيء فقد ملك جميعه إلى نهايته. "د".
3 فهو إله معبود فيهما وفيما يتبعهما أيضًا لا في خصوصهما. "د".
4 له شرح على كتاب سيبويه لم يطبع، ولعل النقل منه.
5 في "ط": "وكذلك".
6 في "ط": "على".(4/20)
الْمُخْبَرِ عَنْهُ؛ فَلَا تَدْخُلُ صِفَاتُهُ تَعَالَى تَحْتَ الْخِطَابِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ وَضْعِ اللِّسَانِ".
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعُمُومَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَوُجُوهُ الِاسْتِعْمَالِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّ ضَابِطَهَا مُقْتَضَيَاتُ1 الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ الْبَيَانِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الْأَحْقَافِ: 25] لَمْ يُقْصَدْ بِهِ أَنَّهَا تدمر السموات وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ، وَلَا الْمِيَاهَ وَلَا غَيْرَهَا مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهَا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ مَرَّتْ عَلَيْهِ مِمَّا شَأْنُهَا أَنْ تُؤَثِّرَ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الْأَحْقَافِ: 25] .
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42] .
ومن الدليل على هذ [أيضًا] أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِحَسَبِ اللِّسَانِ؛ فَلَا يُقَالُ: مِنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ إِلَّا نَفْسِي، أَوْ أَكْرَمْتُ النَّاسَ إِلَّا نَفْسِي، وَلَا قَاتَلْتُ الْكُفَّارَ إِلَّا مَنْ لَمْ أَلْقَ مِنْهُمْ، وَلَا مَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ مِمَّنْ دَخَلَ الدَّارَ، أَوْ مِمَّنْ لَقِيتُ2 مِنَ الْكُفَّارِ، وَهُوَ الَّذِي يُتَوَهَّمُ3 دُخُولُهُ لَوْ لَمْ يُسْتَثْنَ، هَذَا كَلَامُ الْعَرَبِ فِي التَّعْمِيمِ؛ فَهُوَ إِذًا الْجَارِي في عمومات الشرع.
__________
1 وهل مقتضيات الأحوال سوى القرائن التي يدركها العقل والحس؟ كما في الأمثلة المذكورة ومثالي الكتاب الكريم اللذين ذكرهما بعد؛ إلا أن الكلام ابن خروف صريح في تأييد المؤلف في أنه لا يعد مثل هذا من باب التخصيص، لأن الخارج بالعقل والحس لم يدخل حتى يبحث عن إخراجه فيكون مخصصًا، وقد نسب ذلك إلى وضع اللسان واللغة. "د".
2 في "ط": "لقيت".
3 أي: ما يقع في الوهم دخوله، وذلك إنما يكون فيما يصح شمول اللفظ المخرج منه له حسب الاستعمال، أما طريقة الأصوليين؛ فمبنية على أن كل ما يدخل وضعًا يصح إخراج بعضه بالعقل وغيره؛ فيكون تخصيصًا. "د".(4/21)
وَأَيْضًا، فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ نَبَّهُوا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ قَصْدِهِ التَّعْمِيمَ إِلَّا بِالْإِخْطَارِ لَا يُحْمَلُ لَفْظُهُ عَلَيْهِ، إِلَّا مَعَ الْجُمُودِ عَلَى مُجَرَّدِ1 اللَّفْظِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى؛ فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ؛ كَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ؛ فَقَدْ طَهُرَ" 2.
قَالَ الْغَزَالِيُّ3: "خُرُوجُ الْكَلْبِ عَنْ ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُسْتَمِعِ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِلدِّبَاغِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، بَلْ هُوَ الْغَالِبُ الْوَاقِعُ، وَنَقِيضُهُ هُوَ الْغَرِيبُ الْمُسْتَبْعَدُ".
وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ أَيْضًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ4 لِقَاعِدَةِ الْعَرَبِ، وَعَلَيْهِ يحمل كلام الشارع بلا بد.
__________
1 أي: باعتبار أصل الوضع، أما مع مراعاة المعنى والقرائن ومقتضى الحال، فما لا يخطر بالبال لا يصح أن يعد داخلًا، فلا يحتاج إلى إخراج؛ فلا تخصيص. "د".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، 1/ 277/ رقم 366" عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: "إذا دبغ ... ".
وقد وهم بعضهم؛ فنسبه لمسلم بلفظ: "أيما إهاب ... "؛ كما تراه مبسوطًا في "نصب الراية" "1/ 116"، و"تحفة الأشراف" "5/ 53"، وقد خرجته بإسهاب في تعليقي على "الخلافيات" للإمام البيهقي "1/ 194-198"، فراجعه إن أردت الاستزادة.
3 يريد الغزالي أن استثناء الشافعي لجلد الكلب من الطهارة بالدباغ لا يحتاج إلى مخصص منفصل ولا متصل، وهو يؤيد الأصل الذي يعمل المؤلف لإثباته هنا. "د".
قلت: انظر "المستصفى" "2/ 60".
4 وقد يعد من ذلك مثل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ ... } إلى أن قال: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ، مع أن من شروط المعاهدة أن من جاء إلى المسلمين يرد إلى الكفار، وهو لفظ عام يشمل النساء بحسب أصل الوضع الإفرادي، ولا يقال: إن التخصيص ورد على النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن التخصيص في معاهدة مثل هذا لا يكون إلا برضا الطرفين واطلاعهما، حتى إنهم لما لم يرضوا عن تخصيص أبي جندل؛ لم يقبله -صلى الله عليه وسلم- ولما قبل النساء المؤمنات لم يبد منهم اعتراض، وذلك دليل على أن خروج النساء عن ذهن المتعاقدين كافٍ، مع =(4/22)
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَنْطَلِقُ1 عَلَى جَمِيعِ مَا وُضِعَ لَهُ فِي الْأَصْلِ حَالَةَ الْإِفْرَادِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّرْكِيبُ وَالِاسْتِعْمَالُ؛ فَإِمَّا أَنْ تَبْقَى دَلَالَتُهُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ2، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ3؛ فَهُوَ مُقْتَضَى وَضْعِ اللَّفْظِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلَّفْظِ الْعَامِّ، وكل تخصيص لا بد لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ عَقْلِيٍّ أَوْ نَقْلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ.
وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ4 حَمَلَتِ اللَّفْظَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ، مَعَ أَنَّ مَعْنَى5 الْكَلَامِ يَقْتَضِي عَلَى مَا تَقَرَّرَ خِلَافَ مَا فَهِمُوا، وَإِذَا كَانَ فَهْمُهُمْ فِي سِيَاقِ الِاسْتِعْمَالِ مُعْتَبَرًا [فِي التَّعْمِيمِ] 6 حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ حَالَةَ الْإِفْرَادِ عِنْدَهُمْ، بِحَيْثُ صَارَ كَوَضْعٍ ثانٍ، بَلْ هُوَ باقٍ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ، ثُمَّ التَّخْصِيصُ آتٍ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ بدليل متصل أو منفصل.
__________
= أن الوضع الإفرادي يشملهن، وما هذا إلا من تعويلهم على مقتضى الحال وما يفهم بالقرائن، ولا ينافي ذلك أنه لما جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن معيط إليه -صلى الله عليه وسلم- مهاجرة بعد عقد الهدنة خرج أخواها عمار والوليد إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليردها؛ فلم يردها، ونزلت الآية في ذلك، لا ينافي هذا ما قلنا؛ لأنهم لم يعترضوا بدخولهما في عقد الهدنة بلفظ: "من جاء" الشاملة وضعًا للنساء، كما اعترضوا في أبي جندل والموضع يحتاج إلى شيء من الدقة، وبهذا يتخلص من بعض ما قيل في كتب التفسير في هذه الآية. "د".
1 كذا في جميع الأصول، ولعلها "ينطبق".
2 في "ط": "الإفراد".
3 كما في قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} ؛ فليس محل إشكال ولا نزاع. "د".
4 أخذ عنوان "العرب" ولم يقل الصحابة مثلًا؛ لما سيجيء في آية: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُون ... } إلخ، وليتأتى انفصاله وتميزه عن الاعتراض الآتي في الفصل في قوله: "فلقائل أن يقول: إن السلف الصالح ... إلخ". "د".
5 يأتي إيضاح هذه الجملة في قوله بعد: "إلى أشياء كثيرة سياقها يقتضي بحسب المقصد الشرعي ... إلخ". "د".
6 سقطت من "ط".(4/23)
وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الْآيَةَ [الأنعام: 82] ؛ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ1؟ فَقَالَ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} " [لُقْمَانَ: 13] 2، وَفِي رِوَايَةٍ3: "فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} " [لُقْمَانَ: 13] .
وَمِثْلُ4 ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] قَالَ بَعْضُ الْكُفَّارِ: فَقَدْ عُبِدَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَعُبِدَ الْمَسِيحُ، فَنَزَلَ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} 5 الْآيَةَ [الْأَنْبِيَاءِ: 101] .
إِلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ سِيَاقُهَا يَقْتَضِي بِحَسَبِ الْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ عُمُومًا أَخَصَّ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَقَدْ فَهِمُوا فِيهَا مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَبَادَرَتْ أَفْهَامُهُمْ فِيهِ6، وَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَهُمْ مَا وُضِعَ7 لَهُ اللَّفْظُ فِي الْأَصْلِ؛ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ فَهْمُهُ.
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا الِاسْتِعْمَالَ الْعَرَبِيَّ؛ فَقَدْ تَبْقَى دَلَالَتُهُ الْأُولَى وَقَدْ لَا تَبْقَى، فَإِنْ بَقِيَتْ فَلَا تَخْصِيصَ، وَإِنْ لَمْ تَبْقَ دَلَالَتُهُ؛ فَقَدْ صَارَ لِلِاسْتِعْمَالِ اعْتِبَارٌ آخَرُ لَيْسَ لِلْأَصْلِ، وَكَأَنَّهُ وَضْعٌ ثَانٍ حَقِيقِيٌّ لا مجازي، وربما
__________
1 أي: فقد أبقوا اللفظ على عمومه الذي كان له في الإفراد، ولم يتغير معناه عند استعماله، حتى احتاجوا إلى المخصص وهو قوله: "ليس بذاك ... إلخ"، مع أن سياق الآية وما قبلها من الآيات في أهل الشرك. "د".
2 مضى تخريجه "3/ 402"، وهو في "الصحيحين" عن ابن مسعود, رضي الله عنه.
3 الرواية الأولى أقعد في الفهم، وأوضح في الغرض. "د".
4 في الأصل: "ومثال".
5 مضى تخريجه "3/ 362".
6 في "ط": "إليه".
7 لعله: "لما وضع". "ف".(4/24)
أَطْلَقَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَفْظَ "الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ" إِذَا أَرَادُوا أَصْلَ الْوَضْعِ، وَلَفْظَ "الحقيقة العرفية"1 إذا أراد الْوَضْعَ الِاسْتِعْمَالِيَّ؟
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّ لِلَّفْظِ2 الْعَرَبِيِّ أَصَالَتَيْنِ: أَصَالَةٌ قِيَاسِيَّةٌ، وَأَصَالَةٌ اسْتِعْمَالِيَّةٌ؛ فَلِلِاسْتِعْمَالِ هُنَا أَصَالَةٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا لِلَّفْظِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَهِيَ الَّتِي وَقَعَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا فِي مَسْأَلَتِنَا؛ فَالْعَامُّ إِذًا فِي الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَدْخُلْهُ3 تَخْصِيصٌ بِحَالٍ.
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْفَهْمَ فِي عُمُومِ الِاسْتِعْمَالِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فَهْمِ الْمَقَاصِدِ فِيهِ، وَلِلشَّرِيعَةِ بِهَذَا النَّظَرِ مَقْصِدَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْمَقْصِدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِحَسَبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ.
وَالثَّانِي4: الْمَقْصِدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي سور القرآن
__________
1 الحقيقة العرفية عندهم كالحقيقة اللغوية في أنهما ينظر فيهما إلى اللفظ باعتبار الإفراد، كما قالوه في لفظ دابة، وأن استعماله في خصوص ذوات الأربع منظور فيه للفظ الإفرادي، يقع النظر عن معنى الكلام الذي تقضي العوائد بالقصد إليه ويفهم بمعونة سياق الكلام؛ فهناك فرق بين الحقيقة العرفية وبين الأصالة الاستعمالية التي يقررها في هذا المقام. "د".
2 في "ط": "من اللفظ".
3 أي: فهو وإن لم تبق دلالته الوضعية؛ إلا أنه دل على عموم آخر اقتضاه الاستعمال، ودلالته حقيقية أيضًا لا مجاز، وليس هذا تخصيصًا حتى يقال: "وكل تخصيص لا بد له من مخصص متصل أو منفصل" كما هو الاعتراض. "د".
4 أي: فهناك ثلاثة أوضاع: الوضع الإفرادي المعبر عنه بالأصالة القياسية، والوضع الاستعمالي المعبر عنه بالحقيقة العرفية، وهذا ما أثبته في الجواب الأول، والوضع الثالث الوضع الشرعي المسمى بالحقيقة الشرعية، والجواب عن الإشكال الأول يكفي فيه ملاحظة الوضع الثاني، أما الجواب عن الثاني؛ فلا بد فيه من ملاحظة وضع الحقيقة الشرعية والاستعمالات الواردة في الشريعة، حتى يتأتى تفاوت العرب في فهمها: بين من اتسع فهمه في إدراك الشريعة، وبين مبتدئ قد لا يعرف هذه الاستعمالات الشرعية؛ فيحصل له التوقف نظرًا لوقوفه عند الوضعين الأولين. "د".
قلت: انظر في هذه الأوضاع: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "12/ 113-115 و19/ 235-236"، و"الإيمان" "10-112" لابن تيمية، و"نزهة الخاطر العاطر" "2/ 10-11" لابن بدران، ط دار الكتب العلمية، و"أصول التشريع الإسلامي" "ص246" لعلي حسب الله، و"الحقيقة الشرعية" "ص13 وما بعدها" لعمر بازمول.(4/25)
بِحَسَبِ تَقْرِيرِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نِسْبَةَ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ إِلَى مُطْلَقِ الْوَضْعِ الِاسْتِعْمَالِيِّ الْعَرَبِيِّ كَنِسْبَةِ الْوَضْعِ فِي الصِّنَاعَاتِ الْخَاصَّةِ إِلَى الْوَضْعِ الْجُمْهُورِيِّ؛ كَمَا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ: إِنَّ أَصْلَهَا الدُّعَاءُ لُغَةً، ثُمَّ خُصَّتْ فِي الشَّرْعِ بِدُعَاءٍ مَخْصُوصٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهِيَ فِيهِ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ؛ فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ بِحَسَبِ الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ: إِنَّهَا إِنَّمَا تَعُمُّ [الذِّكْرَ] بِحَسَبِ مَقْصِدِ الشَّارِعِ فِيهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ الدَّلِيلِ عَلَى الْوَضْعِ الِاسْتِعْمَالِيِّ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ، وَاسْتِقْرَاءُ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، مَعَ مَا يَنْضَافُ إِلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ إِثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَالْعَرَبُ فِيهِ شَرَعٌ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ.
وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَالتَّفَاوُتُ فِي إِدْرَاكِهِ حَاصِلٌ؛ إِذْ لَيْسَ الطَّارِئُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ فِي فَهْمِهِ كَالْقَدِيمِ الْعَهْدِ، وَلَا الْمُشْتَغِلُ بِتَفَهُّمِهِ وَتَحْصِيلِهِ كَمَنْ لَيْسَ فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ، وَلَا الْمُبْتَدِئُ فِيهِ كَالْمُنْتَهِي {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [الْمُجَادَلَةِ: 11] ؛ فَلَا مَانِعَ مِنْ تَوَقُّفِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي بَعْضِ مَا يُشْكِلُ أَمْرُهُ، وَيَغْمُضُ وَجْهُ الْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ فِيهِ؛ حَتَّى إِذَا تَبَحَّرَ فِي إِدْرَاكِ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ نَظَرُهُ، وَاتَّسَعَ فِي مَيْدَانِهَا بَاعُهُ؛ زَالَ عَنْهُ مَا وَقَفَ مِنَ الْإِشْكَالِ1 وَاتَّضَحَ لَهُ الْقَصْدُ الشَّرْعِيُّ عَلَى الْكَمَالِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ وَجْهُ الِاسْتِعْمَالِ؛ فَمَا ذُكِرَ مِمَّا تَوَقَّفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْقَبِيلِ، وَيُعَضِّدُهُ مَا فرضه الأصوليون من وضع
__________
1 في "ط": "الاتصال".(4/26)
الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْمَوْضِعَ يَسْتَمِدُّ مِنْهَا1، وَهَذَا الموضع2 وَإِنْ كَانَ قَدْ جِيءَ بِهِ مُضَمَّنًا فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ؛ فَلَهُ مَقَاصِدُ تَخْتَصُّ بِهِ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَسَاقُ الْحُكْمِيُّ أَيْضًا، وَهَذَا الْمَسَاقُ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْعَارِفُونَ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْعَارِفُونَ بِمَقَاصِدِ الْعَرَبِ؛ فَكُلُّ مَا سَأَلُوا عَنْهُ فَمِنْ [هَذَا] 3 الْقَبِيلِ إِذَا تَدَبَّرْتَهُ.
فَصْلٌ:
وَيَتَبَيَّنُ لَكَ صِحَّةُ مَا تَقَرَّرَ فِي النَّظَرِ فِي الْأَمْثِلَةِ الْمُعْتَرَضِ بِهَا فِي السُّؤَالِ الْأَوَّلِ4.
فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 82] ؛ فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ أَنْوَاعُ الشِّرْكِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَإِنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُقَرِّرَةٌ لِقَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ، وَهَادِمَةٌ لِقَوَاعِدِ الشِّرْكِ وَمَا يَلِيهِ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلَ الْآيَةِ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي مُحَاجَّتِهِ لِقَوْمِهِ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا لَهُمْ فِي الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الْأَنْعَامِ: 21] ، فبيَّن أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ ارْتَكَبَ هَاتَيْنِ الْخُلَّتَيْنِ5 وَظَهَرَ أَنَّهُمَا الْمَعْنِيَّ6 بِهِمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إِبْطَالًا بالحجة، وتقريرًا لمنزلتهما في المخالفة،
__________
1 لعل الصواب: "الثاني". "د".
2 في "ط": "الخصلتين".
3 أي: عنى بهما في هذه الصورة إبطالًا لهما بالأدلة، وتقريرًا لبعدهما عن الحق، وتوضيحًا لما هو الحق في الواقع الذي هو ضدهما، وقوله: "فكأنه السؤال ... إلخ" يقتضي أن الآية نزلت قبل ظهور العناية في الكتاب -أو على الأقل في سورة الأنعام- بإبطال هاتين الخلتين، ولكن هذا يتوقف على أن الآية المذكورة كان نزولها سابقًا على تلك الآيات، حتى توقفوا فيها ولم يدركوا مقصد الشرع منها؛ فسألوا، ولو كانت الآيات المقررة لهذه المعاني سابقة عليها لفهموا مقصد الشرع بالظلم ولم يتوقفوا، هذا كلامه، وهو توجيه إذا تم سبق الآية لغيرها كما أشرنا إليه. "د".
4 استمداد غير مباشر على ما سيتضح بعد، وإلا، فليس هذا من الحقيقة الشرعية كالصلاة مثلًا. "د".
5 هكذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة و"ط": "الوضع".
6 ما بين المعقوفتين من الأصل و"م" و"ط"، وسقط من "ف" و"د".(4/27)
وَإِيضَاحًا لِلْحَقِّ الَّذِي هُوَ مُضَادٌّ لَهُمَا؛ فَكَأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا وَرَدَ قَبْلَ تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ تَقْرِيرًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِلَفْظٍ عَامٍّ؛ كَانَ مَظِنَّةً لِأَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ ظُلْمٍ، دَقَّ أَوْ جَلَّ؛ فَلِأَجْلِ هَذَا سَأَلُوا وَكَانَ1 ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ تَقْرِيرِ جَمِيعِ كُلِّيَّاتِ2 الْأَحْكَامِ.
وَسَبَبُ احْتِمَالِ3 النَّظَرِ ابْتِدَاءً أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الْأَنْعَامِ: 82] نَفْيٌّ عَلَى نَكِرَةٍ، لَا قَرِينَةَ فِيهَا تَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: لَمْ يَأْتِنِي رَجُلٌ؛ فَيَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ، وَهِيَ كُلُّهَا نَفْيٌ لِمُوجِبٍ مَذْكُورٍ أَوْ مُقَدَّرٍ، وَلَا نَصَّ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ الْمُحْتَمِلَةِ؛ إِلَّا مَعَ الْإِتْيَانِ بِمَنْ وَمَا يُعْطِي مَعْنَاهَا، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ هُنَا، بَلْ فِي السُّورَةِ4 مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ وَارِدٌ على ظلم معروف، وهو ظلم
__________
1 في "ط": "وكل".
2 أي: التي منها: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . "د".
3 أي: فالآية باعتبار ذاتها وقطع النظر عن الآيات الآخرى السابقة واللاحقة نراها باعتبار الاستعمال مجملة، لا نص فيها على الاستغراق الوضعي ولا على غيره؛ فجاء الاحتمال المقتضي للسؤال. "د".
4 لا حاجة إليه في هذا المقام؛ لأنا في مقام سبب الإجمال كما قال بعد: "فصارت الآية من جهة إفرادها بالنظر ... إلخ".(4/28)
الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ؛ فَصَارَتِ الْآيَةُ مِنْ جِهَةِ إِفْرَادِهَا1 بِالنَّظَرِ فِي هَذَا الْمَسَاقِ مَعَ كَوْنِهَا أَيْضًا فِي مَسَاقِ تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ مُجْمَلَةً2 فِي عُمُومِهَا فَوَقَعَ الْإِشْكَالُ فِيهَا، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ عُمُومَهَا إِنَّمَا الْقَصْدُ بِهِ نَوْعٌ أَوْ نَوْعَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَذَلِكَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ، وَلَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصٌ3 عَلَى هَذَا بوجه.
__________
1 فإفرادها بالنظر وعدم الالتفات إلى سياقها وسباقها -أي: حتى على فرض أنها نزلت بعد الآيات التي تقرر فيها المعنى المشار إليه سابقًا- وكونها في مساق تقرير الأحكام الذي هو مظنة عموم الظلم لما جل وما دق، هذا وذاك جعل العموم محتملًا وجعل الآية مجملة، فاحتاجت إلى السؤال والجواب للبيان لا للتخصيص. "د".
قلت: وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 434": "إن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك -أي: إن معنى الظلم في الآية هو الشرك- فإنه الله سبحانه لم يقل: ولم يظلموا أنفسهم، بل قال: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} ، ولبس الشيء بالشيء تغطيته به، وإحاطته به من جميع جهاته، ولا يغطي الإيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر".
وانظر حول تفسير الآية: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/ 79-82".
2 في "ط": "محتملة".
3 كأنه يقول: إن هذا النوع أو النوعين من الظلم هما اللذان اختصا بالعناية في هذه السورة إبطالًا لهما بالحجة ... إلخ ما سبق، فلما جاء ذكر الظلم في آية: {الَّذِينَ آمَنُوا....} إلخ [الأنعام: 82] جاء نازلًا من أول الأمر على معناه المذكور؛ فلا حاجة به إلى تخصيص، وهو في ذاته ظاهر إلا أنه لا يظهر فيه كونه وضعًا شرعيًّا، وعده من نوع الحقيقة الشرعية التي قال فيها: "إن نسبتها إلى مطلق الوضع الاستعمالي العربي كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري"، فإنما يظهر ذلك بالنسبة لمثل لفظ صلاة وصوم وحج وزكاة، أما الظلم، فلم يوضع في الشرع وضعًا خاصًّا، بل لا يزال بالمعنى الذي يقتضيه الوضع الأصلي والوضع الاستعمالي العربي بحسب المقام والقرائن، نعم، الاستعمال الشرعي في هذه الآية فهم من الآيات السابقة، ومن عناية الكتاب في هذه السورة بهذا النوع من الظلم، فكان قرينة على المراد منه؛ فلا حاجة به إلى تخصيص آخر منفصل أو متصل، وما وجد من السؤال والجواب إزاحة لإجمال فقط، والحاصل أن قوله سابقًا: "والثاني المقصد في الاستعمال الشرعي الوارد في القرآن بحسب تقرير الشريعة" =(4/29)
وأما قول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} الْآيَةَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] ؛ فَقَدْ أَجَابَ النَّاسُ عَنِ اعْتِرَاضِ ابْنِ الزِّبَعْرَى فِيهَا بِجَهْلِهِ بِمَوْقِعِهَا، وَمَا رُوِيَ فِي الْمَوْضِعِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: "مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ يَا غُلَامُ"1؛ لِأَنَّهُ جَاءَ في الآية:
__________
= واضح في ذاته، وعليه يتمشى هذا الكلام، ولكن قوله: "وَذَلِكَ أَنَّ نِسْبَةَ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ إِلَى مُطْلَقِ الوضع ... إلخ"، وكذا قوله: "مع ما ينضاف إلى ذلك في مسألة إثبات الحقيقة الشرعية"، وقوله بعد ذلك: "والموضع يستمد منها"، أي: من وضع الحقيقة الشرعية كل هذا لا يرتبط بالجواب عن آية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام: 82] ، ولا الآية الثانية، فإن الكلام فيهما إنما يرتبط بالمقصد الشرعي في الاستعمال، وهذا يستعان على فهمه بالآيات وبما يتقرر من الأحكام العامة في الشريعة، ولا دخل لهذا في مسألة الوضع الشرعي الذي ينقل معنى الكلمة إلى معنى أخص، بحيث لا تطلق في استعمال الشرع حقيقة إلا بهذا المعنى الخاص، اللهم إلا أن يكون مراده بذكر الوضع الشرعي وما أطال به فيه, مجرد التقريب والتشبيه فقط، وليس مراده أن الظلم انتقل في الوضع الشرعي إلى هذا النوع منه, وإن كان على كل حال ليس لذكره كبير فائدة. "د".
1 قال ابن حجر في "الكافي الشافي" "ص111-112": "اشتهر في ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه القصة لابن الزبعرى: "ما أجهلك بلغة قومك، فإني قلت: وما تعبدون، وهي لما لا يعقل، ولم أقل: ومن تعبدون"، وهو شيء لا أصل له، ولا يوجد لا مسندًا ولا غير مسند".
وقال في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 175": "وهذا لا أصل له من طريق ثابتة ولا واهية"، ثم ذكر منشأ وهم من ذكر هذا الحديث.
وفي "تفسير الآلوسي" "17/ 86" نقلًا عنه زيادة على المذكور: "والوضع عليه ظاهر، والعجب ممن نقله من المحدثين".
وحكم قبله ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 303" مثل هذا الحكم؛ فقال: "هذا خبر موضوع لا أصل له في السقيم؛ فكيف في الصحيح؟ ولا في الضعيف فضلًا عن القوي، ويدفعه القرآن؛ فإنه لو كان كما وضع هذا الملحد لما افتقرنا إلى الجواب بالآيات الثلاث، ولكان فيما وبخهم به كفاية، وأيضًا فإنه كان يجب أن يقال: "إن من سبقت لهم منا الحسنى"، فتكون الآية مطابقة للحديث، ولكنه جاء بكلمة "الذين" التي هي معنى كلمة "ما"؛ فيكون معنى الآية الأولى: إنكم والذين تعبدون من دون الله، وتكون الآية الثانية تخصيصًا صحيحًا باللفظ للفظ، وبالمعنى للمعنى، ونحن لا نحتاج إلى هذا كله، ونعوذ بالله من التكلف للحق؛ فكيف بالتكلف للباطل؟! ". وانظر: "المعتبر" "ص187" للزركشي، و" تفسير ابن كثير" "3/ 199".(4/30)
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] [فِي الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ] 1، "وَمَا" لِمَا لَا يَعْقِلُ؛ فَكَيْفَ تَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ؟!
وَالَّذِي2 يَجْرِي عَلَى أَصْلِ مَسْأَلَتِنَا أَنَّ الْخِطَابَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَلَا الْمَسِيحَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ؛ فَقَوْلُهُ: {وَمَا تَعْبُدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] عَامٌّ فِي الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ الِاسْتِعْمَالِيِّ غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَكَانَ اعْتِرَاضُ الْمُعْتَرِضِ جَهْلًا مِنْهُ بِالْمَسَاقِ، وَغَفْلَةً عَمَّا قُصِدَ فِي الْآيَاتِ.
وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ: "مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ يَا غُلَامُ"3 دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَمَكُّنِهِ فِي فَهْمِ الْمَقَاصِدِ4 الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ؛ لِحَدَاثَتِهِ وَغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَيْهِ فِي الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَتَأَمَّلَ مَسَاقَ الْكَلَامِ حَتَّى يَهْتَدِيَ5 لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَنَزَلَ6 قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الْأَنْبِيَاءِ: 101] بَيَانًا7
__________
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة و"ط".
2 خلاصة الجواب على طريقة غير المؤلف أن لفظ "ما" لا يشمل عيسى ولا الملائكة بقطع النظر عن مساق الآية، وعلى طريقة المؤلف -من اعتبار المساق وكونها في كفار قريش- يكون الجواب بالنظر إلى الواقع وهو أن قريشًا لم تعبد عيسى ولا الملائكة؛ فلا يتصور دخولهما ولو كان لفظ "ما" صالحًا للشمول، وقد وجه المؤلف الأثر على كلتا الطريقتين، والواقع أنه صالح للتنزيل عليهما. "د".
3 انظر الحاشية في الصفحة السابقة.
4 أي: التي لا بد من الاسترشاد فيها بما يساق الكلام له. "د".
5 هكذا في الأصل، وفي غيره: "يتهدى".
6 مضى تخريجه "3/ 362".
7 أي: لزيادة بيان جهل المعترض؛ كما في "شرح المنهاج". "د".(4/31)
لِجَهْلِهِ.
وَمِثْلُهُ مَا فِي "الصَّحِيحِ"1 أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ2: "اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْ لَهُ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ3 مُعَذَّبًا؛ لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ؟ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ4 -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ؛ فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ5 بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا6 مِنْ كِتْمَانِهِمْ. ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آلِ عِمْرَانَ: 187] كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 188] "؛ فَهَذَا7 من ذلك المعنى أيضًا.
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} ، 8/ 233/ رقم 4568".
2 فاهمًا أن الموصول في قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} الآية على عمومه شامل لكل من يؤتى شيئًا أو يأتي شيئًا، كما قيل: فيفرح به فرح إعجاب، ويود أن يحمده الناس بما هو عار عنه من الفضائل. "ف".
3 في "الصحيح": "يعمل".
4أي: إن الآية نزلت في شأن خاص بأهل الكتاب بدليل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} ؛ فليس الموصول على عمومه شاملًا لما ذكر."ف".
5 في "ط": "عليه".
6 في "الصحيح": "أتوا".
7 فمروان أفرد الآية عما قبلها، فظن العموم؛ فبين له الحبر في جوابه ما يتنزل عليه هذا العموم، بمساعدة سياق الآية والقصة التي نزلت فيها، ومن أدب المؤلف مع مروان قوله: "فهذا من ذلك المعنى"، ولم يقل لعدم تمكن مروان من فهم مقاصد الشريعة، وقوله: "فجوابهم"؛ أي: الأجوبة التي سبقت عن توقفهم في الآيات الثلاث. "د".
قلت: وانظر "البرهان في علوم القرآن" "1/ 27-28". قال "ف": ""أوتوا" قرئ بضم الهمزة؛ أي: أو أعطوا، وبفتحها مقصورة وممدودة".(4/32)
وَبِالْجُمْلَةِ، فَجَوَابُهُمْ بَيَانٌ لِعُمُومَاتِ تِلْكَ النُّصُوصِ كَيْفَ وَقَعَتْ فِي الشَّرِيعَةِ، وَإِنَّ ثَمَّ قَصَدًا آخَرَ سوى القصد العربي1 لا بد مِنْ تَحْصِيلِهِ، وَبِهِ يَحْصُلُ فَهْمُهَا، وَعَلَى طَرِيقِهِ يَجْرِي سَائِرُ الْعُمُومَاتِ، وَإِذْ ذَاكَ لَا يَكُونُ ثَمَّ تَخْصِيصٌ بِمُنْفَصِلٍ2 أَلْبَتَّةَ، وَاطَّرَدَتِ الْعُمُومَاتُ قَوَاعِدَ صَادِقَةَ الْعُمُومِ، وَلِنُورِدْ هُنَا فَصْلًا هُوَ مَظِنَّةٌ لِوُرُودِ الْإِشْكَالِ3 عَلَى مَا تَقَرَّرَ، وَبِالْجَوَابِ عَنْهُ يتضح المطلوب اتضاحًا أكمل.
__________
1 أي: العربي البحت الذي لم يستند إلى تعرف مقاصد الشرع، والوقوف على مقتضى الحال من مثل سبب النزول، والرجوع إلى كليات الشريعة لفقه جزئياتها من الأدلة بمقارنتها للكليات، وهكذا سائر القرائن التي تعين على فهم المقصود من الألفاظ، وتكشف عن المراد منها وما استعملت فيه في الآية؛ فتكون تلك القرائن كبيان للمجمل، لا تخصيص وإخراج لبعض ما أريد من اللفظ. "د".
2 وسيأتي أنه لا تخصيص بالمتصل أيضًا. "د".
3 الإشكال في هذا الفصل وارد على الجواب عن الإشكال السابق القائل: إن العرب حملت الألفاظ على عمومها الإفرادي، مع أن سياق الاستعمال يقتضي خلاف ما فهموا؛ فقد أجاب عنه بأن فهم عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه، وأن فهم المقصد الشرعي مما يتفاوت الأمر فيه بين الطارئ الإسلام والقديم العهد، والمشتغل بتفهمه وتحصيله ومن ليس كذلك، فمن تبحر أدرك الاستعمال الشرعي ومقصد الشارع على الكمال فتوقف الصحابة في مثل آية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] إنما هو هو راجع إلى ذلك، لأن الآية في الأنعام وهي من أول ما أنزل، ولم تكن كليات الشريعة قد تم تقريرها؛ فهذا هو عذرهم في التوقف، ويريد بهذا الفصل أن يورد على هذا الجواب أنه غير حاسم للإشكال؛ لأن السلف الصالح المتبحرين في فهم مقاصد الشريعة كعمر بن الخطاب، ومعاوية، وعكرمة، وابن عباس، وغيرهم من الأئمة المجتهدين، أخذوا بعموم الألفاظ، وإن كان سياق الاستعمال ومقتضيات الأحوال تعارض هذا العموم، وما ذاك إلا لأن المعتبر عندهم هو العموم الإفرادي؛ فتكون هذه الأمثلة المذكورة في هذا الفصل وغيره مما خص بالمنفصل، لا أنها مما وضع في الاستعمال الشرعي على العموم، وأن عمومها باق لم يمسه تخصيص كما تقول، وبهذا يتبين الفرق بين الإشكال والجواب هنا وبين ما تقدم، وأن قوله: "والجواب عنه" معطوف على لفظ: "ما"؛ فالإشكال الآتي وارد على ما قرره في رأس المسألة ووارد على الجواب عنه بما تقدم كما عرفت، قوله: "يتضح" واقع في جواب الأمر، ولا مانع أن يكون سقط الباء من قوله: "والجواب" كما قاله بعضهم، وإن جعله هو الصواب. "د".
قلت: يريد بقوله: "بعضهم": "ف"؛ فإن العبارة هذه: "والجواب عنه" وقال: "صوابه: "وبالجواب عنه"".(4/33)
فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَكَوْنِهِمْ عَرَبًا قَدْ أَخَذُوا بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ سِيَاقُ الِاسْتِعْمَالِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُمْ فِي اللَّفْظِ1 عُمُومُهُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْإِفْرَادِيِّ وَإِنْ عَارَضَهُ السِّيَاقُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ عِنْدَهُمْ صَارَ مَا يُبَيِّنُ لَهُمْ خُصُوصَهُ كَالْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِمَّا2 خُصَّ بِالْمُنْفَصِلِ، لَا مِمَّا وُضِعَ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى الْعُمُومِ الْمُدَّعَى.
وَلِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كَلَامِهِمْ أَمْثِلَةٌ، مِنْهَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَتَّخِذُ الْخَشِنَ مِنَ الطَّعَامِ، كَمَا كَانَ يَلْبَسُ الْمُرَقَّعَ فِي خِلَافَتِهِ؛ فَقِيلَ لَهُ: لَوِ اتَّخَذْتَ طَعَامًا أَلْيَنَ مِنْ هَذَا. فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ تُعَجَّلَ طَيِّبَاتِي، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} 3 [الْأَحْقَافِ: 20] الْحَدِيثَ.
وَجَاءَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ وَقَدْ رَأَى بَعْضَهُمْ قَدْ تَوَسَّعَ فِي الْإِنْفَاقِ شَيْئًا: "أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} 4 الآية
__________
1 في "ط": "الوضع".
2 في "ط": "كما".
3 أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "2/ 695-696"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 279"، وابن المبارك في "الزهد" "204"، والبلاذري في "أنساب الأشراف" "ص187, أخبار أبي بكر وعمر"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص253-254, ترجمة عمر" من وجوه عن عمر، وفي بعضها انقطاع.
وانظر: "مسند الفاروق" "2/ 505-506" لابن كثير، و"كنز العمال" "12/ رقم 35955".
4 أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "2/ 696-697"، وابن عساكر في تاريخ دمشق" "ص255, ترجمة عمر".(4/34)
[الْأَحْقَافِ: 20] "، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ رَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} ، ثُمَّ قَالَ: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الْأَحْقَافِ: 20] ؛ فَالْآيَةُ غَيْرُ لَائِقَةٍ بِحَالَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَخَذَهَا عُمَرُ مُسْتَنِدًا فِي تَرْكِ الْإِسْرَافِ مُطْلَقًا، وَلَهُ أَصْلٌ فِي "الصَّحِيحِ" فِي حَدِيثِ الْمَرْأَتَيْنِ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ؛ فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَهُ. فَاسْتَوَى جَالِسًا؛ فَقَالَ: "أوفي شك [أنت] يابن الْخَطَّابِ؟! أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" 1.
فَهَذَا يُشِيرُ إِلَى مَأْخَذِ عُمَرَ فِي الْآيَةِ وَإِنْ دَلَّ السِّيَاقُ عَلَى خِلَافِهِ.
وَفِي حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ2 الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النار يوم القيامة أن
__________
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المظالم، باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها، 5/ 114-116/ رقم 2468، وكتاب النكاح، باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها، 9/ 278-279/ رقم 5191", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، 2/ 1111-1113/ رقم 1479 بعد 34" عن ابن عباس, رضي الله عنهما.
وما بين المعقوفتين زيادة من "ف" و"ط".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، 3/ 1513-1514/ رقم 1905"، والترمذي في "جامعه" "أبواب الزهد، باب ما جاء في الرياء والسمعة، 4/ 591-593/ رقم 2382"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجهاد، باب من قاتل ليقال: فلان جريء، 6/ 23 و24" عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء؛ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال علام، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ؛ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيه لك. قال: كذبت, ولكنك فعلت ليقال: هو جواد؛ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار". لفظ مسلم.
وتفرد الترمذي بذكر مقولة معاوية عقبه.(4/35)
مُعَاوِيَةَ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هُودٍ: 15] إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ.
فَجَعَلَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ، وَهِيَ فِي الْكُفَّارِ؛ لِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هُودٍ: 16] إِلَخْ، فَدَلَّ عَلَى الْأَخْذِ بِعُمُومِ "مَنْ" فِي غَيْرِ الْكُفَّارِ أَيْضًا.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ قَالَ: "قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ؛ فَاكْتُتِبْتُ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَخْبَرْتُهُ؛ فَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، يُكَثِّرُونَ سواد المشركين عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- يَأْتِي السَّهْمُ يُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ؛ أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ, عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 97] "1.
فَهَذَا أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِيمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِنَّ عِكْرِمَةَ أَخَذَهَا عَلَى وَجْهٍ أَعَمَّ2 مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا نزلت:
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَة ... } ، 8/ 262/ رقم 4596".
2 فجعلها شاملة لمن يعين على حرب ظالمة بين المسلمين. "د".(4/36)
{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ} الآية [البقرة: 284] ، دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ [لَمْ يَدْخُلْ مِنْ1 شَيْءٍ] ، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا". فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} الْآيَةَ، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [الْبَقَرَةِ: 286] . قَالَ: "قَدْ فَعَلْتُ". {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [الْبَقَرَةِ: 286] . قَالَ: "قَدْ فَعَلْتُ" الْحَدِيثَ2 إِلَخْ، فَهِمُوا مِنَ الْآيَةِ الْعُمُومَ، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَزَلَ بَعْدَهَا: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] عَلَى وَجْهِ النَّسَخِ أَوْ غَيْرِهِ مَعَ قَوْلِهِ3 تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وهي
__________
1 الرواية لمسلم، وأصلها: "دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء"، وفي "تفسير ابن جرير": "لم يدخلها"، وهذه الجملة صفة لشيء، أي: دخل قلوبهم من الآية الكريمة شيء من الفزع والخوف لم يدخلها من أجل شيء آخر من الآيات. "د".
قلت: وفي "م": "مثله شيء"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 116/ رقم 126"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 221-222/ رقم 2992"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 293-294/ رقم 79"، وأحمد في "المسند" "1/ 233"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 286"، وابن حبان في "الصحيح" "11/ 458/ رقم 5069"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 95"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "210-211"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص67-68"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص228".
واقتصار المصنف في العزو على النسائي والترمذي وإهماله لمسلم قصور، والله الهادي، وأول الآية سقط من "م".
3 أي: وهو قرينة على أن الله لم يكلف بما يجري في النفس من الخواطر لأنه حرج، ومع أنه يقتضي خلاف ما فهموا؛ فقد كان معولهم على العموم الإفرادي لا الاستعمال الشرعي الذي يمنع من هذا الفهم، وقد أقرهم -صلى الله عليه وسلم- على ما فهموا حتى نزل ما يخصص، وهو {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، إلا أن قوله: "على وجه النسخ" من باب تكميل المقام في ذاته؛ لأنه عليه لا بد أن يكون مقصودًا ابتداء ثم نسخ، ويكون فهمهم في محله؛ فيخرج عما نحن فيه، وقوله "أو غيره" بناء على أنه تخصيص كما تقدم للمؤلف الكلام فيه في باب النسخ على اصطلاح المتقدمين، ولو ذكره واقتصر عليه لكان أنسب بالمقام، وهذا كله على بعض التفاسير في آية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُم} [البقرة: 284] ؛ أي: على أنها راجعة للشهادة وكتمانها؛ فيكون فيه شاهد لما نحن فيه. "د".(4/37)
قَاعِدَةٌ مَكِّيَّةٌ كُلِّيَّةٌ؛ فَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْأَخْذِ بِالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَإِنْ دَلَّ الِاسْتِعْمَالُ اللُّغَوِيُّ أَوِ الشَّرْعِيُّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النِّسَاءِ: 115] الْآيَةَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 48] ثُمَّ إِنَّ عَامَّةَ الْعُلَمَاءِ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً1 وَأَنَّ مُخَالِفَهُ عاصٍ، وَعَلَى أَنَّ الِابْتِدَاعَ فِي الدِّينِ مَذْمُومٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} [هُودٍ: 5] ظَاهِرُ مَسَاقِ الْآيَةِ أَنَّهَا فِي الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} [هُودٍ: 5] ، أَيْ: مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "إِنَّهَا فِي أُنَاسٍ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا2 فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ؛ فَنَزَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ"3؛ فَقَدْ عَمَّ4 هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ الآية مع
__________
1 ذكر السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" "2/ 243" في ترجمة "محمد بن عقيل الفريابي" حكاية عن الإمام الشافعي فيها استدلال بهذه الآية على حجية الإجماع، وقال: "سند هذه الحكاية صحيح لا غبار عليه".
2 يتخلوا: يدخلوا الخلاء المعروف. "ف".
3 أخرجه البخاري في "التفسير" "كتاب التفسير، باب {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} ، 8/ 349/ رقم 4681، 4682، 4683".
4 ابن عباس يقول صراحة: "إنها نزلت في الذين يستحيون"، ولا يلزم من الاستخفاء بمعنى الاستحياء النفاق أو الكفر؛ فهو يخالف غيره في سبب النزول؛ فلا يجعلها في الكفار ثم يسحب حكمها على بعض المؤمنين حتى تجعل الآية مما نحن فيه، فما لم يقل ابن عباس صراحة أنها نزلت في الكفار وأنها تشمل من استحيا ... إلخ، ثم يكن لذكرها ههنا وجه. "د".(4/38)
أَنَّ الْمَسَاقَ لَا يَقْتَضِيهِ.
وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ، وَهُوَ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ اللَّفْظِ لَا خُصُوصِ السَّبَبِ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [الْمَائِدَةِ: 44] مَعَ أَنَّهَا نَزَلَتْ1 فِي الْيَهُودِ وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْعُلَمَاءَ عَمُّوا بِهَا غَيْرَ الْكُفَّارِ، وَقَالُوا: كُفْرٌ دون كفر2.
__________
1 أي: الآيات الثلاث نزلت في اليهود خاصة؛ كما قال ابن عباس فيما أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 246"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الديات، باب النفس بالنفس، 4/ 168/ رقم 4494، وكتاب الأقضية، باب الحكم بين أهل الذمة، 3/ 303/ رقم 3590، 3591"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب القسامة، باب تأويل قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} ، 8/ 18"، والدارقطني في "السنن" "3/ 198"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1738, موارد"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 366"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 24"، وهو صحيح بتعدد طرقه.
2 كما هو ثابت عن ابن عباس، أخرجه من طرق عنه: ابن جرير في "التفسير" "6/ 256، 257"، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" "رقم 569، 570، 571، 572، 573، 574"، وابن عبد البر في "التمهيد" "4/ 237"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 313"، والبيهقي في "الكبرى" 8/ 20"، وابن أبي حاتم في "تفسيره", كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 97"، وسعيد بن منصور والفريابي وابن المنذر؛ كما في "الدر المنثور" "3/ 87".
ولأخينا الفاضل علي بن حسن الحلبي جزء مفرد في تصحيحه، وهو مطبوع بعنوان: "القول المأمون"؛ فانظره غير مأمور.
وانظر: "مدارج السالكين" "1/ 336 ط الفقي".(4/39)
فَإِذَا رَجَعَ هَذَا الْبَحْثُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنْ لَا اعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ1، وَفِيهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا عُلِمَ2؛ فَقَدْ رَجَعْنَا إِلَى [أَنَّ] 3 أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ الْأَصَحُّ، وَلَا فَائِدَةَ زَائِدَةٌ4.
وَالْجَوَابُ: إِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ إِنَّمَا جَاءُوا بِذَلِكَ الْفِقْهِ الْحَسَنِ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ آخَرَ غَيْرِ رَاجِعٍ إِلَى الصِّيَغِ الْعُمُومِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مَقْصُودًا يَفْهَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْكُفَّارَ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ، وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِيَقُومَ الْعَبْدُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ عَلَى قَدَمَيِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَيَرَى أَوْصَافَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ؛ فَيَجْتَهِدُ رَجَاءَ أَنْ يُدْرِكَهُمْ، وَيَخَافُ أَنْ لَا يَلْحَقَهُمْ فَيَفِرَّ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَيَرَى أَوْصَافَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ؛ فَيَخَافُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَفِيمَا يُشْبِهُهُ، وَيَرْجُو بِإِيمَانِهِ أَنْ لَا يَلْحَقَ بِهِمْ؛ فَهُوَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ مِنْ حَيْثُ يَشْتَرِكُ مَعَ الْفَرِيقَيْنِ فِي وَصْفٍ مَا وَإِنْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ الطَّرَفَانِ كَانَ الحائل بينهما مأخوذ5 الجانبين كمحال
__________
1 وإن من المخصص المنفصل سبب النزول، يعني وما شاكله، فإن ما ذكره المؤلف في هذا المقام لا يقتصر مقتضى الحال فيه على خصوصية السبب، كما هو ظاهر، فإن كلامه فيما هو أوسع من ذلك، كما في كلام عمر وكلام معاوية. "د".
2 وهو أن الجمهور على القول باعتبار عموم اللفظ، ولا اعتبار بخصوص السبب، والنزاع فيما إذا بنى عام مستقل عل سبب خاص، مثاله أنه سئل -صلى الله عليه وسلم- عن بئر بضاعة التي تلقى فيها الجيف، فقال: "خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ ... إلخ "، وكما في قصة مروره بشاة ميمونة ميتة، فقال: "أيما إهاب دبغ؛ فقد طهر"، وقد نقل عن الشافعي أن العبرة بخصوص السبب مخالف للجمهور الذين حجوه بالأدلة المتضافرة على أن العبرة بعموم اللفظ. "د".
3 سقطت من "ط".
4 قد يقال: وكيف لا تكون الفائدة زائدة، وقد صحح بناء على فهمك غير ما صححه الجمهور، من أن العبرة بالعموم لا بالخصوص؛ إلا أن يقال: إنه يريد الفائدة التي يعنيها المؤلف ويكد للحصول عليها، وهي أنه لا تخصيص بالمنفصل أصلًا. "د".
5 أي: يتجاذبه الطرفان، ويأخذه كل منهما إلى جهته؛ فهو مأخوذ لكل منهما؛ فالعبارة مستقيمة. "د".
قلت: في هذا رد على "ف" حيث قال: "لعله مأخذ الجانبين، أي: جانبي تدبر الخوف والرجاء" ا. هـ.(4/40)
الِاجْتِهَادِ لَا فَرْقَ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ حَمَلُوا ذَلِكَ مَحْمَلَ الدَّاخِلِ تَحْتَ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ1 فِي آيَةِ الْأَحْقَافِ وَهُودٍ وَالنِّسَاءِ فِي آيَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الْآيَةَ] 2 [النِّسَاءِ: 97] ، وَيَظْهَرُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاءِ: 115] ، وَمَا سِوَى3 ذَلِكَ؛ فَإِمَّا مِنْ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ، وَإِمَّا أَنَّهَا بَيَانُ فِقْهِ الْجُزْئِيَّاتِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ الْعَامَّةِ، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّخْصِيصُ، بَلْ بَيَانُ جِهَةِ4 الْعُمُومِ، وَإِلَيْكَ النَّظَرُ في التفاصيل، والله المستعان.
__________
1 لأن الآيات المذكورة لا يتأتى فيها اندراج المؤمنين في عمومها اللفظي، لا سيما الآيات الثلاث الأول، وعلى ما هو الظاهر في الآية الرابعة من قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] ، ولذا أفردها بقوله: "ويظهر أيضًا". "د". وفي "ط": "وهذا ظاهر".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من "ف" و"م" و"ط".
3 أي: من الآيات السابقة المستشكل بها، وقوله: "من تلك القاعدة"، أي: المتقدمة في هذا الجواب، ويمكن اطرادها في الجميع، وأما أنه من المجيبين, كابن عباس في آية {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا} [آل عمران: 188] , بيان وتقرير لطريقة أخذ الجزئيات الفقهية من الكليات، وأنه يلزم أن يوقف بها عند الحد الاستعمالي في المقاصد الشرعية، ولا يرجع بها إلى الوضع على الإطلاق، وليس مقصودهم أن الآيات كانت في قصد الشارع عامة ثم خصصت، بل غرضهم بيان أن عمومها ليس بحسب ما فهم السائل عمومًا ينظر فيه للوضع العربي الإفرادي، بل الاستعمالي بحسب مقاصد الشارع في مثله، وما يعين عليه المقام وما يقتضيه الحال، وعليه يكون قوله: "وما سوى ذلك" راجعًا إلى ما سبق من أول الفصل، وظاهر أن صحة العبارة: "لا أن المقصود" وليست "لأن" كما في أصل النسخة. "د".
4 أي: وإنه عموم بقدر مقاصد الشرع فيه، يعد فهم قواعد الشريعة؛ أي: فلم يفهموا العموم من الوقوف عند حد اللفظ العام نفسه، ولم يفهموا الخصوص باعتبار أنه تخصيص وإخراج لما كان داخلًا حتى يكون المخصص منفصلًا بطريق من طرقه. "د". =(4/41)
...........................................................................
__________
= محور الكلام في هذه المسألة هو أن خصوص السبب هل يصلح أن يكون قرينة مخصصة أم لا؟ اختلفوا في هذه، وبناء على هذا الاختلاف اختلفت مناهج المؤلفين في تصنيف هذه المسألة، فمنهم من وصفها ضمن مباحث العام وجعل لها عنوانًا مستقلًّا، ومنهم من وصفها ضمن مباحث التخصيص بالمنفصل.
فالآمدي في "الإحكام "2/ 459 و477" جعل الخطاب الوارد على سبب بنوعيه, أعني: ورود الخطاب جوابًا لسؤال، ووروده في قضية عين ذكرت فيه علة الحكم, في مباحث العلم، فجعل النوع الأول في المسألة السادسة، وجعل النوع الثاني في المسألة الثالثة عشرة.
وليس في سلوك هذا المنهج ما يدل على أن الآمدي يرى في الحكم العام الوارد على سبب أن العبرة بعموم اللفظ، لأنه في الأصل متردد في صحة التخصيص بالمنفصل، وذكر أوجهًا ثلاثًا تقتضي منع التخصيص المنفصل، ثم حاول تطويع هذه الأوجه لتوافق القول بجواز التخصيص بالمنفصل.
وأما الرازي في "المحصول" "2/ 183"؛ فعقد له هذا العنوان: القول فيما ظن أنه من مخصصات العموم، مع أنه ليس كذلك وضمنه الخطاب الوارد على سبب، وقصر السبب على سؤال السائل.
وانفرد في ذلك الشاطبي؛ فإنه لا يرى أصلًا التخصيص بالمنفصل ولا بالمتصل؛ لأن اللفظ العام بوضعه الاستعمال يدل دون ما يدل عليه ذلك اللفظ بوضعه اللغوي، والعموم إنما يفيد بالاستعمال، ووجوه الاستعمالات كثيرة، ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان، وهذه المقتضيات كالقرائن تعين على فهم المقصود من الألفاظ وتبين المجمل، وبهذا الفهم لا يكون إذ ذاك تخصيص بمنفصل, فالنصوص العامة التي وردت فيها مقتضيات أحوال ظاهرها أنها مخصصة للعموم ليست في الحقيقة مخصصة، بناء على هذه القاعدة: "المقصد الاستعمالي للفظ العام"، أو أن هذه المقتضيات وردت لبيان "فقه الجزئيات من الكليات العامة، لا أن المقصود التخصيص بل بيان جهة العموم".
ويجعل الأحكام العامة الواردة على سبب باقية على عمومها، وإنما الأسباب اقتضت أحكامًا خاصة، يقول رحمه الله فيما مضى "1/ 465": "ولا يخرج عن هذا -أي: إن الأحكام الكلية مشروعة على الإطلاق والعموم- ما كان من الكليات واردًا على سبب، فإن الأسباب قد تكون مفقودة =(4/42)
فَصْلٌ:
إِذَا تَقَرَّرَ مَا تَقَدَّمَ؛ فَالتَّخْصِيصُ إِمَّا بِالْمُنْفَصِلِ أَوْ بِالْمُتَّصِلِ.
فَإِنْ كَانَ بِالْمُتَّصِلِ؛ كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَالصِّفَةِ، وَالْغَايَةِ، وَبَدَلِ الْبَعْضِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِإِخْرَاجٍ لِشَيْءٍ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ أَنْ لَا يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ مِنْهُ غَيْرَ مَا قَصَدَ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ: "زَيْدٌ الْأَحْمَرُ" عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ "كَزَيْدٍ" وَحْدَهُ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ زَيْدًا الْأَحْمَرَ هُوَ الِاسْمُ الْمُعَرَّفُ بِهِ مَدْلُولُ زِيدٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا كَانَ الْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ هُوَ الِاسْمُ لَا أَحَدُهُمَا، وَهَكَذَا إِذَا قُلْتَ: "الرَّجُلُ الْخَيَّاطُ" فَعَرَفَهُ السَّامِعُ؛ فَهُوَ مُرَادِفٌ "لِزَيْدٍ"؛ فَإِذًا الْمَجْمُوعُ هُوَ1 الدَّالُّ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا قُلْتَ: "عَشْرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً"؛ فَإِنَّهُ مُرَادِفٌ لِقَوْلِكَ: "سَبْعَةٌ"؛ فَكَأَنَّهُ وَضْعٌ آخَرُ عَرَضَ حالة التركيب
__________
= قبل ذلك، فإذا وجدت اقتضت أحكامًا".
والفرق بين الشاطبي وبين الأصوليين في حقيقة التخصيص أن التخصيص عنده بيان المقصود في عموم الصيغ؛ فهو يرجع إِلَى بَيَانِ وَضْعِ الصِّيَغِ الْعُمُومِيَّةِ فِي أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ خُرُوجِ الصِّيغَةِ عَنْ وَضْعِهَا من العموم إلى الخصوص؛ فالشاطبي جعل التخصيص بيانًا لوضع اللفظ، والأصوليون قَالُوا: إِنَّهُ بَيَانٌ لِخُرُوجِ اللَّفْظِ عَنْ وَضْعِهِ. انظر "مسألة تخصيص العام بالسبب" "ص22-23" لمحمد العروسي عبد القادر.
1 ولا تخصيص فيه، وهو حقيقة فيه، وهذا رأي أبي الحسين أن ما خص بغير مستقل كالشرط والاستثناء والصفة؛ فالباقي يكون اللفظ فيه حقيقة، وذلك لأن هذه المذكورات صارت كالجزء من الدال على المعنى المقصود، وصار الدال معها لمعنى غير ما وضع له أولًا، وقوله: "ويظهر ذلك في الاستثناء"؛ لأن العام الذي أخرج منه البعض كقولك: أكرم بني تميم إلا البخلاء منهم باق على عمومه دلالة وإرادة، وليس من العام المخصص في شيء، ومثل هنا بعشرة، وليست أسماء العدد من العموم في شيء؛ إلا أن غرضه إفادة أن الاستثناء كجزء من الكلام الدال على السبعة، وهو أظهر من الصفة. "د".(4/43)
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَا تَخْصِيصَ فِي مَحْصُولِ الْحُكْمِ لَا لَفْظًا وَلَا قَصْدًا1، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُجَازٌ أَيْضًا2 لِحُصُولِ الْفَرْقِ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ بَيْنَ قَوْلِكَ: "مَا رَأَيْتُ أَسَدًا يَفْتَرِسُ الْأَبْطَالَ"، وَقَوْلِكَ: "مَا رَأَيْتُ رَجُلًا شُجَاعًا"، وَأَنَّ الْأَوَّلَ مَجَازٌ، وَالثَّانِيَ حَقِيقَةٌ، وَالرُّجُوعُ فِي هَذَا إِلَيْهِمْ، لَا إِلَى مَا يُصَوِّرُهُ الْعَقْلُ3 فِي مَنَاحِي الْكَلَامِ.
وَأَمَّا التَّخْصِيصُ بِالْمُنْفَصِلِ؛ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ أَيْضًا رَاجِعٌ إِلَى بَيَانِ الْمَقْصُودِ فِي عُمُومِ الصِّيَغِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي رَأْسِ الْمَسْأَلَةِ، لَا أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَةِ التَّخْصِيصِ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْأُصُولِيُّونَ.
فَإِنْ قِيلَ: وَهَكَذَا يَقُولُ الْأُصُولِيُّونَ: إِنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانُ الْمَقْصُودِ بِالصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ؛ فَإِنَّهُ رَفْعٌ لِتَوَهُّمِ دُخُولِ الْمَخْصُوصِ تَحْتَ عُمُومِ الصِّيغَةِ فِي فَهْمِ السَّامِعِ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ الدُّخُولُ تَحْتَهَا، وَإِلَّا كَانَ التَّخْصِيصُ نَسْخًا فَإِذًا لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّخْصِيصِ بِالْمُنْفَصِلِ وَالتَّخْصِيصِ بِالْمُتَّصِلِ عَلَى مَا فَسَّرْتَ؛ فَكَيْفَ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَا ذَكَرْتَ وَبَيْنَ مَا يَذْكُرُهُ الْأُصُولِيُّونَ؟
فَالْجَوَابُ: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا رَاجِعٌ إِلَى بَيَانِ وَضْعِ الصِّيَغِ الْعُمُومِيَّةِ فِي أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ خُرُوجِ الصِّيغَةِ عَنْ وَضْعِهَا مِنَ الْعُمُومِ إِلَى الْخُصُوصِ؛ فَنَحْنُ بَيَّنَّا أَنَّهُ بَيَانٌ لِوَضْعِ اللَّفْظِ، وَهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ بَيَانٌ لخروج اللفظ عن وضعه،
__________
1 يترتب الثاني على الأول لأنه إذا كان اللفظ بقيده آتيًا على قدر المراد؛ فلا محل للتخصيص قصدًا. "د".
قلت: انظر "المسودة" "154"، و"مجموع الفتاوى" "31/ 116".
2 انظر تفصيل ذلك في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 488-490 و31/ 116".
3 كأن يصور أن الرجل في سياق النفي عام عمومًا قصره الوصف على نوع منه، وهو أقل مما كان يتناوله قبل الوصف؛ فهو غير ما وضع له "رجل"؛ فيكون مجازًا. "د".(4/44)
وبينهما فرق؛ فالتفسير الواقع هنا نظير بيان الَّذِي1 سِيقَ عَقِبَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِيُبَيِّنَ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَالَّذِي لِلْأُصُولِيِّينَ نَظِيرُ2 الْبَيَانِ الَّذِي سِيقَ عُقَيْبَ الْحَقِيقَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَجَازُ؛ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَسَدًا يَفْتَرِسُ الْأَبْطَالَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَيَكُونُ تَأْصِيلُ أَهْلِ الْأُصُولِ كُلُّهُ بَاطِلًا، أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَطَأً، وَالْأُمَّةُ3 لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْخَطَأِ، وَإِنْ كَانَ صَوَابًا وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ إِجْمَاعُهُمْ؛ فَكُلُّ مَا يُعَارِضُهُ خَطَأٌ، فَإِذًا كَلُّ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ خَطَأٌ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ أَوَّلًا غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى شَرْطِهِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ ثَابِتٌ؛ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إِبْطَالُ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا اعْتَبَرُوا صِيَغَ الْعُمُومِ بِحَسَبِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْوَضْعِ الْإِفْرَادِيِّ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا حَالَةَ الْوَضْعِ الِاسْتِعْمَالِيِّ، حَتَّى إِذَا أَخَذُوا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأَحْكَامِ؛ رَجَعُوا إِلَى اعْتِبَارِهِ: كُلٌّ عَلَى اعْتِبَارٍ رَآهُ، أَوْ تَأْوِيلٍ ارْتَضَاهُ؛ فَالَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنِ اعْتِبَارِهِمُ الصِّيَغَ فِي الِاسْتِعْمَالِ، بِلَا4 خِلَافٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؛ إِلَّا مَا يَفْهَمُ عَنْهُمْ مَنْ لَا يُحِيطُ عِلْمًا بِمَقَاصِدِهِمْ، وَلَا يُجَوِّدُ مَحْصُولَ كَلَامِهِمْ، وبالله التوفيق.
__________
1 وهو لا يخرج الصيغ عن وضعها، وإنما يكشف عن الوضع المراد من بين الأوضاع. "د".
قلت: في "ط" و"ف": "نظير بيان الذي"، وقال "ف": "لعله: "نظير البيان" بأداة التعريف" انتهى، وكذا في الأصل و"م" و"د".
2 وإنما قال: "نظيره" أي: شبيهه للفرق الظاهر بين المعنى المجازي المنقول إليه وبين المعنى الباقي بعد التخصيص؛ فإن الأول ليس بعضًا مما وضع له اللفظ حقيقة، بل معنى آخر مناسب له فقط، أما الثاني؛ فإنه بعض ما وضع له اللفظ؛ ولذا قال بعضهم: إنه لا يزال اللفظ فيه حقيقة. "د". وفي "ط": "الواقع هنا نظير ... ".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "31/ 109".
3 أي: والأصوليون أمة في فنهم. "د".
4 في الأصل و"ط": "فلا".(4/45)
فَصْلٌ:
فَإِنْ قِيلَ: حَاصِلُ1 مَا مَرَّ أَنَّهُ بَحْثٌ فِي عِبَارَةٍ، وَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ.
فَالْجَوَابُ أَنْ لَا، بَلْ هُوَ بَحْثٌ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ أَحْكَامٌ:
- مِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِّ إِذَا خُصَّ؛ هَلْ يَبْقَى2 حُجَّةً أَمْ لَا؟ وَهِيَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخَطِيرَةِ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهَا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ شَنِيعٌ لِأَنَّ غَالِبَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَعُمْدَتَهَا هِيَ الْعُمُومَاتُ، فَإِذَا عُدَّتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بِنَاءً عَلَى مَا قَالُوهُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْعُمُومَاتِ أَوْ غَالِبَهَا مُخَصَّصٌ؛ صَارَ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ مُخْتَلَفًا فِيهَا: هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وَمِثْلُ ذَلِكَ يُلْقَى فِي الْمُطْلَقَاتِ3 فَانْظُرْ فِيهِ، فَإِذَا عَرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ؛ لَمْ يَبْقَ4 الْإِشْكَالُ الْمَحْظُورُ، وَصَارَتِ الْعُمُومَاتُ حُجَّةً عَلَى كُلِّ قَوْلٍ.
__________
1 يعني: يؤخذ من جوابه السابق أن المآل واحد، وأنهم وإن سموه تخصيصًا وإخراجًا لبعض ما دخل في العام؛ إلا أنهم عند الاستنباط وأخذ الأحكام اعتبروا الصيغ بالوضع الاستعمالي لا الوضع الإفرادي؛ فالمآل واحد، والخلاف في العبارة، وهذا ما رتب عليه هذا السؤال ليدفعه. "د". وفي "ط": "حاصل هذا أنه".
2 أي: العام الذي خصص بمبين كاقتلوا المشركين، المخصص بالذمي مثلًا، أما المخصص بمجمل نحو هذا العام مخصوص، أو لم يرد به ما يتناوله؛ فليس بحجة اتفاقًا، والجمهور على أن المخصص بمبين حجة في الباقي مطلقًا، وقال البلخي: "حجة إن خص بمتصل لا منفصل". "د".
3 أي: يوجد فيها. "ف".
4 أي: لأن من قال بعدم الحجية يقول في دليله: إن الصيغة إذا خصت صارت في بقية =(4/46)
وَلَقَدْ أَدَّى إِشْكَالُ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى شَنَاعَةٍ1 أخرى، وهي أن عمومات
__________
= المسميات مجازًا، بل كان ما تحتها من المسميات مراتب في المجاز متعددة، فكان اللفظ فيها مجملًا، فلا بد من دليل على ما يراد منها؛ فأنت ترى أن الإشكال في كون الباقي حجة ما نشأ إلا من دعوى أن التخصيص يجعل الباقي مجازًا، وعلي رأي المؤلف لا يكون مجازًا؛ فلا إشكال في أن العام حقيقة في جميع ما قصد؛ فهو حجة فيه، وسقط سبب الخلاف في الحجية، وقوله: "صارت العمومات حجة على كل قول" يعني أنه يلزم ذلك، وأن من خالف لو اطلع على ما قلنا وعرف سقوط سبب مخالفته ليقال بالحجية مع الجمهور. "د".
قلت: وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "6/ 442" في منكري حجية العموم من المواقفة والمخصصة: "وهو مذهب سخيف"، و"كلام ضائع غايته أن يقال: دلالة العموم أضعف من غيره من الظواهر، وهذا لا يقر؛ فإنه ما لم يقم الدليل المخصص وجب العمل بالعام"، وانظر منه "29/ 166-167"، و"إجابة السائل" للصنعاني "ص309 وما بعدها".
1 تعلم أن المسألة آلت إلى أنه يقول: إن الذي يسمونه تخصيصًا بالمتصل أو المنفصل ليس تخصيصًا، وإن هذه العمومات وإن لم تبق بمعناها الوضعي الإفرادي الشامل لأكثر من المراد للشارع؛ فهي بحسب الاستعمال ومقاصد الشرع إنما تنطبق على ما يراد فقط، بحسب مقتضى المقام وقرائن الأحوال، وهي حقيقة فيما يراد لا مجاز، وأن هذه القرائن تعتبر كمبين المجمل لا كقرائن المجاز الذي يقتضيه القول بالتخصيص، وعليه فالمقدار الذي يتناوله العام المقصود للشارع لا يختلف على رأيه ورأي الأصوليين، والاعتداد بالعمومات القرآنية فيما أراده منها القرآن واحد، متى درجنا على القول بالحجية في الباقي الذي بالغ عليه، والقرائن العقلية والحسية وغيرها مما يسميه هو كبيان للمجمل ويسمونه مخصصًا لا بد منها عند الطرفين؛ فإنا إذا قلنا: لا يعمل بالعام إلا بعد الاستقصاء عن المخصص؛ فكذلك نقول: لا يعمل بالمجمل إلا بعد التحقق من المبين؛ فأين هو إبطال الكليات القرآنية وإسقاط الاستدلال بها إلا على جهة التساهل وتحسين الظن على رأيهم، وعدم ذلك على رأيه؟ ثم أين الإخلال بجوامع الكلم على رأيهم، وعدم الإخلال بها على رأيه؟ مع أن المقدار الذي يتناوله العام واحد بعد التخصص أو بعد البيان، وكيف نقول على رأيهم بافتقار الجوامع إلى قرائن ومخصصات، ولا نقول بذلك فيها على رأيه؟ وقد قال بعد: "فالحق أنها على عمومها الذي يفهمه العربي الفهم المطلق على مقاصد الشرع"، فإذًا ليست باقية على وضعها الإفرادي، ولا هي غير مفتقرة إلى فهم العربي المطلع على مقاصد الشرع لتكون قرينة له يفهم بها =(4/47)
الْقُرْآنِ لَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي حَقِيقَتِهِ مِنَ الْعُمُومِ، وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَفِيهِ مَا يَقْتَضِي إِبْطَالَ الْكُلِّيَّاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَإِسْقَاطَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ جُمْلَةً؛ إِلَّا بِجِهَةٍ مِنَ التَّسَاهُلِ وَتَحْسِينِ الظَّنِّ، لَا عَلَى تَحْقِيقِ النَّظَرِ وَالْقَطْعِ بِالْحُكْمِ، وَفِي هَذَا إِذَا تُؤُمِّلَ تَوْهِينُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَتَضْعِيفُ الِاسْتِنَادِ إِلَيْهَا، وَرُبَّمَا نَقَلُوا فِي الْحُجَّةِ لِهَذَا الْمَوْضِعِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ عام إلا مخصص، إلا قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1 [الْبَقَرَةِ: 282] ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْعَرَبِ، وَمُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنِ الْقَطْعِ بِعُمُومَاتِهِ الَّتِي فَهِمُوهَا تَحْقِيقًا، بِحَسَبِ قَصْدِ الْعَرَبِ فِي اللِّسَانِ، وَبِحَسَبِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي مَوَارِدِ الْأَحْكَامِ.
وَأَيْضًا, فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بُعث بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ2، واختُصر لَهُ الْكَلَامُ اخْتِصَارًا عَلَى وَجْهٍ هُوَ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ، وَأَقْرَبُ مَا يُمْكِنُ فِي التَّحْصِيلِ، ورأسُ هَذِهِ الْجَوَامِعِ فِي التَّعْبِيرِ الْعُمُومَاتُ3، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ في
__________
= مقدار ما تناوله العام؛ فليست مستغنية عن القرائن والمقيدات على ما قاله أيضًا، غايته أنه لا يسميه تخصيصًا بل بيانًا لا بد منه، وهلا قال في الفائدة الثانية وبذلك أيضًا انحسمت مادة الشناعة الناشئة من وجود خلاف في حجية العام المخصص؛ لأنه مهما كان الخلاف ضعيفًا فإن هذا النزاع يوهن الاستدلال بهذه العمومات وهي معتمد الشريعة، ويجعل الأخذ بها من طريق تحسين الظن، لا من باب تحقيق النظر والقطع بالحكم، وتبنى الفائدة الثالثة عليه أيضًا؛ لأن العمومات إنما تكون جوامع إذا كان معناها محددًا محررًا، وهو إنما يكون كذلك إذا كان اللفظ فيه حقيقة، لا مجازًا محتملًا كما تقدم بيانه عند من يذهب إلى أنه ليس بحجة لإجماله في المراتب التي يحتملها المجاز. "د".
1 مضى "3/ 309" بنحوه، وهو مما لا يصح عنه ألبتة.
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "نُصرت بالرعب مسيرة شهر"، 6/ 128/ رقم 2977" وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا: "بُعِثتُ بجوامع الكلم، ونُصرت بالرعب؛ فبينما أنا نائم أوتيتُ خزائن الأرض ... ".
3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 133 و34/ 206-207".(4/48)
الْقُرْآنِ جَوَامِعَ، بَلْ عَلَى وَجْهٍ تَفْتَقِرُ فِيهِ إِلَى مُخَصِّصَاتٍ وَمُقَيِّدَاتٍ وَأُمُورٍ أُخَرَ؛ فَقَدْ خَرَجَتْ تِلْكَ الْعُمُومَاتُ عَنْ أَنْ تَكُونَ جَوَامِعَ مُخْتَصِرَةً، وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ؛ فَيَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ.
فَالْحَقُّ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ إِذَا وَرَدَتْ أَنَّهَا عَلَى عُمُومِهَا فِي الْأَصْلِ الِاسْتِعْمَالِيِّ، بِحَيْثُ يُفْهَمُ مَحَلُّ عُمُومِهَا الْعَرَبِيِّ الْفَهْمَ الْمُطَّلِعَ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرْعِ؛ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِقْهٌ كَثِيرٌ وَعَلَمٌ جَمِيلٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.(4/49)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
عُمُومَاتُ الْعَزَائِمِ وَإِنْ ظَهَرَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ الرُّخَصَ تُخَصِّصُهَا1؛ فَلَيْسَتْ بِمُخَصِّصَةٍ لَهَا فِي الْحَقِيقَةِ، بَلِ الْعَزَائِمُ بَاقِيَةٌ عَلَى عُمُومِهَا، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا أَنَّ الرُّخَصَ خَصَّصَتْهَا؛ فَإِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الرُّخْصَةِ؛ إِمَّا أَنْ تَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَا يُطَاقُ، أَوْ لَا.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَيْسَتْ بِرُخْصَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ؛ إِذْ لَمْ يُخَاطَبْ بِالْعَزِيمَةِ مَنْ لَا يُطِيقُهَا، وَإِنَّمَا يُقَالُ هُنَا: إِنَّ الْخِطَابَ بِالْعَزِيمَةِ مَرْفُوعٌ مِنَ الْأَصْلِ بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى رَفْعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ؛ فَانْتَقَلَتِ الْعَزِيمَةُ إِلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى، وَكَيْفِيَّةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْأَوْلَى كَالْمُصَلِّي لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ؛ فَلَيْسَ بِمُخَاطَبٍ بِالْقِيَامِ، بَلْ صَارَ فَرْضُهُ الْجُلُوسَ أَوْ عَلَى جَنْبٍ أَوْ ظَهْرٍ، وَهُوَ الْعَزِيمَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَمَعْنَى الرُّخْصَةُ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ إِنِ انْتَقَلَ إِلَى الْأَخَفِّ؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ، لَا أَنَّهُ سَقَطَ2 عَنْهُ فَرْضُ الْقِيَامِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ [أَنَّهُ] 3 إِنْ تَكَلَّفَ فَصَلَّى قَائِمًا؛ [فَإِمَّا] 3 أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَدَّى الْفَرْضَ عَلَى كَمَالِ الْعَزِيمَةِ، أَوْ لَا؛ فَلَا يَصِحُّ4 أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ عَلَى كَمَالِهِ؛ إِذْ قَدْ سَاوَى فِيهِ الصَّحِيحَ الْقَادِرَ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ؛ فَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دليل؛ فلا بد أَنَّهُ أَدَّاهُ عَلَى كَمَالِهِ، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ داخلًا تحت عموم الخطاب بالقيام.
__________
1 حتى يقال مثلًا: الظهر أربع إلا على المسافر، وصوم رمضان واجب إلا على المسافر، وهكذا؛ فتكون الرخص مخصصة لأدلة العزائم. "د".
2 ويدل على عدم سقوطه قولهم في الرخصة: "مع قيام السبب للحكم الأصلي". "د".
3 سقط من "ط".
4 الأنسب ولا يصح، وهو إبطال للاحتمال الثاني لإثبات الأول. "ف".(4/50)
فَإِنْ قِيلَ: [إِذَا قُلْتَ] : إِنَّ الْعَزِيمَةَ مَعَ الرُّخْصَةِ مِنْ [بَابِ] 1 خِصَالِ الْكَفَّارَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ؛ فَأَيُّ الْخَصْلَتَيْنِ فَعَلَ فَعَلَى حُكْمِ الْوُجُوبِ، وَإِذَا كَانَ [ذَلِكَ] كَذَلِكَ؛ فَعَمَلُهُ بِالْعَزِيمَةِ عَمَلٌ عَلَى كَمَالٍ، وَقَدِ ارْتَفَعَ عَنْهُ حُكْمُ الِانْحِتَامِ، وَذَلِكَ مَعْنَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْعَزِيمَةِ بِالرُّخْصَةِ؛ فَقَدْ تَخَصَّصَتْ عُمُومَاتُ الْعَزَائِمِ بِالرُّخَصِ عَلَى هَذَا2 التَّقْرِيرِ؛ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْعُمُومَاتِ إِذْ ذَاكَ.
وَأَيْضًا3، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ بَقَاءِ حُكْمِ الْعَزِيمَةِ وَمَشْرُوعِيَّةِ الرُّخْصَةِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى بَقَاءِ الْعَزِيمَةِ أَنَّ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ حَتْمًا، وَمَعْنَى جَوَازِ التَّرَخُّصِ أَنَّ الْقِيَامَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ حَتْمًا، وَهُمَا قَضِيَّتَانِ مُتَنَاقِضَتَانِ، لَا تَجْتَمِعَانِ عَلَى مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ؛ فَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ.
وَأَمْرٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الرُّخْصَةَ قَدْ ثَبَتَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَزِيمَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الْعَزِيمَةُ هُنَا بَاقِيَةً عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْوُجُوبِ الْمُنْحَتِمِ؛ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِ الْوَاجِبِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ لَا يُمْكِنُ؛ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَزِيمَةَ مَعَ الرُّخْصَةِ لَيْسَتَا4 مِنْ بَابِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ إِذْ لَمْ يَأْتِ دَلِيلٌ ثَابِتٌ يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ التَّخْيِيرِ، بَلِ الَّذِي أَتَى فِي حَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَهَا؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ خَاصَّةً، لَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي فَصْلِ الْعَزَائِمِ وَالرُّخَصِ، وإذا ثبت
__________
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 وكأنه يقول: الظهر تجب أربعًا وجوبًا منحتمًا إلا على المسافر؛ فإن أدى اثنتين أو أربعًا صح وارتفع انحتام الأربع الذي كان على غير المسافر، وهذا تخصيص لعموم دليل العزيمة. "د".
3 هذا الوجه وما بعده مبنيان على الوجه الأول ومتوقفان عليه فمتى بطل بطلا، ولذا كان الجواب بإبطال الأول كافيًا في إبطال الاعتراضين، ويبقى الكلام على ما جعله المؤلف جوابًا عن الثاني ليدفع التناقض به وسيأتي ما فيه. "د". وفي "ط": "وأيضًا؛ فإن الجميع ... ".
4 في "ط": "العزيمة بالرخصة ليست ... ".(4/51)
ذَلِكَ؛ فَالْعَزِيمَةُ عَلَى كَمَالِهَا وَأَصَالَتِهَا فِي الْخِطَابِ بِهَا، وَلِلْمُخَالِفَةِ حُكْمٌ1 آخَرُ.
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ بِالْعَزِيمَةِ مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْخِطَابَ بِالرُّخْصَةِ مِنْ جِهَةِ حَقِّ الْعَبْدِ فَلَيْسَا بِوَارِدَيْنِ عَلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْجِهَاتُ أَمْكَنَ الْجَمْعُ وَزَالَ2 التَّنَاقُضُ الْمُتَوَهَّمُ فِي الِاجْتِمَاعِ، وَنَظِيرُ تَخَلُّفِ الْعَزِيمَةِ لِلْمَشَقَّةِ3 تَخَلُّفُهَا لِلْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَالْإِكْرَاهِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي يَتَوَجَّهُ4 الْخِطَابُ مَعَ وُجُودِهَا مَعَ أَنَّ التَّخَلُّفَ غَيْرُ مُؤَثَّمٍ وَلَا مُوقِعٌ فِي مَحْظُورٍ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي مَعْنًى آخَرَ يَعُمُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرَهَا5, وَهُوَ أَنَّ الْعُمُومَاتِ الَّتِي هِيَ عَزَائِمُ إِذَا رُفِعَ الْإِثْمُ عَنِ6 الْمُخَالِفِ فِيهَا لِعُذْرٍ مِنَ الْأَعْذَارِ، فَأَحْكَامُ تِلْكَ الْعَزَائِمِ مُتَوَجَّهَةٌ عَلَى عُمُومِهَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ؛ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا أَنَّ الْأَعْذَارَ خَصَّصَتْهَا؛ فَعَلَى الْمَجَازِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلِنَعُدَّهَا مَسْأَلَةً عَلَى حدتها، وهي:
__________
1 وهو رفع الإثم. "د".
2 كيف والمخاطب واحد؟ على كل حال هو الله تعالى؛ فسواء أكان الخطابان من جهة حق الله، أم من جهة حق الآدمي، أم موزعين كما يقول؛ فالإشكال باقٍ لا يرتفع بهذا الجواب لأن الله كلفه بالعزيمة تكليفًا متحتمًا، وإن كان لحقه تعالى، وكلفه بها تكليفًا غير منحتم لحق العبد، والتكليف في قضية واحدة بالوحدات الثمانية المعتبرة في التناقض؛ فمهما اختلف سبب التكليف فإن التناقض حاصل، لا يدفعه إلا التخصص أو الجواب بأن العزيمة مع الرخصة ليست من باب خصال الكفارة كما قال: "هل هي" هي. "د".
3 أي: لا يعدم الطاقة الذي جعله لا تكليف معه؛ فيبقى الكلام في أن النسيان وما معه مما لا يطاق أم مما فيه المشقة فقط؟ فإن كان من الأول؛ لزم أن يسقط التكليف بلا فارق بينهما، وسيأتي تتميم الكلام. "د".
4 ويكون معنى رفعها في الحديث رفع الإثم لا رفع التكليف، بدليل مطالبته بالأداء بعد زوال النسيان وما معه. "د".
5 وإن لم يكن مما يسمى رخصة. "د".
6 في "ط": "على".(4/52)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
وَالْأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّتِهَا مَا تَقَدَّمَ1، وَالْمَسْأَلَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ؛ فَالصَّوَابُ جَرَيَانُهَا عَلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ الْعَزَائِمُ مَعَ الرُّخَصِ، وَلِنَفْرِضِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا 2:
فِيمَا إِذَا وَقَعَ الْخَطَأُ مِنَ الْمُكَلَّفِ فَتَنَاوَلَ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ؛ ظَهَرَتْ عِلَّةُ تَحْرِيمِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا؛ كَشَارِبِ الْمُسْكِرِ يظنه حلالًا، وآكل مال
__________
1 قال في الدليل الأول هناك: لا يخاطب بالعزيمة من لا يطيقها؛ فالخطاب مرفوع من الأصل لرفع التكليف بما لا يطاق، فإجراء هذا الدليل لا يناسب ما نحن فيه؛ لأنه ينتج عكس مطلوبه ويقتضي أنه لا تكليف مع النسيان والخطأ، وأيضًا قالوا: إن الفهم والقدرة على الامتثال شرطان في التكليف، وأجابوا عن مثل اعتبار طلاق السكران الفاقد للشرط بأنه من قبيل ربط الأحكام بأسبابها، فهو من خطاب الوضع لا من التكليف، وهذا يشكل على المسألة هنا، وعلى قوله سابقًا: "ونظير تخلف العزيمة للمشقة تخلفها للخطأ والنسيان والإكراه وغيرها من الأعذار التي يتوجه الخطاب ... إلخ"؛ إلا أن يقال: إنه جارٍ على القول بتوجه التكليف إلى هؤلاء جميعًا، وأشار إلى ذلك بقوله: "وإن كان مختلفًا فيها"، ويكون معنى الشرط على هذا القول أنه شرط في المؤاخذة لا في أصل توجه التكليف، هذا وقد سبق له في باب الأحكام الإفاضة في مرتبة العفو وأنها زائدة عن الأحكام الخمسة، وأقام الأدلة عليها إثباتًا ونفيًا، وذكر مواضعها على القول بثبوتها، وختم المبحث هناك بما ختمه به هنا من أن هذا مبحث لا ينبني عليه فقه، وأن الأولى تركه؛ فراجعه إن شئت. "د".
2 فرض المسألة في هذين الموضعين من باب التمثيل لا الاستقصاء؛ لأنها أوسع من ذلك، وقد سبق له في النوع الأول من الأنواع الثلاثة لمرتبة العفو المذكور هناك -وهو الوقوف مع الدليل المعارض قصد نحوه- أن أدرج فيه العمل بالعزيمة مع وجود مقتضى الرخصة، كما أدرج فيه المتأول كشارب المسكر يظنه حلالًا، وأدرج فيه خطأ القاضي في مسائل الاجتهاد ما لم يكن أخطأ نصًّا أو إجماعًا أو بعض القواطع، وإنما قيده بقوله: "ظهرت ... إلخ" حتى يتأتى له قوله بعد: "فهل يسوغ أن يقال ... إلخ" يعني، ومع مراعاة المصالح وبناء الأحكام عليها لا يمكن أن يقال ذلك، وكذا يقال في الموضع الثاني. "د".(4/53)
الْيَتِيمِ أَوْ غَيْرِهِ يَظُنُّهُ مَتَاعَ نَفْسِهِ، أَوْ قَاتِلِ1 الْمُسْلِمِ يَظُنُّهُ كَافِرًا، أَوْ وَاطِئِ الْأَجْنَبِيَّةِ يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمَفَاسِدَ الَّتِي حُرِّمَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لِأَجْلِهَا وَاقِعَةٌ أَوْ مُتَوَقَّعَةٌ، فَإِنَّ شَارِبَ الْمُسْكِرِ قَدْ زَالَ عَقْلُهُ وَصَدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ قَدْ أَخَذَ مَالَهُ2 الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِهِ الضَّرَرُ وَالْفَقْرُ وَقَاتِلُ المسلم قد أزهق دم نفس ومن قتلها {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [الْمَائِدَةِ: 32] ، وَوَاطِئُ الْأَجْنَبِيَّةِ قَدْ تَسَبَّبَ فِي اخْتِلَاطِ نَسَبِ الْمَخْلُوقِ مِنْ مَائِهِ؛ فَهَلْ يُسَوَّغُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهَا وَأَمَرَ3 بِهَا؟ كَلَّا، بَلْ4 عَذَرَ الْخَاطِئَ5 وَرَفَعَ الْحَرَجَ وَالتَّأْثِيمَ بِهَا، وَشَرَعَ مَعَ ذَلِكَ فِيهَا التَّلَافِي حَتَّى تَزُولَ الْمَفْسَدَةُ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْإِزَالَةُ؛ كَالْغَرَامَةِ، وَالضَّمَانِ فِي الْمَالِ، وَأَدَاءِ الدِّيَةِ مَعَ تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ فِي النَّفْسِ، وَبَذْلِ الْمَهْرِ مَعَ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْوَاطِئِ، وما أشبه ذلك [ف] {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الْأَعْرَافِ: 28] ، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النَّحْلِ: 90] ، غَيْرَ أَنَّ عُذْرَ الْخَطَأِ رَفْعُ حُكْمِ التَّأْثِيمِ الْمُرَتَّبِ على التحريم.
__________
1 في الأصل و"ف": "قتل"، وقال "ف": "الأنسب: "أو قاتل المسلم" كما يقتضيه السياق".
2 في "ط": "أخذ له".
3 المناسب "أو" لينفي الإباحة والأمر؛ فيبقى النهي متوجهًا كما سيقول: "رفع حكم التأثيم المرتب على التحريم"، وقوله بعد: "مَأْمُورًا بِمَا أَخْطَأَ فِيهِ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فيه" يؤيد أن المقام لأوجه. "د".
4 يعني: بل نهى عنها، غايته أنه عذر الخاطئ؛ فلم يؤاخذه، يريد أن المكلف في كل عمل يتوجه عليه من الله؛ إما الإباحة لفعله، وإما الأمر، وإما النهي؛ فهنا في هذه الأمور لا يتأتى الإباحة ولا الأمر؛ فيبقى أن يتوجه النهي، غايته أنه لا يؤاخذه لفقد شرط المؤاخذة، وقد يذكر هذا دليلًا على أنه قد تخلو وقائع من حكم الله فيها, ودليلًا على ثبوت مرتبة العفو، وكلا هذين مبني على أنه لا تكليف رأسًا عند فقد الشرطين المذكورين آنفًا، خلافًا لما جرى عليه هو في هذه المسألة وما قبلها في قوله: "ونظير تخلف العزيمة للمشقة ... إلخ" "د".
5 بمعنى المخطئ لا الآثم.(4/54)
وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي:
إِذَا أَخْطَأَ الْحَاكِمُ فِي الْحُكْمِ1، فَسَلَّمَ الْمَالَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، أَوِ الزَّوْجَةَ إِلَى غَيْرِ زَوْجِهَا، أَوْ أَدَّبَ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ تَأْدِيبًا وَتَرَكَ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بَرِيئَةً إِمَّا لِخَطَأٍ فِي دَلِيلٍ أَوْ فِي الشُّهُودِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ2 تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 49] .
وَقَالَ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطَّلَاقِ: 2] .
فَإِذَا أَخْطَأَ فَحَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ؟ أَوْ أَشْهَدَ ذَوَيْ زُورٍ؛ فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَأْمُورٌ3 بِقَبُولِهِمْ وَبِإِشْهَادِهِمْ؟ هَذَا لا يسوغ
__________
1 قال ابن العربي في "القبس" "3/ 878": فإن أخطأ القاضي -وهي مسألة عظيمة- فإن ذلك لا يلزمه ضمانًا، ولا يوجب عليه ملامًا، والأصل في ذلك أن خالد بن الوليد لما أخطأ في بني جذيمة لم يعلق به النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، اللهم إلا أنه قال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد".
أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد، 9/ 91"، ثم قال: "والمعنى يعضده، فإن القاضي لو نظر بشرط سلامة العاقبة وهو لا يعول على النص، إنما بنى حكمه على الاجتهاد، لكان ذلك باطلًا من وجهين، أحدهما أنه يكون تكليف ما لا يطاق، الثاني أنه يكون تنفيرًا للخلق عن الولاة؛ فتتعطل الأحكام".
وانظر: "قواعد الأحكام" "1/ 90 و2/ 165"، و"الأصول والضوابط من التحرير" "ص356-357 و419-420"، و"المبسوط" "9/ 64 و25/ 132"، و"بدائع الصنائع" "7/ 16"، و"شرح السير الكبير" "3/ 869"، و"تبيين الحقائق" "4/ 204-205".
2 أي: فهو مما ظهرت علة تحريمه بنص. "د".
3 يريد: بل هو منهي عن ذلك، ولم لا يقال: إنه مأمور به في نظر المكلف وفي اجتهاده هو، وهو لا يكلف إلا بهذا القدر لا أنه مأمور به على التحقيق، ولهذا توجه الأمر الجديد بتلافي ما أفسده كما سيشير إليه بعد: "وقوله: لا فرق بين أمر وأمر ... إلخ" الفرق ظاهر يقتضيه نفس بناء الأحكام على المصالح؛ فإن التكليف للفاعل وللحاكم، إنما هو يطيقه ويظنه صوابًا، فإذا ظهر الخطأ في ظنه؛ فترتب عليه فساد أو ظلم للغير ورد تكليف جديد بإزالة الظلم، وهذا من لوازم مراعاة المصالح وبناء الأحكام عليها، فإذا جرينا على أن هذا من مرتبة العفو أو أنه لا يلزم لله في كل واقعة حكم؛ كان الأمر أشد وضوحًا. "د".(4/55)
بِنَاءً عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ فِي الْأَحْكَامِ، تَفَضُّلًا كَمَا اخْتَرْنَاهُ، أَوْ لُزُومًا كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، غَيْرَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي عَدَمِ إِصَابَتِهِ كَمَا مَرَّ، وَالْأَمْثِلَةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا الْفَاعِلُ1 وَهَذَا الْحَاكِمُ مَأْمُورًا بِمَا أَخْطَأَ فِيهِ، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ، لَكَانَ الْأَمْرُ بِتَلَافِيهِ إِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَمْرٍ وَأَمْرٍ، وَإِذْنٍ وَإِذْنٍ؛ إِذِ الْجَمِيعُ ابْتِدَائِيٌّ؛ فَالتَّلَافِي بَعْدَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ شَيْءٌ لَا يُعْقَلُ لَهُ مَعْنًى، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ.
فَإِنِ الْتَزَمَ أَحَدٌ هَذَا الرَّأْيَ، وَجَرَى2 عَلَى التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ، وَرَشَّحَهُ بِأَنَّ الْحَرَجَ مَوْضُوعٌ فِي التَّكَالِيفِ وَإِصَابَةِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَرَجٌ3 أَوْ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا4 يُسْتَطَاعُ، وَإِنَّمَا يُكَلَّفُ بِمَا يَظُنُّهُ صَوَابًا، وَقَدْ ظَنَّهُ كَذَلِكَ؛ فَلْيَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَأْذُونًا فِيهِ، وَالتَّلَافِي بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَانٍ بِخِطَابٍ جَدِيدٍ؛ فَهَذَا الرَّأْيُ جَارٍ عَلَى الظَّاهِرِ لَا عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ مَرَّ لَهُ تَقْرِيرٌ فِي فَصْلِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلَوْلَا أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ عَرَضَتْ5؛ لَكَانَ الْأَوْلَى تَرَكُ الْكَلَامِ فِيهَا لِأَنَّهَا لَا تكاد ينبني عليها فقه معتبر.
__________
1 أي: لو كان كل من الفاعل في الموضع الأول والحاكم في الموضع الثاني مأمورًا ... إلخ. "ف". وفي "ط": "فاعل أو هذا ... ".
2 وليس بلازم على ما عرفت، وقد يشكل على كلامه من أن خطأ الحاكم منهي عنه ما هو متفق عليه من إثابة المجتهد إذا أخطأ، وأن له أجرًا واحدًا وللمصيب أجرين، وهذا في كل مجتهد في حكم سواء أكان قاضيًا به أم مفتيًا أم غيرهما؛ فهل يثاب على المنهي عنه؟ وسيأتي له في أول مسألة في كتاب الاجتهاد أن هذا النوع من الاجتهاد يسمى تحقيق المناط، وأنه يحتاج إلى بذل الوسع في تقدير قيمة شهادة الشاهد وعدالته وغير ذلك؛ فكيف يثاب على قضائه الخطأ وهو على رأيه منهي عنه؟ فشناعة هذا اللازم على ما اختاره لا انفصال له عنها. "د".
3 وهل هذا إلا اعتبار المصالح؟ فكيف نقول معه جرينا على التعبد المحض؛ إلا أن يقال: إنه لذلك سماه ترشيحًا لا دليلًا؟ "د".
4 في "ط": "ما لا".
5 المسائل التي تعرض في طريق المباحث الأصلية كثيرة؛ فلو تم له هذا لاتسع المجال لذكر ما لا ينبني عليه فقه، وقد أنكر ذلك في مقدمات الكتاب، وقد علمت أنه ذكر هذه المسألة بتفصيل أوسع في كتاب الأحكام في مسألة مرتبة العفو؛ فذكرها هنا لمجرد مناسبتها للتخصيص، وأنها تعد منه أو لا تعد. "د".(4/56)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
الْعُمُومُ إِذَا ثَبَتَ؛ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ جِهَةِ صِيَغِ الْعُمُومِ فَقَطْ، بَلْ لَهُ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: الصِّيَغُ إِذَا وَرَدَتْ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ.
وَالثَّانِي: اسْتِقْرَاءُ مَوَاقِعِ الْمَعْنَى حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ فِي الذِّهْنِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ عَامٌّ؛ فَيَجْرِي فِي الْحُكْمِ مَجْرَى الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الصِّيَغِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الثَّانِي وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ هَكَذَا شَأْنُهُ؛ فَإِنَّهُ تصفُّح جُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْمَعْنَى لِيَثْبُتَ مِنْ جِهَتِهَا حُكْمٌ عَامٌّ؛ إِمَّا قَطْعِيٌّ1، وَإِمَّا ظَنِّيٌّ2، وَهُوَ أَمْرٌ مُسَلَّمٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ؛ فَإِذَا تَمَّ الِاسْتِقْرَاءُ حُكِمَ بِهِ مُطْلَقًا فِي كُلِّ فَرْدٍ يُقَدَّرُ3، وَهُوَ مَعْنَى الْعُمُومِ الْمُرَادُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالثَّانِي: أن التواتر المعنوي هذا معناه؛ فإن وجود حَاتِمٍ مَثَلًا إِنَّمَا ثَبَتَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَعَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، بِنَقْلِ وَقَائِعَ خَاصَّةٍ مُتَعَدِّدَةٍ تَفُوتُ الْحَصْرَ، مُخْتَلِفَةٍ فِي الْوُقُوعِ، مُتَّفِقَةٍ فِي مَعْنَى الْجُودِ؛ حَتَّى حَصَّلَتْ لِلسَّامِعِ مَعْنًى كُلِّيًّا حُكِمَ بِهِ عَلَى حاتم وهو الجود، ولم يكن خصوص
__________
1 أي: إذا كان تامًّا. "د".
2 إذا كان في غالب الجزئيات فقط. "د".
3 أي: يفرض وإن لم يجئ فيه نص، ولا يخفى عليك أن هذا يكون من نوع الظني حينئذ. "د".(4/57)
الْوَقَائِعِ قَادِحًا فِي هَذِهِ الْإِفَادَةِ، فَكَذَلِكَ إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ فِي الدِّينِ مَثَلًا مَفْقُودٌ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ؛ فَإِنَّا نَسْتَفِيدُهُ مِنْ نَوَازِلَ مُتَعَدِّدَةٍ خَاصَّةٍ، مُخْتَلِفَةِ الْجِهَاتِ مُتَّفِقَةٍ فِي أَصْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ، كَمَا إِذَا وَجَدْنَا التَّيَمُّمَ شُرِعَ عِنْدَ مَشَقَّةِ طَلَبِ الْمَاءِ، وَالصَّلَاةَ قَاعِدًا عِنْدَ مَشَقَّةِ الْقِيَامِ1، وَالْقَصْرَ وَالْفِطْرَ فِي السَّفَرِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السِّفْرِ وَالْمَرَضِ وَالْمَطَرِ، وَالنُّطْقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عِنْدَ مَشَقَّةِ الْقَتْلِ وَالتَّأْلِيمِ، وَإِبَاحَةَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ خَوْفِ2 التَّلَفِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَشَقَّاتِ، وَالصَّلَاةَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ3 لِعُسْرِ اسْتِخْرَاجِ الْقِبْلَةِ، وَالْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ وَالْخُفَّيْنِ لِمَشَقَّةِ النَّزْعِ وَلِرَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْعَفْوَ فِي الصِّيَامِ عَمَّا يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، إِلَى جُزْئِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا يَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهَا قَصْدُ الشَّارِعِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ؛ فَإِنَّا نَحْكُمُ بِمُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ فِي الْأَبْوَابِ كُلِّهَا، عَمَلًا4 بِالِاسْتِقْرَاءِ، فَكَأَنَّهُ عُمُومٌ لَفْظِيٌّ، فَإِذَا ثبت اعتبار التواتر المعنوي؛
__________
1 زاد في "د" هنا: "طلب" القيام، وليست في النسخ الأخرى.
2 المراد بالإباحة: الإذن, وبخوف التلف ما هو أعم من موجب ألم المسغبة ألمًا شاقًّا، وإلا؛ فالإباحة بمعنى استواء الطرفين أو ما لا حرج فيه على ما تقدم له، إنما تكون لما يدفع المشقة الفادحة، لا ما يوجب التلف وإلا كان واجبًا. "د".
3 في "د": "كان" وفي "ط": "وجهة كانت".
4 جمع بين نتيجة الدليل الأول والثاني كما ترى لاشتباكهما هنا على ما قرره؛ فإنه جعل الاستقراء طريقًا لإثبات التواتر المعنوي، وذلك لأن هذه الجزئيات تتضمن الكلي المراد إثباته، ولتعددها وكثرة تنوعها يفهم منها ثبوت القدر المشترك، وإنما قال: "ثبت في ضمنه"، ولم يقل: ثبت ما نحن فيه؛ لأن ما هنا ليس تواترًا معنويًّا بالمعنى المعروف؛ كجود حاتم؛ لأن ذلك وصف لجزئي هو حاتم، فكل جزئية من أخبار كرمه تعود على هذا الوصف مباشرة بالإثبات، بخلاف إثبات العموم أو الكلي باستقراء الجزئيات؛ فليس كل جزئي مثبتًا لعموم العام مباشرة حتى يتكون من المجموع تواتر معنوي بالمعنى المعروف، بل ذلك إنما جاء من تضمن تلك الجزئيات للمعنى العام الكلي؛ فيفهم بسبب تعددها وتنوعها أن الحكم ليس لخصوصية في الجزئي، هذا توضيح كلامه، نقول: ومتى تم له هذا أمكن أن يقال في كل استقراء ولم جزئيًّا أنه تواتر معنوي بهذا المعنى، وقد يقال: إنه ينافي قولهم: إن الحاصل من التواتر علم جزئي من شأنه أن يحصل بالإحساس كوجود مكة مثلًا، فلذا لا يقع في العموم بالذات، لأن مسائلها كليات، ونحن نثبت به هنا كليًّا وعامًّا؛ فتأمل. "د".(4/58)
ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ مَا نَحْنُ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَاعِدَةَ سَدِّ الذَّرَائِعِ إِنَّمَا عَمِلَ السَّلَفُ بِهَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَعَمَلِهِمْ فِي تَرْكِ الْأُضْحِيَّةِ1 مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَكَإِتْمَامِ2 عُثْمَانَ الصلاة
__________
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 381/ رقم8139"، وابن أبي خيثمة في "تاريخه"، وابن أبي الدنيا في "الضحايا" -كما في "التلخيص الحبير" "4/ 145"، والطبراني في "الكبير", كما في "مجمع الزوائد" "4/ 18"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 295" و"الخلافيات" "3/ ق 279", وابن حزم في "المحلى" "7/ 19، 358" بسند صحيح عن أبي سريحة الغفاري؛ قال: "ما أدركت أبا بكر، أو رأيت أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كنا لا يضحيان -في بعض حديثهم- كراهية أن يقتدى بهما".
قال البيهقي: "أبو سريحة الغفاري هو حذيفة بن أسيد صاحب رسول الله, صلى الله عليه وسلم" وروى عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: "إني لأدع الأضحى، وإني لموسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم عليّ"، وإسناده صحيح أيضًا، وانظر: "إرواء الغليل" "4/ 354-355/ رقم 1139".
2 إتمام عثمان -رضي الله عنه- ثابت في "صحيح البخاري" "كتاب تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى، 2/ 563/ رقم 1082، 1084، وباب يقصر إذا خرج من موضعه، 2/ 569/ رقم 1090، وكتاب الحج، باب الصلاة بمنى، 3/ 509/ رقم 1657"، و"صحيح مسلم" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب قصر الصلاة بمنى، 1/ 482/ رقم 694-695", و"سنن أبي داود", "كتاب المناسك, باب الصلاة بمنى 2/ 199/ رقم 1960"، و"المجتبى" للنسائي "كتاب تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى، 3/ 120"، و"مسند أحمد" "1/ 416، 425، 464"، و"مسند الطيالسي" "رقم 1091"، و"مسند أبي عوانة" "2/ 340", و"مسند أبي يعلى", "9/ 123, 255-256/ رقم 5194, 5377", و"سنن الدارمي", "2/ 55"، و"شرح معاني الآثار" للطحاوي "1/ 416"، و"المعجم الكبير" "1/ 268"، للطبراني، وسيأتي تصريح المصنف "ص102" بسبب إتمام عثمان, رضي الله عنه.(4/59)
فِي حَجِّهِ بِالنَّاسِ، وَتَسْلِيمِ الصَّحَابَةِ لَهُ فِي عُذْرِهِ الَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ مِنْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِهَا الَّتِي عَمِلُوا بِهَا، مَعَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ فِيهَا إِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ خَاصَّةٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [الْبَقَرَةِ: 104] .
وَقَوْلِهِ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الْأَنْعَامِ: 108] .
وَفِي الْحَدِيثِ: "مِن أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ" 1 وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَهِيَ أُمُورٌ خَاصَّةٌ لَا تَتَلَاقَى مَعَ مَا حَكَمُوا بِهِ إِلَّا فِي مَعْنَى سَدِّ الذَّرِيعَةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ.
فَإِنْ قِيلَ: اقْتِنَاصُ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ مِنَ الْوَقَائِعِ الْجُزْئِيَّةِ غَيْرُ بيِّن، مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُمْكِنُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ لَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْعَقْلِيَّةَ بَسَائِطُ لَا تَقَبَلُ2 التَّرْكِيبَ، وَمُتَّفِقَةٌ لَا تَقْبَلُ الاختلاف؛ فيحكم العقل
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، 10/ 403/ رقم 5973"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 92/ رقم 90" وغيرهما، وتتمته: "وهل يسب الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فيسب أمه".
2 أي: بحيث لا تزيد الماهيات ولا تنقص؛ فيجب أن تكون الجزئيات فيها متفقة الأحكام؛ فالمثلان هما المشتركان في جميع الصفات النفسية التي لا تحتاج في وصف الشيء بها إلى أمر زائد عليها كالإنسانية والحقيقة والشيئية للإنسان، وتقابلها الصفات المعنوية، وهي التي تحتاج في الوصف بها إلى تعقل أمر زائد على ذات الموصوف؛ كالتحيز والحدوث للجسم، ويلزم في كل مثلين اشتراكهما فيما يجب ويمكن ويمتنع؛ فكل ما يحكم به على أحدهما يحكم به على الآخر في كل ما يرجع إلى مقتضى التماثل، أما ما يخرج عن ذلك من كل ما كان تابعًا للوجود الخارجي الزائد عن الحقيقة؛ فاختلاف المتماثلين فيه جائز؛ فيحكم على زيد بأنه طويل وجاهل، وعلى عمرو بأنه قصير وعالم مثلًا، وهكذا، وهو ما يشير إليه بقوله في الثاني: "إن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدًا، وإذ ذاك ... إلخ"؛ فهذا جار في العقليات باعتبار الوجود الخارجي الذي فيه المعاني الخاصة. "د".(4/60)
فِيهَا عَلَى الشَّيْءِ بِحُكْمِ مِثْلِهِ شَاهِدًا وَغَائِبًا؛ لِأَنَّ فَرْضَ خِلَافِهِ مُحَالٌ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الْوَضْعِيَّاتِ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تُوضَعْ وَضْعَ النَّقْلِيَّاتِ، وَإِلَّا كَانَتْ هِيَ [هِيَ] 1 بِعَيْنِهَا؛ فَلَا تَكُونُ وَضْعِيَّةً، هَذَا خَلْفٌ، وَإِذَا لَمْ تُوضَعْ وَضْعَهَا، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَى وَفْقِ الِاخْتِيَارِ الَّذِي يَصِحُّ مَعَهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمِثْلِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ وَنَقِيضِهِ؛ لَمْ يَصِحَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُقْتَنَصَ فِيهَا مَعْنًى كُلِّيٌّ عَامٌّ مِنْ مَعْنًى جُزْئِيٍّ خَاصٍّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخُصُوصِيَّاتِ تَسْتَلْزِمُ مِنْ حَيْثُ الْخُصُوصِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامِّ، أَوْ مَعَانِيَ كَثِيرَةً، وَهَذَا وَاضِحُ2 فِي الْمَعْقُولِ؛ لِأَنَّ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ، وَإِذْ ذَاكَ لَا يَتَعَيَّنُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي ذَلِكَ الْخَاصِّ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ الْعَامِّ3 دُونَ التَّعَلُّقِ بِالْخَاصِّ عَلَى الِانْفِرَادِ، أَوْ بِهِمَا مَعًا؛ فَلَا يَتَعَيَّنُ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ؛ لَمْ يَصِحَّ نَظْمُ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ مِنْ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ إِلَّا عِنْدَ فَرْضِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ إِلَّا بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الْعَامِّ دُونَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَعِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا يَتَبَقَّى4 تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ فِي اسْتِفَادَةِ مَعْنًى عَامٍّ؛ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِعُمُومِ صِيغَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ عَنْ هَذَا الْعَنَاءِ الطَّوِيلِ.
وَالثَّالِثُ5: أَنَّ التَّخْصِيصَاتِ6 فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرَةٌ؛ فيخص محل
__________
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في "ط": "أوضح".
3 أي: المعنى المشترك. "د".
4 في الأصل و"ط": "يبقى".
5 هذا الثالث ليس وجهًا مستقلًّا عن الوجهين قبله، بل هو تفصيل وإيضاح لقوله في الأول: "وَإِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَى وَفْقِ الِاخْتِيَارِ الَّذِي يَصِحُّ معه.. إلخ"، فإن قيل: إن ما تقدم في تجويز ذلك وهذا في وقوع ذلك بالفعل في هذه الأمثلة، قلنا: نعم، ولكنه لم يأت بمعنى جديد، ويمكنه أن يصله بالأول على طريق ضرب الأمثلة له، وقد يقال: إنه فصله وجعله مستقلًّا لأن جوابه غير جواب الأول؛ كما أشار إليه المؤلف، وإن كان بينهما هذا الاتصال الذي أشرنا إليه. "د".
6 في "إعلام الموقعين" "المجلد الثاني إلى ص 130" أجوبة سديدة عن أكثر ما ذكره هنا، وأثبت فيه بما لا مزيد عليه أنه لم يثبت شيء في الشريعة على خلاف القياس.(4/61)
بِحُكْمٍ، وَيُخَصُّ مِثْلُهُ بِحُكْمٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ.
وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ؛ كَجَعْلِ التُّرَابِ طَهُورًا كَالْمَاءِ، وَلَيْسَ بِمُطَهِّرٍ1 كَالْمَاءِ، بَلْ هُوَ بِخِلَافِهِ، وَإِيجَابِ الْغُسْلِ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ دُونَ الْمَذْيِ وَالْبَوْلِ وَغَيْرِهِمَا، وَسُقُوطِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَنِ الْحَائِضِ ثُمَّ قَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَتَحْصِينِ الْحُرَّةِ لِزَوْجِهَا وَلَمْ تُحْصِنِ الْأَمَةُ سَيِّدَهَا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَمَنْعِ النَّظَرِ إِلَى مَحَاسِنِ الْحُرَّةِ دُونَ مَحَاسِنِ الْأَمَةِ، وَقَطْعِ السَّارِقِ دُونَ الْغَاصِبِ وَالْجَاحِدِ وَالْمُخْتَلِسِ، وَالْجَلْدِ بِقَذْفِ الزِّنَى دُونَ غَيْرِهِ، وَقَبُولِ شَاهِدَيْنِ فِي كُلِّ حَدٍّ مَا سِوَى الزِّنَى، وَالْجَلْدِ بِقَذْفِ الْحُرِّ دُونَ قَذْفِ الْعَبْدِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ عِدَّتَيِ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ، وحالُ الرَّحِمِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِمَا، وَاسْتِبْرَاءِ الْحُرَّةِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَالْأَمَةِ بِوَاحِدَةٍ، وَكَالتَّسْوِيَةِ فِي الْحَدِّ بَيْنَ الْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَبَيْنَ الزِّنَى2 وَالْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي دَمِ الْعَمْدِ، وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَالْقَاتِلِ، وَفِي الْكَفَّارَةِ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَإِفْسَادِ الصَّوْمِ3، وَبَيْنَ قَتْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً.
__________
1 أي: بمزيل للنجاسات وآثارها كالماء، ومع ذلك جعل مثله في رفع الحديث. "د".
2 فلم يقبل العفو في الزنى، لا من الزوج ولا من أهل المرأة، بخلاف قتل العمد إذا عفا عنه الأولياء؛ فيقبل، ولعل هذا مؤخر من تقديم، ومحله قبل قوله: "وكالتسوية" لأن سائر ما قبله فرق فيها بين المتماثلات، وسائر ما بعده جمع فيه بين المختلفات، وهذا على ما قررنا من الأول. "د".
3 بجماع فيه إيلاجٌ.(4/62)
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ مُسْتَوِيَانِ فِي أَصْلِ التَّكْلِيفِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَمُفْتَرَقَانِ بِالتَّكْلِيفِ1 اللَّائِقِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ كَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالْعِدَّةِ، وَأَشْبَاهِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ، والاختصاصُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ2؛ فَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِصَاصُ فِيهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ؛ كَالْجُمُعَةِ3، وَالْجِهَادِ، وَالْإِمَامَةِ وَلَوْ فِي النِّسَاءِ4، وَفِي الْخَارِجِ النَّجِسِ مِنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ؛ فَفَرَّقَ بَيْنَ بَوْلِ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ، مَعَ فَقْدِ الْفَارِقِ فِي الْقِسْمِ الْمُشْتَرِكِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْعَبْدُ؛ فَإِنَّ لَهُ اخْتِصَاصَاتٍ فِي الْقِسْمِ الْمُشْتَرَكِ5 أَيْضًا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ لَمْ يَصِحَّ الْقَطْعُ بِأَخْذِ عُمُومٍ مِنْ وَقَائِعَ مُخْتَصَّةٍ.
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُمْكِنُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ إِمْكَانَهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَطْعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ بِهِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَقَعَ مِثْلُهُ؛ فَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْوَضْعَ الِاخْتِيَارِيَّ الشَّرْعِيَّ مُمَاثِلٌ6 لِلْعَقْلِيِّ الِاضْطِرَارِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ حَتَّى فَهِمُوهُ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ.
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُمْ لَمْ يَنْظِمُوا الْمَعْنَى الْعَامَّ مِنَ الْقَضَايَا الْخَاصَّةِ حَتَّى عَلِمُوا
__________
1 في "ط": "في التكليف".
2 وهو القسم المشترك. "د".
3 يعني: وهذه الأمور لائقة بكل منهما، ووقع فيها الاختصاص والتفرقة وكان يجدر بها التسوية؛ فهي مما فرق فيه الحكم كالقسم الأول، ولكنه نوع آخر جعل فيه محل الفرق أصناف الإنسان، وقد كان النظر سابقًا إلى جعل محل الفرق نفس الأفعال، بقطع النظر عن الذكورة والأنوثة مثلًا، فلذا فصله عن نوعي الأمثلة السابقين؛ فقال: "وأيضًا ... إلخ". "د".
4 في "ط": "ولو للنساء".
5 كفرضية الجمعة مثلًا. "د".
6 ويبقى قوله: "لم توضع وضع العقليات، وإلا كانت هي هي بعينها"، ولما كانت هذه مجرد دعوى لا يقوم عليها دليل؛ لم يلتفت إليها في الجواب، فإن مجرد شبه شيء بآخر في أمر من الأمور لا يجعلهما من باب واحد؛ إن عقليًّا فعقلي، وإن شرعيًّا فشرعي. "د".(4/63)
أَنَّ الْخُصُوصِيَّاتِ وَمَا بِهِ الِامْتِيَازُ غَيْرَ1 مُعْتَبَرَةٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ وَلَوْ كَانَتِ الْخُصُوصِيَّاتُ مُعْتَبَرَةً بِإِطْلَاقٍ لَمَا صَحَّ اعْتِبَارُ الْقِيَاسِ وَلَارْتَفَعَ مِنَ الْأَدِلَّةِ رَأْسًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ.
وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ الْإِشْكَالُ الْمُورَدُ2 عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ؛ فَالَّذِي أَجَابَ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ هو الجواب هنا.
فصل:
وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَوَائِدُ تَنْبَنِي عَلَيْهَا، أَصْلِيَّةٌ وَفَرْعِيَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا تَقَرَّرَتْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، ثُمَّ اسْتَقْرَى مَعْنًى عَامًّا مِنْ أَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ، وَاطَّرَدَ له ذلك المعنى؛
__________
1 ويبقى قوله: "وعند وجود ذلك الدليل لا يبقى تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ فِي اسْتِفَادَةِ مَعْنًى عَامٍّ للاستغناء عنها بعموم صيغة الدليل"، ولم يلتفت إليه في الجواب؛ لأنه لا يلزم للعلم بأن هذه الخصوصيات غير معتبرة أن يكون ذلك مأخوذًا من دليل لفظي بصيغة فيها العموم، بل قد يكون بالاستقراء المشار إليه سابقًا، وهو مكون من جزئيات ليس فيها لفظ عام. "د".
2 وحاصله أن المنكرين للقياس قالوا: كيف يتصرف بالقياس في شرع مبناه على التحكم والتعبد والفرق بين المتماثلات والجمع بين المفترقات، وذكروا لذلك أمثلة كما هنا، ثم قالوا: وكيف يتجاسر في شرع هذا منهاجه على إلحاق المسكوت بالمنطوق؟ وما من نص على محل إلا ويمكن أن يكو ذلك تحكمًا وتعبدًا.
والجواب: بالمنع وأن الأحكام الشرعية ثلاثة أقسام: قسم لا يعلل أصلًا، وقسم يعلم كونه معللًا، كالحجر على الصبي؛ فإنه لضعف عقله، وقسم يتردد فيه.
ونحن لا نقيس ما لم يقم دليل على كون الحكم معللًا، ودليل على عين العلة المستنبطة، ودليل على وجود العلة في الفرع، وما عدا ذلك لا يقاس فيه، والجواب هنا كذلك.
فإن اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية والقطع بأخذ عموماتها من وقائع مختصة إنما هو فيما عدا ما وجد من فارق من الجزئيات، وعلم بالقرائن بناء على حكمه عليه؛ وهذا بظاهره مستثنى من العام وفي الحقيقة ليس من جزئياته؛ فتدبر. ا. هـ. "ف".(4/64)
لَمْ يَفْتَقِرْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ عَلَى خُصُوصِ نَازِلَةٍ تَعِنُّ1، بَلْ يَحْكُمُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً بِالدُّخُولِ تَحْتَ عُمُومِ الْمَعْنَى الْمُسْتَقْرَى مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِقِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ إِذْ صَارَ مَا اسْتُقْرِئَ مِنْ عُمُومِ الْمَعْنَى كَالْمَنْصُوصِ بِصِيغَةٍ عَامَّةٍ؛ فَكَيْفَ يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى صِيغَةٍ خَاصَّةٍ بِمَطْلُوبِهِ.
وَمَنْ فَهِمَ هَذَا هَانَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْ إِشْكَالِ الْقَرَافِيِّ2 الَّذِي أَوْرَدَهُ عَلَى أَهْلِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، حَيْثُ اسْتَدَلُّوا فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا} [الأنعام: 108] .
وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [الْبَقَرَةِ: 65] .
وَبِحَدِيثِ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا" 3 إِلَخْ.
وَقَوْلِهِ: "لَا تَجُوزُ شهادة خصم ولا ظنين" 4.
__________
1 أي: تعرض. "ف".
2 في كتابه "الفروق" "3/ 266، الفرق الرابع والتسعون والمائة".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، 3/ 1027/ رقم 1581"، عن جابر بن عبد الله, رضي الله عنه.
4 أخرجه أبو داود في "المراسيل" "رقم 396", وأبو عبيد في "الغريب" "2/ 155" بسند رجاله ثقات إلى طلحة بن عبد الله بن عوف عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "لا شهادة لخصم ولا ظنين"، ولفظ أبي عبيد ما أورده المصنف وهو مرسل؛ فهو ضعيف.
ويشهد له ما أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 181، 204، 208، 225". وأبو داود في "السنن" "4/ 24/ رقم 2600"، وابن ماجه في "السنن" "2/ 792/ رقم 2366"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 15364"، والدارقطني في "السنن" "4/ 243"، وابن جميع في "معجم الشيوخ" "ص108"، وابن مردويه في "ثلاثة مجالس من أماليه" "رقم 28"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 155" من طرق عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر =(4/65)
قَالَ: "فَهَذِهِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا وَهِيَ لَا تُفِيدُ؛ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْعِ سَدَّ الذَّرَائِعَ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي ذَرَائِعَ خَاصَّةٍ، وَهِيَ بُيُوعُ الْآجَالِ وَنَحْوِهَا؛ فَيَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ أَدِلَّةٌ خَاصَّةٌ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِلَّا؛ فَهَذِهِ لَا تُفِيدُ".
قَالَ: وَإِنْ قَصَدُوا الْقِيَاسَ عَلَى هَذِهِ الذَّرَائِعِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا؛ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُمُ الْقِيَاسَ خَاصَّةً، وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ إِبْدَاءُ الْجَامِعِ حَتَّى يَتَعَرَّضَ الْخَصْمُ لِدَفْعِهِ بِالْفَارِقِ، وَيَكُونُ دَلِيلُهُمْ شَيْئًا وَاحِدًا وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُدْرَكَهُمُ النُّصُوصَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرُوا نُصُوصًا خَاصَّةً بِذَرَائِعَ بُيُوعِ الآجال خاصة ويقتصرون عليها؛ كحديث1
__________
= على أخيه، ولا موقوف على حد"، وبعضها طرفه حسنة، وقواه ابن حجر في "التلخيص الحبير"، وفي الباب عن أبي هريرة عند البيهقي في "الكبرى" "10/ 201"، وبعضهم أرسله كما في "الغيلانيات" "رقم 599"، وعن عائشة كما عند أبي عبيد، ومن طريقه البغوي في "التفسير" "1/ 410, ط دار الفكر"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "18/ ق 282-283"، و"ذو الغمرة" الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة؛ فرد شهادته للتهمة، فهو بمعنى "خصم" في الحديث الذي أورده المصنف، و"القانع" الخادم والتابع، والمنقطع إلى القوم لخدمتهم، ويكون في حوائجهم، كالأجير والوكيل ونحوه، ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع، وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعًا؛ فهي مردودة، وهذا يشهد لكلمة "ظنين" في الحديث السابق.
1 أخرج عبد الرزاق في "المصنف" "8/ 184-185/ رقم 4812، 4813"، وأحمد في "المسند"، وسعيد بن منصور, كما في "نصب الراية" "4/ 16"، والدارقطني في "السنن" "2/ 52"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 330-331" عن معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة؛ فسألتها؛ فقالت: "يا أم المؤمنين, كانت لي جارية، فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى أجل، ثم اشتريتها منه بستمائة؛ فنقدته الستمائة؛ وكتبت عليه ثمانمائة. فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت، وبئس والله ما بعت، أخبري زيد بن أرقم أنه قد =(4/66)
أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ".
هَذَا مَا قَالَ فِي إِيرَادِ هَذَا الْإِشْكَالِ.
وَهُوَ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ؛ لِأَنَّ الذَّرَائِعَ قَدْ ثَبَتَ سَدُّهَا فِي خُصُوصَاتٍ كَثِيرَةٍ بِحَيْثُ أَعْطَتْ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْنَى السَّدِّ مُطْلَقًا عَامًّا، وَخِلَافُ الشَّافِعِيِّ هُنَا غَيْرُ قَادِحٍ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ.
أَمَّا الشَّافِعِيُّ؛ فَالظَّنُّ بِهِ أَنَّهُ تَمَّ لَهُ الِاسْتِقْرَاءُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ عَلَى الْعُمُومِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بِتَرْكِ الْأُضْحِيَّةِ إِعْلَامًا بِعَدَمِ وُجُوبِهَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ صَرِيحٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَإِنَّمَا فِيهِ عَمَلُ جُمْلَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ عند الشافعي ليس
__________
= أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- إلا أن يتوب".
وفي رواية البيهقي: "إن التي باعت الجارية من زيد بن أرقم هي أم محبة، وهي امرأة أبي السفر، وزوجة أبي إسحاق هي العالية بنت أبضع؛ كما عند الدارقطني".
وضعفه الدارقطني بقوله: "أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما"، وكذا ابن حزم في "المحلى" "9/ 60"، وأما محبة لا وجود لها في الإسناد، وإنما هي التي باعت الجارية، وهذا ظاهر في رواية الدارقطني خاصة، أما إعلاله بالعالية فمتعقب بما قاله ابن الجوزي في "التحقيق", كما في "نصب الراية" "4/ 16": "قالوا: العالية مجهولة لا يقبل خبرها. قلنا: بل هي امرأة معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في "الطبقات" "8/ 487"؛ فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي، سمعت عائشة"، وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي" "5/ 330": "العالية معروفة، روى عنها زوجها وابنها، وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وذهب إلى حديثها هذا الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وابن حنبل والحسن بن صالح"؛ فإسناد هذا الأثر حسن إن شاء الله تعالى، وجوده محمد بن عبد الهادي.
وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 259-260"، و"إعلام الموقعين" "3/ 216"، وصححاه.(4/67)
بِحُجَّةٍ1، لَكِنْ عَارَضَهُ فِي مَسْأَلَةِ بُيُوعِ الْآجَالِ [دَلِيلٌ آخَرُ رَاجِحٌ2 عَلَى غَيْرِهِ فَأَعْمَلَهُ؛ فَتَرَكَ سَدَّ الذَّرِيعَةِ لِأَجْلِهِ، وَإِذَا تَرَكَهُ لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ] 3؛ لَمْ يُعَدَّ مُخَالِفًا [فِي أَصْلِهِ] 4.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنْ ثَبَتَ عَنْهُ جَوَازُ إِعْمَالِ الْحِيَلِ؛ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَصْلِهِ فِي بُيُوعِ الْآجَالِ إِلَّا الْجَوَازُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَرْكُهُ لِأَصْلِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهَذَا وَاضِحٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ مُوَافَقَةُ مَالِكٍ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ فِيهَا، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ، وَإِذَا كان كذلك؛ فلا إشكال.
__________
1 أي: فهذا دليل على أنه أخذ فيه بسد الذرائع. "د".
قلت: انظر -لزامًا- ما سيأتي في التعليق على "458" من تحرير لمذهب الشافعي في حجية قول الصحابي، ومنه تعلم ما في قول المصنف هنا، والله الموفق.
2 هكذا في الأصل فقط، وفي النسخ المطبوعة: "رجح".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".
4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ المطبوعة.(4/68)
الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةُ:
الْعُمُومَاتُ إِذَا اتَّحَدَ مَعْنَاهَا، وَانْتَشَرَتْ فِي أَبْوَابِ1 الشَّرِيعَةِ، أَوْ تَكَرَّرَتْ فِي مَوَاطِنَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ؛ فَهِيَ مُجْرَاةٌ2 عَلَى عُمُومِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْمُنْفَصِلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءُ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَرَّرَتْ أَنْ لَا حَرَجَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ تَسْتَثْنِ مِنْهُ مَوْضِعًا وَلَا حَالًا؛ فَعَدَّهُ عُلَمَاءُ الْمِلَّةِ أَصْلًا مُطَّرِدًا وَعُمُومًا مَرْجُوعًا إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ3، وَلَا طَلَبِ مُخَصِّصٍ4، وَلَا احْتِشَامٍ مِنْ إِلْزَامِ الْحُكْمِ بِهِ، وَلَا تَوَقُّفٍ فِي مُقْتَضَاهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِمَا فَهِمُوا بِالتَّكْرَارِ وَالتَّأْكِيدِ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى التَّعْمِيمِ التَّامِّ.
وَأَيْضًا قَرَّرَتْ أن {لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الْأَنْعَامِ: 164] ؛ فَأَعْمَلَتِ الْعُلَمَاءُ الْمَعْنَى فِي مَجَارِي عُمُومِهِ، وَرَدُّوا مَا خَالَفَهُ5 من أفراد الأدلة بالتأويل
__________
1 من مثل العبادات والمعاملات والأنكحة؛ فهو غير التكرر الذي بعده الصادق بالتكرر ولو في باب من هذه الأبواب. "د".
2 أي: بدون توقف ولا بحث عن وجود معارض، هذا هو الغرض الذي ترمي إليه المسألة كما سيشير إليه قبيل الفصل وفيه أيضًا. "د". وفي "ط": "فهو مجراة ... ".
3 وعليه؛ فقولهم: "ما من عام إلا وخصص" يخرج منه هذا أيضًا، كما أخرجوا منه: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} على رأي الأصوليين، ولا يقال: إن المشاق والحرج الذي يعتري أرباب الحرف والصناعات لم يرفعه الشارع ويبن عليه الفطر في الصوم والقطر في السفر مثلًا؛ لأنا نقول: تقدم له أن ذلك من المشاق المعتادة التي لا تبنى عليها الأحكام المذكورة. "د".
4 في الأصل: "مخصوص".
5 من مثل ضرب الدية على العاقلة، وما قيل في هذه الآية يقال مثله في آية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} مع ما خالفها من أفراد الأدلة كالصوم والحج عن الميت الواردين في الأحاديث، وتقدم الكلام فيها في مبحث النيابة في الأعمال والعبادات. "د".(4/69)
وَغَيْرِهِ، وَبَيَّنَتْ بِالتَّكْرَارِ أَنَّ "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" 1؛ فَأَبَى أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ تَخْصِيصِهِ، وَحَمَلُوهُ2 عَلَى عُمُومِهِ، وَأَنَّ "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً [أَوْ سَيِّئَةً] ؛ كَانَ [لَهُ] مِمَّنِ اقْتَدَى بِهِ حَظٌّ إِنْ حَسَنًا وَإِنْ سَيِّئًا"3 وَأَنَّ "مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ كَافِرًا دَخَلَ النَّارَ"4.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَكُلُّ أَصْلٍ تَكَرَّرَ تَقْرِيرُهُ وَتَأَكَّدَ أَمْرُهُ وَفُهِمَ ذَلِكَ مِنْ مَجَارِي الْكَلَامِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ عَلَى حَسَبِ عُمُومِهِ وَأَكْثَرُ الْأُصُولِ5 تَكْرَارًا الْأُصُولُ الْمَكِّيَّةُ؛ كَالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَالنَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالْبَغْيِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْعُمُومُ مُكَرَّرًا وَلَا مُؤَكَّدًا وَلَا مُنْتَشِرًا فِي أبواب الفقه؛ فالتمسك بمجرده فيه نظر؛ فلا بد مِنَ الْبَحْثِ عَمَّا يُعَارِضُهُ أَوْ يُخَصِّصُهُ؛ وَإِنَّمَا حَصَلَتِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَ فِيهِ التَّكْرَارُ وَالتَّأْكِيدُ وَالِانْتِشَارُ صَارَ ظَاهِرُهُ بِاحْتِفَافِ الْقَرَائِنِ بِهِ إِلَى مَنْزِلَةِ النَّصِّ الْقَاطِعِ الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِاحْتِمَالَاتٍ؛ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي الْقَطْعِ بِمُقْتَضَاهُ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَى غَيْرِهِ وَيُبْحَثَ عن وجود معارض فيه.
__________
1 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو صحيح بشواهده.
2 في "ط": "وعملوا".
3 أخرجه بنحوه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، 2/ 704-705/ رقم 1017" من حديث جرير -رضي الله عنه- وتقدم نصه وتخريجه "1/ 222"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الجنائز، باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، 3/ 109/ رقم 1238"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات مشركًا دخل النار، 1/ 94/ رقم 150" عن ابن مسعود مرفوعًا: "من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار"، قال: "وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة".
وأخرج مسلم في "صحيحه" "رقم 151"، عن جابر مرفوعًا: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار".
5 في "ط": "وأكثر الأول".(4/70)
فصل:
وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي الْقَوْلُ فِي الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ، وهل يصح من غير [بحث عن] 1 الْمُخَصِّصِ، أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُ إِذَا عُرِضَ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ؛ أَفَادَ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ فِيهِ إِلَى بَحْثٍ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ إِلَّا حَيْثُ تُخَصِّصُ الْقَوَاعِدُ2 بَعْضَهَا بَعْضًا.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ فِي أَنَّهُ يُمْنَعُ3 الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ حَتَّى يُبْحَثَ هَلْ لَهُ مُخَصِّصٌ، أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ دَلِيلٌ مَعَ مُعَارَضِهِ؛ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنْ صَحَّ4؛ فَمَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْقِسْمِ الْمُتَقَدِّمِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
وَأَيْضًا5؛ فَالْبَحْثُ يُبْرِزُ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْعُمُومَاتِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ؛ فَغَيْرُ مُخَصَّصٍ، بَلْ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ، فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ بَحْثِ الْمُتَقَدِّمِ مَا يَحْصُلُ لِلْمُتَأَخِّرِ دُونَ بَحْثٍ6 بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ من الاستقراء، والله أعلم.
__________
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، ولكن في "ط": "بحث على"، وسقط من النسخ المطبوعة.
2 كما هو الحال بين الإجماع المحكي بعد وبين هذه القاعدة الخاصة بالقسم الأول "د".
3 في "ط": "يمتنع".
4 إشارة إلى مخالفة الصيرفي فيه، قال إمام الحرمين: "وهذا ليس معدودًا من العقلاء، وإنما هو قول صدر عن غباوة وعناد". "د".
5 ليست في "م".
6 أي: فيكون البحث عبثًا. "د". وسقطت "دون بحث" من "ط".(4/71)
الفصل الخامس: في البيان والإجمال 1
ويتعلق به مسائل
المسألة الأولى:
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ مُبَيِّنًا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ؛ لَمَّا كَانَ مُكَلَّفًا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّل َ2 إِلَيْهِم} [النَّحْلِ: 44] .
فَكَانَ يُبَيِّنُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ الطَّلَاقِ: "فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النساء" 3.
__________
1 قال الآمدي [في "الإحكام" "3/ 11"] : "والحق أن المجمل هو ما له دلالة على أحد أمرين، لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه"، وذكر من أسبابه سبعة أمور؛ منها: أن يكون في لفظ مشترك كالعين للذهب والشمس، والقرء للطهر والحيض، وقد يكون بسبب الابتداء والوقف؛ كما في آية {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] ، وقد يكون في الأفعال أيضًا. "د".
قلت: وانظر لزامًا ما قدمناه في التعليق على "3/ 324" حول الوقف والابتداء في الآية.
2 أي: من القرآن والسنة. "د".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 294-296 و19/ 155-174".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِي إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء....} ، 9/ 345-346/ رقم 2151"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها ... 2/ 1093/ رقم 1471" عن ابن عمر, رضي الله عنهما.(4/73)
وَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ سَأَلَتْهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الِانْشِقَاقِ: 8] : "إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ" 1.
وَقَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ" 2: "إِنَّمَا عَنَيْتُ بِذَلِكَ كَذَا وَكَذَا" 3.
وَهُوَ لَا يُحْصَى كَثْرَةً.
وَكَانَ أَيْضًا يُبَيِّنُ بِفِعْلِهِ4: "أَلَا أَخْبَرْتِهِ 5 أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ" 6.
__________
1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ، 8/ 697/ رقم 4939"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2204/ رقم 2876"، عن عائشة, رضي الله عنها.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان, باب علامة المنافق, 1/ 89/ رقم 23" ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1/ 78/ رقم 59" عن أبي هريرة مرفوعًا.
3 مضى تخريجه "2/ 282، 3/ 402".
4 ومنه أيضًا شربه قدح لبن وهو على بعيره بعرفة يوم عرفة، بيانًا لعدم مشروعية الصوم في عرفة يومها، ومضى تخريجه.
5 في "ط": "أخبرتيه".
6 قطعة من حديث أخرجه مالك في "المؤطأ" "1/ 291-292" عن عطاء بن يسار مرسلًا مطولًا، فيه ذكر جواز التقبيل للصائم، قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "10/ 54-55": "هذا الحديث مرسل عند جميع رواة "الموطأ" عن مالك"، قال: "والمعنى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل وهو صائم صحيح من حديث عائشة وحديث أم سلمة وحفصة".
قلت: وبعضها في "الصحيحين"، ورواه الشافعي في "الرسالة" "رقم 1109" من طريق مالك، وقال: "وقد سمعت من يصل هذا الحديث، ولا يحضرني ذكر من وصله". =(4/74)
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا 1 يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 50] .
وَبَيَّنَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ بِفِعْلِهِ، وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: "صَلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" 2، "وَخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" 3.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَانَ إِقْرَارُهُ بَيَانًا أَيْضًا، إِذَا عَلِمَ بِالْفِعْلِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْكَارِهِ لَوْ كَانَ بَاطِلًا أَوْ حَرَامًا، حَسْبَمَا قَرَّرَهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي مَسْأَلَةِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ وَغَيْرِهِ4، وَهَذَا كُلُّهُ مُبَيَّنٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَكِنْ نصير منه إلى معنى آخر، وهي:
__________
= وقال الزرقاني في "شرح الموطأ" "2/ 92": "وصله عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء عن رجل من الأنصار".
قلت: أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 184/ رقم 184", ومن طريقه أحمد في "المسند" "5/ 434"، وابن حزم في "المحلى" "6/ 207", وليس فيه اللفظ المذكور.
ويغني عنه ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، 2/ 779/ رقم 1108" بسنده إلى عمر بن أبي سلمة، أنه سأل رسول الله, صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ فقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سل هذه, لأم سلمة". فأخبرته أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك.
وانظر: "ص94، 117" مع التعليق عليه.
وقال "ف" وتبعه "م": "ألا: أداة تنبيه، أي: كما في قوله: ألا أخبرته".
1 وفيه البيان بالقول أيضًا. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، 2/ 111/ رقم 631" عن مالك بن الحويرث, رضي الله عنه.
3 مضى تخريجه "3/ 246"، وهو في "صحيح مسلم" "رقم 1297" وغيره.
4 يشير إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الفرائض، باب القائف، 12/ 56/ رقم 6770، 6771"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القافة بالولد، =(4/75)
المسألة الثانية:
وَذَلِكَ أَنَّ الْعَالِمَ وَارِثُ النَّبِيِّ؛ فَالْبَيَانُ فِي حقه لا بد مِنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا:
مَا ثَبَتَ مِنْ كَوْنِ العلماء ورثة1 الأنبياء2، وهو معنى صحيح
__________
= 2/ 1081/ رقم 1459" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل عليّ مسرورًا، تبرق أسراير وجهه؛ فقال: "ألم تر أن مجزرًا نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد؟ " فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض.
وقال "ف": "مجزز: رجل من بني مدلج مشهور بالقيافة، ومسألته أن المنافقين لما أنكروا نسب زيد لأسامة قال وقد رأى أقدامهما: هذه الأقدام بعضها من بعض. فاستبشر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، ومنه أخذ الشافعية إثبات النسب بالقيافة؛ لأن الاستبشار تقرير ولم يعتبره الحنفية دليلًا في الحادثة" اهـ، ونحوه عند "م".
وأضاف "د": "والحنفية قالوا: إن بشره -صلى الله عليه وسلم- إنما كان بقيام الحجة على المنافقين بناء على اعتقادهم في صحة القيافة، وترقبه -صلى الله عليه وسلم- أن يكفوا بسبب ذلك عن الطعن في نسب أسامة، لا أن هذا منه تقرير لصحة الأخذ بالقيافة في الأنساب".
قلت: انظر "الطرق الحكمية" "ص8/ 246-271"، و"بدائع الفوائد" "3/ 130"، و"زاد المعاد" "5/ 418"، و"الذخيرة" "10/ 241, ط دار الغرب" للقرافي.
1 أي: في وظيفة النبوة معنى، وقوله: "في الإتيان بها"؛ أي: في تبليغها، وهذه الجملة بمعنى قوله في نهاية الدليل الثاني: "والبيان يشمل البيان الابتدائي ... إلخ". "د".
2 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، 3/ 317/ رقم 3641"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة, باب فضل العلماء والحث على طلب العلم, 1/ 81/ رقم 223" وأحمد في "المسند" "5/ 196"، والدارمي في "السنن" "1/ 98"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 429"، وابن حبان في "صحيحه" "رقم 88, الإحسان"، والبزار في "المسند" "رقم 136, زوائده"، والبغوي في "شرح السنة" "1/ 275-276/ رقم 129"، والبيهقي في "الآداب" "رقم 1188"، والخطيب في "الرحلة" "77-78"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 169، 170، 171، 172"، عن أبي الدرداء مرفوعًا: "من سلك طريقًا يطلب فيه =(4/76)
ثَابِتٌ، وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ وَارِثًا قِيَامُهُ مَقَامَ مَوْرُوثِهِ فِي الْبَيَانِ، وَإِذَا كَانَ الْبَيَانُ فَرْضًا عَلَى الْمَوْرُوثِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْوَارِثِ أَيْضًا، وَلَا فَرْقَ فِي الْبَيَانِ بَيْنَ1 مَا هُوَ مُشْكِلٌ أَوْ مُجْمَلٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَبَيْنَ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ فِي الْإِتْيَانِ بِهَا؛ فَأَصْلُ التَّبْلِيغِ بَيَانٌ لِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ، وَبَيَانُ الْمُبَلِّغِ مِثْلُهُ بَعْدَ التَّبْلِيغِ.
وَالثَّانِي:
مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُلَمَاءِ، فَقَدْ قَالَ2: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 159] .
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 42] .
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 140] .
وَالْآيَاتُ كَثِيرَةٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ" 3.
وَقَالَ: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالَا؛ فَسَلَّطَهُ عَلَى هلكته
__________
= علمًا..". وفيه: "إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وأورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
وفي بعض أسانيده ضعف وبعضها حسن في الشواهد، وللحديث شواهد يتقوى بها كما قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 160"، قال ابن حبان عقب الحديث: "في هذا الحديث بيان واضح أن العلماء الذين لهم الفضل الذي ذكرنا، هم الذين يعلمون علم النبي -صلى الله عليه وسلم- دون غيره من سائر العلوم؛ ألا تراه يقول: "العلماء ورثة الأنبياء"؟ والأنبياء لم يورثوا إلا العلم، وعلم نبينا -صلى الله عليه وسلم- سنته، فمن تعرى عن معرفتها, لم يكن من ورثة الأنبياء".
1 في "ط": "وبين".
2 فالآية الأولى ظاهرة في البيان بأصل التبيلغ، والثانية ظاهرة في بيان المبلغ، والثالثة ظاهرة في العموم. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "رب مبلغ أوعى من سامع"، 1/ 157-158/ رقم 67"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، 3/ 1305-1306" عن أبي بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا.(4/77)
فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ؛ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" 1.
وَقَالَ: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ 2 الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ" 3.
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْبَيَانِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَالْبَيَانُ يَشْمَلُ الْبَيَانَ الِابْتِدَائِيَّ [وَالْبَيَانَ] 4 لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ وَالتَّكَالِيفَ الْمُتَوَجِّهَةَ؛ فَثَبَتَ أَنَّ الْعَالِمَ يَلْزَمُهُ الْبَيَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْبَنَى عَلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ، وَهِيَ5:
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إنفاق المال في حقه، 3/ 276/ رقم 1409، وكتاب الأحكام، باب أجر من قضى بالحكمة، 13/ 120/ رقم 7141، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما جاء في اجتهاد القضاء بما أنزل الله تعالى لقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، 13/ 298/ رقم 7316"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، 1/ 559/ رقم 816" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا بلفظ المصنف.
2 يعني: ولو كان العلم موجودًا بوجود العلماء؛ لأظهروه في الناس بمقتضى واجبهم، فلا يظهر الجهل؛ فيدل على أن واجب العلماء إظهار العلم. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب إثم الزناة، 12/ 113-114/ رقم 6808", ومسلم في "صحيحه" "كتاب العلم, باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، 4/ 2056/ رقم 2671" عن أنس بن مالك بلفظ المصنف.
4 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
5 في "ط": "وهو".(4/78)
المسألة الثالثة:
فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ الْبَيَانُ يَتَأَتَّى بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ؛ فلا بد أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَالِمِ، كَمَا حَصَلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهَكَذَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِمَّنْ صَارَ قُدْوَةً فِي النَّاسِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ، حَسْبَمَا يَتَبَيَّنُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ عَلَى أَثَرِ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ؛ فَلَا نَطُولُ بِهِ ههنا لأنه تكرار.
المسألة الرابعة:
إِذَا حَصَلَ الْبَيَانُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الْمُطَابِقِ لِلْقَوْلِ؛ فَهُوَ الْغَايَةُ فِي الْبَيَانِ، كَمَا إِذَا بَيَّنَ الطَّهَارَةَ أَوِ الصَّوْمَ أَوِ الصَّلَاةَ أَوِ الْحَجَّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَوِ الْعَادَاتِ، فَإِنْ حَصَلَ بِأَحَدِهِمَا فَهُوَ بَيَانٌ أَيْضًا؛ إِلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ قَاصِرٌ عَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ مِنْ وَجْهٍ، بَالِغٌ أَقْصَى الْغَايَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
فَالْفِعْلُ بَالِغٌ مِنْ جِهَةِ بَيَانِ الْكَيْفِيَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا الْبَيَانُ الْقَوْلِيُّ1؛ وَلِذَلِكَ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام الصلاة بفعله لأمته، كما فعل
__________
1 أحال المصنف على هذا المبحث في كتابه "الاعتصام" "2/ 595, ط ابن عفان"، فقال: " ... والفعل أغلب من القول من جهة التأسي، كما تبين في كتاب "الموافقات"، وانظر لطائف وفوائد في هذا عند ابن القيم في "مدارج السالكين "1/ 446 وما بعدها, ط الفقي".
ومن الجدير بالملاحظة هنا أن اجتماع أنواع أخرى من البيان مع القول والفعل يكون به أقوى، وأهم ذلك التقرير؛ فإنه يدل على رضا المبين عن الصورة الذهنية التي حصلت لدى المبين له؛ فإن البيان قد يكون وافيًا، ولكن أفهام بعض السامعين تقصر أو تغفل، فإن عمل المبين له بما بين؛ فوافقه المبين، وأقره فذلك أقوى ما يكون البيان. انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 105".(4/79)
بِهِ جِبْرِيلُ حِينَ صَلَّى بِهِ1، وَكَمَا بَيَّنَ2 الْحَجَّ كَذَلِكَ، وَالطَّهَارَةَ3 كَذَلِكَ، وَإِنْ جَاءَ فِيهَا بَيَانٌ بِالْقَوْلِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا عُرِضَ نَصُّ الطَّهَارَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى عَيْنِ مَا تُلُقِّيَ بِالْفِعْلِ مِنَ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانَ الْمُدْرَكُ بِالْحِسِّ مِنِ الْفِعْلِ4 فَوْقَ5 الْمُدْرَكِ بِالْعَقْلِ مِنَ النَّصِّ لَا مَحَالَةَ، مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا بُعِثَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.
وَهَبْهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- زَادَ بِالْوَحْيِ الْخَاصِّ أُمُورًا لَا تُدْرَكُ مِنَ النَّصِّ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَتِلْكَ الزِّيَادَاتُ6 بَعْدَ الْبَيَانِ إِذَا عُرِضَتْ عَلَى النَّصِّ لَمْ يُنَافِهَا بَلْ يَقْبَلْهَا؛ فَآيَةُ الْوُضُوءِ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهَا فِعْلُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي الْوُضُوءِ شَمِلَهُ بِلَا شَكٍّ، وَكَذَلِكَ آيَةُ الْحَجِّ مَعَ فِعْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِيهِ، وَلَوْ تَرَكَنَا وَالنَّصَّ؛ لَمَا حَصَلَ لَنَا مِنْهُ كُلُّ ذَلِكَ، بَلْ أَمْرٌ أَقَلُّ مِنْهُ، وَهَكَذَا نَجِدُ الْفِعْلَ7 مع
__________
1 مضى لفظه وتخريجه في التعليق على "3/ 255".
2 في حديث جابر الطويل وغيره، وفيه: "خذوا عني مناسككم"، وقد مضى تخريجه "3/ 246"، وقد جمع طرقه وألفاظه شيخنا الألباني -فسح الله مدته- في جزء مفرد مطبوع.
3 كما ثبت في غير حديث أنه -صلى الله عليه وسلم- توضأ، ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم ركع ركعتين لم يحدث فيهما نفسه؛ غفر له ما تقدم من ذنبه".
أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، 1/ 259/ رقم 159، وكتاب الصيام، باب سواك الرطب واليابس للصائم، 4/ 158/ رقم 1934"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، 1/ 205/ رقم 226" عن عثمان مرفوعًا، وقد خرجته بإسهاب في تعليقي على كتاب "الطهور" لأبي عبيد "رقم 1، 2، 3".
4 في الأصل: "العقل".
5 أي: أوسع بسطًا وأوضح معنى منه، فإذا فرض أنه -صلى الله عليه وسلم- زاد بفعله الذي أدركه بالوحي غير القرآني تفاصيل في الفعل لم تدرك من أصل النص القرآني؛ فهذه الأجزاء والتفاصيل الزائدة بهذا البيان الفعلي المفهوم له من الوحي الخاص إذا قيست وطبقت على النص القرآني لم ينابذها ولم ينافها، بل كان يحتملها وغيرها. "د".
6 في "ط": "الزيادة".
7 فإن القول مهما كان مستطيلًا في البيان لا يفي ببيان الهيئات الجزئية والكيفيات =(4/80)
الْقَوْلِ أَبَدًا، بَلْ يَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُوجَدَ قَوْلٌ لَمْ يُوجَدْ لِمَعْنَاهُ الْمُرَكَّبِ نَظِيرٌ فِي الْأَفْعَالِ الْمُعْتَادَةِ الْمَحْسُوسَةِ، بِحَيْثُ إِذَا فَعَلَ الْفِعْلَ عَلَى مُقْتَضَى مَا فُهِمَ مِنَ الْقَوْلِ؛ كَانَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَلَا إِخْلَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَائِطُهُ مُعْتَادَةً كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالطَّهَارَةِ وَنَحْوِهَا وَإِنَّمَا يَقْرُبُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ1 الَّذِي مَعْنَاهُ الْفِعْلِيُّ بَسِيطٌ، وَوُجِدَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْمُعْتَادِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ إِحَالَةٌ عَلَى فِعْلٍ مُعْتَادٍ؛ فَبِهِ حَصَلَ الْبَيَانُ لَا بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ2، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يقم القول هنا في
__________
= المخصوصة التي تظهر من الفعل، ومن ذلك تجد لزوم التمرين في مثل الصناعات عمليًّا، ولا يكتفي بالقول والشرح فيها، وقوله: "بل يبعد" ترقّ لإيضاح ما قبله بتحديد المحل الذي لا يفي فيه القول، وفاء الفعل في ضبط كيفياته ضبطًا لا يدع نقصًا ولا زيادة، وذلك في الأعمال المركبة من أركان وشروط ومستحسنات، وتلحقها مبطلات وعوارض غير مستحسنة، ولم تجر بها عادة بين الناس تحددها تحديدًا وافيًا، وذلك كالصلاة والحج؛ فمجرد القول فيهما لا يفي بهما وفاء تامًّا، بحيث إذا اقتصر عليه لا يحصل زيادة عن المطلوب ولا نقص عنه، وإن كانت بسائطهما معتادة في شريعتنا ثم ورد تعديل ونسخ في كيفياتهما، أو معتادة باعتبار شرائع متقدمة؛ فكلي الصلاة والحج معتاد، ومجرد هذا لا يكفي القول فيه لضبط تفاصيل كيفياته للتفاوت بين الصلوات الخمس عددًا وكيفية، وسرًّا وجهرًا، وبسورة وغير سورة، كذلك نفس النوافل وصلاة العيدين والكسوف والخسوف والجنازة والوتر والضحى وهكذا؛ فتفاصيل هذه الصلوات لا يكفي فيه القول لضبطه، وإن كان أصل الصلاة معتادًا في شريعتنا، وإنما يقرب في العادة أن يؤدي القول مؤدى الفعل فيما كان معناه بسيطًا، أو وجد له نظير في المعتاد ولو كان مركبًا؛ فإنك إذا وصفت للخياط الحالة التي تريد أن يكون عليها الثوب وكان ما وصفت معتادًا؛ فلا مانع أن يجيء الثوب حسبما وصفت، بدون زيادة ولا نقص، ويكون البيان إذ ذاك حاصلًا بالفعل المعتاد لا بالقول، وعليه يكون قوله: "ووجد له نظير" الواو فيه بمعنى أو كما هو ظاهر، وكما يؤخذ من كلام المؤلف حيث جعل التركيب قيدًا، وكونه لا نظير له في الأفعال معتادة قيدًا آخر، وسيأتي في الفصل بعده ما يقتضي أن الواو على معناها الأصلي، وأن الذي يقرب أن يؤدي القول فيه مؤدى الفعل صورة واحدة، وهي ما كان بسيطًا بقيد أن يكون مثله معتادًا، ولك أن تقول كما قررنا: إن المعتاد ولو كان مركبًا يفي القول فيه وفاء الفعل، والشواهد عليه كثيرة. "د".
1 في "ط": "في القول".
2 انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 106" للشيخ محمد الأشقر.(4/81)
الْبَيَانِ مَقَامَ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَالْفِعْلُ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَهُوَ يَقْصُرُ عَنِ الْقَوْلِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بَيَانٌ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَشْخَاصِ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ ذُو صِيَغٍ تَقْتَضِي هَذِهِ الْأُمُورَ وَمَا كَانَ نَحْوَهَا، بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى فَاعِلِهِ، وَعَلَى زَمَانِهِ، وَعَلَى حَالَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ تَعَدٍّ عَنْ مَحَلِّهِ أَلْبَتَّةَ، فَلَوْ تُرِكْنَا وَالْفِعْلَ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَثَلًا؛ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا مِنْهُ غَيْرُ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَعَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُعَيَّنَةِ.
فَيَبْقَى عَلَيْنَا النَّظَرُ: هَلْ يَنْسَحِبُ طَلَبُ هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ، أَوْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، أَوْ يَخْتَصُّ بِهَذَا الزَّمَانِ، أَوْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، أَوْ يَخْتَصُّ بِهِ وَحْدَهُ، أَوْ يَكُونُ حُكْمُ أُمَّتِهِ حُكْمَهُ؟
ثُمَّ بَعَدَ النَّظَرِ فِي هَذَا يَتَصَدَّى نَظَرٌ آخَرُ فِي حُكْمِ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ: مِنْ أَيِّ نَوْعٍ هُوَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؟
وَجَمِيعُ ذَلِكَ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ لَا يَتَبَيَّنُ مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ؛ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَاصِرٌ عَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ؛ فَلَمْ يَصِحَّ إِقَامَةُ الْفِعْلِ مَقَامَ الْقَوْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا بَيِّنٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ1 قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الْأَحْزَابِ: 21] ، وَقَالَ حِينَ بَيَّنَ بِفِعْلِهِ الْعِبَادَاتِ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" 2، وَ "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" 3، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِيَسْتَمِرَّ الْبَيَانُ إِلَى أقصاه.
__________
1 أي: ففعله لم يكف في طلب الاقتداء به فيه؛ لأن الفعل لا يدل على انسحابه على أمته كما قال؛ فاحتاج الأمر لبيان ذلك بالقول بهذه الآية، وبالأحاديث التي تذكر في مواضعها ليتبين الأمر من الجهتين أنه عام لهم، وأن كيفيته كما رأوا. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإمامة، 2/ 111/ رقم 631" عن مالك بن الحويرث, رضي الله عنه.
3 مضى تخريجه "3/ 246"، وهو في "صحيح مسلم" "رقم 1297" وغيره.(4/82)
فَصْلٌ:
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، لَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ1 الْقَوْلِ بِالتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْبَيَانَيْنِ؛ فَلَا يُقَالُ: أَيُّهُمَا أَبْلَغُ فِي الْبَيَانِ؛ الْقَوْلُ، أَمِ الْفِعْلُ؟ إِذْ لَا يَصْدُقَانِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ إِلَّا فِي الْفِعْلِ الْبَسِيطِ الْمُعْتَادِ مِثْلِهِ إِنِ اتَّفَقَ؛ فَيَقُومُ أَحَدُهُمَا2 مَقَامَ الْآخَرِ، وَهُنَالِكَ يُقَالُ: أَيُّهُمَا أَبْلَغُ، أَوْ أَيُّهُمَا أَوْلَى؟ كَمَسْأَلَةِ الْغُسْلِ مِنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ مَثَلًا؛ فَإِنَّهُ بَيِّنٌ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ3 وَمِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ4 عِنْدَ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ المسألة من ذلك،
__________
1 أي: كما ذكره الأصوليون؛ فقائل يرجع الفعل لأنه أقوى في الدلالة على المقصود وليس الخبر كالمعاينة والمشاهدة، وقائل بل يقدم القول لأنه يدل بنفسه على المقصود، أما الفعل؛ فلا يدل إلا بأحد أمور ثلاثة تفيد أن الفعل بيان للمجمل هي العقل، أو النص على أن هذا الفعل بيان للمجمل، أو أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده، هذا إذا اجتمع القول والفعل واختلفا، أما إذا اجتمعا وتوافقا؛ فالسابق منهما هو البيان، والثاني مؤكد له، هذا محصول كلامهم، ولم ينح نحو مبحثه الذي تجلى به أن كلًّا منهما له جهة يكون فيها أقوى بيانًا من الآخر. "د".
قلت: رجح أبو الحسين البصري الفعل بقوله في "المعتمد" "340": "إن الفعل أكشف" لأنه ينبئ عن صفة المبين مشاهدة، وانظر تفصيلًا حسنًا مع الأدلة حول القوة والوضوح بين البيان القولي والبيان الفعلي في "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 99-103"، وانظر: "تيسير التحرير" "3/ 148-149"، و"حاشية البناني على جمع الجوامع" 2/ 100"، و" إحكام الأحكام" "3/ 34" للآمدي، و"شرح تنقيح الفصول" "ص123، 124"، و"أصول السرخسي" "2/ 27".
2 على أن القول في هذه الصورة إنما قام مقام الفعل لأن مثله معتاد؛ فحصول البيان فيه بالفعل مع القول أو بالفعل نفسه كما قال سابقًا. "د".
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء"، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 272/ رقم 350" عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: إن رجلًا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل؛ هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة. فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل".
4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 271-272/ رقم 349" عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان؛ فقد وجب الغسل".(4/83)
وَالَّذِي وُضِعَ إِنَّمَا1 هُوَ فِعْلُهُ ثُمَّ غُسْلُهُ؛ فَهُوَ الَّذِي يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَقَامَ صَاحِبِهِ، أَمَّا حُكْمُ الْغُسْلِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ وَتَأَسِّي الْأُمَّةِ [بِهِ] 2 فِيهِ؛ فيختص3 بالقول.
__________
1 أي: إن هذا المقدار فقط هو الذي يقوم فيه كل من القول والفعل فيه مقام صاحبه، أما كون الغسل إذا ذاك واجبًا أو مندوبًا؛ فلا يستفاد إلا من القول، وقوله: "والذي وضع" لعل الأصل: "والذي وضح". [قلت: وفي الأصل: "وقع"، وقد احتملها "ف"] ؛ أي: الذي استبان بهذا القول والفعل إنما هو مجرد حصول الفعل ثم الغسل، وكلمة "وضح" ذكرها شارح "المنهاج" في مبحث البيان والإجمال. "د".
قلت: وفي "ط": "والذي في الموضع".
2 سقط من "ط".
3 في "ط": "فمختص".(4/84)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
إِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ بَيَانًا؛ فَالْفِعْلُ شَاهِدٌ لَهُ وَمُصَدِّقٌ، أَوْ مُخَصِّصٌ أَوْ مُقَيِّدٌ، وَبِالْجُمْلَةِ عَاضِدٌ لِلْقَوْلِ حَسْبَمَا1 قُصِدَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَرَافِعٌ لِاحْتِمَالَاتٍ فِيهِ تَعْتَرِضُ فِي وَجْهِ الْفَهْمِ، إِذَا كَانَ مُوَافِقًا غَيْرَ مُنَاقِضٍ، وَمُكَذِّبٌ لَهُ2 أَوْ مُوقِعٌ فِيهِ رِيبَةً أَوْ شُبْهَةً أَوْ تَوَقُّفًا إِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا أَخْبَرَ عَنْ إِيجَابِ الْعِبَادَةِ الْفُلَانِيَّةِ أَوِ الْفِعْلِ الْفُلَانِيِّ، ثُمَّ فَعَلَهُ هُوَ وَلَمْ يُخِلَّ بِهِ فِي مُقْتَضَى مَا قَالَ فِيهِ؛ قَوِيَ اعْتِقَادُ إِيجَابِهِ، وَانْتَهَضَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ سَمِعَهُ يُخْبِرُ عَنْهُ وَرَآهُ يَفْعَلُهُ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ تَحْرِيمِهِ مَثَلًا، ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَمْ يُرَ فَاعِلًا لَهُ وَلَا دَائِرًا3 حَوَالَيْهِ؛ قَوِيَ عِنْدَ مُتْبِعِهِ مَا أُخْبِرَ بِهِ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخْبَرَ عَنْ إِيجَابِهِ ثُمَّ قَعَدَ عَنْ فِعْلِهِ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْ تَحْرِيمِهِ ثُمَّ فَعَلَهُ؛ فَإِنَّ نُفُوسَ الْأَتْبَاعِ لَا تَطْمَئِنُّ إِلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُ طُمَأْنِينَتَهَا إِذَا ائْتَمَرَ وَانْتَهَى، بَلْ يَعُودُ مِنَ الْفِعْلِ إِلَى الْقَوْلِ مَا يَقْدَحُ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ إِمَّا مِنْ تَطْرِيقِ4 احْتِمَالٍ إِلَى الْقَوْلِ، وَإِمَّا مِنْ تَطْرِيقِ4 تَكْذِيبٍ إِلَى الْقَائِلِ، أَوِ اسْتِرَابَةٍ فِي بَعْضِ مَآخِذِ الْقَوْلِ، مَعَ أَنَّ التَّأَسِّيَ فِي الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى من يعظم في دين أو دنيا كالمغروز فِي الْجِبِلَّةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْعِيَانِ؛ فَيَصِيرُ الْقَوْلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَائِلِ كَالتَّبَعِ لِلْفِعْلِ؛ فَعَلَى حَسَبِ مَا يَكُونُ الْقَائِلُ فِي مُوَافَقَةِ فِعْلِهِ لِقَوْلِهِ يَكُونُ اتِّبَاعُهُ وَالتَّأَسِّي بِهِ، أَوْ عَدَمُ ذلك.
__________
1 زاده ليشمل المخصص والمقيد، ولذلك قال: "وبالجملة". "د".
2 الأحوال الأربعة تختلف باختلاف القرائن والأشخاص الذين يقع في أنفسهم أحدها، وستأتي بعد في كلامه من تكذيب القائل، أو وجود ريبة وشك في صدقه، أو احتمال أن قوله لا يؤخذ على ظاهره، أو أن دليله ليس كما ينبغي، وإلا لما ساغ لنفسه تركه. "د".
3 لأن فعل ما يشبه مقدمات الحرام يوجه الظنون إلى أن هذا العالم بصدد أن يفعله؛ فلذلك زاده المؤلف هنا، وليس في الواجب مثله؛ فقوله بعد: "ثم فعله" أي: أو دار حوله. "د".
4 في "ط": "تطرق".(4/85)
وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي الرُّتْبَةِ الْقُصْوَى مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَكَانَ الْمُتَّبِعُونَ لَهُمْ أَشَدُّ اتِّبَاعًا، وَأَجْرَى عَلَى طَرِيقِ التَّصْدِيقِ بِمَا يَقُولُونَ، مَعَ1 مَا أَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ شَوَاهِدَ الْعَادَاتِ تُصَدِّقُ الْأَمْرَ أَوْ تُكَذِّبُهُ؛ فَالطَّبِيبُ2 إِذَا أَخْبَرَكَ بِأَنَّ هَذَا الْمُتَنَاوَلَ سُمٌّ فَلَا تَقْرَبْهُ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَنَاوُلِهِ دُونَكَ، أَوْ أَمَرَكَ بِأَكْلِ طَعَامٍ أَوْ دَوَاءٍ لِعِلَّةٍ بِكَ وَمِثْلُهَا بِهِ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ؛ دَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى خَلَلٍ فِي الْإِخْبَارِ، أَوْ فِي فَهْمِ الْخَبَرِ؛ فَلَمْ تَطْمَئِنَّ النَّفْسُ إِلَى قَبُولِ قَوْلِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 44] .
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} الْآيَةَ [الصَّفِّ: 2] .
وَيَخْدِمُ هَذَا الْمَعْنَى الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَصِدْقُ الْوَعْدِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الْأَحْزَابِ: 23] .
وَقَالَ فِي ضِدِّهِ: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُون} [التَّوْبَةِ: 75-77] .
فَاعْتُبِرَ فِي الصِّدْقِ كَمَا تَرَى مُطَابَقَةُ الْفِعْلِ الْقَوْلَ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الصِّدْقِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ؛ فَهَكَذَا إِذَا أَخْبَرَ الْعَالِمُ بِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ أَوْ مُحَرَّمٌ؛ فإنما
__________
1 أي: فتطريق التكذيب لا يتأتى بالنسبة لهم، وكذا الاسترابة في مأخذ القول؛ فلم يبق إلا احتمال ألا يؤخذ القول على ظاهره، كما سيأتي في مثالي التحلل من العمرة والإفطار في السفر. "د".
2 المثال بعينه في "مدارج السالكين" "1/ 446, ط الفقي".
3 فقوله: {أَفَلا تَعْقِلُون} [البقرة: 44] ؛ إما محذوف المفعول، أي: ألا تدركون قبح الجمع بين المتنافيين؟ فطلب البر والإحسان من الغير هو تحقيق لكونه برًّا وإحسانًا، ونسيانهم أنفسهم منه ينافي كونه كذلك في اعتقادهم، أو أنه منزل منزلة اللازم، أي: أفقدتم العقل رأسًا حتى يصدر منكم هذا، وعلى كل؛ فهو غاية التشنيع على ارتكابه. "د".(4/86)
يُرِيدُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَأَنَا مِنْهُمْ فَإِنْ وَافَقَ صَدَقَ وَإِنْ خَالَفَ كَذَبَ1.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُنْتَصِبَ لِلنَّاسِ فِي بَيَانِ الدِّينِ مُنْتَصِبٌ لَهُمْ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ؛ فَإِنَّهُ وَارِثُ النَّبِيِّ، وَالنَّبِيُّ كَانَ مُبَيِّنًا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ؛ فَكَذَلِكَ الوارث لا بد أَنْ يَقُومَ مَقَامَ الْمَوْرُوثِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الْأَحْكَامَ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِقْرَارَاتِهِ وَسُكُوتِهِ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِ؛ فَكَذَلِكَ الْوَارِثُ، فَإِنْ كَانَ فِي التَّحَفُّظِ فِي الْفِعْلِ كَمَا فِي التَّحَفُّظِ فِي الْقَوْلِ؛ فَهُوَ ذَلِكَ، وَصَارَ مَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى هُدًى، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ صَارَ مَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى خِلَافِ الْهُدَى، لَكِنْ بِسَبَبِهِ.
وَكَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- رُبَّمَا تَوَقَّفُوا عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي أَبَاحَهُ لَهُمُ السَّيِّدُ الْمَتْبُوعُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَلَمْ يَفْعَلْهُ هُوَ، حِرْصًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ لِفِعْلِهِ وَإِنَّ تَقَدَّمَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ أَرْجَحَ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِتَرْكِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَهُ؛ حَتَّى إِذَا فَعَلَهُ اتَّبَعُوهُ فِي فِعْلِهِ، كَمَا فِي التَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ2، وَالْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ3، هَذَا وَكُلٌّ صحيح؛ فما ظنك بمن
__________
1 سيأتي تفصيل ذلك عند المصنف "5/ 269".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، 5/ 322" عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان -يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه-، وذكر صلح الحديبية، وفيه: "فلما فرغ من قضية الكتاب؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا"، قال: "فوالله ما قام منهم رجل"؛ حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله, أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه، ودعا حالقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا ... ". وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند" "4/ 328-331"، وانظر "5/ 264".
3 ورد في ذلك أحاديث عديدة؛ منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، =(4/87)
لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ؟ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُبَيِّنَ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ، وَيُحَافِظَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى كُلِّ مَنِ اقْتَدَى بِهِ.
وَلَا يُقَالُ: إِنِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعْصُومٌ؛ فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ الْمُبَيَّنِ خَلَلٌ، بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ.
لِأَنَّا نَقُولُ: إِنِ اعْتُبِرَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي تَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِالْفِعْلِ؛ فَلْيُعْتَبَرْ فِي تَرْكِ اتِّبَاعِ الْقَوْلِ، وَإِذْ ذَاكَ يَقَعُ فِي الرُّتْبَةِ فَسَادٌ لَا يُصْلَحُ، وخرق لا يرقع؛ فلا بد أَنْ يَجْرِيَ الْفِعْلُ مَجْرَى الْقَوْلِ، وَلِهَذَا تُسْتَعْظَمُ شَرْعًا زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَتَصِيرُ صَغِيرَتُهُ كَبِيرَةً، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ جَارِيَةً فِي الْعَادَةِ عَلَى مَجْرَى الِاقْتِدَاءِ، فَإِذَا زَلَّ؛ حُمِلَتْ زَلَّتُهُ عَنْهُ قَوْلًا كَانَتْ أَوْ فِعْلًا لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ مَنَارًا يُهْتَدَى بِهِ، فَإِنْ عُلِمَ كَوْنُ زَلَّتِهِ زَلَّةً؛ صَغُرَتْ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ وَجَسَرَ عَلَيْهَا النَّاسُ تَأَسِّيًا بِهِ، وَتَوَهَّمُوا1 فِيهَا رُخْصَةً عَلِمَ بِهَا وَلَمْ يَعْلَمُوهَا هُمْ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، وإن جهل كونها زلة؛
__________
= باب غزوة الفتح في رمضان/ رقم 4279"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، 2/ 784/ رقم 113" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، وكان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره.
وما أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 1114" عن جابر؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه؛ حتى نظر الناس إليه، ثم شرب. فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة".
وما أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 21"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 3550، 3556, الإحسان" عن أبي سعيد الخدري؛ قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نهر من ماء السماء وهو على بغلة له والناس صيام، فقال: اشربوا فجعلوا ينظرون إليه، فقال: "اشربوا؛ فإني راكب وإني أيسركم، وأنتم مشاة"، فجعلوا ينظرون إليه؛ فحول وركه فشرب، وشرب الناس، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
1 في "ط": "أو توهموا".(4/88)
فَأَحْرَى أَنْ تُحْمَلَ عَنْهُ مَحْمَلَ الْمَشْرُوعِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ رَاجِعٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنِّي لَأَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ". قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ, وَمِنْ حُكْمِ جَائِرٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ"1.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ"2.
وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ3 وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: "يَا مَعْشَرَ العرب, كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع
__________
1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "17/ 17/ رقم 14"، والبزار في "مسنده" "رقم 182, زوائده"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 830"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1865" من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعًا، وإسناده ضعيف، فيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف.
2 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 71"، والآجري في "تحريم النرد والشطرنج" "رقم 48"، والفريابي في "صفة النفاق" "ص71"، وابن المبارك في "الزهد" "ص520"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 234"، والبيهقي في "المدخل" "رقم 833"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 641، 643"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1867، 1869، 1870"، وآدم بن أبي إياس في "العلم"، والعسكري في "المواعظة"، والبغوي والإسماعيلي ونصر المقدسي في "الحجة"؛ كما في "كنز العمال" "10/ رقم 29405، 29412"، و"مسند الفاروق" "2/ 660-661" من طرق عن عمر, بعضها إسناده صحيح, قال ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 662"، بعد أن ساق طرقه: "فهذه طرق يشد القوي منها الضعيف؛ فهي صحيحة من قول عمر -رضي الله عنه- وفي رفع الحديث نظر، والله أعلم".
3 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1868" بسند رجاله ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعًا، الحسن البصري لم يسمع من أبي الدرداء، وسيسوق المصنف لفظه "ص327".(4/89)
أَعْنَاقَكُمْ، وَزَلَّةِ عَالِمٍ، وَجِدَالِ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ؟ "1.
وَمِثْلُهُ عَنْ سَلْمَانَ أَيْضًا2.
وَشَبَّهَ الْعُلَمَاءُ زَلَّةَ الْعَالِمِ بِكَسْرِ السَّفِينَةِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا غَرِقَتْ غَرِقَ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ3.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ. قِيلَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ يَجِدُ4 مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُ؛ فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَمْضِي الْأَتْبَاعُ"5.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ حَقِيقٌ أَنَّ تَهْدِمَ الدِّينَ، أَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ؛ فَكَمَا تَقَدَّمَ، وَمِثَالُ كَسْرِ السَّفِينَةِ وَاقِعٌ فِيهَا، وَأَمَّا الْحُكْمُ الْجَائِرُ؛ فَظَاهِرٌ أَيْضًا، وَأَمَّا الْهَوَى الْمُتَّبَعُ؛ فَهُوَ أَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَمَّا الْجِدَالُ بِالْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهُ مِنَ -اللَّسِنِ الْأَلَدِّ- مِنْ أَعْظَمِ الْفِتَنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَهِيبٌ6 جِدًّا، فَإِنْ جَادَلَ بِهِ مُنَافِقٌ عَلَى بَاطِلٍ أَحَالَهُ حقًّا7،
__________
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1872" بسند حسن، وقد روي مرفوعًا، ولا يصح، والموقوف هو الصحيح؛ كما قال الدارقطني في "العلل" "6/ 81/ رقم 992".
2 يشير إلى ما أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1873" بسنده إلى سلمان, رضي الله عنه: "كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثٍ: زَلَّةِ عَالِمٍ، وَجِدَالِ منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؟ ".
3 قول المصنف: "وشبه العلماء زلة العلم ... " من كلام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" "2/ 982".
4 ومن ذلك كان مالك يكره كتابة العلم عنه؛ أي: الفروع خشية أن ينشر عنه في الآفاق، وقد يرجع عنه. "د".
5 أخرجه البيهقي في "المدخل" "رقم 835، 836"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 14" وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1877".
قال "ف" شارحًا معناه: "أي على ما قال العالم برأيه مع أنه قد تركه لظهور مخالفته" ا. هـ.
6 فتتقي مخالفته ولو على الوجه الذي يزينه المنافق بسلاطة لسانه. "د".
7 في الأصل و"ف": "أسأل كونه حقًّا" وفي "ط": "أحال كونه حقًّا"، وتفردت نسخة الأصل بحذف الواو بعدها.(4/90)
وَصَارَ مَظِنَّةً لِلِاتِّبَاعِ عَلَى تَأْوِيلِ ذَلِكَ الْمُجَادِلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْخَوَارِجُ فِتْنَةً عَلَى الْأُمَّةِ؛ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ جَادَلُوا بِهِ عَلَى مُقْتَضَى آرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَوَثَّقُوا تَأْوِيلَاتِهِمْ بِمُوَافَقَةِ الْعَقْلِ1 لَهَا؛ فَصَارُوا فِتْنَةً عَلَى النَّاسِ، وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ؛ لِأَنَّهُمْ -بِمَا مَلَكُوا2 مِنَ السَّلْطَنَةِ عَلَى الخلق- قدروا3 عَلَى رَدِّ الْحَقِّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلِ حَقًّا، وَأَمَاتُوا سُنَّةَ اللَّهِ وَأَحْيَوْا سُنَنَ الشَّيْطَانِ، وَأَمَّا الدُّنْيَا؛ فَمَعْلُومٌ فِتْنَتُهَا لِلْخَلْقِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَفْعَالَ أَقْوَى فِي التَّأَسِّي وَالْبَيَانِ إِذَا جَامَعَتِ الْأَقْوَالَ مِنِ انْفِرَادِ الْأَقْوَالِ، فَاعْتِبَارُهَا فِي نَفْسِهَا لِمَنْ قَامَ فِي مَقَامِ الِاقْتِدَاءِ أَكِيدٌ لَازِمٌ4، بَلْ يُقَالُ: إِذَا اعْتُبِرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كُلِّ مَنْ هُوَ فِي مَظِنَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَمَنْزِلَةِ التَّبْيِينِ؛ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ تَفَقُّدُ جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمَا هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ لَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ اعْتِبَارَيْنِ5:
أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَتَفَصَّلُ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ.
وَالثَّانِي: مِنْ حَيْثُ صَارَ فِعْلُهُ وَقَوْلُهُ وَأَحْوَالُهُ بَيَانًا وَتَقْرِيرًا لِمَا شَرَعَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا انْتَصَبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ فَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا وَالْأَفْعَالُ فِي حَقِّهِ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُحَرَّمٌ، وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُبَيِّنٌ، وَالْبَيَانُ وَاجِبٌ لَا غير، فإذا
__________
1 قال "ف": "أي: بزعمهم موافقة العقل لها، وإلا؛ فالعقول السليمة تنبو عنها".
قلت: هي في "ط": "الفعل"، ولكنها في الأصل: "العقل"، وهو أظهر.
2 في "ط": "يملكون".
3 في "د": "وقدروا" بزيادة واو في أوله. وفي "ط": "قروا".
4 ترق على ما فرض فيه الكلام أولًَا من الواجب والحرام إلى التعميم في الأحكام الخمسة، ومن خصوص البيان بالأفعال إلى البيان مطلقًا بالأقوال والأفعال. "د".
5 انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 137-138".(4/91)
كَانَ مِمَّا يُفْعَلُ1 أَوْ يُقَالُ؛ كَانَ وَاجِبَ الْفِعْلِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُفْعَلُ؛ فَوَاجِبُ التَّرْكِ، حَسْبَمَا يَتَقَرَّرُ بَعْدُ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ هُوَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ.
لَكِنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقْتَدَى بِهِ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ حَيْثُ تُوجَدُ مَظِنَّةُ الْبَيَانِ؛ إِمَّا عِنْدَ الْجَهْلِ بِحُكْمِ الْفِعْلِ أَوِ [التَّرْكِ، وَإِمَّا عِنْدَ اعْتِقَادِ خِلَافِ الْحُكْمِ] 2، أَوْ مَظِنَّةِ اعْتِقَادِ خِلَافِهِ3.
فَالْمَطْلُوبُ فِعْلُهُ بَيَانُهُ بِالْفِعْلِ، أَوِ الْقَوْلِ الَّذِي يُوَافِقُ الْفِعْلَ إِنْ كَانَ وَاجِبًا، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَنْدُوبًا مجهول الحكم، فإن كان مندوبًا [و] مظنة لِاعْتِقَادِ الْوُجُوبِ؛ فَبَيَانُهُ بِالتَّرْكِ أَوْ بِالْقَوْلِ الَّذِي يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ التَّرْكُ، كَمَا فَعَلَ فِي تَرْكِ الْأُضْحِيَّةِ وَتَرْكِ4 صِيَامِ السِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَظِنَّةً لِاعْتِقَادِ عَدَمِ الطَّلَبِ أَوْ مَظِنَّةً لِلتَّرْكِ5؛ فَبَيَانُهُ بِالْفِعْلِ وَالدَّوَامِ فِيهِ عَلَى وَزَانِ الْمَظِنَّةِ؛ كَمَا فِي السُّنَنِ وَالْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي تُنُوسِيَتْ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ.
وَالْمَطْلُوبُ تَرْكُهُ بَيَانُهُ بِالتَّرْكِ، أَوِ الْقَوْلِ الَّذِي يُسَاعِدُهُ التَّرْكُ إِنْ كَانَ حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا؛ فَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ مَظِنَّةً لاعتقاد
__________
1 أي: مأذونًا فيه بأقسامه الثلاثة؛ حتى المباح يصير في حقه واجبًا، ومثله يقال فيما لا يفعل بقسميه. "د".
2 سقط من "ط".
3 مثاله: أن يجهل قوم الحديث الوارد في الندب إلى التطوع قبل صلاة المغرب بعد الأذان، ويستنكروا ذلك؛ فعلى المبين أن يفعل ذلك ليحصل البيان لأن البيان في حقه واجب، ولعل من هذا ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا طلب أن يطعم من غير صيد غير المحرم، وطلب أن يطعم من الجعل الذي أخذوه على الرقية؛ قيامًا بواجب البيان، والله أعلم.
4 خشية اعتقاد وجوبها ملحقة برمضان, أو اعتقاد أنها نافلة مكملة له كالنوافل البعدية في الصلاة؛ كما روي عن مالك فيها. "د".
5 أي: لإهماله وعدم العناية به مع معرفتهم له؛ فبيانه بالفعل أي بقدر ما تزول الفكرة المخالفة أو ينشط الناس لفعله وإحيائه. "د".(4/92)
التَّحْرِيمِ وَتَرَجَّحَ1 بَيَانُهُ بِالْفِعْلِ تَعَيَّنَ الْفِعْلُ عَلَى أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ وَأَقْرَّ بِهِ2، وَقَدْ قَالَ3 اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الْأَحْزَابِ: 21] .
وَقَالَ4: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 50] .
وَفِي حَدِيثِ الْمُصْبِحِ جُنُبًا قَوْلُهُ: "وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ" 5.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ, أَتَرْغَبُ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصْنَعُ؟ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَا وَاللَّهِ, قَالَتْ عائشة:
__________
1 كذا في "ط" والأصل، وفي غيرها: "وترجيح".
2 قد يظن أن في هذا تقريرًا من المصنف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل فعلًا حكمه الكراهة بشرط "على أقل ما يمكن"؛ أي: يقتصر على القدر الذي يحصل به البيان أن الفعل المبين ليس بحرام، وإنما هو مكروه، وسيأتي في المسألة الثانية ما يفيد شرطًا آخر وهو أن لا يكثر ولا يواظب عليه، ولا سيما أن لا يكون في مواطن الاجتماعات العامة، والحق أن فعله الذي أطلق عليه المصنف مكروهًا، إنما هو في حقه من باب تعارض المصلحة والمفسدة؛ فإن في فعله مصلحة البيان، ومفسدة مخالفة النهي، ومصلحة البيان أرجح، وعليه يدل السياق، وانظر في المسألة: "المسودة في أصول الفقه" "ص74"، و"حاشية البناني على جمع الجوامع" "2/ 96"، و"البحر المحيط" "4/ 176" للزركشي.
3 و4 الآيتان باجتماعهما، الأولى بعمومها في طلب الاقتداء، والثانية في هذا الفعل الخاص تفيدان جواز تزوج الرجل بزوجة متبناة، وهذا كان مظنة اعتقاد التحريم أو وجود الاعتقاد فعلًا، وتقدم لنا أنه بيان بالفعل والقول معًا. "د".
5 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، 2/ 781/ رقم 1110"، ومالك في "الموطأ" "1/ 289", والمذكور لفظه، ومن طريقه أحمد في "المسند" "6/ 67، 156، 245"، والشافعي في "الأم" "1/ 258"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصيام، باب فيمن أصبح جنبًا في شهر رمضان/ رقم 2389"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 106"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 213" عن عائشة -رضي الله عنها- وإسناده صحيح.(4/93)
فَأَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ، ثُمَّ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ"1.
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: "أَلَا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ ... " 2 إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ.
وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنْ زِيَادِ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ؛ قَالَ: "رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَسُوقُ رَاحِلَتَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَهُوَ يَقُولُ:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا ... إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَفْعَلْ لَمِيسَا
قَالَ: فَذَكَرَ الْجِمَاعَ بِاسْمِهِ؛ فَلَمْ يُكَنِّ عَنْهُ. قال: فقلت: يابن عَبَّاسٍ! أَتَتَكَلَّمُ بِالرَّفَثِ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا الرفث ما روجع به النساء"3.
__________
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الصائم يصبح جنبًا، 4/ 143/ رقم 1925، 1926"، وباب اغتسال الصائم، 4/ 153/ رقم 1930، 1931، 1932"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، 2/ 779-780/ رقم 1109"، ومالك في "الموطأ" "1/ 290-291" والمذكور لفظه.
2 مضى تخريجه "ص74"، وسيأتي "ص117"، وانظر تعليقنا عليه.
3 أخرجه سعيد بن منصور في "السنن" "3/ 806/ رقم 345"، وابن أبي شيبة في "المصنف", كما قال الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 115"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 276"، وابن جرير في "التفسير" "2/ 263-264"،والبخاري في "تاريخه" "3/ 3", مشيرًا إلى متنه دون ذكره، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 67"، وابن عبد البر في "التمهيد" "19/ 54"، و"الاستذكار" "13/ رقم 7910" من طرق عن ابن عباس لا تسلم واحدة منها من ضعف، ولكن مجموعها يدل على أن للأثر أصلًا، وبه يصل إلى درجة الحسن لغيره، والله أعلم.
وذكروه بألفاظ، والذي عند المصنف لفظ البيهقي، وذكره جمهرتهم بلفظ: "ننك لميسًا", وكذا سيورده المصنف "ص118"، وانظر: "علل ابن أبي حاتم" "1/ 277".
قال في "النهاية في غريب الحديث" "2/ 241": "كأنه -أي: ابن عباس- يرى الرفث =(4/94)
كَأَنَّهُ رَأَى مَظِنَّةَ هَذَا الِاعْتِقَادِ؛ فَنَفَاهُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوق} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 197] ، وَأَنَّ الرَّفَثَ لَيْسَ إِلَّا مَا كَانَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَ مَظِنَّةً لِاعْتِقَادِ الطَّلَبِ أَوْ مَظِنَّةً لِأَنْ يُثَابِرَ عَلَى فِعْلِهِ؛ فَبَيَانُهُ بِالتَّرْكِ جُمْلَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ، أَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ لَكِنْ فِي الْإِبَاحَةِ أَوْ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ فِي الْفِعْلِ؛ كَمَا فِي سُجُودِ1 الشُّكْرِ عِنْدَ مَالِكٍ وَكَمَا فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ، حَسْبَمَا بَيَّنَهُ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بن صالح، وستأتي2 إن شاء الله.
__________
= الذي نهى الله عنه: ما خوطبت به المرأة، فأما ما يقوله ولم تسمعه امرأة فغير داخل فيه، وقال الأزهري: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة".
قلت: وقوله: "إن تصدق الطير" فيريد به أنه زجر الطير، فتيامن بمرها، ودلته على قرب اجتماعه بأصحابه وأهله، أفاده الشيخ أحمد أو محمود شاكر في التعليق على "تفسير ابن جرير" "4/ 126"، و"اللميس": اسم امرأة، ويقال للمرأة اللينة الملمس: اللميس، انظر: "اللسان" "6/ 209-210، مادة لمس"، والهميس: قال السرقسطي في "غريبه": "الهميس: ضرب من السير لا يسمع له وقع".
قلت: وهو صوت نقل أخفاف الإبل كما أفاده ابن منظور في "اللسان" "6/ 250"، ونحوه عند "ف".
وقد ورد عن ابن عباس أكثر من تفسير للرفث في آية "197" من سورة البقرة، وانظر عدا "سنن سعيد"، والتعليق عليه: "تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة" "1/ 85-88" للشيخ عبد العزيز الحميدي.
1 تقدم إنكار مالك لأصله وإنكاره ما روي عن أبي بكر فيه. "د".
قلت: ورد ذلك بثبوت أحاديث وآثار صحت فيه، جمعها السخاوي في كتابه "تجديد الذكر في سجود الشكر"؛ كما في "الضوء اللامع" "8/ 19"، و"فهرس ابن غازي" "ص169" وغيره؛ كما في كتابنا: "مؤلفات السخاوي" "رقم 69" ولله الحمد والمنة.
2 في المسألة السابعة "ص114".(4/95)
وعلى الجملة؛ فالمراعى ههنا1 مَوَاضِعُ طَلَبِ2 الْبَيَانِ الشَّافِي الْمُخْرِجِ عَنِ الْأَطْرَافِ وَالِانْحِرَافَاتِ، وَالرَّادِّ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ سِيَرَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ تَبَيَّنَ ما تقرر بحول الله، ولا بد مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ أَوْ بَعْضِهَا حَتَّى يَظْهَرَ فِيهَا الْغَرَضُ المطلوب، والله المستعان.
__________
1 أي: في التفاصيل السابقة من ترك الفعل جملة أو الفعل على الدوام وهكذا، إنما هو في المواطن التي يطلب فيها البيان الشافي، أما المواطن الأخرى؛ فيكفي فيها القول مثلًا. "د".
2 في "ط": "الطلب".(4/96)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
الْمَنْدُوبُ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهِ مَنْدُوبًا أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ، لَا فِي الْقَوْلِ وَلَا فِي الْفِعْلِ، كَمَا لَا يُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الِاعْتِقَادِ، فَإِنْ سُوِيَّ بَيْنَهُمَا فِي الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ؛ فَعَلَى وَجْهٍ1 لَا يُخِلُّ بِالِاعْتِقَادِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ بِأُمُورٍ:
أَحَدُهَا:
أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي الِاعْتِقَادِ بَاطِلَةٌ بِاتِّفَاقٍ، بِمَعْنَى أَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَالْقَوْلُ أَوِ الْفِعْلُ إِذَا كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى مُطْلَقِ2 التَّسْوِيَةِ وَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُمْكِنَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْبَيَانِ الْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِ الْمَقْصُودِ بِهِ التَّفْرِقَةُ، وَهُوَ تَرْكُ الِالْتِزَامِ فِي الْمَنْدُوبِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَاصَّةِ كَوْنِهِ مَنْدُوبًا.
وَالثَّانِي:
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بُعث هَادِيًا وَمُبَيِّنًا لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ3 فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ؛ كَنَهْيِهِ عَنْ إِفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ أَوْ لَيْلَتِهِ
__________
1 في الأصل: "فلا وجه"، وفي حاشيته: "لعل الصواب: "فلا بد من وجه لا يخل بالاعتقاد"، وترجمة المسألة على هذا هو أن التفريق بين الواجب والمندوب إذا استويا في القول والفعل مطلوب من كل فرقة، هذا حاصل المسألة، ويعني بذلك أن الأمر إذا كان للندب وجب بيانه لئلا يلتبس بالواجب، لأنه مساوٍ له في الدلالة القولية الأمرية، وكذا إذا واظب القدرة على فعلين وكان أحدهما واجبًا والآخر مندوبًا؛ وجب عليه بيان المندوب منهما خيفة اعتقاد وجوبه" ا. هـ.
2 أي: التسوية المطلقة؛ أي: التامة التي يدخل فيها المساواة في الاعتقاد، أما التسوية في القول والفعل فقط؛ فجعلها صحيحة، إذا كانت على وجه لا يخل بالاعتقاد في المندوب بجعله واجبًا، لكنه قال في صدر المسألة: "إن التسوية بين المندوب والواجب ليست من حق المندوب، لا في القول، ولا في الفعل أيضًا" فيؤخذ من آخر الكلام بيان معنى صدره، وأن كونها ليست من حقه لا يقتضي بطلانها مطلقًا. "د".
قلت: انظر "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 91" للأستاذ محمد الأشقر.
3 أي: البيان بالقول كما في المسلك الأول، وبالفعل كما في المسلك الثاني. "د".(4/97)
بِقِيَامٍ1، وَقَوْلِهِ: "لَا يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا فِي صِلَاتِهِ" 2، بَيَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ وَاسِعُ بْنُ حِبَّانَ: "انْصَرَفْتُ مِنْ قِبَلِ شِقِّيَ الْأَيْسَرِ، فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنْ يَمِينِكَ؟ قُلْتُ: رَأَيْتُكَ فَانْصَرَفْتُ إِلَيْكَ. قَالَ: أَصَبْتَ، إِنَّ قَائِلًا يَقُولُ: انْصَرِفْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأَنَا أَقُولُ: انْصَرَفَ كَيْفَ شِئْتَ، عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ يَسَارِكَ"3.
وَفِي بعض الأحاديث بعدما قَرَّرَ حُكْمًا غَيْرَ وَاجِبٍ: "مِنْ فَعَلَ فَقَدْ أحسن، ومن لا فلا حرج"4.
__________
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة، 4/ 232/ رقم 1985"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب كراهة صوم يوم الجمعة منفردًا، 2/ 801/ رقم 1144"، والترمذي في "الجامع" "أبواب القيام، باب ما جاء في كراهية صوم يوم الجمعة وحده، 2/ 123/ رقم 740"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب الصيام" كما في "تحفة الأشراف" "10/ 351"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصيام، باب في صيام الجمعة، 1/ 549/ رقم 1723"، وأحمد في "المسند" "2/ 495" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام؛ إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"، لفظ مسلم.
2 مضى تخريجه "3/ 500"، وهو في "الصحيحين" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا. وفي "ط": "من صلاته"!!
3 مضى تخريجه "3/ 501".
4 أخرج أبو داود في "السنن" "1/ 9/ رقم 35", ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" "2/ 84-85/ رقم 367, بتحقيقي"، والبغوي في "شرح السنة" "12/ 118/ رقم 3204"، وأحمد في "المسند" "2/ 371"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 121/ 122"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "1/ 94، 104"، من طريق عيسى بن يونس عن ثور عن الحصين الحبراني عن أبي سعيد عن أبي هريرة مرفوعًا: "من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، ومن فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، وما لاك بلسانه فليبتلع، ومن فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد =(4/98)
..........................................................................
__________
= إلا أن يجمع كثيبًا من رمل فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن ومن لا حرج".
وأخرجه من طرق أخرى عن ثور به: ابن ماجه في "السنن" "1/ 121-122 و2/ 1157/ رقم 337، 338, 3498", والدارمي في "السنن" "1/ 169-170"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار "1/ 122"، و"مشكل الآثار" "1/ 127/ رقم 138"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 137", وابن حبان في "الصحيح" "4/ 257-258".
وإسناده ضعيف، فيه حصين الحبراني، ويقال: الحميري، وحبران بطن من حمير، قال ذلك أبو بكر بن أبي داود، وهو مجهول؛ كما في "التقريب"، وفي "الكاشف" "1/ 239": "لا يعرف"، وانظر: "الجرح والتعديل" "9/ رقم 1758".
قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 103": "مداره على أبي سعد الحبراني الحمصي، وفيه اختلاف، وقيل: إنه صحابي ولا يصح، والراوي عنه حصين الحبراني وهو مجهول، وقال أبو زرعة: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في "العلل"". ا. هـ.
قلت: انظر كلام الدارقطني في "العلل" "8/ 283-285/ رقم 1570"، وقال البيهقي في "المعرفة" "1/ 201"، "ليس بالقوي"، وكلام ابن حجر السابق هو ما تقتضيه قواعد المصالح، بخلاف ما قرره بعد في "الفتح" "1/ 257" عندما حسن إسناد أبي داود، وتبعه العيني في "عمدة القاري" "1/ 722"، وأقره البنوري في "معارف السنن" "1/ 115"، وسبقه النووي في "المجموع" "2/ 55"؛ فقال عنه: "هذا حديث حسن" وانظر: "خلاصة البدر المنير" "1/ رقم 117"، و"تحفة المحتاج" "1/ رقم 39"، و"السلسلة الضعيفة" "3/ رقم 1028".
والعجب من "د"؛ فإنه اقتصر في الهامش على قوله: "جزء من حديث أخرجه في "التيسير" عن الستة؛ إلا الترمذي".
قلت: يغني عنه ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر، 2/ 790/ رقم 1121 بعد 107" عن حمزة بن عمرو الأسلمي -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله! أجد بي قوة على الصيام في السفر؛ فهل عليَّ جناج؟ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله؛ فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه".(4/99)
وَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ" 1.
وَقَالَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ أَفْعَالِ الْحَجِّ عَلَى بَعْضٍ مِمَّا لَيْسَ تَأْخِيرُهُ بِوَاجِبٍ: "لَا حَرَجَ". قَالَ الرَّاوِي: فَمَا سُئِل يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ؛ إِلَّا قَالَ: "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ" 2 مَعَ أَنَّ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ عَلَى بَعْضٍ مَطْلُوبٌ، لَكِنْ لَا عَلَى الْوُجُوبِ 3.
وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَنْ يُتَقَدَّمَ رَمَضَانُ بِيَوْمٍ أَوْ يومين4.
وحرم5 صيام يوم العيد.
__________
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب الزكاة في الإسلام، 1/ 106/ رقم 46"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، 1/ 40-41/ رقم 11" عن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- مرفوعًا.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، 1/ 180/ رقم 83، وكتاب الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة, 3/ 569/ رقم 1736", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج, باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الحلق، 2/ 948/ رقم 1306"، عن عبد الله بن عمرو, رضي الله عنهما.
3 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "3/ 469".
4 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "3/ 469".
5 قال في "الاعتصام" "1/ 509-510, ط ابن عفان": "إن ذلك النهي علله العلماء بخوف أن يعد ذلك من رمضان"، يعني: فيحسب واجبًا، وأصله تطوع مندوب، ومثله يقال في نهيه عن إفراد يوم الجمعة بصيام أو ليلته بقيام، وقد جعله هناك من باب ما يصير الوصف عرضة لأن ينضم إلى العبادة حتى يعتقد فيه أنه من أوصافها أو جزء منها، قال: "فهذا القسم ينظر فيه من جهة النهي عن الذرائع"، وقوله: "وحرم صيام يوم العيد" لا يظهر وجه اندراجه هنا؛ لأنه منهي عنه نهي استقلال. "د".
قلت: ومضى تخريج النهي عن صيام يوم العيد "3/ 469".(4/100)
وَنَهَى1 عَنِ التَّبَتُّلِ2 مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 8] .
وَنَهَى عَنِ الْوِصَالِ3، وَقَالَ: "خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ" 4 مَعَ أَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْحَسَنَاتِ خَيْرٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ مِمَّا خِلَافُهُ مَطْلُوبٌ، وَلَكِنْ تَرَكَهُ وَبَيَّنَهُ خَوْفًا أَنْ يَصِيرَ مِنْ قَبِيلٍ آخَرَ فِي الِاعْتِقَادِ.
وَمَسْلَكٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ5، قَالَتْ عَائِشَةُ: "وَمَا سَبَّحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وإني لأسبحها"6.
__________
1 كما ورد في حديث سعد بن أبي وقاص، وفيه أنه رده على عثمان بن مظعون وهو في "الصحيحين" وغيرهما، ومضى تخريجه "2/ 228".
2 وهو الانقطاع الصرف عن شئون هذه الحياة كرهبانية النصارى، أما التبتل في الآية، فبمعنى الإخلاص في العبادة أو نحوه، والمقام مستوفى في كتاب "الاعتصام" "1/ 436, ط ابن عفان"، وهذا وما بعده لم يتبين فيه معنى الذريعة إلى اعتقاد الوجوب، ولذلك قال: "مع أن الاستكثار من الحسنات خير"، وقال -صلى الله عليه وسلم- في رد التبتل لعثمان بن مظعون ومن معه: "فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني"، ويؤخذ منه أنه ليس بمشروع، فضلًا عن كونه مندوبًا يخشى من الاستدامة عليه اعتقاد الوجوب، كما هو أصل الموضوع، فقوله: "مما خلافه مطلوب" لا يظهر في التبتل ولا يظهر في الوصال أيضًا. "د".
3 كما في "صحيح البخاري" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964"، وانظر ما مضى "2/ 239".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 4/ 213/ رقم 1969"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير رمضان، 2/ 811/ رقم 782" عن عائشة, رضي الله عنها.
5 مضى تخريجه "3/ 260".
6 مضى تخريجه "3/ 260"، وهو في "الصحيحين".
وقد ثبت في "الصحيح" أن معاذة سألت عائشة: "كم كان يصلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله". وجمع الحديث مع سابقه أن ذلك العلم من طريق غير الرؤية. "د".(4/101)
وَقَدْ قَامَ لَيَالِيَ مِنْ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ؛ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، ثُمَّ كَثُرُوا فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَعَلَّلَ بِخَشْيَةِ الْفَرْضِ1.
وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفْرَضَ بِالْوَحْيِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ النَّاسِ.
وَالثَّانِي: فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْخَوْفُ أَنْ يَظُنَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ بَعْدَهُ إِذَا دَاوَمَ عَلَيْهَا الْوُجُوبَ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ مُتَمَكِّنٌ2.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ عَمِلُوا عَلَى3 هَذَا الِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ لَمَّا فَهِمُوا هَذَا الْأَصْلَ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَكَانُوا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ؛ فَتَرَكُوا أَشْيَاءَ وَأَظْهَرُوا ذَلِكَ لِيُبَيِّنُوا أَنَّ تَرْكَهَا غَيْرُ قَادِحٍ وَإِنْ كَانَتْ مَطْلُوبَةً؛ فَمِنْ ذَلِكَ تَرْكُ عُثْمَانَ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ فِي خِلَافَتِهِ، وَقَالَ: "إِنِّي إِمَامُ النَّاسِ، فَيَنْظُرُ إِلَيَّ الْأَعْرَابُ وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ فَيَقُولُونَ: هَكَذَا فُرِضَتْ"4، وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أن القصر
__________
1 مضى تخريجه "3/ 260".
2 يريد أنه قوي وحال محله متمكن فيه، وبه يستغني عن الوجه الأول الذي أوردوا عليه ثم أجابوا عنه بما فيه ضعف، قال القاضي أبو الطيب: "يحتمل أن يكون أوحى إليه أنه إن داوم معهم على هذه الصلاة فرضت عليهم؛ فالمؤلف يرى قوة هذا الوجه، ويبني عليه استدلاله، ولا يريد أنه ممكن كما قال بعضهم؛ لأن مجرد الإمكان الضعيف لا يصحح له جعله من مسالك استدلاله". "د".
وكتب "ف" هنا: "لعله ممكن".
3 سقط من "ط".
4 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 518-519/ رقم 4277"، وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 425" نحوه عن الزهري، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 144" من =(4/102)
مَطْلُوبٌ1.
وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ: "شَهِدْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَانَا لَا يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ"2، وَقَالَ بِلَالٌ: "لَا أُبَالِي أَنْ أُضَحِّيَ بِكَبْشٍ أَوْ بِدِيكٍ"3.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي لَحْمًا بِدِرْهَمَيْنِ يوم الأضحى، ويقول
__________
= طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى، ثم خطب، فقال: "إن القصر سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصاحبيه، ولكنه حدث طغام -يعني: فتح الطاء والمعجمة- فخفت أن يستنوا"، وعن ابن جريج أن أعرابيًّا ناداه في منى: "يا أمير المؤمنين! ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين"، وهذه طرق يقوي بعضها بعضًا، قاله ابن حجر في "الفتح" "2/ 571"، وزاد: "ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام".
وما ذكره المصنف عند أبي شامة المقدسي في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" "ص182-183"، والطرطوشي في "الحوادث والبدع" "ص38-39, ط التونسية"، ومنه نقل المصنف كما صرح في "الاعتصام" "2/ 106"، وانظره: "2/ 31-32"، وانظر "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد "ص24"، وما قدمناه في التعليق على "ص59".
قلت: في غير الأصل: "فنظر".
1 أي: سنة وليس واجبًا كما هو مذهب الحنفية، ولا هو رخصة بمعنى لا حرج في فعله، وبهذا يتم استدلاله على الموضوع. "د".
2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 381/ رقم 8139"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 265"، و"الخلافيات" "3/ ق 279"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 19، 358"، والطبراني في "الكبير", كما في "المجمع" "4/ 18"، وابن أبي خيثمة في "تاريخه"، وابن أبي الدنيا في "الضحايا", كما في "التلخيص الحبير" "4/ 145", عن أبي سريحة الغفاري, واسمه حذيفة بن أسيد, به، وإسناده صحيح.
3 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 385/ رقم 8156"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 358" من طريقين عن عمران بن مسلم الجعفي عن سويد بن غفلة عن بلال به، وإسناده صحيح.(4/103)
لِعِكْرِمَةَ: "مَنْ سَأَلَكَ؛ فَقُلْ هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ غَنِيًّا"1.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ2: "إِنِّي لَأَتْرُكُ أُضْحِيَّتِي وَإِنِّي لَمِنْ أَيْسَرِكُمْ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَظُنَّ الْجِيرَانُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ"3.
وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ: "كُنَّا نُضَحِّي عَنِ النِّسَاءِ وَأَهْلِينَا؛ فَلَمَّا تَبَاهَى النَّاسُ بِذَلِكَ تَرَكْنَاهَا"4، وَلَا خِلَافَ [فِي] 5 أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ مَطْلُوبَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي صَلَاةِ الضحى: "إنها بدعة"6، وحمل على أحد
__________
1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 382-383/ رقم 8146"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 265" و"الخلافيات" "3/ ق 279، 280"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 358".
2 هو ابن مسعود, رضي الله عنه. "د".
قلت: بل القائل هو أبو مسعود الأنصاري.
3 أخرجه السرقسطي في كتابه من طريق سعيد بن منصور ثنا سفيان عن منصور عن أبي وائل عن أبي مسعود الأنصاري، قاله الزيلعي في "نصب الراية" "4/ 206-207".
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 383/ رقم 8148، 8149"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 358"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 295"، وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 145"، وعزاه لـ"سنن سعيد بن منصور".
4 ذكره أبو شامة في "الباعث" "ص182".
وقد نقل المصنف هذه الأثار عن الطرطوشي في "الحوادث والبدع" "ص39"؛ كما صرح هو بذلك في "الاعتصام" "2/ 107 و2/ 602, ط ابن عفان". وانظر: "الاستذكار" "15/ 162-163".
5 سقطت من "ط".
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب العمرة، باب كم اعتمر النبي, صلى الله عليه وسلم 3/ 599/ رقم 1775" بسنده إلى مجاهد؛ قال: "دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- جالس إلى حجرة عائشة، وإذا ناس يصلون في المسجد صلاة الضحى، قال: فسألناه عن صلاتهم؛ فقال: بدعة".
وانظر: "فتح الباري" "3/ 52"؛ ففيه عنه -رضي الله عنه- آثار عديدة.(4/104)
وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً، وَإِمَّا أَفْذَاذًا عَلَى هَيْئَةِ النَّوَافِلِ فِي أَعْقَابِ الْفَرَائِضِ1، وَقَدْ مَنَعَ النِّسَاءَ الْمَسَاجِدَ مَعَ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: "لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ" 2؛ لِمَا3 أَحْدَثْنَ فِي خُرُوجِهِنَّ وَلِمَا يُخَافُ فِيهِنَّ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَمَرُّوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيلِ؛ فَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ صيام ست من شوال4، وذلك
__________
1 انظر "الاعتصام" "1/ 447, ط ابن عفان" للمصنف.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس، 2/ 347/ رقم 865، وباب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد، 2/ 351/ رقم 873، وكتاب الجمعة، باب منه، 2/ 282/ رقم 899، 900، وكتاب النكاح، باب استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره، 9/ 337/ رقم 5238"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، 1/ 326-327/ رقم 442" عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا.
3 فليس لما يخشى من اعتقاد الوجوب فيما ليس بواجب، ولا لبيان أن تركها ليس بقادح وإن كانت مطلوبة، بل لهذين المعنيين اللذين ذكرهما، وحينئذ؛ فما وجه إدراج هذا في المقام؟ "د".
قلت: وجه قول المصنف في "الاعتصام" "1/ 511, ط ابن عفان": "وبالجملة؛ فكل عمل أصله ثابت شرعًا؛ إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة، فتركه مطلوب في الجملة أيضًا من باب سد الذرائع".
4 قال مالك في "الموطأ" "1/ 311" في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: "إنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، وأراهم يعملون ذلك".
قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 107 و2/ 604, ط ابن عفان" عقبه: "فكلام مالك هنا ليس فيه دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم، بل لعل كلامه مشعر بأنه يعلمه، لكنه لم ير العمل عليه، وإن كان مستحبًّا في الأصل لئلا يكون ذريعة لما قال، كما فعل الصحابة =(4/105)
لِلْعِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، مَعَ أَنَّ التَّرْغِيبَ فِي صِيَامِهَا ثَابِتٌ صَحِيحٌ1؛ لِئَلَّا يُعْتَقَدَ ضَمُّهَا إِلَى رَمَضَانَ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ2: "وَقَدْ وَقَعَ3 ذَلِكَ لِلْعَجَمِ". [وَقَالَ] 4 الشافعي في
__________
= -رضي الله عنهم- في الأضحية، وعثمان في الإتمام في السفر".
وانظر لزامًا: "الاستذكار" "10/ 258-259" لابن عبد البر، و"الذخيرة" "2/ 530" للقرافي، و"رفع الإشكال" للعلائي "ص77 وما بعدها"، و"المفهم شرح صحيح مسلم" "4/ 1950-1951" لأبي العباس القرطبي.
أما مذهب الإمام أبي حنيفة؛ فنقل المصنف عنه الكراهة، وهو المنقول عنه في كتب أصحابه.
قال ابن الهمام في "فتح القدير" "2/ 349": "صوم ستة من شوال، عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهته، وعامة المشايخ لم يروا به بأسًا".
1 وذلك في قوله, صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر".
أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعًا لرمضان، 2/ 822/ رقم 1164" عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا.
وقد ضعف ابن دحية الكلبي في كتابه "العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور"، هذا الحديث، ورد عليه الحافظ العلائي في كتاب مفرد طبع حديثًا، وعنوانه: "رفع الإشكال عن صيام ستة أيام من شوال"، وانظر: "لطائف المعارف" "ص389, ط المحققة عن دار ابن كثير" لابن رجب.
2 قلت: وعبارة القرافي في "الفروق" "2/ 191، الفرق الخامس والمائة": "قال لي الشيخ زكي الدين عبد العظيم المحدث, رحمه الله تعالى: إن الذي خشي منه مالك -رحمه الله تعالى- قد وقع بالعجم؛ فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم، والقوانين وشعائر رمضان إلى آخر الستة الأيام، فحينئذ يظهرون شعائر العيد"!! وانظر: "إيضاح السالك إلى قواعد الإمام مالك" "ص221-222" للونشريسي، و"ما لا يجوز الاختلاف فيه بين المسلمين" "ص97-98"، وانظر: "الاعتصام" "2/ 604, ط ابن عفان".
3 فلينظر هذا الشوكاني الذي شنع على الإمامين لقولهم بالكراهة خشية هذا المحظور. "د".
4 سقط من "ط".(4/106)
الْأُضْحِيَّةِ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ، حَيْثُ اسْتَدَلَّ1 عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِ وَتَعْلِيلِهِمْ.
وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ أَصْلٌ عِنْدَهُ مُتَّبَعٌ، مُطَّرِدٌ فِي الْعَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ؛ فَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ نَقْطَعُ بِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ إِذَا اسْتَوَى الْقَوْلَانِ أَوِ الْفِعْلَانِ مَقْصُودٌ شَرْعًا، وَمَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ قَطْعًا2 كَمَا يُقْطَعُ بِالْقَصْدِ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا اعْتِقَادًا.
فَصْلٌ:
وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا تَحْصُلُ بِأُمُورٍ: مِنْهَا بَيَانُ الْقَوْلِ إِنِ اكْتُفِيَ بِهِ، وَإِلَّا؛ فَالْفِعْلُ [وَهُوَ أَحْرَى] بَلْ هُوَ فِي هَذَا النَّمَطِ مَقْصُودٌ، وَقَدْ يَكُونُ فِي سَوَابِقِ الشَّيْءِ الْمَنْدُوبِ وَفِي قَرَائِنِهِ وَفِي لَوَاحِقِهِ3، وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ وَأَشْبَاهُهُ.
وَأَكْثَرُ مَا يَحْصُلُ الْفَرْقُ فِي الْكَيْفِيَّاتِ الْعَدِيمَةِ النَّصِّ، وَأَمَّا الْمَنْصُوصَةُ؛ فَلَا كَلَامَ فِيهَا، فَالْفِعْلُ أَقْوَى إِذًا فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ يصدق القول أو يكذبه.
__________
1 فقد اعتمد على فعل الصحابة فيه وتعليلهم؛ فهو قد سلم أن الترك للعلة التي هي خوف مظنة الوجوب؛ فهو من الباب نفسه وإن لم يصرح بكراهتها إذا وجدت العلة؛ فلذا قال المؤلف: "بنحو من ذلك". "د".
2 ينزل معناه على مقتضى قوله في صدر المسألة: "فَإِنْ سُوِيَّ بَيْنَهُمَا فِي الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ؛ فعلى وجه لا يخل بالاعتقاد"، وذلك بإخفائه عن العامة من المقتدى به مثلًا. "د".
3 ففي ترك القيام في رمضان بعد حصوله ليالي بيان باللواحق، وفي استخفائه بصلاة الضحى حتى لم تره السيدة عائشة بيان بالمقارن. "د".(4/107)
فَصْلٌ:
وَكَمَا أَنَّ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِ الْمَنْدُوبِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ فِي الْفِعْلِ كَذَلِكَ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ فِي التَّرْكِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا لَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ التَّرْكِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يُفْهَمْ كَوْنُ الْمَنْدُوبِ مَنْدُوبًا، هَذَا وَجْهٌ1.
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ إِخْلَالًا بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ فِيهِ وَمِنَ الْمَنْدُوبَاتِ مَا هُوَ وَاجِبٌ بِالْكُلِّ؛ فَيُؤَدِّي تَرْكُهُ مطلقًا إلى الإخلال بالواجب، بل لا بد [فيه] مِنَ الْعَمَلِ بِهِ لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ فَيَعْمَلُوا بِهِ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، كَمَا كَانَ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ؛ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بُنَيَّ! إِنْ قَدَرْتَ أن تصبح و [تمسي] ليس فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ! وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي؛ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي؛ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ"2؛ فَجَعَلَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ إِحْيَاءً لها؛ فليس بيانها مختصًّا بالقول.
__________
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 436 و22/ 407".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 5/ 46/ رقم 2678"، وإسناده ضعيف، فيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وقال: "وعلي بن زيد صدوق؛ إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره"، قال: "وسمعت محمد بن بشار يقول: قال أبو الوليد: قال شعبة: حدثنا علي بن زيد وكان رفاعًا، ولا نعرف لسعيد بن المسيب عن أنس رواية إلا هذا الحديث بطوله، وقد روى عباد بن ميسرة المنقري هذا الحديث عن علي بن زيد عن أنس، ولم يذكر فيه عن سعيد بن المسيب". قال: "وذاكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه, ولم يعرف لسعيد بن المسيب عن أنس هذا الحديث ولا غيره".
وما بين المعقوفتين سقط من الأصل وجميع الطبعات، واستدركناه من "جامع الترمذي".(4/108)
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي نُزُولِ الْحَاجِّ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ الْأَبْطَحُ: "أَسْتَحِبُّ لِلْأَئِمَّةِ وَلِمَنْ يُقْتَدَى بِهِ أَنْ لَا يُجَاوِزُوهُ حَتَّى يَنْزِلُوا بِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ1 حَقِّهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ2 أَمْرٌ قَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْخُلَفَاءُ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِحْيَاءُ سُنَنِهِ وَالْقِيَامُ بِهِ3 لِئَلَّا يُتْرَكَ هَذَا الْفِعْلُ جُمْلَةً، وَيَكُونُ4 لِلنُّزُولِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ حُكْمُ النُّزُولِ بِسَائِرِ الْمَوَاضِعِ، لَا فَضِيلَةَ لِلنُّزُولِ بِهِ، بَلْ لَا يَجُوزُ النُّزُولُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ". هَكَذَا نَقَلَ الباجي5.
و [هو] ظَاهِرٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْمَنْدُوبَ6 لا بد مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ، وَذَلِكَ بِفِعْلِهِ وَإِظْهَارِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ7 فِي حَدِيثِ عُمَرَ "بَلْ أَغْسِلُ مَا رَأَيْتُ، وَأَنْضَحُ مَا لَمْ أَرَ" 8: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ رَأَى أَنَّ أَعْمَالَهُ وَأَقْوَالَهُ نَهْجٌ لِلسُّنَّةِ، وَأَنَّهُ مَوْضِعٌ لِلْقُدْوَةِ، يَعْنِي: فَعَمِلَ هُنَا عَلَى مُقْتَضَى الْأَخْذِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي التَّوْسِعَةِ عَلَى النَّاسِ فِي تَرْكِ تكلف ثوب آخر الصلاة، وَفِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ غَسْلِ الثَّوْبِ.
وَفِي9 الحديث: "واعجبًا لك يابن العاص! لئن كنت تجد ثيابًا؛ أفكل
__________
1 كذا في النسخ كلها، وفي مطبوع "المنتقى" للباجي: "في".
2 عند الباجي: "لأن هذا أمر".
3 في مطبوع "المنتقى": ".... سنته والقيام بها".
4 أي: ينسى حتى يصير هكذا في اعتقاد الناس. "د". وفي "ط": "ويكون النزول".
5 في "المنتقى" "3/ 44".
6 سقطت "في" من "د" وسقط "هو" من جميع النسخ إلا من "ط"، وسقطت من "ط" كلمة "مذهب" وقال "ف": "صحته أن في المندوب"!!
7 هو الباجي، وكلامه الآتي في "المنتقى شرح الموطأ" "1/ 103".
8 مضى تخريجه "3/ 502".
9 لو قال: "ولذلك في الحديث: واعجبًا ... إلخ"؛ لكان أجود سبكًا وأظهر في ضم أجزاء الحديث بعضها بعضًا. "د".(4/109)
النَّاسِ يَجِدُ ثِيَابًا! وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُهَا لَكَانَتْ سُنَّةً" 1 الْحَدِيثَ.
وَلِمَكَانِ هَذَا وَنَحْوِهِ اقْتَدَى بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَفِيدُهُ2؛ فَفِي "الْعُتْبِيَّةِ" قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَخَّرْتَ الصَّلَاةَ شَيْئًا. فَقَالَ: "إِنَّ ثِيَابِي غُسِلَتْ"3.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: "يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُ تِلْكَ الثِّيَابِ لِزُهْدِهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لَعَلَّهُ تَرَكَ أَخْذَ سِوَاهَا مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ لِيُقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ، ائْتِسَاءً بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ فَقَدْ كَانَ أَتْبَعَ النَّاسِ لِسِيرَتِهِ وَهَدْيِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ"4.
وَمِمَّا نَحْنُ فِيهِ مَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِيمَنْ [صَارَ] 5 تَرْكُ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ لَهُ إِلْفًا وَعَادَةً، وَخِيفَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ، أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَزْجُرَهُ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَجْمَعُوا حَطَبًا" 6 الْحَدِيثَ.
__________
1 قطعة من الأثر السابق، ومضى تخريجه "3/ 502"، وهو صحيح.
2 لأن عمر بن الخطاب جد عمر بن عبد العزيز لأمه. "د".
3 "العتبية" "1/ 456, مع "شرحه" ونحوه عند ابن عبد الحكم في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص43".
4 "البيان والتحصيل" "1/ 456-457"، وانظر فيه: "18/ 555" عن اتباع عمر بن عبد العزيز لجده, رضي الله عنهما.
5 سقط من "ط".
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، 2/ 125/ رقم 644، وباب فضل العشاء في الجماعة، 2/ 141/ رقم 657"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، 1/ 451/ رقم 651" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا.
وقال "د": "وسيأتي له أن ذلك كان خاصًّا بالمنافقين لبيان ابن مسعود الآتي في المسألة الثانية من الكتاب العزيز".
قلت: قوله ضعيف لثلاثة أوجه، ذكرها ابن القيم في "الصلاة وحكم تاركها" "ص115-117"، وابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "23/ 228"، وانظر كتابنا: "القول المبين" "ص291-293".(4/110)
وَقَالَ: "أَيْضًا فِيمَا إِذَا تَوَاطَأَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْهَاهُمْ". قَالَ: "لِأَنَّ اعْتِيَادَ جَمِيعِ النَّاسِ لِتَأْخِيرِهَا مُفْضٍ بِالصَّغِيرِ النَّاشِئِ إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْوَقْتُ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ".
وَأَشَارَ إِلَى نَحْوِ هَذَا فِي مَسَائِلَ أُخَرَ، وَحَكَى قَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ اعْتِرَاضِ الْمُحْتَسِبِ عَلَى أهل القرية في إقامة الجمعة بجماعة اختلفت فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ فِي بَعْضِ وُجُوهِهَا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ هُوَ يَرَى إِقَامَتَهَا وَهُمْ لَا يَرَوْنَهَا1، وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِإِقَامَتِهَا عَلَى رَأْيِهِ بِاعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ؛ لِئَلَّا يَنْشَأَ الصَّغِيرُ عَلَى تَرْكِهَا، فَيَظُنُّ أَنَّهَا تَسْقُطُ مَعَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ كَمَا تَسْقُطُ بِنُقْصَانِهِ.
وَهَذَا الْبَابُ يَتَّسِعُ، وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي تَقْوِيَةِ اعْتِبَارِ الْبَيَانِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا ذُكِرَ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ قِصَّةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَعَ عُرْوَةَ بْنِ عِيَاضٍ حِينَ نَكَتَ بِالْخَيْزُرَانَةِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "هَذِهِ غَرَّتْنِي مِنْكَ -لِسَجْدَتِهِ الَّتِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ-، وَلَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً مِنْ بَعْدِي؛ لَأَمَرْتُ بِمَوْضِعِ السُّجُودِ فَقُوِّرَ"2.
وَقَدْ عَوَّلَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَجَعَلُوهُ أَصْلًا يَطَّرِدُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ الَّذِي اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إِعْمَالِهِ فِي الْجُمْلَةِ وإن اختلفوا في التفاصيل؛ كقوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا 3 وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] .
__________
1 انظر: "الحاوي الكبير" "2/ 383".
2 ذكره ابن عبد الحكم في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص114"، وابن رشد في "البيان والتحصيل" "1/ 486".
3 كان اليهود يذكرون الكلمة سبًّا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يريدون بها, لعنهم الله: اسمع لا سمعت؛ فنهوا عنها.
كما روي أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- سمعها منهم فقال: يا أعداء الله! عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده؛ لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأضربن عنقه. قالوا: أَوَلستم تقولونها؟ فنزلت الآية نهيًا للمؤمنين عن قولها؛ سدًّا للباب، وقطعًا للألسنة، وبعدًا عن المشابهة. ا. هـ. "ف".(4/111)
وَقَوْلِهِ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الْأَنْعَامِ: 108] .
وَقَدْ مَنَعَ1 مَالِكٌ لِمَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وحده أن يُفْطِرَ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى إِفْطَارِ الْفُسَّاقِ مُحْتَجِّينَ بِمَا احْتَجَّ بِهِ2، وَقَالَ بِمِثْلِهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَا زُورٍ بِأَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَلَمْ يَفْعَلْ؛ فَمَنَعَهُ مِنْ وَطْئِهَا إِلَّا أَنْ يَخْفَى ذَلِكَ عَنِ النَّاسِ3.
وَرَاعَى زِيَادٌ مِثْلَ هَذَا فِي صَلَاةِ النَّاسِ فِي جَامِعِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ4 إِذَا صَلَّوْا فِي صَحْنِهِ وَرَفَعُوا مِنَ السُّجُودِ مَسَحُوا جِبَاهَهُمْ مِنَ التُّرَابِ؛ فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْحَصَى فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: "لَسْتُ آمَنُ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ فَيَظُنُّ الصَّغِيرُ إِذَا نَشَأَ أَنَّ مَسْحَ الْجَبْهَةِ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ"5.
وَمَسْأَلَةُ مَالِكٍ مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى "الْمُوَطَّأِ" فَنَهَاهُ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ من هذا6 القبيل أيضًا7.
__________
1 المثبت من "ط"، وفي غيرها: "رأى مالك ... أن لا يفطر".
2 قال مالك في "الموطأ" "1/ 287": "ومن رأى هلال شوال وحده؛ فإنه لا يفطر لأن الناس يتهمون على أن يفطر منهم من ليس مأمونًا، ويقول أولئك إذا ظهر عليهم: قد رأينا الهلال".
3 انظر: "الذخيرة" "10/ 262-263, ط دار الغرب" للقرافي.
4 في "ط" زيادة: "كانوا".
5 ذكره في "الاعتصام" "2/ 108"، وقال عقبه: "وهذا في مباح؛ فكيف به في المكروه أو الممنوع؟ "، وصرح أنه نقل هذه الحكاية عن الماوردي، وكذا سيفعل هنا في "ص120".
6 لأنه إذا تطاول الزمان على الاقتصار عليه في العمل يظن الناس أنه لا يصح العمل بغيره من الأحاديث والسنن. "د".
7 نحوه في "جامع بيان العلم" "رقم 870" لابن عبد البر، و"ذيل المذيل" "107" لابن جرير، و"السير" "8/ 70"، و"تذكرة الحفاظ" "1/ 209" للذهبي، و"التزيين" "41" للسيوطي، و"كشف المغطى في فضل الموطا" "53-55" لابن عساكر، و"ترتيب المدارك" "1/ 192، 193، 2/ 72" للقاضي عياض، و"إعلام الموقعين" "2/ 296-297"، و"انتصار الفقير السالك" "ص191-192، 207-208"، و"مفتاح السعادة" "2/ 87"، و"الديباج المذهب" "1/ 119"، و"إتحاف السالك" "رقم 224" لابن ناصر الدين، وفي ثبوت هذه القصة نظر؛ كما في كتابنا: "قصص لا تثبت"، يسر الله إتمامه بخير.(4/112)
وَلَقَدْ دَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ؛ فَقَالَ لَهُ: "انْظُرْ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ، يَقُولُونَ: اخْلَعْ نَفْسَكَ أَوْ نَقْتُلُكَ. قَالَ لَهُ: أَمُخَلَّدٌ أَنْتَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: هَلْ يَمْلِكُونَ لَكَ جَنَّةً أَوْ نَارًا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَا تَخْلَعْ قَمِيصَ اللَّهِ عَلَيْكَ فَتَكُونَ سُنَّةً، كُلَّمَا كَرِهَ قَوْمٌ خَلِيفَتَهُمْ خَلَعُوهُ أَوْ قَتَلُوهُ"1.
وَلَمَّا هَمَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ أَنْ يَبْنِيَ الْبَيْتَ عَلَى مَا بَنَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ شَاوَرَ مَالِكًا فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: "أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا تَجْعَلَ هَذَا الْبَيْتَ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ بَعْدَكَ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُغَيِّرَهُ؛ إِلَّا غَيَّرَهُ فَتَذْهَبَ هَيْبَتُهُ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ"2. فَصَرَفَهُ عَنْ رَأْيِهِ فِيهِ؛ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهَا تَصِيرُ سُنَّةً مُتَّبَعَةً بِاجْتِهَادٍ أو غيره؛ فلا يثبت على حال.
__________
1 أخرجه خليفة في "تاريخه" "1/ 183"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "4/ 1223-1224"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 1/ 45"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص359, ترجمة عثمان"، والخبر في "التمهيد والبيان" "ق 114".
2 نحوه في "ترتيب المدارك" "1/ 213, ط بيروت"، وفيه المهدي وليس المنصور.(4/113)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:
الْمُبَاحَاتُ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهَا1 مُبَاحَاتٍ أَنْ لَا يُسَوَّى2 بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَنْدُوبَاتِ وَلَا الْمَكْرُوهَاتِ3؛ فَإِنَّهَا إِنْ سُوِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَنْدُوبَاتِ بِالدَّوَامِ عَلَى الْفِعْلِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ فِيهَا مُعَيَّنَةٍ أَوْ غَيْرِ4 ذَلِكَ؛ تُوُهِّمَتْ مَنْدُوبَاتٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْحِ الْجِبَاهِ بِأَثَرِ الرَّفْعِ مِنَ السُّجُودِ5، وَمَسْأَلَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي غَسْلِ ثَوْبِهِ مِنَ الِاحْتِلَامِ وَتَرْكِ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ6.
وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ7 عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ أَمِيرِ الْمَدِينَةِ؛ فَجَلَسَ سَاعَةً ثُمَّ دَعَا بِالْوُضُوءِ وَالطَّعَامِ، فَقَالَ: "ابْدَءُوا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي نَفْسَهُ- لَا يَغْسِلُ يَدَهُ. فَقَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لَيْسَ هُوَ الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا، إِنَّمَا هُوَ مِنْ رَأْيِ الْأَعَاجِمِ، وَكَانَ عُمَرُ إِذَا أَكَلَ مَسَحَ يَدَهُ بِبَاطِنِ قَدَمِهِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَأَتْرُكُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ, فَمَا عَادَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ صَالِحٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَا نَأْمُرُ الرَّجُلَ أَنْ لَا يَغْسِلَ
__________
1 في "ف": "من حيث استقرارها"، وقال: "لعله هنا وفي المسألة الثامنة الآتية من حقيقة استقرارها كما يدل عليه سابق الكلام ولاحقه".
2 أي: في الفعل والقول، بل يفرق بهما أو بأحدهما؛ كما سيأتي أنه وإن داوم على ترك أكل الضب والفوم؛ إلا أنه بين حكمهما ببيان سبب امتناعه عن تعاطيهما. "د".
3 واقتصر عليهما؛ لأن لا يرتقي الوهم في المباحات إلى توهمهما واجبات أو محرمات، بخلاف المكروهات كما يأتي بعد. "د".
4 عطف على قوله "بالدوام"؛ فترك عمر المباح من استبدال ثوب آخر بثوبه في هذا المقام، وهو يظن الاستنان ترك لما فيه تسوية للمباح بالمسنون. "د".
5 انظر: "ص112".
6 انظر: "3/ 502، 4/ 109".
7 في "ترتيب المدارك" "1/ 210, ط مكتبة دار الحياة, بيروت".(4/114)
يَدَهُ، وَلَكِنْ إِذَا جَعَلَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ فَلَا، أَمِيتُوا سُنَّةَ الْعَجَمِ، وَأَحْيُوا سُنَّةَ الْعَرَبِ، أَمَّا سَمِعْتَ قَوْلَ عُمَرَ: تَمَعْدَدُوا، وَاخْشَوْشِنُوا، وَامْشُوا حُفَاةً، وَإِيَّاكُمْ وَزِيِّ الْعَجَمِ"1.
وَهَكَذَا إِنْ سَوَّى فِي التَّرْكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَكْرُوهَاتِ؛ رُبَّمَا تُوُهِّمَتْ مَكْرُوهَاتٍ فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ الضَّبَّ وَيَقُولُ: "لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي؛ فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ" 2، وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ؛ فَظَهَرَ حُكْمُهُ.
وَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فِيهِ ثُومٌ لَمْ3 يَأْكُلْ مِنْهُ، قَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ, وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: "لَا وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ مِنْ أَجْلِ ريحه" 4 وفي رواية [أخرى] 5, أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "كُلُوا؛ فَإِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ، إني أخاف أن أؤذي صاحبي" 6.
__________
1 أخرجه علي بن الجعد في "مسنده" "رقم 1030، 1031"، وأبو عوانة في "مسنده" "5/ 456، 459، 460" بإسناد صحيح.
قال "ف": "التمعدد: الصبر على عيش معد بن عدنان، وكانوا أهل قشف وغلظ في المعاش، يقول: فكونوا مثلهم، ودعوا التنعم وزي العجم".
وانظر في شرحه والتعليق عليه: كلام ابن القيم في "الفروسية" "ص120، 121, بتحقيقي"، وترى تخريجه أوعب مما هنا.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، 9/ 663/ رقم 5537"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، 3/ 1543/ رقم 1946" عن خالد بن الوليد, رضي الله عنه.
3 في "ط": "ولم.... فقال له ... ".
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إباحة أكل الثوم وأنه ينبغي لمن أراد خطاب الكبار تركه وكذا ما في معناه، 3/ 1623/ رقم 2053" عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- مرفوعًا.
5 زيادة من "م".
6 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء في الرخصة في الثوم مطبوخًا، 4/ 262/ رقم 1810"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب أكل الثوم والبصل والكراث، 2/ 1116/ رقم 3364"، والحميدي في "المسند" "1/ 162/ رقم 339"، والدارمي في "السنن" "2/ 102" عن أم أيوب -رضي الله عنها- مرفوعًا بألفاظ، واللفظ المذكور لفظ الترمذي؛ إلى أن أوله: "كلوه"، وهو حسن، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، خرجتها في "التعليقات الحسان على تحقيق البرهان في شأن الدخان"، وهو مطبوع ولله الحمد.(4/115)
وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةٍ خَشِيَتْ أَنْ يُطْلِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي، وَأَمْسِكْنِي، وَاجْعَلْ يَوْمِيِ لِعَائِشَةَ. فَفَعَلَ؛ فَنَزَلَتْ1: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا 2 بَيْنَهُمَا صُلْحًا} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 128] ؛ فَكَانَ هَذَا تَأْدِيبًا وَبَيَانًا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لِأَمْرٍ3 رُبَّمَا اسْتُقْبِحَ بِمَجْرَى الْعَادَةِ؛ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمَكْرُوهِ، وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ.
وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ نَحْوٌ مِنَ الأدلة على استقرار المندوبات.
__________
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة النساء، 5/ 249/ رقم 3040" عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس به بهذا اللفظ، وقال: "هذا حديث حسن غريب".
قلت: إسناده ضعيف؛ لأن رواية سماك عن عكرمة خاصة مضطربة؛ كما في "التهذيب" "4/ 204-205".
وله شاهد في "صحيح البخاري" "كتاب التفسير، باب {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا ... } ، 8/ 265/ رقم 4601، وكتاب النكاح، باب {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا ... } ، 9/ 304/ رقم 5206، وباب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها، 9/ 312/ 5212", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرضاع, باب جواز هبتها نوبتها لضرتها, 2/ 1085/ رقم 1463" عن عائشة -رضي الله عنها- بدون ذكر نزول الآية.
2 قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو: "يصَّالحا" بفتح الياء والتشديد، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {يُصْلِحَا} بضم الياء والتخفيف، قاله ابن مجاهد في "السبعة" "238".
3 هو النزول عن حق المرأة في القسم لزوجة أخرى؛ فبين بهذا جوازه ولو لم يحصل هذا البيان لفهم من ترك هذا المباح جريًا على العادة كراهته شرعًا. "د".(4/116)
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:
الْمَكْرُوهَاتُ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهَا مَكْرُوهَاتٍ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُبَاحَاتِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ:
فَلِأَنَّهَا إِذَا أُجْرِيَتْ ذَلِكَ الْمَجْرَى تُوُهِّمَتْ مُحَرَّمَاتٍ، وَرُبَّمَا طَالَ الْعَهْدُ فَيَصِيرُ التَّرْكُ وَاجِبًا1 عِنْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ فِي بَيَانِ ذَلِكَ ارْتِكَابًا لِلْمَكْرُوهِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْبَيَانُ آكَدُ، وَقَدْ يُرْتَكَبُ النَّهْيُ الْحَتْمُ إِذَا كَانَتْ لَهُ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ؛ أَلَا تَرَى إِلَى كَيْفِيَّةِ تَقْرِيرِ الْحُكْمِ2 عَلَى الزَّانِي، وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَهُ: "أَنِكْتَهَا"3 هَكَذَا مِنْ غَيْرِ كِنَايَةٍ، مَعَ أَنَّ ذِكْرَ [هَذَا] اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَعْرِضِ الْبَيَانِ مَكْرُوهٌ أَوْ مَمْنُوعٌ؟ غَيْرَ أَنَّ التَّصْرِيحَ هُنَا آكَدُ، فَاغْتُفِرَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ؛ فَكَذَلِكَ هُنَا، أَلَا تَرَى إِلَى إِخْبَارِ عَائِشَةَ عَمَّا فعلته مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ4، وَقَوْلِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَلَا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ" 5، مَعَ أَنَّ ذِكْرَ مِثْلِ هَذَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْبَيَانِ منهي عنه؟
__________
1 وتقدم أنه إذا أدى الفعل أو الترك إلى اعتقاد الوجوب فيما ليس بواجب وجب البيان بالقول أو الفعل. "د".
2 لو قال: "تقرير الزاني"؛ لكان أخصر وأوضح. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت، 12/ 35/ رقم 6824" عن ابن عباس, رضي الله عنهما.
4 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "ص83".
5 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "ص74"، وأوهم صنيع المصنف في "ص94" أن الحديث في الإصباح جنبًا في الصوم، وأوهم كلامه هنا أن الحديث لعائشة وأنه في التقاء الختانين، مع أنه صرح هناك أنه لأم سلمة، وهو كما في مصادر تخريجه في ذكر جواز التقبيل للصائم.(4/117)
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ارْتِجَازِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِقَوْلِهِ:
......... .......................... ... إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا1
مِثْلُ هَذَا لَا حَرَجَ2 فِيهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي:
فَلِأَنَّهَا إِذَا عُمِلَ بِهَا دَائِمًا وَتُرِكَ اتِّقَاؤُهَا تُوُهِّمَتْ مُبَاحَاتٍ؛ فَيَنْقَلِبُ حُكْمُهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّغْيِيرِ وَالزَّجْرِ عَلَى مَا يَلِيقُ3 بِهِ فِي الْإِنْكَارِ، وَلَا سِيَّمَا الْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي هِيَ عُرْضَةٌ لِأَنْ تُتَّخَذَ سُنَنًا، وَذَلِكَ الْمَكْرُوهَاتُ4 الْمُفَعْوِلَةُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَفِي مَوَاطِنِ الِاجْتِمَاعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالْمَحَاضِرِ الْجُمْهُورِيَّةِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ مَالِكٌ شَدِيدَ الْأَخْذِ عَلَى مَنْ فَعَلَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَكْرُوهَاتِ، بَلْ وَمِنَ الْمُبَاحَاتِ5؛ كَمَا أَمَرَ بِتَأْدِيبِ مَنْ وَضَعَ رِدَاءَهُ أَمَامَهُ مِنَ الْحَرِّ6، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَصْلٌ:
مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَتَفَرَّعُ عَنْهَا قَوَاعِدُ فِقْهِيَّةٌ وَأُصُولِيَّةٌ، مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنِ الْتَزَمَ عِبَادَةً مِنِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ النَّدْبِيَّةِ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَيْهَا مُوَاظَبَةً يَفْهَمُ
__________
1 مضى تخريجه مع شرحه في التعليق على "ص94".
2 بل هو مطلوب متى كان للبيان والفرق بين المكروهات والمحرمات كما هو أصل المسألة. "د".
قلت: معنى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يفعل ما فيه الإثم في قوله السابق، بل المصلحة الراجحة ألغت التحريم؛ فعاد الفعل مباحًا، بل واجبًا في تلك الحالة الخاصة.
3 فالزجر عن المكروه لا يبلغ به مبلغ الزجر عن الحرام. "د".
4 في الجزء الثاني من "الاعتصام" شيء كثير من أمثلتها. "د".
5 أي: التي يتوهم أنها قربة. "د".
6 ستأتي القصة بتمامها.(4/118)
الْجَاهِلُ مِنْهَا الْوُجُوبَ، إِذَا كَانَ مَنْظُورًا إِلَيْهِ مَرْمُوقًا، أَوْ مَظِنَّةً لِذَلِكَ، بَلِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَعَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْوَاجِبِ الْمُكَرَّرِ الِالْتِزَامُ وَالدَّوَامُ عَلَيْهِ فِي أَوْقَاتِهِ، بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ خَاصِّيَّةَ الْمَنْدُوبِ عَدَمُ الِالْتِزَامِ، فَإِذَا الْتَزَمَهُ فَهِمَ النَّاظِرُ مِنْهُ نَفْسَ الْخَاصِّيَّةِ الَّتِي لِلْوَاجِبِ؛ فَحَمَلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَضَلَّ.
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ تَتَأَتَّى عَلَى كَيْفِيَّاتٍ يُفْهَمُ مِنْ بَعْضِهَا فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهَا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْأُخْرَى، أَوْ ضُمَّتْ عِبَادَةٌ أَوْ غَيْرُ عِبَادَةٍ إِلَى الْعِبَادَةِ قَدْ يُفْهَمُ بِسَبَبِ الِاقْتِرَانِ مَا لَا يُفْهَمُ دُونَهُ، أَوْ كَانَ الْمُبَاحُ يَتَأَتَّى فِعْلُهُ عَلَى وُجُوهٍ؛ فَيُثَابَرُ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ تَحَرِّيًا لَهُ وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُ، أَوْ يَتْرُكُ بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، بِحَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي التَّرْكِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ.
وَلِذَلِكَ لَمَّا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ النَّاسُ، قَرَأَهَا فِي كَرَّةٍ أُخْرَى، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ مَوْضِعِهَا تَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ؛ فَلَمْ يَسْجُدْهَا، وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ" 1.
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْوُضُوءِ؛ فَقَالَ: "أَيُحِبُّ أَنْ يَذْبَحَ؟ "2 إِنْكَارًا لِمَا يُوهِمُهُ سُؤَالُهُ مِنْ تَأْكِيدِ الطلب فيها عند الوضوء.
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب سجود القرآن، باب من رأى أن الله -عز وجل- لم يوجب السجود، 2/ 557/ رقم 1077".
2 المشهور عن مالك أنه كان يقول هذه المقولة في الجهر بالتسمية في الصلاة، وليس في الوضوء؛ إذ هي مستحبة عنده فيه، ثم رأيت القرافي في "الذخيرة" "1/ 284" يقول عن التسمية في الوضوء: "استحسنها مالك -رحمه الله- مرة، وأنكرها مرة، وقال: أهو يذبح؟ ما علمت أحدًا يفعل"، وانظر: "عقد الجواهر الثمينة" "1/ 44".(4/119)
وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَا نُبَالِي أَبَدْأَنَا بِأَيْمَانِنَا أَمْ بِأَيْسَارِنَا"1 يَعْنِي: فِي الْوُضُوءِ، مَعَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ التَّيَامُنُ فِي الشَّأْنِ كُلِّهِ2.
وَمِثَالُ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَدَّاةِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ يُلْتَزَمُ فِيهَا كَيْفِيَّةٌ وَاحِدَةٌ إِنْكَارُ مَالِكٍ لِعَدَمِ3 تَحْرِيكِ الرِّجْلَيْنِ في القيام للصلاة4. "استدراك*".
وَمِثَالُ ضَمِّ مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ إِلَى الْعِبَادَةِ حِكَايَةُ الْمَاوَرْدِيِّ فِي مَسْحِ الْوَجْهِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ السُّجُودِ5، وَحَدِيثُ عُمَرَ مَعَ عَمْرٍو: "لَوْ فَعَلْتُهَا لَكَانَتْ سُنَّةً، بَلْ أَغْسِلُ مَا رَأَيْتُ وَأَنْضَحُ مَا لَمْ أَرَ"6.
وَمِثَالُ فِعْلِ الْجَائِزِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْوُضُوءِ قَالَ: "لَا، الْوُضُوءُ مَرَّتَانِ مَرَّتَانِ، أَوْ ثَلَاثٌ ثلاث"، مع أنه
__________
1 المشهور في هذه العبارة أنها لعلي لا لعمر -رضي الله عنهما- كما قال المصنف، وأخرجها عنه أحمد في العلل ومعرفة الرجال "1/ 205, رواية عبد الله"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 39"، وأبو عبيد في "الطهور" "رقم 324, بتحقيقي"، والدارقطني في "السنن" "1/ 88-89"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 42" بإسناد منقطع، لم يسمع عبد الله بن عمرو بن هند من علي، مع ضعف في عبد الله بن عمرو بن هند، قال الدارقطني: "ليس بالقوي". "استدراك*".
2 ودليله ما أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب التيمن في دخول المسجد وغيره، 2/ 523/ رقم 426"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره، 1/ 226/ رقم 268" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله: في طهوره، وترجله، وتنعله".
3 انظر: "المدونة الكبرى" "1/ 196"، و"الاعتصام" "2/ 542, ط ابن عفان".
4 قال ابن رشد: "كره مالك أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى؛ لأن ذلك ليس من حدود الصلاة، وهو من محدثات الأمور". "د".
5 وقد تقدمت "ص112".
6 مضى تخريجه "3/ 502"، وهو صحيح.(4/120)
لَمْ يُحَدَّ فِي الْوُضُوءِ وَلَا فِي الْغُسْلِ إِلَّا مَا أَسْبَغَ.
قَالَ اللَّخْمِيُّ: "وَهَذَا احْتِيَاطٌ وَحِمَايَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا رَأَى مَنْ يَقْتَدِي بِهِ يَتَوَضَّأُ مَرَّةً مَرَّةً فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ لَا يُحْسِنُ الْإِسْبَاغَ بِوَاحِدَةٍ فَيُوقِعُهُ فِيمَا لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِهِ"1.
وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا فُعِلَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَحَيْثُ يُمْكِنُ الِاقْتِدَاءُ بِالْفَاعِلِ، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ وَحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ؛ فَلَا بَأْسَ، كَمَا قَالَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي صِيَامِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ: إِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ مُعْتَقِدًا وَجْهَ الصِّحَّةِ؛ فَلَا بَأْسَ، وَكَذَا قال مالك في المرة الواحدة: "لَا أُحِبُّ ذَلِكَ إِلَّا لِلْعَالِمِ بِالْوُضُوءِ"، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّخْمِيُّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ الْوَاحِدَةَ حَيْثُ لَا يُقْتَدَى بِهِ؛ فَلَا بَأْسَ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ مَالِكٍ فِيهِ عَدَمُ التَّوْقِيتِ2.
فَأَمَّا إِنْ أَحَبَّ الِالْتِزَامَ، [وَأَنْ] 3 لَا يَزُولَ عَنْهُ وَلَا يُفَارِقُهُ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَرُبَّمَا عَدَّهُ الْعَامِّيُّ وَاجِبًا أَوْ مَطْلُوبًا أَوْ مُتَأَكَّدَ الطَّلَبِ بِحَيْثُ لَا يترك، ولا يكون كذلك شرعًا؛ فلا بد فِي إِظْهَارِهِ مِنْ عَدَمِ الْتِزَامِهِ فِي بَعْضِ الأوقات، ولا بد فِي الْتِزَامِهِ مِنْ عَدَمِ إِظْهَارِهِ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ عَلَى الشَّرْطِ4 الْمَذْكُورِ فِي أول كتاب الأدلة.
__________
1 انظر: "الذخيرة" "1/ 286-287, ط دار الغرب" للقرافي.
2 على التحديد بالعدد، وأن المقصود الإسباغ. "د".
3 سقط من "ط".
4 وهو المحافظة على قصد الشارع، وأنه لا بد من اعتبار الكلي والجزئي معًا في كل مسألة؛ فلا تهمل القواعد الكلية، كما لا تهمل الأدلة الجزئية إذا حصل تعارض، لا يحري الأعمال بالطريق المرسومة لذلك، وعلى هذا؛ ففي مسألتنا وجدت أدلة جزئية تدل على أن بعض المطلوبات غير الواجبة أظهرها -صلى الله عليه وسلم- وواظب عليها، وذلك كالإقامة لصلاة الفرض ورفع اليدين عند تكبيرة الإحرام والبدء بالسلام على اليمين وهكذا؛ فهذه وأمثالها لا بد من استثنائها من هذه القاعدة حتى لا تهمل هذه الأدلة الجزئية المتفق عليها، ولا يضر هذا في تأصيل المسألة كما تقدم له في كتاب الأدلة. "د".(4/121)
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا مُضَادٌّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ لِلدَّوَامِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ1؛ لِأَنَّا نَقُولُ: كَمَا يُطْلَقُ الدَّوَامُ عَلَى ما لا يُفَارَقُ أَلْبَتَّةَ كَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَكُونُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، فَإِذَا تُرِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ لَمْ يَخْرُجْ صَاحِبُهُ عَنْ أَصْلِ الدَّوَامِ، كَمَا لَا نَقُولُ فِي الصَّحَابَةِ حِينَ تَرَكُوا التَّضْحِيَةَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ: إِنَّهُمْ غَيْرُ مُدَاوِمِينَ عَلَيْهَا؛ فَالدَّوَامُ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِهِ عَدَمُ التَّرْكِ رَأْسًا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْغَلَبَةُ فِي الْأَوْقَاتِ أَوِ الْأَكْثَرِيَّةُ، بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَى صَاحِبِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ إِطْلَاقًا حَقِيقِيًّا فِي اللُّغَةِ.
وَلَمَّا كَانَتِ الصُّوفِيَّةُ2 قَدِ الْتَزَمَتْ فِي السُّلُوكِ مَا لَا يَلْزَمُهَا حَتَّى سَوَّتْ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ فِي الْتِزَامِ الْفِعْلِ، وَبَيْنَ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ فِي الْتِزَامِ التَّرْكِ، بَلْ سَوَّتْ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فِي التَّرْكِ، وَكَانَ هَذَا النَّمَطُ دَيْدَنُهَا لَا سِيَّمَا مَعَ تَرْكِ أَخْذِهَا بِالرُّخَصِ؛ إِذْ مِنْ مَذَاهِبِهَا عَدَمُ التَّسْلِيمِ لِلسَّالِكِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ سَالِكٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَلْزَمُ الْجُمْهُورَ، بَنَوْا طَرِيقَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَلَامِيذِهِمْ عَلَى كَتْمِ3 أَسْرَارِهِمْ وَعَدَمِ إِظْهَارِهَا، وَالْخَلْوَةِ بِمَا الْتَزَمُوا مِنْ وَظَائِفِ السُّلُوكِ وَأَحْوَالِ الْمُجَاهَدَةِ خَوْفًا مِنْ تَعْرِيضِ مَنْ يَرَاهُمْ وَلَا يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُمْ إِلَى ظَنِّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَاجِبًا، أَوْ ما هو4
__________
1 مضى تخريجه "1/ 526 و2/ 405"، وهو صحيح.
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "وإنما كانت"، وفي "م": "التزمت السلوك".
3 وبذلك كانوا جارين على مقتضى القواعد المتقدمة؛ فلم يخالفوا الشريعة بعملهم. "د".
4 في "ط": "وما هو".(4/122)
جَائِزٌ غَيْرَ جَائِزٍ أَوْ مَطْلُوبًا، أَوْ تَعْرِيضِهِمْ لِسُوءِ الْقَالِ1 فِيهِمْ؛ فَلَا عَتْبَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَا عَتْبَ عَلَيْهِمْ فِي كَتْمِ أَسْرَارِ مَوَاجِدِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ2 يَسْتَنِدُونَ، وَلِأَجْلِ إِخْلَالِ بَعْضِهِمْ بِهَذَا الْأَصْلِ؛ إِمَّا لِحَالٍ غَالِبَةٍ، أَوْ لِبِنَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ صَحِيحٍ3، انْفَتَحَ عَلَيْهِمْ بَابُ سُوءِ الظَّنِّ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَبَابُ فَهْمِ الْجُهَّالِ عَنْهُمْ ما لم يقصدوه، وهذا كله محظور.
__________
1 كذا في "ط"، وفي النسخ المطبوعة: "السؤال القال"!! وكتب "د" ما نصه: "صوابه: "لسوء القال فيهم"، وهو مصدر قال، يغلب ذكره في الشر".
2 وهو أن الالتزام للأعمال الندبية إنما يمنع حيث أمكن الاقتداء فيما يفعل بحضرة الناس. "د".
3 وهذا حالهم وديدنهم، ولذا شكا منهم كبار علماء الملة، وللطرطوشي فتوى مهمة فيهم، انظرها في "تفسير القرطبي" "11/ 237-238".(4/123)
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ 1:
الْوَاجِبَاتُ لَا تَسْتَقِرُّ وَاجِبَاتٍ إِلَّا إِذَا لَمْ يُسَوَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا تُتْرَكُ وَلَا يُسَامَحُ فِي تَرْكِهَا أَلْبَتَّةَ، كَمَا أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ لَا تَسْتَقِرُّ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا لَمْ يُسَوَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا تُفْعَلُ وَلَا يُسَامَحُ فِي فِعْلِهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّا نَسِيرُ مِنْهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ مَا إِذَا تُرِكَتْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا حُكْمٌ دُنْيَوِيٌّ2، وَكَذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مَا إِذَا فُعِلَتْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا أَيْضًا حُكْمٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَا كَلَامٌ فِي مُتَرِتِّبَاتِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ تَحَكُّمَاتِ الْعِبَادِ.
كَمَا أَنَّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ مَا إِذَا تُرِكَتْ وَمِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مَا إِذَا فُعِلَتْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا3 حُكْمٌ دُنْيَوِيٌّ مِنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.
فَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ يُخَالِفُ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ؛ فَمِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ فِي تَغْيِيرِ أَحْكَامِهَا تَغْيِيرُهَا فِي أَنْفُسِهَا؛ فَكُلُّ مَا يُحْذَرُ فِي عَدَمِ الْبَيَانِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ يُحَذَرُ هُنَا، لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هُنَالِكَ يَجْرِي مَثَلُهَا هُنَا.
وَيَتَبَيَّنُ هَذَا الْمَوْضِعُ أَيْضًا بِأَنْ يُقَالَ: إِذَا وَضَعَ الشَّارِعُ حَدًّا فِي فِعْلٍ مُخَالِفٍ فَأُقِيمَ ذَلِكَ الْحَدُّ عَلَى الْمُخَالِفِ؛ كَانَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ [فِيهِ] مُقَرَّرًا مُبَيِّنًا، فَإِذَا لَمْ يُقَمْ؛ فَقَدْ أُقِرَّ عَلَى غَيْرِ مَا أَقَرَّهُ الشَّارِعُ، وَغُيِّرَ إِلَى الْحُكْمِ الْمُخَالِفِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ الحكم، ووقع بيانه مخالفًا؛ فيصير المنتصب
__________
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 686-687".
2 في "ط": "ديني".
3 في "ط": "عليه".(4/124)
لِتَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ قَدْ خَالَفَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ؛ فَيَجْرِي1 فِيهِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا رَأَى الْجَاهِلُ مَا جَرَى؛ تَوَهَّمَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَرَّرَ الْمُنْتَصِبُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهٍ ثُمَّ أَوْقَعَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ؛ حَصَلَتِ الرِّيبَةُ، وَكَذَّبَ الْفِعْلُ الْقَوْلَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَسَادٌ، وَبِهَذَا الْمِثَالِ2 يَتَبَيَّنُ أَنَّ وَارِثَ النَّبِيِّ يَلْزَمُهُ إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا؛ فِي أَنْفُسِهَا، وَفِي لَوَاحِقِهَا، وَسَوَابِقِهَا، وَقَرَائِنِهَا، وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا شَرْعًا؛ حَتَّى يَكُونَ دِينُ اللَّهِ بَيِّنًا عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَإِلَّا؛ كَانَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية [البقرة: 159] .
__________
1 في "ط": "فجرى".
2 في الأصل: "المثل".(4/125)
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ:
لَا يُخْتَصُّ هَذَا الْبَيَانُ الْمَذْكُورُ بِالْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، بَلْ هُوَ لَازِمٌ أَيْضًا فِي الْأَحْكَامِ الرَّاجِعَةِ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ؛ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ وَالشُّرُوطَ وَالْمَوَانِعَ وَالْعَزَائِمَ وَالرُّخَصَ وَسَائِرَ الْأَحْكَامِ الْمَعْلُومَةِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، لَازِمٌ بَيَانُهَا قَوْلًا وَعَمَلًا، فَإِذَا1 قُرِّرَتِ الْأَسْبَابُ قَوْلًا، وَعُمِلَ عَلَى وَفْقِهَا إِذَا انْتَهَضَتْ؛ حَصَلَ بَيَانُهَا لِلنَّاسِ، فِإِنْ2 قُرِّرَتْ، ثُمَّ لَمْ تُعْمَلْ مَعَ انْتِهَاضِهَا كَذَّبَ الْقَوْلُ الْفِعْلَ، وَكَذَلِكَ الشُّرُوطُ إِذَا انْتَهَضَ السَّبَبُ مَعَ وُجُودِهَا فَأُعْمِلَ، أَوْ مَعَ فُقْدَانِهَا فَلَمْ يُعْمَلْ؛ وَافَقَ الْقَوْلُ الْفِعْلَ، فَإِنْ عُكِسَتِ الْقَضِيَّةُ وَقَعَ الْخِلَافُ؛ فَلِمَ يَنْتَهِضِ الْقَوْلُ بَيَانًا، وَهَكَذَا الْمَوَانِعُ وَغَيْرُهَا.
وَقَدْ أَعْمَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ فِي الْإِحْلَالِ مِنَ الْعُمْرَةِ3 وَالْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ4، وَأَعْمَلَ الْأَسْبَابَ، وَرَتَّبَ الْأَحْكَامَ حَتَّى فِي نَفْسِهِ، حِينَ أَقَصَّ مِنْ نَفْسِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-5, وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، وَالشَّوَاهِدُ [عَلَى هَذَا] لَا تُحْصَى، وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ تحت هذه الجملة، والتنبيه كافٍ.
__________
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "فإن"، وكتب "ق": "لعله: "وإن"".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "وإن".
3 في عمرة الحديبية أحل هو والصحابة، وأما في عمرة حجته؛ فالصحيح أنه كان قارنًا وساق الهدي، فلم يحل هو لذلك، ولكنه أمر من لم يسق الهدي بالإحلال من العمرة، سواء أكان مهلًّا بالعمرة فقط أم كان مهلًّا في أول أمره بالحج ثم فسخه في عمرة؛ كما فعله أكثر الصحابة. "د".
قلت: وإحلاله في عمرة الحديبية مضى لفظه، وتخريجه في التعليق على "ص87".
4 مضى تخريجه "ص87-88".
5 يشير المصنف إلى ما أخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الديات، باب القود من الضربة وقص الأمير من نفسه، 4/ 183/ رقم 4537"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب القسامة، باب القصاص من السلاطين، 8/ 34"، وأحمد في "المسند" "1/ 41"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 480"، وأبو يعلى في "المسند" "1/ 174-175/ رقم 196"، والبيهقي في =(4/126)
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيَانٌ صَحِيحٌ لَا إِشْكَالَ في صحته؛ لأنه لذلك بعث، قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] , وَلَا خِلَافَ فِيهِ1.
وَأَمَّا بَيَانُ الصَّحَابَةِ فَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى مَا بَيَّنُوهُ؛ فَلَا إشكال في صحته أيضًا،
__________
= "السنن الكبرى" "9/ 29، 42" و"الشعب" "5/ 555/ رقم 2379"، والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 170، 172-173"، والآجري في "أخلاق أهل القرآن" "رقم 26"، ومسدد كما في "المطالب العالية" "ق 75/ ب"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 439" عن أبي فراس, وهو مقبول, أن عمر -رضي الله عنه- قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه".
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 468/ رقم 18040"، والبزار في "مسنده" "رقم 285"، والدارقطني في "الأفراد" "ق20/ 1, الأطراف" من وجه آخر عنه، وفيه ضعف.
وقد وردت قصص كثيرة تشهد لهذا الحديث، منها:
عند الطبراني: عن عبد الله بن جبير الخزاعي، واختلف في صحبته، والراجح أنه ليس له صحبة، ولذا قال عنه في "التقريب": "مجهول".
وعند عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 465-466/ رقم 18037": عن أبي سعيد الخدري، وإسناده واهٍ جدًّا، فيه أبو هارون العبدي، واسمه عمارة بن جوين، وهو متهم.
وعند عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 469/ رقم 18042" من مرسل سعيد بن المسيب.
وعند عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 466، 467/ رقم 18038، 18039"، من مرسل الحسن البصري.
وكذا عند ابن إسحاق, كما في "سيرة ابن هشام" "2/ 278"، وعبد الرزاق كما في "الإصابة" "3/ 218" عن سواد بن غزية، وإسنادهما ضعيف.
ومجموع هذه الطرق صالح لصحة معنى ما قال المصنف، والله أعلم.
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 236".(4/127)
كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى الْغُسْلِ مِنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ المبين لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [الْمَائِدَةِ: 6] ، وَإِنْ لَمْ يُجْمِعُوا1 عَلَيْهِ؛ فَهَلْ يَكُونُ بَيَانُهُمْ حُجَّةً، أَمْ لَا؟ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ وَتَفْصِيلٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَرَجَّحُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ فِي الْبَيَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَتُهُمْ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ؛ فَإِنَّهُمْ عَرَبٌ فُصَحَاءُ، لَمْ تَتَغَيَّرْ أَلْسِنَتُهُمْ وَلَمْ تَنْزِلْ عَنْ رُتْبَتِهَا الْعُلْيَا فَصَاحَتُهُمْ؛ فَهُمْ أَعْرَفُ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا جَاءَ عَنْهُمْ قَوْلٌ أَوْ عَمَلٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ؛ صَحَّ اعْتِمَادُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
وَالثَّانِي: مُبَاشَرَتُهُمْ لِلْوَقَائِعِ وَالنَّوَازِلِ، وَتَنْزِيلِ الْوَحْيِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَهُمْ أَقْعَدُ فِي فَهْمِ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ2 وَأَعْرَفُ بِأَسْبَابِ التَّنْزِيلِ، وَيُدْرِكُونَ مَا لَا يُدْرِكُهُ غَيْرُهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ.
فَمَتَى جَاءَ عَنْهُمْ تَقْيِيدُ بَعْضِ الْمُطْلَقَاتِ، أَوْ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْعُمُومَاتِ؛ فَالْعَمَلُ عَلَيْهِ صَوَابٌ، وَهَذَا3 إِنْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ خالف بعضهم؛ فالمسألة اجتهادية.
__________
1 أي: بأن اختلفوا، أو بين بعضهم ولم ينقل بيان عن غيره يخالفه، وقد فصل فجعل الأول محل اجتهاد، بمعنى أنه لا يترجح الوقوف عند بيانهم لهذا الاختلاف، وجعل الثاني محل الاعتماد والترجح على بيان غيرهم. "د".
قلت: انظر في ذلك "المسودة" "ص315-317، 321"، و"البرهان" "2/ 1359"، و"شرح اللمع" "2/ 749"، و"أصول السرخسي" "2/ 105"، و"التمهيد" "3/ 217"، و"الإحكام" "4/ 149" للآمدي، و"تيسير التحرير" "3/ 132"، و"شرح تنقيح الفصول" "445"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 14، 573-576".
2 أي: التي تجيء من جهة الحوادث والنوازل المقتضية لنزول الآية والحديث، أما القرائن المقالية؛ فيشترك فيهما معهم غيرهم من أهل الفهم في ذلك، وإن كان مقتضى الوجه الأول أن بيانهم أرجح من جهة اللغة أيضًا. "د".
3 في "ط": "هذا" بغير واو.(4/128)
مِثَالُهُ قَوْلُهُ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ" 1؛ فَهَذَا التَّعْجِيلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ إِيقَاعُهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا؛ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُصَلِّيَانِ الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَا، ثُمَّ يُفْطِرَانِ بَعْدَ الصَّلَاةِ2 بَيَانًا أَنَّ هَذَا التَّعْجِيلَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، بَلْ إِذَا كَانَ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ فَهُوَ تَعْجِيلٌ أَيْضًا، وَأَنَّ التَّأْخِيرَ الَّذِي يَفْعَلُهُ أَهْلُ المشرق3 شيء
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب تعجيل الإفطار، 4/ 198/ رقم 1957"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، 2/ 771/ رقم 1098" عن سهل بن سعد مرفوعًا.
2 أخرجه مالك في "الموطأ" "193, رواية يحيى و128, رواية محمد بن الحسن ورقم 774, رواية أبي مصعب"، وعبد الرزاق في "المصنف" "4/ 225"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 238"، وقد صحح نحوه ابن عبد البر في "التمهيد" "22/ 23-24".
3 يشير المصنف "وهو من أهل القرن الثامن الهجري" إلى تأخير أهل المشرق الفطر في زمانه وأوانه إلى بعد الغروب, وقد شكا الحافظ ابن حجر العسقلاني "ت 852هـ" من هذا الصنيع؛ فقال في "فتح الباري" "4/ 199" في آخر شرحه "باب تعجيل الإفطار" من "صحيح البخاري"، قال ما نصه: "من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان ... وقد جرهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت، زعموا! فأخروا الفطر، وعجلوا السحور، وخالفوا السنة؛ فلذلك قل عنهم الخير، وكثر فيهم الشر، والله المستعان".
وكتب "د" هنا ما نصه: "من هم أهل المشرق الذين كان عمر وعثمان يقصدان مخالفتهم، وبيان أنهم متعمقون؟ "، وهذا ينبئ عن عدم فهم عبارة المصنف، وقد أخرج مالك في "الموطأ" "193, رواية يحيى ورقم 773, رواية أبي مصعب", ومن طريقه الفريابي في "الصيام" "رقم 57"، والبيهقي في "الشعب" "7/ 491/ رقم 3631"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 12" عن سعيد بن المسيب رفعه: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، ولم يؤخروه تأخير أهل المشرق".
وأخرج الفريابي في "الصيام" "رقم 46-48"، وعبد الرزاق في "المصنف" "4/ 225/ رقم 7589" عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن عمر قوله: "لن يزالوا -أي: أهل الشام- ما عجلوا الفطر، ولم يتنطعوا تنطع أهل العراق، وفيه قصة، وإسناده قوي، ويظهر لي أن مرسل سعيد السابق عند مالك في آخره إدراج، وهو "ولم يؤخروه ... "، وأهل العراق هم المرادون به، وذكر ابن عبد البر مرسل سعيد وحذف آخره، وتكلم عمن وصل أوله فحسب على غير عادته، ولم يفطن للإدراج الذي فيه، راجع "التمهيد" "20/ 22"، و"الاستذكار" "10/ 40".(4/129)
آخَرُ دَاخِلٌ فِي التَّعَمُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ1، وَكَذَلِكَ2 ذُكِرَ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الْإِفْطَارَ3؛ فَنُدِبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى التَّعْجِيلِ.
وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ" 4 احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مُقَيَّدَةً5 بِالْأَكْثَرِ، وَهُوَ أَنْ يُرَى بَعْدَ
__________
1 مضت بعض النصوص "1/ 522 و2/ 228". وفي "ط": "وداخل ... ".
2 يعني: وبيانًا لأن ندب التعجيل لمخالفة اليهود المتعمقين في التأخير لا يستدعي أن يكون الإفطار قبل الصلاة؛ فينتظم هذا في سلك ما قبله. "د".
3 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الصوم، باب ما يستحب من تعجيل الفطر، 2/ 305/ رقم 2353"، والنسائي في "الكبرى", كما في "التحفة" "11/ 5/ رقم 15024"، وأحمد في "المسند" "2/ 450"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 11"، والفريابي في "الصيام" "رقم 36، 37"، وابن خزيمة في "الصحيح" "رقم 2060"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 273-274/ رقم 3503، 3509, الإحسان"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 431"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 237" و"الشعب" "7/ 492/ رقم 3633"، وابن عبد البر في "التمهيد" "22/ 23" بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر, إن اليهود والنصارى يؤخرون".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا" 4/ 119/ رقم 1906"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، 2/ 759/ رقم 1080" عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا.
5 أي: فيكون فطر اليوم التالي للرؤية إذا وقعت بعد الغروب، أما إذا رئي على غير الأكثر وهو الرؤية قبل الغروب؛ فإن الفطر لليوم نفسه لا للتالي؛ فبين عثمان أن هذا التقييد غير لازم، وأن الفطر لليوم التالي للرؤية مطلقًا قبل الغروب وبعده، فلم يفطر حتى أمسى، والمسألة خلافية؛ فأبو يوسف يقول: إن الرؤية نهارًا قبل الزوال للماضي، وبعده للمستقبل، وأبو حنيفة ومالك والشافعي كعثمان يرون أنها لا يعتد بها للماضي مطلقًا قبل الزوال وبعده. "د".(4/130)
غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ فَبَيَّنَ عُثْمَانُ [بْنُ عَفَّانَ] أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، فَرَأَى الْهِلَالَ فِي خِلَافَتِهِ قَبْلَ الْغُرُوبِ، فَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى أَمْسَى وَغَابَتِ الشَّمْسُ1.
وَتَأَمَّلْ؛ فَعَادَةُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي "مُوَطَّئِهِ" وَغَيْرِهِ الْإِتْيَانُ بِالْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ مُبَيِّنًا بِهَا السُّنَنَ، وَمَا يُعْمَلُ بِهِ مِنْهَا وَمَا لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَمَا يُقَيَّدُ بِهِ مُطْلَقَاتُهَا، وَهُوَ دَأْبُهُ وَمَذْهَبُهُ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَمِمَّا بَيَّنَ كَلَامُهُمُ اللُّغَةَ أَيْضًا، كَمَا نَقَلَ مَالِكٌ فِي دُلُوكِ الشَّمْسِ وَغَسَقِ اللَّيْلِ كَلَامَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ2، وَفِي مَعْنَى السَّعْيِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ3، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَةَ: 9] ، وَفِي مَعْنَى الْإِخْوَةِ أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ4 أَنَّ الْإِخْوَةَ اثنان فصاعدًا5، كما تبين بكلامهم
__________
1 أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" "2/ 480, ط دار الفكر"؛ قال: "حدثنا حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة أن الناس رأوا هلال الفطر حين زاغت الشمس؛ فأفطر بعضهم، فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: أما أنا؛ فمتم صيامي إلى الليل". وقال مالك في "الموطأ" "1/ 287, رواية يحيى": "بلغني أن الهلال رئي في زمان عثمان بن عفان بعشي، فلم يفطر عثمان حتى أمسى، وغابت الشمس". وانظر: "الاستذكار" "10/ 19".
2 انظر: "الموطأ" 33, رواية يحيى و1/ 10، 11, رواية أبي مصعب".
3 انظر: "الموطأ" "87, رواية يحيى و1/ 174-175, رواية أبي مصعب"، و"معجم ابن الأعرابي" "رقم 1134"، و"البرهان في علوم القرآن" "1/ 222".
قال "ماء": "أي: امشوا إليه بدون إفراط في السرعة، والمراد بذكر الله هنا الخطبة، والصلاة وذروا البيع؛ أي: اتركوا المعاملة، على أن البيع مجاز عن ذلك؛ فيعم البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات".
4 في "الموطأ" والأصل و"ط": "مضت"، وفي جميع النسخ المطبوعة: "قضت".
5 انظر: "الموطأ" "313, رواية يحيى و2/ 524, رواية أبي مصعب".(4/131)
مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
لَا يُقَالُ: [إِنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ رَاجِعٌ إِلَى تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ مِنَ النِّزَاعِ وَالْخِلَافِ1؛ لِأَنَّا نَقُولُ:] 2 نَعَمْ، هُوَ تَقْلِيدٌ، وَلَكِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا لَا يُمْكِنُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ عَلَى وَجْهِهِ؛ إِلَّا لَهُمْ لِمَا3 تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمْ عَرَبٌ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ هُوَ عَرَبِيُّ الْأَصْلِ وَالنِّحْلَةِ، [وَبَيْنَ] 2 مَنْ تَعَرَّبَ.
................................. ... غَلَبَ التَّطَبُّعُ شِيمَةَ الْمَطْبُوعِ4
وَأَنَّهُمْ شَاهَدُوا مِنْ أَسْبَابِ التَّكَالِيفِ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهَا مَا لَمْ يُشَاهِدْ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَنَقْلُ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ على ما هي عليه كالمعتذر؛ فلا بد مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ فَهْمَهُمْ فِي الشَّرِيعَةِ أَتَمُّ وَأَحْرَى بِالتَّقْدِيمِ، فَإِذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي السُّنَّةِ مِنْ بَيَانِهِمْ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ التَّفْسِيرِ، بِحَيْثُ لَوْ فَرَضْنَا عَدَمَهُ لَمْ يُمْكِنْ تَنْزِيلُ النَّصِّ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ؛ انْحَتَمَ الْحُكْمُ بِإِعْمَالِ ذَلِكَ الْبَيَانِ لِمَا ذُكِرَ، وَلِمَا جاء في
__________
1 أي: في تقليده، وكذا في حجية مذهبه؛ فقد أجمعوا على أنه ليس حجة على غيره من الصحابة المجتهدين، واختلفوا في كونه حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين مقدمًا على القياس، والمختار أنه ليس بحجة، راجع: "الأحكام" "4/ 201" للآمدي، والمؤلف اختار طريقًا وسطًا يؤيد فيه القول بالحجية في نوع منه، وهو ما احتاج إلى القرائن الحالية التي هم أعرف بها من غيرهم، وكذا ما يحتاج إلى القوة في معرفة لغة العرب، وإذا قرأت مسألتي مذهب الصحابي في "الأحكام" حكمت بأنهما مأخذ المؤلف وأصله الذي استنبط منه مسألته لهذه، وكما أن الخلاف حاصل في حجية مذهب الصحابي على من بعده، كذلك الخلاف في تقليده حاصل، والمختار المنع أيضًا إلا للعامي إذا عرف حقيقة مذهب الصحابي؛ فيجوز له تقليده. "د".
2 في "د": "كما".
3 سقط من "ط".
4 عزاه الشريشي في "شرح المقامات" "2/ 507" للشريف الرضي، وهو في "شعره" "ص78" جمع ضحى عبد العزيز، وهو ضمن قصيدة طويلة في الغزل، وأوله:
هيهات لا تتكلفن في الهوى ... ...............................(4/132)
السُّنَّةِ مِنِ اتِّبَاعِهِمْ وَالْجَرَيَانِ عَلَى سُنَنِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تمسكوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ" 1، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأحاديث؛ فإنها عاضدة لهذا
__________
1 أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 126، 127"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 4/ 200-201/ رقم 6407"، والترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 5/ 44/ رقم 2676"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، 1/ 15-16 و16، 17/ رقم 42-44"، وابن جرير في "جامع البيان" "10/ 212"، والدارمي في "السنن" "1/ 44"، والبغوي في "شرح السنة" "1/ 205/ رقم 102"، وابن أبي عاصم في "السنة" "1/ 17، 18، 19، 20، 29، 30"، ومحمد بن نصر في "السنة" "ص21، 22"، والحارث بن أبي أسامة في "المسند" "ق 19, مع بغية الباحث"، والآجري في "الشريعة" "ص46، 47"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 104/ رقم 45, مع الإحسان"، والطبراني في "المعجم الكبير "18/ 245، 246، 247، 248، 249، 257"، والمعجم الأوسط" "رقم 66"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 222، 224"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 95، 96، 97"، و"المدخل إلى الصحيح" "1/ 1"، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" "2/ 423"، و"الفقيه والمتفقه" "1/ 176-177"، والبيهقي في "مناقب الشافعي" "1/ 10-11"، و"الاعتقاد" "ص113"، و"دلائل النبوة" "6/ 541-542"، و"المدخل إلى السنن الكبرى" "ص115-116/ رقم 50 و51"، و"السنن الكبرى" "10/ 114"، وابن وضاح في "البدع" "ص23، 24"، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" "5/ 220، 221 و10/ 114، 115"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "2/ 69"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 74، 75"، والهروي في "ذم الكلام" "69/ 1-2"، وابن عساكر في "تاريخ دمش" "11/ 265/ 1-266/ 1"، وأحمد بن منيع في "المسند"؛ كما في "المطالب العالية" "3/ 89" من طرق كثيرة عن العرباض بن سارية, رضي الله عنه.
وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وقال الهروي: "وهذا من أجود حديث في أهل الشام"، وقال البزار: "حديث ثابت صحيح"، وقال البغوي: "حديث حسن"، وقال ابن عبد البر: "حديث ثابت"، وقال الحاكم: "صحيح ليس له علة"، ووافقه الذهبي، وقال أبو نعيم: "هو حديث جيد من صحيح الشاميين"، وصححه الضياء المقدسي في "جزء في اتباع السنن واجتناب البدع" "رقم 2"، وقال ابن كثير في "تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب" "رقم 36": صححه الحاكم وقال: ولا أعلم له علة، وصححه أيضًا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني والدغولي، وقال شيخ الإسلام الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام وأحسنه".
وانظر: "إرواء الغليل" "8/ 107/ رقم 2455"، و"جامع العلوم والحكم" "ص187"، و"المعتبر" للزركشي "187/ 1" مخطوط.(4/133)
الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ1.
أَمَّا إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ؛ فَهُمْ وَمَنْ سِوَاهُمْ فِيهِ شَرْعٌ سَوَاءٌ؛ كَمَسْأَلَةِ الْعَوْلِ، وَالْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ، وَكَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الرِّبَا الَّتِي قَالَ فِيهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا آيَةَ الرِّبَا؛ فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ"2، أَوْ كَمَا قَالَ؛ فَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ لِلْجَمِيعِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الصَّحَابَةُ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَفِيهِ خِلَافٌ3 بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ وَرَأْيَهُ حُجَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا وَيَعْمَلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ؛ كَالْأَحَادِيثِ وَالِاجْتِهَادَاتِ النَّبَوِيَّةِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ؛ فَلَا يُحْتَاجُ إلى ذكره ههنا.
__________
1 وإنما قال: "في الجملة"؛ لأنه لا دلالة فيه على عموم الاقتداء في كل ما يقتدي فيه، فيمكن حمله على الاقتداء بهم فيما يرونه عنه -صلى الله عليه وسلم- وليس الحمل على غيره أولى من الحمل عليه كما قال الآمدي. "د".
2 أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 36"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب التجارات، باب التغليظ في الربا، 2/ 764/ رقم 2276"، وابن حزم في "المحلى" "8/ 477"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 365" لابن جرير وابن المنذر، وهو من طريق سعيد بن المسيب عن عمر، وهو لم يسمع منه، وله طرق أخرى به يصح، انظر: "مسند الفاروق" "2/ 571"، لابن كثير، و"صحيح سنن ابن ماجه" "2/ 28".
3 قد علمته، وقوله: "كالأحاديث"؛ أي: فيقدم مذهبه على القياس، وممن ذهب إليه مالك والشافعي وابن حنبل في قول لهما وهو رأي الرازي وبعض أصحاب أبي حنيفة. "د".(4/134)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:
الْإِجْمَالُ إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِمَا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ، وَإِمَّا غَيْرُ1 وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الْآيَةَ2 [الْمَائِدَةِ: 3] .
وَقَوْلِهِ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 138] .
وَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ 3 لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النَّحْلِ: 44] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} [الْبَقَرَةِ: 2] ، {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِين} [لُقْمَانَ: 3] ، وَإِنَّمَا كَانَ هُدًى لِأَنَّهُ مُبَيَّنٌ، وَالْمُجْمَلُ لَا يَقَعُ بِهِ بَيَانٌ، وَكُلُّ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْآيَاتِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ, لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا" 4.
وَفِيهِ: "تَرَكْتُ فِيكُمُ اثْنَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بهما؛ كتاب الله،
__________
1 إذا قلنا: إن الراسخين يعلمون المتشابه، أما إن قلنا: إنهم لا يعلمونه؛ فليس التكليف واقعًا إلا بالإيمان به على أنه من عند الله، وأنه على ما أراده منه حق. "د".
2 لا حاجة إلى بقية الآية فيما هو بصدده. "د".
3 أي: فإذا بقي شيء مجمل بدون بيان لم يكن أدى وظيفته، وحاشاه, صلى الله عليه وسلم. "د".
4 هو الجزء الأول من حديث العرباض المتقدم قريبًا "ص133"، وفيه: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء ... "، وهو صحيح.(4/135)
وَسُنَّتِي" 1.
وَيُصَحِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاءِ: 59] ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا بَيَانٌ لِكُلِّ مُشْكِلٍ، وَمَلْجَأٌ مِنْ كُلِّ مُعْضِلٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا تَرَكْتُ 2 شَيْئًا مِمَّا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ" 3.
وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ مُجْمَلٌ؛ فَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ؛ كَبَيَانِهِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَسَائِرِ أَحْكَامِهَا، وَلِلزَّكَاةِ وَمَقَادِيرِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَمَا تُخْرَجُ مِنْهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَلِلْحَجِّ إِذْ قَالَ:
"خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" 4، وما أشبه ذلك.
__________
1 ورد من حديث مجموعة من الصحابة، وهي بمفرداتها لا تخلو من ضعف، ولكنها تجبر بتعدد طرقها، انظر تفصيل ذلك في "السلسلة الصحيحة" "رقم 1761".
2 وهل هذا يقتضي أن كل ما أمر به أو نهى عنه لا إجمال فيه؟ ومثله يقال في الآية الأولى؛ إلا أن إتمام النعمة فيها يرشح استقامة الاستدلال بها؛ لأنه إذا بقي إجمال وعدم فهم لبعض الشريعة لا تكون النعمة فيها تامة، وأيضًا؛ فإن كمال الدين لا يقال إذا بقي منه شيء غير مفهوم المراد، أما الحديث؛ فالسؤال فيه لا يزال متوجهًا. "د".
3 أخرجه الشافعي في "المسند" "7, بدائع المنن"، وابن خزيمة في "حديث علي بن حجر" "3/ رقم 100" ,كما في "الصحيحة" "رقم 1803"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه""1/ 92-93" عن المطلب بن حنطب به مرفوعًا، وهو مرسل حسن، وله شاهد عن أبي ذر، أخرجه أحمد في "المسند" "5/ 153، 162"، والطبراني في "الكبير" "1647"، والبزار في "المسند" "رقم 147, زوائده"، وإسناد أحمد صحيح.
4 مضى تخريجه "3/ 246".(4/136)
ثُمَّ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا1 لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْجَمِيعُ بَيَانٌ مِنْهُ عَلَيْهِ, الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ وُجِدَ فِي الشَّرِيعَةِ مُجْمَلٌ2، أَوْ مُبْهَمُ الْمَعْنَى، أَوْ مَا لَا يُفْهَمُ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلَّفَ بِمُقْتَضَاهُ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَطَلَبُ مَا لَا يُنَالُ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ هَذَا الْإِجْمَالُ فِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى فيه: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات} [آل عمران: 7] .
__________
1 كزكاة الفطر، وأكثر المناهي في البيع كالنجش والغرر وتحريم لحوم الحمر الأهلية كما قال, صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه". "د".
قلت: وسيأتي تخريجه في "ص190-191، 322-323"، وهو صحيح.
2 "مجمل" كالمشترك "أو مبهم" خفي المعنى، كالأب نوع من النبات خفي معناه على عمر كما سبق، "أو ما لا يفهم"؛ أي: لا يعقل معناه المتبادر منه وضعًا؛ كالوجه، واليد، والمجيء المنسوبة لله سبحانه، هذا هو مقتضى التعبير بأو، ويصح أن يكون تنويعًا في العبارة، والكل مجمل بالمعنى العام أي الذي لم يتضح المراد منه بسبب من الأسباب المشار إليها آنفًا؛ فلا تكون متقابلة، وقوله بعد: "فلا يتصور أن يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به" يقتضي احتمالًا ثالثًا، وأن المراد منها واحد وهو المتشابه؛ فلا يدخل فيه مثل الأب الذي وإن توقف فيه عمر؛ فقد عرفه غيره. "د".
قلت: انظر لزامًا ما تقدم "2/ 195، 257 و3/ 319، 323"، حول مذهب السلف في الصفات؛ فقد أخطأ المعلق هنا، ولم يصب الحق في هذا الباب، والله الموفق للصواب، وقرر ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "7/ 391-392" أن لفظ المجمل في اصطلاح الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وإسحاق وغيرهم، سواء لا يريدون بالمجمل ما لا يفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين, وأخطأ في ذلك, بل المجمل ما لا يكفي وحده في العمل به, وإن كان ظاهرًا حقًّا.
وانظر: "مباحث في المجمل والمبين من الكتاب والسنة" لعبد القادر شحاتة "ص10 وما بعدها"، دار البيان للنشر والتوزيع، و"بيان النصوص التشريعية؛ طرقه وأنواعه" لبدران أبو العينين بدران "ص729".(4/137)
وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مُتَشَابِهًا؛ بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَكْلِيفٌ إِلَّا الْإِيمَانُ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ، لَا عَلَى مَا يَفْهَمُ الْمُكَلَّفُ مِنْهُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ....} إِلَى قَوْلِهِ: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 7] .
وَالنَّاسُ في المتشابه1 المراد ههنا عَلَى مَذْهَبَيْنِ2: فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَهُ؛ فَلَيْسَ بِمُتَشَابِهٍ عَلَيْهِمْ وَإِنْ تَشَابَهَ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَسَائِرِ الْمُبَيِّنَاتِ الْمُشْتَبِهَةِ عَلَى غَيْرِ الْعَرَبِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ النَّاسِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَهُ وَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ؛ فَالتَّكْلِيفُ بِمَا يُرَادُ بِهِ مَرْفُوعٌ بِاتِّفَاقٍ؛ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مُجْمَلٌ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ ثُمَّ يُكَلَّفُ بِهِ، وَهَكَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنِ الرَّاسِخِينَ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِعِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ فَذَلِكَ الْغَيْرُ لَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ بِمُقْتَضَاهُ، مَا دَامَ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِمْ؛ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَفِعُ تَشَابُهُهُ؛ فَيَصِيرُ كَسَائِرِ الْمُبَيَّنَاتِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ مُتَشَابِهًا فِي الْقُرْآنِ، وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ مُشْتَبِهَاتٍ بِقَوْلِهِ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ" 3، وَهَذِهِ الْمُشْتَبِهَاتُ مُتَّقَاةٌ4 بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لِقَوْلِهِ: "فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ استبرأ لدينه
__________
1 وهو المتشابه الحقيقي، وهو ما لم يجعل لنا سبيل إلى فهم حقيقة المراد منه ولا نصب دليل على ذلك. "د".
2 انظر لزامًا ما قدمناه "3/ 319".
3 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219-1220/ رقم 1599" عن النعمان بن بشير, رضي الله عنه.
4 في الأصل: "متلقاة" وفي "ط": "متعلقات".(4/138)
وَعِرْضِهُ" 1؛ فَهِيَ إِذًا مُجْمَلَاتٌ وَقَدِ انْبَنَى عَلَيْهَا التَّكْلِيفُ2، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] قَدَ انْبَنَى عَلَيْهَا التَّكْلِيفُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الْإِجْمَالَ وَالتَّشَابُهَ لَا يَتَعَلَّقَانِ3 بِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ؟
فَالْجَوَابُ: إِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي التَّشَابُهِ الْوَاقِعِ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ، وَتَشَابُهِ الْحَدِيثِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ حَسْبَمَا مَرَّ فِي فَصْلِ4 التَّشَابُهِ، وَإِنْ سَلِمَ؛ فَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ تَكْلِيفٌ بِمَعْنَاهُ الْمُرَادِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُجْمَلٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَبِأَنْ يَجْتَنِبَ فِعْلَهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ" 5.
وَيَجْتَنِبَ النَّظَرَ فِيهِ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ؛ كَقَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] .
وَفِي الْحَدِيثِ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا" 6، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
هَذَا مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ، وَإِلَّا؛ فَالتَّكْلِيفُ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، مِنْ حَيْثُ يُعْتَقَدُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، أَوْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ إِنْ صَحَّ تصرف العباد فيه، إلى
__________
1 انظر الحاشية رقم "3" في الصفحة السابقة.
2 أي: باتقائها واجتنابها. "د".
3 في "ط": "يعلقان".
4 في النوع الثالث من المتشابه من المسألة الثالثة هناك؛ فراجعه. "د".
5 مضى تخريجه قريبًا.
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، 3/ 29/ رقم 1145"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، 1/ 521/ رقم 758" عن أبي هريرة مرفوعًا.
وفي الباب أحاديث كثيرة جدًّا.(4/139)
غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ النَّظَرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ مِنَ الْخِطَابِ الْوَارِدِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ تَفْهِيمُ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ، مِمَّا هُوَ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ بَيِّنًا وَاضِحًا لَا إِجْمَالَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ بِحَسَبِ هَذَا الْقَصْدِ اشْتِبَاهٌ وَإِجْمَالٌ؛ لَنَاقَضَ أَصْلَ مَقْصُودِ الْخِطَابِ، فَلَمْ تَقَعْ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مِنْ جِهَةِ رَعْيِ الْمَصَالِحِ؛ تَفَضُّلًا، أَوِ انْحِتَامًا، أَوْ عَدَمِ1 رَعْيِهَا؛ إِذْ لَا يُعْقَلُ خِطَابٌ مَقْصُودٌ مِنْ غَيْرِ تَفْهِيمٍ مَقْصُودٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَّةِ2؛ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ امْتِنَاعِ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ سَمْعًا فَبَقِيَ3 الِاعْتِرَافُ بِامْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ؛ فَمَسْأَلَتُنَا مِنْ قَبِيلِ4 هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ خِطَابَ التَّكْلِيفِ فِي وُرُودِهِ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَسَّرٍ، إِمَّا أَنْ يُقْصَدَ التَّكْلِيفُ بِهِ مَعَ عَدَمِ بَيَانِهِ، أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ؛ فَذَلِكَ مَا أَرَدْنَا، وَإِنْ قُصِدَ؛ رَجَعَ إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَجَرَتْ دَلَائِلُ الْأُصُولِيِّينَ هُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ -أَعْنِي5: الثَّانِيَ والثالث- إن جاء في القرآن مجمل؛ فلا بد مِنْ خُرُوجِ مَعْنَاهُ عَنْ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وهو المطلوب.
__________
1 أي: حتى مع قطع النظر عن رعاية المصالح هو ممنوع؛ لأنه غير معقول في ذاته. "د".
2 انظر في هذا: "البحر المحيط" "3/ 46، 93"، و"العدة" "3/ 724"، و"البرهان" "1/ 166"، و"المستصفى" "1/ 368"، و"الإحكام" "1/ 75" لابن حزم، و"الإحكام" "3/ 32" للآمدي.
3 في "ط": "فيبقى".
4 نقول: بل هي أشد؛ لأن ذاك كان مجرد تأخير للبيان، يعني مع حصول البيان بعد الوقت، أما هذا فلا بيان رأسًا، لا في عهده -صلى الله عليه وسلم- ولا بعده. "د".
5 وإنما قيده بهما لأنه ذكر مثله في الأول؛ فلم يحتج لربط هذا التفريع به أيضًا. "د".(4/140)
الطرف الثاني: في الأدلة على التفصيل
مدخل
...
الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي الْأَدِلَّةِ عَلَى التَّفْصِيلِ
وَهِيَ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالرَّأْيُ1.
وَلَمَّا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُمَا الْأَصْلُ لِمَا سِوَاهُمَا؛ اقْتَصَرْنَا عَلَى النَّظَرِ فِيهِمَا.
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ2 كَثِيرًا مِمَّا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ النَّاظِرُ فِي غَيْرِهِمَا، مع أن الأصوليين تكلفوا3 بما عداهما كما4 تكلفوا بِهِمَا؛ فَرَأَيْنَا السُّكُوتَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْإِجْمَاعِ وَالرَّأْيِ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فالأول أصلها، وهو الكتاب، وفيه مسائل:
__________
1 يشمل الباقي من قياس وغيره. "د".
2 لعل فيه سقط كلمة "والسنة" كما يفيده السابق واللاحق، أي: إنه تعرض لكثير من المباحث المتعلقة بغير الكتاب والسنة أثناء تعرضه لمباحثهما. "د".
3 في "ط": "تكلفوا".
4 كان يقتضي الذكر لا السكوت عن الكتاب والسنة أيضًا. "د".(4/143)
الدليل الأول: الكتاب
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْكِتَابَ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ1 كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ، وَعُمْدَةُ الْمِلَّةِ، وَيَنْبُوعُ الْحِكْمَةِ، وَآيَةُ الرِّسَالَةِ، وَنُورُ الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ سِوَاهُ، وَلَا نَجَاةَ بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمَسُّكَ بِشَيْءٍ يُخَالِفُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرٍ وَاسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ2، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَزِمَ ضَرُورَةً لِمَنْ رَامَ الِاطِّلَاعَ عَلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَطَمِعَ فِي إِدْرَاكِ مَقَاصِدِهَا، وَاللِّحَاقِ بِأَهْلِهَا، أَنْ يَتَّخِذَهُ سَمِيرَهُ وَأَنِيسَهُ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ جَلِيسَهُ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي؛ نَظَرًا وَعَمَلًا، لَا اقْتِصَارًا عَلَى أَحَدِهِمَا؛ فَيُوشِكُ أَنْ يَفُوزَ بِالْبُغْيَةِ، وَأَنْ يَظْفَرَ بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين في الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ3، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، ولا يقدر عليه إلا من زاول مَا يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْكِتَابِ، وَإِلَّا؛ فَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ، وَالسَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ آخِذٌ بِيَدِهِ فِي هَذَا الْمَقْصِدِ الشَّرِيفِ، وَالْمَرْتَبَةِ الْمُنِيفَةِ.
وَأَيْضًا4؛ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْقُرْآنُ مُعْجِزًا أَفْحَمَ الْفُصَحَاءَ، وَأَعْجَزَ الْبُلَغَاءَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ؛ فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا جَارِيًا عَلَى أَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ، مُيَسَّرًا لِلْفَهْمِ فِيهِ عَنِ اللَّهِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى، لَكِنْ بِشَرْطِ الدُّرْبَةِ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، كَمَا تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ؛ إِذْ لَوْ خَرَجَ بِالْإِعْجَازِ عَنْ إِدْرَاكِ الْعُقُولِ مَعَانِيهِ؛ لَكَانَ خِطَابُهُمْ بِهِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْوُجُوهِ الْإِعْجَازِيَّةِ فِيهِ؛ إِذْ مِنَ الْعَجَبِ إِيرَادُ كَلَامٍ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْبَشَرِ فِي اللِّسَانِ وَالْمَعَانِي وَالْأَسَالِيبِ، مَفْهُومٌ مَعْقُولٌ، ثُمَّ لَا يَقْدِرُ الْبَشَرُ عَلَى الإتيان بسورة مثله
__________
1 في "د": "أن".
2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 332 و19/ 76-92 و20/ 499".
3 أي: الطائفة المتقدمة. "ف".
4 تتميم لبيان ما يعينه على فهمه، كأنه قال: "من السنة والدربة في اللسان العربي، ولا يمنع من ذلك كونه معجزًا ... إلخ". "د".(4/144)
وَلَوِ اجْتَمَعُوا وَكَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا؛ فَهُمْ أَقْدَرُ مَا كَانُوا عَلَى مُعَارَضَةِ الْأَمْثَالِ، أَعْجَزُ مَا كَانُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [الْقَمَرِ: 17، 22] .
وَقَالَ1: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مَرْيَمَ: 97] .
وَقَالَ: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} [فُصِّلَتْ: 3] .
وَقَالَ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} [الشُّعَرَاءِ: 195] .
وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ2 فُرِضَ إِعْجَازُهُ؛ فَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى فَهْمِهِ وَتَعَقُّلِ مَعَانِيهِ، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] ؛ فَهَذَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَ الْوُصُولِ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ، وكذلك ما كان مثله، وهو ظاهر.
__________
1 أورد في "ط" بدل هذه الآية {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58] .
2 ذكروا في إعجازه وجوهًا كثيرة؛ كما يعلم من الكتب المؤلفة خصيصة بذلك؛ فعلى جميع الوجوه لا يمنع إعجازه من فهمه على وجهه. "د".(4/145)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ لَازِمَةٌ لِمَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْقُرْآنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِلْمَ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ إِعْجَازُ نَظْمِ الْقُرْآنِ فَضْلًا عَنْ مَعْرِفَةِ مَقَاصِدِ كَلَامِ الْعَرَبِ؛ إِنَّمَا مَدَارُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ: حَالِ الْخِطَابِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ الْخِطَابِ، أَوِ المخاطِب، أَوِ المخاطَب، أَوِ الْجَمِيعِ؛ إِذِ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ يَخْتَلِفُ فَهْمُهُ بِحَسَبِ حَالَيْنِ، وَبِحَسَبِ مُخَاطَبَيْنِ، وَبِحَسَبِ غَيْرِ ذَلِكَ؛ كَالِاسْتِفْهَامِ، لَفْظُهُ وَاحِدٌ، وَيَدْخُلُهُ مَعَانٍ أُخَرُ مِنْ تَقْرِيرٍ وَتَوْبِيخٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ1 وَكَالْأَمْرِ يَدْخُلُهُ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّعْجِيزِ وَأَشْبَاهِهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهَا2 الْمُرَادِ إِلَّا الْأُمُورُ الْخَارِجَةُ، وَعُمْدَتُهَا مُقْتَضَيَاتُ الْأَحْوَالِ، وَلَيْسَ كُلُّ حَالٍ يُنْقَلُ وَلَا كُلُّ قَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِنَفْسِ الْكَلَامِ الْمَنْقُولِ، وَإِذَا فَاتَ نَقْلُ بَعْضِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ؛ فَاتَ فَهْمُ الْكَلَامِ جُمْلَةً، أَوْ فَهْمُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَمَعْرِفَةُ الْأَسْبَابِ رَافِعَةٌ لِكُلِّ مُشْكِلٍ فِي هَذَا النَّمَطِ؛ فَهِيَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ في فهم الكتاب بلا بد، وَمَعْنَى مَعْرِفَةِ السَّبَبِ هُوَ مَعْنَى مَعْرِفَةِ مُقْتَضَى الْحَالِ، وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ:
الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ بِأَسْبَابِ التَّنْزِيلِ مُوقِعٌ فِي الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالَاتِ، وَمُورِدٌ لِلنُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ مَوْرِدَ الْإِجْمَالِ حَتَّى يَقَعَ الِاخْتِلَافُ، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ وُقُوعِ النِّزَاعِ3.
__________
1 في "ط": "وغيرهما".
2 لعله "على معناه المراد". "ف".
3 الخطاب الذي جاء بسبب لا يمكن في بعض الحالات فهمه، ولا إدراك معناه إلا من معرفة الواقعة، أو السؤال الذي تسبب في وروده؛ ففائدة معرفة السبب الذي ورد عليه الخطاب تعين على فهم المراد، فمن قرأ قوله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا....} [المائدة: 93] ، ولم يطلع على نزولها؛ فقد يقول بجواز شرب الخمر كما تأولها من تأولها في زمن عمر, رضي الله عنه [وسيأتي تخريج ذلك قريبًا] ، وكذلك في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ =(4/146)
...........................................................................
__________
= الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ؛ فإنه لو أخذنا بمدلول اللفظ لاقتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفرًا ولا حضرًا، وهو خلاف الإجماع، فلا يفهم مراد الآية حتى يعلم سببها، وذلك أنها نزلت وكان الصحابة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سرية؛ فأدركتهم الصلاة في ليلة مظلمة، فلم يعرفوا القبلة؛ فتوجه كل منهم إلى ناحية، فلما أصبحوا أخبروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم صلوا إلى غير القبلة؛ فنزلت الآية، على ما ذكره ابن كثير في "تفسيره" "1/ 159"، وعزاه لابن جرير والترمذي "رقم 2958"، وقال: "هذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضًا".
وقد تكون معرفة أسباب نزول الآية أو أسباب ورود الحديث ضرورية؛ لأن الحكم الوارد على سبب قد يكون لفظًا عامًّا، ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورة ذلك السبب؛ فإن دخول صورة السبب قطعي، وإخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد ممنوع بالاتفاق؛ كما قاله الباقلاني في "التقريب", ونقله عنه السيوطي في "الإتقان" "1/ 28"، والغزالي في "المستصفى" "2/ 61"، وقد ذكر علاء الدين الكناني في "سواد الناظر وشقائق الروض الناضر" "2/ 427, مضروبة على الآلة الكاتبة، رسالة دكتوراه" من فوائد نقل السبب أمورًا أخرى غير التي ذكرها المصنف، منها بيان أخصية السبب بالحكم؛ فيمتنع تخصيص الحكم بالسبب؛ لأن دخول السبب في العام قطعي، ولا يصح إخراج محل السبب بالتخصيص لأمرين:
أحدهما: أنه يلزم من تأخير البيان عن وقت الحاجة، ذكر هذا الزركشي في "البرهان" "1/ 23".
الثاني: فيه عدول عن محل النازلة أو محل السؤال، وهذا يؤدي إلى التباس الحكم على السائل أو من ورد في حقه الحكم.
- ومنها: معرفة تأريخ الحكم بمعرفة تأريخ السبب ليعرف الناسخ والمنسوخ.
- ومنها: توسعة علم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها، فيفتح ثواب المصنفين في تأريخ النزول، وثواب المجتهدين بالنظر في ذلك، والرجوع إلى حكم الناسخ وترك المنسوخ.
- ومنها: التأسي بوقائع السلف؛ فيخف أمر اللعان مثلًا على من أراده تأسيًا بهم.
- ومنها: أن معرفة السبب تساعد على معرفة المراد من النص، قال في "المسودة" "ص231": "فجهات معرفة مراد المتكلم ثلاثة في كلام الشارع وكلام العباد: =(4/147)
وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ؛ قَالَ: "خَلَا عُمَرُ ذَاتَ يَوْمٍ؛ فَجَعَلَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ، [وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ] ؟ [فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَقَالَ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ؟] . فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ فقرأناه، وعلمنا فيما نَزَلَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَنَا أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ولا يدرون فيما نَزَلَ، فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ، فَإِذَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا، فَإِذَا اخْتَلَفُوا اقْتَتَلُوا. قَالَ: فَزَجَرَهُ عُمَرُ وَانْتَهَرَهُ؛ فَانْصَرَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَنَظَرَ عُمَرُ فِيمَا قَالَ؛، فَعَرَفَهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ مَا قُلْتَ. فَأَعَادَهُ عَلَيْهِ؛ فعرف عمر قوله وأعجبه"1.
__________
= أحدها: العلم بقصده من دليل منفصل؛ كتفسير السنة للكتاب، وتخصيص العموم.
الثاني: سبب الكلام وحال المتكلم.
الثالث: وضع اللفظ والقرائن اللفظية.
- ومنها: أن معرفة السبب ينتفع بها في معرفة جنس الحكم تارة، أو في صفته أخرى، وفي محله آخر.
وانظر غير مأمور: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 339"، و"مسألة تخصيص العام بالسبب" "ص26-29"، و"أسباب نزول القرآن، دراسة منهجية" "60-72".
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص45-46"، وسعيد بن منصور في "سننه" "1/ 176/ رقم 42, ط الجديدة", ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "5/ 230-231/ رقم 2086"، والخطيب البغدادي في "الجامع" "2/ 194/ رقم 1587", عن هشيم عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي به، والتيمي لم يدرك زمن عمر؛ فإسناده منقطع.
وأخرجه ابن ديزيل في "جزئه" "رقم 26" من طريق هشيم عن إبراهيم التيمي به؛ دلس في هذا الإسناد وأرسل.
وأخرجه عبد الرزاق في "جامع معمر" "11/ 217-218/ رقم 20368", ومن طريقه الهروي في "ذم الكلام" رقم "198"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 516-517" عن علي بن بذيمة الجزري عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس به نحوه، وإسناده صحيح.
وما بين المعقوفتين الأولى ليست في الأصل ولا في "ط"، والثانية ليست "إلا" فيهما.
وأخرج الحاكم في "المستدرك" في كتاب الأهوال عن ابن عمر -لا عن عمر- نحوه، وقال: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، وانظر: "تخريج الزيلعي على الكشاف" "3/ 204".(4/148)
وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ فِي الِاعْتِبَارِ، وَيَتَبَيَّنُ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ.
فَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ بُكَيْرٍ؛ أَنَّهُ سَأَلَ نَافِعًا: كَيْفَ كَانَ رَأْيُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْحَرُورِيَّةِ؟ قَالَ: "يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ، إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ أُنْزِلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ"1.
فَهَذَا مَعْنَى الرَّأْيِ الَّذِي نَبَّهَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ النَّاشِئُ عَنِ الْجَهْلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.
وَرُوِيَ أَنَّ مَرْوَانَ أَرْسَلَ بَوَّابَهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: "قُلْ لَهُ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا؛ لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ؟ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ، وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ"2، ثُمَّ قَرَأَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ
__________
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، 12/ 282" تعليقًا، قال: "وكان ابن عمر يراهم شرار الخلق، وقال: إنهم انطلقوا ... "، وذكر الأثر.
ووصله ابن جرير في "تهذيب الآثار" -كما في "تغليق التعليق" "5/ 259"، و"الفتح" "12/ 286"- من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج؛ أَنَّهُ سَأَلَ نَافِعًا: كَيْفَ كَانَ رَأْيُ ابْنِ عمر في الحرورية؟ فذكره، قال ابن حجر: "وسنده صحيح".
انظر: "مجموعة الرسائل الكبرى" "1/ 36-37" لابن تيمية، و"الاعتصام" "2/ 692" للمصنف؛ وعزاه لابن وهب أيضًا، وكذا ابن عبد البر في "الاستذكار" "8/ 90/ رقم 10576".
2 مضى تخريجه "ص32".(4/149)
أُوتُوا الْكِتَابَ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 187-188] ؛ فَهَذَا السَّبَبُ بَيِّنٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ غَيْرُ مَا ظَهَرَ لِمَرْوَانَ.
وَالْقُنُوتُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا1 مِنَ الْمَعْنَى يُحْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} [الْبَقَرَةِ: 238] ، فَإِذَا عُرِفَ السَّبَبُ؛ تَعَيَّنَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ؛ فَقَدِمَ الْجَارُودُ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: "إِنْ قُدَامَةَ شَرِبَ فَسَكِرَ. فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ يَشْهَدْ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ الْجَارُودُ: أَبُو هُرَيْرَةَ يَشْهَدُ عَلَى مَا أَقُولُ". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ؛ فَقَالَ عُمَرُ: "يَا قُدَامَةُ! إِنِّي جَالِدُكَ. قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ شَرِبْتُ كَمَا يَقُولُونَ مَا كَانَ لَكَ أَنْ تَجْلِدَنِي. قَالَ عُمَرُ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [الْمَائِدَةِ: 93] ... إِلَخْ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكَ أَخْطَأْتَ التَّأْوِيلَ يَا قُدَامَةُ، إِذَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهَ".
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: "لِمَ تَجْلِدُنِي؟ بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ: وَأَيُّ كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ أَنْ لَا أَجْلِدُكَ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [الْمَائِدَةِ: 93] إِلَى آخَرَ الْآيَةِ؛ فَأَنَا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَدْرًا، وَأُحُدًا، وَالْخَنْدَقَ، وَالْمَشَاهِدَ.
فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ
__________
1 كالخشوع، وعدم الالتفات، والذكر وغيرها، وقوله: "تعين المعنى المراد"؛ أي: وهو عدم تكليم بعضهم بعضًا كما كان يحصل قبل نزول الآية. "د".
أما "ف"؛ فتوسع وقال: "كالانقياد وكمال الطاعة والذكر والخشوع وطول الركوع وأن لا يلتفت، ولا يقلب الحصى، ولا يعبث بشيء، ولا يحدث نفسه بأمر من أمور الدنيا، وفسره البخاري في "صحيحه" بالسكوت عن الكلام ... ، ثم احتج له بما يناسبه".
قلت: انظر معاني القنوت عند ابن القيم في "الزاد" "1/ 283".(4/150)
هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ أُنْزِلْنَ عُذْرًا لِلْمَاضِينَ، وَحُجَّةً عَلَى الْبَاقِينَ؛ فَعَذَرَ الْمَاضِينَ1 بِأَنَّهُمْ لَقُوا اللَّهَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَمْرُ، وَحُجَّةً عَلَى الْبَاقِينَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [الْمَائِدَةِ: 90] ، ثُمَّ قَرَأَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَى أَنْ يُشْرَبَ الْخَمْرُ. قَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ"2 الْحَدِيثَ.
وَحَكَى إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي؛ قَالَ: "شَرِبَ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ الْخَمْرَ، وَعَلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالُوا: هِيَ لَنَا حَلَالٌ، وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [المائدة: 93] ، قَالَ: فَكَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ، قَالَ: فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْهِ: أَنِ ابْعَثْ بِهِمْ إِلَيَّ قَبْلَ أَنْ يُفْسِدُوا مَنْ قِبَلَكَ. فَلَمَّا أَنْ قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ اسْتَشَارَ فِيهِمُ النَّاسَ؛ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! نَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، وَشَرَعُوا فِي دِينِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ...." إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ3.
فَفِي الْحَدِيثَيْنِ بَيَانٌ أَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ تُؤَدِّي إِلَى الخروج عن المقصود بالآيات.
__________
1 في الأصل و"ط": "الماضون".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب منه، 7/ 319/ رقم 4011" مختصرًا، وأخرجه مطولًا عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 240-242/ رقم 17076"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 842-849"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "5/ 56"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 315-316" بأسانيد وألفاظ، وكذا ساقه الجصاص في "أحكام القرآن" "4/ 128-129"، وابن الأثير في "أسد الغابة" "4/ 199"، وابن عبد البر في "الاستيعاب" "3/ 248"، وابن حجر في "الإصابة" "3/ 220"، والنويري في "نهاية الأرب" "19/ 364"، والمحب الطبري في "الرياض النضرة" "2/ 45" بنحوه.
3 نحوه في "أحكام القرآن" "4/ 128" للجصاص، وعزاه المصنف في "الاعتصام" "2/ 527, ط ابن عفان" للقاضي إسماعيل.(4/151)
وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ؛ فَقَالَ: تَرَكْتُ فِي الْمَسْجِدِ رَجُلًا يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ، يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدُّخَانِ: 10] ؛ قَالَ: يَأْتِي النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دُخَانٌ، فيأخذ بأنفاسهم، حتى يأخذهم [منه] كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا لِأَنَّ قُرَيْشًا اسْتَعْصَوْا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجَهْدِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} الآية [الدخان: 10] ... " إلى آخر القصة1.
وهذا شَأْنُ أَسْبَابِ النُّزُولِ فِي التَّعْرِيفِ بِمَعَانِي الْمُنَزَّلِ، بِحَيْثُ لَوْ فُقِدَ ذِكْرُ السَّبَبِ؛ لَمْ يُعْرَفْ مِنَ الْمُنَزَّلِ مَعْنَاهُ عَلَى الْخُصُوصِ، دُونَ تَطَرُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ وَتَوَجُّهِ الْإِشْكَالَاتِ، وَقَدْ قَالَ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ" 2، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَقَدْ قَالَ فِي خُطْبَةٍ خطبها: "والله؛ لقد
__________
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب سورة الروم، 8/ 511/ رقم 4774، وباب {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيم} ، 8/ 571/ رقم 4821، وباب {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُون} , 8/ 573/ رقم 4822, وباب {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} ، 8/ 573/ رقم 4823"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب الدخان، 4/ 2155-2157/ رقم 2798" عن ابن مسعود به.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن مسعود، 7/ 102/ رقم 3760، وكتاب مناقب الأنصار، باب مناقب أبي بن كعب، 7/ 126/ رقم 3808، وكتاب فضائل القرآن، باب القراء مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 9/ 46/ رقم 4999"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه -رضي الله تعالى عنهما- 4/ 1913/ رقم 2464" عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا.(4/152)
عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ"1، وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؛ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَلَا أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كتاب الله إلا [و] أنا أعلم فيما أُنْزِلَتْ, وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ"2، وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ عِلْمَ الْأَسْبَابِ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَكُونُ الْعَالِمُ بِهَا عَالِمًا بِالْقُرْآنِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ؛ أَنَّهُ قَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً؛ إِلَّا وهو يحب أن يعلم فيما أُنْزِلَتْ وَمَا أَرَادَ بِهَا"3، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَوْضِعِ مُشِيرٌ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى تَعَلُّمِ عِلْمِ الْأَسْبَابِ.
وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ؛ قَالَ: "سَأَلْتُ عُبَيْدَةَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وعليك بالسداد؛ فقد ذهب الذين يعلمون فيما أُنْزِلَ الْقُرْآنُ"4.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ ظَاهِرٌ بِالْمُزَاوَلَةِ لعلم التفسير.
__________
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل القرآن، باب القراء مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 9/ 46-47/ رقم 5000"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه, رضي الله تعالى عنهما 4/ 1912/ رقم 4262"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "2/ 343-344"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 1007"، والنسائي في "فضائل القرآن" "رقم 22"، وابن أبي داود في "المصاحف" "ص22-23".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب القراء مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 9/ 47/ رقم 5002"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه, رضي الله تعالى عنهما 4/ 1913/ رقم 2463"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "2/ 342"، وابن أبي داود في "المصاحف" "23-24"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 80/ رقم 83"، والخطيب في "الرحلة" "94-95".
وما بين المعقوفتين سقط من الأصل وفي النسخ المطبوعة: "فيم أنزلت".
3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص42".
4 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" "1/ 185/ رقم 44, ط الجديدة"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 511"، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "رقم 830"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 86/ رقم 97"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 230/ رقم 2085"، والواحدي في "أسباب النزول" "4-5"- وذكره السيوطي عنه في "الإتقان" "1/ 41"، و"لباب النقول" "13"-، وبعض أسانيده صحيحة على شرط الشيخين.(4/153)
فَصْلٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ عَادَاتِ الْعَرَبِ فِي أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا وَمَجَارِي أَحْوَالِهَا حَالَةَ التَّنْزِيلِ، وَإِنْ لم يكن ثم سبب خاص لا بد لِمَنْ أَرَادَ الْخَوْضَ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ مِنْهُ، وَإِلَّا وَقَعَ فِي الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالَاتِ الَّتِي يُتَعَذَّرُ الْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَّا بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، وَيَكْفِيكَ [مِنْ ذَلِكَ] 1 مَا تَقَدَّمَ2 بَيَانُهُ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ؛ فَإِنَّ فِيهِ مَا يُثْلِجُ الصدر ويورث اليقين في هذا المقام، ولا بد مِنْ ذِكْرِ أَمْثِلَةٍ تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْمُرَادِ وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا:
أَحَدُهَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 196] ؛ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِتْمَامِ دُونَ الْأَمْرِ بِأَصْلِ الْحَجِّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ آخِذِينَ بِهِ، لَكِنْ عَلَى تَغْيِيرِ بَعْضِ الشَّعَائِرِ، وَنَقْصِ جُمْلَةٍ مِنْهَا؛ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا غَيَّرُوا، فَجَاءَ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا جَاءَ إِيجَابُ الْحَجِّ نَصًّا فِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آلِ عِمْرَانَ: 97] ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا؛ [تَبَيَّنَ] 3 هَلْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِيجَابِ الْحَجِّ أَوْ إِيجَابِ الْعُمْرَةِ4، أَمْ لَا؟
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [الْبَقَرَةِ: 286] ، نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ ذَلِكَ فِي الشِّرْكِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ؛
__________
1 وما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ المطبوعة.
2 وهو أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ مِنِ اتباع معهود العرب. "د".
3 بدلها في "ط": "علم بيسر".
4 انظر: "الذخيرة" "3/ 181، 373-374, ط دار الغرب"، و"أحكام القرآن" "1/ 118-119" لابن العربي.(4/154)
فَيُرِيدُ أَحَدُهُمُ التَّوْحِيدَ، فيُهمّ فَيُخْطِئُ بِالْكُفْرِ؛ فَعَفَا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَمَا عَفَا لَهُمْ عَنِ النُّطْقِ بِالْكُفْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، قَالَ: "فَهَذَا عَلَى الشِّرْكِ، لَيْسَ عَلَى الْأَيْمَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، لَمْ تَكُنِ الْأَيْمَانُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي زَمَانِهِمْ".
وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النَّحْلِ: 50] ، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، إِنَّمَا جَرَى عَلَى مُعْتَادِهِمْ فِي اتِّخَاذِ الْآلِهَةِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِإِلَهِيَّةِ الْوَاحِدِ الْحَقِّ؛ فَجَاءَتِ الْآيَاتُ بِتَعْيِينِ الْفَوْقِ وَتَخْصِيصِهِ تَنْبِيهًا عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَوْهُ فِي الْأَرْضِ؛ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ جِهَةٍ أَلْبَتَّةَ1؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2 [النَّحْلِ: 26] ؛ فَتَأَمَّلْهُ، وَاجْرِ عَلَى هَذَا الْمَجْرَى فِي سَائِرِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ.
وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النَّجْمِ: 49] 3؛ فَعَيَّنَ هَذَا الْكَوْكَبَ لِكَوْنِ الْعَرَبِ عَبَدَتْهُ، وَهُمْ خُزَاعَةُ، ابْتَدَعَ ذَلِكَ لَهُمْ أَبُو كَبْشَةَ، وَلَمْ تَعْبُدِ الْعَرَبُ مِنَ الْكَوَاكِبِ غَيْرَهَا؛ فَلِذَلِكَ عُيِّنَتْ.
فَصْلٌ:
وَقَدْ يُشَارِكُ الْقُرْآنَ فِي هَذَا الْمَعْنَى السُّنَّةُ، إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَقَعَتْ عَلَى أَسْبَابٍ، وَلَا يَحْصُلُ فَهْمُهَا إِلَّا بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، ومنه أنه نهى عليه الصلاة
__________
1 قارنه لزامًا بما عند ابن تيمية في "نقض تأسيس الجهمية" "1/ 520"، و"التدمرية" "ص45"، وانظر أيضًا: "مختصر العلو" "286-287"، و"البيهقي وموقفه من الإلهيات" "353"، وكتابنا: "الردود والتعقبات" "ص168-170".
2 أي: فليست الفوقية لتخصيص الجهة؛ لأن السقف لا يكون إلا فوق، إنما ذلك ذكر للمعهود فيه. "د". قلت: انظر الهامش السابق.
3 قال العلماء: إن هذا النجم قطره عشرة أمثال قطر كوكب الشمس؛ فهو أكبر ما عرفه العرب من الكواكب فعبدوه. "د".(4/155)
وَالسَّلَامُ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فلما كان بعد ذلك؛ قيل [له] : لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِضَحَايَاهُمْ، وَيَحْمِلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ1، وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الْأَسْقِيَةَ. فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ ". قَالُوا: نَهَيْتَ عَنْ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ عَلَيْكُمْ؛ فَكُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا" 2.
وَمِنْهُ حَدِيثُ3 التَّهْدِيدِ بِإِحْرَاقِ الْبُيُوتِ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ يُبَيِّنُ أَنَّهُ [مُخْتَصٌّ] بِأَهْلِ4 النِّفَاقِ، بِقَوْلِهِ: "وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ"5.
وَحَدِيثُ: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" 6 وَاقِعٌ عَنْ7 سبب، وهو أنهم لما أمروا
__________
1 بفتحتين: دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه. "ف".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء، 3/ 1651/ رقم 1971" عن عبد الله بن واقد -رضي الله عنه- مرفوعًا.
قال "ف" في معنى "الدافة": "بتشديد الفاء: قوم يسيرون جماعة سيرًا ليس بالشديد، يريد أنهم قدموا المدينة عيد الأضحى؛ فنهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي ليفرقوها ويتصدقوا بها وينتفع أولئك القادمون بها؛ فالنهي لسبب خاص إذا لم يوجد جاز الأكل والتصدق والادخار؛ كما جاء في الحديث" ا. هـ.
3 مضى تخريجه "ص110".
4 كذا في "ط"، وفي "د": "أنه بأهل"، وفي غيرهما: "أنه من أهل".
5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدي، 1/ 453/ رقم 654" عن ابن مسعود؛ قال: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض". وفي لفظ: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق".
6 مضى تخريجه "1/ 459"، وهو في "الصحيحين"؛ إلا أن سبب الورود الذي ذكره =
7 في "ط": "على".(4/156)
بِالْهِجْرَةِ هَاجَرَ نَاسٌ لِلْأَمْرِ، وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ هَاجَرَ بِسَبَبِ امْرَأَةٍ أَرَادَ نِكَاحَهَا تُسَمَّى أُمُّ قَيْسٍ، وَلَمْ يَقْصِدْ مُجَرَّدَ الْهِجْرَةِ لِلْأَمْرِ؛ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يُسَمَّى: مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ, وَهُوَ كثير1.
__________
= المصنف لا صلة له بهذا الحديث، خلافًا لما هو مشهور، وقد وقع فيه ابن دقيق العيد في "الإحكام" "1/ 79-81"، ونبه على هذا الخطأ ابن رجب؛ فقال في "جامع العلوم والحكم" "1/ 74-75": "وقد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس هي كانت سبب قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها"، وذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلًا بإسناد صحيح، والله أعلم"، وقال ابن حجر في "الفتح" "1/ 10": "لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك".
وقد أخرج سعيد بن منصور في "سننه"، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "رقم 8540" عن الأعمش عن شقيق؛ قال: خطب أعرابي من الحي امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تزوجه حتى يهاجر، فهاجر فتزوجته، فكنا نسميه مهاجر أم قيس. قال: فقال عبد الله, يعني ابن مسعود: "من هاجر يبتغي شيئًا؛ فهو له". وإسناده صحيح على شرط الشيخين؛ كما قال ابن حجر.
وهذا السياق يقتضي أن هذا لم يكن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما كان في عهد ابن مسعود، ولكن روي من طريق سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود؛ قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تزوجه حتى يهاجر، فهاجر فتزوجها؛ فكنا نسميه مهاجر أم قيس. قال ابن مسعود: "من هاجر لشيء؛ فهو له"، ورجاله ثفات؛ كما في "طرح التثريب" "2/ 25"، وعلى فرض ثبوت ذلك؛ فليس فيه أنه سبب ورود حديث عمر: "إنما الأعمال بالنيات"، ومنه تعلم القصور في صنيع المصنف، والله الموفق.
وانظر: "شرح شاكر لألفية السيوطي" "ص214".
1 اعتنى بمفردات "أسباب الورود": ابن حمزة الحسيني في كتابه "البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف"، وقبله السيوطي في "اللمع في أسباب ورود الحديث"، وكلاهما مطبوع، وللبلقيني في "محاسن الاصطلاح" "633 وما بعدها" كلام جيد نحو ما عند المصنف، وانظر "أسباب ورود الحديث, تحليل وتأسيس" لمحمد رأفت سعيد "كتاب الأمة، رقم 37، ص102 وما بعدها"، ولصديقنا الشيخ طارق الأسعد دراسة مسهبة قيد الإعداد بعنوان: "علم أسباب ورود الحديث، ومنزلته في تفسير النصوص الشرعية، ومجال تطبيقه عند المحدثين والأصوليين"، وانظر في فائدة عيان النص: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 163" لابن العربي، وفي ضرورة معرفة أسباب الورود أيضًا: "مسألة تخصيص العام بالسبب" "ص28-30".(4/157)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
كُلُّ حِكَايَةٍ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا1 وَهُوَ الْأَكْثَرُ رَدٌّ لَهَا، أَوْ لَا فَإِنْ وَقَعَ رَدٌّ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي بُطْلَانِ ذَلِكَ الْمَحْكِيِّ وَكَذِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مَعَهَا رَدٌّ؛ فَذَلِكَ دَلِيلُ صِحَّةِ الْمَحْكِيِّ وَصِدْقِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بُرْهَانٍ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 91] .
فَأَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 91] .
وَقَالَ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 136] .
فَوَقَعَ التَّنْكِيتُ عَلَى افْتِرَاءِ مَا زَعَمُوا بقوله: {بِزَعْمِهِمْ} ، وَبِقَوْلِهِ: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الْأَنْعَامِ: 136] .
ثُمَّ قَالَ: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الْأَنْعَامِ: 138] إِلَى تَمَامِهِ.
وَرُدَّ بِقَوْلِهِ: {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُون} [الْأَنْعَامِ: 138] .
ثُمَّ قَالَ: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ} الآية [الأنعام: 139] .
__________
1 أو قبلها وبعدها معًا، كما في آية: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [يونس: 66] مع قوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68] ، ولا يكون الشريك ولا الولد مملوكًا. "د".(4/158)
فَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِهِ بِقَوْلِهِ: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الْأَنْعَامِ: 139] زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الْفَرْقَانِ: 4] .
فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الْفَرْقَانِ: 4] .
ثُمَّ قَالَ: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} الْآيَةَ [الْفَرْقَانِ: 5] .
فَرَدَّ بِقَوْلِهِ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} الْآيَةَ [الْفَرْقَانِ: 6] .
ثُمَّ قَالَ: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرفان: 8] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا} [الْفَرْقَانِ: 9] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ... } إلى قوله: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 4-8] .
ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} [ص: 8] .
إِلَى آخِرِ مَا هُنَالِكَ.
وَقَالَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الْبَقَرَةِ: 116، وَغَيْرِهَا] .
ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ ثَبَتَتْ فِي أَثْنَاءِ الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُون} [الْأَنْبِيَاءِ: 26] .
وَقَوْلِهِ: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الْبَقَرَةِ: 116] .
وَقَوْلِهِ: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} الْآيَةَ [يُونُسَ: 68] .(4/159)
وَقَوْلِهِ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ} 1 [مَرْيَمَ: 90] إِلَى آخِرِهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَحْضَرَهُ فِي ذِهْنِهِ عَرَفَ هَذَا بِيُسْرٍ.
وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَظَاهِرٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ نَفْسِ الْحِكَايَةِ وَإِقْرَارِهَا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ سُمِّيَ فُرْقَانًا، وَهُدًى، وَبُرْهَانًا، وَبَيَانًا، وَتِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ وَالْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَأْبَى أَنْ يُحْكَى فِيهِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ ثُمَّ لَا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ.
وَأَيْضًا2؛ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا يُحْكَى فِيهِ مِنْ شَرَائِعِ الْأَوَّلِينَ وَأَحْكَامِهِمْ، وَلَمْ يُنَبَّهْ عَلَى إِفْسَادِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ فِيهِ؛ فَهُوَ حَقٌّ يُجْعَلُ عُمْدَةً عِنْدَ طَائِفَةٍ فِي شَرِيعَتِنَا، وَيَمْنَعُهُ قَوْمٌ، لَا مِنْ جِهَةِ قَدْحٍ فِيهِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ؛ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ كَشَرِيعَتِنَا، وَلَا يَفْتَرِقُ مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِحُكْمِ النَّسْخِ فَقَطْ، وَلَوْ نَبَّهَ عَلَى أَمْرٍ فِيهِ لَكَانَ فِي حُكْمِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 75] .
وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِه ِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا
__________
1 "وتنشق الأرض" سقط من الأصل.
2 هذا نوع آخر غير ما ذكر في صدر المسألة؛ فإن الأول ليس من الشرائع، وهذا من الشرائع، وما في حكمها وما دخل عليها من تحريف وغير ذلك؛ فهو معطوف على قوله: "كل حكاية ... إلخ"، ويحتمل أن يكون دليلًا على الثاني، ويؤيده قوله بعد: "ولو نبه على أمر فيه ... إلخ"، وقوله: "فصار هذا من النمط الأول"، ويكون قوله أولًا: "كل حكاية" أعم مما يتعلق بالشرائع والقصص. "د".
قلت: انظر في هذا "كشف الأسرار" "3/ 933-936"، و"أصول التشريع الإسلامي" "ص27، 28" لعلي حسب الله، و"أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "2/ 155-156" للأشقر.(4/160)
فَخُذُوهُ} 1 الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 41] .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} 2 [النِّسَاءِ: 46] ؛ فَصَارَ هَذَا مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ جَمِيعُ مَا حُكِيَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِمَّا كَانَ حَقًّا؛ كَحِكَايَتِهِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَمِنْهُ قِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَقِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى, عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
فَصْلٌ:
وَلِاطِّرَادِ هَذَا الْأَصْلِ اعْتَمَدَهُ النُّظَّارُ3؛ فَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} 4 الْآيَةَ [الْمُدَّثِّرِ: 43-44] ؛ إِذْ لَوْ كَانَ قَوْلُهُمْ بَاطِلًا لَرُدَّ عِنْدَ حِكَايَتِهِ.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَى مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُمْ: {ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الْكَهْفِ: 22] ، وَأَنَّهُمْ: {خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الْكَهْفِ: 22] ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الْكَهْفِ: 22] ؛ أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ وَلَا عِلْمٌ غَيْرُ اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَرَجْمُ الظُّنُونِ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلَمَّا حَكَى قَوْلَهُمْ: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الْكَهْفِ: 22] ؛ لَمْ يُتْبِعْهُ بِإِبْطَالٍ بَلْ قَالَ: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الْكَهْفِ: 22] ؛ دَلَّ الْمَسَاقُ عَلَى صِحَّتِهِ دُونَ القولين الأولين.
__________
1 في النسخ المطبوعة: "عن مواضعه"، وهو خطأ.
2 في النسخ المطبوعة: "من بعد مواضعه"، وهو خطأ.
3 في "ط": " ... الفصل اعتمده الناظر ... ".
4 أي: فقد سلم تعليلهم ودخولهم بهذا. "د".(4/161)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "أَنَا مِنْ ذَلِكَ الْقَلِيلِ الَّذِي يَعْلَمُهُمْ"1.
وَرَأَيْتُ مَنْقُولًا عَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ2 أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ, عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [الْبَقَرَةِ: 260] ؛ فَقِيلَ لَهُ: أَكَانَ شَاكًّا حِينَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ آيَةً؟ فَقَالَ: لَا، إنما كَانَ طَلَبُ زِيَادَةِ إِيمَانٍ إِلَى إِيمَانٍ3، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [الْبَقَرَةِ: 260] ، فلو عمل شَكًّا مِنْهُ لَأَظْهَرَ4 ذَلِكَ؛ فَصَحَّ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ كَانَتْ عَلَى مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ.
بِخِلَافِ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْأَعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الْحُجُرَاتِ: 14] ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ5: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
__________
1 أخرجه الطبراني في "الأوسط" -كما في "مجمع الزوائد" "7/ 53"-، والواحدي في "الوسيط" "3/ 142" بإسناد ضعيف فيه يحيى بن أبي روق، وقد صححه المناوي في "الفتح السماوي" "2/ 793"؛ فأخطأ، وأخرجه من طرق أخرى عنه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 400"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 143"، وابن جرير في "التفسير" "15/ 226-227"، والفريابي -كما في "الدر المنثور" "5/ 375"-، وصححه ابن كثير في "تفسيره" "3/ 83".
2 المذكور في "تفسيره" "ص27" المطبوع سنة "1326هـ-1908م" بمطبعة السعادة بمصر.
3 في "تفسير سهل": "طالبًا زيادة يقين إلى إيمان كان معه، فسأل كشف غطاء العين بعيني رأسه ليزداد بنور اليقين يقينًا في قدرة الله، وتمكينًا في خلقه، ألا تراه ... ".
4 أي: لنبه الله إليه كما هو الشأن في الكتاب. "د".
قلت: عبارة سهل في "تفسيره" "ص27" تدل على هذا المعنى، وتصرف بها المصنف، وهذا نصها: "فلو كان شاكًّا لم يجب ببلى، ولو علم الله منه الشك وهو أخبر ببلى وستر شكه لكشف الله تعالى ذلك؛ إذ كان مثله مما لا يخفى عليه؛ فصح أن طلب طمأنينته كان على معنى طلب الزيادة في يقينه".
5 في "ف" و"م": "بقولهم"، وهو خطأ.(4/162)
وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 14] .
وَمَنْ تَتَبَّعَ مَجَارِيَ الْحِكَايَاتِ فِي الْقُرْآنِ عَرَفَ مَدَاخِلَهَا، وَمَا هُوَ مِنْهَا حَقٌّ مِمَّا هُوَ بَاطِلٌ.
فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] إِلَى آخِرِهَا فَإِنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مَمْزُوجَةُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ فَظَاهِرُهَا حَقٌّ وَبَاطِنُهَا كَذِبٌ، مِنْ حَيْثُ كَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْمُعْتَقَدِ وَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] تَصْحِيحًا لِظَاهِرِ الْقَوْلِ، وَقَالَ: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] إِبْطَالًا لِمَا قَصَدُوا بِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 67] ، وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: "حَدِّثْنَا يَا يَهُودِيُّ". فَقَالَ: كَيْفَ تَقُولُ يَا أبا القاسم إذا وضع الله السموات عَلَى ذِهْ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى ذِهْ، وَالْمَاءَ عَلَى ذِهْ، وَالْجِبَالَ عَلَى ذِهْ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهْ؟ وَأَشَارَ الرَّاوِي بِخِنْصَرِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ تَابَعَ حَتَّى بَلَغَ الْإِبْهَامَ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمَرِ: 67] 1.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: جَاءَ يَهُودِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السموات عَلَى أُصْبُعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى أصبع،
__________
1 أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الزمر، 5/ 371/ رقم 3240", وفيه: "يا يهودي! حدثنا ... "، و"الأرض"، وابن خزيمة في "التوحيد" "78"، وأحمد في "المسند" "1/ 151"، وابن جرير في "التفسير" "14/ 26"، وإسناده ضعيف، فيه عطاء بن السائب، وهو مختلط.
وفي الباب عن ابن مسعود في "الصحيحين" وغيرهما، وسيأتي.(4/163)
وَالْخَلَائِقَ عَلَى أُصْبُعٍ، ثُمَّ يَقُولُ: "أَنَا الْمَلِكُ". فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 1 [الزمر: 67] .
وفي رواية: فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا2.
وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ كَأَنَّهُ مُفَسِّرٌ لِهَذَا، وَبِمَعْنَاهُ يَتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمَرِ: 67] ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ كَلَامَ الْيَهُودِيِّ حَقٌّ فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَرِ: 67] ، وَأَشَارَتْ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَأَدَّبْ مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَعْنَى الْأَصَابِعِ بِأَصَابِعِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلتَّنْزِيهِ لِلْبَارِي سُبْحَانَهُ؛ فَقَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمَرِ: 67] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التَّوْبَةِ: 61] ؛ أَيْ: يسمع الحق والباطل، فرد
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، 8/ 550-551/ رقم 4811، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} , 13/ 393/ رقم 7414، 7415، وباب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} ، 13/ 438/ رقم 7451، وباب كلام الرب -عز وجل- يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، 13/ 474/ رقم 7513"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب منه، 4/ 2147/ رقم 2786"، والترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الزمر، 5/ 371/ رقم 3238" والمذكور لفظه، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 236-237/ رقم 270-471، وكتاب النعوت" -كما في "التحفة" "رقم 9404"- عن ابن مسعود, رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} ، 13/ 393/ رقم 7414"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفة القيامة والجنة والنار، 4/ 2147/ رقم 2786"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، رقم 470"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الزمر، 5/ 371/ رقم 3239" عن ابن مسعود, رضي الله عنه.(4/164)
الله عليهم فيما هو باطل، وأحق؛ فَقَالَ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُم} ، [ {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} ] الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 61] وَلَمَّا قَصَدُوا الْإِذَايَةَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 61] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] ؛ فَهَذَا مَنْعُ امْتِنَاعٍ عَنِ الْإِنْفَاقِ بِحُجَّةِ قَصْدِهِمْ فِيهَا الِاسْتِهْزَاءِ؛ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس: 47] ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَيْدٌ عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَجَوَابُ {أَنْفِقُوا} أَنْ يُقَالَ: نَعَمْ أَوْ لَا، وَهُوَ الِامْتِثَالُ أَوِ الْعِصْيَانُ، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَى الِامْتِنَاعِ بِالْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي لَا تُعَارَضُ؛ انْقَلَبَ1 عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوا؛ إِذْ حَاصِلُهُ أَنَّهُمُ اعْتَرَضُوا عَلَى الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ؛ بِالْمَشِيئَةِ2 الْمُطْلَقَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ شَاءَ أَنْ يُكَلِّفَهُمُ الْإِنْفَاقَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ3 يَشَاءُ الطَّلَبُ مِنَّا وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُطْعِمَهُمْ لِأَطْعَمَهُمْ؟ وَهَذَا عَيْنُ الضَّلَالِ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الْأَنْبِيَاءِ: 78] ؛ فَقَوْلُهُ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 79] تَقْرِيرٌ لِإِصَابَتِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ فِي دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَكِنْ لَمَّا كان المجتهد معذورًا مأجورًا بعد بذله
__________
1 أي: حيث إن المشيئة الإلهية لا تعارض، فكان يجب الامتثال وعدم المعارضة فيها؛ فانقلبت الحجة عليهم لأنهم عارضوها فلم يمتثلوا مشيئة الطلب الموجه إليهم، وهذا على أن قوله: "إن أنتم" موجه إليهم من قبل الله أو المؤمنين، أما إذا كان موجهًا منهم إلى المؤمنين يخطئونهم في طلب النفقة على فقراء المسلمين أقاربهم على طريق الاستهزاء؛ أي: ما لكم تقولون: إن الله يرزق من يشاء ثم تطلبون النفقة منا؟ فهذا تناقض، وهو غاية الضلال؛ فلا يكون من هذا الباب. "د".
2 على حد قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] . "د".
3 وتوجيه هذا يتمكن منه بمراجعة الفخر الرازي [26/ 74] في الآية: "د".(4/165)
الْوُسْعَ؛ قَالَ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الْأَنْبِيَاءِ: 79] ، وَهَذَا مِنَ الْبَيَانِ الْخَفِيِّ1 فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
قَالَ الْحَسَنُ: "وَاللَّهِ لَوْلَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ؛ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ قَدْ هَلَكُوا، فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ، وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ"2.
وَالنَّمَطُ هُنَا يَتَّسِعُ، وَيَكْفِي مِنْهُ مَا ذُكِرَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ:
وَلِلسُّنَّةِ مَدْخَلٌ فِي هَذَا الْأَصْلِ؛ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُحَصَّلَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يَسْكُتُ عَمَّا يَسْمَعُهُ أَوْ يَرَاهُ مِنَ الْبَاطِلِ؛ حَتَّى يُغَيِّرَهُ أَوْ يُبَيِّنَهُ إِلَّا إِذَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ بُطْلَانُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُمْكِنُ السُّكُوتُ إِحَالَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبَيَانِ فِيهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ في الأصول3.
__________
1 لأنه لم يصرح بخطأ داود، إنما يفهم من قصر التفهيم على سليمان. "د".
2 أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره"؛ كما في "تفسير ابن كثير" "3/ 195-196" نحوه، وذكره عنه القرطبي في "تفسيره" "11/ 309" بنصه وحرفه.
3 في مسألة "إذا علم بفعل ولم ينكره قادرًا على إنكاره؛ فإن كان معتقد كافر؛ فلا أثر لسكوته عنه لما علم أنه منكر له؛ فلا دلالة له على صحته ... إلخ"، راجع "تحرير الأصول". "د".
قلت: وانظر "البحر المحيط" "3/ 488 و4/ 204" للزركشي.(4/166)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
إِذَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ التَّرْغِيبُ قَارَنَهُ التَّرْهِيبُ فِي لَوَاحِقِهِ أَوْ سَوَابِقِهِ أَوْ قَرَائِنِهِ1 وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ التَّرْجِيَةُ مَعَ التَّخْوِيفِ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى مِثْلُهُ، وَمِنْهُ ذِكْرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُقَارِنُهُ ذِكْرُ أَهْلِ النَّارِ، وَبِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَعْمَالِهِمْ تَرْجِيَةٌ، وَفِي ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ تَخْوِيفًا؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى التَّرْجِيَةِ وَالتَّخْوِيفِ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَرْض الْآيَاتِ عَلَى النَّظَرِ؛ فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَمْدَ فَاتِحَةَ كِتَابِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الْفَاتِحَةِ: 6-7] إِلَى آخِرِهَا.
فَجِيءَ بِذِكْرِ الفريقين، ثم بُدئت سورة البقرة بذكرهما أيضًا؛ فقيل: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} [البقرة: 2] .
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 6] .
ثُمَّ ذُكر بِإِثْرِهِمُ الْمُنَافِقُونَ، وَهُوَ صِنْفٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا تَمَّ ذَلِكَ أَعْقَبَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، ثُمَّ بِالتَّخْوِيفِ بِالنَّارِ، وَبَعْدَهُ بِالتَّرْجِيَةِ؛ فَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 24-25] .
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ
__________
1 كما في الآيات المشتملة عليهما معًا، ومن أظهرها في ذلك قوله تعالى في سورة الدهر: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ ... } إلى قوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنساء: 5-11] . "د".(4/167)
آمَنُوا} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 26] .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ مِثْلَ هَذَا، وَلَمَّا ذُكِرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ اعْتِدَائِهِمْ وَكُفْرِهِمْ؛ قِيلَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا ... } إِلَى قَوْلِهِ: {هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [الْبَقَرَةِ: 62-81] .
ثُمَّ ذَكَرَ تَفَاصِيلَ ذَلِكَ الِاعْتِدَاءِ إِلَى أَنْ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 102] ، وَهَذَا تَخْوِيفٌ.
ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 103] ، وَهُوَ تَرْجِيَةٌ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي ذِكْرِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ1 الْمُخَالِفِينَ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ قَالَ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 112] .
ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الْبَقَرَةِ: 121] .
ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَبَنِيهِ، وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا التَّخْوِيفَ وَالتَّرْجِيَةَ، وَخَتَمَهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا يَطُولُ عَلَيْكَ زَمَانُ إِنْجَازِ الْوَعْدِ فِي هَذَا الِاقْتِرَانِ؛ فَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَشْيَاءُ مُعْتَرِضَةٌ فِي أَثْنَاءِ الْمَقْصُودِ، وَالرُّجُوعُ بَعْدُ إِلَى مَا تقرر.
__________
1 يريد بذلك قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] ، أو قوله: {وَدَّ كَثِير....} إلخ [البقرة: 109] بدليل قوله، ثم قال: بلى من أسلم، والواقع أن آية: {مَا نَنْسَخْ} [البقرة: 106] وما بعدها من ذكر إبراهيم والثناء عليه بأنه إمام للناس، وبنائه للبيت، وتعظيم البيت وبانيه، كل هذا كتوطئة وتمهيد لذكر مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُخَالِفِينَ فِي تَحْوِيلِ القبلة بقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء ... } إلخ [البقرة: 142] . "د".(4/168)
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ فِي الْمَكِّيَّاتِ نَظِيرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْمَدَنِيَّاتِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ....} إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الْأَنْعَامِ: 1] .
وَذَكَرَ الْبَرَاهِينَ التَّامَّةَ، ثُمَّ أَعْقَبَهَا بِكُفْرِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ بِسَبَبِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْأَنْعَامِ: 12] .
فَأَقْسَمَ بِكَتْبِ الرَّحْمَةِ عَلَى إِنْفَاذِ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ خَالَفَ، وَذَلِكَ يُعْطِي التَّخْوِيفَ تَصْرِيحًا، وَالتَّرْجِيَةَ ضِمْنًا.
ثُمَّ قَالَ: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الْأَنْعَامِ: 15] ؛ فَهَذَا تَخْوِيفٌ.
وَقَالَ: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 16] ، وَهَذَا تَرْجِيَةٌ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 17] .
ثُمَّ مَضَى فِي ذِكْرِ التَّخْوِيفِ، حَتَّى قَالَ: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الْأَنْعَامِ: 32] .
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الْأَنْعَامِ: 36] .
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 39] .
ثُمَّ [جَرَى] 1 ذِكْرُ ما يليق بالموطن إلى لأن قَالَ: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 48] .
وَاجْرِ فِي النَّظَرِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، يَلُحْ1 لَكَ وَجْهُ الْأَصْلِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ لَبُسِطَ مِنْ ذلك كثير.
__________
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".(4/169)
فَصْلٌ:
وَقَدْ يَغْلِبُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِحَسَبِ الْمَوَاطِنِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ:
فَيَرِدُ التَّخْوِيفُ وَيَتَّسِعُ مَجَالُهُ1، لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنَ التَّرْجِيَةِ، كَمَا فِي سُورَةِ الأنعام؛ فإنها جاءت مقررة للحق2، وَمُنْكِرَةً عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَاخْتَرَعَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَا لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِ، وَصَدَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَأَنْكَرَ مَا لَا يُنْكَرُ، وَلَدَّ3 فِيهِ وَخَاصَمَ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي تَأْكِيدَ التَّخْوِيفِ، وَإِطَالَةَ التَّأْنِيبِ وَالتَّعْنِيفِ؛ فَكَثُرَتْ مُقَدِّمَاتُهُ وَلَوَاحِقُهُ، وَلَمْ يخلُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ طَرَفِ التَّرْجِيَةِ لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ مَدْعُوُّونَ إِلَى الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الدُّعَاءُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَزِيدُ تَكْرَارٍ إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا، وَمَوَاطِنُ الِاغْتِرَارِ يُطْلَبُ فِيهَا التَّخْوِيفُ أَكْثَرَ مِنْ طَلَبِ التَّرْجِيَةِ؛ لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ آكَدُ.
وَتَرِدُ التَّرْجِيَةُ أَيْضًا وَيَتَّسِعُ مَجَالُهَا، وَذَلِكَ فِي مَوَاطِنِ الْقُنُوطِ وَمَظِنَّتِهِ4؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 53] ؛ فَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا؛ فَأَتَوْا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: إن الذي تقول
__________
1 فمثلًا سورة الرحمن ثلثها الأول تقريبًا آيات دالة على الصانع المبدع سبحانه توطئة لما يجيء بعد من التخويف والترغيب، وأنه بعلمه وقدرته وإبداعه لا يعجزه ما خوف منه وما رغب فيه، والثلث الثاني غاية التخويف والوعيد، والثالث غاية الترغيب والترجية. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "للخلق"!!
3 اللدة: شدة الخصومة. "ف".
4 في "ط": "أو مظنته".(4/170)
وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَلَنَا لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةٌ؟ فَنَزَلَتْ1.
فَهَذَا مَوْطِنُ خَوْفٍ يُخَافُ مِنْهُ الْقُنُوطُ؛ فَجِيءَ فِيهِ بِالتَّرْجِيَةِ غَالِبَةً2، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْآيَةُ الْأُخْرَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هُودٍ: 114] ، وَانْظُرْ فِي سَبَبِهَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا3.
وَلَمَّا كَانَ جَانِبُ الْإِخْلَالِ4 مِنَ الْعِبَادِ أَغْلَبَ؛ كَانَ جَانِبُ التَّخْوِيفِ أَغْلَبَ، وَذَلِكَ فِي مَظَانِّهِ الْخَاصَّةِ لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا لم يكن هنالك مظنة
__________
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من المشركين بمكة، 7/ 165/ رقم 3855، وكتاب التفسير، باب {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَاب} ، 8/ 494/ رقم 4764"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب منه، 4/ 2318/ رقم 3023" بعد "19" عن ابن عباس نحوه.
وأخرجه من حديثه أيضًا بلفظ المصنف: البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب سورة الزمر، 8/ 549/ رقم 4810"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، 1/ 113/ رقم 122"، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 484"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 403"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 98".
2 لأنه أطلق الذنوب، فلم يقيد بصغيرة ولا كبيرة، ولم يشترط شرطًا ما؛ فلم يقل: "لمن يشاء"، ثم أكد الأمر بقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [الزمر: 53] ، ومثله يقال في إذهاب الحسنات للسيئات في الآية الآتية بعدها. وفي "ط": "بالترجية فيه غالبة".
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} ، 4/ 2115-2116" عن ابن مسعود أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له؛ فنزلت ...
وأخرجه أيضًا البخاري في "صحيحه" "رقم 526، 4687"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، رقم 267"، والترمذي في "جامعه" "رقم 3114"، وابن ماجه في "سننه" "رقم 1398، 4254".
4 في "ط": "الانحلال".(4/171)
هَذَا وَلَا هَذَا أَتَى الْأَمْرُ مُعْتَدِلًا، وَقَدْ مَرَّ لِهَذَا الْمَعْنَى بَسْطٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَطَّرِدُ؛ فَقَدْ يَنْفَرِدُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يُؤْتَى مَعَهُ بِالْآخَرِ، فَيَأْتِي التَّخْوِيفُ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيَةٍ، وَبِالْعَكْسِ.
أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ... } [الْهَمْزَةِ: 1-9] إِلَى آخِرِهَا؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا تَخْوِيفٌ.
وَقَوْلَهُ: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ... } [الْعَلَقِ: 6-19] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَقَوْلَهُ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ... } [الْفِيلِ: 1-5] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الْأَحْزَابِ: 57-58] .
وَفِي الطَّرَفِ الْآخَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ... } [الضُّحَى: 1-11] إِلَى آخِرِهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ... } [الشَّرْحِ: 1-8] إِلَى آخِرِهَا.
وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ [النُّورِ: 22] .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْتَقَى هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَيُّ آيَةٍ أَرْجَى فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَوْلُهُ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 53] . فَقَالَ ابْنُ(4/172)
عَبَّاسٍ: لَكِنَّ قَوْلَ اللَّهِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [الْبَقَرَةِ: 260] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَضِيَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: {بَلَى} ".
قَالَ1: "فَهَذَا لِمَا يَعْتَرِضُ فِي الصُّدُورِ مِمَّا يُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ"2.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ قَالَ: "فِي الْقُرْآنِ آيَتَانِ مَا قَرَأَهُمَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ عِنْدَ ذَنْبٍ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ". وَفَسَّرَ ذَلِكَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آلِ عِمْرَانَ: 135] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] .
__________
1 أي: إن عبد الله قال لابن عباس: إن هذا في موضوع آخر؛ كحديث القائل له, صلى الله عليه وسلم: إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكون حممة أحب إليَّ من أن أتكلم به. فقال له, صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة" 1؛ فليس راجعًا إلى أصل الإيمان أو قبول فيه حتى تكون الآية أرجى الآيات كما فهمت. "د".
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص149" بسند ضعيف، فيه عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم أبو صالح المصري، كاتب الليث، صدوق، كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة.
3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "149-150"، والطبراني في "مسند الشاميين" "2/ 334-335/ رقم 1444" بإسناد ضعيف، فيه أبو الفرات مولى صفية وهو مجهول، انظر عنه: "الاستغناء" لابن عبد البر "3/ 1511-1512"، ونحوه عن ابن مسعود في "تفسير القرطبي" "5/ 380"، وفيه: "وروى سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة؛ قالا: قال ابن مسعود ... وذكره".
وقلت: ظفرت به من طريق أبي الأحوص سلَّام بن سُلَيم عن أبي إسحاق السبيعي به، أخرجه سعيد بن منصور في "السنن" "3/ 1091/ رقم 526" ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "9/ 241/ رقم 9035"، وابن المنذر في "تفسيره" كما في هامش "تفسير ابن أبي حاتم" "2/ ق 68 =
__________
1 سيأتي نحوه في "5/ 34".(4/173)
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "إِنَّ فِي النِّسَاءِ خَمْسَ آيَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ إِذَا مَرُّوا بِهَا مَا يَعْرِفُونَهَا1 قَوْلُهُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 31] .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 40] .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 48] .
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 64] .
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} 2 [النِّسَاءِ: 110] .
__________
= /أ" وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 328/ رقم 9572"، كلاهما عن أبي الأحوص به.
وإسناده رجاله ثقات، وأبو إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث، وقد اختلط، ولكن روى عنه سفيان قبل اختلاطه، وظفرتُ برواية سفيان -التي أشار إليها القرطبي- في "تفسير عبد بن حميد" كما في هامش "تفسير ابن أبي حاتم" "2/ ق 180/ أ".
وأخرجه سعيد بن منصور بنحوه في "سننه" "4/ 1371/ رقم 687" -ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "9/ 250-251/ رقم 9070"- بإسناد ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم، ومجموع هذه الطرق تنبئ على أن للأثر أصلًا، وبها إن شاء الله يصل إلى درجة الحسن.
1 في الأصل و"ط": "ما يعرفونها"، وكذا في جميع الطبعات، والصواب حذف "ما" كما في مصادر التخريج.
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص150"، وسعيد بن منصور في "السنن" "4/ 1297/ رقم 659", ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "9/ 250/ رقم 9069"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 361/ رقم 2203"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 305" ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "5/ 360-361/ رقم 2202"، جميعهم من طريق مسعر بن كِدَام عن معن بن عبد الرحمن عن أبيه؛ قال: قال عبد الله بن مسعود به.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "7/ 11-12": "رجاله رجال الصحيح".
قلت: نعم، ولكنه منقطع، لم يسمع عبد الرحمن من أبيه إلا حديثين؛ ولذا قال الحاكم عقبه, ووافقه الذهبي: "هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه؛ فقد اختلف في ذلك".
ولهذا الأثر طرق تدل على أن له أصلًا؛ فأخرج عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 155-156" ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" "8/ 256-257/ رقم 9233" عن معمر عن رجل عن ابن مسعود به نحوه.
وأخشى أن يكون هذا الرجل المبهم هو عبد الرحمن، والحكم على هذا الإسناد متوقف على معرفته.
وأخرج هناد في "الزهد" "2/ 454-455/ رقم 903" نحوه عن ابن مسعود، وفي إسناده بشير الأوديّ، وهو مجهول.(4/174)
وَأَشْيَاءُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرَةٌ، إِذَا تُتِبِّعَتْ وُجِدَتْ؛ فَالْقَاعِدَةُ لَا تَطَّرِدُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُقَالُ: أَنَّ كُلَّ مَوْطِنٍ لَهُ مَا يُنَاسِبُهُ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَهُوَ الَّذِي يَطَّرِدُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ، أَمَّا هَذَا التَّخْصِيصُ؛ فَلَا.
فَالْجَوَابُ: إِنَّ مَا اعْتُرِضَ بِهِ غَيْرُ صادٍّ عَنْ سَبِيلِ مَا تَقَدَّمَ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ: إِجْمَالِيٌّ، وَتَفْصِيلِيٌّ:
فَالْإِجْمَالِيُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ الْعَامَّ وَالْقَانُونَ الشَّائِعَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ؛ فَلَا تَنْقُضُهُ الْأَفْرَادُ الْجُزْئِيَّةُ الْأَقَلِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الْكُلِّيَّةَ إِذَا كَانَتْ أَكْثَرِيَّةً فِي الْوَضْعِيَّاتِ انْعَقَدَتْ كُلِّيَّةً، وَاعْتُمِدَتْ فِي الْحُكْمِ بِهَا وَعَلَيْهَا، شَأْنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ1 الْجَارِيَةِ فِي الْوُجُودِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا اعْتُرِضَ بِهِ مِنْ ذلك قليل، يدل عليه الِاسْتِقْرَاءِ؛ فَلَيْسَ بِقَادِحٍ فِيمَا تَأَصَّلَ.
وَأَمَّا التَّفْصِيلِيُّ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الْهُمَزَةِ: 1] قضية
__________
1 أي: فمع كونها أغلبية اعتبرها الشارع في إجراء الأحكام عليها، كما في أحكام السفر، وبناء التكليف على البلوغ الذي هو مظنة العقل، وهكذا، كما تقدم في "المقاصد" في المسألة العاشرة من النوع الأول والخامسة عشرة من النوع الرابع. "د".(4/175)
عَيْنٍ فِي رَجُلٍ مُعَيَّنٍ1 مِنَ الْكُفَّارِ، بِسَبَبِ أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، مِنْ هَمْزِهِ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَعَيْبِهِ إِيَّاهُ؛ فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ جَزَائِهِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ الْقَبِيحِ، لَا أَنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى التَّخْوِيفِ؛ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ جَارٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} 2 [الْعَلَقِ: 6-7] ، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآيتين [الأحزاب: 57-58] جَارٍ3 عَلَى مَا ذُكِرَ.
وَكَذَلِكَ سُورَةُ وَالضُّحَى، وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشَّرْحِ: 1] غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِلنَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالشُّكْرِ لِأَجْلِ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْمِنَحِ.
وَقَوْلُهُ: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النُّورِ: 22] قَضِيَّةُ عَيْنٍ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، نَفَّسَ بِهَا مِنْ كَرْبِهِ فِيمَا أَصَابَهُ بِسَبَبِ الْإِفْكِ الْمُتَقَوَّلِ عَلَى بِنْتِهِ عَائِشَةَ؛ فَجَاءَ هَذَا الْكَلَامُ كَالتَّأْنِيسِ لَهُ وَالْحَضِّ عَلَى إِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِدَامَتِهَا، بِالْإِنْفَاقِ عَلَى قَرِيبَةِ الْمُتَّصِفِ بِالْمَسْكَنَةِ وَالْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَكِنْ أَحَبَّ اللَّهُ لَهُ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ.
وَقَوْلُهُ: {لَا تَقْنَطُوا} [الزُّمَرِ: 53] وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا فِي الْمُذَاكَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ بِذِكْرِ ذَلِكَ النَّقْضَ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، بَلِ النَّظَرَ فِي مَعَانِي آيَاتٍ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزُّمَرِ: 53] أُعْقِبَ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 54] ، وَفِي هَذَا تَخْوِيفٌ عظيم
__________
1 هو أبي بن خلف أو أمية بن خلف أو الوليد بن المغيرة أو العاصي بن وائل، أو هم جميعًا لأنهم كانوا أغنياء عيابين في النبي -صلى الله عليه وسلم- تنطبق عليهم الأوصاف التي في السورة. "د".
2 نزل في أبي جهل وإن كان المراد الجنس، وقد نزلت الآيات بعد ما قبلها من السورة بزمن طويل. "د".
3 لأنهما نزلتا في أبي بن سلول ومن معه في قضية الإفك، أو فيمن طعنوا عليه -صلى الله عليه وسلم- في زواج صفية بنت حيي بن أخطب. "د".(4/176)
مُهَيِّجٌ لِلْفِرَارِ مِنْ وُقُوعِهِ، وَمَا تَقَدَّمَ1 مِنَ السَّبَبِ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَقْنَطُوا} [الزُّمَرِ: 53] رَافِعٌ لِمَا تُخُوِّفُوهُ مِنْ عَدَمِ الْغُفْرَانِ لِمَا سَلَفَ.
وَقَوْلَهُ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [الْبَقَرَةِ: 260] نَظَرَ فِي مَعْنَى آيَةٍ فِي الْجُمْلَةِ وَمَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهَا، وَإِلَّا؛ فَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} [الْبَقَرَةِ: 260] تَقْرِيرٌ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّخْوِيفِ أَنْ لَا يَكُونَ مُؤْمِنًا، فَلَمَّا قَالَ: "بَلَى" حَصَلَ الْمَقْصُودُ.
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آلِ عِمْرَانَ: 135] كَقَوْلِهِ: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزُّمَرِ: 53] .
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النِّسَاءِ: 110] دَاخِلٌ تَحْتَ أَصْلِنَا لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النِّسَاءِ: 105] ، {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النِّسَاءِ: 107-109] .
وَقَوْلُهُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا} آتٍ بَعْدَ الْوَعِيدِ عَلَى الْكَبَائِرِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَالِكَ؛ كَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْحَيْفِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَغَيْرِهِمَا، فَذَلِكَ مِمَّا يُرْجَى بِهِ [بَعْدَ] تَقَدُّمِ2 التَّخْوِيفِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النِّسَاءِ: 40] ؛ فَقَدْ أُعْقِبَ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 42] ، وَتَقَدَّمَ قَبْلَهَا قَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {عَذَابًا مُهِينًا} [النِّسَاءِ: 37] ، بَلْ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] جمع التخويف مع الترجية.
__________
1 "ص170".
2 لعل الأصل: "تقدمه"؛ أي: فقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا} الآية مما يرجي به، لكن سبقه التخويف. "د". قلت: قاله بسبب سقوط "بعد".(4/177)
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} 1 الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 64] تَقَدَّمَ قَبْلَهَا وَأَتَى بَعْدَهَا تَخْوِيفٌ عَظِيمٌ؛ فَهُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 48] جَامِعٌ لِلتَّخْوِيفِ وَالتَّرْجِيَةِ مِنْ حَيْثُ قَيَّدَ غُفْرَانَ مَا سِوَى الشِّرْكِ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَمْ يُرِدِ ابْنُ مَسْعُودٍ بِقَوْلِهِ: "مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" أَنَّهَا آيَاتُ تَرْجِيَةٍ خَاصَّةٍ، بَلْ مُرَادُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ فِي الشَّرِيعَةِ مُحْكَمَاتٌ، قَدِ احْتَوَتْ عَلَى عِلْمٍ كَثِيرٍ، وَأَحَاطَتْ بِقَوَاعِدَ عَظِيمَةٍ فِي الدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ إِذَا مَرُّوا بِهَا مَا يَعْرِفُونَهَا"2، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ جَارٍ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مَوْطِنٍ ما يناسبه [وإن الذي يُنَاسِبُهُ] إِنْزَالُ الْقُرْآنِ إِجْرَاؤُهُ3 عَلَى الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ لَا أَنَّهُ أُنْزِلَ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ:
وَمِنْ هُنَا يُتَصَوَّرُ لِلْعِبَادِ أَنْ يَكُونُوا دَائِرِينَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ دَائِرَةٌ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ....} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 57-60] .
وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218] .
__________
1 "جاءوك" سقطت من الأصل.
2 كذا في الأصول كلها، وسبق التنبيه قريبًا "ص174" أن الأثر في كتب التخريج دون "ما".
3 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط، ولذا كتب "د": "إجراؤه بدل من إنزال"، وقال "ف": "لعل العبارة: ما يناسب إنزال القرآن وإجراؤه". قلت: وكذا أثبتها "م".(4/178)
وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَه} [الْإِسْرَاءِ: 57] .
وَهَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ طَرَفُ الِانْحِلَالِ وَالْمُخَالَفَةِ؛ فَجَانِبُ الْخَوْفِ عَلَيْهِ أَقْرَبُ، وإن غلب [الخوف] 1 عَلَيْهِ طَرَفُ التَّشْدِيدِ وَالِاحْتِيَاطِ؛ فَجَانِبُ الرَّجَاءِ إِلَيْهِ أَقْرَبُ، وَبِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُؤَدِّبُ أَصْحَابَهُ2، وَلَمَّا غَلَبَ عَلَى قَوْمٍ جَانِبُ الْخَوْفِ قِيلَ لَهُمْ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 53] .
وَغَلَبَ عَلَى قَوْمٍ جَانِبُ الْإِهْمَالِ فِي بَعْضِ3 الْأُمُورِ، فَخُوِّفُوا وَعُوتِبُوا كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 57] .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا مِنْ تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِي آيَاتِهِ؛ فَعَلَى الْمُكَلَّفِ الْعَمَلُ على وفق ذلك التأديب.
__________
1 زيادة من "م" فقط.
2 تجد طائفة من الأحاديث الواردة في ذلك في "التذكرة" للقرطبي، يسر الله إتمامه ونشره.
3 تقدم أن الآية نزلت في أبي بن سلول أو فيمن طعنوا فيه وعابوه -صلى الله عليه وسلم- في زواج صفية، وسواء أكان هذا أم ذاك؛ فقد نزلت في شأن قوم من الكفار، والموضع الآن لذكر المؤمنين الذين غلب عليهم أحد الطرفين وطريقة تأديبهم، فلو ذكر في تأديب من غلب عليه جانب الإهمال في بعض الأمور مثل آية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} الآية [الحديد: 16] ؛ لكان ظاهرًا وصح تسميته عتابًا، أما الذين يلعنون في الدنيا والآخرة؛ فلا يعد هلاكهم الأبدي عتابًا. "د".(4/179)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَكْثَرُهُ كُلِّيٌّ1 لَا جُزْئِيٌّ، وَحَيْثُ جَاءَ جُزْئِيًّا؛ فَمَأْخَذُهُ عَلَى الْكُلِّيَّةِ إِمَّا بِالِاعْتِبَارِ2، أَوْ بِمَعْنَى3 الْأَصْلِ؛ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِثْلَ خَصَائِصِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ الِاسْتِقْرَاءِ الْمُعْتَبَرِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ4 إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبَيَانِ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ عَلَى كَثْرَتِهَا وَكَثْرَةِ مَسَائِلِهَا إِنَّمَا هِيَ بَيَانٌ لِلْكِتَابِ، كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] .
وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُعْطِي مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ؛ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القيامة" 5.
__________
1 معنى الكلية هنا أنه لا يختص بشخص دون آخر، ولا بحال دون حال، ولا زمان دون آخر، وأيضًا ليس مفصلًا مستوعبًا لشروط وأركان وموانع ما يطلب أو ما ينهى عنه، وهو المسمى بالمجمل، وإنما حملنا الكلية على هذين المعنيين معًا لتنزيل كلامه الآتي عليه، ألا ترى إلى قوله: "إلا ما خصه الدليل"، وإلى قوله: "ويدل على هذا المعنى أنه محتاج إلى كثير من البيان"، وقوله: "وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة ... إلخ"؟ "د".
قلت: بين هذه الكليات ابن القيم في "مدارج السالكين" "1/ 452-453, ط الفقي".
2 أي: باعتبار المآلات، وهو المسمى بالاستحسان. "د".
3 وهو القياس. "د".
4 لمعرفة التفاصيل والشروط والموانع وأركان الماهيات الشرعية وغير ذلك، وهذه الحاجة هي علامة الكلية. "د".
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، 9/ 3/ رقم 4981، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم "بعثت بجوامع =(4/180)
وَإِنَّمَا1 الَّذِي أُعْطِيَ الْقُرْآنَ، وَأَمَّا السُّنَّةُ؛ فَبَيَانٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْقُرْآنُ عَلَى اخْتِصَارِهِ جَامِعٌ، وَلَا يَكُونُ جَامِعًا إِلَّا وَالْمَجْمُوعُ فِيهِ أُمُورٌ كُلِّيَّاتٌ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ تَمَّتْ بِتَمَامِ نُزُولِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 3] .
وَأَنْتَ2 تَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْجِهَادَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ لَمْ يَتَبَيَّنْ جَمِيعُ أَحْكَامِهَا فِي الْقُرْآنِ، إِنَّمَا بَيَّنَتْهَا3 السُّنَّةُ، وَكَذَلِكَ الْعَادِيَّاتُ مِنَ الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها.
__________
= الكلم"، 13/ 247/ رقم 7274"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة، 1/ 134/ رقم 152" عن أبي هريرة, رضي الله عنه. وفي "ط": "ما من الأنبياء من نبي ... ".
قال "ف" شارحًا "ما مثله آمن عليه البشر": "أي: لأجله، بحيث إذا شاهده اضطر إلى التصديق به؛ فموسى -عليه السلام- أعطي آية العصا وقلبها حية لأن الغلبة إذ ذاك للسحرة؛ فجاءهم بما يوافق السحر، فاضطرهم إلى الإيمان بذلك، وكذلك عيسى أعطي آية إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى؛ لأن الغلبة في زمانه للطب، فجاءهم بما هو أعلى منه، وهو إحياء الموتى.
وفي زمان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت الغلبة للبلاغة والبيان؛ فجاءهم بالقرآن من جنس ما تناهوا فيه مما عجز عنه البلغاء الكاملون في عصره؛ فاضطرهم إلى التصديق بمعجزاته، وهكذا كل نبي أعطي من المعجزات ما يناسب أهل زمانه مما إذا شوهد اضطر الشاهد إلى التصديق به بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه، ولا يقدر على الإتيان بمثله" ا. هـ.
1 لأنه المشتمل على ما آمن لأجله الناس من المعجزة، وليس هذا في السنة، وإذا كان الذي أعطيه هو القرآن؛ فلا يتأتى أن يكون جامعًا لحاجة البشر في دينهم ودنياهم؛ إلا إذا كان مشتملًا على التفاصيل في معاملة الخلق والخالق، ولكنه يبقى أن يقال: إنه ورد في الحديث الآخر: "أعطيت القرآن ومثله معه"؛ فهذا الحصر غير مسلم إلا باعتبار الإعجاز الذي في الحديث؛ فلا يظهر وجه الاستدلال بالحديث على الكلية لتعريفه للأحكام الشرعية. "د".
2 من تتمة الدليل قبله. "د".
3 وسيأتي في المسألة الرابعة من السنة بيان ذلك بتفصيل. "د".(4/181)
وَأَيْضًا1، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى رُجُوعِ الشَّرِيعَةِ إِلَى كُلِّيَّاتِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ، وَجَدْنَاهَا قَدْ تَضَمَّنَهَا2 الْقُرْآنُ عَلَى الكمال، وهي3 الضروريات والحاجيات والتحسينيات وَمُكَمِّلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ أَيْضًا4؛ فَالْخَارِجُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَنِ الْكِتَابِ هُوَ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ عَدَّ النَّاسُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النِّسَاءِ: 105] مُتَضَمِّنًا لِلْقِيَاسِ، وَقَوْلَهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الْحَشْرِ: 7] مُتَضَمِّنًا لِلسُّنَّةِ، وَقَوْلَهُ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاءِ: 115] مُتَضَمِّنًا لِلْإِجْمَاعِ، وَهَذَا أَهَمُّ مَا يَكُونُ.
وَفِي "الصَّحِيحِ" عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ...." 5 إِلَخْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ، يُقَالُ لَهَا أُمُّ يعقوب،
__________
1 استدلال آخر على كلية تعريف الكتاب للأحكام الشرعية. "د".
2 في "ط": "تضمنت".
3 انظر بيانه الوافي في المسألة الرابعة من دليل السنة من قوله: "وَمِنْهَا النَّظَرُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ في الجملة ... ". "د".
4 لعل الأصل: "وأيضًا؛ فالخارج ... إلخ" ليكون دليلًا ثالثًا على الكلية بالمعنيين وتكون هذه الآيات الثلاث من أوسع كلياته شمولًا، وهو ما يشير إليه قوله: "وهذا أهم ما يكون". "د". قلت: هو في "ط" كذلك: "وأيضًا؛ فالخارج ... ".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، 8/ 630/ رقم 4886، 4887، وكتاب اللباس، باب الموصولة، 10/ 378/ رقم 5943، وباب المستوشمة، 10/ 380/ رقم 5948"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، 3/ 1678/ رقم 2125", والترمذي "أبواب الأدب, باب ما جاء في الواصلة والمستوصلة, 5/ 104/ رقم 2782"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزينة، باب لعن المتنمصات والمتفلجات، 8/ 188"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح، باب الواصلة والمستوشمة، 1/ 640/ رقم 1989"، وأحمد في "المسند" "1/ 433-434، 443، 448، 454، 462، 465" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- به.=(4/182)
وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَذَكَرَتْهُ. فقال عبد الله: وما لي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ1 رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ! فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، قَالَ اللَّهُ, عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] الْحَدِيثَ.
وَعَبْدُ اللَّهِ مِنَ الْعَالِمِينَ بِالْقُرْآنِ.
فَصْلٌ
فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْقُرْآنِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ دُونَ النَّظَرِ فِي شَرْحِهِ وَبَيَانِهِ وَهُوَ السُّنَّةُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كُلِّيًّا وَفِيهِ أُمُورٌ جُمْلِيَّةٌ2 كَمَا فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهَا؛ فَلَا مَحِيصَ عَنِ النَّظَرِ فِي بَيَانِهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي تَفْسِيرِ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهُ إِنْ أَعْوَزَتْهُ السُّنَّةُ؛ فَإِنَّهُمْ أَعْرَفُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِلَّا؛ فَمُطْلَقُ3 الْفَهْمِ الْعَرَبِيِّ لِمَنْ حَصَّلَهُ يَكْفِي فِيمَا أعوز من ذلك، والله أعلم.
__________
1 أي: في الحديث السابق، وهو لم يرفعه هنا اكتفاء بقوله: "لعن رسول الله"، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ ... } إلخ [الحشر: 7] ؛ فالحديث دليل تفصيلي لمسألتها والآية دليل إجمالي. "د".
2 يتأمل في الفرق بين كونه كليًّا وبين أن فيه أمورًا كلية. "د"، و"جملية" من "ط" فقط، وبدلها في غيره "كلية".
3 المراد الفهم الناشئ عن الدربة فيه كما تقدم آنفًا لا مجرد أي فهم عربي فرض. "د".(4/183)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
الْقُرْآنُ فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ؛ فَالْعَالِمُ بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ عَالِمٌ بِجُمْلَةِ1 الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَعُوزُهُ2 مِنْهَا شَيْءٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:
- مِنْهَا: النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ، مِنْ قَوْلِهِ3: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} 4 الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 3] .
وَقَوْلِهِ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النَّحْلِ: 89] .
وَقَوْلِهِ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 5 [الْأَنْعَامِ: 38] .
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الْإِسْرَاءِ: 9] ، يَعْنِي: الطريقة الْمُسْتَقِيمَةَ6، وَلَوْ لَمْ يَكْمُلْ فِيهِ جَمِيعُ مَعَانِيهَا؛ لَمَا صَحَّ إِطْلَاقُ هَذَا الْمَعْنَى عَلَيْهِ حَقِيقَةً.
وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ هُدًى وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَلَا يَكُونُ شِفَاءً لِجَمِيعِ7 مَا فِي الصُّدُورِ إِلَّا وَفِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ.
- وَمِنْهَا: مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الْمُؤْذِنَةِ بِذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ، وَهُوَ النور المبين، والشفاء النافع، عصمة
__________
1 أي: عالم بالشريعة إجمالًا، لا ينقصه من إجمالها وكلياتها شيء. "د".
قلت: انظر "مجموع الفتاوى" "17/ 443-444 و19/ 175-176، 308 و34/ 206-207"، و"جواهر القرآن ودرره" "ص26-27" للغزالي، و"النبأ العظيم" "ص117 وما بعدها".
2 في "ط": "لا يعوزه".
3 ربما يقال: إكماله بالكتاب والسنة؛ لأنه لم يقل: أكملته في خصوص الكتاب. "د".
4 {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} سقطت من الأصل.
5 بناء على أن المراد به القرآن، وفيه أقوال أخرى معتبرة. "د".
6 وهي النظام الكامل في معاملة الخلق والخالق. "د".
7 جاء به من لفظ: "ما" العام. "د".(4/184)
لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةً لِمَنْ تَبِعَهُ، لَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ 1، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ ... " 2 إِلَخْ؛ فَكَوْنُهُ حَبْلَ اللَّهِ بِإِطْلَاقٍ، وَالشِّفَاءَ النَّافِعَ إِلَى تَمَامِهِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ الْأَمْرِ فِيهِ.
وَنَحْوِ هَذَا فِي3 حَدِيثِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ, عَلَيْهِ الصلاة والسلام4.
__________
1 أي: يرجع عن الزيغ، ويطلب الرضا. "ف".
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص21"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 6017"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 165, ط دار الفكر، و10/ 482-483/ ط الهندية"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 555"، والمروزي في "قيام الليل" "ص121"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 100"، والطبراني في "الكبير" "9/ 139/ رقم 8646"، وابن منده في "الرد على من يقول {الم} حرف/ رقم 11"، وأبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 30، 31، 32"، وابن الضريس في "فضائل القرآن" "58"، والآجري في "أخلاق حملة القرآن" "11"، والبيهقي في "الشعب" "4/ 550"، والخطيب البغدادي في "الجامع" "1/ 107"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 109/ رقم 145" عن ابن مسعود مرفوعًا بهذا اللفظ، وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو متروك.
وانظر: "الميزان" "1/ 166"، و"تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف" "1/ 212"، وأخرجه عن ابن مسعود مختصرًا أيضًا الدارمي في "السنن" "1/ 429"، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" "2/ 278" من طريق أبي الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" "4/ 252"، والشجري في "أماليه" "1/ 84" بإسناد فيه الهجري السابق، وقد أوقفه بعضهم على ابن مسعود، وهو أشبه؛ كما عند ابن المبارك في "الزهد" "279"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 462"، والفريابي في "الفضائل" "63"، وإسناده صحيح موقوفًا.
3 في الأصل و"د": "من".
4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، 5/ 172/ رقم 2906"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 164"، والدارمي في "السنن" "2/ 435"، والبزار في "البحر الزخار" "3/ 70-72"، وأحمد في "المسند" "1/ 91"، وأبو يعلى في "المسند" "1/ 302-303/ رقم 367"، ومحمد بن نصر في "قيام الليل" "ص123"، والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 80، 81، 82"، وإسحاق بن راهوية -كما قال الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 212"- وفيه: "كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم ... "، وإسناده ضعيف، قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلى من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال"، وقال البزار: "لا نعلم رواه عن علي إلا الحارث"، وانظر: "علل الدارقطني" "رقم 322"=(4/185)
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "إِنَّ كُلَّ مُؤَدِّبٍ يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى أَدَبُهُ، وَإِنَّ أَدَبَ اللَّهِ الْقُرْآنُ" 1.
وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ"2، وَصَدَّقَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [الْقَلَمِ: 4] .
وَعَنْ قَتَادَةَ: "مَا جَالَسَ الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا فَارَقَهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ"، ثُمَّ قَرَأَ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الْإِسْرَاءِ: 82] 3.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آلِ عِمْرَانَ: 193] ؛ قَالَ: "هُوَ الْقُرْآنُ، لَيْسَ كُلُّهُمْ رأى النبي, صلى الله عليه وسلم"4.
__________
= والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 80، 81، 82"، وإسحاق بن راهوية -كما قال الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 212"- وفيه: "كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم ... "، وإسناده ضعيف، قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلى من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال"، وقال البزار: "لا نعلم رواه عن علي إلا الحارث"، وانظر: "علل الدارقطني" "رقم 322".
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص21، 52"، والدارمي في "السنن" "2/ 433"، والمحاسبي في "فهم القرآن" "ص289" عن ابن مسعود قوله. ورفعه بعضهم فوهم. انظر: "ضعيف الجامع" "رقم 4247".
2 مضى تخريجه "2/ 332"، وهو صحيح.
3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص23"، والبغوي في "شرح السنة" "4/ 437" عن قتادة به، وذكره عنه القرطبي في "التفسير" "10/ 320"، والغزالي في "الإحياء" في "آداب تلاوة القرآن".
4 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "7/ 480"، وأبو عبيد في "الفضائل" "ص24".(4/186)
وَفِي الْحَدِيثِ: "يَؤُمُّ النَّاسَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ" 1، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ أَعْلَمُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ؛ فَالْعَالِمُ بِالْقُرْآنِ عَالِمٌ بِجُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَلَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ2.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ؛ قَالَ: "إِذَا أَرَدْتُمُ الْعِلْمَ؛ فَأَثِيرُوا3 الْقُرْآنَ، فَإِنَّ فِيهِ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ"4.
__________
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة، 1/ 465/ رقم 673" عن أبي مسعود الأنصاري مرفوعًا.
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص37"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 155" من طريق محمد بن عبد الرحمن السدوسي عن معفس بن عمران بن حطان عن أم الدرداء عن عائشة به، وإسناده ضعيف، معفس مترجم في "الجرح والتعديل" "8/ 433"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.
3 بالتفهم فيه. "د".
4 أخرجه مسدد في "المسند" -كما في "المطالب العالية" "ق 108 -ب- المسندة و3/ 133/ رقم 3079- المطبوعة"، وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" "ص229"، والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "291-292"، والطبراني في "الكبير" "9/ 146/ رقم 8666" من طريق شعبة، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "41-42"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 814", ومن طريقه الفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 78" -وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 485"- ومن طريقه النحاس في "القطع والائتناف" "ص84"، وأبو الليث السمرقندي في "بحر العلوم" "1/ 202-204" من طريق سفيان الثوري، وسعيد بن منصور في "سننه" "1/ 7/ رقم 1", ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "4/ 513/ رقم 1808" عن حديج بن معاوية، وابن أبي شيبة في "المصنف" "14/ 94" من طريق زهير, والطبراني في "الكبير" "9/ 145-146/ رقم 8664 و8665" من طريق إسرائيل وزهير، خمستهم عن أبي إسحاق السبيعي عن مرة بن شراحيل البكيلي عن ابن مسعود به، وأبو إسحاق مدلس، وقد اختلط، ورواية شعبة عنه مأمونة؛ فإنه قال: "كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة"، و"هذه قاعدة جيدة في أحاديث هؤلاء الثلاثة, إنها إذا جاءت من طريق شعبة دلت على السماع، ولو كانت معنعنة"، قاله ابن حجر، وهو -أي شعبة- ممن روى عن أبي إسحاق قبل الاختلاط؛ فطريقه صحيحة على شرط الشيخين.(4/187)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو1؛ قَالَ: "مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ؛ فَقَدْ حَمَلَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَقَدْ أُدْرِجَتِ2 النُّبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يوحى إليه"3.
__________
1 في الأصل والطبعات كلها: "عمر" بضم العين، والصواب فتحها، كما في مصادر التخريج و"ط".
2 في مطبوع "فضائل القرآن" لأبي عبيد: "استدرج"، وفي "ط": "استدرجت".
3 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 155, ط دار الفكر" عن وكيع عن إسماعيل بن رافع عن رجل عن عبد الله بن عمرو به، وإسناده ضعيف للمبهم الذي فيه، ولضعف ابن رافع.
وأخرجه من طريق ابن رافع عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر عن عبد الله بن عمرو به المروزي في "زياداته على زهد ابن المبارك" "رقم 799"، ومحمد بن نصر في "قيام الليل" "72".
وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "53" عن يحيى بن أيوب عن خالد بن يزيد عن ثعلبة بن أبي الكنود عن عبد الله بن عمرو به قوله.
وكذا أخرجه المروزي في "زياداته على فضائل أبي عبيد" "ص53" عن مرو بن الربيع بن طارق عن يحيى به.
وخالفه يحيى بن عثمان بن صالح السهمي؛ فرواه عن عمرو بن الربيع ورفعه؛ كما عند الحاكم في "المستدرك" "1/ 552"، والموقوف أشبه، والله أعلم.
نعم، ورد في المرفوع من مرسل الحسن عند سعيد بن منصور في "السنن" "2/ 263/ رقم 68" بإسناد ضعيف جدًّا، وعن أبي أمامة عند ابن حبان في "المجروحين" "1/ 187-188"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 440-441"، وابن الأنباري في "المصاحف" -كما في "تفسير القرطبي" "1/ 8- والبيهقي في "الشعب" "4/ 557 و5/ 530"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "1/ 252-253"، وفيه بشر بن نمير متهم، وله نسخة عن القاسم بن يزيد عن أبي أمامة -وهذا الحديث منها- ساقطة؛ كما في "الميزان" "1/ 326"، وعن ابن عمر أخرجه الخطيب في "تاريخه" "12/ 446"، وفيه إبراهيم الملطي، كان كذابًا أفاكًا يضع الحديث كما قال الخطيب.(4/188)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَقَدِ اضْطَّرَبَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ"1.
وَمَا ذَاكَ إِلَّا لأنه2 جَامِعٌ لِمَعَانِي النُّبُوَّةِ، وَأَشْبَاهُ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
- وَمِنْهَا: التَّجْرِبَةُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَجَأَ إِلَى الْقُرْآنِ فِي مَسْأَلَةٍ إِلَّا وَجَدَ لَهَا فِيهِ أَصْلًا، وَأَقْرَبُ الطَّوَائِفِ مِنْ إِعْوَازِ الْمَسَائِلِ النَّازِلَةِ أَهْلُ الظَّوَاهِرِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْقِيَاسَ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنِ3 الدَّلِيلِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمِ الظَّاهِرِيِّ4: "كُلُّ أَبْوَابِ الْفِقْهِ لَيْسَ مِنْهَا بَابٌ إِلَّا وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، نَعْلَمُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، حَاشَ الْقِرَاضَ؛ فَمَا وَجَدْنَا لَهُ أَصْلًا فِيهِمَا أَلْبَتَّةَ"5 إِلَى آخِرِ مَا قَالَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْقِرَاضَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ, وَأَصْلُ الْإِجَارَةِ، فِي الْقُرْآنِ ثَابِتٌ6، وَبَيَّنَ ذَلِكَ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ الصلاة
__________
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص53" موقوفًا، وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، صدوق، كثير الغلط.
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أنه".
3 لكن يقال: إن لم يجدوا في القرآن وجدوا في السنة؛ فبعض الأدلة على ما ترى، ويرشح النظر الذي أشرنا إليه ما نقله عن ابن حزم، وما عقب به على استثنائه باب القراض. "د".
4 الظاهرية هم الواقفون عند ظواهر نصوص الشريعة من غير اعتبار القياس بدعوى أنها تفي بأحكام الوقائع حيثما تجددت، ومن مقتضى مذهبهم أن الحديث متى ثبت سنده يعتبر كقاعدة مستقلة بنفسها، ويجب العمل به من غير أن تتحكم فيه القواعد بتعطيل أو تخصيص أو تقييد أو تعميم أو إطلاق ... إلخ. ا. هـ. "ف".
5 انظر: "النبذ في أصول الفقه" "ص118".
6 وذلك في آيات عديدة، منها قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 26-27] ، وقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في "الأم" "3/ 250": "فأجاز الإجارة على الرضاع، والرضاع يختلف لكثرة رضاع المولود وقلته، وكثرة اللبن وقلته، ولكن لما لم يوجد فيه إلا هذا جازت الإجارة عليه، =(4/189)
وَالسَّلَامُ وَعَمَلُ الصَّحَابَةِ بِهِ1.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالْقَوَاعِدِ غَيْرِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا وُجِدَتْ فِي السُّنَّةِ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ مَا فِي "الصَّحِيحِ" مِنْ قَوْلِهِ, عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرَى مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أو نهيت عنه، فيقول: لا أدرى، ما وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ" 2، وَهَذَا ذَمٌّ، ومعناه اعتماد السنة أيضًا.
__________
= وإذا جازت عليه جازت على مثله، وما هو في مثل معناه، وأحرى أن يكون أبين منه، وقوله تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] ، معنى هذه الآية أن موسى قال للخضر, عليهما السلام: لو شئت لاتخذت أجرًا على إقامة الجدار المنهدم، قال الماوردي في "الحاوي الكبير" "9/ 203": "فدل ذلك من قول موسى وإمساك الخضر على جواز الإجارة واستباحة الأجرة" وترجم البخاري في "صحيحه" "باب إذا استأجر أجيرًا على أن يقيم حائطًا يريد أن ينقض جاز"، وأورد هذه الآية، وانظر: "الإجارة الواردة على عمل الإنسان" "ص35-37".
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة، 4/ 442/ رقم 2263، وباب إذا استأجر أجيرًا ليعمل له بعد ثلاثة أيام، 4/ 443/ رقم 2264" عن عائشة, رضي الله عنها: " ... واستأجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الديل ثم من بني عبيد بن عدي هاديًا خريتًا ... فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال ... ".
2 أخرجه بهذا اللفظ الحميدي في "المسند" "551" -ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" "1/ 108-109"، والهروي في "ذم الكلام" "ص71"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2341"- عن ابن المنكدر مرسلًا، وليس الحديث في "الصحيح" كما قال المصنف.
نعم، الحديث صحيح ثابت بتعدد طرقه وشواهده، منها:
ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 4/ 200/ رقم 4604"، وأحمد في "المسند" "4/ 130-131"، والآجري في "الشريعة" "ص51"، وابن نصر المروزي في "السنة" "ص116"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 549"، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" "1/ 89"، والحازمي في "الاعتبار" "ص7"، وابن عبد البر في "التمهيد" "1/ 149-150"، والهروي في "ذم الكلام" "73" من طريق حريز بن عثمان عن عبد الله بن أبي عوف الجرشي عن المقدام بن معدي كرب مرفوعًا، وإسناده صحيح. =(4/190)
وَيُصَحِّحُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 59] .
قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: "الرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ إِذَا كَانَ حَيًّا، فَلَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ؛ فَالرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ"1.
وَمِثْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2 الآية [الأحزاب: 36] .
__________
= وتابع حريزًا مروان بن رؤبة التغلبي؛ كما عند أبي داود في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع، 3/ 355/ رقم 3804, مختصرًا"، والدارقطني في "السنن" "4/ 287"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 97, موارد"، وابن نصر في "السنة" "ص116"، والخطيب في الفقيه والمتفقه" "1/ 89"، وابن رؤبة مقبول، وقد توبع.
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي, صلى الله عليه وسلم 5/ 38/ رقم 2669"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتغليظ على من عارضه، 1/ 6/ رقم 12"، وأحمد في "المسند" "4/ 130-131"، والدارمي في "السنن" "1/ 144"، والدارقطني في "السنن" "4/ 286"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 76"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 88"، و"الكفاية" "8-9"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2343"، والحازمي في "الاعتبار" "ص245"، والسمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" "ص3"، والهروي في "ذم الكلام" "ص72" من طريق معاوية بن صالح عن الحسن بن جابر عن المقدام بن معدي كرب، وذكر لفظًا نحوه، وسيأتي عند المصنف "ص323"، والحسن بن جابر وثقه ابن حبان، وقال ابن حجر في "التقريب": "مقبول"، وفي الباب عن جماعة كما سيأتي "ص323".
1 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "5/ 96"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 58، 59، 85"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 72-73/ رقم 76"، والهروي في "ذم الكلام" "ص76"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2328، 2344"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 474"، وابن شاهين في "السنة" "45"، والخطيب في "الفقيه" "1/ 144" بإسناد حسن، وذكره البيهقي في "الاعتقاد" "ص129"، وأسنده في "المدخل" كما في "مفتاح الجنة" "ص20".
2 {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ساقطة من الأصل.(4/191)
[وَلَا] يُقَالُ1: إِنَّ السُّنَّةَ يُؤْخَذُ بِهَا عَلَى أَنَّهَا بَيَانٌ لِكِتَابِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} [النَّحْلِ: 44] , وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَتِ السُّنَّةُ بَيَانًا لِلْكِتَابِ؛ فَفِي أَحَدِ قِسْمَيْهَا، فَالْقِسْمُ الْآخَرُ2 زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ؛ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ [عَلَى] خَالَتِهَا3، وَتَحْرِيمِ الحُمر الْأَهْلِيَّةِ4، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ5.
وَقِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بكافر"6.
__________
1 المناسب أن يكون قد سقط منه كلمة "لا"؛ فهو ينفي من أول الأمر صحة أن يكون هذا جوابًا ويدفع توهم الإجابة به، أما ما قيل من أصله "ويمكن أن يقال"؛ فإنه لا يناسب قوله بعد: "لأنا نقول"؛ إذ هو تعليل لنفي صحة الإجابة به لا لإمكانها. "د".
قلت: وهذا رد على "ف"؛ حيث قال: "ويمكن أن يقال: أي: جوابًا عن قوله، ولقائل ... إلخ، وقوله: "لأنا نقول" رد لهذا الجواب". قلت: والمثبت من "ط" فقط.
2 لعله: "والقسم" بالواو، وسيأتي هذا التقسيم. "ف".
3 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "3/ 82"، وما بين المعقوفتين ليس في "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 7/ 467-468/ رقم 4198، 4199"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحم الحُمر الإنسية، 3/ 1540/ رقم 1940" عن أنس؛ قال: ".... فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر؛ فإنها رجس أو نجس".
وفي الباب عن جماعة من الصحابة.
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع، 9/ 657/ رقم 5530"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، 3/ 1533/ رقم 1932" عن أبي ثعلبة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب كتابة العلم، 1/ 204/ رقم 111" عن أبي جحيفة؛ قال: قلت لعلي ... وذكره.
وانظر دراسة توثيقية فقهية جيدة عن "صحيفة علي بن أبي طالب" رضي الله عنه في دراسة مستقلة للدكتور رفعت فوزي عبد المطلب، طبع دار السلام - القاهرة، سنة 1406هـ.(4/192)
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ؛ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ عِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا أَصَّلَتْ.
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الدَّلِيلِ الثَّانِي، وَهُوَ السُّنَّةُ1 بِحَوْلِ اللَّهِ.
وَمِنْ نَوَادِرِ الِاسْتِدْلَالِ الْقُرْآنِيِّ مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ أَقَلَّ: الْحَمْلِ2 سِتَّةُ أَشْهُرٍ انْتِزَاعًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الْأَحْقَافِ: 15] مَعَ قَوْلِهِ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} 3 [لُقْمَانَ: 14] .
__________
1 في المسألة الرابعة هناك التفصيل الوافي في السؤال والجواب. "د".
2 جعلوه في الأصول من باب دلالة المنطوق غير الصريح، من نوع دلالة الإشارة، وهو ما كان لازمًا لم تقصد إفادته، ومثله دلالة الحديث: "تمكث شطر دهرها لا تصلي" على أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا. "د". قلت: إلا أن حديث "تمكث ... " لم يصح؛ كما فصلناه في التعليق على "2/ 152"، والمثبت من "ط" وفي غيره: "علي أنه قال: الحمل ... "!!
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 825, رواية يحيى"، ومن طريقه إسماعيل بن إسحاق القاضي في "أحكام القرآن"، كما في "المعتبر" "رقم 208"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 442-443" أنه بلغه أن عثمان بن عفان أتي بامرأة قد ولدت في ستة أشهر، فأمر بها أن ترجم، فقال له علي بن أبي طالب: ليس ذلك عليها، وقد قال الله تعالى في كتابه: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} ، وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ، وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ؛ قال: فالرضاعة أربعة وعشرون شهرًا، والحمل ستة أشهر.
ووصله ابن أبي ذئب في "موطئه" كما في "الاستذكار" "24/ 73"، ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" "35/ 102"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 979"، وابن أبي حاتم في "تفسيره", ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 214", من طريق يزيد بن عبد الله بن قسيط عن بعجة بن عبد الله الجهني به مطولًا، قال ابن حجر: "هذا موقوف صحيح"، وقال: =(4/193)
وَاسْتِنْبَاطُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْفَيْءِ1 مِنْ قَوْلِهِ2: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} الآية [الحشر: 10] .
__________
= "وأظن مالكًا سمعه من ابن قسيط؛ فإنه من شيوخه".
ثم قال: "وقد أخرج إسماعيل القاضي في كتاب "أحكام القرآن" بسند له فيه رجل مبهم عن ابن عباس أنه جرى له مع عثمان في نحو هذه القصة الذي جرى لعلي؛ فاحتمل أنه كان محفوظًا أن يكون توافق معه، وأما احتمال التعدد؛ فبعيد جدًّا".
قلت: وأخرج ما جرى وابن عباس مع عثمان: ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 977، 978"، وابن جرير في "التفسير" "5/ 34, ط شاكر"، وسعيد بن منصور في "سننه" "3/ 2/ 69"، وعبد الرزاق في "المصنف" "7/ 351، 352"، وهذه رواية ثقات أهل مكة، والرواية الأولى رواية أهل المدينة، وأهل البصرة يرونها لعمر بن علي؛ كما عند ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 979"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 442".
وانظر: "الاستذكار" "24/ 74-75"، و"المعتبر" "ص194" للزركشي، و"تفسير ابن كثير" "4/ 136، 157".
1 ذكره عن مالك أيضًا البغوي في "شرح السنة" "1/ 229"، والقاضي عياض في "الشفا" "2/ 268"، والقرطبي في "تفسيره" "16/ 296-297و18/ 32"، والمصنف في "الاعتصام" "2/ 97"، والسيوطي في "الأمر بالاتباع" "ص76, بتحقيقي"، وابن حجر الهيتمي في "الصواعق المحرقة" "252".
وأخرجه عنه مسندًا ابن أبي زمنين في "أصول السنة" "رقم 190"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ رقم 2400"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 327"، وابن عبد البر في "الانتقاء" "35"، والضياء المقدسي في "النهي عن سب الأصحاب" "رقم 32، 33, بتحقيقي"، والخطيب كما قال القرطبي في "التفسير" "16/ 296-297"، وهو صحيح عنه.
2 رأى ابن عمر كما في "صحيح أبي داود" أن آية: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه....} إلخ [الحشر: 7] استوعبت ما ذكر فيها وما بعده من الفقراء والمهاجرين والذين تبوءوا الدار والذين جاءوا من بعدهم؛ فجعل مالك قولهم: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10] شرطًا لاستحقاقهم في الفيء؛ لأن قوله: "يقولون" حال؛ فهو قيد في الاستحقاق من الفيء، وأي غل أعظم من غل من يسب الصحابة؟ أما على رأي من يجعل قوله: "للفقراء ... إلخ" كلامًا مستأنفًا؛ فلا يظهر وجه الاستدلال به. "د".(4/194)
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: "الْوَلَدُ لَا يَمْلِكُ"1: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 26] .
وَقَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ2: "إِنَّ الْإِنْسَانَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ عَلَقَةً لَا يُسَمَّى إِنْسَانًا" مِنْ قَوْلِهِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق} [الْعَلَقِ: 2] .
وَاسْتِدْلَالُ مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى أَنَّ الْعَرَبِيَّ غَيْرُ مَطْبُوعٍ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ3 بُقُولِهِ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النَّحْلِ: 78] .
وَأَغْرَبُ [من] 4 ذَلِكَ اسْتِدْلَالُ ابْنِ الْفَخَّارِ الْقُرْطُبِيِّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَاءَ بِالرِّءُوسِ إِلَى جَانِبٍ عِنْدَ الْإِبَايَةِ وَالْإِيمَاءَ بِهَا سُفْلًا عِنْدَ الْإِجَابَةِ5 أَوْلَى مِمَّا يَفْعَلُهُ
__________
1 لأنه رد عليهم بأنهم عباد الله، جمع عبد، فمعناه أنه كيف يجمع بين كونهم عبادًا وهو مسلم وبين كونهم أولاد الله؟ يعني: ولا يتأتى ذلك لما هو مسلم من أن الولد لا يملك لوالده للتنافي في اللوازم؛ فالقرآن يقرر هذا الحكم بهذه الدلالة الإشارية. "د".
قلت: انظر: "الإكليل" للسيوطي "ص179".
2 في "أحكام القرآن" "4/ 1955".
3 واستنبط السيوطي في "الإكليل" "163" منها على أن الأصل في الناس الجهل حتى يبحثوا عن العلم.
4 سقطت من الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة، وأثبتناها من "م"، وكتب "ف": "الأنسب "وأغرب من ذلك"".
5 على فرض أنها تفيد أن الإيماء إلى جانب فيه الإباية؛ فليس في الآية ما يفيد أن الإيماء سفلاً فيه الإجابة، وأيضًا؛ فأصل الكلام إنكار لفعلهم هذا، وأن عادتهم كانت كذلك، وليس فيه إقرار لفعلهم حتى تؤخذ الأولوية للإشارة عند الإباية بليّ الرءوس؛ فلذا عده غريبًا، ولو أطلق عليه أكثر من ذلك لحق له. "د".(4/195)
الْمَشَارِقَةُ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} الْآيَةَ [الْمُنَافِقُونَ: 5] .
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الشِّبْلِيُّ الصُّوفِيُّ إِذَا لَبِسَ شَيْئًا خَرَقَ فِيهِ مَوْضِعًا؛ فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: أَيْنَ فِي الْعِلْمِ إِفْسَادُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ؟ فَقَالَ: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} 1 [ص: 33] . ثُمَّ قَالَ الشِّبْلِيُّ: أَيْنَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَبِيبَ لَا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ؟ فَسَكَتَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَقَالَ لَهُ: قُلْ: قَالَ قَوْلُهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 18] .
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ2 عَلَى مَنْعِ سَمَاعِ الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} الآية [الأعراف: 143] .
__________
1 إفساد المال في شريعتنا غير جائز، وخوف الاشتغال به لا يجيز إفساده، وطرق التحفظ من الاشتغال به كثيرة منها الهبة والصدقة وغيرهما، وشرع من قبلنا يعمل به ما لم ينسخ، على أنه إذا كان المسح برقاب الخيل وسوقها معناه ضربهما بالسيف كما قاله الجمهور, لا المسح باليد عند استعراضها لتفقد أحوالها وإصلاح شأنها كما قال الفخر الرازي والطبري، وكما روى عن ابن عباس والزهري، فأما أن يكون ذلك في شريعته للتقرب بذبحها كما يتقرب النعم، وأما أن يكون مجرد خدش ليكون علامة على تحبيسها في سبيل الله على حد وسم إبل الصدقة، قال الآلوسي: "أما إنه أتلفها غضبًا لأنها شغلته؛ فقول باطل لا ينظر إليه" ا. هـ. وهذا كله داخل تحت قوله: "وفي بعض هذه الاستدلالات نظر". "د".
قلت: قال القرطبي في "تفسيره" "15/ 197": "وقد استدل الشبلي وغيره من الصوفية في تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان هذا، وهو استدلال فاسد".
2 رتب موسى -عليه السلام- طلب النظر على تكليم الله تعالى له؛ ففهم هذا البعض أن موسى بنى هذا على أن من يجوز سماع كلامه يجوز النظر إليه وبالعكس, وحيث إن المرأة لا تجوز رؤيتها باتفاق؛ فلا يجوز سماع كلامها، وما أبعد هذا لا سيما مع ملاحظة الفرق في مادة الجواز؛ ففي مسألة موسى الجواز عقلي، ومسألة رؤية المرأة وسماع كلامها الكلام فيه من أحكام التكليف الخمسة، فلما لم تجز رؤية المرأة والنظر إليها باتفاق؛ لم يجز سماع كلامها. "د". قلت: والصواب أن النساء يرين الله تعالى، والأدلة على ذلك كثيرة، وانتصر لهذا الرأي شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة مفردة موجودة في "مجموع الفتاوى" "6/ 401-460"، وكذا السيوطي في "تحفة الجلساء في رؤية الله للنساء"، وهي مطبوعة في "الحاوي للفتاوى" له "2/ 198-201".(4/196)
وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ نَظَرٌ.
فَصْلٌ:
وَعَلَى هذا لا بد فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ يُرَادُ تَحْصِيلُ عِلْمِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَى أَصْلِهَا فِي الْقُرْآنِ، فَإِنْ وُجِدَتْ مَنْصُوصًا عَلَى عَيْنِهَا أَوْ ذُكِرَ نَوْعُهَا أَوْ جِنْسُهَا؛ فَذَاكَ، وَإِلَّا؛ فَمَرَاتِبُ النَّظَرِ فِيهَا مُتَعَدِّدَةٌ، لَعَلَّهَا تُذْكَرُ بَعْدُ فِي مَوْضِعِهَا, إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ قَبْلَ هَذَا أَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ فَإِمَّا مَقْطُوعٌ بِهِ، أَوْ رَاجِعٌ إِلَى مَقْطُوعٍ1 بِهِ، وَأَعْلَى مَرَاجِعِ الْمَقْطُوعِ بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ؛ فَهُوَ أَوَّلُ مَرْجُوعٍ إِلَيْهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُرَدْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا الْعَمَلُ خَاصَّةً، فَيَكْفِي الرُّجُوعُ فِيهَا إِلَى السُّنَّةِ الْمَنْقُولَةِ بِالْآحَادِ، كَمَا يَكْفِي الرُّجُوعُ فِيهَا إِلَى قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ أَضْعَفُ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى أَصْلِهَا فِي الْكِتَابِ لِافْتِقَارِهِ إِلَى ذَلِكَ فِي جَعْلِهَا أَصْلًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، أَوْ دِينًا يُدَانُ اللَّهُ بِهِ؛ فَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ تَلَقِّيهَا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ2 كَمَا تَقَدَّمَ.
__________
1 في الأصل: "المقطوع".
2 كلام المصنف هنا مبني على أصل عنده، سيأتي ذكره في "ص316"، من أن السنة لا يوجد فيها شيء إلا وله أصل في القرآن؛ فانظره ومناقشته هناك.(4/197)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:
الْعُلُومُ الْمُضَافَةُ إِلَى الْقُرْآنِ تَنْقَسِمُ عَلَى أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ هُوَ كَالْأَدَاةِ لِفَهْمِهِ وَاسْتِخْرَاجِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَالْمُعِينِ عَلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ؛ كَعُلُومِ1 اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ التي لا بد مِنْهَا وَعِلْمِ الْقِرَاءَاتِ، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَقَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا نَظَرَ فِيهِ هُنَا.
وَلَكِنْ قَدْ يُدَّعَى فِيمَا لَيْسَ بِوَسِيلَةٍ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ مَطْلُوبٌ كَطَلَبِ مَا هُوَ وَسِيلَةٌ بِالْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ عِلْمَ الْعَرَبِيَّةِ، أَوْ عِلْمَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَعِلْمَ الْأَسْبَابِ، وَعِلْمَ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَعِلْمَ الْقِرَاءَاتِ، وَعِلْمَ أُصُولِ الْفِقْهِ، مَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا مُعِينَةٌ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَقَدْ يَعُدُّهُ بَعْضُ النَّاسِ وَسِيلَةً أَيْضًا وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ2 فِي حِكَايَةِ الرَّازِيِّ فِي جَعْلِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَسِيلَةً إِلَى فَهْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] .
وَزَعَمَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَكِيمُ فِي كِتَابِهِ الذي سماه بـ"فصل الْمَقَالِ فِيمَا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةِ مِنَ الِاتِّصَالِ"3 أَنَّ عُلُومَ الْفَلْسَفَةِ مَطْلُوبَةٌ؛ إِذْ لَا يُفْهَمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا بِهَا، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالضِّدِّ مِمَّا قَالَ لَمَا بَعُدَ فِي الْمُعَارَضَةِ.
وَشَاهِدُ مَا بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي تِلْكَ4 الْعُلُومِ، هَلْ كَانُوا آخِذِينَ فِيهَا، أَمْ كَانُوا تَارِكِينَ لَهَا أَوْ غَافِلِينَ عَنْهَا؟ مَعَ الْقَطْعِ بِتَحَقُّقِهِمْ بِفَهْمِ الْقُرْآنِ، يَشْهَدُ لَهُمْ بِذَلِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ؛ فَلْيَنْظُرِ امرؤ أين يضع قدمه،
__________
1 في الأصل: "العلم".
2 في "1/ 51-52".
3 وهو مطبوع، والمذكور فيه: "ص19 وما بعدها".
4 في "ط": "ترك".(4/198)
وَثَمَّ أَنْوَاعٌ أُخَرُ يَعْرِفُهَا مَنْ زَاوَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَلَا يُنْبِئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ؛ فَأَبُو حَامِدٍ1 مِمَّنْ قَتَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ خِبْرَةً، وَصَرَّحَ فِيهَا بِالْبَيَانِ الشَّافِي فِي مَوَاضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ.
وَقَسْمٌ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ جُمْلَتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ خِطَابٌ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ هُوَ، وَذَلِكَ مَا فِيهِ مِنْ دَلَالَةِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ تَفَاصِيلِ الْقُرْآنِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ؛ إِذْ لَمْ تَنُصَّ آيَاتُهُ وَسُوَرُهُ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ نَصِّهَا عَلَى الْأَحْكَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّعْجِيزِ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ دُونَ شَيْءٍ، وَلَا سُورَةٍ دُونَ سُورَةٍ، وَلَا نَمَطٍ مِنْهُ دُونَ آخَرَ، بَلْ مَاهِيَّتُهُ هِيَ الْمُعْجِزَةُ لَهُ، حَسْبَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ [قَوْلُهُ عَلَيْهِ] 2 الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتيته وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ؛ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 3؛ فهو بهيأته الَّتِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا دَالٌّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَفِيهَا عَجَزَ الْفُصَحَاءُ اللُّسُنُ، وَالْخُصَمَاءُ اللُّدُّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يُمَاثِلُهُ أَوْ يُدَانِيهِ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ مُعْجِزًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهُ كَيْفَمَا تُصَوِّرَ4 الْإِعْجَازُ بِهِ؛ فَمَاهِيَّتُهُ هِيَ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِلَى أَيِّ نَحْوٍ مِنْهُ مِلْتَ دَلَّك [ذَلِكَ] 5 عَلَى صَدْقِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا لَا نَظَرَ فيه هنا، وموضعه كتب الكلام.
__________
1 من لطيف ما قيل عنه عبارة ابن العربي: "شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم فما استطاع".
انظر: "الصفدية" "1/ 211"، و"السير" "19/ 327"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 66، 164".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
3 مضى تخريجه "ص180".
4 في "ط": "يتصور".
5 ليست في الأصل ولا في "ط".(4/199)
وَقِسْمٌ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِنْزَالِهِ، وَخِطَابِ الْخَلْقِ بِهِ، وَمُعَامَلَتِهِ لَهُمْ بِالرِّفْقِ وَالْحُسْنَى مِنْ جَعْلِهِ عَرَبِيًّا يَدْخُلُ تَحْتَ نَيْلِ أَفْهَامِهِمْ، مَعَ أَنَّهُ الْمُنَزَّهُ الْقَدِيمُ، وَكَوْنُهُ تَنَزَّلَ لَهُمْ بِالتَّقْرِيبِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّعْلِيمِ فِي نَفْسِ الْمُعَامَلَةِ بِهِ، قَبْلَ النَّظَرِ إِلَى مَا حَوَاهُ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْخَيْرَاتِ، وَهَذَا نَظَرٌ خَارِجٌ عَمَّا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْعُلُومِ، وَيَتَبَيَّنُ صِحَّةُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ أَصْلُ التَّخَلُّقِ1 بِصِفَاتِ اللَّهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ.
وَيَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَوَائِدِ الْفَرْعِيَّةِ، وَالْمَحَاسِنِ الْأَدَبِيَّةِ؛ فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا أَمْثِلَةً يُسْتَعَانُ بِهَا فِي فَهْمِ الْمُرَادِ:
- فَمِنْ ذَلِكَ: عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ قَبْلَ الْإِنْذَارِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الْإِسْرَاءِ: 15] ؛ فَجَرَتْ عَادَتُهُ فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ بِالْمُخَالَفَةِ إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، فَإِذَا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الْكَهْفِ: 29] ، وَلِكُلٍّ جَزَاءُ مِثْلِهِ.
- وَمِنْهَا: الْإِبْلَاغُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَا خَاطَبَ بِهِ الْخَلْقَ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بُرْهَانًا فِي نَفْسِهِ عَلَى صِحَّةِ مَا فِيهِ، وَزَادَ عَلَى يَدَيْ رَسُولِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا فِي بَعْضِهِ الْكِفَايَةُ2.
- وَمِنْهَا: تَرْكُ الْأَخْذِ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ بِالذَّنْبِ، وَالْحِلْمُ عَنْ تعجيل المعاندين
__________
1 قرر ابن تيمية في "الصفدية" "2/ 337"، وابن القيم في "بدائع الفوائد" "1/ 164" و"عدة الصابرين" "36" أن هذه العبارة غير سديدة، وأنها منتزعة من قول الفلاسفة بالتشبه بالإله على قدر الطاقة، وبينا أن هذا مسلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما من ملاحدة الصوفية، وصار ذلك مع ما ضموا إليه من البدع والإلحاد موقعًا لهم في الحلول والاتحاد، وذكرا أن الأحسن من هذه العبارة التعبد، وأحسن منها -بالعبارة المطابقة للقرآن- وهي الدعاء، المتضمن للتعبد والسؤال.
2 في "ف": "ما فيه"، وقال: "لعله "ما في بعضه الكفاية".(4/200)
بِالْعَذَابِ، مَعَ تَمَادِيهِمْ عَلَى الْإِبَايَةِ وَالْجُحُودِ بَعْدَ وُضُوحِ الْبُرْهَانِ، وَإِنِ اسْتَعْجَلُوا بِهِ.
- وَمِنْهَا: تَحْسِينُ الْعِبَارَةِ بِالْكِنَايَةِ وَنَحْوِهَا فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى ذِكْرِ مَا يُسْتَحْيَا مِنْ ذِكْرِهِ فِي عَادَتِنَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النِّسَاءِ: 43، وَالْمَائِدَةِ: 6] .
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التَّحْرِيمِ: 12] .
وَقَوْلِهِ: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام} [الْمَائِدَةِ: 75] .
حَتَّى إِذَا وَضَحَ السَّبِيلُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ، وَحَضَرَ وَقْتُ التَّصْرِيحِ بما ينبغي التصريح به1؛ فلا بد مِنْهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [الْبَقَرَةِ: 26] .
{وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الْأَحْزَابِ: 53] .
- وَمِنْهَا: التَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ، وَالْجَرْيُ عَلَى مَجْرَى التَّثَبُّتِ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي حَقِّنَا؛ فَلَقَدْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُجُومًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً؛ حَتَّى قَالَ الْكُفَّارُ: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الْفَرْقَانِ: 32] .
فَقَالَ اللَّهُ: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الْفَرْقَانِ: 32] .
وَقَالَ: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 106] .
وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كَانَ الْإِنْذَارُ يَتَرَادَفُ، والصراط يستوي بالنسبة إلى كل
__________
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "به".(4/201)
وُجْهَةٍ وَإِلَى كُلِّ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَحِينَ أَبَى من أبى من الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ بُدِئُوا1 بِالتَّغْلِيظِ بِالدُّعَاءِ؛ فَشُرِعَ الْجِهَادُ لَكِنْ عَلَى تَدْرِيجٍ2 أَيْضًا، حِكْمَةً بَالِغَةً، وَتَرْتِيبًا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ، حَتَّى إِذَا كَمُلَ3 الدِّينُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا، وَلَمْ يَبْقَ لِقَائِلٍ مَا يَقُولُ؛ قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِلَيْهِ وَقَدْ بَانَتِ الْحُجَّةُ، وَوَضَحَتِ الْمَحَجَّةُ، وَاشْتَدَّ أُسُّ4 الدِّينِ، وَقَوِيَ عَضُدُهُ بِأَنْصَارِ اللَّهِ؛ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَثِيرًا عَلَى ذَلِكَ.
- وَمِنْهَا: كَيْفِيَّةُ تَأَدُّبِ الْعِبَادِ إِذَا قَصَدُوا بَابَ رَبِّ الْأَرْبَابِ بِالتَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ مَسَاقُ الْقُرْآنِ آدَابًا اسْتُقْرِئَتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا بِالْعِبَارَةِ؛ فَقَدْ أَغْنَتْ إِشَارَةُ التَّقْرِيرِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالتَّعْبِيرِ، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ نِدَاءَ اللَّهِ لِلْعِبَادِ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِـ"يَا" الْمُشِيرَةِ إِلَى بُعْدِ الْمُنَادِي لِأَنَّ صَاحِبَ النِّدَاءِ مُنَزَّهٌ عَنْ مُدَانَاةِ الْعِبَادِ، مَوْصُوفٌ بِالتَّعَالِي عَنْهُمْ وَالِاسْتِغْنَاءِ، فَإِذَا قَرَّرَ نِدَاءَ الْعِبَادِ لِلرَّبِّ أَتَى بِأُمُورٍ تَسْتَدْعِي قُرْبَ الْإِجَابَةِ:
- مِنْهَا: إِسْقَاطُ حَرْفِ النِّدَاءِ الْمُشِيرِ إِلَى قُرْبِ الْمُنَادَى، وَأَنَّهُ حَاضِرٌ مَعَ الْمُنَادِيِ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْهُ؛ فَدَلَّ عَلَى اسْتِشْعَارِ الرَّاغِبِ هَذَا الْمَعْنَى؛ إِذْ لَمْ يَأْتِ فِي الْغَالِبِ إِلَّا "رَبَّنَا" "رَبَّنَا" كَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} 5 [الْبَقَرَةِ: 286] .
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127] .
__________
1 في "ط": "بدئ".
2 كما سبق إذن لا إيجاب، ثم إيجاب لمقاتلة من يلونهم من الكفار، ثم مقاتلة المشركين كافة. "د".
3 في الأصل: "أكمل".
4 في الأصل: "أمر".
5 وهذا وما ماثله وإن كان على لسان العباد؛ إلا أنه بتعليمه تعالى لهم؛ فلا يقال: إن هذا حكاية لما قالوه، ولا يتأتى أن يغير شيئًا منها بحذف حرف النداء ليعلمنا بذلك شيئًا من آداب مخاطبته تعالى. "د".(4/202)
{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران: 35] .
{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [الْبَقَرَةِ: 260] .
- وَمِنْهَا: كَثْرَةُ مَجِيءِ النِّدَاءِ بِاسْمِ الرَّبِّ الْمُقْتَضِي لِلْقِيَامِ بِأُمُورِ الْعِبَادِ1 وَإِصْلَاحِهَا؛ فَكَانَ العبد متعلق2 بِمَنْ شَأْنُهُ التَّرْبِيَةُ وَالرِّفْقُ وَالْإِحْسَانُ، قَائِلًا: يَا مَنْ هُوَ الْمُصْلِحُ لِشِئُونِنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَتِمَّ لَنَا ذَلِكَ بِكَذَا، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا يَدْعُو بِهِ، وَإِنَّمَا أَتَى "اللَّهُمَّ" فِي مَوَاضِعَ قَلِيلَةٍ، ولمعانٍ اقْتَضَتْهَا الْأَحْوَالُ.
- وَمِنْهَا: تَقْدِيمُ الْوَسِيلَةِ بَيْنَ يَدَيِ الطَّلَبِ3؛ كَقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الْآيَةَ [الْفَاتِحَةِ: 5-6] .
{رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} [آلِ عِمْرَانَ: 16] .
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} [آلِ عِمْرَانَ: 53] .
{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آلِ عِمْرَانَ: 191] .
{رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً} الْآيَةَ [يُونُسَ: 88] .
{رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ....} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نُوحٍ: 21-28] .
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [الْبَقَرَةِ: 127] .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآدَابِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مُجَرَّدِ التَّقْرِيرِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءُ ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ فِي الِاقْتِدَاءِ بالأفعال، والتخلق
__________
1 في "ط": "العبد".
2 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "فكان العبد متعلقًا".
3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 284-286".(4/203)
بِالصِّفَاتِ، تُضَافُ إِلَى مَا هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ1 أَيْضًا مِنْهُ جُمْلَةٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقُرْآنَ احْتَوَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَحَاسِنِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى كَثِيرٍ يَشْهَدُ بِهَا شَاهِدُ الِاعْتِبَارِ، وَيُصَحِّحُهَا نُصُوصُ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ.
وَقِسْمٌ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ2 بِالذِّكْرِ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَعَرَفُوهُ مَأْخُوذًا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ مَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا، عَلَى حَسَبِ مَا أَدَّاهُ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ محتوٍ مِنَ الْعُلُومِ3 عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ4:
أَحَدُهَا: مَعْرِفَةُ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ اللَّهُ الْمَعْبُودُ سُبْحَانَهُ.
وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ مَآلِ الْعَبْدِ لِيَخَافَ اللَّهَ بِهِ وَيَرْجُوَهُ.
وَهَذِهِ الْأَجْنَاسُ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ هُوَ الْمَقْصُودُ، عَبَّرَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذَّارِيَاتِ: 56] ؛ فَالْعِبَادَةُ هِيَ الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ؛ إِذِ الْمَجْهُولُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَلَا يُقْصَدُ بِعِبَادَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا، فَإِذَا عُرِفَ -وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ أَنَّهُ آمِرٌ وناهٍ وَطَالِبٌ لِلْعِبَادِ بِقِيَامِهِمْ بِحَقِّهِ- تَوَجَّهَ الطَّلَبُ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى دُونَ معرفة كيفية التعبد؛ فجيء بالجنس الثاني.
__________
1 في المسألة الخامسة من النوع الثاني، وجعل دلالة الكلام على هذه الآداب من نوع الدلالة التبعية، وبسط المقام هناك؛ فراجعه ليتبين به بعض الحاصل الذي أشار إليه بعد. "د".
2 وهو من قسم الدلالة على المعنى الأصلي. "د".
3 في الأصل: "محتوى العلوم".
4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "1/ 20-36".(4/204)
وَلَمَّا كَانَتِ النُّفُوسُ مِنْ شَأْنِهَا طَلَبُ النَّتَائِجِ وَالْمَآلَاتِ، وَكَانَ مَآلُ الْأَعْمَالِ عَائِدًا عَلَى الْعَامِلِينَ، بِحَسَبِ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَانْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ التَّبْشِيرُ وَالْإِنْذَارُ فِي ذِكْرِهَا أَتَى بِالْجِنْسِ الثَّالِثِ مُوَضِّحًا لِهَذَا الطَّرَفِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ إِقَامَةٍ، وَإِنَّمَا الْإِقَامَةُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
فَالْأَوَّلُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ عِلْمُ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ فِي الصِّفَاتِ أَوْ فِي الْأَفْعَالِ النَّظَرُ فِي النُّبُوَّاتِ؛ لِأَنَّهَا الْوَسَائِطُ بَيْنَ الْمَعْبُودِ وَالْعِبَادِ، وَفِي كُلِّ أَصْلٍ ثَبَتَ لِلدِّينِ عِلْمِيًّا كَانَ أَوْ عَمَلِيًّا، وَيَتَكَمَّلُ بِتَقْرِيرِ الْبَرَاهِينِ، وَالْمُحَاجَّةِ لِمَنْ جَادَلَ خَصْمًا مِنَ الْمُبْطِلِينَ1.
وَالثَّانِي: يَشْتَمِلُ عَلَى التَّعْرِيفِ بِأَنْوَاعِ التَّعَبُّدَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَمَا يَتْبَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ، وَهِيَ أَنْوَاعُ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَجَامِعُهَا2 الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالنَّظَرُ فِيمَنْ يَقُومُ بِهِ.
وَالثَّالِثُ: يَدْخُلُ فِي ضِمْنِهِ النَّظَرُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: الْمَوْتِ وَمَا يَلِيهِ، وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَحْوِيهِ، وَالْمَنْزِلِ الَّذِي يَسْتَقِرُّ فِيهِ، وَمُكَمِّلُ هَذَا الْجِنْسِ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ، وَمِنْهُ الْإِخْبَارُ عَنِ النَّاجِينَ وَالْهَالِكِينَ وَأَحْوَالِهِمْ، وَمَا أداهم إليه حاصل أعمالهم.
__________
1 في الأصل: "خصماء المبطلين"، وفي "ط": "من خصماء المبطلين".
2 أي: الجامع من بين فروض الكفايات الذي يتعلق بكل مطلوب وكل منهي عنه في الشريعة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه لا يختص بباب من الشريعة دون باب، بخلاف فروض الكفايات الأخرى؛ كالولايات العامة، والجهاد، وتعليم العلم، وإقامة الصناعات المهمة، فهذه كلها فروض كفايات قاصرة على بابها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي مكمل لجميع أبواب الشريعة، هنا معنى الجمع، وليس المراد بكونه جامعها أنه كلي لها، وأنها جزئيات مندرجة تحته؛ فإنه لا يظهر. "د".(4/205)
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَلَخَّصَ مِنْ مَجْمُوعِ الْعُلُومِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقُرْآنِ اثْنَا عَشَرَ عِلْمًا1، وَقَدْ حَصَرَهَا الْغَزَالِيُّ2 فِي سِتَّةِ أَقْسَامٍ: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا هِيَ السَّوَابِقُ وَالْأُصُولُ الْمُهِمَّةُ، وَثَلَاثَةٌ هِيَ تَوَابِعٌ وَمُتَمِّمَةٌ.
فَأَمَّا الثَّلَاثَةُ [الْأُوَلُ] 3؛ فَهِيَ تَعْرِيفُ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ، وَهُوَ شَرْحُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَتَعْرِيفِ طَرِيقِ السُّلُوكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَذَلِكَ بِالتَّحْلِيَةِ بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَالتَّزْكِيَةِ عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَتَعْرِيفِ الْحَالِ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ حَالَيِ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ، وَمَا يَتَقَدَّمُ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ؛ فَهِيَ تَعْرِيفُ4 أَحْوَالِ الْمُجِيبِينَ لِلدَّعْوَةِ، وَذَلِكَ قِصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَسِرُّهُ التَّرْغِيبُ، وَأَحْوَالِ النَّاكِبِينَ وَذَلِكَ قِصَصُ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَسِرُّهُ التَّرْهِيبُ، وَالتَّعْرِيفُ بِمُحَاجَّةِ الْكُفَّارِ بَعْدَ حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمُ الزَّائِغَةِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ بِمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ، وَذِكْرِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَادِّكَارِ5 عَاقِبَةِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَسِرُّهُ فِي جَنَبَةِ الْبَاطِلِ التَّحْذِيرُ وَالْإِفْضَاحُ، وَفِي جَنَبَةِ الْحَقِّ التَّثْبِيتُ وَالْإِيضَاحُ، وَالتَّعْرِيفُ بِعِمَارَةِ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَكَيْفِيَّةِ أَخْذِ
__________
1 لأن كل واحد من الأجناس الثلاثة تحته ثلاثة أنواع من العلم، ولكل جنس مكمل، أما الغزالي؛ فجعل الأجناس الثلاثة علومًا ثلاثة فقط، بدون مراعاة تعدد ما اندرج تحتها والنظر في شعبها، غير أنه جعل الثاني تعريف طريق السلوك إليه بالتحلية والتزكية، وجعل التعريف بالعبادات والمعاملات ... إلخ من التوابع والمتممات، وعليك بالمقارنة بين اعتباراته والاعتبارات السابقة، واعتباره أنسب بمقام الصوفية. "د".
2 في كتابه "جواهر القرآن" "ص9 وما بعدها".
3 زيادة من الأصل و"م" و"ط"، وسقطت من "ف" و"د".
4 فالتعريف الأول مكمل للثالث، والتعريف الثاني مكمل للأول، والتعريف الثالث تابع ومكمل للثاني. "د".
5 في "ط": "وإنكار"!!(4/206)
الْأُهْبَةِ وَالزَّادِ، وَمَعْنَاهُ مَحْصُولُ مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْجِنَايَاتِ، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ تَتَشَعَّبُ إِلَى عَشْرَةٍ، وَهِيَ: ذِكْرُ الذَّاتِ، وَالصِّفَاتِ، وَالْأَفْعَالِ، وَالْمَعَادِ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ جَانِبُ1 التَّحْلِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالْأَعْدَاءِ، وَمُحَاجَّةِ الكفار، وحدود الأحكام.
__________
1 في "ط": "جانبا".(4/207)
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:
مِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا1، وَرُبَّمَا نَقَلُوا فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ؛ فَعَنِ الْحَسَنِ مِمَّا أَرْسَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إِلَّا وَلَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ -بِمَعْنَى ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ- وَكُلُّ حرفٍ حَدٌّ، وَكُلُّ حَدٍّ مَطْلَعٌ" 2.
وَفُسِّرَ3 بِأَنَّ الظَّهْرَ وَالظَّاهِرَ هُوَ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ، وَالْبَاطِنَ هُوَ الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ لِمُرَادِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النِّسَاءِ: 78] .
وَالْمَعْنَى: لَا يَفْهَمُونَ عَنِ اللَّهِ مُرَادَهُ مِنَ الْخِطَابِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ نَفْسَ الْكَلَامِ، كَيْفَ وَهُوَ مُنَزَّلٌ بِلِسَانِهِمْ؟ وَلَكِنْ لَمْ يَحْظَوْا4 بِفَهْمِ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عليّ أنه سئل: هل عندكم كتاب؟
__________
1 انظر: "قانون التأويل" "ص196"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 230 وما بعدها".
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص43" -ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "1/ 262/ رقم 122"- بإسناد ضعيف، فيه علي بن زيد بن جدعان ضعيف، وهو مرسل.
وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" "رقم 11, ط شاكر"، والطبراني في "الكبير" "رقم 10090"، والبزار في "المسند" "رقم 2312"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 276/ رقم 75, الإحسان" عن ابن مسعود مرفوعًا: "أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن".
وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن مسلم الهجري.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "رقم 10" من طريق آخر بإسناد فيه مبهم؛ فهو ضعيف، وتكلم البغوي على شرح هذا الحديث بكلام مسهب حسن؛ فراجعه، وانظر أيضًا: "فهم القرآن" للمحاسبي "ص328".
3 المذكور في "تفسير سهل التستري" "ص3".
4 في "ط": "يخصوا".(4/208)
فَقَالَ: لَا؛ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ1. الْحَدِيثَ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ لِلْحَدِيثِ؛ إِذْ قَالَ: "الظَّهْرُ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ2 هُوَ السِّرُّ"3.
وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النِّسَاءِ: 82] .
فَظَاهِرُ الْمَعْنَى شَيْءٌ، وَهُمْ عَارِفُونَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ عَرَبٌ وَالْمُرَادُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِذَا حَصَلَ التَّدَبُّرُ لَمْ يُوجَدْ4 فِي الْقُرْآنِ اخْتِلَافٌ أَلْبَتَّةَ؛ فَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ يُفْهَمُ الِاتِّفَاقُ وَيَنْزَاحُ الِاخْتِلَافُ هُوَ الْبَاطِنُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، وَلَمَّا قَالُوا فِي الْحَسَنَةِ: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِِ} [النِّسَاءِ: 78] ، وَفِي السَّيِّئَةِ: هَذَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ، بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يفقهون حديثًا، لكن بَيَّنَ الْوَجْهَ الَّذِي يُتَنَزَّلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 79] .
وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [مُحَمَّدٍ: 24] .
فَالتَّدَبُّرُ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنِ الْتَفَتَ إِلَى الْمَقَاصِدِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ؛ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ تَدَبُّرٌ، قَالَ بعضهم: "الكلام في القرآن على ضربين:
__________
1 مضى تخريجه "ص192"، وهو صحيح.
2 كذا في الأصل وجميع الطبعات، والصواب: "والبطن".
3 أخرجه عنه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "43".
4 فإن الاختلاف إنما جاء من الوقوف عند بعض الظواهر، وضرب بعضها ببعض، وعدم التدبر في فقه النصوص حتى تتفق في المقصود منها، وذلك بتفسير بعضها ببعض بتخصيص أو تقييد أو تعميم، وهكذا من وجوه الفهم التي ترشد إليها المقاصد الشرعية وسائر أدوات الفهم الستة المتقدمة في المسألة السابعة. "د".(4/209)
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ بِرِوَايَةٍ؛ فَلَيْسَ يُعْتَبَرُ فِيهَا إِلَّا النَّقْلُ.
وَالْآخَرُ: يَقَعُ بِفَهْمٍ؛ فَلَيْسَ يَكُونُ إِلَّا بِلِسَانٍ مِنَ الْحَقِّ إِظْهَارُ1 حِكْمَةٍ عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ" وَهَذَا الْكَلَامُ يُشِيرُ إِلَى مَعْنَى كَلَامِ عَلِيٍّ.
وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّاهِرِ هُوَ الْمَفْهُومُ الْعَرَبِيُّ، وَالْبَاطِنُ هُوَ مُرَادُ2 اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كَلَامِهِ وَخِطَابِهِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُ مَنْ أَطْلَقَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ مَا فُسِّرَ؛ فَصَحِيحٌ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادُوا غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ إِثْبَاتُ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مَا كَانَ معلومًا عند الصحابة ومن بعدهم؛ فلا بد مِنْ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يُثْبِتُ هَذِهِ الدَّعْوَى لِأَنَّهَا أَصْلٌ يُحْكَمُ بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْكِتَابِ، فَلَا يَكُونُ ظَنِّيًّا، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ إِنَّمَا غَايَتُهُ إِذَا صَحَّ سَنَدُهُ أَنْ يَنْتَظِمَ فِي سِلْكِ الْمَرَاسِيلِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَلْنَرْجِعْ إِلَى بَيَانِهِمَا3 عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ بِحَوْلِ اللَّهِ.
وَلَهُ أَمْثِلَةٌ تُبَيِّنُ مَعْنَاهُ بِإِطْلَاقٍ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَتَدْخِلُهُ وَلَنَا بَنُونَ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ. فَسَأَلَنِي عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النَّصْرِ: 1] ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، وقرأ
__________
1 أي: قصد إظهار حكمة؛ فهو مفعول لأجله مضاف؛ أي: يريد الله إظهار سر ومعنى من المعاني الخفية على لسان عبد من أصفيائه. "د".
قلت: وفيه تعريض بـ"ف" حيث قال: "لعله إظهار لحكمه على لسان العبد".
2 أي: الذي يتوصل إليه بالوسائل التي أشار إليها سابقًا، وإلا؛ فالزائغون يدعون أن تأويلاتهم الزائغة هي مراد الله تعالى، لكنه يحتاج في بعض ذلك إلى زيادة بصيرة كما في مسألة ابن عباس وعمر المذكورة، وسيأتي له في فصل المسألة التابعة شرطان يستقر عليهما ما يعنيه بالباطن المراد لله تعالى، وينزاح بتحققها دعاوى الزائفين والمحرفين. "د".
3 أي: الظاهر والباطن على التفسير الذي ارتضاه. "د".(4/210)
السُّورَةَ إِلَى آخِرِهَا. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ"1.
فَظَاهِرُ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُسَبِّحَ بِحَمْدِ رَبِّهِ وَيَسْتَغْفِرَهُ إذ نَصَرَهُ اللَّهُ وَفَتَحَ عَلَيْهِ، وَبَاطِنُهَا أَنَّ اللَّهَ نَعَى إِلَيْهِ نَفْسَهُ.
وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 3] ؛ فَرِحَ الصَّحَابَةُ وَبَكَى عُمَرُ، وَقَالَ: "مَا بَعْدَ الْكَمَالِ إِلَّا النُّقْصَانُ"2 مُسْتَشْعِرًا نَعْيَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فما عاش بعدها إلا واحدًا وثمانين يومًا3.
__________
أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب إذا جاء نصر الله والفتح، 8/ 20/ رقم 4294، وباب مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- ووفاته، 8/ 130/ رقم 4430، وكتاب التفسير، باب قوله: {وَرَأَيْتَ النَّاس ... } ، 8/ 734/ رقم 4969، وباب قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} ، 8/ 734/ رقم 4970"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب سورة النصر، 5/ 450/ رقم 3362" -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"- وأحمد في "المسند" "1/ 337، 344 مختصرًا"، والطبراني في "المعجم الكبير" "10/ 321/ رقم 10617"، والحاكم والبزار وابن سعد كما قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 321".
2 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 140, ط دار الفكر" عن محمد بن فضيل، وابن جرير في "تفسيره" "6/ 52" من طريق سفيان عن ابن فضيل، والواحدي في "الوسيط" "2/ 154" من طريق سهل بن عثمان، كلاهما "هو وابن فضيل" عن هارون بن عنترة عن أبيه؛ قال: لما نزلت وذكر نحوه، ومضى لفظه عند المصنف "1/ 152"، وأخرجه ابن جرير من طريق أحمد بن بشير عن هارون به.
وإسناده ضعيف، أبو هارون عنترة بن عبد الرحمن، وثقه أبو زرعة وأبو حاتم، روى له النسائي حديثًا واحدًا عن ابن عباس، وروايته هذه مرسلة، وانظر: "الدر المنثور" "3/ 18".
وقال ابن كثير في "التفسير" "2/ 24": "ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: "إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا؛ فطوبى للغرباء". قلت: انظر ما قدمناه "1/ 151".
3 أسنده ابن جرير في "التفسير "6/ 80" عن ابن جريج، وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" "1/ 416, ط لبنان"، وابن كثير في "التفسير" "2/ 14".(4/211)
وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوت اتَّخَذَتْ بَيْتًا} 1 الْآيَةَ [الْعَنْكَبُوتِ: 41] ، قَالَ الْكُفَّارُ: مَا بَالُ الْعَنْكَبُوتِ وَالذُّبَابِ يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ؟ مَا هَذَا الْإِلَهُ2؛ فَنَزَلَ3: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [الْبَقَرَةِ: 26] ؛ فَأَخَذُوا بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْمُرَادِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 26] .
وَيُشْبِهُ مَا نَحْنُ فِيهِ نَظَرُ الْكُفَّارِ لِلدُّنْيَا، وَاعْتِدَادُهُمْ مِنْهَا بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَظِلٌّ زَائِلٌ، وَتَرْكُ مَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْهَا، وَهُوَ كَوْنُهَا مَجَازًا وَمَعْبَرًا لَا مَحَلَّ سُكْنَى، وَهَذَا هُوَ بَاطِنُهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ4 مِنَ التَّفْسِيرِ.
وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر} [الْمُدَّثِّرِ: 30] نَظَرَ الْكُفَّارُ إِلَى ظَاهِرِ الْعَدَدِ؛ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ, فِيمَا روي5: لأنه يعجز كل عشرة منكم أن
__________
1 سقطت {اتَّخَذَتْ بَيْتًا} من الأصل.
2 في الأصل: "الآله".
3 أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" "1/ رقم 281" عن ابن جريج به، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره""1/ 41" عن قتادة به، وأخرجه الواحدي في "أسباب النزول" "ص14" عن عبد الغني بن سعيد الثقفي عن موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وذكر نحوه.
قال السيوطي في "لباب النقول" "19": "عبد الغني واه جدًّا"، وقال: "وذكر المشركين لا يلائم كون الآية مدنية". وانظر -لزامًا- "3/ 514".
وما بين المعقوفتين زيادة من الأصل.
4 وسيأتي له مزيد بسط في المسألة الثالثة من مبحث التعارض. "د".
5 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "29/ 159" عن ابن عباس بإسناد ضعيف فيه مجاهيل.
وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 2/ 329"، وابن جرير في "التفسير" "29/ 159-160"، وعبد بن حميد -كما في "الدر المنثور" "8/ 333"- عن قتادة به.(4/212)
يَبْطِشُوا بِرَجُلٍ مِنْهُمْ. فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بَاطِنَ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ... } إِلَى قَوْلِهِ: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [الْمُدَّثِّرِ: 31] .
وَقَالَ: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [الْمُنَافِقُونَ: 8] ؛ فَنَظَرُوا إِلَى ظَاهِرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا1، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [الْمُنَافِقُونَ: 8] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ... } الْآيَةَ [لُقْمَانَ: 6] لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ هُدًى لِلنَّاسِ وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ، نَاظَرَهُ2 الْكَافِرُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بِأَخْبَارِ فَارِسَ وَالْجَاهِلِيَّةِ وَبِالْغِنَاءِ3؛ فَهَذَا هُوَ عَدَمُ الِاعْتِبَارِ لِبَاطِنِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}
__________
1 يومئ المصنف إلى مقولة عبد الله بن أبي، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب سورة "المنافقون"، 8/ 644/ رقم 4900-4904" عن زيد بن أرقم؛ قال: "كنت في غزاة، فسمعت عبد الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل. فذكرت ذلك لعمي -أو لعمر- فذكره للنبي -صلى الله عليه وسلم- فدعاني فحدثته، فأرسل رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقه، فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومقتك؟ فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُون} ، فبعث إليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ؛ فقال: "إن الله قد صدقك يا زيد".
2 لعله: "وناظره". "ف". وفي "ط": "ناظره الكفار".
3 الخبر بالتفصيل عند الواحدي في "الوسيط" "3/ 440-441"، و"أسباب النزول" "232-233"، وعزاه السيوطي في "لباب النقول" "ص169" لجويبر عن ابن عباس، وكذا فعل في "الدر المنثور" "6/ 504"، وعزاه فيه أيضًا إلى البيهقي في "الشعب" "4/ 5194".(4/213)
[الْحَشْرِ: 13] ، وَهَذَا عَدَمُ فِقْهٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ هُوَ مُصَرِّفُ الْأُمُورِ؛ فَهُوَ الْفَقِيهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الْحَشْرِ: 13] .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [التَّوْبَةِ: 127] لِأَنَّهُمْ نَظَرَ بَعْضُهُمْ1 إِلَى بَعْضٍ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا.
فَاعْلَمْ2 أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا نَفَى الْفِقْهَ أَوِ الْعِلْمَ عَنْ قَوْمٍ؛ فَذَلِكَ لِوُقُوفِهِمْ مَعَ ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِمْ لِلْمُرَادِ مِنْهُ، وَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ لِفَهْمِهِمْ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ خِطَابِهِ، وَهُوَ بَاطِنُهُ.
فَصْلٌ:
فَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَعَانِي الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي لَا يَنْبَنِي فَهْمُ الْقُرْآنِ إِلَّا عَلَيْهَا؛ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الظَّاهِرِ.
فَالْمَسَائِلُ الْبَيَانِيَّةُ وَالْمَنَازِعُ الْبَلَاغِيَّةُ لَا مَعْدِلَ بِهَا عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَإِذَا فُهِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ ضَيِّقٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا 3} [الْأَنْعَامِ: 125] ، وَبَيْنَ ضَائِقٍ فِي قَوْلِهِ: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُك} [هُودٍ: 12] .
__________
1 أي: لأن المنافقين حينما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض، وهم في محفل تبليغ الوحي ليتواطئوا على الهرب كراهة سماعها، قائلين إشارة: هل يراكم من أحد من المسلمين إذا قمتم من المجلس؟ كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} الآية [التوبة: 157] . "ف".
2 لعله: "واعلم" بصيغة الأمر وبالواو. "ف".
3 صفة مشبهة دالة على الثبوت والدوام في حق من يريد الله أن يضله بخلاف "ضائق" اسم الفاعل الدال على الحدوث والتجدد، وأنه أمر عارض له, صلى الله عليه وسلم. "د".(4/214)
وَالْفَرْقُ1 بَيْنَ النِّدَاءِ بِـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 2، أَوْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا} 3، وَبَيْنَ النِّدَاءِ بِـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 4، أَوْ بِـ {يَا بَنِي آدَمَ} 5.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} 6 [الْبَقَرَةِ: 6] ، وَالْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لُقْمَانَ: 6] ، وَكِلَاهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِهِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشُّعَرَاءِ: 154] ، وَبَيْنَ الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} 7 [الشعراء: 186] .
__________
1 ويبقى الكلام في أن هذا الفرق يرجع في جميع ما ذكره إلى المعاني الثانوية التي هي منازع بيانية، أو أنه يرجع إلى المعاني الوضعية في بعض الأمثلة. "د".
2 مدني خاص. "د".
3 مكي خاص. "د".
4 للناس كافة. "د".
5 للناس كافة. "د".
6 المقصود بما قبله بيان حال الكتاب تقريرًا لكونه يقينًا لا شك فيه، وفي ضمن هذا البيان اتصاف الكفار بالإصرار على الكفر والضلال، بحيث لا يجدي فهم الإنذار ولا يستفيدون من الكتاب؛ فالآية تكميل لما قبلها؛ فالمحل للفصل، أما آية: {وَمِنَ النَّاس} ؛ فالمقصود منها مع سابقتها أن الناس على صنفين مهتد هاد، وضال مضل، وبينهما التضاد؛ فالمحل للوصل، فقوله: "وكلاهما تقدم عليه ... إلخ"، يعني: الذي كان يقتضي الوصل لشبه التضاد المعتبر جامعًا، وهذا من المنازع البلاغية وكذلك الأمثلة بعده كما سيقول: "من الأمور المعتبرة ... إلخ"، وإن كانت حروف النداء المتقدمة من أصل الوضع والمعاني الأولية، ومثله يقال في دلالة الفعل واسم الفاعل. "د".
7 أدخل الواو بين الجملتين للدلالة على أن كلًّا من التسحير والبشرية مناف للرسالة، أما في آية: {مَا أَنْت} ؛ فإنما قصدوا كونه مسحرًا وأكدوه بأنه بشر مثلهم، وفي "الكشاف" "3/ 125": "غير هذا الوجه مما يقتضي أن كلًّا له موضع اختصاصه، هذا ومعلوم أن الآيتين في قصتين =(4/215)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّفْعِ1 فِي قَوْلِهِ: {قَالَ سَلامٌ} [هُودٍ: 69] ، وَالنَّصْبِ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {قَالُوا سَلامًا} [هُودٍ: 69] .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ2 فِي التَّذَكُّرِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} [الْأَعْرَافِ: 201] ، وَبَيْنَ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فِي الْإِبْصَارِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُون} [الْأَعْرَافِ: 201] .
أَوْ3 فُهِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ إِذَا وَإِنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} 4 [الْأَعْرَافِ: 131] ، وَبَيْنَ "جاءتهم" و"تصبهم" بالماضي مع إذا، والمستقبل مع إن.
__________
1 لقصد الثبات؛ فيكون تحيته أحسن من تحيتهم؛ لأنهما جملة اسمية. "د".
2 لأنه يحدث بعد مس الشيطان ويتجدد بسبب المس، بخلاف الإبصار بالحق؛ فهو ثابت له قائم بهم لأن اسم الفاعل حقيقة فيمن قام به الفعل، وقد يغطيه مس الشيطان؛ فتجدد التذكر، يكشف هذا الغطاء ليتجلى لهم الحق الذي عهدوه قائمًا بنفوسهم؛ أي: يفاجئهم قيام البصيرة بهم دفعة بخلاف التذكر. "د".
انظر: "نظم الدرر" "8/ 206".
3 الأنسب: "وفهم" بالواو. "ف".
4 المراد بالحسنة ما يستحسنونه من الخصب والرخاء والعافية، ولما كانت هذه الحسنات شائعة عامة الوقوع بمقتضى العناية الإلهية بسبق الرحمة وشيوع النعمة كانت متحققة؛ فجيء فيها بالماضي وبإذا وتعريف الحسنة، ولما كانت السيئة التي يراد منها أنواع البلاء نادرة الوقوع ولا تتعلق الإرادة بها إلا تبعًا؛ فإن النقمة بمقتضى العناية الإلهية إنما تستحق بالأعمال جيء فيها بأداة الشك، ولفظ الفعل المستقبل، وتنكير السيئة. "د".
قلت: انظر "الكشاف" "2/ 84"، وكلام الشارح منه.(4/216)
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} 1 [الرُّومِ: 36] مَعَ إِتْيَانِهِ بِقَوْلِهِ: {فَرِحُوا} بعد إذا و {يَقْنَطُونَ} بَعْدَ إِنْ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْبَيَانِ، فَإِذَا حَصَلَ فَهْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى تَرْتِيبِهِ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ؛ فَقَدْ حَصَلَ فَهْمُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ.
وَمِنْ هُنَا حَصَلَ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ إِعْجَازَهُ بِالْفَصَاحَةِ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 23] .
وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [هُودٍ: 13] ، وَهُوَ لَائِقٌ أَنْ يَكُونَ الْإِعْجَازُ بِالْفَصَاحَةِ لَا بِغَيْرِهَا؛ إِذْ لَمْ يُؤْتَوْا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا مِنْ بَابِ مَا يَسْتَطِيعُونَ مِثْلَهُ في الجملة، ولأنهم دعوا [وتحدوا] وَقُلُوبُهُمْ لَاهِيَةٌ عَنْ مَعْنَاهُ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ إِنْزَالِهِ، فَإِذَا عَرَفُوا عَجْزَهُمْ عَنْهُ؛ عَرَفُوا صِدْقَ الْآتِي بِهِ وَحَصَلَ الْإِذْعَانُ، وَهُوَ بَابُ2 التَّوْفِيقِ وَالْفَهْمِ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى.
__________
1 إذا معبرًا بأداة التحقيق إشارة إلى أن الرحمة أكثر من النقمة، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة، إشارة إلى سعة جوده، وقال: {وَإِن} بأداة الشك دلالة على أن المصائب أقل وجودًا، وقال: {تُصِبْهُم} غير مسند لها إليه تأديبًا لعباده، وإعلامًا بغزير كرمه، قاله النقاعي في "نظم الدرر" "15/ 95"، والتعبير بالمضارع في {يَقْنَطُونَ} لرعاية الفاصلة، والدلالة على الاستمرار في القنوط، قاله الآلوسي في "تفسيره" "21/ 43".
2 أي: فالإعجاز الذي يترتب على فصاحته يقصد منه أثره، وهو رجوعهم بسبب العجز إلى تصديقه والتفهم في مراده، فما كان مؤديًا إلى العجز عن المعارضة وإلى أصل الاعتراف بصدقه يكون من الظاهر، وما يجيء بعد ذلك من ثمرة الاعتراف وهو فهم المعاني التي يتحقق بها للعبد وصف العبودية والقيام بموجبها؛ فذلك من الباطن المراد والمقصود من الإنزال. "د".(4/217)
وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْمُخَاطَبِ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ؛ فَذَلِكَ هُوَ الْبَاطِنُ الْمُرَادُ وَالْمَقْصُودُ الَّذِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَجْلِهِ.
وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالشَّوَاهِدِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [الْبَقَرَةِ: 245] ، قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ: إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ اسْتَقْرَضَ مِنَّا مَا أَعْطَانَا، هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ1، وَقَالَتِ2 الْيَهُودُ: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آلِ عِمْرَانَ: 181] ؛ فَفَهْمُ أَبِي الدَّحْدَاحِ هُوَ الْفِقْهُ، وَهُوَ الْبَاطِنُ الْمُرَادُ، وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ: يَسْتَقْرِضُنَا وَهُوَ غَنِيٌّ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "نَعَمْ ليُدخلكم الْجَنَّةَ". وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ3، وَفَهْمُ الْيَهُودِ لَمْ يَزِدْ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَوْلِ الْعَرَبِيِّ الظَّاهِرِ، ثُمَّ حَمَلَ اسْتِقْرَاضَ الرَّبِّ الْغَنِيِّ عَلَى اسْتِقْرَاضِ الْعَبْدِ الْفَقِيرِ، عَافَانَا الله من ذلك.
__________
1 سيأتي نصه وتخريجه قريبًا إن شاء الله.
2 راجع: "روح المعاني" في الآية. "د".
3 أخرج الحسن بن عرفة في "جزئه" "رقم 87"، وابن جرير في "تفسيره" "2/ 593"، والطبراني في "المعجم الكبير" "22/ 301/ رقم 764"، وأبو يعلى في "المسند" "8/ 404/ رقم 4986"، والبزار في "مسنده" "1/ 447/ رقم 944, زوائده"، وابن حيويه في "من وافقت كنيته كنية زوجه من الصحابة" "ص59-60"، وابن أبي حاتم في "تفسيره" -كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 306"- من طريق خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} ، قال أبو الدحداح: يا رسول الله, وإن الله يريد منا القرض!! قال: "نعم يا أبا الدحداح". قال: أرني يدك. قال: فناوله، قال: فإني أقرضت ربي حائطًا لي فيه ستمائة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط، وأم الدحداح فيه وعيالهم فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك. قال: اخرجي، قد أقرضت ربي حائطًا فيه ستمائة نخلة.
وفي سنده حميد الأعرج، قال البخاري: "منكر الحديث"، انظر: "التاريخ الكبير" "1/ 2 =(4/218)
....................................................................................
__________
=/ 354"، و"التاريخ الصغير" "2/ 108"، و"الضعفاء الصغير" "31".
وقال النسائي: "متروك الحديث"، انظر: "الضعفاء والمتروكين" "33"، وقال الدارقطني: "متروك"، انظر: "الضعفاء والمتروكين" "رقم 167"، وضعفه أحمد وابن معين والترمذي.
وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود وغيرهم في الضعفاء، كذا قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" "3/ 47".
ولهذا السند علة أخرى وهي الانقطاع بين عبد الله بن الحارث وابن مسعود, قال أبو حاتم في ترجمته "حميد الأعرج": "قد لزم عبد الله بن الحارث من ابن مسعود، ولا نعلم لعبد الله عن ابن مسعود شيئًا"، انظر: "الجرح والتعديل" "1/ 2/ 226"، وقال ابن حبان في ترجمة حميد أيضًا: "يروي عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود بنسخة كأنها موضوعة، لا يحتج بخبره إذا انفرد، وليس هذا بصاحب الزهري، ذاك حميد بن قيس الأعرج". انظر: "المجروحين" "1/ 262".
وقال الدارقطني: "حميد متروك، أحاديثه تشبه الموضوعة، وهو كوفي، وعبد الله بن الحارث كوفي ثقة، ولم يسمع من ابن مسعود". انظر: "سؤالات البرقاني للدارقطني" "ترجمة رقم 98", وانظر: "الكامل في الضعفاء" "2/ 689"، و"الضعفاء الكبير" "1/ 268" للعقيلي.
والحديث عزاه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 746" إلى سعيد بن منصور وابن سعد والبزار وابن المنذر والحكيم الترمذي والبيهقي.
وقال الهيثمي في "المجمع" "9/ 324": "رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح"، وأورده ابن حجر في "المطالب العالية" "4/ 105/ رقم 4080"، وعزاه إلى أبي يعلى، وقال: "فيه ضعف"، ونقل الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي عن البوصيري قوله: "رواه أبو يعلى بسند ضعيف".
قلت: وهذا هو الصحيح لما تقدم، بل ذكره الهيثمي نفسه "3/ 113-114"، وعزاه للبزار، وقال: "وفيه حميد بن عطاء الأعرج، وهو ضعيف".
قلت: وللحديث علة ثالثة، وهي تغير خلف بن خليفة واختلاطه.
قال ابن سعد: "تغير قبل موته واختلط"، وقال أحمد: "رأيت خلفًا مفلوجًا لا يفهم، فمن كتب عنه قديمًا؛ فسماعه صحيح، أتيته فلم أفهم عنه؛ فتركته". انظر "ميزان الاعتدال" "1/ 659-660". =(4/219)
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورَ بِهَا بَلِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ كُلَّهَا إِنَّمَا طُلِبَ بِهَا الْعَبْدُ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النَّحْلِ: 78] .
وَفِي الْأُخْرَى: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السَّجْدَةِ: 9] .
وَالشُّكْرُ ضِدُّ الْكُفْرِ؛ فَالْإِيمَانُ وَفُرُوعُهُ هُوَ الشُّكْرُ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُكَلَّفُ تَحْتَ أَعْبَاءِ التَّكْلِيفِ بِهَذَا الْقَصْدِ؛ فَهُوَ الَّذِي فَهِمَ الْمُرَادَ مِنَ الْخِطَابِ، وَحَصَّلَ بَاطِنَهُ عَلَى التَّمَامِ، وَإِنْ هُوَ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ مُقْتَضَى عِصْمَةِ مَالِهِ وَدَمِهِ فَقَطْ؛ فَهَذَا خَارِجٌ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَوَاقِفٌ مَعَ ظَاهِرِ الْخِطَابِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التَّوْبَةِ: 5] .
ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 5] .
فَالْمُنَافِقُ إِنَّمَا فَهِمَ مُجَرَّدَ ظَاهِرِ الْأَمْرِ مِنْ أن الدخول فيما دخل فيه
__________
= وعزاه ابن حجر في "الإصابة" "4/ 59" إلى ابن منده، وللحديث شواهد من غير ذكر للآية فيه.
أخرجه نحو القصة المذكورة من حديث أنس عن رجل أحمد في "المسند" "3/ 146"، والطبراني في "المعجم الكبير" "22/ 300"، والبغوي والحاكم؛ كما في "الإصابة" "4/ 51"، وقال الهيثمي في "المجمع" "9/ 324": "رواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح"، وأخرج نحوها الطبراني في "الأوسط" "2/ 516-517/ رقم 1887"، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب، وفيه إسماعيل بن قيس، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في "المجمع" "3/ 113"، وعبد بن حميد عن جابر بن سمرة، وأخرج مسلم في "صحيحه" "2/ 665"، وأحمد في "مسنده" "5/ 18 و102"، والطيالسي "760 و761" وغيرهم من حديث جابر بن سمرة: "كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لابن الدحداح".
وذكر ابن الأثير في "أسد الغابة" "1/ 221" أن اسم أبي الدحداح ثابت بن الدحداح وابن مردويه عن أبي هريرة وابن جرير في "تفسيره" "2/ 593" عن زيد بن أسلم مرسلًا.(4/220)
الْمُسْلِمُونَ مُوجِبٌ لِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ؛ فَعَمِلُوا عَلَى الْإِحْرَازِ مِنْ عَوَادِي الدُّنْيَا، وَتَرَكُوا الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى قَدَمِ الْخِدْمَةِ، فَإِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ تُشْعِرُ بِإِلْزَامِ الشُّكْرِ بِالْخُضُوعِ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمِ لِأَمْرِهِ؛ فَمَنْ دَخَلَهَا عَرِيًّا مِنْ ذَلِكَ كَيْفَ يُعَدُّ مِمَّنْ فَهِمَ بَاطِنَ الْقُرْآنِ؟ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ؛ فَوَجَبَ عَلَيْهِ شُكْرُ النِّعْمَةِ بِبَذْلِ الْيَسِيرِ مِنَ الْكَثِيرِ، عَوْدًا1 عَلَيْهِ بِالْمَزِيدِ؛ فَوَهَبَهُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ فِرَارًا مِنْ أَدَائِهَا لَا قَصْدَ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ، كَيْفَ يَكُونُ شَاكِرًا لِلنِّعْمَةِ؟
وَكَذَلِكَ مَنْ يُضَارُّ الزَّوْجَةَ لِتَنْفَكَّ لَهُ مِنَ الْمَهْرِ عَلَى غَيْرِ طِيبِ النَّفْسِ لَا يُعَدُ عَامِلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [الْبَقَرَةِ: 229] حَتَّى يَجْرِيَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] .
وتجري [ها] هنا مَسَائِلُ الْحِيَلِ أَمْثِلَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَنْ فَهِمَ بَاطِنَ مَا خُوطِبَ بِهِ لَمْ يَحْتَلْ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ حَتَّى يَنَالَ مِنْهَا بِالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، وَمَنْ وَقَفَ مَعَ مُجَرَّدِ الظَّاهِرِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ؛ اقْتَحَمَ هَذِهِ الْمَتَاهَاتِ الْبَعِيدَةَ.
وَكَذَلِكَ تَجْرِي مَسَائِلُ الْمُبْتَدَعَةِ أَمْثِلَةً أَيْضًا، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ؛ كَمَا قَالَ2 الْخَوَارِجُ لعلي: إنه حكم
__________
1 في "ط": "موعودًا".
2 هو وما يأتي بعد في قوله: "فلو نظر ... إلخ" يساعد على تعيين الجملة الساقطة فيما سبق في المسألة الثانية من مبحث الأحكام. "د".
قلت: أخرج مناظرة ابن عباس -رضي الله عنه- الحرورية فيما أنكروه على عليّ -رضي الله عنه- وفيها ما عند المصنف من قولهم: "إنه حكم الخلق في دين الله"، وكذا قولهم: "إنه محا نفسه ... "، وقولهم لابن عباس أيضًا: "لَا تُنَاظِرُوهُ؛ فَإِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ ... ": عبد الرزاق في "المصنف" "10/ 157/ رقم 18678"، وأحمد في "المسند" "1/ 342"، والفسوي في =(4/221)
الْخَلْقَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الْأَنْعَامِ: 57، وَيُوسُفَ: 40، 67] . وَقَالُوا: إِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ إِمَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ1؛ فَهُوَ إِذًا أمير الكافرين.
__________
= "المعرفة والتاريخ" "1/ 522-524"، وأبو عبيد في "الأموال" "444"، والنسائي في "خصائص علي" "190"، والطبراني في "المعجم الكبير" "10/ 312"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 150-152"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 179"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 318-320"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 103"، والخوارزمي في "المناقب" "183"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "12/ 183/ أ"، كلهم من طريق عكرمة بن عمار حدثني أبو زميل حدثني عبد الله بن عباس به وذكر أحمد وأبو عبيد جزءًا منه.
وصححه الحاكم على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وهو كذلك.
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "6/ 241": "رواه الطبراني وأحمد بعضه، ورجالهما رجال الصحيح".
وله شاهد عن عبد الله بن شداد عن علي، وفيه أن عليًّا -رضي الله عنه- ناظرهم أولًا، ثم بعث إليهم ابن عباس.
أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 86"، وأبو يعلى في "المسند" "1/ 367-371/ رقم 474"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 152"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 179"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "9/ ق 403"، والضياء في "المختارة" "605"، وإسناده صحيح.
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 280": "تفرد به أحمد، وإسناده صحيح، واختاره الضياء".
وعزاه في "المطالب العالية" "4504" لإسحاق بن راهويه، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي يعلى في "مسانيدهم".
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "6/ 235-237": "رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات".
ورويت المناظرة من طرق أخرى، انظر: "فتح الباري" "12/ 296-297" تحت حديث رقم "6933".
وانظر "الاعتصام" "1/ 303, ط ابن عفان"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 30-31".
1 في "ط": "المسلمين".(4/222)
وَقَالُوا لِابْنِ عَبَّاسٍ1: لَا تُنَاظِرُوهُ؛ فَإِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون} [الزُّخْرُفِ: 58] ، وَكَمَا زَعَمَ أَهْلُ التَّشْبِيهِ فِي صِفَةِ الْبَارِي حِينَ أَخَذُوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [الْقَمَرِ: 14] ، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] ، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [الشُّورَى: 11] ، {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزُّمَرِ: 67] ، وَحَكَّمُوا مُقْتَضَاهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ؛ فَأَسْرَفُوا مَا شَاءُوا2.
فَلَوْ نَظَرَ الْخَوَارِجُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَكَّمَ الْخَلْقَ فِي دِينِهِ فِي قَوْلِهِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 95] ، وَقَوْلِهِ {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النِّسَاءِ: 35] ، لَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الْأَنْعَامِ: 57] غَيْرُ مُنَافٍ لِمَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ، وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ حُكْمِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ تَحْكِيمَ الرِّجَالِ يَرْجِعُ بِهِ الْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلُهُ مِمَّا فَعَلَهُ عَلِيٌّ.
وَلَوْ نَظَرُوا إِلَى مَحْوِ الِاسْمِ مِنْ أَمْرٍ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَهُ لِضِدِّهِ؛ لَمَّا قَالُوا: إِنَّهُ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ، وَهَكَذَا الْمُشَبِّهَةُ لَوْ حَقَّقَتْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشُّورَى: 11] فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَفَهِمُوا بَوَاطِنَهَا، وَأَنَّ الرَّبَّ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْمَخْلُوقِينَ.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَكُلُّ مَنْ زَاغَ وَمَالَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَبِمِقْدَارِ مَا فَاتَهُ مِنْ بَاطِنِ الْقُرْآنِ فَهْمًا وَعِلْمًا، وَكُلُّ مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ وَصَادَفَ الصَّوَابَ؛ فَعَلَى مِقْدَارِ مَا حصل له من فهم باطنه.
__________
1 أي: في شأن ابن عباس حين أراد مناظرتهم وقد حجهم في المناظرة؛ فظفر منهم بألفين عادوا إلى حظيرة الإسلام. "ف".
2 الصواب إمرار آيات الصفات كما جاءت من غير تشبيه ولا تكييف، ولا تأويل ولا تعطيل، وهذا مذهب السلف الصالح؛ كما تراه مبسوطًا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا سيما "الواسطية" و"الحموية" وكتب تلميذه ابن القيم وغيرهما.(4/223)
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:
كَوْنُ الظَّاهِرِ هُوَ الْمَفْهُومُ الْعَرَبِيُّ مُجَرَّدًا لَا إِشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُوَالِفَ وَالْمُخَالِفَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} [الشُّعَرَاءِ: 195] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النَّحْلِ: 103] .
ثُمَّ رَدَّ الْحِكَايَةَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النَّحْلِ: 103] .
وَهَذَا الرَّدُّ عَلَى شَرْطِ الْجَوَابِ فِي الْجَدَلِ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَهُمْ بِمَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ بِلِسَانِهِمْ، وَالْبَشَرُ هُنَا حَبْرٌ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، أَوْ سَلْمَانُ1، وَقَدْ كَانَ فَارِسِيًّا فَأَسْلَمَ، أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَنْ كَانَ لِسَانُهُ غَيْرَ عَرَبِيٍّ بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فُصِّلَتْ: 44] .
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُمْ عَرَبِيٌّ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَقَدَ كَانُوا فَهِمُوا مَعْنَى أَلْفَاظِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَرَبِيٌّ فَقَطْ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهُ؛ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي ظَاهِرِهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْجَرَيَانِ عَلَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ.
فَإِذًا كَلُّ مَعْنًى مُسْتَنْبَطٍ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرِ جَارٍ عَلَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ؛ فَلَيْسَ2 مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ، لَا مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْهُ، وَلَا مِمَا يُسْتَفَادُ بِهِ، وَمَنِ ادَّعَى فِيهِ
__________
1 أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك قوله؛ كما في "الدر المنثور" "5/ 168"، وهو مردود بأن الآية مكية، وسلمان أسلم في المدينة، وتجد أقوالًا أخرى عند ابن جماعة في "غرر التبيان في من لم يسم في القرآن" "ص305"، ولم يذكر سلمان من بينها.
2 سيأتي في الفصل التالي زيادة بيان لهذا وتقرير. "د".(4/224)
ذَلِكَ؛ فَهُوَ فِي دَعْوَاهُ مُبْطِلٌ، وَقَدْ مَرَّ1 فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْفَصْلِ مَا ادَّعَاهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ مِنْ أَنَّهُ مُسَمًّى فِي الْقُرْآنِ كَبَيَانِ بْنِ سَمْعَانَ2، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 138] ، وَهُوَ مِنَ التُّرَّهَاتِ بِمَكَانٍ مَكِينٍ، وَالسُّكُوتُ عَلَى الْجَهْلِ كَانَ أَوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا الِافْتِرَاءِ الْبَارِدِ، وَلَوْ جَرَى لَهُ عَلَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ لَعَدَّهُ الْحَمْقَى مِنْ جُمْلَتِهِمْ3، وكنه كَشَفَ عَوَارَ نَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، عَافَانَا اللَّهُ وَحَفِظَ عَلَيْنَا الْعَقْلَ وَالدِّينَ بِمَنِّهِ.
وَإِذَا كَانَ بَيَانٌ فِي الْآيَةِ عَلَمًا لَهُ؛ فَأَيُّ مَعْنًى لِقَوْلِهِ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاس} [آلِ عِمْرَانَ: 138] ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا زَيْدٌ لِلنَّاسِ، وَمِثْلُهُ فِي الْفُحْشِ مَنْ تَسَمَّى بِالْكِسْفِ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} الْآيَةَ [الطَّوْرِ: 44] ؛ فَأَيُّ مَعْنًى يَكُونُ لِلْآيَةِ عَلَى زَعْمِهِ الْفَاسِدِ؟ كَمَا تَقُولُ: وَإِنْ يَرَوْا رجلًَا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا4: سَحَابٌ مَرْكُومٌ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كبيرًا.
__________
1 في النوع الثاني في وضع الشريعة للأفهام. "2/ 127 وما بعدها".
2 انظر عن حيله وأباطيله وهتكها: "المختار في كشف الأسرار وهتك الأستار" لعبد الرحيم الجوبري "ص173 وما بعدها"، ط دار الكتاب العربي، دمشق - القاهرة.
3 لعل الأصل: "من جملة أدلتهم"؛ أي: لكان أتباعه يعدون هذا دليلًا على صحة زعمهم في هذا الرجل، ولكنه فضح نفسه وكشف عواره كما قال، فلم يجعلوا قوله: "إن الله يشير إليه في كتابه ... إلخ"؛ لم يجعلوه من الأدلة على عقيدتهم فيه لنبوه ظاهرًا وباطنًا عن الجادة، وتقدم له في المقاصد أن هذا المثال مما فقدت فيه شروط صحة التأويل لفظًا ومعنى. "د". ونحوه عند "م".
4 في الأصل: "تقول".(4/225)
وبيان بن سمعان هذا هو الذي تنسبه إِلَيْهِ الْبَيَانِيَّةُ مِنَ الْفِرَقِ1، وَهُوَ فِيمَا زَعَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ2 أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَالْكِسْفُ هُوَ أَبُو مَنْصُورٍ3 الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمَنْصُورِيَّةُ.
وَحَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ الشيعي المسمى بالمهدي4 حين ملك
__________
1 من الرافضة، وقد قتله خالد القسري وأراح العباد من شره. "د".
قلت: وفي قتل خالد القسري له نظر، والمشهور أنه قتل الجعد بن درهم، ولم يثبت ذلك على ما فصلناه في الجزء الثالث من كتابنا: "قصص لا تثبت"، وانظر عن البيانية: "الفصل" "4/ 185"، و"الملل والنحل" "152"، و"الفرق بين الفرق" "236"، و"البرهان في معرفة عقائد أهل الزمان" "ص43, ط المصرية"، و"لسان الميزان" "2/ 62"، و"الاعتصام" "1/ 215-216, ط ابن عفان".
2 في كتابه: "اختلاف الحديث" "1/ 218, بتحقيق أحمد الشقيرات"، وكذا في "عيون الأخبار" "2/ 148".
3 هو أبو منصور العجلي، والكسف لقبه، صلبه يوسف بن عمر الثقفي والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك، وكان أبو منصور يزعم أنه عرج به إلى السماء، وأن الله مسح بيده على رأسه، وقال له: يا بني! بلغ عني. وأباح المحرمات، وأسقط الفرائض، وكان أتباعه يؤمنون بنبوته، قال "ف" وتبعه "م": "في مزاعمه الإمامة صارت لمحمد بن علي بن الحسين، وأن الجنة رجل أمر بموالاته وهذا الإمام، والنار ضده، وكذا الفرائض والمحرمات" ا. هـ.
قلت: انظر المزيد عنه وعن طائفته "المنصورية" في: "الفرق بين الفرق" "243-245"، و"اختلاف الحديث" "1/ 218-219"، و"عيون الأخبار" "2/ 147"، و"الفصل" "4/ 185"، و"الملل والنحل" "2/ 14، 15"، و"البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان" "ص43, ط المصرية".
4 انظر عن أخباره: "البداية والنهاية" "11/ 191"، و"صلة تاريخ الطبري" لعريب بن سعد "ص51-52"، و"تاريخ الإسلام" للذهبي "حوادث 321-330هـ" "ص22-24"، و"البيان المعرب" "1/ 206"، و"تاريخ ابن الوردي" "1/ 266"، و"الاعتصام" "1/ 216، 220, ط ابن عفان" للمصنف. وفي "ط": "المتسمي بالمهدي".(4/226)
إِفْرِيقِيَّةَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا؛ كَانَ لَهُ صَاحِبَانِ مِنْ كُتَامَةَ يَنْتَصِرُ بِهِمَا عَلَى أَمْرِهِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا يُسَمَّى بِنَصْرِ اللَّهِ، وَالْآخُرُ بِالْفَتْحِ؛ فَكَانَ يَقُولُ لَهُمَا: أَنْتُمَا اللَّذَانِ ذَكَرَكُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} [النَّصْرِ: 1] . قَالُوا: وَقَدْ كَانَ عَمِلَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَبَدَّلَ قَوْلَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] بِقَوْلِهِ كُتَامَةُ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَمَنْ كَانَ فِي عَقْلِهِ لَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَسَمِّيَيْنِ1 بِنَصْرِ اللَّهِ وَالْفَتْحِ الْمَذْكُورَيْنِ إِنَّمَا وُجِدَا بَعْدَ مِئِينَ مِنَ السِّنِينَ مِنْ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: إِذَا مُتَّ يَا مُحَمَّدُ ثُمَّ خُلِقَ هَذَانِ، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ} الْآيَةَ [النَّصْرِ: 2] ؛ فَأَيُّ تَنَاقُضٍ وَرَاءَ هَذَا الْإِفْكِ الَّذِي افْتَرَاهُ الشِّيعِيُّ قَاتَلَهُ اللَّهُ.
وَمِنْ أَرْبَابِ الْكَلَامِ مَنِ ادَّعَى جَوَازَ نِكَاحِ الرَّجُلِ مِنَّا تِسْعَ نِسْوَةٍ حَرَائِرَ2 مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النِّسَاءِ: 3] ، وَلَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا مَنْ فَهِمَ وَضْعَ الْعَرَبِ فِي مثنى وثلاث ورباع3.
__________
1 في الأصل و"م": "المتسمين"، والضمير عائد إلى مثنى.
2 حكاه القرطبي في "تفسيره" "5/ 17" عن بعض أهل الظاهر وأهل الرفض؛ فقال: "اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع، كما قاله من بعد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نكح تسعًا، وجمع بينهن في عصمته، والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر ... "، وناقش هذا القول مناقشة قوية، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى قريبًا، والله الموفق.
3 خاطب الله -عز وجل- العرب بأفصح اللغات، والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة، وكذلك تستقبح ممن يقول: أعط فلانًا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول: ثمانية عشر، =(4/227)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى شَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَجِلْدَهُ حَلَالًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، فَلَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا غَيْرَ لَحْمِهِ، وَلَفْظُ اللَّحْمِ يَتَنَاوَلُ الشَّحْمَ وَغَيْرَهُ بِخِلَافِ العكس1.
__________
= وإنما الواو في هذا الموضع بدل أي: أنكحوا ثلاثًا بدلًا من مثنى، ورباع بدلًا من ثلاث، ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو, ولو جاء بأو لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث, ولا لصاحب الثلاث رباع، وأما قولهم: إن مثنى تقتضي اثنين، وثلاث ثلاثة، ورباع أربعة، فتحكم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه، وجهالة منهم، وكذلك الآخرين بأن مثنى تقتضي اثنين اثنين، وثلاث ثلاثة ثلاثة، ورباع أربعة أربعة، ولم يعلموا أن اثنين اثنين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا حصر للعدد، ومثنى وثلاث ورباع بخلافها؛ ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الأصل، وذلك أنها إذا قالت: جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين؛ أي: جاءت مزدوجة، قال الجوهري: "وكذلك معدول العدد"، وقال غيره: إذا قلت: جاءني قوم مثنى أو ثلاث أو أحاد أو عشار؛ فإنما تريد أنهم جاءوك واحدًا واحدًا، أو اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو عشرة عشرة، وليس هذا المعنى في الأصل؛ لأنك إذا قلت: جائني قوم ثلاثة ثلاثة، أو قوم عشرة عشرة؛ فقد حصرت عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة، فإذا قلت: جاءوني رباع وثناء، فلم تحصر عدتهم، وإنما تريد أنهم جاءوك أربعة أربعة أو اثنين اثنين، وسواء كثر عددهم أو قل في هذا الباب؛ فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم. قاله القرطبي في "تفسيره" "5/ 17-18".
وانظر: "الاعتصام" "2/ 525, ط ابن عفان"؛ ففيه بيان أن المستدل بالآية على جواز نكاح التسع "بدعة أجراها في هذه الأمة لا دليل عليها ولا مستند فيها".
1 قال القرطبي في "تفسيره" "2/ 222": "أجمعت الأمة على تحريم شحم الخنزير"، وقال: "لأن اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم؛ فقد دخل الشحم في اسم اللحم، ولا يدخل اللحم في اسم الشحم؛ وقد حرم الله تعالى لحم الخنزير؛ فناب ذكر لحمه عن شحمه لأنه دخل تحت اسم اللحم".
وقال ابن العربي في "أحكامه" "1/ 54": "اتفقت الأمة على أن لحم الخنزير حرام بجميع أجزائه، والفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح للقصد إلى لحمه"، قال: "وقد شغفت المبتدعة بأن تقول: فما بال شحمه، بأي شيء حرم؟ وهم أعاجم لا يعلمون أنه من قال لحمًا فقد قال شحمًا، ومن قال شحمًا فلم يقل لحمًا؛ إذ كل شحم لحم، وليس كل لحم شحمًا من جهة اختصاص اللفظ، وهم لحم من جهة حقيقة اللحمية".
وانظر: "الاعتصام" "1/ 302, ط ابن عفان".(4/228)