"المصنف" مات سنة "235" خمس وثلاثين ومائتين.
327 - أبو إسحاق إبراهيم بن المنذر بن عبد الله الأسدي 1:
الحزامي المدني أحد كبار العلماء المحدثين مات سنة "236" ست وثلاثين ومائتين.
328- أبو عمرو خليفة بن خياط بن خليفة العصفري 2:
البصري المعروف بشباب، صاحب "الطبقات" الحافظ العارف بالتاريخ وأيام الناس، غير الفضل والعلم، شيخ البخاري وطبقته. قال ابن عساكر: توفي سنة "240" أربعين ومائتين، وقال غيره: سنة ثلاثين.
329- أبو محمد يحيى بن أكثم 3 بن محمد التيمي:
المروزي ثم البغدادي من ولد أكثم بن صيفي حكيم العرب، كان فقيها
__________
1 أبو إسحاق إبراهيم بن المنذر بن عبد الله الأسدي الحزامي المدني: تهذيب التهذيب "1/ 166، 167".
2 أبو عمرو خليفة بن خياط بن خليفة العصفري البصري: أبو هبيرة، العصفري الليثي الحافظ البصري، مات سنة 160:
تقريب التهذيب "1/ 227"، تهذيب التهذيب "3/ 161"، لسان الميزان "2/ 49"، الثقات "6/ 59"، التمهيد "8/ 365"، الجرح والتعديل "3/ 1727، 1726"، العبر "1/ 15".
3 أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد التيمي المروزي البغدادي: القاضي الخراساني، مات سنة 242، 243 عن 83 سنة:
ضعفاء ابن الجوزي "3/ 191"، تقريب التهذيب "2/ 342"، الكاشف "3/ 250"، تهذيب التهذيب "11/ 179"، تهذيب الكمال "3/ 1487"، الجرح والتعديل "9/ 549"، جامع الرواة "2/ 326".(2/85)
عالما بصيرا بالأحكام محدثا سياسيا سنيا، روى عنه الترمذي وغيره عظمه أحمد وغيره، وتكلم فيه ابن معين وغيره حيث سمع من ابن المبارك وهو صغير، وقال إسماعيل القاضي: كان يحيى أبرأ إلى الله من أن يكون فيه شيء مما يرمى به، ولكنه فيه دعابة.
وقال ابن حبان: لا يشتغل بما يروى عنه أكثرها لا يصح. قال طلحة بن محمد: إنه أحد أعلام الدنيا، واسع العلم والأدب والفقه، حسن العارضة، قائم بكل معضلة.
ونقل الخطيب في تاريخه عن الإمام أحمد أنه ذكر له ما يرمونه به فقال: سبحانه الله من يقول هذا، وأنكر إنكارا شديدا.
ولي القضاء بالبصرة سنة "202" اثنين ومائتين.
قال محمد بن منصور: كنا مع المأمون في طريق الشام، فنادى بتحليل المتعة، فقال يحيى: لي ولأبي العيناء: بكرا إليه غدا، فإن رأيتما للقول وجها، فقولا، وإلا فاسكتا إلى أن دخل، قال: فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى عهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما ومن أنت يا جاهل حتى تنهى عما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأومأ أبو العيناء إلى ابن منصور يقول رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول كيف نكلمه، فجاء يحيى وجلس، فقال المأمون: ما لي أراك متغيرا؟ فقال: لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث؟ قال النداء بتحليل الزنى، قال: الزنى؟! قال: نعم، المتعة الزنى، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 1 يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين، وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد
__________
1 سورة المؤمنون الآية: 1-7.(2/86)
الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن علي كرم الله وجهه "أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان أمر بها، فالتفت إلينا المأمون، وقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري؟ فقلنا: نعم رواه جماعة منهم مالك بن أنس، فقال: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة، فنادوا بها.
قال أبو إسحاق وإسماعيل بن حماد القاضي: كان يحيى بن أكثم يوم في الإسلام لمن يكن لأحد مثله، وذكر هذا اليوم.
وكانت كتب يحيى في الفقه أجل كتب، فتركها الناس لطولها وله كتب في الأصول، وله كتاب أورده على العراقيين سماه "التنبيه"، وبينه وبين داود الظاهري مناظرات كثيرة، وكان يحيى من أدهى الناس، وأخبرهم بالأمور، ولا يعلم أحد غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي داود حتى لم يتقدمها أحد عنده، وكان المأمون ممن برع في العلوم، فعرف حال يحيى وعلمه وعقله ما أخذ بمجامع قلبه حتى قلده قضاة القضاء، وتدبير أهل مملكته، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئا إلا بعد مطالعة يحيى.
قيل: إن المأمون استوزره، وقيل: إنما كان مستشارا، وقد قاد له الجيوش، وغزا معه الروم، فهو فقيه وقائد ووزير وقاض.
سئل بعض البلغاء عنه وعن ابن أبي داود؟ فقال: إن يحيى يهزل مع خصمه وعدوه، وابن أبي داود يجد مع ابنته وجاريته، ولم يقل يحيى بخلق القرآن، ولا بشيء من هوس المعتزلة.
ولما ولي قضاء البصرة كان ابن عشرين سنة، فجاء بعضهم إليه وقال: كم سن القاضي؟ فأجاب بديهة: ولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عتاب بن أسيد مكة أصغر مني، وأنا أكبر من معاذ لما وجهه إلى اليمن، ومن كعب بن سوار لما وجهه عمر قاضيا على البصرة، فكان جوابا وحجة، وولي قضاء مصر لما قدمها مع المأمون ثلاثة أيام وقد سخطه آخر عمره، وأوصى أخاه أن لا يركن إليه ولا يستوزره، وكان وجهه من مصر مغضوبا عليه كما في "مروج الذهب"، ولكن تولى قضاء(2/87)
القضاة أيام المتوكل بعد محمد بن أحمد بن أبي داود، ثم عزل، وتوفي سنة "242" اثنين وأربعين ومائتين، بالربذة وقيل: ثلاث وأربعين.
انظر ابن خلكان وقد تنازع فيه الشافعية والحنفية، فكل يدعي أنه من مقلديهم.
وكل يدعي وصلا بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك
330- أحمد بن منيع البغوي 1: أبو جعفر الأصم صاحب "المسند" وروى عنه أئمة الصحيح كلهم.
توفي سنة "244" أربع وأربعين ومائتين عن سن تناهز 84.
331- أبو عبد الله أحمد بن نصر بن أبي زياد القرشي 2: النيسابوري المقرئ الزاهد الفقيه الحافظ أحد الأئمة الكبار، فقيه أهل الحديث في عصره، صاحب سنة.
توفي سنة "245" خمس وأربعين ومائتين عن 84 سنة. وهو غير 332- أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي3: الذي قتله الواثق بيده لامتناعه من القول بخلق القرآن سنة "231" إحدى وثلاثين ومائتين.
333- أبو بكر محمد بن بشار العبدي الملقب بندار 4: أحد أوعية السنة مجمع على فضله.
__________
1 أحمد بن منيع البغوي: ترجمته في تذكرة الحفاظ "2/ 481"، تهذيب التهذيب "1/ 84".
2 أبو عبد الله أحمد بن نصر بن أبي زياد القرشي: ترجمته في تهذيب التهذيب "1/ 85، 86".
3 أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي: ترجمته في تهذيب التهذيب "1/ 87"، وطبقات الحنابلة صفحة "45"، وتاريخ بغداد "5/ 173".
4 أبو بكر محمد بن بشار العبدي الملقب بندار: البصري، الشهرة: بندار: ولد سنة 167 مات سنة 252:
تقريب التهذيب "2/ 147"، تهذيب التهذيب "9/ 70"، تهذيب الكمال "3/ 1177"، الخلاصة "2/ 384"، الكاشف "3/ 23"، الجرح والتعديل "7/ 1187"، الميزان=(2/88)
توفي سنة "252"، اثنين وخمسين ومائتين.
334- أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدرامي 1:
السمرقدني الحافظ أحد الأعلام صاحب "المسند" الذي هو أحق أن يعد من الكتب الستة والتفسير والجامع، روى عنه مسلم في الصحيح، والبخاري خارجه، وأبو داود والترمذي وغيرهم.
قال أحمد: إمام زمانه، قال ابن حبان: كان ممن حفظ وجمع وتفقه، وصنف وحدث وأظهر السنة في بلده، ودعا إليها، وذب عن محارمها، وقمع مخالفيها.
مات سنة "255" خمس وخمسين ومائتين والدارمي نسبة إلى دارم بطن من بني تميم كما قال التفتازاني على الأربعين النووية.
335- أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري 2:
الجعفي مولاهم ولاء إسلام، أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين الحافظ
__________
1 أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي السمرقدني: التميمي، ولد سنة 181، مات سنة 255:
معجم المؤلفين "6/ 71"، تقريب التهذيب "1/ 492"، تهذيب التهذيب "5/ 294"، تهذيب الكمال "2/ 703"، الكاشف "2/ 103"، الخلاصة "2/ 74"، مرآة الجنان "2/ 161"، العبر للذهبي "2/ 8"، تاريخ بغداد "10/ 92، 33، الإعلام "4/ 95، 96"، التاريخ "8/ 364"، الأعلمي "21/ 206".
2 أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري مولاهم ولاء إسلام: أبو عبد الله الجعفي، البخاري، ولد سنة 194، مات سنة "265:
تقريب التهذيب "2/ 144"، تهذيب التهذيب "9/ 47"، تهذيب الكمال "3/ 1169"،=(2/89)
الحجة الذي كان يتوقد ذكاء، الورع التقي الكبير الشأن عديم النظير، المجمع على فضله وثقته وحفظه من الرأي العام الإسلامي من زمنه إلى الآن.
له رحلتان من خراسان إلى العراق والجزيرة والحجاز والشام وإلى مصر، كتب عن أكثر من ألف شيخ من نخبة علماء وقته. لقي مكي بن إبراهيم بخراسان، وأبا عاصم النبيل بالبصرة، وعبد الله بن موسى بالكوفة والمقرئ بمكة، والفريابي بالشام، وأحمد بن صالح بمصر.
وألف الجامع الصحيح الذي لا يحتاج في التنويه به إلى الزيادة على أكثر من ذكر اسمه الذي هو أعظم مواد الفقه، الحاوي لنفائس دقائقه، وبديع فلسفته، وبارع استنباطه، وأغزر موارده تفريقا وتأصيلا، انتخبه من زهاء ستمائة ألف حديث، فكان نحو ألفين وخمسمائة فقط، كلها مسندة متصلة دون ما فيه من التعاليق، وأقوال السلف وغيرها، وقد رواه عنه في حياته نحو تسعين ألفا من علماء الأقطار المتنائية.
أما ثناء العلماء عليه، وذكر مناقبه، فشيء كثير، وقد خصت بتآليف كيف لا وهو مفخرة من مفاخر الإسلام، وجامعه حجة الله في الأنام، اتفقت الأمة أنه أصح كتب الدين الإسلامي من بعد المصحف الكريم لا يقدم عليه أي كتاب غيره للثقة العامة الحاصلة بصاحبه.
قال فيه شيخه أحمد بن حنبل: هو فقيه هذه الأمة، توفي سنة "256" ست وخمسين ومائتين عن اثنين وستين سنة، وله تآليف عظام في التاريخ وغيره لا زالت حجة ومفخرة على مر الأيام منذ اثني عشر قرنا لم يتبدل فكر الأمة فيها.
336- أبو عبد الله الزبير بن بكار الأسدي 1: قاضي مكة
__________
1 أبو عبد الله الزبير بن بكار الأسدي: ترجمته في تاريخ بغداد "8/ 467"، ووفيات الأعيان "2/ 311، 312"، وفي مقدمة الأستاذ محمود شاكر لجمهرة نسب قريش ترجمة واسعة له.(2/90)
وعالم أنساب قريش، وعمدة الناس في ذلك على كتبه، كان ذا فضل وعلم، روى عن ابن عيينة وغيره، ووثقه الدارقطني، والخطيب: وأخرج له ابن ماجه، وابن أبي الدنيا.
توفي بمكة وهو قاضيها سنة "256" ست وخمسين ومائتين، عن أربع وثمانين سنة.
337- أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي 1:
النيسابوري الحافظ: أحد الأعلام الكبار إمام أهل خراسان بعد إسحاق بلا مدافعة، وكان رئيسا مطاعا، كبير الشأن، وهو الذي كان سببا في إخراج البخاري من بلده ووفاته مغتربا، ومع ذلك روى له في صحيحه، متفق عليه، له رحلة واسعة جمع أحاديث الزهري في مجلدين، توفي سنة 258 ثمان وخمسين ومائتين.
338- أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري 2:
النيسابوري الحافظ الحجة أحد أئمة الإسلام، ومفخرة الأعلام، ويكفي
__________
1 أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي النيسابوري: أبو علي، الزهري، مات سنة 258 أو سنة 252 أو سنة 259:
معجم المؤلفين "12/ 105"، الأنساب "6/ 351"، حاشية الأنساب "8/ 194"، الوافي بالوفيات "5/ 186"، تقريب التهذيب "2/ 271، 218، 222"، تهذيب التهذيب "9/ 511"، تهذيب الكمال "3/ 1286"، الكاشف "3/ 107"، الخلاصة "2/ 467، 468"، نسيم الرياض "2/ 84"، تراجم الأحبار "4/ 79".
2 أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري: النيسابوري، ولد سنة 204، مات سنة 261:
تقريب التهذيب "2/ 245"، تهذيب التهذيب "10/ 162"، تهذيب الكمال "3/ 1342"، الكاشف "3/ 140"، الخلاصة "3/ 24"، العبر "1/ 547"، الجرح والتعديل "8/ 797"، الأنساب "10/ 426"، نسيم الرياض "1/ 345"، التقييد "2/ 250"، البداية والنهاية "11/ 33"، والأعلمي "72/ 264".(2/91)
في ترجمته أن نقول: هو مسلم مؤلف الصحيح الذي هو توءم صحيح البخاري، وله كتاب "الطبقات" وغيرهها، أجمعت الأمة على قبول صحيحه كصحيح البخاري، والتدين بما فيهما، والتبرك بكتابيهما، وأنهما في الدرجة الثانية صحة وتشريعا بعد كتاب الله سبحانه، وتلقتهما بالقبول وكمال الثقة، واعتبارهما ركنين مكينين للشريعة المطهرة لا يتم تشريع لفقيه دونهما للثقة العامة الحاصلة لمؤلفيهما، لزيادة التحري والإتقان.
رحل مسلم إلى أقطار الأرض، وأخذ عن أعلام كيحيى بن يحيى النيسابوري والبخاري وعبد الله القعنبي، وأحمد، وابن راهويه، وقدم بغداد غيره مرة، فسمع منه أعلامها. قال محمد الماسرجسي: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: صنفت الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة، وقال أبو علي النيسابوري الحافظ: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم، وكان مسلم حر الضمير واللسان. ولما وقع من محمد بن يحيى الذهلي ما وقع في جانب البخاري حيث قال: إن لفظي بالقرآن حادث، وأمر الذهلي كل من يحضر مجلسه ألا يذهب إلى البخاري، قام مسلم من مجلس الذهلي، ووجه إليه بكل ما روى عنه، ولم يتخلف عن البخاري.
توفى سنة 261 إحدى وستين ومائتين عن سبع وخمسين سنة، وقال ابن خلكان: عن خمس وخمسين.
339- أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم المخزومي مولاهم الرازي 1
إمام أهل الحديث في زمانه الحافظ المشهور في أقطار الأرض أحد الأئمة
__________
1 أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم المخزومي مولاهم الرازي: أبو زرعة مولى عباس بن مطرف الأزدي، المخزومي، ولد سنة 200، مات سنة 264:
تاريخ بغداد "10/ 326"، تقريب التهذيب "1/ 536"، تهذيب التهذيب "7/ 30"،=(2/92)
الأعلام. قال أحمد: ما عبر جسر بغداد أحفظ من أبي زرعة، وكان من الأبدال الذين تحفظ بهم الأرض، وقال: يحفظ هذا الشاب سبعمائة ألف حديث. نقله الذهبي في كتاب "العلو" وقال بعده: قلت: كان رأسا في العلم والعمل ومناقبه جمة. وقال إسحاق: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة، فليس له أصل، وقال صالح بن محمد عنه: إنه قال: أحفظ عشرة آلف حديث في القرآن، وقال: ما سمع أذني شيئا من العلم إلا وعاه قلبي، توفي سنة 264 أربع وستين ومائتين.
340- أبو عبد الله محمد بن ماجه بن يزيد الربعي القزويني 1: إمام من أئمة المسلمين، متقن مقبول باتفاق، ألف السنن المعدودة من الكتب الستة عند كثير من المتأخرين. وله تفسير، رحل رحلة واسعة، توفي سنة 273 ثلاث وسبعين ومائتين.
341- أبو داود سليمان بن الأشعث 2 بن إسحاق بن بشير الأزدي السجستاني:
نزل بغداد، ثم البصرة آخرا، الإمام الحافظ الحجة المجتمع على فضله وعلمه، الرحال، أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وحفظا، ونسكا وورعا وإتقانا،
__________
1 أبو عبد الله محمد بن ماجه بن يزيد الربعي القزويني: أبو عبد الله، حافظ قزوين:
المعين رقم "1177"، من أخطأ علي الشافعي ص"99".
2 أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير الأزدي السجستاني" السحزي، ولد سنة 202، مات سنة 275:
تقريب التهذيب "1/ 321"، تهذيب التهذيب "4/ 169"، تهذيب الكمال "1/ 530"، الكاشف "4/ 169"، الخلاصة "1/ 408"، نسيم الرياض "1/ 40"، والأنساب "7/ 84"، طبقات الحفاظ "26"، الجرح والتعديل "4/ 456"، التقييد "2/ 4"، التمهيد "1/ 216"، العبر "1/ 500".(2/93)
كتابه السنن من كتب الحديث المقبولة عند الأمة، وهي في الرتبة الأولى بعد الصحيحين، ومن مواد الفقه العظيمة حيث خصصها بأحاديث الأحكام، لا يستغني عنها فقيه، بها نيف وأربعة آلاف حديث، عرضها على الإمام أحمد، فاستحسنها واستجادها. وكان يقول: كتبت خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته السنن توفي سنة 275 خمس وسبعين ومائتين عن تسع وثمانين سنة، ودفن بالبصرة.
342- أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد القرطبي 1:
الحافظ الإمام المولود سنة 201 الزاهد المجاهد، حضر سبعين غزوة، وكان يختم القرآن في كل ليلة بثلاث عشرة ركعة، له مسند وتفسير وغيرهما. قال ابن حزم: ما ألف مثل تفسير بقي بن مخلد أصلا، توفي سنة 276 ست وسبعين ومائتين صح من "المنح".
343- أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي 2:
مولاهم الرازي الحافظ الكبير: قال الخطيب: كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، ومن كبار أئمة الأثر، أدرك أبا نعيم والأنصاري وطبقتهما، وحدث عنه
__________
1 أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد القرطبي: أبو عبد الرحمن، القرطبي الأندلسي، ولد سنة 201، ومات سنة 273:
معجم طبقات الحفاظ "67"، نسيم الرياض "1/ 372"، بغية الملتمس "245"، البداية النهاية "11/ 56، 86"، الصلة "1/ 116"، الوافي بالوفيات "10/182"، الأعلام "2/ 23"، العبر "2/ 56"، المعرفة والتاريخ "3/ 273"، التمهيد "1/ 97، 4/ 254".
2 أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي: الحفظي، الغطفاني، الأزدي، ولد سنة 195، ومات سنة 277:
الفلاكة "82"، المعين "1120"، السابق واللاحق "323"، الجرح والتعديل "7/ 1133"، تقريب التهذيب "2/ 143"، تهذيب التهذيب "9/ 31"، تهذيب الكمال "3/ 1264"، الكاشف "3/ 18"، الخلاصة "2/ 378"، الثقات "9/ 137".(2/94)
أبو داود والكبار، توفي سنة 277 سبع وسبعين ومائتين، وقال في "المدارك": ذكره الباجري في أئمة المالكية.
344- أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة السلمي الترمذي 1:
الحافظ الضرير المولود أكمه سنة 209 تسع ومائتين. كان أحد الأئمة الأعلام، صاحب الجامع المعدود من الكتب الستة المتعمدة، والتي هي من مواد الفقه العظمى المقبولة لدى الأمة، جمع فيه فنونا من علوم الحديث التي تفيد الفقيه، فانفرد بها، فإنه يذكر الحديث وغالبه في أحكام الفقه، فيذكر أسانيده، ويعدد الصحابة الذين رووه، ويصحح ما صح، ويضعف ما ضعف، ويتكلم على الرجال والعلل، ويبين من أخذ بالحديث من الفقهاء ومن لم يأخذ به، فجامعه أجمع السنن لهذه الفوائد العظيمة وغيرها، وأنفعها للمحدث والفقيه، وله التفسير والشمائل وغيرها توفي سنة 279 تسع وسبعين ومائتين.
345- أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا 2:
القرشي الأموي مولاهم البغدادي حافظ الدنيا المشهور ذو التصانيف. قال أبو حاتم: صدوق، توفي سنة "281" إحدى وثمانين ومائتين.
قال في "المنح البادية": له ألف تأليف، وله الثلاثيات، وكان إذا جالس أحدا إن شاء أضحكه، وإن شاء أبكاه في آن واحد لتوسعة في العلم والأخبار.
__________
1 أبو عيسى محمد بن سورة السلمي الترمذي: أبو عيسى، الضرير البوغي الترمذي الضرير السلمي أو الضحاك أو السكي: عاش بصيرا ورحل وكتب وإنما أضر كما قال الخطيب آخر عمره وتوفي سنة 275:
الأنساب "2/ 361"، الثقات "9/ 153"، الميزان "3/ 678"، سير النبلاء "13/ 270"، الأعلمي "14/ 46"، الخلاصة "2/ 447"، تهذيب الكمال "3/ 1255"، جمع الزوائد "7/ 350"، لسان الميزان "7/ 371.
2 أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي الأموي: تاريخ بغداد "10/ 89"، وطبقات الحنابلة "1/ 192"، وتهذيب التهذيب "6/ 12"، وتذكرة الحفاظ "2/ 677".(2/95)
346- أبو عبد الرحمن بن شعيب النسائي 1:
الخراساني القاضي الرحالة أحد الأئمة الحفاظ، وأئمة الإسلام المشهور اسمه وكتابه، صاحب السنن الكبرى والصغرى المسماة بالمجتبى2 المعدودة من الكتب الستة المعتمدة في السنة.
سمع من قتيبة بن سعيد، وإسحاق بن راهويه، وخلق كثير من الأعلام، وروى عنه الدولابي وابن السني، وأبو القاسم الطبراني وخلق.
أثنى عليه الطحاوي، والدارقطني، وأبو علي النيسابوري بالإمامة والإتقان، وقال الذهبي: إنه أحفظ من الإمام مسلم، وقد نسب للتشيع، وامتحنوه، فمات مقتولا لتفضيله عليا على معاوية رضي الله عنهما.
ولد سنة "215" وتوفي سنة "304"، أربع وثلاثمائة وهو شافعي المذهب على ما قيل.
النسائي هو آخر أصحاب الكتب الستة موتا، وقد استوفيناهم، ويكفيهم فضلا بقاء شهرتهم منذ اثني عشر قرنا في أقطار الإسلام الشاسعة لا يزيدون إلا اشتهارا ورفعة، ولا يزالون كذلك إن شاء الله.
347- أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري الكجي 3: الحافظ الكبير، مسند العصر، لقي أبا عاصم الأنصاري، وعمر
__________
1 أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي الخراساني القاضي: تذكرة الحفاظ "2/ 698"، ووفيات الأعيان "1/ 77، 78"، وطبقات الشافعية "2/ 83"، والشذرات "2/ 239".
2 قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: ورقة 172: وجه أول تعليقا على قول ابن الأثير: وسأل أمير أبا عبد الرحمن عن سننه أصحيح كله؟ قال: لا، قال: فاكتب لنا منه الصحيح، فجرد المجتبى: قلت: هذا لم يصح، بل المجتبى اختيار ابن السني تلميذ النسائي، وقال أيضا في ورقة 173 وجه أول: الذي وقع لنا من سننه هو الكتاب المجتبى منه انتخاب أبي بكر بن السني.
3 أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري الكجي: تذكرة الحفاظ "2/ 62، 621"، وشذرات الذهب "2/210".(2/96)
دهرا، وألف السنن المعروفة توفي سنة "292" اثنين وتسعين ومائتين.
348- أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة 1 بن المغيرة النيسابوري:
الملقب بإمام الأئمة، وحافظ نيسابور وفقيهها. قال أبو علي النيسابوري: ما رأيت مثله، كان يحفظ الفقهيات من حديثه، كما يحفظ القارئ السورة. وقال الذهبي: كان رأسا في السنة، رأسا في الفقه، من دعاة السنة، وغلاة المثبتة، له جلالة عظيمة بخراسان، أخذ الفقه عن المزني قال في "أعلام الموقعين": لم يكن مقلدا، بل إماما مستقلا، له أصحاب ينتحلون مذهبه، كما ذكره البيهقي في "مدخله"، وكان مذهبه مؤسسا على الأثر.
ولد سنة "323" سمع في صغره من ابن راهويه، ومحمد بن حميد الرازي، وحدث عن خلق كمحمود بن غيلان، وعلي بن حجر، وأحمد بن منيع، وروى عنه البخاري ومسلم خارج الصحيح وغيرهما، له رحلة عظيمة، وعلم واسع، وفضل كبير، وألف جامعا صحيحا مشهورا وغيره، تزيد تواليفه على مائة وأربعين تأليفا.
توفي سنة "311" إحدى عشرة وثلاثمائة عن "88" ثمان وثمانين سنة.
349- أبو العباس محمد بن إسحاق الثقفي 2: النيسابوري السراج من حفاظ الحديث، وصنف المسند على الأبواب، عمر دهرا
__________
1 أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة النيسابوري: أبو بكر، السلمي الخزيمي، النيسابوري، الشافعي إمام الأئمة، ولد سنة 223، 424، 222، مات سنة 311، 511:
الإكمال "3/ 243"، والأنساب "5/ 124"، المعين "1219"، ثقات "9/ 156"، سير النبلاء "14/ 365"، التقيد "1/ 16"، معجم المؤلفين "9/ 39، 40"، الوافي بالوفيات "2/ 196"، المنتظم "6/ 184"، الجرح والتعديل "7/ 1103".
2 أبو العباس محمد بن إسحاق الثقفي النيسابوري السراج: اسمه محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران، أبو العباس، السراج، الثقفي النيسابوري الحراساني، ولد سنة 216 أو 218، مات سنة 313:
السابق اللاحق "325"، تاريخ بغداد "1/ 248"، الوافي بالوفيات "2/ 187"، الأنساب "7/ 112"، المعرفة والتاريخ "3/ 338"، العبر "2/ 157"، طبقات السبكي "2/ 129"، سير النبلاء "14/ 188"، الأعلمي "26/ 166".(2/97)
طويلا.
توفي سنة "313" ثلاث عشرة وثلاثمائة.
350- أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري 1
نزيل مكة أحد أعلام الأمة وأحبارها، كان إماما مجتهدا حافظا ورعا، له التصانيف السائرة، ككتاب السنن، وكتاب الإجماع، وكتاب الإشراف في الاختلاف.
قال الذهبي: كان على نهاية من معرفة الحديث والأخلاق، وكان مجتهدا لا يقلد أحدا.
وقال السبكي: المحمدون أربعة: محمد بن نصر، ومحمد بن جرير الطبري، ومحمد بن المنذر، ومحمد بن خزيمة؛ بلغوا مراتب الاجتهاد، ولا يخرجهم ذلك عن كونهم من أصحاب الشافعي المخرجين على أصوله المتمذهبين بمذهبه، لو فاق اجتهادهم اجتهاده، بل ادعى من بعدهم من أصحابنا الخلص كالشيخ أبي علي أنه وافق رأيهم رأي الإمام الأعظم، فتبعوه، ونسبوا إليه؛ لأنهم مقلدون فما ظنك بالأربعة فإنهم لم يخرجوا في أغلب المسائل.
توفي ابن المنذر بعد سنة "316" ست عشرة وثلاثمائة.
__________
1 أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري: أبو بكر، النيسابوري الكسائي، مات 309 أو 310:
نسيم الرياض "3/ 450"، العبر "3/ 30".(2/98)
351- أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد 1: حافظ بغداد. من أئمة هذا الشأن، لحق أصحاب مالك، وحماد بن زيد، وصنف، وجمع. توفي سنة "318" ثمان عشرة وثلاثمائة، وله تسعون سنة.
352- أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي 2:
الوراق الرازي ممن يشار إليهم في الحديث والتاريخ. وله التصانيف المفيدة التي اعتمدها كل من بعده، أخذ عنه الطبراني وابن حبان وغيرهما.
توفي سنة "320" عشرين وثلاثمائة بالعرج.
والدولاب بضم الدال وفتحها: نسبة إلى قرية بالري، والعرج بفتح العين: عقبة بين مكة والمدينة.
353- أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني الإسترابادي: أحد أئمة المسلمين فقها وحديثا، له رحلة واسعة، وصار يرحل إليه في الفقه والحديث، وهو غير أبي نعيم الأصبهاني
__________
1 أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد حافظ بغداد: أبو محمد، مولى أبي جعفر المنصور، الأشمي، البغدادي، ولد سنة 228، توفي سنة 318:
فهرست النديم "288"، جامع المسانيد "2/ 585"، العبر "2/ 173"، سير النبلاء "14/ 501"، الحاشية، طبقات الحفاظ "325"، السابق واللاحق "373"، التمهيد "3/ 230"، تاريخ بغداد "14/ 231".
2 أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي الرازي: أبو بشر، الدولابي، الحافظ والرازي، الوراق، الناسخ، من أهل الرأي والأنصاري بمصر، ولد سنة 224، مات سنة 310 أو سنة 320:
الميزان "3/ 459"، لسان الميزان "5/ 41"، المغني "5/ 525"، التاج المكلل "124"، معجم المؤلفين "8/ 255"، والحاشية، وفيات الأعيان "4/ 352، 642"، المعين "1230"، ميزان الاعتدال "3/ 17"، تذكرة الحفاظ "2/ 32"، سؤالات حمزة "83"، العبر "2/ 145"، سير النبلاء "14/ 903"، والحاشية، الأعلام "5/ 308"، والحاشية، نسيم الرياض "3/ 43"، طبقات علماء إفريقية وتونس ص97، دائرة معارف الأعلمي "26/ 147"، ديوان الضعفاء "3566"، الأنساب "5/ 413"، والوافي بالوفيات "2/ 36".(2/99)
الآتي في تراجم الشافعية.
توفي سنة "323" ثلاث وعشرين وثلاثمائة.
354- أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين 1: وبه شهر البغدادي، صاحب التواليف العظيمة، قال السيوطي: منتهى التصانيف في الكثرة ابن شاهين، صنف ثلاثمائة وثلاثين مصنفا، منها التفسير في ألف جزء، والمسند خمسة عشر مائة، والتاريخ مائة وخمسون.
توفي سنة "335" خمس وثلاثين وثلاثمائة.
355- أبو بكر بن أحمد بن إسحاق الصبغي 2: النيسابوري عديم النظير في الفقه، بصير بالحديث، كبير الشأن.
توفي سنة "342" اثنين وأربعين وثلاثمائة.
356- أبو حاتم محمد بن حبان البستي 3: التميمي السمرقندي الإمام الحافظ الجليل، صاحب التصانيف الشهيرة في الحديث
__________
1 أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني الإسترابادي: الحوال والفقيه، ولد سنة 242، ومات سنة 323، أو 320:
الأنساب "1/ 199"، الأعلام "4/ 162"، سير النبلاء "14/ 541"، البداية والنهاية "11/ 183"، تاريخ بغداد "10/ 428"، تذكرة "3/ 816"، شذرات "2/ 299"، مرآة الجنان "2/ 287"، طبقات الشافعية "3/ 335"، العبر "2/ 198"، النجوم "3/ 251".
2 أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين: البغدادي الواعظ، ولد سنة 297:
تاريخ بغداد "11/ 265، 268"، المنتظم "7/ 182، 183"، تذكرة الحفاظ "3/ 987، 990"، العبر "3/ 29، 30"، دول الإسلام "1/ 234"، مرآة الجنان "2/ 426"، البداية والنهاية "11/ 316، 317"، نهاية النهاية "1/ 588"، لسان الميزان "4/ 283، 285"، النجوم "4/ 172".
3 أبو حاتم محمد بن حبان البستي التميمي السمرقندي: أبو حاتم، التميمي، الحنظلي البستي، الدارمي الحباني ولي قضاء سمرقند. مات سنة 353 أو 354:
الميزان "3/ 506"، الأنساب "2/ 225"، "4/ 39ط، لسان الميزان "5/ 112"، المعين "1268"، المغني رقم "5378"، الأكمال "2/ 316"، "1/ 432"، التقييد "1/ 51"، در السحابة ص61، حاشية التجبير "1/ 147ط، المشتبه ص"112".(2/100)
والجرح والتعديل، رحل من الشام إلى الإسكندرية، فكتب عن ألفي شيخ، بل أكثر، فصارت إليه الرحلة من أقطار الأرض.
كان ثقة نبيلا، وربما غلط الغلط الفاحش. ولي قضاء سمرقند، وكان من فقهاء الدين، وحفاظ الأثر، عالما بالنجوم والطب واللغة ومن عقلاء الناس، صنف الصحيح والضعفاء، والثقات، وفقه الناس بسمرقند.
توفي سنة "354" أربع وخمسين وثلاثمائة.
357- أبو بكر محمد بن الحسين الآجري 1: المحدث الأثري ذو التصانيف الحسان، ككتاب الشريعة في السنة، وجاور مدة بمكة.
توفي سنة "360" ستين وثلاثمائة.
358- أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني 2:
الإمام الشهير الحافظ، رحل في طلب الحديث من الشام إلى العراق والحجاز واليمن ومصر وبلاد الجزيرة الفراتية، وأقام في الرحلة ثلاثا وثلاثين سنة، وسمع الكثير من الحديث وعدد شيوخه ألف شيخ.
وله المصنفات الممتعة النافعة الغريبة منها المعاجم الثلاثة الكبير، والأوسط، والصغير، وهي أشهر كتبه، روى عنه الحافظ أبو نعيم وخلق كثير
__________
1 أبو بكر بن الحسن الآجري الأثري: ترجمته في تذكرة الحفاظ "3/ 936"، وسير أعلام النبلاء "10/ 178"، وتاريخ بغداد "2/ 243"، ووفيات الأعيان "4/ 292"، والبداية "11/ 270"، طبقات الحنابلة "332"، طبقات الشافعية "2/ 150"، الشذرات "3/ 35".
2 أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني: أبو القاسم الأصبهاني الطبراني الشامي الشيباني اللخمي، ولد سنة "260" ومات سنة "360":
دايون الضعفاء "1725"، المغني "2557"، الميزان "2/ 195"، الأنساب "9/ 35"، نسيم الرياض "1/ 440"، لسان الميزان "3/ 73"، سير النبلاء "16/ 119"، معجم المؤلفين "4/ 253".(2/101)
مولده بطبرية الشام سنة ستين ومائتين، وسكن أصبهان إلى أن توفي بها سنة "360" ستين وثلاثمائة.
قال في "المنح البادية": كان ثقة صدوقا واسع الحفظ، بصيرا بالعلل، إليه المنتهى في كثرة الحديث.
تكلم ابن مردويه في أخيه، فأوهم أنه فيه، وليس فيه، بل هو ثبت، صنف المسند الكبير، ولم يذكر فيه مسند أبي هريرة، فإنه أفرده بمصنف، ويشتمل المعجم الكبير على ستين ألف حديث تجزئة اثني عشر مجلدا، وفيه قال ابن دحية: هو أكبر مسانيد الدنيا. ا. هـ. بخ.
وقال الذهبي في كتاب "العلو": إنه محدث الدنيا، وانتهى إليه علو الإسناد في الدنيا، عاش مائة سنة وأياما، وصنف كتبا كثيرة تدل على حفظه وبراعته وسعة روايته. ا. هـ. منه.
359- أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان:
بفتح المهملة وتشديد المثناة تحت يلقب بأبي الشيخ1، له تواليف كثيرة، توفي سنة "367" سبع وستين وثلاثمائة عن ثلاث وسبعين سنة، كذا في "المنح البادية" وفي كتاب "العلو": إنه توفي سنة تسع وتسعين وهو في عشر المائة، وقال فيه: إنه محدث أصبهان، وكان إماما في الحديث، رفيع الإسناد، له كتاب السنة، وفضائل الأعمال، والسنة الكبير، وغير ذلك ككتاب "العظمة".
__________
1 أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان "ملقب بأبي الشيخ": الأصبهاني الحياني، ولد سنة "274"، مات سنة "369":
معجم المؤلفين "6/ 114"، والحاشية الأنساب "4/ 322، 323"، سير النبلاء "16/ 276"، العبر "2/ 351/ 352"، السابق واللاحق "77"، أصبهان "2/ 90"، التنكيل "129/ 308"، والوافي بالوفيات "17/ 485"، تذكرة الحفاظ "3/ 945، 947"، الأعلام "4/ 120"، الأكمال "5/ 95".(2/102)
360- أبو بكر محمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي 1:
إمام أهل جرجان، قال الذهبي: كان من مشايخ الإسلام رأسا في الحديث والفقه، قال أبو إسحاق في "طبقات الشافعية": جمع بين الفقه والحديث، ورئاسة الدين والدنيا، وله تصانيف كثيرة، منها "المستخرج على الصحيح" و"المعجم"، وله مسند كبير في نحو مائة مجلد، قال الشيرازي: وهو يدل على غزارة علمه، فإنه على شرط البخاري، وله تصانيف على البخاري ومسلم.
توفي سنة "371" إحدى وسبعين وثلاثمائة عن أربع وستين سنة.
361- الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده 2: العبدي الأصفهاني محدث الشرق له كتاب "معرفة الصحابة" وغيره من التصانيف الجيدة.
توفي سنة "395" خمس وتسعين وثلاثمائة عن بضع وثمانين سنة.
فهؤلاء بعض من حضرتني تراجمهم من المجتهدين وهم قل من جل، والإتيان على جميعهم أو جلهم يحتاج لأسفار، كما أننا لم يمكننا أن نوفيهم حقهم في التحلية والأوصاف، بل أسماؤهم كافية عن ذلك لشهرتهم، فهم
__________
1 أبو بكر محمد بن إبراهيم بن إسماعيل: ترجمته في سير أعلام النبلاء "10/ 219"، والبداية "11/ 298"، وتذكرة الحفاظ "3/ 947"، وطبقات الشافعية "2/ 71"، والشذرات "3/ 75".
2 أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصفهاني: أبو عبد الله العبدي الأصبهاني الجوال، ولد سنة "311 أو 316" ومات سنة "395":
حاشية التحبير "1/ 86"، لسان الميزان "5/ 70"، سير النبلاء "17/ 28"، أصبهان "2/ 306"، الوافي بالوفيات "2/ 190"، الأعلام "6/ 29"، معجم المؤلفين "9/ 42، 43"، العبر "3/ 59"، وفيات الأعيان "6/ 168"، الأعلمي "26/ 169"، الميزان "3/ 479".(2/103)
نخبة الأمة وقادتها.
وقد يقول قائل: إن بعضهم لم يشتهر كل الاشتهار بالفقه والفتوى، ومنهم من نسب إلى تقليد الشافعي أو غيره، لكن لما كانت لهم خدمة جليلة في الفقه بسبب خدمة الحديث الذي هو مادته أو التفسير كذلك، لذلك تعين إيرادهم، ونسبتهم للتقليد غير مضرة إما لعدم ثبوتها، أو لكونهم بلغوا ربتة الاجتهاد، فتقليدهم في بعض المسائل بمعنى موافقه الاجتهاد لا يعد تقليدا، والمقلدون الذين نسبوهم للتقليد يكثرون بهم سوادهم والله أعلم.(2/104)
تراجم الحنفية في القرن الثالث والرابع:
أعني بعض المشاهير الذين نشروا مذهبه وبرزوا فيه أو دونوه وقاموا بنصرته.
362- إبراهيم بن رستم المروزي 1: مؤلف كتاب "النوادر" للحنفية المتوفى سنة "211"، إحدى عشرة ومائتين. تفقه على أسد البجلي، وروى عن محمد بن الحسن، وسمع من مالك وغيره.
363- عيسى بن أبان 2: القاضي المحدث. توفي سنة "221" إحدى وعشرين ومائتين. قال هلال بن يحيى: ما في الإسلام قاض أفقه من عيسى، وله كتاب في الحج.
364- محمد بن سماعة 3: التميمي، له كتاب "النوادر" أيضا. توفي سنة "233" ثلاث وثلاثين ومائتين.
__________
1 إبراهيم بن رستم المروزي: ترجمته في "الفوائد البهية" ص"9، 10".
2 عيسى بن أبان القاضي: أبو موسى الفقيه القاضي القاساني، مات سنة "221": الميزان "3/ 310"، المشتبه "495"، تبصير المنتبه "3/ 1146"، الأنساب "1/ 304"، جامع المسانيد "2/ 526"، تاريخ بغداد "11/ 157"، دائرة الأعلمي "23/ 105".
3 محمد بن سماعة التميمي: أبو عبد الله التميمي الكوفي القاضي الحنفي، توفي "233 أو 223 أو 236": تهذيب التهذيب "2/ 167"، تهذيب التهذيب "9/ 204"، دائرة معارف الأعلمي "26/ 281"، الطبقات الكبرى "5/ 433"، العبر "1/ 284، 414"، الأعلام "6/ 153"، معجم المؤلفين "10/ 57"، سير النبلاء "1/ 646"، الوافي بالوفيات "3/ 139".(2/105)
365- الوليد الكندي قاضي بغداد: المتوفى سنة "238" ثمان وثلاثين مائتين.
366- هلال بن يحيى بن مسلم الرأي 1: البصري أحد الذين رووا عن محمد بن الحسن كتبه.
توفي سنة "245" خمس وأربعين ومائتين وأخذ عن أبي يوسف، وزفر، له مصنف في الشرط وأحكام الوقف.
367 - أحمد بن عمر الخصاف 2: مصنف كتاب "الحيل"، وكتاب "الأوقاف"، وهو مشهور متداول وكتب غيره.
توفي سنة "261" إحدى وستين ومائتين عن نحو ثمانين سنة.
368- أبو بكرة بكار بن قتيبة 3: ابن أسد بن أبي بردعة الثقفي قدم مصر متوليا قضاءها من قبل المتوكل سنة "246"، وظهر من حسن سيرته، وجميل طريقته ما هو مشهور، كان من أفقه أهل زمانه في المذهب، وله كتب جليلة، وكان له مع أحمد بن طولون صاحب مصر وقائع مذكورة، وكان يدفع له كل سنة ألف دينار خارجا عن المقرر، فيتركها بختمها، فلما دعاه إلى خلع الموفق بن المتوكل والد المعتضد من ولاية العهد، أبى، فاعتقله، ثم طالبه بجملة المبلغ السنوي، فأحضره بختمه ثمانية
__________
1 قيل له الرأي لسعة علمه وكثرة فهمه كما قيل: ربيعة الرأي كذا في الفوائد البهية للكنوي ص"223"، وهو مترجم في "الجواهر المضية" "2/ 207".
2 الخصاف بمعجمة فصاد مهملة وآخره فاء بوزن شداد كان يأكل من صنعته وخصفه النعال. ا. هـ. من "الفوائد البهية في تراجم الحنفية" ص"29"، وترجمه أيضا صاحب الجواهر المضية "1/ 87".
3 أبو بكرة بكار بن قتيبة بن أسد بن أبي بردعة الثقفي: أبو بكر البكراوي الثقفي البصري، توفي "270":
التمهيد "2/ 123"، وفيات الأعيان "1/ 279"، الثقات "8/ 152"، تراجم الأحبار "1/ 149"، العبر "2/ 275، 276"، سير النبلاء "12/ 99"، والحاشية العبر "2/ 44"، الأعلام "2/ 60، 61".(2/106)
عشر كيسا، فاستحيي ابن طولون، وأمره أن يسلم القضاء إلى محمد بن شاذان الجوهري ففعل، فكان كخليفة عنه وهو في السجن مدة سنين، وشكى أصحاب الحديث انقطاع السماع بسجنه، فكان يحدث من طاق في السجن إلى أن توفي سنة "270" سبعين ومائتين.
كما أرخه السيوطي في "حسن المحاضرة" وبقيت مصر بلا قاض ثلاث سنين بعده.
369- أبو جعفر أحمد بن أبي عمران 1
قاضي مصر مؤلف كتاب "الحجج" تفقه بمحمد بن سماعة، وأخذ عنه أبو جعفر الطحاوي المحدث الشهير.
توفي سنة "280" ثمانين ومائتين، كذا في "الكفوي" وفي "حسن المحاضرة" سنة خمس وثمانين.
370- أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز 2 البصري القاضي بالشام والكوفة المتوفى سنة "292" اثنين وتسعين ومائتين له كتاب "المحاضرة" و"السجلات" و"أدب القاضي" و"الفرائض".
371- أبو سعيد أحمد بن الحسن البردعي 3 أخذ الفقه عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه عن جده، وعن أبي علي الدقاق، عن موسى بن نصير، عن محمد، وكانت له مناظرة مع داود الظاهري وغيره، ذهب للحج، فقتله القرامطة سنة "317" سبع عشرة وثلاثمائة.
__________
1 أبو جعفر بن أبي عمران: ترجمته في "الفوائد البهية" ص"14".
2 أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز البصري القاضي: أبو حازم السكوني البصري البغدادي الحنفي القاضي، توفي سنة "292":
جامع المسانيد "2/ 531"، تراجم الأحبار "2/ 509"، سير النبلاء "13/ 539"، تاريخ بغداد "11/ 62"، دائرة الأعلمي "21/ 58"، تلخيص المتشابه "702".
3 أبو سعيد أحمد بن الحسن البردعي: بكسر الباء وسكون الراء وفتح الدال: بلدة من أقصى بلاد أذربيجان. وانظر "الفوائد البهية" ص"20".(2/107)
372- أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي 1:
إمام جليل، ولد سنة "229" تسع وعشرين ومائتين، وتفقه على المزني تلميذ الشافعي؛ لأنه خاله ثم أحمد بن أبي عمران، وأبي حازم قاضي الشام، وغيرهم.
كان شافعيا، ثم بدل مذهبه، وصار حنفيا، كان إماما في الفقه والحديث، وكتبه فيهما شهيرة، فاق بها أهل عصره وعده ابن كمال باشا من طبقة2 من يقدر على الاجتهاد فيما لا رواية فيه عن الإمام، ولا يقدر على مخالفته في الفروع، ولا في الأصول.
قال صاحب "الفوائد البهية" في تعليقه: وهو منظور فيه، فإنه له درجة عالية خالف بها صاحب المذهب في كثير من الفروع والأصول. كما يدل له "شرح معاني الآثار" وغيره من مصنفاته، فالحق أنه من المجتهدين المنتسبين.
وبالجملة فهو من محاسن أهل المائة الثالثة انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر، له تاريخ مهم، و"أحكام القرآن" و"اختلاف العلماء" و"معاني الآثار" و"الشروط" وغيرها من الكتب المفيدة.
توفي سنة "321" إحدى وعشرين وثلاثمائة.
373- أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي 3: إمام المتكلمين مصنف التصانيف الجليلة، والراد للعقائد الباطلة، ككتاب "التوحيد" وكتاب "أوهام المعتزلة" و"مآخذ الشرائع" في الفقه، و"الجدل" في أصول الفقه، وغير ذلك.
__________
1 الطحاوي بفتح الطاء نسبة إلى طحا قرية بمصر. ا. هـ. ابن خلكان.
2 كلام ابن كمال باشا في طبقات الفقهاء تعقبه الشهاب المرجاني في ناظوره الحق نقله عن الشيخ الكوثري رحمه الله في ترجمة أبي يوسف ص"101، 115". وهو تعقب جيد فيه من التحقيقات والفوائد ما يعز نظيره، فارجع إليه.
3 أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي: ترجمته في الفوائد البهية ص"195".(2/108)
مات سنة "333" ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
وماتريدي بضم المثناة فوق: نسبة إلى محلة بسمرقند خلافا للكمال بن أبي شريف حيث ضبطها بالفتح. صح من "الفوائد البهية" وسنة وفاته قريبة من سنة وفاة الأشعري.
374- أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي 1:
رئيس الحنفية بالعراق معدود عندهم من المجتهدين، مؤلف "المختصر" و"شرح الجامعين" الكبير، والصغير، لمحمد بن الحسن.
توفي سنة "340" أربعين وثلاثمائة.
375- أبو أحمد بن علي البرازي الجصاص 2: البغدادي تلميذ الكرخي الحائز للرئاسة بعده، شرح مختصري الطحاوي والكرخي، وله كتب أخرى في الأصول وغيره.
توفي سنة "370" سبعين وثلاثمائة وقد عد من مجتهدي المذاهب3.
376- أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي 4: المشهور بإمام الهدى، له تصانيف وشروح وتفسير.
__________
1 أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي رئيس الحنفية بالعراق: الكرخي الحنفي. لسان الميزان "4/ 98".
2 الجصاص صيغة مبالغة من الجص نسبة إلى عمله قاله السمعاني وهو لقب له.
3 وتصنيف ابن كمال باشا له بأنه من أصحاب التخريج من المقلدين الذين لا يقدرون على الاجتهاد أصلا ظلم في حقه، وتزيل له عن محله، ومن تتبع تصانيفه، والأقوال المنقولة عنه علم أن الذين عدهم من المجتهدين كشمس الأئمة وغيره كلهم عيال عليه، فهو أحق بأن يجعل من المجتهدين في المذهب كما قال المؤلف رحمه الله.
4 أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي "إمام المهدي": أبو الليث السمرقندي الحنفي، توفي "373":
سير النبلاء "16/ 322"، والحاشية معجم المؤلفين "83/ 91"، والحاشية دائرة معارف الأعلمي "29/ 112"، المشتبه "143".(2/109)
توفي سنة "373" ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
377- أبو عبد الله يوسف بن محمد الجرجاني 1: مؤلف "خزانة الأكمل" في ست مجلدات أحاطت بجل مصنفات الحنفية.
توفي سنة "398" ثمان وتسعين وثلاثمائة.
378- أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي 2: ثقة فقيه ما شاهد الناس مثله في التقوى وحسن التدريس، وقد عد من المجددين على رأس المائة، وكان لا يقبل من أحد برا ولا صلة.
توفي سنة "403" ثلاث وأربعمائة.
وغير هؤلاء من الحنفية بالأقطار الإسلامية كثيرة.
__________
1 أبو عبد الله يوسف بن محمد الجرجاني: ترجمته في "الفوائد البهية" ص"221".
2 أبو بكر بن موسى الخوارزمي: ترجمته في "الفوائد البهية" ص"201/ 202".(2/110)
أشهر أصحاب مالك في المائة الثالثة والرابعة:
379- أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله 1:
ابن أبي سلمة الماجشون مولى قريش، والماجشون مثلث الجيم كلمة فارسية معناها: المورد، سمي بذلك جده أبو سلمة لحمرة في وجهه، وبيتهم بيت علم بالمدينة، كيعقوب بن أبي سلمة وولديه عبد العزيز ويوسف وعبد العزيز بن عبد الله، روى عبد الملك عن أبيه وإبراهيم بن سعد ومالك، وتفقه به وبأبيه وغيرهما.
كان فقيها فصيحا، دارت عليه الفتيا في أيامه إلى أن توفي، وعلى أبيه قبله بالمدينة، تأدب بالبادية في كلب أخواله. قال يحيى بن أكثم: عبد الملك بحر لا تكدره الدلاء، وأثنى عليه سحنون وفضله، وهم أن يرحل إليه ليعرض عليه "المدونة" وأثنى عليه ابن حبيب، وفضله في الفهم على كثير من أصحاب مالك.
وتفقه عليه خلق كثير، كأحمد بن المعذل، وسحنون، وابن حبيب،
__________
1 أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز عبد الله بن أبي سلمة الماجشون: أبو مروان صاحب مالك الماجشون المدني التميمي الفقيه، توفي سنة "213 أو 212 أو 214":
التحفة اللطيفة "3/ 85"، تقريب التهذيب "1/ 520، 522"، تهذيب التهذيب "6/ 407، 418"، تهذيب الكمال "2/ 857، 861"، الكاشف "2/ 211"، الخلاصة "2/ 178"، الميزان "2/ 658"، لسان الميزان "7/ 292"، نسيم الرياض "4/ 459"، تراجم الأحبار "2/ 525"، دائرة الأعلمي "21/ 266"، سير النبلاء "10/ 359"، العبر "1/ 363".(2/111)
وغيرهم.
وروى عنه سليمان بن داود، والمهدي، وعمر بن علي، أخرج له النسائي وابن ماجه.
توفي سنة "212" اثني عشر ومائتين وهو ابن بضع وستين سنة.
380- عيسى بن دينار القرطبي 1:
فقيه الأندلس ومعلمهم الفقه، وكان أفقه من يحيى بن يحيى على جلالته وعظم قدره، أخذ عن ابن القاسم، وكان ابن القاسم يجله.
توفي بطليطلة سنة "212" اثنتي عشرة ومائتين، وله كتاب سماع.
381- أسد بن الفرات 2:
النيسابوري الأصل التونسي الدار سمع مع مالك موطأه وغيره، ورحل للعراق، فسمع من أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وتفقه بهم.
وأخذ عنه أبو يوسف "الموطأ" كما أخذ هو عنه فقه الحنفية مجردة، وذهب إلى ابن القاسم، فتلقى عنه أحكامها على مذهب مالك أو مذهبه، وسمع من أشهب وغيرهما وذلك هو أصل "المدونة" التي تجمع ستة وثلاثين ألف مسألة كما في "الديباج" في ترجمة ابن عبد الحكم، ورجع به للقيروان فنشرها.
وكان قاضيا هناك. ثم ولي أمير الجيش الذي وجهه ابن الأغلب لغزو صقلية، فمات هناك شهيدا محاصرا لسرقوسة سنة "213" ثلاث عشرة ومائتين.
__________
1 عيسى بن دينار القرطبي "فقيه الأندلس": أبو محمد القرطبي الغافقي. جذوة المقتبس "298"، ترتيب المدارك "3/ 16، 20"، العبر "1/ 363"، الديباج المذهب "2/ 64، 66"، تاريخ ابن الفرضي "1/ 331"، شذرات الذهب "2/ 28".
2 أسد بن الفرات: ترجمته في رياض النفوس "1/ 172، 189"، وقضاة الأندلس "54".(2/112)
382- أبو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم 1:
ابن أعين بن الليث المصري مولى امرأة من موالي عثمان بن عفان رضي الله عنه.
أخرج له النسائي وسمع من مالك، والليث، وعبد الرزاق، والقعنبي، وابن عيينة، وغيرهم، وروى عنه ابن حبيب، وأحمد بن صالح، وابن نمير، وابن المواز، وغيرهم.
كان فقيها صدوقا، عارفا بمذهب مالك، عاقلا حليما، تفرد برئاسة مصر بعد أشهب، وقد نبه بيته بمصر، وبلغوا مجدا لم يبلغه أحدا وكان صديقا للشافعي، ونزل عليه لما ورد مصر، ومات بداره ودفن في مقبرته، وقد بالغ في بره وإكرامه.
وله "المختصر الكبير" اختصر فيه كتب أشهب، وفيه ثماني عشرة ألف مسألة.
وله "الأوسط" ويرى عنه أوسطان: أحدهما: من رواية ابنه محمد وسعيد بن حسان، والثاني: من رواية القراطيسي فيه زيادة الآثار على الأول وفي الأوسط أربعة آلاف مسألة.
وله "المختصر الصغير" قصره على علم الموطأ فيه ألف مسألة ومائتان.
فمن هذا التاريخ بدأت فكرة الاختصار، وظهر الملل وكلل في القرائح بسبب كثرة الفقه التقديري، وله كتب أخرى.
توفي سنة "214" أربع عشرة ومائتين عن ستين سنة. وأبوه:
383- عبد الحكم: روى عن مالك مسائل أيضا. وتوفي سنة "171".
__________
1 أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن الليث المصري: ولد سنة 155:
تهذيب الكمال لوحة "701"، تبصرة المنتبه "3/ 1192"، تهذيب الكمال "702"، حسن المحاضرة.(2/113)
384- مطرف بن عبد الله بن مطرف 1:
ابن سليمان بن يسار الهلالي اليساري، أبو مصعب المدني الفقيه، تفقه على خاله مالك بن أنس، وعبيد الله بن عمر، وروى عن البخاري في الصحيح، والذهلي، وأبو حاتم، وثقه الدارقطني، وغيره.
توفي سنة "220" عشرين ومائتين، فهو وابن الماجشون المتقدم إمامان جليلان أشهر من نشر علم مالك بالمدينة، ورحل الناس إليهما فيه، وهما المشهوران في كتب المذاهب بالأخوين.
385- أبو عبد الله أصبغ بن الفرج 2:
ابن سعيد بن نافع مولى عبد العزيز بن مروان سكن الفسطاط، روى عن الدراوردي ويحيى بن سلام وابن وهب، وأشهب، وكان فقيه البلد ماهرا في فقهه، طويل اللسان، حسن القياس، نظارا من أفقه هذه الطبقة، أجل أصحاب ابن وهب، وكان كاتبا له، صدوقا ثقة.
قال ابن وهب: لولا أن تكون بدعة، لسورناك كما تسور الملوك يا أصبغ.
وقال ابن الماجشون: ما أخرجت مصر مثله، قيل له: ولا ابن القاسم؟ قال: ولا ابن القاسم.
روى عنه البخاري وأبو حاتم وغيرهما، وتفقه عليه ابن المواز وابن حبيب وغيرهما.
__________
1 مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار الهلالي اليساري أبو مصعب المدني: أبو مصعب اليساري الأصم المدني النيسابوري الهلالي الحارثي، توفي 220:
الأكمال "7/ 443"، تهذيب التهذيب "10/ 175"، تقريب التهذيب "2/ 253"، تهذيب الكمال "3/ 1335"، الكاشف "3/ 150"، الخلاصة "3/ 34"، ثقات "9/ 183"، الميزان "4/ 1324"، الكامل "6/ 2375"، ديوان الضعفاء "4145"، نسيم الرياض "3/ 532، 405"، لسان الميزان "7/ 389"، الأعلمي "27/ 297".
2 أبو عبد الله أصبح بن الفرج: ترجمته في وفيات الأعيان "1/ 240"، والديباج المذهب ص"97"، وتهذيب التهذيب "1/ 361".(2/114)
قيل لأشهب: من لنا بعدك؟ قال: أصبغ. وكان يستفتى معه ومع غيره من أشياخه، عارفا برأي مالك مسألة مسألة، وله تآليف حسان ككتاب "الأصول" في عشرة أجزاء، وسماعه من ابن القاسم اثنان وعشرون كتابا وغيرها.
توفي سنة "225" خمس وعشرين ومائتين. وأصبغ بغين معجمة بوزن أفضل.
386- عبد الله بن أبي حسان اليحصبي 1:
من أشراف أفريقية، صاحب فقه وأدب، رحل إلى مالك، وأخذ عنه، وعن ابن أبي ذئب، وابن عيينة.
ثقة روى عن سحنون، كان غاية في فقه مالك، وهو راوية أخبار إفريقيا وحروبها، وكان ذابا عن السنة.
توفي سنة "227" سبع وعشرين ومائتين.
387- يحيى بن يحيى بن كثير الليثي 2:
مولاهم البربري المصمودي من مصمودة طنجة الأندلسي القرطبي الفقيه أبو محمد، أحد الأعلام راوي "الموطأ عن مالك غير أبواب من الاعتكاف شك فيها، ورواها عن شبطون السابق.
قال ابن عبد البر: كان إمام أهل بلده، ثقة عاقلا، وقال غيره: انتهت إليه رئاسة العلم بالأندلس، وبسببه دخل المذهب المالكي إليه؛ إذ كان في زمن بني
__________
1 عبد الله بن أبي حسان اليحصبي "من أشراف إفريقية": أبو محمد اليحصبي ولد سنة 140، توفي سنة 226: طبقات علماء إفريقية وتونس ص"155"، معالم الإيمان "2/ 58"، رياض النفوس "1/ 199".
2 يحيى بن يحيى كثير الليثي "مولاهم البريري المصمودي": أبو محمد أو أبو عيسى أو أبو مروان البربري الليثي القرطبي المصمودي، توفي سنة 233 أو 234، عن 85 عام:
تقريب التهذيب "2/ 360"، تهذيب التهذيب "11/ 300"، الخلاصة "3/ 163"، الأكمال "7/ 141"، المعين "1034"، نسيم الرياض "2/ 12 و4/ 463"، الأنساب "12/ 296"، الوفيات "172".(2/115)
أمية الذي يريدون تغيير رسوم بني العباس التي منها مذهب أهل العراق، فكان يحيى مستشارهم في تعيين القضاة، ولا يشير عليهم إلا بمن كان مالكيا، فانتشر المذهب بذلك.
توفي سنة "334" أربع وثلاثين ومائتين. وليس هو الذي يروي عنه البخاري ومسلم والموطأ، فذاك:
388- يحيى بن يحيى بن بكر الحنظلي التميمي الخراساني:
أجل من هذا في الحديث، وكانا في عصرنا واحد، ولا ذكر للمترجم في كتب الحديث لبعد بلده عن محل الرواية التي كان محلها الحجاز والعراق وخراسان والشام ومصر إذ ذاك.
قال الأمير في "فهرسته": قيل لهذا الليثي؛ لأن جده رسلان أسلم على يد يزيد بن عامر الليثي.
389- عبد الرحمن بن موسى الهواري 1: من أهل إستجه بالأندلس لقي مالكا وابن عيينة والأصمعي، وغيرهم، واستقضي ببلده كان إذا قدم قرطبة، لم يفت عيسى بن دينار، ولا يحيى بن يحيى، ولا سعيد بن حسان إجلالا له حتى يرحل.
386- عبد الملك بن حبيب بن سلميان السلمي 2: أصله من
__________
1 عبد الرحمن بن موسى الهواري "من أهل إستجه بالأندلس": أبو موسى الهواري الإستجي: تاريخ علماء الأندلس ص"258" دائرة الأعلمي "21/ 107".
2 عبد الملك بن حبيب بن سلمان السلمي "من طليطلة": أبو مروان الأندلسي القرطبي المرداسي السلمي، ولد سنة 170، توفي 236 أو 238:
تقريب التهذيب "1/ 518"، تهذيب التهذيب "6/ 389"، الخلاصة "2/ 175"، دائرة الأعلمي "2/ 175"، لسان الميزان "4/ 59"، الميزان "2/ 652"، نسيم الرياض "3/ 519، 461"، التمهيد "2/ 45"، نفح الطيب "2/ 7"، معجم المؤلفين "6/ 181، 182"، بغية الملتمس "377".(2/116)
طليطلة، وانتقل جده لقرطبة، سمع مطرفا وابن الماجشون، وكان ذا علم واسع رتبة الأمير عبد الرحمن بن الحكم في طبقة المفتين بقرطبة، وانفرد بالرئاسة بعد يحيى بن يحيى، وهو مؤلف كتاب "الواضحة" أحد الكتب الجامعة في المذهب غير أنه مضعف في الحديث، له مؤلفات شتى.
قال ابن الفرضي: كان متفننا في ضروب من العلم فقيها مفتيا نحويا لغويا نسابة مؤرخا عروضا شاعرا محسنا مترسلا حاذقا مؤلفا متقنا.
ولما دنا من مصر في رحلته، وجد جماعة من العلماء يتلقون الرفقة على عادتهم كما أطل عليهم ذو هيئة، تفرسوا فيه حتى رأوه، وكان جميل المنظر، فقال قوم: فقيه، وقال آخرون: بل شاعر، وآخرون: بل طبيب، وآخرون خطيب، فتقدموا إليه وأخبروه بما قالوا، فقال لهم كلكم قد أصاب، وإني أحسن كل ذلك، والخبرة تكشف الحيرة، فجاءه أصحاب الفنون، فأجابهم عن كل ما سألوه، فأخذوه عنه، وعطلوا دروسهم حتى ارتحل تعظيما له.
توفي سنة "238" ثمان وثلاثين ومائتين.
391 - سحنون عبد السلام بن سعيد التنوخي 1:
صليبة من العرب الأفريقي، قدم أبوه في جيش حمص إلى القيروان، وسحنون اسم طائر جديد لقب له لحدته في المسائل.
أفردت ترجمته بالتأليف، أخذ العلم عن علماء القيروان إذ ذاك أبي خارجة، وبهلول، وعلي بن زياد، وابن أبي حسان المتقدم، وابن غانم، وابن أبي كريمة، وأخيه، وابن أشرس، ومعاوية الصمادحي، وأبي زياد الرعيني، أدرك مالكا، ومنعه الفقر من الوصول إليه، فسمع من ابن القاسم، وأشهب، وابن وهب، وطليب بن كامل، وعبد الله بن الحكم، وابن عيينة، ووكيع،
__________
1 سحنون عبد السلام بن سعيد التنوخي "صليبة": أبو سعيد أو أبو محمد سحنون قاضي أفريقية، توفي سنة 240:
الإكمال، ودائرة الأعلمي "21/ 120".(2/117)
وابن مهدي، وحفص بن غياث، وأبي داود الطيالسي، وخلق من أهل ذلك العصر. كان ثقة حافظا، فقيه البدن اجتمعت خصال فيه قلما تجتمع لغيره الفقه البارع، والورع الصادق، والصرامة في الحق، والزهد في الدنيا، والتخشن في الملبس والمطعم والسماحة.
قال ابن القاسم، وأشهب وابن أبي الغمر: لم يقدم علينا من أفريقية من هو أفقه من سحنون أخذ "مدونة" أسد، وذهب بها إلى ابن القاسم، وصححه عليه، فرجع عن أشياء فيها، ثم قدم بها القيروان، ونشرها في تلك الأصقاع إلى الأندلس، وبها تم انتشار مذهب مالك، فنسخت مدونة أسد التي امتنع صاحبها من تغييرها، فتركها الناس، وفض سحنون حلق المخالفين لمذهبه من العراقيين، ولم يكن يقبل إلا فتوى المالكيين، وبه صارت أفريقية ملكا لمالك.
ولي القضاء بأفريقية على عهد بني الأغلب الذين كانوا مستقلين في داخليتهم عن المشرق، فصدع بالحق، وأقام قسطاس العدل على الأمير فمن دونه، وذلك سنة "234" أربع وثلاثين ومائتين، ولم يأخذ شيئا على القضاء قط، ولا يقبل من السلطان عطاء، ويأخذ مؤنة قضاته ونوابه وأعوانه من جزية أهل الكتاب، بل كان يعالج فلاحة بعض زيتونه بيده، ويأكل من كسبه فقط، ولا يأكل حتى من أملاكه، وكان سحنون من أيمن عالم دخل المغرب، كأنه مبتدأ عصره محا ما قبله، وكان أصحابه الذي أخذوا عنه مصابيح في كل بلد، وقد بلغوا سبعمائة. رأى الناس يوما يقبلون يد ابن الأغلب الأمير، فقال له: لم تعطيهم يدك لو كان هذا لقربك من الجنة ما سبقونا إليها.
توفي سنة "240" أربعين ومائتين عن ثمانين سنة رحمه الله وخلف ولده.
392- محمد بن سحنون 1: وله درجة عالية في الفقه والتآليف العظيمة في المذهب المالكي، والخصال الجليلة، ألف في فنون كثيرة كالحديث
__________
1 محمد بن سحنون عبد السلام بن سعيد التنوخي، أبو عبد الله التنوخي الفقيه المالكية القيرواني. رياض النفوس "1/ 345"، الديباج المذهب "234"، شجرة النور الزكية "700"، سير النبلاء "13/ 86"، الوافي بالوفيات "3/ 86".(2/118)
والفقه والتاريخ، وأدب المناظرة والخلافيات التي ابتلي بها ذلك العصر، وقد ألف كتابه الكبير في مائة جزء.
توفي سنة "256" ست وخمسين ومائتين، ويقال في المذهب المالكي: المحمدان الأفريقيان له، ولمحمد بن عبدوس، والمحمدان المصريان: محمد بن عبد الحكم ومحمد بن المواز، والجميع كانوا في عصر واحد، ولم يجتمع مثلهم في عصر لمذهب مالك.
وهؤلاء السادات أشهر من نشر علم مالك في أفريقية وصقلية رحمه الله.
393- أبو عمرو الحارث بن مسكين 1:
ابن محمد بن يوسف، مولى الأمويين قاضي مصر، سمع ابن القاسم، وأشهب وابن وهب، ودون أسمعتهم وبوبها، وبهم تفقه، وعد في أكابر أصحابهم، وله كتاب فيما اتفق عليه رأي الثلاثة.
روى عن ابن عيينة، ورأى الليث، حدث ببغداد ومصر، روى عنه أو داود والنسائي، ووثقه، وعبد الله بن الإمام أحمد، وابن وضاح، وأثنى عليه الإمام أحمد خيرا.
وقال ابن وضاح: هو ثقة الثقات، وأكثر عنه النسائي في سننه مع إقامة الحارث له عن مجلسه، كان فقيها نزيها ورعا، صادق اللهجة، عدلا في قضائه، محمود السيرة، وكان ابن أبي داود يحسن ذكره، ويعظمه جدا، ويكتب الوصاة به.
توفي سنة "250" خمسين ومائتين.
__________
1 أبو عمرو الحارث بن مسكين: ترجمته في تاريخ بغداد "8/ 216"، وتذكرة الحفاظ "2/ 514"، وتهذيب التهذيب "2/ 156".(2/119)
394- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة 1:
العتبي مولى لآل عتبة بن أبي سفيان، قرطبي سمع من يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان، ورحل، فسمع من أصبغ، وسحنون، كان حافظا جامعا للمسائل، له كتاب "المستخرجة" التي قال فيها ابن حزم: لها عند أهل أفريقية القدر العالي، والطيران الحثيث، وتكلم فيها محمد بن عبد الحكم قال: رأيت جلها كذبا ومسائل لا أصول لها.
توفي سنة "254" أربع وخمسين ومائتين.
395- أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم الأموي 2
مولاهم القرطبي، الشهير بأبي زيدن مؤلف الثمانية المشهورة في المذهب، وهي ثمانية كتب من أسئلة المدنيين سمع من يحيى بن يحيى، وابن الماجشون، ومطرف، وابن كنانة، وأصبغ، وأخذ عنه ابن لبابة وغيره.
توفي سنة "258" ثمان وخمسين ومائتين.
396- محمد بن إبراهيم بن عبدوس بن بشير 3:
أصله من العجم من موالي قريش، وهو من كبار أصحاب سحنون وأئمة وقته، وكان ثقة إماما في الفقه.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز: ترجمته في جذوة المقتبس ص"36، 37"، وشذرات الذهب "2/ 92"، والديباج المذهب ص"238".
2 أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم الأموي مولاهم القرطبي الشهير بأبي زيد: أبو زيد القرطبي. معجم المؤلفين "5/ 113، 114"، الإكمال "1/ 258".
3 محمد بن إبراهيم بن عبدوس بن بشير: أبو عبد الله. الإكمال "1/ 296"، شجرة النور الزكية "70"، رياض النفوس "10/ 3060".(2/120)
قال ابن الحارث: "كان حافظا لمذهب مالك والرواة من أصحابه، إماما مبرزا فقيها في ذلك خاصة. غزير الاستنباط، جيد القريحة، ناسكا عابدا متواضعا، مستجاب الدعوة، وألف كتابا شريفا سماه "المجموعة" أعجلته المنية قبل إتمامه، وله كتب التفاسير فسر فيها أصولا من العلم كالمرابحة والمواضعة والشفعة، وله أربعة أجزاء في شرح مسائل من المدونة وغيرها من الكتب.
توفي سنة "260" ستين ومائتين.
397- أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم 1:
تفقه على أبيه، وأشهب، وابن وهب، وابن القاسم، وغيرهم من أصحاب مالك، وصحب الشافعي، وروى عن أبي فديك، وأنس بن عياض، وحرملة، وغيرهم، وروى عنه ابن أبي حاتم، وابن جرير الطبري، وغيرهما، كان من العلماء الفقهاء مبرزا نظارا، وإليه الرحلة من الأندلس والمغرب، وانتهت إليه رئاسة مصر في فقه مالك، وكان ماهرا في مذهب الشافعي، فإذا تبينت له الحجة فيه، اختار قوله.
له كتب حسان كأحكام القرآن، والوثائق، والشروط، وكتاب الرد على الشافعي فيما خالف فيه الكتاب والسنة، وكتاب اختصار كتب أشهب، وكتاب النجوم، وكتاب المولدات، وغيرها.
توفي سنة "268" ثمان وستين ومائتين.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: أبو عبد الله المصري، توفي سنة "268 أو 269":
نسيم الرياض "3/ 451"، أربع رسائل "183".(2/121)
398- أبو عبد الله بن إبراهيم الإسكندري 1:
المعروف بابن المواز، تفقه على أصبغ وهو عمدته، وعلى ابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وغيرهم، كان راسخا في الفقه والفتيا، وكتابه المشهور بالموازية أجل كتاب ألفه المالكيون وأصحه وأوعبه، وأبسطه، رجحه القابسي على سائر الأمهات قائلا: إن صاحبه قصد بناء فروع المذهب على أصوله، وغيره إنما قصد جمع الروايات.
توفي بدمشق سنة "269" تسع وستين ومائتين.
399- أبو بكر محمد بن زكرياء الوقار 2:
بتخفيف القاف أخذ عن أصبغ، وابن عبد الحكم، وغيرهما، وله مختصران أكبرهما في سبعة عشر جزءا، وأهل القيروان يفضلون مختصره على مختصر ابن عبد الحكم. توفي سنة 269 تسع وستين ومائتين.
400- أبو الفضل أحمد بن المعذل 3:
"بالذال المعجمة" العبدي البصري، من الطبقة الأولى الذين انتهى إليهم فقه مالك ممن لم يره من أهل العراق، فقيه متكلم، تفقه بابن الماجشون، ومحمد بن مسلمة، وإسماعيل بن أبي أويس، وغيرهم، وعنه أخذ إسماعيل بن إسحاق القاضي، وأخوه حماد، وعبد العزيز بن إبراهيم، وغيرهم.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الإسكندري المعروف بابن المواز: الإسكندراني المالكي، توفي سنة "281":
نسيم الرياض "3/ 451"، المعين "1188"، العبر "2/ 66".
2 أبو بكر محمد بن زكرياء الوقار: أبو بكر الوقار المصري المالكي، توفي سنة "269":
معجم المؤلفين "9/ 8" والحاشية.
3 أبو الفضل أحمد بن المعذل: ترجمته في سير أعلام النبلاء "8/ 138، 139"، وشذرات الذهب "2/ 95، 96".(2/122)
أثنى عليه أبو حاتم، وقال أبو سليمان الخطابي: إنه يعد في زهاد البصرة وعلمائها، وقال غيره: كان فقيها بمذهب مالك، ذا فضل وورع ودين، نبيلا شاعرا أديبا فصيحا نظارا، غاية في الزهد فيما بأيدي الناس، لم يكن لمالك في العراق أرفع منه، ولا أعلى درجة، وأبصر بمذهب أهل الحجاز منه، ولم يذكر في "الديباج" وفاته، وإنما قال: توفي وقد قارب الأربعين سنة.
401- أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق 1: بن حماد بن زيد بن درهم بن لامك الجهضمي الأزدي
مولى آل جرير بن حازم كما تقدم لنا في ترجمة حماد. وأصل إسماعيل من البصرة، واستوطن بغداد، روى عن سليمان بن حرب، وحجاج بن منهال، ومسدد، وابن المديني، وسمع من أبيه إسحاق، وأبي بكر بن أبي شيبة، وتفقه بابن المعذل السابق، وكان يقول: أفخر على الناس برجلين: ابن المعذل يعلمني الفقه، وابن المدين يعلمني الحديث.
وروى عنه ابنه أبو عمر القاضي، وأخوه، وأبو القاسم البغوي، وابن أخيه إبراهيم بن زيد، وعبد الله بن الإمام أحمد، وإبراهيم بن عرفة النحوي، وغيرهم، كالنسائي وخلق عظيم، وتفقه عليه أهل العراق من المالكية.
قال أبو بكر الخطيب: كان فاضلا عالما متفننا، فقيها في مذهب مالك، شرح مذهبه، ولخصه، واحتج له، وصنف المسند، وكتبا عديدة، من علوم القرآن، منها كتاب "أحكام القرآن" لم يسبق لمثله، وكتابه في القراءات كتاب جليل القدر، عظيم الخطر، وكتاب في معاني القرآن، وهذان كتابان شهد بتفضيله فيهما المبرد، وله إعراب القرآن في خمسة وعشرين جزءا، وله كتاب المبسوط في الفقه، ومختصره، وله كتب عديدة في أبواب من الفقه، وفي الرد
__________
1 أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق: ترجمته في سير أعلام النبلاء "9/ 79"، وتاريخ بغداد "6/ 284، 290"، وطبقات القراء "2/ 162"، وتذكرة الحفاظ "2/ 180، 181"، ومعجم الأدباء "6/ 129"، 140"، وشذرات الذهب "2/ 178".(2/123)
على محمد بن الحسن والشافعي وأبي حنيفة، وله كتاب الموطأ، وكتاب شواهد موطأ مالك في عشر مجلدات، وله مسانيد في الحديث كثيرة، فهو معدود من أعلى طبقة في المؤلفين وجمع حديث مالك، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأيوب السختياني، وثابت البناني، وأبي هريرة.
وقال أبو إسحاق الشيرازي: كان إسماعيل جمع القرآن، وعلوم القرآن والحديث، وآثار العلماء والفقه والكلام والمعرفة بعلم اللسان، وكان من نظراء المبرد في علم كتاب سيبويه، وكان المبرد يقول: لولا اشتغاله برئاسة الفقه والقضاء، لذهب برئاستنا في النحو والأدب، وحمل من البصرة إلى بغداد، وعنه انتشر مذهب مالك بالعراق. وكان ثقة صدوقا، وذكر الإمام الباجي من بلغ درجة الاجتهاد، وجمع العلوم فقال: ولم تحصل هذه الدرجة بعد مالك إلا لإسماعيل القاضي ومن شعره:
ومسرة قد أقبلت ... من حيث تنتظر المصائب
فاعجب لما هو كائن ... إن الزمان أبو العجائب
ولي قضاء بغداد، وجمعت له في وقت واحد، ولم تجمع لأحد قبله، وأضيف إليه قضاء المدائن والنهروانات، ثم ولي قضاء القضاة، فحاز المالكية قضاء عواصم الإسلام في القرن الثالث، إذ كان إسماعيل قاضي القضاء الأعلى ببغداد، والحارث بن مسكين بمصر، وسحنون قاضي القضاة بالقيروان، وممالك أفريقية، ويحيى بن يحيى مستشارا في تعيين قضاة الأندلس في عصر متقارب.
قال ابن الخطيب: أقام إسماعيل على القضاء نيفا وخمسين سنة ما عزل إلا سنتين وفي ذلك خلاف، كان عفيفا صلبا فهما فطنا، وأما سداده فيه، وحسن مذهبه، وسهولته عليه فيما كان يلتبس على غيره، فشهير. ولد سنة مائتين وتوفي سنة 282 اثنين ومثانين ومائتين. ورث خطته من الإمامة في الدين بنو عمه، وعهد إلى ابنه الحسن وكان بيت آل حماد أشهر بيت في العراق لكثرة رجاله المشهورين بالعلم والثراء، أئمة الفقه ومشيخة الحديث رؤساء نبهاء أصحاب سنة(2/124)
وهدى ودين. روى عنهم علماء انتشروا في أقطار الأرض، فانتشر ذكرهم ما بين المشرق والمغرب، وتردد العلم في طبقاتهم وبيتهم نحو ثلاثمائة سنة من لدن جدهم حماد بن زيد وأخيه سعيد المولودين على نحو المائة إلى وفاة آخر من وصف منهم بالعلم وهو ابن أبي علي المتوفى قرب أربعمائة.
قال الفرغاني: لا نعلم أحدا بلغ ما بلغ آل حماد بن زيد، ولم يبلغ أحد ممن تقدم من القضاة من اتخاذ المنازل والضياع والكسوة والآلة، ونفاذ الأمر في جميع الأقطار، وحسبك أن لهم ببادرويا ستمائة بستان غير ما لهم بالبصرة وغيرها، وكان فيهم على اتساع الدنيا رجال صدق وخير وأبهة وورع وعلم وفضل. فانظر وتأمل، رحمك الله كيف كانت بيوت العلم في الإسلام.
402- أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي 1:
الإمام العلم، أحد أوعية العلم، وذوي الاتساع فيه والفهم، طاف البلاد شرقا وغربا، ولقي الأعلام سمع بخراسان وما وراء النهر والعراق والشام والحجاز ومصر والجزيرة، ثم استوطن بغداد، قاضي الدينور. أخذ عن أيوب وابن المديني وابن أبي شيبة وغيرهم، وروى عنه ابن المبارك وطبقته، كان ثقة ثبتا حجة، له كتاب السنن، وكتاب مناقب مالك، وحزروا من يحضر مجلسه للسماع بثلاثين ألفا، وكان المستملون ثلاثمائة وستة عشر مستمليا، ويكتب الحديث في مجلسه عشرة آلاف دون من لا يكتب. توفي سنة 301 إحدى وثلاثمائة عن أربع وتسعين سنة صح من "الديباج" باختصار.
__________
1 أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي: أبو بكر الفريابي التركي، ولد سنة "217"، توفي سنة "301":
تذكرة "5/ 2/ 692"، العبر "2/ 119"، اللباب "2/ 211"، تاريخ بغداد "7/ 199"، طبقات الحفاظ "301"، المعين "1207"، الأنساب "10/ 129، 206"، الأعلام "2/ 128"، الوافي بالوفيات "11/ 146"، السابق واللاحق "170"، التمهيد "1/ 66".(2/125)
403- أبو عبد الله محمد بن بسطام بن رجاء الضبي 1:
ثقة مأمون، كثير الرواية والكتب، أدخل لأفريقية كتبا غريبة من كتب المالكية ككتاب المغيرة بن عبد الرحمن، وكتاب ابن كنانة، وكتاب ابن دينار، ولم يكن في عصره أكثر كتبا منه في الفقه والآثار. توفي سنة 313 ثلاث عشرة وثلاثمائة بسوسة.
404- أبو عبد الله محمد بن عمر بن لبابة القرطبي 2:
دارت عليه الأحكام نحن ستين سنة مع نزاهة وتصاون وتقشف وتواضع، وفصاحة، وحفظ للشعر وأخلاق جميلة، مأمونا ثقة. توفي سنة 314 أربع عشرة وثلاثمائة.
405- أبو عبد الله محمد بن فطيس 3: كان من حفاظ المذهب، وأعلم من كل من بعده. توفي سنة 319 تسع عشرة وثلاثمائة.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن بسطام بن رجاء الضبي، أبو عبد الله الضبي السوسي البصري الأصل، توفي سنة "130":
طبقات علماء إفريقية وتونس ص"54".
2 أبو عبد الله محمد بن فطيس: ترجمته في الديباج المذهب ص"245".
3 أبو عبد الله محمد بن فطيس: أبو عبد الله الغافقي الأندلسي الألبيري، ولد سنة "229"، توفي سنة "319"، عن "90" سنة:
الأعلام "6/ 332"، التمهيد "1/ 80، 5/ 52"، تاريخ علماء الأندلس ص"40"، معجم المؤلفين "11/ 131"، سير النبلاء "15/ 79، العبر "2/ 177"، نفح الطيب "2/ 62"، الوافي بالوفيات "4/ 337".(2/126)
406- أبو سلمة فضل بن سلمة بن جرير بن منخل الجهني 1:
مولاهم البجاني2 كان من أعلم الناس بمذهب مالك، وله مختصر المدونة، ومختصر الواضحة، زاد فيه من فقهه وتعقب فيه على ابن حبيب كثيرا من قوله، وهو أحسن كتب المالكيين، وله مختصر لكتاب ابن المواز، وكتاب جمع فيه مسائل المدونة والمستخرجة والمجموعة، وله جزء في الوثائق مفيد حسن. توفي سنة 319 تسع عشرة وثلاثمائة.
407- أبو عمر أحمد بن ميسر يعرف بابن الأغبش القرطبي 3:
كان ميالا للنظر والحجة، وكان إذا استفتي ربما يقول: أما مذهب أهل بلدنا فكذا، وأما الذي أراه، فكذا. توفي سنة 328 ثمان وعشرين وثلاثمائة.
408- أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري 4:
البصري من ولد أبي موسى الأشعري الصحابي الجليل، كان هذا الإمام فقيها نظارا، وإماما حافظا مكثارا، أخذ الفقه عن أبي إسحاق المروزي في جامع المنصور ببغداد، ولهذا عده السبكي من الشافعية والذي عليه عياض وغيره أنه
__________
1 أبو سلمة فضل بن سلمة بن جرير بن منخل الجهني: أبو سلمة البجاني الجهني، توفي سنة "319"، وقيل "317":
حاشية الأنساب "2/ 87"، تاريخ علماء الأندلس "352"، شجرة النور الزكية "82".
2 البجاني نسبة إلى بجانة بنون كما في "المدارك" في غير ما موضع بلد في الأندلس "المؤلف".
3 أبو عمر أحمد بن ميسر القرطبي: ترجمته في الديباج المذهب ص"37".
4 أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري البصري: أبو الحسن الأشعري، توفي سنة "334": شجرة النور الزكية "79"، وفيات الأعيان "3/ 284"، دائرة الأعلمي "22/ 225"، تاريخ بغداد "11/ 346".(2/127)
مالكي المذهب، واستدل على ذلك انظر "المدارك" ولا بعد في أن يكون مجتهدا لا هو شافعي ولا مالكي لما كان عليه من العلم الواسع، والفكر الشاسع، ويبعد أن يكون مثله مقلدا في ذلك العصر.
كان أول أمره معتزليا، أخذ عن أبي علي الجبائي، وأقام على ذلك ثلاثين سنة وهو من فحولهم المناضلين عن شبههم المشهورين بذلك، ماهرا في فلسفتهم العقلية المقتبسة من كتب اليونان والهنود وغيرهم، والتي كانوا بها ظاهرين مفحمين لأهل السنة مدة قرن ونصف، غير أنه لسعة أفكاره وعدم اقتصاره على شبههم وتآليفهم وأقوالهم، بل كان ماهرا مطلعا على أقوال السنة وكتبها، عارفا بأصولها لم يكن ضيق الفكر مزرر القميص لا يخرج عما ألقي إليه في صغره، بل أجال فكره في السنة والاعتزال معا، فرأى أن السنة هي الحق، وأن الاعتزال سفسطة وضلال، فلما تبين له ذلك بالبراهين العظام فكر فكرا عظيما، وأسس مبدأ جسيما وهو هدم قواعد الاعتزال بالآلات التي بنيت بها، وقتال أهلها بسلاحها الذي كان به ظهورها وهو الفلسفة نفسها، والبراهين العقلية الصحيحة، وضمها إلى نصوص الشريعة خلاف ما كان السلف عليه من نبذ الفلسفة التي كانت سبب ضلال المعتزلة، والاقتصار على قتالهم بالنصوص، والوقوف عن الخوض في بحر الفكر والنظر، فإن ذلك وإن نفع في الجملة، لكن لم يحسم داءهم العضال، وانظر إلى مالك لما سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 أجاب بأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة وسلك طريق التفويض، وهو أسلم.
أما أبو الحسن الأشعري، فإنه بفضل ما مهر فيه من علوم الشريعة والفلسفة معا اخترع لهم سلاحا من نوع ما غلبوا به، فصعد يوم الجمعة كرسيا بمسجد البصرة التي هي كرسي المعتزلة ومنبعهم، ونادى: من عرفني، فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا فلان كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا تراه الأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم.
__________
1 سورة طه الآية: 5.(2/128)
قال ابن حزم: له خمسة وخمسون مصنفا في الرد عليهم وعلى الملاحدة والجهمية والرافضة والخوارج وسائر المبتدعين. قال أبو بكر الصيرفي: كانت المعتزلة رافعي رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري، فحجزهم في أقماع السمسم. يعني حيث قاتلهم بنفس سلاحهم، فاضمحلت بسببه شبهتهم، ولهذا اعترف له من بعده من السنيين بالفضل حتى إنهم انتسبوا إليه مع أن مذهب السنة كان ظاهرا، وكانوا قبله يسمون المثبتة.
صنف ابن عساكر مجلدا في مناقبه، وأثنى الأئمة عليه كثيرا كابن أبي زيد القيرواني، والقابسي، ولا يلتفت لكلام المعتزلة فيه من الحنفية، ولا لكلام الحنابلة الذين ليسوا على مذهبه كالإمام الذهبي، وقد رد عليه تلميذه السبكي كثيرا، وكابن حزم في بعض كتبه وإن أثنى عليه في كتابه "الفصل" كما أثنى عليه الذهبي في كتاب "العلو" كثيرا. حاصله طعن فيه من لا يرى رأيه وذلك معلوم.
ومن غريب ما في "الطبقات السبكية" أنه تردد أولا فيمن يعده من المجددين في المائة الثالثة هل الإمام الأشعري أو ابن سريج الشامي، ثم أداه التعصب المذهبي إلى أن قال: إن الأشعري وإن كان أيضا شافعي المذهب إلا أنه رجل متكلم، كان قيامه للذب عن أصول العقائد دون فروعها، وكان ابن سريج فقيها يذهب عن الفروع، فكان أولى بهذه المرتبة.
فتأمل قوله وإن كان شافعيا. كأن الدين الذي يجدد هو مذهب الشافعي، وما سواه لا عبرة به. وتأمل ما أدى إليه التعصب من تقديم الفروع على الأصول عكس المعقول والمنقول. وكم لهذا من نظير عنده على أننا لا نسلم عدم معرفته بالفروع، ففي "المنح البادية" عن عبد الله بن محمد بن طاهر الصوفي قال: رأيت أبا الحسن الأشعري وقد أبهت المعتزلة في المناظرة، فقال له بعض الحاضرين: قد عرفنا تبحرك في الكلام، فإنا نسألك عن مسألة ظاهرة في الفقه ما تقول في الصلاة بغير فاتحة الكتاب؟ فقال: ثنا زكريا بن يحيى السراج، ثنا عبد الجبار، ثنا سفيان، ثني الزهري، عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت مرفوعا "لا(2/129)
صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن، وحدثنا زكريا، ثنا بندار ثنا يحيى بن سعيد عن جعفر بن ميمون ثني أبو عثمان عن أبي هريرة قال: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا أنادي في المدينة: "إنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" قال: فسكت السائل. فهذا يدل على مقامه في الحديث والفقه، وإن لم يكن بالمقلد البحت.
وإن شئت أن تعرف ما كان عليه الأشعري في المعتقد، فانظر ترجمته من كتاب "العلو" للذهبي وانظر كتاب "الإبانة" فكل منهما مطبوع، وبذلك تعلم أنه سلفي العقيدة وفيه مخالفة كثيرة لما في "السنوسية" "والمرشد المعين" الموضوعين في مذهب الأشعري. توفي سنة 334 أربع وثلاثين وثلاثمائة وقيل 333 ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ودفن بالبصرة.
409- أبو بكر محمد بن محمد بن وشاح 1 بن اللباد:
شيخ المالكية في وقته بالقيروان، مولى لموالي موسى بن نصير القائد الشهير، سمع من جميع شيوخ وقته كيحيى بن عمرو البغامي، وحمديس القطان، وأبي عمران البغدادي، ومحمد بن المنذر، وغيرهم وأخذ عنه ابن أبي زيد، والقابسي، ودارس بن إسماعيل، وغيرهم. أثنى عليه تلاميذه وغير واحد من الأفاضل كابن حارث، وابن العربي وغيرهم ووصفوه بالحفظ والإتقان والتقوى وسعة العلم والزهد.
وهو ممن امتحنه الشيعة في دولة بني عبيد، ولما أدخلوه السجن تلقاه المراودي فأعرض عنه حيث كان سجن لسب النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: والله إني لأبغضك يا أبا بكر قديما، فقال له: الحمد لله يا فاسق الذي لم يجعل في قلبك بغض النبي
__________
1 أبو بكر محمد بن محمد بن وشاح بن اللباد: أبو بكر القيرواني الشهرة ابن اللباد، توفي سنة "333":
شجرة النور الزكية "84".(2/130)
-صلى الله عليه وسلم- وحبي ثم سرح، ولزم داره، فكان ابن أبي زيد وغيره من الطلبة يأتونه خفية، ويجعلون الكتب في أوساطهم حتى تبتل بعرقهم.
ومن كلامه: أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، وقوله: ما قرب الخير من قوم قط إلا زهدوا فيه. توفي سنة 333 ثلاث وثلاثين وثلاثمائة صح ملخصا من "المدارك" وكان له أصحاب نشروا فقهه شبهوهم بأصحاب مالك، فمحمد بن نظيف القيرواني، ثم المصري بابن القاسم، وابن أبي زيد بأشهب، وابن أخي هشام بابن نافع، وابن التبان بابن بكير.
410- أحمد بن محمد بن خالد بن ميسر أبو بكر الإسكندراني:
انتهت إليه الرئاسة بمصر بعد ابن المواز وهو راوي كتبه، وكان يوازيه في الفقه، ألف كتاب الإقرار والإنكار توفي سنة 339 تسع وثلاثين وثلاثمائة، وضبطه عياض ميسر بفتح السين كذا في "الديباج"1.
411- أبو محمد قاسم بن أصبغ 2 بن محمد بن يوسف المرواني:
ولاء القرطبي الشهير بالبياني نسبة إلى بيانة من عمل قرطبة. سمع من بقي بن مخلد والخشني وغيرهما، ورحل العراق وغيرها فسمع من إسماعيل القاضي وغيره، وانصرف للأندلس بعلم كثير، فكان له بقرطبة قدر كبير. وسمع منه عبد الرحمن الناصر، وولي عهده، وطال عمره، فلحق فيه الأصاغر بالأكابر،
__________
1 أحمد بن محمد بن خالد بن ميسر أبو بكر الإسكندراني ص"37"، وهو مترجم أيضا في سير أعلام النبلاء "9/ 213"، وحسن المحاضرة "1/ 255".
2 أبو محمد قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف المرواني: ترجمته في تذكرة الحفاظ "853"، وبغية الوعاة ص"375"، والديباج المذهب ص"222"، ومعجم الأدباء "16/ 236"، ولسان الميزان "4/ 458".(2/131)
وكانت الرحلة إليه بالأندلس. كان ثبتا صادقا مأمونا من أئمة المالكية، وله مصنفات في الحديث حسنة خمسة، منها "المصنف" المخرج على كتاب أبي داود، واختصاره المسمى "المجتبى" على نحو كتاب ابن الجارود "المنتقى" وكان قد فاته السماع منه فألف مصنفا على أبواب كتابه خرجه عن شيوخه، ومنها مسند حديثه عن غرائب مالك، ومسند حديث مالك رواية يحيى، وله أحكام القرآن، والناسخ والمنسوخ وغيرها توفي سنة 340 أربعين وثلاثمائة عن اثنين وتسعين سنة، وتغير ذهنه قبل وفاته بثلاث سنين.
412- محمد بن يحيى التمار 1 الأسواني أبو الذكر الفقيه: صاحب التصانيف في الأصول والفروع، نزل مصر، وبها توفي سنة 344 أربع وثلاثمائة.
413- بكر بن العلاء القشيري 2 أبو الفضل:
بصري وخرج عنها إلى مصر، فأدرك بها رئاسة عظيمة. أثنى عليه غير واحد، ألف كتبا جليلة، اختصر كتاب القاضي إسماعيل وزاد عليه، وله كتاب الرد على المزني وكتاب الأشربة، رد على الطحاوي، وكتاب أصول الفقه، وكتاب القياس، وكتاب في مسائل الخلاف، وكتاب الرد على القدرية، وغيرها.
توفي سنة 344 أربع وأربعين وثلاثمائة. ا. هـ. بخ من "المدارك".
414- أبو الحسن علي بن جعفر السلفاني: أحد مشيخة المالكية بمصر وكان أهل جزيرة أقرطيش "كريت" طلبوا من مصر أن يوجهوا لهم من يفقههم ويتقلد حكمهم، فوقع الاتفاق عليه، وأقام بها إلى أن دخلها الروم
__________
1 محمد بن يحيى التمار: ترجمة في نيل الابتهاج ص"227".
2 بكر بن العلاء القشيري أبو الفضل "بصري": أبو الفضل المصري القشيري البصري، توفي سنة "344":
شجرة النور الزكية "79" ترجمة "139".(2/132)
سنة 350 خمسين وثلاثمائة، وملكوها، فأسر فيمن أسر، وذهب للقسطنطينية أسيرا ذكره في "المدارك"1 ولم يذكر وفاته، وذكر مناظرة وقعت بينه وبين ملكها فانظرها.
415- أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان العنسي 2:
من ولد عمار بن ياسر، أحفظ علماء وقته لمذهب مالك في مصر ورأس علمائها، متفنن في سائر العلوم إلا العربية وكان يلحن مع التدوين والورع. ألف كتاب الزاهي المشهور وغيره إلا أن له غرائب من أقوال مالك وأقوالا شاذة عن قوم لم يشتهروا بصحبته لم يروها الثقاة. توفي سنة 355 خمس وخمسين وثلاثمائة، ووافق موته دخول العبيديين لمصر، وكان شديد الكره لمذهبهم الرافضي، فكان يدعو على نفسه بالموت قبل دولتهم، فأجيبت دعوته وقد ناف الثمانين.
416- أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن مسرة التجيبي 3:
مولاهم الطليطلي الأصل القرطبي الدار، كان حافظا لفقه مالك متقدما فيه، صدرا في الفتيا، يناظر في الفقه، ولم يكن له كبير علم بالحديث، متين الدين، بعيدا عن السلطان، لا تأخذه في الله لومة لائم، قدم للشورى إشارة من
__________
1 "3/ 295".
2 أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان العنسي من ولد عمار: أبو إسحاق، الشهرة ابن القرطبي المصري المالكي، توفي سنة "355":
الميزان "4/ 14"، المعتز "5913"، لسان الميزان "5/ 348"، التمهيد "2/ 181".
3 أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن مسرة التجيبي: التجيبي نسبة إلى تجيب بصيغة المضارع من أجاب اسم امرأة أم قبيلة نسب إليها أولادها. ا. هـ. ابن خلكان، وترجمته في سير أعلام النبلاء "10/ 163"، والديباج المذهب ص"96".(2/133)
ولي العهد الحكم بن الناصر الأموي، وبه كملت عدتهم ستة عشر مستشارا ولم يكن في عصره أكثر منه خيرا ولا أكمل ورعا.
له كتاب "النصائح" مشهور، وكتاب "معالم الطهارة" وكان صليبا قليل الهيبة للملوك، راوده الحكم المستنصر أن يأتيه يوما بولده أحمد وكان صغيرا، وعزم عليه في ذلك، فاعتذر إليه، وقال: لا يقول الناس هذا الشيخ المرائي استجلب بولده دراهم السلطان، فأعفاه من ذلك. وكان عند والده الناصر "أعذار" واحتفل في استدعاء وجوه الناس، ولم يتخلف إلا أبو إبراهيم، فساءه، وكتب إليه يعتبه ويطل بمنه وجه عذره.
فأجابه بما نصه: سلام على الأمير سيدي ورحمة الله قرأت أبقى الله الأمير سيدي كتابك وفهمته، ولم يكن توقفي لنفسي إنما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقاه الله ولسلطاته لعلمي بمذهبه وسكوني إلى تقواه، واقتفائه لأثر سلفه الطيب رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يستبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنونها بها يشينها ويغض منها، ويطرق إلى تنقيصها يستعدون بها لدينهم، ويتزينون بها عند رعاياهم ومن يفد عليهم من قصادهم، فلهذا تخلفت، ولعلمي بمذهبه وفقه الله.
فلما قرأ الكتاب الحكم، أعلم أباه الناصر، فاستحسن اعتذاره. توفي أبو إبراهيم بطليطلة خرج مع الحكم غازيا سنة 355 اثنين أو أربع أو خمس وخمسين وثلاثمائة عن خمس وسبعين سنة، ولما علم الحكم بموته وكان فتح عليه حصن قال: لا أدري بأي الفرحتين أسر بأخذ الحصن، أو موت إسحاق؛ لخوفه منه، وطوع العامة له. ا. هـ. بخ "المدارك" فانظر رحمك الله كيف كان عز الورع وعز الصلابة في الدين، وخوف الخلفاء من العلماء.
417- أبو ميمونة دراس بن إسماعيل الجراوي 1
الفاسي المشهور بالمحدث، كان فقيها حافظا للرأي، له رحلة للمشرق
__________
1 أبو ميمون دراس بن إسماعيل الجراوي الفاسي "المحدث": أبو ميمونة الفقيه الفاسي. حاشية الإكمال "7/ 81"، تاريخ علماء الأندلس "46".(2/134)
فسمع من علي بن مطر بالإسكندرية كتاب ابن المواز، وأخذ بالقيروان عن أبي بكر بن اللباد، وقرأ عليه أبو الحسن القابسي، وابن أبي زيد وغيرهما، وتكرر دخوله للأندلس مجاهدا، وسمع منه فيها غير واحد، وهو الذي أدخل مذهب مالك إلى فاس، بل المغرب الأقصى، وكانوا قبله على مذهب الحنفية.
قال أبو بكر المالكي: كان من الحفاظ المعدودين والأئمة المبرزين من أهل الفضل والدين.
وفي "المدارك" لما طرأ القيروان، اطلع الناس من حفظه على أمر عظيم حتى يقال: ليس في وقته أحفظ منه، وكان نزوله على ابن أبي زيد وأظهر تفسيره لعلماء القيروان، وشفوفه على كثير منهم. ا. هـ.
توفي سنة 357 سبع وخمسين وثلاثمائة على ما في ابن الفرضي، وفي تاريخ الأفارقة ثمان وخمسين، وقبره خارج باب الجيزيين بفاس مشهور وله مسجد بمصموده بفاس معروف إلى الآن من أقوم مساجدها قبلة.
418- أبو عبد الله محمد بن حارث الخشني 1:
الأفريقي، ثم القرطبي وقد دخل سبتة وهو الذي حقق قبلة جامعها، وتولى ببجاية المواريث، له التآليف الحسنة ككتاب "الاتفاق والاختلاف" في مذهب مالك، وكتاب "رأي مالك الذي خالفه فيه أصحابه" وكتاب "طبقات المالكية" وتاريخ وصلت كتبه مائة ديوان. توفي سنة 361 إحدى وستين وثلاثمائة.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن حارث الخشني الأفريقي ثم القرطبي: أبو عبد الله الخشني القيرواني المغربي المحاسبي الشهرة ابن حارث، توفي سنة "371 أو 370":
سير النبلاء "16/ 165"، معجم طبقات الحفاظ ص"154"، تراجم المؤلفين التونسيين "2/ 205"، تاريخ علماء الأندلس ص"112"، العبر "2/ 324"، معجم المؤلفين "9/ 168".(2/135)
419- أبو حنيفة النعمان بن محمد الداعي بن منصور بن أحمد بن حيون 1:
أحد الأئمة الفضلاء المشار إليهم بالفقه والدين والنبل، وله تصانيف منها كتاب "اختلاف أصول المذهب" وكتاب "الأخبار" في الفقه، وكتاب "الاقتصار" فيه أيضا، وكتاب "ابتداء الدعوة للعبيديين" وكان مالكي المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإمامية.
قال ابن زولاق في كتاب "أخبار قضاة مصر": إنه كان في غاية الفضل من أهل القرآن والعلم بمعانيه، عالما بوجوه الفقه واختلاف الفقهاء والشعر، وأيام الناس مع العقل والإنصاف، وألف أهل البيت من الكتب آلافا من الأوراق بأحسن تأليف.
وله ردود على أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن سريج، وكتاب "اختلاف الفقهاء" وشعر لأهل البيت، وله القصيدة المنتخبة في الفقه، وكان ملازما صحبة المعز أبي تميم الفاطمي، قدم أفريقية معه كان قاضيه بها.
وتوفي سنة 363 ثلاث وستين وثلاثمائة وقد ولي القضاء بمصر ولده علي أشركه إياه المعز مع أبي طاهر محمد الذهلي، وزاد لعلي دار الضرب والنظر في الجامعين، ثم استقل بالقضاء وحده على الديار المصرية والشام والحرمين والمغرب وجميع مملكة العزيز الفاطمي والخطابة والإمامة والعيار في الذهب والفضة والموازين والمكاييل، وبقي القضاء في بيتهم مدة طويلة، فتولى أخوه وولده وولد أخيه إلى آخر القرن الرابع.
وكان فيهم علم على ما كان من مذهب الإمامية الآخذين به، والناشرين له. انظر ابن خلكان.
__________
1 أبو حنيفة النعمان بن محمد: ترجمته في سير النبلاء "10/ 182"، ولسان الميزان "6/ 167"، وشذرات الذهب "3/ 47".(2/136)
420- أبو بكر محمد بن عبيد الله المعيطي الأندلسي 1:
من أبناء الأشراف، كان حافظا للفقه، عالما بمذهب مالك، وكان الحكم الأموي أمير المؤمنين كلفه هو وأباه عمر الإشبيلي بإتمام كتاب "الاستيعاب" الذي كان ابتدأه بتأليف بعض أصحاب القاضي إسماعيل في العراق جعله ديوانا جامعا لقول مالك خاصة دون أصحابه، ولم يكمل منه إلا خمسة أجزاء، وفتح لهما خزائنه، فجمعا الأسمعة حيث كان من رواية المدنيين والمصريين والشاميين والعراقيين والأفريقيين، فأكملاه في مائة جزء، ولما رفعاه للحكم، سر به وأمر لهما بألفي دينار لكل واحد، وكسوة، وقدمهما للشورى.
قال في "المدارك": رحل المعيطي إلى المشرق وهو ابن ثلاثين وكان ورعا زاهدا، وفي آخر عمره تبتل ولبس الصوف، وتوسد الأرض، واعتزل امرأته باختيارها، فصار لا يجالس أحدا البتة بعد ما كان ذا رياسة في العلم والخير، وشور وعظم جاهه، وكان تبتله سبعة عشر شهرا مات فيها وهو ينيف على الأربعين فقط قبل أقرانه. وصلى عليه أبوه سنة 367 سبع وستين وثلاثمائة.
421- أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي 2:
السدوسي البغدادي، ولي قضاء بغداد وواسط ودمشق ومصر. دخلها
__________
1 أبو بكر محمد بن عبيد الله المعيطي الأندلسي: ترجمته في الديباج المذهب ص"266، 267".
2 أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي السدوسي البغدادي: يقال محمد بن أحمد بن عبد الله أبو الطاهر، الذهلي القاضي المالكي البجيري البغدادي، ولد سنة "279"، توفي سنة "367":
تاريخ بغداد "1/ 313"، الأنساب "2/ 97"، الوافي بالوفيات "2/ 45"، الإكمال "1/ 196"، سير النبلاء "16/ 204"، الأعلام "5/ 311"، التمهيد "8/ 286"، العبر "2/ 344".(2/137)
سنة 340 أربعين وثلاثمائة، ولم يتول قضاءها أحد تولى قضاء بغداد غيره وغير يحيى بن أكثم اعتنى به أبوه في صغره، فسمع من عبد الله ابن الإمام أحمد وعلي بن محمد السمار وغيرهما.
وقال عن نفسه: إني كتبت العلم بيدي ولي تسع سنين، وسمع منه عامة أهل مصر، والحافظ الدارقطني، وأبو شامة الهروي، وخلائق. كان ثقة كثير السماع جليلا في الحديث والقضاء متفننا في علوم، وكان يذهب إلى قول مالك، ألف كتابا أجاب فيه عن مسائل مختصر المزني على مذهب مالك، وربما اختار خلافه كعدم الحكم بالشاهد واليمين، ويحكى أن أباه وإسماعيل القاضي كانا مالكيين، ولا يحكمان به.
ومما استحسن من كلامه أنه تلقى الخليفة المعز العبيدي ثم الفاطمي بالإسكندرية، وكان معه قاضيه النعمان بن محمد، فسأله المعز: كم رأيت من خليفة؟ قال: واحد فقال: ومن هو؟ قال: أنت والباقي كلهم ملوك، ثم قال له: أحججت؟ قال: نعم، قال: وزرت؟ قال: نعم، قال: سلمت على الشيخين، قال شلغني عنهما النبي -صلى الله عليه وسلم، كما شغلني أمير المؤمنين عن ولي عهده، فأرضى الخليفة وتخلص من ولي عهده؛ إذ كان لم يسلم عليه بحضرة الخليفة، فازداد الخليفة به عجبا، وخلع عليه، وأبقاه على ولايته التي كان ولاه إياه جوهر الكاتب، وأجازه بعشر آلاف درهم، وأقام قاضيا بها ست عشرة سنة، لكن أشرك معه أبا الحسن علي بن أبي حنيفة بن حيون القيرواني كما سبق.
ولد سنة تسع وسبعين ومائتين وهي سنة النجباء التي ولد بها جعفر بن الفرات، والحسن بن القاسم بن عبيد الله وغيرهما. توفي سنة 367 سبع وستين وثلاثمائة، ومن قصته هذه تعلم أخلاق القضاة في ذلك الزمان، وما كانوا يقاسونه في الضغط على الفكر من الأمراء الجائرين، وكيف يتخلصون.(2/138)
422- عبد الله بن الحسن بن الجلاب 1:
وفي "المدارك" عبيد الله بالتصغير وكناه أبا القاسم أو أبا الحسين، وحكى عن الشيرازي أن اسمه عبد الرحمن، والصواب عبيد الله بصري تفقه بالأبهري، وكان من أحفظ أصحابه، وأخذ عنه أبو محمد عبد الوهاب بن نصر القاضي وغيره، له كتاب في مسائل الخلاف، وكتاب التفريع في المذهب مشهور. توفي سنة 378 ثمان وسبعين وثلاثمائة.
423- أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله الشهير بابن خويز منداد 2:
روى عن ابن أبي داسة، وتفقه بالأبهري، وأبو الحسن المصيصي، وغيرهم، وله كتاب كبير في الخلاف، وآخر في الأصول، وآخر في أحكام القرآن، وله أقوال في المذهب وآراء انفرد بها كقوله: إن التيمم يرفع الحدث، ولا يعتق على الرجل إلا آباوه وأبناؤه، ويقول في الأصول: إن خبر الواحد يوجب القطع، وإن العبيد لا يدخلون في خطاب الأحرار، ومن أجل هذا قال عياض: إنه ليس بالقول في الفقه، ولم يذكر وفاته، نعم ذكره في أواخر القرن الرابع.
424- محمد بن الحسن بن عبد الله بن مذحج الزبيدي 3:
قاضي إشبيلية وعالم الأندلس وإمام اللغة في وقته، كان مع حفظه في
__________
1 عبد الله بن الحسن بن الجلاب: "ملحوظة: في "المدارك" عبيد الله وكناه أبا القاسم". أربع رسائل "15"، وفيات ابن منقذ "234".
2 أبو بكر بن أحمد بن عبد الله الشهير بابن خويز منداد: أبو عبد الله أبو بكر، مات في حدود الأربعمائة. نسيم الرياض "14/ 141".
3 محمد بن الحسن بن عبد الله بن مذحج الزبيدي قاضي إشبيلية: أبو بكر الزبيدي الإشبيلي، ولد سنة "316"، توفي سنة "379": معجم المؤلفين "9/ 198، 199"، والحاشية، وفيات الأعيان "4/ 372".(2/139)
الفقه وإتقانه أعلم أهل زمانه باللغة والأدب والشعر. قال ابن حيان: لم يكن له في هذا الباب نظير في الأندلس مع افتتان في علوم كثيرة، من فقه وحديث وفضل واستقامة، وكان ابن زرب يقدمه ويفضله ويزوره، له كتاب الأبنية، وكتاب لحن العوام، ومختصر العين، وزيادة كتاب العين، وكتاب غلط صاحب العين، وله كتاب في الرد على محمد بن مسرة. توفي سنة 377 سبع وسبعين وثلاثمائة.
425- أبو محمد عبد الله بن أبي زيد النفزي 1:
نسبا القيرواني إمام المالكية في وقته، وجامع مذهب مالك، وشارح أقواله والمنتصر له، واسع العلم، فصيح القلم واللسان، شاعر متفنن مع الصلاح والعفة والورع.
كانت له الرحلة من الآفاق ونجب أصحابه، وملأت البلاد تآليفه، حتى قيل فيه: مالك الصغير. وهو وطبقته آخر المتقديم وأول المتأخرين، فكان تاريخ هذه الطبقة فاصلا بين التاريخين للفقه.
قال فيه حافظ المغرب أبو الحسن بن عبد الله القطان: ما قلدته حتى رأيت النسائي يقلده، واستجازه ابن مجاهد من بغداد وغيره، وقال فيه تلميذه القابسي: إنه إمام موثوق به في ديانته وروايته.
سمع من خلق كثير كابن اللباد والأبياني والقطان، وابن الأعرابي وخلق كثير، وعنه أبو بكر بن عبد الرحمن والبراذعي، وأبو بكر بن موهب وغيرهم من أهل أفريقية، والأندلس، والمغرب، له كتاب "النوادر" و"الزيادات على المدونة" أوعب فيه الفروع المالكية، فهو في المذهب المالكي كمسند أحمد عنه
__________
1 أبو محمد عبد الله بن أبي زيد النفزي: ترجمته في سير أعلام النبلاء "11/ 3"، وطبقات الفقهاء ص"139" للشيرازي، وتذكرة الحفاظ "3/ 211"، والديباج المذهب ص"136"، وشذرات الذهب "3/ 131".(2/140)
المحدثين إذا لم توجد فيه المسألة فالغالب أن لا نص فيها، ينيف على المائة جزء، وله "مختصر المدونة" وعلى هذين معول المالكية في عصور بعده وفي عصره، وله "الرسالة" المتداولة الآن بين أيدي أهل المشرق والمغرب، وكتب أخرى كثيرة يطول عدها، فهو من الطبقة العالية في المؤلفين وعندي أنه أحق من يصدق عليه حديث "يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها" 1 هذا في أفريقيا وما قرب منها وفي المشرق القاضي أبو بكر الباقلاني لسان الفقهاء والمتكلمين، وقيل: الأستاذ سهل الصعلوكي، وقيل: أبو حامد الإسفراييني، وتقف على تراجم الكل في هذا المؤلف.
ولك أن تقول: إن ابن أبي زيد لم يصل إلى رأس المائة. قلنا: إلغاء الكسر معلوم في كثير من موارد الشريعة المطهرة، وما قارب الشيء يعطي حكمه على رأس المائة يحتمل أنه من المبعث أو الهجرة أو من الوفاة النبوية؛ لأن اصطلاح عد التاريخ من الهجرة إنما كان زمن عمر، ولا يحكم بالمتأخر على المتقدم والله أعلم. على أنه لا مانع أن يعد القيروان في قطره، والأصيلي في قطره، والقاضي عبد الوهاب في قطره، والباقلاني في قطره، وغيرهم، وعلى كل حال، فالذي يصلح لهذه المزية في هذه المائة كثيرون كالقاضي ابن محسود الهواري بفاس، وغيره، و"من" في الحديث تصدق بالواحد والجماعة. والله أعلم. توفي ابن أبي زيد سنة 386 ست وثمانين وثلاثمائة.
426- أبو بكر محمد بن يبقى بن محمد بن زرب 2: قاضي قرطبة، ومفتيها، الموصوف بسعة العلم والنظر والنزاهة والفضل، من
__________
1 أخرجه أبو داود "4291" من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ $"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" وإسناده صحيح، وصححه الحاكم والعراقي. قال ابن كثير: قد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر أنه يعم جملة من العلماء من كل طائفة وكل صنف من مفسر ومحدث وفقيه ونحوي ولغوي وغيرهم.
2 أبو بكر محمد بن يبقى بن محمد بن زرب: ترجمته في جذوة المقتبس "93"، والشذرات "3/ 101"، والديباج المذهب "268، 269".(2/141)
أحفظ أهل زمانه لمسائل مالك، وكان القاضي بن السليم يقول له: لو رآك ابن القاسم لعجب منك، مشارك في الفنون العربية، ورع عفيف، له كتاب "الخصال" في الفقه عارض به كتاب "الخصال" الحنفي، فجاء غاية في الإتقان، ولما ولي القضاء، وجاء الناس لتهنئته، كشف لهم عن صندوق من المال، وقال لهم: إن فشا من مالي ما يناسب هذا، فلا لوم، وإن ظهر علي أكثر منه، وجب مقتي.
توفي سنة 381 إحدى وثمانين وثلاثمائة، وفي "الديباج" إحدى وثلاثين وهو تصحيف.
427- أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله 1:
ابن جعفر الأصيلي من كورة شذونة الأندلسي، ونشأ بأصيلا مرسى قرب طنجة من المغرب الأقصى، وطلب بها العلم، وأبوه من مسلمة أهل الذمة كما في "المدارك" وتفقه بقرطبة على اللؤلؤي وأبان بن عيسى وغيرهم، ورحل للمشرق، فلقي بأفريقية عبد الله بن أبي زيد، والأبياني، وبمصر ابن شعبان، وبمكة أبا بكر الآجري، ولقي بالعراق الأبهري وغيرهم ورجع للأندلس، فانتهت إليه رئاسة المالكية بها، وألف في المذاهب كتبا.
قال الدارقطني؛ لم أر مثله، وقال غيره: كان من حفاظ مذهب مالك والتكلم على الأصول وترك التقليد، ومن أعلم الناس بالحديث، وأبصرهم بعلله ورجاله، وولي قضاء سرقسطة، وكان نظير ابن أبي زيد في القيروان،
__________
1 أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جعفر الأصيلي بن كورة: أبو محمد الأصيلي الأندلسي الفقيه، توفي سنة "392":
الوافي بالوفيات "17/ 7"، تذكرة الحفاظ "3/ 1024"، العبر للذهبي "3/ 52"، تاريخ علماء الأندلس ص"249"، الديباج المذهب "1/ 433، 434"، شذرات الذهب "3/ 140"، نسيم الرياض "2/ 44"، معجم المؤلفين "6/ 18، 19"، بغية المقتبس ص"340"، حاشية الأنساب "1/ 296".(2/142)
وعلى هديه لولا ضجره الشديد وقت غيظه.
ومن فتاويه لابن أبي عامر جواز الصلاة في العمارية التي كان يلزم الصلاة الفريضة فيها في أسفاره، وكان يصلي إيماء للنقرس الذي أصاب قدميه وهي إحدى روايتي ابن القاسم في "المدونة" ومنع ذلك حتى يباشر الأرض أرجح قاله في "المدارك" قال: وكان ينكر الغلو في كرامات الأولياء، ويثبت منها ما صح سنده، ومن كراماته هو ولا ولده، وأمن من كان في المجلس، فأجيب دعاؤه. توفي سنة 392 اثنين وتسعين وثلاثمائة.
وتوفي ولده بعده بأعوام قبلها، وكان في سنة 400 من الفتن والمحن وخراب الأندلس ما كان.
428- أبو بكر محمد بن عبد الله التميمي الشهير بالأبهري 1:
البغدادي ذو التآليف الكثيرة في شرح مذهب مالك والاحتجاج له وناشره في العراق وراء النهر والجبل. أقام ستين سنة على الفتوى والتدريس بجامع المنصور ببغداد، ولم ينجب أحد بالعراق من المالكية بعد إسماعيل القاضي ما أنجب أبو بكر الأبهري، فقد روى عنه الدارقطني والباقلاني والأصيلي، وأجاز لابن أبي زيد وغيرهم، كما أنه لا قرين لهما في المذهب بقطر من الأقطار إلا سحنون في طبقتهما، بل هو أكثر، ثم أبو محمد بن أبي زيد في هذه الطبقة وكان من المقرئين المجودين، وله شرحان على المختصر، وكتاب الأصول، وكتاب إجماع أهل المدينة، وكتاب العوالي في الحديث والأمالي، وغيرها كثير.
ومن كلامه: الدين عز، والعلم كنز، والحلم حرز، والتوكل قوة.
__________
1 أبو بكر محمد بن عبد الله التميمي الشهير بالأبهري البغدادي: ثقات "7/ 425"، مجمع زوائد "3/ 98"، التاريخ الكبير "1/ 136"، الجرح والتعديل "7/ 1686"، لسان الميزان "5/ 238"، الميزان "3/ 612".(2/143)
وعرض القضاء على الأبهري فامتنع، وبعد موته وتلاحق أصحابه به خرج القضاء عن المالكية إلى الشافعية والحنفية، وضعف مذهب مالك في العراق، وقل طالبه؛ لأن الناس تابعون لمذهب الحكومة. توفي الأبهري سنة 395 خمس وتسعين وثلاثمائة والذي في "المدارك" خمس وسبعون بالموحدة بعد السين والعين عن ثمانين ونحوها. ومن أقرانه أبو الفرج عمر بن محمد الليثي، وابن بكير، وأبو بكر محمد بن أحمد بن الجهم وطبقتهم.
429- أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي 1: الشهير بابن القصار صاحب كتاب "مسائل الخلاف" الذي لا أكبر منه عند المالكية، استقضي ببغداد وكانت وفاته سنة 398 ثمان وتسعين وثلاثمائة.
430- أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى بن أبي زمنين 2:
بفتح الزاي والميم وكسر النون المري البيري، من مفاخر غرناطة، وكبار المحدثين، والفقهاء الراسخين أجل أهل وقته فقها وحديثا، متفننا عارفا باختلاف العلماء، متضلعا في الأدب والأخبار والنحو وقرض الشعر، متبتلا متقشفا، دائم الصلاة والبكاء، كثير الصدقة مواسيا بجاهه وماله فصيحا، آخذا بالأفئدة حسن التأليف، له تفسير للقرآن، وشرح للمدونة واختصار لها، ليس في مختصراتها مثله باتفاق، وله كتاب "المنتخب" في الأحكام شهير، واختصار شرح الموطأ لابن مزين، وأصول الوثائق، وكتب مهمة غيرها.
توفي بالبيرة سنة 399 تسع وتسعين وثلاثمائة عن خمس وسبعين، ولا
__________
1 أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي الشهير بابن القصار: البغدادي. إفادة النصيح "ص40"، الديباج المذهب "199".
2 أبو عبد الله محمد بن عبد بن عيسى بن أبي زمنين المري البيري: سير أعلام النبلاء "11/ 42، 43"، وجذوة المقتبس "53"، وشذرات الذهب "3/ 156"، والديباج المذهب "269".(2/144)
يبعد عده من المجددين بقطره.
431- أحمد بن سعيد بن إبراهيم الهمداني 1
المعروف بابن الهندي، واحد عصره في علم الشروط، وأقر له بذلك فقهاء الأندلس طرا، وكتابه في ذلك مفيد جامع يحتوي على علم كثير، وعليه اعتمد حكام الأندلس والمغرب، سلك فيه الطريق الواضح، وتكلم فيه ابن حيان بأنه عديم المروءة، أحد من لاعن زوجته في الأندلس. وذكر في كتابه أشياء منكرة انظر "المدارك" توفي سنة 399 تسع وتسعين وثلاثمائة.
432- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله المعروف بابن العطاء 2:
رئيس الموثقين، كان متفننا في علوم الإسلام، عارفا بالشروط، أملى فيها كتابا، عليه عول أهل زماننا اليوم، وكان يفضل الفقهاء بمعرفته اللسان والنحو، وكان يزري بأصحابه المفتين، ويعجب بما عنده إلى أن تمالئوا عليه بالعداوة، وحملوا قاضي قرطبة ابن زرب على سخطه بجميع أنواع الجراح، وأمضاها ابن أبي عامر، وأمره بملازمة داره، وقطع شوراه، فناله مكروه عظيم، ثم رده إلى الشورى، وأفرده في الشورى ما بين العمال والرعية. توفي في عقب ذي الحجة سنة 399 تسع وتسعين وثلاثمائة.
433- أبو محمد عبد الله بن محمد بن محسود الهواري:
قاضي فارس وإمامها الإمام الزاهد الذي يضرب المثل بورعه وعدله، أخذ عن ابن أبي زيد القيراوني، وأخرج زيادات مختصرة على المدونة وكان شديدا في
__________
1 أحمد بن سعيد بن إبراهيم الهمداني المعروف بابن الهندي: المغرب في حلي المغرب "112"، والديباج المذهب "38".
2 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله "ابن العطار": الوافي بالوفيات "2/ 53".(2/145)
أحكامه، أقام الحدود القتل فما دونه. ومن ورعه لم يثبت أنه عامل أحدا بفاس، بل كان القمح يأتيه من بلده هوارة، والإدام يشترى له من مكناسة، وامرأته تغزل ثيابه، ولم يوجد في تركته سوى حصير الصلاة وإناء الوضوء ومصحف التلاوة.
وفي "الأنيس" أنه توفي سنة إحدى وأربعمائة 401 رحمه الله. وإني لأعده من المجددين على رأس المائة بقطره.
434- أبو عمر أحمد بن عبد الملك المعروف بابن المكوي 1:
الإشبيلي، مولى بني أمية شيخ الأندلس في وقته حتى صار فيها بمنزلة يحيى بن يحيى، واعتلى على الفقهاء، ونفذت الأحكام برأيه، لا يداهن السلطان، ولا يدع قول الحق، القريب والبعيد عنده سواء.
استفتاه ابن أبي عامر في قتل عبد الملك بن منذر البلوطي مستظهرا بكتاب بخط يده دال على مؤامرة على قتله، وأفتى بعض الفقهاء بالقتل، فقال ابن المكوي: رجل هم بسيئة ولم يعملها، ولم يجرد سيفا ولا أخاف سبيلا مع أنه ممن قال فيهم عليه السلام: "اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" 2 فلا أرى عليه شيئا ولما صلبه المنصور بن أبي عامر، انقبض ابن المكوي بداره شهرين عن الفتوى إنكارا لما جرى.
كان أحفظ الناس لقول مالك وأصحابه، وهو الذي جمع للحكم مع أبي
__________
1 أبو عمر أحمد بن عبد الملك المعروف بابن المكوي الإشبيلي: سير أعلام النبلاء "11/ 46"، وجذوة المقتبس "123"، والديباج المذهب "39"، وشذرات الذهب "3/ 161".
2 أخرجه أحمد "6/ 181"، وأبو داود "4375"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "3/ 129" عن عائشة، وأخرجه من طريق آخر البخاري في الأدب المفرد ص"456"، وابن حبان "1520"، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الخطيب في تاريخ بغداد "10/ 85، 86"، وأبي نعيم في "تاريخ أصبهان" "2/ 234"، وآخر من حديث ابن عمر عند السهمي في تاريخ جرجان ص"122"، فالحديث صحيح.(2/146)
بكر المعيطي كتاب "الاستيعاب". ابنه ابن الشقاق على قبره بقوله: رحمك الله، فلقد فضحت الفقهاء في حياتك بقوة حفظك، ولتفضحهم بعد مماتك أشهد أني ما رأيت أحفظ للسنة منك، ولا علم أحد من وجوهها ما علمت. وكان في ابتداء أمره بزازا بحانوته بسوق البزازين، فلما شهر في الناس حذقه، واحتاجوا لفتواه، قلده الحكم الشورى برأي القاضي ابن السليم سنة خمس وستين، فانثال الناس عليه، وانقطع تجره، وضعفت حاله، فأخرج له الحكم ألف دينار.
توفي سنة 401 إحدى وأربعمائة.
435- أحمد بن نصر الداوودي الأسدي 1:
أبو جعفر مسيلي أو بسكري الأصل، وسكن طرابلس، ثم نزل تلمسان، وبها توفي، فقيه متقن فاضل مشارك في الحديث والنظر واللسان، له شرح الموطأ، والداعي في الفقه، والنصيحة في شرح البخاري، والإيضاح في الرد على القدرية. توفي سنة 402 اثنتين وأربعمائة.
436- القاضي أبو بكر محمد بن الطيب المعروف بالباقلاني 2
البصري المتكلم المشهور، كان على مذهب الإمام الأشعري، ناصرا طريقته، سكن بغداد، وصنف التصانيف الكثير في علم أصول الدين وغيره، أوحد أهل زمانه، وانتهت إليه رياسة مذهبه، معروف بحسن الاستنباط وسرعة الجواب إذا كان في المناظرة كأنه خطيب، لم ير مثله في فصاحة اللسان، وقوة
__________
1 أحمد بن نصر الداوودي الأسدي أبو جعفر مسيلي: الديباج المذهب "35".
2 القاضي أبو بكر محمد بن الطيب المعروف الباقلاني البصري "المتكلم": أبو بكر الباقلاني البصري المتكلم المعتزلي الأشعري، مات سنة "403"، وقيل سنة "393":
الأنساب "2/ 52"، نسيم الرياض "2/ 298، 4/ 149"، تاريخ بغداد "5/ 379"، سير النبلاء "17/ 190"، معجم المؤلفين "1/ 109، 110"، وفيات الأعيان "4/ 269"، الأعلمي "26/ 294".(2/147)
الجنان، وسهولة التعبير عما في الضمير. قال ابن ناجي في "معالم الإيمان": إنه كان يقرئ المذاهب الأربعة، ويذكر كل مذهب وحجته، ثم يرجح مذهب مالك. ا. هـ. عدد 69 من الجزء الثالث توفي سنة 403 ثلاث وأربعمائة.
والباقلاني بكسر القاف، وفي لامه لغتان، فمن شددها، قصرها، فحذف الألف، ومن خففها، زاد الألف نسبة إلى الباقلاء قصرا ومدا، وزيادة النون في هذه النسبة شذوذ قيل قياس على صنعاني، وقد اعترضها الحريري في "درة الغواص" بأن زيادة النون في صناعني غير مقيس فانظره.
وفي فهرسة محمد بن محمد بن سليمان الروداني الحرمي إمام أهل المغرب والحرمين عن تذكرة الذهبي أن أبا الوليد الباجي قال لأبي ذر الهروي: من أين تمذهبت بمذهب مالك ورأي الأشعري مع أنك هروي؟ فقال: قدمت بغداد، فكنت ماشيا مع أبي الحسن الدارقطني، فلقينا القاضي الباقلاني، فالتزمه الدارقطني، وقبل وجهه وعينه، فلما افترقا، قلت: من هذا؟ قال: هذا إمام المسلمين، والذاب عن الدين القاضي الباقلاني، وفي رواية، هذا سيف السنة، فمن ذلك الوقت تقربت إليه وتمذهبت بمذهبه. ا. هـ.
437- أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري 1:
القيرواني الشهير بابن القابسي، قال في "المدارك": ولم يكن قابسيا، بل هو قسرابي الأصل، وإنما كان عمه يشد عمامته شد القابسيين سمع مع أبي العباس الأبياني، ودارس بن إسماعيل الفاسي وطبقتهما، ورحل للمشرق، فسمع من أبي زيد المروزي وغيره كثير، وكان واسع الرواية عارفا بالحديث وعلله ورجاله، والفقه والأصول، متكلما مؤلفا مجيدا، صالحا متقيا، وكان أعمى،
__________
1 أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القيرواني الشهير بابن القابسي: أبو الحسن، المعافري القابس القروي الشهرة ابن الحسن، ولد سنة "324"، مات سنة "403":
إفادة النصح ص"83"، والأنساب "10/ 286"، طبقات الحفاظ "419"، نسيم الرياض "1/ 145، 4/ 342"، العبر "3/ 85"، سير النبلاء "17/ 158"، تذكرة "3/ 1079"، الأعلام "4/ 326"، وفيات الأعيان "3/ 320"، معجم المؤلفين "7/ 194، 195"، شجرة النور الزكية "97".(2/148)
ومع ذلك كان من أصح الناس كتبا، وأجودهم ضبطا ضبط له سماعه البخاري من ابن أبي زيد رفيقه أبو محمد الأصيلي، أخذ عنه أبو عمران الفاسي وغيره، وجلس مجلس ابن شبلون بعد وفاته.
وكان في حياته أبي الفتوى، وسد بابه دون الناس، فقال لهم أبو القاسم بن شبلون: اكسروا عليه بابه؛ لأنه وجب عليه فرض الفتيا؛ لأنه أعلم من بقي بالقيروان، فلما رأى خرج إليهم وأنشد:
لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعي الهشيم
له كتب عديدة كمخلص الموطأ، وكتاب "الممهد" في الفقه، و"أحكام الديانة" وكتاب "المنقذ من شبه التأويل"، و"المنبه للفطن عن غوائل الفتن" والرسالة المفصلة لأحوال المتقين، وكتاب "أحمية الحصون" وكتاب "رتب العلم وأحوال أهله" وغيرها. توفي سنة 403 ثلاث وأربعمائة عن تسع وسبعين.(2/149)
بعض أصحاب الشافعي الذين نشروا مذهبه في القرنين الثالث والرابع:
438- أولهم أبو يعقوب يوسف بن يحيى القرشي البويطي 1:
المصري الفقيه، صاحبه وخليفته في حلقته، روى عن ابن وهب، وعنه الربيع، وأبو حاتم، وقال: صدوق، قال الخطيب، حمل إلى بغداد ليقول بخلق القرآن، فامتنع، فحبس إلى أن مات، وكان صالحا متعبدا زاهدا، وهو صاحب المختصر المشهور الذي اختصره من كلام الشافعي، وكان الشافعي يحيل عليه الفتيا إذا جاءته المسألة، وقد تخرج به جماعة نشروا مذهب الشافعي في الآفاق. توفي سنة 231 إحدى وثلاثين ومائتين.
439- أبو حفص حرملة بن يحيى 2 بن عبد الله بن حرملة بن عمران التجيبي المصري:
روى عنه الشافعي، وابن وهب قيل: إنه روى عنه مائة ألف حديث. روى
__________
1 أبو يعقوب يوسف بن يحيى القرشي البويطي المصري: أبو يعقوب، القرشي البويطي المصري، توفي سنة "231" أو سنة "232":
تقريب التهذيب "2/ 383"، تهذيب التهذيب "11/ 327"، تهذيب الكمال "3/ 1563"، الكاشف "3/ 301"، الخلاصة "3/ 190"، العبر "1/ 411"، الجرح والتعديل "9/ 988".
2 أبو حفص حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران التجيبي المصري: أبو عبد الله،=(2/150)
عنه مسلم والنسائي وابن ماجه. تكلم فيه أبو حاتم وغيره، وأثنى عليه ابن معين وغيره. صنف "المبسوط" و"المختصر" توفي سنة 243 ثلاث وأربعين ومائتين.
440- أبو علي الحسين بن علي بن يزيد 1 الكرابيسي:
الفقيه البغدادي، أشهرهم بانتياب مجلس الشافعي وأحفظهم لمذهبه، وله تصانيف كثيرة، أجازه الشافعي بكتب الزعفراني. توفي سنة 245 خمس وأربعين ومائتين.
441- أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني 2:
البغدادي أثبت رواة القول القديم للشافعي الذي كان يذهب إليه في العراق، والكتاب العراقي منسوب إليه، كان قارئ الشافعي في مجلسه ببغداد. روى عن ابن عيينة وعبيدة بن حميد، ويحيى بن عباد وغيرهم، وروى عنه البخاري في "الصحيح" وأصحاب السنن الأربعة وثقه النسائي، وأبو الحسن بن المنادي، وذكره ابن حبان في "الثقاة" قال ابن مخلد: توفي سنة 260 ستين ومائتين.
__________
1 أبو علي الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي الفقيه البغدادي: سير أعلام النبلاء "8/ 164"، تاريخ بغداد "8/ 64"، ووفيات الأعيان "2/ 132"، وتهذيب الأسماء واللغات "2/ 84"، وتهذيب التهذيب "2/ 359"، وطبقات الشافعية "1/ 251".
2 أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني البغدادي: وفيات الأعيان "2/ 73"، وتاريخ بغداد "7/ 407"، وتهذيب التهذيب "2/ 318"، وتذكرة الحفاظ "525"، وطبقات الشافعية "1/ 250".(2/151)
442- أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري 1:
كان زاهدا عالما مجتهدا محجاجا غواصا على الدقائق، إمام الشافعية وأعرفهم بأقوال إمامهم، مؤلف الكتب التي عليها مدار مذهب الشافعي، لكن الشافعية يعتبرونه مجتهدا مطلقا، ويعدون اختياراته خارجة عن المذهب على قلتها. توفي سنة 364 أربع وستين ومائتين.
443- أبو موسى يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص الصدفي 2:
المصري أحد الأعلام، روى عنه الشافعي الحديث والفقه، وابن عيينة، وابن وهب، وطائفة. روى عنه مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم. قال فيه يحيى بن حسان: ركن من أركان الإسلام، ولم يتكلم فيه أحد، ولا نقموا عليه إلا روايته عن الشافعي حديث "لا مهدي إلا عيسى"3 الذي تفرد به الشافعي عن شيخ مجهول وهو محمد بن خالد الجندي، وانفرد بإخراجه ابن ماجه عن يونس المذكور.
أقام يونس يشهد ستين سنة، وكان القاضي بكار صاحبا له، فسأله يوما من أين المعيشة؟ فقال: ومن وقف وقفة أبي، فقال بكار: أيكفيك؟ قال: تكفيت به. وقد سألني القاضي، فأريد أن أسأله، قال: سل، قال: هل ركب القاضي دين
__________
1 أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري: طبقات الشافعية "1/ 238"، ووفيات الأعيان "1/ 267".
2 أبو موسى يونس عبد الأعلى بن موسى بن ميسرى بن حفص الصدفي المصري أحد الأعلام: تهذيب التهذيب "11/ 440"، وغاية النهاية "2/ 406"، وطبقات الشافعية "1/ 279".
3 أخرجه ابن ماجه "4049"، عن يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي، عن محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن، عن أنس، ومحمد بن خالد الجندي مجهول، والحسن قد عنعن، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال في ترجمة يونس بن عبد الأعلى: انفرد عن الشافعي بحديث "لا مهدي إلا ابن مريم" وهو منكر جدا.(2/152)
بالبصرة حتى تولى بسببه القضاء؟ قال: لا، قال: فهل رزق ولدا أحوجه إلى ذلك؟ قال: لا ما نكحت قط، قال: فهل لك عيال كثيرة؟ قال: لا، قال: فهل أجبر كالسلطان، وعرض عليك العذاب وخوفك؟ قال: لا، قال: فقد ضربت أيها القاضي آباط الإبل من البصرة إلى مصر لغير ضرورة ولا حاجة، لا دخلت عليك أبدا فقال: يا أبا موسى أقلني، قال أنت بدأت المسألة، ولو سكت لسكتنا ولم يعد إليه. وقال الشافعي يوما: هل رأيت بغداد؟ قال: لا، قال له: ما رأيت الدنيا ولا رأيت الناس. توفي سنة 264 أربع وستين ومائتين.
444- أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي 1:
مولاهم المصري، مؤذن الفسطاط، وصاحب الشافعي، وراوي كتب الأمهات عنه، وعنه أبو داود والنسائي، وابن ماجه وهو أثبت عن الشافعية من المزني في نقل أقوال الشافعي على عظم مكانته؛ لأن الشافعي قال فيه: الربيع راويتي وما خدمني أحد ما خدمني الربيع. وكان يقول له: لو أمكنني أن أطعمك العلم، لأطعمتك، وهو آخر من روى عن الشافعي بمصر. توفي سنة 370 سبعين ومائتين.
445- أبو القاسم عثمان بن سعيد الأحول الأنماطي 2: من كبار الشافعية، كان السبب في نشاط الناس في كتاب الشافعي ببغداد وتحفظها. توفي سنة 288 ثمان وثمانين ومائتين.
__________
1 أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي مولاهم المصري: طبقات الشافعية "1/ 259"، ووفيات الأعيان "2/ 292".
2 أبو القاسم عثمان بن سعيد الأحوال الأنماطي: أبو القاسم، مات سنة "288"، ببغداد:
تاريخ بغداد "11/ 292، 293"، وفيات الأعيان "3/ 241"، عبر المؤلف "2/ 81"، طبقات الشافعية للسبكي "2/ 301، 302"، البداية والنهاية "11/ 285"، شذرات الذهب "2/ 198".(2/153)
446- أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي 1: لم يكن للشافعية في وقته أرأس منه، ولا أورع ولا أكثر تقللا سكن بغداد، وكان ثقة زاهدا. توفي سنة 295 خمس وتسعين ومائتين بعد أن اختلط.
447- أبو عبد الله محمد بن بن يحيى بن منده 2:
بفتح الميم العبدي الحافظ المشهور، صاحب كتاب "تاريخ أصبهان" أحد الثقاة الكبار، له الشهرة التي يستغنى بها عن التعريف. توفي سنة 301 إحدى وثلاثمائة، وليس هذا صاحب كتاب معرفة الصحابة، بل ذاك هو حفيد هذا، وهو محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى وتقدمت ترجمته في المجتهدين.
448- أبو زرعة محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زرعة الثقفي 3:
مولاهم قاضي دمشق، يقال إنه أول من أدخل مذهب الشافعي إلى دمشق، وأنه كان يهب لم يحفظ مختصر المزني مائة دينار، ولي مصر سنة
__________
1 أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي: أبو جعفر، الفقيه الشافعي الترمذي، ولد سنة "200"، مات سنة "295":
تاريخ بغداد "1/ 365"، الأنساب "3/ 44"، الوافي بالوافيات "2/ 70"، تهذيب الأسماء للنووي "683"، سير النبلاء "13/ 545"، وحاشية التاج المكلل "109"، وفيات الأعيان "4/ 195"، ودائرة معارف الأعلمي "26/ 163، 143".
2 أبو عبد الله محمد بن يحيى بن منده العبدي: أبو عبد الله، العبدي الأصبهاني، الشهرة ابن منده، مات سنة "301":
الأعلام "7/ 135"، الوافي بالوفيات "5/ 189"، أصبهان "2/ 222"، معجم طبقات الحفاظ ص"170"، التاج المكلل ص"118"، سير النبلاء "14/ 188"، معجم المؤلفين "12/ 111"، وفيات الأعيان "4/ 289"، العبر "3/ 120"، الأعلمي "8/ 564"، تبصير المنتبه "3/ 846"، الجرح والتعديل "8/ 564".
3 أبو زرعة محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زرعة الثقفي: أبو زرعة، الثقفي الدمشقي - القاضي:
سير النبلاء "14/ 231"، والحاشية.(2/154)
284، وكان يذهب إلى قول الشافعي، ويوالي عليه، وكان له مال كثير وضياع كبار بالشام. توفي سنة 302 اثنين وثلاثمائة.
449- أبو علي الحسن بن القاسم الطبري البغدادي 1: له كتاب "المحرر" في النظر، وهو أول كتاب صنف في الخلاف المجرد، وكتاب "الإفصاح" في الفقه، وكتاب "العدة" في عشرة أجزاء وكتاب في الأصول، وآخر في الجدل. توفي سنة 305 خمس وثلاثمائة.
450- أحمد بن عمرو بن سريج 2:
القاضي بشيراز ثم بغداد أحد عظماء الشافعية وأئمة الإسلام يقال له: الباز الأشهب، بلغت كتبه أربعمائة، تفقه على الأنماطي والزعفراني وأبي داود السجستاني، وتفقه عليه أبو القاسم الطبراني، وغيره، قال المطوعي: هو سيد طبقته بإطباق الفقهاء، وعده السكبي في "الطبقات" مجددا على رأس المائة.
وعندي أن أحق من يعد مجددا القاضي إسماعيل، والإمام أبو الحسن الأشعري، الأول في الفروق، والثاني في الأصول، راجع ترجمتهما؛ إذ كل منهما خدم الدين خدمة عامة تعود بالخير على جميع المذاهب الإسلامية، وقد اختار ابن عساكر شافعي أيضا، وعن ابن سريج: يؤتى يوم القيامة بالشافعي، وقد تعلق بالمزني يقول: رب هذا أفسد علومي فأقول أنا: مهلا بأبي إبراهيم، فإني لم أزل في إصلاح ما أفسده.
فتأمل هذا كيف يسوغ أن يقال: يؤتى بفلان يوم القيامة يقول كذا، ومثله لا يقال بالرأي، وكم من هذه الخرافات في "الطبقات" وأيضا منها تعلم ما وقع في
__________
1 أبو علي الحسن بن القاسم الطبري البغدادي: سير أعلام النبلاء "10/ 159 9"، ووفيات الأعيان "2/ 76"، وطبقات الشافعية "2/ 217"، وتاريخ بغداد "8/ 78"، وشذرات الذهب "3/ 3".
2 أحمد بن عمر بن سريج: سير أعلام النبلاء "9/ 189"، وتاريخ بغداد "4/ 287"، ووفيات الأعيان "1/ 66"، وطبقات الشافعية "2/ 87"، وتذكرة الحفاظ "811".(2/155)
المذاهب في هذا القرن من الإفساد على قرب عهده بالمؤسس، وأصل الفساد الاختصار مع أن مختصر المزني الصغير يعول الشافعية في مذهبهم، كما أن مختصر البراذعي عند المالكية معتمد، وكل منهما قد أفسد مواضع بسبب الاختصار على أن اختصارهما تطويل بالنسبة لاختصار خليل.
توفي ابن سريج سنة 306 ست وثلاثمائة.
451- أبو عوانة يعقوب بن إسحاق النيسابوري 1:
ثم الإسفراييني، الحافظ صاحب المسند الصحيح المخرج على كتاب مسلم. كان من المحدثين العظام، والفقهاء الأعلام طاف الشام ومصر، والبصرة، والكوفة، وواسط، والحجاز، والجزيرة واليمن وأصبهان والري وفارس، وسمع من أعلامها كيونس بن عبد الأعلى والزعفراني والإمام مسلم، ومحمد بن يحيى الذهلي وغيرهم، وأخذ عنه أعلام، أثنى عليه الإمام الحاكم وغيره.
قال عمر بن الصفار: إن أبا عوانة هو الذي أظهر مذهب الشافعي بإسفرايين، وبها توفي سنة 316 ست عشرة وثلاثمائة، وعوانة بفتح العين المهملة وبعد الألف نون قاله ابن خلكان.
452- أبو علي الحسين بن صالح بن خيران 2:
من أفاضل الشيوخ المتورعين عرض عليه قضاء بغداد فلم يقبل، فوكل الوزير أبو الحسن بن عيسى بداره مترسما من الجند، فقيل له: إن العلماء سواه
__________
1 أبو عوانة يعقوب بن إسحاق النيسابوري الإسفراييني: أبو عوانة، النيسابوري الإسفراييني المهرجان، توفي سنة "316":
الأنساب "1/ 223"، التاج المكلل ص"15"، التقييد "2/ 316"، در السحابة "828"، سير النبلاء "14/ 416"، والحاشية، الأعلام "8/ 196"، والحاشية، وفيات الأعيان "6/ 393"، معجم المؤلفين "13/ 242".
2 أبو علي الحسين بن صالح بن خيران: تاريخ بغداد "8/ 53".(2/156)
كثير، فقال: قصدنا أن يقال: إن في زماننا من وكل بداره ليتولى القضاء فلم يقبل، وكان يعاتب ابن سريج على تولية القضاء، ويقول: هذا الأمر إنما كان في الحنفية. توفي سنة 320 وصحح الدارقطني والخطيب أنها سنة عشر وثلاثمائة، وخيران بفتح الخاء المعجمة.
453- أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري 1:
الإمام الحافظ راوية الإمام البخاري، وآخر من سمع منه، رحلوا إليه من أقطار الأرض. توفي سنة 320 عشرين وثلاثمائة عن تسع وثمانين سنة، وفربر بفتح الفاء والراء: بلدة على نهر جيجون مما يلي بخارى.
454- أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم بن إدريس بن المنذر 2:
ابن داود الحنظلي حافظ الري وابن حافظها، الإمام ابن الإمام، له المصنفات العظيمة مثل التفسير في أربع مجلدات، كله آثار مسندة، وكتاب الجرح والتعديل في مجلدات، وكتاب المسند في ألف جزء، وكتاب العلل، وله كتب أخرى في الفقه وغيره. انظر "الطبقات" كان مشهورا بالزهد والورع، والحفظ والإتقان، وله رحلتان استفاد فيهما علما عظيما، إحداهما مع أبيه. توفي سنة 327 سبع وعشرين وثلاثمائة.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري: أبو عبد الله، الحمومي الغربوي الفريري: الأنساب "4/ 259، 10/ 170"، الإكمال "7/ 84"، عنوان الدراية "139"، التمهيد "2/ 65"، سير النبلاء "15/ 10"، المعين "1232"، حاشية التحبير "1/ 166"، وفيات الأعيان "4/ 290، 3/ 217"، التقييد "1/ 131"، الوافي بالوفيات "5/ 245"، الأعلمي "27/ 148".
2 أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم بن إدريس بن المنذر بن داود الحنظلي: تذكرة الحفاظ "3/ 46"، وفوات الوفيات "1/ 360"، وطبقة الحنابلة "2/ 55".(2/157)
455- أبو سعيد الحسن بن أحمد الإصطخري 1:
كان من نظراء أبي العباس بن سريج وأقران ابن أبي هريرة، له مصنفات حسنة في الفقه، ككتاب "الأقضية" وتولي حسبة بغداد، وكان ورعا متقللا، استقضاه المقتدر على سجستان، فوجد معظم أنكحتهم بدون ولي، فأبطلها عن آخرها. توفي سنة 328 ثمان وعشرين وثلاثمائة والإصطخر بكسر الهمزة وسكون الصاد وفتح الطاء المهملة وسكون الخاء المعجمة من بلاد فارس.
456- أبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي 2:
الإمام الأصولي كان يقال: إنه أعلم خلق الله بالأصول بعد الشافعي، تفقه على ابن سريج وغيره. ومن تصانيفه كتاب في الأصول عجيب، وشرح رسالة الشافعي، وكتاب الإجماع وغيره. توفي سنة 330 ثلاثين وثلاثمائة، وهو أول من صنف من الشافعية في علم الشروط يعني التوثيق.
457- الإمام محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير الشاشي 3:
الإمام الجليل أحد أئمة الدهر، ذو الباع الواسع في العلوم، له مصنفات كثيرة ليس لأحد مثلها، وهو أول من صنف الجدل من الفقهاء يعني الشافعية،
__________
1 أبو سعيد الحسن بن أحمد الإصطرخي: تهذيب الأسماء "2/ 237"، ووفيات الأعيان "2/ 74"، وتاريخ بغداد "7/ 268"، وشذرات الذهب "2/ 312".
2 أبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي الإمام الأصولي: تاريخ بغداد "5/ 449"، ووفيات الأعيان "4/ 199"، وطبقات الشافعية "2/ 169"، وتهذيب الأسماء "2/ 193".
3 محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير الشاشي: أبو بكر، القفال الشاشي، الكبير الشافعي، ولد سنة "291"، مات سنة "663" أو "365" أو "371":
الأنساب "8/ 14، 10/ 470"، نسيم الرياض "4/ 546"، الوافي الوفيات "4/ 112"، التاج المكلل ص"110"، سير النبلاء "16/ 283"، معجم المؤلفين "10/ 308"، وفيات الأعيان "4/ 200"، الأعلمي "27/ 58".(2/158)
وتقدم أن ابن سحنون أول من ألف فيه من المالكية قبله، وعنه انتشر فقه الشافعي بما وراء النهر. سمع من عبد الله المدائني، وابن خزيمة، وابن جرير الطبري، وأبي القاسم البغوي، وروى عنه ابن منده والحليمي كان معتزليا أولا، ثم صار سنيا أشعريا.
توفي سنة 336 ست وثلاثن وثلاثمائة والإمام الشاشي هو الذي أجاب عن القصيدة التي وردت من نقفور عظيم الروم بالقسطنطينية التي قول في أولها:
من الملك الطهر المسيحي رسالة ... إلى قائم بالملك من آل هاشم
إلى أن قال:
ملكنا عليكم حين جار قويكم ... وعاملتكم بالمنكرات العظائم
قضاتكم باعوا جهارا قضاءهم ... كبيع ابن يعقوب ببخس دراهم
شيوخكم بالزور طرا تشاهدوا ... وبالبز والبرطيل في كل عالم
فأجاب القفال بقصيدة فاخرة من أحسن ما يرد به، وقال مجيبا على القول المذكور:
وقلتم ملكناكم بجور قضاتكم ... وبيع أحكامهم بالدراهم
وفي ذاك إقرار بصحة ديننا ... وأنا ظلمنا فابتلينا بظالم
فانظر القصيدة الأصلية وجوابها في "الطبقات" السبكية ففيها عبرة، وبها تعلم ما كان الإسلام مبتلى به في القرن المذكور من الرشا والظلم والزور، وبيع المناصب، فإن الشاشي ما أجاب بالمنع، بل بالتسليم والاعتراف الصريح، وبتأملها تعلم ما كان الروم متصفين به من الغلظة وما كانوا المسلمون موصوفين به من الإنسانية وصدق اللهجة في تلك القرون.(2/159)
458- أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي 1:
إمام عصره في العراق بعد ابن سريج الذي هو شيخه أقام بالعراق دهرا طويلا على نشر المذهب الشافعي حتى أنجب من تلاميذه عدد كثير، وفي آخر عمره ارتحل لمصر. توفي سنة 340 أربعين وثلاثمائة.
459- أبو أحمد محمد بن سعيد بن محمد بن عبد الله 2: ابن أبي القاضي الإمام الكبير أخذ عن أبي إسحاق المروزي والصيرفي وبيته علم بخوارزم شهير، له كتاب "الحاوي" و"العمدة" القديمان في الفقه الشافعي وغيرهما، ولم يذكر في طبقة المحدثين. توفي سنة 340 أربعين وثلاثمائة.
460- أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بابن الحداد 3: كان بحرا واسعا في الفقه واللغة والغوص في المعاني الدقيقة والاستنباط، له كتاب الباهر، وكتاب أدب الأقضية، ولد يوم مات المزني. توفي سنة 345 خمس وأربعين وثلاثمائة.
461- أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة 4:
القاضي الإمام الجليل كان أحد شيوخ الشافعيين ببغداد. توفي سنة 345 خمس وأربعين وثلاثمائة، له شرح مختصر المزني، ومسائل في الفروع، وتخرج به
__________
1 أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي: وفيات الأعيان "1/ 26"، تاريخ بغداد "6/ 11".
2 أبو أحمد محمد بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن أبي القاضي: طبقات الشافعية "2/ 159".
3 أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بابن الحداد: أبو بكر، الحداد، مات سنة "344":
المتظم "6/ 379"، سير أعلام النبلاء "10/ 110"، ووفيات الأعيان "4/ 197"، وطبقات الشافعية "2/ 112"، وشذرات الذهب "2/ 317".
4 أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة: وفيات الأعيان "2/ 75"، طبقات الشافعية "2/ 206"، وتاريخ بغداد "7/ 298".(2/160)
خلق كثير.
462- أبو السائب عتبة بن عبيد الله بن موسى 1:
أول من ولي قضاء القضاة ببغداد من الشافعية. توفي سنة 350 خمسين وثلاثمائة.
463- أبو حامد أحمد بن بشر العامري المروزي 2: أحد رفعاء المذهب الشافعي وعظمائه، وصدر من صدور الفقه من أصحاب أبي إسحاق، وله كتاب "الجامع" أحاط بالأصول والفروع، وهو عمدة من عمد المذهب. توفي سنة 362 اثنين وستين وثلاثمائة.
464- أبو سهل محمد بن سليمان العجلي 3:
المعروف بالصعلوكي الأصبهاني، النيسابوري الدار، فقيه مفسر متكلم شاعر جامع للمكارم، درس في البصرة سنين، ثم بأصبهان كذلك. ولما مات عمه أبو الطيب، ورد نيسابور، فجلس للعزاء، فحضر الرؤساء والفقهاء، وعقد مجلس المناظرة كالعادة، فلم يبق موافق ولا مخالف إلا وأذعن لفضله، وفضله أبو الوليد على أبي بكر القفال. توفي سنة 369 تسع وستين وثلاثمائة.
465- أبو زيد محمد بن أحمد المروزي القاشاني 4 من الأئمة الجلة له وجوه غريبة في المذهب. قال الخطيب: هو أجل من روى
__________
1 أبو السائب عتبة بن عبيد الله بن موسى: أبو السائب، الهمذاني:
تاريخ بغداد "12/ 320"، دائرة الأعلمي "21/ 316".
2 أبو حامد أحمد بن بشر العامري المروزي: وفيات الأعيان "1/ 69"، طبقات الشافعية "2/ 82"، وشذرات الذهب "3/ 40".
3 أبو سهل محمد بن سليمان العجلي "الصعلوكي الأصبهاني": الحنفي، النيسابوري، الشهرة الصعلوكي:
سير النبلاء "16/ 235" والحاشية، وفيات الأعيان "4/ 204"، حاشية التحبير "1/ 97"، دائرة معارفة الأعلمي "26/ 279".
4 أبو زيد محمد بن أحمد المروزي القاشاني: وفيات الأعيان "4/ 208"، تاريخ بغداد=(2/161)
البخاري عن الفربري. توفي سنة 371 إحدى وسبعين وثلاثمائة.
466- أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله الدراكي 1:
من كبار فقهاء الشافعية، وأبوه محدث أصبهان في وقته، نزل أبو القاسم نيسابور، ودرس فيها سنين، ثم بغداد إلى حين وفاته. أخذ عنه عامة شيوخ بغداد وغيرهم كان يدرس، وله حلقة فتوى ونظر، وله وجوه جيدة في المذهب دالة على متانة علمه على ما يتهم به من الاعتزال.
قال أبو حامد الإسفراييني: ما رأيت أفقه منه وكان إذا جاءته مسألته، فكر طويلا، ثم يفتي بها، وربما أفتى بما يخالف الإمامين الشافعي وأبا حنيفة، فيقال له في ذلك، فيقول الأخذ بحديث رسول الله أولى من الأخذ بقولهما. توفي سنة 375 خمس وسبعين وثلاثمائة وكان ثقة أمينا. والدارك بفتح الراء وبعدها كاف قال السمعاني: أظنها قرية بأصبهان، قاله ابن خلكان.
467- أبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني 2:
الحافظ المشهور، والفقيه المحدث المنفرد بإمامة الحديث في وقته من غير منازع العارف باختلاف الفقهاء الحافظ لأشعار العرب، له كتاب "السنن"
__________
1 أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله الداركي: أبو القاسم، الفقيه الداركي، الشافعي، مات سنة "375":
المنتظم "7/ 129"، وفيات الأعيان "3/ 188"، العبر "2/ 370"، تاريخ بغداد "10/ 463"، دائرة الأعلمي "21/ 132"، الأنساب "5/ 277".
2 أبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني: المقرئ، الشافعي، ولد سنة "306"، مات سنة "385":
معجم المؤلفين "7/ 157، 158"، وفيات الأعيان "3/ 297"، المنتظم "7/ 181، 183"، الأنساب "5/ 273"، تذكرة "3/ 991"، البداية والنهاية "11/ 317"، تاريخ بغداد "12/ 34"، نسيم الرياض "3/ 354، 361"، النجوم الزاهرة "4/ 172"، سير النبلاء "16/ 449"، شذرات "3/ 116".(2/162)
و"المختلف والمؤتلف" وغيرهما، وخرج هو والحافظ عبد الغني بن سعيد مسندا ألفاه لابن خنزابة وزير كافر الإخشيدي، كان متفننا في علوم كثيرة، وإماما في علوم القرآن. توفي سنة 385 عن تسع وسبعين سنة. والدارقطني نسبة لدارقطن محلة بغداد.
468- أبو الحسن محمد بن علي الماسرجسي 1: أحد الأئمة بخراسان، وأعرفهم بالمذهب وترتبيه وفروعه، وكان يخلف ابن أبي هريرة في مجالسه ببغداد ودرس بنيسابور، وعنه أخذ فقهاؤها. توفي سنة 374 أربع وثمانين وثلاثمائة.
469- أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان الصعلوكي 2 النيسابوري مفتيها وابن مفتيها، أخذ الفقه عن والده المعروف بالإمام متفق عليه، عديم النظر في علمه وديانته، جمع رئاسة الدين والدنيا. توفي سنة 387 سبع وثمانين وثلاثمائة.
470- أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين الصيمري 3 حافظ المذهب، صاحب "الإفصاح" و"الكفاية" وغيرها. توفي سنة 386 ست وثمانين وثلاثمائة.
471- أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب الخطابي البستي 4 كان إماما في الفقه والحديث، له "معالم
__________
1 أبو الحسن محمد بن علي الماسرجسي: وفيات الأعيان "4/ 202"، وشذرات الذهب "3/ 110"، وعبر الذهبي "3/ 26".
2 أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان الصعلوكي النيسابوري: العجلي الحنفي، مات سنة "387"، "404":
العبر "3/ 88"، سير النبلاء "17/ 207" والحاشية، وفيات الأعيان "2/ 435"، دائرة الأعلمي "19/ 297".
3 أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين الصيمري: سير أعلام النبلاء "11/ 4"، والجواهر المضية "1/ 333"، وطبقات الشافعية "2/ 243".
4 أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب الخطابي البستي: أبو سليمان، الخطابي=(2/163)
السنن" شرح أبي داود وغيره. توفي سنة 388 ثمان وثمانين وثلاثمائة.
472- أبو علي الحسين بن شعيب السنجي 1: عالم خراسان، وأول من جمع بين طريقتي العراق وخراسان شرح المختصر، وهو الذي يسميه إمام الحرمين المذهب الكبير. توفي سنة 403 ثلاث وأربعمائة، وقال ابن خلكان: سنة نيف ولاثين وأربعمائة.
473- القاضي يوسف بن أحمد بن كج الكجي 2:
بفتح الكاف الدينوري أحد أئمة الشافعية الذين يرحل إليهم من الآفاق، وله وجه في مذهبهم. قال له أبو علي السنجي بعد ما قدم من عند أبي حامد الإسفراييني ورأى علم يوسف: إن الاسم لأبي حامد، والعلم لك، فقال له: ذاك رفعته بغداد، وحطتني الدينور. قتل بها عام 405 خمس وأربعمائة.
والدينور بكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة وفتح النون والواو: بلدة من بلاد الجبل، وقال السمعاني: بفتح الدال، والأصح الكسر قاله ابن خلكان.
474- أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك 3:
بضم الفاء الإمام النظار، سيف السنة، وقامع المبتدعة، الأصولي المتكلم
__________
1 أبو علي الحسين بن شعيب السنجي: البداية "2/ 57"، وتهذيب الأسماء "2/ 261"، ووفيات الأعيان "2/ 135".
2 القاضي يوسف بن أحمد بن كج الكجي الدينوري: أبو القاسم، الدينوري الكجي الشهيد قتل سنة "405":
الأنساب "11/ 51"، وفيات الأعيان "7/ 65"، المشتبه ص"545".
3 أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك: أبو بكر، الأنصاري الأصبهاني الواعظ، النحوي الأديب المتكلم الفوركي، مات سنة "406":=(2/164)
الأصبهاني، أقام ببغداد، ثم بالري، فسعت به المبتدعة، فالتمس منه أهل نيسابور أن يأتيهم، وبنوا له مدرسة ودارا، وأحيى الله به هناك علوما، بلغت مصنفاته في أصول الدين والفقه، ومعاني القرآن قريبا من مائة. ومات مسموما سنة 406 ست وأربعمائة، دفن بالحيرة بكسر الحاء.
475- أبو حامد أحمد بن محمد الإسفراييني 1:
شيخ طريقة العراق إمام المذهب، انتهت إليه رئاسة الدين والدنيا ببغداد. قال ابن السبكي: ما جاء بعد أبي العباس بن سريج من اشتهرت كتبه، وكثرت تلاميذه، واتسعت أقواله وبعد عن القرين في زمنه كأبي حامد. وقال فيه القدوري: هو أفقه وأنظر من الشافعي نفسه. توفي سنة 408 ثمان وأربعمائة.
476- عبد الله بن أحمد المعروف بالقفال الصغير 2:
من كبار فقهاء خراسان طريقته أمتن طريقة وأكثرها تحقيقا في المذهب وهو بخراسان نظير أبي حامد الإسفراييني ببغداد. توفي سنة 417 سبع عشرة وأربعمائة وغيرهم كثير.
__________
1 أبو حامد أحمد بن محمد الإسفراييني: سير أعلام النبلاء "11/ 43"، ووفيات الأعيان "3/ 46"، والبداية "12/ 2"، وشذرات الذهب "3/ 178"، وتاريخ بغداد "4/ 368".
2 عبد الله أحمد المعروف بالقفال الصغير: وفيات الأعيان "3/ 46"، وطبقات السبكي "3/ 196".(2/165)
أشهر أصحاب الإمام أحمد بن حنبل في القرن الثالث والرابع:
477- أبو يعقوب إسحاق بن منصور بن بهرام التميمي الكوسج المروزي 1:
ثم النيسابوري الحافظ، صاحب مسائل الإمامين أحمد وإسحاق، رحال جوال واسع العلم، روى عن ابن عيينة خلق، وعنه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه. قال الحاكم: هو أحد الأئمة المتمسكين بالسنة. مات سنة 251 إحدى وخمسين ومائتين.
478- محمد بن عبد الله بن إسماعيل البغدادي 2: صاحب الإمام أحمد، روى عنه البخاري والترمذي، وابن أبي حاتم وقال: صدوق. توفي سنة 257 سبع وخمسين ومائتين.
479- أبو الفضل صالح ابن الإمام أحمد الحنبلي 3: قاضي أصبهان المتوفى سنة 266 ست وستين ومائين عن ثلاث وستين سنة، وهو
__________
1 أبو يعقوب إسحاق بن منصور بن بهرام التميمي الكوسج المروزي: طبقات الحنابلة "1/ 113".
2 محمد بن عبد الله بن إسماعيل البغدادي: تهذيب التهذيب "9/ 247".
3 أبو الفضل صالح بن الإمام أحمد الحنبلي "قاضي أصبهان": أبو الفضل، الشيباني البغدادي، ولد سنة "203"، مات سنة "266" أو "265":
سير النبلاء "12/ 529"، العبر "2/ 30"، الإكمال "7/ 32"، أصبهان "1/ 348"، التمهيد "1/ 29"، تاريخ بغداد "9/ 317"، حاشية الإكمال "2/ 564"، دائرة الأعلمي "20/ 156".(2/166)
ممن نقل فقه أبيه عنه.
480- أبو عبد الرحمن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل البغدادي الحافظ 1:
روى عن أبيه المسند والتفسير، وروى عن يحيى بن معين وخلائق، ولم يكتب عن أحد إلا بأمر أبيه، وعنه النسائي حديثين. وثقه الخطيب. توفي سنة 290 تسعين ومائتين عن تسع وتسعين سنة.
481- أبو علي حنبل بن إسحاق 2: توفي سنة 293 ثلاث وتسعين ومائتين.
482- أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي أو الكلبي 3: الأثرم الخراساني البغدادي الإسكافي الفقيه الحافظ أحد الأعلام، وصاحب السنن في الفقه على مذهب أحمد. روى عنه وعن أبي نعيم والقعنبي وخلق، وعنه النسائي. قال ابن حبان في الثقات: كان من خيار عباد الله. مات بعد السبعين ومائتين.
__________
1 أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل البغدادي: أبو عبد الرحمن، ولد، سنة "213":
الجرح والتعديل "5/ 7"، تاريخ بغداد "9/ 375، 376"، طبقات الحنابلة "1/ 180، 188"، المنتظر "6/ 39، 40"، تهذيب التهذيب "2/ 129"، تذكرة الحفاظ "2/ 665"، البداية والنهاية "11/ 96، 97".
2 أبو علي حنبل بن إسحاق: أبو علي، بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، ولد سنة "193"، مات سنة "273":
التبصرة والتذكرة "20/ 121" الموضوعات "1/ 214"، تاريخ بغداد "8/ 286"، البداية والنهاية "11/ 52"، تذكرة "2/ 600"، العبر "2/ 51"، طبقات الحنابلة "1/ 143"، سير النبلاء "13/ 51"، التقييد "1/ 314".
3 أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي أو الكلبي: تاريخ بغداد "5/ 110"، وتذكرة الحفاظ "2/ 135"، وشذرات الذهب "2/ 141".(2/167)
483- أبو بكر المروزي 1: ممن نقل الفقه عن الإمام أحمد. توفي سنة 275 خمس وسبعين ومائتين.
484- أبو إسحاق إبراهيم الحربي 2: إمام في الحديث، له مصنفات كثيرة، وممن نقل فقه أحمد، توفي سنة 285 خمس وثمانين ومائتين.
485- أبو الحسين علي بن عبد الله الخرقي 3: توفي سنة 299 تسع وتسعين ومائتين.
486- أبو بكر أحمد بن هارون الخلال 4: له مصنفات كثيرة في الفقه، كالجوامع، توفي سنة 311 إحدى عشرة وثلاثمائة.
478 - أبو الحسن علي بن محمد بن بشار الزاهد 5: كان يروي مسائل صالح. توفي سنة 313 ثلاث عشرة وثلاثمائة.
488- أبو بكر عبد الله بن أبي داود الأزدي السجستاني 6: إمام وابن إمام المحدثين من أكابر حفاظ بغداد، شارك أباه في
__________
1 أبو بكر المروذي: طبقات الحنابلة "1/ 56"، تاريخ بغداد "4/ 423"، والمنهج الأحمد ص"172".
2 أبو إسحاق إبراهيم الحربي: تاريخ بغداد "6/ 27"، ومعجم الأدباء "1/ 112"، وتذكرة الحفاظ "2/ 147"، طبقات الحنابلة "1/ 50"، وطبقات الشافعية "2/ 26".
3 أبو الحسين علي بن عبد الله الخرقي: طبقات الحنابلة "2/ 45"، والمنهج الأحمد "2/ 3".
4 أبو بكر أحمد بن هارون الخلال: طبقات الحنابلة "2/ 12"، وشذرات الذهب "2/ 261"، والعبر "2/ 148".
5 أبو الحسن علي بن محمد بن بشار: أبو الحسن، مات سنة "313":
طبقات الحنابلة أبو يعلى "320"، دائرة الأعلمي "22/ 303".
6 أبو بكر عبد الله بن أبي داود الأزدي السجستاني: ابن الأشعث، الإمام الحافظ شيخ بغداد: أخبار أصبهان "2/ 66، 67"، تاريخ بغداد "9/ 464"، طبقات الحنابلة "2/ 51، 55"، تاريخ ابن عساكر "9/ 185"، وفيات الأعيان "2/ 404، 405"، لسان الميزان "3/ 293"،=(2/168)
أكثر شيوخه بمصر والشام، وسمع ببغداد وغيرها. قال الذهبي: ما هو بدون أبيه. صنف التصانيف، وانتهت إليه رئاسة الحنابلة ببغداد، وهو صاحب العقيدة المشهورة:
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعا لعلك تفلح
انظرها في عدد 264 من كتاب "العلو" له، وكتاب المصابيح وغيره. قال الإمام ابن سليمان الروداني في فهرسته: كان بعض من عاصره يتكلم فيه بما لم يثبت، ولا التفات لذلك، ولقول والده فيه: إنه كذاب، وقد ذكره السبكي في الشافعية تبعا للعبادي وهو حنبلي فيما أظن قاله الشمس ابن طولون، قال: وله كتاب مسند عائشة. وقد احتج به من صنف في الصحيح كأبي على النيسابوري الحافظ، وابن حمزة الأصفهاني، توفي سنة 316 ست عشرة وثلاثمائة.
489- أبو القاسم عمر بن الحسين الخرقي البغدادي 1:
فقيه شديد الورع، له مصنفات كثيرة، وصاحب "المختصر" في مذهبهم، وله تخريجات في المذهب، خرج من بغداد لما ظهر سب السلف، وتوفي بدمشق سنة 334 أربع وثلاثين وثلاثمائة والخرقي بكسر الخفاء المعجمة نسبة إلى بيع الثياب، نص عليه في "الفوائد البيهية" في تراجم الحنفية عدد 92.
490- أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن يزداد 2:
__________
1 أبو القاسم عمر بن الحسين الخرقي البغدادي: أبو القاسم، الخرقي البغدادي الحنبلي، مات سنة "334":
معجم المؤلفين "7/ 282، 283"، وفيات الأعيان "3/ 441"، دائرة الأعلمي "23/ 27"، التمهيد "1/ 212، 6/ 406".
2 أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن يزداد: أبو بكر، الشهرة غلام الخلال الغلام، مات سنة "363":
الأعلام "4/ 15"، معجم المؤلفين "5/ 244"، مختصر طبقات الحنابلة ص"334"، دائرة=(2/169)
صاحب الخلال، له مصنفات في الفقه. توفي سنة 363 ثلاث وستين وثلاثمائة.
491- أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي 1: توفي سنة 336 ست وثلاثين وثلاثمائة.
492- أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المعروف بابن شاقلا 2: مات سنة 369 تسع وستين وثلاثمائة.
493- أبو الحسين علي بن عبد العزيز بن الحارث التميمي 3: توفي سنة 391 إحدى وتسعين وثلاثمائة.
494- أبو عبد الله الحسن بن علي بن مروان حامد 4: توفي سنة 403 ثلاث وأربعمائة.
ومن أصحابه أيضا:
495- القاضي أبو يعلى 5.
496- والقاضي أبو علي بن أبي موسى 6: شارح
__________
1 أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي: طبقات الحنابلة "2/ 3".
2 أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المعروف بابن شاقلا: طبقات الحنابلة "2/ 128"، شذرات الذهب "3/ 68".
3 أبو الحسين علي بن عبد العزيز بن الحارث التميمي: طبقات الحنابلة "2/ 139"، والمنهج الأحمد "2/ 66".
4 أبو عبد الله الحسن بن علي بن مروان حامد: طبقات الحنابلة "2/ 171"، والمنتظم "7/ 263"، وشذرات الذهب "3/ 166".
5 القاضي أبو يعلى: ترجمته في المذهب الأحمد "2/ 105"، والمنتظم "8/ 243"، العبر "3/ 243"، وشذرات الذهب "3/ 306".
6 أبو علي بن أبي موسى: ترجمته طبقات الحنابلة "2/ 182"، والمذهب الأحمد "2/ 95".(2/170)
"الإرشاد"، وهذان كانا يدعيان رتبة الاجتهاد المنتسب بحيث لم يقلدان في حكم ولا دليل، وإنما سلكا طريقه في الاجتهاد كما في "إعلام الموقعين".
فهؤلاء العلماء الذين قدمنا تراجمهم من المذاهب الأربعة من أشهر من ألف تلك المذاهب ونشرها، واحتج لها كل لمذهبه في القرنين المذكورين.(2/171)
صنعة التوثيق المسمى قديما عقد الشروط في هذا العصر
...
صنعت التوثيق المسمى قديما عقد الشروط في هذا العصر:
هو من فروع علم الفقه ودونك بعض أمثلة من وثائق هذا العصر، تتبين منها حاله. قال الإمام النسائي في سننه1: كتابة مزارعه على أن البذر والنفقة على صاحب الأرض، وللمزارع ربع ما يخرج الله عز وجل منها:
هذا كتاب كتبه فلان بن فلان في صحة منه وجواز أمر، لفلان بن فلان إنك دفعت إلي جميع أرضك التي بموضع كذا في مدينة كذا مزارعة وهي الأرض التي تعرف بكذا، ويجمعها حدود أربعة يحيط بها كلها وأحد تلك الحدود بأسرة لزيق كذا والثاني والثالث والرابع دفعت إلى جميع أرضك هذه المحدودة في هذا الكتاب بحدودها المحيطة بها وجميع حقوقها وشربها وأنهارها وسواقيها أرضا بيضاء فارغة لا شيء فيها من غرس، ولا زرع سنة تامة أولها مستهل شهر كذا من سنة كذا، وآخرها انسلاخ شهر كذا من سنة كذا على أن أزرع جميع هذه الأرض المحددة في هذا الكتاب الموصوف موضعها فيه هذه السنة المؤقتة فيها من أولها إلى آخرها كلما أردت وبدا لي أن أزرع فيها من حنطة وشعير وسماسم وأرز وأقطان وأرطاب وباقلا وحمص، ولوبيا وعدس ومقاتي ومباطخ وجزر وسلجم وفجل وبصل وثوم وبقول ورياحين وغير ذلك من جميع الغلات شتاء وصيفا ببزورك وبذرك وجميعه عليك دوني على أن أتولى ذلك بيدي وبمن أردت من أعواني وأجرائي وبقري وأدواتي، وإلى زراعة ذلك وعمارته والعمل بما فيه نماؤه ومصلحته وكراب أرضه وتنقية حشيشه وسقي ما يحتاج إلى سقيه مما زرع،
__________
1 "7/ 51، 52 و54، 55، 58، 59".(2/172)
وتسميد ما يحتاج إلى تسميده وحفر سواقيه وأنهاره، واجتناء ما يجتني منه والقيام بحصاد ما يحصده منه وجمعه، ودياسة ما يداس منه، وتذريته بنفقتك على ذلك كله دوني، واعمل فيه بيدي وأعواني دونك على أن لك جميع ما يخرج الله عز وجل من ذلك كله في هذه المدة الموصوفة في هذا الكتاب من أولها إلى آخرها فلك ثلاثة أرباعه بحظ أرضك وشربك وبذرك ونفقاتك، ولي الربع الباقي من جميع ذلك بزراعتي وعملي وقيامي على ذلك بيدي وأعواني، ودفعت إلى جميع أرضك هذه المحدودة في هذا الكتاب بجميع حقوقها ومرافقها، وقبضت ذلك كله منك يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، فصار جميع ذلك في يدي لك، لا ملك لي في شيء منه ولا دعوة، ولا طلبة إلا هذه المزارعة الموصوفة في هذا الكتاب في هذه السنة المسماة فيه، فإذا انقضت، فذلك كله مردود إليك، وإلى يدك ولك أن تخرجني بعد انقضائها منها، وتخرجها من يدي ويد كل من صارت له فيها يد بسببي أقر فلان وفلان وكتب هذا نسختين. ا. هـ. منه.
وبسنده إلى سعيد بن المسيب إذا دفع رجلا إلى رجل مالا قراضا، فأراد أن يكتب عليه بذلك كتابا كتب: هذا كتاب كتبه فلان بن فلان طوعا منه في صحة وجواز أمره لفلان بن فلان: إنك دفعت إلي مستهل شهر كذا من سنة كذا عشرة آلاف درهم وضحا جيادا وزن سبعة قراضا على تقوى الله في السر والعلانية وأداء الأمانة على أن أشتري بها ما شئت من كل ما أرى أن أشتريه، وأن أصرفها أو ما شئت منها فيما أرى أن أصرفها فيه من صنوف التجارات، وأخرج بما شئت منها حيث شئت وأبيع بما أرى أن أبيعه مما اشتريه بنقد رأيت أم بنسيئة، وبعين أم بعض على أن أعمل في جميع ذلك كله برأيي، وأوكل في ذلك من رأيت، وكل ما رزق الله في ذلك من فضل وربح بعد رأس المال الذي دفعته المذكور إلي المسمى مبلغه في هذا الكتاب، فهو بيني وبينك نصفين، لك منه النصف بحظ رأس مالك، ولي فيه النصف تاما بعملي فيه، وما كان فيه من وضيعة، فعلى رأس المال، فقبضت منك هذه العشرة آلاف درهم الوضح الجياد مستهل شهر كذا(2/173)
في سنة كذا، وصارت لك في يدي قراضا على الشروط المشترطة في هذا الكتاب أقر فلان وفلان وإذا أراد أن لا يطلق له أن يشتري ويبيع بنسيئة، كتب وقد نهيتني أن أشتري أو أبيع بنسيئة. ا. هـ. منه.
فتأمل رعاك الله الوثيقة الثانية التي كانت من إملاء ابن المسيب الذي كان آخر القرن الأول والأولى من إملاء النسائي الذي كان آخر القرن الثالث لا تجد بينهما كبير فرق فالتوثيق مدة ثلاثة قرون لم يدخل عليه كبير تغيير.
وفي النسائي أيضا بعد ما تقدم قبيل كتاب عشرة النساء ما نصه: تفرق الزوجين عن مزاوجتهما، قال الله تبارك وتعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} 1 الآية هذا كتاب كتبته فلانة بنة فلان بن فلان في صحة منها، وجواز أمر لفلان بن فلان أني كنت زوجة لك، وكنت دخلت بي، فأفضيت إلي، ثم إني كرهت صحبتك، وأحببت مفارقتك من غير إضرار منك بي، ولا منعي لحق واجب لك علي، وإني سألتك عندما خفنا أن لا نقيم حدود الله أن تخلعني، فتبينني منك بتطليقة بجميع ما لي عليك من صداقي، وهو كذا وكذا دينارا جيادا مثاقيل، وبكذا وكذا دينارا جيادا مثاقيل أعطيتكها على ذلك سوى ما في صداقي، ففعلت الذي سألتك منه، فطلقتني تطليقة بائنة بجميع ما كان بقي لي عليك من صداقي المسمى مبلغه في هذا الكتاب، وبالدنانير المسماة فيه سوى ذلك، فقبلت ذلك منك مشافهة لك عند مخاطبتك إياي به، ومجاوبة على قولك من قبل تصادرنا عن منطقنا ذلك ودفعت إليك جميع هذه الدنانير المسمى مبلغها في هذا الكتاب الذي خالعتني عليها وافية سوى ما في صداقي، فصرت بائنة منك مالكة لأمري بهذا الخلع الموصوف أمره في هذا الكتاب، فلا سبيل لك علي ولا مطالبة ولا رجعة، وقد قبضت منك جميع ما يجب لمثلي ما دمت في عدة منك، وجميع ما احتاج إليه بتمام ما يجب للمطلقة التي تكون في مثل حالي على زوجها الذي يكون في مثل حالك، فلم يبق لواحد منا قبل صاحبه حق ومن دعوى ومن طلبة بوجه من
__________
1 سورة البقرة، الآية: 229.(2/174)
الوجوه، فهو في جميع دعواه مبطل، وصاحبه من ذلك أجمع بريء، وقد قبل كل واحد منا ما أقر له به صاحبه، وكل ما أبرأه منه مما وصف في هذا الكتاب مشافهة عند مخاطبته إياه قبل تصادرنا عن منطقتنا وافتراقنا عن مجلسنا الذي جرى بينننا فيه. أقرت فلانة وفلان. ا. هـ. منه.
وهي وثيقة قريبة الألفاظ والمعاني مما قبلها، وفيها دلالة أن النساء كن يكتبن بأيديهن، ويعقدن عقودهن بأنفسهن، وانظر فيه عقد الشركات والعتق وما يلحق به تجد ذلك متقاربا في ذلك العصر.
ثم نبغت نوابع من علماء ذلك العصر وما بعده في فن الشروط نقحوا وثائقهم من التطويل والتكرير، وزادوها احتياطا وإحكاما بنسبة ما تجدد من الأحوال المناسبة لوقتهم ودرجتهم من الرقي والرفه. ومن أول من ألف فيها في المذهب المالكي الإمام ابن أبي زمنين الأندلسي، وممن كان خصيصا فيها بعصره وبلده ابن العطار وابن الهندي وغيرهم، وفي المذهب الحنفي هلال الرأي وأبو حازم عبد الحميد وغيرهما، وهكذا بقية المذاهب.(2/175)
استنتاج من حالة الفقهاء في المدة السالفة:
إذا أمعنت النظر في تراجم هؤلاء الرجال، علمت صدق ما قلناه من دخول الفقه مدة القرنين الثالث والرابع في طور الكهولة، ولا سيما في الرابع وذلك لأمور.
أولها: شيوع التقليد بين العلماء حتى اضمحل الاجتهاد المطلق من الأمة شيئا فشيئا آخر القرن الثالث، ولم يبق في جل الرابع مجتهد مطلق كما تقدم في كلام النووي وإن ادعاه أحد، أنكر عليه، ونوزع فيه وتقدم بسط ذلك أول هذا القسم.
الثاني: ظهور فساد الأخلاق، وراجع نظم عظيم القسطنطينية في ترجمة الققال الشاشي من الشافعية يتبين لك ما ظهر إذ ذاك من التكالب على الدنيا بالرشا والزور وضياع الحقوق، بل كانوا يضمنون القضاء بمعنى أنهم يولونه من يضمن أن يدفع قدرا من المال كل سنة أو كل شهر كما فعلوا في بقية الولايات، وأول من ضمن القضاء 497- عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب: سنة 350 أيام معز الدولة بن بويه سماه قاضي القضاة في بغداد على أن يؤدي مائتي ألف درهم كل سنة، ثم صار ذلك أمرا مألوفا، كما صاروا يضمنون الحسبة والشرطة، فمن هناك ابتدأ خراب الفقه، بل الإسلام، وفساد(2/176)
الدين الطمع، وصلاحه الورع، وهاك قضية وقعت في الأندلس أيام الخليفة الثامن لبني أمية عبد الرحمن الناصر في القرن الرابع، وذلك أنه احتاج إلى تعويض أرض قبالة منزله يجعلها منتزها كانت حبسا توضع فيها الأزبال.
فراود الفقهاء في أن يعوضها بأحسن منها بكثير ثمنا وغلة، فامتنعوا كليا، فلما أيس منهم، بعث إليهم وقاضيه ابن بقي معهم الذي هو رئيسهم، وخرج إليهم بعض وزرائه موبخا لهم بقوله: يقول أمير المؤمنين: يا مشيخة السوء، يا مستحلي أموال الناس، يا أكلة أموال الأيتام ظلما، يا شهداء الزور، يا آخذي الرشا، وملقني الخصوم، وملحقي الشرور، وملبسي الأمور، وملتمسي الروايات لاتباع الشهوات تبا لكم ولآرئاكم، فهو -أعزه الله- واقف على فسوقكم قديما وخونكم الأمانة، مغض عنكم صابرا، ثم احتاج إلى دقة نظركم في حاجته مرة في دهره، فلم يسع نظركم للتحليل عليه ما كان هذا ظنه فيكم، ليقارضنكم من يومه، وليكشفن ستوركم، وليناصحن الإسلام فيكم، وكلاما في مثل هذا.
فبدر منهم شيخ ضعيف المنة إلى الاعتراف، واللياذ بالعفو والاستقالة والتوبة، فالتفت إليه كبيرهم محمد بن إبراهيم بن حيونة وكان ذا منة، فقال: عم تتوب يا شيخ السوء نحن براء إلى الله من مقامك، ثم أقبل على الوزير المخاطب لهم، فقال: بئس المبلغ أنت، وكل ما ذكرته على أمير المؤمنين مما نسبته إلينا، فهو صفتكم معاشر خدمته أنتم الذين تأكلون أموال الناس بالباطل، وتستحلون ظلمهم بالإخافة، وتجيعون معايشهم بالرشا والمصانعة، وتبغون في الأرض بغير الحق، أما نحن، فليست هذه صفاتنا ولا كرامة لا يقوله لنا إلا متهم في دينه، فنحن أعلام الهدى، وسرج الظلمة بنا يتحصن الإسلام، ويفرق بين الحلال والحرام، وتنفذ الأحكام، وبنا تقام الفرائش، وتثبت الحقوق، وتحصن الدماء، وتستحل الفروج، فهلا إذ عتب أمير المؤمنين بشيء لا ذنب فيه لنا وقال بالغيظ ما قاله تأنيت بإبلاغنا، وسألته بأهون من إفحاشك، وعرضت لنا بإنكاره، ففهمنا عنك، وأجبناك عنه بما يجب، فكنت تزين على السلطان، ولا(2/177)
تفشي سره، وتستحيينا قليلا، فلا تقابلنا بما استقبلنا به، فنحن نعلم أن أمير المؤمنين أيده الله لا يتمادي على هذا الرأي فينا، وأنه سيراجع بصيرته في تعزيزنا، فلو كنا عنده على الحال التي وصفتها عنه -ونعوذ بالله من ذلك- لبطل عليه كل ما صنعه وعقده وحله من أوله خلافته إلى هذا الوقت، فما ثبت له كتاب حرب ولا سلم، ولا بيع ولا شراء، ولا صدقة ولا حبس، ولا هبة ولا عتق، ولا غير ذلك إلا بشهادتنا هذا ما عندنا والسلام.
ثم قام وتبعه أصحابه منصرفين، فوجه من ردهم وأكرمهم، وجبر خواطرهم، واعتذر عما فعله الوزير، وأمر لهم بكسوة وصلة لكل واحد علامة رضاه عنهم، وانصرفوا.
وكان أحد الفقهاء وهو محمد بن يحيى بن لبابة معزولا عن الشورى، فبعث للسلطان يقول: لو لم أكن معزولا لترخصت لمولانا وأفتيته بالجواز، وتقلدت ذلك، وناظرتهم بالحجة، فقد حجروا واسعا، فرده الناصر للشورى، ثم رفع إليهم مسألة ثانيا، فأصر الجميع على المنع، وتصدى ابن لبابة فقال: إن قول مالك هو الذي قاله الفقهاء، وأما العراقيون فلا يجيزون الحبس أصلا وهم علماء أعلام يهتدي بهم أكثر الأمة، وحيث دعت الحاجة أمير المؤمنين، فما ينبغي أن يرد عليه، وله في المسألة فسحة وأنا أقول بقول العراقيين، وأتقلد ذلك. فقال الفقهاء: سبحان الله تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا، ومضوا عليه، واعتقدناه وأفتينا به لا نحيد بوجه عنه وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه، فقال ابن لبابة: ناشدتكم الله ألم تنزل بأحدكم ملمة بلغت بكم إلى الأخذ بقول غير مالك ترخصا لأنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: فأمير المؤمنين أولى، فسكتوا فقال للقاضي: أنه إلى أمير المؤمنين فتياي، فجاء جوابه بتنفيذ فتوى ابن لبابة، وعوض بأملاك عظيمة القدر تزيد أضعافا، وتولى ابن لبابة خطة الوثائق، وعقد المعاوضة، وأمضى القاضي فتواه، وحكم بها، فلم يزل متقلدا خطتي الشورى والوثائق إلى أن مات رحمه الله سنة 336 ست وثلاثين وثلاثمائة ومنزلته كما هي لطيفة من السلطان. صح باختصار من "المدارك" لعياض.(2/178)
وبهذه القضية وأمثالها يتبين أمامك ما آل إليه أمر الفقهاء، وتستنتج منها أحوال الأمراء إلا أن فقهاء الأندلس لم يقروا بخلاف فقهاء المشرق، فقد أقر الشاشي كل ما نسبه عظيم القسطنطينية لهم، وذلك لأن بني العباس كانوا في دور الانحطاط ببغداد بخلاف الأمويين بقرطبة، وما وقع من الناصر دليل أحوال ذلك الوقت، وإن السياسة غلبت الفقه، فصار تابعها لها على أنه أفضل من كل أمير بعده إلى زمن يوسف بن تاشفين اللمتوني.
وظهر في هذين القرنين أيضا كثرة الجدل بين علماء المذاهب لا بقصد إظهار الحق، ثم اتباعه، بل للاستطالة والحظوة أمام الحكام، فقد كانت المجالس تعقد لذلك في المساجد وأمام الوزراء والحكام بقصد التفاخر والتغالب والفلج.
وقد بسط حالهم الإمام الغزالي في "الإحياء" وبين آفات الجدل والمناظرة، وما المقصود منها في صدر الإسلام كزمن مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وأمثالهم من إظهار الحق، ثم اتباعه؛ إذ لم يكونوا مقيدين بمذهب ملزمين به، بل لهم الحرية التامة في أفكارهم يميلون إلى الحق حيثما ظهر.
وقد صار الحال في التاريخ السابق إلى غير ذلك، وهو الانتصار للمذهب بأي طريقة كانت مع التقيد به، فكان العالم في بلاد المشرق من الشافعية، أو الحنفية غالبا إذا مات له قريبه، جلس بمسجد قريب من منزله، فيأتيه الناس للعزاء سبعة أيام يجتمعون عليه إما لتلاوة أو لمناظرة في المسائل، والانتصار لمذهب من المذاهب، فربما نشأ عن ذلك مشاجرات، بل لما كانوا يتناظرون في العقائد، كانت تقع مقاتلات، وتنشأ الحروب، فنبذوا ذلك، واقتصروا على المناظرة في المسائل الفرعية، لكن على الوجه المذكور.
ومن هنا نشأ علم المناظرة، وصار علما خاصا ويسمى بآداب البحث، وألفت فيه تآليف، وممن ألف فيه محمد بن سحنون في القرن الثالث، والقفال الكبير الشافعي في الرابع، كما سبق وغيرهما، وكان الملوك والوزراء يعقدون المجالس للمناظرة بحضرتهم ليعلموا حال علماء وقتهم ومن يستحق التقديم(2/179)
منهم، ثم صار المقصود الافتخار بذلك ليقال: إن مجلس السلطان أو الوزير مجلس علم ومناظرة، ولله در خفاجة إذ يقول عن أهل وقته:
درسوا العلم ليملكوا بجدالهم ... فيها صدور مراتب ومجالس
وتزهدوا حتى أصابوا فرصة ... في أخذ مال مساجد وكنائس
وقال الإمام الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم سوءا أعطاهم الجدل، ومنعهم العمل.
ومن تتبع تاريخ مجالس المناظرات العلمية التي ينال صاحب الظهور فيها رياسة أو جائزة أو ظهورا، لا يجدها قط جاءت بفائدة إظهار الحق، ومحو الخلاف، بل تكون بالعكس، فبسببها يزداد الخلاف تصلبا وثبوتا؛ إذ الفصاحة والبلاغة لا تعد مناسجها إيجاد أثواب تغطي وجه الحق إذا دعمت بعيدان النفوذ، وطليت بطلاء السياسة.
ومتنت بأطناب الرياسة والأغراض، ولينظر العاقل للمجالس المحدث عنها ماذا كانت نتيجتها، وإلى المجالس التي كان المأمون العباسي يعقدها في إثبات خلق القرآن وغيرها وغيرها.(2/180)
علم الخلافيات:
وعن الجدل نشأ علم الخلافيات، وممن ألف فيه ابن جرير الطبري حتى كان سبب محنته مع الحنابلة وغيره وغيره، راجع ترجمته.
وقد بين الإمام الغزالي آفات الاشتغال بعلم الخلاف وما يدخل به من الرزايا كالحسد والحقد والكبر والغيبة والتجسس بتتبع العورات والفرح لمساءة الناس والنفاق والرياء والاستنكاف عن الحق، لكونه ظهر على لسان الخصم والمخاتلة فيه مع تيقنه به إلى غير ذلك، وبين شروط جواز الاشتغال به وهي:(2/180)
أن لا يترك ما هو أهم منه من فروض العين أو فروض الكفاية؛ إذ الفروض الكفائية تتفاوت بحسب حاجة الأمة إليها.
وأن يكون مجتهدا مطلقا حرا في فكره بحيث إذا ظهر له الحق، اتبعه أما إذا كان مقيدا بمذهب من المذاهب لا يخرج عنه، فلا فائدة فيه، وصار كالعبث، بل وبالا؛ لأنه يطلع على الحق، ولا يقدر أن يتبعه، ولكن هذا الشرط ليس بمسلم، فقد يعمل في خاصة نفسه إذا كان لا يقدر ألا يفتي للناس به.
وتقدم أن أحمد بن ميسر كان يقول في فتواه: إن الذي أذهب إليه كذا، وإن مذهب أهل بلدنا كذا؛ لأنهم مقيدون في الفتوى والحكم بمذهب معين لضياع الثقة، وظهور الرشا، فلم يكونوا يجعلون للحاكم أو المفتي حرية الاجتهاد؛ إذ ربما يجعلها في قضاء غرضه.
الشرط الثالث: أن يناظر في مسألة واقعة أو قريبة الوقوع لا نادرة، ولا يشتغل بما لا يقع ويترك ما يقع.
الرابع: أن تكون المناظرة في الخلوة أحب إليه، ولكنهم بالعكس، فإنهم في الخلوة لا يتناظرون وإنما تكون مناظرتهم أمام الملوك، وفي المجامع لتحصيل الشهرة ومعلوم ما في ذلك.
الخامس: أن يكون قصده طلب حق ولو على لسان خصمه، فيتبعه ويجازيه ولا يماريه، ولا يخاتله، وأن لا يمنعه من الانتقال من دليل إلى دليل أوضح منه أو قوي، بل يعينه.
السادس: أن يناظر من يتوقع منه الاستفادة. وقد ذكر الغزالي أن جل تلك الشروط كانت مفقودة في زمنه وعند الناس الذين أدركهم وفيما يقرب منه، فكيف بزماننا. وهذا أمر يقع كثيرا في العراق وفيما وراء النهر بين الحنفية والشافعية.
الأمر الثالث: أنه في القرن الرابع بدأت فكرة الاختصار والإكثار من جمع(2/181)
الفروع بدون أدلة، وشرح تلك المختصرات، فبعد ما كانوا في القرن الثالث مصنفين مبتكرين كأسد بن الفرات وسحنون، وابنه، والبويطي، ومحمد بن الحسن، وأمثالهم، صار الحال في القرن الرابع إلى الشرح، ثم الاختصار والجمع، فانظر الفضل بن سلمة وابن أبي زمنين، وابن أبي زيد والبراذعي اختصروا "المدونة" في عصر متقارب، وهكذا نظراؤهم في عصرهم من المذاهب الأخرى كالمزني حيث اختصر مذهب الشافعي والاختصار لا يسلم صاحبه من آفة الإفساد والتحريف، فقد اعترض عبد الحق الإشبيلي مواضع من مختصر ابن أبي زيد القيرواني والبراذعي أفسدها الاختصار، وهكذا المزني اعترض عليه ابن سريج كما سبق في ترجمته.
ولا يخفى أن الاشتغال بإصلاح ما فسد هو غير الاشتغال بالعلم نفسه، فالرزية كل الرزية في الاشتغال بالمختصرات، فالاختصار والتوسع في جمع الفروع من غير التفات للأدلة هو الذي أوجب الكهولة بل القرب من الشيخوخة التي دخل فيها الفقه في القرون الآتية، فالفقه بقي مدة القرنين متماسكا كهلا قويا، ولله عاقبة الأمور.
وفي القرن الثاني والثالث ابتلي الفقه والفقهاء بداهية دهياء وهي التنافس المذهبي الناشء عن الخلافيات والجدل، وانتصار كل أهل مذهب لمذهبهم، كأنه دين مخالف لدين أهل المذهب الآخر.
يدلك على ذلك وقائع من التاريخ في المشرق والمغرب، وغالب ذلك له محرك، وهو التنافس على نوال الرياسة والقضاء.
ففي "معالم الإيمان" جزء في عدد 116 أن محمد بن عبدون لما ولي القضاء بعد موت سحنون بالقيروان، ضرب طائفة من أهل العلم والصلاح أصحاب سحنون، وطيف بهم على الجمال بغضا منه في مذهب مالك وأصحابه، منهم أبو إسحاق بن المضا، وأبو زيد بن المديني، فماتا على الجمال، وأحمد بن معتب وابن مفرج، وكان ابن عبدون حنفيا حتى قال الأمير إبراهيم:(2/182)
لو ساعدته فيمن يشكوه لجعلت له مقبرة.
ثم في آخر القرن الرابع دهى الفقه المالكي في المغرب والقيروان داهية دهماء أدهى وأمر من كل ما مر وهي ظهور الشيعة الذين قتلوا أعيان علماء الملة الذين كانوا حاملين لواء العلم والدين، وحملوهم على الرجوع عن مذهب مالك وعن السنة، والتمسك بالرفض، فأبوا فقتلوهم شر تقتيل.
وانظر في "مدارك" عياض ترجمة أبي بكر بن هذيل وأبي إسحاق بن البرذون ومن عاصرهما كيف قتلا وسحبا في أذناب الدواب لعدم إفتائهما بمذهب جعفر بن محمد الذي سموه مذهب أهل البيت كسقوط طلاق البتة وإحاطة البنات بالميراث من أجل أن تكون سيدتنا فاطمة أحاطت بإرث أبيها مولانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأي فائدة في هذا بعد ذهاب أربعة قرون حتى يضرب العلماء ويقتلوا لأجله.
وكم فعلوا من أفاعيل في القيروان، ثم بمصر لما غلبوا عليها، قتلوا العلماء، ومنعوا من أبقوه من التحليق في المساجد، ونشر العلم والفتيا إلا بمذهبهم.
وقد قتلوا في وقعة أبي زيد مخلد بن كيداد خمسة وثمانين من نخبة علماء القيروان حول المهدية رحمهم الله، وجعلوا دعاة لمذهبهم فرقوهم في الآفاق، كل ذلك توصل للسياسة والرئاسة، فكان من يأخذ عن العلماء إنما يأخذ سرا وعلى حال رقبة وخوف.
ومع هذا الضغط لم يقضوا على المذهب المالكي، بل بقي سرا ينتشر؛ لأن إرادة الشعب كانت خلاف إرادة الدولة، ولما تمكنت الأمة من المناهضة، محت دولة الرفض مرة واحدة، وظهر المذهب المالكي أتم ظهور، لكن بعد مرور نصف قرن وهو في التأخر والنقصان، وفي طي الخفاء، وهكذا كل شيء تلقته الأمة عن كره لا يكون له دوام ولا قرار، فالانتصار والانتشار إنما هو في حرية الأفكار.(2/183)
انتهاء تاريخ الفقه القديم:
إن آخر القرن الرابع يعد آخر العلماء المتقدمين، وأول المتأخرين، فهو الفاضل بين التاريخ القديم للفقه والتاريخ الجديد بدليل ما ذكروه في ترجمة ابن زيد القابسي أنهما أول المتأخرين، وآخر المتقدمين.
انتهى القسم الثالث من الكتاب، ويليه القسم الرابع أوله الطور الرابع للفقه طور الشيخوخة والهرم والحمد لله أولا وآخرا.(2/184)
القسم الرابع: في الطور الرابع للفقه وهو طور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم
مدخل
...
القسم الرابع: في الطور الرابع للفقه وهو طور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم
هذا الطور مبدؤه من أول القرن الخامس إلى وقتنا هذا الذي هو القرن الرابع عشر، وذلك أنه وصل إلى منتهى قوته في القرون الأربعة السابقة، وتم نضجه، فزاد بعد حتى احترق، وذهبت عينه، ولم يبق إلا مرقه في القرن الخامس وما بعده إلى أن صار الآن أثرا بعد عين، وذلك لأسباب منها:
قصور الهمم عن الاجتهاد إلى الاقتصار على الترجيح في الأقوال المذهبية، والاختيار منها، ولله در سعيد بن الحداد الفقيه القيرواني إذ يقول: إن الذي أدخل كثيرا من الناس في التقليد نقص العقول، ودناءة الهمم، وكانت وفاة هذا السيد الجليل سنة "330" ثلاثين وثلاثمائة كما في "المدارك" ثم قصروا عن ذلك في هذه الأزمان، واقتصروا على النقل عمن تقدم فقط، وانصرفت همتهم لشرح كتب المتقدمين وتفهمها، ثم اختصارها، وفكرة الاختصار ثم التباري فيه مع جمع الفروع الكثيرة في اللفظ القليل هو الذي أوجب الهرم، وأفسد الفقه، بل العلوم كلها كما يأتي إيضاحه؛ إذ صاروا قراء كتب لا محصلي علوم، ثم في الأخير قصروا عن الشرح، واقتصروا على التحشية والقشور، ومن اشتغل بالحواشي ما حوى شيء.(2/189)
مجمل التاريخ السياسي لهذه القرون:
في أول القرن الخامس كانت الدولة الإسلامية في حال افتراق كما أسلفناه من قبل، فبنو العباس وخليفتهم القادر بالله بن المقتدر ببغداد، لكن تحت سيطرة الديلم من بني بويه وسلطانهم بهاء الدولة، وكانت دولة بني بويه في حالة هرم، وبجانبها دولة السلجوقيين الأتراك الذين تغلبوا فيما بعد على بغداد سنة 447، وعلى كثير من بلاد الإسلام والروم ما بين البحر المتوسط إلى بلاد الهند، وكان في مصر الحاكم بأمر الله الفاطمي ذو المخرقة التي نقل التاريخ منها كثيرا عنه، حتى إنه ادعى الألوهية، وكانت أحواله متناقضة وهو الذي أسس المكتبة الشهيرة بمصر، دعاها دار العلم، واستجلب لها الكتب الثمينة من خزائن قصور المعمور عوض مدرسة بغداد، وبنى مدارس كثيرة، ثم خربها.
وكان في الأندلس آخر الدولة الأموية سليمان المستعين، ثم المهدي محمد بن هشام ثم هشام المؤيد ثلاثة من الخلفاء تولوا في سنة واحدة، والدولة الأموية في النزع في آخر رمق بعد تغلب الدولة العامرية عليها كما فعل الديلم في بغداد. وأعقب ذلك فتنة البربر في الأندلس التي أهلكت الحرث والنسل، وأخنت على ما كان تأسس هناك من معاهد علمية، وتقدم عظيم، وأعقبها ملوك الطوائف، وافتراق الأمة حتى صارت كل مدينة لها متغلب سمى نفسه ملكا أو خليفة، وكان ذلك الداء قد تأصل في الممالك الإسلامية في ذلك القرن الخامس، سواء في الأندلس أو الممالك الإفريقية والشرق بما يطول سرده، وبسبب ذلك سقطت جزيرة صقلية بيد النرمان، وذهب ما كان بها من التمدن العربي والحضارة الإفريقية والأندلسية سنة 464 أربع وستين وأربعمائة، وتفرق علماؤها في الأقطار، ومنها طمع النرمان في السواحل الإفريقية، واحتلوها بعد خراب(2/190)
القيروان، واختلال دولة صنهاجة بها إلى أن استنقذها الموحدون، وهذه الفتن كلها موجبة لانقطاع الصلة بين علماء القطار والرحلة التي تعين على تبادل الأفكار، واحتكاك الأنظار.
ثم أحيا الله الدولة الإسلامية في المغرب الأقصى والأندلس بالخليفة الأعظم يوسف بن تاشفين اللمتوني الذي جمع شمل تلك الممالك، وأقام العدل، ونصر الدين، وأظهر الفقه، وكان مالكي المذهب، فصارت للفقهاء في وقته ووقت ولده "علي" من نصف القرن الخامس إلى الربع الأول من السادس الكلمة النافذة، وعاد للمذهب المالكي هناك شبابه إلا أنه سقط في القيروان، والقطر التونسي، ثم الجزائري سقوطا كليا باستيلاء المتبربرين من الأعراب الجفاة الذين صبهم الفاطميون من مصر على أفريقية كالصاغة سوط عذاب، فخربوا القيروان سنة "449" وجلا علماؤها إلى الأقطار، ومات منهم كثير. قال في "معالم الإيمان": وفي آخر القرن الخامس إلى انقضائه لم يبق بالقيروان من له اعتناء بتاريخ لاستيلاء مفسدي الأعراب على إفريقية وتخريبها، وإجلاء أهلها عنها إلى سائر بلاد المسلمين، وذهاب الشرائع بعدم من ينصرها من الملوك إلى أن مَنَّ الله بظهور دولة الموحدين، فوضحت بها معالم الدين، وسبل الحق، ورسوم الشرع، فظهر بظهورها بأفريقية العلماء والصلحاء، وذلك في سنة الأخماس سنة 555 خمس وخمسين وخمسمائة. ا. هـ.
وظهور الموحدين كان قبل ذلك بالمغرب، لكن الظهور الحربي، أما الظهور العلمي، ورجوع الحركة العلمية لمعتادها بأفريقية كان في التاريخ المتقدم حين استتب الأمر لعبد المؤمن بن علي، ثم ولده يوسف، ثم حفيده يعقوب المنصور وهو الذي حرق كتب المالكية، وترك الفروع، وألزم العلماء بالاجتهاد، فظهر في وقته حفاظ وعلماء ومجتهدون يلحقون الفرع بأصله، أو هم ظاهرية كما يأتي مثل أبي الخطاب بن دحية، وأخيه أبي عمرو، ومحيي الدين بن عربي الحاتمي نزيل دمشق وغيرهم. وبموت المنصور انطفأت تلك الجذوة، ثم بالإدالة بالدوة المرينية رجع الناس إلى فروع المالكية، ونسوا الأصول؛ إذ كان تخليهم عن الفروع(2/191)
إلزاميا لا اختياريا، وكانت الهمم قد أصابها ما أصابها من القهقرى إلى وراء، والاقتناع بالتقليد وسرد الفروع فقط.
وبقي الحال في المغرب تأخرا إلى تأخر إلى وقتنا هذا الذي صار الفقه إلى ما هو عليه الآن، بل صار إلى فقهين، وإن شئت فقل ثلاثة: فقه المالكية الأصلي المذكور في "الموطأ" و"المدونة" وغيرهما، وفقه العمليات وهو ما حكم به القضاة مقلدين لقول ضعيف مخالفين للراجح والمشهور لأمر اقتضاه، ثم ازداد الآن فقه آخر وهو: ما يتأسس بالأوامر المولوية، والظهائر السلطانية بالعدلية وغيرها كما تأسس بالمجلة التونسية وقد صار هذا أيضا فقها يدرس في مدارس الحكومة، ولا يسمى فقها في عرف الشرع لعدم وجود شروطه التي سبقت لنا في تعريفه صدر الكتاب.
أما في الشرق، فقد دهمه في القرن الخامس ما دهم الغرب من الافتراق كما سبق، وكل جهة لها خليفة أو سلطان، وتسلط الصليبيون على الشام وبيت المقدس، وكانت هناك الحروب الهائلة التي سببها الحاكم بأمر الله الفاطمي لما خرب كنائس النصارى واليهود، ونقض ما كان معهم من العهود مع فساد اعتقاده، وفكره، وضعفت دولة الفاطميين بمصر، وذلك في القرن السادس لما كان الموحدون في المغرب ظاهرين منصورين والإسلام متقدم كما سبق.
وهذا من عجائب تاريخ الإسلام قلما تجده ينحط ويتقهقر في جهة إلا ويتقدم في أخرى، ففي وسط الخامس سقط في تونس، ونهض في المغرب الأقصى والأندلس، وفي وسط السادس نهض في جميعها، وسقط بمصر والشام إلى أن قيض الله صلاح الدين الأيوبي الذي أنقذ جل الشام من أيدي الصليبيين مع بيت المقدس، وطهر مصر من بقية الفاطميين الذين كانوا رافضة يسبون السلف، وتعصبوا بمذهب الباطنية الذي كان قد ظهر في تلكم النواحي، ثم ضعف أمرهم حتى لم يبق لهم إلا الخطبة التي كان قطعها من مصر على يد صلاح الدين سنة 567 سبع وستين وخمسمائة وصيرها باسم المستضيء العباسي.(2/192)
أما العراق ودار الخلافة وهي بغداد، فبعد تسلط الديلم، وانقسام تلك الممالك إلى دول صغيرة في القرن الرابع كما تقدم قد نزلت بها الداهية الدهياء التي لم ينزل بالإسلام مثلها منذ نشأ إلى الآن وهو تسلط التتر على دار الخلافة، وقتل الخليفة المستعصم العباسي سنة 656 ست وخمسين واستولى أميرهم هولاكو على بغداد وما وراءها إلى الهند وما أمامها إلى دمشق الشام، وقتل الملايين من المسلمين، وفعل أفاعيل المتوحشين مما لا يقدر أي قلم على وصفه ولا أي ذهن على تحمل تصوره إلا أن تغلبه العبرة، وصارت الممالك العظيمة عبرة بعد ما كانت ملأى بالمدارس والمكاتب والمراصد والمستشفيات والمصانع، وذهب بذلك علم الإسلام وعلماؤه بالقتل، وكتبه وذخائره ورجاله بالحرق والغرق، وتمدنه وحضارته، وكان هولاكو وقومه مشركين، ولذلك يعتبر دخولهم بغداد فاصلا بين تاريخ الإسلام القديم والجديد، ولكنه لم تأت سنة 700 سبعمائة حتى أسلم ملك التتار قازخان بن طرخان بن هولاكو وأسلم معه مائة ألف مقاتل من التتر، لكن بعد ما خربوا مدن الإسلام من سمرقند وخراسان وخوارزم إلى دمشق الشام، وأذهبوا زهرة مدينة العرب والأتراك والفرس وغيرهم من الأجناس الإسلامية، فإذا أضفت ذلك إلى سقوط صقلية ومدنها بيد النولارمان، وخراب القيروان بيد البدو وكل منهما في أواسط القرن الخامس كما سبق، ودخول البربر لقرطبة في آخر القرن الرابع، وفيه ابتداء سقوطها الذي انتهى سنة 623 ثلاث وعشرين وستمائة بدخول إسبانيا لها، ثم بعدها إشبيلية، تعلم مقدار ما رزئ به الإسلام والفقه في هذه القرون الخامس والسادس والسابع، ثم في آخر القرن الثامن ظهر تيمورلنك من بقايا التتر المسلمين، ففتح جل آسيا كبلاد الهند وخراسان وإيران والعراق والشام وآسيا الصغرى وشرع في فتوح الصين، وملك نصف الدنيا، لكن خرب من معالم الإسلام ما بقي وفعل بدمشق الشام ما فعله سلفه ببغداد.
أما في المغرب، فضعفت الدولة الإسلامية الموحدية، وكثرت الفتن ما بين سقوطها وبين نهوض الحفصية بتونس والزناتية بتلمسان، والمرينية بالمغرب في(2/193)
المائة السابعة. هذه الدول الثلاث كانت تتنازع البقاء بينها وكل منها يريد الاستحواذ على غيره، ثم سقوطها أيضا بعد ذلك، وذهاب دولة بني الأحمر التي كانت بقيت بسيف البحر في الأندلس، واستيلاء العدو على غرناطة وجميع الأندلس، وخروج الإسلام من جنوب أوربا الغربي، وذلك في القرن العاشر الهجري، ولم تأت سنة 1011 إحدى عشرة وألف حتى لم يبق في الأندلس إلا من تنصر جبرا، وأتلفت المدارس والمكاتب والمعاهد وكل آثار التمدن العربي حتى الكتب، فقد حرق الكردنيال كسمينس ثمانين ألف مخطوط عربي في ساحات غرناطة، وأصدر أمره بإبادة الكتب العربية في إسبانيا قاطبة، فبقي إتلافها مسترسلا مدة نصف قرن.
بهذه الحوادث الهائلة ذهبت علوم أهل إفريقيا والأندلس، لكن كانت دولة الأتراك قد ظهرت في أول القرن السابع بآسيا الصغرى، وصارت تعظم شيئا فشيئا إلى أن استولت على معظم آسيا تقريبا وممالك من شرق أوروبا وإفريقية إلى أن بلغت إلى حدود المغرب الأقصى بل كان المغرب تحت سيطرتها أيام السعديين في القرن العاشر.
واستجدت للإسلام عظمته التي فقدها منذ قرون، بل فتحوا القسطنطينية العظمى التي عجزت عنها دول الإسلام قبله من يد الروم الشرقية سنة 857 سبع وخمسين وثمانمائة، وفتحوا شرق أوربا كبلاد اليونان والبلغار والجبل الأسود والبوسنة والهرسك وكثير من بلاد الروس، وبلاد المجر، وهنكاريا، وكان لهم قدم عظيم في الفتح واتساع الممالك أنسى من قبلهم، وبنوا على أنقاض ممالك الإسلام الساقطة من التتر وغيره مملكة عظمى، ففتحوا الحجاز بما فيه مكة والمدينة، وصاروا حماة الحرمين الشريفين، وفتحوا العراق والشام واليمن ومصر، وتنازل لهم الخليفة العباسي الذي كان بها عن لقب الخلافة، فصار ملوكهم خلفاء الإسلام منذ سنة 923 ثلاث وعشرين وتسعمائة. ومن العجب أنه في السنة قبلها تم استيلاء الإسبان على الأندلس نهائيا ثم إن الأتراك فتحوا تونس والجزائر، وأحاطوا بالبحر الأبيض إحاطة الهلال بالنجم، فكان لهم(2/194)
من اتساع الملك ما لم يكن لغيرهم قبلهم ولا بعدهم يبلغ ثلاثة أرباع العالم، وكان لهم الأسطول الضخم، والنظام الأتم، فكان الإسلام بينما هو يسقط في غرب أوربا إذا به يتقدم في شرقها، لكن لم يؤثر ذلك على الفقه بالتقدم، بل بالتأخر؛ لأن العواصم التي كانت مهد الفقه كبغداد وخراسان وسمرقند ودمشق ومصر والبصرة والكوفة والقيروان وتونس ومراكش وفاس وقرطبة وإشبيلية، ثم غرناطة، منها ما استولى عليه العدو أو الخراب، ومنها ما صارت ثانوية غير عواصم بل تابعة لدار الخلافة التي صارت هي القسطنطينية وأنت تعلم أن لسان الدولة المسيطرة هو التركية فلم يكن للعربية تقدم، بل تأخر، والفقه الإسلامي تابع للعربية في تقدمها وتأخرها؛ لأن مادته القرآن والسنة وهما عربيان، والعلماء الذين تصدروا للقضاء والإفتاء لسانهم أعجمي لا قبل لهم بفهم بلاغة القرآن والسنة، فلذلك لم يشتغلوا بالاجتهاد والاستنباط، بل بالتقليد والاقتصار على الشرح والتحشية، والاختصار لمؤلفات وجدوها سهلة، وجل ما ألفوه كانت اللكنة والصعوبة مستولية عليه كما يعلم ذلك بمطالعة كتب علماء هذه العصور. وقد جعلوا مركز مشيخة الإسلام في القسطنطينية وتمذهبوا بمذهب أبي حنيفة مقلدين، وكان القضاة والمفتون يتمذهبون به، فنال انتشارا عظيما أكثر مما كان زمن بني العباس؛ إذ لم يكونوا ملتزمين له كل الالتزام كما يعلم بمراجعة تراجم من تقدم في الطور الثالث قبله وفيما يأتي، وبقي الحال والإسلام على ذلك إلى أن رجع الترك القهقرى، وتسلط الروس والنمسا وغيرهما على بلاد الترك بالغزو والغارة، وانتزاع الممالك منهم، وفصل العناصر الأجنبية عنهم وغير الأجنبية، ثم أمم أوربا التي نهضت لمناهضتهم وهي أمم الاستعمار والفتح كالإنكليز وغيرهم، فصارت ممالك تركيا تنتهب، ويستقل البعض منها والباقي دخلته الفتن والثورات، وانفصمت العرى، وحلت المصائب بالبلاد الإسلامية فزاد الفقه والعلوم العربية تأخرا وهرما إلى وقتنا هذا الذي لم يبق فيه من الدين إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه، ولله عاقبة الأمور. والله المسئول أن يجدد لهذه الأمة عصرا جديدا، وشرفا مجيدا آمين.(2/195)
إحياء الاجتهاد على عهد الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس في القرن السادس:
اعلم أنه برقت بارقة على الفقه سنة 550 خمسين وخمسمائة تحرك بها حركة لكن كانت أشبه بحركة الموت، وذلك أن عبد المؤمن بن علي لما غلب المغرب ووجد العلماء انهمكوا في الفروع راضين خطة التقليد الذي يقضي على الفقه، فكر فكرة في إلزام العلماء الاجتهاد، وترك التقليد فقيل: إنه أبرزها إلى حيز العمل، فحرق كتب الفروع كلها، وأمر بوضع كتب أحاديث الأحكام ذكر ذلك في القرطاس وهو حجة ثبت وثقه ابن خلدون وغيره وأنكر ذلك التميمي في "المعجب" وقال: إن عبد المؤمن إنما فكر في ذلك، وإن الذي أبرزه هو حفيده أبو يوسف يعقوب المنصور المتوفى سنة 595 خمس وتسعين وخمسمائة قال: إن في أيامه انقطع علم الفروع، وخافه الفقهاء وأمر بإحراق كتب الفروع بعد أن يجرد ما فيها من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرآن، فأحرق منها جملة في سائر البلاد كمدونة سحنون، وكتاب ابن يونس ونوادر ابن أبي زيد ومختصره، والتهذيب للبراذعي، وواضحة ابن حبيب، قال: لقد شهدت منها وأنا بفاس يومئذ يؤتى منها بالأجمال فتوضع ويطلق فيها النار، وتقدم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيء منه وتوعد على ذلك بالعقوبة الشديدة وأمر جماعة ممن كان عنده من العلماء المحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة وهي الكتب الخمسة والموطأ ومسند البزار، ومسند ابن أبي شيبة، وسنن(2/196)
الدارقطني، وسنن البيهقي في الصلاة وما يتعلق بها على نحو الأحاديث التي جمعها ابن تومرت في الطهارة، فأجابوه لذلك، وجمعوا ما أمرهم بجمعه، فكان يمليه على الناس بنفسه، ويأخذهم بحفظه، وانتشر هذا المجموع في جميع المغرب، وحفظه الناس من العوام والخاصة، فكان يجعل الجعل السني من الكساء والأموال، وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك من المغرب جملة واحدة، وحمل الناس على الظاهر من الكتاب والسنة، وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهراه، وأظهره يعقوب هذا، يشهد لذلك عندي ما أخبرني به غير واحد ممن لقي أبا بكر بن الجد أخبرهم قال: لما دخلت على أمير المؤمنين يعقوب أول دخلة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس، فقال لي: يا أبا بكر أنا أنظر في هذه الآراء المشعبة التي أحذثت في دين الله أرأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أو أكثر، فأي هذه الأقوال هو الحق، وأيها يجب أن يأخذ به المقلد، فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك، فقال لي وقطع كلامي: يا أبا بكر ليس إلا هذا وأشار إلى المصحف، أو هذا وأشار إلى سنن أبي داود عن يمينه، أو السيف، فظهر في أيامه ما خفي في أيام أبيه وجده، ونال عنده طلبة الحديث ما لم ينالوه في أيام أبيه وجده. ا. هـ.
وقال ابن خلكان: أمر يعقوب المنصور الموحدي برفض فروع الفقه، وأحرق كتب المذهب وأن الفقهاء لا يفتون إلا من الكتاب والسنة النبوية، ولا يقلدون أحدا من الأئمة المجتهدين، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباط القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس، قال: ولقد أدركنا جماعة من مشايخ المغرب وصلوا إلينا وهم على ذلك الطريق مثل أبي الخطاب1
__________
1 أبو الخطاب هو عمر بن الحسن بن علي يرفع نسبه إلى دحية الكلبي الصحابي الجليل وبقية النسب في ابن خلكان قال: إنه من بلنسية من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء أتقن فن الحديث وما يتعلق به من اللغة وأيام العرب وأشعارها، طلب الحديث في بلده الأندلس، ورحل منها إلى مراكش وأفريقيا والشام والعراق وخراسان وفازندران وأصبهان ونيسابور وهو في كل ذلك يطلب الحديث، ويؤخذ عنه، وقدم أربل سنة 604، فوجد مظفر الدين الملك المعظم صاحبها يحتفل للمولد، فعمل له كتابا سماه "التنوير في مولد السراج المنير" وهو أول ما ألف في الباب، ودفع له الملك ألف دينار، وله عدة تصانيف، وتوفي بالقاهرة=(2/197)
بن دحية، وأخيه أبي عمر، ومحيي الدين بن عربي الحاتمي نزيل دمشق وغيرهم. ا. هـ.
ولا يخفى ما هناك من المخالفة بثني كلامي "لمعجب" "وابن خلكان"، فالأول يقتضي أنه ألزمهم بالظاهر، والثاني يقتضي حرية الاجتهاد حتى في العمل بالقياس، ويظهر لي أن الحق ما قاله صاحب "المعجب" لأنه حضر الوقعة وفي بلده كانت، فهو أحرى أن يحقق الواقع.
وعندي أنه لو أعطاهم حرية الاجتهاد، ما تركوه، ولا رجعوا للتقليد عند اضمحلال دولته، وأن الذي أوجب نبذهم لعمله هو أنه ألزمهم بالانتقال من تقليد مالك إلى تقليد الظاهرية في الحقيقة، وإن كان في اللفظ ألزمهم بالاجتهاد ولا معنى لإبدال مذهب يرون صوابيته، وعليه وجدوا آباءهم وأجدادهم إلى مذهب ظهر له وحده حقيته.
ويدل لما في "المعجب" ما قاله سيدي عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي
__________
= سنة 633، ثلاث وثلاثين وستمائة عن سبع وثمانين سنة 516، أما أخوه أبو عمر عثمان، فكان أسن منه حافظا للغة العرب قيما بها، وعزل الملك الكامل أبا الخطاب عن دار الحديث التي كان أنشأها بالقاهرة، ورتب مكانه أخاه أبا عمر، ولم يزل بها إلى أن توفي سنة 634 أربع وثلاثين وستمائة. ا. هـ. ابن خلكان بخ 517 أبو بكر محمد محيي الدين بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي شهر بابن عربي ويزاد لام التعريف ولد بمرسية سنة 560 ثم طاف البلدان من الأندلس والمغرب والشام، ودخل بغداد، وحدث بها شيء من مصنفاته، ودخل بلاد الروم والمشرق، وله مؤلفات كثيرة كالتفسير والفتوحات المكية المشهورة في النوادي العلمية وتآليفه تدل على عقل وفلسفة عظيمة ومعرفة نادرة وخيال واسع وتمكن من العلوم والمعرفة إلا أن أرباب البصائر حذروا من الاشتغال بكتبه لما فيها من المقالات التي لا ينبغي أن يشتغل بها لمخالفتها ظاهرا لما عليه جمهور الأمة، توفي بدمشق سنة 638 ثمان وثلاثين وستمائة وله اختيارات في الفقفه شاذة لاجتهاده منها قوله بمسح الرجلين في الوضوء من غير خف، وجواز السجود في التلاوة إلى أي جهة، وجواز إمامة المرأة، والقول بإيمان فرعون، وعبور الجنب المسجد والإقامة فيه وقراءته القرآن، وأن الطهارة لا تشترط في صلاة الجنازة في احتيارات أخر يطول ذكرها والقول الفصل ما قال جلال السيوطي: اعتقاد ولايته، وتحريم النظر في كتبه وابن عربي نفسه حرم النظر فيها. ا. هـ. مؤلف. قلت: وراجع أيضا ما نقله الحصفكي في الدر المختار "3/ 303"، من معروضات أبي السعود العمادي من وجوب ترك مطالعة كتب ابن عربي، وقد صدر أمر سلطاني بذلك.(2/198)
في تأليف له في بيوتات فاس ونصه: "إن مهدي الدولة الموحدية وأتباعه من ملوكها كانوا ينكرون الرأي، وانتحلوا مذهب الظاهرية، وهو العمل بظاهر القرآن والسنة، وحملوا الناس على ترك الفروع الفقهية، وحرقوا كتب الفروع كلها، ولم تزل كتب الفروع منبوذة عنده، وعند عبد المؤمن بن علي وأولاده، بل حرقوها ووضعوا في السنن أوضاعا، وأوقعوا المحن بذوي الفروع، وقتلوهم وضربوهم بالسياط، وألزموهم الأيمان المغلظة من عتق وطلاق على أن لا يتمسكوا بشيء من كتب الفقه، ولما جاءت الدولة المرينية، نقضت ذلك كله، وجددت كل الفروع، فأملى الفقيه أبو الحسن علي بن عشرين "المدونة" من حفظه، ووجدوا نسخة قوبلت عليها النسخة التي أملاها، فلم تختلف إلا بواو أو فاء. ا. هـ.
وفي "نيل الابتهاج" أن عبد الله بن محمد بن عيسى التادلي الفاسي كتب "المدونة" من حفظه بعد أن أمر الموحدون بحرقها. ا. هـ.
وفي قوانين ابن جزي عند ذكره الخلفاء الموحدين: وكان المنصور أبو يوسف يعقوب عالما محدثا ألف كتاب الترغيب في الصلة، وحمل الناس على مذهب الظاهرية، وحرق كتب المالكية. ا. هـ. وهذا كله يؤيد ما ارتأيناه، فتبين أن لسرعة انهدام ما أسسه الموحدون أسبابا:
الأول: جعلهم ذلك إجباريا، وكل ما كان كذلك لا يقبل، ويسرع زواله ولو كان حقا لأنفه النفوس من كل ما تلزم به جبرا.
الثاني: أنهم سموه اجتهادا، وإنما هو إبدال الرأي بمذهب الظاهرية الذي هو جمود لم يستسحنه الجمهور، ومثل هذا وقع لابن حزم عاب على الناس تقليد مالك، وقلد داود الظاهري، وإن كان المفتي على مذهبهم لا بد له من اجتهاد، ورجوع للأصول من كتاب أو سنة، ولذلك استفاد الفقه من عمل الموحدين فائدة عظمى بظهور حفاظ وعلماء كبار تآليفهم تآليف مهمة في الحديث وغيره.(2/199)
الثالث: انقضاء دولتهم وإتيان دولة أخرى تريد تخريب مجد ما قبلها لتشيد مجدا جديدا، ثم إن الداعي لما فعله الموحدون ليس نصرة مذهب ظهر لهم صوابيته فقط، بل مع الانتقام من الفقهاء المالكية الذين أدركوا شأوا بعيدا أيام لمتونة قبلهم فيما يظهر لي.
قال في "المعجب": قد أدرك الفقهاء في أيام علي بن يوسف بن تاشفين وهي الثلث الأول من القرن السادس مبلغا عظيما لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس، ولم يزل الفقهاء على ذلك وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكام كبيرها وصغيرها موقوفة عليهم طول مدته، فعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا، وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت أموالهم، واتسعت مكاسبهم. وفي ذلك يقول أبو جعفر بن البني الجياني:
أهل الرياء لبستم ناموسكم ... كالذئب أدلج في الظلام العاتم
فملكتم الدنيا بمذهب مالك ... وقسمتم الأموال بابن القاسم
وركبتم شهب البغال بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم
إلى أن قال: ولم يكن يحظى عند أمير المسلمين إلا من علم علم الفروع على مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمن كتب المذهب، وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب الله وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمن يعتني بهما كل الاعتناء. ا. هـ. المراد.
قال الخطابي في "معالم السنن" المتوفى سنة 388 ثمان وثمانين وثلاثمائة ما نصه: رأيت أهل العلم في زمننا قد انقسموا1 فرقتين: أصحاب الحديث، وأصحاب الفقه، وكل فرقة لا تنفك محتاجة إلى ما عند الأخرى؛ إذ الحديث
__________
1 بلغ بهم الأنقسام إلى التنازع والخصام ذكر عياض في مداركه أن عيسى بن سعادة الفاسي لما توفي سنة 355 تنازع فيه علماء فاس فيمن يصلي عليه الفقهاء والمحدثون كل يدعيه ويقول: إنه أحق بالصلاة عليه، وهذا نظير ما وقع بعد الصدر الأول من انسحاب القراء عن صف الفقهاء والمحدثين، وما وقع في هذا العصر من انفراد الصوفية عن الفقهاء وكثرة الفرق داعية إلى التلاشي والانحطاط ولله عاقبة الأمور. ا. هـ. مؤلف.(2/200)
أساس، والفقه بناء، وكل بناء على غير أساس فمنهار، وكل أساس لا بناء عليه فخراب، وعلى ما بينهما من التداني، وشدة الحاجة بل الفاقة اللازمة لكل منهما إلى صاحبتها، فهما أخوان متهاجران على أنه يجب عليهما التناصر والتعاون، فأهل الأثر وكدهم الرواية، وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ الذي أكثره موضوع ومقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا يستخرجون ركازها وسرها، وربما عابوا الفقهاء، وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم قاصرون عن مبلغ العلم بالسنن، وآثمون بسوء القول.
وأما أهل الفقه، فإن أكثرهم لا يعرجون إلا على أقل قليل من الحديث، ولا يكادون يميزون بين سقيمه من صحيحه، ولا يعبئون أن يحتجوا بالسقيم إذا وافق آراءهم وقد اصطلحوا على قبول الضعيف والمنقطع إذا ما اشتهر عندهم، وتعاورته الألسنة من غير تثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة في الرأي وغبنا فيه، ولو حكي لهم عن أئمة مذاهبهم قول، لتثبتوا واستبرءوا له العهدة، فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون إلا رواية ابن القاسم أو أشهب أو أضرابهما من نبلاء أصحابه، فإذا جاءت رواية عبد الله بن عبد الحكم، لم يكن عندهم طائلا، وترى أصحاب أبي حنيفة يتثبتون، ولا يقبلون إلا رواية محمد بن الحسن أو أبي يوسف والعلية من أصحابه، فإذا جاء عن الحسن بن زياد اللؤلئي وذوي روايته قول بخلافه، لم يقبلوه، وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي، فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا إليها وهكذا كل فرقة من الفقهاء في مذهب أئمتهم لا يقتنعون1 إلا بالثقة الثبت، فإذا كان هذا في الفروع، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم، والخطب الأعظم وهو الرواية عن رسول رب العزة الواجب حكمه، اللازم طاعته، الذي يجب التسليم لأمره، والانقياد لحكمه حتى لا نجد في أنفسنا حرجا
__________
1 قوله: لا يقتنعون إلا بالثقة الثبت إلخ هذا مع وقوع الاختلاط في المذاهب، وكثرة الروايات والرواة، فأصحاب الشافعي البغدادي ينقلون أقوالا غير ما ينقله المصريون، وهكذا المالكية لهم طريقة العراقيين والحجازيين والمصريين والقرويين، نص على ذلك صاحب "المعيار" نقلا عن ابن مرزوق في نوازل الصلاة. ا. هـ. مؤلف.(2/201)
مما قضاه؟ وإذا جاز للإنسان أن يتسامح في حق نفسه، فيقبض الزائف، ويغضي عن العيب، فلا يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إذا كان نائبا عنه كولي اليتيم الضعيف، ووكيل الغائب، فإذا فعل، كان خيانة للعهد، وإخفارا للذمة، ولكن قوما استوعروا طريق الحق، واستطابوا الدعة، فاختصروا طريق العلم، واقتصروا على نتف وحروف منتزعة عن معاني أصول الفقه سموها عللا، وجعلوها شعارا لأنفسهم في الترسم برسم العلم، واتخذوها جنة عند لقاء خصومهم، ونصبوها ذريعة للخوض والجدل يتناظرون بها.
هذا وقد دس لهم الشيطان حيلة لطيفة، وبلغ منهم مكيدة بليغة، فقال لهم: هذا الذي في أيديكم علم قصير، وبضاعة مزجاة لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية، فاستعينوا عليه بالكلام، وصلواه بمقطعات منه، واستظهروا بأصول المتكلمين، يتسع للمرء مذهب الخوض ومجال النظر، فصدق عليهم إبليس ظنه، وأطاعه كثير منهم واتبعوه إلا فريقا من المؤلفين. فيا للرجال ويا للعقول أين يذهب بهم وأين يخدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم والله المستعان. ا. هـ. بخ.
وقال ابن العربي في "القواصم والعواصم": عطفنا عنان القول إلى مصائب نزلت بالعلماء في طريق الفتوى لما كثرت البدع، وتعاطت المبتدعة منصب الفقهاء، وتعلقت أطماع الجهال به، فنالوه بفساد الزمان ونفوذ وعد الصادق -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" 1 وبقيت الحال هكذا، فماتت العلوم إلا عند آحاد الناس، واستمرت القرون على موت العلم وظهور الجهل، وذلك بقدر الله تعالى، وجعل الخلف منهم يتبع السلف حتى آلت الحال إلى أن لا ينظر في قول مالك وكبراء أصحابه ويقال: قد قال في هذه المسألة أهل قرطبة وأهل طلنمكة وأهل طليطلة، وصار الصبي إذا عقل وسلكوا به أمثل طريقة لهم، علموه كتاب الله، ثم نقلوه إلى
__________
1 أخرجه البخاري "1/ 174، 175"، ومسلم "2673" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.(2/202)
الأدب ثم إلى "الموطأ" ثم إلى "المدونة" ثم إلى وثائق ابن العطار، ثم يختمون له بأحكام ابن سهل، ثم يقال له: قال فلان الطيطلي وفلان المجتريطي وابن مغيث -لا أغاث الله ثراه، فيرجع القهقرى، ولا يزال يمشي إلى وراء، ولولا أن الله مَنَّ بطائفة تفرقت في ديار العلم، وجاءت بلباب منه كالقاضي أبي الوليد الباجي، وأبي محمد الأصيلي، فرشوا من ماء العلم على هذه القلوب الميتة، وعطروا أنفاس الأمة الذفرة، لكان الدين قد ذهب، ولكن تدارك الباري تعالى بقدرته ضرر هؤلاء بنفع هؤلاء، وربما سكنت الحال قليلا، والحمد لله. ا. هـ. نقله في "الاستقصا".
وقد وضعناه أمامك لتستفيد كيف كان تعلم أهل الأندلس في القرن الخامس والسادس، وتعلم أن رحلة العلماء من منعشات العلم، وتعلم أن الفقه إذ ذاك قد أخذ في دور التأخر.
وقال القرافي في الفرق الثامن والسبعين: يجب على أهل المذاهب أن يتفقدوا مذاهبهم، فكل ما وجوده على خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم من المعارض يحرم عليهم الفتيا به، ولا يعرى مذهب من المذاهب عنه. قف على آخر كلامه.
وإن رمت التوسع في هذا المقام، فعليك بـ"إعلام الموقعين" فإنه أخنى بلائمة كثيرة على العلماء في تركهم الاجتهاد، وميلهم لظل التقليد وذكر في الطبقات السبكية في ترجمة الحافظ أبي طاهر السلفي الإسكندراني أن والد السبكي اعترض عليه في فتوى أفتاها بأن فنه الحديث، وليس من شأنه الإفتاء وإني لأعجب من شافعي يقرر في غير ما موضع أن إمامهم بنى مذهبه على الحديث، وأن أصلهم الأصيل هو الحديث، وأنه أوصاهم بأن الحديث هو مذهبه، ومع ذلك يعترض هذا الاعتراض، وكم لهذه القضية من نظير في تلك القرون.
وفي "إعلام الموقعين" عدد 457 من الجزء الرابع: لا يجوز أن ينسب(2/203)
للشافعي قول يخالف الحديث، وأنه يجوز للمفتي أن يفتي من الصحيحين أو السنن أو غيرهما من كتب الحديث الموثوق بها فانظره.
فتبين لكم من هذا ما حصل في هذه الأزمان من استقلال الفقه عن الحديث، والحديث عن الفقه مع ما كانا عليه من التلازم في القرون الأولى، ففي آخر الشمائل الترمذية عن ابن المبارك: إذا ابتليت بالقضاء، فعليك بالأثر. وعن ابن سيرين: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذهم.
وقد أراد الموحدون في أفريقيا والأندلس الرجوع إلى الأصل الأول، لكنهم لم ينجحوا، ولم يدم عملهم للأسباب التي بيناها لكم ولله عاقبة الأمور.
قال السبكي في "الطبقات" عدد 169 من الجزء الأول ما نصه: ثم أفضى الأمر إلى طي بساط الأسانيد رأسا وعد الإكثار منها جهالة ووسواسا، ولا يهون الفقيه أمر ما نحكيه من غرائب الوجوه، وشواذ الأقوال، وعجائب الخلاف قائلا: حسب المرء ما عليه الفتيا، فليعلم أن هذا هو المضيع للفقه أعني الاقتصار على ما عليه الفتيا، فإن المرء إذا لم يعرف علم الخلاف والمأخذ لا يكون فقيها إلى أن يلج الجمل في سم الخياط، وإنما يكون ناقلا مخبطا حامل فقه إلى غيره لا قدرة له على تخريج حادث بموجود، ولا قياس مستقبل بحاضر، ولا إلحاق غائب بشاهد، وما أسرع الخطأ إليه، وأكثر تزاحم الغلط عليه، وأبعد الفقه لديه، ثم روى حديث: "نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه ثم وعاها وحملها، رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" الحديث رواه الترمذي1 وغيره. ا. هـ.
فانظر رحمك الله تأفف أهل القرن الرابع إلى الثامن من مآل الفقه وترك السنة والاجتهاد والاشتغال بالفروع وهكذا بقيت الحال في نقصان واندحار إلى
__________
1 "2658" وأخرجه أحمد "5/ 83"، وابن ماجه "230"، والدارمي "1/ 75"، من حديث زيد بن ثابت، وصححه غير واحد من المحدثين، وأخرجه من حديث ابن مسعود الشافعي، "1/ 14"، والترمذي "2659"، وابن ماجه "232"، وإسناده صحيح، وأخرجه من حديث جبير بن مطعم أحمد "4/ 81"، وابن ماجه "1/ 75، 76"، وأخرجه من حديث ابن عباس الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" ص166.(2/204)
وقتنا هذا، وربما حصلت حركة في بعض الأعصار لكن يعقبها سكون وجمود. ومما اشتغل به فقهاء هذه العصور تأليف مناقب أئمتهم، وتفاخروا في ذلك حتى صارت مناقب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد في مجلدات. انظر حرف الميم من "كشف الظنون".(2/205)
تراجم الفقهاء في هذه العصور:
غير خفي أن عصر شيخوخة الفقه من أول المائة الخامسة إلى الآن عصر طويل كان فيه علماء جلة كثيرون لا يأتي العد على جمهورهم، ولا على القليل منهم، وإنما نأتي بمن استحضرناه على سبيل التمثيل:
فمن الحنفية:
498- أبو الحسن أحمد بن محمد القدوري 1:
صاحب مختصر الحنفية المشهور الذي هو كمختصر ابن الحاجب عند المالكية وهو الذي شرح مختصر الكرخي، وصنف كتاب "التجريد" في الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي مجردا عن الأدلة، وكتاب التقريب الكبير، والصغير، وهو ممن كان يناظر أبا حامد الإسفراييني رأس الشافعية في وقته. توفي سنة 438 ثمان وعشرين وأربعمائة ببغداد.
499- أبو زيد عبد الله بن عمر الدبوسي 2 السمرقندي:
هو أول من تكلم في الخلاف من الحنفية، له نظم في الفتاوى، وكان يضر به المثل في النظر، واستخراج الحجج، وله مناظرات ببخارى وسمرقند.
__________
1 أبو الحسن أحمد بن محمد القدوري: سير النبلاء "11/ 128"، وتاريخ بغداد "4/ 377"، ووفيات الأعيان "1/ 78، 79"، وشذرات الذهب "3/ 223"، والجواهر المضية "1/ 93/ 94"، الفوائد البهية ص"30، 31".
2 أبو زيد عبد الله بن عمر الدبوسي السمرقندي: سير النبلاء "11/ 115"، وفيات الأعيان "3/ 48"، والفوائد البهية ص"109"، والجواهر المضية "1/ 339".(2/206)
توفي سنة 430 ثلاثين وأربعمائة ناظر بعض الفقهاء، فكان كلما ألزمه حجة، ضحك، فأنشد أبو زيد:
ما لي إذا ألزمته حجة ... قابلني بالضحك والقهقه
إن كان ضحك المرء من فقهه ... فالدب في الصحراء ما أفقهه
500- أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري 1: شيخ الحنفية في زمنه، ومن كبرائهم أيضا. توفي سنة 436 ست وثلاثين وأربعمائة.
501- شمس الأئمة عبد العزيز بن أحمد الحلواني 2 البخاري: مصنف كتاب "المبسوط" إمام أهل بخارى. توفي سنة 448 ثمان وأربعين وأربعمائة، عده ابن كمال باشا من مجتهدي المسائل.
502- علي بن محمد البزدوي 3:
فقيه ما وراء النهر، وإمام الدنيا فروعا وأصولا، له كتاب "المبسوط" أحد عشرا مجلدا وهو صاحب كتاب أصول البزدوي المشهور، وتقدمت لنا إشارة إليه، وله كتب غيره. توفي سنة 482 اثنين وثمانين وأربعمائة.
503- أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني 4: انتهت إليه رياسة الحنفية ببغداد، وولي قضاءها، ولد بالدامغان سنة 400، وتوفي سنة 478 ثمان وسبعين وأربعمائة.
__________
1 أبو عبد الله بن الحسين بن علي الصيمري: الفوائد البهية ص"67"، الجواهر المضية "1/ 214".
2 عبد العزيز بن أحمد الحلواني البخاري: أبو أحمد، البخاري الحلواني:
المشتبه ص"244"، الإكمال "3/ 111".
3 علي بن محمد البزوي: الأنساب "2/ 188"، معجم البلدان "1/ 409"، اللباب "1/ 146"، الجواهر المضيئة "2/ 594"، مفتاح السعادة "2/ 184"، كشف الظنون "1/ 112"، الفوائد البهية "124، 125".
4 أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني: الفوائد البهية ص"182".(2/207)
504- شمس الأئمة بكر بن محمد الزرنجري 1: إمام محقق أخذ عن الشمس الحلواني، توفي سنة 512 اثني عشرة وخمسمائة.
505- أبو محمد عمرو بن عبد العزيز 2 بن عمر بن مازه المعروف بالصدر الشهيد:
إمام الفروع والأصول من كبار الأئمة، له شرح الجامع، والفتاوى كبرى وصغرى، توفي شهيدا بسمرقند سنة ست وثلاثين وخمسمائة 536 عن ثلاث وخمسين.
506- أبو حفص عمر بن محمد النسفي 3:
مفتي الثقلين أحد الأئمة المشهورين، له نحو مائة مصنف في المصنف والحديث والتاريخ، نظم الجامع الصغير، وهو أول كتاب نظم في الفقه، وله تاريخ سمرقند في عشرين مجلدا، والتيسير في التفسير، توفي سنة 537 سبع وثلاثين وخمسمائة.
507- أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري 4 جار الله:
إمام عصره بلا مدافعة فقيها لغويا أديبا مناظرا من أكابر الحنفية والمعتزلة،
__________
1 بكر بن محمد الزرنجري: الزرنجري: المشتبه "379".
2 أبو محمد عمرو بن عبد العزيز بن عمر بن مازه: الصدر:
الفوائد البهية ص"149"، والجواهر المضية "1/ 56".
3 أبو حفص عمر بن محمد النسفي: أبو حفص، أبو الحسن، النسفي الحنفي السمرقندي، مات سنة "537":
التحبير "1/ 527"، لسان الميزان "4/ 327"، معجم المؤلفين "7/ 305، 306"، تبصير المنتبه "3/ 1217"، دائرة الأعلمي "23/ 44"، سير النبلاء "2/ 126".
4 أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري: بفتح الزاي وسكون الحاء وفتح الشين المعجمة قرية=(2/208)
وقد اندثرت آثار المعتزلة إلا تفسيره الكشاف لم يقدروا على إعدامه لشدة الحاجة إليه. وله تصانيف غيرها كلها غرر. توفي سنة 538 ثمان وثلاثين وخمسمائة.
508- شمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي 1:
تلميذ شمس الأئمة الحلواني، عدوه من المجتهدين في المسائل بالمذهب الحنفي، أملى كتاب المبسوط نحو خمسة عشر مجلدا وهو مسجون في الجب بأوزجند، وأصحابه يكتبون في أعلى الجب من غير مطالعة كتاب، وسبب سجنه كلمة نصح بها الخاقان. ومبسوطة هذا شرح للكافي، وهو مطبوع في مصر، وأملى به أيضا شرح السير الكبير إلى باب الشروط فأفرج عنه، توفي أواخر القرن الخامس، وله تآلف أخرى.
509- طاهر بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري 2:
شيخ الحنفية بما وراء النهر، ومن أعلامهم مجتهديهم، مؤلف "خلاصة الفتاوى" وهو كتاب معتمد عند الحنفية، لخصه من كتابيه الواقعات وخزانة الواقعات. توفي سنة 542 اثنين وأربعين وخمسمائة ذكره ابن كمال باشا من طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب، ولا يقدرون على مخالفته في الفروع والأصول ذكره في تعليق "الفوائد البهية".
510- أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الصفار 3: توفي ببخارى سنة 574 أربع وسبعين وخمسمائة.
__________
1 محمد بن أحمد السرخسي: الفوائد البهية ص"158".
2 طاهر بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري: الفوائد البهية ص"84".
3 أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الصفار: الفوائد البهية ص"7".(2/209)
511- أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني 1:
-بالمهملة والمعجمة- الملقب بملك العلماء، مؤلف كتاب "البدائع" وهو شرح كتاب "تحفة الفقهاء" لشيخه علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي، توفي سنة 587 سبع وثمانين وخمسمائة.
512- فخر الدين حسن بن منصور الأوزجندي 2 الفرغاني:
المشهور بقاضي خان إمام كبير من أئمة الحنفية، له الفتاوى المشهورة، والواقعات، والأمالي، والمحاضر، وشرح الزيادات وغيرها. معدود عندهم من مجتهدي المذهب الذين لهم الترجيح في الأقوال، وعده ابن كمال باشا من طبقة الاجتهاد في المسائل، قال قاسم بن قطلوبغا: من يصححه قاضي خان مقدم على تصحيح غيره؛ لأنه فقيه النفس. توفي سنة 592 اثنين وتسعين وخمسمائة.
513- علي بن أبي عبد الجليل المرغيناني 3 برهان الدين: مؤلف كتاب "الهداية" و"المنتقى" وغيرهما. توفي سنة 593 ثلاث وتسعين وخمسمائة والهداية كتاب من أجل كتب الحنفية وفيه قيل:
إن الهداية كالقرآن قد نسخت ... ما صنفوا قبلها في الشرع من كتب
514- أبو الفضل محمد بن محمد بن محمد العراقي 4 القزويني ركن الدين الطوسي: إمام فاضل محجاج
__________
1 أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني: الجواهر المضية "2/ 244"، وأعلام النبلاء "4/ 305".
2 فخر الدين حسن بن منصور الأوزجندي الفرغاني: الفوائد البهية ص"64، 65".
3 علي بن أبي عبد الجليل المرغياني: برهان الدين، الفوائد البهية ص"141"، وسير النبلاء "13/ 53"، والجواهر المضية "1/ 383".
4 أبو الفضل محمد بن محمد بن محمد العراقي القزويني: مرآة الجنان "3/ 498".(2/210)
ماهر في علم الخلاف له ثلاث تعاليق في الخلاق، وحلوا إليه إلى همذان وانتشر في الآفاق توفي سنة 600 ستمائة.
515- أبو حامد بن محمد العميدي 1 السمرقندي ركن الدين:
كان إماما في الخلاف خصوصا الجست2، وهو أول من أفرده بالتصنيف ومن تقدمه كان يمزجه بخلاف المتقدمين، وهو أحد الأركان الأربعة الذين أخذوا عن رضي الدين النيسابوري، كل منهم ركن الدين، وله "الإرشاد" الذي اعتنى به من بعده، وكتاب "النفائس" وغيرها، وانتفع به خلق كثير. توفي ببخارى سنة 615 خمس عشرة وستمائة والعميدي بفتح العين وبالدال المهملة.
516- عبيد الله بن إبراهيم المحبوبي العبادي 3:
-بضم العين- نسبة إلى جده الأعلى عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- شيخ الحنفية بما رواء النهر وأحد من انتهى إليهم معرفة المذهب، عديم النظير في زمنه، له تصانيف ككتاب "الفروق" وشرح الجامع الكبير، وغيرهما يعرف بأبي حنيفة الثاني. توفي ببلده بخارى سنة ثلاثين وستمائة 630.
517- أبو المجاهد جمال الدين محمود بن أحمد البخاري التاجري 4 المعروف بالحصيري: لم يكن في عصره من
__________
1 أبو حامد محمد بن محمد العميدي السمرقندي "ركن الدين": سير النبلاء "13/ 35"، وابن خلكان "4/ 257"، وشذرات الذهب "5/ 64"، والجواهر المضية "2/ 128"، والفوائد البهية ص"200".
2 لفظة فارسية معناها: البحث، وقد أصبحت تطلق على نوع من فروع الخلاف.
3 عبيد الله بن إبراهيم المحبوبي العبادي "نسبة إلى عبادة بن الصامت": العبر "5/ 120"، شذرات الذهب "5/ 137"، وتاريخ الإسلام "أيا صوفيا/ 3012".
4 أبو المجاهد جمال الدين محمود بن أحمد البخاري التاجري "الحصيري": أبو المجاهد، البخاري التاجر، محمود بن أحمد بن عبد الله السيد بن عنان بن نصر:=(2/211)
يقاربه من الحنفية ببلده توفي سنة 636 ست وثلاثين وستمائة بدمشق.
518- الحسن بن محمد بن حيدر الصغاني 1
كان فقيها محدثا لغويا، ذا مشاركة تامة في جميع العلوم، له كتاب "مشارق الأنوار" في الحديث، و"العباب" في اللغة وغيرها، توفي سنة 650 خمسين وستمائة ببغداد، ونقل لمكة والصغاني أو الصاغاني بتخفيف الغين: اسم قرية بمرو.
519- يوسف بن فرغلي البغدادي 2 سبط الحافظ ابن الجوزي
كان على مذهب جده حنبليا، ثم رحل إلى الموصل ودمشق وتفقه على الحصيري فصار حنفيا، له "مرآة الزمان" تاريخ في أربعين مجلدا، وتفسير في تسعة وعشرين مجلدا وشرح الجامع الكبير وغيره، توفي سنة أربع وخمسين وستمائة 654.
520- الإمام عبد الله بن أحمد بن محمود أبو البركات حافظ الدين النسفي 3:
عديم النظير في زمنه، رأس في الفقه والأصول، بارع في الحديث، له
__________
1 الحسن بن محمد بن حيدر الصغاني: سير النبلاء "13/ 292"، ومعجم الأدباء "9/ 189"، وشذرات الذهب "5/ 250"، والجواهر المضية "1/ 201"، والبدر الطالع "1/ 210".
2 يوسف بن فرغلي البغدادي سبط الحافظ ابن الجوزي: الفوائد البهية ص"230".
3 عبد الله بن أحمد محمود أبو البركات حافظ الدين النسفي: الجواهر المضية "1/ 270"، والدرر الكامنة "2/ 247"، والفوائد البهية ص"101".(2/212)
تصانيف معتبرة كمتن الوافي، وشرحه الكافي في الفروع، و"المنار" في الأصول وشرحه، و"المصفى" وشرح المنظومة النسفية، و"المدارك" في التفسير وغيرها. توفي بعد عشر وسبعمائة، عده ابن كمال باشا من المقلدين القادرين على تمييز القوي من الضعيف، وعده غيره من مجتهدي المذهب، وقال: إنه ختامهم، انظر تعليق الفوائد.
521- عبيد الله بن مسعود بن محمود المحبوبي العبادي 1:
نسبة إلى عبادة بن الصامت صدر الشريعة الإمام المتفق عليه، صاحب شرح الوقاية وغيرها، بارع في الأصول والفروع والخلاف والحديث والتفسير وغيرها. مات سنة 747 سبع وأربعين وسبعمائة، ودفن بمرقد أجداده ببخارى.
522- علي بن عثمان المارديني علاء الدين الشهير بابن التركماني 2: إمام في الفنون النقلية والعقلية، ذو التصانيف الكثيرة في الفقه والأصول والحديث والتاريخ وغيرها توفي بمصر سنة 750 خمسين وسبعمائة.
523 - السيد الشريف الجرجاني 3 علي بن محمد:
عالم بلاد المشرق قرن سعد الدين التفتازاني في مجلس تيمور لنك، والمحشي على شروحه، ذو التصانيف المفيدة، كشرح المواقف، وشرح تجريد نصير الدين
__________
1 عبيد الله بن مسعود بن محمود المحبوبي العبادي "نسبة إلى عبادة بن الصامت": الفوائد البهية ص"109".
2 علي بن عثمان المارديني علاء الدين الشهير بابن التركماني: المارديني التركماني، ولد سنة 683، مات سنة 750:
معجم المؤلفين "7/ 145، 246"، والحاشية.
3 السيد الشريف الجرجاني علي بن محمد "عالم بلاد المشرق": أبو الحسن، الجرجاني: سير النبلاء "17/ 421"، والحاشية.(2/213)
الطوسي زادت مصنفاته على خمسين، توفي بشيراز سنة 816 ست عشرة وثمانمائة عن مائة واثنتي عشرة سنة من "بغية الوعاة".
524- محمد بن حمزة شمس الدين الفناري 1:
إمام كبير نحرير، مجتهد عصره في المذهب، أحد رؤساء الدين الذين انفرد كل منهم على رأس القرن الثامن بكثرة التصنيف، أو فن من الفنون، والفناري انفرد بالاطلاع على كل العلوم، له "فصول البدائع في أصول الشرائع" وغيرها توفي سنة 834 أربع وثلاثين وثمانمائة.
525- الشيخ الإمام بدر الدين محمود بن أحمد العيني المصري 2:
قاضي القضاة للحنفية بها، إمام علامة من العلوم العربية والفقه والحديث، له تآليف حسان، كشرح البخاري الكبير مطبوع، وشرح شواهد الرضي كبير وصغير، وكتب في السيرة والتاريخ والفقه وغيرها، عمر مدرسة قرب الأزهر، وحبس بها كتبه، ومآثره جمة، ولد بعين تاب سنة 762، وتوفي بمصر سنة 855 خمس وخمسين وثمانماية.
526- كمال الدين محمد بن عبد الواحد السكندري السيواسي 3:
الشهير بابن الهمام، إمام نظار، فقيه محدث أصولي، حافظ مفسر متفنن،
__________
1 محمد حمزة شمس الدين الفناري: بغية الوعاة ص"39"، والشقائق النعمانية "1/ 84"، والفوائد البهية ص"166"، ومفتاح السعادة "1/ 452".
2 بدر الدين محمد بن أحمد العيني المصري: أبو محمد أبو الثناء، العيني القاهرة، ولد سنة 762، مات سنة 855:
حاشية الأنساب "9/ 431"، والضوء اللامع، معجم المؤلفين "12/ 150، 151"، والحاشية.
3 كمال الدين محمد بن عبد الواحد السكندري السيواسي: ابن الهمام، السيواسي القاهري الحنفي، ولد سنة 790:
الضوء اللامع "8/ 127"، والبدر الطالع "2/ 201"، وشذرات الذهب "7/ 298"، وحسن المحاضرة "1/ 270"، الفوائد البهية ص"180".(2/214)
له تصانيف معتبرة كفتح القدير والمسايرة والتحرير وغيرها، توفي سنة 861 إحدى وستين وثمانمائة.
527- المولى خسرو محمد بن فراموز 1: رومي الأصل قاضي القسطنطينية بحر زاخر في المنقول والمعقول، له الغرر في الأحكام الفقهية، وشرحها الدرر، و"مرقاة الأصول" وغيرها توفي سنة 885 خمس وثمانين وثمانمائة.
528- أبو العدل زين الدين قاسم بن قطلوبغا المصري 2:
إمام علامة قوي المشاركة في الفنون، واسع الباع في مذهبه، متقدم فيه، نظار مفحم لخصومه، تصانيفه كثيرة كشرحي المجمع، ومختصر المنار، وشرح المصابيح، والفتاوى وغيرها من تواليف مفيدة فقهية وحديثية. توفي سنة تسع وسبعين وثمانمائة.
529- الإمام شمس الدين أحمد بن سيلمان بن كمال باشا 3:
شيخ الإسلام والمسلمين، ومفتي القسطنطينية، وسبب تولية الإفتاء كما
__________
1 المولي خسرو محمد بن فراموز: قاضي القسطنطينية "رومي الأصل"، الفوائد البهية ص"184".
2 أبو العدل زين الدين قاسم بن قطلوبغا المصري: الضوء اللامع "6/ 184"، والبدر الطالع "2/ 45"، وشذرات الذهب "7/ 326"، والفوائد البهية ص"99".
3 شمس الدين أحمد بن سليمان بن كمال باشا: والفوائد البهية ص"21"، والشقائق النعمانية "1/ 420"، والكواكب السائرة "2/ 107".(2/215)
في رحلة العياشي أن سلطان العثمانيين سليم الأول استفتى علماء وقته في السلطان الغوري الذي منعه من الميرة بمصر لما كان قاصدا غزو بلاد العجم، متعللا بالغلاء وهو في الحقيقة كان حليفا للعجم، فقال العلماء: لا وجه لغزوه وهو سلطان المسلمين، ولم يمنعك حقا هو لك، فقال ابن كمال باشا: بل تغزوه، وتفتح بلاده وذلك مأخوذ من القرآن، وبما أني أصغر القوم، فلا يمكنني أن أتقدمهم، فأمهلهم ثمانية أيام حتى يطالعوا.
فقالوا: ما لنا غير ما أجبنا به، فليتبين جوابك، فقال: لا أجيبك إلا بعد الأيام الثمانية ربما يفتح الله عليكم بشيء فبعد ثمانية أيام جمعهم، فقالوا: ما لنا غير الجواب الأول، فقام ابن كمال، وقال: إن القرآن يوجد فيه دخولك مصر فاتحا لها، فإن الله يقول: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} 1، فقوله: ولقد عدده هو مائة وأربعون مساوية للفظ سليم، فتكون إشارة الكلام سليم، وقوله: من بعد الذكر عدد ذكر بدون لام التعريف هو 920 عشرون وتسعمائة والأرض في الآية الكريمة هي مصر عند كثير من المفسرين، والعباد الصالحون هم جنودك إذ لا أصلح منهم في أقطار الأرض لإقامتهم سنة الجهاد، وفتحهم أكثر البلاد النصرانية، وهم على مذهب أهل السنة والجماعة، وغيرهم من عساكر البلاد إما ممن فسدت عقائدهم كأهل العراق وأكثر اليمن والهند، وإما ممن ضعفت عزائمهم عن إقامة شعائر الإسلام كأهل المغرب، وإما ممن استولت عليهم الدنيا كأهل مصر، وبالغ في تقرير هذا المعنى.
وسر السلطان به، وسلم له العلماء الاستنباط ولطف الإشارة إلا أنهم قالوا: هذا لا يكفي في إباحة قتال من لم يخلع يدا من طاعة، ولا حارب أحدا من المسلمين وإن كانت الإشارة القرآنية تدل على أن هذا سيكون، فلا بد من إظهار وجه تعتمده الفتوى الفقهية.
فقال ابن كمال: أيها الأمير، قل للغوري: إني عزمت على أداء فريضة الحج، وليس لنا طريق ولا تزود إلا من بلدكم، فنريد أن نمر بها، ونتزود فإنه لا
__________
1 سورة الأنبياء: 105.(2/216)
محالة مانعك وصادك، وصده محاربة تبيح قتاله، فاستحسن العلماء جوابه لجواز الحيل في مذهبهم الحنفي، فكتب سليم للغوري يطلب المرور والتزود فمنعه، وقال: لا سبيل إلا أن يمر على ظهور الموتى، فوقعت الحرب واستولى سليم على مصر سنة 923، وتم له النصر، وقتل كثيرا من العلماء والصلحاء حتى المجاذيب، وكان أمر الله قدرا مقدورا، واستولى على الخليفة المتوكل العباسي، فسلم إليه حقوقه في الخلافة، ومفتاح البيت الحرام، والآثار النبوية، فانتقلت الخلافة لدار السعادة، وبيت العثمانين الأتراك انتقالا شرعيا والملك لله يؤتيه من يشاء.
فقال لابن كمال: اطلب ما شئت من الولايات، فطلب الإفتاء بدار السعادة فوليها، وكان من نخبة العلماء وسادتهم له تآليف محررة شهيرة من أشهرها متن الإصلاح وشرح الإيضاح في الفقه، ومتن في الأصول، وقلما يوجد فن إلا وله فيه مصنف أو مصنفات تنيف مصنفاته على ثلاثمائة، ومنه التفسير الشهير. له في استنباطات ودقائق دالة على كمال فكره وأنه كمال ابن كمال، وقد بلغ فيه إلى سورة الصافات توفي سنة 940 أربعين وتسعمائة. انظر "رحلة العياشي" إلا أن قوله: انتقالا شرعيا غير خفي أن السيف والغلبة تضعف ذلك.
530- أبو السعود محمد بن محيي الدين محمد العمادي 1:
عالم نحرير ليس له في العجم ولا العرب نظير، انتهت إليه رياسة الحنفية في زمنه، وكان يجتهد في بعض المسائل ويخرج ويرجح بعض الدلائل، وله في الأصول والفروع قوة كاملة قاضي القسطنطينية وغيرها، ثم ولي الإفتاء بها أكثر من ثلاثين سنة، له التفسير المسمى "إرشاد العقل السليم" مات سنة 982 اثنين
__________
1 أبو السعود محمد بن محيي الدين محمد العمادي: شذرات الذهب "8/ 398"، والبدر الطالع "1/ 261"، والفوائد البهية ص"81".(2/217)
وثمانين وتسعمائة.
531- محمد بن عبد الله بن أحمد الخطيب التمرتاشي 1 الغزي الحنفي:
رأسهم في وقته، لم يبق في آخر أيامه من يساويه رحل لمصر، وأخذ عن أعلامها، وله تآليف مهمة متقنة كتنوير الأبصار تصنيف في الفقه عظيم القدر مشهور وشرحه ومنظومته وشرحها، ومعين المفتي، وفتاوى، وكتب أخرى كثيرة توفي سنة 1004 أربع وألف.
532- الملا علي بن محمد بن سلطان الهروي القاري 2 المكي:
علامة الزمان، وعالم بلد الله الحرام، له مصنفات كثيرة كشرح المشكاة الذي هو من مواد الفقه على أحاديث الأحكام، وشرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة، وشرح شفاء عياض، وشرح الشمائل، وشرح الشاطبية، وغيرها، وله تآليف لا تحصى كثرة وتآليفه في الفقه والحديث جيدة غاية. توفي بمكة سنة ألف وأربع عشرة 1014 ولما بلغ خبر موته علماء وقته بمصر، صلوا عليه صلاة الغائب في مجمع حافل جمع أربعة آلاف نسمة. ويعد مجددا على رأس الألف رحمه الله.
533- عبد الحليم بن محمد المعروف بأخي زادة 3: القسطنطيني المولد والمنشأ والوفاة أحد أفراد الدولة العثمانية وسراة علمائها متضلع من الفنون، ثاقب الذهن، درس في مدارس عالية بعد ما أخذ عن جلة
__________
1 محمد بن عبد الله بن أحمد الخطيب التمرتاشي الغزي الحنفي: خلاصة الأثر "4/ 18".
2 المنلا علي بن محمد بن سلطان الهروي القاري المكي: خلاصة الأثر "3/ 185"، والبدر الطالع "1/ 445".
3 عبد الحليم بن محمد المعروف بأخي زادة القسطنطيني المولد والمنشأ: خلاصة الأثر "2/ 322".(2/218)
علماء الروم. ولي قضاء تخت الإسلام وغيرها، وله تآليف كثيرة، منها شرح الهداية، وتعليقات على شرح المفتاح، وجامع الفصولين، والدرر والغرر، والأشباه والنظائر، ورسالة تفسيرية، وله من الآثار العلمية ما لا يجد ولا يحصى، وعلى الخصوص فيما يتعلق بالحجج والصكوك.
قال القاضي محب الدين الحنفي: اتفق أهل الروم قاطبة على أنه ما نشأ في إستانبول من أولاد العلماء وغيرهم على رأس الألف أفضل من رجلين شابين أحدهما عبد الحليم هذا والثاني أسعد بن المولى سعد الدين واختلفوا في أيهما أفضل، وبلغني أن عبد الحليم أفقه، وأسعد أعلم بالمعقولات. وبالجملة ففضل عبد الحليم مسلم عند أهل الروم، وليس فيهم من ينكره توفي سنة 1013 ثلاث عشرة وألف عن خمسين سنة من "خلاصة الأثر" ملخصا.
534- صنع الله بن جعفر:
شيخ الإسلام1 ومفتي التخت العثماني الإمام الكبير الفقيه الحجة الخير، كان في وقته إليه النهاية في الفقه والاطلاع على مسائله وأصوله، وفتاويه مدونة مشهورة خصوصا في بلاد الروم يعتمدون عليها، ويراجعون مسائله في الوقائع، وكلهم متفقون على ديانته وتوثيقه واحترامه، وقد درس بالمدارس العلية حتى انتهى أمره إلى أن صار قاضي القسطنطينية في رجب سنة ألف، وتقلب في قضاء غيرها، وولي الإفتاء مرارا، وتوفي سنة إحدى وعشرين وألف 1021.
535- عبد الغني بن إسماعيل النابلسي الصالحي 2:
إمام كبير، وأستاذ شهير، فقيه وصوفي وشاعر أديب، له "المقصود في وجدة الوجود" وربع الإفادات في العبادات مؤلف جليل في مجلد ضخم في فقه
__________
1 صنع الله بن جعفر شيخ الإسلام: مفتي التخت، خلاصة الأثر "2/ 256".
2 عبد الغني بن إسماعيل النابلسي الصالحي: النابلسي، مات سنة 1143:
فهرس الفهارس "2/ 756"، سلك الدرر "3/ 30"، ونفحة الريحانة "2/ 137".(2/219)
الحنفية، ومؤلفات كثيرة في فنون شتى، وديوان شعر أدبي وآخر صوفي حقائقي. توفي سنة 1143 ثلاث وأربعين ومائة وألف عن ثلاث وتسعين سنة.
536- شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي 1:
قاضي عسكر، إمام العلوم لا سيما الأدبية من غير منازع، شهرته طبقت الأرض والطول والعرض، له شرح الشفاء، وحاشية البيضاوي، وحاشية على فرائض الحنفية وغيرها. توفي سنة 1069 تسع وستين وألف.
537- يحيى بن زكريا بن بيرام:
شيخ الإسلام2 بدار الخلافة العظمى، وأوحد علماء الروم باتفاق الأعلام، واحد الزمان وثاني النعمان، درس بمدارس القسطنطينية إلى أن وصل إحدى الثمان منها وفي مدرسة والدة السلطان مراد الثالث بأسكندر، واستقضى في حلب ودمشق ومصر وبروسة وأدرنة ثم القسطنطينية، وقاضي العسكر بأناطولي ثم الروم إيلي، ثم الإفتاء السلطاني، وبنى مدرسته المعروفة قريبا من داره بمحلة جامع السلطان سليم، ولم يتفق لأحد قبله ما اتفق له من طول المدة والاحترام والجلالة، فهو أستاذ الأساتذة، وأعظم الصدور الجهابذة، وقد جمع شيخ الإسلام محمد البورسوي فتاويه التي وقعت في أيامه في كتاب سماه فتاوى يحيى مشهور متداول. وله شعر عربي جيد، وقد خمس البردة بتخميس بارع، انظر بعضه في "الخلاصة" توفي سنة 1053 ثلاث وخمسين وألف عن أربع وخمسين سنة، وقد أرخوا موته بقولهم: في جنة عالية.
__________
1 شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي قاضي عسكر: خلاصة الأصر "1/ 331"، وفهرس الفهارس "1/ 280".
2 يحيى بن زكريا بن بيرام شيخ: خلاصة الأثر "4/ 467".(2/220)
538- عبد القادر قاضي العسكر الشهير بقدري 1:
هو صاحب الفتاوى المشهورة بفتاوى قدري، ويطلق عليها لفظ المجموعة، وهي الآن عمدة الحكام في أحكامهم، والمفتين في فتاويهم، وهي مجموعة نفيسة أكثر مسائلها وقائع كانت تقع أيام المفتي يحيى بن زكريا، وكان قدري هذا في خدمته موزع الفتاوى، وموزع الفتوى عندهم يجمع للفتاوى التي كتبت أجوبتها، ويفرقها يوم الثلاثاء من كل أسبوع يقف في مكان من دار المفتي، وينادي بأسمائهم التي كتبت على ظهر قرطاس الفتوى، وأمين الفتوى هو الذي يراجع المسائل في محالها، وينزل عليها الوقائع، وكان قدري موصوفا بالتقوى، وفيه صلاح وإنابة، فهو من خيار الموالي العظام، ولي قضاء القسطنطينية وغيرها، وكان عالما فاضلا وقورا عليه مهابة العلم والصلاح، توفي سنة 1083.
539- يحيى بن عمر المنقاري الرومي 2:
شيخ الإسلام، وعلامة العلماء الأعلام، أخذ فنون العلم بالروم عن شيخ الإسلام عبد الرحيم المفتي وغيره، وتمكن من التحقيق كل تمكن، ودرس بمدارس القسطنطينية، وولي المناصب العلية، منها قضاء مصر، وعقد بها درسا في تفسير البيضاوي، وحضره أكابر علمائها، وأذعنوا له، ومدحه شعرائها.
ثم تولى قضاء مكة، ودرس في المدرسة السليمانية، منها تفسير البيضاوي أيضا، وحضره أكثر العلماء، وطلب من الشمس البالي أن يحضر درسه هو وطلبته، فحضروا وأذعنوا لسعة ملكته وحسن تقريره.
وتولى قضاء القسطنطينية، وقضاء العسكر، ثم الفتوى سنة 1073، فكان تاريخها لفظ شيخ الإسلام، وسار أحسن سيرة، وكان دأبه المطالعة والمذاكرة، فلا يرى إلا مستعملا لها، وألف تآليف عديدة في فنون شتى كحاشيته على
__________
1 عبد القادر العسكر الشهير بقدري: صاحب فتاوى قدري، خلاصة الأثر "2/ 473".
2 يحيى بن عمر المنقاري الرومي: خلاصة الأثر "4/ 477".(2/221)
البيضاوي وغيرها، وانتهت إليه رياسة العلم في وقته، وتوفي سنة 1088 ثمان وثمانين وألف وأرخوه.
فرحمة ربنا أرخ ... تؤم الحبر منقاري
540- محمد الشهير بالأنكوري 1:
شيخ الإسلام في القسطنطينية، وفقيه الروم وعالمها، وفي القضاء في عددة مدن مهمة كان كبير الشأن صلبا في الحق، مطلعا على النقول والتصحيحات، منقحا لما تشعب من الأقوال والتخريجات، شرح تنوير الأبصار بشرح نفيس انتقد فيه على التمرتاشي انتقادات أكثرها مسلم، أبان فيه عن فضل باهر، توفي سنة 1098 ثمان وتسعين وألف.
541- محمد بن عبد الرحمن بن تاج الدين التاجي 2: مفتي بعلبك الشام له الفتاوي التاجية، توفي شهيدا في بيته سنة 1114 أربع عشرة ومائة وألف.
542- أبو الحسن محمد بن عبد الهادي:
السندي3 الأصل والمولد، المدني الدار، نوار الدين الإمام العالم المحقق شهير بالفضل والذكاء والصلاح، محقق في الحديث والفقه والأصول والعربية مع زهد وورع، له حواش على الكتب الستة إلا حاشية الترمذي لم تكمل، وواحدة على مسند أحمد، وأخرى على فتح القدير وصل إلى باب النكاح، وأخرى على الزهراوين للملا علي القاري، وأخرى على البيضاوي، وأخرى على الآيات البينات حاشية شرح جمع الجوامع للعبادي وغير ذلك. توفي سنة
__________
1 محمد الشهير بالأنكوري: شيخ الإسلام في القسطنطينية، سلك الدر "4/ 52".
2 محمد بن عبد الرحمن بن تاج الدين التاجي: مفتي بعلبك، سلك الدرر "4/ 66".
3 أبو الحسن محمد بن عبد الهادي السندي المدني الدار: خلاصة الأثر "4/ 66"، وفهرس الفهارس "1/ 103".(2/222)
1038 ثمان وثلاثين ومائة وألف.
543- محمد بن محمد الطيب التلافلاتي 1:
المغربي مفتي الحنفية بالقدس الشريف علامة عصره، وفائق أقرانه، ونادرة زمانه، فقيه كبير، وأديب شاعر شهير قرأ بالمغرب، ثم بمصر، ورحل للحج وهو صغير، فأسر وناظر الرهبان بمالطة وغلبهم، فأطلقوه انظر مناظرته في "سلك الدرر" وله نحو ثمانين تصنيفا في فنون شتى، توفي سنة 1191 أحد وتسعين ومائة وألف.
544- محمد مرتضى بن محمد بن عبد الرزاق 2:
الحسيني الهندي المولد الزبيدي: وبها طلب العلم، وبالنسبة إليها شهر، المصري الدار والوفاة طبق الآفاق علمه وحفظه وإتقانه، وعظم تواليفه، وسعة مروياته، وزهده وورعه وفضله، له شرح الإحياء والقاموس وغيرهما، وأنجب تلاميذ ملئوا الدنيا علما، وبمثله تجددت العلوم الدينية والعربية، وما أحقه أن يعد مجددا في عصره ومصره. توفي سنة 1205 خمس ومائتين وألف.
545- أبو الثناء شهاب الدين محمد أفندي الألوسي 3:
الحسيني الأب الحسني الأم مفتي الحنفية ببغداد، كشاف الحقائق، وفضاض المشكلات، صاحب التفسير الكبير المسمى روح المعاني الذي أغنى عن
__________
1 محمد بن محمد الطيب التلافلاتي المغرب: سلك الدرر "4/ 102"، وفهرس الفهارس "1/ 194".
2 محمد مرتضى بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني الهندي المولد الزبيدي: فهرس الفهارس "1/ 398"، والجبرتي "2/ 196".
3 أبو الثناء شهاب الدين محمود أفندي الألوسي الحسيني: المسك الأذفر "1/ 5، 25"، وفهرس الفهارس "1/ 97"، وأعلام العراق ص"21"، والتاج المكلل ص"360".(2/223)
كثير من التفاسير بجمعه وإتقانه، شرق وغرب ذكره، وله تآليف كثيرة. وقد بلغ رتبة الاجتهاد ألف ودرس وهو دون العشرين توفي سنة 1270 سبعين ومائتين وألف عن نحو ثلاث وخمسين سنة، وقد دلنا تفسيره المطبوع السائر في المعمور سير الأمثال على أنه مشارك في علوم الإسلام، متقدم في كثير منها، نادرة القرن الثالث عشر، وكل من يطعن في معتقده، فلا علم به بالكلام، ويعلم ذلك بتتبع تفسيره غير أن الرجل سلفي العقيدة، حر اللسان والجنان. رحمه الله وترجمته الواسعة في أول تفسيره مطبوعة، فلا نطيل بها.
546- محمد المهدي العباسي الحنفي 1:
مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر، وهو أول من تقلدها من الحنفية، فأحسن السيرة، وتقدمت كثيرا، وأثرى علماؤها، وأصلح من شأنها، وهو أول من سن امتحان المدرسين، وسن قانونه، وكانت توليته إياها سنة 1287، وقد انصرف عن المشيخة والإفتاء مرتين وعاد إليهما. ومن مؤلفاته "الفتاوى المهدية" المستعملة في أيدي القضاة والمفتين كثيرا. توفي سنة 1315 وقد رثاه كثير من أعلام مصر، ومنها في تاريخ الوفاة. جزاؤك يا مهدي في جنة الخلد، وذلك خمس عشرة وثلاثمائة وألف.
547- حسونة النواوي 2:
مفتي الحنفية وشيخ الأزهر بمصر، عالم كبير، ومصلح عظيم، قد تمم أعمال المصلحين قبله، وزاد عليها فسن قانونا لأهل الأزهر، وأسس مجلسا لإدارتها وكان من جملة أعضائه الشيخ محمد عبده الذي كان أكبر عامل فيه، وسن قانونا آخر لإدارته وانتظامه وكيفية التعليم فيه، ونظام المدرسين والمتعلمين
__________
1 محمد المهدي العباسي الحنفي: اكتفاء القنوع ص"495"، وتراجم أعيان القرن الثالث عشر ص"67"، والجبرتي "4/ 233".
2 حسونة النواوي: مفتي الحنفية وشيخ الأزهر بمصر، سبيل النجاح "2/ 67"، ومجلة الزهراء "2/ 485"، وتاريخ الأزهر ص"156".(2/224)
وكيفية الامتحان وغير ذلك مما أدخل الأزهر في صف الكليات العظيمة ذات النظام المعتبر، ورقاها إلى أوج الفلاح، وأجرى بنفسه ذلك النظام، ورقى جرايات التدريس والمتعلمين، وأدخل علوما عصرية للأزهرية لم تكن تدرس فيها من قبل كالتاريخ والجغرافيا وغيرها، وجعل ستمائة جنيها مكافآت الناجحين سنويا، فتقدمت الأزهر والعلوم الإسلامية في أيامه تقدما عظيما بإعانة محمد عبد المذكور، وفي الحقيقة بإعانة الخديوي المتنور عباس حلمي باشا، وفي أيامه أنشئت الكتبخانة العمومية في الأزهر، وبنى الرواق العباسي، وزيد في مرتبات العلماء ومشايخ الأروقة من الأوقاف، ولكن في أيامه حصل حادث الشوام، فانصرف عن الإفتاء والمشيخة سنة 1317، وله من الكتب كتاب في الفقه الحنفي يدرس به في المدارس الأميرية ألفه على النسق المدرسي.(2/225)
إصلاح القرويين:
بمناسبة تكلمنا على ابتداء إصلاح الأزهر، فلنقل كلمة عن أختها القرويين لما عسى أن يكون لهذا المعهد من التأثير على ارتقاء الفقه أو انحطاطه أثناء القرن الجاري؛ لأنه المعهد الأعظم في إفريقيا الشمالية للعلوم العربية والدينية والآداب الإسلامية، لا سيما بعد سقوط الأندلس، فهو الينبوع النمير لهاته العلوم، والقبس النير للدين الحنيف، ومادة حياة القومية المغربية العربية، وبه قوامها، وقائد رشدها، وشمس نورها، وقد بلغ صيت الرعيل الأكبر من المؤلفين المتخرجين منه أقصى المغارب، ولا تزال تآليفهم سراجا وهاجا في الأقطار الشاسعة، ومعاهدها الجامعة.
إن القرويين لم يزل على حالة القديم، فمع كونه مسجدا دينيا مقدسا هو محل تطوع مفتح الأبواب لإلقاء الدروس الدينية والعربية، وتلقيها من غير أن يكون به نظام، ولا ترتيب لسير دروسه، ولا للموظفين الدينيين المتخرجين منه.(2/225)
ولم تزل رواتب المدرسين به تافهة على ما وقع في السكة النقدية من الانحطاط حتى صارت لا تسد خلة المدرسين، ولا تسل عن المتعلمين، فصار جل المدرسين يتعاطى حرفة يسد بها رمقه، فتعطلت دروس، وأهملت فنون كانت فيه زاهرة يانعة من قبل. وهكذا بقيت الحال أسيفة إلى أن هيأ الله توظيفي نائب الصدارة العظمى في المعارف والتعليم، وكنت أول من وظف بها إذ لم يكن لوزارة المعارف وجود في المغرب من قبل سنة 1330 ثلاثين وثلاثمائة وألف، فكان أمر القرويين أول ما أهمني قلبا وقالبا؛ لأنهما أمي وظئري، ومن ثديها العذب ارتضعت، وبها أمطيت عني التمائم، وبعد مجهودات صدر أمر شريف سنة 1332 اثنين وثلاثين وثلاثمائة وألف بإدخال نظام إليها تنهض به لائق بمنزلتها من قلب الأمة المغربية، بل الإفريقية، وأسند نظرها إلي فقدمت فاسا صحبة أحد أعضاء الكتابة العامة للدولة الحامية، وهو المستعرب الشهير الذائع الصيت لدى العلماء والعوام مسيو مرسي المكلف بتعضيدي في درس المسألة وإيجاد أسباب حلها إداريا.
ولما حللنا فاسا، جمعت علماءها الأعلام كلهم، وشرحت لهم الحال، ورغبتهم في تشكيل لجنة لتحسين حال القرويين من بينهم بالانتخاب على نسق انتخاب المجلس البلدي بفاس؛ إذ كان مرادنا الوقوف على أنظارهم وحاجاتهم، وأن نبدي لهم ما ظهر لي من إدخال نظام مفيد، وإصلاحات مادية مع إصلاحات أدبية في أسلوب التعليم أيضا، وإحياء علوم اندثرت منها كليا، وتتبادل الآراء على عين المكان، ونجعل قانونا أساسيا للقرويين يكفل حياتها ورقيها، ولا نبرم أمرا إلا بعد حصول موافقتهم، بل استحسانهم، فقبلوا ذلك بغاية الارتياح، وشكلوا لجنة من أماثلهم بأغلبية الأصوات تحت اسم مجلس العلماء التحسيني للقرويين تركبت من رئيس وستة أعضاء وثلاثة خلفاء يوم 21 جمادى الثانية عام 1332 وبعد ما وقع احتفال تسميتهم الرسمية بمحضر خليفة السلطان بقصر البطحاء، وأعيان المدينة شرعنا في العمل معهم، فكنا نجتمع يوميا فأطرح عليهم مسألة مما كنت أريد إدراجه من التنظيم والتحسين في القانون الأساسي للقرويين،(2/226)
ثم التمس آراءهم، واسمع ملاحظاتهم، فيحرر كل واحد ما ظهر له، ويؤخر البت في المسألة إلى جلسة ثانية حتى يطلع المجلس على تلك التحريرات، ثم يقترع على الرأي المقبول، فيثبت في سجل التقريرات أصل المسألة وما أبداه كل واحد فيها، ثم ما وقع عليه رأي الجميع أو الأغلب عليه. وفي الجلسة التي بعدها يسرد عليهم محضر الجلسة قبلها حتى يسلموه، فيثبت في سجل القرارات، وعند ذلك نشرع في إملاء مسألة أخرى، وعلى هذه الخطة كان سيرنا إلى أن تجمع من تلك القرارات مائة مادة ومادتان 102 مقسمة على عشرة أقسام، وهي:
القسم الأول: وفيه 22 مادة في نظام المجلس الأساسي، وكيفية تكوينه، وبيان أوقات اجتماعه، وتحديد نظره وتصرفاته، وخصائص الرئيس والأعضاء وخلفائهم، وتكوين أمين صندوق له وكاتب وما يتبع ذلك.
الثاني: وفيه 7 مواد في ضابط العالمية وامتحان طالبها، وتنقيح قائمة العلماء التي كانت ملآنة بمن لا يستحق أن يدرج فيها وإدخال من حرم منها مع استحقاقه وطبقاتها المكونة إذ ذاك من 154 عالما ومقرئا.
الثالث: وفيه 7 مواد أيضا في كيفية امتحان المدرسين.
الرابع: وفيه 15 مادة في إحداث توظيف شيخ للقرويين وناظرين 2 معه، وتحديد نظرهم، وكيفية سير أعمالهم التي أهمها مراقبة الدروس، وسير النظام، وكيفية إدخال النظام التدريجي للدروس والمدرسين والتلاميذ.
الخامس: وفيه 27 مادة في ضابط التدريس وامتحان التلاميذ، وتنظيمهم طبقات ابتدائية وثانوية وعالية، وأن لا يقبل واحد في مرتبة إلا بعد نجاحه في امتحان التي قبلها شفاهيا وكتابة، ومدة القراءة في كل طبقة، والصفات التي تؤهل المدرس لنوال هذا الوظيف وشروط قبول المتعلمين الذين يندرجون في النظام.
السادس: وفيه 11 مادة في العطلة السنوية، والرخص الاعتيادية وغيرها وضوابط ذلك.(2/227)
السابع: وفيه 5 مواد في المجازات على تأليف الكتب ولا سيما الدراسة، وكيفية امتحان التواليف التي يطلب أصحابها الجوائز.
الثامن: وفيه 4 مواد في ضابط التقاعد ومن يستحقه.
التاسع: وفيه 3 مواد في الأمور التأديبية لمن خالف الضوابط، أو أساء المعاملة، أو ارتكب ما يخل بناموس العلم والدين.
العاشر: يعرض هذا القانون على أنظار الجلالة اليوسفية لتصدق عليه أو تنقحه، ولا يكون قابل لتنفيذ إلا بعد ذلك، وكان الفراغ منه في 22 شعبان العام.
ويكفي اللبيب المنصف إمعان النظر في عنوان الأقسام العشرة ليعترف أنه منطبق على مبادئ الدين الحنيفة، والقومية العربية المغربة وشعارها أتم انطباق كيف لا وقد حصلنا على موافقة نخبة علماء فاس، بل المغرب الذين هم هيأه المجلس على الطريقة التي شرحناها آنفا بكل حرية وكل استقامة مما لا يمكن أن يتهمنا فيه أحد بتطرف أو ابتداع.
وأقول من غير تمدح أو تبجح: إن ذلك القانون لو خرج من حيز الخيال إلى حيز الأعمال، لكان محييا للقرويين، مجددا لهيئتها التدريسية تجديدا صحيحا متينا؛ إذ ليس له مرمى سوى ترميم ما انهار من هيكلها المشمخر باعثا لعلوم وفنون من أجداثها كان الإهمال أخفاها، وتطاول الأزمان عفاها، مرقيا ومحسنا لما فضل عن أيدي الأوهام والإهمال سائقا لمن تمسك به إلى العروج بذلك المعهد الخطير إلى مستوى نظامي عصري ديني، به يبلغ العلم والدين والثقافة أوج الكمال والفخار.
ولكن مع الأسف المكدر تداخل في القضية ذوو الأغراض الشخصية فبينما نحن نبني ونصلح، ونرمم بفاس، وقد شرعوا في الهدم والتخريب في الرباط بغير فاس، وما كدنا نختم القانون المشار إليه حتى صدر أمر شريف برجوعنا، ولم يبق من مشروعنا إلا أن راتب المدرسين ضعف أضعافا، فصار للطبقة الأولى فرنك(2/228)
100 مائة شهرين وستين للثانية إلخ، هذا بعد المضاعفة، وبه تعلم ما كان قدره قبل التحسين في سالف القرون، وأبقى المجلس صوريا لا حياة له ولا ظهور إلا في الحفلات الرسمية والمقامات التشريفية، وهكذا يفعل التحاسب وحب الأثرة بين نبلاء المغاربة الذين أشربوا في قلوبهم حب إيثار الأغراض الشخصية على المصالح العمومية بل والدينية. أصلح الله القلوب والأحوال، والمتحصل من المسألة أن حالة القرويين لم تزل في جمود ولم تتحسن قط مع ما بذلناه من الجهود، وبل انحطاطها يزداد كل يوم غير أن المدرسين والطلبة قد شعروا الآن، فهم يبثون الشكوى في الإعلان والنجوى ولم تجد إلى يومنا هذا يدا مساعدة، وعسى أن يهيئ لها الحق سبحانه مستقبلا زاهرا، ونصيرا ظاهرا.
ولو قدر لها أن تسير على ذلك النظام، لارتقى الفقه عما هو عليه من الانحطاط الكلي عندنا حتى سقطت هيبته وهيبة حملته من القلوب.
وفي شرح الحال والتأسف على المآل يقول الشاعر الاجتماعي الإصلاحي الفذ في وقته صاحب التاريخ المشهور محمد السليماني رحمه الله:
سلا هل أرجت ريح الخزامي ... وهل سرب المها ألف المقاما
وهل شحرورهم يزهو ويشدو ... وينفث من محاسنه انسجاما
وهل زهر الخميلة باكرته ... سماء المزن فافتر ابتساما
وهل تلك المتالع في سماء ... بأعلا الدوح تنعش مستهاما
وهل سعد السعود أتى بشيرا ... بميعاد الأجلة والندامى
وهل غصن التمني عاد حقا ... نضيج التمر مخضلا قواما
وهل بيت الجعافرة السراة ... كرام العرب صونا واحتراما
على ما كان ملجأ للعفاة ... فسيح الرحب مقصودا دواما
بنى الحجوي الثقاة لقد أقاموا ... بأكمل وصف من صلى وصاما
وكهفهم الوزير أخي المعالي ... أخي الإصلاح همته تساما(2/229)
أحلال المشاكل مهما عزت ... حماة الضيم تجعلها وئام
لأنت العارف المقدام مهما ... مسكت الصولجان غدا قواما
وأنت أخو العلوم إذا ادلهمت ... غيوم الجهل تحسبا قتاما
سبرت سناءها وفرجت عنها ... وكنت لها وكنت لها إماما
رحيب الصدر تنصف كل فرد ... وتقنعه إذا اجترأ اجتراما
فكم من دعوة أغنيت فيها ... وعند الصون تنتقم انتقاما
وكم من سائس يُدعى رئيسا ... خلبت نهاه واجتزت المراما
خدمت العلم حقا فاستضاءت ... معالمه وقوم فاستقاها
رددت إلى المعارف كل فخر ... بترتيب أنيق لا يساما
غزلت لهم غداة نصحت غزلا ... رقيقا عالجوه فما استقاما
وأيقظت النوام بزجر قال ... وتذكير فما فقهوا الكلاما
بدا من بعض أهل الزيغ طيش ... فسبب عن صنيعهم انخراما
رضوا بالبخس في سوق المعالي ... فظنوها لجهلهم اغتناما
رضوا بالطل عجزا ثم قالوا ... دعوا ما كان كيف جرى وداما
ألسنا العالمين لدى البرايا ... أتوقظنا وما كنا نياما
سبكت لهم سبائك من لجين ... ومن تبر تغالى أن تساما
فكان الطرف منهم بعد سبر ... ومعيار غثاء أو رغاما
على أن المعارف لا تداني ... أناسا طالما ألفوا عواما
فدعهم في غباوتهم ستبلى ... سرائرهم وسنصرموا انصراما
وهل تجدي معالجة لميت ... وهل يغني الصريخ لمن تعاما
أمير المؤمنين رآك أهلا ... حباك غداة طوقك الوساما(2/230)
وقدمك افتخارا مستشارا ... لدولته وقلدك الحساما
فدم للعز والإقبال شهما ... كريما ماجدا فردا هماما
وحقق فيك ما يرجى بنصح ... لمن والوا لدلتنا احتراما
وشادوا مجدها وحموا حماها ... وساسوها اقتدارا واحتشاما
فاس في 5 ذي القعدة 1332 صديقكم محمد بن الأعرج السليماني الحسني.
هذا ولقد كان قال عند العزم على الشروع في التنظيم مهل جمادى الثانية من قصيدة طويلة نص الحاجة منها.
عطفا أخي لا تماطل إننا ... متعطشون إلى العلا وجماله
يسر لنا طرق النظام وكل ما ... فيه النجاة من الشقا وضلاله
ها قد خرجنا م الحوادث جملة ... فاعمد إلى نهج الصلاح وواله
إلخ وهي طويلة من غرر قصائده، وذلك كله دال على ما يعلقه فريق مهم من المفكرين على إصلاح ذلك المعهد العظيم.
ومن مستتعبات المسالة المتعلقة برقي الفقه ما سعى فيه العبد الضعيف مدة تكليفه السابق من إدخال اللغة العربية ومبادئ الدين من توحيد وفقه وأخلاق للمدارس الابتدائية الدولية والأهلية، ثم الثانوية، ووقعت المساعدة على ذلك من جانب المقيم العام الميرشال اليوطي الذي أنهض المغرب، وكان من الشغف بإحياء مآثر الإسلام بمكان رفيع لائق بما له من سعة المدارك، ونزاهة الأفكار الإصلاحية، فصارت تلك المدارس عربية فرنسوية بعد ما كانت فرنسوية فقط، ووقعت تسمية مدرسين عربيين لتلك العلوم مع معلمين للكتابة العربية والقرآن العظيم، وبسبب ذلك نجحت تلك المدارس نجاحا فوق ما كان يؤمل في تربية النشأة الجديدة المغربية على ثقافة فكرية متينة موافقة للدين والفكر المغربي، ولا عبرة بمن شذ، فأقبل عليها الأهالي حتى البوادي بعد نفورهم الشديد منها، وستكون تلك الناشئة سبب إسعاد بلادها، وتقدم وطنها، وبها سينتعش الفقه(2/231)
والعلوم العربية التي هي في دور الاحتضار بهذه البلاد.
وقد نسج الأهالي على منوالنا لما رأوا من حسن نتائج المدارس الدولية في اللغة العربية لحسن نظامها وسهولة منزع تدريسها، وترتيبها، ففتحوا عدة مدارس على نفقتهم قرآنية تهذيبة عربية في فاس والرباط حول سنة 1338 ثم في سلا والدار البيضاء ومراكش.
ولكن واأسفاه، إن أمرها صار إلى التأخر، بل أغلق جلها لارتخاء عزائم الأهالي، وعدم فهم كثير من القائمين بها معنى النظام ما هو، وخطؤهم في استعماله على نهج لا هو قديم ولا حديث مع البخل بالمال الذي هو حياة المشاريع النافعة، وحصول منافسات وغايات مع أن هذه مسألة حياة لا مسألة منافسة أو مباهاة.
548- محمد عبده المصري:
مفتي الحنفية بالديار المصرية1 علامة جليل مشارك متبحر مصلح كبير، وأستاذ شهير حر اللسان والضمير، مؤسس نهضة مصر العربية، وصاحب الأيادي البيضاء، وأنفع من أدركنا من علماء الإسلام للإسلام، ترجمته قد خصها تلاميذه بتآليف؛ إذ هو من أشهر رجال الإسلام في العالم.
ولد بقرية شبرا بمصر سنة 1366 ست وستين، وشب في طلب العلم بإلزام من أبيه في طنطا، ثم في الأزهر على الشيخ جمال الدين الأفغاني الشهير، ولما تصدر للتدريس والتأليف، ونفع الطلاب، فألف شرحي مقامات البديع ونهج البلاغة، ورسالة في التوحيد وحواشي على الدواني، والإسلام والنصرانية والتفسير وغيرها.
وهو من أول من كتب في الجرائد من العلماء المعممين، فكتب في الجريدة الرسمية الوقائع المصرية إذ تولى رياسة قلم المطبوعات، فكان كل يوم يحرر فصلا
__________
1 محمد عبده المصري: تاريخ الأستاذ الإمام، وزعماء الإصلاح ص"280".(2/232)
في موضوع اجتماعي أو أدبي أو علمي، وينتقد أعمال الحكومة ومنشوراتها لفظا ومعنى، فكان موقظا للنهضة القلمية في الديار المصرية، ولكنه اتهم بمشاركة في الثورة العرابية، فنفي للشام، ثم وقع العفو عنه، ووظف قاضيا، ثم كان كمستشار للخديوي عباس حلمي باشا ذي الأفكار الصائبة في إصلاح مصر ونهضتها، فسعى لديه في تشكل مجلس الأزهر، وانتظم في جملة أعضائه، وكان في الحقيقة هو مديره تحت رياسة الشيخ حسونة السابق، وسعى في تخصيص ألفي جنيه للأزهر من الميزانية وثلاثة آلاف من الأوقاف سنويا، وبذلك تسنى للأزهر أن يصير لما هو عليه الآن، ثم مفتيا للحنفية، ومن لوزامها شيخ رواقهم، فكان أكثر عنايته بالأزهر وبالتدريس فيه.
ونشر ما في كتاب الله من أنواع الإرشاد وإيقاظ العباد، وبذلك ظهرت بركة عظيمة علمية وقلمية في القطر المصري نشأت عنها حركة وطنية إصلاحية كان الشيخ محركها الأكبر، وبقي على مبدئه السامي إلى أن لقي مولاه يوم السبت 6 يوليو سنة 1905 موافق ثالث جمادى الأولى سنة 1323.
ومن فتاويه حل ذبيحة أهل الكتاب سماه بالفتوى الترنسفالية، وجواز لبس القبعة في بلاد لا يلبس فيها سواها، وخالفه فيها كثير من معاصريه، وشنعوا به، لكنه لم يلتفت.
549- عبد الرحمن البحراوي 1
المصري الأزهري العلامة الشهير ولد سنة 1235، وتصدر للتدريس سنة 1264، وألف عدة تآليف كتقريره على شرح العيني، وله كتابات على أغلب كتب المذهب الحنفي، وتخرج عليه كثير من علماء الأزهر، وتقلب في القضاء والإفتاء عدة مرات، وتولى رياسة المجلس الأول بالمحكمة الشرعية المصرية الكبرى، ثم الإفتاء بالحقانية وغير ذلك.
__________
1 عبد الرحمن البحراوي المصري الأزهري: الخطط التوفيقية "15/ 11"، تاريخ الأزهر ص"171، 172"، والأعلام الشرقية "2/ 121، 122".(2/233)
550- محمد بخيت المطيعي 1:
الإمام العالم الشهير العلامة المحرر الكبير ولد بالمطيعة سنة 1281، واشتغل بالطلب في الأزهر سنة 1281، فأخذ عن عبد الرحمن الشربيني والبحراوي السابق، وجمال الدين الأفغاني، وغيرهم، ودرس سنة 1292، وتقلب في وظائف القضاء بالسويس وبورسعيد وغيرهما، ثم التفتيش في الحقانية، وقضاء الإسكندرية، ورياسة المجلس الشرعي الكبير، وغيرها، ولا زال حيا وقتنا هذا والحمد لله على وجود أمثاله المصلحين.
551- أحمد بيرم:
أخونا في الله شيخ الإسلام بتونس الآن لم يزل ما بين الشباب والكهولة، عالم جليل مشارك محرر متقن ممتع متفنن، حلو الشمائل، عذب المذاكرة منصف خلاب بفصاحته ولطف أخلاقه وخلقته ومنطقه، خطيب مصقع، وأديب لكل الفضائل مجمع، جم المزايا والمفاخر أثيل المجد، وافر السعد، وكلما تسمع عنه الأذن تصدقه عند لقي الأعين. أدام الله النفع به، وبأفكاره الراقية، وبارك للإسلام فيه، وفي ذلك البيت الرفيع العماد إلى يوم التناد وهو سابع من تولى من بيتهم مشيخة الإسلام بتونس حفظه الله. وهذه حفنة من رمل الدهناء، أو جرعة من ماء السمك بالنسبة للعلماء الحنفية اكتفينا بها كضرب مثال ممن عجز عن حد جامع لأولئك الرجال.
__________
1 محمد بخيت المطيعي: رياض الجنة "1/ 162"، وصفوة العصر "1/ 504"، وتاريخ الأزهر ص"172"، توفي سنة 1354هـ.(2/234)
أشهر أصحاب الإمام مالك بعد القرن الرابع إلى الآن:
552- أولهم عبد الرحيم بن أحمد الكتامي 1:
أبو عبد الرحمن يعرف بابن العجوز الدار، فاسي الوفاة من قبيلة كتامة، ومن كتاب قومه كانت له ولأبيه فيهم وفي المغرب رياسة العلم، وإليه الرحلة من أقطاره، وعليه دارت الفتوى، وأعقب عقبا نجباء في العلم [ ... ] خمسة أئمة إمام ابن إمام، وهم ولده عبد الرحمن، ثم ابنه محمد، ثم ابنه عبد الرحمن وعن هذا أخذ عياض، وكان فيهم القضاء في عواصم المغرب بل والأندلس. وصل عبد الرحيم إلى الأندلس وأفريقية، وأخذ عن الإمام ابن أبي زيد، واختص به، وسمع منه كتبه النوادر، والمختصر، وجاء بهما وبغيرهما إلى سبتة، وعن دراس بن إسماعيل الفاسي والأصيلي، ووهب بن ميسرة الحجازي، وانتفع الناس به، وكان من حفاظ المذهب المالكي الناشرين له. توفي بفاس سنة 413 ثلاث عشرة وأربعمائة.
553- أبو عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن بشكوال 2:
المعروف بالحافظ لقبا، ويعرف بابن الفخار قرطبي، كان حافظا للحديث،
__________
1 أولهم عبد الرحيم بن أحمد الكتامي أبو عبد الرحمن "ابن العجور": أبو عبد الرحمن، ابن العجوز، الكتامي، المالكي، سير النبلاء "17/ 374، الحاشية"، الديباج المذهب ص"153".
2 أبو عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن بشكوال: الديباج المذهب ص"171".(2/235)
عارفا بالحجة والنظر، رحل فاتسعت روايته، فكان أحفظ الناس وأحضرهم للعلم وسرعة الجواب، وأفقههم على اختلاف العلماء كان يحفظ المدونة والنوادر، ويوردها من صدره، آخر الحفاظ الراسخين العارفين بالكتاب والسنة، مجاب الدعوة1، وله اختصار نوادر ابن أبي زيد، رد عليه في مسائل، واختصاره المبسوط لا بأس به، وله رد على رسالة ابن أبي زيد تعسف فيه سماه التبصرة، ورد على وثائق ابن العطار، وله مذاهب أخذ بها في خاصته؛ إذ كان مجتهدا كصلاته الأشفاع خمسا، وتعجيل صلاة العصر جدا، وعدم غسل الذكر كله من المذي.
هجر قرطبة عند دخول البربر، وتنقل في الأندلس، وسكن بلنسية، فأقام بها مطاعا إلى أن توفي سنة 419 تسع وعشرة وأربعمائة. وبشكوال بباء أعجمية مخففة مضمومة ويقال: بشكال بألف مقحمة وبغير واو، وقد يكتب بواو ولام ليس بينهما ألف، ومعنى بشكوال عياد؛ لأنه ولد يوم عيد. ا. هـ. من "المنح البادية".
554- القاضي عبد الوهاب بن نصر التغلبي 2:
البغدادي مؤلف كتاب المعونة لمذهب عالم المدينة والتلقين، وهو على صغره من خيار الكتب وأكترها فائدة، وكتاب الإشراف على مسائل الخلاف، وكتاب النصرة لمذهب إمام دار الهجرة، وشرح المدونة لم يكمل، وله شرح مختصر ابن أبي زيد، وشرح الرسالة، والإفادة في أصول الفقه، وله كتب بديعة في المذهب والخلاف والأصول.
قال فيه ابن بسام في "الذخيرة": كان فقيه الناس، ولسان أصحاب القياس، سمع أبا عبد الله العسكري وابن شاهين والأبهري، وقد رد في "المدارك" على من أنكر سماعه منه وكبار أصحابه كابن القصار، وابن الجلاب،
__________
1 فيه نظر لا يثبت إلا بوحي.
2 القاضي عبد الوهاب بن نصر التغلبي البغدادي: الديباج المذهب ص"159"، وفوات الوافيات "2/ 419"، وشذرات المذهب "3/ 223".(2/236)
وسمع أبا بكر الخطيب وغيرهم، ولي قضاء الدينور وغيرها من أعمال العراق، ثم ابتلي بالفقر الذي ألجأه لمفارقة بغداد إلى مصر، وقد ودعه جملة موفورة من أعلامها، وطوائف كثيرة، فقال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية ما عدلت ببلدكم وأنشد:
لا تطلبن من المجبوب أولادا ... ولا السراب لتسقي منه ورادا
ومن يروم من الأرذال مكرمة ... كمن يروم من الأتبلن أوتادا
قال في "المدارك": ولعل سبب خروجه قصة جرت له لكلام قاله في الشافعي، فخاف على نفسه وطُلِبَ، فخرج فارا عنها. ا. هـ. وتوجه لمصر، فملأ أرضها وسماءها علما، وحمل لواءها، واستتبع سادتها وكبراءها، تناهت إليه الغرائب، وانثالت عليه الرغائب، وولي قضاء المالكية بها؛ إذ في عهد العبيديين صار بها قاضيان شيعي ومالكي، فمات لأول ما دخلها وهو الذي قال في مرض موته: لا إله إلا الله لما عشنا متنا.
وقضية القاضي هذه تدل على أن العبيديين لم يتمكنوا من إخضاع أفكار العلماء ولا العامة، وإن أخضعوا سيوف الدولة وقال في بغداد:
بغداد دار لأهل المال واسعة ... وللصعاليك دار الضنك والضيق
أصبحت فيهم مضاعا بين أظهرهم ... كأنني مصحف في بيت زنديق
توفي رحمه الله سنة 422 اثنين وعشرين وأربعمائة عن ثلاث وسبعين. وكما هو من عليه الفقهاء، فهو من أحسن الشعراء، ذكره ابن بسام في "الذخيرة" ومن شعره:
متى يصل العطاش إلى ارتواء ... إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد ... إذا جلس الأكابر في الزوايا
وإن ترفع الوضعاء يوما ... على الرفعاء من إحدى الرزايا(2/237)
إذا استوت الأسافر والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا
555- أبو عمران موسى بن عيسى بن أبي حاج الغفجومي 1:
الفاسي بيتهم بفاس مشهور يعرفون ببني حاج، استوطن القيروان، وحصلت له رياسة ورحل إلى المشرق، وكانت له رواية واسعة.
قال في "المدارك" جمع من عوالي حديثه مائة ورقة، وقال عنه ابن عمار: إنه مقطوع بفضله وإمامته، أخذ عن الباقلاني وسمع من المستملي وأبي ذر وتفقه في قرطبة على الأصيلي وطبقته، وفي القيروان على القابسي، وكان من أحفظ الناس للحديث والمذهب المالكي، مجودا للقرآن بالسبع عارفا بالرجال، رحلوا إليه من الأندلس وأفريقية له تواليف في الحديث والفقه، وتعليق على المدونة لم يكمل، وكان ما بينه وبين أبي بكر بن عبد الرحمن نفرة، فطمع صاحب أفريقية أن يتوصل بذلك لتقليل نفوذهما على العامة بشهادة أحدهما على الآخر، فتقوم الحجة عليهما معا؛ إذ كانت العامة طوعهما، فلما اختبرها وجد دينهما أمتن مما يظن، وخاب ظنه. قاله في "المدارك".
ومن محاسن أجوبته في مسألة: هل الكفار يعرفون الله أم لا؟ التي وقع فيها نزاع عظيم بين العلماء، وتجاوزهم إلى العامة، وكثر التماري فيها حتى خرج عن حد الاعتدال إلى القتال، فقال قائل: لو ذهبنا إلى أبي عمران، لشفانا فجاءه أهل السوق بجماعتهم، وقالوا: نحب جوابا بينا على قدر أفهامنا، فأطرق ساعة، وقال: لا يكلمني إلا واحد، ويسمع الباقون، ثم التفت إلى واحد منهم، فقال: أرأيت لو لقيت رجلا، فقلت له: تعرف أبا عمران الفاسي؟ فقال: أعرفه، فقلت: صفه لي، فقال: هو رجل يبيع البقل والحنطة والزيت في سوق ابن هشام، ويسكن صبرة أكان يعرفني؟ قال: لا، قال: فلو لقيت آخر، فقلت:
__________
1 أبو عمران موسى بن عيسى بن أبي حاج الغفجومي الفاسي: أبو عمران: الغفجومي، حاشية الأنساب "10/ 68"، الديباج المذهب ص"344".(2/238)
هل تعرف أبا عمران؟ فقال: نعم، فقلت له: صفه لي، فقال: هو رجل يدرس العلم، ويفتي الناس، ويسكن بقرب السماط، أكان يعرفني؟ قال: نعم. قال: فهما مثال الكافر والمؤمن، فإن الكافر إذا قال: إن لمعبوده صاحبة وولدا، أو إنه جسم وقصد بعبادته من هذه صفته، فلم يعرف الله، ولم يصفه بصفته، ولم يقصد بعبادته إلا من هذه صفته وهو بخلاف المؤمن الذي يقول: إن معبوده الله الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا، فهذا قد عرف الله ووصفه بصفاته، وقصد بعبادته من يستحق الربوبية سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. فقامت الجماعة وقالوا: جزاك الله خيرا من عالم، فقد شفيت ما بنفوسنا ودعوا له، ولم يخوضوا في المسألة بعد هذا المجلس. توفي سنة 430 ثلاثين وأربعمائة، وبإشارته توجه عبد الله بن ياسين إلى الصحراء، فأنشأ دولة لمتونه، وإن شئت ذلك، فقف على تاريخنا لأفريقيا الشمالية.
556- أبو القاسم عبد الرحمن بن علي محمد الكتاني:
المعروف بابن الكاتب من فقهاء القيروان المشاهير وحذاقهم، تفقه في مسائل مشتبهة من المذهب، قال الطايثي: سألته عن فروق في مسائل مشتبهة من المذهب، وقد أعضل جوابها كل من لقيته من علماء العراق، فأجابني فيها ارتجالا على ماكان عليه من شغل البال بالسفر، وقد وقفت على جوابه في جزء منطو على أحد وأربعين فرقا، له كتاب في الفقه كبير مشهور في نحو مائة وخمسين جزءا ذكره في "المدارك" ولم يذكر له وفاة.
557- أبو عمر أحمد بن محمد الطلمنكي 1:
المعافري أصله من طلمنكة بثغر الأندلس الشرقي، ونشأ بقرطب، فكان
__________
1 أبو عمر أحمد بن محمد الطلمنكي المعافري: ابن الكاتب، سير النبلاء "11/ 126"، شذرات "3/ 243"، والديباج المذهب ص"243".(2/239)
من أعلامها، اتسعت روايته وتفنن في علوم الشريعة، وغلب عليه القرآن والحديث، وألف تواليف نافعة كبار ومختصرة، ككتاب الدليل إلى معرفة الجليل نحو مائة جزء وله تفسير نحو هذا، وكتاب البيان في إعراب القرآن، وفضائل مالك ورجال الموطأ، وكتاب الرد على ابن ميسرة، وكتاب الوصول إلى معرفة الأصول، وغير ذلك، له فضائل حسنة أكثر من أن تحصى وكان سيفا على أهل البدع، توفي ببلده مرابطا سنة 429 تسع وعشرين وأربعمائة وقارب السبعين.
558- أبو إسحاق إبراهيم بن حسن التونسي 1:
إمام جليل فاضل صالح منقبض متبتل، عليه تفقه جماعة من الإفريقيين، وله شروح حسنة، وتعاليق مستعملة متنافس فيها على كتاب ابن المواز والمدونة، وفيه يقول عبد الجليل الديباجي:
حاز الشريفين من علم ومن عمل ... وقلما يتأتى العلم والعلم
وقد وقع له محنة عجيبة بسبب إفتائه بالحق، وإن الشيعة فرقتان غلاة زنادقة تحل دماؤهم، ومؤمنون معصوموا الدم يحل نكاحهم وهم من يفضل عليا على أبي بكر مخالفا في ذلك رأي العلماء والفكر العام من العام حيث تألبوه ضده، وألزموه أن يقر على نفسه بالخطأ، والرجوع عن فتواه في المنبر بحضور الجم الغفير، ففعل. انظر تفضيل ذلك في "المدارك" وغيرها توفي سنة 432 اثنين وثلاثين وأربعمائة.
559- أبو القاسم المهلب بن أحمد بن أسد بن أبي صفرة التميمي 2:
سكن المرية من الراسخين في العلم، المتفننين في الفقه والحديث والنظر،
__________
1 أبو إسحاق إبراهيم بن حسن التونسي: الديباج المذهب "88/ 89".
2 أبو القاسم المهلب بن أحمد بن أسد بن أبي صفرة التميمي: الوافي بالوفيات "26/ 117"، والصلة ص"567"، والديباج المذهب ص"368".(2/240)
صحب الأصيلي، وتفقه معه، وكان صهره، ورحل، فسمع من شيوخ الأندلس والقيروان والمشرق. قال ابن الحذاء: كان أذهن من لقيت وأفهمهم وأفصحهم، وقال أبو الأصبع: به حيي كتاب البخاري بالأندلس، له كتاب "التصحيح في اختصار الصحيح" وعلق عليه شرحا حسنا مفيدا. توفي سنة 433 ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
560- أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الخولاني القيرواني
من الطبقة الثانية من أهل أفريقية شيخ فقهائها حافظ المذهب وزعيمه، حاز الذكر، ورياسة الدين مع صاحبه أبي عمران الفاسي حتى لم يكن لأحد معهما في المغرب اسم يعرف، وتفقه عليهما الخلق الكثير، توفي سنة 432 اثنين وثلاثين وأربعمائة.
561- أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد الهروي 1:
روى صحيح البخاري أخذ عنه الإمام الباجي وغيره، وروايته أتقن الروايات، وله كتابه المخرج على الصحيحين وغيره، وقد أخذ فقه مالك عن ابن القصار وأبي سعد الأبهري، وأخذ عن الباقلاني وابن فورك حظا من السنة، وله الرحلة والواسعة وجاور الحرمين إلى أن مات ناشرا للعلم. وقد سمع الحديث من الدارقطني والإمام الحاكم وأبي إسحاق المستملي وأبي محمد الحموي، وأبي الهيثم السرخسي، وغيرهم، وروى عنه أعلام كثيرون توفي سنة 435 خمس وثلاثين وأربعمائة عن تسع وسبعين سنة.
__________
1 أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد الهروي: أبو ذر، ابن السماك، الخراساني، المالكي، الهروي، الأنصاري، ولد سنة 255، مات سنة 434 أو 435:
فهرس الفهارس "1/ 157، 2/ 610"، المشتبه "486"، الأعلام "3/ 269"، معجم المؤلفين "5/ 65، 66"، التنكيل "15/ 336"، التقييد "2/ 170"، طبقات الحفاظ ص"425"، نسيم الرياض "1/ 431، 233"، التمهيد "6/ 64"، سير النبلاء "17/ 554"، تاريخ بغداد "11/ 141".(2/241)
562- أبو محمد مكي بن أبي طالب 1:
واسمه محمد، ويقال: حموش بن مختار القيرواني نزيل قرطبة الإمام المقرئ الفقيه الأديب المتفنن في القراءات والتفسير اللغوي النحوي الراوية، ولي الشورى وصنف تصانيف جليلة في علم القرآن ومن أشهر تصانيفه الهداية في التفسير، والكشف في وجوه القراءات، واختصار الحجة للفارسي، وكتاب إعراب القرآن، وكتاب الإيضاح في ناسخه ومنسوخه، وكتاب المأثور عن مالك في الأحكام والتفسير، والتبصرة، والموجز، واختصار أحكام القرآن، والإيجاز واللمع في الإعراب، وانتخاب نظم القرآن للجرجاني، والواعي في الفرائض، قال عياض: وأخبرني شيخنا أبو إسحاق بن جعفر أنه له تصنيفا في الفقه. توفي سنة 437 سبع وثلاثين وأربعمائة وقد نيف عن الثمانين.
563- أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الحضرمي 2:
المعروف باللبيدي مشهور من علماء أفريقية ومؤلفيها، وجه أبو الحسن القابسي لتفقيه أهل المهدية، فحاز رياسة العلم، وألف كتابا جامعا في المذهب أزيد من مائتي جزء كبار في مسائل المدونة وبسطها والتفريع عليها وزيادات الأمهات، ونوادر الروايات، واختصر المدونة، سماه الملخص، وله أخبار شيخه أبي إسحاق الجبنياني وكان شاعرا محسنا توفي سنة 440 أربعين وأربعمائة.
__________
1 أبو محمد مكي بن أبي طالب واسمه محمد ويقال: حموش بن مختار القيرواني: أبو محمد، القيس القرطبي القيرواني، مات سنة 437:
نسيم الرياض "3/ 386، 1/ 138"، المعين ص"1408"، إفادة النصيح ص"15"، وفيات الأعيان "5/ 274".
2 أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الحضرمي: المعروف باللبيدي: الديباج المذهب ص"152".(2/242)
564- أبو سعيد أو أبو القاسم خلف بن أبي القاسم الأزدي 1:
المعروف بالبراذعي من كبار أصحاب أبي محمد بن أبي زيد والقابسي، ومن حفاظ المذهب له تآليف، منها كتاب التهذيب مختصر المدونة تبع فيه طريقة ابن أبي زيد إلا أنه ساقه على نسق المدونة، وحذف ما زاده ابن أبي زيد، وقد حصل عليه الإقبال شرقا وغربا دراسة وشرحا، وتعليقا واختصارا من أئمة المالكية بالأندلس والمغرب، وتركوا به المدونة ومختصراتها، وتشغل دورا مهما قبل ظهور مختصرا ابن الحاجب الفرعي، وقد انتقد عليه عبد الحق الإشبيلي أشياء أحالها في الاختصار عن معناها.
قال عياض: وهو مقلد في ذلك لشيخه ابن أبي زيد، فله وقع الغلط، لكن هذا لا يدفع الاعتراض عنه، ولا يخففه كما هو معلوم. وله الشرح والتمامات من مسائل المدونة، واختصار الواضحة، ثم لفظته القيروان إلى صقلية لمناقضته لابن أبي زيد، أو لكونه من شيعة العبيديين، وفيها اشتهرت كتبه.
قال عياض: لم تبلغني وفاته، ولكن ذكره بعد اللبيدي وطبقته، فهو من الطبعة الثامنة، وذكر من "معالم الإيمان" أنه مات في صقلية أو القيروان وقد وقفت على نسخة عتيقة من التهذيب ذكر البراذعي أولها أنه روى المدونة عن أبي بكر محمد بن أبي عقبة عن جبلة بن حمود عن سحنون، وأنه فرغ من تأليفه سنة 372 اثنين وسبعين وثلاثمائة، وهذه النسخة من أحباس خزانة قسنطينة أو الجزائر.
__________
1 أبو سعيد أو أبو القاسم خلف بن أبي القاسم الأزدي "البراذعي": أبو القاسم، الأزدي القرطبي الأندلسي، ولد سنة 325، مات سنة 393:
الوافي بالوفيات "13/ 364"، تاريخ علماء الأندلس "1/ 136"، شذرات "3/ 144"، طبقات القراء "1/ 272"، سير النبلاء "17/ 113، 241"، الأعلام "12/ 311"، معجم المؤلفين "4/ 107 والحاشية".(2/243)
565- خلف بن مسلمة بن عبد الغفور 1:
فقيه حافظ ألف كتاب الاستغناء في أدب القضاء والحكام، نحو خمسة عشر جزءا، كثير الفائدة والعلم. توفي نحو سنة 440 أربعين وأربعمائة.
566- أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري 2:
يعرف بابن اللحام أصلهم من قرطبة، وخرجته الفتنة إلى بلنسية، أخذ عن أبي عمر الطلمنكي وطبقته، وألف شرحا على البخاري مشهورا كبيرا يتنافس فيه كثير الفائدة. وله كتاب في الزهد والرقائق، وكان نبيلا جليلا متصوفا، توفي سنة 444 أربع وأربعين وأربعمائة.
567- محمد بن محمد بن مغيث الصدفي 3:
من أهل طليطلة يكنى أبا بكر، روى عن محمد بن إبراهيم الخشني، وعبدوس بن محمد، وابن أبي زمنين، وأبي عمر الطلمنكي وغيرهم.
وكان من جلة الفقهاء، وكبار العلماء، ومقدما في الشورى، ذكيا فطنا قال ابن مظاهر: أخبرني من سمع محمد بن عمر بن الفخار يقول مرات: ليس بالأندلس أبصر من محمد بن مغيث بالأحكام.
وتوفي سنة 444 أربع وأربعين وأربعمائة. ا. هـ. من صلة ابن بشكوال.
__________
1 خلف بن مسلمة بن عبد الغفور: الصلة "1/ 169"، الديباج المذهب ص"113".
2 أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري "ابن اللحام": أبو الحسن، البكري القرطبي البلسي، مات سنة 444، أو 449:
التاج المكلل ص"296" عنوان الدراية ص"260"، سير النبلاء "18/ 47"، معجم المؤلفين "7/ 87"، الحاشية، شجرة النور الزكية ص"115"، العبر "3/ 219"، دائرة الأعلمي "22/ 260".
3 محمد بن محمد بن مغيث الصدفي: من أهل طليطلة، الصلة "2/ 533".(2/244)
568- أبو بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي 1:
نسبا، الصقلي دارا كان فقيها إماما عالما فرضيا، ملازما للجهاد، موصوفا بالنجدة، مشهورا في المذهب المالكي. وهو أحد الأربعة الذين اعتمد الشيخ خليل ترجيحاتهم في مختصره. ألف كتابا جامعا لمسائل المدونة والنوادر، وعليه اعتمد من بعده وكان يسمى مصحف المذهب لصحة مسائله ووثوق صاحبه. توفي سنة 451 إحدى وخمسين وأربعمائة وقبره معلوم في مناستر بأفريقية زرته، وعليه بناء فخم2، وهو الذي يعني ابن عرفة بالصقلي.
569- عبد الله بن ياسين الجزولي 3:
مؤسس دولة لمتونة المرابطين بالمغرب، وناشر الدين في الأصقاع الصحراوية، وفي السودان، وناشر المذهب المالكي، والمقيم لدولة عظمى على أنقاض دول كثيرة متلاشية بالمغرب، هذا الرجل من أفضل من يتزين بذكره، ويتحلى بترجمته كتابنا هذا؛ لأنه مجدد للإسلام في إفريقيا الشمالية، ومنها وصل إلى الأندلس، وعنه انتشر النور بعد الظلمة التي أحاطت بهذه الأقطار، وأدخل الحضارة والحياة الإسلامية العربية إلى سكان القفار، وكون إنسانا متمدنا مسلما بشوشا من قوم كانوا وحوشا، ولم شعث الإسلام بعد فتن وافتراق، وكون وحدة أماطت الذل والشقاق. أما أعماله السياسية، فهي مبنية على الاختصار في تاريخنا لإفريقيا الشمالية، كان الرجل من أفضل علماء المغرب الأقصى، وأكثرهم تمسكا بالدين، وقياما بالحق والأمر بالمعروف، وعلى يديه تم إسلام الصحراء والسودان، والذي أشار علي لمتونة به هو شيخه أبو عمران
__________
1 أبو بكر بن عبد الله بن يونس التميمي: الديباج المذهب ص"274".
2 وقد ورد في ما غير حديث صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم النهي عن البناء فوق القبور، منها عن جابر رضي الله عنه رواه مسلم وغيره.
3 عبد الله بن ياسين الجزولي: المدارك "4/ 780، 781"، الاستقصا "2/ 7، 19".(2/245)
الفاسي، وفي "المسالك والممالك" لأبي عبيد البكري إن ما شذ فيه ابن ياسين المذكور أخذه الثلث من الأموال المختلطة، وزعم أن ذلك يطيب باقيها.
قلت: وقد شطر سيدنا عمر مال بعض عماله قال البكري: وإذا دخل الرجل في دعوتهم، وتاب، أقاموا عليه الحدود تطهيرا له، فيضرب مائة حد الزنى وثمانين حد القذف، ومثلها حد الخمر، وربما زيد، ومن ثبت عليه القتل، قتل ولو جاء تائبا طائعا، ومن تخلف عن الجماعة، ضرب عشرين، ومن فاتته ركعة، ضرب خمسا في أشياء مثل هذه، وهي إن صحت مسائل سياسية إرهابية أكثر منها أحكاما فقهية؛ لأن الرجل كان يهذب أمة بلغت نهاية ما يتصور من التوحش والجفاء، فهو معذور في شذوذه، ولا يزيل التطرف في الإباحة، وخلع ربقة النظام الديني إلا التطرف في ضده، على أن الرجل نجح نجاحا باهرا في عمله العظيم وهداية تلك الأمة إلى النهج القويم.
توفي مجاهدا في البرغواطيين سنة 451 إحدى وخمسين وأربعمائة، ودفن بكريفلة قرب الرباط، وقبره يزار الآن بعد ما مهد الصحراء والسودان والمغرب الأقصى.
570- أبو القاسم عبد الخالق بن عبد الوارث التميمي 1:
المعروف بالسيوري، آخر طبقة من علماء أفريقية، وخاتمة أئمة القرويين أخذ عن أبي عمران الفاسي، وأبي بكر بن عبد الرحمن وطبقتهما، وكانت له عناية بالقراءات والحديث، وعلوم اللسان، وأصول الفقه وغيرها.
أفرد نفسه للدرس، فانتفع به عالم كبير كان من الحفاظ المعدودين يحفظ المدونة ودواوين المذهب حتى إن من ذكر له قولا غريبا يقول: هذا ليس في ديوان كذا ولا ديوان كذا يعدد أكثر الدواوين من كتب المذهب والمخالفين، وانعدمت
__________
1 أبو القاسم عبد الخالق بن عبد الوارث التميمي "السيوري": الديباج المذهب ص"158".(2/246)
المدونة يوما من القيروان، فأملاها من حفظه. وكان له ورع شديد، فما كان يأكل ما فيه شبهة، ولما هجم العرب، وخربوا القيروان، واختلطت الأموال بالحرام، ترك أكل اللحم إلا من وحش، واحتذاء النعل إلا من جلد وحش، والكتابة والفتوى إلا في رق وحش، أورق قديم كذا ذكر في "معالم الإيمان" وهذا يدل على عدم وجود الكاغد إذ ذاك مع أنه اخترع في المشرق أيام الرشيد قبل ذلك فعله لم يكن يوجد في أفريقيا لقلة المواصلة، ولهذا لم يعرف له تأليف، وإنما يوجد كراسة تعليق على المدونة، وأما التعليق المنسوب إليه عليها، فإنما كتبه أصحابه عن درسه، ونسبوه إليه، وقد خالف مالكا في بعض المسائل اجتهادا منه.
منها جنسية القمح والشعير ألقى يوما لسنور لقمتين إحداهما: قمح، والأخرى: شعير، فشم الشعير وتركها، وأكل القمح، فقال: عجبا حتى الحيوان فرق بين الجنسين، وخالفه في التدمية إذ لم يذكر فيها أثر دم أو قيء، فلم يعول عليها. وقال بخيار المجلس لما قام عنده من الأدلة على رجحان قول المخالف، فحلف بالمشي إلا مكة أن لا يفتي بقول مالك فيها جميعا. توفي سنة ستين وأربعمائة.
571- أبو عمر أحمد بن محمد بن القطان 1:
مفتي قرطبة دارت الفتيا عليه وعلى ابن عتاب، كان متفننا فقيها نظارا أحفظ الناس للمدونة والمستخرجة، وأبصر الناس بالتهدي إلى مكنونهما، قائما بتغيير المنكر، وكسر آلات اللهو. وتوفي بباجة سنة 460 ستين وأربعمائة.
572- أبو عبد الله محمد بن عتاب 2:
شيخ المفتين بقرطبة الإمام الجليل، المتصرف في كل باب من أبواب العلم،
__________
1 أبو عمر أحمد بن محمد بن القطان مفتي قرطبة: شذرات الذهب "3/ 308".
2 أبو عبد الله محمد بن عتاب: أبو عبد الله، الجزامي الأندلسي، توفي سنة 402: سير النبلاء "18/ 328"، نسيم الرياض، المعين ص"1465"، الوافي بالوفيات "4/ 79"، العبر "3/ 250"، بغية الملتمس ص"115".(2/247)
الحافظ النظار، البصير بالأحكام والعقود والحديث على سنن أهل الفضل، جزل الرأي، حصيف العقل على منهاج السلف، طلب للقضاء في بلده وغيرها. توفي سنة 463 ثلاث وستين وأربعمائة عن نيف وثمانين.
573- أبو عمر يوسف بن عمر بن عبد البر 1:
النمري بفتح الميم نسبة إلى النمرين قاسط بكسرها شيخ علماء الأندلس، وكبير محدثيها في وقته، وأحفظ من كان فيها للسنة، وفاق فيها من تقدمه، وعظم شأنه بها تفقه علي بن المكوي، وابن الفرضي وغيرهما، وأخذ عنه عالم كثير كأبي عبد الله الحميدي، وأبي علي الغساني وغيرهما.
قال الباجي: إنه أحفظ أهل المغرب، لم يكن بالأندلس مثله، له كتاب "التمهيد" على الموطأ لم يتقدمه أحمد بمثله في عشرين مجلدا، قال ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله، فكيف أحسن منه.
وهو مرتب على أسماء شيوخ مالك على حروف المعجم، وله كتاب الاستذكار بمذاهب علماء الأمصار، فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار شرحها على نسق أبوابها، وكتاب التقصي لحديث الموطأ، وكتاب الإنباه على قبائل الرواة، وكتاب القصد والأمم في أنساب العرب والعجم، وكتاب أسماء المعروفين بالكني في سبعة أجزاء، والاكتفاء في القراءات، وكتاب اختصار التمييز لمسلم، وكتاب الإنصاف فيما في بسم الله من الخلاف، انتصر فيه لمذهب الشافعي بأدلة كثيرة، وزيف أدلة المالكية، وهو عندي في كراستين، واختصار تاريخ أحمد بن سعيد، والإشراف في الفرائض، وله كتاب الاستيعاب مطبوع،
__________
1 أبو عمر يوسف بن عمر بن عبد البر النمير بن قاسط: الديباج المذهب ص"357"، وسير النبلاء "11/ 181"، ووفيات الأعيان "2/ 458"، وبغية الملتمس ص"476"، وجذوة المقتبس ص"344"، والبداية "12/ 104"، وتذكرة الحفاظ "3/ 306"، والشذرات "3/ 314".(2/248)
وكتاب الكافي في الفقه المالكي، وكتاب جامع بيان العلم وفضله قد طبع مختصره1 وله كتب كثيرة في فنون عدة كان موفقا في التأليف، معانا عليه، وكان مستقل الفكر، بعيدا عن الجمود، مبغضا للتقليد، ناصرا للسنة، تعرب عن ذلك كتبه النافعة، جال في غرب الأندلس وشرقها، وتولى قضاء لشبونة وهي عاصمة البرتغال الآن "أجبوه" وشنترين، وسكن دانية وبلنسية وشاطبة. وبها توفي سنة 463 ثلاث وستين وأربعمائة ربيع الأخير عن خمس وتسعين سنة في السنة التي توفي فيها حافظ المشرق أبو بكر أحمد بن علي البغدادي، وقد رثى نفسه قبل موته بقوله:
تذكرت من يبكي على مداوما ... فلم ألف إلا العلم بالدين والخبر
علوم كتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله في صحة الأثر
وعلم الألى قرن فقرن وفهم ما ... له اختلفوا في العلم بالرأي والنظر
فابن عبد البر كان من المجتهدين لزهرة الفقه والاجتهاد والأثر. رحمه الله.
قال أبو محمد بن حزم: وممن أدركنا من أهل العلم على الصفة التي من بلغها استحق الاعتداد به في الاختلاف مسعود بن سليمان، ويوسف بن محمد بن عبد البر نقله في "إعلام الموقعين" عدد 30 من السفر الأول.
574- أبو حفص عمر بن عبد النور 2:
المعروف بالحكار الصقلي عالم فاضل، نظار محقق، حسن الكلام والتأليف، أديب شاعر مجيد، له على المدونة شرح كبير نحو ثلاثمائة جزء، وانتقد على التونسي ألف مسألة واختصر كتاب التمامات ذكره في "المدارك" ولم يذكر له وفاة.
__________
1 وطبع الأصل أيضا في مصر بالمطبعة المنيرية.
2 أبو حفص عمر بن عبد النور الحكار: المدارك "4/ 800".(2/249)
575- عبد الحق بن محمد بن هارون السهمي 1:
القرشي أصله من صقلية، ورحل للمشرق مرتين، له كتاب الاستدراك على تهذيب البراذعي، والنكت والفروق لمسائل المدونة، توفي بالإسكندرية سنة 466 ست وستين وأربعمائة، من كلامه:
أرى فتن الدنيا تزيد وأهلها ... يخوضون بالأهواء في غمرة الجهل
فما إن ترى من مخلص ذي بصيرة ... وما إن ترى من صادق القول والفعل
فيا سوء حالي حين أصبحت فارغا ... ولم ادخر زادا وما زلت في شغل
576- أبو الحسن علي بن محمد الربعي المعروف باللخمي 2:
وإنما هو ابن بنت اللخمي، أصله من القيروان، ونزل صفاقص بسبب الفتنة، تفقه بابن محرز والتونسي والسيوري وغيرهم، وأخذ عنه المازري، وأبو الفضل بن النحوي وغيرهما، وكان متفننا في علوم الأدب والحديث والفقه، حسن الفهم، جيد الفقه والنظر، أبعد الناس صيتا في بلده، وبقي بعد أصحابه، فحاز رياسة إفريقية جملة، وصارت فتاويه كل مطار، مشهورا بالفضل وحسن الخلف، له تعليق على المدونة شهر بالتبصرة، حسن مفيد، لكن نقل المعيار عن
__________
1 عبد الحق بن محمد بن هارون السهمي القرشي: المدارك "4/ 774".
2 أبو الحسن علي بن محمد الربعي "اللخمي": من القيروان، الديباج المذهب ص"203"، ومعالم الأيمان "3/ 246"، والحلل السندسية ص"143".(2/250)
المقري أن اللخمي لم يحرره في حياته، فكان الشيوخ لا يستجيزون النقل منه كما يأتي في آخر الكتاب غير أنني رأيت في "جذوة الاقتباس" أن ابن النحوي لما أخذ عنه، طلب منه تبصرته، فقال له: تريد أن تحمل علمي على كفك إلى المغرب، فهذا يدل على تحريره لها، وأخذهم لها عنهم في حياته، وله اختيارات خالف فيها من تقدمه.
قال في "المدارك": وربما اتبع نظره، فخالف المذهب فيما ترجح عنده، فخرجت اختياراته في الكثير عن قواعد المذهب. ا. هـ. وقد ضرب به المثل كما قيل:
لقد هتكت قلبي سهام جفونها ... كما هتك اللخمي مذهب مالك
واللخمي أحد الأئمة الأربعة المعتمدة ترجيحاتهم في مختصر خليل حتى في اختياره من عنده رغما عما قاله عياض. توفي بصفاقص سنة 478 ثمان وسبعين وأربعمائة هكذا في الحطاب أول شرح المختصر، وفي "معالم الإيمان" وأما ما في "الديباج" من أنه توفي سنة ثمان وتسعين فلعله تصحيف.
577- أبو محمد عبد الحميد بن محمد المقري المعروف بابن الصائغ 1:
قيرواني، سكن سوسة أدرك صغيرا أبا بكر بن عبد الرحمن، وتفقه بالعطار وابن محرز والسيوري والتونسي وغيرهم، كان فقيها نبيلا فهما فاضلا أصوليا زاهدا نظارا، جيد الفقه، قوي العارضة، محققا له تعليق على المدونة أكمل به الكتب التي بقيت على التونسي، وبه تفقه المازري وغيره وأصحابه يفضلونه على اللخمي قرينه تفضيلا كثيرا. وأفتى في المهدية زمن قضاء ابن سعلان شرط ذلك عند توليه القضاء، فانتفع الناس به، وجرت عليه محنة حيث سجن تميم بن المعز ولده حتى أعطي مالا لفدائه باع فيه كتبه، فلذلك انقبض عن الفتيا، ورجع إلى سوسة ملازما بيته ستة أعوام لا ينتفع به أحد إلى أن احتل
__________
1 أبو محمد عبد الحميد بن محمد المقري: المعروف بابن الصائع، الديباج المذهب ص"159".(2/251)
العدو المهدية، وأهين تميم، عند ذلك عاد عبد الحميد إلى الظهور، قاله في "المدارك" وإني لأعجب من انبساطه لا من انقباضه، ولقد فسدت أحوال وأخلاق ذلك الزمان، ولذلك كانت دولة أفريقيا في اضمحلال حيث صارت أفكار أكابر علمائها وأعمال أمرائها إلى ما سمعت. توفي المترجم سنة ست وثمانين وأربعمائة 486.
578- أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي 1:
-باجة الأندلس- التجيبي القاضي رحل إلى المشرق، فحج أربع حجج، ومكث فيه نحو ثلاثة عشر عاما في بغداد والموصل والشام والحجاز وغيرها، ودرس في كثير من عواصمها، وأخذ عن أبي ذر والخطيب البغدادي وغيرهما، ورجع للأندلس بعلم كثير، ألف تآليف طارت بها الركبان، وحصل بها على الشهرة واتساع الحال بعد ضيقه، فقد كان يؤاجر نفسه ببغداد على حراسة درب هناك، ولما رجع للأندلس كان يضرب ورق الذهب، ويعقد الوثائق، وكان يخرج للإقراء وبيده المطرقة التي يخدم بها، ثم ولي القضاء في مدن هي دون قدره.
قال فيه ابن العربي في "القواصم": إن الله تدارك الأمة به وبالأصيلي حيث رحلوا وأفادوا وجاءوا بلباب العلم، فرشوا على القلوب الميتة، وعطروا الأنفاس الذفرة، وله تآليف منها، الاستيفاء على الموطأ لا يدرك ما فيه إلا من بلغ درجته، لم يكمل، وكتاب المنتقى عليها أيضا مطبوع، وله اختصاره واختصره أيضا في كتاب الإيماء قدر ربعه، واختصر المدونة وشرحها بشرح لم يتم، وله
__________
1 أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي التجيبي القاضي: أبو الوليد، الباجي، التجيبي القرطبي، ولد سنة 403، وقتل سنة 470:
نسيم الرياض "1/ 233"، طبقات الحفاظ ص"440"، المعين ص"1503"، الأنساب "2/ 14"، فوات الوفيات "2/ 64"، والوافي بالوفيات "15/ 372"، الصلة "1/ 187"، وفيات الأعيان "2/ 142"، العبر "3/ 280"، البداية والنهاية "12/ 122"، سير النبلاء "18/ 535".(2/252)
كتاب في الخلافيات لم يتم، ومختصر المختصر في مسائل المدونة، وكتاب في التعديل والتجريح على صحيح البخاري، وكتابان في الأصول، وكتبه كثيرة مفيدة كما في "المدارك" وهو الذي تصدى لمناظرة ابن حزم الظاهري بعدما عجز أهل الأندلس عنه، وتبعه كثير على رأيه فأفحمه. وقد امتحن لما صدر منه القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب تمسكا بظاهر بعض الأحاديث، فعابوا عليه وكفروه.
وألف رسالة في ذلك بأن بها علمه وعذره، وقبله منه علماء جلة وإن كان القوم بعدم الكتابة أصوب ومذهب الجمهور، مولده سنة 403 ثلاث وأربعمائة، وتوفي سنة 494 أربع وتسعين وأربعمائة.
وفي "المدارك" سنة أربع وسبعين بتقديم السين ويؤيد صحتها ما قال: إنه جاء إلى المرية سفيرا بين رؤساء الأندلس يولفهم على نصرة الإسلام، ويروم جمع كلمتهم مع جنود ملوك المغرب المرابطين على ذلك، فتوفي قبل تمام غرضه. وفي سنة 494 أربع وتسعين كابن ابن تاشفين استأصل جل رؤساء الأندلس كما يعلم من مراجعة التاريخ.
579- أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الأزدي 1:
الحميدي الأندلسي الميورقي أصله من قرطبة إمام جليل أخذ عن ابن حزم، وابن عبد البر وغيرهما ورحل للمشرق فحج، ودخل الشام ومصر والعراق، واستوطن بغداد فظهر نبله وعلمه وإتقانه وورعه ونزاهته، له كتاب "الجمع بين الصحيحين" وتاريخ الأندلس "جذوة المقتبس" في سفر أملاه من حفظه.
توفي سنة 488 ثمان وثمانين وأربعمائة عن نحو سبعين سنة والحميدي مصغر نسبة إلى جدة حميد.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الأزدي الحميدي الأندلسي الميورقي: وفيات الأعيان "4/ 282"، وتذكرة الحفاظ ص"1218"، ونفح الطيب "2/ 112"، والصلة ص"530".(2/253)
580- أبو علي الحسين بن محمد بن فيره 1:
ابن حيوان الصدفي المعروف بابن سكره السرقسطي إمام عصره ووحيد دهره، وآخر أئمة الأندلس من نوعه، حافظ للحديث وأسماء رجاله، إمام في الفقه قرأ على أبي عمرو الداني، ورحل للعراق، فأخذ عن أعلامه كأبي بكر الشاشي، وعلق عنه تعليقته الكبرى وأقام هناك خمس سنين، وسمع من ابن عبد البر والباجي والدولابي ونظراء هؤلاء بالأندلس ومصر والمشرق، وسمع من الحميدي السابق وطبقته وأبي المعالي والطرسوشي، وخلق كثير، وكان كثير الفوائد، غزير العلم، وسمع منه خلق كثير ببغداد والمغرب، واستقر بمرسية، فرحل أناس إليه من الأقطار قال هو يوما لبعض الناس: خذ الصحيح، واذكر أي متن أذكر لك سنده أو أي سند أذكر لك متنه.
سمع القاضي عياض، واعتمده في الشفاء وغيرها، وأخذ عنه صهره المتولي لشئونه أبو عمران موسى بن سعادة وعلى نسخته وعلى نسخته صحح وقابل النسخة المسماة في المغرب بالشيحة كما يأتي في ترجمة أبي عمران، كما أجاز أبا طاهر السلفي وابن بشكوال وغيرهم ولد سنة 452 اثنين وخمسين وأربعمائة، وقلد القضاء بطلب من أهل مرسية، فأجاد السيرة، وأقام الحق إلى أن عزل نفسه واختفى، فلم يوقف له على أثر، وفي "المنح البادية" وغيرها أنه توفى سنة 514 أربع عشرة وخمسمائة زاد الخفاجي في سادس ربيع الأول في غزوة كنترة ويقال قنترة بالقاف، واستشهد فيها من المسلمين المتطوعة نحو عشرين ألفا ولم يقتل من العسكر أحد، وكانت على المسلمين.
__________
1 أبو علي الحسين بن محمد بن فيره بن حيون الصدفي: فيره بكسر الفاء وضم الراء المشددة بعدها أصله الأسبان الحديد اسم لجده، وحيون فتح المهملة وضم الياء المثناة المشددة، وسكرة بضم السين المهملة وفتح الكاف مشددة، والصدفي قال شيخنا أبو العباس ابن سودج: بفتحتين نسبة إلى الصدف بفتح فكسر بن سهل وهي قبيلة من حمير كبيرة من خطه على نسخة الصلة لابن بشكوال. ا. هـ. مؤلف.
نفح الطبيب "2/ 90"، وتذكرة الحفاظ ص"1253"، وتهذيب ابن عساكر "4/ 359".(2/254)
581- أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي 1:
زعيم الفقهاء بالأندلس والمغرب، المعروف بصحة النظر، ودقة الفقه، وجودة التأليف مطبوعا عليه، حافظ المذهب، له المفزع في المعضلات، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية من أخذه منها بالحظ الأوفر، له كتاب البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل من كتب المالكية الجليلة القدر المعتمدة عند كل من جاء بعده قال في أوله: ومن جمعه إلى كتابي المقدمات حصل على ما لا يسع جهله من أصول الديانات، وأحكم رد الفرع إلى أصله، وحصل على درجة من يجب تقليده إلخ واختصر المبسوطة، ولخص كتاب "مشكل الآثار" للطحاوي، وله أجزاء كثيرة في فنون مختلفة.
تولى قضاء قرطبة، ثم استعفى، وأكب على التأليف، وكانت الرحلة إليه من الأقطار. أخذ عنه القاضي عياض وغيره، وهو أحد الأربعة المعتمد ترجيحهم في مختصر خليل، وذكر عبد الرحمن الغرياني في حاشية المدونة عن الزغبي عن ابن عرفة أنه لا يجوز لأحد أن يقف في مسألة على نص ابن رشيد، ويأخذ فيها بكلام اللخمي، وقد بحث معه الشيخ أحمد بابا السوداني في ترجمة الغرياني المذكور من "نيل الابتهاج" بأن خليلا المبين لما به الفتوى ذهب في مسائل على قول اللخمي مع وقوفه على خلاف ابن رشد فيها. فانظره فالقضية أغلبية لا كلية عند من لا قدرة له على النظر في الأدلة.
توفي سنة 520 عشرين وخمسمائة رحمه الله.
__________
1 أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشيد القرطبي: أبو الوليد، الفقيه، القاضي، الماهي، مات سنة 520:
التكملة لوفيات النقلة "1/ 261"، والحاشية، إفادة التصحيح ص"63"، العنية ص"112".(2/255)
582- أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي 1:
يعرف بابن أبي رندقة2 نشأ بطرطوشة -بضم الطاءين- ورحل لطلب العلم في أقطار الأندلس وصحب أبا الوليد الباجي بسرقسطة وأخذ عنه مسائل الخلاف، وكان يميل إليها، وتفقه به، ثم رحل للمشرق، فدخل بغداد والبصرة، فأخذ عن أبي بكر الشاشي المستظهري وغيره، وسكن الشام مدة، ودرس بها، فبعد صيته وكان راضيا من الدنيا بالقليل لورعه، ثم سكن الإسكندرية.
وتزوج امرأة موسرة وهبت له دارا سكن أعلاها، وجعل أسفلها مدرسة للطلبة، وكان نزوله بالإسكندرية بعد قتل بني عبيد لعلمائها، فنشر العلم بها، وأحيا معالمه بعد ما تعطلت دروسه، وكان يقول: إن سألني الله عن المقام بالإسكندرية مع ما هي عليه من تعطيل الجمعة وغير ذلك من المناكر التي كانت أيام العبيديين أقول له: وجدت قوما ضلالا، فكنت سبب هدايتهم.
وهكذا ينبغي للعلماء، بل يجب عليهم القيام بهداية الخلق، ولا يجوز لهم الهجرة إلا إذا يئسوا الهداية، أو خافوا الفتنة على أنفسهم أو دينهم، وامتحنه العبيديون بإخراجه منها، وملازمة الفسطاط، وأن لا يأخذ عنه أحد، ثم ألف تواليف مهمة في الأصول ومسائل الخلاف، وله كتاب في البدع، وله سراج الملوك في السياسة.
توفي بالإسكندرية سنة عشرين وخمسمائة 520.
__________
1 أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي "ابن أبي رندقه" من طرطوشة: أبو بكر، القرشي، الفهري الأندلسي، الطرطوشي، المغرب، مات بعد سنة 516:
سير النبلاء "19/ 490"، المعين ص"1655"، الأنساب "19/ 69"، وفيات الأعيان "4/ 262"، التقييد "1/ 119"، ومعجم المؤلفين "12/ 96"، الأعلمي "27/ 132".
2 رندقة بفتح الراء وسكون النون، وفتح الدال المهملة والقاف: لفظة إفرنجية. ابن خلكان.(2/256)
583- أبو بكر محمد بن خلف بن سلمان بن فتحون الأوريولي 1:
روى عن أبيه، وابن المفوز والصدفي، وأكثر عنه وعن غيرهم، اعتنى بالحديث كثيرا، له استلحاق على "الاستيعاب" في الصحابة في سفرين، واستمد منه صاحب "الإصابة" وغيره.
توفي سنة 520 عشرين وخمسمائة
584- أبو عمران موسى بن سعادة 2:
مولى سعيد بن نصر الذي هو مولى الناصر الأموي من أهل بلنسية، وخرج منها بعد "480" لما غلب عليها العدو، وتوطن مرسية. سمع أبا علي الصدفي، ولازمه وصاهره، تولى أشغاله، وله رحلة أخذ فيها عن الطرطوشي وغيره، وعني بالرواية، فكتب النسخة الشهيرة من صحيح البخاري رواية أبي ذر بخطه، ورواها عن صهره المذكور، قرأها عليه مرارا وهي في المغرب المسماة بالشيخة، رواها عن ابن أخيه محمد بن سعادة كما يأتي في ترجمته قال ابن الأبار: لم أقف لأبي عمران على خبر بعد عام 522 اثنين وعشرين وخمسمائة.
قال ابن الأبار في جزء "التكملة" المطبوع في الجزائر عدد 40: قرأت بخط أحمد بن خلف المازري شهادته على أبي عمران بن سعادة بتنفيذ وصية صهره الصدفي في صدر رجب من السنة المذكورة.
__________
1 أبو بكر بن خلف بن سليمان بن فتحون الأوريولي: أبو بكر، الأوريولي، مات سنة 519 أو سنة 520:
حاشية الأنساب "1/ 386، 387"، المعجم للقضاعي ترجم 93 ص"110"، الوافي بالوفيات "3/ 45، 46"، بغية المتلمس ص"73، معجم المؤلفين "9/ 284".
2 أبو عمران موسى بن سعادة مولى سعيد بن نصر: أبو عمران، المرسى مات سنة 514:
شجرة النور الزكية ص"148"، نفح الطيب "2، 221"، بغية الملتمس ص"456".(2/257)
585- أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري 1:
الشهير بالإمام أصله من مازر بفتح الزاي وكسرها مدينة بصقلية، نزل المهدية سواحل أفريقية، فكان إماما لبلاد أفريقية، وهو آخر من اشتغل فيها بتحقيق العلم ورتبة الاجتهاد، ودقة النظر، أخذ عن اللخمي، وعبد الحميد السوسي المعروف بابن الصائغ وغيرهما. ومرض يوما فلم يجد من يداويه سوى طبيب يهودي، فأخذته الحمية واشتغل به، فكان يفزع إليه في الطب كما يفزع إليه في الفتيا. شرح صحيح مسلم، والبرهان لإمام الحرمين، والتلقين لعبد الوهاب في الفقه، وله كتاب "إيضاح المحصول في برهان الأصول" أخذ عنه عياض بالإجازة وغيره، ولم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض أفقه، ولا أقوم لمذهبه منه. وله مشاكل في علوم كثيرة كالحساب والأدب، فكان أحد رجال الكمال إلى حسن الخلق، وأنس المجلس، وكان قلمه أبلغ من لسانه، وأناف سنة على الثمانين، وتوفي سنة 536 ست وثلاثين وخمسمائة، وهو أحد الأربعة الذين اعتمد خليل ترجيحهم، بل وأقوالهم، ومع إدراكه رتبة الاجتهاد، فلم يكن يفتي الناس إلا بالمشهور رحمه الله.
586- أبو بكر محمد بن عبد الله الشهير بابن العربي المعافري 2:
الإشبيلي العلم المتبحر الحافظ كان أبوه من فقهاء إشبيلية، وله حظوة عند
__________
1 أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري "الإمام": أبو عبد الله، التميمي، المازري، المالكي، مات سنة 536:
التاج المكلل ص"116"، سير النبلاء "20/ 104"، الحاشية، معجم المؤلفين "11/ 32"، وفيات الأعيان "4/ 285"، المشتبه ص"565"، نسيم الرياض "4/ 202"، الأعلمي "27/ 67"، والوافي بالوفيات "4/ 151".
2 أبو بكر محمد بن عبد الله "ابن العربي المعافري الإشبيلي: وفيات الأعيان "4/ 296"، والديباج المذهب ص"281"، وتذكرة الحفاظ ص"1294"، والوافي "3/ 330"، وشذرات الذهب "4/ 141".(2/258)
ملوك بني عباد بها، فلما انقضت دولتهم رحل للمشرق بعدا من ولاة لمتونة المستولين بعدهم الذين حجزوا أملاكه، ويقال: إنه ذهب في سفارة من يوسف بن تاشفين اللمتوني بالبيعة لخليفة بغداد سنة خمس وثمانين وأربعمائة، فرحل معه ولده أبو بكر هذا وهو ابن سبع عشرة سنة بعدما تأدب، وقرأ القراءات، فلقي بمصر والشام وبغداد والحجاز أعلاما كبارا كالغزالي والطرطوشي، والصيرفي والأكفاني والشاشي وغيرهم، فاتسع في رواية الحديث والفقه والخلافيات والأصول والأدب والشعر، وكان معدودا من الشعراء المجيدين ومن شعره قوله:
من لي بمن يثق الفؤاد بوده ... وإذا ترحل لم يزغ عن عهده
يا بؤس نفسي من أخ لي باذل ... حسن الوفاء بقربه لا بعده
يولي الصفاء بنطقه لا خلقه ... ويدس صابا في حلاوة شهده
فلسانه يبدي جواهر عقده ... وجنانه تغلي مراجل حقده
لا هم إني لا أطيق مراسه ... بك أستعيذ من الحسود وكيده
ورجع من رحلته، فمات أبوه بالإسكندرية سنة 493 ثلاث وتسعين وأربعمائة. قال ابن بشكوال: وفيها عاد أبو بكر إلى الأندلس، فقدم بلده إشبيلية بعلم كثير لم يأت به أحد ممن كان له رحلة إلى المشرق؛ إذ كان متفننا في العلوم مستبحرا فيها، ثاقب الذهن، واسع الجمع، مقدما في المعارف كلها، متكلما في أنواعها، نافذا في جميعها، حريصا على نشرها مع أدب أخلاق، وكرم نفس، وثبات ود، فجلس للوعظ والتفسير، وتولى الشورى، ثم القضاء ببلده، فكان سيفا للحق صارما.
وصنف تصانيف شهيرة، فشرح الموطأ شرحين، وله "عارضة الأحوذي شرح الترمذي" طبع في الهند وأحكام القرآن الكبرى، طبع بمصر وله الصغرى أيضا والقواصم والعواصم، والمحصول في أصول الفقه وتفسيره، بالغ ثمانين جزءا قال هو: إنه ألفه في عشرين سنة ثمانين ألف ورقة، وله كتاب السياسيات، وكتاب المسلسلات، وكتاب النيرين على الصحيحين، وكتاب مشكل القرآن(2/259)
والسنة، والإنصاف في مسائل الخلاف، عشرون مجلدا، وكتاب أعيان الأعيان، وغير ذلك من التآليف المفتخرة فهو من الطبقة العليا من مؤلفي الإسلام، وله جود البحر يقال: إنه بنى سور إشبيلية بلده بالآجر والجير من ماله الخاص.
أخذ عنه القاضي عياض، والإمام السهيلي، وابن باذش، وابن خليل وابن النعمة، وابن حبيش، وغيرهم، وآخر من حدث عنه بسماع أبو بكر بن حسنون وبإجازة أبو الحسن الغافقي الشقوري نزيل قرطبة، وجاء في وفد البيعة لعبد المؤمن الموحدي لمراكش، فتوفى عند منصرفه منها قيل مسموما ولا يبعد ذلك إذا صح أنه بنى سور مدينته من ماله؛ لأن استبداد الملوك يأبى ذلك، ويورث الغيرة. ودفن بفاس وقبره بها مشهور إلى الآن، وذلك سنة 543 ثلاث وأربعين وخمسمائة وعمره خمس وسبعون سنة رحمه الله.
وقال ابن خلدون: إن وفاته كانت سنة اثنين وأربعين، وذلك بعد ما قتل ولده عبد الله في هيعة دخول الموحدين إلى إشبيلية من غير قصد، فضاعف الله له الأجر، والأول أصح لأنه ذكره ابن بشكوال الذي لقيه وأخذ عنه، ونقله عنه ابن خلكان وسلمه.
587- أبو الفضل عياض -بكسر العين- بن موسى بن عياض 1
ابن عمرون بن موسى اليحصبي -بضم الصاد- قبيلة من حمير كان أصلهم من الأندلس وانتقلوا لفاس ثم سبتة، وجده عمرون هو الذي انتقل من فاس لسبتة، فهو سبتي الدار والمولد فاسي الأصل، كان مقدم وقته في الحديث والتفسير والأدب والشعر والأصول والفقه والعلوم العربية، مشاركا له الرحلة من الأقطار، وله الرياسة في بلده فتيا وقضاء، خطيبا بليغا شاعرا مجيدا كامل الأخلاق، حليما كريما صلبا في الحق، طلب العلم بالمغرب، ورحل للأندلس سنة سبع وخمسمائة، فأخذ عن أعلامها كأبي علي الصدفي، وابن رشد، وابن
__________
1 أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى اليحصبي: وفيات الأعيان "3/ 483"، والديباج المذهب "168"، وتذكرة الحفاظ ص"1204"، والإحاطة "2/ 167"، وشذرات الذهب "4/ 138".(2/260)
العربي وغيرهما، واستقضى بقرطبة، وحمدت سيرته في ولايته كلها.
وله تآليف حسنة شهيرة كالشفا في التعريف بحقوق المصطفى، طار ذكرها والإقبال عليها مشرقا ومغربا، وانتقد عليه فيها تساهله في أحاديثها كثيرا، وأجيب بأن ذلك من باب المناقب، قيل: وله فيها ما هو موضوع، ويظهر أنه لم ينقحها مع ما فيها من الإطناب.
وقال ابن تيمية: فيه غلو وهو كتاب مع ذلك جليل القدر، عظيم الصيت في الإسلام، ولا يخلو كبير من قادح، قد سلموا له مزية السبق فيه، واستفاد منه الناس مشرقا ومغربا، وله غيرها في الفقه والحديث واللغة وغيرها كمشارقه على الصحيحين، والموطأ، وله شرح مسلم، وكتاب التنبيهات على المدونة، وهو من كتب المالكية المعتمدة إلى الآن، وله كتاب ترتيب المدارك في طبقات أصحاب مالك نقلنا عنه كثيرا في هذا الكتاب تراجم المالكية مباشرة وبواسطة، وقواعد الإسلام وغيرها من تآليف جليلة القدر، عظيمة الخطر.
ومن الناس من يعتبره رأس علماء المغرب في الإسلام صدق علمه شهرته داخل المغرب وخارجه، أصابته محنة سياسية بيناها في تاريخنا فراجعها، فغرب من سبتة إلى مراكش فتوفي بها سنة 544 أربع وأربعين وخمسمائة عن ثمان وأربعين سنة، وقبره بها مشهور رحمه الله.
588- عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي الغرناطي 1:
قاضي المرية بالأندلس، له تفسير وكان مشاركا في الفقه والأحكام والحديث والأدب. توفي سنة 546 ست وأربعين وخمسمائة، وفي الصلة سنة
__________
1 عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي الغرناطي "قاضي المرية": أبو محمد، المحابي، ولد سنة 481، مات سنة 542، وقيل سنة 446:
التكملة لوفيات النقلة "1/ 122"، والمعين رقم "1732"، سير النبلاء "19/ 587"، بغية الملتمس ص"389"، الإحاطة في أخبار غرناطة "3/ 539"، الأعلمي "21/ 55"، نفح الطيب "2/ 526".(2/261)
اثنين وأربعين.
589- عمر بن محمد بن واجب القيسي البلنسي 1:
صاحب الأحكام تفقه بأبي محمد بن سعيد، قاضي بلنسية، ولازمه طويلا، وعرض تهذيب البراذعي أربعة عشرة مرة، آخر حفاظ المسائل بشرق الأندلس، محسنا للفتوى، مقدما في الشورى، وأخذ عنه الفقه، ونوظر فيه مع تواضع ونزاهة غلب عليه الفقه دون الحديث. توفي سنة 557 سبع وخمسين وخمسمائة، وبيت بني واجب فيهم علماء كثيرون بالأندلس تجدهم في الصلة وفي ذيلها.
590- علي بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن حرزهم 2:
إمام فاس وعالمها، وصالحها ومتصوفها، وفقيهها ومحدثها، ومسندها الحافظ المدرس النفاع الزاهد الشيخ الواعظ، الدال على الله، المرشد لطريقه، غلب التصوف على فقهه وتبحره، فتاب على يده كثير، وتزهد على يده أمير الوقت، وكيف لا هو بنفسه خرج عن ماله لله لأخيه، فأبى أخوه من قبوله، فقال له: إن لم تقبله، تصدقت به على الجذمى، واقتدى في عمله بقوله عليه السلام لأبي طلحة الأنصاري لما تصدق ببستانه بيرحاء جعلها في الأقربين، وقد قال أبو مدين الغوث: كل ما كنت أسمعه من غير علي بن حرزهم لا أنتفع به، وما كنت أسمعه منه يتعلق بقلبي فأنتفع به، فسألته عن ذلك، فقال: إن الكلام إذا خرج عن صدق من القلب، صادف القلب، فانتفع به. قال: ولازمته، فانتفعت به وكذلك أبو عبد الله التاودي وغيرهما، وقد كثرت أتباعه وتلاميذه، وانتفع الخلق به وبتهذيبه وإصلاحه القلوب. توفي سنة 559 تسع وخمسين وخمسمائة.
__________
1 عمر بن محمد بن واجب القيس البلنسي: نيل الابتهاج ص"194".
2 علي بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن حرزهم: نيل الابتهاج ص"198".(2/262)
591- أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة 1:
مولى سعيد بن نصر مولى عبد الرحمن الناصر، الجامع بين العلم والرواية، والتفنن في المعارف، وكان مائلا إلى التصوف، مؤثرا له، حسن الهدي والسمت والوقار تاليًا لكتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، كثير الخشوع في الصلاة، لا يفتر عنها دائما، له حظ من الصوم لا يزال عليه راتبا، سمع من أبي علي الصدفي، واختص به، وأكثر عنه، وإليه صارت دواوينه وأصوله العتاق وإسماع كتبه الصحاح لصهر كان بينهما، وألف كتاب "شجرة الوهم المترقية إلى ذروة الفهم" لم يسبق إلى مثله، وكانت عنده أيضا أصول حسان بخط عمه أبي عمران موسى مع الصحيحين بخط الصدفي في سفرين قال ابن عباد، ولم أر عند شيوخنا مثل كتبه في صحتها وإتقانها وجودتها، توفي أول يوم من سنة 566 ست وستين وخمسمائة وولد سنة 496. ست وتسعين وأربعمائة روى عن عمه أبي عمران موسى بن سعادة صاحب الرواية والنسخة الشهيرة المعتمدة المسماة بالشيخة، كانت من أحباس القرويين وهي بخط أبي عمران المذكور، عليها خط أبي علي الصدفي شاهد بأن أبا عمران قرأها عليه، وقد ضاع السدس الأول منها، قال في "نفخ الطيب": ونسخ صحيح البخاري ومسلم بخطه، وسمعهما على صهره أبي علي، وكانا أصلين لا يكاد يوجد في الصحة مثلهما فنسخة الشيخة ليست من قبيل الوجادة، بل رواية متصلة إلى الصدفي من طريق أبي عمران وولد أخيه المترجم معا إلى البخاري خلافا للتاجمعوعتني.
592- علي بن عبد الله المتيطي 2:
وبه شهر نسب إلى قرية من أحواز الجزيرة الخضراء بالأندلس، وبها توطن قرأ بفاس، ومهر في كتاب الشروط والوثائق، وقد ألف الوثائق المشهورة التي تنسب إلى ناب في أحكام إشبيلية، وولي قضاء شريش، توفي سنة 570 سبعين
__________
1 أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة مولى سعيد بن نصر مولى عبد الرحمن الناصر: نفح الطيب "2/ 158"، والتكملة ص"505".
2 علي بن عبد الله المتيطي: نيل الابتهاج ص"199".(2/263)
وخمسمائة.
593- أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال 1:
القرطبي إمام حافظ لا سيما في الحديث والتاريخ، له كتاب الغوامض والمبهمات في اثني عشر جزءا على نسق كتاب الخطيب البغدادي، وله كتاب "الصلة" نقلت عنه هنا كثيرا وهو مطبوع بأوروبا وغيره. توفي سنة 578 ثمان وسبعين وخمسمائة عن أربع وثمانين سنة.
494- أبو محمد عبد الحق بن عبد العزيز بن عبد الله الأزدي 2:
الإشبيلي، ويعرف بابن الخراط نزل بجاية عند الفتنة الواقعة في إشبيلية على انقراض دولة لمتونة بها، فنشر علمه، وصنف، وولي الخطابة والإمامة بجامعها الأعظم. وكان فقيها حافظا عالما بالحديث وعلله ورجاله، زاهدا عابدا ناسكا ملازما للسنة، والتقلل من الدنيا مشاركا في فنون كثيرة كالأدب والشعر، صنف الأحكام الصغرى والكبرى والوسطى في أحاديث أصل الفقه؛ إذ كان في زمن الموحدين الذين ألزموا الناس بالاجتهاد، واتباع الظهر من الكتاب والسنة، وترك القياس، وقد استمد من كتاب أبي القاسم الزيدوني، وزاد عليه العلل كما ذكر ذلك في أول الأحكام، وقد سبقه إلى صنيعه أبو العباس بن أبي مروان
__________
1 أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن موسى بشكوال القرطبي: الديباج المذهب ص"114"، ووفيات الأعيان "2/ 240".
2 أبو محمد عبد الحق بن عبد العزيز بن عبد الله الأزدي الإشبيلي "ابن الخراط": أبو محمد، الأزدي، الإشبيلي، الأندلسي، الشهرة ابن الخراط، ولد سنة 510، مات سنة 581، وقيل سنة 582:
عنوان الدراية ص"41"، التاج المكلل ص"161"، أربع رسائل "115، 116"، الديباج ص"175"، شذرات الذهب "4/ 271"، مرآة الجنان "3/ 422"، تذكرة "4/ 1350"، بغية الملتمس ص"178"، سير النبلاء "21/ 198"، الأعلام "3/ 281".(2/264)
الشهير بلبلة، فحظى عبد الحق بإقبال الخلق على أحكامه دونه، وقد تعقب عليه بعض أحاديثه حافظ المغرب أبو الحسن بن القطان بكتاب سماه "الوهم والإيهام" ولكن رد عليه كثيرا منها ابن المواق، ولعبد الحق كتب كثيرة؛ إذ كان محظوظا في التأليف، مبارك له فيه، فله كتاب تعقب فيه على تهذيب البراذعي أشياء أحالها في الاختصار عن معناها، وله كتب كثيرة في الحديث يطول سردها. انظرها في "الديباج".
وعلى كل حال هو من الطبقة العليا في التصنيف المفيد، وأحكامه من الكتب التي ينبغي طبعها، ولا تغني عنها المصابيح ولا المشكاة، ولا ما ألف بعدهما، وقد ظفرت بنحو النصف من أول أحكامه وأظنها الوسطى بلغت إلى وسط كتاب الجهاد كتبت بإتقان، وتصحيح متين بخط مشرقي في سفر ضخم ذكر كاتبها آخرها أنها كملت عام 737 سبع وثلاثين وسبعمائة، وأن السفر الذي يليها أوله باب في التحصر وحفير الخندق، ولو ظفرت بالنصف الثاني لطبعتها. ولعله في الخزانة الخديوية بمصر، وعثرت على بعض أجزاء الصغرى في مكتبة مراكش الحبسية، وله كتب في الوعظ وآخر في اللغة معهم، وفي الأنساب وغيرها من الفنون.
تولى القضاء لبني غانية في بجاية، ونالته محنة بعد احتلال الموحدين لها، وعصمه الله منهم؛ إذ كان المنصور نذر دمه فتوفى سنة 582 اثنين وثمانين وخمسمائة كما كان مرقوما على رخامة قبره، وشاهده صاحب "عنوان الدارية" عن سن يبلغ اثنين وسبعين رحمه الله. وأشهر من يسمى عبد الحق في المالكية المغاربة من أهل هذه الطبقة هذا لاشتهار كتبه وخصوصا الأحكام فإذا أطلق هذا الاسم، فإليه ينصرف، وتقدم لنا عبد الحق بن محمد بن هارون الصقلي، وهناك عبد الحق آخر أقل شهرة منهما، وهو عبد الحق بن غالب المحاربي الغرناطي وتقدم.
595- أحمد بن محمد بن أحمد الهلالي الشهير بابن المناصف الغرناطي: يكنى أبا جعفر توفي سنة 585 خمس وثمانين وخمسمائة.(2/265)
596- أبو القاسم أحمد بن محمد بن خلف الحوفي 1:
الإشبيلي أصله من حوف مصر بيت علم وعدالة، فقيه حافظ، ذاكر للمسائل، بصير بالشروط والتوثيق، فرضي ماهر، له في الفرائض تصانيف كبير ووسط ومختصر، وكل بلغ في الإجادة الغاية، استقضى بإشبيلية مرتين، فحمدت سيرته نزاهة وجزالة وشدة على أهل الشر، ويقال: إنه [ما] أخذ مرتبا على القضاء، بل كان يصطاد الحوت مرة في الأسبوع يقتات بثمنه حتى خلصه الله من القضاء توفي سنة 588 ثمان وثمانين وخمسمائة.
597- أبو محمد القاسم بن فيره بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي 2:
الضرير المقرئ كان آية في القراءات والحديث واللغة وغيرها من الفنون. كان إذا قرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تصحح النسخ من فيه، ويملي النكت على المواضع التي تحتاج إليها وله نظم "حرز الأماني في القراءات" ألف بيت ومائة بيت وثلاثة وسبعون بيتا، أبدع فيها كل الإبداع، سواء من جهة الفن، أو من جهة الأسلوب والرموز التي لم يسبق إليها، وهي عمدة القراء في مشارق الأرض ومغاربها حتى أصبح حفظها قرينا لحفظ القرآن العظيم في مكاتب الإسلام، ومن حفظها وفهم رموزها حصل القراءات السبع من زمنه إلى الآن. سمع الحديث من أبي عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة، وأبي الحسن علي بن هذيل وأقرانهما، وانتفع بالأخذ عنه عالم كبير في المشرق والمغرب. كان يجتنب فضول الكلام، ولا ينطق إلا فيما تدعو إليه ضرورة، ولا يجلس للإقراء إلا على وضوء على هيئة حسنة وتخشع واستكانة.
__________
1 أبو القاسم أحمد بن محمد بن خلف الحوفي الإشبيلي: الديباج المذهب ص"54".
2 أبو محمد القاسم بن فيره بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير المقرئ: وفيات الأعيان "4/ 71"، والتكملة رقم "1973"، وغاية النهاية "2/ 20"، والديباج المذهب ص"224"، ومعجم الأدباء "16/ 293"، طبقات الشافعية "4/ 297".(2/266)
وكان يقول عن نفسه: إنه يحفظ وقر بعير من أوراق العلم. توفي بمصر سنة 590 تسعين وخمسمائة.
598- أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الحفيد 1:
قاضي الجماعة بقرطبة روى عن أبيه أبي القاسم استظهر عليه الموطأ حفظا، وعن المازري وابن بشكوال وغيرهم، وأخذ الطب عن ابن جريول، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، وله من معرفة الرواية ما يندر في غيره، وله المشاركة في الأصول والكلام ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، وعلى شرفه كان أشد الناس تواضعا مع شدة حرص على العلم قيل: لم يدع النظر إلا يوم وفاة والده وليلة بنائه بأهله. كثير التصنيف، سود فيما صنف أو ألف نحوا من عشرة آلاف ورقة، وكانت له الإمامة في علوم الأوائل دون أهل عصره يفزع إليه في الفتوى في الطب كالفقه مع العربية والأدب، حافظا لأشعار العرب، له بداية المجتهد المطبوعة المتداولة دالة على باع وكمال اطلاع على اختصارها وبدايته نهاية غيره، وكتاب الكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، والضروري في العربية، تنيف تواليفه على الستين، محمود السيرة في القضاء، لم يصرف وجاهته عند الملوك في ترفيه حاله، بل في مصالح بلاده، ونالته محنة زمن يعقوب المنصور بسبب مهارته في العلوم الفلسفية حيث عادة أهل الأندلس إذاية من خاضها كائنا من كان، ولكن لم يلبث المنصور أن راجع فيه بصيرته، فقربه وأخذها عنه.
توفي سنة 595 خمس وتسعين وخمسمائة عن خمس وسبعين سنة رحمه الله.
__________
1 أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الحفيد قاضي الجماعة: أبو الوليد، الصلة "2/ 553"، قضاة الأندلس ص"111"، والتكملة "1/ 269"، والمعجب ص"442"، وشذرات الذهب "4/ 320".(2/267)
599- أبو محمد يسكر بن موسى الجورائي ثم الغفجومي 1:
من قبيلة بتادلا الفاسي، أحد أشياخ المغرب في الدين والفضل، والزهد والورع والمجاهدة، والتقشف والإيثار، حامل لواء الفقه المالكي في وقته، وله حاشية على المدونة، غزير العلم، لا يتناول مما في أيدي الناس، يتحرى الحلال، فلا يأكل إلا من نتاج غنمه وبلده التي ورثها من أبيه.
توفي سنة 598 ثمان وتسعين وخمسمائة.
600- أحمد بن هارون بن أحمد بن عات النفزي الشاطبي 2:
من كبار الحفاظ الجامعين بين الفقه والحديث والأدب، وهو بالحديث أشهر متوسط الطبقة في حفظ فروع الفقه، أما الحديث، فيسرد المتون والأسانيد، عدل ثقة مأمون كان أهل شاطبة يفخرون به وبابن عبد البر؛ إذ كان على سنن الصالحين نزاهة ومتانة دين، وتقشفا وخشونة ملبس كان يستظهر عدة كتب.
وقال ابن نذير: حضرته في الموطأ والبخاري يقرأ منهما كل يوم نحو عشرة أوراق من لفظه عرضا لا يتوقف في شيء من ذلك، مجيدا للنظم والنثر، مهيب وقور، له تصانيف.
وفقد رحمه الله في وقعة العقاب بناحية جيان غازيا سنة 609 تسع وستمائة.
__________
1 أبو محمد يسكر بن موسى الجورائي الغفجومي: نيل الابتهاج ص"160".
2 أحمد بن هارون بن أحمد بن عات النفزي الشاطبي: تذكرة الحفاظ ص"1389"، ونفح الطيب "2/ 601".(2/268)
601- أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاش الجذامي السعدي 1:
الفقيه الشهير صاحب "الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة" كتاب جليل فصيح العبارة صنفه على ترتيب وجيز الغزالي، وقد تسرقه طريقته، فيدخل بعض أقوال الشافعية في المذهب المالكي، ومع ذلك، فهو كتاب من أحسن ما صنف المالكية، وكان من أبناء الأمراء توفى مجاهدا في دمياط سنة 610 عشر وستمائة.
602- أبو ذر مصعب بن محمد بن مسعود الخشني 2:
أصله من جيان بالأندلس، ويعرف بابن أبي ركب قاضي جيان، ثم استوطن فاس ورحل الناس إليه في طلب العلم، ولا سيما في الحديث والعربية. له شرح غريب سيرة ابن إسحاق وغيره، وكان على سنن السلف، توفي سنة 604 أربعمائة وستمائة.
603- أبو الحسن علي بن إسماعيل الأبياري 3:
بفتح الهمزة وسكون الباء بعدها الإسكندري من الأئمة الأعلام، برع في
__________
1 أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاشي الجذامي السعدي الفقيه: التكملة للخندري "2" الترجمة "1677"، وفيات الأعيان "3/ 61، 62"، العبرة "5/ 61، 62"، دول الإسلام "2/ 90"، البداية النهاية "13/ 86"، الديباج المذهب "1/ 443"، عقد الجمان للعيني "17/ 399"، حسن المحاضرة "1/ 214"، شذرات الذهب "5/ 69"، شجرة النور "165".
2 أبو ذر مصعب بن مسعود الخشني "من جيان": أبو ذر، الخشني، إفادة النصيح "109"، المشتبه "217"، كتاب الصلة "2/ 700"، حاشية الإكمال "3/ 263".
3 أبو الحسن علي بن إسماعيل الأبياري الإسكندري، أبو الحسن، البياري الربعي، مات سنة 518:
حاشية الإكمال "1/ 143"، دائرة الأعلمي "3/ 37"، تبصير المنتبه "1/ 34"، المشتبه ص"8".(2/269)
علوم كثيرة خصوصا الفقه والأصول، ومنهم من فضله فيه على الفخر الرازي، له كتاب "سفينة النجاة" على نسق الإحياء، فضلها بعض الفضلاء على الإحياء، وله تكملة حسنة على كتاب مخلوف الذي جمع فيه بين التبصرة والجامع لابن يونس والتعليقة لأبي إسحاق تدل على قوته في الفقه وأصوله. توفي سنة 616 ست عشرة وستمائة.
604- أبو الحسن علي بن عبد الملك بن يحيى الكتامي الحميدي 1:
من أهل فاس يعرف بابن القطان قرطبي الأصل، شارح أحكام عبد الحق، والمتمم لتحقيق ما يتعلق بنقد أحاديثها والجواب عن بعض ما انتقده عبد الحق منها، وهو صاحب كتاب الإقناع في مسائل الإجماع، وكتاب أحكام النظر، وصاحب كتاب النزاع في القياس، وله مقالات في الأوزان وغيرها من أبصر الناس بالحديث، وأحفظهم لرجاله، وأشدهم به عناية مع تفنن ودراية. أخذ عن أبي ذر الخشني، وعن أبي عبد الله بن الفخار وأكثر عنه وغيرهما، وخدم السلطان بمراكش، ونال دنيا عريضة. وتوفي بسجلماسة قاضيها سنة 628 ثمان وعشرين وستمائة.
605- أبو عمرو عثمان بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب 2:
الرويني المصري الدمشقي ثم الإسكندري الكردي جمال الدين وكان أبوه حاجبا للملك عز الدين موسك الصلاحي، مشارك في العلوم العربية وأتقنها أي
__________
1 أبو الحسن علي بن عبد الملك بن يحيى الكتامي الحميدي "من أهل ناسي": سير النبلاء "13/ 191"، وتذكرة الحفاظ "4/ 192، 193"، الابتهاج "200، 201".
2 أبو عمرو عثمان بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب الرويني المصري: سير النبلاء "13/ 287"، ووفيات الأعيان "1/ 195"، وطبقات القراء "1/ 508"، وشذرات الذهب "5/ 381"، وبغية الوعاة "323".(2/270)
إتقان بدليل مصنفاته السائرة فيها سير الشعاع ككافيته في النحو، وشافيته في الصرف، وألف في القراءات والعروض وغيرها، والمختصرين له في الأصول، وبرع في مذهب مالك، وصنف فيه مختصره الشهير الذي نسخ ما تقدمه، وشغل دورا مهما وأقبل عليه الناس شرقا وغربا حفظا وشرحا إلى أن ظهر مختصر خليل، وأثنوا عليه ثناء جما منهم نصار الدين المشذالي البجائي، فهو أول من أدخله للمغرب، ورغبهم فيه، فشرحه ثلاثة من أعلام التونسيين في عصر واحد، وهم ابن راشد القفصي، وابن عبد السلام وابن هارون، لكن الأول هو الشارح الحقيقي على أنه استعان بابن دقيق العيد؛ لأنه شيخه، أما الأخيران، فإنما سارا في ضوء نبراسه، لكن أتقن بالشرح شرح ابن السلام الهواري، ثم شرحه بقرب التاريخ الشيخ خليل بمصر مستعينا بابن عبد السلام وصنيع ابن الحاجب في التأليف الذي هو الاختصار وتنافس فيه من بعده، واستحسنوه هو الذي كان سببا في هرم العلوم العربية التعقيد، وتطويل الشروح، وضياع وقت الطالب في المسألة الواحدة زمنا طويلا، ويأتي مزيد بسط لذلك.
وابن الحاجب هو الذي مزج النحو بعلم البيان والمعقول، فزاد صعوبة أيضا، وكان حجة ثبتا ورعا ذا أخلاق عالية، ركنا من أركان العلم والعمل. توفي سنة 646 ست وأربعين وستمائة.
606- أبو محمد صالح الهسكوري 1:
من أهل فاس بيتهم بيت صلاح وجلالة يضرب به المثل في العدالة، وبه مثل ابن عرفة للمبرز فيها لمزيد شهرته علما ودينا، أخذ عنه أبو الفضل راشد الوليدي وأبو إبراهيم الأعرج الورياغلي صاحب الطرر على المدونة وغيرهما. كان شيخ المغرب علما وعملا، له تقييد على الرسالة توفي سنة 653 ثلاث وخمسين وستمائة، ودفن بفاس وليس هو دفين آسفي، فإن هذا قرشي مخزومي، وقيل: أموي صميم أو مولى، وقيل: دكالي ماجري. ترجمة حفيده صاحب المنهج الواضح في تحقيق كرامات أبي محمد صالح، فالأول من رجال
__________
1 أبو محمد صالح الهسكوري من أهل فاسي: أبو محمد، تنقيح المقال "5653"، جامع الرواة "1/ 404"، دائرة الأعلمي "20/ 155".(2/271)
العلم، والثاني من أهل التصوف والصلاح، فلا تغتر بما في "الديباج" توفي الثاني هذا سنة 631 إحدى وثلاثين وستمائة.
607- عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر المعري 1:
الأصل الشارمساحي المولد الإسكندري، ثم البغدادي بحر علم لا تدركه الدلاء، ولي تدريس المستنصرية ببغداد، وكان يحضره جميع المدرسين، وألقى بعض العلماء عليه مسألة من بيوع الآجال، فقال: أذكر فيهما ثمانين ألف وجه، فاستغرب ذلك فقهاء بغداد، فشرع يسرد عليهم إلى أن انتهى إلى مائتي وجه، فاستطالوها وأضربوا عنها، وأذعنوا لفضله وسعة علمه، له اختصار المدونة على وجه غريب سماه نظم الدرر طابق مسماه، وشرحه بشرحين، وكتاب الفوائد، وكتاب التعليق، وهذا في علم الخلاف، وشرح آداب النظر، وشرح الجلاب وغير ذلك. توفي سنة 669 تسع وستين وستمائة.
608- أبو محمد عبد العزيز بن إبراهيم التيمي القرشي 2:
الشهير بابن بزيزة التونسي الإمام المشهور في الفقه والحديث والتفسير وأحد رجال المذهب الذين اعتمد خليل ترجيحهم في توضيحه، له الإسعاد في شرح الإرشاد، وشرح الأحكام الصغرى لعبد الحق، وله تفسير جمع فيه بين الزمخشري وابن عطية، وشرح التلقين، ومنهاج العارف، بين فيه أكثر المشكلات، ومختصره إيضاح السبيل إلى مناهج التأويل، توفي سنة 673 ثلاث وسبعين وستمائة.
__________
1 عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر المعري: نيل الابتهاج "178".
2 أبو محمد عبد الغزيز بن إبراهيم التميمي القرشي "ابن بزيز التونسي": أبو فارس، التميمي، القرشي، الشهرة ابن بزيزة، ولد سنة 616، مات سنة 662:
تراجم المؤلفين التونسين "1/ 127".(2/272)
609- أبو الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي 1:
نسبة إلى بني وليد قبيلة قرب فاس الفاسي، إمام جليل فقها وعلما لم يكن في وقته أتبع للحق منه، لا تأخذه في الله لومة لائم، له كتاب الحلال والحرام، وطرر على المدونة، وله الفتاوى، أخذ عن أبي محمد صالح السابق وغيره، وأخذ عنه أبو الحسن الصغير وغيره.
ومن كلامه في كتاب الحلال والحرام مما سمعه من أبي محمد عبد الله بن موسى الفشتالي: لا يجوز اليوم اتخاذ شيوخ لسلوك طريق المتصوفة أصلا، فإنهم يخوضون في فروعها، ويتركون شرط صحتها وهو باب التوبة، ولو وجدت تواليف القشيري والغزالي لألقيتها في البحر، ولأتمنى على الله أن أكون معهما في المحشر، بل مع ابن أبي زيد، بل مع أبي محمد يسكر، وكان يقرئ بفاس، فإذا رجع إلى بني وليد يحرث بيده، فيضع ابن يونس على رأس المرجع واللخمي على الطريق الآخر، ويقرأ مسألة من كل واحد إذا وصل يتأملها وقت الحراثة. وانظر في المعيار كثيرا من فتاويه. توفي سنة 675 خمس وسبعين وستمائة.
610- أبو العباس أحمد بن إدريس شهاب الدين 2:
الصنهاجي الشهير بالقرافي أحد الأعلام المشهورين في المذهب المالكي وقد انتهت إليه الرياسة وقته فيه وفي العلوم وله التواليف المهمة كالذخيرة والفروق، وشرح التهذيب، وشرح الجلاب في الفقه، والتنقيح في الأصول، وشرح محصول الرازي، وغيرها من الكتب العجيبة الصنع العظيمة الوقع وذكر شمس الدين بن عدلان أنه حرر ثمانية علوم في أحد عشر شهرا أو أحد عشر عاما في ثمانية أشهر. توفي سنة 684 أربع وثمانين وستمائة.
__________
1 أبو الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي: نيل الابتهاج "117".
2 أبو العباس أحمد بن إدريس شهاب الدين الصنهاجي الشهير بالقرافي: الديباج المذهب "67"، والمنهل الصافي "1/ 215"، والوافي "5/ 119".(2/273)
611- أحمد بن محمد بن منصور ناصر الدين 1:
الشهير بابن المنير الجذامي الإسكندري إمام بارع في الفقه والأصلين والعربية وفنون شتى ذو الباع الطويل في المناظرة والبلاغة والإنشاء، متبحر في العلوم، موفق فيها خصوصا في التفسير والقراءات ولي الأحباس، وديوان النظر والقضاء والخطابة.
روى عن عز الدين قال: الديار المصرية تفتخر برجلين: ابن دقيق العيد، وابن المنير، له تفسير وحواشي الكشاف، ومختصر التهذيب وحاشية على البخاري، وديوان شعر وغير ذلك. توفي سنة 683 ثلاث وثمانين وستمائة. ومنير بضم الميم وفتح النون وكسر الياء المشددة مثناة تحت.
612- علي بن يحيى الصنهاجي الجزيري 2:
نزيل الجزيرة الخضراء، فنسب إليها، ودرس بها، وعقد الشروط، وولي قضاءها، له مختصر في الوثائق مفيد جدا سماه المقصد المحمود في تلخيص العقود. توفي سنة 685 خمس وثمانين وستمائة.
613- أبو محمد محمد بن أبي الدنيا 3:
حافظ الدنيا وراويتها الفقيه المالكي الشهير ولد بطرابلس الغرب، وبها نشأ، ورحل للمشرق واستقضي بتونس، وبها نشر علمه، وله تصانيف كحل الالتباس في البرد على نفاة القياس وغيره. توفي سنة 684 أربع وثمانين وستمائة.
__________
1 أحمد بن محمد بن منصور ناصر الدين: الشهير بابن المنير الجذامي الإسكندري:
فوات الوفيات "1/ 72"، وبغية الوعاة "168"، وشذرات الذهب "5/ 318"، والديباج المذهب "327".
2 علي بن يحيى الصنهاجي الجزيرة: نيل الابتهاج "200".
3 أبو محمد محمد بن أبي الدنيا: أعلام من طرابلس "65"، وإيضاح المكنون "1/ 416".(2/274)
614- أبو أحمد بن أبي بكر بن مسافر الشهير بابن زيتون 1:
ويكنى بأبي الفضل تونسي، ورحل للمشرق، فاستفاد علما عظيما، واستقضي بتونس، وقد ذكر في "المعيار" أنه أدرك رتبة الاجتهاد، وكان إليه المفزع في الفتيا. توفي سنة إحدى وتسعين وستمائة 691 رحمه الله وهو أول من أظهر كتب الفخر الرازي الأصولية بأفريقية.
615- أبو محمد عبد الله بن أبي جمرة 2:
الشهير بالعارف، له حواشي على صحيح البخاري مشهورة، وكان إمام سنة صلبا في دينه، بارعا في الفقه والحديث. توفي شهيدا بالأندلس بلده سنة 695 خمس وتسعين وستمائة.
616- أبو الحسن علي بن محمد بن منصور الشهير بابن المنير 3:
زين الدين الجذامي الإسكندري بحر علم تفيض أمواجه وغيث سماح لا تغيض لجاجه، ذو المآثر السنية والمفاخر، شرح البخاري شرحا لا نظريا له في تدقيقات مناسبات تراجيمه، وتحرير فقهه وغير ذلك من عجائبه، وهو من مفاخر الإسكندرية. توفي سنة 695 خمس وتسعين وستمائة، وشرحه هذا من أعظم المواد التي استمد منها الحافظ ابن حجر وغيرها، كما استمد من حاشية أخيه السابق.
__________
1 أبو أحمد بن أبي بكر بن مسافر: نيل الابتهاج "140".
2 أبو محمد عبد الله بن أبي جمرة "العارف": الرواة من الإخوة والأخوات "643".
ويوجد عبد الله بن حمزة آخر: الزبيدي، مدني، التحفة اللطيفة "2/ 314".
3 أبو الحسن علي بن محمد بن منصور الشهير بابن المنير زين الدين الجزامي الإسكندري: الإسكندراني، الكنى للقمي "1/ 429"، الوافي "12/ 190"، ونيل الابتهاج "203"، المشتبه "507".(2/275)
617- أبو محمد بن أبي عبد الله محمد بن عمران الشريف الكركي 1:
شيخ المالكية والشافعية بالديار المصرية والشامية في وقته قال القرافي: إنه تفرد بثلاثين فنا وحده، وشارك الناس في علومهم. مولده بفاس، وبها أخذ المذهب المالكي عن الشيخ أبي محمد صالح المتقدم، وقدم مصر محصلا للمذهب، فصحب عز الدين بن عبد السلام، وتفقه عليه في مذهب الشافعي، وعنه أخذ القرافي. توفي سنة 698 ثمان وتسعين وستمائة.
618- أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري المصري 2:
المشهور بتقي الدين بن دقيق العيد المالكي الشافعي، وصفه السبكي بأنه المجتهد المطلق قال: ولم يختلف الشيوخ أنه المبعوث على رأس السبعمائة تفرد بالمشاركة في العلوم والرسوخ في علم الحديث والأصول والعربية، رحل للحجاز والشام، وسمع من كثير، وألف تآليف مهمة كشرح العمدة، وكتاب الإلمام في أحاديث الأحكام، وشرحه شرحا عظيما لم يكمل، وشرح مختصر ابن الحاجب في الفقه لم يكمل، وهو أول من افتض بكارته وغيرها. وأبوه كان شيخ المالكية، وله مزية في إزالة النفرة بين المذاهب حيث كان يفتي على مذهب مالك والشافعي معا جزاه الله خيرا. توفي سنة 702 اثنتين وسبعمائة.
__________
1 أبو محمد بن أبي عبد الله بن محمد بن عمران الشريف الكركي: الديباج المذهب "332".
2 أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري المصري تقي الدين: أبو الفتح، القشيري، المنفلوطي القوصي، المصري، الشهرة: ابن دقيق المالكي الشافعي، ولد سنة 625، مات سنة 702:
الوافي بالوفيات "4/ 193"، الوفيات "328"، طبقات الحفاظ "513"، المعين "2325"، التاج المكلل ص"461"، الطالع السعيد "567"، معجم طبقات الحفاظ ص"164"، البدر الطالع "2/ 229"، الدرر الكامنة "4/ 210"، فوات الوفيات "2/ 484"، معجم المؤلفين "11/ 70".(2/276)
619- أبو القاسم القاسم بن أبي بكر اليمني التونسي 1:
عرف بابن زيتون مفتي أفريقية والمنظور إليه بها وقطب أصولها وفروعها المرجوع إليه في أحكامها غير مدافع ولا منازع، كلامه كلام ممارس للعلم غير هيوب ولا فرق، طلبه شرقا وغربا وخدمه من لدن شب إلى أن دب، غلبت عليه المسائل، فشغلته عن الرواية، أي الإكثار منها، وإلا فقد ذكر ابن مرزوق وغيره أنه ممن أدرك رتبة الاجتهاد. توفي سنة 703 ثلاث وسبعمائة.
620- أبو الربيع سليمان الونشريسي 2:
الفاسي الإمام المقرئ بجامع الأندلس منها كان يقرأ "التفريع" لابن الجلاب و"المدونة" يقوم عليهما أتم قيام، ومن جملة من يحضر مجالسه الإمام خلف الله المجاصي الذي كان يحفظ المقدمات والتحصيل والبيان لابن رشد، وفي بعض دروس الشيخ سليمان نسب مسألة من المسح على الخفين لابن رشد من التقييد والتقسيم، فقال خلف الله: والله ما قال هذا ابن رشد قط. ولحسن خلق الشيخ ما غضب ولا أحمر، بل نزل عن كرسيه وهو يقول: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحق القيوم، وترك القراءة يومين، وفي اليوم الثالث اجتمع عليه طلبته، وكانوا كل يوم يجتمعون، ويتركون الكلام في ذلك إعظاما له، فقال لخلف الله: يا أبا سعيد تكذبني في النقل نصحتك أعواما كثيرة فما جزائي إلا هذا، فقال: يا سيدي إن ابن رشد ما تكلم على الخفين في مقدماته، ولا ذكر ذلك في بيانه، فأخذ الشيخ الجزء الذي وسمه ابن رشد بالتقييد والتقسيم، ودفعه إليه حتى رأى فيه ما نقله عنه، فقبل حينئذ يده، واعتذر، فقبل عذره. فانظر كيف كان فقهاء المغرب وأخلاقهم توفي سنة 705 خمس وسبعمائة.
__________
1 أبو القاسم بن أبي بكر اليمني التونسي: عنوان الدراية "56".
2 أبو الربيع سليمان الونشريسي الفاسي: أبو الربيع، الجرح والتعديل "4/ 661/ 662"، التاريخ الكبير "9/ 38"، نيل الابتهاج "119".(2/277)
621- الحسين بن أبي القاسم المعروف بالنبلي 1:
عز الدين قاضي القضاة ببغداد الإمام الصدر في العلوم وخصوصا الفقه واللغة مدرس الطائفة المالكية بمستنصرية بغداد بعد سراج الدين الشارمساحي، وكان يدعى قاضي قضاة المماليك، صارما مهيبا شهما، له تآليف مفيدة كالهداية في الفقه واختصر كتاب ابن الجلاب، وله كتاب مسائل الخلاف، والإمهاد في أصول الفقه، وكتاب في الطب. توفي سنة 712 اثنتي عشر وسبعمائة، والنبلي بكسر النون نسبة إلى قرية بالعراق.
622- أبو الحسن علي بن عبد الحق الزرويلي 2:
الشهير بالصغير مصغرا ومكبرا، الشهير عند أهل إفريقيا بالمغربي، بيتهم مشهور بفاس انتهت إليه رياسة الفقه بها والأصول، أحد الأقطاب الذين دارت عليهم الفتيا، ولي القضاء بتازا، ثم بفاس، فأقام الحق على الكبير والصغير حتى أمراء بني مرين، ووجد الدين متضعضعا فأقامه، وشدد عليهم كثيرا، ومن تشديداته التي عيبت عليه وهو مذعور فيها أنه نصب من يثق به لاستنكاه وريح الخمر من أفواه من يتهم بشربها، فأقام العدل وقمح الفسق، له شرح على التهذيب للبراذعي قال ابن مرزوق: ونسخه مختلفة جدا، ويقال: إن الطلبة الذين كانوا يحضرون مجلسه هم الذين كانوا يقيدون عنه ما يقوله في كل مجلس، فكل له تقييد، وهذا سبب الاختلاف الموجود في نسخ التقييد والشيخ لم يكتب شيئا بيده وأكثر اعتماد أهل المغرب على تقييد الفقيه الصالح أبي محمد عبد العزيز القروي، فإنه من خيار طلبته علما ودينا. ا. هـ. من نوازل الصلاة "المعيار"، ينسب له شرح على الرسالة قيده عنه تلاميذه أيضا مطبوع.
وقال ابن مرزوق فيه: إنه شيخ الإسلام ما عاصره مثله ولا كان مثله فيما قارب عصره وبمقامه في الفقه يضرب المثل قد جمع بين العلم والعمل رحمه الله.
__________
1 الحسين بن أبي القاسم المعروف بالنبلي: الديباج المذهب "106".
2 أبو الحسين علي بن عبد الحق الزرويلي "الصغير": الديباج المذهب "212".(2/278)
وقال أيضا تواترت عدالته وأمانته وأنه بالمنزلة العليا من الثقة في مكانه وزمانه وإليه انتهت رياسة الفقه بالمغرب الأقصى في زمانه وهو حامل رايته. نقله في "المعيار" في نوازل الصلاة ولا غرابة إذ عد مبعوثا في رأس القرن السابع بقطره. توفي سنة 719 تسع عشرة وسبعمائة.
623- أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي 1:
عرف بابن البناء لحرفة أبيه، إمام فقيه مشارك متفنن في علوم نقلية وعقلية، مبرز في علم التعاليم من حساب وهيئة ونجوم وفلك، مرحولا إليه من شاسع الأقطار، بلغ في تلك العلوم غاية قصوى، ورتبة عليا، تواليفه سارت مسير الشمس في الآفاق، ذكر له في "نيل الابتهاج" عدة تواليف في الفقه وغيره من العلوم الشرعية والتعليم يطول سردها كحاشية الكشاف وتفسير الكوثر والعصر، وتفسير الباء من البسملة، وكتاب التقريب في أصول الدين، ومنتهى السول في علم الأصول، وشرح تنقيح القرافي، ورسالة في الرد على مسائل فقهية ونجومية، وكتاب عمل الفراض وشرح بعض مسائل الحوفي، والروض المربع في صناعة البديع، ومراسم الطريقة في علم الحقيقة، وشرحه، تأليفان لم يُسبق لمثلهما ومقالة في الإقار والإنكار وأخرى في المدبر، وكتاب في الفلاحة وآخر في المساحة ورسالة في المكاييل، وأخرى في الإسطرلاب وأخرى في الأنواء فيه صور الكواكب وقانون في معرفة الأوقات بالحساب، وكتب عديدة في النجوم والهيئة والحساب وغير ذلك من الفنون، فلا يكاد يكون علم مهم إلا ألف فيه. مولده بمراكش سنة 654 أربع وخمسين وستمائة، وتوفي سنة 721 إحدى وعشرين وسبعمائة.
624- وهناك أبو العباس بن البناء مراكشي آخر قاضي أعمات. توفي سنة 724 أربع وعشرين وسبعمائة أدون من هذا.
__________
1 أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي: الدرر الكامنة "1/ 287"، ونيل الابتهاج "65"، البدر الطالع "1/ 108".(2/279)
625- وثم أيضا ابن البناء أبو بكر محمد العبيدي: كاتب مشهور إشبيلي توفي بسبتة سنة 646 ست وأربعين وستمائة.
626- عبد الرحمن بن محمد بن عسكر شهاب الدين 1:
البغدادي مدرس المدرسة المستنصرية، مشهور بالفقه والزهد والعبادة، له التصانيف المفيدة، منها كتاب المعتمد في الفقه غزير العلم اقتصر فيه على المشهور من الأقوال غالبا، وكتاب العمدة، وكتاب الإرشاد، أبدع فيه كل الإبداع جعله مختصرا وحشاه بمسائل قل أن توجد في المطولات مع إيجاز بليغ وهو الذي شرحه أحمد زروق الفاسي، وله تواليف في الحديث وغيره. توفي سنة 732 اثنين وثلاثين وسبعمائة.
627- قاسم بن عبد الله بن محمد بن الشاط 2:
الأنصاري السبتي أبو القاسم والشاط اسم جده، كان طوالا نسيج وحده في أصالة الرأي ونفوذ الفكر، وجودة القريحة، وتسديد الفهم، وحسن الشمائل، مقدم موصوف بالإمامة في الفقه، حسن المشاركة في العربية، كاتب مرسل، ريان من الأدب، له نظر في العقليات، وفي الحلل السندسية قال الحافظ ابن راشد: ما رأيت عالما في المغرب إلا رجلين ابن البناء بمراكش، وابن الشاط بسبتة، وله تواليف منها أنوار البروق في تعقب الفروق، للقرافي مطبوع بتونس، ولي عليه تعقبات كتبتها عليه عند إقرائه. نسأل الله تمامها، وغنية الرائض وتحرير الجواب في توفير الثواب، وفهرسة حافلة توفي سنة 723 ثلاث وعشرين وسبعمائة عن ثمانين سنة.
__________
1 عبد الرحمن بن محمد بن عسكر شهاب الدين البغدادي: الديباج المذهب "151"، والدرر الكامنة "2/ 344".
2 قاسم بن عبد الله بن محمد بن الشاط الأنصاري السبتي أبو القاسم: الديباج المذهب "226"، وفهرس الفهارس "2/ 413".(2/280)
628- إبراهيم بن حسن عبد الرفيع الربعي 1:
التونسي قاضيها وفقيهها النظار من الأئمة الكبار نادرة زمانه، له تواليف كثيرة منها معين الحكام كتاب مشهور غزير العلم كأنه اختصر المتيطية، واختصار أجوبة ابن رشد، والرد على ابن حزم، توفي سنة 734 أربع وثلاثين وسبعمائة.
629- أبو عبد الله محمد بن محمد بن الحاج العبدري 2:
الفاسي الأصل، القاهري الدار، الإمام العلم الشهير بالزهد والوقوف مع السنة له طريق في التصوف شهيرة أخذها عن العارف أبي محمد بن أبي جمرة، وينكر على الطرق ما ابتدعوه من البدع التي لا تعلق لها بالسنة، إمام في الفقه، له كتاب المدخل وغيره. توفي سنة 737 سبع وثلاثين وسبعمائة.
630- علي بن محمد بن محمد بن محمد -ثلاثا- بن يخلف المنوفي 3:
المصري نور الدين صاحب التصانيف الكثيرة كعمدة السالك على مذهب مالك، ومختصرها، وتحفة المصلي وشرحها، وستة شروح على الرسالة، وشرح القرطبية، وشرح المختصر، لكن لم يكمل بل شرحان، وأربعون حديثا، وشرح البخاري، وشرح مسلم، وشرح ترغيب المنذري، وتواليف أخرى انظر أسماءها في نيل الابتهاج توفي سنة 739 تسع وثلاثين وسبعمائة.
__________
1 إبراهيم بن حسن بن عبد الرفيع الربعي التونسي: الوافي "5/ 26"، والديباج المذهب "89"، المنهل الصافي "1/ 45".
2 أبو عبد الله محمد بن محمد بن الحاج العبدري الفاسي: الدرر الكامنة "4/ 237"، والديباج المذهب "327".
3 علي بن محمد بن محمد بن محمد -ثلاثا- بن يخلف المنوفي المصري نور الدين: ولد سنة 857، مات سنة "939":
معجم المؤلفين "7/ 230" والحاشية.(2/281)
631- أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي 1:
الغرناطي وبيتهم بها، ثم بفاس مشهور بالعلم، كان حافظا قائما على التدريس، مشاركا في الفنون العربية والحديث والتفسير، جامعا للكتب، ملوكي الخزانة، جميل الأخلاق ألف كثيرا في فنون شتى كتهذيب صحيح مسلم، وكتاب القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية، والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية، وكتاب تقريب الوصول إلى علم الأصول، وله كتاب الأنواع السنية في الألفاظ السنية، جمع فيه جملة من الأحاديث الصحاح في الأحكام وغيرها في نحو أوراق 36 مخطوط عندي جعله على نسق القضاعي وغيرها. توفي سنة 741 إحدى وأربعين وسبعمائة.
632- أبو زيد بن عبد الرحمن بن عفان الجزولي 2:
الفاسي دارا وقرارا حافظ المذهب، وحجته شيخ الرسالة والمدونة المشهور بالعلم والصلاح معا، أعلم الناس بمذهب مالك وأورعهم وأصلحهم، يحضر مجلسه أكثر من ألف فقيه، معظم يستظهر المدونة، قيد الطلبة عنه ثلاثة تقاييد على الرسالة، أحدها المشهور بالمسبع في سبعة أسفار، والمثلث في ثلاثة، وصغير في سفرين، وكلها مفيدة انتفع الناس بها إلا أن أهل المذهب حذرا من النقل عنها، لعدم تحريره لها بيده، وقالوا: إنها تهدي ولا تعتمد، وقد عمر طويلا ولم يقطع التدريس. توفي سنة 741 إحدى وأربعين وسبعمائة ومن ترجمة الرجل تعلم ما كان عليه العلم بفاس في القرن الثامن فلو فرضنا أنه لم يكن بفاس إلا ألف فقيه وهم الذين يحضرون درسه لكان كافيا في الدلالة على تقدم الحالة الفكرية العلمية في ذلك العصر بالنسبة لعصرنا الذي لا يبلغ علماء
__________
1 أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي الغرناطي: الدرر الكامنة "30/ 365"، ونفح الطيب "3/ 270"، والديباج المذهب "295"، وفهرس الفهارس "1/ 244".
2 أبو زيد عبد الرحمن بن عفان الجزولي الفاسي: أبو زيد، الجزولي، مالكي، الفاسي، الوفيات "531"، نيل الابتهاج "165، 166".(2/282)
القرويين المائتين، ولا أظن أنه يوجد في المغرب كله ثلاثمائة فقيه الآن فسبحانك يا مقدم ويا مؤخر.
633- أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله عرف بابن الإمام التلمساني 1:
العلامة الجليل المجتهد الكبير، هو وأخوه أبو موسى عيسى مشهوران بالرسوخ في العلم والاجتهاد شرقا وغربا، حافظان جامعان رحلا على المشرق، ودخلا الشام، وناظرا ابن تيمية، وظهرا عليه على ما كان له من سعة العلم والظهور على كل من ناظره، وكانا يذهبان إلى الاجتهاد وترك التقليد، وأن يكون العالم مستقل الفكر لا يجرفه تيار التقليد إن كانت له مقدرة، وكانا على جانب من التقوى والاستقامة. ولما أراد أبو الحسن المريني أن يطلب معونة للجهاد، قال له أبو زيد: لا يصلح هذا حتى تكنس بيت المال وتصلي فيه كما فعل علي بن أبي طالب، ولأبي زيد شرح على فرعي ابن الحاجب. توفي سنة 743 ثلاثي وأربعين وسبعمائة. وتوفي أخوه أبو موسى سنة تسع وأربعين بعدها.
634- أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن يوسف 2:
الهواري قاضي الجماعة بتونس كان إماما حافظا متقنا للعلوم العربية، فصيح اللسان صحيح النظر، عالما بالحديث ممن أدرك رتبة مجتهد الفتوى، فكانت له قوة الترجيح من الأقوال. اعتمد ترجيحه خليل معاصره وغيره، ولا تأخذه في الحق لومة لائم، أخذ عنه ابن عرفة وأقرانه، توفي سنة 749 تسع وأربعين وسبعمائة.
__________
1 أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن الإمام التلمساني: تعريف الخلف "1/ 201".
2 أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن يوسف الهواري "قاضي الجماعة بتونس": أبو عبد الله، الهواري التونسي المنستيري، معجم المؤلفين "10/ 171 الحاشية".(2/283)
635- أبو عبد الله محمد بن علي الرصاع فقيه القيروان ومفتيها المتوفى في السنة المذكورة.
636- أبو فارس عبد العزيز بن محمد القروي 1:
الفاسي: الفقيه المدرس النفاع المفتي الصالح الأحوال، أكبر تلاميذ أبي الحسن الصغير، وهو الذي جمع تقييد شيخه المذكور على المدونة بخطه وحبسه بفاس، وهو أحسن تقاييد تلاميذه وأصحها، وقع النقل عنه في "المعيار" في غير ما موضع، وأما التقييد الكبير، فجمعه رجل من صدور الطلبة يقال له: اليحمدي، قال السلطان أبو الحسن المريني للمترجم: وليناك مع عامل الزكاة، فقال له: أما تستحيي من الله تأخذ لقبا من ألقاب الشريعة، وتضعه على مغرم من المغارم، فضربه السلطان بسكين مغمد كان يعتاد حمله بيده، ثم تحلل منه، فسامحه، توفي سنة 750 خمسين وسبعمائة.
637- محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الشهير بالأبلي 2:
نسبة إلى أبلة بالأندلس تلمساني الأصل، فاسي الدار، إمام علامة، مجمع على علمه وإمامته قال فيه المقري: هو عالم الدنيا، وأثنى عليه ابن خلدون كثيرا، وقال: قيل فيه: إنه أعلم العالم في عصره بفنون العلم رحل إلى الحرمين والشام والعراق، ولقي علماء جلة، وأخذ عنه أكابر علماء عصره، طلب للقضاء بتلمسان، ففر إلى فاس، واختفى، وبها قرأ علوم التعاليم، ثم ذهب إلى مراكش، فأخذ عن ابن البناء التعاليم أيضا والحكمة، ثم رجع لفاس، فعظم بها صيته، واجتباه أبو الحسن المريني بمجلسه الخاص، فكان رأسه وحضر معه وقعة طريف في الأندلس، ووقعة القيروان، وهناك أخذ عنه علماء أفريقية كابن
__________
1 أبو فارس عبد العزيز بن محمد القروي الفاسي الفقيه: نيل الابتهاج "179".
2 محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الشهير بالأبلي تلمساني الأصل فاسي الدار: نيل الابتهاج "245".(2/284)
عرفة، وابن خلدون، ولد سنة 681 إحدى وثمانين وستمائة، وتوفي بفاس سنة 757 سبع وخمسين وسبعمائة.
638- أبو الحجاج يوسف بن عمر الأنفاسي 1:
الفاسي عالمها ومفتيها وإمام القرويين وخطيبه، ذو ورع وزهد وتقشف ومراقبة، وكمال فضل، عظيم الصيت، شهير الذكر في الأقطار الأفريقية، نشر العلم، فانتفع به الخلق، له تقييد على الرسالة قيده عنه الطلبة من أحسن التقاييد وأنفعها، قال زروق: لا يعتمد ما كتبه على الرسالة؛ لأنه إنما هو تقييد قيده الطلبة زمن الإقراء وفي معناه ما قيد عن شيخه عبد الرحمن بن عفان الجزولي، فذلك يهدي ولا يعتمد، وقد سمعت أن بعض الشيوخ أفتى بأن من أفتى من التقاييد يؤدب، قال الخطاب: يريد إذا ذكروا نقلا يخالف نص المذهب وقواعده. نقله في "تكميل الديباج".
639- عبد الله الوانغيلي 2: الضرير مفتي فاس وعالمها، انفرد في وقته بفهم مختصري ابن الحاجب الفرعي والأصلي والمدونة، له في المعيار فتاوى كثيرة وأثني عليه فيه.
توفي سنة 779 تسع وسبعين وسبعمائة.
640- عبد الله بن محمد الأوربي 3: الفاسي الصدر العالم المفتي قاضيها، ماهر في العلوم الفقهية والتاريخية والأنساب، فتاويه في "المعيار" أيضا.
توفي سنة 782 اثنين وثمانين وسبعمائة.
__________
1 أبو الحجاج يوسف بن عمر الأنفاسي الفاسي: البستان "297، 299".
2 عبد الله بن الوانغيلي الضرير مفتي فاس: نيل الابتهاج "149".
3 عبد الله بن محمد بن الأوربي الفاسي الصدر: نيل الابتهاج "243".(2/285)
641- أبو الضياء خليل بن إسحاق الكردي المصري 1:
الشهير بالجندي وكان من جند الحلقة يلبس زيهم الثياب القصيرة متقشفا زاهدا عالما محيطا بالمذهب المالكي مشاركا، متفننا صدرا في علوم الشريعة واللسان شرح فرعي ابن الحاجب شرحا حافلا سماه التوضيح في ست مجلدات انتقاه من ابن عبد السلام عصريه، وزاد فيه عزو الأقوال، وقد اعتمد اختياراته وأنقاله لعلمه بفضله، وكثيرا ما يرد الفرع لأصله، ثم اختصر ابن الحاجب، وسلك فيه طريق الحاوي عند الشافعية، فجمع الفروع الكثيرة من كتب المذاهب حتى قالوا: إنه حوى مائة ألف مسألة منطوقا ومثلها مفهوما، وإنما ذلك تقريب وإلا ففيه أكثر من ذلك بكثير، بل قال الهلالي: فيه المسألة الواحدة التي تجمع ألف ألف مسألة مع أن مختصر ابن الحاجب قال ابن دقيق العيد: إنه جمع أربعين ألف مسألة.
وقال في "المنح البادية": إن ابن الحاجب جمع ستا وتسعين ألف مسألة، وإن تهذيب البراذعي ستة وثلاثون ألف مسألة، وإن في رسالة ابن أبي زيد أربعة آلاف مسألة هذا وقد اقتصر في مختصره على ما به الفتوى من الأقوال، وترك بقيتها، ولم يخرج من المسودة إلا ثلثه الأول إلى النكاح، والباقي أخرجه تلاميذه، ومع ذلك أقام في تأليفه خمسا وعشرين سنة مع أن البخاري أتم تحرير الجامع الصحيح في ست عشرة سنة فقط، والسبب هو أن خليلا بالغ في اختصاره حتى عد من الألغاز، وقد شرحه ربيبه وتلميذه بهرام، واستعان على شرحه بالتوضيح المذكور، وشرحه بثلاثة شروح، كما شرحه البساطي، والسنهوري، والتتائي، والحطاب، والشيخ علي الأجهوري، وتلاميذه الشيخ عبد الباقي الزرقاني، والسيد محمد الخرشي، وشرحه من أهل فاس ميارة وجسوس وابن غازي، وابن عاشر وابن رحال، وحشاه العارف الفاسي والجنان، ومن أهل تلمسان ابن مرزوق وغيرهم، واعتنى الناس مشارقة ومغاربه
__________
1 أبو الضياء خليل بن إسحاق الكردي المصري "الجندي": الدرر الكامنة "2/ 86"، وحسن المحاضرة "1/ 262"، والديباج المذهب "115"، ونيل الابتهاج "112".(2/286)
به اعتناء زائدا، وقصروا همتهم عليه لكثرة ما فيه من الفروع التي لا تكاد توجد في غيره، فكأنه قد استقصى الصور الخيالية، وهيهات أن تستقصى. ويوجد عليه من الشروح والحواشي ما يزيد على الستين كما قال ابن غازي، هذا في زمنه، فكيف بما زيد بعده. ثم إن الذي أدخل مختصر خليل المغرب هو محمد بن عمر بن الفتوح التلمساني المكناسي سنة 805 خمس وثمانمائة كما في "الروض الهتون" فبعد ذلك حصل إقبال المغاربة عليه، ثم على شرح الزرقاني لما فيه من زيادة فروع والاختصار في الشروح الذي هامت به عقول أهل القرون الوسطى من علماء الإسلام وشدة الاختصار موقعة في الخلل لا محالة، ومع ذلك فمختصر خليل أكثر المؤلفات الفقيهة صوابا رغما عن كون مؤلفه إنما خرجه إلى النكاح كما سبق، وقد وقع للزرقاني أغلاط في النقل وغيره، فاعتنى المغاربة، بتصحيحه، ووضعوا عليه حواشي مستمدة من حواشي الشيخ مصطفى الرمصاي على التتائي وغيرها، منهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسن بناني، وشيخ شيوخنا سيدي محمد بن المدني جنون اختصر حاشية الرهوني، والكل مطبوع وأكثر الشروح تحريرا شرح الشيخ أبي عبد الله الحطاب، وشرح أبي عبد الله محمد المواق، وقد طبعا بمصر سنة 1338. وحاصله أنه من زمن خليل إلى الآن زادت العقول فترة والهمم ركودا، وتخدرت الأفكار بشدة الاختصار والإكثار من الفروع التي لا يحاط بها والصورة النادرة، فاقتصروا على خليل وشروحه، حتى قال الناصر اللقاني: إنما نحن خليليون إن ضل ضللنا. قال أحمد السوداني: وذلك دليل دروس الفقه وذهابه، فقد صار الناس من مصر إلى المحيط الغربي خليليين لا مالكية إلى هنا انتهت الحالة.
ولو اقتصرنا على ترجمة خليل، ولم نزد أحدا بعده ما ظلمنا جل الباقي؛ لأن غالبهم تابعون له، فمن زمن خليل إلى الآن تطور الفقه إلى طور انحلال القوى، وشدة الضعف، والخرف الذي ما عده إلا العدم، وسيأتي في ترجمة القباب قول الشاطبي وابن خلدون أن ابن شاس، وابن بشير، وابن الحاجب أفسدوا الفقه فإذن خليل أجهز عليه، لكن في الحقيقة أن الذي أجهز عليه هم الذين جعلوه ديوان دراسة للمبتدئين والمتوسطين وهو لا يصلح إلا للمحصلين(2/287)
على صاحبه قال في أوله مبينا له به الفتوى، ولم يقل جعلته لتعليم المبتدئين، فلا لوم عليه. توفي الشيخ خليل سنة 776 ست وسبعين وسبعمائة وقيل: تسع وستين، وقيل: تسع وستين، وقيل: سبع وستين والأول صححه السوداني، وأما ما في "الديباج" من أنه توفي سنة 749 تسع وأربعين وسبعمائة، فإنما ذلك تاريخ وفاة شيخه المنوفي قاله الخطاب.
642- أبو عبد الله محمد بن هارون الكناني التونسي 1:
وصفه ابن عرفه تلميذه بأنه ممن أدرك الاجتهاد المذهبي له شرح على ابن الحاجب الفرعي والأصلي، واختصره المتيطية، وله المشاركة والنزاهة، توفي سنة 570 خمسين وسبعمائة، وفي "درة الحجال" سنة تسع وأربعين.
643- أبو عبد الله محمد بن سليمان السطي 2:
نسبة لقبيلة قرب فاس أحد أعلام فاس، بل أعلام أفريقيا كلها مشاركة وتفننا وإتقانا، وحفظا وضبطا، أثنى عليه ابن خلدون، له شرح على المدونة، وشرح على الحوفية وتعليق على جواهر ابن شاس فيما خالف فيه المذهب وغير ذلك. مات غريقا قرب بجاية لما ركب في أسطول أبي الحسن المريني وهو ممن أصيب المغرب بفقده في جملة الأعلام نخبة المغرب غرقوا، وضاعت معهم نفائس الكتب، ورزيء المغرب في أنفس أعلاقه، وأنفس أعلامه، وبموتهم ظهر نقصان بين، وفراغ شاسع في عمارة سوق العلم، وبه أصبحت دياره بلاقع، وأقفرت المدارس والجوامع، وذلك سنة 750 خمسين وسبعمائة أو تسع وأربعين على ما في "درة الحجال".
__________
1 أبو عبد الله محمد بن هارون الكناني التونسي: نيل الابتهاج "239"، والحلل السندسية في الأخبار التونسية "338"، وشجرة النور "311".
2 أبو عبد الله بن سليمان السطي: نيل الابتهاج "243".(2/288)
644- أبو عبد الله محمد بن الصباغ الخزرجي المكناسي 1:
من مكناسة الزيتون ذكره ابن خلدون من تلاميذه وابن غازي أيضا، كان حافظا متقنا لا سيما في علم الفقه، أملى على حديث "يا أبا عمير ما فعل النغير" أربعمائة فائدة في مجلس واحد، وهو الذي أورد على ابن عبد السلام أربعة عشر اعتراضا، فلم ينفصل عن واحد منها على جلالته وحفظه، رحمهم الله جميعا. توفي غريقا في السنة المذكورة.
645- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي العلواني 2:
الشريف التلمساني: إمام المغرب المتفنن الجامع الذي صرح عصريه ابن مرزوق الجد الخطيب ببلوغه درجة الاجتهاد، أقام بفاس مدة، وبها اشتهر علمه وفتاويه، أخذ عنه علماء أفريقية وأفاضلها، ألف كتاب المفتاح في أصول الفقه، وهو كتاب مختصر لطيف، وشرح جمل الخونجي، خصصت ترجمته بالتأليف توفي سنة 771 إحدى وسبعين وسبعمائة عن 61 سنة.
646- أبو عبد الله محمد بن عمر الشهير بابن رشيد مصغرا الفهري 3 السبتي: ثم الفاسي العلامة الحافظ عالم المغرب ومسنده صاحب الرحلة الواسعة، توفي في المحرم سنة 721 إحدى وعشرين وسبعمائة.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن الصباغ الخزرجي المكناسي: نيل الابتهاج "243".
2 أبو عبد الله بن محمد بن أحمد بن علي العلواني الشريف التلمساني إمام المغرب: أبو عبد الله، العلواني التلمساني، مات سنة "842":
تعريف الخلف "1/ 110"، نيل الابتهاج "255"، والبستان "164".
3 أبو عبد الله محمد بن عمر الشهير بابن رشيد الفهري السبتي ثم الفاسي: أبو عبد الله، الشهرة ابن رشيد الفهري السبتي ولد سنة "657"، مات سنة "721":
فهرس الفهارس "1/ 443"، شجرة النور الزكية "216"، الديباج المذهب "310".(2/289)
647- أبو عمر محمد بن عثمان الشهير بابن المرابط 1 الغرناطي، ثم الدمشقي: مات سنة 752 اثنتين وخمسين وسبعمائة.
648- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر مرزوق العجيسي 2:
التلمساني شمس الدين الملقب بالجد نادرة زمانه علما وعملا وحفظا وإتقانا ونبلا، رحل واستفاد، وبلغ من العلوم الإسلامية كل مراد، شرح البخاري، والشفا، وعمدة الأحكام، ترجمته عند الحافظ ابن حجر في "إنباء الغمر" وغيره واسعة، توفي سنة 781 إحدى وثمانين وسبعمائة على ما في "كفاية المحتاج".
649- أبو العباس أحمد بن قاسم القباب الفاسي 3:
إمام المغرب بل أفريقية في وقته، انتهت إليه رياسة الفتيا والتوثيق والمشاركة في الفنون مليء "المعيار" من فتاويه، وبها ابتدأ، وله تآليف في فنون كشرح قواعد عياض، وبيوع ابن جماعة، واختصار أحكام النظر، لابن القطان، وله مباحث مع أبي إسحاق الشاطبي شيخ الأندلس، ولما لقي ابن رفعة، وأطلعه
__________
1 أبو عمرو محمد بن عثمان الشهير بابن المرابط الغرناطي ثم الدمشقي: أبو عمرو، الغرناطي، ولد سنة 680"، مات سنة "752":
معجم طبقات الحفاظ "162"، طبقات الحفاظ "527"، الدرر الكامنة "3/ 163". الديباج المذهب "305". وشذرات الذهب "6/ 271".
2 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر مرزوق العجيسي التلمساني شمس الدين "الجد": أبو عبد الله العجيسي النحوي شمس الدين التلمساني، الشهرة الحفيد الخطيب ابن مرزوق، ولد سنة 766، ومات سنة 842 أو 781، وقيل: مات بعد 920:
فهرس الفهارس "1/ 523"، والحاشية، الإحاطة في أخبار غرناطة "3/ 103"، دائرة معارف الأعلمي "26/ 161"، أعلام الجزائر، "141، 145"، تعريف الخلف "1/ 141".
3 أبو العباس أحمد بن قاسم القباب الفاسي: الديباج "41"، ونيل الابتهاج "72، 73".(2/290)
على مختصره قال له: ما صنعت شيئا إذ لا يفهمه المبتدي، ولا يحتاج إليه المنتهي، وذلك ما حمله على بسط العبارة وتليين الاختصار في آخره، وهذا كما قال أبو إسحاق الشاطبي: إن ابن بشير وابن شاس وابن الحاجب أفسدوا الفقه، ونحوه لابن خلدون في المقدمة، وبالجملة كان القباب كما قال أحمد بابا من أكابر علماء المذهب حفظا وتحقيقا وتقدما وجلالة، وممن يتحرى أكل الحلال، استقصى أول أمره بجبل طارق، ثم أعفي، وأقبل على نفع العباد، ثم ألزم بقضاء فاس فاختفى إلى أن أعفي، ثم ظهر فأكب على نشر العلم. وله مناظرات مع إمام تلمسان العقباني ألفها العقباني، وسماها "لب اللباب في مناظرات القباب" نقلها الونشريسي في نوازله وغيرها. توفي سنة 779 تسع وسبعين وسبعمائة، وقيل: سنة سبع وتسعين.
650- أبو سعيد فرج بن قاسم بن لقب الثعالبي 1:
بالعين المهملة كما في "المنح البادية" شيخ شيوخ غرناطة، ومن انتهت إليه رياسة فتوى الأندلس في وقته، له تآليف مفيدة وفتاويه في المعيار وغيره ذات اعتبار، وكان بينه وبين عصريه ابن عرفة مراجعات فتاو وأحاكم بين غرناطة وتونس. وبالجملة فهو أحد أئمة الأندلس النظار. توفي سنة 783 ثلاث وثمانين وسبعمائة عن إحدى وثمانين سنة.
651- أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الدار الشهير بالشاطبي 2:
الإمام الحافظ الجليل المجتهد من أفراد المحققين الأثبات، وأكابر المتفننين فقها وأصولا وعربية وغيرها، له كتاب "الموافقات" في أصول الفقه طبع بتونس، وكتاب "الاعتصام" في إنكار البدع، يطبع في مصر، وشرح بيوع صحيح
__________
1 أبو سعيد فرج بن قاسم بن لب الثعلبي: شيخ شيوخ غرناطة: الديباج المذهب "220"، وشذرات الذهب "6/ 282"، وبغية الوعاة "372".
2 أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الدار الشهير بالشاطبي: نيل الابتهاج "46، 50"، وفهرس الفهارس "1/ 134".(2/291)
البخاري وغيره، وكان شديدا على أهل البدع وله فتاو مهمة مذكورة في "المعيار" وغيره. وكان يناظر ابن عرفة وابن لب، ويظهر عليهما في فتاويه. توفي سنة 790 تسعين وسبعمائة.
652- أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عباد النفزي 1:
المشهور بابن عباد الرندي الأصل، الفاسي الدار الفقيه، الصوفي الزاهد الخطيب المتفنن كان كما قال عصريه ابن الخطيب القسمطيني: على صفة البدلاء الصادقين النبلاء، ومثله يعظ الناس لاتعاظه في نفسه، له أجوبة في مسائل العلم نحو مجلدين، وله الرسائل الكبرى والصغرى، ونظم الحكم العطائية وشرحها، وتآليف في الحديث، وكان له باع في الفقه وغيره من العلوم يقوم على مختصر ابن الحاجب والرسالة وغيرهما. وأحواله أحوال الكمل الأول لم ير بعده مثله كان يخدم نفسه، ولم يملك خادما ولباسه في داره مرقعة يسترها إذا خرج بثوب آخر. توفي سنة 792 اثنتين وتسعين وسبعمائة عن ثلاث وخمسين سنة رحمه الله.
653- عبد الله بن محمد بن أحمد الشريف التلمساني 2:
الإمام ابن الإمام الحجة النظار الأعلم من أكابر علماء وقته صاحب الصيت الكبير، نشر العلم ببلده وبالأندلس فقها وحديثا وتفسيرا، وبيتهم بين علم خصت تراجمهم بالتآليف. له فتاو في "المعيار" معروفة. توفي غريقا منصرفه من غرناطة لبلده عام 792 اثنتين وتسعين وسبعمائة.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عباد النفزي: نيل الابتهاج "279، 281"، ونفح الطيب "5/ 341، 350".
2 عبد الله بن محمد بن أحمد الشريف التلمساني: نيل الابتهاج "150".(2/292)
654- أحمد بن عمر بن علي بن هلال الربيعي 1:
الإسكندري ثم الدمشقي إمام متفنن في علوم كالفقه والعربية والأصول والحديث. وله رواية واسعة، وتواليف عديدة، منها شرح ابن الحاجب الفقهي في ثمانية أسفار كبار، وكان شرحه شرحا مطولا، ثم تركه وله على مختصره الأصلي شرحان وغيرها. توفي سنة 795 خمس وتسعين وسبعمائة.
655- أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عسكر البغدادي 2:
الإمام حامل لواء المالكية ببغداد، كان متفننا في المعقول والمنقول، ولي قضاء بغداد وحسبتها، له الهيبة العظيمة والأخلاق العالية، والهمة السرية مدرس مدرسة المستنصرية، له تآليف كشرح الإرشاد من تآليف والده في مذهب مالك، وشرح مختصر ابن الحاجب الفرعي والأصلي، وله تفسير كبير، وله تعليقه في علم الخلاف، لم يذكر ابن فرحون وفاته، وذكر وفاته أخيه قاضي قضاة المالكية بالشام المصري سنة 796 ست وتسعين وسبعمائة.
656- أبو عبد الله محمد بن محمد بن عرفة 3:
الورغمي التونسي: خطيبها ومفتيها المحقق المتفنن النظار، انتهت إليه رياسة المذهب المالكي بالديار الأفريقية آخر عمره، تواليفه سارت مسير الأمثال كمختصره في الفقه محرر الأنقال، شغل دورا مهما بعد ظهوره درسه بنفسه في بلده، وفي المشرق لما حج، وطريقته فيه معروفة وهو في سبعة أسفار، إلا أنه اختصره كثيرا وسلك فيه اصطلاحا خاصا به لا سيما في نصفه الأول صعب على الناس فهمه حتى إنه في آخر عمره صار يصعب عليه هو نفسه بعض المواضع منه
__________
1 أحمد بن عمر بن علي بن هلال الربيعي الإسكندري: الديباج المذهب "82، 83".
2 أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عسكر البغدادي: الديباج المذهب "333".
3 أبو عبد الله محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي: الضوء اللامع "9/ 240"، وشذرات الذهب "7/ 38"، وبغية الوعاة "98"، والبدر الطالع "2/ 255".(2/293)
كما وقع له في تعريف الإجارة، ولذلك بسط عبارته في نصفه الأخير نوعا ما، وكان استغلال عبارته مع كثرة الأقوال المذهبية، داعيا لتركه، وإقبال الناس على مختصر خليل من بعده، وله غيره في المنق والأصول والقراءات وغيرها كثير العبادة والذكر شاغلا لوقته بما يعينه توفي سنة 803 ثلاث وثمانمائة.
657- أبو زكرياء يحيى بن أحمد بن محمد بن حسن المعروف بالسراج 1:
النفزي الحميري الرندي الأصل، الفاسي الدار والمولد: الفقيه الرحالة الراوية انتهت إليه رياسة الرواية والحديث بالمغرب قلما تجد كتابا يشار إليه في المغرب ليس عليه خطه وله فهرسة وسماع عظيم، ومع ذلك فهو فقيه صوفي له مع ابن عباد مراسلات، وإليه كان يكتب رسائله المشهورة من سلا، وبيتهم بيت علم ورياسة ونبل في الأندلس شهير مدة طويلة بفاس، ولا زال نسلهم موجودا إلى وقتنا هذا، ولهم نباهة واعتبار توفي سنة 805 خمس وثمانمائة ودفن مع ابن عباد بالباب الحمراء من فاس.
658- أبو البقاء بهرام بن عبد الله الدميري 2:
تاج الدين قاضي القضاة بمصر برع في المذهب، وألف "الشامل" في الفقه، وشرح المختصر الخليلي ثلاثة شروح، ومختصر ابن الحاجب الأصلي، وشرح الإرشاد وهو أجل من تكلم على مختصر خليل علما ودينا وتأدبا وتفننا، بل الذي افتض بكارته هو والأقفهسي، وله غير ذلك توفي سنة 805 خمس وثمانمائة.
__________
1 يحيى بن أبي بن حسن "السراج" النفري الحميري: أبو زكريا النفري الحميري الأندلس الفاسي، توفي سنة "805":
فهرس الفهارس "2/ 993"، الحاشية، معجم المؤلفين "1/ 184، 185"، دائرة معارف الأعلام "3/ 85".
2 أبو البقاء بهرام بن عبد الله الدميري "تاج الدين": الضوء اللامع "3/ 19"، وحسن المحاضرة "1/ 263"، ونيل الابتهاج "101".(2/294)
659- محمد بن علي بن علاق 1:
وبه يعرف الغرناطي حافظها ومفتيها وقاضيها سبط الإمام ابن جزي، له شرح على مختصر ابن الحاجب الفرعي في عدة أسفار، وشرح فرائض ابن الشاط، وله فتاو في "المعيار" مذكورة. توفي سنة 806 ست وثمانمائة.
660- أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون 2:
الحضرمي الإشبيلي الأصل التونسي المولد إمام المؤرخين وسيد الأخباريين وصدر الفقهاء والكتاب والشعراء والمتفننين الحافظ الثقة الحجة المحدث الفيلسوف مخترع الفلسفة التاريخية وقدوتها، مؤلف التاريخ الكبير والمقدمة التي سارت مثلا في الآخرين، ترجمت إلى سائر اللغات، وأجمعت على استحسانها سائر الأمم، ولخص كثيرا من كتب ابن رشد، وشرح البردة للإمام البوصيري شرحا دل على مقدرته في الأدب والعلوم العربية، وألف في المنطق تأليفا دل على كرامة تصوره ودقة أفكاره، ولخص محصول الفخر الرازي في أصول الفقه، وألف في الحساب وغيره، وله الشعر الرائق والنثر البديع الفائق ذو أسلوب في الإنشاء مطبوع عليه، وكل تاريخه بل تواليفه إنشاء بديع عربي خالص، وكفى بتاريخه آية على فضله، وإحاطة إدراكه بالتواريخ الإسلامية وغيرها، والأنساب العامة والخاصة. هذا مع تقلبه في وظائف مهمة بتونس وفاس والأندلس. حسده عليها معاصروه بما أدى به للجلاء إلى مصر فولى بها قاضي القضاة، ومات بها فجأة سنة 808 ثمان وثمانمائة عن ست وسبعين سنة.
__________
1 محمد بن علي بن علاق "له شرح فرائض ابن الشاط": نيل الابتهاج "281، 282".
2 أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي الإشبيلي الأصل: أبو زيد، الحضرمي، الإشبيلي، التونسي، ولد سنة "732"، توفي سنة "807":
شجرة النور الزكية "227"، الضوء اللامع "4/ 145"، شذرات الذهب "7/ 76"، ونفح الطيب "6/ 171"، ونيل الابتهاج "169"، والبدر الطالع "337".(2/295)
661- محمد بن علي بن محمد الأنصاري الشهير بالحفار 1: الغرناطي، إمامها ومحدثها ومفتيها الشيخ المعمر ملحق الأحفاظ بالأجداد، له فتاوٍ في "المعيار" مشهورة. توفي سنة 810 عشر وثمانمائة.
662- سعيد بن محمد العقباني 2 التلمساني: إمامها وعلامتها وقاضيها وقاضي بجاية وسلا ومراكش، فقيه متفنن صدر مشهور له شرح على الحوفية لا نظير له، وشرح ابن الحاجب والخونجي وبعض سور من القرآن، وأخذ عنه أئمة كبار. توفي سنة 811 إحدى عشرة وثمانمائة.
663- أبو مهدي عيسى بن أحمد الغبريني 3:
التونسي قاضي تونس وفقيهها، وحافظ المذهب بها، انتهت إليه رياستها بعد ابن عبد السلام وابن عرفة، قال ابن ناجي: إنه ممن يظن به حفظ المذهب بلا مطالعة وبالغ في الثناء عليه في غير موضع، وقال تلميذه الأمير أبو عبد الله المدعو الحسن شيخنا ابن عرفة وشيخنا الغبريني ممن يجتهد في المذهب، ولا يحتاج للدليل على ذلك؛ إذ العيان شاهد بذلك. توفي سنة 815 خمس عشرة وثمانمائة.
644- محمد بن خلفة الوشناني 4:
التونسي الشهير بالأبي بضم الهمزة وكسر الموحدة مشددة، إمام مدقق بارع رحالة حافظ من أعيان أصحاب ابن عرفة، له إكمال الإكمال شرح مسلم وهو فقهي فروعي، وشرح المدونة، توفي سنة 828 ثمان وعشرين وثمانمائة
__________
1 محمد بن علي بن محمد الأنصاري الشهير بالحفار الغرناطي: نيل الابتهاج "282".
2 سعيد بن محمد العقباني التلمساني: توفي سنة 811:
الديباج المذهب "124، 125"، ونيل الابتهاج "125، 126".
3 أبو مهدي عيسى بن أحمد الغبريني التونسي قاضي تونس: نيل الابتهاج "193".
4 محمد بن خليفة الوشتاني التونسي: أبو عبد الله، التونسي، الوشتاني، مات سنة 828:
معجم المؤلفين "9/ 287"، والحاشية، البدر الطالع "2/ 169"، ونيل الابتهاج "287".(2/296)
وخلفة بوزن نعمة وقبضة.
665- عبد الله بن مقداد الأقفهسي 1: القاضي جمال الدين من تلاميذ خليل انتهت إليه رياسة المذهب بمصر، شرح المختصر بشرح كشرح بهرام في ثلاثة مجلدات ضخام، توفي سنة 823 ثلاث وعشرين وثمانمائة.
666- أبو مهدي عيسى بن علال المصمودي 2:
مصمودة الهبط، ويقال: الكتامي الفاسي شيخ الجماعة بها وفقيهها وقاضيها، له تعليق على مختصر ابن عرفة الفقهي، ويقال: له استدراكات عليه. وله رحلة وسماع وزهد وورع إمام القرويين وخطيبها، توفي 823 ثلاث وعشرين وثمانمائة.
667- أبو القاسم محمد بن عبد العزيز التازغدري 3:
مفتي فاس وخطيبها الإمام الفقيه النظار أكثر ابن غازي من النقل عنه في كتبه، وله تعليق على تقييد أبي الحسن الصغير على المدونة وفتاو كثيرة، ذكر في "المعيار" بعضها، قتل غدرا سنة 832 اثنتين وثلاثين وثمانمائة.
668- أبو بكر محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عاصم الغرناطي: قاضيها، له مشاركة في الفنون، وكتب مفيدة، منها رجزه في الفقه المسمى "تحفة الحكام في الأحكام" مشهور متداول شرحه المشارقة
__________
1 عبد الله بن مقداد الأقفهسي القاضي جمال الدين: الضوء اللامع "5/ 17"، شذرات الذهب "7/ 160"، ونيل الابتهاج "155".
2 أبو مهدي عيسى بن علال المصمودي ويقال: الكتامي الفاسي: الضوء اللامع "6/ 155"، ونيل الابتهاج "193".
3 أبو القاسم محمد بن عبد العزيز التازغدري: الضوء اللامع "1/ 140".(2/297)
والمغاربة، وأقبلوا عليه لسهولة لفظه ورقة أسلوبه، وله غيره من التآليف، توفي سنة 829 تسع وعشرين وثمانمائة.
669- عبد العزيز بن موسى بن معطي العبدوسي 1:
الفاسي: ثم التونسي الإمام الحافظ المتقن الجامع المتفنن الذي اعترف حفاظ وقته بأنه أحفظ أهل الأرض، وأوسع العلماء علما في الطول والعرض، حامل لواء المذهب في وقته شيخ الإسلام، وابن شيوخ الإسلام بيت اشتهر بفاس فضله، وسلم له الأئمة الأعلام، قد أعجب به علماء تونس وأمراؤها لما ورد عليهم، وعطلت دروس جامع القصر وقت تدريسه، وصار جميع العلماء يحضرون إلقاءه، ويستفيدون منه مدة نحو عشرين سنة. وكان كتب لهم ابن مرزوق الحافظ يقول لهم: يرد عليكم حافظ المغرب، فكان كما قال، بل عجبوا منه، ولا سمعوا بمثله لا في تونس، ولا في بجاية ولا غيرهما، فكان البرزلي مبرزا على أقرانه في حفظ الفقه بتونس، وكان المشذالي في بجاية، وما كان أحد منهما يشبهه فضلا عن أن يدانيه، قال أبو عبد الله الزلديوي المفتي بتونس: تركت درسي، وحضرت درسه، فرأيت شيئا لا يدرك إلا بعناية ربانية، موقوف على من رزقه الله الحفظ، ينفق منه كيف يشاء، قال: لازمناه حضرا وسفرا، وعلمنا طريقه تفكرا ونظرا، فلا يقدر على طريقه إلا من حاز فطنة كاملة الاستواء ممدة من جميع القوى، فمن طريقه إذا قرأ المدونة فاستمع لما يوحى: يبتدئ على المسألة من كبار أصحاب مالك، ثم ينزل طبقة حتى يصل إلى علماء الأقطار من المصريين والأفريقيين والمغاربة والأندلسيين وأئمة الإسلام وأهل الوثائق والأحكام حتى يمل السامع، وينقطع عن تحصيله المطالع، وكذا انتقل إلى الثانية وما بعدها، هذا بعض طريقه في المدونة، وأما إذا ارتقى إلى كرسيه في التفسير، فترى أمرا معجزا ينتفع به من قدر له النفع من الخاصة والعامة يبتدئ بأذكار وأدعية مرتبة لذلك يكررها كل صباح يحفظها الناس، ويأتونها من كل فج عميق
__________
1 عبد العزيز بن موسى بن معطي العبدوسي الفاسي التونسي: نيل الابتهاج "179".(2/298)
يتسابقون في حفظها وبعد ذلك يقرأ القارئ آية، فلا يتكلم بشيء منها إلا قليلا، ثم يفتتح فيما يناسبها من الأحاديث النبوية وأخبار السلف، وحكايات صوفية، وسير شريفة نبوية وصحابية وأخبار التابعين وتابعيهم، ثم بعدها يرجع للآية، وربما أخذ في نقل الأحاديث فيقول: الحديث الأول كذا، والثاني كذا، والثالث كذا، إلى المائة فأزيد حتى يختمها، ثم كذلك في المائة الثانية، ونشك في المائة الثالثة، ويأتي في نظر ذلك ونقلها بأمر خارق للعادة هكذا فعل في مسجد القصر وغيره، وكان الناس يتسابقون إلى المواضع قبل الصبح رجالا ونساء يتزاحمون عليها، وفي خارج المسجد أكثر مما في داخله وصوته جهير يسمع الكل، ومنع السلطان من يخلط عليه ويحيره من الطلبة.
وإلا فطلبة تونس لا يردهم ذلك عمن لا يشاركهم في علومهم يأتونه من قبلها، وما تصدى لمعارضته إلا شيخنا أبو العباس المعقلي حرض الطلبة تحريضا عاما، ويقول: إنا لله خلت تونس حتى صار هذا يتكلم فيها بما يشتهي، ولكن خافوا من السلطان رحمه الله، وهذه الطريق قالوا إن ابن أخيه عبد الله يفعلها بفاس بالقرويين وعملها بمصر، فتعجبوا من حفظه ونقله المتين من الأحاديث وثباته عليها وترتيبه، وتكلموا فيه في العربية، فقرأ لهم ألفية ابن مالك، فسلك مسلكه في المدونة بدأ بالنقل عن أصحاب سيبويه، ثم نزل إلى السيرافي وشراح الكتاب، وطبقات النحويين حتى مل الحاضرون وأذعنوا.
ويقال: إنه دخل يوما على البرزلي وكان أعمى، فلما تكلم العبدوسي قال له البرزلي: أهلا بواعظ بلدنا، فقال له العبدوسي: قل وفقيهها، فسكت البرزلي، فعد ذلك من إقدام العبدوسي وسرعة جوابه رحمهم الله نقل هذا في "نيل الابتهاج" باختصار قال: ونقل عنه الإمام أبو زيد الثعالبي في شراح ابن الحاجب وابن ناجي في حواشي المدونة.
ومن لطائفه سئل يوما عن الشافعي ومالك فقال: أين قبر مالك، فقالوا: في المدينة، وأين قبر الشافعي، فقالوا: بمصر، فقال: بينهما ما بين قبريهما توفي سنة 837 سبع وثلاثين وثمانمائة.(2/299)
قلت: قد ذكرتني ترجمة هذا الحافظ الكبير ترجمة الإمام أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي البغدادي التي بسطها عن عيان الرحالة ابن جبير الأندلسي في رحلته فلتنظر ولا بد.
هذا وما وقع للعبدوسي بتونس لا يستغرب لأن أهل القطر التونسي موصوفون بالإنصاف، ولين العريكة، ومحبة علماء المغرب وتعظيمهم وإكرامهم، وكم من عالم من المغرب ذهب إليهم، فأحسنوا القرى، وأخذوا عنه، وأعظموا جانبه، وقد قدمت لتونس سنة 1336، فاجتمع جماعة من سادتهم، وطلبوا مني إملاء درس تفسيري على نسق دروسي بفاس حيث كان بعضهم حضر دروسي التفسيرية وأعجب بها، ولولا الأدب معهم، لقلت: الحق أنهم قد استسمنوا ذا ورم، وتعينت إجابتهم لما أعلم من حسن قصدهم على ما في الباع من القصر، ولقد أهديت التمر لهجر، فوافق أنني كنت وصلت في التفسير إلى أول سورة قد أفلح المؤمنون، فأمليت بجامع الزيتونة عند باب الشفا درسا في العشر الآي الأول من السورة المذكورة فسرتها من حيث ثمانية عشر علما، وقد حضر أعلامهم الشيوخ العظام مثل رئيس أهل الشورى بالمجلس الشرعي السيد/ أحمد الشريف، والقاضيين المالكي والحنفي، وأهل الإفتاء على كبر سنهم وصغر سني وقلة بضاعتي، وأظهروا من الإجلال للعلم وأهله ما هم أهل له، ثم طلبوا مني أن أكتب لهم الدرس المذكور، فكتبت ما علق بفكري منه، وطبعوه ووزعوه تمتينا للروابط العلمية بين القطرين على علماء تونس والمغرب، وقرظوه ومدحه الأديب الأريب الفاضل العلامة المتفنن سيدي محمد الناصر الصدام بقصيدة ارتجالية هناك، وحين أكملت الدرس استأذنني في إملائها، فقلت له: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن لحسان أن ينشد شعره في المسجد النبوي، فأنشدها وأظهر كل من حضر ما هم له أهل من كمال التجلة والإعظام والإعجاب مما أعلم أني دونه بمراحل. جزاهم الله خيرا آمين والقوم ذوو أخلاق شريفة عالية ونهضة علمية عربية وآداب سامية أنجح الله نهضتهم، وحقق آمالهم.(2/300)
670- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي الحسني الفاسي 1:
أصلا المكي الحافظ سبط قاضي القاضي كمال الدين النويري قاضي المالكية بمكة المشرفة ومؤرخها تقي الدين. له ترجمة واسعة في "ذيل طبقات الحفاظ" لابن فهد، وله مصنفات في التاريخ والفقه وغيرهما. توفي سنة 832 اثنين وثلاثين وثمانمائة.
671- أبو الفاضل قاسم بن عيسى بن ناجي 2:
الفقيه الحافظ الزاهد الورع، له تفقه عظيم، وقيام على المدونة والرسالة واستحضار للفروع ولي قضاء باجة وجربة وقيروان، وله شرح على الرسالة مطبوع، وشرح على المدونة شتوي في أربعة أسفار وصيفي في سفرين. توفي سنة 837 سبعة وثلاثين وثمانمائة. وله الزيادات على معالم الإيمان في رجال القيروان مطبوع أيضا.
672- أبو الفضل محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي 3:
التلمساني الشهير بالحفيد الحجة الحافظ المتفنن ذو التآليف والفتاوى السائرة
__________
1 أبو عبد الله محمد بن أحمد علي الحسني الفاسي: ذيل طبقات الحفاظ لابن فهد ص"291، 297".
2 أبو قاسم بن عيسى بن ناجي: نيل الابتهاج "223".
3 أبو الفضل محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر مرزوق العجيسي التلمساني: أبو عبد الله، العجيسي، المالكي، التلمساني، ولد سنة 766، مات سنة 842:
معجم المؤلفين "8/ 317، 318 الحاشية" دائرة معارف الأعلمي "26/ 157"، الضوء اللامع "7/ 50".(2/301)
المذكورة في "المعيار" وغيره، وله شرح على "التهذيب"، وشرح على مختصر خليل لم يكملا، وله أراجيز في علم النحو والحديث والقراءات والميقات وغيرها، وشرح على بردة البوصيري، وشرح على صحيح البخاري، وغيره وبيتهم شهير بالعلم في تلمسان وترجمته خصت بالتآليف.
توفي سنة 842 اثنتين وأربعين وثمانمائة ووهم في "كشف الظنون" فقال: سنة 781 وهي سنة وفاة جده وقد تقدم.
673- أبو القاسم بن أحمد بن محمد المعتل 1:
البلوي القيرواني ثم التونسي الشهير بالبرزلي فقيهها ومفتيها وحافظها صاحب النوازل التي هي من كتب المذهب الأجلة، أجاد فيها ما شاء الله، كان إماما نظارا بحاثا مستحضرا للفقه عارفا بصنعة الفتوى انتهت إليه رياستها في وقته بعد الغبريني وابن عرفه الذي كان ملازما له نحو أربعين سنة، وأخذ عن غيره من شيوخ أفريقية ومصر، فكان شيخ الإسلام في وقته علما وإتقانا.
توفي سنة 844 أربع وأربعين وثمانمائة.
674- أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الشهير بابن 2 زاغو المغراوي:
التلمساني، الإمام المحقق المتفنن العابد، له شرح على التلمسانية في الفرائض، وتفسير على الفاتحة، كثير الفوائد وفتاو في أنواع العلوم، نقل في "المعيار" و"المازونية" جملة منها. توفي سنة 845 خمس وأربعين وثمانمائة.
__________
1 أبو القاسم بن أحمد بن محمد المعتل البلوي القيرواني التونسي "البرزلي": نيل الابتهاج "226"، والبستان "150، 152".
2 أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الشهير بابن زاغو المغراوي التلمساني: نيل الابتهاج "78".(2/302)
675- أبو القاسم محمد بن محمد بن سراج الغرناطي 1:
مفتيها وقاضيها حافظ المذهب، وحامل رايته البارع في الفتوى له شرح على مختصر خليل، وأكثر المواق من النقل عنه، وله فتاوٍ كثيرة في "المعيار" توفي سنة 848 ثمان وأربعين وثمانمائة.
676- عمر بن محمد بن عبد الله الباجي 2:
باجة تونس، ثم التونسي عرف بالقلشاني قاضي الجامعة بتونس العلامة المحقق النظار الحافظ الإمام المطلع الجليل ممن قل سماح الزمان بمثله علما وجلالة، ومع تبحره في الفقه كان طبيبا أخذه عن الشريف الصقلي وهو صنو أبي العباس القلشاني شارح الرسالة، شرح الطوالع شرحا حسنا وصل فيه إلى الإلهيات، وله شرح عظيم على فرعي ابن الحاجب في غاية الحسن والاستيفاء والجمع مع تحقيق بالغ ينقل كلام ابن عبد السلام ويذيله بكلام غيره كابن راشد وابن هارون والمشذالي وخليل وابن عرفة، وابن فرحون وغيرهم مع البحث معهم.
ويطرزها بنقل فحول أهل المذهب كالنوادر، وابن يونس، والباجي، واللخمي، وابن رشد، والمازوني، وابن بشير، وسند، وابن العربي وغيرهم، مع البحث في ألفاظ المتن إفرادا وتركيبا مما يدل على سعة علمه وقوة إدراكه وجودة نظره وإمامته في العلوم، نقل المازوني والمعيار جملة من فتاويه.
توفي سنة 848 ثمان وأربعين وثمانمائة.
__________
1 أبو القاسم محمد بن محمد بن سراج الغرناطي: نيل الابتهاج "308".
2 عمر بن محمد بن عبد الله الباجي "القاشاني" بن "باجة": الضوء اللامع "6/ 137"، ونيل الابتهاج "196، 197".(2/303)
677- عبد الله بن محمد بن موسى بن معطي العيدروسي 1:
الفاسي الإمام الحافظ مفتي فاس وخطيبها وعالم الديار المغربية، ومحدثها وصالحها، ولي فتوى فاس والمغرب، وخطابة القرويين، كان رساخ الباع في الحفظ والإتقان، عريق المجد والسخاء، إماما في نصح الأمة، أزال كثيرا من البدع، وأصلح أحوال أهل وقته، أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأقام الحدود والحقوق، وكان أكثر علمه فقه الحديث، واسع الأخلاق، وكان أقوى من جده في العمل، وجده أقوى من في العلم، كان يعمل الخوض خفية، ويعطيه لمن لا يعرف أنه له يبيعه، فيتقوت منه في رمضان، ولم يخلف يوم مات إلا ستة أثواب أو ثلاثة لضروري ملبوسه، وكان يشترط في نكاحه العزل فرارا من الولد لفساد الزمان، ولا تفارق كمه الشمائل، وله نظم حسن في شهادة السماع وفتاو كثيرة في "المعيار" وغيره.
ومناقبه خصت بالتأليف، وهو من العبادسة بني معطي أعقاب أبي عمران موسى العبدوسي، منهم ولده المحدث الحافظ أبو القاسم الفقيه، وولده الفقيه أبو عبد الله والد صاحب الترجمة، وهم بيت كبير من بيوت العلم أقام العلم ورياسته فيهم زمنا طويلا حتى في نسائهم، وآخرهم أم هانئ العبدوسية وأختها أختا صاحب الترجمة. توفي سنة 849 تسع أو ثمان وأربعين وثمانمائة.
687- محمد بن عمر أقيت المسوفي الصنهاجي 2:
قاضي تنبكت أبو الثناء عالم التكرور وصالحها، ومدرسها وفقيهها، وإمامها بلا مدافع، ولي القضاء، فأظهر العدل، وأنصف الرعية من أولي الأمر، وكان السلاطين يزورونه، فلا يقوم إليهم ولا يلتفت إليهم أحيا العلم بتلك
__________
1 عبد الله بن محمد بن موسى بن معطي العيدروسي الفاسي: أخبار مكناس "4/ 502، 503".
2 محمود بن عمر أقيت المسوفي الصنهاجي قاضي تنبكت أبو الثناء: شجرة النور "278".(2/304)
الأصقاع، وكان أكثر ما يقرئ المدونة والرسالة، وهو أول من أظهر خليلا بتلك النواحي، وقيد عنه تقاييد أخرجوها شرحا في سفرين. توفي سنة 855 خمس وثمانمائة عن سبع وثمانين سنة.
679- أبو القاسم وأبو الفضل قاسم بن سعيد بن محمد العقباني 1:
التلمساني الإمام شيخ الإسلام، ومفتي الأنام الفرد العلامة الحافظ القدوة العارف المجتهد المعمر ملحق الأحفاد بالأجداد الرحال، له اختيارات خارجة عن المذهب نازعه عصريه ابن مرزوق الحفيد في كثير منها، وقال فيه القلصادي في فهرسته: مرتقي درجة الاجتهاد بالدليل والبرهان، ولي قضاء تلمسان في صغره، ورأى أمله من ذريته في كبره، ودرس وأفاد الجهابذة النقاد، روى عن الحافظ ابن حجر والبساطي وغيرهما، له تعليق على فرعي ابن الحاجب وأرجوزة تتعلق باجتماع الصوفية على الذكر. وبيتهم بيت علم أبوه ووالده وحفيده. توفي عن سن عالية سنة 854 أربع وخمسين وثمانمائة.
680- أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري 2:
بفتح الميم والقاف المشددة وتخفف القرشي التلمساني الأصل، الفاسي قاضيها، له مشاركة تامة في العلوم، وله كتاب "القواعد" اشتمل على ألف ومائتي قاعدة للمذهب المالكي هي أصوله التي بني عليها، وله كتب في فنون شتى وقال فيه ابن مرزوق: إنه وصل درجة الاجتهاد المذهبي والتخيير والتزييف من الأقوال. توفي سنة 858 ثمان وخمسين وثمانمائة.
__________
1 أبو القاسم وأبو الفضل قاسم بن سعيد بن محمد العقباني التلمساني: الضوء اللامع "6/ 181"، ونيل الابتهاج "223/ 224".
2 أبو عبد الله بن محمد بن محمد بن أحمد المقري القرشي التلمساني الأصل الفاسي: نيل الابتهاج "249".(2/305)
681- أم هانئ بنت محمد العبدوسي 1:
فقيهة فاس الصالحة الأحوال أخت الإمام الحافظ عبد الله العبدوسي هي آخر فقهاء هذا البيت الذي رفع العلم عماده. توفيت سنة 860 ستين وثمانمائة ولها أخت مثلها اسمها فاطمة العبدوسية يشار إليها بالفقه والصلاح.
682- أبو العباس أحمد بن عمر المزجلدي 2:
بجيم معقودة بعد الزاي قبيلة بجبال عمارة إمام علم شهير من أئمة فاس كان يحفظ المدونة، ويمليها حفظا، ويملي ألفاظ شراحها كذلك من غير تكلف، ويبين مآخذهم وأنهم إنما شرحوا أولها بآخرها، وآخرها بأولها، ويقول: ما نزل حكم من السماء إلا وهو في المدونة كان نزها زاهدا مهيبا، صلبا في الحق ولا يبالي بالدنيا وأبنائها. توفي سنة 864 أربع وستين وثمانمائة.
683- أبو العباس أحمد بن سعيد التيحميسي 3:
الشهير بالحباك المكناسي أصلا، الفاسي الفقيه الإمام الخطيب علامة شاعر متصوف نظم بيوع ابن جماعة التونسي محررة بما وضع عليها الإمام أحمد القباب. توفي سنة 870 سبعين وثمانمائة.
684- سالم بن إبراهيم الصنهاجي المغربي:
قاضي القضاة بالشام والقدس مولده بالمغرب، وبه قرأ العلم، أسره الكفار ثم أنجاه الله، ولما ولي الشام سار بسيرة حسنة باحترام وعفة ونزاهة. توفي سنة 873 ثلاث وسبعين وثمانمائة عن نحو مائة سنة.
__________
1 أم هانئ بنت محمد العبدوسي: نيل الابتهاج "348".
2 أبو العباس أحمد بن عمر المزجلدي: نبل الابتهاج "81".
3 أبو العباس أحمد بن سعيد التيجميسي "الحباك" أخبار مكناس "1/ 313، 315".(2/306)
685- أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي 1:
الجعفري الهاشمي الزينبي الجزائري الإمام العلم الزاهد القدوة الكامل صاحب الجواهر الحسان في تفسير القرآن، وروضة الأنوار في الفقه، قدر المدونة جمع فيها لباب نحو ستين دواوين المالكية المعتمدة من حصل عليه حصل على خزانة مالكية فقهية، وشرح ابن الحاجب الفرعي في سفرين مع جامع كبير ختمه به في جزء، وجامع الأمهات في أحكام العبادات وغيرها تآليف كثيرة. توفي بالجزائر سنة 875 خمس وسبعين وثمانمائة عن نحو تسعين سنة.
ونسبة الثعالبي إلى الثعالبة بوطن الجزائر قبيلة شهيرة به من عرب معقل والجعفري إلى جعفر بن أبي طالب الطيار شهيد مؤته، وينسب أيضا زينبي نسبة إلى زينب بنت علي بن أبي طالب، وفاطمة البتول زوجة عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، وقد بسط القول في هذا النسب الأطهر العلامة أحمد بن خالد الناصري في كتابه "طالع المشتري في النسب الجعفري" فانظره، فإنه مطبوع بفاس. وإلى قبيلة الثعالبة المذكورين ينتسب قبيلنا من حجاوة قال الناصري المذكور: والثعالبة جعافرة صرحاء في النسب المذكور ويأتي في ترجمة أبي مهدي عيسى الثعالبي أنه من هذا القبيل، صرح بذلك في الصفوة وغيرها كما صرح بذلك من ترجموا لأبي زيد المذكور، ويأتي في ترجمة الإمام أبي بكر الحجوي قريبا أنه منهم.
686- أبو عبد الله محمد بن قاسم 2:
اللخمي نسبا المكناسي دارا، ثم الفاسي الشهير بالقوري بفتح القاف،
__________
1 أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي الجعفري الهاشمي الزينبي الجزائري: أبو زيد، الثعالبي، الجزائري، ولد سنة 786، توفي سنة 875:
شجرة النور الزكية "264"، الضوء اللامع "4/ 152"، ونيل الابتهاج "173، 175"، وفهرس الفهارس "2/ 131، 132".
2 أبو عبد الله محمد بن قاسم اللخمي نسبا المكناس دارا: أخبار مكناس "3/ 595، 597".(2/307)
وتقديم الواو على الراء الإمام المتبحر المفتي، المشاور الحجة الأنزه، آخر حفاظ المدونة بفاس، كان ينقل في درسه لها كلام المتقدمين والمتأخرين وذكر مواليدهم ووفياتهم، وضبط أسمائهم، ويشبع الكلام على الأحاديث التي يستدلون بها، له شرح في مختصر خليل، توفي بفاس سنة 872 اثنين وسبعين وثمانمائة.
687- علي بن عبد الله نور الدين شهر بالسنهوري 1:
نسبة إلى قرية من قرى مصر شيخ المالكية بمصر، وكانت حلقته من أجل حلق العلم بها شرح المختصر بشرح جليل لم يكمل، وشرح الآجرومية، وله تعليق على التلقين على ما قيل قال تلميذه زروق: كان حافظا للفقه، عارفا بالنحو والأصول، وقال المنوفي: إنه رأس محقق زمانه. توفي سنة 889 تسع وثمانين وثمانمائة.
688- أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الحفيد 2: الشهير بابن رشد السجلماني قاضي حلب، ومن انتهت إليه رياستها توفي سنة 789 تسع وثمانين وسبعمائة.
689- علي بن محمد بن محمد بن علي القرشي البسطي 3:
نزل غرناطة الشهير بالقلصادي الفقيه العالم المشارك الفرضي الرحلة
__________
1 علي بن عبد الله نور الدين بالسنهوري: أبو الحسن، ولد سنة 814، مات سنة "889":
شجرة النور الزكية "258"، الضوء اللامع "5/ 249، 251"، نيل الابتهاج "168".
2 أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الحفيد "ابن رشد السلجماني قاضي الحلب": أبو زيد، أبو المحاسن، الدمشقي، الشافعي، الكزبري الصغير، أو الكزبري الحفيد، مات سنة "1262":
فهرس الفهارس "1/ 484"، معجم المؤلفين "5/ 177، 178"، ثبت الكزبري ص"58، 120".
3 علي بن محمد بن محمد بن علي القرشي البسطي الشهير "القلصادي: أبو الحسن، القرشي البسطي، الأيدلسي، ولد سنة "815"، مات سنة "891":
معجم المؤلفين "7/ 230"، شذرات الذهب "6/ 308"، ونيل الابتهاج "168".(2/308)
الحيسوبي من أئمة الأندلس المشهورين بكثرة التأليف، هاجر عن غرناطة لما نزلت بها المصيبة العظمى إلى أفريقية، وكان على قدم عظيم في الاجتهاد ومداومة التدريس ونشر العلم والتأليف، من تواليفه "أشهر المسالك إلى مذهب مالك"، وشرح مختصر خليل، والرسالة، والتلقين، و"هداية الأنام شرح مختصر قواعد الإسلام"، و"هداية النظار في تحفة الأحكام والأسرار" و"كشف الأسرار عن علم الغبار"، و"كشف الجلباب عن علم الحساب" وشرحان عن التلخيص و"كليات الفرائض"، وشرحها، وشرحان على التلمسانية، وشرح ألفية ابن مالك، والخزرجية في تواليف كثيرة بين شرح وتصنيف، بين بعضها في "نيل الابتهاج" فانظره. توفي بباجة أفريقية سنة 891 إحدى وتسعين وثمانمائة والقلصادي بفتح القاف واللام والصاد المهملة كما في "المنح البادية" وغيرها.
690- أبو عبد الله محمد بن موسى بن محمد بن سند اللخمي1: المصري، ثم الدمشقي، حافظ متقن، وإمام متفنن، له عدة كتب في الحديث وغيره. توفي سنة 792 اثنين وتسعين وسبعمائة.
691- أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الشهير بحلولو2: اليزليتني الطرابلسي له شرحان على المختصر وآخران على جمع الجوامع، واختصر فتاوى البرزلي وغير ذلك. قال السخاوي: كان حيا سنة 895 خمس وتسعين وثمانمائة.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن موسى بن محمد بن سند اللخمي المصري ثم الدمشقي: حسن الحاضرة "1/ 203"، والدرر الكامنة "4/ 270"، وشذرات الذهب "6/ 326"، وتذكر الحفاظ "177، 368".
2 أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الشهير بحلولو: الضوء اللامع "2/ 260، 261"، ونيل الابتهاج "83، 84".(2/309)
692- أبو عبد الله محمد بن يوسف بن عمر السنوسي 1:
وبه شهر التلمساني، ونسبته إلى قبيلة قربها من البربر، وأم أبيه شريفة حسنية عالم تلمسان ولسان متكلميها إمام مشهور تواليفه في العقائد على مذهب متأخري الأشعرية، كالكبرى والوسطى والصغرى وشرحها، مع صلاحه وزهده واشتهاره بذلك في الأقطار، ألف تلميذه الملالي تأليفا في التعريف به وبمناقبه وقد لخصه أحمد بابا السوداني في "نيل الابتهاج" قال: وبلغني أنه شرح فرعي ابن الحاجب، وله شرحان على الحوفية، وفتاو وأراجيز، وله تواليف كثيرة في فنون. توفي سنة 895 خمس وتسعين وثمانمائة عن نيف وستين سنة.
693- أبو محمد عبد الله الورياجلي 2:
الفاسي علامة مشارك الصدر الأوحد ممن بلغ رتبة الاجتهاد أو كاد، وكان من فحول علماء الدنيا الذين تشد إليهم رحال طلاب العلم يقرئ المذاهب الأربعة، ينتصر لمذهب مالك كأنه المازري، ومن طالع أجوبته يقضي بصحة ذلك؛ إذ لا يذكر إلا الخلاف الكبير، ومن عادته أن يشتغل بالتدريس في فصلي الربيع والشتاء، ويخرج في فصلي الصيف والخريف للرباط، وحراسة ثغور القبائل الهبطية، ونشر العلم بها، وفضائله جمة، تولى رياسة العلم بفاس، وبها استقر إلى أن مات، وما كانت ترفع إليه إلا المعضلات المهمات.
توفي سنة 894 أربع وتسعين وثمانمائة، وقيل: في العشر الأولى من القرن العاشر.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن يوسف بن عمر السنوسي: السنوسي، التلمساني، الحسيني، ولد سنة "832"، مات سنة "895":
معجم المؤلفين "12/ 132، الحاشية".
2 أبو محمد عبد الله الورياجلي الفاسي: نيل الابتهاج "159".(2/310)
694- أبو مهدي عيسى بن أحمد بن محمد الماواسي البطوئي 1:
الفاسي بيتهم بيت علم وجلالة بها، وهو فقيهها ومفتيها وعالمها، أقام يخطب بفاس الجديد نحو ستين سنة، وله فتاوٍ نقل بعضها في "المعيار" تدل على كماله، وولي خطة الفتوى بعد الإمام القوري، ورقي أعلا درجاتها، وكان حافظا محققا من جلة الفقهاء وكبار العلماء توفي سنة 896 ست وتسعين وثمانمائة عن سن عالية.
695- أبو عبد الله محمد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق 2:
الغرناطي حضر استيلاء الإسبان على غرناطة، له شرح على مختصر خليل شرحه بنقل كلام الفقهاء الذي يؤيده، وما لم يجد له عاضدا سكت عنه، وهو صنيع لطيف يرجع بنا لاستحضار كلام الأقدمين، وقد طبع بمصر سنة 1328 توفي سنة 897 سبع وتسعين وثمانمائة.
696- أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى زروق 3:
بوزن تنور البرنسي4 بضم النون الفاسي الإمام الفقيه المحدث الصوفي المشهور في العالم الإسلامي الرحالة، ذو التصانيف العديدة المفيدة، والمناقب
__________
1 أبو مهدي عيسى بن أحمد بن محمد الماواسي البطوئي الفاسي: نيل الابتهاج "194".
2 أبو عبد الله محمد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق الغرناطي: نيل الابتهاج "324، 325"، والضوء اللامع "10/ 98"، شجرة النور "262".
3 أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى زروق: نيل الابتهاج "84، 87"، والبستان "45، 50"، وسلوة الأنفاس "3/ 183، 184".
4 البرنسي نسبة إلى البرانس قبيلة بربرية قرب فاس، وزروق يقال لأزرق العينين، ثم صار علما. ا. هـ. "المؤلف".(2/311)
الحميدة، والزهد والورع، والانكباب على العلم والهداية، له شرحان على الرسالة، وآخر على مختصر خليل، وشرح على إرشاد ابن عسكر، وابن القرطبية، والوغليسية، والغافقية والعقيدة القدسية للغزالي ونيف وعشرون شرحا على الحكم، والنصيحة الكافية، وكتابه القواعد في التصوف، مطبوع، وكتاب عدة المريدين فيه ما أحدثه الصوفية العالية في المؤلفين، بل والمنصفين والمرشدين، ذابا عن السنة، قوالا للحق، وهو آخر المحققين الجامعين بين الفقه والتصنيف، المحتج به عند الطائفتين، أخذ عن شيوخ المشرق والمغرب، وأخذوا عند كذلك. توفي سنة 899 تسع وتسعين وثمانمائة، ودفن بتكرين من أعمال طرابلس الغرب، وقبره هناك مشهور، وله طريقة خاصة في التصوف وأتباع رحمه الله.
697- أبو العباس أحمد بن محمد بن زكري المانوي 1:
التلمساني علامتها ومفتيها، وحافظها المتفنن الأصولي الفروعي، المفسر الأبرع، له تآليف في مسائل القضاء والفتيا، وشرح عقيدة ابن الحاجب، والمنظومة الكبرى في علم الكلام تنيف عن ألف وخمسمائة بيت شرحها أئمة أعلام، وله فتاوٍ كثيرة منقولة في "المعيار" توفي سنة 899 تسع وتسعين وثمانمائة.
698- أبو الحسن علي بن قاسم بن محمد التجيبي 2:
الشهير بالزقاق الفاسي مؤلف نظم المنهج المنتخب في اصول المذهب،
__________
1 أبو العباس أحمد بن محمد بن زكري المانوي التلمساني: نيل الابتهاج "87، 88"، وفهرس الفهارس "4/ 438، 439".
2 أبو الحسن علي بن قاسم بن محمد التجيبي "الزقاق" الفاسي": أبو الحسن، التجيبي، ولد سنة "625":
وادي أشي "65"، الاستقصا "2/ 182"، شجرة النور "274".(2/312)
ولاميته أيضا شهيرة في أحكام فقهية في مسائل جرى بها عمل فاس، ويكثر حدوثها، ويحتاج القضاة لمعرفتها. توفي سنة عالية سنة 912 اثنتي عشرة وتسعمائة.
699- أبو العباس أحمد بن يحيى بن محمد بن عبد الواحد الوانشريسي 1:
التلمساني الأصل، الفاسي الدار، حامل لواء المذهب المالكي بالديار الأفريقية في وقته، وصاحب كتاب المعيار المشتمل على فتاوى فقهاء المغرب والأندلس وأفريقية جمع فأوعى، وهو من التآليف ذات الشأن عند فقهاء الوقت على ما فيه من ضعف بعض الفتاوى طبع بفاس واشتهر في العالم، وله تعليق على مختصر ابن الحاجب، وكتاب في القواعد الفقهية سماه "إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك" جمع نحو مائة قاعدة فقهية بني عليها الخلاف المالكي، ولكن كلها أو جلها مختلف فيها. وعن الاختلاف فيها نشأ الاختلاف في فروعها، فهو كفلسفة مفيدة وله وثائق، وكتاب في الفروع، وشرح وثائق الفشتالي وغيرها. توفي سنة 914 أربع عشرة وتسعمائة وفي "دوحة الناشر": في آخر العشرة الأولى في القرن العاشر إلا أن صاحب الدوحة لا يحرر الوفيات.
700- أبو عبد الله بن عبد الله بن محمد اليفرني 2:
الشهير بالقاضي المكناسي نسبة إلى قبيلة مكناسة الفاسي قاضيها وإمامها الفقيه الشهير، مكث في قضائها بضعا وثلاثين سنة لعدله وسياسته وكفاءته،
__________
1 أبو العباس أحمد بن يحيى بن عبد الواحد الوانشري التلمساني: نيل الابتهاج "87، 88"، وفهرس الفهارس "4/ 438، 439".
2 أبو عبد الله بن عبد الله بن محمد اليفرني الشهير بالقاضي المكناسي: جذوة الاقتباس "151"، وأخبار مكناس "3/ 599".(2/313)
بيتهم بيت علم ووجاهة بفاس، وصار عليها سمة ابن القاضي وهو شيخ صاحب "المعيار"، وينقل فتاويه فيه وأحكامه، له تواليف، منها مجالس القضاة والحكام في سفر متوسط، وهو عمدة القضاء إلى الآن والتنبيه والإعلام فيما أفتاه المفتون، وحكم به القضاة من الأوهام، وكان لا يولي أحدا الشهادة إلا بعد اللتيا والتي، ويقول: من طلبها لي، فكأنما خطب ابنتي، وأصاب في ذلك، فإن بعض القضاة كان يقول للشهود: أنتم القضاة ونحن المنفذون، وهكذا كان شأن الشهادة إلى أن تولى عبد الرحمن الطرون، فإنه كسر الباب، وأدخل لها الغث والسمين. توفي سنة 917 سبع عشر وتسعمائة. عن ثمان وسبعين سنة.
701- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن غازي العثماني 1:
المكناسي الأصل مكناسة الزيتون ثم الفاسي شيخ الجماعة بها والذي انتهت إليه رواية السنة بأفريقية، وفهرسته خير دليل على ذلك، واجتماع علماء المغرب على الأخذ عنه وتوثيقه وقبول روايته، الإمام الحافظ المشارك في الفنون العقلية والنقلية صدرا في القراءات والتجويد، عارفا بوجوهه، وصدرا في الحديث ورجاله، والتفسير والفقه، ورياضي كبير، وكانت إليه الرحلة في الأقطار الإفريقية، غزا بنفسه غير ما مرة، وكان يحرض عليه في خطبه، جامع أشتات الفضائل، ذو التصانيف العجيبة في القراءات والحديث والعربية والحساب والعروض والفقه، خطيب القرويين وإمامها، له تقييد على البخاري، وله شفاء الغليل شرح مختصر خليل، وتكميل التقييد على المدونة، وحل مشكل كلام ابن عرفة، وله المنية منظومة في الحساب وشرحها متداولة بين الناس في سفر ضخم، تدل على أن العلوم الرياضية كانت بالمغرب زاهرة في القرن العاشر، وتآليف أخرى كلها غرر توفي شهيدا ذهب للحراسة بنفسه على شيبته في الثغور المغربية، فمرض وجيء به لفاس عليلا فتوفي سنة 919 تسع عشرة وتسعمائة عن ثمان وسبعين سنة، فقد كان مجددا رحمه الله، وكانت له اليد الطولى في إنقاذ بلده من
__________
1 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن غازي العثماني المكناسي الفاسي: نيل الابتهاج "333"، وشجرة النور "267"، وفهرس الفهارس "1/ 210".(2/314)
الاحتلال البرتغالي والتسلط الأجنبي.
702- أبو عبد الله محمد بن أبي الهبطي الصماتي 1:
الفاسي الإمام الفقيه النحوي الفرضي الأستاذ المقرئ وهو الذي يقرأ أهل المغرب بالوقف الذي جعله في القرآن الكريم منذ زمنه إلى الآن مطبقين عليه، وهو أخذه عن الإمام ابن غازي شيخه، وإن كان في بعضه نظر، وإن تلقاه قراء المغرب بالقبول. توفي سنة 930 ثلاثين وتسعمائة.
703- أبو الحسن علي بن هارون المطغري 2:
مطغرة تلمسان أصله منها، وانتقل جده إلى فاس إمام علامة مفتي فاس، وحامل راية المذهب بها، راوية فحل من فحولها، جلس إلى الإمام ابن غازي يأخذ عنه الفقه تسعة وعشرين سنة، وإلى الإمام الونشريسي صاحب "المعيار" وغيرهما، وانتهت إليه رياسة الفقه والإفتاء بعدهما والتدريس، ونفع العباد، ونشر الدين والخطابة بالقرويين، وصار شيخ الجماعة في وقته، تشد إليه الرحال، واقرأ المدونة في حياة ابن غازي، وممن أخذ عنه سيدي رضوان الجنوي والمنجور وغيرهما. توفي سنة 951 إحدى وخمسين وتسعمائة، وقد أناف على الثمانين.
704- أبو محمد عبد الواحد بن الإمام أحمد بن يحيى الونشريسي 3:
الزناتي الفاسي إمام وقته في الفقه من غير مدافع، متضلع في الأدب
__________
1 أبو عبد الله محمد بن أبي الهبطي الصماتي الفاسي: الصماتي بضم المهملة نسبة إلى صماته قبيلة جبلية بالمغرب الشمالي والهبطي بفتح أوله نسبة بلاد الهبط معروفة هناك. ا. هـ. "المؤلف".
2 أبو الحسن علي بن هارون المطغري مطغرة تلمساني: نيل الابتهاج "212".
3 أبو محمد عبد الواحب بن الإمام أحمد بن يحيى الونشريسي الزناتي الفاسي: نيل الابتهاج "188".(2/315)
والأصول مشارك في الفنون محقق للجميع مع طلاقة لسان، وحسن بيان وثبات جنان، ولطف وحسن شمائل، وجودة فهم وخط، وشعر لا يقارع فيه، صحيح الدين، متين الورع، معيب وقور، متقدم في الإنشاء وعقد الشروط مجلسه يحضره أكابر العلماء.
تولى القضاء ثمان عشرة سنة، ثم الفتيا بعد شيخه ابن هارون، وهو في ذلك مداوم على الدروس، عدل في أحكامه، أخذ عن والده صاحب المعيار وابن غازي وغيرهما، ومن تواليفه نظم قواعد مذهب مالك بن أنس لخص فيه إيضاح المسالك لوالده، وزاد عليه زيادات رائقة، وشرح مختصر ابن الحاجب الفرعي في أربعة أسفار، وشرحه على الرسالة مطول عجيب، ونظم تلخيص ابن البناء في الحساب، وله تعليق حسن على البخاري لم يكمل، وله أزجال وموشحات لرقة طبعه، ومن قوته في الدين أن السلطان أبا العباس المريني أبطأ في الخروج لصلاة العيد حتى حان الظهر، وبعد خرجوه رقي المنبر، فقال: الله آجركم في صلاة العيد، ثم أمر المؤذن أن يؤذن للظهر، فصلى بهم الظهر، وانصرف، ولم يراع سلطان ولا غيره. توفي قتيلا شهيدا سنة 955 خمس وخمسين وتسعمائة عن نحو سبعين سنة.
705- أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن اليسيتني 1:
بفتح التحتانية وكسر السين المشددة نسبة إلى قبيلة بربرية الفاسي عالمها ومفتيها الفقيه المشارك المتقدم في العلوم، رحل للأقطار، وأتى بعلوم كانت اندثرت من الديار الأفريقية فأحياها، له شرح مختصر خليل إلى النواقض، وجزء في حقوق السلطان على الرعية وحقوقها عليه، وآخر في الرد على البلبالي في إنكاره القول بطهارة بول المريض الذي صارت له أوصاف الماء بحيث باله كما
__________
1 أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن اليسيتني الفاسي: نيل الابتهاج "338، 339"، وسلوة الأنفاس "3/ 59، 60".(2/316)
شربه وتواليف أخرى في علم الكلام وغيره. توفي سنة 959 تسع وخمسين وتسعمائة.
706- أبو زيد عبد الرحمن بن علي سقين 1، 2:
السفياني العاصمي الفاسي، الفقيه الخطيب، المحدث الراوية الرحالة، لقي بمصر جماعة، منهم برهان الدين القلقشندي، وزكريا الأنصاري القاضي، وابن فهد بمكة، والسخاوي كلهم عن الحافظ ابن حجر العسقلاني، وعنه أخذ المنجور، وأبو راشد البدري ورضوان الجنوي وغيرهم، كل ذلك مبين في أسانيدنا. توفي سنة بفاس سنة 956 ست وخمسين وتسعمائة عن ثلاث وثمانين سنة.
707- عمر بن محمد الكماد الأنصاري القسطنطيني:
الفقيه العالم الكبير المتفنن المحقق الراسخ، الصالح الأحوال ألف كتاب البضاعة المزجاة على طريق الطوالع والمواقف في غاية التحقيق والإيضاح، وفتاوى في الفقه وتعليقا على قول "خ": وخصصت نية الحالف، وكتابا حفيلا في الرد على الشبوبية أصحاب المرابط عرفة القيرواني وغيرها توفي سنة 960 ستين وتسعمائة.
708- أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المدعو خروف التونسي الأنصاري:
الملقب جار الله الإمام الفقيه الأصولي المحدث الأديب المشارك المتبحر، قرأ
__________
1 سقين مصغر مشدد القاف كما في "المنح البادية".
2 أبو زيد عبد الرحمن بن علي سقين السفياني العاصمي الفاسي: أبو زيد، العاصمي، السفياني، العصري الفاسي، الشهرة سقي، سقير، توفي سنة "956":
فهرس الفهارس "2/ 987"، شجرة النور الزكية "279".(2/317)
بأفريقية ومصر، وأسر، ففداه السلطان أحمد الوطاسي، فاستوطن فاسا، فدد بها سند العلوم المعقولية، وعنه أخذ على الحقيقة، وكان له على المنقولات أيضا سند عال، وهو ممن ضمت فهرستنا سنده الكريم، أخذ بفاس عن سقين وعلي بن هارون، وعبد الواحد الونشريسي وغيرهم، وأخذ عنه سيدي رضوان والمنجور، والقصار، وسيدي يوسف الفاسي وغيرهم.
توفي سنة 966 ست وستين وتسعمائة.
709- القاضي حسين المكي 1: نشر العلم بها وفيمن يرد إليها، ويحسن لطلبتها وفقرائها، وعين لقضاء القضاة في المدينة المنورة، ثم صار شيخ الإسلام وناظر المسجد الحرام، وخطيب الموقف. توفي سنة 990 تسعين وتسعمائة.
710- أبو النعيم رضوان بن عبد الله الجنوي 2:
الفاسي الفقيه المحدث، أورع أهل زمانه وواحد وقته علما وعملا، شريف الخلال، لطيف الصفات، شديد الاتباع للشروع وآداب السنة، لا يذكر غائب بحضرته إلا بما اقتضاه العلم، ولا يترك أحدا يقبل يده، ويقول: ما مد يده إلا مأذون أو مجنون أو طرمون، ولست بواحد منهم قال فيه الإمام القضار: رضوان الرجل الصالح لو أدركه أبو نعيم لجعله في "الحلية" وقد ألف في مناقبه تلميذه أحمد بن موسى المرابي تحفة الإخوان في مجلد، والشيخ رضوان قد ألف كتابا في الفقه، وله نظم الحلية لأبي نعيم، وتقاييد كثيرة.
توفي سنة 991 إحدى وتسعين وتسعمائة عن تسع وسبعين سنة، ولم يخلف بعد تجهيزه ما يورث عنه سوى حصير الصلاة، وخيط يشمر به أكمامه للوضوء لزهده وورعه، وأعجب من ذلك أنهما بيعا بسبعين مثقالا، وحين
__________
1 حسين المكي "القاضي": شذرات الذهب "8/ 419".
2 أبو النعيم رضوان بن عبد الله الجنوي الفاسي: اليواقيت الثمينة "1/ 151، 152"، وفهرس الفهارس "1/ 325، 326".(2/318)
رفعت لابنته التي لم يترك وارثا سواها أبت من قبولها، وقالت: إنهما لا يساويان هذا القدر، فاشتروا بها بقعة وبنوا بها زاوية هي باسمه إلى الآن بفاس.
والجنوي نسبة إلى جنوة بلد بإيطالية أسلم أبوه بها لما رأى فرسه راث ليلا بكنيسة، فجاء الرهبان صباحا وباعوا الروث بمال عظيم بدعوى أن المسيح أتى للكنيسة فراث فرسه، فهجر دينا خرافيا وجاء للمغرب، فأسلم وتزوج يهودية أسلمت، فولد لهما سيدي رضوان رحمه الله.
711- أبو العباس أحمد بن علي المنجور 1:
الفاسي الإمام المحصل المشارك عارف بالرجال والحديث والفقه والعربية والتعاليم وله تآليف، منها نظم الفوائد في الكلام، وشرح المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب في الفقه وغيرها، وله شعر رائق. توفي سنة 995 خمس وتسعين وتسعمائة.
712- أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحطاب الرعيني 2:
المغربي الأصل المولود بمكة، له شرح على المختصر الخليلي جليل استمد منه كل من شرحه بعده، وهو أكثر الشروح تحريرا وإتقانا، وعليه اعتمد البناني وابن سودة والرهوني في كثير من تعقباتهم على الزرقاني، وله غيره من المؤلفات الحسنة.
توفي سنة 954 أربع وخمسين وتسعمائة.
__________
1 أبو العباس أحمد بن علي المنجور الفاسي: أخبار مكناس "1/ 319، 332"، وسلوة الأنفاس "3/ 60"، نيل الابتهاج "95، 98".
2 أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحطاب الرعيني المغربي الأصل: نيل الابتهاج "337، 338".(2/319)
713- محمد بن عبد الله الوجديجي الملقب شقرون 1:
التلمساني وفد على السلطان بفاس، فأكرمه، وولاه الفتوى بمراكش وسائر أقطار المغرب فكان يتردد لنشر العلم بينها وبين فاس وأخذ عنه أعيانهما كان مفننا عارفا بالأصلين والمعقول والحساب والفرائض نافذا في الفروع الفقهية منطبعا معها يحسن النوازل ويقوم على مختصر ابن الحاجب أتم قيام، له شرح على التلمسانية في الفرائض، فكان عالم الزمان وفارس المنابر وعروس الكراسي طلق اللسان منفسح الصدر كثير المعرفة يحضر مجلسه أعيان الفقهاء والسلطان بنفسه وانتفع به العموم. توفي سنة 983 ثلاث وثمانين وتسعمائة عن خمس وسبعين.
714- أبو العباس أحمد بن الحسن بن يوسف الشهير بابن عرضون 2:
الزجلي3 باللام الشفشاوني بلد بشمال المغرب قاضيها وعالمها، وفقيهها، له كتاب اللائق في الوثائق حسن في بابه، وآخر في الأنكحة مجلد ضخم.
توفي سنة 992 اثنين وتسعين وتسعمائة، وكان أبوه أبو علي الحسن فقيها أيضا له أجوبة في الفقه تؤذن باتساعه في العلم وتأتي ترجمة أخيه أبي عبد الله عرضون.
__________
1 محمد بن عبد الله الوجديجي الملقب شقرون التلمساني: نيل الابتهاج "340"، البستان "261".
2 أبو العباس أحمد بن الحسن بن يوسف الشهير بابن عرضون الزجلي: اليواقيت الثمينة "1/ 18".
3 الزجلي نسبة إلى أزجل على غير قياس مدينة مهمة كانت قرب وزان بجبال الهبط من المغرب الأقصى، فخربت بالفتن، ولا زالت آثارها وهي الآن مدثر. ا. هـ. "المؤلف".(2/320)
715- يحيى بن محمد الحطاب المكي 1:
فقيه مكة وعالمها، متفنن بارع مؤلف، له تواليف في الفقه والمناسك والعروض، منها الالتزامات، كتاب مطبوع وغيرها. توفي بعد ثلاث وتسعين وتسعمائة، وهو حفيد الحطاب السابق.
716- إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون 2:
وبه شهر برهان الدين اليعمري الجياني الأصل، المدني المولد والدار، قاضيها وعالمها، جامع للفضائل، ومشارك في الفنون، واسع العلم، فصيح القلم، كثير العبادة، زاهد، رحل إلى مصر والشام وغيرها، وتولى قضاء المدينة المنورة، فأحسن السيرة فيها، لم تأخذه في الله لومة لائم، مات في بيت الكراء وعليه دين كثير. ألف تواليف مهمة كشرح ابن الحاجب، و"درر الخواص"، وهي ألغاز في الفقه لم يسبق لمثله، و"تبصرة الحكام" و"الديباج المذهب في رجال المذهب"، ولخصت عنه كثيرا من التراجم في هذا المجموع وغيرها من التواليف الحسان. انظر ترجمته الحفيلة في "نيل الابتهاج"، توفي سنة 999 تسع وتسعين وتسعمائة.
717- الشيخ محمد بن محمد التبنبكتي 3:
عرف ببغيغ بباء موحدة مفتوحة فغين معجمة فياء مثناة مضمومة، فعين مهملة، الفقيه الصالح العابد الناسك من العلماء العاملين قال في "تكميل الديباج" لا يبعد عندي أن يكون هو العالم المبعوث على رأس هذا القرن، وذكر
__________
1 يحيى بن محمد بن الحطاب المكي: حاشية الأكمال "3/ 165"، نيل الابتهاج "360".
2 إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون: الدرر الكامنة "1/ 48"، ونيل الابتهاج "30، 32"، وشذرات الذهب "6/ 357".
3 محمد بن محمد التبنبكتي "عرف ببغيغ": الونكري، التنبكي، ولد سنة "796"، مات سنة "835":
معجم طبقات الحفاظ ص"169"، طبقات الحفاظ "545"، الأعلمي "2/ 128".(2/321)
الرهوني في فصل المباح من الطعام أن علماء السودان يزعمون أنه المبعوث على رأس الألف في نظرهم. ونقل عن أبي العباس المقري أنه رأى له حاشية على المختصر وشراحه تدل على سعة تبحره.
وذكر في الصفوة أنه توفي سنة 1002 اثنتين وألف. وقد ترجمه في "تكميل الديباج" و"خلاصة الأثر" وغيرهما.
718- أبو محمد عبد الواحد بن أحمد الحميدي:
مصغيرا إمام كبير وعلم شهير، حامل لواء المذهب المكالي بفاس بوقته، بل بالمغرب مع المشاركة في كثير من الفنون، مفتي فاس وقاضيها الذي طالت ولايته أزيد من ثلاثين سنة لم تطل لغيره إلا القاضي المكناسي اليفرني والقاضي بوخريص إلا أن هذا أعفي في آخر عمره، وقد أكثر علماء فاس من نقل العمليات عنه، ووصفه جمهور المؤرخين بالعدل وحسن السيرة، ولا يلتفت لما لمزه به في "الجذوة" نخرج به علماء كثيرون، وزثنوا عليه وعلى أحكامه وقضاياه، وبيتهم بيت علم وجلالة بفاس.
توفي سنة 1003 ثلاث وألف.
719- أبو القاسم بن قاسم بن محمد أبي القاسم بن سودة المري الغرناطي الأصل الفاسي
العلامة المتفنن المفتي القاضي بتازة، ثم مراكش المشارك وهو ممن نقل عنه أصحاب العمليات وغيرهم، ولعله أول من اشتهر من هذا البيت بفاس، ونشر العلم في المغرب، وأخذ عنه الجمع الكثيرون وهو أخذ عن الحميدي السابق، توفي سنة 1004 أربع وألف.(2/322)
720- يحيى بن محمد بن محمد بن محمد السراج النفزي الحميدي الأندلسي:
حفيد يحيى السراج الكبير، علم الأعلام مفتي فاس وخطيبها من العلماء المبرزين المشاركين في الفقه والتفسير، والأصول العارفين المتقنين للنحو والفقه، يعرف المدونة ويدرسها يحفظ مختصر خليل، وله به عناية حتى ألف عليه حاشية، ولما ولي الفتوى، اجتهد وحرر النقول، وتحرى الحق، لا يخرج عن المشهور له تعرف له هفوة قط من صغره.
توفي سنة 1007 سبع وألف وما كان يتخذ مأكولا مخصوصا ولا ملبوسا كأبناء جنسه رحمه الله بل يقنع بأقل ما تيسر.
721- بدر الدين محمد بن يحيى المصري الشهير بالقرافي 1:
القاضي المالكي بها، له شرح على المختصر، وآخر على القاموس، وتعليق على أوائل ابن الحاجب، وذيل ديباج ابن فرحون في طبقات المالكية ذكر فيه ما ينيف على ثلاثمائة شخص في أربعة كراريس أو خمسة، وشرح الموطأ والتهذيب بين فيه مشهور ما فيه من الخلاف. توفي سنة 1009 تسع وألف.
722- أبو العباس أحمد بن محمد الذهبي 2:
المنصور سلطان المغرب والسودان وجوهرة عقد دولة السعديين اليتيمية، كان من أهل العلم والسياسة والكياسة والرياسة، قد ترجمه غير واحد من المؤرخين، ووصفوه بالعلم وحسن التدبير والسياسة، ولنقتصر على نظم منسوب
__________
1 بدر الدين محمد بن يحيى المصري "القرافي" القاضي المالكي: توفي سنة 1009:
خلاصة الأثر "4/ 258، 262"، ونيل الابتهاج "342".
2 أبو العباس أحمد بن محمد الذهبي المنصور: الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى "3/ 42، 95"، وخلاصة الأثر "1/ 222".(2/323)
للإمام أبي عبد الله محمد القصار مفتي فاس الشهير ونصه:
ولم نجد من جدد الدين سوى ... إمامنا المنصور فالكفر توى
بخيله وناره1 أحيا العلوم ... وأهلها وكتبها على العموم
في كل يوم جوده على الشريف ... ثم الأسير والفقيه والتريف
أما المساجد فكالجنات ... حسنا وتدريسا على الساعات
أبقاه ربنا لإحيا الدين ... في قوة وغلب متين
وكفى بشهادة مثل هذا الإمام أن جعله مجددا. توفي سنة 1012 اثنتي عشرة وألف.
723- أبو عبد الله محمد بن قاسم القيسي الغرناطي 2:
الشهير بالقصار عالم بفاس بل المغرب ومفتيه ورحلته ومحدثه ومعقوليه، وهو الذي أحيا المعقول بفاس هو والإمام المنجور بعدما كان اندثر، واقتصروا على النحو ونحوهما وكذلك رحل ليسيتني، فجاء بشيء من ذلك، فأخذ عنهما المنجور والقصار ونفعا من بعدهما، وإليهما مرجع شيوخ المغرب دراية ورواية، وبقي القصار بعد المنجور، فكان النفع به أكثر.
توفي سنة 1012 اثنتي عشرة وألف.
__________
1 أشار بقوله -وناره- لاستعمال الأسلحة النارية البارودية مكاحل ومدافع. ا. هـ. "المؤلف".
2 أبو عبد الله محمد بن قاسم القيسي الغرناطي الشهير بالقصار: أبو عبد الله، القصار، الغرناطي، الفاسي، القيسي، المتوفي سنة 1012:
فهرس الفهارس والحاشية "2/ 965"، شجرة النور الزكية "295".(2/324)
724- أبو عبد الله محمد بن الحسن بن يوسف الشهير بابن عرضون الزجلي الشفشاوني 1:
قاضيها وعالمها، متبحر مشارك في العلوم، وكان له شعر رائق، له تواليف حسنة كشرح الرسالة، وشرح حفيدة السنوسي، والممتع المحتاج في آداب الزواج، انتقل لفاس، وبها توفي سنة 1012 اثنتي عشرة وألف.
725- أبو المحاسن يوسف بن محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفاسي الفهري: العالم الإمام النظار، له آثار جليلة توفي سنة 1013 ثلاث عشرة بعد الألف.
726- أبو النجا سالم بن محمد السنهوري 2:
شيخ المالكية بمصر في وقته، له حاشية على المختصر لخصها من الخطاب. توفي سنة 1016 ست عشرة وألف عن نحو سبعين خريفا.
727- محمد بن علي بن محمد الشبراملسي 3:
المصري إمام المالكية في وقته المتضلع من العلوم، صرف وقته في التحصيل والتأصيل والتفريع، وله مشاركة في العلوم العقلية وألف مؤلفات كثيرة. قال في الخلاصة: كان سنة 1021 إحدى وعشرين وألف موجودا وفي "الصفوة".
توفي سنة 1087 سبع وثمانين وألف.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن الحسن بن يوسف الشهير بابن عرضون الزجلي الشفشاوني: هدية العارفين "2/ 265".
2 أبو النجا سالم بن محمد السنهوري: توفي سنة "1016":
خلاصة الأثر "2/ 204"، واليواقيت الثمينة "1/ 155"، ونيل الابتهاج "126".
3 محمد بن علي بن محمد الشبراملسي المصري: خلاصة الأثر "4/ 44".(2/325)
728- محمد بن علي بن إبراهيم الإسترابادي 1:
نزيل مكة الحافظ صاحب كتب الرجال الثلاثة المشهورة، وله مؤلفات كثيرة، منها شرح آيات الأحكام، وفضله شهير. توفي سنة 1028 ثمان وعشرين وألف.
729- الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي 2:
النقشبندي من علماء الهند. ذكر النبهاني في "جواهر البحار" أنه المجدد على رأس الألف يعني بقطرة توفي سنة 1034 أربع وثلاثين وألف.
730- أبو العباس أحمد بن أحمد المدعو بابا السوداني 3:
من مدينة تمبكتو صنهاجي مسوفي، بيتهم بيت علم من نحو خمسمائة سنة، ألف نحو أربعين كتابا، منها شرح على المختصر، لم يكمل وحاشية على المختصر، أيضا تامة في سفرين، و"نيل الابتهاج" ذيل الديباج في طبقات المالكية، مطبوع كانت له مشاركة في فنون، وامتحن بالأسر، وضياع خزانة كتبه التي كانت تنيف على ألف وستمائة مجلد على أنه أقل عشيرته كتبا لما استولى أحمد المنصور السعدي على بلده، ثم سرح، فنشر العلم بمراكش، وأقبل عليه طلابه بها، بل قضاتها وأعيان علمائها واشتهر ذكره من سوس إلى بجاية ثم عاد لبلاده مسرحا.
توفي سنة 1036 ست وثلاثين وألف.
__________
1 محمد بن علي بن إبراهيم الإسترابادي: الميوزا، مات سنة 1028:
معجم المؤلفين "10/ 298"، خلاصة الأثر "4/ 96"، دائرة الأعلمي "27/ 54، 69".
2 الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي النقشبندي: سبحة المرجان "47".
3 أبو العباس أحمد بن أحمد المدعو بابا السوداني: خلاصة الأثر "1/ 170، 172".(2/326)
731- عبد الرحمن بن محمد الفهري القصري 1:
الشهير بالعارف الفاسي، إمام جليل، أخذ عن أبي المحاسن أخيه والقصار والمنجور وغيرهم، وقد أفرد ترجمته سيدي عبد الرحمن بن عبد القادر بتأليف، له شرح السنوسية، وحاشية على خليل، وأخرى على البخاري، وغيرها. توفي سنة 1036 ست وثلاثين وألف.
732- عبد الواحد بن أحمد بن أحمد بن علي بن عاشر الأنصاري 2:
الفاسي منشأ ودارا، عالم محقق مشارك غزا في سبيل الله، وألف تواليف مفيدة، منها نظمه المسمى "المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" يحفظه ولدان المغرب، وألف محاذات مختصر خليل، والجمع بين أصول الدين وفروعه، وشرحا على المختصر، التزم نقل لفظ ابن الحاجب والتوضيح لم يكمل، وله حاشية على التتائي، وغير ذلك. توفي سنة 1040 أربعين وألف.
733- أبو علي الحسن بن رحال المعدني 3:
المكناسي الأصل، الفاسي الدار، قاضي فاس العليا إمام محقق نقاد فقيه، مفتي فاس حافظ للمذهب المالكي، له على مختصر خليل حاشية في عدة أسفار، وله شرح عليه لم يكمل، وحاشية على شرح ميارة على "تحفة الحكام" مطبوعة بمصر، وله غيرها. توفي سنة 1040 أربعين وألف.
__________
1 عبد الرحمن بن محمد الفهري القصري الشهير "بالعارف" الفاسي: اليواقيت الثمينة "1/ 191"، وخلاصة الأثر "2/ 378، 379".
2 عبد الواحد بن أحمد بن أحمد بن علي بن عاشر الأنصاري الفاسي: ريحان الأدب "8/ 88".
3 أبو علي الحسن بن رحال المعداني المكناسي الأصل الفاسي الدار: اليواقيت الثمينة "1/ 135"، 137"، وأخبار مكناس "3/ 7، 9".(2/327)
734- أبو العباس أحمد بن محمد المقري 1:
شهاب الدين مفتي فاس الرحالة الشهير التلمساني الأصل، الحافظ المتقن، الأديب المؤرخ، أقام مفتيا بفاس 13 سنة، ورحل للمشرق، فحج مرارا، ونشر العلم بمصر والشام والحجاز وبيت المقدس، له كتاب "نفح الطيب" و"زهر الرياض في أخبار عياض"، وغيرهما. توفي بمصر سنة 1041 إحدى وأربعين وألف، وهذا من الرجال الذين خصت تراجمهم بالتأليف.
735- أبو العباس أحمد وعلي ومحمد السوسي 2:
والواو في لغة البربر بمعنى ابن فأبوه علي، وجده محمد وهو بو سعيدي هشتوكي صنهاجي أحد الأعلام الزهاد المجتهدين والأئمة المهتدين بارع في العلوم، مشارك زاهد متقشف، ومن زهده كان لا دار له يأوي إليهما، بل في مدرسة المصباحية ثواؤه، وله بلدة وهبها له بعض أهل الخير والدين يحرثها بيده، ويجمع زرعها، فلا يأكل إلا منه يجعله قرصة، ويشويه على النار، وكانت تجبى إليه العطايا من الآفاق لشهرة أمره، فلا يلتفت إليها لئلا تفتنه، ولا يتوسع اقتصارا على الضرورة، وإلا فقد قبل البلد التي كان يحرث فيها للضرورة لتحققه بأصلها، ولما فرش بعض الولاة صحن القرويين بالآجر، ترك المرور به تورعا، وربما داوى الأمراض بدقيقة الذي يتقوت به، ويقول: إن الحلال ترياق الأمراض الصعبة.
ولما جاءه تلميذ الشيخ مياره بشرح المرشد الكبير ليكتب عليه، عاب عليه كونه لم يتعرض لشيء من أحوال الآخرة. وإذا عرف بأحد من أشياخه يقول: القطب العارف بالله الزاهد وهذه أمور خفية فمن أين لنا أن نشهد بها وكتب في
__________
1 أبو العباس أحمد بن محمد المقري شهاب الدين: خلاصة الأثر "1/ 302، 311"، وسلافة العصر "589"، فهرس الفهارس "2/ 13، 15"، وريحانة الألبا "293".
2 أبو العباس أحمد وعلي ومحمد السوسي: اليواقيت الثمينة "1/ 31، 32"، فهرس الفهارس "1/ 179".(2/328)
ذلك رسالة ذكرها ميارة بحروفها آخر الشرح المذكور قائلا: ينبغي للمؤرخ أن يقتصر في أوصاف من يؤرخهم على ما هو ظاهر كالعلم وحسن الإدراك والإتقان ونحو هذا. قلت: ولهذا تجنبت كثيرا من تلك الأوصاف الباطنة إلا إن كانت صادرة عن ثقة أو مشاهدة في نحو الوصف بالزهد والورع، أما الولاية ومراتبها، فتلك أمور لا سبيل لنا لقبول قول قائل فيها، فوكلناه إلى الله سبحانه تحريا للصدق المتعين على أمانة المؤرخ لأنها مشترطة بحسن الخاتمة {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ومن أين لنا الاطلاع على ذلك كما قال الشيخ المذكور، وللمترجم تواليف "وصلة الزلفي" و"بذل المناصحة" وتأليف في التعريف بالعشرة المبشرين، وبآل بدر، وغالب كلامه في الزهد والورع. توفي سنة 1046 ست وأربعين وألف عن ست وخمسين سنة رحمه الله.
736- إبراهيم بن إبراهيم بن حسن اللقاني 1:
له سعة اطلاع في الفقه والفتوى والحديث، وله التآليف المفيد كمنظومته في العقائد، وحاشيته على مختصر خليل، وغيرها في فنون شتى، متفق على جلالته ولم يكن أحد من أهل عصره مثله تلاميذ. توفي سنة 1041 إحدى وأربعين وألف.
737- أبو بكر بن مسعود المراكشي مفتي المالكية بدمشق:
ولد بمراكش، وقرأ بمصر، له مشاركة، وتولى تدريس الغزالية. توفي سنة 1032 اثنين وثلاثين وألف.
738- أبو القاسم بن محمد السوسي 2:
المغربي نزيل دمشق، ومفتي المالكية بها، فريد عصره في الفتوى، شهم
__________
1 إبراهيم بن إبراهيم بن حسن اللقاني المصري: خلاصة الأثر "1/ 6، 9"، واليواقيت الثمينة "1/ 85، 86"، وفهرس الفهارس "1/ 90".
2 أبو القاسم بن محمد السوسي المغربي: خلاثة الأثر "1/ 145"، واليواقيت الثمينة "1/ 100".(2/329)
غيور على الدين، مهاب لدى الحكام، مرجوع إليه في المشورة، حدث بالجامع الأموي، فانتفعوا به مع معرفته بالقراءات، له شرح على الشاطبية وعلى النشر. توفي سنة 1038 ثمان أو تسع وثلاثين وألف.
739- أبو الحسن علي بن عبد الواحد بن محمد بن أبي بكر الأنصاري 1
ينسب إلى سعد بن عبادة السجلماني الأصل السلوي الدار، ثم الجزائري نشأ بسجلماسة، وقرأ بفاس، ورحل للمشرق، فأخذ عن علماء مصر، واستوطن سلا، وبها نشر علمه، وألف تآليف كاليواقيت الثمينة نظم في قواعد المذهب، ونظائر الفقه على نسق منهج الزقاق، وقد من الله عليه بتملكه مخطوطا مع شرح أبي القاسم بالرباطي عليه بخط مؤرخ الرباط الضعيف، وشرح على المنهج المذكور، وتفسير لم يكمل، ونظم في السير، وشرح على التحفة، ونظم في الطب والتشريح والأصول، وغير ذلك وأثنى عليه في الصفوة، ونفح الطيب، والبدور الضاوية، وغيرها، وفي آخر أمره استوطن الجزائر.
قال العياشي: وهو عمدة أبي مهدي الثعالبي، وعنه أخذ كثيرا، وتوفي بها بالطاعون سنة 1054 أربع وخمسين وألف.
740- أبو مهدي عيسى السكتاني المراكشي 2:
مفتيها وقاضيها علامة نظار، خاتمة الكبار، أوحد علماء عصره قال تلميذه محمد بن محمد بن سليمان في فهرسته: إنه مجدد هذا القرن، وإنما ستر الله مقامه بالقضاء، درس التفسير، وجاء العلماء للأخذ عنه من أقطار بعيدة، له
__________
1 أبو الحسن علي بن عبد الواحد بن محمد بن أبي بكر الأنصاري السجلماسي: أبو الحسن، السجلماسي، الجزائري، الأنصاري، مات سنة 1057:
شجرة النور الزكية "308"، خلاصة الأثر "3/ 173".
2 أبو مهدي عيسى السكتاني المراكشي: خلاصة الأثر "3/ 235، 236".(2/330)
مؤلفات، منها حواشيه على أم البراهين للسنوسي. توفي سنة 1062 اثنتين وستين وألف وقد أناف على المائة.
741- أبو الحسن علي الأجهوري 1:
المصري أحد شيوخ الفقه والتصوف، والعلوم العربية شيخ المالكية في الدنيا بوقته، بذاك وصفه العياشي في رحلته. شرح مختصر خليل بشرح حفيل، استمد منه كل من جاء بعده على ما فيه من أغلاط اعتنى المغاربة بتصحيحها، وحاشية عليه لطيفة في نحو عشر كراريس من الله علي بملكها. وله شرح على الرسالة في تآليف أخرى. توفي سنة 1066 ست وستين وألف عن نحو مائة سنة.
742- سعيد قدورة بن إبراهيم التونسي 2:
الأصل الجزائري المولد والدار، عالم القطر الجزائري في وقته وإمامه، ومسنده ونحريره، وخاتمة محققيه ومحدثيه، يدل لذلك ما في فهرسة تلميذه محمد بن محمد بن سليمان الواسعة، وله عدة مؤلفات منها شرحه على السلم مطبوع. توفي سنة 1066 ست وستين وألف.
743- أبو عبد الله محمد بن أحمد ميارة 3:
بفتح الميم وتشديد المثناة تحت، الفاسي دارا وقرارا، فقيه متفنن ألف كتبا مفيدة كشرحيه على المرشد المعين، وشرح التحفة لابن عاصم، ولامية الزقاق، وهي مطبوعة بفاس، وبعضها بمصر، واختصر شرح الحطاب على المختصر وبدأ
__________
1 أبو الحسن علي الأجهوري المصري: خلاصة الأثر "4/ 157، 160"، وفهرس الفهارس "2/ 171، 173".
2 سعيد قدورة بن إبراهيم التونسي: تعريف الخلف "1/ 62"، واليواقيت الثمينة "1/ 162، 163".
3 أبو عبد الله محمد بن أحمد ميارة الفاسي الدار: معجم المؤلفين "9/ 14".(2/331)
في آخر مطول، فلم يكمل، وله تكميل منهج الزقاق، وتآليفه محررة سهلة فصيحة مقبولة لدى الفكر العام المغربي وغيره. توفي سنة 1072 اثنتين وسبعين وألف.
744- أبو مهدي عيسى بن محمد الجعفري 1:
الثعالبي الهاشمي الزينبي المغربي الجزائري: نزيل مكة هو من نسب سيدي عبد الرحمن الثعالبي السابق، وعندي إجازة بخطه نسب نفسه هكذا الثعالبي الجعفري، وقال في الصفوة: الثعالبي نسبة إلى وطن الثعالبة من عماله الجزائر، الجعفري نسبة لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، إمام الحرمين، وعالم المغربين والمشرقين.
ولد بزواوة2 وبها نشأ، وقرأ بها، وفي الجزائر على سيدي سعيد قدورة وغيره، وأخذ بمصر عن أعلامها، وأخذوا عنه وكذا بالحرمين وتونس وغيرها، وشارك في العلوم الكثيرة وقد أثنى عليه العلماء كثيرا من أقرانه وتلاميذه، منهم العياشي في رحلته حتى قال: لو قيل إن أشياخه كانوا يستفيدون منه أكثر مما يفيدونه ما بعد، وله مؤلفات توفي بمكة سنة 1080 ثمانين وألف.
745- أبو العباس أحمد الحارثي بن أبي بكر الدلائي 3:
من آل أبي بكر الصديق، وبيت الدلائيين بيت علم وسياسة أصحاب ملك
__________
1 أبو مهدي عيسى بن محمد الجعفري الثعالبي الهاشمي الزينبي المغربي الجزائري: أبو المهدي، الجعفري، الهاشمي، الثعالبي، الجزائري، المغربي، جار الله، ولد سنة 1020، مات سنة 1080:
أعلام الجزائر ص"127"، معجم المؤلفين "8/ 33"، خلاصة الأثر "3/ 240"، تعريف الخلف "1/ 82"، شجرة النور الزكية "311".
2 زواوة: قبيلة من أكبر قبائل البربر ما بين الجزائر وبجاية جبلية وبها قرى كثيرة. ا. هـ. المؤلف.
3 أبو العباس أحمد الحارثي بن أبي بكر الدلائي: اليواقيت الثمينة "1/ 33".(2/332)
المغرب وزوايتهم بتادلا، وكم كان فيهم من عالم ماهر. كان هذا السيد عالما كبيرا له شرح على مختصر ابن الحاجب وفتاوٍ وغيرها. توفي بفاس بعد الثمانين وألف 1080.
746- أبو سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي 1:
الفاسي الإمام الرحال، صاحب الرحلة المشهورة، ذات الفوائد المشكورة، أخذ عن شيوخ في المغرب ومصر والحجاز، له مؤلفات كمنظومته في البيوع وشرحها، وكتاب الحكم بالعدل والإنصاف في المقلد، وغير ذلك ورحلته مطبوعة بفاس دالة على فضله وباعه. توفي سنة 1090 تسعين وألف.
747- محمد بن سعيد المرغتي 2:
السوسي3 نزيل مراكش وإمام جامع المواسين بها، إمام عالم محدث مفسر، عارف بالعربية وغيرها والتنجيم والفلك، بحر لا ساحل له، انتهت إليه رياسة العلم ببلده وزمانه، مكثر من قراءة كتب الحديث، وتخرج عليه عدد لا يحصى، وله كرامات وأحوال طيبة، له منظومة في الفقه، وأخرى في النحو، وأخرى في التنجيم، وأخرى في التصوف، وأخرى في الوفق المخمس الخالي الوسط، وله منظومة وشرحها بشرحين في التوقيت وشهور العام، لها شهرة في المغرب.
ومن فتاويه التي شذ فيها أن القبور التي بداخل أسوار المدن لا حرمة لها،
__________
1 أبو سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياش الفاسي: اليواقيت الثمينة "178"، وفهرس الفهارس "2/ 211".
2 محمد بن سعيد المرغتي السوسي: المرغتي، ولد سنة "1007"، مات سنة "1089":
فهرس الفهارس "2/ 554"، والحاشية.
3 المرغتي نسبة إلى مرغتة، بفتح الميم وسكون الراء وكسر الغين المعجمة مداشر في عداد الأخصاص بسوس الأفضل قاله في "الصفوة".(2/333)
ويجوز نبشها؛ لأن المدينة حبس على الأحياء، وأنى له أن يثبت هذه المقدمة. كان شاعرا منشئا. توفي بالطاعون سنة 1090 تسعين وألف، وفي الصفوة سنة 1089.
748- أبو محمد عبد القادر بن علي الفهري 1:
الفاسي شهرة ودارا علامة المغرب، وشيخ مشايخه، ومسنده مشارك محقق، انتهت إليه رياسة الفتوى بالديار المغربية مع نزاهة وتمسك بالسنة، وبعد الصيت إلى الشموخ المجد في العلم وتأثل المكانة فيه، ورثوه وأورثوه عن الآباء للأبناء الأحفاد، له فقهية وعقيدة شهيرة، وتأليف مختصر في الأصول، وفتاوي وحواشي على الصحيح، الكل مطبوع بفاس. توفي سنة 1091 إحدى وتسعين وألف.
749- محمد بن محمد بن سليمان السوسي الروداني 2:
نزيل الحرمين، الإمام الجليل، المحدث المتفنن في كل علم كان بوقته، بل فرد الدنيا في العلوم المالك لمجهولها ومعلومها كذا حلاه في "الخلاصة" وأطنب في وصفه ولد بتارودانت عام 1037 سبعة وثلاثين وألف، وأخذ العلم بالمغرب والجزائر وتونس ومصر والحرمين والشام، وله رحلة واسعة وأسانيد عالية بينها في فهرسته العجيبة، رتب الكتب التي رواها على حروف المعجم، وهي عندي من أعجب الفهارس في مجلد بخط ولده سماها "صلة السلف بموصول الخلف" وبمطالعتها يعلم فضل الرجل.
__________
1 أبو محمد عبد القادر بن علي الفهري الفاس علامة المغرب: أبو السعود، الفاسي، الفهري، ولد سنة "1007"، مات سنة "1091":
فهرس الفهارس "2/ 763"، معجم المؤلفين "5/ 295".
2 محمد بن محمد بن سليمان السوسي الروداني: السوسي، الروداني، المغربي، المالكي، مات سنة "1094":
خلاصة الأثر "4/ 304".(2/334)
ولقد أوتي خيرا كثيرا، وعليها اعتمد من أتى بعده من أصحاب الفهارس الممتعة، وله الجمع بين الكتب الخمسة والموطأ على طريق ابن الأثير إلا أنه استوعب الروايات ومختصر التحرير لابن الهمام في أصول الحنفية وشرحه، ومختصر تلخيص المفتاح وشرحه، ومختصر في الهيئة، وحاشية التسهيل، وحاشية التوضيح، وجدول جمع فيه العروض، ومنظومة في الميقات وشرحها، واخترع كرة فلكية عظيمة فاقت السكرة القديمة، وقد أشبع القول في وصفها أبو سالم العياشي في رحلته، وأعجب باختراعها، وذكر بعض رسالة المترجم في كيفية العمل بها، وما هو مصور فيها من الدوائر والرسوم.
وذكر أنه كان صناعا يتقن عدة صنائع بيده يتقوت منها، فلا يأكل إلا الحلال كالطرز العجيب والتسفير والخرازة والصياغة وجبر قوارير الزجاج المكسرة، وعمل الإسطرلاب وغيرها، وله في علوم الأدب النهاية، وكان في المنطق والحكمة والطبيعي والإلاهي الأستاذ الذي لا تنال مرتبته بالاكتساب، ويتقن الرياضيات كإقليدس والهيئة والمجسطي والمخروطات والمتوسطات وأنواع الحساب والمقابلة والإرتماطيقي وطريق الخطأين والموسيقى والمساحة معرفة لا يشاركه فيها أحد إلا في ظواهرها دون الدقائق والحقائق، وله في التفسير وأسماء الرجال والعربية يد طولى مع حفظ التواريخ وأيام العرب وأشعارهم والمحاضرات، وكان في الرمل والأوفاق وعلم سر الحرف والسيميا والكيميا حاذقا أتم الحذق، وحصل له في الحرمين شهرة عظيمة حتى عد إمامهما ومع ذلك نفس عليه أمير مكة، فأخرجه منها إلى المدينة المنورة ثم أخرج منها أيضا للشام وبها توفي سنة 1094 أربع وتسعين وألف ورثاه علماء وقته. انظر الخلاصة والصفوة ورحلة العياشي.
ومن فتاويه التي شذ فيها أن مصنوعات الصوف التي تجلب من الروم جوخا رائقا شبيها بالحرير في نعومته نجس لا تصح به الصلاة، وهو لباس علماء المشرق إذ ذاك محتجا بأنه استيقن الخبر من أهل البلد المجلوب منه أنه منتوف من الغنم وهي حية، وأن ذلك سبب نعومته وحسن لونه، فيكون نجسا، وراجعه علماء(2/335)
عصره، فصمم على ذلك فكان سبب وحشة حصلت له منهم ومن غيرهم.
750- أبو زيد عبد الرحمن بن عبد القادر الفهري 1:
الفاسي حافظ وقته، المتفنن في المعقول والمنقول لقبه والده بسيوطي زمانه، له تواليف كثيرة تنيف عن مائة في فنون شتى منها الأقنوم، أتى فيه بحدود نحو مائة وخمسين علما، وله جزء نظم فيه النوازل التي جرى بها عمل فاس بالحكم بقول ضعيف نحو ثلاثمائة مسألة، وأقبلوا عليه على ما فيه في بعض المواضع من عدم التحرير وشرحه هو بنفسه، ثم شرحه أبو القاسم بن سعيد العميري وغيره توفي سنة 1096 ست وتسعين وألف.
751- يحيى بن محمد بن محمد النائلي الملياني 2:
الجزائري علامة القطر الجزائري الرحلة هو في الفقه إمامه وفي الأصول والعربية والبيان والتفسير وغيرها تتقدم الأعلام أعلامه، ولد بمليانة، وتربى بالجزائر، وقرأ بهما على أعلامها كسعيد قدوره وغيره الحديث والفقه وغيرهما، وعن علماء مصر كالبابلي والشبراملسي وغيرهما، وتصدر بالأزهر، فانتفع به أهلها، وكذا في الشام ثم في الروم، وحضر الدرس الذي تجتمع فيه العلماء للبحث بحضرة السلطان العثماني، فاشتهر علمه، ثم رجع لمصر، واشتغل بالتأليف فألف مؤلفات في الفقه وغيره كشرح أم البراهين، وشرح التسهيل، ومؤلف في النحو لطيف وغيرها، وسافر آخر أمره للحج، فمات بالطريق سنة 1096 ست وتسعين وألف، وبعد دفنه حمل لمصر وأقبر بها رحمه
__________
1 أبو زيد عبد الرحمن بن عبد القادر الفهري الفاسي: أبو زيد، الفاسي، الفهرين المالكي، ولد سنة "1040"، مات سنة "1096":
معجم المؤلفين "5/ 145"، التقاط الدرر "1/ 230".
2 يحيى بن محمد بن محمد النائلي الملياني الجزائري: خلاصة الأثر "4/ 486، 488"، وفهرس الفهارس "2/ 446".(2/336)
الله.
752- الشيخ عبد الباقي بن يوسف الزرقاني 1:
بيتهم بيت علم بمصر شهير أبوه وجده وولده وغيرهم، له تواليف مفيدة أجلها شرحه مختصر خليل، الذي نسخ ما قبله من الشروح، ولخصها وبالغ في الاختصار، وجمع الفروع، ولم ينقحه من كثير من الأغلاط، لذلك اعتنى به المغاربة وتتبعوه. توفي سنة 1099 تسع وتسعين وألف.
753- أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي 2:
المعروف بيتهم بأولاد صباح الخير، فقيه صالح فاضل مصري شهير، أول من تولى مشيخة الأزهر، وانتهت إليه رياسة مصر حتى لم يبق بها إلا تلاميذه، واشتهر في بلاد الإسلام كلها لصلاحه وورعه، له شرحان على المختصر طبع أصغرهما بفاس وبمصر، واعتنى المغاربة والمشارقة بالتحشية عليه، وله غيرهما. توفي رحمه الله سنة 1101 إحدى ومائة وألف، وفي "الصفوة" اثنتين ومائة وألف.
754- الشيخ أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي 3:
نسبة إلى "آيت يوسي" قبيلة بربرية قرب فاس، إمام فقيه أصولي لغوي أخباري أديب شاعر نظار مشارك ماهر في الفنون، انتهت إليه الرياسة الكبرى في
__________
1 عبد الباقي بن يوسف الزرقاني: توفي سنة "1099":
خلاصة الأثر "2872"، اليواقيت الثمينة "1/ 238، 239".
2 أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي: أبو عبد الله، الخراشي، البحيري، المصري المالكي، مات سنة "1110":
معجم المؤلفين "10/ 210، 211"، والحاشية.
3 أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي: فهرس الفهارس "2/ 464، 470"، واليواقيت الثمينة "1/ 133، 135".(2/337)
العلم في زمنه، وله شهرة ذائعة في المغرب والمشرق كشهرة تواليفه التي منها القانون في العلوم، وحواشي على مختصر السنوسي في المنطق، وأخرى على السنوسية، والمحاضرات، الكل مطبوع، وله ديوان شعر طبع أيضا دال عارضة واتساع فكر واطلاع. ترجمه في صفوة من انتشر وغيرها، وله فتاوٍ فقهية كثيرة، وشرح على جمع الجوامع في الأصول لم يكمل وتواليف في فنون. توفي رحمه الله الله سبنة 1102 اثنين ومائة وألف، ويعتبر مجددا على رأس المائة الحادية عشرة.
755- أبو عبد الله محمد فتحا بن عبد القادر الفاسي 1:
إمام نقاد مشارك في العلوم بالغ فيها رتبة الكمال، ناشر لها تدريسا وتأليفا، له شرح مختصر "الحصن الحصين" وغيره، توفي سنة 1116 ست عشرة ومائة وألف.
756- محمد بن عبد الباقي الزرقاني 2:
المصري الأزهري الإمام الفقيه المحدث صاحب شرح الموطأ، والمواهب، وغيرهما علامة متقن نحرير توفي سنة 1128 ثمان وعشرين ومائة وألف.
757- أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد بردلة 3:
الأندلسي ثم الفاسي مولدا ووفاة علامة مشارك شيخ الجماعة بها مشار إليه بالتحقيق والإتقان تولى القضاء والفتيا، والنظارة على الأحباس بها مرارا،
__________
1 أبو عبد الله محمد فتحا بن عبد القادر الفاسي إمام نقاد: دليل مؤرخ المغرب "96، 97".
2 محمد بن عبد الباقي الزرقاني المصري الأزهري: أبو عبد الله، الزرقاني المالكي، المصري، ولد سنة "1055"، مات سنة "1112":
فهرس الفهارس "1/ 456"، والحاشية، ومعجم المؤلفين "10/ 124، 125"، والحاشية، شجرة النور الزكية "317".
3 أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد بردلة الأندلسي ثم الفاسي: دليل مؤرخ المغرب "490".(2/338)
وكان موصوفا بالنزاهة والعدل في الأحكام، ممن كان يدرس المدونة وخليلا والبخاري وغيرها، له أجوبة فقهية دالة على اتساع معلوماته. توفي سنة 1133 ثلاث وثلاثين ومائة وألف.
758- أبو عبد الله محمد بن أحمد المسناوي 1:
البكري الدلائي الفاسي دارا شيخ الإسلام وشيخ الجماعة، الإمام الصدر الكبير المبرز في المعقول والمنقول الذي سارت فتاويه في المغرب كالمثل السائر، جمعها الفقيه ابن إبراهيم مع فتاوي شيخه محمد بن عبد القادر الفاسي، وله رسالة سماها نصرة القبض أبدأ فيها وأعاد، ولخص بعضها بناني في حواشي الزرقاني على أن كثيرا من حاشيته هذه وحاشية التاودي مأخوذة من طرر المسناوي هذا، وله تواليف أخرى في فنون، وهو ممن نسب إليه أنه ادعى الاجتهاد، وأنه لحقيق به في وقته، وبيت الدلائيين شهير في المغرب لكثرة من تخرج منهم من الأئمة الكبار، ولكن لما دخل بيتهم الرياسة السياسية قضت على آثارهم بذهابها فقضى من خلفهم على سلفهم. توفي سنة 1136 ست وثلاثين ومائة وألف.
759- أحمد بن أحمد بن محمد الشدادي 2:
الفاسي متبحر في العلوم فقها وحديثا وعربية، مرجوع إليه في المشكلات والنوازل تصدى للتدريس بفاس وغيرها من حواضر المغرب وبواديه، وتولى قضاء فاس وغيرها، وله فتاوٍ، وشرح لامية الزقاق، وقيد على التحفة. توفي سنة 1140 أو ست أوربعين ومائة وألف.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن أحمد المسناوي البكري الدلائي الفاسي: دليل مؤرخ المغرب "105، 106".
2 أحمد بن أحمد بن محمد الشدادي الفاسي: أخبار مكناس "1/ 341، 343"، واليواقيت الثمينة "1/ 46".(2/339)
760- أبو بكر بن عبد الرحمن الحجوي القندوسي:
هذا السيد الجليل هو أبو بكر بن عبد الله بن محمد ضما بن محمد فتحا بن علي بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن الحجوي الجعفري الزينبي القندوسي هكذا بخطه في إجازته للعلامة التهامي بن المكي الرحموني الفاسي، قال الرحموني في كناشته: ولد شيخنا المذكور سنة 1113 ثلاث عشرة ومائة وألف منسلخ محرم، وذكر في الإجازة المذكورة أنه رحل في طلب العلم في المغرب والمشرق مراكش وفاس وسوس وذرعة وسجلماسة والجزائر وتونس ومصر والحرمين الشريفين والشام واليمن وإستامبول والترك والعراق والبصرة وواسط، فأخذ عن أعلامها وأكابر أئمتها، وحصل على علوم جمة من نحو وعربية وأدب، وفقه وحديث وتفسير، وبيان ومنطق وكلام، وأصول وعروض وسير، وتصوف وتاريخ ونسب وطب وغير ذلك، فصار في البلاد مقصودا، وبلسان أهل العلم محمودا ومن الأئمة الأعلام معدودا، ومد الله له في الأجل، فأدرك سنا عالية، فقصده الأعلام للاستفادة والإجازة، وممن استجازه الرحموني المذكور، وذكر نص إجازته في كناشته، وأوقفني عليها منقولة في كناشته أخونا في الله النابغة البحاث الشيخ عبد الحي الكتاني نقلها من خط الرحموني وأصلها عنده.
وقد ترجمه الرحموني بما سبق، وقال: إنه توفي منتصف محرم سنة 1244 أربعين وأربعين ومائتين وألف عن إحدى وثلاثين ومائة، وأفادني الشيخ محمد الأعرج رئيس زاوية محمد بن بوزيان القندوسي وآخره محمد المصطفى مكاتبة أن والد الشيخ المذكور وهو عبد الرحمن الذي دخل من ذرعة إلى القنادسة في القرن الحادي عشر آخره، وبقي للقرن الثاني عشر حيث أناف على التسعين.
أخذ الطريق عن الشيخ محمد بن بوزيان، عن مبارك بن عزي الينبوعي ثم السجلماسي عن محمد بناصر الذرعي كان عالما عابدا موصوفا بالخير، مشهورا بالصلاح نشر طريقته بتلك الأصقاع، ولا زالت زاويته هناك مشهورة بزاوية(2/340)
الحجوي إلى الآن، ثم سلك ولده أبو بكر المترجم طريق والده في نشر العلم والدين والإرشاد، وسلوك الطريق، وكان مثله صالح الأحوال، زكي الخصال، دءوبا على فعل الخيرات، مقصودا لنفع العباد إلى أن توفي، ولا زال قبره مشهورا يزال والعامة تقصده للاستشفاء من الحمى ليومنا هذا على عادتهم1.
وقد خلف ولدا وهو محمد بن حسين، وهذا عقب من ولده أبي بكر، وكل منهما كان في سنن أسلافه في صلاح الحال والإرشاد، ونفع العباد، وكان أبو بكر الحفيد هذا مقرئا كبيرا مقصودا في الأصقاع الصحراوية لأخذ القرآن، وعنه تخرج الجم الغفير من القراء إلى أن توفي، وخلف أولاده الذين هم قائمون بالزاوية المذكورة لهذا العهد على سنن أسلافهم الأطهار.
هذا مضمون الكتابة المذكورة وقوله في النسب الجعفري نسبة إلى جعفر الطيار بن أبي طالب شهيد مؤتة صنو علي كرم الله وجهه، والزيبني نسبة إلى زينب بنت علي وفاطمة أخت الحسين وهي زوج عبد الله بن جعفر المذكور، وقد بين ذلك الشيخ أحمد بن خالد الناصري السلوي في كتابه "طالع المشتري في النسب الجعفري" كما سبق.
فالمترجم هو من قبيلتنا حجاوة النازلين بالصقع الصحراوي من الثعالبة وهؤلاء منهم الثعالبة من عرب معقل قال الناصري: هم جعفرة صرحاء من ذرية جعفر المذكور، وقد رد بحجج قاطعة على ابن خلدون الذي زعم أن الطالبيين
__________
1 وهي بدعة منكرة، وواجب العلماء أن يبينوا نبوها عن الإسلام، وأن الاستشفا إنما يكون من الله تعالى بدعائه بأسمائه الحسنى واللجوء إليه، والاستعانة به وبتعاطي الدواء الذي هو سبب الشفاء، فقد أخرج البخاري في صحيحه "10/ 113"، بشرح "الفتح" من حديث أبي هريرة مرفوعا: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" وخرج مسلم "2204" من حديث جابر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله" وفي حديث أسامة بن شريك مرفوعا: "تداووا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحد هو الهرم" أخرجه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وهو كما قالوا.(2/341)
والهاشميين لم يكونوا أهل بادية ونجعة، ولا شك في سقوط هذه الحجة، فكم من أهل حضر صاروا بدوا وبالعكس، ولا زلنا نعاين ذلك بوقتنا هذا لا سيما مع الحوادث التي أوجبت عليهم ذلك زمن بني أمية وبني العباس، وعلى كل حال الناس مصدقون في أنسابهم، وأن هذه الفرقة وهم الثعالبة من عرب معقل ينتسبون إلى جعفر وإلى زينب سبطة الرسول عليه السلام.
قال في "زهر البستان في أخوال المولى زيدان" نقلا عن ابن خلدون: لما غلب أبو الحسن المريني على ممالك بني عبد الواد بتلمسان وأرض الجزائر نقل منه الثعالبة الذين كانوا ببسيط متيجة من عمالة الجزائر إلى المغرب ما بين فاس ومكناسة. ا. هـ. بخ وعند دخولهم تفرقوا ففرقة ذهبت لذرعة، وفرقة توجد بدواخل الصحراء بأرض الملثمين لهذا العهد، وفرقة ذهبت ما بين فاس ومكناسة، ولكن محلها الآن هو ضفة نهر سبوا بمشرع الحجر الواقف مقابل أرض الشراردة، ونسبتهم الثعالبة مشهورة لا يعرفون إلا بها، ولا ينازعون في ذلك، ومنهم الإمام أبو زيد عبد الرحمن الثعالبي دفين الجزائر، والإمام أبو مهدي عيسى الثعالبي دفين مكة، وقد تقدم ذلك في ترجمتيهما.
وأسلافنا قد انتقلوا قديما من الصحراء إلى فاس، وتوطنوا بها، ثم رحلهم المولى إسماعيل إلى تازة لفتنة كانت بفاس، ثم رجع الجد رحمه الله ثانيا إلى فاس حول 1280.
761- أبو عبد الله محمد يعيش بن الرغاي:
بتشديد المعجمة وسكون الياء آخره الشاوي أصلا الفاسي دارا وقرارا، فقيهها وقاضيها، إمام شهير مشارك حافظ للمذهب نقاد، سارت فتاويه سير الشعاع في البلاد، ولي قضاء تازا وإفتاء زرهون وتدريسها، ثم قضاء فاس، وخطابة القرويين، وحمدت سيرته وعدله، له تآليف، منها حواشيه على شرح مياره على التحفة، وكان صلبا في الحق، وبسبب ذلك دخل اللصوص عليه منزله بالدوح، وقتلوه وهو يقاتلهم عن حريمه إذ كان الزمن زمن فتنة سنة 1150(2/342)
خمسين ومائة وألف.
762- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد التماق الأندلسي الغرناطي أصلا الفاسي:
منشأ ودارا يلقب أهله قديما بأولاد السراج، وبيتهم بالأندلس من أشهر البيوتات في العلم والرياسة، علامة فهامة يتقد ذكاء وفطنة، محقق مالك أزمة التعبير عما يريد، واعية محرر جامع لأشتات العلوم، لا يأكل إلا من عمل قلمه، وألزم بالتدريس ونفع العامة عن إكراه، ثم ولي القضاء والخطابة بعد طول امتناع، فأظهر العدل والتحري والورع والمشاورة، وأخر من سنته من غير ريبة، له حواشي على شرح الحصن الحصين، و"إزالة الدلسة عن أحكام الجلسة" وهي ما يسمى بالكراء على التبقية، ويقال: الزينة والجزاء، و"جمع الأقوال في لبس السروال" وله أسئلة مشتملة على مباحث شريفة رفعها لأشياخه وأجوبة ما كان يرفع إليه أكابر الأشياخ وأخرى من نجباء وقته، وأبحاث على التحفة، واللامية، والعمليات لشيخه أبي زيد الفاسي، وكان يدرس هذه المنظومات والموطأ والرسالة وغير ذلك. توفي سنة 1151 إحدى وخمسين ومائة وألف.
763- أحمد بن مبارك:
وبه عرف ابن محمد بن علي السجلماسي1 اللمطي الصديقي إمام متبحر نظار صرح بنفسه أنه أدرك الاجتهاد، وله تآليف، منها الإبريز في مناقب الشيخ عبد العزيز الدباغ، انتقدت عليه فيه أمور، كما حرر فيه مسائل لا يستهان بها، لكني وقفت له على ثبت أجاز فيه أحمد المكودي شيخ الإفتاء بتونس ذكر فيه تواليفه، ولم يذكر الإبريز مؤرخ سنة 1143 ثلاث وأربعين توفي سنة 1155 خمس وخمسين ومائة وألف، وفي تاريخ الضعيف سنة 1156 بالوباء.
__________
1 أحمد بن مبارك وبه عرف بن محمد بن علي السجلماسي: اليواقيت الثمينة "1/ 47، 51"، وسلوة الأنفاس "2/ 203، 205".(2/343)
764- أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بناني 1:
الفاسي دارا وقرارا، إمام محقق مشارك، مفتي فاس وأديبها وعالمها، له شرح على الاكتفاء للكلاعي في ستة أسفار، وشرح لامية الزقاق في الفقه، واختصار الشهاب على الشفاء، وشرح حزب الشاذلي، وقفت عليه وآخر على المشيشية، وآخر على خطبة مختصر خليل، وشرحان على منظومة أبي زيد الفاسي في الإسطرلاب عندي أحدهما، وتكميل شرح حدود ابن عرفة في الفقه، وشرح على خطبة الألفية وقفت عليه، وفهرسة لشيوخه وفتاوٍ وغير ذلك، ولم تقم له الفتوى ولا التدريس بضرورياته، فإنه رحل عام المسغبة لتطوان. فرتب له عاملها مرتبا، فاشتغل فيها بالتدريس، ثم رجع لفاس، وتوفي سنة 1163 ثلاث وستين ومائة وألف عن نحو ثمانين سنة، وما ذكره الضعيف من كونها سنة اثنين وتسعين غير محرر، وقوله: إنه المحشي على الزرقاني ليس بصواب.
765- أبو عبد الله محمد بن عبد الصادق الدكالي 2:
الفرجي مفتي فاس وخطيبها، له شرح على مختصر خليل وآخر على نظم ابن عاشر، وغير ذلك، وكان ينوب عن شيخه يعيش الرغاي في الفضاء توفي سنة 1175 خمس وسبعين ومائة وألف.
766- أبو العباس أحمد بن عبد العزيز الهلالي 3:
السجلماسي دفين مدغرة قرب سجلماسة، النظار المتبحر الفقيه اللغوي،
__________
1 أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بناني الفاسي: أبو عبد الله، البناني، الفارسي، المالكي، مات سنة "1163":
معجم المؤلفين "10/ 168"، فهرس الفهارس "1/ 224".
2 أبو عبد الله بن محمد بن عبد الصادق الدكالي الفرجي: معجم المؤلفين "10/ 72".
3 أبو العباس أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي: اليواقيت الثمينة "19، 20"، فهرس الفهارس "2/ 421".(2/344)
له مشاركة في الفنون، وله شرح على المختصر لم يكمل طبع ما وجد منه لو كمل لأغنى عن غيره، وله شرح على خطبة القاموس واصطلاحه، وله رسائل في مسائل علمية، ومن أجل تآليفه شرحه لمنظومة القادري في المنطق طبع بفاس قل أن يكون له نظير استقى من بحره من أتى بعده.
توفي سنة 1175 خمس وسبعين ومائة وألف.
767- أبو العباس أحمد بن حسن بن محمد المكودي:
المعروف بالورشاني شهاب الدين الفاسي نزيل تونس، ورئيس إفتاء المالكية بها وعالمها ومسندها، أخذ عن أحمد بن مبارك اللمطي بفاس، وبه تخرج، وعندي إجازته له، وثبته المشتمل على أسانيده سنة 1143 وقد حلاه فيها بقوله: الفقيه الوجيه المدرس النزيه صاحب الفهم الغواص الذي يعجز عنه كثير من الخواص، وقال: إنه تردد لدروسه الزمن الطويل إلى أن قال: كامل القريحة والهمة، محصلا لأسباب تحصيله المهمة مع جودة الفطنة، وثقوب الفهم، وسلامة الإدراك من غلبة الوهم العارضة لأهل الطيش والخفة الذين يعتمدون أول ما يتلمح لهم، فيخطفون المسائل خطفة فيخطئون أكثر مما يصيبون، ويفسدون أكثر مما يصلحون إلخ.
وقد كان المذكور من أعيان المدرسين بتونس وممن يرجع إليهم في مهمات المسائل، عارفا بالعلوم الشرعية التي أهلته لنيل أعلى مقام في رياسة الديوان الشرعي المالكي بتونس، وكان من مهرة العلوم العربية درس مغني ابن هشام والشمسية بشرح القطب، والتسهيل بشرح الباشي، وغير ذلك.
توفي سنة 1169 تسع وستين ومائة وألف.(2/345)
768- أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس 1:
الفاسي أصلا ودارا فقيه محقق مشارك له شرح على المختصر في تسعة أسفار، وشرح على الرسالة مطبوع بفاس، وآخر على شمائل الترمذي مطبوع بمصر، وشرح على توحيد ابن عاشر مطبوع بفاس وله غيرها. توفي سنة 1182 اثنتين وثمانين ومائة وألف.
769- أبو العلاء إدريس بن محمد بن إدريس العراقي 2:
الحسيني الحافظ، وأحد أركان الدين المتبحرين، وأعلم أهل وقته بصنعة الحديث، وله فيه التآليف المفيدة كمستدركه على الجامع الكبير للسيوطي اشتمل على نيف وخمسة آلاف حديث، وشرح الشمائل، وشرح الثلث الأخير من الصغاني، وغيرها، وله طرر على هوامش كتب الحديث كالجامع الكبير والشفاء والقضاعي وغيرها، أخذ عن والده وعن علي الحرشي وغيرهما. قال فيه أبو حفص الفاسي: إنه أحفظ من ابن حجر العسقلاني، وأثنى عليه أشياخه كأحمد بن المبارك، ومحمد جسوس وغيرهم. توفي سنة 1183 ثلاث وثمانين ومائة وألف.
770- أبو حفص عمر بن عبد الله بن عمر بن يوسف الفاسي 3:
الفهري إمام نظام، وفقيه مكثار، له الاطلاع الواسع وإتقان العلوم بغير
__________
1 أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس الفاسي: مات سنة "1182":
سلوة الأنفاس "1/ 330، 331".
2 أبو العلاء إدريس بن محمد بن إدريس العراقي الحسيني الحافظ: فهرس الفهارس "2/ 199، 205"، واليواقيت الثمينة "1/ 96، 97"، وسلوة الأنفاس "1/ 141، 143".
3 أبو حفص عمر بن عبد الله بن عمر بن يوسف الفاسي الفهري: سلوة الأنفاس "1/ 337،=(2/346)
مدافع، وأظن أنه أعلم وأتقن علماء هذا البيت الفاسي الرفيع العماد، الكثير الأفراد، الذين خدموا العلم خدمة يشكرها لهم التاريخ على مر الأزمان مع عرفوا به من متانة الدين، الترسم برسوم الصالحين رحمه الله، له شرح على التحفة مهم عديم النظير دل على باعه وسعة اطلاعه، وشرح على الزقاقية، وفتاوٍ مهمة للعويصات المدلهمة، وله درجة عالية في الأدب ومشاركة نادرة وهو ممن وصف بالاجتهاد. توفي سنة 1188 ثمان وثمانين ومائة وألف.
771- الشيخ علي العدوي الصعيدي 1:
المصري عالم فاضل زكي الأحوال، له حواش كثيرة على الخرشي، وأبي الحسن المصري2 المنوفي على الرسالة وغيرها، أول من تولى مشيخة المالكية بالأزهر، وكان على قدم السلف في التقوى ونشر العلم. توفي سنة 1189 تسع وثمانين ومائة وألف.
772- أبو عبد الله محمد بن الحسن البناني 3:
الفاسي أصلا ودارا خطيب الضريح الإدريسي بها وإمامه، فقيه محقق مشارك، له حاشية على الزرقاني متقنة، وشرح على السلم في المنطق، الكل مطبوع دل على خبرة تامة، وقلم صارم مقوم، وله غيرها. توفي سنة 1194 أربع وتسعين ومائة وألف تاريخه: أدخله الله لجنته، وأرخوه أيضا بقولهم: جلال العلم غاب.
__________
1 علي العدوي الصعيدي المصري: لم يوجد عدوي إلا هذا، الشعراني الشروطي الصالحي العلوي البارع العدوي [ابن الكاكري] ولد سنة "646" مات "726".
الوافي الوفيات "22/ 105"، تنقيح المقال "2/ 1500" الدر الكامنة "3/ 188".
2 وما تقدم لنا في ترجمة أبي الحسن الصغير المغربي من أن له شرحا على الرسالة مطبوع هو غلط. فالشرح المطبوع هو لأبي الحسن علي بن محمد ثلاثا بن خلف المنوفي بلدا المصري مولدا المتوفي سنة "857": كما في حاشية الصعيدي. ا. هـ. "المؤلف".
3 أبو عبد الله محمد بن الحسن البناني الفاسي: سلوة الأنفاس "1/ 161، 164".(2/347)
773- أبو العباس أحمد الشريف الثعالبي الجعفري:
الشهير بالبرانسي أحد الأعلام، المفتين في المذهب المالكي بالقطر الجزائري من ذرية الإمام عبد الرحمن صاحب التفسير دفين الجزائر كان من المتبحرين تبحر الراسخين، سالكا نهج المهتدين، رئيس المفتين، عفيف لا تأخذه في الله لومة لائم، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر غير مكترث بأحد.
توفي سنة 1197 سبع وتسعين ومائة وألف.
774- عبد الكريم بن علي اليازغي أصلا الفاسي 1:
مفتي فاس وفقيهها في عصره، سارت فتاويه سير الشعاع، وله في ذلك شهرة ذائعة ومشاركة واطلاع، وصلابة في الحق، لا يزحزحه عن الحق شيء.
توفي سنة 1199 تسع وتسعين ومائة وألف.
775- أحمد بن محمد بن أحمد العدوي الشهير بالدردير 2:
شيخ الإسلام بمصر، وشيخ مشايخها، إمام في العلوم العقلية والنقلية، له شرح على المختصر، ومتن في الفقه أيضا، وشرحه وتآليف أخر في فنون، وله أخلاق علية وصراحة في الحق.
توفي سنة 1201 إحدى ومائتين وألف.
__________
1 عبد الكريم بن علي اليازغي الفاسي: أبو محمد، الذهني. مات سنة "1199":
فهرس الفهارس "2/ 115" والحاشية.
2 أحمد بن محمد بن أحمد العدوي: فهرس الفهارس "1/ 293" واليواقيت الثمينة "1/ 56، 57".(2/348)
776- الأمير أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل 1:
العلوي سلطان المغرب الأقصى، عالم السلاطين، وسلطان العلماء في وقته، إمام جليل، وجهبذ نبيل، أحيا من العلم مآثره، وجدد الدولة العلوية بعد أن كانت داثرة، جال بنفسه في المغرب، وتقرى قبائله، وعرف دخائله، وأيقن أن الدين قد كان أن يذهب من أهله باستيلاء الجهل على بطونه وقبائله، فألف لهم تأليفه على نسق رسالة ابن أبي زيد تسهيلا على العوام، ليصلوا من ضروريات دينهم إلى المرام، وهي عندي موجودة ومن ذخائري معدودة.
كما ألف بغية ذوي البصائر والألباب في الدرر المنتخبة من تأليف الإمام الحطاب، وله كتاب في الفقه مبسوط أيضا، وكتاب حديثي انتقى فيه من الأحاديث التي أخرجها الأئمة الأربعة في2 مسانديهم مالك أبو حنيفة الشافعي أحمد بن حنبل، ولم يستوعب كل ما فيها، وإنما اختار منها ومن الصحيحين والموطأ ما ظهر له من الأحاديث المتعلقة بالأحكام غالبا، فكان مجلدا متوسطا، وقال: إنه أول من أدخل المسانيد الأربعة للمغرب من الحرم الشريف يعني ما عدا الموطأ، وافتتحه بعقيدة رسالة ابن أبي زيد، وأتى بنخبة مما اتفق عليه الصحيحان، وخاتمه بمناقب آل البيت والخلفاء الراشدين وبقية العشرة، فذلك دليل ما كان له من الاعتناء بإحياء مراسم الدين وسنة جده سيد المرسلين مع ما كان عليه من حفظ الأوطان وتأييد علم الإيمان، كفتحه ثغر الجديدة، وتشييده ثغر السويرة، وسد الثغور، وإظهار الدولة في مظهر العز، وعدم الاتكال على الغرور.
وبالجملة، فقد كان من درر هذه الدولة الفاخرة وأنجمها الزاهرة، وقد كان سلفي العقيدة على مذهب الحنابلة، كما صرح بذلك في تآليفه، وغير خفي أن
__________
1 الأمير أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل العلوي سلطان المغرب: الاستقصا "4/ 91، 122".
2 مسند مالك قال في "كشف الظنون" هو للإمام النسائي، وتقدم ما يتعلق بمسند أبي حنيفة والشافعي في ترجمتيهما. ا. هـ. مؤلف.(2/349)
الحنابلة من أئمة السنة كالأشعرية والفرق قريب بينهما، وأهمه أن الحنابلة لا يخوضون بحر التأويل بل يفوضون في غالب المتشابه، ومن مآثره أنه كان يحض على قراءة كتب المتقدمين، وينهى عن المختصرات، ويرى الرجوع للكتاب والسنة، ولو عملوا برأيه، لارتقى علم الدين إلى أوج الكمال، وترجمته واسعة، ومحاسنه شاسعة، منها بناؤه مدرسة باب عجيسة بفاس، ومساجد وقناطر وغير ذلك. توفي رحمه الله سنة 1204 أربع ومائتين وألف.
777- أبو عبد الله التاودي بن الطالب بن سودة 1:
المري القرشي الأندلسي الأصلا، الفاسي دارا ومنشأ، فقيه محقق كبير مشارك، انتهت إليه رياسة العلم في المغرب إقراء وإفتاء، ألحق الأبناء بالآباء، وانفرد بعلو الإسناد حتى صار شيخ الشيوخ، والمحرز على قصب السبق في ميدان الرسوخ، وكثير من أسانيدنا في العلوم تدور عليه له رحلة إلى المشرق أخذ عن أعلام في مصر والحجاز، وأخذوا عنه، وله فهرسة جمعت أسماءهم وأسانيدهم، وله حاشية على الزرقاني المتقدم، وحاشية على صحيح البخاري، وشرح على تحفة الحكام لخصه من شرح ميارة وغيره، وشرح على لامية الزقاق في الأحكام كذلك أيضا، وشرح على جامع خليل، الكل مطبوع بفاس إلا الرحلة، وحاشية الزرقاني، وله غير ذلك. توفي سنة 1209 تسع ومائتين وألف.
778- أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم السجلماني ثم الرباطي 2:
صاحب شرح العمل الفاسي الذي حصل إكباب المفتين والقضاة عليه، وشرح "اليواقيت الثمينة" وغيرهما، وكان فقيها محررا نقادا، وكتبه تدل على
__________
1 أبو عبد الله التاودي بن الطالب بن سودة المري القرشي الأندلسي أصلا: عجائب الآثار "2/ 242".
2 أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم السجلماسي ثم الرباطي: "صاحب شرح العمل".(2/350)
باعه وواسع اطلاعه. توفي في أبي الجعد بالوباء يوم السبت حادي عشر شوال سنة 1214 أربع عشرة ومائتين وألف.
779- أبو عبد الله محمد بن أحمد بنيس 1:
فقيه متفنن متقن، له شرح على فرائض المختصر، وشرح على الهمزية. توفي بفاس سنة 1214 أربع عشرة ومائتين وألف.
780- أبو محمد عبد القادر بن أحمد بن العربي بن شقرون 2:
الفاسي علم راسخ، ومجد شامخ، وتحقيق وتدقيق ومشاركة في كل طريق، فضاض كل مشكل، ونور كل معقل. قاضي سجلماسة وفاس، حسن السيرة. توفي سنة 1219 تسع عشرة ومائتين وألف.
781- أبو عبد الله محمد الطيب بن عبد المجيد بن كيران 3:
عالم محقق نقاد، حامل لواء العلوم المعقولية في المغرب وقته، وحافظ متقن تفرد في وقته بالجمع بين علمي المعقول والمنقول، والفروع والأصول، يعرف أكثر الفنون على أنه مجتهد فيها لا مقلد، وهو ممن حصل رتبة الاجتهاد في زمنه كما وصفه بذلك في "الروض المعطار" وغيره أخذ عن التاودي بن سودة
__________
1 أبو عبد الله محمد بن أحمد بنيس: معجم المطبوعات "593".
2 أبو محمد عبد القادر بن أحمد بن العربي بن شقرون الفاسي: لم يوجد إلا "الكوهن الفارسي" هذا أبو محمد، الشهرة الكومن، مات سنة "1253".
فهرس الفهارس "1/ 490" معجم المؤلفين "5/ 1253".
3 أبو عبد الله محمد بن الطيب بن عبد المجيد بن كيران: أبو عبد الله، الفاسي، ولد سنة "1172"، مات سنة "1227":
معجم المؤلفين "10/ 109" والحاشية.(2/351)
وبناني وأنظارهما، وأخذ عنه الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحجرتي الذي هو شيخ بعض شيوخنا له تآليف مفيدة، كالتفسير الذي ليس له نظير من سورة النساء إلى حم غافر، وشرح توحيد المرشد، الذي حشى عليه شيخنا القادري، وشرح الخريدة في المنطق، وحاشية على توضيح ابن هشام، وشرح على حكم العطائية. تواليفه كلها تحقيقات وتحريرات ودرر وغرر، وهي أشهر بين طلبة المغرب من قام زيد.
توفي سنة 1227 سبع وعشرين ومائتين وألف عن خمس وخمسين سنة.
782- أبو العلاء إدريس بن زيان العراقي الحسيني الفاسي:
الحافظ المشارك سيبويه زمانه، أخذ عن الشيخ التاودي وطبقته وهو مذكور من رجال أسانيدنا الثقاة الجلة. توفي سنة 1228 ثمان وعشرين ومائتين وألف.
783- أبو عبد الله محمد فتحا بن أحمد الحاج الرهوني 1:
بضم الراء نسبة لرهونة قبيلة بجبال غمارة من المغرب الوزاني قرارا، أخذ العلم بفاس، وكان حافظا متقنا فقيها متفننا، له حاشية على الزرقاني لخص فيها ما زادته حاشية التاودي على بناني، ولكن لم يستوعب التلخيص، ويقال: إن نسخها مختلفة، واستعان أيضا بطرر شيخه أبي عبد الله محمد بن الحسن الجنوي الحسني الوزاني ثم التطواني، المتوفى بمراكش سنة 1200 مائتين وألف.
وهذه الطرر كانت له على الزرقاني والحطاب والمواق والشيخ مصطفى الرماصي والشيخ بناني، فلخصها الرهوني في حاشية المذكورة، وللرهوني تآليف أخرى غيرها، ولكن أهمها الحاشية دلت على فضله وتمكنه من علم الفقه.
__________
1 أبو عبد الله محمد فتحا بن أحمد الحاج الرهوني الوزاني: أخبار مكناس "4/ 181، 186".(2/352)
فضل تمكن، فلقد أجاد فيها كل الإجادة، وزاد على شيخيه المذكورين كثيرا، فأحسن الإفادة، وسلك في التحقيق طريقا صريحا، ومهيعا صحيحا، ينقل كلام المتقدمين الذي هو الأصل بلفظه مما دل على نشاطه في الاطلاع، وثقوب حفظه، وبسب ذلك فضح أغلاطا كثيرا وقعت لمن قبله في الاختصار والتلخيص أفسدوا بهما كلام المتقدمين، وغيروا الفقه عن مواضعه، فهي مما ادخره للمتأخرين، فكانت حجة على المتقدمين.
فجزاه الله خيرا عن عمله وحرية فكره، ووضوح طريق نقده، وأعانه على ذلك ما عثر عليه من الكتب المهمة في المذهب التي لم يظفر بها الأجاهرة ولا من ناقشهم كالرماصي وبناني والتاودي وأمثالهم، غير أن الحاشية طالت، فجاءت في ثمان مجلدات، لكونها تجلب في المعارك الكبرى نصوص المتقدمين بالحرف الواحد، ولذلك جاء شيخ شيوخنا الحاج محمد جنون، واختصرها بحذف النصوص، وحلاها بفوائد يأتي بغالبها أول الأبواب كأصل الباب من السنة أو الكتاب أو نحو هذا مما لا يخلو من فائدة، وقرب على المطالع ما عسى أن يطول عليه من استيعاب نقول الرهوني.
وقد طبع الاختصار بهامش الأصل. كان الرهوني من فقهاء وقته النظار، وممن تفتخر به الأعصار، دارت الفتيا عليه في المغرب، وكان ملجأ الملمات في النوازل والأحكام، توفي سنة 1230 ثلاثين ومائتين وألف.
784- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي 1:
المصري محقق عصره ووحيد دهره بالديار المصرية ذو الحواشي البديعة الفصيحة على الدردير شرح المختصر، وعلى السعد شرح التلخيص، وغيرهما. توفي سنة 1230 ثلاثين ومائتين وألف.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المصري: عجائب الآثار "4/ 231".(2/353)
785- أبو العباس أحمد بن التاودي بن سودة المري:
قاضي فاس ومفتيها ومن جلة علمائها، وهو من رجال سندنا في الحديث وغيره، له اليد الطولى في العلوم والصرامة في الحق وقد فوض إليه السلطان محمد بن عبد الله في جميع قضاة المغرب، فكان كقاضي القضاة. توفي سنة 1335 خمس وثلاثين ومائتين وألف عن اثنتين وثمانين سنة.
786- أبو محمد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد السنباوي 1:
الشهير بالأمير المغربي الأصل المصري الإمام الشهير، ذائع الصيت، كبير القدر، مشارك في العلوم له التآليف النافعة كمجموعه الذي حاذى به مختصر خليل وشرحيهما وغيرهما، وكان يدرس فقه مالك الذي هو مذهبه، وفقه الحنفي والشافعي، وله فهرسة جامعة بأسانيده، وهو من رجال سندنا في المصريين.
توفي سنة 1232 اثنتين وثلاثين ومائتين وألف.
787- الأمير سليمان بن محمد بن عبد الله العلوي 2:
سلطان مغربنا يتيمة عقد الدولة علما وديانة وورعا، موصوف بذلك لدى المؤرخين، وتدل لذلك آثاره العلمية، فله حاشية على الخرشي، وعندي تأليف
__________
1 أبو محمد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد السنباوي: عجائب الآثار "54/ 284"، وفهرس الفهارس "1/ 92".
2 الأمير مولانا سليمان بن محمد بن عبد الله العلوي سلطان مغربنا: الاستقصا "4/ 129، 172"، وفهرس الفهارس "2/ 328"، وشجرة النور "380".(2/354)
له في التجمير بعود الطيب1 في رمضان، ومن خطبة خطبته في ردع رعيته عن بدع المواسم التي تجعل للصالحين نقلتها بلفظها في كتاب برهان الحق، وكان شديد الإنكار لمثل هذه البدع، واقفا مع السنة، شديد التحري. وانظر حوادث أيامه وسيرته في تاريخنا المناظر الجمالية. توفي سنة 1238 ثمان وثلاثين ومائتين وألف.
788- أبو محمد عبد السلام بن أبي زيد بن الطيب الأزمي:
بفتح الزاي الحسني السباعي، حامل راية المذهب ومفتي الديار المغربية حافظ مطلع نفاع أحيا الله به الفقه في المغرب ونفع به الجم الغفير من أهل وقته ممن تشد إليه الرحال من أهل العلم والتقشف والزهد والورع والانقباض والعبادة. توفي سنة 1241 إحدى وأربعين ومائتين وألف.
789- أبو عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم المشترائي:
شهر بابن إبراهيم، شيخ الإفتاء بالمغرب، وحافظ المذهب بوقته، مفتي فاس وقاضيها، واستقضي بعد أبي العباس بن سودة نحو السنة سارت فتاويه في داني البلاد وقاصيها، وسلم له الرياسة فيها معاصروه. توفي سنة 1241 إحدى وأربعين ومائتين وألف.
790- أبو الفداء إسماعيل التميمي التونسي:
شيخ المفتين المالكيين بها، فقيه متبحر، أدرك رتبة الاجتهاد المذهبي، وهو الترجيح كما أخبر عن نفسه، ولم ينكروه. توفي سنة 1248 ثمان وأربعين
__________
1 هذه المسألة تكلم عليها ابن أبي زيد في مختصره، ونقل عن عيسى بن سعادة الفاسي عن ابن الجزار، عن ابن لبابة الكراهة نقله في "المدارك" عن أبي عمران في ترجمة عيسى بن سعادة المذكور في الطبقة الرابعة. ا. هـ. المؤلف.(2/355)
ومائتين وألف.
791- إدريس بن عبد الله بن عبد القادر الودغيري 1:
الملقب بالبكراوي حامل راية القراء بفاس وآخر محرريهم، إمام له فيه وفي غيره من العلوم تآليف كحاشية الجعبري، وشرح دالية أحمد بن مبارك السجلماسي، والتوضيح والبيان في مقرئ نافع بن عبد الرحمن، ورجز في الفرائض، وطرر في فرائض خليل، تبلغ تآليفه 18، وكان خطيبا فصيحا، توفي سنة 1257 سبع وخمسين ومائتين وألف.
792- أبو الحسن علي بن عبد السلام الدسولي 2:
قاضي فاس وتطوان الأعدل، متبحر، حافظ المذهب، وحامل لوائه، جامع للعلوم له شرح الشامل لبهرام في عدة أسفار، وشرح التحفة، وحاشية شرح الزقاقية، وفتاوٍ في سفرين وغيرها.
توفي سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف.
793- أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد القادر الشهير ببو نافع 3:
الفاسي من أهل فاس العليا وبها دفن، الفقيه الحافظ المحدث، المتفنن
__________
1 إدريس بن عبد الله بن عبد القادر الودغيري: اليواقيت الثمينة "1/ 97"، وسلوة الأنفاس "2/ 343، 345".
2 أبو الحسن علي بن عبد السلام قاضي فاس: الاستقصا "4/ 94".
3 أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد القادر الشهير ببو نافع الفاسي: فهرس الفهارس "1/ 84، 85"، واليواقيت الثمينة "1/ 70".(2/356)
النحرير الأديب الضابط المتقن النزيه يذكر عنه أنه كان يقول: عندي أربعة وعشرون علما لم يسألني عنها أحد، واعترف له أعلام فاس بالإجادة والتحصيل، كشيخنا أبي العباس أحمد السودي الذي قرأ عليه صحيح البخاري مرتين، وذكر عنه أنه قرأه هو على شيخ المغرب التاودي السودي أزيد من ثمان عشرة مرة، وسنده إلى البخاري معلوم في فهرسته.
وللمترجم شرح الألفية، وفهرسته لمشيخته وغير ذلك.
توفي فجأة سنة 1260 ستين ومائتين وألف عن سن عالية.
794- أبو عبد الله محمد بن أحمد بناني الشهير بفرعون:
مدرس نفاع موثق، مفتي مؤلف الوثائق الفرعوينة التي عليها عمل مؤلفي المغرب الآن، وشرحها شيخنا الهواري. توفي عن سن عالية سنة 1261 إحدى وستين ومائتين وألف.
795- عبد الله المدعو الوليد بن العربي بن الوليد العراقي الحسيني 1:
نادرة وقته في الحديث وعلمي المعقول والمنقول حافظ ضابط مشارك كثير الإقراء، شديد الزهد والعبادة، كثير الصمت لا يتكلم إلا فيما يعنيه، وله عدة تآليف كالدر النفيس في تاريخ العراقيين بفاس.
توفي سنة 1265 خمس وستين ومائتين وألف.
__________
1 عبد الله المدعو الوليد بن العربي بن الوليد العراقي الحسيني: أبو محمد، العراقي الحسيني المعقولي، ولد سنة "1209" مات سنة "1265":
معجم المؤلفين "6/ 82" والحاشية.(2/357)
796- بدر الدين محمد بن الشاذلي الحمومي:
الفقيه الصالح الأحوال المعمر، مشارك في علوم شتى، وله شرح على "المرشد المعين في الضروري من علوم الدين" وغيره، أخذ عن الشيخ التاودي السودي، وعنه أخذ شيخنا ابن سودة المتقدم، فهو من رجال أسانيدنا العالية، فليس بيني وبين التاودي إلا واستطان من طريقه وطريق بو نافع السابق، وهذا أعلى ما يوجد من الأسانيد في المغرب في عصرنا. توفي رحمه الله سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف عن تسع وثمانين.
797- أبو إسحاق إبراهيم بن عبد القادر بن إبراهيم الرياحي التونسي:
شيخ المالكية بها، إمام جليل، جامع بين التبحر في العلوم والأدب ومكارم الأخلاق، وجمع شتات المعالي، مدرس مؤلف نفاع، له حاشية على الفاكهي، ونظم في النحو، وعدة رسائل في نوازل وقتية، وزار فاسا سنة 1216 ست وعشرة ومائتين وألف في بعثة من لدن باي تونس لطلب إعانة في مسغبة كانت بتونس، محصل له اشتهار وإقبال من عملاء فاس، ونجح في سفارته، ووصل رحم المملكتين. توفي سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف ببلده عن ست وثمانين سنة.
798- أبو عبد الله محمد التهامي بن المكي بن عبد السلام بن رحمون الإدريسي الحسني الفاسي:
الفقيه الجلي العدل، الحسيب الأصيل، فارس علم الرواية، ومن له بالسنة النبوية أتم عناية، سيد عصره وقطره، بهجة علماء الدهر، وفخار أهل العصر. توفي بفاس سنة 1263 ثلاث وستين ومائتين وألف.(2/358)
799- أبو عبد الله محمد الطالب بن حمدون بن الحاج السلمي 1:
الفقيه النظار اللغوي المتفنن قاضي مراكش وفاس، نزيه ورع، له حاشية على شرح المرشد في الفقه والتوحيد، و"الأزهار الطيبة النشر في المبادئ العشر" وغيرها. توفي سنة 1273 ثلاث وسبعين ومائتين وألف.
800- أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الفلالي الحجرتي:
الإمام المشارك النظار، فارس الفقه المغوار، ومن انتهت إليه رياسة العلم بهذه الديار، شيخ الجماعة بفاس ومفتيها، وزاهدها وناشر العلم في نواديها، أخذ عن عبد السلام الأزمي، وبدر الدين الحمومي، وأبي عبد الله الزروالي، والشيخ الطيب بن كيران، وسيدي حمدون بن الحاج وغيرهم، وعنه أخذ شيخاي سيد أحمد بن الخياط، وسيدي جعفر الكتاني وغيرهما، وجل علماء المغرب، لكونه طال عمره، وانفرد برياسة العلم، عرض عليه القضاء بفاس والإمامة في مسجد الأبارين، فأبى لورعه، وله حواش على الخرشي وغيرها. توفي سنة 1275 خمس وسبعين ومائتين وألف.
801- عبد السلام بن الطائع بن حم بن السعيدي بن عبد الواحد شهر بوغالب الحسني الجوطي:
عالم مشارك متفنن، أديب جامع لأشتات المكارم، ذو لطف في طبعه
__________
1 أبو عبد الله محمد بن الطالب بن حمودن ابن الحاج السلمي: فيه أسميين محمد بن حمدون [أبو عبد الله] ولكنه لم يكتب بجواره السلمي، أبو عبد الله ولد بعد سنة 1200:
شجرة النور الزكية "401".
وفيه محمد بن حمدون، مكتوب بجواره السلمي النيسابوري، ولكن مكتوب بجواره أبو بكر.
العبر "3/ 236".(2/359)
وتقوى وورع، أخذ عنه بعض أشياخنا كأحمد بن الخياط وجعفر الكتاني وغيرهما، وكان معدودا من علماء المعقول، بل من الأئمة الفحول، وكان له ولوع بالموسيقى متقن لألحانها.
عرض عليه القضاء فامتنع، وقطعت عنه مرتباته، فصبر واحتسب لورعه وزهده. وفضائله جمة، أخذ عن أبي عبد الله الزروالي، وعليه جل قراءته، وعن حمدون بن الحاج، فسندنا من جهته عال أيضا وفي آخر عمره غلبت عليه أحوال الجذب، فترك التدريس.
توفي سنة 1290 تسعين ومائتين وألف أو تسع وثمانين كما في ثبت تلميذه إبراهيم التادلي عن ولده رشيد قائلا وولادته سنة سبع ومائتين وألف.
802- محمد بن أحمد عليش المصري 1:
شيخ المالكية بالديار المصرية، بل شيخ مشايخها وعالمها وفقيهها ذو التآليف النافعة كشرح المختصر، والفتاوى، وعليه تخرج جل أهل الأزهر، وكانت له جلالة تهابها الأسود، وكلمة نافذة لتقواه وورعه، فهو نظير الشيج جنون عالم المغرب ومعاصره لا تأخذهما في الله لومة لائم، ونظيرهما الشوكاني في اليمن، والألوسي في العراق. توفي سنة 1299 تسع وتسعين وألف.
803- محمد بن العربي بو حجر:
عالم تازة وإمامها ومفتيها، كان فقيها ماهرا في الفروع عارفا بتطبيقها، معروفا بسعة الاطلاع، تأتيه الفتاوى من أقاصي الديار المغربية، فيحسن جوابها، مبرزا على أقرانه متقن متفنن.
توفي سنة 1295 خمس وتسعين ومائتين وألف، وهو آخر أهل العلم المشاهير بتازا، وبعده قفرت من العلم إلى الآن.
__________
1 محمد بن أحمد عليش المصري: خطط مبارك "4/ 41"، ومرآة العصر "196" وإيضاح المكنون "1/ 271".(2/360)
804- أبو السبطين محمد صديق حسن خان بهادر:
أمير بهويال الهندي عمدة المسندين، وخديم سنة سيد المرسلين عند غيره فيها، له تآليف طبعت أسماءها مع ترجمته الواسعة ومآثره العلمية المتكاثرة في مفتتح "نيل الأوطار" للشوكاني، وقد خدم السنة النبوية خدمة تذكر له فتشكر في القرن الثالث عشر، وطبع الكثير من تواليفه، وكان من جلة الأمراء المصلحين.
ومن تآليفه "حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة" خصه بالأحكام الخاصة بالنسوة في الشريعة الإسلامية، وله تفسير "فتح البيان" توسط فيه بين المنقول والمعقول، و"لقطة العجلان فيما تمس إليه معرفة الإنسان" قال بيرم في رحلته: هذا العالم الملك من نوادر هذا العصر، فإنه مع اشتغاله بمهام السياسة التي تقلدها بالنيابة عن زوجته سلطانة تلك المملكة قد تبحر في الفنون العلمية سيما الشرعية وآلتها وفصاحته في نسج تآليفه يحمده عليها أهل اللغة العربية، وعلى الخصوص في هذا الزمن الذي كادت أن تتلاشى فيه اللغة والعلوم من الأمة الإسلامية. وعلى كل حال، فهو من مفاخر الأمة في القرن الماضي. ولد سنة سنة 1248 ثمان وأربعين ومائتين وألف، وكان حيا سنة 1301 واحد بعد ثلاثمائة وألف، ولم أقف على وفاته الآن1.
805- أبو عبد الله محمد بن المدني جنون 2:
المستاري أصلا، الفاسي مولدا وقرارا، من بيت بني جنون، الرفيع العماد، الأصيل التلاد ينتسبون في رسومهم القديمة إلى قبيلة بني مستارة حوز
__________
1 أبو السبطين محمد صديق حسن خان بهادر أمير بهو بال الهندي: توفي سنة 1307هـ وانظر ترجمته في "التاج المكلل" "381"، وفهرس الفهارس "1/ 269"، وجلاء العينين "30".
2 أبو عبد الله محمد بن المدني جنون المستاري الفاسي: أبو عبد الله المستاوي، مات سنة "1302":
الأعلام "7/ 94" والحاشية.(2/361)
وزان، وفيها فرقة بني جنون الأشراف الأدارسة لهذا العهد، وقد ملئت تواريخ المغرب بزخبار دولتهم وللنسابين في ذلك مقال، والناس مصدقون في أنسابهم، وقد أخبرني من أثق به من الطلبة في وزان أن كل بني جنون في بني مستارة أشراف بغير خلافم.
هذا الشيخ من أكبر المتضلعين في العلوم الشرعية الورعين، المعلنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخاتمهم في المغرب شيخ شيوخنا، وشيخ شيوخ جل المغرب رأس علمائه في القرن الثالث عشر بلا منازع، كان مفتيها محدثا نحويا لغويا معقوليا مشاركا محققا نزيها، قوالا للحق، مطبوعا على ذلك، غير هياب ولا جل، نزيها مقداما مهيبا، عالي الهمة، دءوبا على نشر العلم والإرشاد، والنهي عن المناكر والبدع والتي تكاثرت في أيامه لا يخشى في الحق لومة لائم يحضر مجلسه الولاة والأمراء أبناء الملوك وغيرهم، وهو يصرح بإنكار أحوالهم وما هم عليه مبين لهناتم غير متشدق، ولا متصنع، بل تعتريه حال ربانية، ولكلامه تأثير على سلطان النفوس رزق في ذلك القبول والهيبة على نحول جسمه، ووصلته بذلك أذاية وسجن، لكن بمجرد سجنه اعتصب الطلبة وقامت قيامة العامة فأطلق سبيله لذلك.
فهو أحق من يقال في حقه: مجدد لكثرة المنافع به، وانتشار العلم عنه، وعن تلاميذه، وقيامه بالنهي عن مناكر وقته، وكان شديدا على أهل الطرق وما لهم من البدع التي شوهت جمال الدين والمتصوفة أصحاب الدعاوى التي تكذبها الأحوال، وما كان أحد يقدر على الرد عليه مع شدة إغلاظه عليهم وعلى غيرهم وسلوكه في ذلك مسلك التشديد، بل التطرف في بعض المسائل، ومع ذلك هابه علماء وقته ولم يجرءوا على انتقاده؛ لأنه كان يتكلم بالحال لا المقال، وتحققوا خلوص نيته ومطابقة سره لعلانيته.
وذكر لي بعض الثقاة أنه سمع من الفقيه أحمد جسوس الرباطي أحد تلاميذه أنه أصبح جنبا، ولما استيقظ، وجد وقت القراءة، فلم يقدر على التخلق خوفا من الشيخ؛ لأنه كسي مهابة وجلالة انعدمت من علماء المغرب بعده،(2/362)
فذهب للدرس، فما دام جالسا والشيخ ما التفت إلى جهته يقول علنا: أعوذ بالله من وجوه الجنابة، وذلك ما يدل على ما كان له من الكشف الصادق والفراسة النافذة، ولله در من قال: إذا لم يكن العلماء أولياء الله، فليس لله من ولي.
وقريب من هذه القصة وقعت لعبد الرحمن بن أحمد التاجنوزي انظرها في "نيل الابتهاج" وله مناقب جمة كان يحكيها لي الوالد رحمه الله. الذي كان ملازما دروسه. وقد حكى لي شيخي أحمد بن الخياط وغيره أن دروس الشيخ كانت أفضل بكثير مما يكتب في تآليفه، وحكى لي هو أيضا أنه سمع منه فوائد ما سمعها من غيره ولا رآها في كتاب قط مما يدل على اطلاع عظيم، له تآليف مفيدة كحاشيته على موطأ مالك، واختصاره لحاشية الرهوني السابق، وتقدم وصفه، وله تآليف كثيرة في مواضع متنوعة، وكثيرا ما ألف في البدع وما نزلت نازلة مهمة إلا وقد خصها بتأليف. وقد طبع بعضها بفاس. توفي رحمه الله على رأس المائة الثالثة عشرة 1302.
806- حسن العدوي الحمزاوي 1:
عالم مصر ومفتيها، ذو تآليف مفيدة، كتبصرة القضاء في المذاهب الأربعة، وحاشية البخاري، وأخرى على الشقاء وغيرها. توفي سنة 1303 ثلاث بعد ثلاثمائة وألف.
807- أبو العباس أحمد بن أحمد بناني المقلب بكلا:
فقيه علامة مشارك، ولا سيما في علوم اللسان والمعقول والحديث والأصول. قد انتهت إليه الرياسة في ذلك بفاس ونواحيها، وأخذ عنه أعلامها وجل أشياخنا، وأدركته وهو شيخ هرم لا يقدر على الدرس، نعم صليت وراءه
__________
1 حسن العدوي الحمزاوي "تبصرة القضاة في المذاهب الأربعة": الخطط التوفيقية "14/ 37" واليواقيت الثمينة "1/ 126".(2/363)
بالزاوية التيجانية إذ لم يتأخر عن الإمامة فيها في الفخر وغيره إلى أن عجز آخر عمره. وقد أثنى عليه أشياخنا كمحمد الوزاني والحاج محمد جنون، ومحمد القادري وغيرهم، وكلهم يروي عنه سماعا وإجازة، وكان قد حج معه سنة نيف وتسعين أنه كان يراه قائما متهجدا بكلام الله وهو المركب، والأمواج تلعب بهم، وربما سقط في الركعة الواحدة عدة مرات بميد البحر. توفي سنة 1306 ست وثلاثمائة وألف عن سن عالية.
808- عبد الله بن حمدون بناني 1:
فقيه موثق نحوي شهير بفاس. ولي قضاء طنجة وغيرها، ومات فقيرا، فربح الثواب الفاخر، والثناء العاطر، توفي سنة 1307 سبع وثلاثمائة وألف.
809- خفاجي سيف الله بن إبراهيم:
عالم الإسكندرية ومسندها، ومن انتهت إليه رياسة العلم فيها وقته، وهو شيخ لكل من بقي بها إلى الآن وفضله عليهم، وخلف أنجالا علماء أفاضل. توفي سنة 1310 عشر وثلاثمائة وألف.
810- أبو عبد الله محمد بن التهامي الوزاني أصلا الفاسي دارا:
صدر الصدور الجلة، وعلم أعلام الملة، ركن العلم المحجوج، وبرهانه غير المحجوج، الفارس المجلي في كل ميدان، والمشار إليه بكل بنان، جهبذ راض العلوم الصعاب، وسلك السهول والشعاب، فتملك نواصيها بأوثق الأسباب. ولثقوب ذهنه الرحيب، فلا يرمي إلا بالسهم المصيب، خدم الرجال ذوي الحكمال، وركض في كل مجال، فأحرز المعالي بالعوالين وأصبح تاج الرءوس،
__________
1 عبد الله بن حمدون بناني: أبو عبد الله النديم الكاتب.
الكنى للقمي "1/ 267" تنقيح المقال "3/ 42"، ريحانة الأدب "7/ 479".(2/364)
المفدى بالنفوس، برز على غيره في علوم كالنحو والبيان والفقه توجيه القراءات، فكان فيها لا سيما النحو إذا وطئت أقدام فحوله الثرى، جاوز الثريا يملي تحقيقات دروسه من غير احتياج لكتاب ويشرح متن الألفية أولها بآخرها، ويملي من حفظه قواعدها وشواهدها، ثم شارك في بقية العلوم الإسلامية نقلية وعقلية مع ما أوتي من سهولة التعبير عما في الضمير، ولم يكن له في ذلك نظير، فكانت العويصات لديه ضروريات، فلا يقوم الطالب من درسه إلا محصلا، وبرع في تحصيل قواعد الفنون بشواهدها من كتاب وسنة، متعمق في استنتاج دقائقها العلمية، تارك لكثرة الأبحاث الفارغة اللفظية، جماع للنوادر، مطلع ماهر، يمازج درسه الزاهر بفكاهات تمازح الأفكار، وتذهب بالسآمة، وتصقل الأنظار، إلى لطف أخلاق وهيبة الاستقامة، فكثر النفع به في الأصقاع المغربية حضر وبوادي، وعمرت بمآثره النوادي، فملأت تلاميذه الكراسي والمنابر، وله الفضل على جميع أصحاب المحابر.
ولقد كان بطلا لا ترد شباة نقده، ولا تحل مبرمات عقده، بحر زخار نقاد نظار، إن قيل في غيره فضة، فهو النضار، درسه أعظم درس أدركنا، وأمتع ما رأينا، لازمت دروسه نحو خمسين سنين، وكرعت من بحوره الزاخرة باليمين، عربية وفقها وبيانا وفرائض وحسابا وتوحيدا، ومنطقا وحديثا وغيرها. وأول يوم جلست بين يديه كساني نوره، فوجدت من نفسي إدراكا وتحصيلا لم أجده قبله، فكان ذلك اليوم من أسعد أيامي انتقلت فيه من طور إلى طور، كأني كنت حيوانا فصرت إنسان أو كنت نائما، فأصبحت يقظانا، وأمسيت نشيطا جذلانا، اتخذته عمدتي، وأعددته عدتي والله يجازيه خيرا.
أما قدمه في الورع والزهد والتبتل والعبادة، ففي المكانة التي ما وراءها وراء، ولم أره مدة ملازمتي له إلا ناشرا للعلم، أو تاليا لكتاب الله بحرف أبي عمرو البصري، أو ذاكرا يقوم الليل تهجدا، وفي النهار تراه في نشر العلم ومطاردة الجهل مجاهدا.
تولى قضاء الصويرة، فكان مثال العدل والعفة والاستقامة مع دءوب على(2/365)
نشر العلم، ولشغفه به، لم يلبث بها إلا قليلا، واستعفى فأعفي، فرجع لفاس طاهرا، وللعلم ناشرا، وله فتاوٍ قليلة، وكان من أهله الشورى في الأحكام، فلم تحفظ له في ذلك فلتة، بل الذكر الجميل، والفخر الجزيل.
وقد خرج من الدنيا فقيرا في بيت بالكراء مع تجمل ظاهره، وإظهار النعمة عليه ولعكوفه على ثلاثة دروس يومية فأكثر، قلت نفثات أقلامه، ومع ذلك، فله مؤلفات لا تخلو من فائدة كتأليفه في إيمان المقلد وغيره، وبالجملة تدارك الله به هيكل العلم الذي كان قد انهار بموت العلامة جنون السابق، فكان خير خلف له في اجتهاد في نشره، وبث روح الحياة في أهله، وعند أخذ، وعن بناني كلا السابق وغيرهما. وتوفي بضعف أصابه من كثرة اجتهاد في ليلة 12 شعبان وهو يتلو قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} برواية البصري سنة 1311 إحدى عشرة وثلاثمائة وألف عن نحو ستين سنة، ولم نر مثل جنازته، ورثاه تلاميذه وأقرانه بقصائد عديدة، وكان المصاب به جليلا، ودفن بالقباب خارج باب الفتح رحمه الله، ولم يعقب ذكرا، ولكن عقبه في العلم لا ينقطع.
811- أبو إسحاق إبراهيم بن محمد التادلي:
شيخ الجماعة في الرباط في وقته، فقيه حيسوبي، فرضي علامة مشارك، وصفه بذلك تلاميذه، نشر العلم بالرباط بعدما كان صفرا، وصيره زهرا بعدما كان قفرا، طلب العلم بفاس، وأخذه عن شيوخ كعبد السلام بوغالب، والفقيه أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحجرتي الفلالي شيخ الجماعة بها وغيرهما، وله تآليف كثيرة كشرحي الألفية، والمختصر، وشرح الرسالة، وشرح المرشد، وغيرها وقد أخبرني مفتي الرباط الفقيه ابن إبراهيم أن الرباط ما كان به من يستحق أن يقال له: عالم قبله، وإنهم كانوا قبل عام 1300 إذا مات أحد لم يعرف عدوله قسم تركته، وإنما يقسمها لهم الطبجية حتى نشره فيهم المذكورة. هكذا قال. توفي سنة 1311 إحدى عشر وثلاثمائة وألف، وما ماتت سمعته الطيبة إلى الآن بالرباط.(2/366)
812- عبد القادر بن عبد الكريم الورديغي 1:
الشفشاوني الخيراني المغربي الأصل المصري الدار، عالم بارع فقيه مدقق قرأ العلم بفاس، وسكن مصر، له مؤلفات منها "سعد الشموس والأقمار، وزبدة شريعة النبي المختار" في المذاهب الأربعة، وهذا هو عين كتاب "القوانين" لابن جزي زاد ذكر آيات وأحاديث صدر التراجم، ولم يعزها لمخرجها، وفيها ما لا يصح الاستشهاد به، أو لم يطابق المرجم له، وختمها برسالة مالك للرشيد، و"المشتاق لأصول الديانة والأذواق" و"نهاية سير السباق" وقد طبعا بمصر في مجلد واحد، وله كتاب "شمس الهداية" في القضاء على المذاهب الأربعة، وغيرهم، وله تواليف أخرى. توفي بمصر سنة 1313 ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف.
813- الهاشمي بن محمد بن الهاشمي الحجوي الرباطي الدار:
كان علامة دراكة محققا مدرسا، نفاعا ناشرا للعلم، عاكفا عليه جل علماء الوقت بالرباط تلاميذه، وعنه أخذوا، وبه تخرجوا، عالي الهمة، متين الإدراك، نزيه النفس، زكي الأحوال كأبيه وجده رحمهم الله. أخذ عن الفقيه سيدي إبراهيم التادلي وغيره. توفي سنة 1315 خمس عشرة وثلاثمائة وألف.
814- أبو محمد جعفر بن إدريس الكتاني 2:
الحسني الفاسي شيخنا الإمام الفقيه العلامة الورع الناسك الواعظ الدال
__________
1 عبد القادر بن عبد الكريم الورديغي الشفشاوي الخيراني المغربي الأصل المصري: اليواقيت الثمينة "1/ 218، 219".
2 أبو محمد جعفر بن إدريس الكتاني الحسني الفاسي: أبو المواهب، أبو الفضل، الكتاني الحسني، توفي سنة 1323:
فهرس الفهارس "1/ 186" والحاشية، معجم المؤلفين "3/ 133، 134"، شجرة النور الزكية "433".(2/367)
على الله بحاله ومقاله، النزيه في أحواله كان ناشرا للعلم متحريا في دينه، متقشفا في عيشه عاكفا على نفع الخلف، صارما في قول الحق من أهل الشورى، المتفق على نزاهته وفضله. أخذ عن شيوخ أشار لهم في كتابه "الشرب المحتضر في بعض أهل القرن الثالث عشر" وله فتاوٍ وتآليف كشرح خطبة شرح ميارة على المرشد المعين، وغيره وقد كان من القوم الذين إذا رُءوا ذكر الله. وبالجملة كان من خيرة من أدركنا نزاهة ودينا عصمه الله من فتنة الدنيا وزخرفها، فأنعم الله عليه بأنجال علماء جلة كسيدي محمد1 الذي رحل إلى المشرق أخينا في الله ونعم الأخ وشهرته كافيه عن إطرائه، وأخيه أحمد وعبد العزيز وعبد الرحمن كلهم من خيار علماء وقتهم وقد توفي الأخيرون رحمهم الله. توفي المترجم سنة 1323 ثلاث وعشرين عن نيف وسبعين، ولما نعوه في مكة صلوا عليه صلاة الغائب، ولم يكن بها أحد من قرابته لماله من طيب الذكر رحمه الله.
815- أبو العباس أحمد بن خالد الناصري 2:
السلوي دارا وقرارا ينتهي نسبه إلى الشيخ سيدي محمد بن ناصر الدرعي صاحب زاوية درعة الشهيرة بالمغرب. وهذا الشيخ هو من عرب معقل الداخلين للمغرب في القرن الخامس من فرقة منتمية إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب من زوجه زينب بنت علي وفاطمة عليهم السلام، ولذلك ينتسبون جعفريين زينبيين، كما حققه المترجم في كتابه "طالع المشتري في النسب الجعفري" رادا على من قال من حفدة الشيخ المذكور: إنهم مقدايون؛ لأن مقداد بن الأسود لم يعقب، ورادا على ابن خلدون الذي اضطرب كلامه في انتساب عرب معقل إلى عبد الله بن جعفر، وقد رد عليه أحسن رد بحجج دامغة، واستدل بأن منهم الثعالبة وهم قبيلنا كما سبق لنا في ترجمة الشيخ عبد الرحمن الثعالبي دفين الجزائر، وهم جعفريون صرحاء كما أثبت ذلك غير واحد من النسابين لما تكلموا على الشيخ
__________
1 توفي ولده سيدي محمد بفاس في 16 رمضان سنة 1345 خمس وأربعين، وقبله أخوه مولاي أحمد سنة أربعين 1340 رحمهم الله.
2 أبو العباس أحمد بن خالد الناصري السلوي: الاستقصا "4/ 50"، وشجرة النور "432".(2/368)
المذكور، وعلى نسب أبي مهدي عيسى الثعالبي شيخ الحرم المكي. وهو تأليف جيد من أحسن تآليف المترجم، استوفى فيه الكلام على النسب المذكور، وعلى الشيخ بناصر وأولاده وأحواله رضي الله عنه.
كان المترجم علامة عصره، مشاركا متفننا حافظا، دراكة، بعيد الغور، عالي الهمة، حسن الأخلاق، له مكارم جمة تنبئ عن شرف أصله، وكرم فضله. له التاريخ الشهير المسمى بـ"الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى" وهو مطبوع، وشهرته تغني عن إطرائه.
وله القيام بإنكار البدع والرد على الطرق فيما خرجوا فيه عن السنة، وذلك في تاريخه، وفي رسالة له، تعظيم المنة بنصرة السنة، ولا بدع في ذلك، فإن آل بناصر من المشهورين بنصرة السنة، والوقوف عندها وعلى ذلك أسست زاويتهم، كما أفصح بذلك اليوسي وغيره، وكان للشيخ مشاركة في الفقه، واطلاع ينبئ عن ذلك ما تكلم عليه من النوازل في التاريخ المذكور، وله إلمام بالأدب والشعر يدل على مقداره فيه شعره في التاريخ المذكور، وشرحه البديع لقصيدة ابن الونان المسمى بـ"زهر الأفنان" وهو مطبوع وله غير ذلك، ولولا اشتغاله في التوظف بخطة عدالة في الكمارك المغربية بالمراسي، لخلف أكثر من ذلك، ولما كان موظفا بفاس، كان يدرس المختصر درسا أعجب به من أدركه وصناعته في الدرس صناعة نافعة جدا، أخبرني بذلك من قرأ عليه. توفي ببلده سنة 1315 خمس عشرة وثلاثمائة وألف.
816- أبو العباس أحمد بن الطالب السودي 1:
القرشي ثم المري الفاسي، شهاب العلم، وقبس التحصيل والفهم، زعيم الفئة، ويتيمة عقد هذه المائة، بقية السلف، وزينة الخلف، شيخ الجماعة بالمغرب، وشيخ أملاكه والبدر في أفلاكه، بحر العلوم العقلية والنقلية الزاخر، وفلكها الدائر، وشمسها التي أخفت النجوم الزواهر إلى المجد الأثيل الباذخ
__________
1 أبوالعباس أحمد بن الطالب السودي القرشي المري الفاسي: إتحاف أعلام الناس "1/ 456".(2/369)
المؤسس على أساس العلم السانح إذ بيت بني سودة بيت علم أصيل ومجد أثيل، حملوا المحابر، فحملوا على المنابر، ومع ذلك فالشيخ عصامي لا يتكل على مجد عظامي، لذلك حاز قصب السبق على الأقران، وجلي في الميدان، فكان في التحقيقات البدر المنير إذا أدلهم مشكل، أو ناب معضل، إلى كرم نفس، وإصابة حدس، ورقة طبع دونه النسيم، وخلق كريم يسلي الكليم، حليته الإنصاف شأن الأشراف مع فصاحة سحبانية، وكف حاتمية، وذهن وقاد، وقلم سيال نقاد، كثير المطالعة، واسع الاطلاع، معتن بجمع الفوائد والشوارد، وقيد الأوابد.
وقفت على جملة من كتبه، فلا تجد واحدا منها إلا وعليه خطه وملاحظته القيمة، جاعلا لها فهارس مقربة، فهو شيخ النحارير النظار في عصره، ولم ندرك في بيتهم من يساويه، ولا في حلبته من يساميه، وكان مع ترأسه مجالس الملك الحديثية قاضي مكناس مدة طويلة إلى أن توفي قاضيا. أخذت عنه بفاس صحيح البخاري وشمائل الترمذي، ولازمت درسه فيهما إلى الختم رواية ودراية، وله سند عال بينته في الفهرس، فكان يأتي بالعجائب البينات، ويصير معضلات العلم بحسن ذوقه، وثاقب فهمه، وحسن أسلوبه في التعبير من الواضحات.
كان كثير التقييد يكتب درسه، ويمليه محررا من كراسته، تفرد بهذا العمل لكبر سنه ونحولة جسمه، لكن فكره الوقاد لم يتقمص معه في قميص شيخوخته، بل بقي في عنفوان الشباب يفحم الشباب، ويأتي بفصل الخطاب، راجعته في مسألة كتابة وشفاها، فكان مثال التحقيق والإنصاف بعيدا عن جبروت الولاية والاعتساف. وله عدة تواليف فقهية وحديثية منها حاشية على البخاري، لو طبعت، لكان لها طيران حثيث، ولد سنة 1241 إحدى وأربعين ومائتين وألف. وتوفي عاشر رجب سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف بفاس رحمه الله.(2/370)
817- أبو سالم عبد الله الكامل الأمراني العلوي الحسني 1:
بيت المجد الصميم، والفضل العميم، رضع ثدي المعارف على الشيخ جنون الكبير، وطبقته، فكان من الناجحين في حلبته، إلى أخلاق عاليه، ونفس في المكرمات سامية، وتحقيقات للمسائل العلمية بادية، حضرت دروسه الفقهية، فكانت آية الآيات تتضاءل لديه المعضلات مع مشاركة واسعة، وتقوى الله لذلك نافعة، للأدب والتواضع فيه انطباع يجذب الطباع مع رحب باع، وحسن اطلاع، وتحرير عميق يشنف الأسماع، ينثر في درسه الجواهر التي تزري بالزواهر، جلس للدرس بعد وفاة الشيخ الوزاني السابق، فركض في الميدان وجلي، وكان النهار إذا تجلى فلم ينشب أن اقتطفته المنون كهلا سنة 1321 إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف.
818- شيخ الإسلام سليم البشري 2:
المصري، علامة دراكة جهبذ فاضل محقق، تولى رياسة الأزهر سنة 1317، وكانت ولادته سنة 1248، وأخذ عن الشيخ البيجوري، والشيخ عليش وغيرهما، ودرس وتخرج عليه خلق كثير، وهو معدود من المصلحين، فقد رتب بسعيه سبعة من المدرسين بالجامع الزينبي مدة مشيخته به حتى صار قطعة من الأزهر، وتولى مشيخة المالكية بعد عليش، ولما تولى مشيخة الأزهر أكثر من امتحان طالبي التدريس، فكان سببا في كثرة المدرسين، وقد سار الأزهر في أيامه سير انتظام، وتقدم، وأصبح جل مدرسي الرياضيات متخرجين من الأزهر، وله جملة مؤلفات في التوحيد وغيره، أكثرها حواش كما هي عادة أهل وقته وبلده.
__________
1 أبو سالم عبد الله الكامل الأمراني العلواني الحسني: دائرة معارف الأعلمي "21/ 214".
2 سليم البشري المصري [علامة دراكة] : الكنز الثمين "1/ 106"، ومرآة العصر "2/ 465"، كانت وفاته سنة "1332" هـ.(2/371)
819- أبو عبد الله محمد فتحا بن محمد بن عبد السلام جنون:
المستاري أصلا الفاسي مولدا وقرارا، من بيت بني جنون الشهير بفاس، وتقدم هذا السيد تحفة الدهر التي يقل لها الكفاء علما وبراعة، رواية ودراية، تقوي واستقامة، وسمتا وهداية نشأته سحبت من العفاف ذيلا، وغضت الطرف حتى عن الطيف ليلا، شاب نشأ في العبادة والإكباب على العلم، والتكفي بما خلفه أسلافه ذوو المجادة، فلم يزل خدن الصيانة، صلب الديانة في عفاف واستكانة، حافظا لناموس العلم، عالي الهمة، مترفعا عن كل ما لا يليق بذوي الأقدار، حتى يظنه الظان متكبرا معجبا، فإذا فاتحه الكلام، أدهشه ما يجده من تواضع، ومكارم أخلاق، فأيقن أنه فيلسوف حكيم، عرف أهل زمانه ففر بدينه، وأقبل على ما يبقى، وأشاح عما يفنى، وقنع بالكفاف، نظر إلى الدنيا نظر استخفاف. عكف على العلوم، وأعطى كليته إليها، ولم ترض همته إلا باقتنائها والغوص على جواهرها وانتقائها، ومع حداثة سنه حصل على ما عجز عنه الشيوخ، ووسم بمقام الرسوخ، وأعانه صفاء مرآة فكره التي ما كدرها اهتمام بمعيشة، ولا هم رياسة، أو خوض حمأة السياسة، فكان حافظا واعية، ضابطا متقنا، بارعا في سائر العلوم الموجودة في زمنه، بحر لا تساجل لجته، وبرهان لا تراجع حجته، مستقيمة محجته، أمعن في العلوم كل الإمعان، وتمكن من صياصيها تمكن العوائد من طبع الإنسان تحسبه في كل فن واضعه، ولا ينزل عويص إلا كان فارعه.
تجلت فيه المواجب الإلهية بأبهى مجاليها، فكنت إذا أردت الموازنة بين دروسه الحديثية والتفسيرة والتجويدية والفقهية إلخ. هل غلب عليه فن منها، فلا تجده إلا بارعا في الكل سواء براعة فحوله العظام وأئمته الأعلام، وذلك ما لم أره في غيره؛ إذ كل من رأينا يغلب عليه فن من الفنون، وهذا لفضل ذكائه، وقوة عارضته واقتداره، لا تجد براعته في واحد منها تنقص عن سواه، فسبحان(2/372)
من هو على كل شيء قدير.
بلغ غاية الغاية في التحقيق، والفهم الدقيق، فكأنه ينظر للغيب من ستر رقيق، بل لا ستر بينه وبين المعارف إلا أن يلتفت إليها، فتتدلى له الأغصان بالقطائف، ولا يجتني إلا اللطائف إلى فصاحة تترك سحبان لو رآه باهتا، وقسا لاستحيائه ساكتا، إذا مررت بدرسه، ترى خطيبا بدون منبر، وبحرا يقذف أنفس الدرر، لم تحفظ عنه لحنة في دروسه الكثيرة في أنواع الفنون، فما كان ينتابها إلا المنتهون والنبهاء والمدرسون، لذلك أقول عن تحقيق: ما رأيت مثله، ولا رأى مثل نفسه فيما أظن حفظا وإتقانا لكل علم توجه إليه، وفصاحة وثبات جنان وطلاقة لسان، وتصرفا في العلوم وورعا واستكانة وعزوفا عن بهرجة الحياة. هذا مع نحول جسمه، ولطافة شكله، وخفة روحه ومهابته، وحسن بزته، وعمارة الوقت بعد نشر العلم بالأذكار والعبادة، قد لازمته بعد موت الوزاني مدة طويلة إلى أن أقعده المرض لم أتمالك على التخلف عن دروسه ومجالسته ومذاكرته، فانتفعت به كثيرا. فجزاه الله أحسن الجزاء فلا أحفظ أني رأيته إلا في عبادة.
كانت علوم اندرست أو ضعفت فأحياها، ونفخ روحا جديدة في طلابها، فابتهج محياها، درس علم التجويد بعدما درس، وأحيا قراءة التلخيص بمطول السعد بعدما بعد عهد هذه الديار بتهاطل تلك الأمطار، وذلك كله عطل بموته، وأحيا قراءة التفسير بالبيضاوي، لكن القاصرين لِمَ لَمْ يرق ذلك في أعينهم، فزعموا أنه يتسبب عنه موت السلطان، فشغلوه بولاية قضاء أسفى، ويا أسفي على العلم قضى عليه الحسد، وأذهب الروح وترك الجسد، لكن لم يلبث إلا نحو سنة، ثم استعفى فاعفي مشوقا إلى ما تعود من نشر العلم، طاهر الذيل، قائما بحقوق العدل، فرجع لدروسه تاركا التفسير في دروسه.
ولإكباب المترجم على الدروس الكثيرة، وإقبال التلاميذ عليها بإلحاح حيث انتهج في الإلقاء نهج الحفاظ الكبار إملاء كالبحر في مده، وتصرف بديع في التحصيل والبيان، وتبليغ مع تفيهم بليغ، كل من جلس في درسه لا يقدر(2/373)
على مفارقته، إلا أن يكون قصارا عن فهمه، غير عاشق للعلم، ولا تطربه الفصاحة والبلاغة، لذلك لم تيسر له تواليف مهمة تناسب علمه مع اقتطاف المنون له في زهرة الشباب، ومع ذلك فله تواليف لا تخلو من أهمية كشرحه لخطبة المطول، وتأليفه في البسملة في الصلاة وغيرهما.
وكان أكثر أخذه وتخرجه بالفقيه محمد بن العباس العراقي كما أخذ عنه أحمد بناني كلا السابق ونسيبه جنون والوزاني وغيرهم، وأجازه عدة مشارقة في وجهته للحج، كما أشار لبعض ذلك في ثبته الذي أجازني به، وقد ذكرته في الفهرس، وبينه وبين البخاري من بعض الطرق أحد عشر شيخا، وبينه وبين مالك أربعة عشر، وقد بقي على حاله الموصوف إلى أن نزلت به سكتة ألزمته الفراش مدة، ثم وجد بعض الراحة غير تامة، فبقي بين اعتلال وإبلال إلى أن توفي سنة 1326 ست وعشرين وثلاثمائة وألف، ودفن بضريح أبي غالب برأس القليعة من فاس، وانقرض عقبه من الذكور رحمه الله، إلا أن عقبه العلمي لا ينقطع، إذ جل من يشار إليهم في الوقت مستمدون منه، نعم بموته انطفأت تلك النهضة العلمية العربية، والله يعيدها لأحسن ما كانت.
820- أبو محمد عبد السلام بن محمد الهواري:
فقيه نقاد، مشارك نفاع، من أساطين العلم الكبر، وأنجمه الدرر، أغر البيان، وبرهانه العيان، فخم مفخم في تدريسه المرتل ألذ من إيقاع المثاني في إلقائه الذي لا يمل، تكسوه جلاله عند الإلقاء لم تكن عند اللقاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، استقضى بقصر كتامة ثم السويرة، ثم صار قاضي فاس، أخذت عنه حظا من الفقه والبيان والحديث وغيره وله حواش على شرح لامية الزقاق لابن سودة السابق، وشرح على الوثائق البنانية الكل مطبوع.
توفي رحمه الله في أواخر جمادى الثانية عام 1328 ثمانية وعشرين وثلاثمائة وألف.(2/374)
821- أبو محمد الحسن بن العربي الحجوي:
هو الحسن بن العربي بن محمد بن أبي يعزى بن عبد السلام بن الحسن الحجوي الثعالبي الجعفري الزينبي التازي مولدا الفاسي دارا وقرارا ووفاة، والدي وعمدتي، وأول شيخ أخذت عنه أول مسألة فقهية، وغذاني بمعارفه، وأسبغ علي برد مطارفه، كما أخذت عنه السير والتاريخ كثيرا وغيرها، وبأدبه تأدبت، وتحت شعاع نوره أدلجت، فلم لو أذكر ترجمته، لكان من إضاعة الحقوق، القريب من العقوق، لكني أختصر، وعلى بعض ما علمت سعد أقتصر، وإلا فلا سبيل أن أوفيه حقه، ولا أذكر إلا ما تيقنت صدقه.
نسبه تقدم لنا الكلام عليه في ترجمة أبي زيد عبد الرحمن الثعالبي، دفين الجزائر وأبي بكر الحجوي دفين القنادسة قريبا، نشأ في ظلال والده مترددا بين مصادر العلم وموارده، من نعمة يتفيؤ وارفها، إلى طهارة يسحب مطارفها، وأبوه كجدوده قطب بلده الذي عليه مدارها، ومقام حجها واعتمارها، فسلك للعلم الحزون والسهول، وبز في حداثته الكهول إلى أن تحلى بكل كمال، وبلغ ما تقصر عنه الرجال، من علم وفضل وتقوى، ومكارم طابق سرها النجوى، ونفس زكية سهلة، تريك كامل السراوة لأول وهلة، ما شئت من أخلاق محمدية زلال، وخلال آمنة من الاختلال، يتمنى رقتها النسيم، وسماحة متلقاة دعواها بالتسليم، شهير الإيثار، بعيد عن جمع الاستكثار، محب للمساكين، وآل البيت الطيبين، والعلماء العاملين، مع صحبة الصالحين، وعبادة المخلصين، وإنابة المخبتين، سليم الباطن، مغض عن الأعراض الموجبة للضغائن، متفق على فضله من القاطن والظاعن، صادق اللهجة، دائم البشر، واسع الصدر، ثاقب الفكر، وإنه لحسنة من حسنات الدهر، متواصل الأحزان على أحوال المسلمين المتأخرة في هذه الأزمان، ناصح لكل من اجتمع به منهم، دال على الخير، متمسك لأثر السلف الصالح عملا واعتقادا، لا ينام من الليل إلا قليلا، ولكمال سيرته، وصفاء سريرته، ومطابقة سره لعلانيته، رزق فراسة صادقة ينظر فيها بنور الله، ودعاء مستجابا شأن كل أواه يعرف ذلك من أحواله كثيرون ممن كانوا ينتابون(2/375)
مجالسه التي لا تؤبن فيها الحرم، ويعدونه له كشفا صادقا كنار على علم، ولو شئت، لذكرت من ذلك قضايا عجيبة كثيرة، لكني أكتفي بعلم كثيرين بها وهم أحياء لغاية كتب هذه الأحرف كي لا يقال: مادح أبيه مادح نفسه.
قرأ القرآن على شيخ المقرئين بتازة الذي له الفضل على كل من يمسك القلم بها الأستاذ السيد علال بن كيران، والفقه وغيره على مفتيها بوحجاز السابق لنا ترجمته والمقدم الشاهد، والرجل الصالح الحسن بن حنيني وغيرهم من أعلام تازة، ثم لما حدثت بعض الفتن بمسقط رأسه، ومنبت غرسه، انتقل والده بجميع العائلة الكريمة لفاس في حدود الثمانين من القرن الماضي عائدا لمقر أسلافه الكرام التي نقلوا منها على عهد الدولة الإسماعيلية العلوية، وهناك لازم الفقيه الكبير الحاج محمد بن المدني جنون، والشيخ أحمد بن أحمد بناني كلا، ثم أخذ عن محمد بن قاسم القادري الحديث والسير، وعن غيره من أقرانه، كان آية في الحفظ والاستحضار حكى لي قاضي تازة السيد محمد الخصاصي نزيل طنجة الآن، قال: كان أبوك يحضر مجلس وعظي، فكان يعيد لي كل ما يسمع مني عن ظاهر قلب بالحرف.
وفي المدة التي خاض فيها التجارة عرف لغتين الإسبانية والإنكليزية، وتشرف بالرحلة الحجازية أول ما لبس من الحجازية، ولقي مشرقا ومغربا رجالا عارفين فاغترف من بحرهم المعين، وتلقى راية الاختصاص باليمن، ولقد ظهر فضله، وكمل نبله، واستحصل في كل كمال رتبة قصوى، وله في السير والتاريخ اليد البيضاء، وفي علوم الاقتصاد والاجتماع مكانة عليا يعرفها أهلها، ولقد كان أكبر من الزمان وبنيه، وعدم روضه من يجتنيه، درة مغفلة، وخزانة على اللطائف مقفلة، أنظاره في السياسة بعيدة، وأفكاره ذات سهام سديدة، عرضت عليه وظائف مهمة فأبى، ورآها بالنسبة لحرية لسانه كالهبا، ولاستقلال فكره النضيج وحرية ضميره البهيج كان أكره شيء إليه التوصل إلى الدنيا الخسيسة بالدين الشريف، فكان يؤثر في تكسبه التجارة بعدما قضى من الطلب أوطاره، اقتدى بآبائه في الأخذ بالحظين والإرث بالسهمين، فكان محظوظا(2/376)
شاكرا ملحوظا بعين المهابة والتجلة، مقصودا للملهوفين، محبوبا من أهل الدنيا والدين، وقلبه مع مولاه باطنا، وفي الأسباب ظاهرا، تحلى من الإنصاف بما يحمد به الإنصاف، حتى كان يظهر لمجالسة الأمية، ويخفض لأهل العلم جناح التواضع حتى يظفر بكل أمنية.
ومن فوائده المبسوطة على أطراف موائده ذاكرته يوما فيما يقوله بعض المالكية في حكم التجارة بأرض الحرب حيث كان هو يتجر في أوربا، فقال لي: لا جامدا على قول الفروعيين، فإن التجارة المذكورة في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} 1 كانت بالشام وهي أرض حرب إذ ذاك، وأقرهم عليها القرآن، والنبي -صلى الله عليه وسلم، وقد أتجر عليه السلام بها قبل البعثة بنفسه الكريمة وهو معصوم من المحرم ومن كل ما يقدح في العدالة قبل البعثة وبعدها، على أن أوروبا لم تبق دار حرب، بل هي الآن دار سلام منذ سلم المغرب أصطوله وعقد معها المعاهدات، وتحقق أمن المسلم فيها على دينه وماله وعرضه، وقد أذن الإمام في التجارة بها، وأطال رحمه الله بأدلة لصراحة حكم الجواز بأدلة، وهكذا كانت أجوبته طيب الله ثراه.
ولد نعمه الله بتازة سنة 1259 تسع وخمسين ومائتين وألف حسبما أخبرني به، وفي سنة 1320 ترك الاشتغال بالدنيا عن اختيار، وطلقها حال إقبالها بالبتات إلى الممات، وانزوى في بيته، وأقبل على مولاه بكليته من مطالعة إلى تلاوة إلى ذكر إلى مجاهدة ومشاهدة نحو تسع سنين، إلى أن استأثر به من له البقاء المنزه عن التغير والفناء بعد انحراف مزاجه أسبوعا في 21 ربيع النبوي عام 1328 ثمانية وعشرين وثلاثمائة وألف، وسبحان من حجب الفضائل بالتراب، والنجوم بالسحاب، وجعل الحياة كلمع السراب، ومضجعه المنور بزاوية الصقليين أحبابه بباب عجيسة، وعند الله أحتسب مصيبتي به، فإنها أعظم مصاب، وأسأل له الفوز في دار المآب.
__________
1 سورة الجمعة الآية: 11.(2/377)
822- أبو عبد الله محمد فتحا بن قاسم القادري 1:
الحسني الفاسي، الإمام النحرير النقاد، والعلم الذي تتضاءل له الأطواد الفقيه الأصولي المعقولي المشارك في العلوم، وقد تسنم منها الذري التي تقصر عنها الفهوم إذا أظلم ليل عويصه واحتلك، كان فكره شمسا تمحو ذلك الحلك، وهبه الله ذهنا متوقدا، وفكرا متيقظا مهما خطا لا يعرف الخطأ، إلى زهد وعفاف، ورضى بالكفاف، بل طلق الدنيا بالبتات، ووأدها وأد البنات، وقد عين لقضاء السويرة، فاحترم بحرم زرهون تاركا الدنيا لمن رضي بالدون، واعتكف هناك على نشر العلم في بلد كان منه قفرا، فأصبح كروض هتون، إلى أن أعفي، فرجع لفاس متوجا بتاج الزهد الصحيح، والعز الصحيح، وبقي سائر عمره ثابتا في ذلك المقام ما مال قط إلى الحطام، ولا احترف بحرفة أمثاله شهادة ولا فتيا إلى أن جاءه الحمام وقد تجرع من قلة ذات اليد مضاضة ولم تكن عليه فيه غضاضة، وربما سأل ذوي اليسار متعففا شاكرا، ودأب طول عمره للعلم ناشرا، فكان أحد أساطين القرويين العظام الذي عمروها بالروس والتآليف الجسام.
أما الثقة به، فكلمة إجماع فهما ودينا من غير نزاع، لازمته مدة طويلة في دروسه المتنوعة فقها وأصولا، وحديثا وسيرا وتوحيدا وغيرها، وناولني بعض تواليفه الممتعة، وسمعت عليه مرتين إلا قليلا حاشيته على شرح ابن كيران على توحيد المرشد البديعة، وله "رفع العتاب والملام عمن قال إن العمل بالضعيف حرام" وتأليف في إيمان المقلد وآخر في السدل وغير ذلك. وقد ترك الدرس بعض أعوام من آخر عمره إلا قليلا لضعف أصابه في جسمه، وكان جسيما ولد سنة 1259 تسع وخمسين ومائتين وألف كما أخبرني به مشافهة.
وتوفي سنة 1331 إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف.
__________
1 أبو عبد الله محمد فتحا بن قاسم القادري الحسني الفاسي: رياض الجنة "1/ 52، 55"، وفهرس الفهارس "2/ 292، 293".(2/378)
824- أبو عيسى المهدي بن محمد بن محمد بن الخضر العمراني 1:
نسبا الوزاني أصلا الفاسي دارا وقرارا الحسني، هو الرجل فقها وفروعا، وأحفظ أهل وقته للمذهب المالكي، وقد ظاهر منه دروعا مع مشاركة في العربية والبيان وغيرهما. علم من الأعلام البادية، وشهاب من الشهب الهادية، أخلاقه روض تضوعت نسماته، وبشره صبح تألقت بسماته يقرط أغراض الدعابة ويصميها، ويفوق سهام الفكاهة إلى مراميها، دءوب على نشر العلم بدروس عامرة، وتواليف متكاثرة هو أكثر من أدركنا بالمغرب تأليفا وتصنيفا، له المعيار الكبير في عدة أسفار والصغير، والفتاوى، وجل المفتين والقضاة يلجئون إلى هذه التواليف. وله حاشية على شرح مصطلح الحديث، وأخرى على شرح الجمل، وأخرى على شرح الآجرومية، وأخرى على شرح الاستعارة، إلى غير ذلك. وقد ملأت المغرب فتاويه ودروسه وطروسه، وانتفع به خلق كثير والله يعينه ويسدده2.
825- سالم بو حاجب آل سيدي مهذب 3:
التونسي، عالمها ومفتيها وخطيبها، وشيخ الجماعة بها ملحق الأحفاد بالأجداد، والمتفرد فيها بالبرعة وسعة الذكر وعلو الإسناد، ذو الإدراك الدقيق، والطبع الرقيق، والناظر للغيب بسليم إدراكه من ستر رقيق، الغواص النقاد، والمشارك النظار، وشيخ المالكية بهاتيك الديار، طأطأت له رءوس أهل زمانه، وكل من هو الآن بتونس ونواحيها فتلاميذه أو تلاميذ تلاميذه، وإنه لمن المعممين المنورين المفكرين فيما يصلح الدنيا والدين، ومثله قليل في هذا الحين، وله إلمام
__________
1 أبو عيسى المهدي بن محمد بن محمد بن الخضر العمراني: دليل مؤرخ العرب "461".
2 قد توفي رحمه الله آخر يوم من المحرم سنة 1342 اثنين وأربعين وثلاثمائة وألف نحو السبعين فيما أظن، وحصل له فتور آخر عمره. ا. هـ. "المؤلف".
3 سالم بو حاجب آل سيدي مهذب التونسي: شجرة النور "426"، والأعلام الشرقية "2/ 109".(2/379)
باللغة الإيطالية إذ جلس هناك مدة ليست بالقصيرة في مأمورية دولية، فاستفاد كثيرا، ووقف على غلطنا الكبير الذي ابتليت به الأمة من قديم وهو جهلنا بما عند غيرنا، لذلك كان يرى تعين تعليم علم الأوروبيين وقدم أولاده لذلك، فأنجب منهم أفراد كانوا قدوة لسواهم حصلوا على معلومات قدمتهم لإحراز النصر في معترك الحياة، ونال بهم حظوة كما نالوها، وانتفع بهم وطنهم أي انتفاع، فمنهم ولده الأكبر خليل بوحاجب الذي هو الآن شيخ مدينة تونس، وهذا السيد على جانب عظيم من المزايا والمكارم، له أخلاق أرق من نسيم السحر لقلب من أسحر صيفا، أو مريض ظفر بالشفا، له مائدة حاتمية ومعالي عصامية، تحلى بوقار وسكينة فحل من النفوس بمكانة مكينة، وله معلومات أهلته لنوال منصبه الرفيع يتكلم باللغتين العربية والفرنسية، ويخطب باللسانين، ونال حظوة الدولتين، وله السمعة العاطرة بين قومه، محبوب في عشيرته، ومستقبله أزهر من ماضيه، والله يحفظه ويكثر من أمثاله. وبداره اجتمعت بوالده المذكور مع جملة من أعلام تونس العظام وغيرهم وفرهم الله، وحصلت مذاكرة علمية فاح شذاها، فعطرت النواحي الذفرة، وأحيت القلوب الميتة، وكان ذلك غرة قعدة الحرام عام 1336، وقد أجازني إجازة عامة وخاصة، وناولني جزءا له مطبوعا جمع فيه خطبة الجمعية التي كان يخطب بها بتونس على النسق العصري النافع، حضا لأمته على النهوض، ونفض غبار الخمول، كما هو المفروض.
وسألني: هل لا زال خطباؤكم على النسق القديم في خطبهم مقتصرين فيها على من صام رمضان وأتبعه بست من شوال غير مبالين بإنذار قومهم بمن يتهددهم من البوار، وإرشادهم لما فيه صلاح دنياهم التي بها صلاح دينهم وأخراهم؟
فأجبته: لا زال خطباؤنا على الطرز القديم تماما وهم في نومهم كأمتهم تحسبهم جامدين، فتأسف كثيرا. وقال لي: لا ينبغي ولا يحمد من مثلك السكوت، بل يجب عليك إيقاظ قومك فقلت له: والله لقد بذلت ما في الوسع في دروسي وغيرها، ولكن ماذا ينتفع إيقاظ من لا حياة له، إذ تناديه ودور النوم لا زال لم يتم في الأمتين، وأخاف أن لا يستيقظوا إلا وقد فات الإبان الذي تنفع(2/380)
فيه اليقظة؛ إذ علماء أمتنا أغرق في النوم من عامتنا، نعم علينا الثبات في مبدئنا من غير ملل، وبينما هو يذاكرني، وينثر درر العلوم ودقائق الفهوم إذ هو يتهم فكره بالخرف والهرم، فقلت له: كلا إن فكرك أصح وأدق من فكر كثير من الشبان، ولا زال فكرك في ثوب الشباب القشيب، لم يتقمص معك في شكل الشيخوخة والمشيب لما عليه الشيخ من النزاهة والتقوى، ونشأته البدوية الصحيحة التربية. وقد كان إذ ذاك في عقد التسعين، وعندي إجازة أجاز فيها الشيخ محمد بن عثمان السنوسي مؤرخه 1290 سنة تسعين ومائتين وألف، حفظه الله وبارك في أنفاسه العاطرة1.
826- أبو العباس أحمد بن محمد بن الخياط الزكاري الحسني الفاسي الدار:
بل هو مقلتها التي بها تبصر، ولسانها البليغ يسهب أو يختصر، إمام أهل الورع والتقوى، والمشار إليه في المغرب بإتقان العلوم والفتوى والعضو في الشورى، ومبرز ذوي المكانة الدينية العليا، أستاذ الفقهاء والمحدثين، وحامل لواء المفسرين والمحققين والصوفية والمدرسين والمؤلفين، شيخنا وقدوتنا فضاض المشكلات، وبدر المدلهمات، فارس الفقه المجلي، وجامع جوامع أصوله وإمامه المحلي، كشاف التفسير بالسنة، وإضاءة التوحيد في الدجنة، زيد الفرائض، ورافع الحجاب عن علم الحساب، وفائق التوثيق وجنيد المتصوفين من غير ارتياب، ذو التواليف النافعة، والتلاميذ المالئة للأقطار الشاسعة، محظوظ في العلم بالسهمين درسا وتأليفا على تعجب كان يحصل له في الإلقاء، وطالما حضر شورى النوازل القضائية، فنال من العلوم ثناء منيفا، ولقد فشت فتاويه في ديار
__________
1 لقد ورد نعي الشيخ سالم أخيرا بعدما ترقى لرتبة باش مفتي المالكية وهي أعلى رتبة ينالها عالم مالكي بتونس يعني رئيس المجلس الشرعي المالكي، فانتقل من الرتبة الراقية إلى رحمة الله الباقية يوم الأربعاء 3 ذو الحجة عام 1342 اثنين وأربعين وثلاثمائة وألف عن ست وتسعين سنة رحمه الله كما أن ولده سيدي خليل ترقى لأعلى منصب إسلامي هناك وهو الصدارة العظمى وحق له ذلك، فإنه من الرجال الذين يعول عليهم تلك البلاد حقق الله الرجاء فيه وفي بلاده، وأبقاه لها عدة، وفسح له المدة. ا. هـ. "مؤلف".(2/381)
المغرب، وكان فيها لسان الشريعة المعرب، وما حفظ عنه أنه تناول أجرا على فتوى أو حكم، أو لمز بما يصم، بل ورعه لا تقرب الشبهات حماه، واجتهاد لا يبلغ مرماه، إلى تواضع وخفض جناح، وأخلاق تتأرج منها البطاح.
له تصنيف مختصر في التوحيد، وآخر في القلم الفاسي المصطلح عليه عند الموثقين، وحواش على شرح المصطلح الحديثي، والكل مطبوع. وغير ذلك. وقد تناول شيئا من التجارة في أول أمره، ثم تجرد على طريق الصوفية الدرقاوية، ثم رجع لنشر العلم والعكوف على نفع الخلق إلى الآن، قرأ على شيوخ كبار كالشيخ محمد بن المدني جنون وهو عمدته وغيره ممن ذكرته في الفهرسة، وأخذ عنه عموم علماء المغرب المحققين مرحولا إليه، مؤتمن جليل القدر، عظيم الخطر، قرأت عليه كثيرا من الفقه والحديث والتفسير والأصول والسير وغيرها، وانتفعت به، ولازمته أعواما، وإنه لمن أهل الورع والدين المتين الذين أدركنا والحمد لله.
ولقد ذاكرته وراجعته في عدة مسائل وقد أجازني إجازة عامة وخاصة شفاهيا، ثم أجازني ثانيا كتابة، وأجاز فيها ولدى محمد وعلي أصلح الله حالهما تجد نصها في الفهرسة، ولما نظمت المجلس العلمي بالقرويين، انتخب هو عضوا أول فيه، وخليفة الرئيس، وقد وازرني فيه بأفكاره الصائبة، ثم لما أستعفيت من رياسته، رشح لها كما سبق لنا ذلك، ولا زال رئيسه إلى الآن، وبمثله تشرف المناصب العظام.
أخبرني أنه ولد1 في 16 شعبان عام 1252 اثنتين وخمسين ومائتين وألف والله يزكي عمره للإسلام.
__________
1 قد توفي شيخنا ابن الخياط المترجم بعدما عجز عن الدرس نحو خمس سنين يوم الاثنين 12 رمضان عام 1343 ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف، وكان الرزء به عظيما رحمه الله. ا. هـ. "المؤلف".(2/382)
827- أبو العباس أحمد بن الجيلاني الأمغاري الحسني
كما رأيته بخطه، الفاسي دارا وقرارا، لا أدري كيف أقول في تعريفه وهو العلم وفضله أظهر من أن يطويه القلم؛ إذ هو شيخ فقهاء الوقت الأعلام، والمحقق الضرغام، فارس معقول ومنقول، وأحد النظار الفحول، شهير في كل مصر، وبصير بحال أهل العصر، مشهور العلم والنزاهة والكياسة النباهة، فيلسوف الفقهاء، وشيخ النبلاء، وفقيه المتصوفين، وبقية العاملين والصالحين المتصفين المنصفين، ولسان المناطقة والمتكلمين، ثاقب الفهم، واسع الفكر، بادي البشر، مشارك في الفنون محققها والمعقول والتصوف أغلب عليه ولا سيما علم المنطق، فإنه أعرف أهل المغرب به غير مدافع، قرأته عليه مرات، فكان في لسانه كالحديد في يد داود عليه السلام، كما لازمته في النحو والفقه والكلام وغيرها مدة طويلة، وانتفعت به كثيرا جزي خيرا.
تولى عضوية الشورى من لدن الدولة السابقة، فكان مثال النزاهة، طاهر الذيل، ثم انتخب عضوا ثانيا في المجلس العلمي بالقرويين، فكان لي كالعضو الأول مؤازرة، ثم صار خليفة للرئيس السابق، فكان هو المتصرف في أكثر مدته، ثم تولى الرياسة بعده ولا زال شاغلا لهذا المركز المهم في نظر الأمة المغربية، وإنه لحقيق به؛ إذ هو من أجل الشيوخ فضلا، وأكثرهم نفعا، وللمكارم جمعا، وفضل الشيخ كثير، وبحره كبير أنى يفي به قلم العاجز القصير.
أخذ عن الشيخ جنون الكبير وطبقته، وبعض تلاميذه كمحمد بن التهامي الوزاني، وقد شاركته في كثير من شيوخه، وأجازني إجازة خاصة وعامة مشافهة، ولا زال والحمد لله بقيد الحياة بمنصبه الرفيع، مواظبا على درسه الفقهي الخليلي، وهو في عقد السبعين فيما أظن، بارك الله في أنفاسه، وأطال في العافية برد لباسه.(2/383)
أشهر مشاهير الشافعية بعد المائة الرابعة إلى الآن:
828- أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي 1 الجرجاني:
أحد أئمة الشافعية بما وراء النهر. توفي سنة 403 ثلاث وأربعمائة.
829- أبو محمد عبد الغني بن سعيد الأزدي 2:
المصري حافظها ألف كتاب "المؤتلف والمختلف" وكتاب "المشتبه" قيل للدارقطني: هل رأيت أحدا يرجى علمه في الحديث؟ قال: شاب بمصر كأنه شعلة من نار، يقال له: عبد الغني. ولما بكى لفراقه المودعون عند خروجه من مصر، قال لهم: قد تركت لكم خلفا، توفي سنة 409 تسع وأربعمائة عن سبع وسبعين.
830- أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه الحاكم المعروف بابن البيع 3:
الضبي الطهماني النيسابوري: كان حافظا جليلا، قال السبكي: اتفق
__________
1 أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي الجرجاني: الرسالة المستطرفة "44".
2 أبو محمد عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري: أبو محمد، الأزدي، المصري الحجري العامري الحافظ المعدل. ولد سنة "332"، مات سنة "409 أو نيف سنة "410".
الأنساب "1/ 181"، طبقات الحفاظ "411"، البداية والنهاية "12/ 7"، تذكرة "3/ 1047"، العبر "3/ 100"، وفيات الأعيان "3/ 223"، معجم المؤلفين "5/ 273، 284"، المنتظم "7/ 291"، دائرة الأعلمي "21/ 142".
3 أبو عبد الله محمد بن عبد الله محمد بن حمدويه الحاكم "ابن البيع": أبو عبد الله، الضبي النيسابوري، العلهماني الحاكم، الشافعي، الشهرة ابن البيع، ولد سنة "321"، مات سنة "405".
الأنساب "2/ 400"، المنتظم "7/ 274"، إفادة النصح ص"128"، طبقات الحفاظ "409"، تاريخ بغداد "5/ 473"، التقييد "1/ 64"، لسان الميزان "25/ 232"، نسيم الرياض "3/ 471"، الأعلمي "26/ 312، 27/ 43"، العلل المتناهية "1/ 122".(2/384)
الأئمة أنه أعظم الأئمة الحفاظ الذين حفظ الله بهم الدين. ا. هـ. وهو صاحب التصانيف الكثيرة بلغت ألفا وخمسمائة جزء، وفي "المنح البادية" إن تواليفه بلغت خمسمائة، ولا منافاة؛ إذ الأول عدد الأجزاء، والثاني عدد التواليف كتاريخ نيسابور أعود التواريخ على الفقهاء بفائدة، و"علوم الحديث" و"الإكليل" و"مزكي الأخبار" وله "المستدرك" على الصحيحين إلا أنه تركه في المسودة، فلذلك لم تتفق نسخه.
وقال الذهبي: إنما فيه جملة وافرة على شرطهما، وجملة كبيرة على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الربع صح سنده وإن كان فيه علة، ونحو الربع مناكير وواهيات لا تصح، وفي ذلك موضوعات.
وقال في "المناح البادية": وقصد بالمستدرك ضبط الزوائد على الصحيحين مما هو على شرطهما، أو شرط أحدهما وقد أدخل فيه عدة موضوعات حمله على تصحيحها إما التعصب لما رمي به من التشيع وإما غيره فضلا عن الضعيف وغيره، بل يقال: إن السر في ذلك أنه ألفه في آخر عمره، وقد حصلت له غفلة وتغيير، وأنه لم يتيسر له تحليله وتنقيحه، ويدل له أن تساهله في خمسه الأول قليل جدا بالنسبة لباقيه، ولذلك لا يعتمد الحفاظ أحاديث "المستدرك" إلا ما سلم تصحيحه وتحسينه مثل الذهبي أو الحافظ ابن حجر.
وله رحلتان مهمتان وشيوخه بنيسابور وحدها نحو ألف شيخ. فانظر رعاك الله ما وصل إليه الإسلام من عدد العلماء. وسمع بغيرها من نحو ألف آخر، وكان مرحولا إليه لسعة علمه، واتفاق الناس على فضله، تولى القضاء مرة بعد مرة، وتولى الوزارة والسفارة، ولقب بالحاكم لتقليده القضاء. توفي بنيسابور سنة 405 خمس وأربعمائة عن أربع وثمانين سنة. والبيع بكسر الياء المشددة(2/385)
بوزن قيم.
831- أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفراييني 1:
إمام من أئمة الشافعية بما وراء النهر، له التصانيف الجليلة ككتابه الكبير الذي سماه "جامع الحلي" في أصول الدين والرد على الملحدين، أخذ عنه القاضي أبو الطيب الطبري، وبنيت له المدرسة المشهورة بنيسابور، وهو أحد من بلغ حد الاجتهاد، لتوفر شرط الإمامة والتبحر فيه، توفي سنة 418 ثمان عشرة وأربعمائة.
832- أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي 2:
البغدادي: إمام كبير كثير العلم لا يساجل في الفقه وأصوله والفرائض والكلام والحساب اشتهر صيته، وعنه أخذ العلم أكثر أهل خراسان، صنف في العلوم، ودرس في سبعة عشر فنا، توفي بإسفرايين بلده سنة 429 تسع وعشرين وأربعمائة، وكان ذا مال وثروة أنفقها في العلم، ولم يكتسب من العلم شيئا.
883- أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني 3:
الحافظ الصوفي، الإمام الجليل جمع الله له علوم الرواية والنهاية في الدراية، له التصانيف العظيمة في الحديث والتاريخ كمستخرج الصحيحين، و"الحلية" وغيرها مرحولا إليه من الآفاق، توفي سنة 430 ثلاثين وأربعمائة.
__________
1 أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرييني: وفيات الأعيان "1/ 28"، طبقات الشافعية "3/ 111، 114"، والبداية "12/ 24".
2 أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي: وفيات الأعيان "3/ 203"، وطبقات الشافعية "3/ 238"، وتبيين كذب المفتري "253".
3 أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني الحافظ الصوفي: سير النبلاء "11/ 99"، ووفيات الأعيان "1/ 91، 92"، وتذكرة الحفاظ "1092"، وميزان الاعتدال "1/ 52"، والشذرات "3/ 9245".(2/386)
834- أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري 1:
انتهت إليه رياسة العلم ببغداد، كان ثقة فاضلا صادقا أديبا ورعا، واسع العلم، وكان له شعر على طريق الفقهاء، ومساجلة مع المعرى، وكان قاضيا بربع الكرخ ورعا.
ذكر السمعاني في ترجمة أبي إسحاق علي بن أحمد اليزي أنه كان له قميص وعمامة بينه وبين أخيه إذا خرج قعد هذا في البيت. قال السمعاني: وسمعته يوما يقول، وقد دخلت عليه مع علي بن الحسين الغرنوي الواعظ داره، فوجدناه عريانا متأزرا بمئزر، فاعتذر من العري، وقال: نحن إذا غسلنا ثيابنا نكون كما قال القاضي أبو الطيب:
قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم ... لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل
عاش الطبري مائة سنة وسنتين، لم يختل عقله، ولا تغير فهمه، يفتي ويستدرك على الفقهاء الخطأ، ويقضي ببغداد، ويحضر المواكب في دار الخلافة إلى أن مات. تفقه بشامل، ثم ارتحل لنيسابور، ثم بغداد، وعنه أخذ العراقيون، له كتب كثيرة عديمة النظير في الخلاف والمذهب والجدل، وله مناظرات مع القدوري والطالقاني الحنفيين. توفي سنة 450 خمسين وأربعمائة.
835- أبو الحسن علي بن محمد الماوردي 2:
البصري ثم البغدادي: كان واسع التبحر في العلوم سيما الفقه والأصول، والتاريخ والسياسة والأدب، له تآليف نادرة المثال كـ"الحاوي" في الفقه في عشر
__________
1 أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري: أبو الطيب، القاضي الطبري الفقيه الشافعي، ولد سنة 348، مات سنة 450.
الأنساب "9/ 42"، المعين رقم "441"، تاريخ بغداد "9/ 358"، التقييد "2/ 36"، العبر "3/ 222"، المنتظم "8/ 198"، وفيات الأعيان "2/ 512"، روضات الجنات "8/ 304" دائرة معارف الأعلمي "20/ 275".
2 أبو الحسن علي بن محمد الماوردي البصري ثم البغدادي: أبو الحسن، الماوردي القاضي البصري.
الإلماع للقاضي عياض "99، 103".(2/387)
مجلدات، و"الأحكام السلطانية" مثل فيه الهيئة الاجتماعية من الخليفة إلى الوزارة والعمال إلى طبقات العامة فقاس وعلل، وتفلسف ما شاء مما دل على سعة مداركه إلا أن الخيال أغلب عليه من الحقائق، وله قانون الوزارة وسياسة الملك، وأدب الدين والدنيا، متداول، ولي القضاء ببلدان كثيرة، ثم ببغداد، ولم يظهر تصانيفه في حياته، بل دسها على جودتها إلى ما بعد وفاته. وله تفسير مهم توفي سنة 450 خمسين وأربعمائة.
836- أبو عبد الله الحسين بن نصر المعروف بابن خميس 1:
الكعبي الموصلي تاج الإسلام، مجد الدين، صاحب التصانيف الكثيرة، توفي ببلده الموصل سنة 452 اثنتين وخمسين وأربعمائة.
837- أبو عاصم محمد بن أحمد الهروي 2:
العبادي مؤلف "المبسوط" و"الزيادات" و"الهادي" معروف بتعويض العبارة كأستاذه أبي إسحاق الإسفرايين، وهناك ابتدأ هرم العلوم، توفي سنة 458 ثمان وخمسين وأربعمائة.
838- أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي 3:
النيسابوري: أحد أئمة المسلمين، الحافظ الكبير، الناشر للسنة، القانع من الدنيا بالقليل، الذاهب على سيرة السلف، القائم بنصرة مذهب الشافعية فروعا وأصلا، كان جبلا من جبال العلم، روى عن الإمام الحاكم وغيره، له رحلة مهمة، وعلم واسع، ورواية كثيرة، وكتب منتشرة كـ"السنن" و"المعرفة"
__________
1 أبو عبد الله الحسين بن نصر المعروف بابن خميس الكعبي الموصلي: سير النبلاء "12/ 211"، ووفيات الأعيان "2/ 139"، وطبقات الشافعية "4/ 217".
2 أبو عاصم محمد بن أحمد الهروي العبادي: أبو عاصم. الهروي.
تبصير المنتبة "3/ 981".
3 أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي النيسابوري: وفيات الأعيان "1/ 75، 76"، والمنتظم "8/ 342"، وطبقات الشافعية "3/ 3، 7"، وتذكرة الحفاظ "1132".(2/388)
و"المبسوط" نصوص الشافعي، وقد بلغت كتبه ألف جزء كلها غرر، ولا سيما السنن الكبرى والصغرى، و"معرفة السنن والآثار" فهي من الكتب المهمة في الحديث والفقه.
قال إمام الحرمين: كل الشافعية للشافعي منه عليهم إلا البيهقي، فله منة على الشافعي. جمع نصوص الشافعي في إحدى عشرة مجلدة، ولد سنة 384، وتوفي سنة 458 ثمان وخمسين وأربعمائة. رحمه الله.
839- أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الفوارني 1:
المروزي: صاحب التصانيف كـ"العمدة" و"الإبانة" شيخ أهل مرو، توفي سنة 461 إحدى وستين وأربعمائة.
840- أبو علي الحسين بن محمد المروزي 2 الشهير بقاضي حسين:
كان إماما كبيرا صاحب وجوه غريبة في المذهب، له تعليقة في الفقه شهيرة ومهما قال إمام الحرمين والغزالي: القاضي، فإنما عيناه، أخذ عن القفال وغيره، وصنف في الأصول والفروع والخلاف. توفي سنة 462 اثنتين وستين وأربعمائة.
841- أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي 3:
الحافظ الكبير، أحد أعلام الإسلام، ومهرة الحديث، صاحب التصانيف
__________
1 أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الفوراني المروزي: وفيات الأعيان "3/ 132"، وتهذيب الأسماء واللغات "2/ 280"، وطبقات الشافعية "3/ 225"، ولسان العرب "3/ 433".
2 أبو علي الحسين بن محمد المروروذي: وفيات الأعيان "2/ 134"، وتهذيب الأسماء واللغات "1/ 164، 165"، وطبقات الشافعية "3/ 155".
3 أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي الحافظ الكبير: سير النبلاء "11/ 208"، ووفيات الأعيان "1/ 92"، ومعجم الأدباء "4/ 13"، وطبقات الشافعية "3/ 12"، وتذكرة الحفاظ=(2/389)
المنتشرة. قال فيه شيخه أبو إسحاق الشيرازي: إنه نظير الدارقطني، كانت له ثروة طائلة، وكرم حاتمي، وقف جميع كتبه وماله عند موته. كان حنبليا ثم انتقل شافعيا، توفي سنة 463 ثلاث وستين وأربعمائة.
842- أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري 1:
إمام جليل جمع بين علم الفقه والتصوف والتفسير والحديث والأصول والأدب والشعر والكتابة، جامع بين الشريعة والحقيقة أصله من العرب الذين قدموا خراسان رحل إلى نيسابور، فأخذ التصوف عن أبي علي الدقاق وصناعة الوعظ، وأخذ الأصول عن ابن فورك، وأخذ الفقه عن أبي بكر الطوسي، وأبي إسحاق الإسفراييني، وجمع بين طريقتي الإسفراييني وابن فورك، وبرع في العلوم، وصنف التفسير الكبير أجود التفاسير، والرسالة المشهورة المطبوعة في رجال التصوف، وسمع الحديث ببغداد والحجاز، وكانت له مجالس وعظ ومجالس سماع الحديث، وكان ثقة مأمونا، أشعريا شافعيا، توفي سنة 465 خمس وستين وأربعمائة.
وكان ولده أبو نصر عبد الرحيم إماما كبيرا، أشبه أباه في علومه ومجالسه، ومن شعر أبي القاسم:
ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة ... فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها ... أماني لم تصدق كخطفة بارق
843- أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزآبادي 2:
الشيرازي يضرب به المثل في الفصاحة والمناظرة، ويشبهونه بابن سريج
__________
1 أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري: أبو القاسم. القشيري النيسابوري، الخراساني الصوفي. ولد سنة "376"، مات سنة "465".
التاج المكلل "75" الأنساب "10/ 427"، نسيم الرياض "2/ 431"، سير النبلاء "18/ 227"، الوفيات "252"، التقييد "2/ 131"، علل "1/ 122"، وفيات الأعيان "3/ 205"، تاريخ بغداد "11/ 83"، دائرة الأعلمي "21/ 152".
2 أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزآبادي الشيرازي: سير النبلاء "11/ 201"، وطبقات=(2/390)
في تأصيل الفقه وتفريعه ويحاكيه في انتشار التلاميذ، له مناظرات مع الدامغاني الحنفي، ولاه نظام الملك المدرسة النظامية على شاطئ دجلة، فكان يدرس بها. ألف "التنبيه" و"المهذب" في الفقه. و"النكت" في الخلافيات، و"اللمع" وشرحها، و"التبصرة" في الأصول، و"المعونة" في الجدل، وله الشعر الحسن وفيه يقول عاصم شاعر بغداد:
تراه من الذكاء نحيف جسم ... عليه من توقده دليل
إذا كان الفتى ضخم المعالي ... فليس يضره الجسم النحيل
وكان في غاية من الورع والتشدد في الدرس، وعاش فقيرا صابرا، ومع هذا فهو حسن المجالسة، طلق المحيا، ومحاسنه أكثر من أن تحصى، توفي سنة 476 ست وسبعين وأربعمائة.
844- أبو نصر عبد السيد بن محمد المعروف بابن الصباغ 1:
فقيه العراقيين في وقته أول من درس بنظامية بغداد، وبعد عزله منها تولى أبو إسحاق السابق ثم بعد موت أبي إسحاق أعيد لها، وكان يضاهيه وتقدم عليه في معرفة المذهب، وكانت الرحلة إليه من البلاد ثقة حجة صالح كما في ابن خلكان، وانتهت إليه رياسة الشافعية ببغداد، ألف "الشامل" وهو من أجود كتب الشافعية وأصحها نقلا وأثبتها أدلة، و"الكامل" و"عدة العالم"، و"الطريق السالم"، و"كفاية السائل" وغيرها. توفي سنة 477 سبع وسبعين وأربعمائة.
__________
1 أبو نصر عبد السيد بن محمد المعروف بابن الصباغ: أبو نصر، البغدادي الشافعي. مات سنة "477".
المعين "1512"، وفيات الأعيان "30/ 217"، العبر "3/ 287"، نسيم الرياض "1/ 55"، دائرة الأعلمي "21/ 123"، حاشية التحبير "2/ 355".(2/391)
845- أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني 1:
المعروف بإمام الحرمين إمام نيسابور، بل إمام المشرق كله في الفقه والكلام والأصول، جاور بمكة أربع سنين، ومن هنا تلقب بإمام الحرمين، ولما عاد إلى نيسابور بنى له نظام الملك المدرسة النظامية، ألف "البرهان" في الأصول و"النهاية" في الفقه، قال ابن السبكي: لم يؤلف مثلها في المذهب. أثنى عليه معاصره أبو إسحاق الشيرازي وغيره. توفي سنة 478 ثمان وسبعين وأربعمائة.
846- أبو سعد عبد الرحمن بن محمد المتولي 2:
صاحب التتمة أحد أئمة رفعاء الشأن، بعيد الصيت، له مصنفات، توفي سنة 478 ثمان وسبعين وأربعمائة.
847- أبو المظفر منصور بن أحمد بن عبد الجبار التميمي المعروف بابن السمعاني 3:
كان إماما جليلا، ونوه به الشافعية كثيرا خصوصا حيث كان حنفيا يناضل عن مذهبه ثلاثين سنة، ثم رجع شافعيا، وبرجوعه رجعت العائلة السمعانية كلها شافعية، وعلى كل حال، فهو رفيع القدر، طبق ذكره الآفاق، فقيه محدث له
__________
1 أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني "إمام الحرمين": أبو المعالي، الجويني النيسابوري إمام الحرمين الضياء. ولد سنة "419"، مات سنة "478".
الأنساب "3/ 430"، سير النبلاء "18/ 468"، التحفة اللطيفة "3/ 86"، المعين "1515"، العقد الثمين "5/ 507"، وفيات الأعيان "3/ 167"، طبقات الشافعية للسبكي "3/ 249"، حاشية التحبير "1/ 81"، حاشية الإكمال "2/ 362"، المشتبه "139".
2 أبو سعد عبد الرحمن بن محمد المتولي "صاحب التتمة": سير النبلاء "11/ 282"، ووفيات الأعيان "3/ 133"، وطبقات الشافعية "3/ 223"، والشذرات "3/ 358".
3 أبو المظفر منصور بن أحمد بن عبد الجبار التميمي المعروف بابن السمعاني: نسبة إلى سمعان بطن بن تميم، وترجمته في طبقات الشافعية "4/ 21"، ووفيات الأعيان "3/ 211".(2/392)
تفسير حسن، و"القواطع" في الأصول، و"البرهان" في الخلاف، به نحو ألف مسألة وغيره وكان رجوعه عن مذهب الحنفية بمحضر أئمة الفريقين في دار والي البلد ملكانك سنة 468، وحصل تشويش للعامة، وأغلق باب الجامع الأقدم، وترك الشافعية الجمعة إلى أن خرج عن مرو إلى نيسابور، فاستقبلوه فيها استقبالا حسنا، وأنزلوه في عزو وتكرمة، ثم بعد سكون الهيعة، عاد إلى مرو، وجلس للتدريس في مدرسة الشافعية، وعلا شأنه، وكان يقول: ما حفظت شيئا فنسيته. توفي سنة 489 تسع وثمانين وأربعمائة.
848- أبو الفتح سهل بن أحمد بن علي الأرغياني 1:
الإمام الكبير المقدار علما وزهدا، قرأ على القاضي حسين حتى قال: ما علق أحد طريقتي مثله، وعلى إمام الحرمين، وناظر في مجلسه، وارتضى كلامه. وتقلد قضاء أرغيان بفتح الهمزة وكسر الغين المعجمة، ناحية بنيسابور، ورحل للحجاز والعراق والجبال، وسمع شيوخنا عدة، وسمعوا منه، وأشار عليه الشيخ العارف الحسن السمناني بترك المناظرة، فتركها وعزل نفسه عن القضاء، وبنى للصوفية دويرة من ماله، وأقام بها مشغولا بالتصنيف والعبادة، توفي سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
849- أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني 2:
يضرب به المثل في الحفظ، وكان نظام الملك يعظمه كثيرا، ألف البحر
__________
1 أبو الفتح سهل بن أحمد بن علي الأرغياني: ألباني الأرغياني.
الأنساب "2/ 68"، حاشية الأكمال "1/ 576".
2 أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني: أبو المحاسن. الروياني. ولد سنة "415". قتل شهيدا سنة "502".
الروياني "بضم الراء وسكون الواو مثناة تحت نسبة إلى بطبرستان.
الأنساب "6/ 198"، إفادة النصح ص"28"، وفيات الأعيان "3/ 198"، حاشية التحبير "1/ 251"، المشتبه ص"327"، دائرة الأعلمي "21/ 276".(2/393)
جمع فيه فروع الحاوي للماوردي مع فروع تلقاها عن أبيه وجده، قتله الملاحدة ببلد آمل سنة 502 اثنتين وخمسمائة.
ويحكى عنه أنه قال: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من حفظي.
850- أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي 1:
حجة الإسلام، وأشهر الأعلام، برع في المذهب والخلافيات، والجدل والأصلين والمنطق، والحكمة والفلسفة، وصفه شيخه إمام الحرمين بأنه بحر يقذف، تولى تدريس النظامية ببغداد، له في المذهب "البسيط" و"الوسيط"، و"الوجيز" و"الخلاصة"، وفي الأصول "المستصفى" وهو من أحسن ما ألف فيه، حسن الأسلوب، فصيح العبارة وقد طبع، وله فيه أيضا "المنخول" و"بداية الهداية" و"المآخذ" في الخلافيات، و"شفاء الغليل في بيان مسائل التعليل" ومن أفضل مؤلفاته "إحياء علوم الدين" بل من أحسن ما ألف في الإسلام في بابه، وهي في فلسفة علوم الدين.
وله كتب غيرها، وقد زهد في آخر عمره، وتجرد للعبادة سنة 488 وحج وذهب للشام، فاشتغل بالدروس، ثم انتقل لبيت المقدس، ثم الإسكندرية، ثم إلى طوس، ثم عاد إلى نيسابور، للتدريس بالنظامية، ثم تزهد في آخر عمره إلى أن مات.
ولم يجئ بعده في الإسلام، جامع لأشتات العلوم مثله إلا ما كان من علم الحديث، فلم يكن فيه بالمكانة التي تناسب قدره، ولو أنه لم يتساهل في أحاديث الإحياء، لما وجد الطاعنون إليها سبيلا، ولد بطوس سنة 450 وتوفي بالطابران سنة 505 خمس وخمسمائة.
__________
1 أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي: وفيات الأعيان "4/ 216"، وطبقات الشافعية "4/ 101"، والمنتظم "9/ 168"، وتبيين كذب المفتري "291، 306".(2/394)
851- أبو الحسين علي بن محمد الطبري عماد الدين الكيا الهراسي 1:
مدرس النظامية ببغداد، كان إماما نظارا محدثا يستعمل الحديث في مناظراته، ويقول: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رءوس المقاييس في مهاب الرياح، له باع واطلاع، أخذ عن إمام الحرمين، وكان رفيق الغزالي في الطلب، بل فضلوه عليه علما، توفي سنة 504 أربع وخمسمائة عن نحو مائة سنة، والكيا بكسر الهمزة والكاف وسكون اللام وآخره مقصور، والهراسي كالعبادي بسين مهملة.
852- أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي 2:
المعروف بالمستظهري الإمام الكبير، ولد بميا فارقين، وكان حافظا للمذهب، ورعا زاهدا، له تصانيف كـ"الشافعي" شرح مختصر المزني و"المستظهري" و"المعتمد" وغيره. توفي سنة 507 سبع وخمسمائة.
853- أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي 3:
الحافظ المشهور المعروف بابن القيسراني، كان أحد الرحالين في طلب
__________
1 أبو الحسين علي بن محمد الطبري عماد الدين الكيا الهراسي: أبو الحسن. الهراسي. مات سنة "504":
المعين "161"، شذرات "4/ 8".
2 أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي "المستظهري": أبو بكر. مات سنة "507".
المعين رقم "1615".
3 أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي "ابن القيسراني": أبو الفضل. المقدسي الأثري الطاهري، الصوفي الشيباني الحافظ، الشهرة نوباذان. ولد سنة 448. مات سنة "507":
التاج المكلل ص"117"، الأنساب "13/ 189"، سير النبلاء "19/ 361"، الميزان "3/ 587"، الأعلام "6/ 171"، التقييد "1/ 56"، الوافي بالوفيات "3/ 166"، الأعلمي "16/ 292"، وفيات الأعيان "4/ 287".(2/395)
العلم، والحديث لأقطر الأرض، ثم استوطن همذان، له مصنفات غزيرة المادة كـ"الأطراف" التي له على الكتب الستة، وكتاب "الأنساب"، وهو الذي ذيله أبو موسى المدني، وكان له معرفة بالتصوف وتفنن وتأليف فيه. وله الشعر الحسن، أخذ عنه حفاظ وقته، توفي سنة 507 سبع وخمسمائة ببغداد عن تسع وخمسين سنة.
854- أبو القاسم وأبو محمد الحسين بن مسعود الفراء 1 البغوي:
محيي السنة، مؤلف "المصابيح" في أحاديث الأحكام، و"شرح السنة"، وهما من مواد الفقه العامة، وفي ما قرب من هذا التاريخ ألف أبو القاسم الزيدوني في الأندلس كتابه في أحاديث الأحكام، وأبو العباس بن أبي مروان، ثم تلاهما عبد الحق الإشبيلي المتوفى سنة 582، ولعل البغوي أسبق لهذه المزية في المتأخرين، وله "التهذيب" و"الفتاوى" وغيرها. كان إماما جليلا فقيها محدثا مفسرا، جامعا بين العلم والعمل، سالكا سبيل السلف، توفي سنة 516 ست عشرة وخمسمائة. وفي "المنح" سنة عشر وخمسمائة عن ثمانين سنة بمرو الروذ محل إقامته. رحمه الله.
855- أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي 2:
الحافظ سبط القشيري النيسابوري خطيبها، له "المفهم لشرح غريب مسلم"
__________
1 أبو القاسم وأبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي: الفراء نسبة إلى عمل الفراء وبيعها، والبغوي بفتح الباء الموحدة والغين المعجمة نسبة إلى بلدة بخراسان بين مرو وهرات يقال لها بغفشور بفتح الموحدة وسكون المعجمة وضم الشين المعجمة نسبة على غير قياس وترجمته في وفيات الأعيان "2/ 136"، وطبقات الشافعية "4/ 214".
2 عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي: أبو الحسن، الفارسي النيسابوري، ولد سنة 451، مات سنة "529".
البداية والنهاية "12/ 235"، شذرات الذهب "4/ 93"، طبقات الشافعية "7/ 171"، التقييد "2/ 102"، وفيات الأعيان "3/ 225"، تذكرة "4/ 225"، مرآة الجنان "3/ 259" سير النبلاء=(2/396)
العلم، والحديث لأقطر الأرض، ثم استوطن همذان، له مصنفات غزيرة المادة كـ"الأطراف" التي له على الكتب الستة، وكتاب "الأنساب"، وهو الذي ذيله أبو موسى المدني، وكان له معرفة بالتصوف وتفنن وتأليف فيه. وله الشعر الحسن، أخذ عنه حفاظ وقته، توفي سنة 507 سبع وخمسمائة ببغداد عن تسع وخمسين سنة.
854- أبو القاسم وأبو محمد الحسين بن مسعود الفراء 1 البغوي:
محيي السنة، مؤلف "المصابيح" في أحاديث الأحكام، و"شرح السنة"، وهما من مواد الفقه العامة، وفي ما قرب من هذا التاريخ ألف أبو القاسم الزيدوني في الأندلس كتابه في أحاديث الأحكام، وأبو العباس بن أبي مروان، ثم تلاهما عبد الحق الإشبيلي المتوفى سنة 582، ولعل البغوي أسبق لهذه المزية في المتأخرين، وله "التهذيب" و"الفتاوى" وغيرها. كان إماما جليلا فقيها محدثا مفسرا، جامعا بين العلم والعمل، سالكا سبيل السلف، توفي سنة 516 ست عشرة وخمسمائة. وفي "المنح" سنة عشر وخمسمائة عن ثمانين سنة بمرو الروذ محل إقامته. رحمه الله.
855- أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي 2:
الحافظ سبط القشيري النيسابوري خطيبها، له "المفهم لشرح غريب مسلم"
__________
1 أبو القاسم وأبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي: الفراء نسبة إلى عمل الفراء وبيعها، والبغوي بفتح الباء الموحدة والغين المعجمة نسبة إلى بلدة بخراسان بين مرو وهرات يقال لها بغفشور بفتح الموحدة وسكون المعجمة وضم الشين المعجمة نسبة على غير قياس وترجمته في وفيات الأعيان "2/ 136"، وطبقات الشافعية "4/ 214".
2 عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي: أبو الحسن، الفارسي النيسابوري، ولد سنة 451، مات سنة "529".
البداية والنهاية "12/ 235"، شذرات الذهب "4/ 93"، طبقات الشافعية "7/ 171"، التقييد "2/ 102"، وفيات الأعيان "3/ 225"، تذكرة "4/ 225"، مرآة الجنان "3/ 259" سير النبلاء=(2/397)
وكانت وفاة أبي جعفر بن هبة الله الراوي عن أبي الوقت وفي بغداد سنة 621 إحدى وعشرين وستمائة.
858- أبو القاسم علي بن أبي محمد الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر 1:
الحافظ الشهير ومن أعيان فقهاء الشافعية له رحلة واسعة جمع فيها ما لم يتفق لغيره، رفيق أبي سعد السمعاني في الرحلة خرج التخاريج وصنف التصانيف، له تاريخ دمشق في ثمانين جزءا، ويوجد منه في خزانة المواسين بمراكش سبعة وعشرون جزءا كبارا من تجزئة نيف وثلاثين. عاينته بنفسي، توفي سنة 571 إحدى وسبعين وخمسمائة عن اثنتين وسبعين.
859- أبو العباس الخضر بن نصر بن عقيل الإربلي 2:
الفقيه العارف بالمذهب الشافعي، بنى له الأمير مدرسة بإربل سنة 533، وهو أول من درس بإربل، ونشر فيها المذهب. له تصانيف حسنة في التفسير والفقه، وجمع خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت ستا وعشرين خطبة مسندة، وانتفع بعلمه خلق كثير على ورعه وعبادته وزهده وتقلله، توفي سنة 567 سبع وستين وخمسمائة.
860- أبو المعالي مسعود بن محمود بن مسعود النيسابوري 3:
الطريثيثي الملقب قطب الدين. تفقه بنيسابور ومرو، وقدم بغداد ووعظ
__________
1 أبو القاسم علي بن أبي محمد الحسين بن هبة الله المعروف بابن عساكر: أبو القاسم، الدمشقي.
تكملة الأكمال حاشية ص"152".
2 أبو العباس الخضر بن نصر بن عقيلي الإربلي: وفيات الأعيان "2/ 237"، وطبقات الشافعية "4/ 218"، والشذرات "5/ 86".
3 أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري الطريثيثي "قطب الدين": أبو المعالي، النيسابوري. توفي سنة 578".
تكملة الكمال الإكمال "83"، وفيات الأعيان "5/ 196"، المشتبه "289"، دائرة الأعلمي "27/ 244".(2/398)
بها، ودمشق كذلك، ثم تولى التدريس في حلب وهمذان، وتفرد برياسة الشافعية، له كتاب "الهادي" اقتصر فيه على المشهور وما به الفتوى، وجمع عقيدة لصلاح الدين الأيوبي، كان يحفظها ويعلمها أولاده، توفي سنة 578 ثمان وسبعين وخمسمائة.
861- أبو موسى محمد بن أبي بكر عمر المديني الأصبهاني 1:
الحافظ المشهور، إمام عصره في الحفظ والمعرفة، له في الحديث وعلومه تواليف مفيدة، وكتاب "المغيث" في مجلد كمل به كتاب "الغربيين" للهروي، واستدرك عليه وهو كتاب مهم رحل رحلة مهمة، ورجع إلى أصبهان بعلم كثير. توفي سنة 581 إحدى وثمانين وخمسمائة عن ثمانين سنة.
862- أبو بكر محمد بن موسى أبي عثمان الحازمي الهمداني 2:
زين الدين الحافظ المتقن، العبد الصالح، روى عن أبي الوقت عبد الأول المتقدم وطبقته، ورحل في طلب العلم إلى أقطار بعيدة، وغلب عليه الحديث،
__________
1 أبو موسى محمد بن أبي بكر عمر المديني الأصبهاني الحافظ: أبو موسى، المديني الأصبهاني الشافعي. ولد سنة "501"، مات سنة "581".
التكملة لوفيات النقلة "1/ 150"، والحاشية، الأعلام "6/ 313"، والحاشية تذكرة الحفاظ "4/ 128"، الوافي بالوفيات "4/ 246"، التقييد "1/ 78"، البداية والنهاية "12/ 318"، غاية النهاية "2/ 215" طبقات الحفاظ "475"، سير النبلاء "21/ 152".
2 أبو بكر محمد بن موسى أبي عثمان الحازمي الهمداني زين الدين: أبو بكر، الهمداني. ولد سنة "548"، توفي سنة "584".
التكملة لوفيات النقلة "1/ 146"، وفيات الأعيان "4/ 294"، معجم طبقات الحفاظ "169"، دائرة الأعلمي "27/ 521"، الوافي بالوفيات "5/ 88"، وسير النبلاء "21/ 167"، معجم المؤلفين "12/ 64"، حاشية الإكمال "4/ 294".(2/399)
فصنف فيه كتبا مفيدة كـ"الناسخ والمنسوخ" في الحديث، وكتاب "الفيصل في مشتبه النسبة" و"العجالة" في النسب، وكتاب "ما اتفق لفظه وافترق معناه في الأماكن" و"البلدان المشتبهة في الخط" وغير ذلك واستوطن بغداد وتوفي بها سنة 584 أربع وثمانين وخمسمائة عن ست أو سبع وثلاثين سنة في شبابه رحمه الله، وقد فرق كتبه على أصحاب الحديث.
863- أبو عمرو عثمان بن عيسى الماراني 1:
ضياء الدين من أعلمهم بالمذهب والأصول، شرح المذهب في عشرين مجلدا ولم يكمله، سماه "الاستقصاء" لم يسبق لمثله، وشرح "اللمع" وغيرها، توفي سنة 602 اثنتين وستمائة.
864- أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن التيمي البكري 2:
فخر الدين الإمام الرازي ابن خطيب الري ذو الشهرة الذائعة، والتصانيف البارعة التي هجرت بها كتب المتقدمين، ذو اليد الطولى في العلوم الفلسفية والفقهية والعربية والوعظ باللسانين العربي والعجمي، ورجع بسببه خلق كثير من الكرامية وغيرهم إلى السنة، شدت إليه الرحلة من الآفاق، له التفسير الكبير العديم النظير و"المطالب العالية" و"نهاية العقول" و"المحصول" وشرح "وجيز" الغزالي، و"سقط الزند" لأبي العلاء المعري، وغيرها في الطب والحكمة والعربية وغير ذلك، وهو ممن يفتخر به الإسلام توفي سنة 606 ست وستمائة بمدينة
__________
1 أبو عمر عثمان بن عيسى الماراني ضياء الدين: أبو عمرو، المازاني الشافعي المنعوت الضياء. مات سنة "602".
التكملة لوفيات النقلة "3/ 137" والحاشية، دائرة الأعلمي "21/ 327"، وفيات الأعيان "3/ 242".
2 أبو عبد الله محمد بن عمرو بن الحسن التيمي البكري فخر الدين الإمام الرازي ابن خطيب الري: أبو عبد الله، القدسي التيمي البكري. مات سنة "606":
الوفيات "308"، معجم المؤلفين "11/ 79، 80"، وفيات الأعيان "4/ 248".(2/400)
هرات عن اثنتين وستين سنة، وهو مخترع الترتيب الموجود في كتبه.
865- أبو السعادات مجد الدين المبارك محمد بن محمد الشهابي الجزري المعروف بابن الأثير 1:
عالم محقق له تواليف خدم بها الإسلام والفقه، كـ"جامع الأصول" جمع فيه ما في الكتب الستة و"النهاية في شرح الغريب، وكتاب "الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف" للثعلبي والزمخشري، وشرح مسند الشافعي، كان رئيس ديوان صاحب الموصل عز الدين، تثم إنه أقعد في آخر أيامه، وباشر طبيب مغربي علاجه حتى ظهر له الشفاء غير أنه في الآخر أبى من إتمام العلاج، وصرف الطبيب وأرضاه فلما لامه أخوه. قال: إن المرض أعزني إذ كان لي عذرا عن الوقوف بباب الأمراء، فصاروا يأتونني إن احتاجوا إلي، ولو كنت صحيحا لذهبت إليهم، فالعز مع المرض خير من الذل والعافية، وهو أول من سمعت أنه عمل برنامجا لكتابه "جامع الأصول" على حروف الهجاء، وأتقنه أي إتقان، وذلك أعظم مسهل للانتفاع بالكتب، توفي سنة 606 ست وستمائة2.
866- أبو حامد محمد بن يونس بن محمد بن منعة عماد الدين 3:
إمام وقته في الفقه والأصول والخلاف، وكان له صيت عظيم، قصده
__________
1 أبو السعادات مجد الدين المبارك محمد بن محمد الشهابي الجزري المعروف بابن الآثير: وفيات الأعيان "3/ 289"، وطبقات الشافعية "5/ 153"، ومعجم الأدباء "17/ 71"، والشذرات "5/ 22"، الوعاة "386".
2 وابن الآثير ثلاثة أخوة أحدهم، هذا فقيه محدث، والثاني: أبو الحسن علي عالم مؤرخ صاحب "الكامل" وغيرها، والثالث: أبو الفتح نصر الله وكلهم وزراء كتاب. ا. هـ. "المؤلف".
3 أبو حامد محمد بن يونس بن محمد بن منعة عماد الدين: أبو حامد، الأربلي الموصلي. ولد سنة "535". ماتة سنة "608".
التكملة لوفيات النقلة "3/ 368"، وفيات الأعيان "4/ 253".(2/401)
الفقهاء من أقطار شاسعة، وتخرج عليه الأئمة. له "المحيط" وشرح "الوجيز" وغيرها انتهت إليه رياسة الشافعية بالموصل، وهو سبب انتقال نور الدين أتابك الموصلي عن الحنفي إلى الشافعي، توفي سنة 608 ثمان وستمائة.
867- أبو حامد محمد بن إبراهيم السهلي 1:
الجاجرمي معين الدين: إمام متقن، له "الكفاية" من أحسن كتبهم، و"إيضاح الوجيز" وغيره. توفي سنة 613 ثلاث عشرة وستمائة.
868- أبو القاسم عبد الكريم بن محمد القزويني الرافعي 2:
له تآليف مفيدة كـ"فتح العزيز في شرح وجيز الغزالي"، وهو عند الشافعية لا مثل له وله كتاب المحمود في الفقه. وصل إلى الصلاة فقط في ثمان مجلدات، وشرح مسند الشافعي وغيره، وصل درجة الاجتهاد، توفي سنة 623 ثلاث وعشرين وستمائة.
869- أبو عمرو عثمان بن الصلاح 3:
الكردي الموصلي ثم الدمشقي تقي الدين: أحد أئمة المسلمين فقها وحديثا وتفسيرا ودينا. وله تآليف مفيدة مشهورة منها كتاب علوم الحديث وغيره. توفي سنة 643 ثلاث وأربعين وستمائة له الفتاوى المسددة، والمشاركة التامة.
__________
1 أبو حامد محمد بن إبراهيم السهلي الجاجري معين الدين: وفيات الأعيان "4/ 256"، وطبقات الشافعية "5/ 19"، والشذرات "5/ 56".
2 أبو القاسم عبد الكريم بن محدم القزويني الرافعي: أبو القاسم الرافعي القزويني.
معجم المؤلفين "6/ 3"، المعين "2058".
3 أبو عمرو عثمان بن الصلاح الكردي الموصلي الدمشقي تقي الدين: أبو عمرو، النصري، الحافظ.
حاشية الإكمال "1/ 396، 395".(2/402)
870- أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري 1:
زكي الدين: حافظ وقته حديثا وفقها، ونخبتهم زهدا وعملا، ذو التصانيف، والعلم الواسع، كان مفتي مصر، فلما دخلها عز الدين بن عبد السلام، قال: لا حاجة للناس في الفتوى، ولا أتقدم أمامه، كما أنا ابن عبد السلام كان يحضر مجلسه لسماع الحديث، توفي سنة 656 ست وخمسين وستمائة.
871- أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن السلام السلمي 2:
شيخ الإسلام المقدسي، ثم الدمشقي، ثم المصري، الملقب سلطان العلماء الذي قال فيه ابن عرفة: لا ينعقد الإجماع دونه يعني في وقته، وهي شهادة له بالاجتهاد، مطلع على حقائق الشريعة ودقائقها، عارف بمقاصدها، آمر بالمعروف، نهاء عن المنكر، أزال كثيرا من البدع، كدق السيف على المنبر الذي كان الخطباء يفعلونه، وصلاتي الرغائب والنصف من شعبان، ومنع منهما، ولما استعان سلطان وقته بالفرنج وأعطاهم صيدا، أسقطه من الخطبة، وكذلك فعل أبو عمر بن الحاجب، وخرجا من دمشق إلى مصر سنة 609 تسع وستمائة، فأكرمه سلطانه نجم الدين أيوب، وولاه قضاءها، ثم استقال، ولزم بيته، وكل ممتثل الأمر وقضاياه في النهي عن المنكر معه كثيرة في "الطبقات" وغيرها،
__________
1 أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري زكي الدين: أبو محمد، المنذري، المصري الشامي [زكي الدين المنذري] . ولد سنة 581، مات سنة 656.
فوات الوفيات "1/ 610"، معجم المؤلفين "5/ 264، 265"، التاج المكلل "165"، الأعلام "4/ 30"، فهرس الفهارس "2/ 562"، شذرات الذهب "5/ 277"، العبرة "5/ 232"، حسن المحاضرة "1/ 355"، البداية والنهاية "13/ 212"، سير النبلاء "23/ 319".
2 أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي المقدسي ثم الدمشقي المصري: البداية "13/ 235، 236"، والنجوم الزاهرة "7/ 208"، والشذرات "5/ 301"، وفوات الوفيات "1/ 287".(2/403)
وبتدبير هزم التتار، وقضيته في بيع المماليك الذين كانوا ملوك مصر الغربية ولما امتنعوا خرج من مصر يريد الشام فتبعه أهلها علماؤهم وكبارهم وصغارهم ونساؤهم حتى تبعه السلطان ورده، وباعهم، وفرق ثمنهم في وجوه الخير، وهذا مما أظنه لم يقع لغيره له تآليف كـ"القواعد الكبرى" واختصارها و"مجاز القرآن" والتفسير، و"الأمالي" في أدلة الأحكام، و"الجمع بين الحاوي والنهاية" و"الفتاوى"، توفي سنة 660 ستين وستمائة.
872- أبو سعد أو أبو سعيد عبد الكريم بن أبي المظفر السمعاني 1:
المروزي، واسطة عقد البيت السمعاني، وعينهم الباصرة، ويدهم الناصرة، وبه كملت سيادتهم ورياستهم، رحل إلى شرق الأرض وغربها في طلب العلم، بل شمالها وجنوبها، وأخذ عن أعلامها وجالسهم، واقتدى بهم، تزيد شيوخه على أربعة آلاف، صنف التصانيف المفيدة توفي بمرو سنة 562 اثنتين وستين وخمسمائة.
وكان أبوه كذلك محدثا فقيها نظارا له عدة تصانيف، توفي سنة عشر وخمسمائة وتقدمت ترجمة جده أبي المظفر.
873- أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله الشهير بابن أبي عصرون 2:
التميمي الموصلي: نزيل دمشق، وقاضي القضاة بها، له "صفوة
__________
1 أبو سعد أو أبو سعيد عبد الكريم بن أبي المظفر السمعاني المروزي: أبو سعد، أبو سعيد، التميمي، السمعاني، الخراساني المروزي.
المعين "181"، التاج المكلل "76"، التقييد "2/ 132"، سير النبلاء "20/ 456"، التكملة لوفيات النقلة "1/ 78"، الأعلام "4/ 55"، معجم المؤلفين "6/ 4"، دائرة الأعلمي "21/ 147"، وفيات الأعيان "3/ 209".
2 أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله الشهير بابن أبي عصرون: أبو سعد، التميمي الموصلي، الحديثي الأصل، الدمشقي الدار الشافعي بدمشق. ولد سنة 492. مات سنة 585.
التكملة لوفيات النقلة "1/ 200" والحاشية، وفيات الأعيان "3/ 53".(2/404)
المذهب" و"الانتصار"، و"المرشد"، و"الذريعة في معرفة الشريعة" وهو غير كتاب "الذريعة إلى مكارم الشريعة" فهو لأبي القاسم الراغب الأصبهاني، وله كتاب "التيسير" في الخلاف وغيره، توفي سنة 585 خمس وثمانين وخمسمائة.
874- أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد التغلبي سيف الدين الآمدي 1:
الأصولي المتكلم، كان أول اشتغاله حنبليا، ثم رجع شافعيا قرأ ببغداد، ثم بالشام ولم يكن في زمنه أحفظ منه للمعقول. ثم نزل بمصر، ونشر فيها علمه، قال فيه عز الدين: ما علمنا قواعد البحث إلا منه، وقال: لو ورد على الإسلام متزندق يشكك، ما تعين لمناظرته غير الأمير، ومع ذلك أخرجوه من مصر، وسبب إخراجه أن بعض أهل حرفته العلمية حسدوه، فكتبوا محضرا بزندقته، ثم وضعوا خطوطهم عليه، ولما وصل لبعض الفضلاء الأحرار كتب عليه:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
كتبه فلان، ولما رأى ذلك سيف الدين، خرج مستخفيا إلى حماة، وبها نشر علمه، وله نحو عشرين مؤلفا كـ"الإحكام في أصول الأحكام" من أحسن ما ألف في أصول الفقه و"أبكار الأفكار" في الكلام وغيرهما، وذكر له ابن أبي أصبعية في "طبقات الأطباء" كتبا غريبة لم يذكرها ابن خلكان، فانظرها، ثم رتب في المدرسة العزيزية بدمشق، ثم عزل عنها لسبب اتهم فيه، وبقي منعزلا في بيته إلى أن توفي في دمشق سنة إحدى وثلاثين وستمائة 631 عن نحو ثمانين سنة، وتآليفه سارت بها الركبان، والآمدي نسبة لآمد بكسر الميم مدينة كبيرة
__________
1 أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد التغلبي سيف الدين الآمدي الأصولي: أبو الحسن، التغلبي الآمدي الحنبلي الشافعي. ولد سنة 551. مات سنة 631.
معجم المؤلفين "7/ 155"، وفيات الأعيان "3/ 293"، لسان الميزان "3/ 134".(2/405)
بديار بكر.
875- أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي 1:
محيي الدين: وإمام المسلمين المولود بنوى سنة 631 إحدى وثلاثين وستمائة، أدرك درجة عالية في الحديث والفقه واللغة، وله التصانيف المفيدة كشرح صحيح مسلم، ومختصر الرافعي، وهو "الروضة" و"الأذكار"، ومختصر الروضة وهو "المنهاج" وله أحزاب وتآليف مهمة في الدين، وقد أدرك رتبة اجتهاد الفتوى وهو الترجيح في الأقوال، كانت وفاته في القرن السابع لم يذكرها في الطبقات.
876- أبو الخير عبد الله بن عمر البيضاوي 2:
ناصر الدين: إمام متكلم أصولي فقيه مشارك، مؤلف "الطوالع"، و"المصباح" في أصول الدين، و"الغاية القصوى" في الفقه، و"أنوار التنزيل ,أسرار التأويل"، وزاد على الكشاف علما جما، وشرح "المصابيح" للبغوي في أحاديث الأحكام، ولي قضاء القضاة بشيراز، فكانت له سمعة عالية، ونزاهة كاملة لزهده وورعه، توفي سنة 698 ثمان وتسعين وستمائة.
877- أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة 3:
الإمام نجم الدين الشافعي زمانه، صاحب التصانيف، له شرح "الوسيط"
__________
1 أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي محيي الدين: أبو زكريا، الحزامي الحوراني الشافعي. ولد سنة "631"، توفي سنة "676".
الفلاكه "120"، معجم طبقات الحفاظ "187"، المعين "2243"، طبقات الحفاظ "510"، معجم المؤلفين "13/ 202، 203"، والحاشية، دائرة معارف الأعلمي "3/ 110"، الإكمال بالمشكاة "1042"، البداية والنهاية "13/ 278/، 279".
2 أبو الخير عبد الله بن عمر البيضاوي ناصر الدين: طبقات الشافعية "5/ 59"، والبداية "3/ 309"، وبغية الوعاة "286"، ومفتاح السعادة "1/ 436".
3 أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة: الدرر الكامنة "1/ 284"، والشذرات "6/ 22"، وطبقات الشافعية "5/ 178" والبدر الطالع "1/ 115".(2/406)
و"الكفاية"، في شرح "التنبيه" وغيرهما، ومن فتاويه المشددة لما زينت القاهرة سنة 702، حرم النظر إلى تلك قائلا: لأن المقصود منها النظر، توفي رحمه الله سنة 710 عشر وسبعمائة.
878- محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي قطب الدين الشيرازي 1:
بها ولد ثم سكن تبريز، وكان يتقن فنونا حتى الشعبذة، وصنف شرح مختصر ابن الحاجب الأصلي، وشرح "المفتاح" وكلمات ابن سينا في الحكمة وغيرها، توفي سنة 710 عشر وسبعمائة.
879- إبراهيم بن محمود بن إبراهيم الشهير برضي الدين الطبري 2: المكي، شيخ الإسلام مسند الحجاز، وإمام الشافعية ببيت المقدس، مات بمكة سنة 722 وعشرين وسبعمائة.
880- محمد بن علي بن عبد الواحد كمال الدين الزملكاني 3:
قاضي القضاة الإمام العلامة، قال فيه الذهبي: عالم العصر من بقايا المجتهدين، ومن أذكياء أهل زمانه، له التصانيف وتخرج به الأصحاب توفي سنة 727 سبع وعشرين وسبعمائة، انتهت إليه رياسة الشافعية في وقته.
__________
1 محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي قطب الدين شيراز: الفاسي الشيرازي الشافعي. ولد سنة "634"، مات سنة "710".
الدرر الكامنة "5/ 108".
2 إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الشهير برضي الدين الطبري المكي: البداية "14/ 103"، المنهل الصافي "1/ 150"، والشذرات "6/ 56".
3 محمد بن علي بن عبد الواحد كمال الدين الزملكاني [قاضي القضاة] : الدرر الكامنة "4/ 74" وطبقات الشافعية "5/ 251"، والبداية "14/ 131"، والوافي "4/ 214"، والشذرات "6/ 78".(2/407)
881- أبو محمد القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي 1:
علم الدين الإشبيلي: ثم الدمشقي إمام محدث، مؤرخ مسند وقته، له تاريخ جليل صلة لتاريخ أبي شامة، له نحو ثلاثة آلاف شيخ في رحلته، وكثير منهم أخذ عنه إجازة، توفي في خليص بين الحرمين سنة 739 تسع وثلاثين وسبعمائة.
882- محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني 2:
الحموي ثم المصري: بدر الدين شيخ الإسلام، وقاضي قضاة بمصر والشام، متميز على معاصريه فقها وتفسيرا، وعني بالرواية، وشارك في العلوم، فتبحر فيها وصنف، وبعد صيته، وحمدت في القضاء بالقطرين سيرته توفي سنة 733 ثلاث وثلاثين وسبعمائة عن أربع وتسعين سنة.
883- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني الفارقي الأصل الدمشقي المشهور بالذهبي 3:
شمس الدين: شيخ المحدثين، وقدوة الحفاظ والقراء، محدث الشام
__________
1 أبو محمد القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي علم الدين الإشبيلي: الدرر الكامنة "3/ 237"، وطبقات الشافعية "6/ 246"، والدارس "1/ 112"، والبدر الطالع "2/ 51"، والشذرات "6/ 122".
2 محمد إبراهيم سعد الله بن جماعة الكناني الحموي ثم المصري بدر الدين شيخ الإسلام: أبو عمر، الكناني الحموي، الشافعي الكناني، الشهرة ابن جماعة.
معجم المؤلفين "8/ 201، 202"، والحاشية، فوات الوفيات "2/ 353"، دائرة معارف الأعلمي "26/ 121"، حسن المحاضرة "1/ 359" التاج المكلل "296"، وادي أس "43".
3 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني الفارقي الأصل الدمشقي "الذهبي": أبو عبد الله "شمس الدين"، الذهبي، التركماني، الفارقي، المقري، الدمشقي، المتعصب الشافعي. ولد سنة 673، مات 748 "742".
الأعلام "5/ 326"، فهرس الفهارس "1/ 417"، الوفيات للسلامي ترجمة "289"، الدرر الكامنة "3/ 426"، حاشية الإكمال "3/ 398"، الوافي بالوفيات "2/ 163"، معجم المؤلفين "8/ 289"، والأعلمي "26/ 152"، البداية والنهاية "14/ 225".(2/408)
ومؤرخه أخذ عن أزيد من ألف ومائتين من الأعلام، ذكرهم في معجمه الكبير، وعدل وجرح وصحح وعلل، واستدرك وأفاد، وانتقى واختصر كثيرا من كتب المتقدمين، وصنف الكتب المفيدة كـ"تاريخ الإسلام"، و"الميزان"، ومصنفاته تقارب المائة سارت بها الركبان، توفي سنة 748 ثمان وأربعين وسبعمائة.
884- أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي 1:
صلاح الدين الدمشقي: العلامة الحافظ، النادر المثال حفظا وإتقانا وتأليفا، صاحب التواليف والمصنفات في الحديث والفقه، قف على أسمائها في "ذيل تذكرة الحفاظ" للحسيني، توفي ببيت المقدس سنة 761 إحدى وستين وسبعمائة.
885- أبو الحسن علي بن أيوب بن منصور بن وزير المقدسي 2:
علاء الدين الشافعي: شهر بعليان حافظ متقن فقها وحديثا وعربية، أحد فقهاء الشافعية، ومدرس القدس الشريف بالصالحية، اختلط قبل موته بمدة، توفي سنة 748 ثمان وأربعين وسبعمائة، وقد أناف على الثمانين.
__________
1 أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي صلاح الدين الدمشقي العلامة الحافظ: أبو سعيد، الشافعي العلائي. ولد سنة "694"، مات سنة "761".
طبقات الحفاظ "528"، الوافي بالوفيات "13/ 41"، الدرر الكامنة "2/ 179"، شذرات "6/ 190"، النجوم "1/ 337"، الأعلام "2/ 321"، البدر الطالع "1/ 245".
2 أبو الحسن علي بن أيوب بن منصور بن وزير المقدسي علاء الدين الشافعي: أبو الحسن، المقدسي. ولد سنة "666"، مات سنة "748".
لسان الميزان "4/ 207"، الدرر الكامنة "3/ 99"، دائرة الأعلمي "22/ 154".(2/409)
886- أبو حفص عمر بن مظفر بن محمد الوردي 1:
الحلبي الملقب زين الدين: كان متقنا في العلوم، شاعرا من الطبقة العليا، له تصانيف كثيرة.
توفي سنة 749 تسع وأربعين وسبعمائة.
887- الحسن علي بن عبد الكافي السبكي 2:
المصري الشامي: تقي الدين الفقيه المحدث الأصولي النظار، ترجمه ولده عبد الوهاب في "الطبقات" بورقات، والسيوطي وغيره، وله تآليف وأقوال في المذهب وهو ممن أقر له الفضلاء بالعلم والفضل، ولي قضاء الشام.
وتوفي بمصر سنة 756 ست وخمسين وسبعمائة.
888- عضد الدين عبد الرحمن بن عبد الغفار الإيجي 3:
العلامة المشهور ذو التلاميذ الكبار كالسعد والضياء الجامي، والتآليف المهمة، كشرح ابن الحاجب الأصلي، "والمواقف" وغيرها، مات سجينا سنة 756 ست وخمسين وسبعمائة.
__________
1 أبو حفص عمر بن مظفر بن محمد الوردي الحلبي الملقب زين الدين: الدرر الكامنة "2/ 90، 92"، والنجوم الزاهرة "10/ 337"، والدارس "1/ 59، 64"، والشذرات "6/ 190"، وطبقات الشافعية "6/ 104"، والبدر الطالع "1/ 245".
2 أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي المصري الشامي تقي الدين الفقيه: أبو الحسن، السبكي الأنصاري، ولد سنة "683". مات سنة "756".
الوفيات للسلامي ترجمة "685"، شذرات "6/ 180"، المشتبه "389"، تذكرة "39، 352"، دائرة الأعلمي "22/ 276"، حسن المحاضرة "1/ 321"، الدرر الكامنة "3/ 134"، البداية والنهاية "14/ 252"، طبقات المفسرين "1/ 412" فهرس الفهارس "2/ 1022".
3 عضد الدين عبد الرحمن بن عبد الغفار الإيجي: الدرر الكامنة "2/ 323"، وطبقات الشافعية "6/ 108"، والشذرات "6/ 174، 175"، والبدر الطالع "1/ 326".(2/410)
889- أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد شهر بابن الزملكاني عماد الدين:
الصدر الكبير، والعلم الشهير الدمشقي، توفي سنة 762 اثنتين وستين وسبعمائة.
890- أبو عمر عبد العزيز بن بدر الدين بن جماعة الكناني 1:
المشهور بالعز بن جماعة، قاضي القضاة المصري، صنف التصانيف الكثيرة، وانتفع الناس به تدريسا وإفتاء وقضاء، له "المنسك الكبير" على المذاهب الأربعة، توفي سنة 768 سبع وستين وسبعمائة.
891- أبو محمد عبد الله بن أسعد بن علي اليماني اليافعي 2:
الرجل الصالح، صاحب المصنفات العديدة، والنظم الكثير، توفي بمكة سنة 767 سبع وستين وسبعمائة.
892- تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي 3:
قاضي القضاة، ولد بمصر، وقرأ بالشام على والده وعلى المزي والذهبي وله تآليفه مهمة كشرح "المختصر" و"المنهاج" و"جمع الجوامع" في
__________
1 أبو عمر عبد العزيز بن بدر الدين بن جماعة الكناني المشهور بالعز بن جماعة: الدرر الكامنة "2/ 378"، وذيل تذكرة الحفاظ ص"41".
2 أبو محمد عبد الله بن أسعد بن علي اليماني اليافعي: أبو طالب، اليافعي اليمني المكي. مات سنة "768".
دائرة الأعلمي "21/ 171"، الدرر الكامنة "2/ 352"، الوفيات للسلامي ترجمة "845".
3 تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي قاضي القضاة: أبو نصر، السبكي، ولد سنة "728"، مات سنة "770".
الوفيات للسلامي ترجمة "904"، الدرر الكامنة "3/ 39".(2/411)
الأصول، وجرت عليه محن كثيرة من سجن ونفي، ورمي بالكفر والزندقة، ثم تداركه اللطف على يدي الإسنوي، ولم يجر على قاض من المحن ما جرى عليه، توفي سنة بالطاعون سنة 771 إحدى وسبعين وسبعمائة.
893- عبد الرحيم بن1 الحسن بن علي الأرموي جمال الدين أبو محمد الإسنوي 2:
الفقيه الأصولي النحوي العروضي، ذو التآليف البديعة كالمبهمات على "الروضة" وشرح الرافعي، و"الهداية إلى أوهام الكفاية" وشرح "المنهاج" لم يكمل، وأحكام الإخنائي، وشرح منهاج البيضاوي في الأصول، وغيرها في العلوم الثلاثة، توفي سنة 772 اثنتين وسبعين وسبعمائة.
894- جمال الدين محمد بن عيسى اليافعي 3:
قاضي عدن وعالمها وإمامها، توفي سنة 775 خمس وسبعين وسبعمائة.
895- عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير4 البصري ثم الدمشقي:
الحافظ الكبير المحدث البارع، حافظ المتون جمع وصنف، وبالفتاوي شنف الأسماع، وبها استهدف، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير، وله تاريخ "البداية والنهاية" وجمع
__________
1 وفي ذيل طبقات الحفاظ ص155 لابن فهد: ابن الحسي مصغرا. ا. هـ. "المؤلف".
2 عبد الرحيم بن الحسن بن علي الأرموي جمال الدين أبو محمد الإسنوي: أبو محمد، الإسنوي، الأموي. ولد سنة "704"، مات سنة "772".
الدرر الكامنة "2/ 254"، وبغية الوعاة "304"، والشذرات "6/ 223"، والبدر الطالع "1/ 159".
3 جمال الدين محمد بن عيسى اليافعي قاضي عدن: مات سنة "775".
ذيل تذكرة الحفاظ "159".
4 عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصري ثم الدمشقي: الدرر الكامنة "1/ 373"، والنجوم الزاهرة "11/ 123"، والشذرات "6/ 31"، والبدر الطالع "1/ 153".(2/412)
المسانيد العشرة وهي الكتب الستة ومسند أحمد، والبزار، وأبي يعلى، وابن أبي شيبة، و"طبقات الشافعي"، والسيرة، وشرح قطعة من البخاري أخذ عن ابن تيمية، وأخذ عنه الحافظ ابن حجر وقال فيه: أحفظ من أدركنا لمتون الحديث، وأعرفهم بجرحها، وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي إليه استنفدت منه، وقد أفتى برأي ابن تيمية في الطلاق فامتحن، توفي سنة 774 أربع وسبعين وسبعمائة بدمشق.
896- سعد الدين التفتازاني 1:
مسعود بن عمر: الإمام العلامة في العلوم اللسانية والعقلية والأصلين والبيان وغيرها، الذي سارت تآليفه مسرى النور في الظلمة، له شرح "التلويح على التنقيح" في الأصول، وشرح الأربعين النووي، وشرحاه المطول والمختصر على "تلخيص المفتاح" وغيرها، مات بسمرقند سنة 791 إحدى وتسعين وسبعمائة.
897- أبو حفص عمر بن رسلان سراج الدين البلقيني 2:
الكناني العسقلاني: الإمام الشهير شهد له السيوطي وغيره بالإمامة في الفقه على رأس المائة الثامنة، وعده مجددا، ووصفه بالاجتهاد، وقال فيه
__________
1 سعد الدين التفتازني مسعود بن عمر الإمام العلامة: توفي سنة 797.
في عدة من فقهاء الشافعية نظر، فقد ولي قضاء الحنفية، وله في الفقه الحنفي تآليف مذكورة في ترجمته في "الفوائد البهية" "135"، وقد صرح في كتابه "التلويح" بانتسابه إلى المذهب الحنفي في غير ما موضع انظر "1/ 41، 146، 162، 196، 2/ 61، 75، 101، 104، 111، 112، 125". وانظر ترجمته في الدرر الكامنة "4/ 350"، وبغية الوعاة "391" والشذرات "6/ 319"، والبدر الطالع "2/ 303".
2 أبو حفص عمر بن رسلان سراج الدين البلقيني الكناني العسقلاني "شهد له السيوطي": أبو حفص، الكناني الشافعي، العسقلاني البلقيني ولد سنة 724. مات سنة 805 أو 815.
الأعلام "5/ 46"، الوفيات "380"، حاشية الأنساب "2/ 317"، طبقات الحفاظ "538"، معجم المؤلفين "7/ 284"، حسن المحاضرة "1/ 329"، الضوء اللامع "6/ 85".(2/413)
عصرية ابن خلدون في "المقدمة": هو اليوم أكبر الشافعية بمصر، بل أكبر العلماء من أهل العصر، وتولى القضاء شام مدة، له "التدريب" في الفقه لم يتمه، وشرح "المنهاج" وغيرهما.
توفي سنة 805 خمس وثمانمائة.
898- أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين الشهير بالحافظ العراقي 1:
كردي الأصل ولد برازنان من عمل إربل، ونبغ في مصر، ورحل للشام والحجاز، له تآليف كـ"المغني عن حمل الأسفار في الأسفار" الألفية في علوم الحديث، ونظم السيرة وغير ذلك.
توفي بمصر سنة ست وثمانمائة 806 عن نيف وثمانين.
899- سراج الدين عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشهير بابن الملقن 2
أصله من وادي آش بالأندلس ومولده ووفاته بالقاهرة، له نحو ثلاثمائة مصنف في الحديث والتاريخ والفقه وغيرها كشرحه على البخاري، و"وإكمال التهذيب" في الرجال، و"خلاصة الفتاوى" وغيره.
توفي سنة 804 أربع وثمانمائة.
__________
1 أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين الشهير بالحافظ العراقي كردي الأصل: أبو الفضل. الكردي، الرازي، المهراني، العراقي المصري. ولد سنة 725، مات سنة 806.
بعلبك في التاريخ ص"372"، حسن المحاضرة "1/ 360"، تذكرة "370"، الضوء اللامع "4/ 171"، شذرات "7/ 55"، طبقات الحفاظ "538"، الأعلام "3/ 344، 345"، معجم المؤلفين "5/ 204"، البدر الطالع "1/ 354".
2 سراج الدين عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشهير بابن الملقن أصله وادي آش: الأنصاري الأندلسي الشهرة ابن الملقن. ولد سنة 723، مات سنة 804.
معجم المؤلفين "7/ 297، 298"، الضوء اللامع "6/ 100".(2/414)
900- أبو الحسن علي بن أبي بكر الهيثمي 1:
المصري الإمام الأوحد الزاهد الحافظ، نور الدين، له زوائد مسند أحمد والبزار وأبي يعلى، والمعجمين، والمعجم الكبير ثم جمع الكل في كتاب واحد محذوفة الأسانيد مع التصحيح والتعليل سماه "مجمع الزوائد"، وله "موارد الظمآن لزوائد ابن حبان" وزوائد الحارث، وغير ذلك، توفي سنة 807 سبع وثمانمائة عن نيف وستين.
901- أبو حامد محمد بن عبد الله بن ظهيرة المخزومي المكي 2:
جمال الدين حافظ الحجاز، والمشار إليه بالإتقان والحفظ على الحقيقة دون مجاز، له التصانيف الممتعة في الفنون، توفي سنة 817 سبع عشرة وثمانماية.
902- محمد بن يعقوب الفيروزبادي 3
مجد الدين: مؤلف كتاب "القاموس" وغيره من التآليف الجامعة، مجده طبق الخافقين وترجمته واسعة، توفي بزبيد وهو قاضيها 20 شوال عام 817 سبعة عشرة وثمانمائة عن نيف وثمانين.
__________
1 أبو الحسن علي بن أبي بكر الهيثمي المصري الإمام الأوحد: أبو الحسن، الهيثمي الشافعي الحافظ. ولد سنة 735، مات سنة 807.
التاج المكلل ص"397" طبقات الحفاظ "541"، معجم طبقات الحفاظ ص"130"، تذكرة "372"، حاشية الأنساب "5/ 381"، أنباء العمر "2/ 307، 309"، معجم المؤلفين "7/ 45" الضوء اللامع "5/ 200"، البدر الطالع "1/ 441"، حسن المحاضرة "1/ 362".
2 أبو حامد محمد بن عبد الله بن ظهيرة المخزومي المكي جمال الدين حافظ الحجاز: أبو حامد، الجمال المخزومي المكي الشافعي. ولد سنة 751، مات سنة 817.
معجم المؤلفين "10/ 221"، الضوء اللامع "8/ 92"، العقد الثمين "2/ 53"، بعلبك في التاريخ ص"385"، طبقات الحفاظ "542"، أنباء الغمر "2/ 45"، معجم طبقات الحفاظ ص"159".
3 محمد بن يعقوب بن الفيروزبادي مجد الدين مؤلف القاموس: الضوء اللامع "1/ 79"، وبغية الوعاة "117"، والشذرات "7/ 126"، والبدر الطالع "2/ 28".(2/415)
903- أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن علي المرتضي بن الفضل بن المنصور عرف بابن الوزير 1:
اليمني: من كبار حفاظ الحديث، ومن العلماء المجتهدين، ولم نذكره هنا إلا تبعا وإلا فهو مجتهد بإطلاق، له كتاب "إيثار على الخلق" في رد الخلافات إلى المذهب الحق، مطبوع، وكتاب "العواصم من القواصم" في الرد على الزيدية، واختصره، ولد سنة 765، وتوفي سنة 816 ست عشرة وثمانمائة.
904- أبو محمد عبد الله بن إبراهيم شهربان الشرايحي الزبيدي، السنجاري الأصل 2:
البعلبكي المولد الدمشقي، كان أميا لا يكتب، ولكنه آية الله في الحفظ والضبط فقها وحديثا، له ترجمة واسعة في "لحظ الإلحاظ"3 كان فقيها فرضيا أوحد الحفاظ المفيدين، أقام بالقاهرة مدة، ثم رجع دمشق إلى أن توفي سنة 820 عشرين وثمانمائة.
905- أبو الحزم خليل بن محمد الأفقهسي 4:
الإمام الحافظ الأوحد صلاح الدين الأشقر المصري، توفي سنة 820
__________
1 أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن علي المرتضي بن الفضل بن المنصور "ابن الوزير" اليمني: أبو عبد الله ولد "775" أو "765"، ت"840" التاج المكلل ص"240"، فهرس الفهارس "2/ 1124"، والحاشية.
2 أبو محمد عبد الله بن إبراهيم شهربان الشرايحي الزبيدي السنجاري: أبو محمد التغلبي الزبيدي السنجاري الدمشقي الشهرة ابن الشرايحي، ولد "748"، ت "820" أو "819" أو "821". بعلبك في التاريخ ص"309"، معجم طبقات الحفاظ "114"، تذكرة "374" الضوء اللامع "5/ 3"، طبقات الحفاظ "542"، فهرس الفهارس "2/ 1088"، دائرة الأعلمي "21/ 155".
3 لحظ الألحاظ "ص268، 272"، وحسن المحاضرة "1/ 206".
4 أبو الحزم خليل بن محمد الأفقهسي. الإمام الحافظ الأوحد صلاح الدين الأشقر المصري: ولد سنة "763"، ت "821"، حسن المحاضرة "1/ 363".(2/416)
عشرين وثمانمائة.
906- أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي 1:
الكردي الرازياني: ثم المصري ولي الدين، حافظ عصره بدون مدافع، رحل في الطلب، وسمع من خلق كثير، وصنف كتبا مهمة كذيل "الكاشف"، و"الأجوبة المرضية" و"تحرير الفتاوي" وغير ذلك، توفي سنة 826 ست وعشرين وثمانمائة.
907- محمد بن موسى المراكشي 2:
المكي الحافظ شمس الدين المتوفي سنة 823 ثلاث وعشرين وثمانمائة.
908- شمس الدين محمد بن أبي بكر القيسي 3:
الدمشقي الشهير بابن ناصر الدين حافظ الشام بلا منازع، له مصنفات كـ"افتتاح القاري لصحيح البخاري"، و"عقود الدرر في علوم الأثر" وغيرها، توفي سنة 842 اثنتين وأربعين وثمانمائة.
909- شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني 4:
شهاب الدين المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة، ربي يتيما، واحترف التجارة وهو مع ذلك مغري بالعلم والأدب، فرحل إلى الشام والحجاز واليمن، وجاور بمكة مرارا حتى حصل ضالته التي ينشدها من العلم، وصار أمير المؤمنين
__________
1 أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي: الضوء اللامع "1/ 336"، والشذرات "7/ 173"، والبدر الطالع "1/ 72"، وحسن المحاضرة "1/ 206".
2 محمد بن موسى المراكشي: لحظ الألحاظ "272، 281".
3 شمس الدين محمد بن أبي بكر القيسي: لحظ الألحاظ "317"، والشذرات "7/ 243"، والضوء اللامع "8/ 103"، والبدر الطالع "4/ 198".
4 شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني: التبر المسبوك "230"، والضوء اللامع "2/ 36"، والبدر الطالع "1/ 87"، وبدائع الزهور "2/ 32".(2/417)
في الحديث، وأجمع جمهور الأمة على أنه أبو الفضل حافظ الإسلام، وحجة الله على الأنام، صاحب التآليف التي تفتخر بها مصر على غيرها، كشرحه صحيح البخاري والمسمى "فتح الباري"، و"الإصابة" في الصحابة، وتواليف في التاريخ كـ"الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" و"التقريب" و"نزهة النظر" وغيرها في الفنون، رحل إليه الناس من أقطار الأرض لاقتفائه آثار السلف، فكان زينة الخلف، وهو من عجائب الدهر، فقد كان رأسا في علوم الحديث بأنواعها، متفننا فيها لمتونها ورجالها، عارفا بالعلل والنقد والإتقان في أعلى درجة مع الثقة التامة والتثبيت والضبط، وكذلك هو في فقه الشافعية وفي العلوم العربية واللغة والأدب معدود من الشعراء النوابغ، والكتاب البارعين ومن شعره.
ما زلت في سفن الهوى تجري بي ... لا نافعي عقلي ولا تجريبي
وهو من قضاة العدل النزهاء، والعلماء الذين خدموا الدين والأدب خدمة جلي، وبرزوا على الأقران التبريز المعترف به من محب ومعاندي، وأن شئت قبول هذا عن برهان، فتتبع "فتح الباري" وغيره من كتبه.
ولد سنة 773 ثلاث وسبعين وسبعمائة وتوفي سنة 852 اثنتين وخمسين وثمانمائة وعسقلان بلد بساحل الشام، وانظر استيفاء ترجمته في "لحظ الألحاظ" وغيره.
910- محمد بن أحمد المحلي 1:
المصري علامة ماهر، دقيق النظر في التصنيف ودقائق العبارة، آية في الذكاء والفهم دون الحفظ، وكان يقول: فهمي لا يقبل الخطأ، ورع، شديد على الظلمة، لا يلتفت إليهم، له شرح على "جمع الجوامع" شهير، ونصف التفسير.
توفي سنة 864 أربع وستين وثمانمائة عن ثلاث وسبعين.
__________
1 محمد بن أحمد المحلي: الضوء اللامع "7/ 39"، والبدر الطالع "2/ 115"، وحسن المحاضرة "1/ 252"، والشذرات "7/ 303".(2/418)
911- محمد بن محمد بن أبي بكر بن علي بن أبي شريف 1:
كمال الدين، علامة محقق نقاد، له حواش على "جمع الجوامع" وغيرها، توفي سنة 903 ثلاث وتسعمائة.
912- أبو زيد عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي 2:
جلال الدين المصري: الفقيه الحافظ المحدث، ذو الباع الطويل في العلوم لا سيما العربية، له التواليف الكثيرة قيل: بلغت نحو ستمائة بين مطول في أسفار، ومختصر في ورقتين، والجل من الصغار، وجل تأليفه ملخصه عمن تقدمه، فالتضارب بين أقواله ناشئ عن أفكار من تقدمه، لكثرة ما ألف وضيق وقته عن التمحيص، ادعى رتبة الاجتهاد وهو أحق بها ومن لطائفه:
فَوِّض أحاديث صفا ... ت ولا تشبه أو تعطل
إن رمت إلا الخوض في ... تحقيق معضلة فأول
إن المفوض سالم ... مما تكلفه الموءول
ولد سنة 849 تسع وأربعين وثمانمائة، وتوفي سنة 911 إحدى عشرة وتسعمائة، والسيوطي مثلث السين كما في "المنح البادية" قال: ويزداد في أوله همزة تضم وتفتح.
__________
1 محمد بن محمد بن أبي بكر بن علي بن أبي شريف: الضوء اللامع "9/ 65"، والكواكب السائرة "1/ 11"، والشذرات "8/ 99"، والبدر الطالع "2/ 243".
2 أبو زيد عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي جلال الدين المصري: الخضيري السيوطي، أعلام "3/ 301"، القاموس الإسلامي "3/ 622، 621"، المعرفة "13/ 2368"، تاج العروس "3/ 182"، "5/ 164"، بدائع الزهور "4/ 83"، التفسر والمفسرون "1/ 251"، ريحانة الأدب "3/ 148".(2/419)
913- أحمد بن محمد القسطلاني 1:
شهاب الدين القتيبي المصري: عالم فاضل، له "المواهب اللدنية" في السير، وشرح البخاري وغيرهما، توفي سنة 923 ثلاث وعشرين وتسعمائة.
914- أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر نسبة إلى جد من أجداده الهيثمي 2:
السعدي الأنصاري. أقام بمكة، وله تآليف مفيدة كـ"الزواجر"، و"الصواعق"، و"الفتاوى" و"شرح الهمزية" وغير ذلك. توفي سنة 973 ثلاث وفي "المنح" سنة أربع وسبعين وتسعمائة.
915- محمد بن أحمد بن حمزة شمس الدين الرملي 3:
المنوفي المصري الأنصاري الشهير بالشافعي الصغير، ذهب جماعة من العلماء إلى أنه مجدد القرن العاشر، ووقع الاتفاق على المغالات بمدحه، وهو أستاذ الأستاذين، وأحد الأساطين محيي السنة، وعمدة الفقهاء في الآفاق، أخذ عن الشيخ زكريا، والبرهان بن أبي شريف، وأحمد بن النجار الحنبلي وغيرهم، وكان عجيب الفهم، غزيز العلم، موصوفا بمحاسن الأوصاف، وقال فيه الشعراني وهو أكبر منه: إن الآن مرجع أهل مصر في تحرير الفتاوي، وأجمعوا على دينه وورعه، وحسن خلقه، وكرم نفسه، وحضر درسه ناصر الدين الطبلاوي في حال كونه من أفراد العلم، ولماليم على ذلك لكونه في مقام
__________
1 أحمد بن محمد القسطلاني: الضوء اللامع "2/ 103"، والشذرات "8/ 121"، والكواكب السائرة "1/ 126"، والبدر الطالع "1/ 102"، وفهرس الفهارس "2/ 318".
2 أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر: شذرات الذهب "8/ 370"، وفهرس الفهارس "1/ 250"، والبدر الطالع "1/ 109"، وجلاء العينين "137".
3 محمد بن أحمد بن حمزة: خلاصة الأثر "3/ 342".(2/420)
أبنائه، وسئل عن الداعي لملازمته قال: إني أستفيد منه ما لم يكن لي به علم، ولي عدة مدارس، وإفتاء الشافعية، وألف تآليف نافعة كشرح "المنهاج" وشرح "البهجة" الوردية، و"عمدة الرابح" وشرح منسك النووي، وشرح "الزبد" في كتب عديدة نافعة، وكان له تلاميذ كثيرون، قال الشبلي: والظاهر أنه المجدد؛ إذ لم يشتهر الانتفاع بأحد في قرنه مثله. توفي سنة 1004 أربع بعد الألف عن خمس وثمانين سنة.
916- شمس الدين محمد بن علاء الدين البابلي 1:
المصري الحافظ الرحلة، أحد أعلام الفقه والحديث، أحفظ أهل عصره، وأعرفهم بالحديث ورجاله وعلله، واعترف له بدلك شيوخه، وأقرانه له مشايخ كثيرون، وكان من أحسن المشايخ سيرة وصورة، متهجد ورع مشارك، كلما قرأ فنا، ظن السامعون أنه لا يحسن غيره، ولو يكن له اعتناء بالتأليف، ويقول: إن الاشتغال به من ضياع الوقت لا يؤلف أحد إلا في أحد أمور: شيء يخترعه، أو شيء ناقص يكمله، أو مستغلق يشرحه، أو طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو مختلط يرتبه، أو مفرق يجمعه، أو شيء أخطأ فيه مصنف فيبينه، قال في "الخلاصة": ويجمعه قول بعضهم: أن يخترع معنى، أو يبتكر مبنى، وله كتاب في الجهاد أبدا فيه وأعاد ألزمه به أمير الوقت، توفي سنة 1077 سبع وسبعين وألف عن سبع وسبعين سنة.
917- أبو إسحاق إبراهيم بن شهاب الدين حسن الشهرزوري 2:
الشهراني الكردي الكوراني، محقق العلوم على اختلافها، نادرة الأعصار، أظهر نوعا من المعارف لا يدرك أهل زمانه جنسه، فصار ملة وحده،
__________
1 شمس الدين محمد بن علاء الدين البابلي: خلاصة الأثر "4/ 39".
2 أبو إسحاق إبراهيم بن شهاب الدين حسين الشهرزوري: سلك الدر "1/ 5"، والبدر الطالع "1/ 11"، وفهرس الفهارس "1/ 229".(2/421)
فقيه الصوفيه، وصوفي الفقهاء، نزيل المدينة المورة توفي سنة 1101 إحدى ومائة وألف.
918- أبو عبد الله محمد بن عبد الرسول بن عبد السيد البرزنجي 1:
عالم محقق مدقق نحرير أوحدن ولد بشهرزور، وبها نشأ، ودخل همدان وبغداد والشام وقسطنطنية ومصر والحرمين، وأخذ عن أعلامها، وتوطن المدينة، وبها اشتهر، فكان من رءوس علمائها، وله تآليف عجيبة كشرح تفسير البيضاوي، وخالص تلخيص المفتاح، ورسالة في الجهر بالبسملة، وغيرها، وكانت له قدرة على أجوبة المشكلات بأعذب لفظ وأوجزه، وبالجملة كان من أفراد العالم، توفي سنة 1103 ثلاث ومائة وألف عن ثلاث وستين سنة.
919- محمد بن عبد الرحمن العزي 2:
الدمشقي مفتيها وعالمها، وأحد من ازدهت بفضائله وأكنافها فقيه محدث، نحرير متمكن، متضلع أديب شاعر بارع درس في الجامع الأموي وغيره وأفاد، له تاريخ ديوان الإسلام وغيره، توفي سنة 1167 سبع وستين ومائة وألف.
920- أبو محمد عبد الله الشبرواي 3:
شيخ الإسلام، وأول من تولى مشيخة الأزهر من الشافعية، له مؤلفات. توفي سنة 1171 إحدى وسبعين ومائة وألف عن ثمانين سنة.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن عبد الرسول بن عبد السيد البرزنجي: الشهرزوي المدني، ولد "1040"، ت"1103"، معجم المؤلفين "10/ 165" والحاشية.
2 محمد بن عبد الرحمن العزي الدمشقي: أبو بكر ولد "770" ت"849" الدمشقي الشافعي الشهرة ابن عزى. بعلبك في التاريخ "422".
3 أبو محمد عبد الله الشبراوي: سلك الدرر "3/ 107"، والخطط التوفيقية "4/ 31".(2/422)
921- أحمد المعروف بشاه ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي 1:
عالم القرن الثاني عشر في العالم الإسلامي، ومجدد مجد الحديث، وفخر علماء الإسلام بالهند، وختم المحدثين به، ذو التصانيف الممتعة والأيادي البيضاء، والهمة العليا كحجة الله البالغة، المؤلف في الفلسفة التشريعية، ورسالة "الإنصاف في بيان سبب الاختلاف" وهو مسبوق بها، فقد ألف في ذلك ابن السيد البطليوسي الأندلسي وغيره، توفي 1180 ثمانين ومائة وألف.
922- أبو عبد الله محمد بن سالم الحفناوي 2:
أو الحفني شيخ الأزهر، وشيخ الإسلام إمام شهير له مؤلفات كحاشيته على العزيز على "الجامع الصغير" للسيوطي، وأخرى على الشنشوري في الفرائض وغيرها، كان كريم الطبع، واسع الأخلاق، توفي 1181 إحدى وثمانين ومائة وألف.
923- محمد بن سليمان الكردي 3:
المدني خاتمة الفقهاء بالحجاز المتضلع من سائر العلوم، تولى إفتاء الشافعية بالمدينة، وألف مؤلفات شهيرة كثيرة كشرح فرائض التحفة، وثلاث حواش على شرح الحضرمية للهيثمي، و"عقود الدرر في بيان مصطلحات تحفة ابن حجر" وحاشية شرح الغاية، و"الفوائد المدنية فيمن يفتي بقوله من أئمة الشافعية" و"فتح الفتاح بالخير في معرفة شروط الحج عن الغير" واختصره، وسماه "فتح القدير"، و"كاشف اللثام في حكم التجرد قبل الميقات بلا إحرام"
__________
1 أحمد المعروف بشاه ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي: أبجد العلوم "912"، وفهرس الفهارس "1/ 125".
2 أبو عبد الله محمد بن سالم الحفناوي أو الحفني شيخ الأزهر: الحفني الخلوتي. أبو المكارم ولد "1101" ت"1181". معجم المؤلفين "10/ 15، 16" والحاشية.
3 محمد بن سليمان الكردي المدني خاتمة الفقهاء: الكردي المدني الشافعي، ولد "1125"، أو "1127"، ت "1194". فهرس الفهارس "3/ 483" والحاشية.(2/423)
و"الثغر البسام عن معاني الصور التي يروج فيها الحكام" و"الدرة البهية في جواب الأسئلة الجارية" وشرح منظومة الناسخ والمنسوخ، و"زهر الربا في بيان أحكام الربا" وفتاوي عدة في مجلدين ضخمين وغير ذلك، توفي سنة 1194 أربع وتسعين ومائة وألف عن سبع وستين سنة.
924- محمد بن الحسن بن محمد بن أحمد المنير السمنودي 1:
المصري إمام فقيه محدث مقرئ صوفي، له مؤلفات نافعة كشرح الطيبة، وشرح الدرة، وله تآليف في القراءات والتصوف والفلك وغيرها، وله شعر في الحقائق وهو أول من انتزع مشيخة الأزهر من يد المالكية، توفي سنة 1199 تسع وتسعين ومائة وألف.
925- عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي 2:
المصري الأزهري، ولي مشيخة الأزهر، له "التحفة البهية في طبقات الشافعية" حاشية على التحرير في الفقه، وغير ذلك، توفي سنة 1227 سبع وعشرين ومائتين وألف.
926- أبو المعالي علي أفندي بن محمد سعيد بن أبي البركات السويدي 3:
البغدادي العباسي، من أعرف الناس بالحديث، عارف بالرجال متفنن،
__________
1 محمد بن الحسن بن محمد بن أحمد المنير السمنودي المصري: السمنودي الأحمدي الشافعي الأزهري، ولد "1099"، ت"1199"، معجم المؤلفين "9/ 211، 212" والحاشية.
2 عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي المصري الأزهري: الشافعي الأزهري الشهرة الشرقاوي، ولد "1150"، ت"1226" أو "1227"، معجم المؤلفين "6/ 41، 42"، والحاشية ثبت الكزبري "78".
3 أبو المعالي علي أفندي بن محمد سعيد بن أبي البركات السويدي البغدادي العباسي: الشهرة السويدي أبو المعالي، ت"1237". فهرس الفهارس "2/ 1008"، معجم المؤلفين=(2/424)
وافر المادة، توفي بدمشق وهو يقرأ {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} 1 الآية وجاء تاريخ وفاته.
إن المدارس تبكي عند فقد علي.
وذلك سنة 1237 سبع وثلاثين ومائتين وألف.
927- إبراهيم بن أحمد البيجوري 2:
شيخ الإسلام وشيخ الأزهر بمصر إمام فاضل، وجهبذ كامل مشارك في الفنون، انتهت إليه رياسة الشافعية بمصر، وله تآليف كحاشيته على شرح ابن قاسم في مذهب الشافعي، في مجلدين، و"فتح الفتاح في أحكام النكاح" وحواش في التوحيد، والبيان، وغيرهما مطبوعة وحاشية على "جمع الجوامع" لم تكمل وأخرى على شرح المنهج كذلك، توفي سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف.
928- مصطفى بن محمد العروسي 3:
شيخ الإسلام وشيخ الأزهر أيضا، من أعلام الأمة المصلحين، تقلد مشيخة الأزهر، فأبطل بدعا كثيرة منها كالشحاذة بالقرآن في الطرقات، وأدخل نوع إصلاح للأزهر، فأقام كثيرا ممن لم يكن له استحقاق التدريس، وعزم على عمل الامتحان، لكن فاجأه العزل شأن كل مصلح في البداءة سنة 1287، وله مؤلفات نفيسة كرسالته في الاكتساب سماها "القول الفصل في مذهب ذوي الفضل"، وشرحها و"الأنوار البهية في أحقية مذهب الشافعية"، وشرح الرسالة القشيرية، وغيرها، توفي سنة 1293 ثلاث وتسعين ومائتين وألف عن
__________
1 سورة مريم: 58.
2 إبراهيم بن أحمد البيجوري: خطط مبارك "9/ 2"، ومقدمة شرح الأم للحسيني، وسبل النجاح "3/ 57".
3 مصطفى بن محمد العروسي: تاريخ الأزهر "146"، وخطط مبارك "16/ 71"، والأزهر في ألف عام "1/ 157".(2/425)
ثمانين سنة.
ولنكتف بهذا النزر من السادات الشافعية، ومن الذي يطمع في نزح البحر الأعظم.(2/426)
مشاهير الحنابلة بعد القرن الرابع:
929- أبو علي محمد بن أحمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي 1:
القاضي كان من أخص الهاشميين بالقادر بالله، حسن الفتيا، له مصنفات حسنة، توفي سنة 428 ثمان وعشرين وأربعمائة، وكان شاعرا مع الفقه.
930- أبو علي الحسن بن شهاب العكبري 2:
مات سنة 428 كالذي قبله.
931- أبو طاهر الغباري 3:
المتوفي سنة 432 اثنين وثلاثين وأربعمائة.
932- أبو إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي 4:
وكان زاهدا يفتي الناس في الجامع، توفي سنة 445 خمس وأربعين وأربعمائة.
__________
1 أبو علي محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي القاضي: أبو علي، الهاشمي البغدادي الحنبلي. مات سنة "428".
العبر "3/ 167"، الوافي بالوفيات "2/ 63"، تاريخ بغداد "1/ 354"، ابن أبي يعلى ص"368".
2 أبو علي الحسن بن شهاب العكبري: طبقات الحنابلة "2/ 186"، وشذرات الذهب "3/ 241"، وكان يتكسب من الوراقة، وكان سريع الكتابة كتاب ديوان المتنبي في ثلاث ليال.
3 أبو طاهر الغباري: شذرات الذهب "3/ 250".
4 أبو إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي: طبقات الحنابلة "2/ 190".(2/427)
933- أبو الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي 1:
ثم المقدسي، الإمام العلم، ناشر المذهب الحنبلي بين المقادسة والدمشقيين، ولم يكن يعرف قبله فيهما، توفي بدمشق سنة 486 ست وثمانين وأربعمائة.
934- أبو الوفاء علي بن عقيل 2:
ابن محمد الطفري شيخ الحنابلة في وقته ببغداد، حسن المناظرة، سريع الخاطر، له مصنفات منها كتاب "الفنون" الذي يزيد علي أربعمائة مجلد، على ما قال في "الشذرات" وقيل: إنه بلغ ثمانمائة، وكان معتزليا، ثم صار سنيا، توفي سنة 513 ثلاث عشرة وخمسمائة عن ثلاث وثمانين سنة، وقد قال له الكيا الهراسي يوما: ليس هذا الحكم بمذهبك، فقال: أنا لي اجتهاد متى طالبني خصمي بحجة كان عندي ما أدفع به عن نفسي، وأقوم له بحجتي، وقد كان مع ذلك كثير التعظيم لأحمد وأصحابه، والرد على مخالفيهم، بارعا في الكلام، غير تام الخبرة بالحديث.
935- عبد الوهاب بن أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد الأنصاري 3:
ثم الدمشقي شرف الإسلام، توفي سنة 536 ست وثلاثين وخمسمائة.
__________
1 أبو الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي المقدسي: أبو الفرج، الخراقي، الدمشقي الشيرازي المقدسي. مات سنة "486".
المعين "1543"، سير النبلاء "19/ 51".
2 أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد الطفري شيخ الحنابلة: أبو محمد أبو الوفاء، الطفري الحنبلي الفقيه العقيلي. مات سنة "513".
معجم المؤلفين "7/ 151، 152"، الميزان "3/ 146"، لسان الميزان "4/ 243"، حاشية الإكمال "6/ 239"، تبصير المنتبه "3/ 1016"، دائرة الأعلمي "22/ 284".
3 عبد الوهاب بن أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد الأنصاري الدمشقي شرف الإسلام: شذرات الذهب "4/ 113".(2/428)
936- أبو المظفر يحيى بن محمد المعروف بابن هبيرة 1:
وزير المقتفي العباسي، صاحب التصانيف له كتاب "الأشراف في مذاهب الأشراف" في المذاهب الأربعة، ذكره في "كشف الظنون" وهو في خزانتي والحمد لله ينقل عنه "فتح الباري" كثيرا، توفي سنة 560 ستين وخمسمائة، كان راتبه مائة ألف دينار، لا يخرج من السنة وفي خزانته منها شيء لجوده، وكان المقتفي والمستنجد يقولان: ما وزر للعباسيين مثله في جميع أحواله، وله اليد الطولى في تدبير الدولة، وضبط المملكة، وقمع آل سلجوق عنها، وهو في آن واحد وزير خطير، ومدبر كبير، وعالم شهير، ومصنف نحرير، وشاعر قدير.
937- أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح 2:
ابن جنكي دوست الجيلاني الحنبلي شيخ الإسلام، وشيخ العراق، مؤلف كتاب "الغنية" في مجلد وغيرها قال الذهبي: سمعت الحافظ أبا الحسين يقول: سمعت الشيخ عز الدين عبد السلام بمصر يقول: ما نعرف أحدا كراماته متواترة كالشيخ عبد القادر رحمه الله، توفي سنة 561 إحدى وستين وخمسمائة.
938- أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن الشهير بابن الجوزي 3:
بفتح الجيم جمال الدين من نسل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الإمام
__________
1 يحيى بن محمد المعروف بابن هبيرة "أبو المظفر" المقتفي العباسي: أبو المظفر، الشيباني. توفي سنة "560".
المغني "1805"، التكملة لوفيات النقلة "1/ 318"، والحاشية.
2 أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح بن جنكي دوست الجيلاني الحنبلي شيخ الإسلام وشيخ العراق له كتاب "الغنية": أبو محمد، الجيلي. مات سنة سنة "561"، ببغداد.
التكملة لوفيات النقلة "6/ 214، 1/ 971"، حاشية الإكمال "3/ 228"، تكملة إكمال الإكمال ص"369"، النجوم الزاهرة "5/ 371"، شذرات الذهب "4/ 198".
3 أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن الشهير بابن الجوزي جمال الدين من نسل=(2/429)
الحافظ الواعظ، ذو التصانيف التي انتهيت إلى ثلاثمائة، وتقدم في الترجمة ابن جرير الطبري ما بلغت أوراقها، له التفسير، "زاد المسير" والتاريخ الكبير، و"مختصر الإحياء"، و"الموضوعات" وغيرها، وإذا شئت أن تعلم قدره علما وفضلا، فانظر رحلة ابن جبير الأندلسي وما شاهده في كيفية تدريسه وإملائه، لتعلم كيف كان العلماء، توفي ببغداد سنة 597 سبع وتسعين وخمسمائة.
939- أبو الفرج عبد المنعم بن أبي الفتح عبد الوهاب 1:
شمس الدين الحراني الأصل البغدادي، كان تاجرا وله في الحديث سماعات عالية، وانتهت إليه الرحلة من الأقطار، توفي سنة 596 ست وتسعين وخمسمائة.
940- أبو بكر محمد بن عبد الغني المعروف بابن نقطة 2:
من الحفظ المكثرين، له ذيل على إكمال ابن ماكولا، وآخر في الأنساب
__________
1 أبو الفرج عبد المنعم بن أبي الفتح عبد الوهاب شمس الدين الحراني البغدادي: أبو الفرج الحراني البغدادي الحنبلي مات سنة "596".
دائرة الأعلمي "21/ 273" التكملة لوفيات النقلة "2/ 203"، التاج المكلل "39"، جامع المسانيد "2/ 537"، التقييد "2/ 150"، البداية النهاية "13/ 23"، ذيل ابن النجار "1/ 166"، وفيات الأعيان "3/ 227"، سير النبلاء "21/ 258".
2 أبو بكر محمد بن عبد الغني المعروف بابن نقطة: أبو بكر، البغدادي الحنبلي. الشهرة ابن نقطة. ولد سنة "576". توفي سنة "629".
فهرس الفهارس "1/ 293"، والحاشية، إفادة النصح ص"12، 24"، معجم طبقات الحفاظ ص"128"، تذكرة الحفاظ "4/ 204"، التاج المكلل ص"129"، وفيات الأعيان "4/ 392"، طبقات الحفاظ "496"، معجم المؤلفين "10/ 179" والحاشية، الوافي بالوفيات "3/ 267"، سير النبلاء "22/ 347"، دائرة معارف الأعلمي "26/ 305".(2/430)
ذيل على كتاب ابن طاهر المقدسي، وأبي موسى الأصبهاني، "والتقييد لمعرفة الرواة والسنن والمسانيد" وكان أحد شعراء العراق المجيدين، توفي سنة 629 تسع وعشرين وستمائة ونقطة بضم النون.
941- أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم فخر الدين الشهير بابن تيمية 1:
الحراني، والخطيب الواعظ بحران، تفرد في بلده بالعلم، وصنف في المذهب، وله تفسير، توفي سنة 622 اثنتين وعشرين وستمائة.
942- أبو محمد عبد الغني بن فخر الدين ابن تيمية 2:
خطيب حران صنف ودرس بها، توفي سنة 639 تسع وثلاثين وستمائة.
943- أبو البركات عبد السلام 3:
ابن عبد الله بن أبي القاسم الشهير بمجد الدين ابن تيمية الحراني الإمام المقرئ المحدث الأصولي، الفقيه، المفسر، أحد الحفاظ الأعلام كان جمال الدين بن مالك يقول فيه: ألين له الفقه كما ألين الحديد لداود عليه السلام، له مصنفات منها التفسير، و"المنتقى" في أحاديث الأحكام، الذي شرحه
__________
1 أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم فخر الدين الشهير بابن تيمية الحراني الخطيب الواعظ بحران: سير النبلاء "13/ 192"، ووفيات الأعيان "1/ 657"، والبداية "13/ 109"، الشذرات "5/ 102"، وذيل طبقات الحنابلة "2/ 151".
2 أبو محمد عبد الغني بن فخر الدين ابن تيمية خطيب حران: شذرات الذهب "5/ 205"، وذيل طبقات الحنابلة "2/ 222".
3 أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الشهير بمجد الدين ابن تيمية الحراني الإمام المقرئ: أبو البركات، الحراني، الحنبلي، ابن تيمية، محيي الدين، ولد سنة 590، مات سنة 652.
التاج المكلل "241"، المعين "2175"، سير النبلاء "23/ 291"، الأعلام "4/ 6"، معجم المؤلفين "5/ 227"، فوات الوفيات "1/ 570".(2/431)
الشوكاني بشرح سماه "نيل الأوطار" وهو مطبوع، ولا شك أنه قد سبقه البغوي لهذا النسق من الشافعية، وعبد الحق الإشبيلي من المالكية، وله "المحرر" في الفقه، وغيره، توفي سنة 652 اثنتين وخمسين وستمائة.
944- أبو أحمد عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية 1:
نزيل دمشق درس وأفتى وصنف، وصار شيخ البلد بعد أبيه إمام محقق توفي سنة 682 اثنتين وثمانين وستمائة.
945- عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم البصري 2:
الحنبلي، فقيه مفسر كان مفتيا بالبصرة ثم انتقل لبغداد وتولى التدريس بها، له "جامع العلوم" تفسير، و"الحاوي" في الفقه، توفي سنة 684 أربع وثمانين وستمائة.
946- أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي 3:
الجماعيلي فقيه من أعيان الحنابلة، ولد وتوفي في دمشق، وولي القضاء مدة، له "تسهيل في تحصيل المذهب" [في] 4 شرح "المقنع" توفي سنة 682 اثنتين وثمانين وستمائة.
__________
1 أبو أحمد عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية نزيل دمشق: ذيل طبقات الحنابلة "2/ 211"، والشذرات "5/ 376"، والدارس "1/ 74، 75".
2 عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم البصري الحنبلي: أبو طالب، البصري العبدلياني الحنبلي، الضرير. ولد سنة "624"، مات سنة "684".
معجم المؤلفين "5/ 161، 162".
3 أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد أحمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي: المقدسي الجماعيلي، ولد سنة "597"، توفي سنة "682".
التاج المكلل ص"252"، معجم المؤلفين "5/ 169"، فوات الوفيات "1/ 546"، المعين "226".
4 في الأصل: و.(2/432)
947- أبو الطاهر إسماعيل بن إبراهيم المخزومي 1:
المصري شهربابن قريش، إمام جليل، حافظ ضابط، توفي سنة 694 أربع وتسعين وستمائة.
948- أبو عبد الله أحمد بن حمدان بن شبيب الحواني 2:
شيخ الفقهاء الحنابلة، توفي سنة 695 خمس وتسعين وستمائة عن اثنتين وتسعين سنة.
949- الحسن بن عبد الله بن أبي عمر بن قدامة المقدسي3 شرف الدين قاضي الحنابلة، توفي في السنة ذاتها عن سبع وخمسين سنة.
950- أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية 4:
تقي الدين شيخ الإسلام، وهو أشهر رجل في هذا البيت للمقالات التي تنسب إليه، وقام بإنكارها عليه التقي السبكي وجماعته بما أوجب سجنه إلى أن مات سجينا.
كان ابن تيمية من أمهر أهل وقته في علوم الدين، وأعرف الناس بالقرآن العظيم، وأحفظهم للسنة، وأتقنهم للتفسير، ومعرفة ناسخه ومنسوخه،
__________
1 أبو الطاهر إسماعيل بن إبراهيم المخزومي المصري شهربابن قريش: شذرات الذهب "5/ 426".
2 أبو عبد الله أحمد بن حمدان بن شبيب الحراني شيخ الفقهاء الحنابلة: شذرات الذهب "5/ 426".
3 الحسن بن عبد الله بن أبي عمر بن قدامة المقدسي شرف الدين قاضي الحنابلة: شذرات الذهب "5/ 426".
4 أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية تقي الدين شيخ الإسلام: تذكرة الحفاظ "4/ 278"، والبداية "14/ 132"، وفوات الوفيات "1/ 35"، والدارس "1/ 75"، والبدر الطالع "1/ 63"، والدرر الكامنة "1/ 144"، وذيل طبقات الحنابلة "2/ 387".(2/433)
وتنزيل أحكامه عارفا بالرجال، بصيرا بالأسانيد لا يكاد يشذ عنه الحديث من أحاديث الرسول إلا وعرف مخرجه ورجال سنده، وما هي رتبته قوة وضعفا من أئمة هذا الشأن، متبحر في الأصول والفنون الموصلة لذلك، وبالجملة كان فحلا في العلوم الإسلامية، شديد الرد على الفرق الضالة، وعلى البدع الحادثة في الإسلام، وعلى العلماء المتساهلين وذلك ما أوجب تألبهم عليه.
وله تواليف تدل على فضل واسع، ومادة وافرة وبلغت ثلاثمائة في نحو خمسمائة مجلد في الدين وأصوله وفروعه يطول سرد أسمائها، وفتاواه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد، وكان قوالا للحق، لا تأخذه في الله لومة لائم ما كان ليتلاعب بالدين، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن، والحديث والقياس، ويبرهن ويناظر أسوة من تقدمه، تعتريه حدة في البحث زرعت له عداوة في النفوس، ولولا ذلك، لكان كلمة إجماع قاله الشوكاني.
وقد خصت ترجمته بتواليف، منها في الإنكار عليه لابن السبكي وفئته إلى السيد النبهاني الموجود في عصرنا، ومن جملة ما أنكروه عليه وعرفوا كيف يؤلبون فكر الجمهور ضده قوله: إنه لا تشد الرحال لزيارة قبر المصطفى عليه السلام، بل للصلاة في المسجد النبوي، وقوله بعدم جواز التوسل بالميت ولو نبيا، وقوله بأن من طلق زوجه ثلاثا في لفظ واحد لا يلزمه إلا واحدة، وقوله بعدم جواز طلب الحوائج من الأولياء الأموات، وتكفيره من يفعل ذلك إلى غير ذلك، وانظر كتابنا "برهان الحق" فقد ألممنا بكثير من هذه المسائل، وبينا أدلته وأدلته خصومه، ووجه الصواب في ذلك.
ومنها ما هو في الانتصار له، وتضليل من ضلله وهي كثيرة، ومن أحسنها "الصارم المنكي" لابن عبد الهادي الألوسي البغددي، وهو من أحسن ما ألف، وهناك تنظر ترجمة هذا الإمام، وما قيل فيه، وأجيب عنه وقد ظهرت فضائله بظهور تآليفه، وتبين بها توهين كثير مما نسب إليه وأنه ما كان إلا لحدة لسانه في الرد على خصومه، فافترق الناس فيه فرقتين: مبغض قال يرميه بالعظائم الكفر فما دونه، ومحب غال يفضله على كل ما سواه، وهذا عادة الله في أعاظم(2/434)
العلماء، ولا سيما من كان منهم مستقل الفكر، حر اللسان ويتألب الناس ضده حياته، ويكون له صدق في الآخرين، وأفكاره في فهم حقيقة الدين الإسلامي وتجريده عن زوائد الابتداع، وإخلاص الدعوة للتوحيد الحق، وترك المغالات في تعظيم المخلوق كي لا يلحق بالخالق هي الأصل في مذهب الوهابية، فتواليفه ومباديه هي الأصول التي يرجعون إليها، ومجمل مذهبهم توحيد خالص، والعمل بالكتاب، والسنة الصحيحة أو الحسنة، وترك تقاليد الأوهام، واستقلال الفكر في فهم الشريعة من كتاب وسنة وقياس، وابتاع السلف، ونبذ المحدثات، على هذا تدور سائر كتبه، وهذا ما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، فهو من المجددين، وبسبب محنته تعلق الناس بأفكاره، وبحثوا عنها، وطبعوا كتبه، وبعثوها من خمولها، وتمذهبوا بمباديه، فصار زعيم حزب عظيم في الإسلام، وعم ذكره الآفاق نظير ما وقع للإمام أحمد بن حنبل، ومالك وغيرهما رحمهم الله على أنه كغيره من المجتهدين عرضة للصواب والخطأ والمجتهد مأجور في خطئه كصوابه على أن خطأه مغمور في بحار علومه كما قال الذهبي وغيره والله يغفر له. توفي سنة 728 ثمان وعشرين وسبعمائة.
951- أبو بكر عبد الرحمن بن محمد فخر الدين البعلبكي 1: ثم الدمشقي شهربابن الفخر، ورحل للحديث مرات، وأفاد، توفي سنة 732 اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
952- أبو محمد عبد الله بن أحمد بن المحب محب الدين المقدسي 2: الصالحي، إمام حافظ، عني بالحديث، فجمع وخرج، وأفاد، متين الديانة، توفي سنة 737 سبع وثلاثمائة وسبعمائة.
__________
1 أبو بكر عبد الرحمن بن محمد فخر الدين البعلبكي ثم الدمشقي: ابن الفخر، البعلبكي فخر الدين.
المعجم المختص بالمحدثين "163".
2 أبو محمد عبد الله بن أحمد بن المحب محب الدين المقدسي الصالحي: أبو محمد، السعدي، المقدسي، الصالحي الحنبلي، [المحب محب الدين] . مات وله أربعون سنة.
التاج المكلل ص"248"، أربع رسائل "209"، المعين "2194"، سير النبلاء "23/ 375".(2/435)
953- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي 1:
ابن قدامة المقدسي الجماعيلي الأصل، ثم الصالحي المقرئ، والمحدث الناقد المتفنن الجبل الراسخ، أفتى ودرس وعد له ابن رجب ما يزيد على سبعين مصنفا، لكن بعضها لم يكمل لاخترام المنية له في سن الأربعين أو أقل، وله "الصارم المنكي في الرد على السبكي" في مسألة شد الرحل لزيارة القبور، توفي سنة 744 أربع وأربعين وسبعمائة.
954- أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي 2:
ثم الدمشقي شمس الدين الشهير بابن القيم الجوزية، عني بالحديث ورجاله، واشتغل بالفقه، ويجيده والنحو والأصلين، وكان غاية في التفسير والأصول، نشر العلم والسنة وكان على مبدء شيخه ابن تيمية، فحبس معه أيضا لإنكاره شد الرحل لقبر الخليل عليه السلام، وكان على جانب عظيم في التعبد، والتأله، ولعظيم رتبته في العلوم وصف بأنه المجتهد المطلق، وأنه لحقيق بذلك، وأن تواليفه لشاهد عدل لا يقبل الرضا على فضله وعلمه يطول بنا ذكر أسمائها، انظرها في ترجمته من أول كتابه "أعلام الموقعين عن رب العالمين" المطبوع بمصر تنيف على خمسين سفرا، كلها غرر ودرر، وذوقه في الاستنباط، وفهم القرآن وحل المشكلات عجيب مع حفظ راسخ، ومجد شامخ، توفي سنة 751 إحدى وخمسين وسبعمائة.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي ابن قدامة المقدسي الجماعيلي ثم الصالحي: الدرر الكامنة "3/ 331"، والدارس "2/ 88، 89"، والوافي "2/ 161"، والشذرات "6/ 141"، والبدر الطالع "2/ 108"، وذيل طبقات الحنابلة "2/ 436".
2 أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي شمس الدين بابن القيم الجوزية: ذيل طبقات الحنابلة "2/ 447"، الدرر الكامنة "3/ 400، 403" والنجوم الزاهرة "10/ 249"، والوافي "2/ 270، 272"، والبدر الطالع "2/ 143، 146"، والشذرات "6/ 168/ 170".(2/436)
955- أبو العباس أحمد بن الحسن بن عبد الله 1:
ابن قدامة شرف الدين، صدر الأئمة، الإمام المقدسي، ثم الدمشقي، شيخ الحنابلة في وقته شهربابن قاضي الجبل، متفنن عالم بالحديث وعلله، وعلوم العبرية، والفروع الفقهية والأصول، أفتى بإذن ابن تيمية في شبيبته، وتولى القضاء بدمشق إلى أن توفي، قال فيه الذهبي: مفتي الفرق سيف المناظرين، له اختيارات في المذهب، منها بيع الوقف للحاجة، وتبعه على ذلك جماعة، وكلهم تبع لشيخ الإسلام ابن تيمية، توفي سنة 771 إحدى وسبعين وسبعمائة.
956- أبو العباس أحمد الزرعي 2:
الدمشقي العالم الزاهد، كان قوي النفس، أمارا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، وله إقدام على السلاطين، فأبطل مظالم كثيرة، توفي سنة 762 اثنتين وستين وسبعمائة.
957- أبو الحرم محمد بن محمد بن محمد بن أبي الحرم القلانسي 3 فتح الدين المسند المكثر، توفي بالقاهرة سنة 765 خمس وستين وسبعمائة.
958- أبو الربيع سليمان نجم الدين بن عبد القوي الطوفي 4:
الصرصري البغدادي الشهير بابن البوقي، أصولي، متفنن في العربية
__________
1 أبو العباس أحمد بن الحسن بن عبد الله بن قدامة شرف الدين: الدرر الكامنة "1/ 120"، والشذرات "6/ 219، 220"، والبدر الطالع "361، 364"، والدارس "2/ 44، 46".
2 أبو العباس أحمد الزرعي الدمشقي: شذرات الذهب "6/ 197".
3 أبو الحرم محمد بن محمد بن محمد بن أبي الحرم القلانسي فتح الدين المسند المكثر: الفلانسي الحنبلي. ولد سنة "683". مات سنة "765". الدرر الكامنة "4/ 353".
4 أبو الربيع سليمان نجم الدين بن عبد القوي الطوفي الصرصري البغدادي "ابن البوقي": ذيل طبقات الحنابلة "2/ 366"، والدرر الكامنة "2/ 154"، وبغية الوعاة "262"،=(2/437)
والمنطق والأصلين وغيرها، بابن البوقي يسمى "الإشارات الإلهية والمباحث الأصولية" ليس له نظير في بابه، و"والإكسير في قواعد التفسير" وشرح مقامات الحريري في مجلدات، وكان شيعيا حتى إنه قال عن نفسه.
أشعري حنبلي وافضي ... هذه إحدى العبر
وله كتاب "العذاب الواصب على أرواح النواصب" وقد حبس، وطيف به لأجل ذلك، توفي في بلد الخليل سنة 710 عشر وسبعمائة.
959- أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن هلال الزرعي 1:
ثم الدمشقي برهان الدين، توفي سنة 741 إحدى وأربعين وسبعمائة عن بضع وخمسين سنة.
960- أبو حفص عمر بن سعد الله الحراني 2:
الدمشقي الفقيه، عالم كبير، بصير بالفقه والعربية، توفي سنة 749 تسع وأربعين وسبعمائة.
961- أبو عبد الله محمد بن مفلح 3:
ابن محمد بن مفرج المقدسي، ثم الصالحي شمس الدين، أقضى القضاة شيخ الإسلام، وأحد الأئمة الأعلام، درس وناظر، وأفتى وحدث، كان
__________
1 أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن هلال الزرعي ثم الدمشقي برهان الدين: شذرات الذهب "6/ 129"، وذيل طبقات الحنابلة "2/ 434".
2 أبو حفص عمر بن سعد الله الحراني الدمشقي: أبو حفص، الحراني، ولد سنة 685، مات سنة "849".
الوفيات للسلامي ترجم "546".
3 أبو عبد الله محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي ثم الصالحي شمس الدين: أبو عبد الله، الراميني الصالحي، ولد سنة "710"، مات سنة "763".
الوفيات للسلامي ترجم "771"، معجم المؤلفين "12/ 44، 45".(2/438)
غاية في مذهب الحنابلة، قال ابن القيم: ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب أحمد منه، وله على "المقنع" نحو ثلاثين مجلدا، وله كتاب على "المنتقى" وكتاب في "الفروع" أربع مجلدات، آخر في أصول الفقه، و"الآداب الشرعية" الكبرى، والوسطى، والصغرى، توفي سنة 763 وستين وسبعمائة.
962- أبو عبد الله محمد بن المنجا 1:
ابن عثمان التنوخي الدمشقي إمام فقيه، أفتى ودرس، مشهور بالتقوى والخصال الجميلة، والعلم والشجاعة، توفي سنة 724 أربع وعشرين وسبعمائة.
963- يوسف بن محمد بن مسعود العبادي 2:
ثم العقيلي نزيل دمشق الإمام العلامة جمال الدين أبو المظفر، ولد بسرمرا، ولذا ينسب السرمي في رجب 696، له مصنفات في أنواع العلم كـ"غيث السحابة في فضل الصحابة" وغيره، مات سنة 776 ست وسبعين وسبعمائة، وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد بن الكناني3 قاضي القضاة بدمشق علاء الدين عن بضع وستين سنة.
964- أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن بردس البعلبكي 4:
حافظها الإمام، الحافظ، المكثر، الصالح، متين الدين، والخلق الحسن، له مؤلفات حسنة كنظم طبقات الحفاظ للذهبي، ونظم نهاية ابن الأثير، توفي سنة 786 ست وثمانين وسبعمائة.
__________
1 أبو عبد الله محمد بن المنجا بن عثمان التنوخي الدمشقي: ذيل طبقات الحنابلة "2/ 377".
2 يوسف بن محمد بن مسعود العبادي ثم العقيلي: شذرات الذهب "6/ 249".
3 يوسف بن محمد بن مسعود العبادي: شذرات الذهب "6/ 243".
4 أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن بردس البعلبكي: شذرات الذهب "6/ 287"، والرد الوافر "48"، والدرر الكامنة "1/ 378".(2/439)
965- عبد الرحمن بن أحمد بن رجب 1:
البغدادي ثم الدمشقي الإمام الحافظ الحجة، والفقيه، العمدة أحد العلماء الزهاد والأئمة العباد، واعظ المسلمين شهاب الدين أبو العباس، أو أبو الفرج، سمع مؤلفات سديدة، توفي سنة 795 خمس وتسعين وسبعمائة عن نحو ستين سنة.
966- محمد بن خليل المنصفي 2:
بضم أوله، وبه شهر التركي الدمشقي الحريري، شمس الدين الحافظ الزاهد الصالح المتقن، الإمام النبيه، الفقيه المحدث، ألف وجمع وتوفي سنة 803 ثلاث وثمانمائة.
967- القاضي برهان الدين إبراهيم بن النقيب 3:
المقدسي توفي في التاريخ المذكور.
968- أحمد بن نصر الله بن أحمد الكناني 4 قاضي القضاة بالقاهرة توفي بها في السنة المذكورة.
__________
1 عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي ثم الدمشقي: أبو الفرج. السلامي البغدادي، الدمشقي الحنبلي. ولد سنة "736"، توفي سنة "795".
فهرس الفهارس "2/ 236"، تذكرة "367"، أنباء العمر "1/ 460"، الدرر الكامنة "2/ 428"، شذرات "6/ 339"، الأعلام "3/ 295"، معجم المؤلفين "5/ 118"، طبقات الحنابلة "536".
2 محمد بن خليل المنصفي "به شهر التركي الدمشقي الحريري، شمس الدين الحافظ" شذرات الذهب "7/ 35".
3 القاضي برهان الدين إبراهيم بن النقيب المقدسي: شذرات الذهب "7/ 22".
4 أحمد بن نصر الله بن أحمد الكناني: شذرات الذهب "7/ 25، 26".(2/440)
969- أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الشهير بابن زريق العمري المقدسي الصالحي 1:
ناصر الدين قال فيه ابن حجر العسقلاني: لم أر في دمشق من يستحق اسم الحفاظ غيره، رتب "المعجم الأوسط" للطبراني على الأبواب، وصحيح ابن حبان، توفي في السنة المذكورة.
970- أبو الحسن علي بن محمد بن علي شهر بابن اللحام 2:
علاء الدين توفي يوم عيد الأضحى من السنة المذكورة بالقاهرة.
971- عبد المنعم شرف الدين المفتي البغدادي 3:
المتوفى سنة 807 سبع وثمانمائة.
972- عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن المقدسي 4:
الصالحي الإمام المسند، توفي بدمشق سنة 819 تسع عشرة وثمانمائة عن تسع وسبعين سنة.
973- محمد بن أحمد المقدسي الحريشي 5:
قرأ بالأزهر مدة طويلة وحصل على علم غزير، وكان عالما زاهدا عابدا،
__________
1 أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الشهير بابن زريق العمري المقدسي الصالحي:
ديوان الضعفاء "3843"، الميزان "3/ 625"، المغني رقم "5749"، لسان الميزان "5/ 252"، الجرح والتعديل "7/ 1752"، ضعفاء ابن الجوزي "3/ 74".
2 أبو الحسن علي بن محمد بن علي شهر بابن اللحام علاء الدين: شذرات الذهب "7/ 31"، والدارس "2/ 124"، من تصانيفه القواعد الأصولية والأخبار العلمية في اختيارات الشيخ ابن تيمية.
3 عبد المنعم شرف الدين المفتي البغدادي: شذرات الذهب "7/ 68".
4 عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن المقدسي الصالحي: القرشي العامري. المقدسي الحنبلي، ولد سنة "741". مات سنة "819".
دائرة معارف الأعلمي "21/ 82"، أنباء العمر "3/ 108"، الضوء اللامع "4/ 82".
5 محمد بن أحمد المقدسي الحريشي: خلاصة الأثر "3/ 340".(2/441)
انتفع به أهل القدس ونابلس خصوصا في العربية، وكان إمام الحنابلة ومفتيهم، توفي عام 1001 واحد بعد الألف.
974- محمد بن أحمد المرادوي 1:
نزيل مصر، وشيخ الحنابلة في عصره كانت وفاته بمصر سنة 1026 ست وعشرين وألف.
975- أحمد بن أبي الوفاء بن مفلح 2:
الدمشقي الإمام الكبير فقها وحديثا وورعا، وبيتهم بيت علم هناك، ولا هل دمشق فقيه اعتقاد كبير، وهو أهله، درس في دار الحديث وغيرها، توفي سنة 1038 ثمان وثلاثين وألف.
976- منصور بن يونس صلاح الدين البهوتي 3:
شيخ الحنابلة بمصر، وخاتمة علمائهم بها، الذائع الصيت، كان عالما عاملا متبحرا للفروع الفقهية، مرحولا إليه، من الآفاق، لانفراده في عصره بالفقه الحنبلي، له مكارم دارة تأتيه الصدقات، فيفرقها في طلبة العلم، ولا يأخذ منها شيئا وصولا لأهل بلده المقادسة، يمرض مرضاهم في بيته، ويجعل لهم ضيافة كل ليلة جمعة، له تآليف مهمة شرح "الإقناع" ثلاثة أجزاء، وحاشية "الإقناع" وشرح على "منتهى الإرادات" للتقي الفتوحي، وحاشية على "المنتهى" و"شرح زاد المستنقع"، للحجاوي وشرح "المفردات" وهو ممن انتهى إليه الإفتاء والتدريس، توفي سنة 1051 إحدى وخمسين وألف.
977- يس بن علي بن أحمد الحنبلي 4:
الفقيه، الفاضل الرحلة، مفتي نابلس، قرأ بمصر على أعلامها فأجازوه، وكان دينا صالحا تقيا
__________
1 محمد بن أحمد المرداوي "نزيل مصر شيخ الحنابلة": خلاصة الأثر.
2 أحمد بن أبي الوفاء بن مفلح الدمشقي: خلاصة الأثر "1/ 165".
3 منصور بن يونس صلاح الدين البهوتي "شيخ الحنابلة بمصر": خلاصة الأثر "4/ 426"، ومختصر طبقات الحنابلة "104".
4 يس بن علي بن أحمد الحنبلي "مفتي نابلس": خلاصة الأثر "4/ 492".(2/442)
حافظا لكتاب الله وتوفي سنة 1058 ثمان وخمسين وألف.
978- عبد الحي بن أحمد بن محمد المعروف بابن العماد 1:
العكري الصالحي الحنبلي، العالم الهمام المنصف، الأديب المتفنن الأخباري، أعرف من كان في عصره بالفنون المتاكثرة، له شرح على متن "المنتهى" في فقههم، وله تاريخ "شذرات الذهب في أخبار من ذهب" وله رسائل وتحريرات، توفي بمكة سنة 1089 تسع وثمانين وألف عن ثمان وخمسين سنة.
979- عبد الرحمن بن يوسف البهوتي 2:
المصري الحنبلي خاتمة المعمرين العمدة المتبرك به، محدث فقيه شهير، أخذ الحديث والفقه بالمذاهب الأربعة عن أعلام وقته، وله أسانيد عالية كان في سنة أربعين وألف حيا قاله في "الخلاصة".
980- محمد بن أبي السرور محمد سلطان البهوتي 3 المصري الحنبلي أحد جلة الفقهاء، ذو اليد الطولى فيه، وفيه العلوم المتداولة، وانتفع به خلق كثير بمصر، توفي سنة 1100 مائة وألف.
981- محمد بن أحمد بن علي البهوتي الحنبلي 4:
الخلوتي المصري العالم العلم، إمام المعقول، المفتي المدرس كتب كثيرا من التحريرات، فمنها على "الإقناع" حاشية تبلغ اثني عشر كراسا، وأخرى
__________
1 عبد الحي بن أحمد بن محمد المعروف بابن العماد العكري الصالحي الحنبلي: خلاصة الأثر "2/ 340".
2 عبد الرحمن بن يوسف البهوتي المصري الحنبلي: خلاصة الأثر "2/ 405".
3 محمد بن أبي السرور محمد سلطان البهوتي المصري الحنبلي: خلاصة الأثر "3/ 338".
4 محمد بن أحمد بن علي البهوتي الحنبلي الخلوتي المصري: خلاصة الأثر "3/ 391".(2/443)
على "المنتهى" تبلغ أربعين، توفي سنة 1088 ثمان وثمانين وألف.
982- إبراهيم بن أبي بكر بن إسماعيل الدنابي العوفي 1:
الدمشقي الأصل المصري من أعيان الأفاضل، متبحر في الفقه والحساب وغيرهما له شرح على "منتهى الإرادات" في فقه الحنابلة في مجلدات، و"المناسك" في مجلدين، ورسائل كثيرة في الفرائض والحساب ويرجع إليه في الأمور الدينية والدنيوية، توفي سنة 1094 أربعين وتسعين وألف بمصر عن أربع وستين.
983- أبو المواهب تقي الدين عبد الباقي بن عبد القادر الحنبلي 2:
البعلي الدمشقي، مفتي الحنابلة بها، عالم بالروايات والحديث والفقه، أخذ عن البابلي والشبراملسي وغيرهما، توفي سنة 1120 عشرين ومائة وألف.
984- عبد القادر بن عمر التغلبي 3:
الشيباني الدمشقي إمام عالم فقيه فرضي صالح عابد صوفي زاهد ناسك لا يأكل إلا من كسب يده في تجليد الكتب، ملازم لدروس العلم في الجامع الأموي، وانتفع به خلق كثير له شرح على "دليل الطالب" في المذهب، توفي سنة 1135 خمس وثلاثين ومائة وألف.
__________
1 إبراهيم بن أبي بكر بن إسماعيل الدنابي العوفي الدمشقي الأصل المصري: خلاصة الأثر "1/ 9".
2 أبو المواهب تقي الدين عبد الباقي بن عبد القادر الحنبلي البعلي الدمشقي: خلاصة الأثر "2/ 283"، وفهرس الفهارس "1/ 338".
3 عبد القادر بن عمر التغلبي الشيباني الدمشقي: سلك الدرر "3/ 58"، وفهرس الفهارس "2/ 162".(2/444)
985- عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن مشرق التميمي النجدي:
الفقيه من أهل العيينة بنجد وهو والد محمد بن عبد الوهاب إمام حنابلة نجد، وصاحب المذهب المشهور، له في بعض المسائل الفقهية كتابة حسنة توفي سنة 1153 ثلاث وخمسين ومائة وألف.
986- محمد بن مصطفى الطوراني البغدادي:
مفتي الحنابلة ببغداد، فقيه عالم صالح بارع، استوطن القسطنطينية، توفي سنة 1184 أربعين وثمانين ومائة وألف.
987- محمد بن أحمد السفاريني 1:
النابلسي الفقيه الإمام، الغرة في جبين الأيام، نحرير كامل، علامة فاضل، له تصانيف شهيرة منتشرة كثيرة، ودرس وأفتى، وأفاد، وله الفتاوى الكثيرة لو جمعت لكانت مجلدا وشرح ثلاثيات أحمد في مجلد ضخم، وكتب في السيرة، والحديث، والخصائص، يطول عدها، انظر أسماءها في "سلك الدرر" وله شعر رائق كله غرر توفي سنة 1188 ثمان وثمانين ومائة وألف.
988- مصطفى بن عبد الحق النابلسي الأصل:
الدمشقي الدار، الفقيه البارع، الفرضي الحيسوبي، كان كثير الاستحضار للفروع وكاد ينفرد بعلمي الفرائض والحساب في عصره مع تواضع وورع ومناقب جمة، توفي سنة 1153 ثلاث وخمسين ومائة وألف.
989- أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب 2:
التميمي النجدي إمام الوهابية الزعيم الأكبر ولد في مدينة العيينة من إقليم
__________
1 محمد بن أحمد السفاريني النابلسي: سلك الدرر "4/ 31".
2 أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي إمام الوهابية: التميمي النجدي ولد سنة "1115"، مات سنة "1206".
معجم المؤلفين "10/ 269، 270"، دائرة معارف الأعلمي "27/ 48".(2/445)
العارض بنجد سنة 1106 ست ومائة وألف، وربي بحجر والده تقدمت ترجمته ثم انتقل للبصرة لإتمام دروسه، فبرع في علوم الدين واللسان، وفاق الأقران واشتهر هناك بالتقوى، وصدق التدين.
عقيدته السنة الخالصة على مذهب السلف المتمسكين بمحض القرآن والسنة لا يخوض التأويل والفلسفة، ولا يدخلهما في عقيدته.
وفي الفروع مذهبه حنبلي غير جامد على تقليد الإمام أحمد ولا من دونه، بل إذا وجد دليلا أخذ به، وترك أقوال المذهب، فهو مستقل الفكر في العقيدة والفروع معا.
وكان قوي الحال ذا نفوذ شخصي، وتأثير نفسي على أتباعه، يتفانون في امتثال أوامره غير هياب ولا وجل، لذلك كان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهو منفرد عن عشيرته في البصرة، فتآمروا على قتله، ففر إلى العيينة، واجتذب قلوب قبيلته بالوعظ والإنذار والحجة ووضوح المحجة، فالتفوا عليه وقوي حزبه، وأصبح من الزعماء، لكن لم يخل من أضداد كما هو الشأن، فنسبوا إليه قتل امرأة ظلما، فنفاه أمير الحسا إلى الدرعية، وكان بها أتباع أيضا لشيوع مذهبه، فقبله أميرها محمد بن سعود، وأمره بنشر مبادئه التي أسسها الإمام أحمد بن تيمية الحراني -وقد سلف لنا بيان شيء من ذلك في ترجمته- وأصهر إلى الأمير ابن سعود بابنته، وهي أم الأمير عبد العزيز بن سعود الذي ظهر بمظهر الناشر لمذهبه، الناصر لفكره وهو نبذ التعلق بالقبور، وعدم نسبة التأثير في الكون للمقبور، بل منع التوسل بالمخلوق، وهدم الأضرحة التي تشييدها سبب هذه الفكرة، وقد فصلت ذلك في رسالة بيان مذهب الوهابية وفي كتابي "برهان الحق".
وأعظم خلاف بينهم وبين أهل السنة هو مسألة التوصل وتكفيرهم من يتوسل بالمخلوق، فالخلاف في الحقيقة ليس في الأصول التي ينبني عليها التكفير أو التبديع، وإنما هو في أمور ثانوية، وأهمه هذه. ومن جملة مباديهم التمسك(2/446)
بالسنة، وإلزام الناس بصلاة الجماعة، وترك الخمر، وإقامة الحد على متعاطيها ومنعها كليا في مملكتهم، بل منع شرب الدخان ونحوه مما هو من المشتبهات، ومذهب أحمد مبني على سد الذرائع كما لا يخفى ونحو هذا من التشديدات التي لا يراها المتساهلون أو المترخصون، وكل هذا لا يخالف سنة.
وهذا المذهب مؤسسه في الحقيقة ابن تيمية، ولكن حاز الشهرة محمد بن عبد الوهاب، وإليه نسبوا حيث توفق لإظهاره، بالفعل ونشره بالقوة، وتمكن من إحلاله محلا مقبولا من قلوب النجدين الذين قاتلوا عليه، فأصبح ابن عبد الوهاب ذا شهرة طبقت العالم الإسلامي وغيره معدودا من الزعماء المؤسسين للمذاهب الكبرى والمغتربين بفكرهم أفكار الأمم.
وابن ابن سعود توصل بنشر هذا المذهب لأمنيته وهي الاستقلال، والتملص من سيادة الأتراك والنفس العربية ذات شمم، فقد بدأ أولا بنشر المذهب، فجر وراءه قبائل نجد وأكثرية عظيمة من سيوف العرب؛ إذ العرب لا تقوم لهم دولة إلا على دعوى دينية، ولما رأى الأتراك ذلك ووقفوا على قصده، نشروا دعاية ضده في العالم الإسلامي العظيم الذي كان تابعها لهم، وشنع علماؤهم عليه بالمروق من الدين، وهدم مؤسساته واستخفافهم بما هو معظم بالإجماع كالأضرحة، وتكفير الإسلام، واستحلال دمائه إلى غير ذلك مما تقف عليه في غير هذا، وشايعهم جمهور العلماء في تركيا والشام ومصر والعراق وتونس وغيرها، وانتدبوا للرد عليه بأقلامهم، وخالفهم المولى سليمان سلطان المغرب، فارتضى مباديه إلا ما كان من تكفير من يتوسل، واستحلال دمه، فلا أظن أنه يقول بذلك حتى مدحه شاعره وأستاذه الشيخ حمدون بن الحاج، وتوجهت القصيدة مع نجل الأمير المولى إبراهيم حين حج مما تقف على ذلك في تاريخنا لإفريقيا الشمالية منقولا عن أبي القاسم الصياني وغيره.
ثم حصحص الحق، وتبين أن المسألة سياسية لا دينية، فإن أهل الدين في الحقيقة متفقون، وإنما السياسة نشرت جلبابها، وأرسلت ضبابها، وساعدت الأقلام بفصاحتها، فكانت هي الغاز الخانق، فتجسمت المسألة وهي غير جسيمة، ولعبت السياسة دروها على مسرح أفكار ذهب رشدها، فسالت الدماء(2/447)
باسم الدين على غير خلاف ديني، وإنما هو سياسي، وقد جردت تركيا له الكتائب، فكسرها، واستولى على الحرمين الشريفين وغيرهما من الأقطار الحجازية، فاستنجدت بأمير مصر محمد علي باشا، فجهز جيشا عرمرما تحت إمرة ولده إبراهيم، فطردهم من الحرمين الشريفين، وأسر الأمير ابن سعود، وحصرهم ضمن بعض نجدهم، وتتبع ذلك في تواريخ الشرق، وعاد اليوم لهم ظهور وانتشار، ووقع التفاهم بين علماء الإسلام وزالت غشاوة كل الأوهام، وعلم كل فريق ما هو حق، وما حاد فيه عن الطريق، وكادت أن لا تبقى نفرة ما بين علماء نجد وبقية علماء الآفاق لا سيما بوجود السلطان عبد العزيز آل سعود سلطان نجد والحجاز والحرمين وملحقاتها الحالي الذي ظهرت منه كفاءة تامة، ونصرة للسنة بعد العهد بها من لدن أهل الصدر الأول، واعتدال في الأفكار، ونشر للأمن، ووحدة الإسلام، والغيرة العربية، والعدل في الأحكام، فهو من أفذاذ ملوك الإسلام العظام ذوي السياسة الإسلامية القويمة، والكعب المعلى في الصرامة والحزم والشدة في الرفق والعزم قبل الضيق، والسير على سنن السلف بما شهد له المحب والعدو أكثر الله في الإسلام أمثاله وأطال عمره، وأطال يده على أعدائه، وزاده تأييدا وتسديدا وثباتا في مبدئه القديم المعتدل، وبلغه مناه حتى نرى الحرمين الشريفين والحجاز أرقى بلاد الشام. توفي محمد بن عبد الوهاب سنة 1206 ست ومائتين وألف.
ولنقف عند هذا الحد من تراجم السادة الحنابلة، وذلك جهد المقل القاصر، وهو ما وقفت عليه مفرقا في تراجم المحدثين والحفاظ، وبعض كتب التراجم الشرقية كـ"سلك الدرر" ولم أقف لهم على طبقات مستقلة أستقي منها ما يروي الظمأ. وإني أقدم إليهم اعتذاري ولا سيما علماء نجد الأماثل وغيرهم، فإن فيهم فطاحل أود لو تزين كتابي هذا بنخبة من أعيانهم، آسفا جد الأسف على فقد الصلات العلمية بين الأقطار الإسلامية1.
__________
1 أورد المؤلف ترجمته في نهاية هذا المختصر، وقد قمنا برسمها في أول الكتاب من زبر قلمه، فلا حاجة للإعادة "المحقق".(2/448)
تجديد الفقه:
إن تجديد الفقه إلى أن يعود لشبابه ممكن بعلاج، وبالكشف عن الداء يعرف الدواء، ولهذا نبين ما صار إليه في هذه القرون، ثم نتكلم على التقليد الذي هو السبب الأعظم في هرمه، ثم الاجتهاد الذي به الحياة. وأقول هنا كلمة مختصرة في كيفية تجديده وهي إصلاح التعليم فلنترك عنا الدراسة بكتب المتأخرين المختصرة، المحذوفة الأدلة المستغلقة ولنؤلف كتبا دراسية فقهية للتعليم الابتدائي، ثم الثانوي، ثم الانتهائي، كل بحسب ما يناسبه، ولنرب نشأة جديدة تشب على النزاهة والأمانة ومكارم الأخلاق تربية صحيحة دينية كتربية السلف الصالح، ولنمرنها على أخذ الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة، والاشتغال بكتب الأقدمين التي كان يتمرن بها المجتهدون كـ"الموطأ" و"البخاري" و"الأم" للشافعي ولنجعل كتبا دراسية لأصول الفقه أيضا على نسق ما بينا في كتب الفقه، وهكذا النحو وسائر الفنون العربية، ولنجعل من جملة التعليم للفقهاء كتب الأحكام القرآنية والحديثية، وكأحكام ابن العربي والجصاص، وبلوغ المرام لابن حجر والمكشاة للتبريزي وأحكام عبد الحق، ويقع امتحانهم على ذلك، فبهذا يتجدد مجد الفقه.(2/449)
ما صار إليه الفقه من القرن الرابع إلى وقتنا إجمالا:
إذا تأملت تراجم من سطرنا أمامك من الفقهاء، وتدحرج الفقه في تلك الأزمان تبين لك أن المجتهد المطلق لم يوجد من لدن القرن الرابع كما قال
النووي، وإنما هو أهل الاجتهاد المقيد، وهم مجتهدوا المذهب الذين لهم القوة على استنباط المسائل من الكتاب والسنة، وبقية الأصول، لكنهم مقيدون بقواعد مذهب إمامهم، وآخر هذا النوع كان في القرن الخامس كاللخمي والسيوري، والمازني وابن العربي، وابن رشد، ومعاصريهم من المذاهب الأخرى، يظهر أن آخرهم في المغرب الإمام عياض في أواسط السادس، ونشأ أئمة مجتهدون بالإطلاق زمن الموحدين كأبي الخطاب بن دحية وأخيه، وابن عربي الحاتمي، لكنهم قليلون، ولم يتضح لنا إطلاقا من كل وجه، فربما كانوا مقيدين بمذهب أهل الظاهرة، وقد صرح بذلك بعض من ترجم لهم، ففي "نفح الطيب" لما ترجم لابن عربي الحاتمي قال: إنه كان ظاهريا، وتقدم لنا ما يفيد ذلك.
وقد يوجد من يزعم الاجتهاد بإطلاق كابن وزير اليمني المتوفى سنة 816، وتقدم في الشافعية وغيره قليل، ثم تحولت الحال لمجتهدي الفتوى أصاحب الترجيح في الأقوال الذين ليس لهم أن يستنبطوا حكما لمسألة، وحسبهم أن ينقلوا ما استنبطه المتقدمون، ويرجحوا ما اختاروه من الخلاف بالحجج التي وصلوا إليها باجتهادهم المذهبي فأقول لهم: إنما يعبر عنها خليل وغيره بالتردد، ولو مع عدم نص المتقدمين كابن شاش وابن الحاجب وهذه الطبقة قد انتهت أواسط الثامن، ولم يبق بعدها إلا أهل التقليد المحض غالبا بمعنى أنهم قد حجروا عليهم ألا يأخذوا بكتاب ولا سنة ولا قياس، بل حسبهم أقوال المتقدمين من أهل مذهبهم وتطبيقها على الوقائع الوقتية، فنصوص مذهبهم قامت مقام نصوص الشارع، ويأتي مزيد بسط لهذا في ترجمة "هل انقطع الاجتهاد أم لا" ومن المتأخرين بعدهم من ادعى رتبة الترجيح والاختيار كأبي الفداء إسماعيل التميمي التونسي السابق وأمثاله، وذلك نادر.
ويوجد نوع آخر من الفقهاء نادر وهو من يمهر في أكثر من مذهب واحد، فيفتي لأهل مذهبين فأكثر، كالإمام ابن دقيق العيد، كان يفتي على مذهبي مالك والشافعي، ومثله الإمام محمد بن عمران المعروف بالكركي، وبابن الدلالات الفاسي الأصل المولود بها سنة 627 المصري الوفاة كما في "بغية الوعاة" وكان(2/449)
الشيخ أحمد بن عبد المنعم الدمنهوري المصري شيخ الأزهر المتوفى سنة 1193 اثنتين وتسعين ومائة وألف يفتي على المذاهب الأربعة، وألف فيها جميعا، وذلك نادر.
ومن المتأخرين من ادعى رتبة الاجتهاد المطلق كالشوكاني في اليمن، ولكن لم يسلموه له، وأوذي بسبب ذلك، وعلى كل حال، فغالب العلماء من المائة الثامنة إلى الآن لم يحفظ لهم كبير اجتهاد، ولا لهم أقوال تعبير في المذهب أو المذاهب، وإنما هم نقالون اشتغلوا بفتح ما أغلقه ابن الحاجب، ثم خليل وابن عرفة، وأهل القرون الوسطى من المذاهب الفقهية؛ إذ هؤلاء السادة قضوا على الفقه، أو على من اشتغل بتواليفهم، وترك كتب الأقدمين من الفقهاء بشغل أفكارهم بحل الرموز التي عقدونها، فجنت الأفكار، وتخدرت الأنظار بسبب الاختصار فترك الناس النظر في الكتاب والسنة والأصول، وأقبلوا على حل تلك الرموز التي لا غاية لها ولا نهاية، فضاعت أيام الفقهاء في الشروح، ثم في التحشيات والمباحث اللفظية، وتحمل الفقهاء آصارا وأثقالا بسبب إعراضهم عن كتب المتقدمين، وإقبالهم على كتب هؤلاء، وأحاطت بعقولنا قيود فوق قيود،، وآصار فوق آصار، فالقيود الأولى التقيد بالمذاهب وما جعلوا لها من القواعد، ونسبوا لمؤسسيها من الأصول، الثانية أطواق التآليف المختصرة المعقدة التي لا تفهم إلا بواسطة الشروح، واختصروا في الشروح، فأصبحت هي أيضا محتاجة لشروح وهي الحواشي، وهذا هو الإصر الذي لا انفكاك له، والعروة التي لا انفصام لها، أحاطوا بستان الفقه بحيطان شاهقة، ثم بأسلاك شائكة، ووضعوه فوق جبل وعر بعدما صيروه غثا، وألقوا العثرات في طريق ارتقائه، والتمتع بأفيائه، حتى يظن الظان أن قصدهم الوحيد جعل الفقه حكرة بيد المحتكرين، ليكون وقفا على قوم من المعممين، وأن ليس القصد منه العمل بأوامره ونواهيه وبذله لكل الناس، وتسهيله على طالبيه، بل القصد قصره على قوم مخصوصين، ليكون حرفة عزيزة، وعينا من عيون الرزق غزيرة، وحاشاهم أن يقصدوا شيئا من هذا لأنه ضلال في الدين، وإنما حصل من دون قصد، فيا لله(2/451)
أين نحن من قوله عليه السلام: "سددوا وقاربوا" 1، وقوله: "بلغوا عني ولو آية، فرب مبلغ أوعى من سامع" 2 وقوله: "لأن يهدي الله بك رجلا خير مما طلعت عليه الشمس وغربت" 3 ولله در عبد العزيز اليحصبي الأخبش حيث قال: "هذه الأعمار رءوس أموال يعطيها الله للعباد يتجرون فيها، فرابح أو خاسر، فكيف ينفق الإنسان رأس ماله النفيس في حل مقفل كلام مخلوق مثله، ويعرض عن كلام الله ورسوله الذي بعث إليه". ا. هـ.
وليتنا نمرن طلبة الفقه على النظر في الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام وحفظها وفهمها فهما استقلاليا يوافق ما كان يفهمه منها قريش الذين نزل بلغتهم، وعلى النظر في السنة الصالحة للاستدلال وحفظها وإتقانها وفهمها، كذلك، ونمرنهم على قواعد العربية.
وأصول الفقه، ثم نترك لهم حرية الفكر والنظر كما كان عليه أهل الصدر الأول، ولن يصلح آخر الأمة إلا ما صلح عليه أولها، وهذا العمل أنجح من السعي في توحيد المذاهب، أو ترجيح أحدها.
__________
1 أخرجه أحمد "5/ 282"، والدارمي "1/ 168"، من حديث الوليد بن مسلم ثنا ابن ثوبان، حدثني حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي عن ثوبان، وهذا سند حسن، وصححه ابن حبان "164"، وله شاهد عند الطبراني من حديث عبد الله بن عمر.
2 الحديث ملفق من حديثين، أولهما. حديث عبد الله بن عمر بن العاص أخرجه البخاري "6/ 361"، بشرح الفتح بلفظ "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار" والثاني حديث أبي بكر أخرجه البخاري "3/ 459" بشرح الفتح وفيه "فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع" وأخرجه مسلم "1679"، بلفظ مقارب.
3 أخرجه الطبراني من حديث أبي رافع، وفي سنده مجهول وأخرجه البخاري في صحيحه "7/ 366، 367" بشرح الفتح ومسلم "2406" من حديث سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه حين أعطاه الراية في غزوة خيبر "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم".(2/452)
مناظرة فقيهين في القرن الخامس:
قال ابن العربي في "الأحكام"1: ورد علينا بالمسجد الأقصى سنة 487 سبع وثمانين وأربعمائة فقيه من عظماء أصحاب أبي حنيفة يعرف بالزوزني، فحضرنا في حرم الصخرة المقدسة طهرها الله معه، وشهد علماء البلد، فسئل على العادة عن قتل المسلم بالكافر، فقال: يقتل به قصاصا، فطولب بالدليل: فقال: الدليل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 2 وهذا عام في كل قتيل، فانتدب معه للكلام ففيه الشافعية بها وإمامهم عطاء المقدسي، وقال: ما استدل به الشيخ الإمام لا حجة له فيه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الله سبحانه قال: كتب عليكم القصاص فشرط في المجازات، ولا مساوات بين مسلم وكافر، فإن الكفر منزلته ووضع مرتبته.
الثاني: أن الله ربط آخر الآية بأولها، وجعل بيانها عند تمامها، فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} فإذا نقص العبد عن الحر بالرق وهو من آثار الكفر، فأحرى وأولى أن ينقص عنه الكافر.
الثالث: قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ولا مؤاخاة بين المسلم والكافر، فدل على عدم دخوله.
فقال الزوزني: بل ذلك دليل صحيح، وما اعترضت به لا يلزمني منه شيء، أما شرط المساواة في المجازات فمسلم، وأما دعواك أن المساوات بين
__________
1 "1/ 67".
2 سورة البقرة: 178.(2/453)
المسلم والكافر في القصاص غير معروفة فغير صحيح، فإنهما متساويان في الحرمة التي تكفي للقصاص، وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فالذمي محقون الدم على التأبيد كالمسلم وكلاهما صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، فيدل على مساواة ماليهما فدل على مساواة دمهما؛ إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. وأما ربط آخر الآية بأولها فغير مسلم فأولها عام، وآخرها خاص، وخصوص آخرها لا يمنع عموم أولها، بل كل على حكمه، وأما أن الحر لا يقتل بالعبد، فلا أسلمه بل يقتل به عندي قصاصا، فتعلقت بدعوى لا تصح لك، وأما من عفي له من أخيه يعني المسلم، فكذلك أقول ولكن خصوص هذا في العبد لا يمنع عموم القصاص، فهما قضيتان متباينتان لا يمنع خصوص هذه عموم تلك. ا. هـ.
ولنضع أمامك مثالا تفهم به ما امتحن به طلاب العلم بعد القرون الوسطى: عرف ابن عرفة الذبائح بكلمات وهي: الذبائح لقبا لما يحرم بعض أفراده من الحيوان لعدم ذكاته أو سلبها عنه ما يباح بها مقدورا عليه. ا. هـ. وهو تعريف أشبه كما ترى بلغز منه بمسألة علمية، فاحتاج بعض أهل العصر في شرحه إلى كراس كامل، فإذا كان تعريف لفظ واحد من ألفاظ الفقه التي حدث الاصطلاح الشرعي فيها يحتاج شرحه إلى هذا، وبالضرورة لا بد من درسين أو ثلاثة دروس تذهب فيه، فكيف يمكن أن يمهر الطالب في الفقه، وكيف يمكن أن ترتقي علومنا؟ وأي حاجة بطلبة العلم إلى هذه التعاريف، فلقد كان مالك وأضرابه علماء وما عرفوا ذبيحة ولا نطيحة.
وهذه "الموطأ" و"المدونة" شاهدتان بذلك، وهكذا بقية المجتهدين، ولهذا كانت المجالس الفقهية في الصدر الأول مجالس تهذيب لجميع أنواع الناس عوامهم وطلبتهم، فأصبحت اليوم لا ينتابها إلا الطلبة، فإذا جلس عامي حولها، لم يستفد منها شيئا، فيفر عنها، ولا يعود إذ يجدهم يحلون مقفلات التآليف بأنواع من القواعد النحوية المنطقية التي لا مساس له بها، ولو أنه وجدهم يقرءون تأليفا من تآليف الأقدمين فقهيا محضا مبينا فيه الفرع وأصله من الكتاب والسنة(2/454)
لاستفاد، وأفاد أهله. ومن هو مسئول عن تعليمهم فهذا سبب نقصان العلم في أزماننا، وغلبة الأمية على رجالنا ونسائنا، وحصول التأخر في سائر علومنا حتى النحو وغيره من العلوم العربية مع أن النحو ضروري لارتقاء أمتنا الأدبي. إذ لا سبيل لأن نصير أمة معدودة من الأمم الحية إلا بتعميم القراءة والكتابة بين الحواضر والبوادي، وتعميم التعليم الابتدائي حتى يصير جل أفرادها رجالا ونساء يقرءون ويكتبون باللسان العربي الفصيح، بحيث يعرفون مطالعة الكتب البسيطة السهلة يستفيدون منها دينهم ودنياهم، ومطالعة الجرائد، وأخبار ما يقع في العالم. ليستوي الناس في إدراك ما لهم وما عليهم، ويتساوي السوقي والعالم، والوزير والصانع في معرفة ما هو الضار للهيئة الاجتماعية، وما هو نافع لها ليحسوا جميعا بالألم، ويعرفوا موضعه، ويتطلبوا أدواءه، فينهضوا بأجمعهم لنفعهم ودفع ضرهم ويفهموا ما يلقى إليهم من الخطاب، وما هي عليه حياة غيرهم من الأمم ليجاورها في معترك الحياة.
وهذا القدر لا نتوصل إليه إلا بتأليف كتب نحوية في غاية البساطة والسهولة تعليمية لأبناء المدارس الابتدائية وأن يكون اهتمامنا بأولادنا، وأول ما يمرنون عليه الكتابة والقراءة باللغة العربية الأصلية، وتثقيف أذهانهم بالآداب والتهذيب الديني الصحيح الخالي من كل وهم وخيال، وبث العقائد الصحيحة فيهم والضروري من الفقه.
ولا سبيل لذلك إلا بوضع كتب على نسق كتب المتقدمين يمكن للصغار فهمها بحيث لا يصل التلميذ إلى العاشرة من عمره إلا وهو عارف بالعقائد والضروري من الذين، ولا يصل الثانية عشرة حتى يحصل على القدرة على فهم الكتب السهلة ومطالعتها على الأقل ويحصل على القدرة على الإبانة عما في ضميره بقلمه ولسانه، وفهم ظواهر الكتاب والسنة، وكتب الشريعة السهلة التي هو متدين بها، وداء الأمية هو الذي أمرض العالم الإسلامي وحده، وبقدر ضعفه يقوى الإسلام ولو بعد حين، وهو قديم في الأمة، وسببه علماء النحو.
أوصى الجاحظ إمام الأدب بعض أحبابه، فقال له: علم ولدك من النحو ما(2/455)
يعرف أن يميز به بين العبارة الصحيحة والعبارة الفاسدة، وإياك أن تكثر عليه من النحو فإنه خبال، وبعكس هذا سأل رجل ابن خالويه المتوفى سنة 370 صاحب التصانيف العجيبة في اللغة والأدب، فقال له: أريد أن أتعلم من العربية ما أقيم به لساني، فأجابه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو ما تعلمت ما أقيم به لساني. فانظر رحمك الله أن العامي يبحث عن مصلحة عامة أهم المصالح، وكيف جواب العالم له، وكيف لم يتفطنوا من ذلك التاريخ لمحق هذا الداء بتأليف ما يزيل عجمة عموم الأمة، والهداية بيد الله ولقد ألفت كتب دراسة سهلة كجمل الزجاجي، ولسوء حظ المسلمين تركت، ثم اشتغلوا بكل ما هو مغلق ككتب ابن مالك.(2/456)
غوائل الاختصار وتاريخ ابتدائه:
لما ألفت المتقدمون دواوين كبارا كـ"المدونة" و"الموازية" و"الواضحة" وأمثالها، عسر على المتأخرين حفظها لبرودة وقعت في الهمم، فقام أهل القرن الرابع باختصارها، فأول من وقف عليه اختصر "المدونة" فضل بن سلمة الجهني الأندلسي المتوفى سنة 319 وكما اختصرها غيرها كما تقدم لنا في ترجمته، ثم في قريب من زمنه الإمام محمد بن عبد الله بن عيشون الطليطلي له مختصر مشهور، واختصر "المدونة" إلا الكتب المختلطة منها توفي سنة 341 إحدى وأربعين وثلاثمائة كما في "المدارك" ثم محمد بن عبد الملك الخولاني المعروف بالنحوي البلنسي الأصل، وسكن بجانة الأندلس الفقيه النظار له مختصر مشهور على "المدونة" توفي سنة 364 أربع وستين وثلاثمائة ذكره في "المدارك"1 ثم ابن أبي زمنين الذي اختصره "المدونة" في الأندلس كما اختصرها ابن أبي زيد في القيروان، وكانا في عصر متقارب.
فقيل: إن مختصر ابن زمنين أفضل المختصرات، واختصرها أيضا أبو القاسم اللبيدي بعده وغيرهم كما تقدم في تراجم هؤلاء الفقهاء كما اختصروا غيرها وتقدم في ترجمة ابن عبد الحكم أنه ألف مختصرا قبل ذلك، لكن الذي وقع تداوله بين الأعلام من مختصرات "المدونة" هو مختصر ابن أبي زيد السابق، ثم جاء البراذعي وألف "التهذيب" اختصر مختصر ابن أبي زيد، وأتقن تربيته، واشتهر كثيرا حتى صار من اصطلاحهم إطلاق لفظ "المدونة" عليه، ثم جاء أبو عمرو بن الحاجب واختصر تهذيب البراذعي في أواسط السابع، ثم جاء خليل في أواسط الثامن واختصره. وهناك بلغ الاختصار غايته؛ لأن مختصر خليل
__________
1 "4/ 572".(2/457)
مختصر مختصر المختصر بتكرر الإضافة ثلاث مرات، وإن أخل بالفصاحة، وكاد جل عبارته أن يكون لغزا، وفكرتهم هذه مبنية على مقصدين وهما تقليل الألفاظ تيسيرا على الحفظ، وجمع ما هو في كتب المذهب من الفروع، ليكون أجمع للمسائل، وكل منهما مقصد حسن لولا حصول المبالغة في الاختصار التي نشأت عنها أضرار.
فمنها أن اللغة لنا فيها مترادفات متفاوتة المعنى، وفيها المشترك والتراكيب ذات الوجهين، والوجوه مع حدوث لغة ثانية وهي مصطلحات شرعية، وعربية، فأصبحت الجملة الواحدة تحتمل احتمالات، فلما اختصروا أحالوا أشياء عما قصد بها، وتغيرت مسائل عن موضعها، وتقدم لنا ما انتقده عبد الحق الإشبيلي على مختصر البراذعي ثم ما انتقده شراح ابن الحاجب، وشراح خليل، بل حتى الشراح اختصر بعضهم بعضا، فوقع لهم ذلك الغلط. وكم في شروح التتائي والأجهوري والزرقاني والخرشي من ذلك حتى التجأ المغاربة لإصلاح أغلاطهم، ولذلك ألف مصطفى الرماصي وبناني والتاودي، وابن سودة، والرهوني حواشيهم لهذا الغرض.
وقد التزم ابن عاشر الفاسي نقل عبارة المتقدمين بلفظها في شرحه، وكذا المواق يشرح بنقل عبارتهم فقط، فحصل الطول وضاع الفقه الحقيقي، كما ضاع جل وقت الدرس والمطالعة في حل المقفل وبيان المجمل.
قال الإمام أبو عبد الله المقري: لقد استباح الناس النقل عن المختصرات الغربية، ونسبوا ظواهر ما فيها لأمهاتها وقد نبه عبد الحق في التعقيب على منع ذلك، وقد ذيلت تعقيبه بمثل مسائله، وانقطعت سلسلة الاتصال، فكثر التصحيف، وصارت الفتاوى تنقل عن كتب لا يدري ما زيد فيها مما نقص منها لعدم تصحيحها، وكان أهل المائة السابعة لا يسوغون الفتوى من تبصرة اللخمي لعدم تصحيحها على مؤلفها.
والآن كثر ما يعتمد هذا النمط ثم انضاف إلى ذلك عدم اعتبار الناقلين،(2/458)
فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كالأخذ من كتب المرضيين، بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين، ثم كل أهل هذه المائة عن حال من قبلهم من حفظ كبار الأصول فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه، ونزر خطه، وفأفنوا أعمارهم في حل رموزه، وفهم لغوزه، ولم يصلوا لرد ما فيه لأصوله بالتصحيح فضلا عن معرفة الضعيف والصحيح، بل حل مقفل وفهم مجمل.
فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم، وتريك ما غفل الناس عنه، ونقل عن شيخه الأبلي: لولا انقطاع الوحي، لنزل فينا أكثر مما نزل في بني إسرائيل الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، إذ ذاك لم يكن بتبديل اللفظ إذ لا يمكن ذلك في مشهورات كتب العلماء المستعملة فضلا عن كلام الله، وإنما هو بالتأويل، كما قال ابن عباس وغيره. ا. هـ. بخ نقله أو عبد الله الأندلسي في "الحلل السندسية".
ومنها: أنهم لما أغرقوا في الاختصار، صار لفظ المتن مغلقا لا يفهم إلا بواسطة الشراح، أو الشروح والحواشي، ففات المقصود الذي لأجله وقع الاختصار وهو جمع الأسفار في سفر واحد، وتقريب المسافة وتخفيف المشاق، وتكثير العلم، وتقليل الزمن، بل انعكس الأمر؛ إذ كثرت المشاق في فتح الأغلاق، وضاع الزمن من غير ثمن، فإذا ابن عرفة ألف مختصره مسابقا ابن الحاجب وخليلا في مضمار الاختصار، ففاتهما في الإغلاق في الاستغلاق، ولما كان يدرس هو منه تعريف الإجارة وهو قوله: بيع منفعة ما أمكن نقله غير سفينة ولا حيوان لا يعقل بعوض غير ناشئ عنها بعضه يتبعض بتبعيضها.
وأورد عليه بعض تلاميذه أن زيادة لفظ "بعض" تنافي الاختصار، فما وجهه؟ فتوقف يومين وهو يتضرع إلى الله في فهمها، وأجاب في اليوم الثاني بأنه لو أسقطها، لخرج النكاح المجعول صداقه منفعة ما يمكن نقله، وناقشه تلميذه الوانوغي وغيره بما يطول جلبه.
فتأمل وانظر أفكار الشيخ والتلاميذ التي اشتغلت هذا الزمن الكثير في حل عويصة وهي إقحام لفظ واحد لا أهمية له تفريعا ولا تأصيلا يومين، بل وبعده(2/459)
اشتغل غيره أياما، ولا زلنا نشتغل كذلك، فذلك دليل أن الوقت ليس له عندهم ثمن، فالحمد لله الذي لم يتعبوا غيرهم فقط، والحمد لله الذي أخذوا حقهم مما أوقعونا فيه.
وأما من حيث المواد، وتقليل الأسفار، فقد وقع لهم غلط فيما أملوه وصرنا من جمع القلة إلى الكثرة، وذلك أن "المدونة" مثلا فيها نحو ثلاثة أسفار ضخام، وهي مفهومة بنفسها لا تحتاج لشرحها في غالب مواضعها لكن خليل لا يمكننا أن نفهمه ونثق بما فهمنا منه إلا بستة أسفار للخرشي، وثمانية للزرقاني، وثمانية للرهوني الجميع اثنان وعشرون سفرا مع طول الزمن المتضاعف في الدروس والمطالعة في تفهم العبارات المغلقة فلم يحصل المقصود من الاختصار، بل انعكس الأمر، وأصبحنا في التطويل، فأصبح علم الفقه يستغرق عمر الطالب، والمدرس لا يبقى مع فراغ لعلم غيره لمن يريد إتقانه، وتوقي الغلط فيه والطامة الكبرى هي عدم الوثوق بما فهمناه؛ لأن الاختصار تذهب عنه متانة الصراحة، وتأتي مرونة الإجمال والإبهام والإيهام حى صار يضرب المثل لكل عبارة إجمالية تحتمل احتمالات، فيقال: عبارة فقهية أو عدلية.
وقد ختم المختصر بعض أشياخنا تدريسا في نحو أربعين سنة، ومع هذا فإنما يحرر الفروع، ويسردها مسلمة، وأما الاطلاع من كتاب وسنة وإجماع وقياس، وعلة الحكم التي لأجلها شرع، وفهم أسرار الفقه، وما هناك من أفكار السلف، وكيفية استنباطهم ومداركهم، فكل ذلك فاتنا بفوات كتب الأقدمين الحلوية لذلك. ولقد فاتنا خير كثير، وقد كان تعليمه يعين على الملكة الصحيحة في الفقه، والفقيه الذي يستحق لقب فقيه هو العارف بذلك، أما الذي يسرد آلافا من مسائله غير عارف بأصلها فإنما حاك نقال.
ولقد كان أهل القرون الثامن والتاسع والعاشر يتبعون أكثر منا في تحصيل الفقه كانوا لا بد لهم من قراءة عدة كتب: تهذيب البراذعي الذي يقال له "المدونة" في تلك العصور، ومختصر ابن الحاجب وشروحه، ومختصر خليل وشروحه، وهكذا نجدهم في فهارسهم يذكرون كفهرسة الشيخ خروف التونسي الذي تقدمت(2/460)
لنا ترجمته في المالكية، فإنه ذكر أنه قرأ الفقه بهذه المتون كلها وغيرها، وكذلك غيره من أهل ذلك العصر لقرب عهدهم بتأليف تلك الكتب وتداولها. وذلك محض تكرار ممل مضيع للعمر. أما نحن فقد صرنا خليليين بالمرة والحمد لله.
ومن الغريب في أحوال القرون الأخيرة أن النحو الذي لا تدعو ضرورة لإقامة أدلة على قواعده، افتعلوا له أدلة، فضخموه وصعبوه، والفقه الذي يتأكد بمعرفة أدلته، تركوها وضخموه بكثرة الاختصار، وكثرة المسائل النادرة، وإن إفناء العمر في المسائل النادرة التي تمضي الأعمار ولا تقع واحدة منها قليل الجدوى، وهي غالب ما زاده المختصر على "المدونة" على أن في "المدونة" من المسائل بل الأبواب النادرة الوقوع كثير وغير خفي أن الاشتغال في دراستها لمن ليس بحافظ، ولا يبقى على باله منها إلا القليل ضياع للعمر، فطلاب الفقه محتاجون إلى كتاب بين الصراحة واضح لا يحتاج إلى شرح جامع للمسائل الكثيرة الوقوع من كل باب دون الندارة أو المستحيلة، فبهذا تكون الدراسة والتعلم، وهذا الذي يفيد المبتدئين، بل والمتوسطين، وإن كثيرا من الناس تراهم يحفظون المختصر عن ظاهر قلب، وليسوا فقهاء، بل إذا احتاجوا في العبادة لمسألة راجعوا الشراح أو الفقهاء لعدم فهم ألفاظه إلا بشرح في كثير من أبوابه وتجد كثيرا من الناس فقهاء، ولا يحفظونه كما أن حفاظ القرآن نجدهم يحفظونه، وليسوا علماء لجهلهم بالنحو واللغة، وكم من فقيه لا يحفظ من القرآن إلا الضروري، لكن يدرك في عدم فهم القرآن علينا لتقصيرنا في تعليم اللغة التي نزل بها، ولكثرة التأويلات لتشعب الطوائف، والنحل أمن عدم فهم المختصر، فسببه هو المبالغة في الاختصار حتى صار لغزا لا يفهم ولو لعارف باللغة إلا بالشرح، فهو أصعب من القرآن ألف مرة وإني لا أنقص من قيمته، ولا أقول بتركه للمالكية العظام للفتاوي المقلدين لأنه ديوان وأي ديوان من دواوين المالكية العظام للفتاوي والأحكام، وقد أشار مؤلفه في أوله إلى أنه ألفه للفتوى لا للدرس حيث قال مختصرا مبينا لما به الفتوى، فلا يستغنى عنه ولا يترك، بل يدرس ويمرن عليه المنتهون ليستعينوا به في الفتوى والقضاء للحاجة(2/461)
الداعية، إليه لجمعه من المسائل ما يندر أن يوجد في غيره، فربما تقع المسألة ولا توجد إلا فيه مع تحريره المسائل واتقانه، وتبيينه للمشهور المعتمد من القولين أو الأقوال.
أما المبتدءون والمتوسطون، فما أحوجهم للرسالة القيرواتية، وأمثالها وتقدم لنا ما هو أولى من ذلك كله من التمرن على الكتاب والسنة وكتب الإجماع والفقه القديم وبعد إملاء هذه الفكرة وقفت على مضمنها لملا كاتب جلبي في كتابه كشف الظنون طيب الله ثراه فانظر.
ولقد أرتأى السلطان سيدي محمد بن عبد الله إسماعيل هذا الرأي فأمر بترك تدريس المختصر، وألزمهم بالرسالة وأمثالها من كتب المتقدمين السهلة. لكن جاء ولده مولانا سليمان، فألزمهم الناس بالمختصر ثانيا، وأرى غير ما رآه الأول، فكان عمله هذا نظير ما عملت الدولة المرينية في ترك الاجتهاد وإلزام الناس بمذهب مالك والتاريخ يعيد نفسه، ولكن شتان بين العلمين والفكرين، وذلك كله تابع لتطور الأمم، وتطور الأزمان، ولله عاقبة الأمور.
وقال الإمام الغزالي في "الإحياء" عند ذكر العلوم: أما فرض الكفاية فكل علم لا يستغنى عنه في قوام الدنيا كالطب وإذا هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب، فإنه ضروري في المعاملات، وقسمة المواريث وغيرها، وهذه هي المعلوم التي لا خلا البلد عمن يقوم بها جرح أهل البلد، ولا تعجب من قولنا: إنها فرض كفاية، بل الفلاحة والخياطة والحجامة، والحياطة أيضا، ولو سألت الفقيه عن اللعان والظهار والسبق والرمي، لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور، ولا يحتاج لشيء منها وإن احتيج إليه، لم يخل البلد عمن يقوم به، ويغفل ما هو مهم في الدين، وإذا روجع فيه، لبس على نفسه وعلى غيره بأنه مشتغل بفرض كفاية، والفطن يعلم أنه لو كان غرضه أداء الأمر بفرض الكفاية، لقدم عليه فرض العين، وكثيرا من فروض الكفاية، لم يقم بها أحد، فأصبحت عينا، فكم من بلد ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم إلا فيما يتعلق بالأطباء، من أحكام الفقه،(2/462)
ثم لا ترى أحدا يشتغل به، ويتهافتون على الفقه، والبلد مشحون بالفقهاء، فليت شعري كيف يرخصون في الاشتغال بفرض كفاية قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به من سبب إلا أن الطب لا يتوصل به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال اليتيم، وتقلد القضاء والحكومة، والتقدم به على الأقران، والتسلط على الأعداء، فهيهات هيهات قد اندرس الدين بتلبيس علماء السوء إلى أن قال: لا ينبغي لطلب العلم أن يدع فنا من فنون العلم المحمودة إلا وينظر فيها نظرا يطلع به على مقصوده وغايته، ثم إن ساعده العمر، طلب التبحر فيه، وإلا اشتغل بالاهم منه، واستوفاه، فإن العلوم كثيرة والأعمار قصيرة، وبعض العلوم ترتبط ببعض، وأقل ما يستفيده الانفكاك عن عداوة ذلك العلم، فإن الناس أعداء ما جهلوا. ا
. هـ. وصدر كلامه في فرض الكفاية قد ألم به خليل في الجهاد وشروحه فانظره.
وقد ذكر السعد في "المواقف" والبيضاوي وغيرها أن من فوائد بعثة الرسل تعليم الصنائع للناس قال تعالى في حق داود: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} 1 وفي حق نوح عليهما سلام الله جميعا {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} 2 يقول مقيده عفا الله عنه: إن الفتور أصاب الأمم الإسلامية عموما حتى في العلوم اللغوية والدينية، وسببه الوحيد فيها هو الاختصار والتواليف التي لم تبق صالحة للتعليم، ولا مناسبة لروح العصر، والواقع في الفقه هو الواقع في النحو والصرف والبيان والأصول حتى إن صاحب "جمع الجوامع" لتمكن فكرة الاختصار منه ادعى في آخره استحالة اختصاره، وكل العلوم وقع فيها ذلك وما أصابها في علومها أصابها في صنائعها وتجارتها وفلاحتها، وكل باب من أبواب الحياة، وإذا أراد الله شيئا هيأ له الأسباب، فإن شاءت الأمة النهوض فلتبدأ باصلاح التعليم خصوصا اللسان وأقول: ليس بإنسان من لا قلم له ولا لسان، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
__________
1 سورة الأنبياء: 80.
2 سورة هود: 37.(2/463)
عدم تنقيح كتب الفقه:
إذا عدم تنقيح كتب الفقه هو من موجبات هرمه أيضا لا سيما في المذهبين الحنفي والمالكي وإذ كان فيهما مجتهدون متفاوتون كثيرون، فلا تزال مسائلهما متشتتة في كتب الفتاوى، فالمفتي محتاج إلى مراجعة أسفار كثيرة، ونظر عميق وربما وجد المسألة في غير مظنتها، فإذا لم يكن له حفظ وباع، ومزيد الاطلاع، وراجع في الفتوى في الغلط والشغب لا محالة، وانظر التقرير المؤرخ بغرة محرم سنة 1286 المصدر به مجلة القوانين التركية تجد فيه الاعتراف بذلك، وتجديد الفقه محتاج لكتب دراسية كما قدمنا.(2/464)
فقه العمليات وتاريخ نشأته وانتشاره:
تقدم لنا في ترجمة مالك أن من أصول مذهبه عمل أهل المدينة من أهل القرن الأول والثاني، وليس مالك أول من قال به، بل ثبت عن شيوخه كالإمام الزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومن عاصرهما وشيوخهم كالإمام سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، ومن عاصرهما، كما أخذ الحنفية بعمل علماء العراق، وما اشتهر بينهم من قضاء وفتوى، وكذا الشافعي قد احتج بعمل أهل مكة، وإن كان مالك جعله من أصوله المقدمة حتى على الحديث الصحيح كما سبق، ولما خيم مذهب مالك بالقيروان سرت تلك الفكرة لعلماء أفريقية ثم الأندلس، فكانوا يحتجون بما أفتى به علماؤهم، وقضى به قضاتهم.(2/464)
ولما ظهر النبوغ العلمي بفاس وفضل علمائهم الأكياس، أخذوا بتلك التقاليد، ولكن غالب عملهم كان تابعا لعمل الأندلس من لدن تغلب الأمويين على المغرب أخر القرن الثالث وأول الرابع، وكان أهل فاس ميالين لمملكة الأمويين لعدلهم، واعتدال مذهبهم السني منابذين للعبيدين الشيعة بالقيروان، فكانوا يأخذون بعمل الأندلس غالبا ويقدمونه على عمل القيروان، ثم صار لهم عمل مخصوص بهم بعد استقلالهم في السياسة زمن الملثمين، ثم الموحدين، ثم بني مرين ومن بعدهم، فهذا ابتداء ما يسمونه بالعمل الفاسي، وقد كان من موجبات هرم الفقه أيضا، وذلك أن بعض المسائل فيها خلاف بين فقهاء المذهب، فيعمد بعض القضاة إلى الحكم بقول مخالف المشهور لدرء مفسدة، أو لخوف فتنة، أو جريان عرف في الأحكام التي مستندها العرف لا غيرها، أو نوع من المصلحة، أو نحو ذلك فيأتي من بعده، ويقتدي به ما دام الموجب الذي لأجله خالف المشهور في مثل تلك البلد، وذلك الزمن، وهذا مبني على أصول في المذهب المالكي قد تقدمت، فإذا كان العمل بالضعيف لدرء مفسدة فهو على أصل مالك في سد الذرائع، أو جلب مصلحة، فهو على أصله في المصالح المرسلة وتقدم ما فيه من الخلاف وأن شرطه أن لا تصادم نصا من نصوص الشريعة ولا مصلحة أقوى منها أو جريان عرف، فتقدم أنه من الأصول التي بني الفقه عليها، وأنه راجع للمصالح المرسلة أيضا.
فيشترط فيه ما اشترط فيه، فتنبه لهذا كله، فإذا زال الموجب، عاد الحكم المشهور؛ لأن الحكم بالراجح، ثم المشهور واجب، وهو من الأصول الشرعية العقلية، ففي "جمع الجوامع" في كتاب التعادل والتراجيح ما نصه: والعمل بالراجح واجب، وقال القاضي: إلا ما رجح ظنا؛ إذ لا ترجيح بظن عنده، وقال البصري: إن رجح أحدهما بالظن، فالتخيير. ا. هـ. والعمل بالضعيف في الفتوى والأحكام حران إلا المجتهد ظهر له رجحانه فلا يبقى ضعيفا عنده، ولا عند من قلده، أو لضرورة دعت المقلد لعمل به في نفسه يوما ما، ويشترط في القاضي الذي حكم به أن يكون فقيها عادلا لا جاهلا ولا جائرا زاد الهلالي في(2/465)
"نور البصر": وأن يكون من الأئمة المقتدى بهم في الترجيح. ا. هـ. وهو مجتهد الفتوى يعني بحيث يتبين له رجحان القول الذي عمل به بأدلته التي منها المرجحات المذكورة، وإلا فالعمل لا يعتمد إلا إذا جرى بقول راجح، أو من قاض مجتهد الفتوى بين وجه ترجيح ما عمل به؛ لأن المجتهد هو الذي يقدر على تمييز ما هو مصلحة وما هو مفسدة، أو ذريعة إليها ويميز ما هو في رتبة الضرورات أو الحاجبات، وما هو في رتبة التحسينات فما ألجأت إليه المحافظة على النفس أو الدين أو النسل أو المال أو العرض أو العقل.
فهو في رتبة الضروريات، ويلحق بهذا ما كان في رتبة الحاجيات فقد نص المواق في شرح خليل أول الإجازة: أن المذهب المالكي مبني على اعتبار الحاجيات، وإلحاقها بالضروريات، أما ما كان في رتبة التحسينات، فلا يعتبر مرخصا في الخروج عن المشهور، وعلى كل حال لا يقدر على نقد مثل هذا إلا من بلغ رتبة الاجتهاد المذهبي، أما من لم يبلغها، ليس له رخصة في أن يترك المشهور إلى الشاذ في الفتوى والحكم أصلا، فالباب دونه مسدود وقد أنهى الهلالي في شرح المختصر شروط خروج القاضي عن المشهور إلى الضعيف إلى خمسة. فانظر فيه بقيتها.
وقد ذكر الشيخ خليل في مختصر بعض المسائل نصل فيها على العمل كقوله في آخر باب القضاء: وهل يدعى حيث المدعى عليه وبه عمل إلخ فجاء ابن عاصم الغرناطي، ونص يدعى حيث على مسائل من ذلك أيضا في تحفته ثم جاء بعده علي بن قاسم الزقاق، ونص في لاميته على نحو العشرين مسألة منها ثم جاء أبو العباس أحمد بن القاضي الفاسي مؤلف "الجذوة" و"درة الحجال" و"المنتقى" وغيرها المتوفى سنة 1025، خمس وعشرين وألف فألف كتاب "نيل الأمل فيما به بين الأئمة جرى العمل" وتلاه سيدي العربي الفاسي المتوفى سنة 1052، فألف تأليفا فيما جرى به العمل من شهادة اللفيف خاصة، وهي مسألة لا تنطبق إلا على أصول الحنفية الذين يعتبرون المسلمين كلهم عدولا، ويقبلون شهادة مجهول الحال لا مجهول العين، فلا تقبل بإجماع، ولا تنطبق(2/466)
على قول في المذهب على أن الحنفية لا يشترطون اثني عشر رجلا التي جرى بها العمل استحسانا، وجاء الشيخ ميارة الكبير، فألف في مسألة بيع الصفقة وجوزه، وبين شروطه على ما به عمل فاس وهي أيضا لا تنطبق على أصول المذهب، وسوغوها لضرورة كثرة الخصومات في الجزء المشاع، وليتهم لم يضيقوها بكثرة الشروط التي لم نعلم مستندها.
ثم جاء الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي، ونظم كتابا فيه نحو ثلاثمائة مسألة مما جرى به العمل بفاس بالخصوص وشرحه هو كما شرحه غيره، غير أن حاطب ليل جمع حتى ما جرى به العمل القضاء حورا أو جهلا كترك اللعان مع أنه في كتاب الله، وأن عدة المطلقة ثلاث أشهر لا قروء مخالفا في ذلك للفظ القرآن العظيم، وغير ذلك مما انتقده عليه الهلالي في "نور البصر" وغيره، ومن المسائل التي زعموا جريان العمل فيها أن الطلاق كله بائن مع أن الطلاق إذا أطلق في القرآن، انصرف للرجعي، ولا يكون بائنا إلا بأسباب مهما لم تكن، صار رجعيا، ولي في رد ذلك رسالة فلينظر مريدها.
وهناك عمل آخر يسمى العمل المطلق منظوم مشروح، وهو عمل غير مقيد بفاس، ومن هذا ما نص عليه خليل في مختصره، فهو عمل مطلق، فلذلك يحتاج المفتي والقاضي إلى أن تكون عنده هذه الكتب الفقهية المحدثة، ويكون مستحضرا لها متقنا لمسائلها وإلا وقع في الغلط وقد أفتى الفقيه الحافظ القوري بعدم لزوم بيع المضغوط، فكان ذلك سببا في تأخير عن مجلس الشورى.
وما به العمل دون المشهور ... مقدم في الأخذ غير مهجور
ولذا يكتب في منشور ولاية القاضي عندنا في المغرب الأقصى اقتداء بعمل الأندلس في الجملة: وعليه أن يحكم بمشهور مذهب مالك أو ما به العمل، وغير خفي أن ما به العمل مقدم على المشهور، وهذا مما زاد الفقه صعوبة، فكم من قول مشهور في المختصر وغيره من الدوواين المعتمدة، وهو مهجور لمخالفة(2/467)
العمل، ولو أفتى به المفتي لردت فتواه.(2/468)
تحرير لمسألة العمل الفاسي:
وليتنبه لأمور منها أن عمل فاس قاصر عليها لا يجوز أن يفتي به في غيرها من البلدان إلا إذا كان نص على التعميم، ومن التعميم مسألة شهادة اللفيف والصيد المقتول ببنادق الرصاص وكثيرا ما يكون العمل تابعا للعرف مثل أدوات البيت منها ما يكون للزوج، ومنها ما يكون للزوجة بحسب الأعراف والعوائد، فكل بلد يحكم لها بعرفها، وفي صحيح البخاري: باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسنتهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة، ثم ساق من الآثار ما يدل لذلك، وللأعراف قيمة في نظر الشرع قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} 1 وقال عليه السلام لهند زوج أبي سفيان: "كلي وولدك بالمعروف" ولا يسر عرف بلد على بلد، ولا يحكم بزمن على زمن، فكل زمن يحكم فيه بعرف أهله، وكل ما لم يثبت فيه تعميم، فالواجب على القاضي، والمفتي التمسك بالراجح أو المشهور، وإلا ردت فتواه؛ لأن جريان عمل فاس ليس مرجحا للقول الضعيف، وإنما هو لدرء مفسدة مثلا وجدت بفاس، فإذا لم توجد في غيرها، فلا، والعمل بالراجح من أصول الدين كما سبق، وفي نوازل مازونة عن علي بن عثمان أنه سئل عن الخصم يأتي القاضي بفتوى مخالفة للمشهور هل يعمل بها أم يطرحها؟ فأجاب بأنه يطرحها إلا أن تكون خالفت المشهور لوجه معتبر في الشرع. ا. هـ.
نبهنا على هذا؛ لأن بعض المفتين والقضاة يغفلون، ويعممون الحكم، وهو غلط لا يحل السكوت عنه، وقد رأيت الهلالي نص عليه أيضا، ومما يدل له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبردوا بالظهر" كما في "الصحيحين" وهي رخصة لزمن
__________
1 سورة الأعراف: 199.(2/468)
مخصوص، فإذا انقضى زمن الحر، أو كانت البلد باردة، فلا إبراد ويرجع لأول الوقت، وأمثاله كثير، وفي مثل هذا قال العلماء: الرخصة لا تتعدى محلها، وليس معناه أن الرخصة لا يقاس عليها، بل يقاس عليها إذا توفرت شروط القياس، وزالت موانعه خلافا لمن يزعم عدم القياس عليها أصلا، فهو مخالف للأصول، وقد قالوا بالتيمم لضرورة عدم القدرة على الماء قياسا على ضرورة عدمه وأمثاله كثير، فعلم أن القاضي أو المفتي لا يجوز له الاسترسال في الإفتاء بما به العمل، ويظن أنه حكم مؤبد بل هو مؤقت ما دامت المصلحة أو المفسدة التي لأجلها خولف المشهور، فإذا ذهبت، رجع الحكم بالمشهور؛ لأنه واجب، والانتقال عنه رخصة للضرورة، فإذا زالت الضرورة، ذهب الرخصة كالتيمم لعدم الماء، ومنها أنه ليس كل قاض حكم بقول يعد رخصة شرعية حتى نثبت عدالة القاضي واجتهاده في الفتوى، ودون هذا خرط القتاد إلا إذا كان سبب العمل جريان عرف فالعرف يستوي في معرفته المجتهد وغيره، أما ما لم يبن على العرف والعوائد، فلا بد أن يثبت السبب الذي لأجله انتقل عن القول الراجح، أو المشهور، وقد ركب الناس في هذا كل صعب وذلول، وإلى الله المشتكى.
ومنها أنهم اعتمدوا كل من قال: جرى العمل بكذا من غير بحث عن عدالة الناقل مع أن العمل لا يثبت إلا بشهادة عدلين على قاض عدل فقيه أنه حكم به، أو ينص عليه مؤلف ثقة.
وهناك نوع من العمل آخر وهو أن يختار أحد أئمة الفتوى من مجتهدي المذهب بعض الروايات عن مالك مثلا، ويرجحه خلاف ما هو المشهور في المذهب، ويبين وجه رجحانه، وهذا وقع كثير من ابن عات، وابن سهل، وابن رشد، وابن زرب وابن العربي واللخمي وأنظارهم فيجري حكم القضاة بما اختاروه، فهذا لا كلام لنا فيه؛ لأنه قول مرجح، كما عليه القرافي في "القواعد" وابن رشد في رحلته، ومن هذا ما يشير له خليل: اختير واستظهر ورجح واستحسن، وربما يشير له أيضا بقوله: وبه عمل فهذا فيه تقديم الراجح(2/469)
على المشهور، لا الضعيف على المشهور، فليس مما نحن منتقدوه نعم قد يكون ترجيحهم مبنيا على عرف ونحوه، فإذا ذهب، زال الترجيح والإشكال، ومن هنا تشعبت الخصومات، وصعب التوصل للحق على الأقوياء فضلا عن الضعفاء، فلو أن العلماء المالكية رقعوا هذا الفتق، وحرروا كتابا يفتى به وتصان به الحقائق لقاموا بواجب عيني، ويكون من جماعة تتعاون عليه لا فرد، فإنه إنما يزيد قولا آخر يخالفه فيه غيره، ولا يسلمه خصومه، وهذا أول ما يجب على وزارة العدلية القيام به، ودرء مفاسده، وكل هذا من أسباب هرم الفقه، ومن أسباب ضياع الثقة بالمحاكم الشرعية الإسلامية، فما أحوج محاكمنا إلى التجديد والنظام، وما أحوجنا إلى قضاة ومفتين عدول نزهاء مهذبين تهذيبا دينيا ودنياويا ويقومون بالقسط، وتحصل بهم ضمانه الحقوق، وتكون لهم أفكار واسعة، ومدارك مطابقة لمقتضي عصرهم الحاضر.(2/470)
التقليد وأحكامه:
التقليد: هو أخذ القول من غير معرفة دليله، وهو واجب على غير المجتهد في الفروع قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 1 صح من "جمع الجوامع" ممزوجا، أيضا: والأصح الاكتفاء بخبر الواحد عن علم المجتهد وعدالته.
وقال ابن الحاجب في "المنتهي": الاتفاق على استفتاء من عرف بالعلم والعدالة، أو رآه منتصبا، والناس متفقون على سؤاله وتعظيمه وعلى امتناعه في ضده.
وقال ابن العربي في "الإحكام: فرض العامي أن يقصد أعلم من في زمنه بلده، فيسأله ويمتثل فتواه، وأن يجتهد في معرفة أهل وقته حتى يتصل له الحديث بذلك، ويقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس، وعلى العالم أن يقلد
__________
1 سورة النحل: 43.(2/470)
عالما مقله في نازلة خفى عليه فيها وجه الدليل فضاق الوقت عن النظر، وخفيت على العبادة الفوت. ا. هـ. ونحوه في "المدارك" قال سند في "الطراز" الاقتصار على محض التقليد لا يرضى به رشيد، وليس بحرام معرفة الدليل على من هو أهل، ونوجب على العامي العالم وساق أدلة ذلك بواسطة. ا. هـ. بخ.
فالتقليد سائغ أو واجب للضرورة، فإذا انتفت الضرورة، وجب نبذه قال ابن عبد البر في قوله عليه السلام: "يذهب العلماء ثم يتخذ الناس رؤساء جهالا يسألون، فيفتون بغير علم، فيضلون ويضلون" 1 هذا نفي للتقليد وإبطال له لمن فهم وهدي لرشده، قال عبد الله بن المعتمر: فلا فرق بين بهيمة تنقاد، وإنسان يقلد، وقال ابن عبد البر: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله. ا. هـ. ويدل لذلك آيات قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 2 وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} 3 وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} 4.
ثم التقليد المذموم كما في "إعلام الموقعين" أنواع ثلاثة:
الإعراض عن نصوص الشرع، وعدم الالتفات إليها اكتفاء بتقليد الآباء.
والثاني: النظر فيها، وظهور أدلتها في حكم من الأحكام، ثم يترك ما أداه اجتهاده إليه مع أهليته للاجتهاد إلى التقليد من هو أهل لأن يقلد.
__________
1 أخرجه البخاري "1/ 174، 175"، في العلم: باب كيف يقبض العلم، وفي الاعتصام: باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، ومسلم "2673" في العلم: باب رفع العلم وقبضه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".
2 سورة الأعراف: 3.
3 سورة البقرة: 170.
4 سورة البقرة: 170.(2/471)
الثالث: تقليد من لا يعلم أنه أهل لأن يؤخذ بقوله عند عدم قدرة المقلد على الاجتهاد وكل الثلاثة لا يجوز قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} 1 قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} 2 وذم التقليد في القرآن كثير، وانظر الفرق "76" من فروق القرافي تعلم ما يجوز فيه التقليد من أحد المجتهدين، وما لا يجوز وفي الفرق "78" من يجوز له أن يفتي من المقلدين ومن لا يجوز، فإنه مفيد جدا، وليس من وظيفتنا التعرض لجزئيات ذلك، وقال المسناوي في نصرة القبض، وقيل: إن العالم لا يقلد وإن لم يكن مجتهدا؛ لأنه له صلاحية أخذ الحكم من الدليل بخلاف العامي. ا. هـ.
قال مقيده عفا الله عنه: إن العالم المقلد وإن بلغ من العلم ما بلغ، فإنما هو كالقمر نوره مستعار من نور الشمس وهو في حد ذاته جرم ميت مظلم لا نور له، وإنما يحكي نوره غيره كالمرآة ترسل أشعة إذا قابلت أشعة الشمس وهي أشعة كاذبة لا نفع فيها، وإنما هي صورة أشعة الشمس، فالنور الحقيقي هو نور المجتهد الذي يقتبس الحكم من الدليل عارفا بالنصوص وطرق التعليل، ولهذا كان المجتهدون في خير القرون قال عليه السلام: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" 3 وهذه إشارة هذا الحديث الشريف ومعجزته الظاهرة بذهاب المجتهدين بعد الثالث أو الرابع على رواية في الحديث بزيادة ثم الذين يلونهم ثالثة.
__________
1 سورة المائدة: 104.
2 سورة النساء: 59.
3 رواه البخاري ومسلم وغيرهما.(2/472)
تقليد الإمام الميت:
قال في "جمع الجوامع": ويجوز تقليد الميت خلافا للإمام الرازي قال لأنه لا بقاء لقول الميت بدليل انعقاد الإجماع بعد موت المخالف، وتصنيف
الكتب في المذاهب بعد موت أربابها لاستفادة طريق الإجماع من تصرفهم في الحوادث وكيفية بناء بغضها، ومعرفة المتفق عليه من المختلف فيه، وعورض بحجية الإجماع بعد موت المجمعين، وقال الشافعي: المذاهب لا تموت بموت أربابها، وثالثها: إن فقد الحي، ورابعها قال الهندي: إن نقله عنه مجتهد في مذهبه. ا. هـ. ولعل محل الخلاف غير القادر على الاجتهاد، وروى أبو عمر بن عبد البر عن علي بن أبي طالب عكس ما للرازي قال: إياكم والاستنان بالرجال، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، ثم ينقلب لعلم الله فيه، فيعمل عمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة، فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بد فاعلين، فبالأموات لا بالأحياء، وقال ابن مسعود: من كان منكم مستنا، فليستن بالأموات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، نقله في "إعلام الموقعين" فيكون هذا قولا خامسا يزاد على "جمع الجوامع".(2/472)
التزام مذهب معين وتتبع الرخص:
في "جمع الجوامع" الأصح أنه يجب على من لم يبلغ الاجتهاد التزام مذهب معين يعتقده أرجح. وبعد انحصار المذاهب في الأربعة يجب تقليد واحد منه لا بعينه، لكونها دونت وحررت، ثم في خروجه عنه ثالثها يجوز في بعض المسائل. ا. هـ.
وبمثل هذه الأقوال نشأ الجمود، وتأخر الفقه ويأتي لنا قريبا تعقب ما صححه ثم قال: والأصح أنه يمتنع تتبع الرخص في المذاهب بأن يأخذ من كل مذهب ما هو الأهون؛ إذ قد يقع فيما هو مجمع على حرمته، كمن يعقد نكاحا بدون ولي على قول الحنفي، وبدون صداق على بعض السلف، وبدون شهود كذلك، فقد وقع في الزنى بإجماع بحيث لو اجتمع أهل تلك المذاهب التي قلدها، لحكموا جميعا بفساده وعن أبي إسحاق المروزي إن متتبع الرخص(2/473)
يفسق، وعن أبي هريرة لا قال ابن عبد السلام: لا يتعين على العامي أن يقلد إماما في سائر المسائل لأن الناس منذ الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب يسألون من ظهر لهم من غير نكير، سواء اتبع الرخص أو العزائم؛ لأن من جعل المصيب واحدا، لم يعينه، ومن قال: كل مجتهد مصيب، فلا إنكار على من قلد في الصواب نقله في "سنن المهتدين" عن ابن عرفة رادا به قول: ابن حم: وأجمعوا على أن متتبع الرخص فاسق قال: وذلك لأن ابن عبد السلام أمام مجمع على صحه وعلمه، فلا ينعقد إجماع دونه، ونقل المواق عن القرافي ما لابن عرفة.(2/474)
المذاهب الأربعة ليست متباعدة:
زعم بعض الفرنج أنها متباعدة كتباعد فرق النصارى والكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، وكتباعد الفرق اليهودية النسطورية والسامرية ونحوها، وهذا ضلال مبين يراد به التضليل، فإن فرق النصارى يكفر بعضهم بعضا، ولا يعده من النصرانية في شيء، ولا يقتدى به حتى إنه لا يصلي هذا في كنيسة ذاك وكذلك فرق اليهود، وكم وقعت بينهم من معارك وسالت من دماء.
أما مذاهبنا، فليست كذلك بل يقتدي بعضهم ببعض، ويعتبر كل واحد أخاه مسلما، نعم يعتقد أنه مخطئ في بعض المسائل غير معين على القول بعدم تصويب المجتهدين، أما على القول به، فالكل على صواب في كل المسائل، وليس البون بينهم بعيدا؛ إذ لم يكن بينهم خلاف في العقائد وإنما هو خلاف ثانوي في الفروع فقط التي هي محل الاجتهاد يأخذ فيها كل واحد بما قام عليه الدليل عنده للاكتفاء في أدلتها بالظنيات، ولذلك كان كل واحد من الأئمة يجل الأخر، فقد أخذ أبو حنيفة عن مالك، كما أخذ مالك عنه وأخذ الشافعي عن مالك، وقال فيه: جعلته حجة بيني وبين ربي، وأخذ ابن حنبل عن الشافعي، وأثنى بعضهم على بعض علما ودينا، وهكذا كان جلة أصحابهم(2/474)
بعضم مع بعضهم، ولم يقع بينهم الخلاف في كل فرع، فرع، بل في بعض الفروع التي قامت لكل حجة على رأيه.
وقد اتفقوا في مسائل كثيرة، فمنها ما وقع عليه إجماع الأمة معهم ومنها ما خالفهم فيها غيرهم وتلك المسائل التي فيها الاتفاق لا تنسب إلى واحد منهم، فلا يقال في نحو وجوب الزكاة، أو جواز القراض: إنه مذهب مالك والشافعي مثلا، فالسمع يمج ذلك، فلا يضاف لكل واحد منهم إلا ما اختص به، كما نص عليه العلماء، ولذلك كان توحيد هذه المذاهب في هذه العصور صعبا أولا؛ لأن كلا له حجة، وكل أهل مذهب يمكنهم أن يصححوها ولا يلتفتوا لما يقول غيرهم من ضعفاء،
ثانيا: هذه المذاهب كل مذهب في قطر إما كله، وإما محصل على أغلبية ساحقة كما تقدم، فلا معنى لأن يطلب من سكان الأقطار ترك مذهب غير مزاحم بغيره، وهو مؤبد في أفكارهم ومعتقداتهم وألفوه من نعومة أظافرهم، والفرض أننا نعتقد صوابيته في الكثير من المسائل، والبعض الآخر الذي وقع فيه الخطأ غير معين، فلذا كنت لا أرتضي فكرة توحيد المذاهب؛ لأنها فكرة لا نتيجة لها ولا تفيد المجتمع الإسلامي إلا شقاق آخر فقط، والصواب عندي هو ما تقدمت الإشارة إليه.(2/475)
هل يجوز الخروج عن المذاهب:
لضرورة أو مصلحة الأمة وحال القضاء في هذه الأزمان وكيف ينبغي إصلاحه:
ما تقدم عن "جمع الجوامع" من وجوب تقليد أحد المذاهب الأربعة قد انتقد العراقي والزركشي عليه تصحيحه، وصحح عدم الوجوب عز الدين والنووي قال القرافي في "شرح المحصول" وكان عز الدين يذكر في هذه المسألة إجماعين: إجماع الصحابة على أنه يجوز للعامي الاستفتاء بكل عالم في مسألة، ولم ينقل عن السلف الحجر في ذلك، ولو كان ممتنعا ما جاز للصحابة إهماله وعدم إنكاره، ولأن كل مسألة لها حكم في نفسها، فكما لم يتعين الأول للاتباع في الأولى إلا بعد سؤاله، فكذلك في الأخرى والثاني: إجماع الأمة أن من أسلم لا يجب عليه اتباع إمام معين، فإذا قلد معينا، وجب أن يبقى ذلك التخير المجمع عليه حتى يحصل دليل على رفعه ولا سيما والإجماع لا يرفع إلا بما هو مثله في القوة، وقال العراقي: نقلا عن النووي: الذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزم الشخص التمذهب بمذهب، بل يستفتي من شاء، لكن من غير تتبع الرخص، نقله المسناوي في نصرة القبض. ا. هـ.
وقال الشعراني في "الدرر المنثورة" لم يبلغنا عن أحد من السلف أنه أمر أحدا أن يتقيد بمذهب معين، ولو وقع منهم ذلك المجتهد الذي أمر الخلق باتباعه وحده، والشريعة حقيقة إنما هي مجموع ما هو بأيدي المجتهدين كلهم لا بيد واحد منهم، ولم يوجب الله على أحد التزام مذهب معين بخصوصه لعدم عصمته، ومن أين جاء الوجوب، والأئمة كلهم قد تبرءوا من الأمر باتباعهم، وقالوا: إذا بلغكم حديث فاعملوا به، واضربوا بكلامنا عرض الحائط. ا. هـ. بنقل(2/476)
الألوسي في "جلاء العينين" ونحوه في "إعلام الموقعين" وأطال في ذلك.
وعمل الأئمة شرقا وغربا هو على ما قاله ابن عبد السلام، فلا تجد أهل مذهب إلا وقد خرجوا عن مذهب إمامهم، إما إلى قول بعض أصحابه، وإما خارج المذهب؛ إذ ما من إمام إلا وقد انتقد عليه قول أو فعل خفي عليه فيه السنة، أو أخطأ في الاستدلال، فضعفه مذهبه، قال المعتمر بن سليمان، رآني أبي أنشد شعرا، فنهاني فقلت له: إن الحسن وابن سيرين قد انشدا الشعر، فقال: أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وابن سيرين اجتمع فيك الشر كله، فما من إمام إلا وقد خولف مذهبه في بعض مسائل إما دليل، وإما لضرورة أو حاجة، وهذه شهادة اللفيف التي جرى بها العمل وبيع الصفقة وغيرها من المسائل كلها جارية على هذا، كذلك القضايا الجارية على القول الضعيف، وبهذا تعلم أن ما فعلته، الدولة العثمانية من تأليف قانون يدعى المجلة طبع سنة "1305" خمس وثلاثمائة وألف بالأستانة خارجة في بعض مسائله عن مذهب أبي حنيفة سالكة فيه قولا من أقوال أحد أئمة الإسلام، إما من الأربعة أو غيرهم ليس حائدا عن الصواب إذا كان على هذه الصفة.
وكان القصد منه ضبط نصوص الأحكام التي يتلاعب بها المفتون والقضاة بأنواع التأويل وتطبيقها على القضايا حسب الأهواء والشهوات والأغراض، حتى إن القضية الواحدة يحكم فيها القاضي اليوم بالإباحة، وغدا بالمنع، ويجد في النصوص فسحة وإجمالا تسوغ له الوصول إلى ما بيد الطالب للإباحة أو الطالب للمنع من غير حياء ولا احتشام.
وكم رأينا لهذا من نظير فإذا كان سن أمثال القوانين لضرورة اقتضاها الحال وروح العصر، فمن يقلد عالما لم يذنب، وهكذا ينبغي للأئمة أن يراعوا حالة الضرورات فيما تقضيه النظامات الوقتية، والأحوال العمومية لمجارات الأمم المتمدنة في مضمار الترقيات العصرية، وكثير من أحكام الشرعية لا سيما المعاملات والأحكام الدنيوية فيها مرونة مناسبة لحال التطور لإنبائها على أعراف(2/477)
وعوائد تتغير بتغيرها، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} 1 وقال عليه السلام: "كلي وولدك بالمعروف" 2 وكل حكم بني على عرف أو عادة فإنه يغير بتغيرها، وفي البخاري في كتاب البيوع: باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة ... إلخ وساق أدلة على ذلك.
ثم إن الشريعة عامة صالحة لكل أمة، وكل زمان، فلا بد أن تتبع أحكامها الدنيوية الأزمان والأمم، لحفظ المصالح العامة، وحفظ البيضة، وارتقاء نظام المجتمع، وإن لم نعمل بهذا، جنينا على الشريعة جناية لا تغتفر، مثلا الرقيق كان تملكه مباحا لا واجبا في صدر الإسلام حيث كان الإسلام يعامل الأمم الأجنبية بمثل عملها، أما الآن فمنعه واجب لمصلحة عامة، ولا معنى لتعصب بعض العلماء في ذلك، فليس منعه خرقا لقاعدة من قواعد الإسلام الخمس، وأين هو الرقيق الذي يجادلون فيه هو كشيء محال، وكذا أخذ العين عن زكاة الماشية والحبوب جريا على مذهب أبي حنيفة والبخاري وبعض المالكية وأدلتهم من السنة ثابت لا يهدم أصلا من أصول الدين، وقتل المسلم بالكافر المعاهد جريا على مذهب أبي حنيفة، وله أدلة كتابا وسنة، وكفى قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 3 وقبول شهادة المعاهدين بعضهم على بعض جريا على قوله أيضا، وله دليله، بل قبول شهادة الكافر على المسلم، خليل: وقبل للتعذر غير عدول وإن مشركين، فأمثال هذه الأحكام هي جارية اليوم أحب الفقهاء أم كرهوا، فلأن نجعل لها مخرجا وتجري على نظام، وباسم الشريعة خير من تعصب لا فائدة منه سوى العزلة، وسقوط هيبة الإسلام، ونبذ أحكامه كليا. فتأملوا رحمكم الله في أحوال وقتكم، وليس في إمكانكم إدارة الفلك
__________
1 سورة الأعراف: 199.
2 صحيح: أخرجه البخاري "9/ 444، 445"، بشرح الفتح، ومسلم "1714" من حديث عائشة قالت: قالت هند امرأة أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم؟ قال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".
3 سورة المائدة: 45.(2/478)
حسب إرادتكم، ولا يجوز للعلماء أن يضيقوا على الأمة أو الدولة فيما لا مندوحة عنه وفيما به حياة الهيئة الاجتماعية "فإن خلاف علماء الأمة رحمة"1 "وإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه" 2 وإذا كان القاضي يحكم بالضعيف لدفع مفسدة، أو خوف فتنة، أو نوع من المصلحة، فالإمام أولى؛ لأن القاضي إنما هو نائبة لكن لا ينبغي الترخيص في ذلك إلا عند التحقيق بمصلحة عامة، لا خاصة إبقاء لهيبة الشرع الأسمى، مثلا الحنفية لا يجوزون القياس في الحدود، وقد دعت ضرورة الوقت لسن زواجر من ضرب وحبس لمن فعل جرائم غير مذكورة في الكتاب والسنة كتأديب وال ارتشى، أو عامل، أو أمين اختلس مال الدولة، أو نحو هذا، فلا بأس بالحنفي أن يقلد مالكيا يرى أن الإمام يعزر لمعصية الله أو آدمي بأنواع التعازير، ثم تقدر تلك التعازير، وتبين بأنواعها، وتكون جارية على القوي والضعيف، لتنضبط الحقوق اقتداء بما فعل عمر من الزيادة في حد الخمر لما لم يبق كافيا بعدما استشار الصحابة، وتقدم ذلك صدر الكتاب، لكن هذا بعد تحقيق الضرورة ووقوعه من أهل الكفاءة والنزاهة والعلم والنظر، كما أن العقوبة بالمال قال بها عدد من الأئمة.
وكفى بما كتبه الرزلي فيها وإن أنكره من كرون، فله أدلته، فإن كان الجري على قوله يفيدنا مصلحة أو يدفع مضرة، فالحاجة في المذهب بمنزلة الضرورة، فلا مانع من التمسك بما تمسك به البرزلي ومن قبله، وإذا كانت التعازير تكون في الظهر، وبالسجن باجتهاد الحاكم، فالمال أهون، وفي المذهب المالكي من ذلك بعض فروع كأجرة العون تحمل على المال ولا مانع على أن تقاس عليها صوائر الدعوى كلها إذا تبين لدد الخصم وتشغيبه، فكما أن صوائر هذه الدعاوى لم يكن في الصدر الأول وحدث، قبلتموه، وأكل منه القضاة وعدولهم، بل
__________
1 قال شيخ الإسلام موفق الدين بن قدامة المقدسي صاحب "المغني" في كتابه "لمعة الاعتقاد" إن الاختلاف في الفروع رحمة، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم، مثابون في اجتهادهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة.
2 حديث صحيح: أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عمر، وصححه ابن حبان، وله شاهدان من حديث ابن عباس وابن مسعود عند الطبراني.(2/479)
تمولو فلا مانع من حملها على الظالم، الذي هو أحق بالحمل، ولا موجب لحملها على المظلوم، فهو ضلال في الدين لم يكن في زمنه عليه السلام، ولا زمن الخلفاء ولا الصدر الأول تقيد مقال، ولا تقيد جواب، وإنما كان القضاء كما قال عليه السلام في الصحيح عن أم سلمة: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون أبين بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فإنما أقطع له قطعة من نار فلا يأخذها" 1 بعد ذلك حدث تقيد المقال والزيادة فيه، وحصره، وطلب بيانه وحصر الطلب، ورفع طلب البيان للمحكمين، فلا يصل المسكين طالب الحق للجواب حتى يصير شطر ما يطلب فضلا عن الحكم، فكما أحدثتم للحكم أجرة ثم أجرة أخرى لاستئنافه، وأجرة على الفتوى، وعلى الشهادات ونحو ذلك، وأحدثتم الصوائر.
فالواجب أن تجعلوها من المبطل الذي تسبب فيها، ولا تضيعوا حق المظلوم، وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، لكني أظن أنه لو جعلت الصوائر على المبطل، لقلت الدعاوى، وكسد القضاة والمفتون، لذلك تركوا ذلك على الطالب، والله أعلم بالحقائق.
وهذا كله قد دعت الضرورة أو الحاجة إليه وإلا فلا يجوز الإفتاء ولا القضاء إلا بالمشهور، أو الراجح إلا لضرورة كما سبق، نعم عند تحقق الضرورة أو المصلحة تعينت الفتوى بقول ولو ضعيفا ولأجل الضرورة تذكر الأقوال الضعيفة في الكتب الستة الفقهية، بل قدمنا قبيل ترجمة التقليد أنه يتعين على الأمة الإسلامية تهيئة رجال مجتهدين، وإن ذلك متيسر ليكونوا عونا على تحسين القضاء والأحكام، وسن الضوابط والقوانين النافعة المطابقة للشريعة المطهرة، وروح العصر، وللمصالح العامة، مراعي فيها العدل، وإتقان النظم، ليجددوا للأئمة مجدها، ويسلكوا بها سبيل الرشاد، ويزيلوا عنها قيود الجمود المضر، ويعرفوا كيف يخلصونها من مستنقعات الأوهام، ومزال الأقدام، ويحفظوا بيضتها من الاصطدام، فإنه إن بقي قضاؤنا وأحكامنا على ما هي عليه
__________
1 أخرجه البخاري "5/ 212" بشرح الفتح، ومسلم "1713".(2/480)
من الفوضى من رقة الديانة، صار الناس إلى القوانين الوضعية، ونبذوا الشريعة ظهريا، وساء ظنهم فيها مع أنه لا ذنب على الشريعة التي فتحت باب الاجتهاد، وباب المصالح المرسلة ونحوها، وإنما الذنب على بعض من العلماء المقلدين الجامدين المتعصبين الذين جعلوا الدين أحبولة، ولا عيب على المتقدمين والسلف الصالح رضوان الله عنهم.
وليس مالك أو الشافعي، أو أبو حنيفة برسل بعثوا كل إلى قطر أو مملكة لا تجوز مخالفتهم، كما قال عز الدين بن عبد السلام أولهم في أرض الله مناطق نفوذ لا يعدوها غيرهم، وإنما هي آراء أخذوها بحكم الاجتهاد، وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا، وشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ليست شريعة جمود وآصار، كما كانت شريعة بني إسرائيل، ولا هي شريعة مانعة للأمة من الترقي والتطور مع الأحوال، بل شريعة صالحة لكل زمان وكل مكان وكل أمة، فلذا كانت بعثته عليه السلام عامة لسائر الأمم إلى قيام الساعة، وذلك لا يتأتى مع الجمود؛ لأن العالم كله متغير ومتطور.
ولذلك كان فيها الناسخ والمنسوخ بسبب ما كان في الزمن النبوي من تغيرات الأحوال، وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} 1 إن هذه الآية يعود العمل بها في آخر الزمان، ولهذا أيضا كان من أصولها سد الذرائع، والمصالح المرسلة، والقياس، والاستحسان، إلى غير ذلك مما تقدم.
وقد أفتى بعض علماء أفريقية بجواز المعاملة الفاسدة إذا عم الفساد، نعم ما هو صريح القرآن والإجماع والسنن المتواترة، أو المجمع عليها أو الصحيحة، والأحكام التي اتفقت الأمة على العمل بها وتأييدها، فلا سبيل للخروج عنه، وكذلك كل ما لم تحوجنا ضرورة للخروج عنه من قول راجح أو مشهور مذهبي، فلا منافاة بين ما هنا وبين ما سيأتي في ترجمة: هل انقطع الاجتهاد؟
__________
1 سورة المائدة: 105.(2/481)
حكم التصوير ونصب التماثيل بالمدن لعظماء القوم:
مما يتصل بما سبق أنه سألني صدر وزراء الدولة التونسية بحضرة سادة أعلام وذوات أعيان سنة 1336 عن حكم التصوير؟ فأجبته:
إن تصوير الأرض والشجر والجبال وغيرها من الجمادات لا بأس به، أفتى به ابن عباس كما في "الصحيح"1 ولنترخص للضرورة في التصوير الشمسي كله ولو حيوانا، وإنسان على ما فيه من الخلاف، وقوة القول القائل بالكراهة أو المنع، وقد قال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: كل ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه كما رواه عنه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح2 وفي صحيح البخاري: إن زيد بن خالد الجهني علق في بيته سترا فيه تصاوير، مستدلا بقوله عليه السلام: "إلا رقما في ثوب" 3 ويدل للجواز أيضا حديث عائشة عند أحمد وغيرها أنها اشترت نمطا فيه تصاوير، فأرادت أن تصنعه حجلة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "اقطعيه وسادتين" قالت: ففعلت، فكنت أتوسدهما، ويتوسدهما النبي صلى الله عليه وسلم4. ونحوه في الصحيح على اختلاف في الرواية يعلم من كتاب اللباس في البخاري5، وكتاب المظالم، وبدء الخلق، ولنحمل الحديث على العموم كما هو ظاهر، ويدل له ما رواه أحمد أيضا عنها: كان لنا ستر فيه تماثيل طير، فقال رسول الله:
__________
1 أخرجه البخاري "4/ 345" بشرح الفتح في البيوع، باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح وما يكره من ذلك.
2 ذكره الحافظ في "الفتح" "10/ 326".
3 أخرجه البخاري "10/ 328"، بشرح الفتح، ومسلم "2106" "85".
4 هو في المسند "6/ 112"، ورجاله ثقات، وسنده حسن.
5 "10/ 325"، "328".(2/482)
"يا عائشة حوليه، فإني إذا رأيته ذكرت الدنيا" وكانت لنا قطيفة، يلبسها تقول علمها حرير1، فهذا دليل ترخصنا من السنة ومن النظر لما يدعو إليه الحال من ضرورة العصر، فإن التصوير الشمسي، صار ضروريا في الأمور التعليمية بالمدارس، والسياسة والحربية والتاريخية، ومنعه منع للأمة من رقي عظيم، والوقت الحاضر لا يقبله بحال، ولم يكن في الزمن النبوي، فليقلد القول الذي يقول بإباحته بناء على أن الأصل في الأشياء عدم المنع، ولأجل الحاجة أيضا.
فقال لي: فما تقولون في الصور المجسمة ذات الظل؟ فإن الأمم المتمدنة يعيبون علينا منعها، وهي تذكار عظماء الرجال فقلت له: يا سيدي قد نهى الشرع عنها نهيا صريحا، وحكى ابن العربي المالكي الإجماع على المنع، ولا ضرورة تلجئنا إليها، نعم ما كان منها داخلا في باب التعليم، فقد يرخص فيه قياسا على ما وردت الرخصة فيه من الصور التي تلعب بها البنات2 لتعلم التربية فقفوا رعاكم الله بنا عند حد الضرورة، ولا تحيوا سنن الوثنية بنصب الهياكل في الميادين العمومية، ولا ضرورة تدعو لذلك أما التنويه بعظماء الرجال، فأعظم تنويه بهم أن نبني مدرسة باسمهم مثلا.
__________
1 هو في المسند "6/ 49" "35"، وسنده صحيح.
2 أخرج البخاري "4/ 175" بشرح الفتح، ومسلم "1136" من حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة "من كان أصبح صائما فليتم صومه، من كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه" فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوم صبياننا الصغار منهم، نضع لهم اللعبة من العهن، فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام، أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم، وأخرج البخاري "10/ 437" في الأدب: باب الانبساط إلى الناس عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب البنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن "يتغيبن" منه، فيسربهن، "يرسلهن" إلي فيلعبن معي، وأخرجه مسلم "440". وأخرج أبو داود "4932"، بسند حسن، والنسائي في عشرة النساء "75/ 1" بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: "ما هذا يا عائشة؟ " قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسا له جنحان من رقاع، فقال: "ما هذا الذي وسطهن؟ "، قالت: فرس، قال: "وما هذا الذي عليه؟ " قالت: جناحان، قال: " فرس له جناحان"، قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه.(2/483)
والتاريخ كفيل بنشر مآثرهم، وليس التمدن في تقليد المتمدين تقليدا أعمى في كل ما فعلوا، فهذا مذموم، وأنتم تعيبون على مقلدة العلماء، بل الواجب أن نأخذ ما لنا فيه فائدة، وندع ما لا فائدة فيه، وهم نفسهم متضايقون من عوائد وقوانين تمدنية كرفع الحجاب وسهريات الرقص، وها نحن نراهم يمنعون الخمر، ويفكرون في إباحة تعدد الزوجات والطلاق، فأي رقي.
وأي ضرورة تلجئنا لنصب تمثال تذكار لوطني نحصل على تذكار بما هو أنفع، بل نصب التماثيل عندهم من الأمور التحسينية لا من الحاجية، ولا من الضرورية. وفي "الصحيح" أن أم حبيبة وأم سلمة رأتا كنيسة ببلاد الحبشة تسمى مارية فيها تماثيل، فقال صلى الله عليه وسلم: "أولئك قوم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح، صوروا له تلك الصور، هم شرار الخلق عند الله" 1 وليس كل ما يعب يكون عيبا، وليس كل ما عابونا به مما هو عيب تجنبناه، وليس كل ما نفعهم ينفعنا، بل ما لم يهدم أصلا شرعيا، فاستحسن الحاضرون الجواب، بل وكذلك السائل حفظه الله؛ لأنهم ناس منصفون ما رأيتهم بأن الحق إلا وطأطئوا له سراعا، وإني لأرجو نجاحهم لمحاسن أخلاقهم، والله يبقيهم، ويأخذ بيدهم في ترقيتهم.
المفتى هل يلزم أن يكون مجتهدا:
قد قسم ابن رشد في أجوبته المفتين إلى ثلاثة أقسام:
الأول: المجتهد المطلق القادر على أخذ الأحكام من أدلتها الشرعية:
الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال، وهذا يجوز له الإفتاء عموما، ويولى القضاء وغيره من الولايات.
الثاني: طائفة اعتقدت صحة مذهب مالك تقليدا تحفظ مجرد أقواله، وأقوال أصحابه دون معرفة الأدلة، ولا تمييز الصحيح من تلك الأقوال من غيره،
__________
1 أخرجه البخاري "1/ 444" في الصلاة: باب الصلاة في البيعة، ومسلم "528" في المساجد: باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها.(2/484)
وهذه لا يجوز لها الإفتاء بمجرد التقليد من غير معرفة الدليل؛ لأنه إفتاء بغير علم، نعم يجوز لها أن تعمل في خاصة نفسها إن لم تجد مفتيا مجتهدا، فإن اختلف قول مالك أو أصحابه في مسألة، فيجري حكمه على حكم العامي إذا استفتى العلماء، واختلفوا عليه هل هو مخير أن يأخذ بقول أحدهم، أو يجتهد بقول أعلمهم، أو يأخذ بأغلظ الأقوال تحريا؟
وهذا الذي قاله ابن رشد من حرمة الإفتاء على أهل هذه الطائفة يوجب حرمة الإفتاء على أهل العصر، بل هذه العصور منذ انقطع الاجتهاد فيما زعموا إلى الآن، ولا يخفى ما في ذلك من زيادة إتلاف الدين، والقضاء عليه، وتتعذر الحقوق، وللضرورة يقبل غير العدول، وربما قبل الكافر في الشهادة، فيقاس على ذلك قبول غير المجتهدين في الفتوى من باب أحرى، ولذلك خالفه غيره، فقال بجواز الإفتاء للمقلد عند عدم المجتهد كجواز ولايته القضاء.
وعلى هذا درج صاحب "المختصر" في القضاء حيث قال: وإلا فأمثل مقلد، فحكم بقول مقلده. وعلى هذا عياض والمازري، وابن العربي وغيرهم، ولا أظن ابن رشد نفسه يخالفهم حيث اشترطوا في الجواز فقد المجتهد، وعليه فإذا وجد المجتهد، فلا سبيل لإفتاء المقلد ولا لتوليته القضاء؛ لأن المجتهد يحكم عن علم، والمقلد عن جهل.
وهذا إذا كان المجتهد مؤتمنا عدلا، وإلا فلا عبرة باجتهاده إلا لنفسه على الصحيح، ونقل ابن عرفة عن ابن زرقون وابن رشيد صحة تولية المقلد قاضيا مع وجود المجتهد، ونقل عن ابن العربي وعياض والمازري عدم الصحة. قال: وهو محكي أئمتنا عن المذهب، قال: ومع فقده جائز، ومع وجوده، فالمجتهد أولى اتفاقا نقله في "الاختصار".
الثالث: من يكون مقلدا لمالك وهو يعلم من أقواله وأقوال أصحابه ما هو جار على أصوله، وما هو سقيم غير جار على ذلك، ولكن لم يبلغ معرفة القياس ونحوه من الأدلة بحيث لا يقدر أن يقيس الفروع على الأصول وهذا ما يعرف(2/485)
بمجتهد الفتوى وهذه الطائفة يجوز لها أن تفتي من الأقوال بما علمت صحته، وتعمل في خاصة نفسها، ولا يجوز لها أن تجتهد لعدم القدرة منها على الاجتهاد لعدم استكمالها لآلته.
ابن الحاجب في "المنتهى": اختلفوا في جواز إفتاء من ليس بمجتهد بمذهب مجتهد، فقيل: يجوز، وقال أبو الحسن: لا يجوز، والمختار أنه إن كان مطلعا على مآخذ مجتهده، أهلا للنظر فيها، جاز وإلا فلا، لنا إجماع المسلمين في كل عصر على قبول مثل ذلك. ا. هـ.(2/486)
خصال المفتي:
قال في "المنتهى": وأما المفتي: فالعلم بأصول الفقه، وبالأدلة السمعية التفصيلية، واختلاف مراتبها، وما يتوقف العلم بذلك عليه من العقليات كما تقدم. ا. هـ.
هذا حد المفتي المجتهد بعدما دونت العلوم، وأما المقلد، فالمشترط فيه أنه لا بد أن يكون متوسطا في العلوم العربية، ماهرا في علوم أصول الفقه، ليعرف تطبيق النصوص على النازل، عارفا بعرف البلد التي يفتي فيها، عالما بما جرى به عملها، مستحضرا لنصوص المذهب الذي يفتي عليه، عارفا بمطلقها ومقيدها، وعامها وخاصها، ماهرا في فهم اصطلاحاتها، واندراج جزئياتها في كلياتها، سالكا سبيل الجد والتبصر، مكثرا من مطالعة أقوال الأئمة الفقهاء.
وقد قال أئمة المغرب: على المفتي أن يقرأ مختصر خليل كل سنة، وإلا فلا يوثق بفتواه، ومما يتأكد على المفتي المالكي استحضار قواعد القرافي، ومنهاج الزقاق كقواعد ابن نجيم عند الحنفية، بل هذه نافعة لأصحاب المذاهب كافة، و"إيضاح المسالك" للونشريسي عند المالكية، وقواعد عز الدين بن عبد السلام، والمقري وعياض وأمثاله.(2/486)
وأمثال هذه الكتب في سائر المذاهب هي التي تحصل ملكه الفتوى، وتوسع فكر المفتي، وترشده، وتقية مواقع الزلل.
كذلك على المفتي الإكثار من مطالعة كتب الفتاوى والنوازل الواقعة، ليعرف منها كيفية تطبيق الأحكام الكلية على القضايا الجزئية؛ لأن المفتي والقاضي أخص من الفقيه، إن الفقيه كعالم بكبرى القياس من الشكل الأول، والمفتي والقاضي كل منهما عالم بها، وعارف بصغراه وهذا أشق، وفقه القضاء والفتوى محتاج إلى أعمال النظر في الصور الجزئية، وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف الكائنة فيها، فيلغي ما كان من الأوصاف طرديا، ويعتمد على ما له تأثير في العلة التي شرع الحكم لأجلها، أشار لهذا ابن عرفة، وأصله لشيخه ابن عبد السلام، وفي أحكام ابن العربي عن مالك لا يكون الرجل عالما مفتيا حتى يحكم الفرائض في الدين، وعموم وقوعها بين المسلمين. ا. هـ.
والمراد إتقان ذلك وإحكامه، وإلا فالمفتي لا يجوز أن ينتصب للفتوى إلا وله معرفة بأبواب الفقه كلها.
وذكر الحافظ ابن بطة عن الإمام أحمد قال: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتوى حتى يكون فيه خمس خصال:
أولاها: النية ليكون على كلامه نور.
الثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.
الثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه، وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية وإلا مضغة الناس.
الخامسة: معرفة الناس وإلا راج عليه المكر والخداع والاحتيال.
ومن آداب المفتي أن يتثبت، ولا يتسرع للجواب، فقد سئل مالك عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة سهلة، فغضب، وقال: ليس في(2/487)
العلم خفيف، أما سمعت قول الله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} 1 وقال: لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه، وما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد، فأمراني، ولو نهيهاني، لانتهيت، وقال: من سأل عن مسألة ينبغي له أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصة في الآخرة، ثم يجيب فيها، وقال: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك.
وهكذا ينبغي لمن انتصب لهذا المنصب الخطير، ولا يجوز للمفتي أن يفتي بضد لفظ حديث أو آية مثل أن يسأل عمن صلى ركعة من الصبح، ثم طلعت الشمس هل يتم صلاته؟ فيقول لا، والنبي صلى الله عليه سلم يقول: "فليتمها" 2 ومثل أن يسأل عمن مات وعليه صوم هل يصوم عنه وليه؟ فيقول: لا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "صام عنه وليه" 3 وانظر في إعلام الموقعين أمثلة كثيرة من هذا النمط.
ولا يجوز للمفتي أن يتبع في فتواه غرضه ومشتهاه، أو يحابي بدين الله.
__________
1 سورة المزمل: 5.
2 أخرجه البخاري "2/ 33" بشرح الفتح، ومسلم "608" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أدرك أحدكم سجدة صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته".
وبهذا يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، وخالف أبو حنيفة، فقال: من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح، بطلت صلاته، وأخرجه مسلم "609" أيضا من حديث عائشة.
3 أخرجه البخاري "4/ 68"، ومسلم "1147" من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليه" قال الحافظ ابن حجر: وقد أجاز الصيام عن الميت أصحاب الحديث وعلق الشافعي في القديم القول به على صحة الحديث، كما نقله البيهقي في "المعرفة" وهو قول أبي ثور، وجماعة من محدثي الشافعية أهل الحديث وقال البيهقي في الخلافيات: هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافا بين صحتها.(2/488)
ما صارت إليه الفتوى في القرون الوسطى:
قال الباجي عن بعض أهل زمانه: إنه كان يقول: إن الذي علي لصديقي إذا وقعت له حكومة أو فتيا أن أفتيه بالرواية التي توافقه، وأخبرني من أثق به أنه وقعت له واقعة، فأفتاه جماعة من المفتين بما يضره وكان غائبا، فلما حضر، قالوا: لم نعلم أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى، قال: وهذا مما لا خلاف بين المسلمين المعتد بهم في الإجماع أنه لا يجوز. وراجع ما تقدم في ترجمة القفال الشاشي وغيره.
إلى هذا وصلت الفتوى في زمن الباجي، ولولا الحياء يمنعني، لقصصت عليك ما عاينته حال هذا الوظيف في الجيل الذي أدركته، وكل من طالع حال المتقدمين استحيا أن ينتسب لهذا الجيل الذي ابتلينا به، وإياك أن تكون كما قال:
يمدون للإفتاء باعا قصيرة ... وأكثرهم عند الفتاوى يكذلك
والمكذلك: هو الذي يكتب تحت فتوى غيره: ما أفتى به المفتي أعلاه صحيح، وعليه يوافق عبد ربه فلان. وذلك لا يجوز تقليدا حتى ينظر في الفتوى، ويتحقق صوابها، ويعلم منزعها وأصلها، وإلا كان من الفتوى بغير علم، وقد حكى الشافعي وغيره الإجماع على حرمتها والله يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1.
قال ابن حزم: كان عندنا مفت قليل العلم، فكان لا يفتي حتى يتقدمه من يكتب الجواب، فيكتب تحته جوابا مثل جواب الشيخ، فقدر أن اختلف مفتيان في جواب، فكتب تحتهما، جوابي مثل جواب الشيخين، فقيل: إنهما قد
__________
1 سورة الإسراء: 36.(2/489)
تناقضا فقال: وأنا أيضا تناقضت كما تناقضا. فليست الفتوى بطول الأردان، وإرخاء الذوائب كذنب الأتان، والهذر باللسان، إذا خلا الميدان.
فلو لبس الحمار ثياب خز ... لقال الناس يا لك من حمار
فهذا من الضرب الذين يستفتون بالشكل لا بالفضل، ويأكلون بالعمائم والأكمام لا بالعلوم والأحكام، تغج منهم الحقوق إلى الله عجيجا وتضج الأحكام من أقلامهم ضجيجا، فمن تجرأ منهم على دين الله، وأفتى أو حكم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خصمه يوم القيامة، والله الحكم {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 1.
__________
1 سورة الشعراء: 27.(2/490)
حال الإفتاء في زماننا:
إن الإفتاء في زماننا بيد الفقهاء المعروفين من أهل التقليد، ولا يوجد بينهم في مغربنا بوقتنا هذا من يدعي اجتهادا، أو رتبة ترجيح، أو يقدر أن يفوه بها إلا إن كان معتوها فيما أعلم، ولا أدري هل يوجد بغير المغرب من يدعيه.
وغاية ما يشترط الآن فيمن ينتصب للفتوى أو للقضاء في إحدى العواصم الكبار أن يكون له إلمام بقواعد العربية بحيث يميز العبارة الصحيحة من الفاسدة، ويفهم دقائق معاني الكلام بحيث يعرف أن يطالع الكتب، ولا سيما مختصر خليل بشرحيه الخرشي والزرقاني وحواشيه، فإذا عرف مطالعة هذه الكتب وأحرى تدريسها، فإنه الغاية، ويعد نفسه هو ملك المغرب، فصار مختصر خليل بوقتنا وعند أهل جيلنا المنحط قائما مقام الكتاب والسنة مع أن الذي يفهم خليلا ويحصله، ويقدر على أخذ الأحكام الصحيحة منه لا شك عندي لو توجه لكتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمرن عليهما لكان قادرا على أخذ الأحكام منهما، فهذا الذي يشترط في وقتنا في أعلى مدرس، وأعلى قاض أما الأدنى، فكم من(2/490)
مفت وقاضي لا يعرف ماذا كتب، ولا ما حكم به، ولا يميز بين ما أثبت أو نفى، وإلى الله المشتكى.
وكم رأيت وسمعت من فتاو، وأحكام في البوادي والمدن يضحك منها ويبكي على غربة المغرب والدين من أجلها، وإن أصحابه محتاجون للتعليم كثيرا، وقد تأفف أحمد الهلالي في وقته مفتيه، وقبله الباجي وابن حزم بكثير يعلم ذلك من طالع كتب الفتوى والتاريخ، وكل وقت هو كوقتنا هو يوجد المحسن والمتسلط إلا أن وقتنا هذا عظم فيه الجهل، وغلب الفساد، وأصبحت الفتوى بين كل من مديده إليها وتجرأ عليها ولو كانت اليد شلاء، والكف خرقاء ترسم بها من اتخذها مكسبا ومتجرا، ولا تسأل عما جرى كيف جرى. ويجب على من قلده الله أمر الأمة أن يرفع هذا المنصب عن تناول أوساخ الناس، وبيع الشريعة بما بيع به يوسف عليه السلام، فذلك باب عظيم؛ إذ الباذل للمال يتوصل إلى الاستظهار به على استمالة نصوص الشريعة نحوه ولو كان مبطلا فبيع الفتوى هادم للشرع، مفسد للمفتين، وهو مقت عظيم، وخطب جسيم، وها هي تونس أختنا لا يتصدر للفتوى بها إلا من ثبتت مقدرته ونزاهته، ويجعل له الراتب الكافي، ويمنع من تناول كل أجرة وكل هدية وهكذا ينبغي.(2/491)
الكتب التي يفتى منها بالمغرب:
إن غالب الفتوى من الكتب المتداولة، وغالب الناس لا تجد لهم رواية متصلة، وأعلى ما يوجد رواية البعض والإجازة في الباقي لبعض من لهم تبصر ومعلوم ما في الإجازة من الخلاف هل هي رواية متصلة إن وجدت؟ وقد اشترط العلماء اشتهار الكتاب الذي يفتى منه على القول بجواز ذلك بدون رواية كمختصر خليل على أن هذا حصل درجة التواتر لكثرة من يحفظه في زماننا إلا أن(2/491)
غالب حفظه أو كلهم ليسوا مفتين، ولا بغلوا رتبة الفقهاء ومن جملة شروحه المتداولة الحطاب والمواق، وهما كتابان معتمدان إلا قليلا، وشرح الدردير، ثم "الرسالة" وشروحها لابن ناجي وزروق، وأبي الحسن، وجسوس وغيرهم.
ومن الكتب المعتمدة "الموطأ" لمالك وشرحها للباجي، وشرح محمد الزرقاني وهي أم المذهب، وكذا "المدونة" وطبعت أخيرا بمصر مرتين، فجزاهم الله خيرا.
ومع إحدى الطبعتين جل مقدمات ابن رشد، كما طبعوا "الأم" للشافعي، وجزى الله أهل مصر على طبع كتب المتقدمين.
ومن كتب الفتوى "التحفة" لابن عاصم الغرناطي وشروحها لسيدي عمر الفاسي والتاودي ابن سودة والدسولي وميارة، وحاشية أبي علي بن رحال عليه، وشروح لامية الزقاق، والعمل الفاسي وشروحه، والعمل المطلق، و"المرشد المعين" وشرحاه لميارة، و"تبصرة" ابن فرحون إلا أن فيه بعض فتاو ضعيفة، وكل ذلك أشرنا إليه في تراجم مؤلفيه.
وغالب هذه الكتب التي يفتى منها سرد الفروع بدون دليل إلا ما كان من الموطأ وشروحه والمدونة، وإني ليأخذني العجب عند مطالعة فتاوى المتأخرين يأتون بالحكم موجها بتوجيه فكري ساذج من غير استدلال عليه بنص من نصوص المتقدمين، وهكذا فروع تجدها عند الزرقاني شارح خليل وغيره، وتجد الناس يتلقون ذلك بغاية الارتياح والقبول، ولو أن أحدا أفتى بكتاب أو سنة أو قياس، لقامت القيامة عليه، ورفعت النعال إليه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قد تركت كتب المتقدمين التي تورد الأدلة بمالها أو عليها كمبسوط القاضي إسماعيل، و"المجموعة" لابن عبدوس، و"تمهيد" ابن عبد البر، و"طراز" سند بن عنان شرح "المدونة" و"توضيح" خليل في كثير من مسائله وأمثالها.
وعلى كل حال إن الفتوى من الكتب للعدل العارف جائزة أباحها العلماء للضرورة، فانظر حكم ذلك في "نور البصر"، قال: ومن جملة ذلك طرر أبي(2/492)
إبراهيم الأعرج على "التهذيب" وهي من الكتب المعتمدة وطرر ابن عات على "الوثائق المجموعة" وطرر أبي إبراهيم الأعرج على "التهذيب" وهي من الكتب المعتمدة، وطرر ابن عات على "الوثائق المجموعة" وطرر أبي الحسن الطنجي على "التهذيب"، وحذروا من أجوبة محمد بن سحنون، فلا تجوز الفتوى منها بوجه من الوجه، و"التقريب والتبيين" المنسوب لابن أبي زيد، وأجوبة القرويين وأحكام ابن الزيات، وكتاب "الدلائل" و"الأضداد" قال القوري: كل ذلك باطل وبهتان قال: وقد رأيتها ولا يشبه ما فيها قولا صحيحا، وحذروا من شرحي الجزولي وابن عمر على "الرسالة" لعدم صحة نسبتهما لمؤلفهما، وحذروا من شروح الأجهوري الثلاثة على "المختصر" ألا يعتمد ما انفردت به على أنه لا ينكر فضله، ولا فضل تلاميذه الخرشي والشبرخيتي ولا سيما الزرقاني، ولكن لا يعتمد إلا ما سلمه محشوهم لكثرة الأغلاط فيها.
فانظر رحمك الله هذه الأوحال التي أصبح فيها الفقه وكتاب الله بين أيدينا وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أقرب إلينا وأسهل وأوثق من هذا كله، لو توجد لها أظافر، والله ولي التوفيق، ويأتي في مواد الاجتهاد ما يناسب أن تراجعه.(2/493)
الاجتهاد
مدخل
...
الاجتهاد:
هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي، ومعنى استفراغ الوسع: هو ما أشار إليه الشافعي بقوله: إذا رفعت الواقعة للمجتهد، فليعرضها على نص القرآن، فإن لم يوجد، فعلى نص الأخبار المتواترة، فإن لم يجد، فعلى الآحاد، فإن لم يجد، فعلى ظاهر القرآن إلخ ما تقدم في مبدأ الشافعي.(2/493)
المجتهد، شروطه، أقسامه:
هو البالغ الذكي النفس، ذو الملكة التي بها يدرك العلوم، العرف بالدليل العقلي الذي هو البراة الأصلية، وبالتكليف به في الحجية، ذو الدرجة الوسطى لغة وعربية وأصولا وبلاغة، ومتعلق الأحكام من كتاب وسنة: أي1: المتوسط في هذه العلوم بحيث يميز العبارة الصحيحة من الفاسدة، والراجحة من الموجوحة، ليتأتى له الاستنباط المقصود من الاجتهاد، وإن لم يحفظ متون آيات الأحكام وأحاديثها، وقد مات أبو بكر وعمر، وهما لم يتما حفظ القرآن، واختلفت الرواية عن علي هل حفظه أم لا؟ وتوقفوا في كثير من الأحكام حتى روى لهم غيرهم الحديث، فعملوا به.
أما علمه بآيات الأحكام وأحاديثها أي مواقعها وإن لم يحفظها، فلأنها المستنبط منه، وأما علمه بأصول الفقه، فلأنه به يعرف كيفية الاستنباط وغيرها مما يحتاج إليه، وأما علمه بباقي العلوم فلأنه لا يفهم المراد من المستنبط منه إلا به؛ لأنه عربي بليغ، ولم يكن هذا مشترطا في الصدر الأول؛ لأنهم كانوا عارفين بالعربية الفصحى البليغة بسليقتهم، ولما فسدت الألسنة، تعين تعلم تلك العلوم على مريد الاجتهاد؛ إذ لا توصل إلا بها.
__________
1 ذكره من الاكتفاء بالتوسط في هذه العلوم هو الصواب خلاف ما وقع لأبي إسحاق الشاطبي في عدد 53 من جـ4 من "الموافقات" من اشتراط بلوغ النهاية في العربية ليكون فهمه حجة، فإنه مقابل، وقد كان مالك وأبو حنيفة من أهل الاجتهاد بإجماع من يعتد به، وقد تكلموا فيهما من جهة العربية، ولم يحيطا علما بالنحو والصرف، وإنما كان عندهما ما يوصلهما لفهم أدلة فهما يوثق به وراجع ما العلماء في ترجمتيهما، ويأتي في مواد الاجتهاد عن ابن عرفة حكاية الإجماع أنه لا تشترط بلوغ درجة الإمامة في العلوم المذكورة. ا. هـ. مؤلف.(2/494)
وقال الشيخ الإمام علي السبكي: يعتبر لإيقاع الاجتهاد لا لكونه صفة فيه كونه خبيرا بمواقع الإجماع لئلا يخرقه والناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، وشرط المتواتر، وخبر الآحاد والصحيح والضعيف، وحال الرواة، ويكفي في زماننا الرجوع إلى أئمة ذلك.
ولا يشترط علم الكلام، ولا تفاريع الفقه، ولا الذكورة والحرية، وكذا العدالة على الأصح، لجواز أن يكون لفاسق والمرأة والعبد قوة الاجتهاد.
وهذا هو المجتهد المطلق، ودونه مجتهد المذهب، وهو المتمكن من تخريج الوجوه على نصوص إمامه، وقال المحلي في محل آخر: هو القادر على التفريع والتخريج، ودونه مجتهد الفتيا وهو المتبحر المتمكن من ترجيح قول على آخر. ا. هـ. ملخصا من "جمع الجوامع" وشرحه بزيادة.
وكلام السبكي مأخوذ من كلام الإمام الشافعي القائل:
لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، بصيرا بحديث نبي الله صلى الله عليه وسلم، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، بصيرا باللغة، بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإن كان هكذا، فله أن يفتي في الحلال والحرام، وإلا فلا.
وقال الإمام أحمد: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن، عالما بالأسانيد الصحيحة، عالما بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها، وقال في رواية حنبل: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي، وسئل: إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيها؟ قال: لا، قال: فمائتي ألف؟ قال: لا، قال: فثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قال: فأربعمائة ألف؟ قال بيده هكذا، وحرك يده، قال القاضي أبو يعلى: وظاهر الكلام أنه لا(2/495)
يكون من أهل الاجتهاد إذا لم يحفظ من الحديث هذا القدر الكثير، وهذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتوى. ا. هـ. نقله في "إعلام الموقعين" لكن هذا قبل تنقيح أحاديث الأحكام التي هي أهم ما يحتاج إليه المجتهد من السنة، أما حيث أفردت مثل سنن أبي داود ومصابيح البغوي، ومشكاة ولي الدين محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، وأحكام عبد الحق، فقد تيسر أمر الاجتهاد جدا.
قال في "إعلام الموقعين": والأحاديث التي تدور الأحكام عليها خمسمائة حديث، وبسطها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث. ا. هـ.
وليس في سنن أبي داود إلا نحو أربعة آلاف حديث، وقد قال الغزالي وغيره: إنها كافية للمجتهد، وليس في مشكاة التبريزي إلا أقل من ستة آلاف حديث كما يأتي، ومن حصلها، حصل على آلة الاجتهاد بلا شك والحمد لله.
أما كلام الشيخ الإمام علي السبكي، فمقابل لما صدر به في "جمع الجوامع" ويمكن رده إليه، وقد أجمع من يعتد بقوله من الفقهاء على إمامة الشافعي، وكان يرجع في كثير من الأحاديث إلى ابن حنبل وابن مهدي وكذلك أبو حنيفة ما كان يعرف كثيرا من أحاديث الحجازيين، وكذا كثير من أئمة العراق كإبراهيم النخعي مع قبولهم في صف أهل الاجتهاد، واعتبار أقوالهم.
وقال الدهلوي في رسالة "عقد الجيد": قد صرح الرافعي والنووي وغيرهما ممن لا يحصى كثرة بأن المجتهد المطلق قسمان: مستقل ومنتسب ويظهر من كلامهم أن المستقل يمتاز بثلاث خصال:
إحداها: التصرف في الأصول التي عليه بناء مجتهداته.
الثانية: تتبع الآيات والآثار بمعرفة الأحكام التي سبق الجواب فيها واختيار بعض الأدلة المتعارضة على بعض، وبيان الراجح من محتملاته والتنبيه لمآخذ الأحكام من تلك الأدلة، والذي نرى والله أعلم أن ذلك ثلثا علم الشافعي.
الثالثة: الكلام في المسائل التي لم يسبق بالجواب فيها أحد من تلك الأدلة.(2/496)
والمنتسب من سلم أصول إمامه، واستعان بكلامه كثيرا في تتبع الأدلة، والتنبيه للمآخذ، وهو مع ذلك مستيقن بالأحكام من قبل أدلتها قادر على استنباط المسائل منها، قل ذلك أو كثر، وإنما تشترط الأمور المذكورة في المجتهد المطلق يعني بقسيمه.
وأما الذي هو دونه في المرتبة فهو مجتهد في المذهب، وهو مقلد لإمامه فيما ظهر فيه نصه، لكنه يعرف قواعد إمامه وما بنى عليه، فإذا وقعت حادثة لم يعرف لإمامه فيها نصا، اجتهد على مذهبه، وخرجها من أقواله وعلى منواله.
ودونه في المرتبة: مجتهد الفتيا وهو المتبحر في مذهب إمامه، المتمكن من ترجيح قول على آخر، ووجه من وجوه الأصحاب على آخر. ا. هـ.
فقد زاد رتبة رابعة وهي المجتهد المنتسب كما علمت وهو دون المجتهد المستقل، فالمنتسب له القدرة على الاستنباط من نصوص الكتاب والسنة رأسا، آخذ بقواعد الإمام الذي انتسب إليه، مقلد له فيها ولا ضرر على الاجتهاد مع التقليد في بعض القواعد المتعلقة بمسألة اجتهد فيها كما قال ابن القيم وأبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته" في مبحث أنه لا يلزم المجتهد في الأحكام الشرعية أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة. قال في هذا المبحث: إن العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد عند عامة الناس كمالك والشافعي وأبي حنيفة كان لهم أتباع أخذوا عنهم وانتفعوا بهم، صاروا في عداد أهل الاجتهاد مع أنهم عند الناس مقلدون في الأصول لأئمتهم، ثم اجتهدوا بناء على مقدمات مقلد فيها، واعتبرت أقوالهم، واتبعت آراؤهم، وعمل على وفقها مع مخالفتهم لأئمتهم وموافقتهم، فصار قول ابن القاسم أو قول أشهب أو غيرهما معتبرا في الخلاف على إمامهم كما كان أبو يوسف ومحمد بن الحسن مع أبي حنيفة والمزني والبويطي مع الشافعي إلخ فانظره غير أنه في العدد 81 من الجزء الرابع تردد فيهم: هل بلغوا درجة الاجتهاد بإطلاق أم لا؟ فانظر وراجع ما تقدم لنا في ترجمة ابن القاسم من الجزء 2 ونحوه لابن القاسم في "إعلام الموقعين" عدد 443 من الجزء الأخير.(2/497)
والصحيح أنه يجوز تجزؤ الاجتهاد بأن يصل لبعض الناس قوة الاجتهاد في بعض الأبواب دون بعض بأن يعلم أدلة ذلك الباب باستقراء منه، أو من مجتهد كامل، وينظر فيها كالفرائض، وقد كان زيد بن ثابت مشهورا بالفرائض، وعبد الله بن عمر بالمناسك، وعلي بن أبي طالب بالقضاء وتوقف مالك وأبو حنيفة في كثير من المسائل، وقالا: لا ندري. انظر "المنتهي" لابن الحاجب.(2/498)
مواد الاجتهاد، تيسر الاجتهاد، الطباعة، كتبه:
قال ابن عبد السلام في فصل التحكيم من شرح ابن الحاجب: مواد الاجتهاد في زماننا أيسر منه في زمن المتقدمين لو أراد الله الهداية، ولكن لا بد من قبض العلم على ما أخبر به الصادق صلوات الله عليه.
ابن عرفة: ما أشار إليه من تيسر الاجتهاد هو ما سمعته يحكيه عن بعض الشيوخ أن قراءة مثل الجزولية1، والمعالم الفقهية، والاطلاع على أحاديث "الأحكام الكبرى" لعبد الحق ونحو ذلك يكفي في تحصيل الاجتهاد.
قال عرفة: يريد مع يسر الاطلاع على فهم مشكل اللغة بمختصر العين و"الصحاح" للجوهري ونحو ذلك من كتب غريب الحديث ولا سيما مع نظر كلام ابن القطان وتحقيق أحاديث الأحكام. وبلوغ درجة الإمامة أو ما قاربها في
__________
1 الجزولية بضم الجيم نسبة إلى الإمام عيسى بن عبد العزيز يللبخت البربري المراكشي الجزولي، كان إماما في العربية لا يشق له غبار، له المقدمة المشهورة وهي حواش على جمل الزجاجي، وقال بعضهم: ليس فيها نحو، وإنما هي منطق لحدودها وصناعتها العقلية توفي سنة 607 سبع وستمائة. ا. هـ. من بغية الوعاة بخ وأما متن ابن التلمساني، فلعله، "مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول" تأليف الشريف أبي عبد الله محمد بن أحمد التلمساني المتوفي سنة 771 إحدى وسبعين وسبعمائة وهو متن من أحسن ما ألف فيه نحو خمس كراريس، أنفع شيء في بابه وأجوده. ا. هـ. المؤلف.(2/498)
العلوم المذكورة غير مشترط في الاجتهاد إجماعا. ا. هـ.
وقال أبي في أقضية شرح مسلم ما نصه: وكان ابن عبد السلام يحكي أن من الشيوخ من كان يصعب الاجتهاد، ومنهم من كان يسهل أمره، وإليه كان يذهب الشيخ ابن عرفة، ويرى أنه يكفي من مادته النحوية مثل الجزولية والأصولية متن ابن التلمساني.
قال: وأما الحديث، فهو اليوم سهل؛ لأنه قد فرغ من تمييز صحيحه من سقيمه، فإذا نزلت به مسألة أم الولد مثلا، فيكفيه أن يجمع من المصنفات "الأحكام الكبرى" لعبد الحق، وينظر ما فيها، ويكفيه فيه تصحيح مؤلفه، ولا يلزمه نظر ثان في سنده، ولا يكون مقلدا في ذلك. قالوا: ويكتفى في معرفة الإجماع بالنظر في كتب الإجماع الموضوعة فيه كإجماع ابن القطان. وكان الشيخ يقول: إذا أحضر هذه المصنفات للنظر في النازلة، فإنه يجتمع لديه من الأحاديث فيها ما لا يكاد يحضر مالكا، قال: وأنسب من رأيته على هذه الصفة يعني في المشاركة في هذه المواد ابن عبد السلام وابن هارون. ا. هـ.
وممن كان يصعب الاجتهاد الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل بما شرطاه في ذلك الباب قبله، ونحى نحوهما الشيخ الإمام علي السبكي، وذلك كله مقابل للمشهور الذي صدر به في "جمع الجوامع" واعلم أن مواد الاجتهاد اليوم في القرن الرابع عشر أيسر مما كان في زمن الأبي وابن عرفة ومن قبلهما بسبب أهل الفضل الذين اعتنوا بالمطابع، وطبعوا الكتب المعينة على الاجتهاد، وأن طهور الطباعة نقل العلم من طور إلى طور، وقد كان المتقدمون يعانون مشاق عظيمة في كتب الكتب، ويحتاجون لمادة مالية وزمن طويل أما بعد ظهور الطباعة عندنا أواسط القرن الماضي، فقد تيسر ما كان عسيرا إلا أنها وجدت الأمة في التأخر، والفقه في الاضمحلال، والهمم في جمود، فكأننا لم نستفد منها شيئا، فإذا قسنا ما استفدناه منها، ودرجة الرقي التي حصلت بسبب ظهور الكاغد كما قدمناه في القسم الثالث من هذا الكتاب حكمنا بأننا لم نتقدم خطوة تعتبر، وتناسب ما تقدمه غيرنا من الأمم، ورغما عن ذلك فقد وجدت كتب كانت أعز من بيض(2/499)
الأنوق، وانتشرت ولا سيما كتب الحديث، فقد طبعوا الكتب الستة و"الموطأ" وشروحها، ومسند أحمد، ومعه "كنز العمال" الذين هما من أجمع الكتب لما يحتاج إليه المجتهد من السنة، وطبعوا في الهند "مستدرك الحاكم" وتلخيصه للذهبي، كما طبع مسند أبي داود الطيالسي، وطبقات الإمام ابن سعد، وعلل أبي حاتم، وكتب بالرجال للذهبي وغيره، ومسند الشافعي، والأم مسند أبي حنيفة، وغيرها من كتب المتقدمين ثم "تيسير الوصول إلى جامع الأصول" لابن الديبع وهو وحده كاف، وعمدة الأحكام وشرحها وغير هذا مما يطول تعداده من كتب الحديث المعتمدة وكفى بكتاب المشكاة للتبريزي المشتمل على أحاديث "5495" وهي معظم ما يحتاجه المجتهد وشرحها لعلي القاري، ففيه تحقيق أحاديث الأحكام ومخرجيها، وعلل ما أعل منها، وعلى الناظر فيه أن لا يغتر بتعصبه لمذهبه، بل ينظر فيه نظرا استقلاليا.
فإذا ضممت ذلك إلى "تيسير الوصول" السابق تجده كافيا وافيا، وربما لم يحصل عليه مجتهدو العصر الأول إلا بعد عناء كثير، وزمن ليس بيسير. ولو أنه كان متيسرا لكل مجتهد، لقل الخلاف، ولم يبق كثير من الاعتساف، ولا يستهان بـ"بلوغ المرام" وشرحه "نيل الأوطار" للشوكاني، فهناك غاية وطر المجتهد، إلى ذلك من الكتب التي طبعت وسهل تناولها، وجزى الله السادات الهنود خيرا، فقد اعتنوا بكتب السنة وطبعوها وأتقنوا كثيرا منها، ثم المصريين، فلهم جميعا على السنة اليد البيضاء، والمنقبة العصماء، ومن تلك الكتب ما كرر طبعه بمصر والهند وأوربا. وإني لآسف لكون المغرب لم يعتن بطبع كتب الحديث، ولمستشرقي أوروبا فضل في الطباعة معروف في كتب السنة لم يكن مثله للمغرب، وقد كان الواجب أن يضرب بسهم مصيب، وإنما اعتنى بكتب الفروع ونحوها من علوم الآلة، ولم يتقنها، ونسأل الله أن يفتح البصائر.
ومن الكتب التي تعين على الاجتهاد جدا أحكام ابن العربي في تفسير وآيات الأحكام الفقهية من القرآن العظيم، وأحكام الجصاص الحنفي، وتفسير ابن جرير الطبري، ونهاية ابن الأثير، وكتاب "بداية المجتهد" لابن رشد الحفيد،(2/500)
وكتاب "القاموس المحيط" في اللغة وشرحه و"أساس البلاغة" للزمخشري و"فتح الباري" على صحيح البخاري، فهو من مواد الاجتهاد المعتبرة، وكتاب "المنتقى" للباجي الذي يرشد إلى طريق الاجتهاد والتعليل والقوادج وغير ذلك، وكتاب "إعلام الموقعين" لابن قيم الجوزية من أحسن ما يدرب على الاجتهاد، ويوضح طريق الرشاد لولا ما فيه من التحامل على الحنفية والأشعرية، وقد صرح الإمام الغزالي بأن سنن أبي داود السجستاني كافية للمجتهد، مغنية عن غيرها، نقله أول شرح المشكاة لابن سلطان القاري ومن كتب هذا الشأن كتاب "التحقيق" في أحاديث التعليق لابن الجوزي الذي اشترط فيه على نفسه أن يخرج ما ذكره فقهاء المذاهب تعليقا من أحاديث الأحكام، ويتكلم عليها من غير تعصب لمذهب على مذهب، وكتاب "تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق" للحافظ شمس الدين أحمد بن عبد الهادي، فإنه مفيد جدا لمن يعني بأحاديث الأحكام فحص به كتاب التعليق، أبدى ما لابن الجوزي من الأوهام.
ثم لا بد للمجتهد أن يعرف الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، أما القرآن فتقدم لنا صدر الكتاب أنه لم يتعين النسخ إلا في بضعة عشر آية قد سلفت مبينة، ولابن حزم كتاب مطبوع في الناسخ والمنسوخ من القرآن، وأما السنة، فقال ابن القيم: إن النسخ الواقع في الأحاديث التي اجتمعت عليها الأمة لا تبلغ عشرة أحاديث البتة، بل ولا شطرها كما سبق، وهذا بحسب نظره ولا يخلو من المبالغة.
ولا بد للمجتهد أن يكون له معرفة بمواقع الإجماع لئلا يخرقه كما سبق، فيجب عليه معرفة الكتب المؤلفة فيه لأبي بكر الرازي وغيره وقد تقدم لنا كلام في هذا الموضوع عند الكلام على الإجماع فارجع إليه، ولم أعثر إلى الآن على شيء من كتب الإجماع مطبوعا، وكان الواجب الاعتناء بطبعها سواء "الإقناع في مسائل الإجماع" لأبي الحسن بن القطان، أو كتاب "الإجماع" لابن حزم، أو ابن عبد البر، أو ابن المنذر، وكل منهم ألف في ذلك. وقد حذروا من إجماعات ابن عبد البر نعم إن الإجماعات هي مفرقة في كتب الفقه غير أن الاطلاع على كتب(2/501)
الفقه ولا سيما الخلافيات قد لا يغني عن تلك الكتب، فالواجب على أهل العلم البحث عنها، وطبع المهم منها، والله الموفق سبحانه.
ولقد ظفرت بكتاب "الإشراف" لأبي المظفر الوزير يحيى بن هبيرة في خلافيات المذاهب الأربعة مجردة عن الأدلة، يأتي أولا بما هو متفق عليه من المسائل بين الأئمة الأربعة، ثم بما هو مختلف فيه، وهو أحسن ما ألف وألطف ما صنف في الباب، وسبقت لنا من جملة الحنابلة غير أنه لا يغني عن كتب الخلافيات بالأدلة، ولا عن كتب الإجماع.
ومن الكتب المهمة في هذا الباب "مصنف ابن أبي شيبة" فإن الفقه أحوج ما يكون إليه وقد طبع أجزاء منه في الهند. ومن الكتب المفيدة بكثرة فروعها وآثارها مدونة سحنون المعبر عنها عند المالكية بالأمهات، وقد طبعت بمصر سنة "1324" وكرر طبعها بها سنة "1325" مع جل مقدمات ابن رشد عليها والطبعة الأولى أتقن وربما كانت أصح.(2/502)
بحث مهم:
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": إذا كان عند الرجل كتاب حديث موثوق بما فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالصحيحين، فهل له أن يفتي بما فيه؟ فقيل: نعم، بل يتعين كما كان الصحابة يفعلون إذا بلغهم الحديث من غير توقف على رأي أحد، ولا بحث عن المعارض، وهكذا التابعون، وهذا معلوم بالضرورة لمن عرف أحوالهم، وقيل: لا يجوز له ذلك؛ لأنه قد يكون منسوخا أوله معارض والصواب التفصيل، فإن كانت دلالة الحديث ظاهرة بينه لكل أحد، فله أن يعمل، ويفتي به، ولا يطلب له تزكية من قول فقيه، بل الحجة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه وإن كانت دلالته خفية، لم يجز أن يعمل به حتى يسأل، ويتطلب بيان الحديث ووجهه، وإن كانت دلالته ظاهرة كالعام على أفراده، والأمر على الوجوب، والنهي على التحريم، خرج على الأصل وهو العمل بالظواهر قبل البحث عن المعارض، هذا كله إن كان ثم نوع أهلية، ولكنه قاصر(2/502)
في معرفة الفروع وقواعد الأصول والعربية، وإلا ففرضه ما قاله الله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 1. ا. هـ. بخ جزء أخير عدد 495.
وأكثر فقهاء الوقت يخالفه، ويقول: الحديث مضلة إلا للفقهاء يعني لأنهم أعرف بطرق الأخذ والاستنباط، وبالحديث السالم من التعليل والمعارض والنسخ وغير هذا مما هو مبسوط في محله من كتب الأصول، والحق أن من حصلت له ملكة في العربية والبيان والأصول، وكانت له فقاهة النفس، ومعرفة بمظان متون أحاديث الأحكام كالتي في "المشكاة" و"المصابيح" مثلا، ومعرفة بكتاب الله ناسخة ومنسوخة قادر على أن يستقل بفهمه وإدراك مرماه، محصل على شروط الاجتهاد السابقة، فالباب مفتوح لمثل هذا أن يجتهد لنفسه في أخذ الأحكام التي يحتاج إليها من غير أن يشوش على الناس، ولا أن يحملهم على ترك مذاهبهم التي هم آخذون بها، وبالله التوفيق.
أما القاصر عن ذلك كلا أو بعضا، فهو في عداد العوام، فعليه التقليد ولا يجوز له أن يفتي من نحو "الصحيحين" ولا من القرآن، فالتقليد له أسلم، وكيف يباح لمن كان قاصرا في العربية وقواعد الأصول أن يأخذ الأحكام من الكتاب أو السنة فخطؤه إن لم يكن قطعيا فهو مظنون والله أباح له التقليد بقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 1 فالصواب ما قال فقهاؤنا لابن القيم، والله أعلم.
__________
1 سورة النحل.(2/503)
هل كل مجتهد مصيب:
اعلم أن الأمة لها قولان قيل: إن كل مصيب في الفروع التي لا قاطع فيها، وهو قول ضعيف المدرك كما هو مبين في الأصول، وعليه فكل المجتهدين على هدى من ربهم، والقول الثاني: أن المصيب واحد، قال الشيخ أحمد بن مبارك اللمطي: قد اتفق أصحاب هذا القول على أنه غير معين، فما قاله السبكي في "الطبقات" من أن المصيب هو الشافعي مستدلا بدلائل لا تفيده ليس بصواب، بل مخالف للإجماع المنعقد على أن الصواب إما مع الكل، أو مع واحد بعينه.
نعم لكل أهل مذهب أن يرجحوا بما ينقدح في فكرهم من الدلائل، لكن لا يجزمون، ولا يخطئون غيرهم.
وأما عياض في "المدارك" فإنه ذهب في الترجيح لمذهب مالك بالوجوه التي بينها دون الجزم بصوابيه واحد، وتخطئة سواه، فهو خرق للإجماع بل ومخالف للمعقول؛ لأنه في المعنى كالوصف بالعصمة لشخص هو نفسه اعتراف بالخطأ في مسائل، فإن الشافعي له القول القديم الجديد، فأيهما أحق بالصواب. هذا مما لا معنى له على أن ترجيح إمام على إمام بحث فيه في "إعلام الموقعين" قائلا: إن هؤلاء الذين يرجحون مقلدون لا خبرة لهم بالأدلة، فكيف يتوصلون لمعرفة الراجح، ولو كانوا مجتهدين، ما ساغ لهم التقليد الذي يوجب عليهم الترجيح. وقد آل الأمر بأرباب المذاهب ذوي التعصب المذهبي إلى تنقيص الأئمة، وخرجوا من دائرة الترجيح إلى الهمز واللمز، وذلك كله تعصب ذميم، ولعل هذا هو سبب ما وقع للسبكي في جانب الإمام تقي الدين ابن تيمية الحنبلي حتى آل الأمر لتسجيله عليه بالكفر وسجنه حتى مات سجينا، كل ذلك سببه التعصب المذهبي مع أن كلا منهما إمام من أئمة المسلمين.(2/504)
اقتداء المذهب بعضهم ببعض
...
اقتداء المذاهب بعضهم ببعض:
كالحنفي يصلي وراء المالكي وبالعكس:
قال خليل: وجاز اقتداء بأعمى، ومخالف في الفروع، وحكى حذاق الأصوليين إجماع الأمة على هذا كما قال المازري، ونقله في التوضيح ونحوه في "إيضاح المسالك" للونشريسي، ونظر ابن عبد السلام فيه بوجود الخلاف عند الشافعية، وقد فصل السبكي منهم، فقال: يجوز الاقتداء بالمخالف ما لم يعلم أنه ترك واجبا في اعتقاد الإمام أو المأموم فتبطل.
انظر ترجمة الشيخ علي السبكي في الجزء السادس من "الطبقات" والقول بالبطلان مما تمجه الأسماع، فإن الصحابة كان بينهم اختلاف معلوم، وكان بعضهم يقتدي ببعض وهكذا من تبعهم على أن الجواز عند المالكية هو مع مرجوحية، وما كان أحسن أن لا يقال بهذه المرجوحية؛ إذ المطلوب إزالة النفرة بين الأمة، وأبي الله إلا ما أراد.
سئل الشافعي: لم جاز أن يصلي المالكي وراء الشافعي وبالعكس وإن اختلفا في كثير من الفروع. ولم يجز أن يقلد مجتهد غيره في القبلة وفي الأواني، فلم يجب، وأجاب عز الدين بأن الجماعة مطلوبة للشارع، والمنع عن الاقتداء بالمخالف في الفروع يؤدي لتعطيل جماعات بخلاف الاختلافات في القبلة والأواني فهو نادر نقله شارح "اليواقيت الثمينة" على أن الشافعي يوجب البسملة والمالكي يقول بالكراهية، ولكن يقرؤها تحريا والحنفي يقول بعدم الوضوء من مس الذكر، ولا يفعله تحريا وخروجا من الخلاف، ولا يوجب نية في الوضوء، والمالكي يجزم ببطلان صلاة من مس ذكره أو توضأ بغير نية، والحنفي يقول(2/505)
ببطلان صلاة من احتجم ولم يتوضأ، والمالكي والشافعي يريان صحتها، والحنفي يشرب النبيذ، والمالكي والحنبلي يحدونه بشربه، بل الأول لا يقبل شهادة شاربه ولو حنفيا، وكان أبو حنيفة يقول بحليتها تسننا، ولا يشربها تزهدا.
على أن مثل هذه الفروع هي التي أوجبت النفرة حتى قال ربيعة: كأن النبي الذي بعث في الحجاز غير الذي يتبعه أهل العراق كما سبق. قال سند: إنما صحب صلاة المذاهب المختلفة، لكونهم يتحرون فيخرجون من الخلاف، فالشافعي يمسح جميع رأسه، وإن لم يوجب إلا مسح شعرة واحدة، والحنفي يقرأ الفاتحة في كل ركعة وأن لم يوجبها إلا في واحدة1 وعندي أن هذا جواب بعيد، فإن الخروج من الخلاف نفسه إنما هو مستحب، ولهم أن يفعلوا.
والقول بمراعاة الخلاف عابه جماعة من الفقهاء اللخمي وعياض وغيرهما كما في "إيضاح المسالك" على أن يفعل واجبا ولم ينو الوجوب قد اختلف في أجزائه وعدمه، وتعصب أصحاب المذاهب معلوم ما وصل إليه، فهم يتعمدون خلاف المخالف، ولا يتحرى الخروج من الخلاف الورعون، وقليل ما هم، فالصواب صحة الصلاة مطلقا.
وأما قول ابن القاسم: لو علمت أن واحدا يترك القراءة في الأخيرتين، ما صليت وراءه، فهو مقابل، ثم المسألة مبسوطة في الفوق "76" عند القرافي، وزادها بسطا العياشي في العدد 270 من ج2 في رحلته، وحصلت فيها أربعة أقوال، وليتها كانت قولا واحدا، وهو ما حكى المازري عليه الإجماع.
وقال العياشي: إنه الأقرب، كان الأمير محمود بن سبكتكين حنفي المذهب، وانتقل إلى مذهب الشافعية لما صلى القفال بين يديه صلاة لا يجوز الشافعي دونها، وصلاة لا يجوز أبو حنيفة دونها، وقد ساق الحكاية القفال في فتاويه، وحكاها بعده إمام الحرمين وغيره كما في "الطبقات السبكي" في ترجمة
__________
1 الذي في كتب الحنفية أن قراءة الفاتحة واجبة في الركعتين الأولين من الفرض وفي جميع ركعات النفل والوتر، انظر "الدر المختار" وحاشيته "1/ 321، 323".(2/506)
محمود بن سبكتكين1.
ومن يطالع طبقات السبكي يعلم مقدار ما حصل في القرون الوسطى من التعصب للمذاهب حتى إن أبا المظفر السمعاني قال: إن سبب رجوعه عن مذهب الحنفية على طول مناظراته فيه ثلاثين سنة أنه رأى ربه في المنام، فقال له: عد إلينا أبا المظفر فاستيقظ، ورجع إلى مذهب الشافعية.
وانظر ترجمته تعلم مقدار التعصب المذهبي في تلك العصور، وتعلم أن قولهم خلاف العلماء رحمة لما كانت الأخلاق مهذبة في الصدر الأول زمن الصحابة ومن بعدهم كمالك وابن حنبل وأضرابهما لا في هذا الزمن الذي ظهر فيه التعصب فقد صار الخلاف فيه نقمة وسبب الفرقة، كما أشار العياشي في الرحلة قائلا: من طاف الحجاز والعراق والشام وديار المشرق، ونزلت به نازلة أو نوازل في دينه يأنف أن يسأل من هو شافعي، فيعمل عن جهل، أو يسأل عاميا مثله، فيقول: قد رأيت سيدي فلانا أفتى مثل ما وقع لك بكذا وكذا، فيعمل بقول ذلك العامي الذي لا علم له يميز به بين المماثلة والمخالفية، وهذا ضلال كبير. ا. هـ.
وكم من عالم في الشام وغيرها أريد توظيفه في بلد أهلها حنابلة في الفتوى مثلا، فيلزم أن ينتقل من مذهبه الأصلي كالشافعي، ويصير حنبليا كي يكون مفتيا مع أن هذا سهل لا بأس به، ولكنه من أدلة ما كان لهم من التعصب الذميم. وهناك بالمشرق أوقاف خاصة بالشافعية، وأخرى بالحنفية مثلا ومدارس لا ينال التدريس بها إلا من كان مقلدا لأحد المذاهب الأربعة ووظائف كذلك من قضاء وفتوى، فكان هذا العمل مما أوجب بقاء العلماء مقلدين ولو بلغوا درجة الاجتهاد، وقد أشار أبو زرعة العراقي في شرح "جمع الجوامع" إلى أن الإمام السبكي الكبير بلغ رتبة الاجتهاد وما منعه إلا شيء من ذلك، ولله در الشعراني إذ يقول: إن أعدى عدو للإمام المهدي عند خروجه هم الفقهاء؛ لأنهم مقلدون
__________
1 هذه الحكاية غير صحيحة من أصلها، ومحمود بن سبكتكين من فقهاء الحنفية وله تأليف في الفقه الحنفي منها التفريد وهو غاية الجودة وكثرة المسائل كذا في "الجواهر المضية" "2/ 157".(2/507)
يعتقدون الحق في أئمتهم قد انحصر، معتصبون لهم، وهو مجتهد، ووزراؤه مجتهدون وهو فرع ظريف ناشئ عن فكر لطيف، وإغاظة لقول بعض الحنفية إن الإمام المهدي يتمذهب بمذهبهم.
فانظر إلى هذه الهذيانات التي شغلت أفكار الأمة، وقد اقترح أبو سالم العياشي في رحلته أن لو اجتمعت لجنة من المذاهب الأربعة، وحررت كتابا لكل مذهب ببيان المشهور من أقواله تقليلا للخلاف، وأطال في ذلك الاقتراح، فانظره، ولكن ذلك زمان مضى بما فيه، وظهرت الأدلة واتضحت، تبين أن لكل وجهة، وفي كل متمسك، وما أبعد اتفاق المتفقهة أو اجتماع فكرهم حتى على ما هو المشهور عندهم، فالواجب علينا أن لا نسعى وراء توحيد المذاهب؛ لأنه أصعب شيء يعانيه المصلحون بل يجب أن نطرح التعصب، ونعتبر أن كل مذهب فيه صواب وخطأ لم يتعمده قائله، ولكن أداة إليه اجتهاده، ولم تتعين لنا ما هي مسائل الخطأ من الصواب في كل مذهب، وأن المخطئ معذور بالاجتهاد، مأجور على ما بذله من الجهود في إصابة روح التشريع واعتقاده صواب رأيه، ففي الصحيح عن عمرو بن العاص مرفوعا؛ "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد" 1 فلتطرح الأمة عنه التعصب، ولتكن مذهبا واحدا وهو اعتبار جميع المذاهب، والأخذ من كل مذهب بما يوافق الأدلة، ويناسب روح العصر، والوقت والحال والمكان والضرورة؛ لأن تقليد الضعيف عند الضرورة سائغ للجميع، ويروى "إن اختلاف الأمة رحمة" وإن كان الحديث ضعيفا2 فاختلاف مذاهب الفقهاء مفيد لنا إذا كنا نريد أن ننهض متمسكن بالشريعة غير متعصبين للمذاهب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والنهضة الحقيقية للأمة والفقه هي أن يوجد في الأمة فقهاء مستقلون في الفكر مجتهدون ويأخذون الأحكام من الكتاب والسنة رأسا، عارفين بهما معرفة كافية لكل خلاف وتقليد.
__________
1 أخرجه البخاري "13/ 368" في الاعتصام، ومسلم "1716" في الأقضية بلفظ "إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر".
2 أورده نصر المقدسي في كتاب "الحجة" ولم يذكر سنده ولا صحابيه والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند قال السبكي: وليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع.(2/508)
نقض حكم المجتهد:
من الأحكام الفقهية الأصولية التي أتعجب منها، ولا أعرف محملها قولهم كما في "جمع الجوامع" وغيره: إذا حكم حاكم مجتهد، فلا ينقض حكمه إلا إذا خالف نصا أو قياسا جليا، ونحوه لخليل، ويمثلون لذلك بأمثلة.
منها إذا حكم باستسعاء العبد1 فأقول في نفسي: كيف يمكن أن يعترف لنا مجتهد أنه خالف نصا في استسعاء العبد مع أنه في "الصحيحين" أبي داود والنسائي وغيرهما وإن كان بعضهم ادعى إدراجه من قول قتادة، لكنه مردود كما في "فتح الباري" عدد 114 من الجزء الخامس، فمن الذي خالف النص حينئذ، وكيف يمكن أن يعترف أنه خالف جلي القياس، وباب الاستحسان مفتوح، والمسائل التي خالف الحنفية والمالكية جلي القياس فيها للاستحسان مفتوح، والمسائل التي خالف الحنفية والمالكية جلي القياس فيها للاستحسان أكثر من أن تحصر، وقصير العلم ضيق الفكر هو الذي يعتقد أن أبطل حجة خصمه جازما أنه لا يمكن أن يأتي بحجة أو حجج غيرها والشريعة بحر زاخر، والأنظار ليس لها أول ولا آخر.
ومن القواعد الفقهية التي نص عليها ابن نجيم أن الاجتهاد لا ينقض بمثله، وقال الوانشريسي في "إيضاح المسالك": الظن هل ينقض بالظن أم لا، وعليه تغير الاجتهاد في الأواني والثياب والقبله والحكم والفتوى.
وقال ابن الحاجب في "المنتهى": لا ينقض الحكم في الاجتهادات منه ولا من غيره باتفاق للتسلسل، فتفوت مصلحة نصب الحاكم، وخالف ذلك في مختصره الفرعي، فحكى عن ابن القاسم الفسخ، وعن ابن الماجشون وسحنون لا يجوز فسخه وصوبه الأئمة. ثم قال الوانشريسي: ينقض حكم الحاكم إذا
__________
1 هو أن يكتسب المال ليتخلص به من الرق.(2/509)
خالف نصا صريحا أو إجماعا أو قياسا جليا أو القواعد. ا. هـ. بخ.
فتأمل ذلك فإن الحاكم إذا ثبت اجتهاده وعدالته، تعذر نقض حكمه بدعوى مخالفة ما ذكر؛ لأنه يؤدي إلى التسلسل ونقض ظن بمثله.
قال الخطيب في "المحصول": الدلائل السمعية لا تفيد اليقين إلا بنفي تسع احتمالات وما أظن ذلك بموجود نعم مراتب الظنون تقوى وتضعف. ا. هـ. نقله العياشي في رحلته عدد 274 ج2 ولم يقتصر ابن الحاجب في "المنتهى" على ما نقله صاحب الإيضاح، بل زاد بعده، وينقض إذا خالف قاطعا، وهذا الاستثناء لا بد منه، وكان الأولى بالعلماء أن يمضوا حكم المجتهد إذا ثبتت عدالته مطلقا اتفاقا إذا لم يخالف قاطعا وما سوى ذلك إنما هو فتح باب الجدال الذي لا يوجد له مصراع يسد به.
وإنما نعلم أن عمر قد نقض حكم أبي بكر في استرقاق سبي بني حنيفة، ولكن لنا أن نقول: إن ذلك كان لسياسية اقتضاها الحال كما أعتق المسلمون في حياته عليه السلام سبي هوازن استصلاحا لهم وليس نقضا لحكمه خلاف ما سبق لنا في عدد 41 و43 ج3 فمثل هذه الجزئية لا تنهض دليلا لمسألة توجب الشغب كهذه.
أما المقلد، فينقض حكمه، وتبطل فتواه مهما خالف نصوص مذهبه وعلى هذا عمل المشارق والمغارب في الزمن الحاضر، وعلى كل حال نقض حكم الحاكم المجتهد العدل، إذا خالف نصا، أو جلي قياس، أو إجماعا اختلف فيه، ورجح بناني في حاشية الزرقاني الفسخ مستدلا بأدلة واهية، وسلمها رهوني، والذي يظهر خلافه.
وما نسبه في إيضاح المسالك لابن الماجشون نسب بناني له خلافه وهو النقض، ونسب عدم النقض لابن عبد الحكم زاعما أنه تفرد به، وقد علمت عدم تفرده به، بل ليس من المعقول نقض أحكام الحنفية والشافعية والحنابلة المقلدين إذا خالفوا عمل أهل المدينة أو نصا أو جلي قياس في نظرنا، فالقول بالنقض قريب من الهذيان، والله أعلم.(2/510)
هل انقطع الاجتهاد أم لا، إمكانه، وجوده:
قال الإمام النووي في شرح "المهذب": إن الاجتهاد نوعان: مستقل وقد فقد من رأس المائة الرابعة، فلم يمكن وجوده، ومجتهد منتسب وهو باق إلى أن تأتي أشراط الساعة الكبرى، ولا يجوز انقاطعه شرعا لأنه فرض كفاية ومتى قصر أهل مصر حتى تركوه، أثموا كلهم، وعصوا بأسرهم، كما صرح به الماوردي والروياني والبغوي، وغيرهم. قال ابن الصلاح: والذي رأيته من كلام الأئمة مشعر بأنه لا يتأدى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد، والذي يظهر لي أنه يتأدى فرض الكفاية في الفتوى، وإن لم يتأد به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها الاستمداد في الفتوى. ا. هـ. نقله الألوسي في "جلاء العينين".
وفي "إعلام الموقعين"1 في الوجه الحادي والثمانين من أوجه الرد على المقلدين: إن المقلدين حكموا على الله قدرا وشرعا بالحكم الباطل جهارا، مخالفا لما أخبر به رسوله فأخلوا الأرض من القائمين لله بحجة، وقالوا: لم يبق في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدمة، فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر بن الهذيل، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد اللؤلئي، وهذا قول كثير من الحنفية، وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة، وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي والثوري، ووكيع بن الجراح، وابن المبارك، وقال طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي، واختلف المقلدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه، ويكون له وجه يفتي، ويحكم به ممن ليس كذلك، وجعلوهم ثلاث
__________
1 "2/ 256".(2/511)
مراتب: طائفة أصحاب وجوه كابن سريج والقفال وأبي حامد، وطائفة أصحاب احتمالات، كأبي المعالي، وطائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات كأبي حامد وغيره.
واختلفوا متى انسد باب الاجتهاد على أقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان، وعند هؤلاء أن الأرض قد خلت من قائم لله بحجة، ولم يبق فيها من يتكلم بالعلم، ولا يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب الله ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منها، ولا يقضي ويفتي بما فيها حتى يعرضه على قول مقلده ومتبوعه، فإن وافقه، حكم به، وإلا رده ولم يقبله. وهذه أقوال كما ترى قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض، والقول على الله بلا علم، وإبطال حججه، والزهد في كتابه وسنة رسوله، وتلقي الأحكام منهما مبلغها، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ويصدق قول رسوله أنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة1: "ولن تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به" 2 وأنه "لا يزال يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها" 3، ويكفي في فساد هذه الأقوال أن يقال لأربابها: فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد من ذكرتم، فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم؟ وكيف حرمتم على الرجل أن يختار ما يؤديه إليه اجتهاد من القول الموافق لكتاب الله وسنة نبيه، وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلدتموه، وأوجبتم على الأمة تقليده، وحرمتم تقليد من سواه؟ فما الذي سوغ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صحابي ويقال لكم: فإذا كان لا يسوغ الاختيار بعد المائتين عندك ولا عند غيرك من أين ساغ لك وأنت لم توجد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين أو من هو مثله من فقهاء الأمصار أو ممن جاء بعده، ويلزمك أن أشهب وابن الماجشون ومطرفا وأصبغ
__________
1 وهم ابن القيم رحمه الله هنا في نسبته إلى رسول الله، فإنه من قول علي رضي الله عنه، كما ذكره هو نفسه في "إعلام الموقعين" "4/ 12".
2 أخرجه مسلم "3/ 1524" في الإمارة من حديث معاوية مرفوعا بلفظ "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من ضلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون".
3 أخرجه أحمد وأبو داود وهو صحيح وقد تقدم.(2/512)
وسحنونا وابن المعذل وطبقتهم لما انسلخ آخر يوم من ذي الحجة سنة 200 واستهل محرم بعده سنة 201 حرم عليهم ما كان مطلقا لهم من الاختيار.
ويقال للآخرين: أليس من المصائب، وعجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد لمن ذكرتم من أئمتكم دون حفاظ الإسلام، وأعلم الأمة بكتاب الله وسنة نبيه، وأقوال أصحابه كأحمد بن حنبل والشافعي، وإسحاق والبخاري، وداود الظاهري ونظرائهم من سعة علمهم وورعهم، واتفاق الإسلام على احترامهم واعتبارهم، وأطال في ذلك فانظره.
وقال في "جمع الجوامع": ويجوز خلو الزمان عن مجتهد خلافا للحنابلة مطلقا، ولابن دقيق العيد، ما لم يتداع الزمان بتزلزل القواعد، فإن تداعى بأن أتت أشراط الساعة الكبرى، كطلوع الشمس من مغربها جاز الخلو عنه، والمختار لم يثبت وقوع الخلو عنه، وقيل: يقع دليل عدم الوقوع حديث "الصحيحين" بطرق: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله" 1، كما صرح بها في بعض الطرق، وقال البخاري: هم أهل العلم أي: لابتداء الحديث في بعض الطرق بقوله: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".
ويدل للوقوع حديث "الصحيحين" أيضا: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" هذا لفظ البخاري2، وفي مسلم حديث: "إن بين الساعة أياما يرفع فيها العلم، ويترك فيها الجهل" 3.
__________
1 أخرجه البخاري "1/ 150، 151" في العلم، ومسلم "1037"، "3/ 1524"، من حديث معاوية قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: $"من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" وأخرجه البخاري "13/ 249" ومسلم "1921" من حديث المغيرة، وأخرجه مسلم "1920" من حديث ثوبان.
2 "1/ 174، 175" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاس، وأخرجه مسلم "2673".
3 أخرجه مسلم "2672" من حديث عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري.(2/513)
ونحوه حديث البخاري: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل" 1، والمراد برفعه قبض أهله. ا. هـ. ممزوجا.
وبعدما حكى خليل في "التوضيح" القولين في جواز خلو الزمان عن مجتهد، قال: وهو عزيز الوجود في زماننا، وقد شهد المازري بانتفائه ببلاد المغرب في زمانه، فكيف بزماننا، وهو في زماننا أمكن لو أراد الله الهداية بنا؛ لأن الأحاديث والتفاسير قد دونت، وكان الرجل يرحل في طلب الحديث الواحد، لكن لا بد من قبض العلم. فإن قيل: يحتاج المجتهد أن يكون عالما بمواضع الإجماع والخلاف وهو متعذر في زماننا، لكثرة المذاهب وتشعبها، قيل: يكفيه أن يعلم أن المسألة ليست مجمعا عليها؛ لأن القصد أن يحترس عن مخالفة الإجماع وهو ممكن. ا. هـ. على نقل الاختصار في باب القضاء.
وفي رسالة "الإنصاف" ما نصه: وقد انقرض الاجتهاد المطلق المنتسب في مذهب أبي حنيفة بعد المائة الثالثة، وذلك لأنه لا يكون إلا محدثا جهيرا واشتغالهم بعلم الحديث قليل قديما وحديثا، وإنما كان فيهم المجتهدون في المذهب، وهذا الاجتهاد هو الذي أراده من قال: أدنى شروط المجتهد أن يحفظ "المبسوط" قال: وقل المجتهد المنتسب في المذهب المالكي وكل من كان منهم بهذه المنزلة، فلا يعد تفرده وجها في المذهب كأبي عمر بن عبد البر، والقاضي أبي بكر بن العربي. ا. هـ. قال مقيده: وليس كما قال فأمثال ابن العربي، وابن عبد البر عندنا كثير، بل أعظم منهم، كابن القاسم، وأشهب، وسحنون، وابن حبيب، ثم ابن أبي زيد، وابن اللباد، والقابسي، ثم ابن رشد، وابن يونس، واللخمي، والمازري، وعياض، وغيرهم ممن لا يحصى كثرة، وأقوالهم معدودة من وجوه المذهب المالكي، معمول بها معتمدة، ولو انفردوا، غير أن الإمام مالكا حصلت له شهرة طبقت العالم الإسلامي في وقته، ورفعت إليه الأسئلة من أطراف المعمور، وعمر عمرا طويلا، ففرع كثيرا، وتكلم في سبعين ألف مسألة أو أكثر. وقد تقدم في ترجمة أبي بكر بن
__________
1 أخرجه البخاري "1/ 162"، ومسلم "2671" كلاهما في العلم من حديث أنس ابن مالك.(2/514)
عبد الله المعيطي أنه جمع هو وأبو عمر الإشبيلي أقوال مالك وحده التي صدرت الفتوى عنه بها فكانت مائة جزء، ولذلك ملئت الدفاتر بما نقل عنه من الفقه بما كفى عن أقوال أتباعه في كثير من المسائل مما لم يرو عن الشافعي ولا ابن حنبل اللذين لم يعمرا كعمره، ولا حصل لهما من الشهرة ما حصل.
وقدمنا في ترجمة البيهقي من الشافعية أنه جمع أقوال الشافعي في إحدى عشرة مجلدة، فإذا نسبنا الفقه المروي عن الشافعي الذي هو أشهر فيه من ابن حنبل، كان نحو العشر من فقه مالك رحمهم الله، فكان يكفي من انتسب إليه أن يحفظ فتاويه مع أنه لهم اختيارات وإضرابا عن أقواله، فكم خالفه أشهب وابن القاسم، بل واللخمي والمازري كما في تراجمهم، وأقوالهم معدودة من المذهب، وكثيرا مما تتبع، ويترك نص الإمام لتبين حجتها، ورجحان دليلها، فلولا أن من بعدهم بلغ رتبة الاجتهاد ما رجحها وترك قول الإمام، والمتحصل مما تقدم أنهم لم يقطعوا بوجود المجتهد المطلق المستقل من رأس المائة الرابعة مع إمكان وجوده خلافا للنووي، وقال الحنابلة بعدم خلو الزمن منه إلى وقوع علامات قيام الساعة، أما المنتسب، ومجتهد المذهب، فقد علمت وجوده إلى المائة الثامنة، ويمكن وجوده، بل ووجود المجتهد المنتسب والمستقل الآن، لتوفر مواد الاجتهاد، والناس هم الناس، ولا مانع منه عقلا ولا شرعا بل يجب على علماء الأمة القيام بالاجتهاد المطلق المستقل؛ لأنه فرض كفاية كما قال ابن الصلاح وغيره، فأحرى مجتهد الفتوى.
قال الإمام السنوسي في شرح مسلم، عن أبي عبد الله بن الحاج: عجائب القرآن والحديث لا تنقضي إلى يوم القيامة، كل قرن لا بد أن يأخذ منها فوائد خصه الله بها لتكون بركة هذه الأمة إلى قيام الساعة، قال عليه السلام: "مثل أمتي كالمطر لا يُدرى أوله خيرا أو آخره" 1.
__________
1 حديث صحيح: أخرجه أحمد "3/ 130، 143" والترمذي "2873" عن أنس، وأخرجه أحمد "4/ 319" عن عمار بن ياسر، وصححه ابن حبان، وأخرجه أبو يعلى عن علي، والطبراني عن ابن عمر، وابن عمرو.(2/515)
وقال سيدنا علي كرم الله وجهه كما في الصحيح: "لم يترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، أو فهما أوتيه رجل مسلم"1 وقال الشيخ أبو مدين: للقرآن نزول وتنزيل، فأما النزول، فقد مضى، وأما التنزيل فباق إلى قيام الساعة وأما قوله:
لم يدع من مضى للذي غبر ... فضل علم سوى أخذه بالأثر
فإنها خيال شاعر ليست حجة عقلية ولا شرعية، أوجبها تأخر الأفكار الإسلامية وركونها للجمود، وقد قال فيه اليوسي في القانون: إنه لا أضر بالعلماء والمتعلمين منه، وتحجير لفضل الله الذي لم يوقت بزمان ولا مكان، ويقابلها قول الشاعر الذي صدقه الأوائل والأواخر:
كم ترك الأول للآخر
قال زروق في "قواعده" قاعدة: أن النظر للأزمنة والأشخاص لا من حيث أصل شرعي أمر جاهلي حيث قال الكفار: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} فرد الله عليهم بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} 2 وقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} فرد الله عليهم بقوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ} 3 فلزم النظر لعموم فضل الله من غير مبالاة بزمن ولا شخص إلا من حيث ما خصه الله به إلى آخر كلامه.
وقال أيضا: إذ حقق أصل العلم، وعرفت مواده، وجرت فروعه، ولاحت أصوله، كان الفهم مبذولا بين أهله، فليس المتقدم فيه بأولى من المتأخر، وإن كان له فضيلة السبق، فالعلم حاكم، ونظر المتأخرين أتم؛ لأنه زائد على المتقدم، والفتح من الله مأمول لكل أحد.
__________
1 أخرجه البخاري "1/ 182" في العلم: باب كتابة العلم، وانظر مسلم "1978"، "45" و"1370".
2 سورة الفرقان: 33.
3 سورة الزخرف "23، 24.(2/516)
وفي "التسهيل": وإذا كانت العلوم منحا إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر فهمه على كثير من المتقدمين، أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن حميد الأوصاف، وأشار إلى هذا المعنى في خطبة "القاموس" مستدلا بقول المبرة: ليس بقدم العهد يفضل القائل، ولا بحدثانه يهتضم المصيب ولكن يعطي كل ما يستحق.
وفي "المعيار" عن الإمام محمد بن أحمد بن مرزوق أنه كتب على قول عصريه الخطيب الغبريني التونسي: لم يكن بمغربنا هذا كله من القرن الخامس فضلا عن الثامن مجتهد في الأحكام الشرعية مستقل: ما نصه: أما الاجتهاد في الفروع المذهبية، فما خلت منه البلاد، ولا عدمته هذه الأمة، وهذا سبيلك يا سيدنا الخطيب ومن أجله تصدرت، وبه اشتهرت، ولولا النظر في ترجيح الأقوال، والتنبيه على مسالك التعليل، ومدارك الأدلة، وبيان تنزيل الفروع على الأصول، وإيضاح المشكل، وتقييد المهمل، ومقابلة بعض الأقوال ببعض، والنظر في تقوية قويها، وتضعيف ضعيفها لتعطلت الدروس، وخلت المدارس، وأي فائدة للمدارس غير هذا وتعليمه وإيضاحه للطالب ولو لم يكن وظيف إلا سرد الأحكام، ونقل الأقوال، لما افتقر إلى المدارس مفتقر، وهل يجري على تدريسك ولسانك صباحا مساء غير هذا بحثا وإلقاء.
إلى أن قال: وقد وقع البحث في هذه المسألة بين علماء الديار المصرية أيام مقامي بها كقاضي القضاة جلال الدين القزويني، وشمس الدين الأصبهاني الدمشقي، وتاج الدين التبريزي ونظرائهم من فحول العلماء، وكبار الأئمة وحفاظ المحدثين، فاتفق رأيهم على أن هذا القرن لم يخل من مجتهد، ولا نقطع بنفيه لاتساع أقطار الأرض، واختلاف أنظار العلماء، وما يصدر عنهم من التصانيف والاختيارات الدالة على ذلك. ولا يتوصل إلى القطع إلا بالاستقراء، واتفقوا على أن الإمام عز الدين بن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد بلغا هذه(2/517)
الدرجة، وذكر بعضهم أن ابن الزملكاني1 الدمشقي بلغ هذه الدرجة من أهل المائة الثامنة، وأثبتها والد الغبريني لأبي القاسم بن زيتون من أهل القرن السابع، وأثبتها بعض أشياخنا لأبي عبد الله بن شعيب، وابن أبي الدنيا، وأثبتها جماعة لناصر الدين أبي علي منصور بن أحمد المشذالي وغيرهم ومن رأى تآليفه وما يصدر عنه من الفتاوى والأجوبة في فنون متباينة، لم يبعد عنه إدراك هذه المرتبة. ويرحم الله بعض أئمتنا إذ يقول: نحن في زمان ثبت بالدليل الواضح فساده، ومن فساده جحد أهله الفضائل، لغلبة الحسد وعدم الإنصاف، فلا يعترف لصاحب هذه المرتبة بها ولو كانت حليته، ويرحم الله ناصر الدين بن المنير إذ يقول: فضل الله واسع، فمن زعم أنه محصور في بعض العصور، فقد حجر واسعا ورمي بالتكذيب، والليالي حبالى تلدن كل غريب.
وإذا تأملت ما نفاه الغبريني من الاجتهاد باستقلال مع ما أثبته ابن مرزوق من الاجتهاد المذهبي لم تجد بينهما خلافا وقد جنح الشيخ أحمد بن عبد السلام بناني في "الروض المعطار" إلى إثبات هذه المرتبة لسيدي عمر الفاسي، وسيدي العربي الفاسي، والشيخ الطيب بن كيران من أهل أوائل القرن الثالث عشر الفاسيين، وقد ادعاه بل الاجتهاد المستقل في القرن الماضي أيضا الإمام محمد الشوكاني اليمني الصنعاني، فتألب الزيدية ضده في اليمن، وعدوا إدعاءه خرقا لمذهبهم، ووقعت فتنة بينهم، ثم رجعوا وسلموا أذعنوا لما رأوا من علمه كما ذكر ذلك من ترجموه فيما طبع أول الجزء الأول من "نيل الأوطار".
وممن كان يحوم حوله العالم الهندي في القرن الماضي الأمير النواب سلطان بوهبال محمد صديق خان بهادر، وتقدمت لنا ترجمتهما، ويظهر لي أن ندرة المجتهدين أو عدمهم هو من الفتور الذي أصاب عموم الأمة في العلوم وغيرها، فإذا استيقظت من سباتها، وانجلى عنها كابوس الخمول، وتقدمت في مظاهر
__________
1 لعله محمد بن علي بن عبد الواحد بن الزملكاني الذي قال فيه الذهبي، أنه بقية المجتهدين، وتقدمت ترجمته في الشافعية "المؤلف".(2/518)
حياتها التي أجلها العلوم، وظهر فيها فطاحل علماء الدنيا من طبيعيات ورياضيات وفلسفة، وظهر المخترعون والمكتشفون والمبتكرون كالأمم الأوروبية والأمريكية الحية، عند ذلك يتنافس علماء الدين مع علماء الدنيا فيظهر المجتهدون.
وقد قدمنا أن الاستبداد ماح أو مضاد للاجتهاد وحرية الفكر إذ هي من دواعي الاجتهاد، ولا شك أن الأمم الإسلامية لا تشغل مقاما ساميا بين الأمم ما دامت ناقصة في هذه الميادين، وهي محتاجة لمجتهدين بإطلاق، عارفين بعلوم الاجتماع والحقوق يكون منهم أساطين لسن قوانين دنيوية طبق الشريعة المطهرة تناسب روح العصر، وتنطبق على الأحوال المتجددة والترقي العصري كما يوجد عند سائر الأمم لجان من الفطاحل المشرعين في مجالس النواب والشيوخ لهذا الغرض، كان مجلس شورى أبي بكر وعمر قدوة لهؤلاء، فلنسر رويدا في إحياء مآثر سلفنا الصالح رضي الله عنهم، ولا عبرة بأمة لم تعرف حقوقها فتحفظها ولم تأمن عامتها شر خاصتها فذهبت حقوقها، وضاعت ثروتها بين المرتشين والمداهنين، والله يقول لنا: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} 1 وما جعلنا خير أمة إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذه مسألة حياة أو موت، وهي واسعة الأكناف، وفي هذه الفذلكة مقنع، وقد أطلت في هذه المقام؛ لأن جل أهل العصر تمكن اليأس من قلوبهم، والجمود من أفكارهم، فيحيلون أن يأتي في الزمان مجتهد، ويظنون أن هناك شروطا لا تمكن، ولا يتصور مع فقدها وجوده. وقد وضعنا أمامكم شروطه، والمواد التي يمكن بها الاجتهاد، ومن وصف به من العلماء لتعلم أن هذه رتبة ممكنة متيسرة سهلة الآن أكثر مما قبل الآن، وإنما المفقود أمران:
الأول: عزيمة الطالب على إدراكها، فإذا عزم، ومرن نفسه على استقلال فكره، وشغله بتدبر كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وترك التمرن على كلام المتأخرين الجامدين، وجعل بدله التمرن على فهم الكتاب والسنة، وكلام أئمة الاجتهاد مثل مالك وأضرابه كما كان أهل القرون الأولى يفعلون إذ كانوا
__________
1 سورة النساء: 135.(2/519)
يتمرنون على فهم البخاري وتراجمه وأحاديثه، وأحاديث مسلم و"الموطأ" والأم" للشافعي، وفقه أبي حنيفة، ومسند أحمد، وأمثالهم، فإذا رجعنا لما كان عليه المجتهدون في كيفية تربية ملكاتهم صرنا مجتهدين مثلهم.
الأمر الثاني: رياضة النفوس على الأخلاق الفاضلة وترك السفاسف لتوجد الخصلة العزيزة وهي النزاهة التي تحصل بها الثقة العامة كما كانت حاصلة بالمجتهدين، فالذي فقد أو كاد هو الثقة وعليه فإنما يعز وجود شرط في الاقتداء لا في الاجتهاد وهو الأمانة التي تنشأ عنها الثقة.
أما شروط الاجتهاد، فليست بصعبة، ورأى بعضنا من علماء الوقت لا مانع من توفر تلك الشروط فيهم، وفضل الله غير محجر، بل يجب عليهم رفع همتهم والنهوض لإدراك هذه المرتبة، ونفض غبار الذل عن رءوس أهل العلم، وعليك أيها الناظر المتعطش أن تنظر ما كتبه في "إعلام الموقعين" مناظرة ثمينة على لساني مقلد ومجتهد وأدلتهما، فانظرها واستوعبها، ولا بد لترشد إلى الحق.
هذا وإن ما قدمته إنما هو الاجتهاد ليعمل الإنسان في خاصة نفسه، فإنه إذا تبين له الدليل، وجب عليه نبذ التقليد، أما الأحكام القضائية في الحقوق من بيع وطلاق وملك واستحقاق أو أي عقد كان، والإفتاء للغير فالصواب أن لا نشغل أنفسنا بالأماني والخيال، بل علينا النظر للحقائق الراهنة، واعتبار أحوال أهل زماننا الحاضرة وأن نربي رجال الاجتهاد للمستقبل، أما المعول عليه الآن فهو ما عليه الناس من التزام مذهب معين كمالك والشافعي أو غيرهما ممن ظهرت أمانته ومتانة أقواله، وحسن نظره، فلا معدل عن الراجح أو المشهور، أو ما به العمل لقلة الأمانة في الوقت الحاضر؛ إذ لو فتح باب الاجتهاد، لأطلقنا طغمة القضاة على كل تقييد ولاستباحوا أكثر مما ما استباحوا مما وهو واقع مشاهد.
لا سيما وباب الحيل قد فتح من قبل مع رقة الديانة، وذهاب الأمانة، ففي القرون الوسطى تحيلوا في إسقاط حد الزنى بالأم والخالة والعمة بأن يعقد عليهن زواجا، وفي إسقاط حد السرقة أن يدعي أن المسروق منه عبده، وأمثال هذا كثير(2/520)
فكيف بزمانا هذا الذي لم يبق من الدين إلا اسمه. ولقد رأينا الذين يريدون فتح باب الاجتهاد بالفعل من المتفقهين الآكالين للسحت أول ما يبحثون فيه من المسائل أنهم لم يجدوا نصا على نجاسة الخمر، ولا على حرمة شحم الخنزير، وربما زادوا بعره وشعره، ولم يجدوا نصا على حرمة مس المصحف للجنب، وأمثال هذه الفتاوى التي تظهر منها مقاصدهم الصبيانية، فلا معدل لنا عن قول ترجح بتحقيق أمانة قائله إلى قول من هو مشكوك فيه، ومن أين لنا حصول درجة الاجتهاد الآن مع كثرة الدعوى من أهل الجهل المركب، فالصواب والحق هو بقاء الناس على التقليد في الفتاوى وأحكام الدعاوي، بل زيادة التضييق فيه والضبط لتنضبط الحقوق إلا ما سبق في ترجمة جواز الخروج عن المذهب لضرورة أو مصلحة الأمة، أو في عمل الإنسان في نفسه والله المستعان.(2/521)
من أدرك رتبة الاجتهاد:
هل يجوز له أن يحكم أو يفتي بمذهب غيره إذا شرط عليه ذلك في عقد التولية:
الجواب: نعم على قول قوي، فإن قلت: إذا أدرك الإنسان رتبة الاجتهاد، وتبين له الدليل، فكيف يفتي بالتقليد؟ قلت: نعم يفتي به وفاء بشرط التولية لأن السلطان ما نصه إلا ليفتي أو يقضي بمذهب معين، وقد كان في الأندلس وأفريقيا علماء يفعلون ذلك، فإن المازري كان بالمرتبة العليا من الاجتهاد المذهبي، وطال عمره خمسا وثمانين سنة، وقال: لست أحمل الناس إلا على المشهور المعروف من مذهب مالك وأصحابه؛ لأن الورع قد قل، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم، ويتجاسر على الفتيا، ولو فتح لهم باب مخالفة المذاهب، لاتسع الخرق على الراقع وهتكوا حجاب هيبة المذهب، وهو من المفسدات التي لا خفاء بها. انظر "الموافقات" وهو مبني على سد الذرائع والمصالح المرسلة وكل ذلك من أصل مالك وتقدم لنا أن أحمد بن ميسر كان يخير المستفتي فيقول: مذهب أهل بلدنا كذا، ومذهبي كذا وكذا، ومذهبي كذا وكذا، وكان منذر بن سعيد البلوطي قاضي القضاة بقرطبة أيام الحكم المستنصر ظاهري المذهب، ولكن لا يقضي ولا يفتي إلا بمشهور مذهب مالك حسب الشرط الذي يشترطه الإمام في منشوره الذي يولي به القاضي بالأندلس، نص على ذلك في القسم الأول من "نفح الطيب" وأمثاله كثير. وقال القفال: لو أدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة، لقلت: مذهب الشافعي كذا، لكني أقول بقول أبي حنيفة؛ لأن السائل إنما(2/522)
يسألني عن مذهب الشافعي، فلا بد أن أعرفه أن الذي أفتيته به غير مذهبه.
وقال ابن تيمية: أكثر المستفتين لا يخطر بقلبه مذهب معين، وإنما يسأل عن الحكم، فلا يسع المفتي إلا الجواب بما يعتقده صوابا.
والتوفيق بين هذا وما قبله ظاهر، والخلاف في حال أن في المسألة خلافا منصوصا فيما إذا نصب الإمام قاضيا، وشرط عليه الحكم بمذهب ابن القاسم أو مالك مثلا، فقيل: العقد صحيح، والشرط صحيح، وقيل: الكل باطل، وقيل: الشرط باطل، والعقد صحيح، وعلى القول الأول عمل المسلمين مشرقا ومغربا. وأما قول ابن القيم في "إعلام الموقعين": ولو اشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه وتوليته، ومنهم من صحح التولية، وأبطل الشرط، فهو مذهب له. والذي عليه عمل مغربنا أنه يكتب في منشور تولية القاضي شرط أن يحكم بمشهور مذهب مالك أو ما به العمل. وذلك أخذوه عن عمل ملوك قرطبة والأمويين، وهو أخذ بسد الذرائع والمصالح المرسلة، وما دامت الأخلاق متأخرة، والمدارك جامدة والثقة مفقودة، فإبقاء الناس على ما هو عليه في القضاء أخذ بأخف الضررين وإن المفتي مثل القاضي سواء، والضرورة قد ألزمت به في وقتنا هذا إلى أن يجدد الله مجد الفقه، ويعيد شبابه باجتهاد الفقهاء وأمانتهم. ولئن خرجت عن الموضوع في بعض ما تقدم من الفصول، لكن العذر بين، وليس في تلك الفصول ما هو من الفضول، وكل ذلك لا يخلو من تصوير حال الفقه في هذه العصور أو مرشد لتجديده بعد الدثور.(2/523)
ذيل وتعقيبات للمؤلف
مدخل
...
ذيل وتعقيبات للمؤلف:
بما أني فتحت باب النقد على مصراعيه لمن ظهر له أن يبدي لي ملاحظة على الفكر السامي قبل تما طبعه عساني أتدارك هفواتي الكثيرة قبل طبع باب الطبع. لذلك أذيل هذه المجموع بإيراد أبحاث وردت على من بعض السادات الأعلام، وبعد كل بحث جوابه على سبيل الاختصار، تمثيلا للحالة الفقهية، والمناورات القلمية في إفريقيا الشمالية بالوقت الحاضر، وأورد لفظهم بحروفه، ولا ألتزم لفظ جوابي الخاص الذي أرسلته إليهم، فمنها أبحاث لبعض أعيان إخواني العلماء النحارير المشهورين بالتحقيق والفكر المنور الدقيق بالقطر التونسي حفظهم الله.(2/524)
البحث الأول:
ونصه: وقع في الصحفة 234 من الجزء الأول من "الفكر السامي" ما نصه: ووقعت حركة ثورية بسبب جعله يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه الولايات في بني أمية.
أرى أن هذا الكلام اختصر اختصارا قد يفهم منه بعض الضعفاء والذين تروج عليهم أقوال أهل الغايات والأحزاب من المؤرخين أن مستندات الناقمين على عثمان مستندات وجيهة مع أن في علمكم أنها أمور لفقها الطالبون للثورة، المتطلعون على الملك، المستطيلون عمر عثمان، الحاسدون له ولأهله على الخلافة من كل مسعر حرب كمالك الأشتر، وموقظ فتنة كالغافقي، وكائدي الإسلام كابن(2/524)
سبأ، ومثلكم قدوة لأهل العلم وعامة المسلمين، ونحن في زمان تسربت فيه إلى كثير من أبناء المسلمين عقائد الاستخفاف بالسلف، وبذلك يجر إلى ما وراءه، فأرى أن يعلق جنابكم على هذا الكلام تعليقا عند طبع آخر هذا التأليف، أو في أثناء بقية الكتاب عند وجود المناسبة يشرح به الأسباب شرحا حقيقيا، ويزيف فيه أقوال أهل الأغراض. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
إن الباحث لم يستوعب آخر كلامي، ونصه ما تقدم: وظهور بعض الظلم من بعضهم بغير شعور منه لكبر سنه إلى أن قلت: وحاصروه إلى أن قتلوه ظلما رحمه الله، فبعد هذا التصريح لم يبق محل للتوهم الذي أشار إليه الباحث، ولا يظهر شيء من التوهم أصلا وإيثاره لأقاربه لا يبيح لأضداده عزل خليفة عدل مثل عثمان عند أهل السنة فضلا عن قتله، وعثمان رضي الله عنه مجتهد عدل يخطئ ويصيب، وليس بمضمون له العصمة، والذين كانوا ضده فيهم صحابة مجتهدون عدول كعمار بن ياسر، وفيهم غوغاء ضواطرة من نوع ما بينتم، وضعف جل الأسباب التي استندوا إليها المذكورة عند المؤرخين لا شك فيه، والكل مبين في التواريخ المطولة، والأولى أن لا نميل لأحد الخصمين ولا عليه، ونمسك عما شجر بينهم، ونحترم أصحاب رسول الله بأقلامنا وقلوبنا. نعم تقرير ما أثبته كافة المؤرخين واجب، ولا سبيل لكتمه لئلا تضيع الأمانة، والله يتولى هدى الجميع.(2/525)
البحث الثاني:
قال: ووقع في صحيفة 226 ج1 حديث "الخلافة ثلاثون سنة" إلخ، وهو حديث في سنن الترمذي عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه أشار إلى تضعيفه بقوله بعده، قال أبو عيسى: وفي الباب عن عمر وعلي قالا: لم يعهد النبي صلى الله عليه وسلم في الخلافة شيئا، وهذا حديث حسن رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن جمهان. قلت: وسعيد بن جمهان مختلف فيه وثقه ابن معين وأبو داود وابن حبان والنسائي، وقال ابن أبي حاتم: هو شيخ لا يحتج به، فإذا ضم ذلك إلى انفراده بهذا الحديث مع توفر الدواعي على نقل مثله اتضح ضعف هذا الحديث. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
إن الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة1 ومنهم أبو داود، وسكت عنه وقد نص في رسالته لأهل مكة أنه إذا أخرج حديثا، وسكت عنه، فهو صالح للحجية بل صححه ابن حبان وغيره، وسلم تصحيحه الحافظ في فتح الباري سطر 21 صحيفة 82 ج13، وكفى بتسليم الحافظ حجة في صحة الحديث، وأما ما وهن به الباحث الحديث، فلا ينتج له ضعفه حتى لو لم يصححه الحافظ، فإن
__________
1 أخرجه أبو داود "4646" و"4647"، والترمذي "2227"، وأحمد "5/ 220" و"221"، والطحاوي في مشكل الآثار "4/ 313" وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان "1534، 1535"، والحاكم "3/ 71، 145"، ووافقه الإمام الذهبي، وسعيد بن جمهان وثقه غير واحد من الأئمة منهم الإمام أحمد وابن معين وأبو داود، وقال في التقريب: صدوق له أفراد وللحديث شاهد عند البيهقي في "دلائل النبوة" من حديث أبي بكرة الثقفي وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف الحفظ، وحديثه حسن في الشواهد.(2/526)
قول الترمذي: وفي الباب إلخ عادته أن يقوي بها الحديث، وقول عمر وعلي بعدم العهد لا ينافي مضمون الحديث الذي ليس فيه تعرض للعهد بالخلافة لأحد، والحديث مرفوع مضمنه إثبات وهو مقدم على النفي، وما قاله ابن أبي حاتم في سعيد لا يضره؛ لأنها جرحة غير مبنية، فلا تقبل إزاء العدد من أعلام الفن الذين وثقوه، سلمنا أنه مختلف فيه، فحديث المختلف فيه من قبيل الحسن، فيحتج به كما هو معلوم في فن المصطلح، وكم في "الصحيحين" من رجال اختلف فيهم، وأما انفراد سعيد فلا ضير فيه، إذ الغرابة لا تنافي الصحة كحديث: "إنما الأعمال بالنيات" 1 كما هو معلوم في فنه، وأما توفر الدواعي على نقله، فليس علة عند الجمهور، وقد أعل الحنفية به أحاديث كحديث: "من مس ذكره فليتوضأ" 2 ولم يقبل منهم عند الجمهور.
__________
1 فإنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر بن الخطاب ولا من عمر إلا علقمة بن وقاص، ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي واشتهر، فرواه جمع من الأئمة، فهو غريب في أوله مشهور في آخره.
2 حديث صحيح: أخرجه مالك "1/ 42"، وأحمد "6/ 406"، وأبو داود "181" والنسائي "1/ 100" وابن ماجه "479"، والترمذي "92" وقال: حديث حسن صحيح، وصححه غير واحد من الحفاظ، يحمل الأمر فيه على الندب لوجود العارف في حديث طلق بن علي الصحيح عند أحمد "4/ 22"، وأبي داود "182" والترمذي "85"، والنسائي "1/ 38" أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الرجل ذكره فقال: " هل هو إلا بضعة منه".(2/527)
البحث الثالث:
قال: وأما حديث: "إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة" إلخ فلم أقف عليه، ولا على مرتبته، ولعلهما من موضوعات العلويين تحقيرا للدولة الأموية، وشواهد الحال ظاهرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر الخلافة إلا رمزا في نحو حديث "رؤيا القلب"1 وفي
__________
1 أخرجه البخاري "7/ 32"، في المناقب من حديث ابن عمر.(2/527)
حديث "تجدين أبا بكر"1 ونحوهما. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
أتى في الصحيفة نفسها جـ1 قلت: خرجه الدارمي2 وقد أثنى الأئمة على كتابه جدا ونسبه في "المشكاة" للبيهقي في الشعب، وقال ابن سلطان شارحه: كان من حقه أن يخرجه في "دلائل النبوة" ومن البديهي أن أهل هذه الصناعة لا يحكمون على حديث بالوضع إلا عن بينة، وتحقير العلويين للأمويين، وكون الرسول لم يذكر الخلافة إلا رمزا في ظنكم لا يبيح الحكم عليه، ولا على حديث: "الخلافة ثلاثون" بالوضع حيث قلت: ولعلهما من موضوعات العلويين، ولقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حديث الخلافة صريحا في أحاديث صحيحة منها حديث: "إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة" أخرجه مسلم في صحيحه3، وأبو داود وغيرهما ونحوه في البخاري بلفظ: "يكون اثنا عشرا أميرا كلهم من
__________
1 أخرجه البخاري "7/ 16" في المناقب من حديث جبير بن مطعم قال أئت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن ترجع إليه، قال: أرأيت إن جئت ولم أجدك! كأنها تقول الموت، قال صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجديني فأتى أبا بكر".
2 لم يخرجه الدارمي، وإنما هو عند أبي داود الطيالسي في "مسنده" رقم "228"، من حديث ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولين سيء الحفظ، وباقي رجالة ثقات وفي حديث النعمان بن بشير عند أحمد "4/ 273"، وأبي داود الطيالسي "438": قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يتكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ... " وإسناده صحيح.
3 "1821" في الإمارة: باب الناس تبع لقريش.(2/528)
قريش" 1 وفيه أيضا: "إن هذا الأمر في قريش" انظر صفحة 101 ج13 من "فتح الباري".
__________
1 أخرجه البخاري "13/ 181" من حديث جابر بن سمرة.(2/529)
البحث الرابع:
قال: وفي صحيفة 270 ج1 ذكرتم إباية معاوية من الرجوع إلى قول أسيد في أمر السرقة1 وجعلتموه دليلا على استباحة معاوية، وقد كان في حمله على أنه رأى ما يوجد مخالفة ما رواه أسيد مندوحة هي اللائقة بجلال معاوية دينا وعلما وحرصا على الملة، فإن كثيرا من المجتهدين خالفوا الأحاديث لعلل كثيرة مذكورة في الأصول، ولعل معاوية استند للقياس، وهو مقدم على خبر الواحد عند كثير، منهم إمامنا مالك بن أنس رحمه الله وعليه فأمره لأسيد من باب القاضي يؤمر بأن يقضي بغير اجتهاده، والمسألة معروفة في الفقه، وقد بسطها المازري في شرح التلقين لعبد الوهاب، وللخليفة أن يولي القاضي على أن يقضي بقول فلان، كما اشترط الأندلسيون القضاء بقول مالك، وتقلد القضاة ذلك، ومنهم منذر بن سعيد وهو ظاهري، فكان لا يقضي إلا بقول مالك. ا. هـ. بحروفه.
__________
1 أخرجه عبد الرزاق في المصنف "18829" عن عكرمة بن خالد أن أسيد بن ظهير الأنصاري أخبره أنه كان عاملا على اليمامة وأن مروان كتب إليه إن معاوية كتب إلي: أيما رجل سرق منه سرقة، فهو أحق بها حيث وجدها، وقال: وكتب بذلك مروان إلي، فكتبت إلي مروان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بذلك بأنه إذا كان الذي ابتاعها من الذي سرقها غير متهم، يخير سيدها، فإن شاء أخذ الذي سرق منه بثمنه، وإن شاء اتبع سارقه، ثم قضي بذلك بعد أبو بكر وعمر وعثمان، قال: فبعث مروان بكتابي إلى معاوية، قال: فكتب معاوية إلى مروان، إنك لست أنت ولا أسيد بن ظهير بقاضيين علي، ولكني أقضي فيما وليت عليكما، فأنفذ لما أمرتك به فبعث مروان إلي بكتاب معاوية، فقلت: لا أقضي به ما وليت يعني بقول معاوية، وأخرجه أحمد "4/ 226"، والنسائي "2/ 233"، وإسناده صحيح وصححه الحاكم "2/ 36".(2/529)
وجوابه:
إن نسبتي الاستبداد لمعاوية معناه: أنه ترك مجلس الشورى الذي كان يجمعه أبو بكر وعمر إذا نزلت معضلة، كقضية السرقة هنا، وهذا الاستبداد كلمة إجماع من المؤرخين، وقد نسبوا ترك الشورى لعلي وعثمان قبله إلا في قليل من الأحوال، وكم من مستبد يكون عدلا، وكذلك كان هؤلاء السادة كلهم فلا ننقص أحدا منهم رضي الله عنهم أجمعين، والاستبداد اقتضاه اجتهاده أيضا وهو مخطئ فيه بلا شك، وخطأ المجتهد لا وزر عليه فيه، كما أخطأ في اجتهاده حيث اغتصب الخلافة، وهذا مصرح به عند أئمة السنة والمؤرخين، وأخطأ في قلبها من الخلافة إلى الملك والعصبية وفي استئثاره ببيت مال المسلمين وغير ذلك مما كان مبدأ للمصائب التي حدثت بعد، والتاريخ لا يحتشم من أحد بذكر أعماله، وكلهم عن اجتهاد.
وجماع القول: إن معاوية مجتهد عدل كبقية الصحابة يخطئ ويصيب، وانتقادي له في عدم العمل بحديث أسيد لا يخرج عن ذلك، وما يرد علي في ذلك وارد على أسيد نفسه الذي لم يطعه، والقياس الذي اعتذرتم به إذا كان في مقابلة النص كما هو في قضية أسيد، كان فاسد الوضع، فلا ينهض عذرا كما هو مقرر في الأصول، وقد بين الأئمة ذلك لما تكلموا على قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} 1 فإن الكفار قاسوا الربا على البيع؛ إذ الكل معاملة، فرد الله عليهم بأنه قياس في مقابلة النص.
وأما تقديم القياس على الحديث، فليس أصلا في مذهب مالك، وما وقع
__________
1 سورة البقرة: 275.(2/530)
للآمدي في "الأحكام" من نسبة ذلك له، فلا أسلمه، واغتر به القرافي في "التنقيح" كما غره بعض فروع في المذهب، كترك مالك للعمل بخيار بيع المجلس1 ونحوه، وليس بواضح، فمالك ترك حديث خيار مجلس لعمل المدينة الذي هو خبر جماعة عن جماعة، فهو أقوى من الحديث وليس فيه تقديم القياس على السنة النبوية أصلا، ومالك نفسه صرح في "الموطأ" بالعمل خلا فما وقع لكم في المراجعة الثانية من أنه قدم القياس، وكل فرع في المذهب أوهم ذلك لو حققته، لوجدت مالكا إما لم يقف على الحديث، ومن ذا الذي يحيط بالسنة، ولذلك يخالفه أصحابه فيرجعون للحديث وإما قدم العمل، أو ظاهر القرآن كـ "أكل كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير" 2 إذ ظاهر القرآن عنده مقدم على خبر الواحد الصريح الصحيح ما لم يعتضد بالعمل نعم مالك يخصص الحديث بالقياس بل وبالمصالح المرسلة، وكل ذلك بينته في الجزء الثاني لما تكلمت في ترجمته على أصول مذهبه، والفرق بين التقديم والتخصيص ظاهر.
وأما قول ابن العربي في "العواصم": يرد الأحاديث جماعة منهم مالك في مواضع تعارضها أصول الشرع. ا. هـ. فمراده بالأصول العمل، أو ظاهر القرآن على ما سبق لنا من التفصيل فيه، أما القياس فحاشا مالكا ولا أبا حنيفة أن يردا حديثا صحيحا عندهما سالما من العلة والمعارض الأقوى بالقياس الذي هو رأي لهما مع ما في القياس من احتمالات النقض والفساد المبنية في محلها من "أحكام الآمدي" وغيرها" لأنه يكون فاسد الوضع، وقد حكى الشافعي الإجماع على أن من استبانت له السنة لا يجوز له أن يتركها للرأي، وثبت عن أبي حنيفة أنه عمل
__________
1 أخرج مالك في الموطأ "2/ 671"، والبخاري "4/ 276"، ومسلم "1531" عن عبد الله عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار".
2 أخرجه مسلم في صحيحه "1934" في الصيد والذبائح من حديث ابن عباس، وأخرجه أيضا "1933" من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ "كل ذي ناب من السباع، فأكله حرام" وأخرجه البخاري في الذبائح باب أكل كل ذي ناب من السباع، ومسلم "1932" من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع.(2/531)
بحديث أبي هريرة في الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا1 وقال: لولا الرواية، لقلت بالقياس.
والمحققون من الحنفية أن خبر الواحد عندهم مقدم على القياس، وأنكروا على من نقل عنهم خلاف هذا القول انظر عدد 26 من رسالة "الإنصاف" لولي الله الدهلوي وهذا ما أعتقده في أئمة الإسلام.
وأما قول الباحث: إن أمره لأسيد من باب القاضي يؤمر بأن يقضي بغير اجتهاده، فليس ذلك كذلك بل أمر معاوية لأسيد أمر له بأن يحكم بخلاف ما رواه عن الرسول الله عليه السلام ولذلك لم يقبله منه ولا أطاعه فيه، وما كان أسيد ليخفى عليه واجب الطاعة لو كان له اجتهاد في المسألة فلا نشك أنه كان يترك اجتهاده لاجتهاد الخليفة المطاع.
وأما تولية القاضي لي حكم بقول فلان، فليست مسألة اتفاق، بل فيها أقوال ثلاثة، وتقدمت لنا قريبا في أبواب التقليد، وأما قولكم كما اشترط الأندلسيون القضاء بقول مالك إلخ. فالذي في "نفح الطيب" الذي هو عمدة تواريخ الأندلس في الوقت الحاضر عن أبي الوليد الشقندي هو ما نصه: إن أهل قرطبة لا يولون حاكما إلا بشرط ألا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم. ا. هـ. منه عدد 145 ج2 طبع أوروبا فانظره.(2/532)
البحث الخامس:
قال في صحيفة 276 سطر 3 ج1: ما ذكرتم من سب معاوية عليا رضي الله عنهما إن كان ذلك ثابتا، فهو أمر ليس بمستغرب؛ إذ السب أقل خطبا من التقاتل
__________
1 أخرجه البخاري "4/ 135"، ومسلم "1155"، والترمذي "721"، وأبو داود "2398" من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه".(2/532)
واستحلال الدماء، وجميع ذلك ناشئ عن اعتقاد كل فريق أن مخالفة على الباطل، وأنه مخالف لأحكام الدين، وجالب الضرر على المسلمين. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
إن سب معاوية عليا في صحيح مسلم1 رأيناه، ورويناه كما في الصفحة 54 نفسها من ج2 من "الفكر السامي" وقد أطبق عليه المؤرخون ابن جرير الطبري وغيره، ووقوعه من إمام عظيم مثل معاوية مستغرب، والشبهة التي استند إليها في هذا الاجتهاد أغرب وأغرب لا سيما بعد موت علي، وتنازل ولده عن الخلافة، زد على ذلك إشهار السب على المنابر، وقرابته يسمعون فأي سياسة تسوغه، وأي شبهة تبرره؛ لأنه سباب مسلم قد مات زيادة عن صحبته وقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، بل هذا من أقبح ما يستبشع في الدين الحنيفة المتمم لمكارم الأخلاق فأين هذا من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} 2 الآية وأنت تعلم ما استنبطه مالك من منع الساب من الفيء، وإنما الذي يهون المسألة بعض الشيء وقوع السب من رجل عظيم لمثله وله شبهة خفيت عنا، ومع هذا فإن استغرابي له كأنه اعتذار عن معاوية المشهور بدهائه السياسي، وفضائله الكثيرة وحلمه، وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة. فقد روى البخاري في صحيحه3 في باب ما قيل في قتال الروم من كتاب الجهاد عن أم حرام بنت ملحان أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا" الحديث ومعاوية أمير أول جيش غزا في البحر زمن عثمان، فقد أوجب، ولكن النقد لا يستلزم النقص، وقد قبل عند الكافة الانتقادات الفقهية في الأمور الاجتهادية ولو على أبي بكر وعمر، فكيف بالسياسة وكل يعلن أن لمعاوية أغلاط وله حسنات، وإنما هو التاريخ يقرر على وجهه، ولا أرى في تقرير المعلوم المحقق محذورا.
__________
1 هو في صحيحه "2404" في فضائل الصحابة من حديث سعد.
2 سورة الحشر: 10.
3 "6/ 74" بشرح الفتح.(2/533)
البحث السادس:
قال وفي سطر 26 يعني من صحيفة 276 ج1 في جعل معاوية الخلافة وراثية: أرى لمعاوية في ذلك نظرا سديدا، وذلك أن العهد من الخليفة مشروع بفعل أبي بكر، ففي كون المعهود له ابن العاهد، ولعله رأى أن حالة العرب تبدلت عما عهد منهم في زمن النبوة، والخلفاء وراءهم قد تمكن منهم النزوع إلى العصبيات، فخشي إن هو لم يعهد لابنه أن تتفرق الأمة من بعده وهو الظن بسياسته ونصحه ولو علم غير ذلك لما عرض ابنه لمنصب لا يأمن دوامه، ولابن العربي في "العواصم" كلام نفيس في هذا الغرض. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
إن تبرير معاوية في نصبه ولده خليفة المسلمين الذي قال كثير من الأئمة بتضليله ذلك رأي لبعض أهل العلم لا أشاطره إياه، وأرى لو ترك الاختيار لأهل الاختيار كما فعل النبي المختار، أو نصبه عن شورى، وأنى يمكنه ذلك وفي القوم عبد الله بن عمر، وابن الزبير، والحسين، وأمثالهم، وأي عذر حقيقي لإمام مثله في تقديم مصلحة شخصية على الشورى التي هي سنة الإسلام فهلا وسعه ما وسع أبا بكر حيث ترك ابنه، وكان أكثر من يزيد أهلية إلى ما فيه جمع الكلمة والمصلحة الحقيقية، وعمر ترك ابنه، بل ترك ابن عمه سعيد بن زيد أحد العشرة وجعلها شورى بين ستة، وأخرج سعيد وهو أحق الناس بالشورى مخافة أن تصيبه الشورى، فيقال: إن عمر جعلها لابن عمه وأسس بيتا للمسلمين، وهكذا علي لما طعن لم يعهد لولده الحسن، بل ترك الأمر للمسلمين، والحقائق التاريخية(2/534)
الناصعة، وليس في الحق هوادة على أنه بعدما عهد ليزيد انعقدت بيعته بالعهد، فصار خليفة شرعا ولا إشكال على مقتضى الأصل الشرعي الذي أسسه أبو بكر بعهده لعمر وانعقد الإجماع على قبوله، وهذا ملحظ ابن العربي في "العواصم" حتى نسب إليه أنه قال في الحسين إنه قتل بسيف جده، لكن لسيدنا الحسين اجتهاد رضي الله عنه؛ إذ رأى أنه حيث دعاه معاوية للبيعة ولم يبايع، وتركه، ولم يلزمه، فهو في حل من ذلك العهد، ولذلك حارب يزيدا، وإلا فكثيرا من مشايخنا كان لا يرتضي مقالة ابن العربي مع أنه مسبوق بها على أن العهد الذي عهده أبو بكر لا يقاس عليه عهد معاوية وأمثاله حتى يكون إلزاما للأمة فإن أبا بكر كان يعلم علم يقين، أن أحق الناس بها بعده عمر، ويعلم من المسلمين رضاهم به إذ شاورهم بذلك سرا، وترك قرابته من بني تيم كطلحة بن عبد الله، وترك ولده، وجعلها لبعيد منه في النسب قريب منه في الرتبة والأهلية، وهذه قضية جزئية لها خصوصيات احتفت بها لا تنتج أمرا كليا وهو إلزام جميع أمم الإسلام بكل عهد عهده خليفة ولو كان المعهود له ابنا.(2/535)
البحث السابع:
قال: وفي صحيفة 292 ج1 ومذهبه أي سعيد بن المسيب أصل مذهب مالك أن سعيدا من جملة شيوخ مالك مثل محمد بن شهاب الزهري وغيره من فقهاء المدينة، ومالك يوافقهم ويخالفهم، ويزن أقوالهم بحسب دلائل الاجتهاد، وأن أصول مذهب مالك معروفة في كتب أصول الفقه، والأصول القريبة، ولم يعدو فيها قول فقهاء التابعين، ولا يخفى عليكم أن الاجتهاد ينافي اتباع قول آخر. ا. هـ. بحروفه.(2/535)
وجوابه:
إن معنى كونه أصله أنه وافق اجتهاده في كثير من المسائل، ولم أقصد أنه من أصول مذهبه، فإن ذكرتها في ترجمته، ولم أذكر مذهب سعيد منها كما أن مذهب سعيد مقتبس عن مذهب زيد بن ثابت، وعمر بن الخطاب، وابنه وأبي هريرة وغيرهم من أعلام الصحابة المدنيين، بل لا غرابة في تقليد مالك لسعيد في بعض المسائل بناء على أن الاجتهاد يتجزأ، وهو الصحيح، ولا في تقليد سعيد لمن قبله، وهل أخذ مالك بمذهب الصحابي وبعمل المدينة في الاجتهادات إلا نوع من التقليد، وأول من يدخل فيهم سعيد؛ لأنه رأسهم وسيد فقهائهم من التابعين، والعبارة هي لغيري قالوا: إن أصل مذهبه مذهبه، وقال ابن المديني: كان مالك يذهب إلى قول سليمان بن يسار، وسليمان يذهب إلى قول عمر بن الخطاب.
وأما كون ابن المسيب شيخا لمالك، فهو غير ممكن؛ لأن ولاده مالك في السنة التي توفي فيها أو التي بعدها، كما هو مبين في ترجمتيهما من الفكر السامي الذي وقع التعليق عليه، لكن الشيخ بين في مراجعته الثانية أنه وقع في ذلك غلط للكاتب وأن صواب العبارة هكذا هو من علية شيوخ شيوخ مالك، والأمر سهل، ومثل الشيخ بعيد عن مثل هذا الغلط حفظه الله وأمتع المسلمين بأنفاسه.(2/536)
البحث الثامن:
قال: من صحيفة 335 ج1 إلى صحيفة 339 عند ذكر أول من دون الفقه والحديث: أرى أن أول من دون الفقه والحديث والتفسير في مدون مقصود منه عموم الناس هو الإمام مالك بن أنس رحمه الله في موطئه، كما يدل لذلك طلب أبي جعفر المنصور، ثم عزمه على الأمر باتباعه في أمصار الإسلام، وأن ما كتبه(2/536)
قبل ذلك أبو بكر عمرو بن حزم، وابن شهاب، والربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة، فإنما هي تقاليد قيدوها لأنفسهم، أو لأفراد سألوهم، فلا تعد تآليف ألا ترى أنهم لم ينشروها، وإن شئت أمثال هذه التقاييد، فقديما ما قيد الصحابة أشياء، فهذا عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب كانا يقيدان كل ما سمعاه من قول النبي صلى الله عليه وسلم في مصحفيهما، ومثل هذا يقال فيما ألف زمن مالك.
أما الفقه الأكبر المنسوب لأبي حنيفة رحمه الله المؤلف في الفقه، فقد ذكر جنابكم ما في نسبته، وأما المؤلف في العقائد على صورة عقيدة ففي نسبته إليك شك، والحنفية ينكرون منه مسائل، منها مسألة إثبات كفر أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم، وحسبك بهذا دليلا على أنه لم ينقل عنه بسند صحيح، فيتطرق الشك في أصول تأليفه. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
بتسليم كون أول من دون تدوينا معتبرا في الفقه والحديث والتفسير وانتشر تواترا، وحصل النفع به هو مالك، وذلك ما تفصح عنه الصفحة 335 وما بعدها من الجزء الأول من "الفكر السامي" وقد حكى ذلك في "كشف الظنون" عمن قبلنا من أهل العلم ونقلته هناك، وأما إنكار كون ما ألفه أهل عصره تواليف، وإنما هم قيدوها لأنفسهم، ولم ينشروها، فهذا لا يساعده ما نقلناه في عدد 337 عن الترمذي، و"قوت القلوب" وغيرهما، وكيف ننكر جامع سفيان الثوري، وجامع ابن عيينة، وصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المنشورة في الأمة، والمنقولة عن الأئمة بأسانيد صحيحة لا نشك أنا وأنت في ذلك وغيرها وغيرها، وقال الزهري: لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني، نقله عنه الحافظ أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمداني أول كتابه "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" وهل ملأ البخاري صحيحه إلا من "الموطأ" ومسندي السفيانين، ومصنف عبد الرزاق، ومسند ابن أبي شيبة، وكذا أبو داود منها، ومن صحيفة عمرو بن(2/537)
شعيب وغيرهم، ولم تكن خاصة بأنفسهم، بل نشروها في عموم الناس، فانتفعوا بها إلا أنها لم تبلغ مبلغ موطأ مالك فيما بيناه من المزايا والانتشار التواتري.(2/538)
البحث التاسع:
قال: وفي صحيفة 339 ج1 في إدراك أبي حنيفة للصحابة أرى أن جنابكم لم يعط تلك النقول الضعيفة ما تستحقه من التزييف، وكيف يترك كلام أئمة الحديث وأهل العلم بالرجال إلى كلام شذوذ من المتأخرين الذين يحسبون أن الرجل الكامل لا يكون كاملا حتى يثبت له الكمال في كل شيء، وقد ثبت أنه لم يرو إلا سبعة عشر حديثا، فتأول بعض الحنفية ذلك بأن المراد سبعة عشر تأليفا في المسانيد، ومعلوم لفضيلتكم أن الكوفة لم تكن دار حديث، ولا نزلها من فقهاء الصحابة عدد له بال وقد شغلت في زمن الخليفة الرابع بما حولها من الحروب والفتن، ولو كان أبو حنيفة رحمه الله من رجال الحديث، لما ترك معاصروه الرواية عنه والرحلة إليه، وإلا لعد ذلك طعنا في عدالته أما ما لفقه له المتأخرون من المسانيد، فبصر جنابكم فيه حديد ولا أزيد. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
إني صدرت أولا بكونه لم يلق صحابيا، ونقلت عن ابن خلكان قوله: لم يثبت ذلك عند أهل النقل، لكني لم يسعني أن أترك ما أثبته الواقدي، والخطيب البغدادي حافظ المشرق، وعصريه ابن عبد البر حافظ المغرب، ثم الذهبي حافظ الشام، ثم السيوطي حافظ مصر، ثم محمد بن عبد الرحمن الفاسي حافظ المغرب في وقته، ومحمد بن سليمان الروداني حافظ الحرمين الشريفين والشام من لقيه لبعض الصحابة، أو رؤيته إياهم، أو روايته عنهم، ولا يخفاكم أن المثبت مقدم(2/538)
على النافي، وهؤلاء كلهم من أعيان المحدثين الحفاظ الكبار، وعلماء الرجال، فلا أرى بدا في أداء الأمانة من نقله، وأنتم تعلمون أن الإمام مسلما لم يشترط في صحة الحديث اللقي، واكتفى بالمعاصرة؛ لأنها مظنة اللقي، وأن معاصرة أبي حنيفة لبعض منهم لا شك فيها.
أما ما ذكر الشيخ رصد في تاريخ الأزهر من لقيه 21 صحابيا، فقد أعطيته ما يستحق بقولي وهو من عهدته، ولا أقدر أن أزيد، وأما قولكم: وقد ثبت أنه لم يرو إلا سبعة عشر حديثا، فدون ثبوت ذلك خرط القتاد كيف يقال: إن إماما يقتدي بأقواله نحو نصف الأمة الإسلامية لا يروي إلا هذا العدد، ولو كانت الإمامة تنال بهذا النزر من السنة، لسهل ادعاؤها على كل مدع، ولما استصعب الأئمة وجود المجتهد المطلق من آخر القرن الرابع؛ لأن الأصل الأول الذي ينبني عليه الاجتهاد هو الكتاب والسنة، والمجتهد لا بد أن يكون حافظا جهيرا للسنة كما قال الدهلوي في "عقد الجيد" ولو على سبيل الكمال، وبعيد كل البعد أن لا يكون أبو حنيفة نال هذا الكمال، واقتصر من رواية السنة على سبعة عشر حديثا ومع ذلك تبعه، وأخذ بمذهبه جمهور الأمة، وترك مذهب من يروي مئات الآلاف من السنة.
وعلى الإجمال فهذه المقالة التي حكاها ابن خلدون في "المقدمة" بلفظ: يقال ثم كر عليها بالإبطال، وقد أشرت لشيء من ذلك في الصفحة 123 ج2 وأرى أنها مجازفة لا ترتكز على حقيقة إلا لو ثبت أنه أخبر ذلك عن نفسه ومثلها قولهم: فلان يحفظ ألف ألف حديث. وانظر كم مدة تمكث في سرد صحيح البخاري الذي به نحو أربعة آلاف حديث بالمكرر وغيره، فأي زمن يكفي لحفظ هذا العدد، ثم لروايته ونشره وأصحاب المبالغات دائما بين إفراط وتفريط.
وأما قول الباحث: إن الكوفة لم تكن دار حديث، ولا نزلها من الصحابة عدد له بال، فهو غير محرر، ففي الصفحة 88 من الجزء الأول من "الفكر السامي" بينا أنها كانت في صدر الإسلام دار علم، وانتقل أعلام الصحابة إليها(2/539)
وإلى البصرة والشام أليس ابن مسعود الذي قال فيه عليه السلام: "اهتدوا بهدي ابن أم عبد" 1 انتقل إليها معلما وهاديا زمن عمر، ومكث بها إلى آخر خلافة عثمان. وكذلك عمار وأبو موسى، وسعد بن أبي وقاص، والمغيرة وحذيفة، ثم علي لما استخلف، وابن عباس وغيرهم، وقد مكث علي فيها أربع سنين وأشهرا.
قال ابن حزم: أجمعت الأئمة والمؤرخون أن من انتقل لأرض انتقال استقرار لم يرحل عنها رحيل ترك سكناها، نسب إليها فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة، صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة، نقله في "نفح الطيب" عدد 113 طبع أوروبا، وكفى بالكوفة شرفا باب مدينة العلم، وابن أم عبد وصاحب سر رسول الله، ومن ذكرنا معهم على أني أعلم أنها دون المدينة في ذلك كله حسبما قررته في الصفحة 89، وما بعدها. هب أنها لم تكن دار علم، فلا يلزم منه عدم معرفة أبي حنيفة بالحديث، ولا ينقص من قدره لإمكان أن يدركه بالرحلة، ويكون ذلك زيادة رفع، له وأما قول الباحث إن سبب عدم رواية الحديث عن أبي حنيفة هو عدم معرفته به، وإلا لزم الطعن في عدالته، فاللزوم في هذه القضية الشرطية ليس بعقلي ولا عادي ولا شرعي؛ إذ حصر ذلك بسببين: الجهل أو عدم الثقة لا يسلم أيضا فكم من حافظ ثقة لم تنتشر روايته لاشتغاله بغيرها، يمكن أن يكون أبو حنيفة اشتغل بالفقه وقصد له دون الحديث، وأنتم ذكرتم سببا ثالثا وهو أن الكوفة لم تكن دار علم على ما فيه، أو يكون هو نفسه يتحرى رواية الحديث تورعا كما كان يفعل الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم، كانوا ملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم، وحضروا المشاهد ولم يرو عنهم إلا اليسير بالنسبة لما روى غيرهم، ولم يلازمه ملازمتهم كأبي
__________
1 أخرجه الترمذي "3807" من حديث ابن مسعود بلفظ "وتمسكوا بهدي ابن مسعود" وفي سنده يحيى بن سلمة بن كهيل وهو ضعيف وروى الترمذي "93809" بسند صحيح، عن حذيفة قال: كان أقرب الناس هاديا ودلا وسمتا برسول الله ابن مسعود حتى توارى منا في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله زلفى، وأخرجه البخاري "7/ 80" في المناقب مختصرا ولفظه: ما أعرف أحدا أقرب سمت وهديا ودلا بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد.(2/540)
هريرة. كانوا يتحرون الرواية، وهذا عبد الله بن عمرو بن العاص كان أكثر ملازمة من أبي هريرة، ويكتب ما يسمع، وأبو هريرة كان لا يكتب، ولم يرو عنه ما روي عن أبي هريرة لاشتغاله بالسياسة وكان في مصر، ولم تقصد إذ ذاك لرواية الحديث.
وأجاب الباحث ثانيا عن جوابنا السابق بما نصه: أما رواية أبي حنيفة لسبعة عشر حديثا فقط، فهذه مسألة كفانا أئمة الحديث بسطها من البخاري فمن بعده، ومراد من قال ذلك إنما ينظر إلى رواية الصحيح المقبول، والسبب في ذلك أن أبا حنيفة كان يرى أن الأصل في المسلمين العدالة، ولذلك يرى قبول المستور وهو المجهول كما تقرر في الأصول. ومن هنا دخل الضعف في مروياته، وأدلة الفقه في المذهب الحنفي إلى اليوم تشتمل على أحاديث ضعيفة كثيرة1 بعدما أدخل الطحاوي حين تقلد المذهب الحنفي من التنقيحات لتلك الأدلة. وأما الإمامة التي نالها الإمام أبو حنيفة رحمه الله، فكانت بحسب نظره في الشريعة وبالقياس، وبما بلغه من الحديث قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
وأما دخول الصحابة الكوفة، فمسلم، لكن جمهرة الذين دخلوها منهم إنما كانت في عصر الشغل بالدولة وبالفتن حتى استقضى فيها شريح دون بقية الصحابة. ا. هـ. بحروفه ونكل للقارئ حرية النظر والتمحيص، ونقول: إن شريحا استقضي في خلافة عمر قبل الفتنة كما سبق لنا في ترجمته.
__________
1 بمراجعة كتاب نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للإمام الزيلعي وغيره من كتب التخريج يتبين لك تهافت هذه الدعوى.(2/541)
البحث العاشر:
قال في صحيفة 341: قلتم: أخرج له يعني أبي حنيفة النسائي في سننه والبخاري في جزء القراءة. أرجو الإفادة بنص هذين الموضعين لغرابتهما لأن المعروف عند أهل الحديث أنه لم يخرج عنه أهل الصحيح. ا. هـ.
وجوابه:
إن الذي نفى إخراج أهل الصحيح له هو عياض، والذي أثبت ما ذكرته في "الفكر السامي" هو الحافظ صفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري في كتابه "خلاصة تذهيب الكمال في أسماء الرجال" المطبوعة في المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق الطبعة الأولى سنة 1301 في العدد 402 صدر ترجمة أبي حنيفة حيث بدأه بهذه العلامات "تم ز س" فالعلامة الأولى وهي "تم" لشمائل الترمذي، والثانية "ز" للبخاري في جزء القراءة، والثالثة "س" للنسائي في السنن وهذا مستند ما في "الفكر السامي" لكن الباحث قال في مراجعته الثانية: إنه لم يقف على ما نسبته لخلاصة تذهيب التهذيب1 ولعل الذي بيده مطبعة أخرى على أنه لا مخالفة بين كلام عياض وغيره إذا حمل كلام عياض على صحيحي البخاري ومسلم.
__________
1 الذي في تهذيب التهذيب علامة "ت، س" وهما للترمذي والنسائي وفيه توثيقه رحمه الله عن غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، وقد عده الذهبي من الحفاظ في "تذكرته".(2/542)
البحث الحادي عشر:
قال: في الصفحة 356 قلتم: إن مذهب الحنفية أوسع المذاهب وأكثرها تسامحا على وجه الإجمال إلخ، وهذا حكم عسير يحتاج إلى موازنة في المذاهب في عداد المسائل، وأحسب أن التسامح والشدة حكمان مشاعان بين سائر المذاهب، وأمرهما لا ينضبط في آحاد المسائل.
ففي المذهب الحنفي الخيل: وعدم العمل بسد الذرائع، ومع ذلك ففيه شدة عظيمة في مسائل جمة من العبادات كنقض الوضوء من دم الجرح وعدم التطليق بالضرورة وبالإعسار بالنفقة، وعدم صحة المغارسة، وإبطال الشروط في البيع والنكاح مطلقا، وبأن طهارة الثوب والبقعة واجبة ولو مع النسيان، وقال بالفطر بالحجامة في رمضان1 وبصحة بيع المكره، وبمنع رهن المشاع، وبعدم صحة الوصية لغير الموجود.
وفي المذهب المالكي المصالح المرسلة: والتأويل الصحيح الراجع إلى التوسعة في الدين مثل تأويل حديث "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ولا يسم على سومه" 2 فإن تراكنا وتقاربا، قال مالك: ولو كان على ظاهره، لكان باب فساد يدخل على الناس، وفيه إبطال خيار المجلس لمنافاته الانضباط، وفيه العمل بقاعدة: تحدث للناس لأقضية بقدر ما أحدثوه من الفجور، فهذا باب عسير الضبط، وقد قال الحنفية بجواز انعقاد الحبس دون الحور، ومع ذلك منعوا شرط البيع لمن احتاج
__________
1 في كتب الحنفية أن الحجامة في رمضان لا تفطر الصائم، انظر الهداية "1ك 88" والدر المختار "2/ 17".
2 أخرجه مالك في الموطأ "2/ 683"، والبخاري "4/ 313"، ومسلم "1412" في البيوع: باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، وفي النكاح: باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه، وأبو داود "2080" والترمذي "1292" من حديث عبد الله بن عمر.(2/543)
حلافا للمالكية فيهما. فأتت ترى الشدة والتوسع مشاعين في هاتين المسألتين.
ثم إن السعة والتسامح يجريان في العبادات والمعاملات، فالعبادات يمكن أن يوصف الحكم المتعلق بتسامح أو ضده من حيث ما فيه من التخفيف على المكلف إلا أن هذا لا ينبغي استحسانه على الإطلاق؛ لأنه قد يبلغ التسامح أو ضده إلى حد يضيع مقصد الشريعة من إصلاح المكلف فإن التكليف إلزام ما فيه كلفة، والكلفة مقصود للشارع، هذا كما في قول الحنيفة بالاكتفاء بشاهدي عقد النكاح بحضورهما، ولو كانا نائمين.
فالاكتفاء بهما نائمين مقصد الشارع من تكميل حفظ الأنساب، وأما المعاملات، فالتسامح فيها إن تعلق بأصل المعاملة كإباحة بعض أجناس المعاملات لاحتياج الناس إليها مثل المغارسة في المذهب المالكي، وبيع الوفاء1 في المذهب الحنفي. فهو ظاهر، وإن تعلق التسامح بالبطلان والصحة في فروع الأبواب، فقد يقال: إن التسامح حينئذ غير معتبر؛ لأن التسامح المتعلق بأحد المتعاقدين تشديد على الآخرة. ا. هـ. بحروفه.
__________
1 صورته أن يبيع دارا أو أي عين بألف على أنه إذا رد عليه الثمن رد عليه الدار، وقد جاء في فتاوي النسفي فيما نقله عن ابن عابدين في حاشيته "4/ 257": البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالا للربا، وسموه بيع الوفاء، وهو رهن في الحقيقة لا يملكه ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه، وهو ضامنه لما أكل من ثمره، وأتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه لو يفي، ولا يضمن، الزيادة وللبائع استرداده إذا قضى دينه لا فرق عندنا بينه وبين الربا.(2/544)
وجوابه:
أرى أنه لا عسر على من شاء الموازنة أن يضع بين يديه بداية ابن رشد أو قوانين ابن جزي مثلا، ويوازن بين كثير من الأحكام في المذاهب في شتى الأبواب، فلا شك أنه يجد التسامح والشدة مشاعة بين المذاهب ما قلتم؛ لأن كل واحد أخذ حظه من الرخص والعزائم، ولكن إذا دقق النظر، وجد الأكثرية في جانب الحنفية على وجه الإجمال، سواء في الأبدان أو الأموال، لو شاء الحنفي المطلع ألا يؤدي زكاة لفعل لفتح باب الحيل، ولو شاء أن لا يقام عليه حد، لأمكن لأخذهم بدرء الحد بأدنى شبهة إلى أبعد نهاية حتى إنهم لا يجمعون بين حد السرقة وأداء المسروق لئلا يجمعوا على السارق مصيبتين.
وإذا نظرنا إلى أصول المذاهب الأربعة في الجزأين 2 و3 من الفكر السامي فإن نجد مذهب الحنفية بني على النظر إلى علل الأحكام وحكمها المقصود من التشريع أكثر من غيره، ولم يعتبر سد ذرائع الذي اعتبره المالكية والحنابلة، ورخص في الحيل للتخلص من المضايق وهي نوع من الترخيص والتوسعة المناسبة للتطور الكوني، ولم يتقيد بالجمود على ظاهر السمعيات، وألغى مفهوم المخالفة الذي هو نحو ربع السمعيات، وشدد في شروط العمل بخبر الواحد حيث اشترط فيه الشهرة وإن تساهل في حمل مجهول الحال، لا مجهول العين على الدالة، واشترط فيما يعارض القياس منه أن يكون الراوي فقيها على تفصيل وخلاف في ذلك، فيتسنى لنا الحكم بأنه أوسع المذاهب وأكثرها تسامحا على وجه الإجمال، وألينها في يد المفتي الذي يضطر لتغير الأحكام بتغير الأحوال فيجده أيسر انطباقا على الحاجيات الوقتية المتجددة في كثير من الفروع والأبواب، وعلى ناموس(2/545)
التغير بالرقي أو التأخر من جميع المذاهب على وجه الإجمال على أن قد قررت في الصفحة 356 والصفحة 358 وغيرهما أنه قد يكون أضيق المذاهب وأكثرها جمودا على الظاهر في بعض المسائل، وبينت أمثلة من ذلك بما يوافق بعض ما بسطتموه.
أما المصالح المرسلة التي اعتبرتموها من التوسعة، فقد تكون من المضيق في كثير من الأبواب، وأما إبطال خيار المجلس، فليس من التوسعة بإطلاق، بل الخيار أوسع، وكذلك العمل بقاعدة عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية ليس هو من التوسعة بإطلاق كما هو ظاهر.
وأجاب الباحث عن هذا حفظه الله في المراجعة الثانية:
فقال: أما ما ذكرتموه من سعة المذهب الحنفي، فهي بعد محل النظر وعلى تسليمها، فالسعة التي لا تشايع مقاصد الشريعة لا خير فيها فإن إبطال سد الذرائع، وفتح باب الحيل، وإلغاء مفاهيم الشريعة، كل أولئك معاول تهدم مقاصد الشريعة لا سيما إبطال مفهوم المخالفة، فإن عورة عظيمة لمن يتصدى لفهم كلام عربي مبين، وكون المذهب ألين بيد المفتي ليس مما يحمد على الإطلاق، فإن الدين جاء لإبطال ذلك اللين نعي على بني إسرائيل، ونطوي بساط هذا؛ لأنه بساط طويل. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
أما كون هذه السعة لا تشايع مقاصد الشريعة فمذهب بني على النظر إلى المعاني المقصودة من الأحكام كيف يمكن أن يقال فيه ذلك؛ وأما ما يتعلق بالنزاع من جهة الحنفية في أصل سد الذرائع، ومفاهيم المخالفة، ومن جهة غيرهم في(2/546)
باب الحيل، فمبرهن على ذلك بالحجج في محله من كتب الأصول وكل له حجج يعلمها من لم يقتصر على كتب مذهب واحد.
وأما إثبات الحيل في أصول المذهب الحنفي، فيأتي في البحث الثالث عشر.
وأما مفهوم المخالفة، فقد دل الحنفية على عدم اعتباره بآيات وأحاديث دل الإجماع على عدم اعتبار مفهومها أو غيره من الأدلة كآية {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} 1 وآية {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} 2 وآية {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} 3 وآية {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 4 وآية {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} 5 وغيرها، وطردوا الباب فيما سواها قالوا: ما دل الدليل على اعتبار مفهومه، فذلك الدليل لا للمفهوم، أما المفهوم، فمسكوت عنه، وأورد عليهم كلمة الشهادة، فإنما دلت على إثبات الألوهية لله بالمفهوم، وأجابوا بأنها دلالة عرفية بالمنطوق لا المفهوم.
وأما المالكية والجمهور فتمسكوا بآيات وأحاديث قامت أدلة على اعتبار مفهومها، وطردوا الباب في سواها، وأجابوا عما دل الدليل على إلغاء مفهومه بأنه خرج مخرج الغالب كآية: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} وبحث عز الدين في جوابهم هذا بما تقف عليه في الفرق 62 عند القرافي الذي أجاب عنه بجواب ساقط، وبسط الأدلة للفريقين، وردودها في "أحكام الآمدي" وغيرها.
وعلى كل حال كل من الفريقين له تمسك بالآيات جعلها أصلا، وطرد الباب في سواها، وأجاب عما يخالفها، ولكل وجهة، فلم يبق محل لأن يعبر في أحد الجانبين بالعورة العظيمة، والنعي على بني إسرائيل ونحو هذه العبارات الموجبة للأحقاد والتصلب في المذاهب، والمنافية لمبدأ إزالة النفرة بين عموم أهل الإسلام، والذي نعى على بني إسرائيل هو التبديل والتغيير والتأويل غير المقبول
__________
1 سورة الإسراء: 31.
2 سورة النور: 33.
3 سورة آل عمران: 131.
4 سورة البقرة: 283.
5 سورة النساء: 23.(2/547)
الذي لم يقم عليه دليل، وأحاشي الحنفية عن ذلك كله، ونعتقد أنهم على هدى من ربهم كغيرهم من مذاهب الأئمة.(2/548)
البحث الثاني عشر:
قال: وفي الصفحة 359 ذكرتم تألب الحجازيين على أبي حنيفة رحمه الله إلخ أرى أن أهل الأثر لم ينسبوا له تعمد ترك السنة فإنهم معترفون بثقته وورعه، وإنما نسبوا له القصور في معرفتها، وهذا لا ينافي الثقة فإنه أخذ بما بلغه، واعتمد القياس في غيره، وحسبك بالقياس مدركا شرعيا. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
إن منهم من نسب له ترك السنة يعني مع علمه بها لقادح أو معارض عنده كما هو الظن بأمثاله وإن لم يسلمه له غيره، ومنهم من نسب له القصور فيها ولو راجعتم من ترجموه من غير الحنفية، ومن انتقدوا مذهبه وبعض شروح البخاري في كتاب الحيل، وكتب ابن حزم، وأهل الظاهر، والحنابلة وغيرهم في كتبهم التي يردون بها الحنفية، لوقفتم على كثير من عباراتهم الصريحة حتى صار من أمثالهم: أعراقي أنت تقريعا لمن ترك السنة.
أما ورعه الذي لا نزاع فيه، فلا دليل لكم فيه على عدم تركه السنة، فقد يتركها لقادح أو معارض في ظنه وهو ورع، ولو وقع منه تركها لما ظننا به إلا حاشاه أن يرتكها لرأية، وما نسبتم له من القصور فيها هو ترك لهان ومن كان فيها كيف يستحل لنفسه الاجتهاد، واتخاذ الناس له قدوة نعم الورع يوجب على من(2/548)
كان قصيرا فيها أن لا يجتهد في أحكام الله لأن شرط المجتهد معرفتها وعدم القصور فيها باتفاق من أهل العلم، وأما قولكم: وكفى بالقياس مدركا شرعيا، فالقياس على ماذا يكون إذا لم يكن معرفة بالسنة التي هي من المقيس عليه، ثم أجابني الشيخ في مراجعته الثانية بقوله: لعل جنابكم ظن أني قصدت إبطال ما نقلتموه معاذ الله أن يخطر ذلك ببالي وإنما أردت أنهم لما نسبوا له مخالفة السنة دل ذلك على أنهم لا ينزلونه بمنزلة أئمة الأثر، ومرادي بذلك إتمام الاستدلال على أنه لم يكن من المشتغلين بالحديث وصفات رجاله. ا. هـ. وللناظرين النظر.(2/549)
البحث الثالث عشر:
قال: وفي الصفحة 364 قلتم في ذكر الحيل: والحق أنه لا حق لهم في الإنكار إلى آخر الصفحة لا يعزب عن جنابكم أن التحيل لإبطال المقاصد الشريعة لا يخلو من أحد أمرين إما نسبة التشريع إلى نفي الحكمة المقصودة من الأحكام الشرعية حتى يصير المكلف ناظرا إلى الصور والألفاظ لا إلى الأرواح والأغراض، وإما الاجتراء على إبطال الحكمة الشرعية بما يرضي العامة، وهذه النزعة إسرائيلية ففي الحديث "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها" 1 وقال صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات" 2 وكيف يعمد إلى الحيل وقد ترتب عليها إسقاط الزكوات، وتحليل المبتوتات، وأما آية {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} 3 فإن تلك فتوى الله تعالى لنبي من أنبيائه، وليس باب الخصائص بدعا في الشرائع، على أن البر في اليمين أو الحنث لا يترتب عليه معنى شرعي سوى تعظيم اسم الله تعالى والنبي لا يزيده البر تعظيما لاسم الجلالة، فلما تحير في بر يمينه، واشتد عليه إيجاع امرأته ضربا أفتاه الله إكراما له وترخيصا كما فدى إسماعيل بذبح كبش، وفي حديث فتح مكة "فإن اعتل أحد لقتال رسوله فيها، فقولو له: إن الله يحل لرسوله ما شاء" 4 وفي عملكم ما قاله أئمتنا في تلقين المفتي
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه "4/ 344، 351، 352" بشرح الفتح ومسلم "1582" في المساقاة.
2 متفق عليه: من حديث عمر.
3 سورة ص: 44.
4 أخرج البخاري "8/ 17" في المغازي في فتح مكة، ومسلم "1345" من حديث أبي شريح العدوي مرفوعا $"إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحدا ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وأنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس".(2/550)
الفجور، ووقع فروع في المذاهب فيها ما يشبه الحيلة لا يقضي باعتبار التحيل أصلا في تلك المذاهب؛ لأن تلك فروع بنيت على الإغراق في طرد الأصل، وأكثرها متعلق بالمسائل التعبدية، فكيف تناسب القول بجواز الحيل مذهبا معظم مبناه على القياس الذي آثر العلة ثم الحكمة. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
اعلم بمجرد إمعان النظر في الصفحة 363 فما بعدها من الجزء الثاني من الفكر السامي، فقد بينت هناك محاججه بين من يثبت الحيل ومن ينفيها، وانفصلت على وجه معتدل، وهو أنه لا يسعنا إنكار وجود أصل الحيل في شرعنا، بل وفي الشرائع قبلنا لنضافر ظواهر الأدلة على ذلك والظواهر إذا تكاثرت أفادت القطع كما هو منصوص عليها للفقهاء والأصوليين والمحدثين، ثم انفصلت على أن الحيلة إذا هدمت أصلا شرعيا، أو ناقضت مصلحة شرعية، فهي ملغاة لا يجوز الترخيص فيها كبعض الحيل التي عيبت على بعض الحنفية، وبينت هناك جملة منها وعلى مثلها حديث "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها" الحديث، وما ليس كذلك، فلا موجب لإلغائها، وعلى هذا القسم تحمل قضية أيوب في ضرب زوجته وأمثالها مما ورد في الشرائع.
وأما ما ذكره الشيخ من كونها خصوصية لأيوب، فغير خفي أن الخصوصية لا ثبت إلا بدليل، وأما قياسها على حديث فتح مكة، والقتال فيها، فهو قياس مع وجود الفارق البين، ففي هذا الحديث صرح بالخصوصية بخلاف قصة أيوب، ومثلها قضية سيدنا يوسف عليه السلام المذكورة في آية {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} إلى آية {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} إلى قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} 1 فإنه تحيل
__________
1 سورة يوسف: 59.(2/551)
ليأخذ أخاه والقرآن مصرح أو ظاهر في التحيل، قال: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} وكان شرع الملك لا يبيح له ذلك.
وأما قول الشيخ في مراجعته الثانية: إن شرع الملك لم يكن سماويا بل وضعيا، وأن أهل مصر لم يكن شرعهم سماويا، وأحكام شرائعهم متجافية عن الحق إلخ فهذه دعوى ينافيها حكم يوسف به وهو نبي مرسل، فكونه حاكما به حتى تحيل في تحويره، دلنا أنه سماوي، إذ لا يعقل أن يكون رسول الله حاكما بشرع غير سماوي والله يقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 وقال تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} 1 الآية، ومن أين لنا أن أهل مصر لم يكن شرعهم سماويا وأن أحكم شرائعهم متجافية فهذا كله في حيز المنع، والله يقول: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} 2 ويقول: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} 3 كذلك تأويل الشيخ لقضية الخضر في تحليله لخرق السفينة بأنها حكم باطني، ولحديث "بع الجمع بالدراهم" 4 بأنه خروج عن تهمة ربا الفضل إلى صريح الإباحة فإن الجواب بالباطن لا يسلمه الخصم، والخروج عن التهمة هو الذي نسميه نحن بالتحيل.
وعلى كل حال الأدلة على وجود التحيل في بعض موارد الشريعة بالمعنى الذي ذكرناه لا ينكره أحد فيما أظن، وانظر حديث المحترق الذي وقع على زوجته في نهار رمضان كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه أولا بالكفارة ولما رأى منه العجز عنها صيره مكفرا وآخذا لتلك الكفارة5: فبعد ما كان ملزوما برزء ماله أو بدنه، صار رابحا
__________
1 سورة المائدة: 44.
2 سورة غافر: 77.
3 سورة فاطر: 54.
4 أخرج مالك في الموطأ "2/ 623"، والبخاري "4/ 323"، ومسلم "1593" "95" عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله: "أكل تمر خيبر هكذا؟ " فقال: لا والله يا رسول الله أنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله: "فلا تفعل بع الجميع بالدراهم، ثم أبتع بالدراهم جنيبا".
5 أخرجه مالك "1/ 9296" والبخاري "4/ 141، 149"، ومسلم "1111" من حديث أبي هريرة.(2/552)
وكذلك حديث الخليطين في الزكاة من صحيح البخاري1، فإن خلط الماشية يؤدي إلى إسقاط بعض الزكاة، وهو نوع من التحيل، وقد أقره الشرع، وكذلك حديث عمر في الصحيح حيث خير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، وبدأ بعائشة دون بقية الأزواج وقال لها: "إني ذاكرا لك أمرا ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك" قالت: أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك الحديث2، وحديث بريرة حيث قال عليه السلام لعائشة: "ابتاعيها واشترطي لهم الولاء فإن الولاء أعتق" 3، وقال للذي أقر بالزنى: "أبك جنون؟ " وحديث في الصحيح4 وقال تعالى: {لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} 5 ومثل هذا التحيل هو الذي يبيحه الحنفية ولا يسعنا إنكاره.
ومن الحيل قول الشيخ خليل: فإن فعلت المحلوف عليه حال بينونتها لم يلزم فإن المفتي يرشد من قال لزوجه: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا بأن يتخلص من الثلاث بتطليق زوجه طلاقا بائنا، ثم تدخل الدار البينونة، فلا يلزمه ثلاث، وهذه حيلة يفتي بها المالكية للتوسعة.
وهكذا نكاح المتعة يفتون من تزوج زوجة ناويا أن زواجه بها إلى أجل لم يشترطه عليها وإن فهمته الزوجة من حاله، أو أعلمها قبل العقد، فإذا انقضى الأجل، فارقها بطلاق، وكانا قبل الفراق على نكاح صحيح وهو في الباطن نكاح متعة. وهذا فرع ذكره الزرقاني شارح خليل وسلم له وهو حيلة بلا شك، وفي ابن
__________
1 أخرجه البخاري "3/ 9248" من حديث أنس بن مالك وفيه "ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة".
2 أخرجه البخاري "3/ 399" في تفسير سورة الأحزاب، ومسلم "1475" في الطلاق: باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية.
3 أخرجه مالك في الموطأ "2/ 781"، والبخاري "4/ 315" في البيوع باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل، ومسلم "1504" "8" في العتق: باب إنما الولاء لمن أعتق.
4 أخرجه مسلم "2/ 91318" في الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى رقم الحديث الخاص "16".
5 سورة البقرة: 235.(2/553)
ناجي على المدونة أن هارون الرشيد ملك جارية فعزم على وطئها دون استبراء، فسأل مالكا ثلاثا يا أبا عبد الله هل من حيلة؟ فقال: أعتقها وتزوجها وهي حيلة من حيل الفقهاء. وقال الليث بن سعد: أتيت مجلسا فرأيت رجلا أحدق به الناس، فجلست فإذا هو أبو حنيفة، فقال له رجل: إن لي ابنا كلما زوجته امرأة طلقها أو ملكته أمة أعتقها، فقال: زوجه أمتك، إن أعتق أعتق ما لا يملك، وإن طلقها، رجعت إليك فاستحسنت ذلك منه. وأنكر بعض الناس نسبة الفتوى الأولى لمالك وأمثالها موجودة في كل مذهب لا أظن مذهبا يسلم منه، وإنكاره غير مفيد.
هذا ولم ندع أن الحيل أصل لجميع المذاهب كما يوهمه كلام الباحث وكلامنا في صفحة 363 وما بعدها إنما فيه أنه أصل للحنفية وهم مصرحون بذلك كتبهم متقدمهم ومتأخرهم كما أننا لا نرى جواز تلقين المفتي الفجور ولا يبيحه حنفي ولا مالكي ولا غيرهما فيما أظن، وليس في كلامي إلا ما يفيد منعه، وقد اشترطت في الحيلة التي تعتبر شرعا أن لا تهدم أصلا شرعيا، ولا تناقض مقصدا شرعيا، ولقد عبت الاسترسال في الإفتاء بها والقياس عليها، وصرحت بأن الأئمة قسموها إلى الأحكام الخمسة تبعا لفتح الباري وعلى كل حال من تأمل هذا الفصل من "الفكر السامي" أدنى تأمل، ظهر له الحق، والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.(2/554)
البحث الرابع عشر:
قال: لقبتم الإمام أبا حنيفة بالأعظم وهو لقب انجر للناس مما يلقبه به فقهاء مذهبه حين لا يذكرون اسمه، فيقولون: قال الإمام الأعظم تفرقة بينه وبين أبي يوسف ومحمد؛ إذ كلهم يلقب بالإمام، فكأنهم يريدون بالأعظم المجتهد المطلق، والظاهر أن لا وجه لتلقيبه بهذا بين الأئمة المجتهدين نظرائه فما منهم إلا عظيم مثله، ولله در القسطلاني في شرح البخاري إذ يقحم تارات بعد اسم الإمام حين يقع في سند البخاري الإمام الأعظم كأنه يشير به إلى معنى المجتهد المطلق، أو إلى أنه شيخ لكثير من الأئمة المجتهدين مثل الشافعي وابن حنبل بالواسطة، ومحمد بن الحسن، أو لجمعه إمامتي الحديث والفقه، وما اجتمعا لغيره قط. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
إن هذا ذنب مذهبي أستغفر الله منه، وأظن أنكم تستغفرون معي إذا حققت لكم أن قصدي إزالة النفرة بين المذاهب معاملة لكل طائفة بما تحب بشرط أن لا نهدم أصلا، ولا ننقص أحدا ولا يخفاكم ما قيل في اسم الله الأعظم، وكل الأسماء الحسنى عظيمة، وكل أئمة الدين عظيم في علمه ودينه والعذر الذي التمستم للقسطلاني في تلقيبه الإمام مالكا بالأعظم ما أدري لِمَ لَمْ يكن لي منه نصيب، وأما استظهاركم أنه لا وجه لتقليبه بالأعظم، فغير ظاهر، وأقل ما يوجه به أنه أكثر الأئمة أتباعا في الدنيا كلها كما قدمنا ذلك في عدد 66 من الجزء الثالث، وقد وقفت الآن على إحصاء لأتباع الأئمة الأربعة ذكرته جريدة السعادة في عددها(2/555)
"3567" عن بعض الأخصائيين.
قالت: إن أتباع أبي حنيفة ملايين "118"، والشافعي ملايين "37"، ومالك "30" وابن حنبل "3" ملايين، الجميع ملايين "224" قائلة إن مجموع هؤلاء سنية، ونسبتهم من مجموع الإسلام الذي هو "243"1 يكون "91" في المائة، والذي عند غيرها أن الإسلام أكثر من هذا العدد بكثير لكن على كل حال الكل يسلم أن الحنفية هم أكثرية الإسلام، ولم يبلغوا الثلثين من الأمة خلافا لابن سلطان، وهذه الأغلبية الساحقة تكفي في وجه تلقيبه بالأعظم.
والمرء في ميزانه أتباعه ... فاقدر بذا قدر النبي محمد
وأجاب الشيخ في مراجعته الثانية بأن إزالة النفرة هو مبدؤه الذي يلازم سلوكه، ولكن بشرط إظهار التساوي بين جميع الأئمة في أصل العلم والعدالة وقوة الديانة والنصح للأمة، وإن تفاوتوا في مسالك الاجتهاد. ا. هـ. وقد علمت أن الله جعل بينهم تفاوتا في المراتب، وكل واحد خصه الله بما خصه به، والشيخ نفسه مصرح بعدم التساوي فيما سبق، فكيف التوفيق، والله ولي التوفيق.(2/556)
البحث الخامس عشر:
ورد من عالم آخر من نخبة محققي نظار علماء القطر التونسي حفظه الله ونصبه بعد الديباجة: قلتم في الصفحة 20 من الجزء 1 ولا يحتج بعضها خلافا لأبي حنيفة وابن حنبل، وفي الصفحة 124 من 2 ولو ضعيف السند ووقع التعليق عليه بأن يكون من رواية مجهول إلخ، فهل يقال: إن الضعيف وما يقابله من مجاري الخلاف فالضعف عند بعض المجتهدين لا يستلزم الضعف عند غيره، بلا استدلال المجتهد بما هو ضعيف عند غيره دليل على قوته في نظر المستدل لما ترجح عنده، وإلا فليس الضعف طريقا لحصول الظن بالحكم من ذلك حديث:
__________
1 عدد المسلمين عام 1965 "556" مليون مسلم.(2/556)
"أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" 1 فقد قال الطحاوي: ذكر ابن جريج أنه سأل عنه ابن شهاب فلم يعرفه حدثنا بذلك ابن أبي عمران، حدثنا يحيى بن معين، عن ابن علية، عن ابن جريج بذلك. ا. هـ. وفي رواية أن ابن شهاب أنكره، وقد استدل به مالك والشافعي على اشتراط الولي لصحته عندهما في نظائر كثيرة، وكيف يجمع بين ذلك وما بالصفحة 35 والصفحتين بعدها من الأول وهو اختيار الخنفية للأقوى والأعرف، وقد صرح العلامة ابن خلدون بأن أبا حنيفة يشدد في شروط الرواية حتى قلت روايته، ولكن بالغ سامحه الله في قلة رواية الإمام بما فيه نظر لا يخفى. وفي "جمع الجوامع" مع شرح الجلال ما نصه: فلا يقبل المجهول باطنا وهو المستور خلافا لأبي حنيفة وابن فورك وسليم -أي الرازي- في قولهم بقبول اكتفاء بظن حصول الشرط، فإنه يظن من عدالته في الظاهر عدالته في الباطن، أما المجهول ظاهرا وباطنا فمردود إجماعا لانتفاء تحقق العدالة وظنها. ا. هـ. ويستفاد منه أنه لا خلاف في اشتراط العدالة، وإنما الخلاف في أن الشرط هو تحقق العدالة فقط، أو الشرط التحقق أو الظن كما وقعت الإشارة إليه في التعليق، وأن حديث المستور ليس من الضعيف عند القائلين بقبوله. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
إن نسبة العمل بالضعيف لأبي حنيفة في غير ما ديوان من كتب الحنفية كعلي ابن سلطان القاري أول شرح "المشكاة" وظاهره الضعف المصطلح عليه، وكفى ما نلقتموه عن "جمع الجوامع" وشرحه، فهو قد تضمن ذلك، وفي "إعلام الموقعين": إن أصحاب أبي حنيفة مجمعون أن ضعيف الحديث أولى من القياس، والرأي عندهم، وعلى ذلك بنى مذهبه وساق أمثلة كثيرة من ذلك انظر صفحة 88 من الجزء الأول منه، وما أشرتم إليه من الجمع بين المذهبين بأن الضعيف عند بعض المجتهدين لا يستلزم الضعف عند غيره بل استدلاله به دليل
__________
1 أخرجه أبو داود "2083"، والترمذي "1102" وابن ماجه "91879" وحسن الترمذي، وصححه ابن حبان "1248"، والحاكم "2/ 168" وهو حديث صحيح، وقد بسط الكلام عليه الحافظ في "تلخيص الحبير" "3/ 156، 157".(2/557)
قوته عنده، فجمع حسن، ولكن قوته في ظنه لا تستلزم قوته عند غيره ولا صوابيته في نفس الأمر إلا إذا قلنا بتصويب المجتهدين وقد علم ضعفه، وأيضا رواية مجهول الحال لا مجهول العين مقبولة عند الحنفي وهي من قبيل ما يسمى عنده بالصحيح أو الحسن، وعند غيره غير مقبولة، ومن قبيل ما يسمى بالضعيف، فعاد الخلاف كما هو، وإنما الخلاف هل نقول: إن الحنفي يعمل بالضعيف؟ فالجواب: نعم يعمل بما يسميه غيره ضعيفا، وهو رواية مجهول الحال، ويسميه الحنفي بما شاء، والمالكي لا يعمل به، ويسميه ضعيفا، فلم يبق ثم من فائدة ولا أفاد الجميع في رفع الخلاف شيئا.
وبهذا تتحلل العبارة التي ذكرتم وهي أن الضعيف ليس طريقا لحصول الظن، فهي عبارة ذات وجهين وتحقيقها: أن من اعتقد ضعف حجة لم يحصل له بها الظن، ومن اعتقد صحتها وقوتها، حصل له الظن.
وأما قولكم: إن ما في صفحة 35 والصفحتين بعدها من اختيار الحنفية للأقوى والأعرف ينافي ما سبق، فليس في صفحة من الصفحات المذكورة لفظ الأقوى، وإنما فيها أن أبا يوسف أخذ بالأعرف والأعرف الأشهر، ولا أظن أحدا يفهم منه الأقوى إذ القوة تعتبر بصفات الرجال والشهرة بالكثرة فلا مخالفة.
وأما قول ابن خلدون بتشديد أبي حنيفة في الرواية، فلعل مراده من حيث اشتراط الشهرة لا الأقوى بدليل نص "جمع الجوامع" الذي قدتموه.
وأما تعقبكم على ما حكاه ابن خلدون من المبالغة في قلة رواية الإمام أبي حنيفة فوجيه جدا وإليه أشرت في الصفحة 344 ج1 لكن ابن خلدون نفسه لم يرض بما ذكر، وإنما نقله بلفظ: "يقال" ثم أتى بما هو في المعنى رد له، وأما حديث "أيما امرأة نكحت نفسها" الحديث، فقد صححه يحيى بن معرفة وغيره من الحفاظ كما قال الحافظ ابن كثير، ونقله في "سبل السلام" وعدم معرفة الزهري لا تضره، فكم من حديث لم يعرفه هو أو مالك وهو صحيح، والإحاطة ليست إلا لله، وهذا عمر بن الخطاب لم يعرف حديث الطاعون حتى رواه له عبد الرحمن بن(2/558)
عوف1 وغيره، وأنكر حديث: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع" حتى رواه أبو سعيد مع أبي موسى2، وهذا أبو بكر لم يعرف توريث الجدة، وعرفه المغيرة بن شعبة3 وغيره وكم لذلك من نظير، والمثبت مقدم، وعلى فرض الطعن فيه، فهناك حديث: "لا نكاح إلا بولي" 4 صححه الترمذي وغيره انظر المحلى في مبحث المجمل.
__________
1 أخرجه مالك "2/ 894"، والبخاري "10/ 155" في الطب: باب ما يذكر في الطاعون، ومسلم "2219" في السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ... وفيه جاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائبا في بعض خاصته، فقال: إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وكنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه" قال: فحمد الله عمر ثم انصرف.
2 أخرجه البخاري "11/ 23"، ومسلم "2153"، وأبو داود "1580" والترمذي "2991".
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 513" عن قبيصة بن ذئيب أنه قال: جاءت الجدة "هي أم الأم" إلى أبي بكر تسأله ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله من شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال: هل معك غيرك، فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثلما قال المغيرة، فأنفذ لها أبو بكر السدس، وأخرجه أبو داود "2894"، والترمذي "2101"، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان "1224"، والحاكم، وقال الحافظ في التلخيص "3/ 82": وإسناده صحيح لثقة رجاله إلا إن صوته مرسل، فإن قبيصة لا يصح له سماع عن أبي بكر ولا يمكن شهوده القصة.
4 أخرجه أحمد "4/ 394، 413، 418"، والترمذي "1101، 1102"، وأبو داود "2085"، والبيهقي "7/ 107"، وصححه ابن حبان "1245، 1244، 1245" والحاكم "2/ 9165" وأطال في تخريجه، وقد اختلف في وصله وإرساله، وانظر نصب الراية "3/ 183، 190".(2/559)
البحث السادس عشر:
قال: قلتم في الصفحة 39 من الأول: إن النسخ لا يثبت بقول المجتهد، فإن المجتهد قد يخطئ ويصيب، قد يقال: المجتهد يخطئ ويصيب بالنسبة لنفس(2/559)
الأمر والواقع، ولكن لا يقول بالنسخ إلا بعد رجحانه عنده، وثبوته في ظنه، ولا خصوصية في هذا للنسخ، بل تخصيص العام، وتقييد المطلق وما شاكل ذلك من وجوه الاستدلال في محل الخلاف كذلك، فإن لم تثبت في نفس الأمر، فهي ثابتة في ظن المجتهد للمرجع الذي عنده، قال أبو إسحاق الشاطبي في "الموافقات عند الكلام على أصل مالك من اتباع العمل وتقديمه على الخبر ما نصه: وهذا ظاهر في أن العمل بأحد المتعارضين دليل على أنه الناسخ للآخر؛ إذ كانوا يأخذون بالأحدث وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، روي عن ابن شهاب أنه قال: أعيي الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه، وهذا صحيح، ولما أخذ مالك بما عليه الناس، وطرح ما سواه، انضبط له الناسخ والمنسوخ على يسر والحمد لله.
وجوابه:
ظاهر من زيادة الباحث لفظ عنده وفي ظنه ومرادي من نفي ثبوت النسخ بقول المجتهد تبعا لابن الحصار أنه لا يثبت حجة على غيره، فانتفى الإشكال. وقد حكى الآمدي في "الإحكام" الإجماع على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين، فكيف بغيره، ولا يخفاكم أن من ادعى نسخ آية من كتاب الله، فقد أبطل العمل بها وبما شرعته للأمة، وأزال حكمها، وهذا مقام صعب لذلك اشترط العلماء في قبول القبول بالنسخ شروطا عشرة قررت في محلها، ولهذا قال الزهري: أعيى العلماء أن يعرفوا الناسخ والمنسوخ إلخ ما سبق لكم.
ونظير ما قررنا عمل أهل المدينة الذي استدللتم به تبعا للشاطبي على ثبوت النسخ، فإن مالكا يقدم العمل على خبر الواحد، لم تقدم لنا في مبحث العمل المدني في أصول مذهب مالك من كونه خبر جمع عن جمع وهو أقوى من خبر واحد عن واحد، ولكون أهل المدينة كانوا يشاهدون الأخير من أحواله عليه(2/560)
السلام، فما تركوا الحديث إلا لمعارض له ناسخ في ظن مالك ومن قال بقوله، ولكن لم يقم ذلك دليلا على أبي حنيفة وغيره، فلم يسلموا كونه خبر جمع عن جمع، لاحتمال الاجتهاد، ولم يسلموا النسخ أيضا لذلك، ولهذا ما أخذوا بالعمل المدني، ولا رأوا رأي مالك، كما هو مقرر في كتب الأصول. ويمكن الاحتجاج لهم على مالك بخطبة معاوية بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة حضور حيث أمسك بيده قصة من شعر، وقال: "يا أهل المدينة أين علماؤكم كيف تفعل نساؤكم هذا: إنما هلكت بنو إسرائيل حين فعلت نساؤهم هذا". الحديث وهو في البخاري1 بمعناه مكررا وفي غيره، ويجاب بأن الاحتجاج بعمل العلماء وما أنكره معاوية هو عمل نساء عامتهم داخل بيوتهم يمكن عدم اطلاع علمائهم عليه، وهبهم اطلعوا، فهذا نادر وقع ممن لم تنسب له عصمة.
__________
1 "10/ 315" في اللباس باب وصل الشعر، وأخرجه مسلم "2127" في اللباس والزينة: باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام الحج وهو على المنبر وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه، ويقول: $"إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم".(2/561)
البحث السابع عشر:
قال: وفي الصفحة 153 من الأول عند الكلام على أبواب المعاملات ولو أن الجمهور حملوا تداخل الشرع فيها على معنى حفظ مصالح الخلق وجعلوا الأحكام فيها كلها دائرة على هذا الأصل، لاتسعت أبواب المعاملة على المسلمين، لكنهم أدخلوا فيها التعبد لما قام عندهم من الأدلة على قصده إلى: وما جاء التضييق إلا من الأقيسة والاستحسان إلخ. ربما يقال: إذا قامت الأدلة على قصد التعبد فكيف يمكن للمجتهدين أن يعدلوا عن ذلك في مواطن القياس والاستحسان وقد بسط الشاطبي في كتاب المقاصد من "الموافقات" القول في بيان الوجوه التي تقضي أنه لا بد من اعتبار التعبد في أبواب المعاملة. هذا ما تتشوف النفس إلى(2/561)
إيضاحه والسلاح الأعم عليكم ورحمة الله. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
إني لما قلت: لما قام عندهم من الأدلة على قصده، فذلك عذرهم فيما فيه نص، أما ما لم يجدوا فيه نصا، وتمحلوا له الأقيسة التي لا يخفاك ما فيها من الشروط التي لكل خصم أن ينازع في توفرها وما عليها من النقوض، مع خلاف الظاهرية في أصل القياس، وتشعب الأقوال فيه، فما عذر المتأخرين في التضييق على الأمة في معاملتها التي هي سبيل تقديمها، وإظهار الشرعية في مظهر غير مظهر السماحة والصلاحية للرقي، ولكل زمان ومكان، ولكل الأمم، وحتى تسببوا في نبذ العامة للشريعة، والطعن في أحكامها بأنها ضد مصالحهم.
إن مصلحة الأمة والشريعة معا تقتضي التوسع في أبواب المعاملات بما لا يخالف المنصوص والمجمع عليه، ونحن الأمة الإسلامية التي تنكر كل الإنكار على من يرى القلب والإبدال في الشرائع، وإني من الذين يعتدلون في الأحكام، وفي الفلسفة الفقهية، ولا يغرقون فيها، ولا يرون الاسترسال في الأقيسة والتحمل في استنباط أحكام بمنع معاملات كثيرة لم يصرح نص بمنعها، ولا نضيق على الأمة سبل رقيها؛ لأنه موجب لفقرها واحتكار تلك المعاملات لغيرها، ولم يجعل الله شريعة من الشرائع منافية لناموس الاجتماع، ولا قيدا ثقيلا في أرجل من يريد النهوض من الأمم، بل جميع الشرائع محافظة على ناموس الاجتماع، ورقي المجتمع الإنساني ولا سيما الشريعة العامة الأبدية. ولا يشك أحد أن تضييق المعاملات، ومنع الأمة من كثير منها يوجب فقرها، وما افتقرت الأمة إلا وضاع مجدها، وذهب سؤددها؛ إذ المال عصب لكل مجتمع إنساني، وحفظ البيضة إنما يكون في الزمان الحاضر بثروة الأمة، واتساع معاملتها ومتاجرها ومصانعها وفلاحتها.
وقد كان العلماء لا يفتون في منع مسألة حتى ينظروا إلى حاجة الناس إليها، فإن رأوا مساس الحاجة إليها، أو عموم المعاملة بها، رخصوا وأباحوا، وما ضيقوا(2/562)
ومن قواعد الفقه: المشقة تجلب التيسير، والضرورة تبيح المحظور، والله يقول: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} 1 وانظر في "المعيار" وغيره فتاوى من أفتى بجواز كراء الأرض بما تنبت لعموم البلوى بها، وفتاوى من أفتى بإباحة شركة الخماس؛ لأن المعاملات إذا عم الفساد وكانت فاسدة على سبيل العموم يترخص فيها، وهؤلاء الخلفاء الراشدون لما رأوا احتياج الناس إلى تضمين الصناع، أوجبوه مع منافاته للقياس، وهؤلاء المتأخرون من المالكية قد ابتكروا بيع الصفقة مع عدم انطباقه على أصول الشرع تسهيلا على الناس، وتخلصا من كثرة الخصومات في شركة الجزء المشاع في الأملاك، وترخصوا في شهادة اللفيف مع مخالفتها لظاهر القرآن وهو قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 3 إلى غير ذلك.
ومما وقع في وقتنا على خلاف التوسعة فتوى بعضهم بمنع الضمان المسمى سكرتاه على الأموال4 ثم اختلفوا، فمنهم من علل بالغرر، ومنهم من علل بالقمار، ومنهم من قال: إنه ضمان بجعل، وهأنذا أبين لكم فساد الفتاوى الثلاث فأقول:
أما من علل بالغرر، فقد قاله قياسا على منع الغرر في البيع، وهي فتوى عندي باطلة، وبيان ذلك أن صورة ضمان الأموال أن من له خزين تجارة أو معمل أو مركب، أو وسق بضاعة في مركب مثلا يدفع باختياره لإحدى الشركات الضمانية واحدا في الألف أو نحوه من قيمة الشيء المضمون تأخذه الشركة ولا يرجع له منه شيء، وإنما تعطيه توصيلا به، فإن وقع له غرق أو حرق أو نهب مثلا كانت ملزمة أن تدفع له تعويضا وهو القيمة التي قوم بها الشيء المضمون، والمدة التي تكون الشركة مطلوبة بالضمان فيها مبينة محدودة في التوصيل هذه هي العامة التي وقع
__________
1 سورة المائدة: 5.
2 سورة الطلاق: 2.
3 سورة البقرة: 282.
4 احترزنا بلفظ الأموال عن ضمان الأنفس لعدم مسيس الحاجة إليه فضلا عن الضرورة، فلا محوج الكلام فيه. ا. هـ. "مؤلف".(2/563)
الإفتاء من بعض علماء العصر بتحريمها قياسا على حديث نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر1 مع أنه لا بيع فيها ولا معاوضة، وإنما هو شيء تافه يدفعه الإنسان كتبرع لشركة تضعه في صندوقها الذي هو كصندوق احتياطي، ثم تكون لمزمة بالتعويض على الدافع إذا أصابته كارثة مقابل ما أخذته منه، فشبهها بالتبرع أقرب وأقوى من شبهها بالبيع. والغرر المنهي عنه في الحديث هو في البيع خاصة لا في التبرع، بل اختلف الأصوليون في نحو نهي عن بيع الغرر هل يعم كل بيع غرر أو هي قضية عين لا عموم لها؟ وعلى العموم استثنوا من البيع الغرر اليسير، فإذا كان يسيرا كما في السكرتاه، فهو جائز، فإن الذي يعطي فيها يسير بالنسبة لرأس المال، غير مجحف، فكأنها عندي جمعية اكتتابية خيرية لإعانة المنكوبين بنظام والتزام تأخذ من ألف رجل شيئا قليلا ما تعوض به نكبة رجل مثلا، واستنباطها من قاعدة القليل في الكثير كثير. ولذلك يبقى لها ما يقوم بأجرة قيامها على ذلك، وربما ربحت أرباحا عظيمة إذا قلت نكبات المضمونين فيها، وعلى كل حال هي معاملة عمت بها البلوى لاتساع نطاق الأعمال التجارية والصناعية والزراعية برا وبحرا، ولا تخلو مملكة في العالم من هذه المعاملة ولا يستغني عنها فيما أظن، فكيف بنا إذا شيد مسلم معملا كهربائيا أو نسيجيا مثلا، ومنعناه من عمل الضمان عليه، فيأتي من يغار من مزاحمته فيغري من يرميه بقنبلة، فيصبح مفلسا، وينفرد مزاحمه بالأرباح، ولو كان مضمونا ما ضاع له شيء، بل ربما ربح، فلا شك أننا بهذا التضييق نكون أهلكنا ثروة الإسلام، ووضعنا المسلمين تحت أسر غيرهم؛ إذ لولا عملية الضمان ما بقيت شركة تجارية مهمة، ولا معمل ولا مراكب بحرية أو نحوها إلا وأصيبت بكثير من النكبات فاضمحت شركاتها ومنافعها العامة وكيف تكون أمة ماجدة في هذا العصر خالية اليد من هذه الأمور إذن تكون مستبعدة لغيرها، واستقلال الأمم الحقيقي في هذه الأزمان لا يكون إلا باستقلالها اقتصاديا
__________
1 الحديث أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة بلفظ: نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر، أما بيع الحصاة، ففيه صور كما قال النووي وغيره، منها أن يقول: بعت لك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهيت إليه هذه الحصاة وبيع الغرر: كل بيع فيه خطر. كبيع الآبق والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، فيكون من عطف العام على الخاص. ا. هـ. "مؤلف".(2/564)
وصناعيا، والكل أصبح الضمان ضروريا له في الوقت الحاضر اتقاء للطوارئ الجوية والحربية وغيرها فعمل الضمان هو من قبيل الضروري لا الحاجي ولا التحسيني، ومنعه موقع الأعمال الكبرى التي بها رقي الأمة في الإفلاس والخراب، فكم من مركب تجاري غرق في الحرب العظمى، ولم يفلس صاحب المركب في الملايين التي بناه بها ولا التجار الذين ملئوه ببضائعهم لوجود الضمان، فبالضمان أصبحت ثروة البلاد في أمن من الكوارث بسبب التعاون الذي تأسست لأجله شركات الضمان، ولولا ذلك لنكست شركات وأفلست المتاجر، وحل الخراب والإفلاس بكثيرين لا سيما منذ اخترعت المواد المفرقعة المتولدة من البارود، والغاز البخاري وروح زيت النفط "الأسانص" وغيرها وكل ذلك لم يكن في الأزمان الغابرة، ورب شركة من الشركات تقوم بعمل مالي تعجز عنه دولة من الدول العظمى الغابرة لاتساع نطاق الأعمال وفسحة فناء الأموال وكل يعلم أن مبتكرات الوقت الحاضر لا نظير لها في الغابر لذلك حدثت لها معاملات جديدة، فعلى الفقهاء أن لا يجمدوا في أحكامهم على التضييق والتشديد المضيع للمصالح، والوقوف مع الألفاظ والمألوفات التي ألفها من قبلهم، بل عليهم أن يلاحظوا أوجه انطباق النصوص على حاجيات العصر الحاضر، وما تقتضيه مصلحة المجتمع الذي يعيشون فيه مهما وجدوا سبيلا لمساعدة المنصوص والمجمع عليه.
وفي أبواب المعاملات الدنيوية لا تجد النصوص إلا وفق المصالح، وضد المفاسد لمن وفق لمعرفة المصلحة الحقيقية؛ لأن الشريعة هدى ورحمة وأبدية وعامة ولا يتصور في الشريعة أن تصك في وجه الأمة باب الصناعة والتجارة والفلاحة، ولقد صار التاجر الذي لا يعمل الضمان ينبذ التجار معاملته وإدانته لعدم الثقة والأمن على ما بيده فيصبح في إفلاس لا مناص له منه، وعلى كل حال هذه معاملة لم تكن ولا كانت أسبابها في الصدر الأول ولا نعلم أنه تكلم عليها أحد من المتقدمين لكونها حدثت منذ قريب، لذلك لم نقف على نص عليها في القرآن بمنعها بعينها، ولا في السنة، وإذا لم يكن فيها نص صريح ولا ظاهر، فقد علم من(2/565)
الأصول الخلاف في الأشياء قبل ورود الشرع، فذلك الخلاف يجري هنا، فقول بالجواز، وقول بالمنع، وقول بالوقف. وهناك قول للظاهرية يقولون هذا من القسم المسكوت عنه رحمة غير نسيان، لكنهم يشددون، فيحلمون جميع المعاملات على الفساد حتى تثبت الصحة، ومذهب الأئمة الأربعة وجمهور الأمة أن جميع المعاملات على الصحة حتى يقوم دليل على الفساد.
ولنرجع إلى الاجتهاد، وطريق الاجتهاد الصحيح في هذه النازلة هو أن نرجع إلى الأصول التي بني الفقه عليها، فنجد الفقه يستمد من أمرين مسموع معقول، كما تقدم لنا في الجزء الأول من هذا الكتاب، فالمسموع القرآن المتواتر، والسنة الصحيحة أو الحسن، وفي معناها الإجماع، فإذا لم نجدها، رجعنا للمعقول، الذي هو القياس والاستدلال، وقد وجدنا حديث نهى عن بيع الغرر1 وهذا الحديث له مفهوم مخالفة في لفظ بيع، فما كان بيعا، فهو منفي عنه منطوقا، وما كان غير بيع، فهو مباح مفهوما، وهذه المعاملة لا بيع فيها وفيها غرر، فهي مباحة، ومفهوم المخالفة ما عدا اللقب عند المالكية والشافعية والحنابلة مقدم على القياس والاستدلال؛ لأنه من باب المسموع الذي هو مقدم على المعقول، ولا نذهب للمعقول إلا لضرورة عدم المسموع كما سبق لنا في القسم الأول والثاني من الكتاب.
وهذا المفهوم يؤيده المعنى المقصود من تشريع الحكم، وذلك أن الشرع يمنع الغرر في البيع؛ لأنه إضاعة لأحد العوضين على أحد المتعاوضين دون الآخر، وفي باب التبرع لا معاوضة، فلا منع، هذا يجري على أصل مالك والشافعي وابن حنبل من تقديم الكتاب أو السنة منطوقا ومفهوما على القياس والاستدلال. ويدل لقصة دلالة المفهوم أيضا ما رواه الترمذي أن رجلا من كلاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عسيب الفحل فنهاه، فقال: إنا نطرق الفحل، فنكرم، فرخص له في الكرامة2
__________
1 أخرجه مالك "2/ 664" مرسلا، ورواه موصولا مسلم في صحيحه "1513".
2 أخرجه الترمذي "1274" من حديث أنس، وأخرجه البخاري "4/ 379" في الإجازة، ومسلم "1565" "35" من حديث ابن عمر بلفظ، نهى عن عسيب الفحل، وعسيب الفحل: ضرابه.(2/566)
يعني رخص له في الهدية لا البيع، ولولا أن مفهوم لفظ بيع معتبر لما زاد الهبة في الحديث الصحيح: نهى عن بيع الولاء وهبته1 وذلك أن الولاء لحمة كلحمة النسب فكما لا يجوز بيعه لا تجوز هبته بخلاف الغرر، فإن المعنى الذي منع لأجله في البيع لا يوجد في أبواب التبرع، وذلك ظاهر، أما إذا ذهبنا على مذهب القياسيين الذين لا يرون مفهوم المخالفة دليلا، فإننا ننظر أقرب الأشياء المنصوصة شبها بالسكرتاه، فنقيس عليها ولا سبيل لقياسها على البيع؛ إذ لا معاوضة هنا فالأظهر والأقرب أن تلحق بباب التبرع، وإن لم تكن منه من كل وجه مراعاة للمصالح المرسلة التي هي من الأصول التي بنيت عليها الشريعة. وقد تقدم في الجزء الأول الكلام عليها.
وفي "جمع الجوامع": والصحيح أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل، قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} 2. ا. هـ. ممزوجا. وباب التبرع قد أباحوا فيه الغرر ولو كثيرا فقالوا: يجوز التبرع بالعبد الآبق مثلا، وعليه، فلا منع من الغرر في باب السكرتاه "التأمين" يعني ضمان الأموال هذا ولا أدعي اجتهادا، ولست أهلا له، ولكن أقول: الصحيح أنه يتجزأ كما تقدم، وإذا أردنا الجري على طريق المتأخرين وهو تخريج فتاويهم على الفروع المنصوصة في المذهب فلنا أن نخرجها على مسألة وقعت بسلا أواسط القرن الثامن على عهد قاضيها أبي عثمان سعيد العقباني تسمى بقضية تجار البز مع الحاكة، وذلك أن تجار البز رأوا توظيف مغارم مخزنية ثقيلة عليهم، فتواطئوا على أن كل من اشترى منهم سلعة ثقف درهما عند رجل يثقون به، وما اجتمع من ذلك استعانوا به على المغرم، وأراد الحاكة منعهم بدعوى أنه يضر بهم، وينقص من ربحهم، قال العقباني: فحكم بإباحة ذلك بشرط أن لا يجبر واحد من التجار على دفع الدرهم، وقد بسط القضية في نوازل البيع من المعيار الإمام الونشريسي، ولم يتعرض العقباني، ولا الإمام القباب الفاسي الذي أفتى بالمنع مخالفا له لمنع التجار من ذلك لعلة الغرر أو
__________
1 أخرجه البخاري "5/ 121"، ومسلم "1506" كلاهما في العتق.
2 سورة البقرة: 29.(2/567)
كون بعضهم ينزل أكثر من الآخر لتفاوتهم في متاجرهم طبعا ولا ضيقا هذه المعابر لما في ذلك من المصلحة المرسلة، وما قال أحد منهما بفساد هذه المعاملة، أو ادعى فيها قمارا أو غرر لعدم قصدهما، ومن أصول الفقه أن الأعمال بمقاصدها، بل أفتى المانع بالمنع نظرا إلى تضرر الحاكة بالدرهم بدعوى أنه ينقص من الثمن في مآل الأمر، وما يؤدي إليه الحال ولم تقبل فتواه، بل فتوى المجيز هي المقبولة.
وبتأمل هذه الفتوى يظهر لك أنها سواء مع قضية الضمان وهما كصناديق التوفير للموظفين والتعاون والتقاعد الجاري عمل الأمم عليها في أقطار الدنيا.
ولما كنت أؤلف نظام القرويين سنة 1332 عرضت على أعيان فاس الذين كانوا بالمجلس جعل صندوق للتقاعد بها فاستحسنوه، وقيدوه من جملة مواد الضابط، بل قضية الضمان أحق بالجواز من قضية تجار البز والتقاعد؛ لأن هذا الضمان جعل لصيانة المال الذي هو أحد الكليات الخمس التي أجمعت الملل والنحل على وجوب حفظها، وأن الذي أفتى بكونها غررا، أو إضاعة للمال لم يحرر المناط، ولا هدي لطريق الاستنباط بل الغرر كل الغرر في منعها وتركها، وإنما صيانة أموال الناس في إباحتها.
2- وأما من زعم من علماء الوقت أن ضمان المال "السكرتاه" من الميسر والقمار والمحرم بنص القرآن، فهو خروج عن مهيج الاستنباط المعقول، فإن في المعنى المراد من لفظ الميسر اختلافا بين أهل العلم حتى قال ابن العربي في الأحكام في سورة البقرة: ما كنا نشتغل به بعد أن حرمه الله، فما حرم الله فعله وجهلناه، حمدنا الله عليه وشكرناه. ا. هـ. عدد 63 ج1 وإذا كان ابن العربي يجهله ولم يحقق ما هو، كان مجملا، والمجمل لا تقوم به حجة كما هو مقرر في الأصول.
كيف نلحق الضمان بأمر مجهول وهو الميسر وقد حكى الجصاص وغيره أقوالا في تفسيره، فسقط الاستدلال بآية الميسر، ولم تقم له بها حجة لإجمالها على أن القمار أو الخطار أو الميسر الذي هو محرم بإجماع، ولا يختلف فيه اثنان هو أن ينزل هذا مائة وهذا مائة، ويلعبان لعبة، فمن غلب أخذ جميع المائتين كما(2/568)
عنده الزرقاني في شرح الموطأ عدد 336 ج2 للحافظ في فتح الباري فانظره ومن ذلك خطار أبي بكر مع أبي بن خلف لما نزل قوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} وكان ذلك قبل تحريمه انظر الكشاف وحديثه في الترمذي1 حسن صحيح غريب بألفاظ مختلفة وما أبعده هذه الصورة من صورة الضمان بعد السماء من الأرض والفروق بينهما أظهر من أن تبين فكيف تقاس إحداهما على الأخرى.
3- وأما من أفتى بأن صورة الضمان هي كفالة بجعل مستدلا بقول: خليل: أو فسدت بكجعل إلخ وبقول ابن القطان عن الأشراف الذي نقله الرهوني: أجمعوا أن الحمالة بجعل يأخذه الحميل لا يحل ولا يجوز. ا. هـ. فهي فتوى لا تصح، أما أولا، فما نسبه للأشراف إن كان هو كتاب الأشراف على مذهب الأشراف ليحيى بن هبيرة الحنبلي، فهو بيدي، ولم أجد فيه الإجماع المذكور، ولعله كتاب الأشراف لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري أو غيره، وأما ثانيا: فلا حجة في ذلك كله للفرق العظيم بين الصورتين، فصورتنا إنما فيها مال مكفول، وليس فيه كفالة ذمة لذمة، ولا جعل فيها أصلا لاتفاق المالكية أن الجعل لا يستحق إلا بتمام العمل، وهذا شيء تافه جدا يدفع مسبقا، ولا عمل هنا، فلا جعل، وإنما ذلك كالتبرع الاكتتابي يوضع في صندوق احتياط وتوفير كما سبق. وأما ثالثا: فإن المازري علل منع الضمان بجعل بعلل لا توجد هنا أصلا منها: أنه دائر بين أمرين ممنوعين إن أدى الغريم، كان له الجعل باطلا، وإن
__________
1 أخرج الإمام أحمد "1/ 276، 303"، والترمذي "3191" من حديث حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} قال: غلبت وغلبت، قال كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنهم سيغلبون" قال: فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: أجعل بيننا وبينك أجلا، فإن ظهرنا، كان لنا كذا كذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلا خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألا جعلتها إلى دون"، قال: أراه، قال: "العشر" قال: فذلك قوله: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} قال: يفرحون بنصر الله.(2/569)
أدى الحميل ورجع على المضمون، صار سلفا بمنفعة في صورتنا ومنها: أنه من بياعات الغرر، ونحن لا بيع في صورتنا، وكذا من علله بأن الضمان معروف لا يكون إلا لله، فذاك ضمان الذمم.
والذي أراه أن المنع ليس سوى تمحل في الدين، وإرهاق المسلمين حتى ينبذوا دينهم الذي هو صلاح لآخرتهم ودنياهم، وقد جرت العادة عند كثير من أهل الإفتاء إذا لم تكن خصومة أن يتظاهروا بالورع فيتسرعوا إلى فتوى التحريم بأدنى خيال شبهة جبنا وخوفا من التشنع، وظانين أن الورع إنما هو التحريم وهو ظن لم يوافق الواقع، بل الورع وراء ذلك وهو تحري روح التشريع الإسلامي، وما يوافق مبادئ الشريعة السمحة جوازا أو منعا ولا يصادم النصوص القرآنية والسنة الصالحة للاحتجاج ولا الإجماع ولا أشك أن بعض من أفتى بالحرمة قد يفعلونه، فالواجب عليهم أن يسلكوا بالأمة سبيل الرخصة التي سلكوها لخاصة أنفسهم؛ لأن الظن بهم أنهم ما تجرءوا على ارتكاب محرم تيقنوه، فلينظر العالم المفتي فعل غيره بالعين التي نظر بها فعل نفسه لا أزيد ولا أنقص ولا يغتروا بما وقع في فتاوى كثير من المتأخرين الفروعيين من تمحلهم لمعاملات جعلوها من باب الربا المحرم، ولا يكاد يفهم فيها قصد الربا لأحد المتعاقدين، بل لا يستبين وجه العلة التي استندوا إليها إلا بعد التدبر العميق، والحفر عنها بمعاول عظيمة، ولا شك أن التعمق في الدين منهي عنه في شريعتنا السمحة، فلنترك صعاب الشعاب جانبا ولنسلك جادة الدين اليسر وقد أوصى عليه الصلاة والسلام معاذا وأبا موسى الأشعري بقوله: "يسرا، ولا تعسرا، وبشرا، ولا تنفرا" 1 وليس سبيل التحري فيه هو في الدين والورع محصورا في تضييق الدين، بل سبيل التحري فيه هو أن يصيب روح التشريع الإسلامي المبني على حفظ ناموس الأمة وشرفها، واغتباطها بشرعها، وكونه موافقا مصلحتها، ولا يكون حجرة عثرة في سبيل رقيها مع المحافظة على المنصوص، والمجمع عليه، والأقدام على التحريم بغير دليل ليس
__________
1 أخرجه البخاري "10/ 435" في الأدب، ومسلم "1732" في الجهاد باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير.(2/570)
بأهون من الإقدام على التحليل، وقد نهى الله عن الجميع سواء بقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} 1 الآية كما أن التساهل إلى حد انحلال الشريعة، والتلاعب بنصوصها ليس من سمة المسلمين بل هو مما نعى الله على بني إسرائيل.
ومن ذلك الذي يفتي بحلية معاملة البنوك التي هي الربا الصراح زاعما تقليده للحنفي الذي يجيز معاملة الربا مع الحربي وهو يعلم أنه لا يوجد في الوقت الحاضر حربي، وأن أوروبا لم تبق دار حرب ولا حنفي ولا مالكي يقول ذلك، ولربما جمع في فتواه بين هذين المتناقضين يبيح الربا ويمنع الضمان متساهلا في الأول، ومشددا في الثاني، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، ولا أعجب من هذه الفتاوي في زمننا المظلم لأني رأيت فتوى للإمام السنوسي بحرمة القهوة التي هو البن المعلوم، وفتوى الإمام ابن غازي بطهارة ماء الماحيا الذي يصنعه اليهود شرابا لهم، ولكل من الإمامين وقع في الغلط بسبب معرفته ما أفتى فيه، فالذي حرم القهوة، علل الحرمة بعلل، منها الإسكار وهو لا وجود له فيها، ولا التفتير، ولا النشاط، ومنها ضررها بالبدن وكونها لم تكن في الصدر الأول، وهذا شيء لا يوجب الخرمة، كذلك ابن غازي زعم أن الماحيا لا تسكر، وهو غلط، والصواب إباحة القهوة، وحرمة الماحيا الخبيثة. وأكثر أغلاط الفتاوى من التصور.
هذا وقد نص القرافي في الفرق 36 وغيره على أنه عليه السلام كانت له تصرفات من حيث إمامته العظمى وخلافته الكبرى، وتصرفات من حيث الفتوى وبالتبليغ. ا. هـ. فلأي شيء حمل المتأخرون من أصحاب هذه الفتاوى جميع أوامره عليه السلام فيما يرجع للمعاملات الدنيوية على الباب الثاني دون الأول الناظر إلى المصالح الدنيوية، ولأي شيء لم يحملوا أوامره ونواهيه المتعلقة بالأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والمساقاة والديون والشركة والسلف والقراض والمزارعة ونحوها على أوامر إرشادية سياسية من حيث إمامته العظمى الناظرة للمصالح الدنيوية مرتبة على مصالح حربية أو مدنية أو سياسية بحسب ما يقتضيه مقام كل
__________
1 سورة النحل: 116.(2/571)
أمر أو نهي وبحسب مقتضيات الأحوال فيما لم تظهر فيه نص ولا إجماع على التعبد، فتكون أحكاما مصلحيه سياسية صادرة من حيث ما له من الإمامة والخلافة مربوطة بمصالح تتغير بتغيرها، أو مربوطة بأعراف كذلك، ولا تكون ضربة لازب لا تتغير واجبة العمل ولو تغيرت الأحوال، ولو جلبت ضررا أو دفعت مصلحه.
والدين يسر "والله يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتي عزائمه" كما أن أحكام المعاملات الدنيوية ليست كلها تتغير، بل بعضها فقط، وبهذا تتسع الشريعة على المسلمين في باب المعاملات لا العبادات ولا المعتقدات، فتلك أبواب لا مجال للمصالح فيها، ولكن بشرط أن لا نصادم نصا ولا إجماعا، ومثاله ما تقدم لنا في الجزء الثاني من نصب التماثيل للعظماء في الشوارع، ومنه مسائل الإرث، وأن للذكر مثل حظ الأنثيين، وكون شهادة المرأة نصف الرجل ومسألة الحجاب، كل أولئك بنصوص صريحة أو إجماع، فلا مجال للاجتهاد في ذلك وأمثاله، ولا سبيل لتغييره وأن تغييره مروق من الدين، وثورة على رسل رب العالمين، وإنما كلامنا في المسائل الاجتهادية التي قال فيها المتقدمون بما يوافق زمنهم.
فمن أدرك منا رتبة الاجتهاد، فله أن ينظر فيها بما يوافق أحوال وقته أو في المسائل التي لا نص فيها كمسألتنا، فبهذا يتسع صدر نصوص الفقه وباتساعها تصير ذات مرونة صالحة لهذا العصر الذي تغيرت فيه قوانين العالم كله بما لا يلائم المخترعات والأحوال الوقتية التي لا سبيل لدفعها ولا مناهضتها، وما تجددت حال أو ظهر اختراع، أو تغيرت سياسة إلا وتراهم يغيرون قوانينهم لئلا تمنعهم من التقدم، ولئلا تكون حجر عثرة في طريق نهوضهم، فتوجب السقوط، وضياع المجد، والحياة والشرف.
ولربما كان هذا الجمود على الألفاظ والمألوفات والأحكام التي جعلت كلها تعبدية في باب المعاملات التي بنيت على جلب المصالح، ودفع المضار من أسباب سقوط الأمم الإسلامية، وفي الخير لربما كانت سببا نبذ بعض الدول للشرعية كليا(2/572)
كما وقع أخيرا في تركيا1، ولو أن علماءها سددوا وقاربوا، لم يشددوا ولم يتساهلوا بل اعتدلوا، لكان خيرا وأصلح ولا يكفينا أن نقول للأمة والأجانب الطاعنين، أن شريعتنا صالحة للرقي صالحة لكل زمان ومكان لا تعوقنا عن التقدم، ثم إذا نزلت نازلة كهذه أحجمنا وجمدنا، وأقمنا دليلا واضحا على منقاضة أقوالنا، بل يجب أن نسلك سبيل الجد وطريق العمل بما هو صلاح أمتنا وشرف ملتنا، وقد أسلفنا شيئا من هذا التمهيد الثالث صدر الكتاب، وراجع ما تقدم في هذا الجزء حول هذا الموضوع.
ولقد كان علماؤنا العظام ينظرون إلى هذه الملاحظة، ويحملون كثيرا من أوامره ونواهيه عليه السلام في المعاملات على أنها من باب الأوامر من حيث الإمامة العظمى، فمن ذلك الحديث: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" 2 مذهب مالك أنه تصرف منه عليه الصلاة والسلام بوصف الإمامة كما يصدر الإمام منشورا لعموم رعيته، فيكون أذنا عاما منه عليه السلام، بإقطاع كل موات لمن يحييه، فلا يحتاج لأذن إمام آخر بعده، وحمله أبو حنيفة وغيره على أنه تبليغ شرعي إلا هي، فقالوا: لا بد من إذن الإمام بعده أيضا في كل أرض أريد إحياؤها، ولكن حكم الحنفية بأن مجرد التصرف عشر سنين من غير منازع بشروطه المعلومة يثبت به الملك ولو يشترطوا أن يوجد أذن الإمام يقرب ما بين المذهبين، ومثل ذلك حديث "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه" 3 مذهب مالك أن تصرف بوصف الإمامة وهو إذن خاص بغزاة حنين لمصلحة حربية اقتضاها الحال، فلا بد من إذن الإمام في كل غزاة وإلا رجع السلب للغنيمة التي هي
__________
1 الذي وقع في تركيا وغيرها من بلاد المسلمين من نبذ الشريعة كلا أو بعضا، كان لنبذ الإسلام اتباعا لأعداء الإسلام وموالاة لهم، من دون الله ورسوله والمسلمين.
2 حديث صحيح: أخرجه أبو داود "3037" من حديث سعيد بن زيد وإسناده قوي، وفي الباب عن عائشة أخرجه الطيالسي "1/ 3037" وعن سمرة عند أبي داود "3077"، وعن أبي أسيد عند يحيى بن آدم في "الخراج" "729" وعن عبادة وعبد الله بن عمرو عند الطبراني وفي إسنادها مقال.
3 أخرجه مالك "2/ 454"، والبخاري "6/ 177"، ومسلم "1751"، وأبو داود "2717" من حديث أبي قتادة.(2/573)
الأصل، فيخمس، نعم كل إمام ظهرت له مصلحة إعطاء السلب للقاتل له ذلك قياسا على فعله عليه السلام، فيخرج من الخمس وحمله الشافعي فاعتبره تبليغ حكم شرعي، فهو عام للأمة فلا يحتاج لإذن الإمام بعد حيث تقرر حكما شرعيا إلهيا عاما أبديا، ولا يرجع سلب الغنيمة ولا يخمس أصلا.
ومن ذلك حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأنسية1 فقد حمله بعض الأئمة على أنه ليس تعبديا، بل منع خاص من الإمام لمصلحة قلة الظهر في غزاة خيبر يعني فإذا كثر وأمنت مفسدة قلة الظهر، رجعت الإباحة، فالنهي إنما كان لأمر دنيوي، ودفع مفسدة وقتية يتغير بتغيرها.
وحمله الجمهور على أنه حكم تعبدي إلهي لا يتغير؛ لأنه متعلق بالأكل الذي هو أدخل في باب العبادة من غيره بدليل أنه أكفأ القدور ولم يؤكل ما كان بها من اللحم، وأمر بكسرها، ثم خفف، فأمر بغسلها فاعتبره نجسا وأمثال هذه كثير لمن يتبع أقوال العلماء المتبصرين من المتقدمين، وينظر فيها نظرا ناقدا نافدا.
قال عز الدين بن عبد السلام: السياسة الراجعة لأمور الناس، والمصالح العامة من أفضل الأشياء؛ لأن فيها جلب مصالح ودرء مفاسد. ا. هـ. نقله المسيلي في تفسيره لدى قوله تعالى: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} في سورة ص الآية: 35.
وهكذا يمكن أن يقال في كل حكم تبين لنا بالدليل الصحيح أن حكمته دفع مفسدة دنيوية أو جلب مصلحة لا دخل للتعبد فيها، وهذا خلاف ما نقلتم عن صاحب الموافقات الشاطبية من تضييقه بإدخال التعبد في كل الأبواب، لكنه لم يأت ببرهان يساعده على دعواه كما يعلم بالمراجعة وفي المجلد الثالث من إعلام الموقعين عدد 27 ما نصه: فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد.
__________
1 أخرجه البخاري "12/ 74" في الذبائح: باب لحوم الحمر الأنسية، ومسلم "1407" من حديث علي رضي الله عنه، وفي الباب عن ابن عمر والبراء وابن أبي أوفى وهي في الصحيحين.(2/574)
هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلا رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل للجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، ثم ساق شواهده على ذلك وأطال النفس بما يشفي الأنفس فانظره.
ولقد نعى على الفقهاء الجامدين أكبر نعي كالقائلين بلزوم أن يقول البائع بعت والمشتري اشتريت، والمتعاقدان في النكاح: نكحت وأنكحت بالعربية ولو كانا من الفرس، أو البربر لا يعرفان العربية ولا يفقهان معنى ما نطقا به من تجويزهم قراءة القرآن بالفارسية، وتكبيرة الإحرام بها إلى غير ذلك، وكل هذا إما من الجمود على الألفاظ وعدم الالتفات إلى المعاني المقصودة من الأحكام، وإما من الإغراق في القياس والغفلة عن نصوص الشريعة ومقاصدها، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
وانظر عدد 355 من الجزء الأول من "إعلام الموقعين".(2/575)
تنبيه لكل نبيه:
مما يجب أن نصرح به في هذا المقام رفعا لكل إبهام أن أبواب المعاملات والأحكام الدنيوية هي جزء لا يتجزأ من الشريعة الإسلامية وركن من أركانها، ولا تجد بابا من أبواب المعاملات إلا وأصله مأخوذ من نصوص القرآن صراحة، وضمنا، وكملت السنة النبوية كثيرا منها، وباشر النبي صلى الله عليه وسلم القضاء والحكم بنفسه امتثالا لقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1 الآية وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 2 الآية وكمل الصحابة زمن الخلفاء فمن بعدهم أحكام ما نزل في زمنهم من النوازل بالاستناط حسبما أشرت إليه في القسم الأول والثاني من هذا الكتاب.
وهذا القسم الذي نشأ عن اجتهاد، ولم يقع فيه إجماع هو معترك العقول، ومحل الخلاف، وهو الذي يقبل التغير، ويتبع الأحوال المتجددة، ومن الجهل العظيم بالشريعة أن يزعم زاعم أنها مقصورة على أبواب العبادة.
ولعل الحامل لهذا القائل المبتدع ما لم يقله أحد هو ما رأى من تضييق بعض المتفقهة صدر الحنيفية السمحة بما يصيرها غير صالحة لهذا العصر ولا لكل الأمم وكلا الأخوين قد ضرا وقصرا في فهم الشريعة العامة الأبدية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم هذا ما عن لي كتبه جوابا عن سؤالكم، والله ولي التوفيق.
__________
1 سورة النساء: 65.
2 سورة المائدة: 49.(2/576)
البحث الثامن عشر:
ورد علي من بعض العلماء القضاة بالمغرب ونصبه بعد الديباجة: وبعد فمن من الله علي إلهامي لمطالعة كتابكم "الفكر السامي" ولعمري إنه لموهبة من مواهب الله ومعجزة برزت في هذا الزمان الذي أعوز فيه العلم، ولشدة رغبتي في فهم معانيه، واستطلاعي على تحقيق مبانيه نحضر بعض المواد التي بيدي، ولها إلمام بذلك الموضوع، وقد وصلت لنهاية الصفحة 21 من الجزء الأول في مبحث الاستدلال المستدرك على الإمام ابن رشد حيث اقتصر في مقدماته على مدارك أربعة لأحكام شرائع الدين، ولما كرعت في معمع النوع الثامن من الأنواع الاستدلال الذي هو انتفاء مدرك الحكم الواقع للإمام ابن السبكي فيه قلب عبارة وجدت سيادتك قررت المسألة على ما ينبغي، وأتيت بما فيها للأقل وللأكثر، ونصرت الأول بما هو أجدر ثم أدرجت في هذا النوع مسألة عدم مطالبة النافي بالدليل إن ادعى علما ضروريا، وجعلتها بصورة الاستدلال لمسألة انتفاء مدرك الحكم، فكل فكري عن فهم ذلك، وحيل بيني وبين إدراكه إذ غاية ما بلغ إليه فهم العبد القصير الباع أنهما مسألتان، محصول الأولى أن المجتهد بذل وسعه بالسبر أو الأصل، فلم يجد دليلا وعدم وجدانه المظنون به انتفاؤه دليل على انتفاء الحكم على ما للأقل، فبقيت البراءة الأصلية مثلا الخصم قال: الوتر واجب، والمعارض قال: الوجوب أحد متعلقات الأحكام، والحكم يستدعي دليلا ولا دليل على حكمك بشاهد السبر أو الأصل، فالنافي هنا لم يدع علما ضروريا، فلذلك احتج بالسبر أو الأصل وعدم وصوله للدليل بواسطة السبر أو الأصل حصل ظن الانتفاء لا غير، ومحصول الثانية أن النافي للشيء إذا ادعى علما ضروريا بانتفائه لا يطالب بالدليل على انتفائه سيما وقد قال الشهاب: الضروري هو الحاصل من غير نظر واستدلال فقوله: من غير نظر واستدلال ينبئ إلى أن هذا(2/577)
النوع ليس من قبيل الاستدلال في شيء وأيضا هذه المسألة فيها النفي وتقوى بدعوى الضرورة فتقرير الأصل أو السبر فيها لم أفهمه، ثم لا ثقة لي بهذه الجعجعة، بل المعول عليه هو ما يبديه لي سامي فكركم بعد تقبيل أعتابكم.
وجوابه:
إن المستدل هنا ناف، والنافي لا بد أن يدعي علما ضروريا وإلا طولب بالدليل على ما لصاحب جمع الجوامع والسبر هنا إنما هو اللغوي وهو مطلق التفتيش كما بينه المحشي لا الأصولي وهذا السبر كالبراءة الأصلية هو قائم مع كل ناف، ولم يكتف به صاحب القول الذي درج عليه جمع الجوامع فلا بد له من ادعاء العلم الضروري، وإلا كان مطالبا بالدليل فلهذا كنا مطرين للزيادة المذكورة ونزيديك بيانا فنقول: إن هذا النوع من الاستدلال هو انتفاء الدليل، فينتفي الحكم وهو مرتب على مقدمتين: الأولى: أن الحكم يستدعي دليلا، الثانية: أن لا دليل.
أما أنه يستدعي دليلا، فبالضرورة، وأما أنه لا دليل، فهذه اختلف فيها على أقوال تسعة مسطرة مع ما يرد على بعضها في "إرشاد الفحول" والذي ذهب عليه في جمع الجوامع تبعا للآمدي وقال: إنه الأصح أن النافي إذا ادعى علما ضروريا لم نطلبه بإقامة الدليل على نفي دليل الحكم، وإلا طولب به، ولم يكف نفيه دليلا على نفي الحكم، فقولي: والنافي لا يطالب إلخ هو تتميم للنوع الثامن لا بد منه على القول الأصح، وذلك ظاهر.
وعبارة ابن الحاجب في "المنتهى": المختار أن النافي عليه دليل، وقيل: عليه في العقلية لا الشرعية لنا أنه إذا ادعى علما بنفي غير ضروري، فقد تضمن دعوى طريق أفضت إليه، وإلا أدى إلى نظر ضروري وهو محال فكانت مطالبته بالدليل صحيحة وأيضا فالإجماع على أن الدليل على من ادعى الوحدانية أو(2/578)
التقدم وحاصلهما نفي الشريك، ونفي الحدوث النافي، للزم منكر مدعي النبوة دليل النفي، وكذلك صلاة سادسة، وصوم شوال، والمدعى عليه بحق. وأجيب بأن الدليل قد يكون استصحابا مع عدم الرافع له، وقد يكون انتفاء لازم. ا. هـ. منه بلفظه. وأما تعريف الشهاب للضروري، فلا ينافي سبر المستدل، ولا تمسك بالبراءة لأنه صار ضروريا له بعدهما، وعنهما نشأت ضروريته، أو هو ضروري له من أول مرة، ولكن لم يكتف بما عنده من الضرورة رعيا لحال خصمه، فقال: إني سبرت أو تمسكت بالبراءة الأصلية تبرعا منه، وإن لم يكن مطالبا بذلك من حيث قواعد الجدل، بل يكفي أن يدعي علما ضروريا هذا ما أوجب عليه زيادة ما ذكر بناء على القول الذي اقتصر عليه صاحب "جمع الجوامع" وصححه والله ولي التسديد.(2/579)
البحث التاسع عشر:
وهو وقع لكم في الربع الأول من "الفكر السامي" في مبحث أصل القياس وأسرار التشريع، وفي الثانية في ترجمة أبي حنيفة، وفي الثالث في ترجمة داود الظاهري أن الأحكام الشرعية لها علل، ولتلك العلل حكم ومصالح إلخ وهذا يوهم أن أحكام الله وأفعاله قصدت منها أغراض وعلل غائية، ويوهم وجوب مراعاة الصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح العقليين، فنرجو من مكارمكم إيضاح المقام بما عودتمونا من مضاء القريحة، وفضل البيان حتى يزول كل إيهام، فبأفكاركم تزول الغياهب، وبقلمكم يستجلى كل ضباب.
وجوابه:
إن أفعال الله منزهة عن الأغراض والبواعث والغايات والعلل، كما هو(2/579)
مذهب السنة، وليس في كلامنا أفعال الله، بل في كلامنا التصريح بنفي ذلك في غير ما موضع عن أفعال الله، وانظر عدد 362 من الجزء 1 وعدد 318 منه ففيهما مقنع وشفاء والذي ذهبت إليه في الكتاب كله وهو مذهب أكثر الفقهاء، وبعض الأشاعرة أن أحكام الشريعة الخمسة من حلال وحرام وندب وكراهية ووجوب، لها علل، بمعنى أن الشرع جعل لها علامات وأمارات تسمى في عرف الفقهاء والأصوليين علل الأحكام مثل الإسكار الذي جعل علة لحرمة الخمر حيث يفضي إلى الفتن والعداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة بتغطيته العقل، ولتلك العلل حكم ومصالح تترتب على تلك الأحكام، كصون العقل والمال والبدن والعرض المرتب على تحريم الخمر إلى غير ذلك مما سبق في عدد 81 من الجزء 1.
ولا يلزم من إثبات ذلك إثبات ما يسميه المعتزلة غرضا وعلة عقلية لأفعال الله التي لا بد عندهم أن تكون تابعة للأصلح أو الصلاح وجوبا عليه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فما نسميه نحن علة إنما هو أمارة وعلامة نصبها الشرع على الحكم للمجتهد لتتبع كل ما وجد فيه العلة، فيكون فيه الحكم، وإنما هناك اشتراك في مجرد لفظ العلة التي وقع التواضع عليها بالإصطلاح حتى إن السبكي اعترض على الإمام الآمدي حيث سماها باعثا لما يوهمه من مذهب الاعتزال مع أن كتابه "الأحكام" الذين بين أيدينا ما عبر فيه إلا بالعلة والعلامة والأمارة، ولعله في غيره، أو في محل لم نقف عليه.
وأيضا أن كون الأحكام روعيت فيها مصالح الخلق ليس ذلك على سبيل الوجوب على الله وأنما هو لطف منه سبحانه وتفضيل وامتنان، فالفرق واضح بين القولين وصراحة كلامنا في ذلك لا إبهام فيها ولا إيهام.
وأما التحسين والتقبيح العقليان، فما أبعد كلامنا عنه والتحقيق أن العقل يدرك حسن بعض الأفعال بمعنى ملاءمتها للطبع أو كمالها كالصدق والعلم،(2/580)
ويدرك قبح بعض أو نقصه كالكذب والجهل بمعنى منافرة الطبع أو نقصها وهذا محل اتفاق بين الأشاعرة والمعتزلة ولكن ذلك ليس في كل فعل فعل، بل في البعض، وقد يخفى عن العقل الحكم في البعض، ولا يدركه إلا من قبل الشرع كما أنه يمدح ذلك الحسن ويذم القبيح، ولا سبيل إلى إدراك الثواب والعقاب إلا من قبل الشرع هذا في الأحكام. أما في أفعال الله تعالى، فالذي مشى عليه محققون من الأشاعرة أنه لا ابتداع فيقول من قال: إن أفعال الله كأحكامه لا تخلو من حكم ومصالح وغايات راجعة إلى عبيده لا إلى ذاته تعالى تفضلا لا وجوبا، وهو منزه عن أن يصله نفع من ذاته لذاته فضلا عن غيره؛ لأنه غني عن العالمين، ورعايتها من لطفه ورحمته التي وسعت كل شيء، ولا يجب1 على الرب شيء وهو الفاعل المختار القادر القهار، ولا يلزم على مراعاتها استكمال أصلا كما حرره صدر الشريعة وغيره؛ لأن المصلحة ليست راجعة إليه حتى يستكمل بها بل إلى مخلوقاته المفتقرة إليه تفضلا ومنة اقتضاها أنه الحكيم العليم المريد، فوصفه نفسه بالفعال لما يريد، وبالحكيم يقتضي القصد والإرادة والحكيم لا يريد إلا ما فيه فائدة ومصلحة لعبيده تفضلا منه لكرمه الواسع وجوده العميم قال صدر الشريعة في الأصول: وما أبعد عن الحق قول من قال: إنها ليست معللة بمصالح العباد، فإن بعثه الرسل عليهم لاهتداء الخلق، وإظهار المعجزات لتصديقهم، فمن أنكر التعليل، فقد أنكر النبوة، قال صاحب "التلويح": إن تعليل بعثة الرسل باهتداء الخلق لازم لها، وكذا تعليل إظهار المعجزة على يدهم بتصديق الخلق لهم، وإنكار اللازم يوجب إنكار الملزوم؛ إذ ينتفي بانتفاء اللازم، فإن قالوا: إن تحصيل مصلحة العبد وعدمه إن استويا بالنسبة إليه تعالى حيث لا
__________
1 ليت شعري ما معنى الوجوب عليه تعالى؟ ومن الذي أوجب هذا الوجوب؟ وهل المخلوق يحكم على الخالق؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقد اتفق أهل السنة والمعتزلة معا أنه لا حاكم إلا الله {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} وأن العقل لا يوجب شيئا على الله سبحانه، نعم قد أوجب الله على نفسه أشياء وردت في القرآن والسنة كعدم تعذيب أهل الفترة قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وذلك الإيجاب تفضل منه ومنة اقتضاه عدله ورحمته. ا. هـ. مؤلف.(2/581)
نفع ولا ضرر يصل لذاته فلا يصح أن يقال: إن ذلك غرض أو علة، فليلزم الترجيح بلا مرجح، وإن لم يستويا بالنسبة إليه، كان فعله للأولوية، فيلزم الاستكمال لأن معنى كونه غرضيا أو علة هو أنه مقصود ومراد له تعالى، أي توجهت إرادته إليه من غير أن تكون فيه مصلحة لنفسه تعالى، ومثل ذلك قد يحدث لأمثالنا إليه من غير أن تكون فيه مصلحة لنفسه تعالى، ومثله ذلك قد يحدث لأمثالنا والله منزه عن التمثيل، فإنا قد نواسي ونحسن لمن لا منفعة لنا فيه، ولا نرجو منه ثناء ولا ثوابا ولا غرض لنا أصلا سوى الرحمة والشفقة لا سيما إن كان في معرض الهلاك لولا تلك المواساة.
وفعل الله الذي هو غني عن العالمين وهو الرحمن الرحيم بهم كيف لا يكون كذلك، وأي استحالة في هذا، وأي نقص يتصور فيه، قال سعد الدين في شرح "المقاصد": الحق أن تعليل أفعال الله تعالى سيما الأحكام الشرعية بالحكم والمصالح ظاهر كإيجاب الحدود والكفارات وتحريم المسكرات وما أشبه ذلك، وأما تعميمه بأنه لا يخلو فعل من أفعال عن غرض، فمحل بحثه ومراده بالتعليل هو ما بيناه آنفا، فلا يرد بحث الدواني معه، ولله در سعد الدين حيث اعترض جعل القضية كلية، فإنا نعلم أن خلود أهل النار في النار من فعل الله، ولا نفع ولا مصلحة فيه لهم فيما يظهر، ولو كان الحق لا يصدر عنه إلا ما فيه مصلحة العبيد لما أوجد الكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة؛ إذ العدم أصلح له بلا شبهة. وعلى كل حال أن الغرض والعلة الغائبة والباعث، الصواب نفيه عن جانب الربوبية لإشعاره بالنقص تعالى عن ذلك.
أما قصد حصول الحكم والمصالح بالنسبة للعبيد من أفعاله تعالى وأحكامه، فلا محذور فيه، وليس هو بكلي في كل فعل فعل، ولا في كل حكم حكم من أحكام الشريعة على القول بإثبات التعبدي، وذلك على سبيل التفضل والمنة لا الوجوب. وانظر المجلد الثاني، من "إعلام الموقعين" عدد 23 وما بعده، ولا بد.(2/582)
تنبيه: وها هنا دقيقة وهو أن بعض المحققين يقول: إن الله فاعل بنوع أشرف من الاختيار، وذلك النوع لا اسم له عندنا لأنا إنما نعرف أسماء ما عهدناه، والناس إذا عدموا شيئا عدموا اسمه، وخواص الخواص معدومة الأسماء، ونحن نحسن بمعانٍ جمة، وفوائد كثيرة لا نستطيع صرفها عن أنفسنا، ونعجز أن نسميها باسم يؤديها تماما، ونعتاض عنها بإرشارات وتشبيهات تقوم مقام الأسماء الفائتة، وقد صح البرهان أن فعل الله تقدس ليس باضطرار؛ لأن هذا نعت العاجز، وليس باختيار أيضا لأن في الاختيار معنى قويا من الانفعال يعلم هذا من ألف شيئا من الفلسفة فلم يبق إلا أنه فاعل بنحو عال شريف يضيق عنه الاسم والرسم كما أنه لو قال لك قائل: لم عبرت عن الله بالتذكير دون التأنيث لما كان عندك إلا أن تقول: هذا ما أقدر عليه، وليس عندي اسم يحضرني سواه.
وأكثر ما أمكنني أنني لم أنعت بنعوت الإناث، والتذكير والتأنيث يوجدان فينا وبهما أشبهنا سائر الحيوان، وهما منفيان عن الله من كل وجه وكل وهم، كما أن قولنا: يفعل الله لا يصح معناه في الباري؛ لأنه عبارة عن انفعال الأشياء إليه؛ لأن الأشياء له، وكلها مشتاقة ومتوجهة إليه، مستأنسة به، وأنت تعلم أنه لا فاعل إلا ويعتريه نوع من الانفعال في فعله، لذلك لا منفعل إلا ويعتريه نوع من أنواع الفعل في انفعاله إلا أن الفعل في الانفعال خفي جدا، وبالعكس الانفعال في الفعل.
لذلك لا يطلق على الفاعل إلا الاسم الأخص له، فظهر أن قولنا: فاعل مختار فيه نوع من المجاز في الكلمتين حكمت به العادة، وضيق اللغة. هذا تحرير القول في هذه المسألة، وإذا ظفرت به فاحتفظ بألف مغنم.(2/583)
البحث العشرون لبعض الأصحاب الرباطيين:
وهو وقع لكم في الصفحة 231 من ج1 "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" والوارد هو لفظ: إن معاشر الأنبياء وبحذف الصدر، والاقتصار على قوله لا نورث ما تركنا صدقة وهي في الصحيحين.
وجوابه:
نعم الوارد في رواية أحمد1 وغيره بلفظ: "إنا" دون "نحن" فما "الفكر السامي" رواية بالمعنى وهي جائزة على الصحيح، ومثل هذا البحث لا يصدر من المحصلين لا سيما في مقام كهذا قصد به مجرد الاستدلال لا الرواية، ولم ننسبه لمصنف من المصنفات الحديثية بغير اللفظ المخرج فيه.
__________
1 المسند "2/ 463" من حديث أبي هريرة، ورواه عن عائشة البخاري "12/ 4"، ومسلم "1757" بلفظ: "لا نورث ما تركنا صدقة" ورواه مالك "2/ 993" ومسلم "1758" عن عائشة بلفظ: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة" ورواه مالك "2/ 993"، والبخاري "12/ 5"، ومسلم "1760" عن أبي هريرة بلفظ: "لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي، فهو صدقة".(2/584)
البحث الحادي والعشرون له أيضا ونصه:
وقع لكم في الصفحة 342 ج1: وأما الذي اعتمداه أبو زرعة بن أبي الفضل بن الحسين العراقي الحسيني إلخ مع أن أبا زرعة المذكور ليس بحسيني، وإنما هو عمري، كما في أول شرح ألفية السير. ا. هـ.
وجوابه:
إن هذه الجماعة وهي أبو زرعة بن أبي الفضل بن الحسين العراقي ليست من الأصل وإنما وقع وهم للطابع لمحها في ورقة أخرى، فأدرجها هناك غلطا، وأصل عبارتي المنقولة من "تعجيل المنفعة" لابن حجر هو ما لفظه للحافظ أبي الحسين بن المظفر، وأما الذي اعتمد الحسيني على تخريج رجاله إلخ وما أدري كيف وقع للطباع في هذه الزيادة، أما قول الباحث: إن أبا زرعة عمري، فليس بصواب، بل هو كردي رازياني بالياء المثناة تحت ثم ألف ثم ياء النسب كما في ترجمة والده أبي الفضل من "ذيل طبقات الحفاظ" للحافظ أبي المحاسين محمد بن علي بن الحسين الحسيني الدمشقي عدد 220 فانظره، وانظر ترجمته في الشافعية من هذا الجزء، وترجمة والده أيضا.(2/585)
البحث الثاني: والعشرون له أيضا ونصه
قلتم في الصفحة 383 ج1 في وفاة مالك سنة 179 باتفاق. إن الاتفاق حكاه الحطاب وتبعوه، لكن ابن خلكان حكى الخلاف في ذلك.
وجوابه:
ليس كل خلاف جاء معتبرا إلخ.(2/586)
البحث الثالث والعشرو: له أيضا
...
البحث الثالث والعشرون: له أيضا
قال: وقع لكم في عدد 79 ج2 في ترجمة الدارمي أنه صاحب المسند، وهذا أصله لابن الصلاح في المقدمة، وانتقد عليه بأنه ليس من المسانيد؛ لأنه مرتب على الأبواب لا على الصحابة كما في الألفية العراقية.
وجوابه:
إن نفي صاحب الألفية ليس حجة على ابن الصلاح المثبت؛ إذ يحتمل أن يكون له مسند وجامع، على أن تخصيص المسند بما رتب على الصحابة اصطلاح حديثي حادث، والمعنى اللغوي صحيح لوجود الأسانيد فيه، وقد أطبقوا على
تسميته بالمسند.
حتى عند أصحاب الفهارس كصاحب "صلة الخلف" فإنه سماه مسندا، ثم أورد المناقشة اللفظية التي ذكرتم، ونحن تبعنا من ترجموه وقالوا: إن له مسندا، والخطاب في ذلك سهل.(2/586)
البحث الرابع والعشرون: من بعض الأصحاب الفاسيين
...
البحث والعشرون: من بعض الأصحاب الفاسيين
قال: وقع لكم في الجزء الرابع في تراجم المالكية في الإمام محمد بن المدني جنون الكبير أنه توفي 1300 على رأس المائة الثالثة عشر، وإنما توفي في سنة اثنتين بعدها في أول ذي الحجة، وفي الشيخ إبراهيم التادلي الرباطي وقع لكم أنه توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف، والذي تلقيته من بعض الرباطيين أنه توفي في سنة ست قبلها، وفي سيدي محمد القادري وقع لكم أنه توفي سنة 1329، وأنما توفي عشية الأحد ثالث عشر رجب سنة 1331 إحدى وثلاثين، ووقع لكم في ترجمة محمد بن إبراهيم المشترائي أنه تولى القضاء بعد أبي العباس بن سودة، والتحقيق أن الذي تولى بعده ولده العباس، ثم المولى أحمد العلوي الملقب بدبيزة، ثم ابن إبراهيم المذكور. ا. هـ. بخ.
وجوابه:
أما التادلي، فالتحقيق في تاريخ وفاته هو ما في "الفكر السامي" وهو الذي أخبرني به والده السيد عبد القادر أحد عدول الرباط الآن وغيره من تلاميذه الذي أظن بهم التحقيق، وتوجد إجازات وشهادات بحفظ المتوفى بعد سنة ست التي ذكرتم وفاته فيها حيث كان متعاطيا للشهادة بسماط العدول.(2/587)
وأما جنون الكبير وسيدي محمد بن قاسم القادري، فالحق في وفاتهما هو ما ذكرتم، وما وقع في "الفكر السامي" غلط مني، أو من مخرج المبيضة أو غيره، وقد وقع التنبيه عليه في جدول الإصلاح، ولكم مني مزيد الشكر على التنبيه.
وأما قولكم عمن تولى بعد أبي العباس بن سودة قضاء فاس، فهو بحيث تافه؛ إذ البعدية من الظروف المتسعة، فهو على حد قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} 1 وكان بعد ذلك صمويل آخر قضاتهم الذي كان بعد موسى بزمن طويل زادكم الله حرصا على ترقي العلم. وتوقي الوهم.
__________
1 سورة البقرة: 246.(2/588)
البحث الخامس والعشرون:
من بعض أعلام مصر، ونصه بعد الديباجة: سيدي، شرفتم مكتبتي بإهداء نسخة من كتابكم العديم المثل، الجزيل البذل "الفكر السامي في تاريخ الإسلام" فازدانت بجماله الباهر، وتحلت لبتها العاطلة بجوهره الزاهر، تقبل الله عملكم المبرور، وسعيكم المشكور، ولقد سبرت مبانيه، وخبرت معانيه، فأكبرت مقاصده، واستعذبت موارده، وحمدت الله أن أبرزه في هذا الزمن الذي نضبت فيه المنابع، وغزرت الدعاوي، واشتدت الزعازع، وإني لأعده من معجزات الدين، ومؤيدات اليقين، فقلما رأيت من كتب في العصر ما طابق اسمه مسماه مطابقته، أو أفاد مع غزارة العلم إفادته، أو أجاد في الصناعة العلمية إجادته، على حسن الإبداع، وسلامة الاختراع، ونفاسة الذوق مع الاتساع.
فما من سواد في بياض رأيته ... بأحسن من هذي العيون ولا أحلى
ولقد أكملتم جماله، وأبدعتم كماله، بابتكاركم فتح باب النقد، وقبولكم كل ملاحظة رغبة في التنقيح، وغبطة بالتصحيح، مما دل على صدق النصح(2/588)
للمسلمين، في إبانة الحق، وتحرير العلم والدين، فلكم من الله الجزاء الأوفى، والثناء الأكفى.
إن هذه الفكرة عالية، ومكانة في اتساع الأخلاق سامية، أراكم قد سبقتم علماء الإسلام لفتح بابها تصير سنة متبعة، تتحرر بها المؤلفات في حياة مؤلفيها، وتتضح بها أوهام من يتصدى للنقد وهو في تطوره العلمي لم يزل في المهد.
مولاي أوجبتم على إبداء ملاحظاتي قياما بنصح الإسلام، فإني ممتثل أمركم طالب عفوكم، ولكن بعد أن أوفي مؤلفكم حقه بذكر بعض مزاياه المنفرد بها، وإن شارك غيره في غيرها، لئلا أكون ممن بخس الناس أشياءهم، أو أنسأ حقهم فأساءهم.
سيدي أول ما وقع طرفي على الديباجة التي خالفتم فها عادة كل ما يرد علينا من مؤلفات السادة المغاربة وبعض المشارقة من تطويل الخطبة، وتنميقها بالسجع، وما يلقونه على وجه تواليفهم كبراقع تحول دون المقاصد إلا وأخذ أسلوبه العجيب السهل الممتنع بشراشر القلب، ومنافذ الفؤاد، فنفذت عذوبة بيانه، ومتانة علومه بأسرع من البرق إلى الفكر والمشاعر، فملكتها، فما مضى زمن وعد موسى حتى استوعبته مطالعا أكثر مسائله، مقابلا لما لم أستحضره منها على أصوله في مظانها بنظر مستقل غير متحيز ممتثلا أمركم المطاع، فإذا هو لب لباب وسحر الألباب، وقد فتح الباب لعلم جديد كان فيه الكتاب، وفصل الخطاب، بل لخص علوما، وما من علم التقمه إلا وأجاد هضمه.
فهذا أصول الفقه الذي لا يجيد الكتابة فيه إلا نحارير الأمة وفلاسفتها العظام الماهرون في علوم اللسان والتشريع الإسلامي، لكونه فلسفة العلوم الإسلامية، وميزان اختبار اختيار أعلامها، وسلاح المجتهد في الهيجاء عند احتدامها، قد أتيتم بملخص مهمه، وسواد عيونه في القسم الأول من كتابكم، وكملتم بقية منه في القسم الرابع لمناسبة أوجبها الانسجام، وما فاتكم منه إلا ما هو من فن آخر غالبا كمبحث الحروف الذي هو لغوي، ومباحث المنطق والتوحيد(2/589)
والتصوف التي ضخم بها "جمع الجوامع" وأصله.
ومع مقابلتي لمسائله على أصوله "كالمنتهى" و"المستصفى" و"إحكام الأحكام" و"المحصول" و"التنقيح" و"مسلم الثبوت" وغيرها، وجدتكم عمدتم إلى ضخام الأسفار، فقربتم ثمارها اليانعة في أوراق عظيمة القيمة، قليلة العدد، إبريز البيان كعقود زمرد وجمان.
فالمحصل لها محصل لفز يعد بها من أعظم رجاله، وأساطين كماله وجماله غير أنكم أطنبتم في مبحثي التقليد والاجتهاد بما لا يناسب ما في الجزء الأول من محاسن الإيجاز، الذي هو لأهل الفن إعجاز، ولكنكم أتيتم في المبحثين بمسائل وتحريرات لا توجد في كتاب بيد أنها تبرد غلة الطلاب.
ولقد رقص أهل الفن وغواة التاريخ طربا بما أدمجتموه في الجزء الأول من تلك القطعة العنبرية، التي فاح شذاها في المشارق والمغارب، واستطردتموها استطراد علي للمسألة المنبرية، وهي تاريخ نزول الأحكام الفقهية، وترتيبها على سني الهجرة النبوية مما لم يتقدمكم إليه غيركم حيث إنه من موضوع فنكم الذي ابتكرتموه، ولعمر الله إنها لمن أمهات المسائل التي كان يجب على أعلام الأمة إفرادها بالتصنيف، وتمحيصها كل التمحيص؛ إذ بها تنحل عويصات، وتظهر أسرار أحكام خفيات، وقد ادخرتها لكم الأقدار لتظهر ما لكم في الشريعة والتاريخ من الاقتدار، وحسن الابتكار، وإن ما كتبتم في ذلك على إيجازه لجامع لأشتات ما تفرق في دفاتر فقهية وتاريخية وحديثية يعد تأليفا لطيفا مستقلا، وفنا جديدا، ولقد حررتم ما جمعتم تحريرا، وحبرتموه تحبيرا، والله يحسن مثوبتكم على تعبكم في استقصائكم.
وهذا علم تراجم الرجال عمدتم إلى جمهرة أعيانه، وواسطة تاج إيوانه، من رجال الفقه والأصول والحديث، ولخصتم زبدة اللبن كأنكم أشرفتم على(2/590)
جيش عرمرم، فانتقيتم منه كل حامل راية، ومن لا تدرك لكفايته غاية، فلا يتمالك الناظر المنصف أن يظهر إعجابه وبهته واستغرابه، من استقصائكم لأولئك الأساطين العظام، الذين بأسفار تواليفهم بنيت قبة الإسلام في العصور الذهبية، وبأفكارهم وأقلامهم اتسعت دائرة معارفنا، وازدهت مكتباتنا، وافتخرت أجيالنا، غير أنكم اعتنيتم بحفاظ الحديث، وبالخصوص الشافعية منهم، وبفقهاء المالكية وعلى الأخص المغاربة منهم والفاسيين، ولكن الفقه مرتبط بالحديث ارتباط الفرع بأصله، والمرء لا يلام على اهتباله بوطنه ومذهبه، وكل فتاة بأبيها معجبة ولا بأس أن ينبه جنابكم آخر الكتاب على وفاة القفال الكبير الذي لكم في الصفحة 129 ج2، فإن السخاوي في كتاب "إعلان التوبيخ" ذكر أنه توفي سنة 365 خمس وستين وثلاثمائة.
وهذا علم التاريخ السياسي قد أبان ما لخصتموه منه أول أطوار الفقه استحضاركم لتاريخ سلفكم الطاهر استحضار الإمام الراتب لفاتحة الكتاب، مكتفين بإعجاز الإيجاز عن الإطناب.
نعم ربما وقع الخروج عن موضوع الكتاب في بعض المناسبات كإدماجكم تاريخ اللغة العربية في أربع ورقات من الجزء الثاني، وتاريخ علم التصوف في ثمان ورقات من الثالث، وكان يكفي الإحالة على كتبهما إذ الكل علم مستقل، فلئن تجنبتم أول الكتاب ذلك النقاب، فقد وقعتم في الإسهاب.
على أنكم قد أبدعتم إبداعا فيهما، ولا سيما في تاريخ التصوف، فلقد أتيتم بما لم نره لغيركم، ولا سقطت عليه قريحة سواكم وهما تأليفان مهمان أدرجتموهما إدراجا، ودبجتموهما أحسن تدبيج، وما أحسنهما لو استقلا بإطلاق، لا كاستقلال مصر والعراق، وتكفيكم الإجادة عذرا، ولكن إياكم وما يعتذر منه.
وهذا علم الحديث، فلقد تتبعت ما دللتم به من السنة النبوية، فما رأيتكم أتيتم بحديث إلا وبينتم مخرجه وحالته صحة وإعلالا مستقصين ما لعظماء الفن(2/591)
فيه، وما لم يناسب سوقه في الأصل، وشحتم به الهوامش الدرر، فبدت بها أنوار الغرر، ولربما اتكلتم على شهرة بعض الآثار في "الصحيحين" أو السنن يعلم ذلك من له إلمام بالفن، نعم ذكرتم في ترجمة عائشة الصديقة من الجزء الثاني أنها روت شطر الدين، فربما يفهم الناقدون إنه إشارة لحديث باطل "خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء"1 لكن المنصفون يعلمون أن لا درك عليكم من ذلك حيث لم ترفعوه صراحة ولا ضمنا بله أنه يلزمكم القول بمعناه. ولعمري لا تستبعد تلك المنقبة في حق الصديقة رضي الله عنها، مع ما أوتيته من سعة العلم، وغزارة المادة، بيد أنه فاتهم التنبيه على بطلان الحديث، ومقامكم العلمي الأثري يوجبه رفعا للوهم.
كذلك سقتم في ترجمة عمار بن ياسر حديث "ويح عمار تقتله الفئة الباغية" والذي في صحيح البخاري "ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" وليس
__________
1 قال الحافظ ابن حجر في تخريج ابن الحاجب من إملائه: لا أعرف له إسنادا، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في "النهاية" لابن الأثير ذكره في مادة: حمر، ولم يذكر من خرجه، ورأيته أيضا في كتاب "الفردوس" لكن بغير لفظه، وذكره من حديث أنس بغير إسناد أيضا، ولفظه "خذوا ثلث دينكم من بيت الحميراء" وبيض له صاحب "مسند الفردوس" فلم يخرج له إسنادا، وذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير أنه سأل الحافظين المزي والذهبي، فلم يعرفاه، "المقاصد الحسنة" "198"، وقال الزركشي في "المعتبر" ورقه "19/ 1"، وذكر لي شيخنا ابن كثير عن شيخه أبي الحجاج المزي أنه كان يقول: كل حديث فيه ذكر الحميراء باطل إلا حديثا في الصوم في سنن النسائي قلت: وحديث آخر أخرجه النسائي في عشرة النساء ورقة "75/ 1" من حديث يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني بكر بن نصر، عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: دخل الحبشة المسجد يلعبون، فقال لي: "يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم؟ "، فقلت: نعم: فقام بالباب، وجئته، فوضعت ذقني على عاتقه، فأسندت وجهي إلى خده، قال: ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبك"، فقلت: يا رسول الله لا تعجل، قالت: وما بي حب النظر إليهم، ولكني أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي، ومكاني منه، وهذا سند صحيح كما قال الحافظ في "الفتح" "2/ 370".(2/592)
فيه "تقتله الفئة الباغية" 1 نعم لأدرك عليكم حيث لم تنسبوه للصحيح غير أن حيادكم الاعتقادي نحو الصحابة يوجب حذفه، وإنه ليطربني تفسيركم لآيات الكتاب الحكيم حيث هو تفسير استقلالي أثري غير متأثر بالوسط، ولا بالمذهب المالكي، ناهج مناهج الاعتدال، مؤيد بالسنة وقواعد العربية والأصول بما يوجب لمؤلفكم إقبال نبغاء أهل العصر الحاضر.
وهذا علم الفقه قد أتيتم في كتابكم على صغر حجمه من المسائل تمثيلا واستشهادا بما لو حصله طالب، لعد من عليه الفقهاء النظار لردكم الفرع إلى أصله، وإفراغ الاستنباط في أفخر شكله، وتحري صحيح النقل، وتوهين ما زاغ عن جادة العدل، مع استقلال الفكر، وعدم التحيز لأي مذهب إلا إن كان له حجة مما يضمن لكم أن لا ينفر من كتابكم هذا حنفي ولا شافعي ولا حنبلي.
نعم انحيتم بلائمة كبرى على مذهب الظاهرية الذي خانه سعده معكم، ولكن ندرة أهله في الوقت الحاضر تأمنون بها ضجته وليتكم تمسكتم بالحياد، ومنحتموه حريته، على أن نقدكم إياه قد أصاب غالبه الكلي والذري، ولكن الحي قد يغلب ألف ميت. وأعظم بفائدة ما أتيتم به من أصول المذاهب الأربعة، ومذاهب الظاهرية مما فيه غنية عن المطولات الهامة، وذلك مما يهم كل فقيه، ويوجب شكر كل منصف نبيه.
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه "1/ 451" في المساجد: باب التعاون في بناء المساجد من حديث أبي سعيد بلفظ "ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" وأخرجه مسلم "2915" في الفتن من حديث أبي سعيد قال: أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعمار وهو يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول: "بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية"، وأخرجه مسلم أيضا "2916" من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" ورواه جماعة من الصحابة غير من تقدم أبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وعثمان بن عفان، وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وأبو اليسر وعمار نفسه عند الطبراني وغيره، وقال الحافظ: وغالب طرقها صحيحه أو حسنة.(2/593)
بيد أنكم أجملتم إجمالا في المذهب الزيدي والشيعي مع أن هذا مذهب أمة من أرقة الأمم الإسلامية ولكن بعد الدار أبديتم به أقرب الأعذار، كما أنكم أغضيتم عن مذهب الإباضية إغضاء الحليم عن المجرم وهو مذهب منتشر بجواركم في جنوب الجزائر، ويقول البعض: إنه موجود بالمغرب أيضا، كما أنه مذهب أمارتي مسقط وزنجبار، ولهم فقهاؤهم وكتبهم وفروعهم وأصولهم، ولا بدع أن أجبتم بقول الشاعر:
وليس كل خلاف جاء معتبرا
إلخ.
هذا وأما الفن الذي أسستم قواعده، وشيدتم في عواصم العلوم هياكله ومشاهده، وابتكرتم أصوله، ومهدتم فروعه بمهارة نادرة في استنباط مسائله، وإفحام سائله، واستخراجكم لأطواره من حياة أبطاله، فذلك اتفق على إحسانكم فيه كل الإحسان، كل إنسان بكل لسان، والبرهان العيان، وما بعد العيان بيان.
وإما إرشادكم إلى تجديد الفقه، وإحياء طرق الاجتهاد بإصلاح الدراسة، وتأليف كتبها الفقهية والعربية، وإحياء معاهد الفتوى والقضاء إلى أن تعود لما كانت عليه في الصدر الأول، فذلك شأن المصلحين البارعين المفكرين بمفكرة واسعة، والناظرين إلى مستقبل الملة بالمنظار الصافي من كل كدر عن ذوق صحيح وغيرة حقيقية، وإن ذلك كله لحقيق بكل إعجاب وإكبار.
وسيدي ولا يهولنكم ما قد يورده الجاحدون من كون الدواء الذي أرشدتم إليه هو نوع تغيير للشريعة، والرسوم المتلقاة عن الآباء القدماء رحمهم الله، فنحن نجيبهم بأن أصول الشريعة هي المنصوص والمجمع عليه، وقد أوجبتم حفظهما، والعض عليهما بالنواجذ، وإنما التغيير للأحكام الاجتهادية إن اضطر إليه، والتغيير الحقيقي المبيد للشريعة هو عملهم السائرون عليه، فقد تركوا الحدود الشرعية من الأحكام، فلا حد يقام في الأرض على وجهه الشرعي، ولا قصاص، ولا لعان، ولا ولا ولا، نبذوا أحكام الربا، وأحكام البيوعات،(2/594)
الإجارات، وصاروا إلى أحكام عرفية، والمجالس التجارية، ومجالس الجنح والجنايات منابذين للشريعة جهارا وربما تولى تلك الأحكام من يزعم أنه من علماء الشرع الإسلامي، ولم يبق راجعا إلى القضاء الشرعي إلا القليل قد يندثر مع الزمن لا قدر الله على أن هذا القليل ما علمت من قال وقيل.
فلأن نجعل تعديلا لأحكام اجتهادية تغيرت الأحوال، فلزم تغيرها، ويبقى الدستور شرعيا اسما ومسمى خير من أن يصير وضعيا، ونصبح منابذين لشريعة الإسلام كليا، ولا شك أن جمود الجامدين هو موت الشريعة اللزام؛ إذ طبيعة الجمود هو الموت الزؤام.
فلله أبوكم ما أدق نظركم، وأوسع في مجال المصالح الشرعية فكركم.
إن ما أرشدتم إليه من دواء لهو الإصلاح النافع، وكيف لا وقد صدر من قلم طبيب منور نطاسي ماهر، عالج المسألة التعليمية طيلة السنين، وعرف داءها الدفين، وكشف بالكاشف الحديث مكامن الداء كشف حكيم غيور صادق، وأرشد إلى الدواء إرشاد يقظ وامق، غير مكترث بقال ولا غال ولا منافق، وهكذا كان أصحاب العقول الكبيرة من علماء وفلاسفة يهتمون بأمور الأمة، ويعالجون داء أهل الملة، وكثير منهم لم يبلغوا ما بلغت، ولا نقبوا على ما نقبت، فحملوا على الرءوس. وفدتهم أممهم بالنفوس، والله المسئول أن ينبه الأفكار الإسلامية لاتباع إرشادكم، ويثيبكم بما أثاب به المصلحين إنه ولي ذلك.
سيدي الشيخ إن فكركم السامي هو عنوان النهضة العربية بالديار المغريبة كما قال عنه المجمع العلمي العربي بالشام، وحسنة من حسنات هذه الأيام، تكفر عن سائر الأعوام، وبرهان قاطع على أن المغرب الأقصى احتفظ بنخبة الأعلام، الذين يخدمون الملة بالقلوب والأحلام والألسن والأقلام، ويستجلى بفكرهم السامي حالك الظلام، فلو وقف عليه أبو الوليد الشقندي ما فضل أندلسه على العدوة، ولا صدرت منه تلك الهفوة.(2/595)
وإن مثل كتابكم هذا يجب أن يدرج في برنامج الدروس العالية والثانوية بالمعاهد الإسلامية الكبرى يسد ثلمة فراغا لا يسدها غيره ولقد كتب الشيخ الخضري رجل مصر في التاريخ وعلوم الشريعة في الموضوع الذي كتبتم فيه قريبا من الزمن الذي كنتم تكتبون فيه، لكنه جاء بوشل ما عل ولا أنهل، ولا عطر بعد عروس، لا زالت تنير ما أظلمه التأخر، وتبني ما هدمه التقهقر، ويا ليت النوابغ من الفقهاء والمؤرخين والمتفلسفين يكتبون على نسق ما كتبت، ويستصبحون بالمصباح الذي أنرتم، ومن الله نسأل المعونة والتسديد لسائر أهل العلم آمين. ا. هـ. بحروفه.
وجوابه:
إن الحسنات يذهبن السيئات، وقد استهدف من ألف، وإني ليسرني أن أسمع كلمة نقد أصلح بها عيوبي الجمة، وأفضلها على ألف كلمة في التقريظ والإطراء الذي لا موجب له إلا حسن الظن، وسلامة الضمير، وتنشيط العلم والله يجازيهم خيرا كثيرا، ولله در الإمام الزمخشري.
العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في غفلاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لا يعلم(2/596)
البحث السادس والعشرون:
من بعض علماء فاس، ونصه ذكرتم في الصفحة 358 من الجزء 1 من "الفكر السامي" أن مالكا لا يرى حكمنا بين اليهود إذا ترافعوا إلينا مع أن الإمام مخير في الحكم بينهم وعدمه إن لم يأب بعض، طبق قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} 1. ا. هـ.
وجوابه:
إن ما في الصفحة المذكورة موضوعه في الزنى خاصة، كما هو في صدر الكلام وعجزه، فالذي نسبته للمذهب هو قول خليل: الزنا وطء مكلف مسلم إلخ وقوله: يرجم المكلف الحر المسلم إلخ فمقتضاه أن اليهودي إذا زنى بيهودية، وترافعوا إلينا أن لا نعتبره زنى ولا نحد واحدا منهما، وقد نسبه الزرقاني في شرح الموطأ للمالكية، فظاهره لكلهم وذلك خلاف حديث الصحيحين وهو رجمه عليه السلام ليهودي ويهودية زنيا.
وأجاب المالكية بأنه تنفيذ حكم التوراة بينهم، وليس حكما منه عليه السلام، ولكن المالكية يمنعون تنفيذ هذا الحكم الآن الذي نفذه صلى الله عليه وسلم، وأما في غير الزنى، فالأولى عندهم عدم الحكم بينهم فالحديث وارد عليهم لا محالة وهم مخالفون لظاهره.
__________
1 سورة المائدة: 42.(2/597)
ثم إن حكم الحاكم المسلم بين أهل الكتاب فيه تفصيل عند المالكية، وذلك أن خمسة مسائل لا يحكم فيها بحال جمعها أبو العباس بن القاضي في قوله:
لا حكم بين الكافرين بخمسة ... بل يرفعون بها إلى الكفار
وهي النكاح وضده ثم الزنى ... والخمر زد هبة من الفجار
وأما التظالم فيما بينهم عدا الميراث، فإنه يحكم بينهم، ويمنعون من الظلم، أحبوا أم كرهوا، كما قاله ابن مرزوق في شرح المختصر، وأما الإرث وبقية الأحكام غير التظالم، فإن الإمام بين الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا إن لم يمتنع بعضهم، فإن امتنع، رفعوا إلى حكامهم من أهل الكتاب.
قال مالك: وأحب إلي ألا يحكم بينهم، أي لقوله تعالى: {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} 1 فاشترط القسط وإصابته شاقة. فترك الحكم الذي لا مضرة معه أسلم.
وهذا ما لم يسلم بعضهم فإن أسلم حكم بينهم بحكم الإسلام، وإلى هذا أشار خليل بقوله في باب الفرائض: وحكم بين الكفار بحكم المسلم إن لم يأب بعض إلا أن يسلم بعضهم، فكذلك إن لم يكونوا كتابيين وإلا فبحكمهم. انظر شراحه هكذا ينبغي تحرير هذه المسألة لا كما وقع في السؤال.
وأما الحنفية فأهل الذمة عندهم محمولون في البيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام المسلمين بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم أهل نجران بترك الربا أو ينبذ عهدهم، وكذا الحدود إلا أنهم لا يحكمون بالرجم لعدم توفر شروط
__________
1 سورة المائدة: 42.(2/598)
الإحصان، فورد الحديث عليهم كالمالكية.
ولهم تفصيل في النكاح يعلم في محله من كتبهم، ويقولون: إن آية التخيير {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} 1 منسوخة بآية {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 2 وآية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 3 إلا في بيع الخمر والخنزير لغير المسلم قال الجصاص في أحكامه: ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أن من استهلك لذمي خمرا أن عليه قيمتها فانظره وبه يعلم أن ما درجنا عليه في عدد 37 من الجزء الأول من أن آية التخيير منسوخة تبعنا فيه الإتقان وهو مذهب حنفي شافعي، والذي يجري على مذهب المالكية أنه لا ناسخ ولا منسوخ في الآيتين، ذلك أن قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} مخصوصة بأحكام التظالم؛ إذ حكى الثعالبي في "الجواهر الحسان" الإجماع على الحكم بينهم فيها رضوا أو أبو. وقال مجاهد: إن آية التخيير هي الناسخة، ولذلك نبهنا في الصحيفة 38 من ج1 على أنه يمكن النزاع في نسخ بعض الآيات التي مثلنا بها للنسخ هذا آخر ما يتعلق بالذيل، وبتمامه تم الكتاب والحمد لله رب العالمين.
وإنما أبهمت أسماء الذي بحثوا معي بملاحظتهم القيمة، ونبهوني لبعض أغلاطي محافظة على ولائهم وعواطفهم التي هي عندي مقدسة؛ لأن الحقائق تجرح، ولا آمن زيغ القلم في مقام المناظرة وإني لهم من الشاكرين على التفاتهم لتأليف هو من سقط المتاع، وتصحيحهم لبعض أغلاطه، والله يجازيهم خير جزاء بمنه، ومني إليهم سلام الله ورحمته.
اللهم اختم لنا بالسعادة التي ختمت بها لأصفيائك، واجعل خير أيامنا
__________
1 سورة المائدة: 45.
2 سورة المائدة: 42.
3 سورة المائدة: 45.(2/599)
وأسعدها يوم لقائك، وأجرنا على عوائد فضلك، وأجرنا من مكر عدلك وهيئ لنا عملا مقبولا، وثوابا مباركا مكفولا، وأنجح لنا كل عمل وحقق لنا فيك كل أمل، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، واعصمني بك من مكايد الحاسدين، واجعلني لأنعمك من الشاكرين، واغفر لي ولمن له علي حق من المؤمنين آمين والحمد لله رب العالمين. وصل الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله وكل من أعانه على رفع منار الدين.
وكان الفراغ في جل ما قبل الذيل بفاس في شهور سنة 1336هـ 1918م.
وألحقت بعض الزيادات وتراجم بعد، ووقع الفراغ من تبييض الذيل بالرباط في جمادى الثانية 1349 سنة تسعة وأربعين وثلاثمائة وألف.
عبيد ربه وأسير كسبه محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي وفقه الله.(2/600)
الفهارس:
فهرس أبواب القسم الثالث من الفكر السامي:
الصفحة الموضوع
5 تمهيد
13 مجمل التاريخ السياسي
16 حدوث مادة الكاغد
18 الأئمة المجتهدون أصحاب المذاهب المدونة
18 ترجمة ابن راهويه
19 ترجمة أبي ثور
20 ترجمة أحمد بن حنبل
29 ترجمة أبي داود الظاهري
43 ترجمة ابن أبي عاصم
44 ترجمة ابن حزم
45 ترجمة ابن جرير الطبري
47 ترجمة أبي علي الطبري
49 استطراد
54 الاختلاف في مظنة الاتفاق
55 حدوث علم التصوف
56 بعض تراجم الصوفية
70 انقراض مذاهب المجتهدين الـ"13"(2/603)
73 الزيدية
73 بعض تراجم الزيدية
77 فقه الشافعية
78 بعض تراجم المجتهدين في القرن الثالث والرابع
105 بعض تراجم الحنفية
111 بعض تراجم المالكية
150 بعض تراجم الشافعية
166 بعض تراجم الحنابلة
172 صفة التوثيق
176 استنتاج من حالة الفقهاء في المادة السالفة
180 علم الخلافيات(2/604)
فهرس أبواب القسم الرابع من كتاب الفكر السامي:
الصفحة الموضوع
189 القسم الرابع
190 مجمل التاريخ السياسي
196 إحياء الاجتهاد على عهد دولة الموحدين
206 تراجم الأحناف في هذه العصور
225 إصلاح القرويين
235 أشهر أصحاب مالك بعد القرن الرابع إلى الآن
384 مشاهير الشافعية بعد القرن الرابع
427 مشاهير الحنابلة بعد القرن الرابع
449 تجديد الفقه
449 ما صار إليه الفقه في القرن الرابع
453 مناظرة فقيهين في القرن الخامس
457 غوائل الاختصار وتاريخ ابتدائه
464 عدم تنقيح كتب الفقه
464 فقه العمليات وتاريخ نشأته
468 تحرير لمسألة العمل
470 التقليد وأحكامه
472 تقليد الإمام المثبت(2/605)
473 التزام مذهب معين
474 المذاهب الأربعة
476 هل يجوز الخروج عن المذاهب
482 حكم التصوير
484 هل يلزم المفتي أن يكون مجتهدا
486 خصال المفتي
489 ما صارت إليه الفتوى في القرون الوسطى
490 حال الإفتاء في زماننا
491 الكتب التي يفتى بها في المغرب
493 الاجتهاد
494 المجتهد، شروطه، أقسامه
498 مواد الاجتهاد
502 بحث مهم
504 هل كل مجتهد مصيب
505 اقتداء المذاهب بعضهم ببعض
509 نقض حكم المجتهد
511 هل انقطع الاجتهاد، أم لا؟
522 مبحث فيمن أدرك رتبة الاجتهاد
524 ذيل وتعقبات للمؤلف
576 تنبيه لكل نبيه
603 فهارس القسم الثالث والرابع(2/606)