القائدة الثانية: عدم التشبع بما ليس في الإنسان
ومن فوائد الحديث أيضاً: أنه لا ينبغي للإنسان خاصة طالب العلم، والمقبل على الله، والناسك، والداعية، أن يتشبع بما ليس فيه، وما لم يكن له فيه نية ولا قصد، وهذا يؤخذ من قول مالك بن الحويرث رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رأى أنا قد اشتقنا إلى أهلنا، فسألنا عمن تركنا، فقال: ارجعوا إلى أهلكم فعلموهم ومروهم، وصلوا} وكان يستطيع أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم حاجة أهلنا إلى العلم، والفقه، لغلبة الجهل عليهم وبعدهم، فأمرنا أن نعود إليهم ونعلمهم، ولكنه رضي الله عنه ذكر الحقيقة كاملة.
فكانت دواعي الحال أن يؤمروا بالرجوع إلى أهلهم، رفقاً بهم، وبأهلهم، وتعليماً -أيضاً- لأهلهم ونشراً للخير، ولكنه بدأ بذكر الأمر الأول، وهو أنه صلى الله عليه وسلم رأى حاجتهم واشتياقهم إلى أهليهم، ومع ذلك عندما كانت نياتهم صالحة، ومقاصدهم سيلمة، صادف ذلك خيراً كثيراً لهم في الدين، فرجعوا وعلموهم، ونشر الله علم مالك ليس في أهله فقط، بل في الأمة كلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فقل إنسان يدرس صفة الصلاة، إلا ويعرف حديث مالك بن الحويرث، وهذا كما قال الإمام أحمد في الحرص على طلب الحديث -فيما نقل عنه- في: هو حظ وافق حقاً، أي أن طلب الحديث فيه خير، وفيه بر، وفيه مصلحة، ولكنه حق أيضاً، فهو دين ودنيا، يطلب الإنسان الدين فتأته الدنيا تبعاً لذلك.(167/14)
حديث: (صل قائماً فإن لم تستطع)
الحديث الثاني: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب} قال المصنف هنا: {وإلا فأومي} وهذا موجود في نسخ بلوغ المرام، قال: رواه البخاري، والحديث رواه البخاري دون قوله، وإلا فأومي، فإن قوله: {وإلا فأومي} لم أجده في شيء من روايات حديث عمران، كما نبه على ذلك أيضاً المعلق الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله تعالى.(167/15)
مسائل الحديث
الحديث هل هو في صفة صلاة المريض، أم هو في النافلة؟ يحتمل هذا وهذا، فيحتمل أن يكون المقصود في صلاة المرض، أنه إن استطاع صلى قائماً، فإن عجز صلى قاعداً، فإن عجز صلى مضجعاً أو نائماً، كما قال صلى الله عليه وسلم، والدليل على أن هذا هو المقصود من الحديث هو قوله: {فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب} فهذا دليل على أن الأمر مقرون بالاستطاعة، وأن الحديث جاء في شأن المريض.
وأيضاً: من الأدلة على أن هذا في شأن المريض: قوله: وكان مبسوراً، هذا قد يستدل به، وإن كان المبسور قد عجز عن القيام، وقد يكون مستطيعاً للقيام، فقالوا: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم أن يكون لنفسه، فقد يكون سأل لنفسه أو لغيره.
الدليل ثالث: قوله: {فعلى جَنْب} لأن هذا يدل على أن الإنسان يصلي على جنبه، والنافلة لا تصلى على جنب، ولهذا قال الخطابي رحمه الله قال: لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في ذلك، أي في كون الإنسان يتنفل على جنبه وهو قادر على القعود وعلى القيام.
إذاً يبقى عندنا إشكال، ما دام أن الحديث في المريض! كيف نحمل رواية البخاري في نفس حديث الباب؟ فقد قال فيه: من صلى قائماً فهو أفضل، فكيف يحمل هذا الحديث على المريض ير المستطيع، وقد خوطب بقوله: من صلى قائماً فهو أفضل، فيجاب عن هذا الإشكال، إذا قلنا: بأن المقصود بالحديث المريض، فنقول: إن هذا في المريض الذي يستطيع أن الوقوف، ولكن يلحقه من القيام مشقة كبيرة، ولكنه يمكن أن يقوم ويتحامل ويصلي قائماً، فيكون قيامه أفضل، ولو قعد أجزاءه ذلك.
فهذا هو الجواب، وهذا هو الذي رجحه الخطابي في توجيه الحديث، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وهو حمل متجه، ثم قال: ويؤيده صنيع البخاري حيث أدخل في الباب حديثي أنس بن مالك وعائشة وهما في صلاة المفترض قطعاً، قال: فمن صلى فرضاً قاعداً، وكان يشق عليه القيام أجزأه، وكان هو ومن صلى قائماً سواء.
إذاً هذا فيمن يستطيع أن يقوم، ولكن يشق عليه القيام، ولو تحامل هذا المعذور على القيام مع المشقة كان أفضل لمزيد أجر تكلفه القيام، أيضاً لمن يشق عليه القعود، فنام وصلى وهو مضطجع، وهو يستطيع أن يقعد لكن يشق عليه.
ومما يرجح ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك قال: {قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي محمة، -أي: مصابة بالحمى- فحم الناس فدخل النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون في المسجد من قعود، فقال: صلاة القاعد نصف صلاة القائم} فهؤلاء الناس الآن الذين دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مصابين بالحمى، فصلوا قعوداً من الحمى، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {صلاة القاعد نصف صلاة القائم} وهذا الحديث الذي رواه أحمد، قال فيه الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات، وله طريقين أخرى عند النسائي.
هذا الوجه الأول: أن يكون الحديث محمول على صلاة الفرض للمريض، ويكون قوله: أفضل في حق من يستطيع القيام بمشقة فصلى قاعداً، أو في حق من يستطيع القعود بمشقة فصلى مضجعاً.
احتمال آخر: بعض أهل العلم حملوا الحديث على صلاة النافلة، قالوا: الحديث جاء في صلاة النافلة، وهذا الوجه حكاه ابن التين وغيره عن جماعة من أهل العلم كـ أبي عبيد، وابن الماجشون من فقهاء المالكية، وإسماعيل القاضي، والإسماعيلي صاحب المستخرج والداودي وغيرهم، وكذلك نقله الإمام الترمذي في سننه عن الثوري، أنهم حملوا الحديث على صلاة النافلة، وقالوا: إن الإنسان إذا تنفل قائماً كان أفضل، فإن تنفل قاعداً أجزأه ذلك، وله نصف الأجر.
وعلى احتمال أن الحديث في النافلة، فإنه يدل على أن الإنسان يجوز له أن يصلي النافلة، وهو مضطجع كما ذكرت، والنائم ليس المقصود به النائم الذي غاب عن وعيه، لكن المقصود المضطجع كما فسره البخاري رحمه الله، قال: نائم عندي هاهنا أي: مضطجعاً.
وهو يدل على ما ذكرناه أنه جاء في النافلة على أنه يجوز للإنسان أن يصلي وهو مضطجع، وهذا وإن قال الخطابي -كما سبق-: أنه لا يحفظ عن أحد من أهل العلم، إلا أنه جاء عن بعضهم، فقد نقله الترمذي بإسناده إلى الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: [[إن شاء الرجل صلى صلاة التطوع جالساً، وقائماً، ومضطجعاً]] .
فهذا مذهب الحسن البصري، وهو مذهب جماعة من أهل العلم، بل هو أحد الوجهين عند الشافعية، وصححه المتأخرون منهم، وحكاه القاضي عياض وجهاً عند المالكية، وهو اختيار الأبهري وغيره، واحتجوا لهذا المذهب بهذا الحديث.
والوجه الأول أن المقصود بالحديث صلاة الفريضة أقوى وأشهر وأولى، والله تعالى أعلم.(167/16)
فوائد الحديث
في الحديث دليل على أنه يجوز للمريض أن يصلي قاعداً، إن كان لا يستطيع القيام، ولا إعادة عليه، وهذا بإجماع أهل العلم، ولو كان يستطيع القيام ولكن ذلك يشق عليه مشقة ظاهرة، أو يؤخر برأه، ومثله ما لو كان في سفينة ويخاف إن قام أن يغرق، أو يصيبه إذا قام دوار في رأسه؛ جاز له في كل هذا الأحوال أن يصلي وهو قاعد، ومثله قالوا: من كان في حال حرب، وهو مختبئ في كمين للعدو، فلو قام كشفه العدو وعرفه، فإنه يجوز له أن يصلي وهو قاعد ولا إعادة عليه، وإن كان هذا العذر نادراً إلا أنه أولى بأن يرخص له في ذلك من المريض، فيصلي قاعداً ولا إعادة عليه.(167/17)
حديث (صلّ قائماً، فإن لم تستطع)
رواه البخاري، في كتاب تقصير الصلاة، باب من لم يطق الصلاة قاعداً صلى على جنب، باللفظ دون قوله: فأومي، وجاء لفظ آخر في صحيح البخاري أيضاً: وهو أن عمران رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعداً وكان مبسوراً -أي: فيه الباسور رضي الله عنه- قال: {من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلِّى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد} .
ومثله -أيضاً- في باب صلاة القاعد بالإيماء، وأيضاً ذكره في باب صلاة القاعد، قال البخاري: نائماً عندي هاهنا أي مضجعاً، أي: من صلى نائماً فله نصف أجر القاعد، أي مضطجعاً، وحديث عمران أخرجه أيضاً أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد، وابن أبي شيبة، والطبراني، وابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهم.(167/18)
حديث جابر (صلِّ على الأرض)
الحديث الثالث والأخير: هو حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قام لمريض صلى على وسادة فرمى بها، وقال: {صلِّ على الأرض} وفي مصادر الحديث أنه لما رمى بها قال: {فصلى الرجل على عود} أي: كأنه يتوكأ على عصا، فرمى به النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: {صلِّ على الأرض إن استطعت، وإلا فأومي إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك} .(167/19)
كيفية صلاة المضطجع
المسألة الأخيرة مسألة المضطجع: كيف يصنع؟ في هذا أيضاً ثلاثة أوجه: وينبغي أن نضيف فيما سبق في مسألة القاعد أن الاختلاف هاهنا اختلاف في الأفضل، وإلا لو صلى مفترشاً أو متربعاً أو متوركاً صحة صلاته عند جميعهم، وإنما الخلاف في الأفضل.
أما بالنسبة للمضطجع فقد اختلفوا، وبعضهم يرى أن هذا الخلاف بالنسبة للمضطجع ليس خلاف في الأفضل، لكنه خلافاً فيما يجوز وفيما لا يجوز؛ لأنه أمر يتعلق باستقبال القبلة، فمن رأى صورة لم يسعه أن يدعها إلى غيرها، وهو يستطيعها.
فبالنسبة للمضطجع فيه أيضاً ثلاث صور: الأولى: أن يضطجع على جنبه الأيمن، مستقبلاً بوجه القبلة، فيكون حاله كحال الميت الذي يسجى في قبره، يوضع على جنبه الأيمن، ويوضع وجهه وبدنه إلى القبلة كالميت في لحده.
وهنا لو صلى الإنسان على جنبه الأيسر، وهو مستقبل القبلة أجزأه، ولكن مع الكراهه، لكن المهم أن يستقبل القبلة بوجه، وهذا هو الأصح عند الشافعية وهو مذهب مالك، وأحمد، وداود الظاهري وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه وعن ابنه عبد الله بن عمر.
القول الثاني: أنه يستلقي على قفاه، ويجعل رجليه إلى جهة القبلة، ويضع تحت رأسه وسادة يرتفع بها رأسه، بحيث يصير وجهه إلى القبلة، وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
الصورة الثالثة: هو أنه يضطجع على جنبه الأيسر، أو الأيمن المهم أنه يعطف أسفل قدميه إلى القبلة، وهذا حكي وجهاً في مذهب الشافعي.
أي مثل الوجه الأول، لكن قالوا: يعطف أسفل قدميه إلى القبلة، فلا يكون مستقيماً، ولكن يثني رجليه، بحيث تكون قدماه إلى جهة القبلة.
أما بالنسبة للأدلة، فأصحاب القول الأول: الذين يرون أنه يصلي على جنبه الأيمن يستقبل القبلة بوجهه، دليلهم حديث الباب، حديث عمران {فإن لم يستطع فعلى جنب} أي على جنبه، فهو دليل على أن المريض ينبغي له إذا لم يستطيع أن يصلي قاعداً، أن يصلي على جنبه الأيمن، استحباباً، وإن صلى على الأيسر جاز، ويجعل وجهه إلى جهة القبلة، فهذا يرجحه حديث عمران، {فإن لم يستطع فعلى جنب} .
ومما يقويه أيضاً، ما ذكروه بأنه كالميت في لحده، فإن الميت يوجه إلى جهة القبلة، فهي قبلتكم أحياءً وأمواتاً، فاستقبال الإنسان لها إذا كان في حال اضطجاع لا يستطيع القيام، يكون أيضاً بأن يضطجع على جنبه الأيمن، ويستقبل القبلة بوجهه، وهذا هو ما ذكروه في دليلهم.
أما دليل القول الثاني: أنه يستلقي على قفاه ويجعل رجليه إلى جهة القبلة، ويضع تحت رأسه وساده، فاستدل له بعضهم بحديث علي رضي الله عنه، وفيه قال: {فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة} هذا الحديث يدل للصورة الأولى، وللثانية أيضاً، لأنه قال: {فإن لم يستطع -أي: القيام- صلى قاعداً، فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلى مستلقياً ورجلاه مما يلي القبلة} .
وهذا الحديث، حديث علي -كما ذكرت- يدل على أن الإنسان ينبغي أن يفعل الصفة الأولى، فيصلي على الجنب الأيمن، فأن لم يستطع انتقل إلى الثانية، وهو أن يصلي على ظهره ورجلاه مما يلي القبلة، لكن هذا الحديث ضعيف، فقد رواه الدارقطني وفي إسناده رجل اسمه حسن بن حسين العرني ضعفه أهل الجرح والتعديل، بل بالغ بعض العلماء فقال: الحديث ضعيف جداً.
والذي يظهر والله أعلم أن المريض يصلي على جنبه الأيمن إن استطاع مستقبلاً القبلة، ولو صلَّى على جنبه الأيسر إن كان أرفق به جاز أيضاً، ويكون مستقبل القبلة أيضاً، فأن لم يستطع صلى على ظهره مستلقياً وجعل رجليه مما يلي القبلة، ووضع تحت رأسه وسادة أو غيرها ليكون وجهه إلى القبلة.
فإن لم يستطع صلى على أي حال، ولو كان على غير تلك الصفة إذا كان لا يستطيع {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] .(167/20)
كيفية الصلاة قاعداً
يبقى في حديث الباب، وحديث عمران السابق مسألتان، نقيتان، خفيفتان: هيئة القعود: الأولى هيئة القعود: عرفنا أن المريض يصلي قاعداً إن لم يستطع القيام أو شق عليه القيام مشقة شديدة، فكيف يقعد؟ حديث الباب الراجح أنه موقوف، كما رجحه أبو حاتم، وهو حجة في هذا الباب، والآخر ضعيف فيه مجاهيل، على كل حال نعود إلى المسألة الفقهية مسألة المريض القاعد، المريض إذا أراد أن يصلي قاعداً كيف يقعد؟ أولاً: إذا كان بين السجدتين، فإن الأولى به أن يقعد مفترشاً، إن كان هذا لا يشق عليه، لأن سنة الافتراش بين السجدتين سنة في حق كل مصل.
ثانياً: إن كان في التشهد الأول، فإنه يقعد أيضاً مفترشاً إن كان هذا لا يشق عليه.
ثالثاً: إن كان في التشهد الأخير سن له أن يقعد متوركاً، إن كان هذا لا يشق عليه.
إذاًَ: الكلام في قعوده الذي هو بديل عن القيام، وكذلك في قعوده وهو راكع، فإن الركوع إذا كان في القعود يحتاج إلى هيئة أيضاً، فهذا مما اختلف فيه أهل العلم.
فذهب بعضهم إلى أنه يقعد مفترشاً، والافتراش: أن يفرش اليسرى وينصب اليمنى، مثل القعود بين السجدتين، وهذا هو الأصح عند الشافعيية، وقال به أبو حنيفة، وزفر، قالوا: لأن هذا القعود قعود عبادة، وينبغي أن يتميز عن قعود العادة، كالتربع أو غيره، خاصة أن الافتراش جاء في القعود بين السجدتين، وفي التشهد الأول، فقالوا: الأولى به أن يقعد مفترشاً، وبناءً عليه لا يغير هيئته في كونه بين السجدتين، ولا يغير هيئته في التشهد الأول، لأنه مفترش من الأصل.
القول الثاني: أنه يقعد متربعاً: وصفة التربع أن يفضي بمقعدته إلى الأرض ويجعل ركبته اليمنى عن يمينه، وركبته اليسرى عن يساره، فهذا هو التربع، ويضع إحدى رجليه على الأخرى، فقعود طلبة العلم الآن أكثرهم متربعون، لأن جلسة التربع مريحة ولا مشقة فيها.
وهذا القول هو أيضاً رواية عن الشافعي، وهي التي ذكرها البويطي في روايته عنه، وهو مذهب الإمام مالك، وأحمد، وإسحاق، والثوري، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسين، وبعض أهل الظاهر وغيرهم، قالوا: يجلس متربعاً، واستدلوا لذلك بأدلة، منها.
قالوا: إن القعود بديلٌ عن القيام في الصلاة، فلا بد أن يتميز عن هيئات القعود الأخرى، كهيئة الافتراش، أو هيئة التورك، وأن يكون مخالفاً له، وهذا ذكره النووي عنهم في المجموع وغيره.
ولكنه ليس حجة في الواقع، الحجة لهم، التي يمكن أن يستدل بها حقاً، هي ما رواه النسائي في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت: [[رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً]] والحديث رواه الدارقطني في سننه، ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرطهما، وقال الإمام النسائي في هذا الحديث بعدما رواه في سننه: لا أعلم أحداً روى هذا الحديث، غير أبي داود الحفري وهو ثقة ولا أحسبه إلا خطأ فكأن النسائي رحمه الله قد أعل الحديث، ولكن تعقبه في ذلك المقدسي صاحب المحرر، فقال: وقد تابع أبي داود الحفري محمد بن سعيد الأصفهاني، وهو ثقة) .
فتبين أن أبا داود الحفري، واسمه عمر بن سعد، تابعه رجل آخر هو محمد بن سعيد الأصفهاني فتبين أنه لم ينفرد، ولم يظهر هناك وجه لتخطئة الإمام النسائي له، فيظهر: أن الحديث جيد الإسناد، وأنه يمكن أن يحتج به على مشروعية التربع، خاصة نه قد جاء من فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما في موطأ مالك وقد سبق أن ذكر هذا.
الوجه الثالث: أنه يجلس متوركاً كجلوسه في التشهد الأخير، وهذا وجه في مذهب الشافعية، قالوا: لأنه أعون للمصلي، والواقع: أن التربع قد يكون أعون للمصلي، وأهون له وأبعد عن المشقة عليه، خاصة بالنسبة للمريض.
إذاً في المسألة ثلاثة أقوال: قيل: يجلس مفترشاً، وقيل: يجلس متربعاً، وقيل: يجلس متوركاً، وأوسطها هو أرجحها نظراً وأثراً للدليل الذي ذكرته.(167/21)
تخريج حديث جابر
والحديث رواه البيهقي بسند قوي قال المصنف، ولكن صحح أبو حاتم وقفه، فقد رواه البيهقي في سننه، كما هو مطبوع في الجزء [2/306] في كتاب الصلاة، ورواه أيضاً في كتاب المعرفة، وأكثر من عزو الحديث إلى البيهقي عزوه إلى كتاب المعرفة، وهو موجود في كتاب المعرفة، وموجود -أيضاً- في السنن الكبرى للبيهقي.
ورواه أيضاً البزار في مسنده، كما في كشف الأستار، باب صلاة المريض، وقال البزار في غير هذا الموضع -كما ذكر المصنف هنا- قال: سأل عنه أبو حاتم الرازي -الإمام الشهير محمد بن إسحاق الحنظلي - قال: سئل عن هذا الحديث، فقال: الصواب عن جابر موقوفا ورفعه خطأ، وكلام أبي حاتم موجود في كتاب العلل لـ ابن أبي حاتم في الجزء [1/113] في التعليق على الحديث رقم [307] حيث أعل هذا الحديث بأنه موقوف على جابر من قوله، ولم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل حال، فالحديث في المصادر المشار إليها سابقاً، هو من رواية أبي الزبير عن جابر، وسنده غريب، وللحديث شاهد عن يعلى بن أمية رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه، وهو على راحلته صلى الله عليه وسلم، والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم -أي بلل الأرض بالمطر- فحضرت الصلاة، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم -وليس المقصود أنه أذن بنفسه كما توهمه بعضهم، جزم به النووي أخذاً من هذا الحديث وغيره، فإن الحديث في رواية أخرى -أمر المؤذن- بل وفي مسند الإمام أحمد أنه أذن بلال فدل على أنه لم يباشر الرسول صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه، ولكنه أمر المؤذن فأذن- ثم أقام، ثم تقدم، أي: براحلته صلى الله عليه وسلم، فصلى إيماءً يجعل السجود أخفض من الركوع.
وقوله (فصلى إيماً) هو الشاهد، وحديثه على هذا الشاهد رواه أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، والبيهقي أيضاً، وهو ضعيف، ضعفه البيهقي، وكذلك الترمذي قال: غريب، وغيرهما، وفي سند الحديث مجاهيل.(167/22)
الاهتمام بواقع الأمة
نقرأ عليكم بعض الأخبار المتعلقة بما جد من أوضاع المسلمين في يوغسلافيا.
فهذا تقرير في يوم الثلاثاء 24/11/1412هـ يقول: أعلن بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة في زيارة قام بها لكندا، لحضور المؤتمر العالمي للشباب أن قوات الأمم المتحدة، هي فقط لحفظ الأمن والسلام بين القوة الصربية والكرواتية.
أقول: قال الله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] الآن حفظ السلام بين النصارى.
يقول: وليست على استعداد لأخذ مطار سراييفوا ووضعه تحت الحماية.
جاء ذلك خلال مأدبة غداء أقامها له رئيس وزراء كندا، وقد انتقد رئيس وزراء كندا ذلك التصريح، وقال: إن ذلك ضعف وخذلان واضح من الأمم المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية.
وقد قامت السلطات الكندية بطرد سفير صربيا، وقامت بسحب السفير الكندي من بلغراد، ودعت كندا الأمم المتحدة إلى تنفيذ عقوبات اقتصادية ضد صربيا، ورفضت طلب شركة الطيران الصربية بالسماح لها بالهبوط في مطار كندا.
من جهة أخرى بدأت تظهر بوضوح مشكلة أطفال مسلمو البوسنة والهرسك، الذين امتلأت بهم معسكرات اللاجئين المعدة لاستقبالهم في كل من جمهورية كرواتيا وسلفانيا، وبدأت دول أوروبا تأخذ مجموعات كبيرة منهم، وقد أخذت إيطاليا خمسة آلاف منهم، وتم ترحيلهم إلى إحدى المدن الإيطالية الواقعة على الحدود اليوغسلافية، وقد أصبح المسلمون يخشون على هؤلاء الإخوان من التعرض في تلك المعسكرات لعمليات المسخ التي تقوم بها الكنائس والمنظمات المشبوهة.
وقد وجهت الدعوة لحكومات العالم الإسلامي، والمنظمات والهيئات والمسلمين قاطبة إلى التحرك السريع لإقامة معسكرات تحت إشراف إدارة من المسلمين حفاظاً على عقائد هؤلاء الصغار.
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادي أما عن التطورات العسكرية فقد شهدت مدينة توزلا معركة عنيفة جرت عندما حاولت المليشيات الصربية اقتحام مواقع القوات المجاهدة، التي تدافع عن المدينة إلا أن المجاهدين تمكنوا من رد الهجوم على أعقابه، وألحقوا بالعدو خسائر بلغت واحد وعشرين قتيلاً وسبع وعشرين جريحاً، كما انضم إلى قوات المجاهدين مؤخراً مائتين وستين ضابطاً من الجيش اليوغسلافي السابق أغلبهم من المسلمين، وفي مدنية مودريج استطاعت الفرقة مائة واثنين من الجيش الوطني البوسنوي أن تحرر أجزاءً كبيرة من المدينة عقب المعارك التي جرت اليوم وأمس، ولا زالت جارية.
وفي مدينة كنيسيا تم تحرير المدينة نهائياً من قوات الصرب المعتدية، والمدينة تقع بين مدينة توزلا وسفونيه، وقد أسر المجاهدون مائة وثلاثة وتسعون جندياً صربياً، ودمروا خمس دبابات وعربات مصفحة، وقتلوا ستة وعشرين جندياً، ولاذ البقية بالفرار كما فر القائد الصربي إلى منطقة تشلي.
وقد أكد ذلك قائد القوات البوسنية والمقدونية سالم جورجس، وفي سراييفوا قامت قوات العدو بقصف المدينة بالمدافع الثقيلة والخفيفة من الثكنات الثلاث وكذلك من معاقل القوات الصربية الغازية في الجزء المحتل من المدينة.
وقال المتحدث باسم البوسنة والهرسك: أن الجيش الفيدرالي لم يفِ بوعده بتسليم الأسلحة التي هي ملك لحكومة البوسنة والهرسك، ولم يسلم سواء (20%) من الأسلحة و (80%) من الذخائر، كما أكدت قيادة الدفاع المقدونية في البوسنة والهرسك أن قوات الصرب الإرهابية النصرانية اعتقلت مائتين وثمانية عشر مسلماً في بلدة موتشته قرب سراييفوا، ويقوم الصربيون الآن بتعذيبهم، وحرمانهم من الأكل، وأنهم معتقلون، ولا يقدم لهم سوى الماء وذلك منذ أكثر من عشرين يوماً.
من لهؤلاء المنكوبين بعد الله سواكم، فساهموا وفقكم الله في إعانة وإغاثة إخوانكم المسلمين.
على صعيد آخر: جاءنا هذا الفاكس يقول: الله أكبر، الجهاد ماض إلى يوم القيامة، سقوط أول شهداء العرب في يوغسلافيا البوسنة والهرسك وهو من أرض هذه البلاد الجزيرة العربية الطاهرة، لله درهم هؤلاء الرجال فتح الله لهم أفغانستان -هكذا يقول الفاكس- توجهوا لإنقاذ الإسلام حتى لا يجتث من جذوره في البوسنة والهرسك ولبوا نداء إخوانهم هناك وذهبوا ليبذلوا دماءهم رخيصة في سبيل الله تعالى.
الصرب ما زالوا يبحثون عن الأماكن والإمارات التي تنطلق منها العمليات التي يقوم بها الشباب هناك، ويعتقد بعضهم أنهم حالوا بين وصول الشباب مرة أخرى إلى قواعد العمليات، والغرب قد حس بالخطر.
المهم {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] .
أما فيما يتعلق بأفغانستان فهناك بوادر طيبة على وجود نوع من الاتفاق بين الطرفين المتنافرين من المجاهدين، الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، والجناح الذي يقوده أحمد شاه مسعود من الجمعية الإسلامية.
وقد حصل لقاء وترتيب وتنسيق واتفاق على إخراج المليشيات، وإدخال قوات من المجاهدين لحفظ الأمن في كابل، وإجراء الانتخابات في أقرب فرصة ممكنة، وتحجيم دور رئيس المجلس الانتقالي الحالي صفة الله مجددي الذي هو غير موثوق به، وغير صحيح الاعتقاد، كذلك هو غربي التفكير، إضافة إلى أن هذا الرجل حاول أن يتحالف مع المليشيات وقد حاولت المليشيات أن تقوم ببعض الحركات لزعزعة الأمن لكنها كانت حركات محدودة وقليلة قبل يومين، وكانت ضحاياها محدودة جداً.
ونقول: إن الذي يجري في أفغانستان الآن يبشر -إن شاء الله- بانفراج الأزمة، ونسأل الله أن يكلل لهذه الجهود بالنجاح، ويجمع كلمة المجاهدين ويكفيهم شر المخاطر التي ما زالت موجودة في أفغانستان مخاطر المليشيات وهي قوية ومدربة، وبعض فصائل المليشيات تصل إلى خمسين ألف، مثل مليشيات دوستم، وبعضها من الإسماعيلية الذين جاءوا من منطقة بغداد وهم غلاة الرافضة، وبعضهم مرتزقة أيضاً، ومن الممكن أن يستغلهم أي طرفه لصالحه.
كما نسأل الله أن يكفي المسلمين والمجاهدين عموماً شر الرافضة، الذين لهم وجود أيضاً في ولاية في أفغانستان، ولهم أيضاً وجود قريب من كابل، وقد سيطروا على بعض بطاريات الصواريخ، ولكنها قد نزعت منها صواعق، فلذلك لا يوجد خطراً أكبر منها.
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، ونسأله أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن ينزل علينا من بره ورحمته وبركته إنه على كل شيء قدير، وأن يصلح ذرياتنا ونياتنا ويرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً، ويختم لنا ولكم بخير.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(167/23)
سبل مقاومة المرأة المنكر
النساء شقائق الرجال، وهن مخاطبات بآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنكرات قد تكون أسرع انتشاراً بين النساء لسرعة استجابتهن، وهذا الدرس فيه توجيهات مهمة للنساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(168/1)
المعروف والمنكر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلىآله وصحبه أجمعين أما بعد: فإنني سأتحدث عن موضوع محدد خاص، وأود أن نتفهم هذا الموضوع ونتناقش فيه لنصل فيه إلى مفاهيم واضحة، ونتائج محددة نستفيد منها في حياتنا العملية الخاصة والعامة.(168/2)
الأصل في المجتمع المسلم
المجتمع النظيف الصالح المسلم الأصل أنه يعرف المعروف وينكر المنكر، لكن هذا لا يعني أن المجتمع يتحول إلى مجتمع صحابة، فالإنسان بشر، ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه يقول: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفروه فيغفر لهم} ؛ لأن من أسمائه عز وجل أنه غفور رحيم، وإنما غفرانه جل وعلا لعبيده الذين أخطئوا وضلوا عن الطريق، ثم تابوا إليه وأنابوا، أو بدر منهم بوادر غلط فندموا عليها.
حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ذكر الله في القرآن الكريم عنهم كمثل آدم عليه السلام، وموسى، وغيرهما من الأنبياء، حتى محمد عليه الصلاة والسلام، كان يحدث منهم أمور أقل ما يقال فيها أن الأولى تركها، وبعضها قد يكون ممنوعاً كما حدث لآدم عليه السلام {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121-122] فيقول النبي من الأنبياء: يا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، والله عز وجل أبوابه لا تغلق للتائبين.
وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث صفوان بن عسال قال: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن باب قبل المغرب مسيرة سبعين عاماً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها} فنقول ونحن جميعاً من العصاة المذنبين الخطائين: الحمد لله الذي لم يجعل وقوع الواحد منا في زلة أو سقطة سبباً في إغلاق أبواب الرحمة دونه، وبعده وطرده، بل إن الله جل وعلا وهو الغني يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، فلك الحمد.
وإن الله جل وعلا كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من بني إسرائيل -والحديث في صحيح مسلم {- أذنب ذنباً ثم ندم، وقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي فغفر الله له، ثم أذنب مرة أخرى فقال: رب إني أذنبت فاغفر لي، فغفر له، ثم المرة الثالثة، فقال: رب إني أذنبت فاغفر لي، فقال الله عز وجل: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، افعل ما شئت فقد غفرت لك} .
لكن علينا ألا نغتر بهذا لأن الله عز وجل قال لهذا الإسرائيلي: افعل ما شئت فقد غفرت لك، وهو أعلم سبحانه أن هذا الرجل قام بقلبه من شدة الانكسار بين يدي الله، وشدة الخوف منه، وشدة الندم على الذنب ما كان سبباً إلى رحمة الله له، وعفوه عنه، لكن أنا وأنت وأنتما وأنتم وأنتن، ما يدرينا أن يكون قام بقلوبنا ذلك؟ فربما يعصي الإنسان ثم يستغفر، ثم يعصي ثم يستغفر ثم يعصي ثم يستغفر، ويقال له: لا يغفر لك لأنك كذاب مخادع تعاهد الله عز وجل ثم تغش وتنكث.
فلا يغتر الإنسان بهذا الحديث؛ لأن هذا الرجل أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بأن الله قال له ذلك؛ لكن نحن من يخبرنا أن الله تعالى قال لنا ذلك، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
ولذلك كان من صفات عباد الرحمن في الجنة أنهم كانوا يخافون عذاب الله عز وجل وقد وصفهم بهذا في مواضع كثيرة قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57] وقال: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:26-28] .
وهم يقولون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] أي: خائفين وجلين {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27-28] .
المهم أني أريد أن أشير إلى أن الإنسان من طبيعته أنه قد يخطئ، وكل ابن آدم خطاء، هكذا يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وسنده حسن: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} .(168/3)
معيار معرفة المعروف والمنكر
إذاً: المعيار في معرفة المعروف والمنكر ليس أمزجة الناس؛ لأنها تتفاوت، فقد تستحسن القبيح وتستقبح الحسن وكما قيل: يقضى على المرء في أيام مختلفة حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن فيشيع عند الناس يوماً من الأيام عادة أو موضة تقليد أي أمر من الأمور، ويتحول إلى أمر مستحسن في أذواقهم وأمزجتهم وهو منبوذ شرعاً ومحرم أو مكروه، إذاً لا عبره بانطباع الناس عن هذا الأمر، إنما العبرة بثلاثة أمور: الأمر الأول: القرآن: فإذا ثبت في القرآن أن أمراً من الأمور معروف فهو معروف ولا يحتاج إلى كلام فيه.
الأمر الثاني: السنة النبوية: فإذا جاءت الأحاديث عن المصطفى عليه الصلاة والسلام بأن هذا الأمر مطلوب وجوباً أو استحباباً، فهو معروف، وإذا جاءت بأن هذا الأمر مطلوب تركه إما تحريماً أو كراهية فهو منكر.
الأمر الثالث: الذي يتميز به المعروف والمنكر هو واقع المجتمع النظيف السليم، وأخص المجتمع الأول فهو المقياس ولذلك نقول أيضاً في أبواب الاعتقاد عموماً: أن ما كان عليه الجيل الأول هو العقيدة الصحيحة بدون جدال ولا نزاع يختلف مثل الأشاعرة عن المعتزلة وعن الماتريدية وعن الجبرية وعن القدرية وعن الخوارج، فنقول: إن المقياس في ذلك هو الرجوع إلى ما كان عليه الجيل الأول.
ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث الفرقة الناجية لما ذكر: {أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي} فجعل المعيار والمقياس في معرفة الطريق الصحيح وهو طريق النجاة في السلوك والقول والعمل والاعتقاد، هو التزام ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ويمكن أن نقول: إن القرون الفاضلة إجمالاً كان رجالاتها وزعماؤها على المنهج وعلى الخط والطريق نفسه، لم يغيّروا ولم يبدلوا ولذلك قال عليه السلام: {خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم} .(168/4)
أمثلة على تسمية المعروف والمنكر في المجتمع
لو أخذنا نموذجاً -ولا شك أنه النموذج الأمثل-: نموذج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، المجتمع الأول، ذلك المجتمع الذي يعتبر قدوة للناس عبر العصور، ومن رحمة الله عز وجل أنه وضع ذلك المجتمع بحيث أن الناس يمشون في طريقهم نحو الهداية والاستقامة على مدى الزمان وهم ينظرون إلى هذه المنارة المرتفعة، منارة المجتمع الإسلامي الأول منارة محمد عليه الصلاة والسلام والذين معه، ثم القرون الثلاثة الفاضلة: {خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم} فينظرون إلى ذلك المجتمع، ينظرون إلى الأشياء الشائعة فيه، ويعرفون أن هذه أمور من المعروف، وينظرون إلى الأشياء التي أنكروها ونبذوها فيعرفون أنها من المنكر.
على سبيل المثال أيضًا: خلافة أبي بكر رضي الله عنه، الآن المسلمون منذ عهد خلافة أبي بكر إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يكتبون في العقائد أن المؤمنين، وأن أهل السنة والجماعة يعتبرون أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر، وهو الأجدر بالخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا موضع إجماع عندهم.
هذا الإجماع لم يرد نص قرآني ينص عليه، ولم يرد حديث نبوي صريح يحدد هذه القضية بصورة حاسمة، نعم، وردت أحاديث كثيرة أشبه ما تكون بالإيماء والتلميح والإشارة إلى جدارة أبي بكر رضي الله عنه، لكن بعدما توفي الرسول عليه الصلاة والسلام واجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة وتقاولوا وتفاوضوا وتحادثوا، ثم انتهى بهم الأمر إلى الاتفاق والإقرار بولاية أبي بكر رضي الله عنه، وبايعوه عن طواعية واختيار، وجعلوه أميراً للمؤمنين، وسمعوا له وأطاعوه، واستقر الأمر على ذلك، بعد هذا عرفنا؛ بأن ولاية أبي بكر أصبح معروفاً في ذلك المجتمع الأول بدليل أنه وجد بينهم واستقر وقام، فعرفنا بذلك أن ولاية أبي بكر رضي الله عنه وأفضليته وتقدمه على الصحابة هي من الأمور المتفق عليها عند الأمة، ومثل ذلك أشياء كثيرة قد لا تكون النصوص فيها حاسمة بصورة نهائية لكن واقع المجتمع الإسلامي الأول هو المقياس.
أضرب مثالاً آخر -أيضاً- موضوع كتابة الحديث النبوي، هل يكتب الحديث أو لا يكتب؟ الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث خشية أن يختلط بالقرآن الكريم، ولأن الكُتَّاب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قليلاً، فكان يخشى أن ينشغلوا بكتابة الحديث عن كتابة القرآن الكريم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه} فنهى عن الكتابة.
ولذلك ذهب جماعة من الصحابة إلى تحريم كتابة شيء من الحديث النبوي، ومن أشهرهم عمر رضي الله عنه حيث كان ينهى عن كتابة الحديث في أول أمره، ولما توفى الرسول عليه الصلاة والسلام، وجمع القرآن وأمن اختلاطه بالسنة بعد ذلك، ثم وجد الناس في القرن الأول مشكلة وهي خشية ضياع السنة النبوية؛ لأن المشافهة مع أنها وسيلة قوية لكن مع ذلك قد يموت الحفاظ فيضيع شيء من العلم الذي كان عندهم، ولابد من التدوين والكتابة، فاستقروا على جواز كتابة الحديث النبوي حتى أجمعوا على ذلك بلا مخالف، وبدءوا يكتبون الحديث النبوي.
ولاشك أنه يوجد أحاديث اعتمدوا عليها، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: {اكتب فوالله ما خرج منه - وأشار إلى فمه - إلا حقٌ} ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: {اكتبوا لـ أبي شاة} .
وهو رجل من أهل اليمن لما سمع الخطبة، قال: اكتب لي يا رسول الله، فقال: {اكتبوا لـ أبي شاة} ومثل قوله عليه الصلاة والسلام وهو في مرض موته: {ائتوني اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فاختلفوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، واحد يقول يكتب، وآخر يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم مريض وعندنا كتاب الله حسبنا، فغضب الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: قوموا عني ولا ينبغي عند نبي تنازع} فقاموا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام: {ما أنا فيه خير مما أنتم فيه} قال ابن عباس رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: [[إن الرزية كل الرزية -يعني المصيبة كل المصيبة- ما حال بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم الكتاب]] .
فكتابة الحديث النبوي ليس فيها نصوص حاسمة قاطعة أنها مطلوبة وواجبة، لكن لما واجه المسلمون الأولون ضرورة الواقع رجحوا القول بمشروعيته، بل بوجوب كتابة الحديث النبوي، واتفقوا على ذلك من غير مخالف ولا نكير.
ومقصودي من هذا المثال والذي قبله وغيرها كثير: أن المعروف هو ما عرف بين المسلمين الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة أنه معروف مطلوب من الشرع، والمنكر هو ما عرف بين المسلمين الملتزمين بالكتاب والسنة أنه مكروه مطلوب تركه.(168/5)
أصل تسمية المعروف والمنكر
المجتمع المسلم الأصل فيه أنه مجتمع المعروف البعيد عن المنكرات، لذلك سمي المجتمع المعروف معروفاً، لأن الناس في ذلك المجتمع الطيب الصالح قد تعارفوا عليه، واشتهر بينهم، وسمى المنكر منكراً -أيضًا- لأنه منبوذ ومكروه ومنكر بينهم لا أحد يقبله ولا يقر به.
فأصل تسمية كلمة معروف وكلمة منكر في الشرع إنما جاءت لأن المجتمع الصالح المسلم يعرف هذا، وينكر ذاك، فيعرف -مثلاً- الطاعة والصلاة والذكر والبر والنصيحة والخير، فتسمى هذه الأشياء معروفاً؛ لأن الناس يعرفونها في المجتمع الطيب.
وبضد ذلك هناك أشياء مكروهة كالفسوق والعصيان والإثم، سواء في ذلك كان إثماً قلبياً أم لسانياً أم عملياً، فهو مكروه منكر بين الناس لا يعرفونه ولا يقرون به ولذلك سمي منكراً، فأصل وضع الكلمتين معروف ومنكر مبنية على أساس وجود مجتمع صالح يعرف الخير ويقر به، وينكر المنكر ولا يرضاه فسمي هذا معروفاً وهذا منكراً.(168/6)
أنواع الخطأ في المجتمع المسلم الطاهر
حين نقول: إن المجتمع الإسلامي الصحيح مجتمع نظيف لا نعني أنه مجتمع ملائكة، لا، فهذه المجتمعات فيها نوعان من الأخطاء، وأرجو أن تنتبهن أيتها الأخوات لهذين النوعين وهما:-(168/7)
الأخطاء الجماعية
هذه المنكرات الفردية وهناك نوع آخر وهو الخطير: المنكرات الجماعية، وإن شئتي فقولي: المنكرات المنظمة.
ففي عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وجد منافقون، وهؤلاء يمكن أن نعتبرهم جماعة أو مؤسسة أو حزباً أو طائفةً أو جمعية أو سميهم ما شئتِ؛ ومهمتهم إشاعة المنكرات في المجتمع الإسلامي، وليست منكرات فردية كما هو الحال فيمن تغلبه نفسه أو يغلبه الشيطان ويقع ثم يتوب، لا، منكرات منظمة ومدروسة ومقصودة، فهم يكيدون ويتتبعون عورات المؤمنين، ويحاولون أن يشيعوا الإشاعات وينشروها، ويعملوا ضد الإسلام.
وهذه الطائفة أو الحزب كان موجوداً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فأولى أن يكون موجوداً بعده وأقوى أيضاً؛ لأنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم دقت شوكتهم وقل دورهم؛ لأنهم انكشفوا وعرفهم الناس فأصبح لا شأن لهم، ولا قيمة إلا في حدودٍ ضيقة.
حتى أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما قرأ قول الله عز وجل: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] قال: ما بقى من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة، ولا من المنافقين إلا أربعة أحدهم: شيخ كبير السن هارم لو شرب الماء البارد لما وجد برده، إنسان هرم انتهى والبقية هلكوا.
ففي عهد الرسول عليه السلام، مجتمع صالح نظيف محكم، أفراده يوالون الإسلام ولاءً حقيقياً، يوالون الله ورسوله، ولذلك نبذوا المنافقين ولم يعد للمنافقين دور عندهم.
أما فيمن بعدهم وخاصة في العصور المتأخرة في عصرنا هذا وما بعده، فإننا نجد أن شأن المنافقين يكبر ويتسع، فيكون لهم مؤسسات وأجهزة وقوى كثيرة وشخصيات ورموز تعمل باسمهم، وبغض النظر نحن لا نتهم أشخاصاً معينين بأنهم منافقون، لكن نقول عموماً ميزة المنافق أنه يعمل على إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، ويعمل على نشر الرذيلة بين المؤمنين، ويعمل على التشهير بأهل الخير والإسلام، ويحرص على تحويل المجتمع من مجتمع طيب صالح إلى مجتمع منحط منحرف، وعلى تحويله من بيئة نظيفة لتربية النشء الصالح إلى بيئة ملوثة بجراثيم الفساد والشر؛ بحيث ينشأ الصغير فيها ويتنفس الجراثيم، ويتقبل هذه الانحرافات والمنكرات لأنها موجودة في المجتمع، وهي أمر طبيعي عندهم.
إذاً: إذا كان الهواء ملوثاً كل من شم هذا الهواء تلوث وتضرر به.
فهذه منكرات جماعية خطيرة وهي التي تميز ما إذا كان المجتمع سليماً أو غير سليم، ففي المجتمع السليم يتقلص دور المنافقين، أما المجتمع المختلط الضعيف فإنه يبرز دور المنافقين، ويصبحون لهم مراكز ولهم إمكانيات ووسائل قوية ولهم تأثير واضح.
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم وأصحاب السنن وهو حديث صحيح: {لا تقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم} أي: حين نتحول نحن المسلمين إلى أناس يقدرون المنافق ويطلقون عليه ألقاب التبجيل (يا سيدي، أو يا سيد) نكون أسخطنا الله عز وجل، لماذا؟ لأن معنى ذلك أن عندنا قابلية لتقبل ما عند المنافق، والمنافقون ليسو مجرد أناس متسترين، لكن لهم أهداف الفساد والإفساد في المجتمع المسلم.
إذاً: النقطة الأولى التي أود أن أذكرها: النوع الأول: أن المنكرات على نوعين: النوع الأول: منكرات فردية يخطئ شخص فيندم على ذنبه، ويستغفر الله عز وجل، وهذا يوجد وإن كان يتفاوت، ففي المجتمع النبوي حالات توجد فردية لكن كلما تقدم الزمن زادت.
النوع الثاني: منكرات جماعية منظمة ومؤسسات وتجمعات، ولذلك تجدين أحياناً في بعض المدارس والجامعات سواء للذكور أو للإناث تجمعات معينة، هذه التجمعات اجتمعت على أساس التعاون على الرذيلة وعلى الإثم والعدوان، كالتعاون -مثلاً- على نشر الفاحشة، والتعاون على نشر الوسائل السيئة كالمجلات المنحرفة والكتب الهابطة وتبادل أرقام الهاتف، ونشر الصور والتصوير إلى غير ذلك من الوسائل السيئة، وتجدين عشر أو عشرين من الصديقات تجمعهن على هذا الأساس.
أنا لا أقول: إن هؤلاء المجموعات منافقات؛ لكن أقول: هنا الخطورة أنه لم يعد المنكر أمراً يخاف منه الإنسان ويستحي منه، وقد يقع فيها ويستتر ويتوب إلى الله، لا، إنما أصبح يجاهر بها ويوالي على أساسها، فإذا وجد من يكون مثله اجتمع معه وهنا الخطورة؛ لأن هؤلاء من حيث يريدون أو لا يريدون يصبحون سوساً ينخر في المجتمع، ويجر المجتمع جراً إلى الهاوية، وهؤلاء ولاشك أنهم في غاية الخطورة، والتصدي لهم في غاية الأهمية.
حين ننظر -أيتها الأخوات- إلى المجتمعات منذ عهد الرسول إلى اليوم نجد هذا أمراً طبيعياً، وليس بغريب أن المجتمع يتفاوت، فأحياناً تقل المنكرات وأحياناً تكثر، والأسباب في ذلك كثيرة، وأريد أن أتحدث عنها لأن الوقت ضيق، لكن أنبه إلى أن المجتمعات تتفاوت في زيادة المنكرات وفي قلتها بحسب عوامل كثيرة جداً تتعلق بوضع المجتمع، وبقيادة المجتمع وأفراده، ووجود العلماء والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وانتشار العلم، وغلبة الأعداء إلى غير ذلك من الوسائل التي لا أريد أن أدخل فيها أو في تفصليها.
ولو نظرنا في مجتمعنا الذي نعيش فيه الآن وقومناه، وحاولنا أن نضبطه بالميزان الذي تحدثت عنه قبل قليل لوجدنا أن هذا المجتمع فيه وفيه، فمن جهة يوجد في مجتمعنا المعروف سواء في الميدان العام، مثل كون المجتمع لا يزال محافظاً على حجاب المرأة وستر جسمها ويعتبر ذلك من الأمور السائدة في المجتمع، وهو أمر طبيعي لا يستغرب.
وقضية تجنب الاختلاط في الميادين العامة، وفي المدارس، وفي الجامعات بشكل عام، دعينا من وجود حالات فردية أو بدايات من قبل بعض المغرضين، هذا أمر آخر، لكن الأصل القائم أنه لا يزال التعليم غير مختلط، والرجال يدرسون وحدهم، والنساء يدرسن وحدهن -وعلى حِدَهٍ- معزولات، حتى -مثلاً- حين يكون هناك حاجة إلى أن يكون هناك رجل يعلم من خلال شاشة أو من وراء حجاب، أو ما أشبه ذلك.
حين تنظرين -مثلاً- إلى واقع الأسر والعوائل تجدين فيها مجموعة من الخصائص الخيرة مثلاً: الصلوات، وصيام رمضان، والحج والعمرة، والبر وصلة الرحم إلى غير ذلك.(168/8)
أخطاء فردية
النوع الأول: ما يمكن أن يسمى بأنها أخطاء فردية، كمثل رجل سرق، وآخر زنى، وثالث كذب، ورابع اغتاب، فهذه أخطاء فردية توجد في المجتمع النبوي، ولو قرأت في كتب السنة لوجدت أنه ظهر الآن لنا بعد ألف وأربعمائة وعشر سنوات، أن فيه مجموع من الأخطاء من أفراد المؤمنين، مثلاً: ماعز بن مالك الأسلمي رضى الله عنه زنى، وكذلك الغامدية رضي الله عنها زنت، رجل آخر سرق، ورجل آخر غل، وثالث كذب، إلى غير ذلك، فهي مجموعة من أخطاء يمكن إحصاؤها.
لكن لاحظ أنهم كانوا خطئوهم وكان خطأهم يتميز عن غيرهم بأن الإيمان موجود مستقر في النفوس، والصلة بالله عز وجل قائمة، والإحساس برقابته موجودة، وإن حصلت بادرة خطأ، لكن يكون توبته منها أمر عجيب.
قصة ماعز: مثلاً ماعز بن مالك الأسلمي يأتي للرسول عليه الصلاة والسلام وقد وقع في الزنى وندم عليه، ومع ذلك يأتي للرسول ولو تاب وستر نفسه لستره الله وتاب الله عليه؛ لكنه ما رضي، فيأتي للرسول عليه السلام في مجلسه ويقف أمامه، ويقول: يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، ثم من هنا: يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، والرسول عليه الصلاة والسلام يعرض عنه أربع مرات، وكلما أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم قام الرجل وجلس أمام وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني زنيت فطهرني، والرسول عليه الصلاة والسلام يريده أن ينصرف ليتوب فيتوب الله عليه، وهذا أولى لكنه لم يفعل من شدة الاحتراق في قلبه، وشدة الخوف من الله، حتى فضح نفسه أمام الناس فدعاه الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: استنكهوه -أي شموه قد يكون سكران الآن ويدلي بهذا الاعتراف- فلم يجدوا شيئاً، ثم دعا النبي قومه وقال: ماذا تعرفون عن ماعزٍِ؟ قالوا: يا رسول الله! ما نعلم عنه إلا خيراً، رجل من أفضلنا وأعقلنا لكنه أصابه ذنباً لا نرى أنه يخرج منه إلا ذلك، فأصدر النبي صلى الله عليه وسلم حكماً بأن يرجم؛ لأنه كان محصناً متزوجاً فرجم.
هذا نموذج لصدق التوبة فحين يخطئون كانت تظهر منهم رجولة وصدق، ورجوع لا يوجد عند من بعدهم.
قصة الغامدية: وأعجب من قصة ماعز قصة الغامدية، وأنا ما وقفت أمام هذه القصة إلا أتعجب منها أشد العجب.
جاءت الغامدية بعد قصة ماعز، ولذلك كانت الغامدية تعرف ما مصيرها، وتدري ما هو العقاب الذي ينتظرها وقد زنت وهي محصنة.
فجاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالت: يا رسول الله! أصبت حداً فأقمه عليَّ، إني زنيت فطهرني، فأعرض عنها الرسول عليه الصلاة والسلام لعلها تذهب فتتوب فيتوب الله عليها، لكن المرأة ما قبلت، وقالت: يا رسول الله! كأنك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً والله إني لحبلى من الزنا.
غريب أهذا منطق امرأة! لكن الإيمان يصنع المعجزات، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أما الآن -يعني مادام الأمر كذلك- فاذهبي حتى تلدي} وإن ذهبت وما رجعت تاب الله عليها وانتهى الأمر، لكنها يمكن أن نقول: إنها أول مرة كانت لكونها حديثة عهد بالمعصية، المعصية قريبة ولازال يكون الندم شديداً؛ لأن الإنسان إذا وقع في معصية أول ما يقع يندم ندماً شديداً، ثم يبدأ الندم يخف حتى يذهب أحياناً، فيمكن أن نقول: أنها أول مرة جاءت بسبب شدة الندم مع أنها لم تكن تعلم أنها حامل إلا بعد وقت من وقوع الجريمة.
ولما ولدت الصبي، وبمجرد ما ولدته؛ جاءت به ملفوفاً في خرقة تحمله: يا رسول الله! هذا الصبي قد ولدته فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: {اذهبي حتى تفطميه} رجعت المرأة، تعهدها رجل من الأنصار وحفظها والصبي معها ترضعه حولين كاملين، وهذا الرضاع الشرعي لمن أراد أن يتم الرضاعة.
بعد سنتين وتسعة أشهر من جريمة الزنا جاءت بالصبي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بعدما فطمته في أول وقت الفطام أي بعد مضي سنتين، ثم وضعت في يده كسرة خبز يمسكها حتى تقول للرسول عليه الصلاة والسلام: إنه الآن مفطوم يأكل الخبز.
شيء عجيب! تمر قرابة ثلاث سنين، وتأتي وهي تعرف أن مصيرها سيحفر لها حفرة في الأرض وترمى بالحجارة حتى الموت.
إذا كان هذا شأن الذين وقعوا في المعاصي من الجيل الأول فكيف يكون شأن الطائعين المخلصين الذين لم يتورطوا في مثل هذه الأمور، إن مثل هذا لشيء عجاب، والله المستعان! المهم حتى حين تقع منهم هذه المعاصي فقد كان رجالهم رجالاً ونساؤهم نساء، كانت نساء حقيقيات صادقات مع الله تعالى ومع أنفسهن.
هذا النوع الأول من المعاصي والأخطاء التي توجد في المجتمع الصالح هي المنكرات الفردية، يعني فلان زنى، فلان سرق، فلان كذا، فلان تخلف عن الجهاد، فلان فر من المعركة أو ما أشبه ذلك، ثم يتوبون ويتوب الله عليهم، لا يعلم في حدود علمي أن واحداً من الجيل الأول مات مصراً على معصية.
قصة أبي محجن: ولعل من أقرب الأمثلة قصة أبي محجن الثقفي، وكان متورطاً في شرب الخمر ولا يستطيع أن يصبر عليها، بل جلد مرات عديدة، وسجن بدون جدوى، لكن من رحمة الله قبل أن يموت بزمن أنه كان مسجوناً في بيت سعد بن أبي وقاص في أيام القادسية في العراق، فلما رأى القتال بين المؤمنين والفرس تحمس وقال لـ سلمى زوجة سعد: فكي لي فرس سعد -وكانت مربوطة- وأطلقيني أقاتل، فإن قتلت فهذا خير لي، وإن نجوت فأعاهد الله أن آتي حتى تضعي القيد في رجلي، فرفضت، فبدأ يتغنى بأبيات من الشعر يقول: كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدوداً علي وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصاريع دوني قد تصم المناديا وقد كنت ذا مالٍ كثير وأخوةٍ فقد تركوني واحداً لا أخَا ليا ولله عهد لا أخيس بعهده لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا أي: حانات الخمر، فهو يحلف بالله إن نجا وفرج عنه من هذا الكرب ألا يزورها، أي أماكن الخمور ففكت قيوده وأعطته الفرس (البلقاء) فذهب يقاتل في المعركة ويفتك بالفرس فتكاً شديداً، وسعد بن أبي وقاص ينظر ويقول: والله إن الطعن طعن أبي محجن والفرس فرسي، وأبو محجن في القيد كيف هذا؟ رجل يشبه أبا محجن وهذه تشبه فرسي، فلما رجع قال لزوجته فقالت: نعم، والله هو أبو محجن وهي فرسك فقال له سعد: اذهب لا سجنتك بعد اليوم، فقال: وأنا لا شربت الخمر بعد اليوم.
فلا أعلم أحداً من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام مات مصراً على معصية من المعاصي الظاهرة.(168/9)
دور الصحوة الإسلامية
مع ذلك فهناك الجانب الآخر لابد من الإشارة إليه، وهو قضية الصحوة التي أصبحت تنتشر خاصة في أوساط الفتيات من الطالبات في المدارس المتوسطة، والثانوية، والجامعية، والمعلمات وغيرهن، أصبحت هناك صحوة تكتسح الساحة الآن، وميزة الصحوة أنها هداية عن علم ومعرفة وتعمد، وليست بمجرد الوراثة أو التقليد، بل يحصل ذلك عن اختيار، وقد تكون -مثلاً- المرأة لم تجد في البيت تربية سليمة، بل قد تكون انحرفت وقتاً من الأوقات، لكنها بعد ذلك اهتدت إلى الله عز وجل، وأقبلت على الدين عن وعي وبصيرة ومعرفة، وأصبحت تتمسك به وتدرك فضله وأهميته وتدعو إليه.
وهذه الصحوة الآن ظاهرة، لا يجادل فيها أحد من المسلمين أو الكفار، بل الكفار الآن هم أكثر الناس تخوفاً منها، والتقارير الغربية من أمريكا وبريطانيا وغيرها تصدر يومياً من مراكز بحوثهم ودراساتهم عن هذه الصحوة وخطرها والخوف منها، وأنها تهدد مخططاتهم في القضاء على المسلمين، وتحويل الأمة الإسلامية إلى مجرد سوق لمنتجاتهم وأفكارهم وعقائدهم وبضائعهم.
فالصحوة الآن ظاهرة لا يستطيع أحد أن يتجاهلها بحال من الأحوال، وهي بفضل الله تعالى، وصحيح أن الدعاة والمخلصين والعلماء لهم جهود كبيرة لا يمكن أن تنسى؛ لكن جهودهم كان من الممكن أن تضيع، ولكن الله عز وجل بارك في جهودهم وسددها، ووفق إلى أن يستمع الناس إلى نذيرهم وصياحهم ودعائهم وندائهم، حتى وجدت هذه الصحوة الإسلامية المباركة في أوساط الرجال وفي أوساط النساء، وهذا من الخير الموجود في المجتمع.
وفي مقابل ذلك تجدين في المجتمع منكرات كثيرة سائدة، بعضها مستقر وبعضها الآن يأخذ طريقه إلى الاستقرار، هذه المنكرات السائدة قد تكون موروثة أحياناً في بعض الأسر أو في بعض المجتمعات، وليس بالضرورة في كل مجتمع، فهناك مجتمعات معينة الرجل فيها قد يخلو بقريبته، ويعتبر هذا أمراً عادياً، وقد ينظر إليها، وقد لا يكون هناك تستر كافي في بعض بيئات البادية وفي بعض المناطق الأخرى.
وهناك منكرات -أيضاً- استقرت في البيوت، وكثيرٌ من البيوت يوجد فيها -مثلاً- أجهزة هدم وتخريب ويوجد فيها أفلام، ويوجد فيها كتب وروايات سيئة، ومجلات سيئة، وكذلك تساهل وتسامح في العلاقات الاجتماعية، فهذا نوع من المنكرات الموجودة، وهي منكرات متوارثة بين الناس اشتهرت واستقرت.
وهناك منكرات في طريقها أو تحاول -لا نتفاءل ولا نتشاءم- لكن تحاول أن تكون في طريقها إلى الاستقرار، فهناك لاشك من يحاول غزو المجتمعات الإسلامية في كل مكان، فهناك من يتمنى أن تظهر المرأة المسلمة سافرة، ويعتبر أن هذا الحجاب سجن -مثلاً- للمرأة، وهو يريد أن يستمتع بالمرأة وهي سافرة وقد حسرت عن وجهها وشعرها ونحرها وذراعيها، بل يتمنى ما هو أشد من ذلك {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] والمنافقون خلف المؤامرة كلها، يسعون بجهودهم ليلاً ونهاراً لتحقيق هذه المقاصد.
وهناك من يتمنى أن يحدث الاختلاط بين الأولاد والبنات في المدارس وفي الجامعات وغيرها، حتى يستمتع بشهوته ومراده على ما يحب دون حسيب أو رقيب من الناس.
وهناك من يحاول أن يوجد الاختلاط في أوسع من إطار التعليم، هناك منكرات يحاول الكثير من المغرضين فرضها على الأمة الإسلامية من خلال وسائل الإعلام، وأجهزة التعليم، والمناهج التعليمية، والعلاقات بين طبقات المجتمع، ومن خلال إشاعة أخلاقيات معينة، وهذا النوع الجديد من المنكرات غالبها أو كثير منها منظمة مدروسة يقف خلفها -كما أشرت قبل قليل- أجهزة ومؤسسات وبيوت يديرها غالباً أناس يتعمدون هذا الأمر، وقد يكونون من المنافقين الذين بليت بهم الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وصنعهم الاستعمار وغرسهم في البلاد الإسلامية حتى يقوموا بالمهمة بالنيابة عنهم.(168/10)
تغيير المنكر
أنتقل من هذه النقطة إلى النقطة الأساسية وهي المهمة وأعتبر أنها هي زبدة الحديث عندي أو بيت القصيد، وأتمنى من الأخوات أن تصغي أسماعهن جيداً لهذا الموضوع.
النقطة الأساسية: أنه ما موقفنا إزاء هذه المنكرات الشائعة الآن بنوعيها؟ يمكن أن نلخص الموقف بالحديث النبوي، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده} إذاً موقفنا التغيير، والتغيير لا يعني -بالضبط- أن المنكر قد زال، لأنك لست سلطة تزيلين المنكر بالقوة، {فإن لم يستطع فبلسانه -أي: يتكلم أن هذا لا يصلح ولا يجوز، أو يكتب- فإن لم يستطع فبقلبه} .
إذاً بالقلب -أيضاً- يكون تغييراً، كأن تكون كارهاً لهذا المنكر لكنك لا تستطيع أن تفعل شيئاً، وهذا سماه الرسول عليه الصلاة والسلام تغييراً {فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} فحين ترى الأخت المسلمة المنكر ثم لا تكرهه فهنا لا إيمان في قلبها مطلقاً، ولا حبة خردل، هذا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام {وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، وذلك أضعف الإيمان} فإذا زال الأضعف ما بقى شيء من إيمان، وفي لفظ فقال: {وذلك أضعف الإيمان} .
من أهم خصائص المؤمنين بغض المنكر، أحياناً قد يكون المؤمن مقصراً في الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج، لكنه غيور على حرمات الله، فهذا دليل على صدق الإيمان في قلبه، وآخر قد يكون عابداً زاهداً مصلياً قائماً ذاكراً لكن هذا الإنسان قلبه ميت يرى المنكر فلا يتمعر وجهه ولا يغضب لله، فهذا في إيمانه نظر، وأعماله هذه لا تدل على قوة إيمانه وصدق ولائه لله تعالى ولرسوله.
أما بالنسبة لكيف يكون التغيير؟ فإن الناس -سواء في ذلك الفتيات أو الشباب- يسلكون إحدى طريقتين أمام هذه المنكرات الشائعة أشير إلى كل من الطريقتين، وأبين المحمود منها.
س(168/11)
المشاركة في الحياة والتغيير خير من الانطوائية
فليس صحيحاً أن نرضى نحن أن نكون هكذا، نترك مجتمعنا ومؤسساتنا ومجالاتنا ومناسباتنا التي تنبثق من هذا المجتمع الذي الخير عليه عموماً؛ نتركها لنساء أحياناً فيهن ضعف وتقصير، وبعضهن ليس عندها تدين، وبعضهن قد تكون مغرضة وعندها أفكار سيئة، وبعضهن قد يكون زوجها أحياناً رجل يوجهها إلى أمور لا تحمد.
فليس بصحيح أن نترك المجتمع لمثل هذه الطبقة تربيه، ونحن نقول فسد الناس وفسد المجتمع، لا، بل ينبغي أن ننزل للميدان، وننزل للساحة ونؤدي دورنا من خلال مجالاتنا العملية التي نشتغل فيها ونعرض أنفسنا، وبغير ذلك فإنه مهما تحدثنا عن المنكر وأطلنا فإن هذا لا يغير المنكر.
وفي الواقع أن هذه النقطة الأخيرة هي بيت القصيد وهي الهدف من المحاضرة، أن أقول للأخوات وأختم بهذا: ينبغي أن يكون دورنا في معالجة الأمور والمنكرات أن ننزل للميدان، وننزل للساحة، ونعمل على تغيير المنكر من خلال وجودنا، وقد يترتب على ذلك أحياناً نوع من شعور الأخت بأن قلبها ليس كما تريد؛ لأن الإنسان المعتزل في المسجد يعبد ويصلي ويقرأ القرآن يحس بانشراح في قلبه أكثر مما يحس في ميدان المعركة، هذا شيء طبيعي لكن المجاهد أفضل وأعظم عند الله منه.
فالأخت التي تنزل للميدان وتختلط ببعض النساء اللاتي أوضاعهن مستورة تحس بشيء من القسوة في قلبها لكنها على خير أيضاً، وعلى أجر، وهي أفضل عند الله فيما أعلم من امرأة معتزلة تتعبد وتصلي إذا كانت نيتها خالصة؛ لأن التي تعبد الله وتصلي هذه تنفع نفسها، لكن التي تنزل للميدان وتختلط بالناس وتأمر وتنهي وتصلح بقدر ما تستطيع، إذا كانت نيتها صالحة فهي أفضل منها؛ وذلك لأن نفعها يتعدى ولا يقتصر على نفسها.
وأقول: أخشى ما أخشاه الآن هو أن يأتينا الشر من قبل المرأة، لأن أعداء الإسلام يركزون على المرأة ويعملون على إفساد وضع المرأة، لأنه إذا فسد وضع المرأة، فقولي على المجتمع السلام، إذا مشت المرأة متبرجة وسافرة وأظهرت زينتها في الأسواق والشوارع وحصل الاختلاط فمعنى ذلك أن المجتمع انهار -وهذا الذي يوجد في كثير من المجتمعات- فالأعداء يركزون جيداً على ذلك، فضلاً عن أن المرأة هي التي تتولى تربية الأجيال، فإذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق، وإذا تلفت المرأة وفسدت فسد الجيل الذي تربي على يديها، إنك لا تجني من الشوك العنب.
إذاً: من المهم أن تشعر الأخوات بضرورة أن يكون هناك حالة استنفار بينهن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله وخوض غمار هذه المجالات والميادين الخيرية للإصلاح.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.(168/12)
طريقة اتخاذ الموقف الشرعي
النوع الثاني: الذي نريده وهو الموقف الشرعي السليم المتعقل: أولاً: ينظر للمجتمع نظرة معتدلة فيرى المنكرات موجودة وفي مقابلها يرى خيراً وصلاحاً في المجتمع، فهو معتدل النظرة حتى حين يسمع أخباراً تبقى عنده في نطاق ضيق، ما وصلت إلى حد تصبح شيئاً يلوث البيئة العامة وظاهرة مفسدة للناس عموماً.
الأمر الثاني: بالنسبة للموقف السليم المعتدل أنه بناءً على هذه النظرة المتوازنة تتصرف الأخت المسلمة تصرفاً سليماً، وذلك عن طريق الدخول في الميادين المباحة كلها والمشاركة فيها والتغيير من خلالها، فينبغي أن تدخل الفتاة المتدينة الداعية الواعية إلى التعليم، تتعلم، وتعلم، وتواصل في الدراسات العليا، وإدارة جمعيات خيرية، ومناسبات، ورسائل وصحف، ومجلات، وهي تستطيع أن تكتب فيها وترد وتدافع، فكل هذه الوسائل الآن التي أصبح الأعداء يستخدمونها في حرب الإسلام، ينبغي للأخوات المتدينات أن يبدءن في التفكير فيها، بدلاً من كون مهمتهن تتوقف عند الشكوى بأن المدرسة الفلانية فيها كذا، والمكان الفلاني فيه، والجريدة الفلانية قالت كذا، وهذا شكوى إلى من؟ هذه الأمور لا تنضبط، تبين أن مجرد الشكوى لا تجدي شيئاً؛ لأن بعض الناس الذين لا خلاق لهم ولا غيرة قد يكونوا تسللوا إلى بعض هذه المواقع وأصبحوا لا يلتفتون إلى هذه الشكاوى، وقد يفسرونها على أنها طبقة من الناس عندهم نوع من التشدد أو ما أشبه ذلك، أو لا يفهمن حقائق الأمور وبالتالي جاءت الشكوى منهن، فيوجد هذا أحياناً في مؤسسات كثيرة.
لكن الحل الحقيقي العملي الناجح، هو أن نقول للمتدينات الصالحات الغيورات على الدين اتركن من قضية الشكوى والكلام الطويل، ينبغي أن تنزل الفتاة للساحة وتعمل على تغيير الواقع من خلال موقعها كمدرِّسة أو كمديرة أو كموجهة أو كمرشدة، أو كمشرفة أو كمسئولة في جهاز معين أو قطاع معين من أي قطاعات المجتمع، أو مناسبة أو وليمة أو حفلة أو تجمع طالبات أو نشاط أو في صحيفة أو إذاعة مدرسية مثلاً أو تأليف الكتب وما أشبه ذلك.
المهم ننزل في الميادين التي بدأ الشر يأتينا منها، ونحاول أن نعمل على تغييرها؛ لأن هذه الميادين ميادين حيادية، بمعنى أنه يمكن أن يقوم عليها إنسان طيب وصالح فتتحول إلى مجال للخير، والهداية، والإصلاح واستقبال البنات وتربيتهن، ويمكن أن يليها أناس ليس عندهم دين ولا غيرة فيحولونها إلى ضد ذلك.
إذاً: ينبغي أن نناقش في تلك الميادين ولا ينبغي للفتاة أن تعتبر أن مهمتها تنتهي عندما تتزوج، وتهتم بزوجها، وبأطفالها، وهذا غاية ما تريد وتترك أمر الناس وتنسى أننا في الواقع بحاجة إلى داعية معروفة.
الآن مثلاً لما تقرئين في الكتب المعاصرة في مصر وغيرها من البلاد التي انتشر فيها موضوع تحرير المرأة تجدين أسماء عديدة من النساء اللاتي تبنين حملة دعوة تحرير المرأة ومزقن الحجاب، وفعلن وفعلن، وموجود في البلاد المجاورة والمحيطة وفي بلادنا أسماء معروفة، فلماذا لا يوجد بين الصالحات من يكون لها نشاط إسلامي قوي واضح تعرف به سواء كانت داعية، أو مجاهدة، أم آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، أو ترد على المنحرفين بالأسلوب المناسب، وتكتب، وتنشر، وتحاضر، وتتحدث، وتقوم بدور في مجالها العلمي القريب والبعيد؟ ونحن بأمسِّ الحاجة إلى أن نفكر جيداً في أن هذا هو السبيل العلمي الحقيقي لتغيير المنكرات، أما كوننا بعيدين وننتقد، ونقول: حصل في المكان الفلاني كذا، وحصل في الوليمة الفلانية كذا، وحصل في المناسبة الفلانية كذا الخ.
هذا أمر لا يغني شيئاً، وليس بصحيح أن كون مثل ذلك الأعرابي الذي كان في الجاهلية فجاءه اللصوص وأخذوا إبله، فبدأ يشتمهم وأخذوا الإبل وتركوه؛ لأنهم لا يهمهم أن يشتمهم فيقول: أوسعته شتماً وأودى بالإبل.(168/13)
حالات العزلة
وموضوع العزلة لا أريد أن أتكلم فيه، وسبق أن تحدثت عنه لكن أشير إلى بعض الحالات: الحالة الأولى: حين يصل الناس من الانحراف إلى حد لا يقبلون منك الخير، كما قال النبي: {إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً وإعجاب كل ذي رأى برأيه} تقول له شيئاً فلا يقبل منك؛ هنا اعتزلهم، لأنه لا فائدة، لا يوجد أحد يقبل منك، لكن الواقع الآن أن الناس يقبلون والهداية الآن بالعشرات، بل بالمئات، بل الكفار الآن يدخلون في دين الله فضلاً عن المسلمين الضالين الفاسقين الذين إذا دعوا إلى الله ورسوله استجابوا.
إذاً ما وجد هذا في مجتمعنا بالصورة المذكورة في الحديث، ولازال الناس عندهم استعداد وتقبل، حتى من يظهر فيه فسق أو سفه خاصة في فترة المراهقة، بعض الفتيات قد تلج فيه، لكن باللطف وبالأسلوب الهادي، فقد أثبتت هذه الوسائل والأساليب نجاحاً.
الحالة الثانية: التي يمكن فيها للفتاة أو الفتى أن يعتزل الناس في المجامع العامة، حين يعلم من نفسه أنه شديد الضعف، بحيث أنه إذا اختلط بالناس وقع فيما وقعوا فيه، فتاة مثلاً تقول: أنا لو ذهبت إلى مجموعة من الطالبات عندهن شيء من الانحراف، أنا أعلم من نفسي جيداً أنني لو ذهبت معهن؛ سوف أنساق معهن وأكون واحدة مثلهن، وتعلم هذا وتعرفه يقيناً أو ظناً غالباً على نفسها -مثلاً- لا يكاد يكون منه شك.
هنا نقول: نعم، كونكِ أنتِ تنجين بنفسك أفضل من أن تنحرفي فابقي حيث أنت.
الحالة الثالثة: أن توجد فتاة -وهذه انتبهن لها معاشر الأخوات- توجد فتاة شديدة الغيرة، شديدة الغضب، فإذا رأت المنكرات قامت وهاجت وماجت واضطربت وصاحت وغيرت بأسلوب يزيد المنكر ويضاعفه، ولا تغير منه شيئاً لكن هذه اتخذت موقفاً استفزازياً وأغضبت الجميع، وفي النهاية ما غيرت شيئاً فهي غضوبة لا صبر عندها ولا حكمة ولا روية في معالجة الأمر بأسلوب سهل وتدريجي، أي أنها لا تأتي البيوت من أبوابها، بل أتت من النافذة فسقطت وضرت وأضرت، أسلوبها وهذا هو طبعها، فهي لا تصبر، وهذه أيضاً لا بأس أن تبتعد عن هذه المجالات حتى لا تعرض نفسك لإحراجات مع أنه في النهاية ما نفع أسلوبك، فهنا نقول اعتزلي لا نقول مطلقاً ولكن اعتزلي بعض المجالات التي تثير هذا عندك.
إذاً: يمكن للفتاة أن تبتعد إذا كانت ممن تتحلى بها، لكن غالبية النساء والرجال ممن يكون عنده اعتدال في المزاج وتوسط في النظرة، وتعقل وهدوء وقدرة على معالجة الأمور بحكمة، هذا قد يكون متعيناً عليه أن يخوض في هذه المجالات المختلفة حتى يغير.
وهذا هو الأسلوب الثاني، أنا قلت أن هناك طائفة إذا رأوا المنكرات وشيوعها بالغوا في تصوير المنكرات وبالتالي ابتعدوا وسحبوا بحجة أن لا يد لهم في ذلك وهذا خطأ.(168/14)
طريقة التشاؤم والعزلة في تغيير المنكر
الطريقة الأولى: هي طريقة الهروب أو العزلة أو البعد عن أماكن المنكر بحجة أن الإنسان يخاف على نفسه، أو أنه مقصر، أو يموت قلبه، أو يضعف الإيمان، أو ما أشبه ذلك، وكثير ما تجدين بعض الأخوات إذا جلست إليها بدأت تقول: الله المستعان! وهذا زمان الغربة في الدين وحقت العزلة، والآن خير للمرء غنم يتبع بها شعث الجبال ومواقع القطر، يهرب بدينه من الفتن، التي هي كقطع الليل المظلم، وتبدأ بعض الفتيات تضرب على هذا الوتر، الناس فيهم وفيهم وتعدد المنكرات، وهنا هي وقعت في خطأ بل في أخطاء: الخطأ الأول: أنها أصبحت تنظر بعين واحدة، نظرة عوراء لماذا؟ لأن المجتمع فيه كما ذكرت قبل قليل خير وشر، فلماذا أنظر إلى الشر وأترك الخير؟ هذا خطأ كبير، ولذلك في صحيح مسلم يقول الرسول عليه السلام: {من قال هلك الناس فهو أهلكهم} يعني أكثرهم هلاكاً.
فالإنسان عندما يقول دائماً: الناس فعلوا والله المستعان، وفيهم وفيهم، فهذا في قلبه مرض، وهذا أمر رأيته بعيني من كثير الشباب الذين يدمنون الحديث عن المفاسد والمنكرات خاصة المفاسد الأخلاقية، فمنهم من يظل يقول: على شاطئ البحر يوجد كذا، وفي أجهزة الإعلام يوجد كذا، ويكثرون من هذا الموضوع، ويشتغلون بالتفصيل حتى حين يذهبون للمواقع الطيبة كالمساجد وأماكن العلم والتعليم والبيئات الطيبة والحرمين وغيرها، تجد أعينهم دائماً تلاحظ الظواهر السلبية، هؤلاء في قلوبهم مرض.
فعلى المسلم أن يمسك الميزان من الوسط، نعم، يوجد شر، ويوجد انحراف، حتى في أوساط الطيبين يقع؟ نعم، لكن نقول أيضاً: يوجد خير وصلاح، واستقامة وصحوة وإقبال، لا بد أن نمسك الميزان من الوسط ونعرف هذا وهذا، ونكون معتدلين في النظرة، وهذا الاعتدال في النظرة ضروري ليتصرف الإنسان التصرف المناسب.
الخطأ الثاني: الذي وقعت فيه هذه الطائفة أنهم بعدما تشاءموا وساءت نظرتهم إلى المجتمع، وبالغوا في تضخيم المنكرات؛ قرروا الهروب منها واعتزالها.
فتجدين -مثلاً- الأخت تترك التعليم، وتترك الدراسة في الجامعة، وتترك المواصلة في الدراسات العليا، وتترك المناصب الإدارية، وتترك التفتيش -مثلاً- وتترك المشاركة في الأعمال العامة، وتترك الاختلاط بالناس، وتترك المناسبات والأعراس والحفلات، وتترك الاتصال والذهاب والإياب بحجة وجود منكرات، وأنا لا أستطيع تغييرها -يا سبحان الله! -.
هل معنى ذلك أن نترك المجتمع لغيرنا من المنحرفين والضالين؟ لا هذا انحراف في مفهوم الورع؛ لأنه قد يكون واجباً فتعين عليك أنت أيتها الأخت أن تشاركي وتدخلي؛ حتى لو ترتب على ذلك بعض المفاسد، لكن المصلحة أكبر من أجل إزالة المنكر ونشر المعروف، وإلا الهروب منها سهل فعله، ولا توجد مشكلة، فالإنسان إذا رأى الوضع لا يعجبه انسحب وترك الحبل على الغارب، ترك الأمر للشيطان وأوليائه وجنوده، وهذا أهون حل، لكنه في الواقع لا يزيد الطين إلا بلة، ولا يزيد الداء إلا علة، إذاً هذا خطأ ثانٍ، والرسول عليه الصلاة والسلام ما أذن لنا بالعزلة وترك المجاملات هذه إلا في حالات؟(168/15)
الأسئلة(168/16)
إهداء الثواب إلى الوالدين
السؤال
ماذا عن عشاء الوالدين؟ وقراءة القرآن مع نية الأجر للأب أو الأم؟
الجواب
والله بالنسبة لعشاء الوالدين ليس هناك شيء يسمى عشاء الوالدين، إنما الصدقة مشروعة عن النفس وعن الوالدين، فيستحب أن يتصدق الإنسان عن والديه، فيعطي الفقراء أو المساكين أو المحتاجين، أو يصنع غداءً أو عشاءً ويدعو إليه الفقراء والمساكين والأقارب عموماً.
أما قضية الختمة فإن أحق بالعمل أنتِ.
لماذا أنا أتصدق عن غيري؟ يوم القيامة الإنسان يتمنى حسنة من أمه أو من أبيه فلا تحصل له، فلا داعي للإنسان أن يتصدق بعبادته عنه، ولم يكن هذا معروف عند السلف، فعلى الإنسان إذا قرأ أن ينويها عن نفسه، لكن يمكن أن يدعو لوالديه.
هذا والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وأصحابه.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك نتوب إليك.(168/17)
الغناء في الأعراس
السؤال
ما حكم ما يحدث في حفلات الزواج من الغناء؟
الجواب
إذا كان الذي يحدث في حفلات الزواج هو ضرب بالدف وغناء من نساء حاضرات، ولا يسمعهن الرجال، وليس هناك اختلاط، والغناء ليس فيه بذاءة وفحش فهذا لا ينكر، أما إذا كان الذي يحدث في الزواج أمرٌ محرم مثل الموسيقى -مثلاً- كغناء في شريط، أو المغنيات حاضرات لكن يغنين بألفاظ بذيئة وفاحشة، كما يحدث أحياناً، فهذا منكر ينبغي إنكاره، فإذا وجد مثل هذا والأخت في العرس فعليها أن تعمل على إنكاره بقدر ما تستطيع، وإذا عجزت وكانت تستطيع أن تخرج فتخرج، وإن عجزت وهي لا تستطيع الخروج مثل أن يكون وليها قد أتى بها وذهب فلا حرج عليها، لكن لا تستمع لهذا ولا تلتفت إليهم، فإذا سمعت هذا من غير إرادة منها لا حرج عليها في ذلك.
أما إذا علمت سلفاً قبل أن تأتي أن هذا العرس سيكون فيه منكر، وأنها لا تستطيع أن تغيّر وإن كان هذا قد يصعب أحياناً الجزم به، لكن إذا علمت ذلك وعرفت من نفسها أنها ضعيفة فلا تدخل.
وينبغي أن نفهم الناس أن الدين يسر وسماحة وخير، ولكن ليس يسراً على مزاجهم ورغباتهم، إنما بحسن الخلق والتلطف، وبيان فسحة الدين مطلوب، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: {حتى تعلم يهود أن في ديننا فسحة} بعض الناس أخذوا انطباعاً عن الدين والمتدينين أنهم معقدون، وأن فيهم وفيهم، فينبغي أن نعدل هذه الصورة في نفوس الناس.
أما موضوع الرقص: ففي الحقيقة لا أعلم نصاً خاصاً بمنعه أو تحريمه، لكن في الزواجات قد يكتنفه مخاطر عديدة منها أنه قد يراها رجال، ومنها أنه قد تبالغ المرأة في الرقص وتظهر مفاتنها ومحاسنها بصورة معينة، فهذا ضار حتى في النساء الحاضرات، فأرى أن الأولى ألا تفعل.(168/18)
تسريحة الكعكع
السؤال
يسأل عن تسريحة الشعر المسمى بالكعكع.
الجواب
الأصل في تسريحة الشعر الإباحة إلا إذا كانت من باب التشبه بالرجال كما تفعل بعض النساء حين تقص الشعر حتى كأنه شعر رجل، هذا لا يجوز، كذلك بعض النساء تتشبه بالكافرات في قص الشعر، وهذا أيضاً لا يجوز {من تشبه بقومٍ فهو منهم} وما عدا ذلك الأصل فيه الإباحة، فمثلاً إذا وجدت قصة شائعة عند الكفار أو اليهود أو النصارى، أو عند الممثلات الكافرات أو الفاجرات، بل إن معظمهن من هذا الصنف، وكذلك والعياذ بالله بعض البغايا والمومسات يشيع بينهن قصة معينة، مثلما كان عند بعض السلف القصة الميلا، فهذه تجتنب.
إذا كان الشعر مجموعاً فلعله لا حرج -إن شاء الله- أن تصلي المرأة وهو على صفته التي قد سرحته عليها، لكن إن فعلت هذا من أجل الصلاة، يعني لفت الشعر وأبعدته من أجل الصلاة، هذا تمنع منه، تترك شعرها بطبيعته، لكنه إذا كان أصلاً ملفوفاً أو مجموعاً فلعله -إن شاء الله- لا حرج في ذلك مما يظهر لي.(168/19)
حكم النذر
السؤال
امرأة نذرت أن تصوم شهرين إذا رقصت ثم فعلت، فما الحكم؟
الجواب
أولاً: النذر مذموم فهو مكروه، حتى أن بعض العلماء قالوا أنه محرم، فينبغي تجنب النذر، وإذا فعل الإنسان شيئاً ينوي أن يتوب منه دون أن يحتاج إلى نذر، لأن النذر لا يلجأ إليه إلا ضعيف الإرادة، الذي جرب نفسه مرة ومرتين وثلاثاً وتخونه إرادته، فينذر حتى يلزم نفسه، ثم لا يستطيع أن يلزم نفسه فيقع فيما نذر ويحرج نفسه، فهذه المرأة التي نذرت أن تصوم شهرين متتابعين إن رقصت ثم فعلت، نقول لها: عليكِ أن تصومي شهرين متتابعين، فإن قالت: هل هناك حلاً آخر؟ نقول لها: نعم هو أن تصومي شهرين متتابعين كما نذرتي، لا بد من الصيام، لماذا نحرج أنفسنا بأمور ما كلفنا الله سبحانه وتعالى بها.(168/20)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم)
السؤال
ما معنى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] ؟
الجواب
هذه الآية فسرها أبو بكر رضي الله عنه في الحديث الذي جاء مرفوعاً وموقوفاً أنه قال: إنكم تقرءون هذه الآية وتحملونها على غير وجهها، وإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله بعقابه} .
والآية لا إشكال فيها لأن من الهداية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن نقول لكل مسلم ومسلمة: عليك نفسك، اهتد، اطلب الهداية باتباع دين الله، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بعد ذلك لا يضرك من ضل، فكونك أمرت إنساناً ولم يطعك، هذا لا يضرك لأنك لست عليهم بمسيطر، كما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21-22] .
فلست سلطاناً تجبر الناس بالإكراه على سلوك الطريق المستقيم، وعلى فعل الخير وترك المنكر، غاية ما تملك الكلمة، أن تقول للناس: هذا خطأ فاتركوه، وهذا صواب فافعلوه، ثم كون الناس يقبلون أو لا يقبلون هذا أمر آخر لا تحاسب عليه.(168/21)
الصلاة في زمزم
السؤال
ماحكم الصلاة في زمزم؟
الجواب
الأصل أن الصلاة في زمزم جائزة، إذا لم يكن فيها ضرر على الذين يأتون لشرب الماء وغير ذلك من الأغراض التي وضع المكان لها، فإن رأيت امرأة تصلي فإذا كانت تصلي من أجل الظل والبراد وما أشبه ذلك فلا حرج ولا تمنع من ذلك ولا تنهى.
أما إذا كانت تصلي تحية لزمزم فهذه لا شك بدعة، ليس لزمزم تحية خاصة بها، لكن كيف لكِ أن تعلمي أنها تصلي تحية لزمزم؟ فهي تصلي وقلبها غير مكشوف حتى تعلمي أنها تصلي لله أو تصلي لزمزم.
اللهم لو وجدت معك امرأة ظاهر معكِ مثلاً ونزلت معكِ فصلت وقالت لا بد من تحية زمزم ورأيتيها مصرة على ذلك، فتصلي كلما نزلت، وعرفت أنها تصلي تحية لزمزم، هذه تنهى ويبين لها أن زمزم جزء من البيت، فلو انتقلت من مكانٍ إلى آخر في الحرم لا صلاة تخصه.(168/22)
توجيه كبار السن
السؤال
كيف نوجه كبار السن اللاتي يتعصبن لرأيهن عندما يعلمن عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديثاً وهو ليس بصحيح، أو لديهن اعتقادات ليس لها أساس من الصحة حتى أنه يصعب توجيههن، فما الذي يجب أن نعمله؟
الجواب
أشرت إلى شيء من ذلك.
أنه لا بد من سعة الصدر والتلطف، أحياناً يقتنع الإنسان أنه لا داعي للجدل، فامرأة شابَ رأسها على شيء وتعصبت وتمسكت به، فهي مصرة عليه، حتى أنها لو كان أمامها أكبر عالم من العلماء، لكن الأولى أن تعرض ما لديها على أنها أمور بديهية ومسلمة ومفروغ منها، وتعلمها وتقول لها: الأمر كذا وكذا فإذا رأيتِ أن الموضوع ليس له فائدة ولا مجال للتقبل فلا داعي أن تستمري في جدل عقيم.
يمكن أتحين فرصة أخرى بعد وقت وأجد أنها عندها تقبل فأتحدث في الموضوع بصورة لبقة إذا أمكن.(168/23)
اختيار الزوج
السؤال
بعض الأخوات تمتنع عن الزواج إلا بشخصٍ تجزم أنه يساعدها، وترفض أي شخص ولو كان متديناً إذا عرفت أنه لن يساعدها، ويمنعها من الاختلاط بالمجتمعات الخيرية، هل يجوز لها ذلك أم لا، خصوصاً أنها تعلم أنه متدين؟
الجواب
هذه القضية لا تنضبط فهي قضية نسبية، يختلف الأمر، فقد تجد المرأة أنه ينبغي عليها أن تقبل بهذا الشخص الذي تقدم لخطبتها ما دام أنه ليس عليه مأخذ في دينه، ولو كانت تعلم أنه لا يساعدها، لأن عندها ظروف معينة تتطلب ذلك، وأحياناً قد يكون من المصلحة أن تنتظر، يعني إذا نظرت لحالها ووضعها وسنها وخصائصها ومميزاتها وتوقعاتها، وقدرت مجمل الأشياء تستطيع أن تقرر أنه ما إذا كان من مصلحتها أن تقبل هذا أو لا تقبله.(168/24)
طاعة الولي والدعوة
السؤال
نرى بعض أولياء الأمور يمنع ابنته من فعل الخير رغم تأكدنا من خيريته كحضور المحاضرات، فهل يختلف الأمر عندما تكون الولاية من قبل الأب أو من قبل الأخ الذي يريد فرض شخصيته، فهل يجوز أن أعصي أخي وأذهب وجزاك الله خيراً؟
الجواب
والله الأولى في مثل هذه الأمور سواء كانت مع الأب أم الأخ أن تسلك معهما مسلك الإقناع والحكمة واللباقة، لأنه إذا وصلت الأمور لحد العصيان لأصبح الأمر صعباً، حتى الأخ لو عصيتيه وذهبت مرة، المرة الأخرى قد يكون في الأمر صعوبة وهو أقدر منكِ على أن يفرض شخصيته، وقد يذهب بكِ بنفسه إلى المحل، وقد يترتب على ذلك الأثر السييء، فالأولى أن للأخت أن تعمل على الإقناع، والحديث، وكثرة الإلحاح بدون أن تصل القضية إلى حد الحسم والذهاب بدون موافقة الأخ أو موافقة الأب.(168/25)
سقوط الإثم باهداء شريط
السؤال
عندما أرى منكراً فأهدي إلى صديقتي شريطاً أو كتاباً يوضح خطره وحرمته فهل أكون قد بلغت في ذلك، فهل يسقط الإثم عني؟
الجواب
هذا من الوسائل، قد ترين من المصلحة ألا تكلميها مباشرة، لكن تعطينها شريطاً أبلغ في التأثير، فهذه وسيلة، وقد يكون أحياناً أفضل من مخاطبتها مباشرةً، لكن ربما تأخذ الشريط ولا تستمع إليه، ولذلك يحسن أن تتابعي، فإذا عرفت أنها استمعت إلى الشريط وعرفت ما فيه وأنتِ ليس عندك زيادة، لا بأس أن تناقشيها وتتحدثي معها، وإن لم تسمعه فينبغي أن تتحدثي معها في هذا الأمر.(168/26)
عدم الاستماع إلى النصح
السؤال
إذا رأيت منكراً من أهلي، وأنا لا أستطيع أن آمرهم لأنهم لا يسمعونني بسبب أنني أصغر منهم ويتضايقون مني، فهل عليّ شيء، وماذا أفعل؟
الجواب
كما أسلفت الحديث، يقول المثل: (الحاجة أم الاختراع) فأنا حين أقرر أن هذا منكر، ويجب أن أغيره، لا أتسرع وأغير في الحال بصورة لا أدري هي الأنسب، بل ينبغي أن أدرك أن هذا منكر ويجب أن أغيره، ثم ننتقل بعد ذلك إلى التفكير كيف نغير هذا المنكر؟ اخترعي وسائل معينة لطيفة للوصول إلى تغيير هذا المنكر وإزالته.(168/27)
منكرات الأسواق
السؤال
حينما أرى منكراً من امرأة في الأسواق وخاصةً في الأماكن العامة لا أستطيع الإنكار خوفاً من رفع صوتي خاصةً عندما تعارض على ما قلت، فما العمل؟
الجواب
قد يصعب التغيير بلا شك، إذا خرجتِ إلى السوق فرضاً سترين مائة واحدة عليها منكر، فأنتِ خارجة لغرض معين، وليس معقولاً أن تتركي الغرض الذي خرجت من أجله وتجلسين مع امرأة وتقولين على الأخرى أنتِ سافرة، متبرجة، وأنتِ، وأنتِ، هذا ليس مطلوباً وليس ممكناً للمرأة، فهي خرجت لوقتٍ يسير لغرض معين، فتريد أن تقضي غرضها فلا يتيسر لها ولا يتسنى لها أن تنكر، خاصةً في المنكرات العامة التي انتشرت بين النساء، وإنما لو رأيتِ منكراً ربما أكبر من هذه المنكرات، كمنكر واضح اتصال أو محادثة، هنا ينبغي أن يكون لكِ موقف سواء مع أصحاب المنكر الواقعين فيه أم مع غيرهم، بقدر المستطاع يغير الإنسان.(168/28)
الأفضلية
السؤال
تقول: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {خير القرون قرني ثم الذين يلونهم} قالت لي إحدى الأخوات -جزاها الله خيراً-: إن المقصود في الحديث هو أن الخيرية تتوقع في الاتباع، وفهمت منها أن المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو لم يكن أنه أدرك عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يعتبر كأنه من القرن الذي وجد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، والناس يختلفون في ذلك، فهل الأفضلية تتوقف حسب المتابعة فهل هذا صحيح؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم مدح القرن عموماً وليس بأفراده بالضرورة (خير القرون قرني) الحكم هنا إجمالاً على مجمل القرن أنه خير القرون، أي قرن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم القرن الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، هذا من جهة القرن بشكل عام، لكن الأفراد لا يلزم من ذلك الحكم بخيرية كل فرد، فقد يوجد في التابعين العصاة، والفساق، والفجار، والمبتدعة، كما أنه يوجد في المتأخرين من جاءوا بعد القرون الفاضلة من يكون بأفضل من التابعين، بسبب أنهم أكثر اتباعاً من الرسول صلى الله عليه وسلم وأكثر جهاداً وبلاءً في الدين.
إذاً: يفرق بين المجتمع وبين الأفراد.(168/29)
الاشتغال بعيوب الناس
السؤال
بعض الأخوات تجعل همها نقد الناس وبيان سلبياتهم وأخطائهم وتغفل بذلك عن نفسها، فماذا نقول لها؟
الجواب
نقول: من قال: هلك الناس فهو أهلكهم، ونقول لها: ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإن انتهيت إذاً فأنت حكيمُ فالذي يشتغل بعيوب الناس، فهذا غالباً مريض، ينبغي أن يطلب لنفسه الشفاء.(168/30)
وصايا للمرأة في رمضان
السؤال
وصايا المرأة في رمضان.
الجواب
فيما يتعلق بالواقع الرمضاني فليس عندي وصايا محددة، لكن أوصي أخواتي بتقوى الله تعالى، وحفظ صيامهن بتجنب الإكثار من الكلام؛ خاصةً فيما لا جدوى منه، وتتجنب ما حرم الله كالنميمة والوقوع في أعراض الناس، وكثرة قراءة القرآن، وأن يكون الصيام فرصة لدعوة الأخريات إلى الله؛ لأن النفوس في رمضان تكون أقرب منها في غيره، والشيطان مأسور مصفد.
ولذلك يكون هناك إقبال، فهناك فرص كالمدارس والمؤسسات والاجتماعات لدعوة الناس، ينبغي أن نركز على التوبة والعودة إلى الله سبحانه وتعالى، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ علي بن أبي طالب: {والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم} وهذا ليس خاصاً بالرجال، بل هذا عام للرجل والمرأة فهو باعتبار الغالب المخاطب، فالمرأة تكون كذلك.
فلتكن منكن منارة دعوة وهدى وإصلاح تقول كلمة الحق وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحرص على أن تكون قدوة على الخير للفتيات وخاصة صغار السن، لأنهن يحتجن إلى قدوة، فلا مانع أن تكون الواحدة وإن أحست في نفسها تقصير لا يعلمه الناس، فعليهما أن تستتر بستر الله، وتحرص على أن تكون قدوة للأخريات في الخير والصلاح، والأمر والنهي والدعوة إلى الله عز وجل، فالمجتمع أحوج ما يكون إلى مثل هذه النوعية من النساء.
وكذلك أوصي الأخوات بوصية مهمة فيما يتعلق بالخروج إلى صلاة التراويح والقيام: إذا خرجت المرأة فينبغي أن تخرج متسترة بعيدة عن التزين حتى في ملابسها، ففي الواقع أحياناً قد تكون المرأة متسترة لكن بملابس لماعة جذابة تلفت الأنظار، مثل أن يكون ثوب لونه فاقع والعباءة تلمع، وكذلك الحجاب بطريقة معينة، ملفتة أحياناً، فينبغي أن تتقي الأخت ربها وتحرص على البعد عن ذلك إذا خرجت.
أمرٌ آخر: في آخر رمضان في العشر الأواخر يذهب كثيرٌ من الناس إلى العمرة، وهناك في مكة تقع ظواهر غريبة جداً، آباء وأمهات وناس يفترض أنهم جاءوا يريدون ما عند الله عز وجل، ومع ذلك يقع التبرج والسفور، وخروج الفتيات، وتسيبهن في الشوارع والأسواق - الله يعافينا وإياكم - أمورٌ كثيرة ما تقبل أبداً، فأقول لمن كتب الله له الذهاب إلى هناك أن يخاف الله سبحانه وتعالى، هذا الحرم الله عز وجل يقول عنه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] فعليكن بتقوى الله والبعد عما يغضبه ويسخطه.(168/31)
معنى قول الله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)
السؤال
ما معنى قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] ؟
الجواب
عندما ذكرت قبل قليل أن الإنسان يجب أن يأمر بالمعروف ولو كان لا يفعل وينهى عن المنكر ولو كان يفعل، وكنت متوقعاً أن أسأل مثل هذا السؤال عن الآية {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] ومثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] .
ومثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين حديث أسامة بن زيد: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: يا فلان، مالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه} .
لكن كل هذه تفهم على غير وجهها، فالآية {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] فإن هذا عتاب ومعنى الآية أنتم تعرفون البر وتأمرون الناس به، فكيف لا تفعلونه؟ فالعتاب في قوله: وتنسون أنفسكم، أي: لماذا تنسون أنفسكم؟ لم يعاتبهم علىالأمر بالمعروف بل عاتبهم على نسيان أنفسهم، لأن الذي يأمر معناه أنه عالم، فقد يفعل الإنسان المعصية عن جهل، لكن إذا كان يأمر بها فمعناه أنه عالم بأن هذا معروف، فكيف ينسى نفسه، وهذا يعاتب بلا شك، فتارك المعروف وفاعل المنكر يعاتب على ترك المعروف ويعاتب على فعل المنكر، لكن لا يعاتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ففرق بين النقطتين.
الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] هذه عن إنسان يدعي فعل شيء وهو ما فعله، يقول: فعلت وقاتلت وهو ما فعل، أو يقول سأفعل وسأقاتل وسأقوم، ولم يفعل فإن هذا يعاتب على ذلك.
أما حديث أسامة فهو في أحد رجلين: إما رجل منافق يتاجر بالكلمة، يقول للناس افعلوا واتركوا وكذا وكذا وهو خائن -والعياذ بالله- فهذا لا شك أنه من أهل النار.
الثاني: إنسان قد يأمر فعلاً وينهى فعلاً، لكنه له ذنوب يستحق بها النار، يعني ما كان دخوله النار لأنه يأمر بالمعروف - نعوذ بالله من ذلك - فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة لا تُدخِلُ النار، بل تؤدي إلى الجنة، إنما هذا الرجل لا يأتي المعروف فهو تارك للمعروف، فوقع عليه ذنوب كثيرة لأنه ترك الصيام، وترك الصلاة، وترك الزكاة، فهذه ذنوب سجلت عليه ولو كان يأمر بها، ما سجلت عليه لماذا كان يأمر بها، سجلت عليه لماذا يتركها، وكذلك يفعل المنكر وإن كان ينهى عنه، وسجل عليه أنه يشرب الخمر ويأكل الربى، ويفعل كذا وكذا، ولو كان ينهى عنها، فسجل عليه منكرات كثيرة وسجل عليه ترك معروف كثير فدخل النار بسبب فعل المنكر وترك المعروف.(168/32)
صوم آخر يوم من شعبان
السؤال
هل يجوز صيام آخر يوم من شعبان إذا وافق الإثنين والخميس؟
الجواب
إذا كان صيامه لغرضٍ آخر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه} أي: صادف يوم الإثنين أو الخميس، أو إنسان يصوم عادةً، أو يصوم الشهر كله، أو يصوم يوماً ويفطر يوماً، فوافق آخر يوم من شعبان يوم صيامه، فإنه يجوز له صيام ذلك اليوم، والممنوع هو أن يصومه لذاته أو احتياطاً لرمضان أو ما أشبه ذلك.(168/33)
دعوة كبار السن
السؤال
ما الذي يجب أن نعمله تجاه من يكبرونا سناً لتوجيههم إلى الطريق الصحيح، لأن الكبير لا يتقبل ممن هو أصغر منه؟
الجواب
هذا صحيح، ولذلك الكبير كالأم والأب والأخت الكبيرة والمعلمة أحياناً، ينبغي أن يكون هناك تلطف في التغيير معه، ويذكر في هذا المجال أن الحسن والحسين رضي الله عنهما وجدا رجلاً يتوضأ وضوءاً غير شرعي، فأرادا أن يعلماه، لكن ما استساغوا أن يقولوا له: أنت لا تحسن الوضوء وهو رجلٌ كبير السن.
فقال له أحدهم: اختلفت أنا وأخي في الوضوء، ونريد أن نتوضأ أمامك لتحكم بيننا، فقام الحسن وتوضأ وضوءاً شرعياً سليماً لا غبار عليه، ثم قام الحسين وتوضأ وضوءاً شرعياً سليماً لا غبار عليه، فقالا: أينا الأحسن في الوضوء؟ قال كلاكما حسن بارك الله فيكما، وانتبه أنهما يريدان أن يعلماه بطريقة مناسبة.
بعض الأخوات قد يكون لديها حماس، فتريد أن تغير منكراً وهي ليست لها سلطة لا في البيت ولا في المدرسة ولا في غيرهما، ولا تستطيع أن تغير كل ما يرضيها، فينبغي أن يكون الإنسان حكيماً يأتي البيوت من أبوابها، ويتدرج شيئاً فشيئاً.
فمثلاً: إذا أرادت تغيير منكراً في البيت فلتغيره بالتدريج وبالأسلوب الهادئ عن طريقة توزيع الأشرطة، أو كتب، أو مجلات إسلامية، أو ذكر، أو كلام طيب، يعني من هنا ومن هنا وعلى مدى فترات، ونعرف بعض الأخوات غيرت بيوت بأكملها، بيت منحرف فيه سائق وخادمة وتلفاز وفيديو واختلاط وكانت البداية أنها اهتدت فصلحت ثم أثرت على بقية أخواتها ثم تأثر الإخوة، ثم تأثر الوالدان، وسُفِّرت الخادمة والسائق، وألغيت الأجهزة السيئة فيه وأصبح بيتاً صالحاً حتى الأب أصبح يتردد المسجد ويصلي الصلوات الخمس، والأم كذلك صلحت.
المهم بالتدرج، وليس بالضرورة في كل بيت أن يحدث هذا، فالإنسان إذا سلك المسالك الشرعية وبذل ما يستطيع فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.(168/34)
الهجر الشرعي
السؤال
قد يكون هناك من يرتكب منكراً وخاصةً من بين الأهل، وقد نأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر ولا ينتهي، ورغم ذلك نؤاكله ونشاربه، فهل يأثم من يفعل ذلك وخاصة إذا كان هذا المنكر هو تأخير الصلوات عن وقتها بسبب النوم وغلبت الهوى على هذا الشخص؟
الجواب
وكأن الأخت تسأل عن مسألة الهجر الشرعي، والهجر الشرعي من الموضوعات التي يخطئ فيها كثيرٌ من الناس، فالهجر الشرعي مربوط بمصلحة، إذا كان هناك أحد لو هجرتيه أقلع فهذا جيد، مثلاً صديقة لكِ وقعت في خطأ وهي تقدركِ ولا تستطيع أن تعيش بدونكِ، يمكن أن تهجريها؛ لأن هذا سبب لإقلاعها، لكن إذا كان هناك إنسان تعرفيه لو هجرتيه لا يأبه بكِ ولا يهتم لكِ، إن كلمتيه أو هجرتيه لا تعني بالنسبة له شيء، فهذا لا مصلحة من هجره، إلا إذا يأس منه الإنسان يأساً تاماً، لذلك أرى في مثل السؤال التي سألته الأخت وما أشبهها ألا يتسرع الإنسان في اتخاذ أي موقف غضب، لا، بل يوسع البال ويتحدث ويطيل ولا يمل.
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا(168/35)
الخوف من الرياء
السؤال
أحياناً أحس بالرياء في أعمالي، وإذا أردت أن أفعل الخير ورأيت أحداً لا أفعل الخير خوفاً من أن أقع في الرياء، ولا أريد أحداً أن يمدحني خوفاً من ألا أكون أستحق المدح، فمثلاً في الصلاة إذا رأيت امرأة صالحة قلت إذاً أصلي بهدوء لكي لا تأخذ فكرة ليست بي؟
الجواب
ما تفعلينه خطأ كبير جداً، الأكمل في حال الإنسان أن لا يكترث للناس، وجدوا أو لم يوجدوا، فكما أننا نلوم من يرائي ويعمل من أجل الناس، كذلك نلوم من يترك العمل من أجل الناس، لا، بل عليك أن تجعلي الناس بالنسبة لك قدر المستطاع صفر على الشمال، يعني وجودهم لا ينفع وغيبتهم لا تضر، فإن وجدوا لم أترك شيئاً من أجلهم خوفاً من الرياء، هذا خطأ، هذا من أعظم مداخل الشيطان كما ذكره الإمام ابن حزم وغيره، أن هذا مدخل للشيطان أنه لا يزال بالإنسان يخوفه من الرياء حتى يجعله، يترك العمل الصالح خوفاً من الرياء، وهذا من مراعاة الناس وترك العمل من أجلهم.
فالعمل من أجل الناس ممنوع، وكذلك ترك عمل؛ لأن ترك العمل عمل فلا تتركي شيئاً من أجل الناس، ولا تعملي شيئاً من أجل الناس، بل اتركي واعملي ما ترين فيه مصلحة، ولا تلتفتي إلى هذا الشعور، وإذا حدث أن مدحت الأخت بما يراه الناس فيها فلتحمد الله وتلك عاجل بشرى المؤمن.(168/36)
إحسان العمل أمام الآخرين
السؤال
ما رأيك في عمل البعض أنه يحسن صلاته، لأنه ينظر إليه وهو لا يقصد الرياء، بل يقصد التعليم والقدوة؟
الجواب
عليه أن يحسن صلاته دائماً، ليقتدي به من يراه، سواء علم أنه يرى أم لم يعلم، أما أنه يحسن صلاته من أجل أن يعلم الناس فلا أرى أن يفعل ذلك، أرى أن يحسن من أجل الله سبحانه وتعالى، وإن كان المقصد بحد ذاته ليس لرياءٍ مذموم، لكن هذه عبادة ينبغي أن يقصد من ذاتها التقرب إلى الله عز وجل.(168/37)
إتيان المنكر بدعوى اختلاف الزمن
السؤال
كثيرٌ من الأخوات حينما تناقش في موضوع اللباس والزينة تقول: من قال لكِ أن هذا منكر لا يجوز، فقد اختلف العهد بيننا وبين الصحابة، فبماذا نرد على هذه القائلة؟
الجواب
ينبغي للأخت التي تنكر أن تعلم أن ما أنكرته محرم فعلاً، ومعنى ذلك أن عندها دليل على أنه محرم، فليس كل أمر جديد محرم، لا شك في هذا، فمجرد كونه جديداً لا يعني هذا أنه محرم، قد يكون جديداً وهو مباح، إنما المحرمات معلومة.
فإذا كانت الأخت تعرف أنه محرم، أي أن عندها دليل، فإذا قالت لمن ترى أنها تقع في المنكر: إن هذا لا يجوز وقالت لها الأخرى: اختلف العهد بيننا وبين الصحابة، فنحن لا نحتج بأن الصحابة كانوا يفعلون هذا أو لا يفعلونه فقط، بل نحتج بالأدلة الشرعية والكتاب والسنة وبإجماع العلماء، فتقول لها: لا يا أختي، الله قال كذا، والرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا، أو أجمع العلماء على كذا، بحيث تبين لها الأمر بالدليل الشرعي الذي يقطع قول كل خطيب.(168/38)
البدء بالدعوة في البيت شرط أم لا
السؤال
إذا كنت آمر أهلي بالمعروف وأنهاهم عن المنكر ولا يستجيبون، فهل يحق لي أن آمر الأخوات التي أرى منهن منكراً قد عجزت عن تغييره في بيتي؟
الجواب
هذا جوابه كما سبق، إذا كنتِ مطالبة شرعاً بأن تنكري المنكر حتى لو أنتِ واقعة فيه، وتأمري بالمعروف حتى وإن كنت تاركة له، فمن باب الأولى أن تأمري بالمعروف حتى وإن كان أهل البيت يتركونه، وتنهي عن المنكر حتى وإن كان أهل البيت يفعلونه، ولو قال لك أحد: إن في بيتكِ فيه كذا، قولي له: أنا فعلت ونصحت وأمرت لكنهم ما أطاعوني وإن شاء الله هم في الطريق للهداية، وكل إنسان يحاسب على انفراد {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] .(168/39)
التقاعس عن الدعوة بدعوى الطلب
السؤال
هذه أخت لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر، زاعمة أنها ليست على المستوى المطلوب، وأن عليها أن تنمي نفسها قبل كل شيء، فهل عملها صحيح أم أن الواجب العمل والدعوة ولو أدى إلى عدم الكثرة من طلب العلم؟
الجواب
ليس من شروط التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أن تكون عالمةً، بل يكفيها أن تكون عالمة بالمنكر نفسه، فإنه إذا لم تكوني متأكدة أن هذا منكر فقد تنكرين معروفاً؛ فإذا كنتِ عارفة أن هذا منكر -أيضاً- فحينئذ يجب أن تنكرينه.
وهناك منكرات متفق على أنها منكرات مثل الغيبة والنميمة، لأنه ليس هناك أحد لا يعرف أن هذه من المنكرات مثل ترك الصلاة، والسفور، أو التشبه بالكفار، فهذه منكرات متواترة وكل واحد يعرف أنها منكرات، حتى الأعرابي الذي يركض خلف أذناب الإبل يعرف أن هذه منكرات، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى أيضاً أقول -وأود أن تنتبهن لذلك-: ليس من شرط الآمر بالمعروف أن يكون فاعلاً لما يأمر به، ولا من شرط الناهي عن المنكر أن يكون تاركاً لما ينهى عنه، والأكمل أن يكون فاعلاً لما يأمر به وتاركاً لما ينهى عنه، لذلك الأنبياء يقولون كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] أي: أنا إذا أمرتكم بشيء فلا أتخلف عنه، وإذا نهيتكم عن شيء فأنا أول المنتهين، لكن لو فرض أن امرأة فعلت منكراً سراً ووجدت من يفعله، يجب عليها شرعاً أن تنكره وإن كانت تفعله، أي: وقعت في معصية فعل المنكر فإنه لا يجوز ولا يسوغ لها أن تقع في معصية أخرى وهي ترك المنكر وعدم الإنكار.
فالإنسان إذاً مطالب بأربعة أشياء: فعل المعروف والأمر به، وترك المنكر والنهي عنه فهذه أربعة أمور، وتقصيرك في أمر لا يسوغ لكِ أن تقصري في أمرٍ آخر، مثلاً لو تركتِ قيام الليل وهذا معروف، فطلب منكِ أن تلقي محاضرة عن قيام الليل، فتقولي: لا والله لا أتكلم، يقال لك لماذا؟ تقولي: أنا والله ما أقوم الليل، لا، تكلمي عن قيام الليل واذكري النصوص، ويمكن أن يكون الكلام سبباً في أن واحدة من المسلمات سمعت الكلام فقامت الليل، فيكون لكِ أجر قيامها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن أنتِ حين تعودين توبخين نفسكِ وتقولين: كيف تأمرين الناس بالقيام ولا تفعلين أنتِ؟ فيكون هذا أمراً لكِ ولغيركِ.
فهذه النقطة يغلط فيها كثير من الجهلة، وهذه القضية ظاهرة ولو كان في المجال متسع لأفضت في الحديث عنها.(168/40)
سؤالات الجامع الكبير
كثيراً ما تقدم للشيخ أسئلة لا يتسع الوقت للإجابة عليها، وقد اختار بعضاً منها ليقوم بالإجابة عليها في هذا الدرس، وقد صنفها إلى ثلاثة أصناف: تناول في الصنف الأول أحاديث منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بين صحيحها وحسنها وضعيفها وموضوعها.
وتناول في الصنف الثاني الكتب التي تهم طالب العلم.
وتناول في الصنف الثالث بعضاً من أحوال المذنبين والعصاة وتوبتهم ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليهم مع تلبسهم بالذنوب والمعاصي.(169/1)
أحاديث منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فهذه هي الحلقة الخامسة عشر من سلسلة الدروس العامة تنعقد في هذه الليلة، ليلة الإثنين 15من شهر محرم لعام (1411هـ) .
وفي هذه الحلقة نبدأ -إن شاء الله تعالى- بمجموعة من الحلقات المتفرقة، رأيت أن أطلق عليها عنوان "سؤالات الجامع الكبير".
وسؤالات جمع سؤال أي أن هذه الحلقة، وحلقات أخرى متفرقة غير متتالية، سوف تخصص للإجابة على أسئلة مختارة مما تبقى من الدروس السابقة.
وفي هذه الليلة وقع اختياري على مجموعة من الأسئلة، من بين نحو (350 سؤالاً) توفرت عندي من الحلقات الماضية كلها، فاخترت منها مجموعة من الحلقات، كتبت أسئلتها، وأشرت إلى طرف منها، وسوف أجيب عليها الآن بإذن الله تعالى.
أ- فالقسم الأول من هذه الأسئلة: يتعلق بالأسئلة عن بعض الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدى صحتها.
فمن هذه الأحاديث:(169/2)
الأسئلة(169/3)
نصائح للعاملين في حقل التدريس
السؤال
شاب يقول: أنا مقبل على مرحلة جديدة، وهي التدريس، ويطلب النصائح.
الجواب
رأيت أن أختصر لأخي الكريم خمس نصائح: النصيحة الأولى: الممارسة هي الطريق السليم، فمهما قدمنا لك من النصائح، فإن هذا لا يغنيك عن ملاحظة نفسك من خلال التجربة، وتصحيح أخطائك أولاً بأول.
فإن الإنسان مهما تكلم معه في هذه الأمور العملية، إذا نزل للميدان يقع له بعض الأخطاء التي ينبغي أن يكون يقظاً، ويصححها أولاً بأول.
النصيحة الثانية: أهمية الإعداد الجيد للدرس، التحضير الجيد، وضبط المادة، ومحاولة توقع بعض الأسئلة التي قد يسألها الطلاب، والإجابة عليها.
النصيحة الثالثة: وهي تقديم الدرس للطلاب بصورة جيدة، من خلال: عرض السؤال والجواب، وضرب الأمثلة والقصص والأدلة، إلى غير ذلك، وينبغي أن يكون ذلك كله بصورة هادئة، متدرجة، ولا ينتقل من المسألة إلى التي تليها إلا بعد أن يفهمها الطلاب.
النصيحة الرابعة: عدم قبول الإستفزاز؛ وذلك من بعض الطلاب، فإن كل فصل يكون فيه طالب يريد أن يستفز المدرس، يتكلم أول ما يدخل الأستاذ، يقول: نريد أن نختبره، يتكلم، أو يقوم بحركة، أو سؤال، أو شيء من أجله يعرفون شخصية الأستاذ، هل هو قابل أن يضحكوا عليه ويلعبوا، أم هو شخصية قوية فيعرفوا حدهم! فالطلاب أذكياء، فعلى الأستاذ ألا يكون قابلاً للاستفزاز، يمكن أن يأتي الطالب يأتي بسؤال غير مناسب، أو يتكلم، أو يقاطع الأستاذ، أو يقول مثلاً ما اسمك؟ أو يقوم، أو يخرج، أو ما أشبه ذلك.
على الأستاذ أن يكون هادئ الأعصاب، ولا يظهر عليه أي أثر من آثار الغضب والانفعال، في مثل هذه الأمور، يعالجها بحكمة، وقوة، لكن بهدوء، وعليه ألا يتعجل بإظهار الغضب، والانفعال، بحجة أن هذا تعبير عن قوة الشخصية، أو حسم الموضوع من البداية، عليه أن يكون حازماً، نعم.
لكن بدون أن يظهر الغضب، والانفعال، أو انشداد الأعصاب.
ومن ذلك أن يكون الأستاذ قدر الإمكان في الأحوال الطبيعية لطيفاً مع الطلاب، يعاملهم بلطف، ويحرص على مصلحتهم، ويحل مشكلتهم بطريقة هادئة، ويجعل الشكوى هي آخر الحلول؛ فإذا لاحظت طالباً لا ينضبط في الصف، فاجلس معه جلسة خاصة بينك وبينه وقل له: يا فلان إن لي عليك ملاحظات، وأنا أستطيع أن أعاقبك، وأستطيع أن أوبخك أمام الطلاب، وأستطيع أن أخصم عليك من أعمال السنة، وأستطيع أن أشكوك أيضاً، لكن كل ذلك لا أريده، لأني أعتبرك بمثابة أخي الأصغر، ولا أريد أن أضرك بشيء، فعليك أن تعرف قدرك، وتلتزم الأدب بقدر ما تستطيع، إذا لاحظت عليه نفس الكلام كرر النصيحة مرة ثالثة، أيضاً اجعل آخر الحلول هي أن تعاقبه، أو ترفع به إلى إدارة المدرسة.
هذه أهم النصائح، وهي بلا شك غير كافية، لكن بحسب ما يتسع له الوقت.(169/4)
الإتقان في الظاهر والباطن
السؤال
تكلمت في محاضرتك على أن على الشخص إذا بدأ بشيء أن يتمه، فأريد منك أن توجه نصيحة إلى بعض أصحاب التسجيلات، وذلك بسبب عدم إكمال المحاضرة أحياناً، أو حذف أشياء منها، فلا تكمل الفائدة.
الجواب
هذا يدخل في الحديث الذي ذكرته قبل قليل، وحسنت إسناده: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} وقد فاتني أن أشرح الحديث، وكان الأولى أن أشرحه: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} سواءً أصحاب التسجيلات، أو أصحاب المكتبات، أو الأستاذ في مدرسته، أو العامل في عمله.
والإتقان يشمل أمرين كما ذكر أهل العلم: الأمر الأول: أن يقوم بالصنعة على خير وجه، فالصانع مثلاً، أو العامل، أو الكاتب، أو المدرس، عليه أن يعمل على أن يقوم بالعمل خير قيام، وينصح فيه نصيحة تامة؛ بمعنى أن صاحب العمل قد لا يدري، مثلاً قد يأتي كهربائي في منزلك، أنت لست خبيراً بالكهرباء، كيف تكون تمديداتها وتوصيلاتها، ومراكزها، لا تعرف شيئاً، المهم أن تضغط الزر فيضيء المصباح، أو يضيء المكيف، أما ما عدا ذلك فما لك بصر به.
فقد يأتي إنسان ليس متقناً فيعمل لك ذلك، لكن إذا جاء شخص آخر خبير، قال لك: هذا غير ناصح، قد اشتبكت الأسلاك بعضها ببعض، وجعل الإنسان لا يدري من أين بدأت وأين تذهب، ولا اتجاهاتها، ولاشيء من ذلك، فهو عمل لك العمل بالظاهر لا بأس به، لكن حقيقته ليست متقنة.
إذاً: ليس العمل هو فقط للظاهر، تتقنه بقدر ما تستطيع، وبالصورة التي يرضى عنها أهل الفن، والاختصاص، سواءً كنت في أي مجال من المجالات، مثلاً: مدرس، قد تقوم بالتدريس بعمل يرضي الطالب، الطالب يقول: والله الأستاذ الفلاني جيد! لكن المختص ولا أقول بالضرورة: مفتش، مفتش أو غيره، الذي يعرف العمل، لو حضر عندك في الدرس لرأى أنك لم تتقن العمل، صحيح أن الطلاب رضوا عنك لأنك تأتي بقصص، أو تضحكهم، أو تعطيهم درجات، أو ما أشبه ذلك، لكن لم تؤدِ العمل وتتقنه على الوجه المطلوب.
فالله تعالى يحب أن تتقن العمل بالصورة التي يرضى عنها أهل الصنعة، ظاهراً وباطناً.
الأمر الثاني: في إتقان الصنعة، ألا يكون هذا فقط من أجل المحافظة على رسوم الصنعة، بعض الناس يقول لك مثلاً: أحسن من هذا العمل، ليس لوجه الله، ولا احتساباً، وإنما لأنني أعرف إذا لم أقم بهذا العمل وصنعته بشكل جيد أخذ الناس عني سمعة سيئة فلا يأتوني بعد ذلك! وهذا مع الأسف فإن الغرب يهتمون به اهتماماً عجيباً للغاية، حتى لو كان الأمر تافهاً، تأتي لإنسان -مثلاً- تريد أن يصلح لك الحذاء -أكرمكم الله- لا يصلحه بأي صورة، إنما يعطيك معلومات أن هذا الحذاء أصلحه لك بمبلغ كذا، ولكن احتمال أنه بعد يوم أو يومين يعود إليه نفس العيب الموجود فيه الآن، فأنا لا أستطيع أن أضمنه لك، إن أردت تصلحه أصلحته، وإن أردت أن تشتري غيره فإنه يمكنك ذلك.
وهذا موجود في أمورهم، وفي صناعاتهم فإنهم حين يصنعون شيئاً يكون غير جيد، يشيرون إلى أن هذا العمل غير جيد، حين يقدمون مثلاً علبة عصير، ليست عصيراً طبيعياً، يكتبون عليه أنه غير طبيعي، وإنما هو مصنوع من بعض الأشياء، بعض النكهات، والمساحيق وغيرها، وهم يكتبون ذلك ليس تديناً، وإنما من مقتضى مراعاة رسوم الصنعة، فهم يقولون: التاجر الذكي لا يخادع في صنعته حتى لا يخسر الزبائن.
ومع الأسف بعض التجار في أوقات الحج، وفي غيرها، تجد التاجر يقول: المهم أن هذه البضاعة تمشي من عندي، ولو اكتشف الزبون بعد ذلك أنني قد خدعته لا يهم! مع أن الزبون إذا اكتشف بعد ذلك لا يمكن أن يشتري منك بحال من الأحوال، فيخسر زبائنه بهذه الطريقة، لا يبالي، ولذلك ربما يخسر تجارته أيضاً، هم أذكى منا، فعرفوا أن الصناعة الحقيقية، والتجارة الحقيقية، والكسب الحقيقي، يقتضي أن يراعوا رسوم الصنعة، لكن المؤمن مع مراعاة رسوم الصنعة، لا يقصد ذلك، ولا يقصد أيضاً الخوف من الإنسان، لا من سلطانه، ولا من لسانه.
يقول: هذا والله مسئول لو غششته، أو إذا لم أقم بالواجب قد يضرني، أو يسبني، لا، إنما يكون فعله لهذا الإتقان ابتغاء وجه الله، فهذا من الإتقان، وهذا الكلام أوجهه للإخوة أصحاب التسجيلات وغيرهم.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(169/5)
حكم تارك الصلاة
السؤال
سائل يسأل عن حكم تارك الصلاة؟
الجواب
اختلف أهل العلم في ذلك، منهم من قال: يقتل، ومنهم من قال: يحبس حتى يموت، ومنهم من قال: يكفر، ويقتل كافراً.
والرأي الراجح في تارك الصلاة أنه: إن كان يترك وقتاً ويصلي وقتاً، ويترك حيناً ويصلي حيناً، فإنه عاصٍ مرتكب لكبيرة من الكبائر، لكن لا يحكم بردته.
أما إن كان تاركاً للصلاة بالكلية، لا يصلي ليلاً ولا نهاراً، لا جمعة ولا جماعة، ولا في رمضان ولا في غيره ولا في المناسبات ولا في غيرها، فإنه كافر مرتد عن الإسلام، يلزمه أحكام الكفار المعروفة.(169/6)
عدم الشعور بأثر المعاصي
السؤال
هذا يقول: عندي معاصي لا أجد لها أثراً، فما هو السبب؟
الجواب
أقول: هذا من أثر المعاصي، كونك لا تجد للمعصية أثراً قد يكون هذا من أثرها؛ فإن بعض المعاصي إذا كثرت عند الإنسان وزادت، قد يعاقبك الله عز وجل بأن يقسو قلبك، حتى لا تجد أثراً للمعصية.
كيف؟! قد يكون ذلك بأن يجد الإنسان تفسيراً لكل ما يحصل، اليوم أنت مرضت فذهبت للطبيب، قال: عندك المرض الفلاني، وسببه أنك تأكل الطعام الفلاني، أو تعمل العمل الفلاني.
فقلت: إذاً هذا المرض تفسيره معروف، ليس بسبب المعصية، وإذا أصابتك خسارة في مالك، قلت: نعم سببه ارتفاع سعر الدولار، أو انخفاض سعر الدولار، أو كذا! تفسير مادي للأحداث.
وهكذا أصبحت لا تحس بأثر المعاصي في المصائب التي تنزل بك في نفسك أو أهلك أو مالك أو ولدك، هذا من أثر المعاصي.
الاحتمال الثاني: أن يكون العقاب قادماً، لكنه لم يصل بعد، لأن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، لا تقول: ما وجدت أثراً للمعاصي! قد يكون الأثر سوف ينزل عليك غداً أو بعد غد.
يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا الاحتمال الثالث: أن يكون الله عز وجل شملك بعفوه، ومغفرته، ورحمته، فإياك أن تغتر بذلك، وعليك أن تسارع بالتوبة إلى الله عز وجل، ومعرفة ما يجب له عليك.(169/7)
الوقوع في المعاصي لا يمنع من القيام بالنهي عن المنكر
النوع الرابع من الأسئلة: أسئلة متنوعة.
السؤال
أحد الإخوة يسأل عن حديث أسامة بن زيد المتفق عليه {يؤتى بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك! ألم تكن تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر!؟ قال: بلى.
كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه} ويقول: كيف يأمر الإنسان بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهو واقع في المعاصي، مع ورود هذا الحديث؟
الجواب
أقول: في هذا الحديث ليست العقوبة لأن الإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن لأنه كان لا يأتي المعروف، وكان يفعل المنكر، فخطأ أن تظن أن عقوبة هذا الرجل لأنه كان يأمر بالمعروف وكان ينهى عن المنكر، لا، عقوبة هذا الرجل بالنار لأنه كان يفعل المنكر، ويترك المعروف، كان يقول للناس مثلاً: إياكم والربا، ثم يذهب ويأخذ الربا أضعافاً مضاعفة.
فيوم القيامة عذب، وقيل له: أنت تعرف أن الربا حرام، وكنت تنهى الناس عنه، ومع ذلك تأكله! إذاً لا عذر لك، فيزج به والعياذ بالله في نار جهنم، ليس لأنه نهى عن الربا، ولكن لأنه أكل الربا.
وقد يكون هناك احتمال آخر في معنى الحديث: هو أن نهيه عن الربا كان على سبيل الخداع والنفاق.
أما إنسان جاد، يأمر الناس بالمعروف على سبيل الجد والصدق، لكنه عاجز، يجلس للناس ويقول: يا ناس! والله قيام الليل فيه من الفضل كيت وكيت، ويوبخ الناس على ترك قيام الليل، فإذا ذهب إلى بيته نام نومة طويلة، لا يوقظه إلا أذان الفجر! أيعذب هذا؟! أو يقال له: لا تأمر الناس بقيام الليل لأنك لا تفعل؟! لا.
بل افترض أن إنساناً واقع في معصية، خفية أو ظاهرة، وسئل عنها، أو جاءت مناسبة ما، أينهى الناس عن هذه المعصية؟ بل واجب عليه: ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمدِ ولذلك ذهب جماهير أهل العلم من السلف والخلف، وهو الصحيح، بل أرى أنه لا يجب أن يكون فيه خلاف، أنه واجب على أصحاب المعاصي أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، مثلما هو واجب على غيرهم، ومن الذي خولهم وأعطاهم صلاحية، إذا وقعوا في المعصية أن يقعوا في معصية أخرى، وهي ألاَّ ينهوا عنها، أليس ترك النهي عن المنكر معصية؟ بلى، إذاً من الذي أعطاهم صلاحية أنهم إذا وقعوا في المنكر يقعون في معصية أخرى، وهي ترك النهي عن المنكر.
وترك المعروف أيضاً معصية، إذا كان واجباً، إذا المعروف تركوا الواجب، تركوا صلاة الجماعة فمن الذي أعطاهم صلاحية أن يقعوا في معصية أخرى، وهي أن يتركوا الأمر بها؟! مثال: رجلٌ في البيت لا يصلي مع الجماعة، فاعل معصية، عنده أطفال، وشباب يصلون في البيت، فقال: يا أولادي! اذهبوا صلوا في المسجد.
هل نقول له: أنت آثم؟! لماذا تأمرهم بالصلاة في المسجد وأنت لا تصلي؟! كلا.
نقول: هو مأجور على أمره لأولاده بالصلاة في المسجد، ولو كان هو مقصراً، لكن نقول له: ما دمت تعرف أن الصلاة في المسجد واجبة، فيجب أن تأمر نفسك أولاً، قبل أن تأمر أولادك، وإذا لم تمتثل فيجب أن تأمر أولادك أيضاً.
ومثله: مسئول في إدارة، أو أمير يشرب الخمر، وينهى الناس عن ذلك، ويعاقب من يشرب الخمر، ويقيم عليه الحد.
هل نقول له: أنت آثم؟! كيف تعاقب الناس، وتنهاهم عن أمر أنت تفعله؟! كلا ثم كلا، بل واجب عليه أن يفعل ذلك، وهو مثاب عليه.
ولذلك قال بعض حذاق أهل العلم: واجب على من يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضاً، فإذا كان هناك أناس جالسون يشربون الخمر والعياذ بالله فيجب في تلك الحالة أن ينهى بعضهم بعضاً، إذ كيف يعطيه الكأس ويقول: خذ هنيئاً مريئاً؟! فهذا الكأس حرام، لا فهذا استخفاف بالحكم الشرعي.
والواجب أنه إذا شرب قال أحدهم مثلاً في لحظة من لحظات الصحو والإفاقة: لا حول ولا قوة إلا بالله! والله نحن مسرفون على أنفسنا، نحن عصاة، لو قبضنا على هذه الحال ترى كيف يكون حالنا! نموت والخمر في بطوننا: {ومن شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} إلى غير ذلك، فالحقيقة نحن مسرفون، عسى الله أن يتوب علينا.
هذا كلام طيب حسن وإن كان قائله عاصياً.
فينبغي أن نتفطن لذلك جيداً، وهي مسألة حساسة، شرحتها في غير موضع، ومن أراد الاستزادة يرجع إلى مواضعها ومراجعها، لأن بعض الناس يستشكلون هذه المسألة ويستغربونها، تطرق أسماعهم لأول مرة ويكثر السؤال عنها، وأرى بعض الإخوة على وجوههم علامات التعجب منها! في مناسبات كثيرة، وهي مسألة واضحة جداً، لا إشكال فيها {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] الله عز وجل ما عاتبهم بالبر، لا، عاتبهم لماذا ينسون أنفسهم! {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3] نعم، هم مذمومون على ترك المعروف، وفعل المنكر، مذمومون لا شك؛ لكن ليسوا مذمومين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كانوا لا يفعلونه.(169/8)
الإصرار على الذنوب
السؤال
يسأل عن عاصٍ يتوب، ثم يعود، ثم يتوب، ثم يعود؟
الجواب
وهذا يختلف عن الذي قبله، لأن الإنسان في نفس المعصية يقع فيها ثم يتوب، ثم يرجع إليها، فما عقوبته؟ أقول: أولاً: التوبة مطلوبة، والشيطان يأتي للشاب من هذه الناحية.
فيقول له: تبت ثم رجعت! فإياك أن تتوب مرة أخرى، لأنك ستعود، فيثبطه عن التوبة، وهذا مدخل ومزلق ينبغي للطالب، وللمؤمن أن يتقيه، فلو عصيت الله تعالى بذنب مائة مرة، ثم تبت، فوقعت، يجب أن تتوب مرة أخرى.
أما ما يتداوله البعض: {ذنب بعد توبة أشد من سبعين ذنباً قبلها} فهذا ليس بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يصح عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الله تعالى لا يضاعف على عبده الذنوب، كما في صحيح مسلم {إن الله عز وجل يقول: إذا هم عبدي بسيئة فعملها، فاكتبوها عليه سيئة واحدة} وهذا من كمال عدل الله تعالى وكرمه أنه لا يضاعف على عبده السيئات.
وبناءً عليه فإن الإنسان وإن أذنب ثم تاب، ثم أذنب ثم تاب، ثم أذنب ثم تاب، يجب أن يتوب، فلعل الله تعالى أن يقبض روحه على توبة، والله تعالى لا يضاعف على عبده الذنوب والسيئات، وإنما يكتب عليه الذنب سيئة واحدة ولا يضاعف، وإنما يضاعف له الحسنات، كما ثبت ذلك في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن على هذا الشاب أن ينظر في أموره: ما سبب عودته إلى هذا الذنب؟ لا بد أن الأسباب موجودة، فبعض الناس يتوب بالندم، لكن الأسباب والمثيرات موجودة، فهي تدعوه مرة أخرى فيقع، ولذلك على الإنسان أن يفكر في الخروج من الأسباب التي توقعه في الذنب، فإن هذا من كمال التوبة، كما في الحديث المتفق عليه: {أن رجلاً قتل من بني إسرائيل تسعة وتسعين نفساً، فأتى إلى عالم فسأله، فقال له العالم: لا تعد إلى قريتك، فإنها أرض سوء، ولكن اذهب إلى قرية كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله تعالى، فاعبد الله تعالى معهم} .
فأمره أن يخرج من القرية التي هي السبب في وقوعه في الذنب.(169/9)
السيطرة على الغريزة الجنسية
السؤال
يسأل أحد الشباب عن كيفية السيطرة على الغريزة الجنسية؟
الجواب
أقول: السيطرة على الغريزة الجنسية تتم بأربعة أمور: الأمر الأول: عن طريق رفع هذه الغريزة، وأن يسلك الإنسان بها المسلك الصحيح، وذلك بالزواج، فإن الله تعالى ما حرم شيئاً إلا أباح ما هو خير منه.
حرم الزنا وأباح الزواج، حرم الربا وأباح البيع، وهكذا، فعلى الشاب أن يحرص على الزواج: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج} فالزواج فيه منافع عظيمة، فيه سعادة النفس وسرور القلب، وتحقيق كمال شخصية الشاب، واعتماده بعد الله تعالى على نفسه، وتكثير النسل، والراحة النفسية، وإعفاف المؤمنات، إلى غير ذلك من الفوائد التي يطول حصرها، فهذا هو الطريق الأول: الزواج.
وعلى الشاب أن يفكر فيه بصورة جدية، ويعمل على تذليل العقبات التي تحول بينه وبين الزواج.
الوسيلة الثانية: هي وسيلة التبديل، يعني إذا لم يكن الزواج ممكناً لأي سبب من الأسباب، فيمكن أن يبدل الشاب هذا الأمر بتوجيه طاقته الوجهة المفيدة، ومن ذلك مثلاً: أن يشغل نفسه بالعبادة، من صلاة، وطلب العلم، وقراءة قرآن، وصحبة الأخيار، إلى غير ذلك، فإن الإنسان إذا أشغل نفسه بهذه الأمور صار اهتمامه موجهاً إليها، وبالتالي لا تكون الغريزة ملحة عليه بالشكل الذي يزعجه، أو يضايقه، أو يدعوه إلى الوقوع في الحرام.
ومن ذلك أيضاً الاشتغال بالصوم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} فإن الصوم إضافة إلى أنه عبادة تقرب العبد من ربه، فإنه كذلك يضيق مجاري الدم -العروق- فيقل ثوران الغريزة في نفس الإنسان، والصائم لاشك أنه أقرب إلى ربه، ولذلك يبعد عنه الشيطان.
ومن ذلك: الاشتغال بالأعمال المباحة أيضاً، لو فرض أن الإنسان يصرف طاقته الجسيمة في عمل مباح، رياضة مباحة، أمور نافعة له في دنيا، فإن هذا أيضاً من الأشياء التي ينصح بها الشاب، ليصرف بها طاقته عما حرم الله عز وجل.
الوسيلة الثالثة: هي استخدام الوقاية، وأعني بالوقاية: أن يبعد الإنسان عن المثيرات التي تدعوه إلى الحرام، والمثيرات منها السوق، الخروج إلى السوق، ورؤية النساء المتبرجات والمتعطرات والمتزينات، ومنها مشاهدة المجلات الخليعة، مشاهدة التلفاز، أو الفيديو، وما فيه من مناظر تثير غريزة الإنسان، سماع الغناء، استخدام الهاتف فيما حرم الله عز وجل إلى غير ذلك من الأشياء التي تثير غريزة الشاب.
أما كون الشاب يعمد إلى إثارة الغريزة، ثم يقول: أين أروح؟! ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء هذا لا يكون، لابد أن يعمل الشاب على البعد عن المثيرات.
ومن البعد عن المثيرات: أن يقاوم الإنسان من أول الطريق، وذلك بغض البصر؛ فإن البصر من أعظم المثيرات، بل هو أعظم المثيرات: كل الحوادث مبداها من النظرِ ومعظم النار من مستصغر الشررِ كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوسٍ ولا وترِ يسر مقلته ما ضَّر مهجته لا مرحباً بسرور جاء بالضررِ ومعظم الجرائم تبدأ بنظرة نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ فعلى الإنسان أن يغض بصره عما حرم الله عز وجل، والنظر هو أول الطريق، ولـ ابن القيم كلام مفيد في النظر، مطبوع في رسالة مستقلة، وهو أيضاً موجود -أو جزء منه- في عدد من كتبه، منها كتاب: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، فينبغي لطالب العلم، وللشاب الذي يخاف على نفسه من الغريزة الجنسية أن يراجع هذا.
وعلى كل حال فبالتجربة تبين أن الإنسان إذا غض بصره نجح، فإذا أطلق بصره خاب، وخسر، وفشل: فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ إذا أطلقت بصرك فماذا يكون؟ أولاً: تتحرك الغريزة والشهوة، فيدعوك ذلك إلى المحادثة أو الإقدام أو الكلام.
ثانياً: يدعوك إلى التمييز بين النساء، فتقول: هذه جميلة، وهذه ذميمة، وهذه حسنة، وهذه ليست كذلك، وهذه كذا، وهذه كذا! فيصبح الإنسان ذواقاً، لا يقف عند حد، وسبحان الله! الغريزة الجنسية مثل النار، كلما وضع عليها الإنسان الحطب زادت اشتعالاً، مثل النار التي يضع الإنسان عليها البنزين مثلاً، كلما وضع عليها زاد اشتعالها.
ولذلك على الإنسان أن يحرص أشد الحرص على أن يكف بصره عما حرم الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] .
أعرف حالات عديدة، وقع فيها شاب أسير العشق الحرام، حتى انبرى بدنه ومرض وصار طريح الفراش، وربما قصَّر كثيراً في عباداته، وربما انحرف عن سواء السبيل، وكانت البداية نظرة محرمة! كما أنني أعرف من النساء من وقعت في مثل ذلك، وكانت البداية نظرة محرمة! فالحذر الحذر من النظر، فإنه أول باب، وأخطر باب، يجرك الشيطان من خلاله إلى الوقوع في الفواحش التي لا يعلم مداها إلا الله.
الأمر الرابع: هو العلاج، فإنه ما أنزل الله من داء إلا وله دواء، حتى بعدما يقع الإنسان، هناك إمكانية العلاج، والعلاج يكون بأمور كثيرة، منها: التوبة، الدعاء، الاستغفار، أين أنت من الاستغفار؟! إذا استغفرت الله تعالى بقلب صادق، فإن الله تعالى يغفر لك: {إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي} .
و {من لزم الاستغفار جعل الله تعالى له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب} فأكثر من الاستغفار.
ومن وسائل العلاج: صحبة الأخيار.
ومنها: الإقبال على العبادة.
ومنها: كثرة قراءة القرآن، إلى غير ذلك.(169/10)
العادة السرية وأضرارها الدينية والطبية
السؤال
شاب يسأل عن قضية في الواقع لم أكن أريد أن أطرحها، لكنه قال: أنا ألح إلحاحاً شديداً أن تطرح سؤالي؛ هل العادة السرية من الكبائر؟
الجواب
العادة السرية معروفة، والعادة السرية محرمة، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5-6] .
فدل على أنهم يلامون فيما سوى ذلك؛ فيما سوى قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] فدلت الآية على أن العادة السرية محرمة، إضافة إلى أدلة أخرى كثيرة.
وأما أنها من الكبائر فلا، ليست من الكبائر فيما يظهر لي، بل هي من المعاصي، ولكن لا أعلم دليلاً على أنها كبيرة من كبائر الذنوب، ولكن يجب على الشاب أن يتقيها ويتجنبها، وذلك لأنه من الثابت أنها ضارة جداً.
أما الضرر الديني فهو ظاهر، لأن ارتكاب الحرام مما يقربك من النار، ويبعدك عن الجنة.
وأما الأضرار الأخرى فهي كثيرة منها: أضرار طبية: فقد ثبت طبياً أن العادة السرية تكون سبباً في ضعف الغريزة الجنسية بعد الزواج، وتكون سبباً في ضعف البصر، وتكون سبباً في حصول إرتعاش في أطراف الإنسان، ويزداد ذلك عنده.
إضافة إلى الأضرار النفسية وهي ظاهرة جداً وهي مدمرة: تجد الذي يكثر من ممارسة العادة السرية يكون شديد الخجل، كثير الاضطراب، شخصيته غير مستقرة ولا قوية، فهو أمام الناس يشعر بالخجل سريعاً فيتذبذب، ويظهر عليه آثار ذلك، يحمر وجهه ويتورد، ولا يستطيع أن ينظر إلى الناس بنظر ثابت ولها آثار كبيرة جداً، فعلى العبد أن يتجنبها خوفاً من الله عز وجل، ثم اتقاءً لهذه الأضرار الكثيرة.(169/11)
حكم الإصرار على الكبائر
السؤال
يقول: من داوم على فعل الكبائر يكون كالذي استحلها، فيكون كافراً مرتداً؟
الجواب
لا.
ليس من داوم على فعل الكبائر كافراً، ما دام يؤمن بأنها محرمة، ولكنه عاصٍ معصية عظيمة، ويخشى أن يؤدي به ذلك إلى الكفر، فإن المعاصي بريد الكفر.
أما أنه كافر بفعله فلا، فإن مرتكب الكبيرة، وإن أصر عليها، ومات مصراً عليها، ما دام معترفاً بتحريمها، لا يكون كافراً بذلك.
ولكن عليه أن يحذر من المجاهرة، قال عليه الصلاة السلام: {كل أمتي معافىً إلا المجاهرين} .(169/12)
كتب مختارة
السؤال
يقول بعض الإخوة: نحن في مطلع الإجازة، ونحتاج إلى معرفة بعض الكتب التي نقرؤها؟
الجواب
أقول: الكتب كثيرة، ولذلك رأيت أن أقتصر في كل فنٍ على كتاب أو كتابين.
فأقول: فيما يتعلق بالسنة النبوية يمكن أن يقرأ الإنسان كتاب الأربعين النووية، أو الخمسين الرجبية؛ أي كتاب الأربعين مع زيادة ثمانية من ابن رجب، أصبحت خمسين حديثاً، مع شرحها جامع العلوم والحكم لـ ابن رجب الحنبلي؛ فإن هذا كتاب نفيس مفيد جداً، ينبغي أن يقرأه، ثم يقرأه، ثم يقرأه، لا يكفي أن يقرأه مرة واحدة، فإن كان عنده مزيد من الوقت للسنة فليقرأ كتاب رياض الصالحين للإمام النووي؛ فإنه من أجمع وأحسن كتب السنة النبوية الجامعة.
أما في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنصح بكتابين مختصرين: أولهما: كتاب الفصول في اختصار سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للحافظ ابن كثير.
والثاني: تهذيب سيرة ابن هشام لـ عبد السلام هارون، فإن أراد أن يتوسع في السيرة، ففي حدود علمي وقراءتي لكثير من كتب السيرة، أرى أن أحسن كتابٍ ينصح به لمن أراد التوسع هو كتاب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للحافظ ابن كثير؛ وهو جزء من البداية والنهاية، لكن طبع مستقلاً، أخرجه مصطفى عبد الواحد مستقلاً؛ وهذا الكتاب نفيس، ومن أعظم مزاياه: أنه يورد مرويات كثيرة من كتب السنة فيما يتعلق بأحداث السيرة، وهذه مزية لا تكاد توجد في غير كتاب ابن كثير هذا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: في العقيدة هناك كتب كثيرة، أقتصر منها على كتاب العقيدة الواسطية للشيخ ابن تيمية رحمه الله، ثانياً كتاب معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي، وهو في مجلدين، ومن أحسن مميزات هذا الكتاب أنه غني بالنصوص، ونحن بحاجة إلى أن نُربي الناس على النصوص، لا على أقوال الرجال، ولذلك فإنه إذا ذكر عقيدة، سرد آيات كثيرة فيها، ثم سرد أحاديث كثيرة جداً، حتى يتربى الإنسان على فهم العقيدة، وأخذها على ضوء النصوص، بعيداً عن القيل والقال، والردود، والأخذ والرد.
الكتاب الثالث: كتاب التوحيد للشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب وشرحه فتح المجيد، أو تيسير العزيز الحميد.
رابعاً: في التربية والآداب، هناك كتب كثيرة، أذكر منها تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم وهذا كتاب جيد جداً، أنصحكم جميعاً بقراءته، خاصة طلبة العلم، مع حواشيه، فله حواشي تاريخية مفيدة، تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لـ ابن جماعة.
ثانياً: كتاب مدارج السالكين للإمام ابن القيم رحمه الله، أو أحد مختصراته؛ فقد اختصره جماعة، وممن اختصره عبد المنعم صالح العلي في كتاب سماه تهذيب مدارج السالكين، وكذلك فيه تهذيب لـ عبد الله السبت، على ما أعتقد مختصر للكتاب، فتهذيبات هذا الكتاب مفيدة جيدة، وقد تغني عن قراءة الأصل وهي في مجلد واحد، يمكن أن يقرأها الطالب في الإجازة مثلاً.
الكتاب الثالث غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني الحنبلي وذلك لمن أراد التوسع.
خامساً: كتب في الثقافة العامة، كثيرة جداً، وأنا أحب لطالب العلم أن يحرص على أن يكون مرتبطاً بعصره، يعرف مجريات الأحداث، ويعرف ما يدور في الساحة، ويدرك الخطط التي تحاك ضد الإسلام، فالكلام في هذا يطول، مثال لبعض الكتب، أذكر منها كتابين: أولها: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين وهو كتاب متين مفيد علمي، للشيخ أبي الحسن الندوي.
الكتاب الثاني: كتاب واقعنا المعاصر للأستاذ محمد قطب.
إضافة إلى أنني أنصح الإخوة بأن يكونوا على صلة ببعض المجلات المفيدة، وأذكر من هذه المجلات: مجلة الفرقان التي تصدر في الكويت، وهي مجلة مفيدة جداً، واتجاهها في الجملة اتجاه سلفي، وينبغي أن ينتفع بها طالب العلم، وكذلك مجلة البيان ومجلة المجتمع ومجلة الدعوة وغيرها، والمجلات الإسلامية كثيرة، لكن ينبغي للإنسان أن يختار منها، ولا يعني هذا أن الطالب إذا أخذ في المجلة يقرؤها وكأنه يقرأ كتاب من كتب السنة، يقرأ كل شيء، يقرأ الإعلانات، ويقرأ الحروف! لا.
فتش هذه المجلة، فإذا وجدت فيها موضوعاً مهماً تقرؤه، إذا وجدت موضوعاً عندك معلومات عنه، أو سبق أن قرأته، أو لا يعنيك فتجاوزه حتى لا يأخذ منك قراءة هذه المجلات كلها في الأسبوع إلا ساعة، أو نحواً من ذلك، فلا يضيع الإنسان وقته في ذلك.(169/13)
كتاب تحفة العروس
السؤال
يسأل أحد الشباب عن كتاب تحفة العروس يقول: ما رأيك في قراءته؟
الجواب
سبق أن اطلَّعت على هذا الكتاب، ولعلي قرأته، كتاب تحفة العروس للشيخ محمود مهدي استانبولي، وهو يتكلم عن قضايا الزواج ونصائح للزوجين وما يخصهما، والكتاب في الجملة مفيد، وفيه نصائح مفيدة لا شك ونافعة، ومؤلفه أيضاً من العلماء المعروفين.
ولكن ربما يكون السبب الذي دعا الأخ إلى السؤال عن الكتاب، أن المؤلف لما أتى على قضايا المعاشرة الزوجية، أو ما يعبر عنه بلغة العصر الحاضر بالقضايا الجنسية؛ يعني معاشرة الرجل لزوجته، وفيما يتعلق بلقائها، فيما يتعلق بالجماع، توسع في هذا الباب، وذكر طرائفه، وذكر كيفيته، إلى غير ذلك من المشكلات التي تواجه بعض الشباب، ولذلك أنصح الشاب إذا لم يكن متزوجاً، أو ليس على أبواب الزواج، ألاّ يقرأ هذا الجزء، يتجاوزه، أو لا يقرأ الكتاب كله، إلا إذا احتاج إلى ذلك.
أما إذا كان على أبواب الزواج، فلا بأس بقراءته؛ لأنه قد يحتاج ذلك.
ولا أكتمكم سراً إذا قلت لكم حتى لا تستغربوا هذا الكلام: إني قد اطلعت على أحوال كثير من الشباب بعد الزواج، بزمن ليس بالقصير، أحياناً شهر أو شهرين، فوجدت أن عدداً من هؤلاء الشباب لم يستطيعوا أن يعاشروا زوجاتهم بالطريقة الصحيحة، لم يصلوا بعد إلى المعاشرة المعروفة، لم يجامعوا زوجاتهم بسبب عدم الخبرة بهذا الشأن، ففي أول مرة استغربت هذا السؤال، فلما تكرر عندي، وجدت أنني أتذكر أنني قرأت في بعض الإحصائيات: أنه يقول في إحصائية علمية طبية: أن (20%) من حالات العقم سببها عدم المعاشرة الصحيحة بين الزوجين.
يكون الشاب ما شاء الله مستقيماً صالحاً، بعيداً عن هذه الأمور، لا يسمع ولا يقرأ، وقد حماه الله تعالى من الوقوع في الحرام والمعاصي، فلما يتزوج يواجه أمراً لأول وهلة، يستحي أن يسأل عنه، فربما يقع عنده شيء من عدم المعرفة بذلك، وأكثر الناس لا يحتاجون هذا الأمر، لكني أقول: لعل مثل هذا يحتاج إليه.(169/14)
الإقلاع عن المعاصي ثم الرجوع إليها
النوع الثالث من الأسئلة: أسئلة تتعلق بالمعاصي والتوبة، وهي أسئلة كثيرة جداً، ولذلك أجدني مضطراً لعرضها بسرعة، والإجابة عليها بسرعة أيضاً.
السؤال
يسأل عن شاب منحرف يتوب إلى الله عز وجل، ولكنه يعود بعد ذلك إلى معصية معينة ويبقى على التزامه -يعني: شاب منحرف بعيد ثم يتوب- لكنه بعد فترة يعود إلى معصية واحدة، ويبقى على استقامته فيما عدا ذلك، ويقول السائل: إن هذا كثير.
الجواب
أقول أيها الإخوة: التائبون نوعان: نوع تاب إلى الله توبة نصوحاً، وهذا أقلع عن جميع الذنوب والمعاصي، وهذه هي التوبة الكاملة النصوح، وهو الذي وعد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أن تكفر سيئاته، وتبدل حسنات، كما قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] بل يكتب الله تعالى له حسناته التي فعلها، ولو كان قبل إسلامه، كما في حديث أبي سعيد {إذا أسلم العبد وحسن إسلامه، كتب الله له كل حسنة كان أسلفها، ومحا عنه كل سيئة كان أسلفها، فتبدل سيئاته حسنات} .
أما من تاب إلى الله تعالى من بعض الذنوب، وأصرَّ على بعضها، فهذا ليست توبته من هذا البعض تخل بالآخر؛ أي توبته مما تاب منه مقبولة، لكن الذنوب التي بقي مصراً عليها لا يغفر له حتى يتوب منها، ولا تبدل سيئاته -والله تعالى أعلم- حسنات، لأنه لم يتب توبة نصوحاً شاملة كاملة، ولم يعمل العمل الصالح الذي يستغرق وقته، بل أصر على بعض المعاصي، فلم يحسن إسلامه، بل كان في إسلامه نقص وخدوش.(169/15)
أسباب نزع البركة من الوقت
السؤال
يقول: أنا طالب علم أحاول تنظيم الوقت، والاستفادة من وقتي، ولكنني أجد فشلاً في الوقت، وعدم بركه، فهل هذا بسبب المعاصي؟ وكيف لي أن أعرف نوع المعصية؟
الجواب
أقول: أولاً: المعاصي هي أحد الأسباب التي تكون سبباً في أن ينزع الله تعالى من العبد بركة الوقت، لكن هناك أسباباً أخرى، من هذه الأسباب: سوء التربية؛ فإن بعض الشباب لم يتلقَ تربية سليمة، فلا يكون عنده حسن تصرف في وقته، ولذلك يضيع كثير من وقته.
ومن الأسباب: عدم الموجه؛ فإن الشاب إذا كان بمفرده، وهو حديث عهد بهذا الطريق، فربما يكون يوماً هنا، ويوماً هناك، فلا يستفيد من وقته.
شاب مثلاً: أراد أن يتجه إلى طلب العلم، فبدأ اليوم، وقال: القرآن أهم شيء، وهو كلام الله عز وجل، فأريد أن أبدأ بالتفسير، بدأ بتفسير ابن كثير كما نصحنا، فلما قرأ تفسير سورة الفاتحة كان في المسجد، فجاء واحد وسأله سؤالاً فقهياً، فقال: والله لا أدري، لما خرج قال: إذاً الفقه أهم! الناس يحتاجون الفقه أكثر مما يحتاجون التفسير، فترك التفسير واتجه إلى الفقه، لأن الناس يسألونه، فهو يريد أن يجيب على أسئلتهم! بدأ يفتي في الفقه، يقرأ الفقه فيفتي فيما يعلم، أو فيما لا يعلم! بعد فترة جاء إنسان وسأله عن حديث، قال: ما درجة حديث كذا وكذا؟ قال: إذاً الناس اليوم أرى أنهم يهتمون بالحديث، فترك الفقه واتجه إلى قراءة كتب السنة! وهكذا أصبح لا يستقر على حال لعدم الموجه الذي يأخذ بيده.
السبب الرابع: سوء الطبيعة عند الإنسان؛ بعض الناس جبلوا على أخلاق ذميمة، مثل الملل، وإني أستسمحكم عذراً أن أذكر لكم أسلوباً من أساليب علاج مثل هذه الطبيعة، وذلك بأن يعود الإنسان نفسه إذا بدأ بشيء أن يتمه، ولعلي ذكرت لكم في بعض المناسبات أنني كنت أحاول أن أعود نفسي على هذا الأمر، واستفدت منه كثيراً بحمد الله، قرأت يوماً كتاباً من الكتب اسمه مناظرات في أصول الفقه بين ابن حزم والباجي مؤلفه الدكتور عبد المجيد تركي، وهو مجلد ضخم، أظنه في نحو ستمائة صفحة، أعجبني عنوانه فقرأته، لما قرأت من هذا الكتاب (100صفحة) وجدت أنه رسالة دكتوراه في جامعة السربون في فرنسا، في أصول الفقه، ووجدته كتاباً لا أرى أن أضيع وقتي في قراءته، ليس مفيداً على الأقل بالنسبة لي، لكنني مع ذلك أحببت أن أعود نفسي على خلق وهو: أن الإنسان إذا بدأ في شيء يتمه، وألاَّ يعود نفسه أن يبدأ في هذا الكتاب فيقرأ صفحة ثم يتركه، يقرأ المقدمة ثم يتركه، يقرأ فصلاً ثم يتركه! إذا بدأت في كتاب فعليك أن تتمه إلى النهاية، ولو كان أقل مما تريد، أو أقل مما تتصور، حتى تعتاد على ذلك وتزيل طبيعة الملل، والتقلب التي تكون حائلاً عند كثير من الشباب دون الاستفادة، تجده يقول: قرأت من هذا، ومن هذا لكن لو سألته هل قرأت كتاباً بأكمله؟ قال لك: لا! لا نريد أن نفتضح، وإلا لعرضنا عليكم أسئلة بكتب معروفة مشهورة، مثلاً كتاب تفسير ابن كثير هذا كل الناس يعرفونه، الحضور على كثرتهم من منهم قرأ تفسير ابن كثير من أوله إلى آخره؟ ربما تجد واحداً أو لا تجد أحداً، كتاب آخر من الكتب المشهورة زاد المعاد لـ ابن القيم من قرأ زاد المعاد؟! وبالمناسبة زاد المعاد من الكتب المفيدة العامة التي يحسن قراءتها، ربما لا تجد واحداً منا قرأ زاد المعاد من أوله إلى آخره، وهذا عيب في الواقع، عيب كبير، ينبغي أن يعود الطالب نفسه، يهذب عاداته وطبائعه، بحيث إذا بدأ في كتاب يحاول أن يتمه، لكن لا تبدأ في كتاب إلا بعد أن تستشير في ذلك، ولا تتجه إلى طريقة في التعلم، إلا بعد أن تستشير في ذلك أيضاً.
أما المعاصي التي يقول: كيف أعرف نوع المعصية التي كانت سبباً في انتزاع بركة الوقت؟ المعاصي نوعان: النوع الأول: معاصي ظاهرة لا تحتاج إلى بيان، مثل: كونه يستمع الغناء، أو يأكل الربا، أو عاقاً لوالديه، أو ما أشبه ذلك.
النوع الثاني: وهو الخطر، المعاصي الخفية، وخطورة هذه المعاصي من وجهين: الوجه الأول: أن الإنسان قد لا يتفطن لها، فقد يكون الإنسان عنده معصية خفية لكن بحكم أنه معفٍ للحيته، مقصر لثوبه، محافظ على صلاة الجماعة، يرى أنه -الحمد لله- ما عنده معاصي، لا يا أخي! يمكن أن يكون عندك الحسد، أو الحقد، أو البغضاء، أو عندك في قلبك نوع من الضعف، نوع من الخوف من غير الله، أو الحب لغير الله، إلى غير ذلك من المعاصي الخفية القلبية، التي هي من باطن الإثم، وهذه الأشياء قد لا يتفطن لها الإنسان، وذلك لأننا أيضاً قد نهتم بتجميل الظاهر أكثر مما نهتم بتجميل الباطن! فالباطن لا يطلع عليه إلا الله، ولذلك قد تكون نية الإنسان مثلاً خبيثة، لا نتنافس نحن في إصلاح النية، ولكن قد نتنافس في التبكير للمسجد، في طلب العلم، في حفظ القرآن، في الأعمال الصالحة، لأنها ظاهرة، لكن النية قد لا نتنافس فيها، ليس فيها مجال للمنافسة، لأن علمها عند ربي.
إذاً المعاصي الخفية خطورتها أولاً تأتي من جهة أن الإنسان قد لا يتفطن لها، فعلى الإنسان أن يختبر قلبه.
الوجه الثاني: من أوجه خطورتها أن أثرها عظيم؛ لأنها تتعلق بالقلوب، والشيء المتعلق بالقلب أخطر من المتعلق بالجوارح، فإن القلب عليه مدار الأعمال، وهو ملك والأعضاء جنود تابعة له، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، في حديث النعمان المتفق عليه: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب} فمدار الفساد والصلاح على القلب، ولذلك فإن المعاصي الخفية والإثم الخفي أعظم من الإثم الظاهر.
وهناك خطورة ثالثة أيضاً: وهو أن إزالة هذه المعاصي يحتاج إلى جهاد كبير، فإن الإنسان مثلاً: إذا كان مبتلىً بمعصية ظاهرة، مثل عقوق الوالدين، يستطيع أن يذهب إلى والده ويقبل رأسه، ويقول: سامحني، ويبكي بين يديه، ويعمل على إعادة المياه إلى مجاريها، بقدر ما يستطيع.
لكن أنَّى للإنسان مثلاً أن يصلح فساد قلبه؟! إذ أنه يحتاج إلى جهاد، يحتاج إلى عمل، إلى صبر، إلى دأب، إلى بكاء بين يدي الله، إلى دعاء، إلى ملازمة حتى يزول ما في قلبه، يقول الله عز وجل: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] ومن خلال تجربتي ومعايشتي لواقع الناس، وصلحائهم وفساقهم، دعاتهم ومدعويهم، علمائهم وطلاب علمهم، وجهالهم؛ ظهر لي أن الجميع، إلا من رحم الله يهتمون بإصلاح الظاهر أكثر مما يهتمون بإصلاح الباطن! وهذه ثغرة ومثلبة يجب على طالب العلم الناصح لنفسه أن يعمل على تداركها.(169/16)
كتاب: في ظلال القرآن
السؤال
بعض الإخوة يسألون عن كتاب في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب -رحمه الله؟
الجواب
كتاب في ظلال القرآن له منافع كثيرة عظيمة منها: أن هذا الكتاب تفسير عصري، فهو يتحدث عن كثير من القضايا العصرية التي لا يجدها الطالب أو الباحث أو القارئ في كثير من الكتب القديمة، ويتكلم عنها بصورة جيدة.
ومنها: أنه يهتم بالرد على المذاهب -والاتجاهات الفكرية المعاصرة- المخالفة للإسلام.
ومنها: أن أسلوب الرجل مشرق رائع، فإنه أديب كبير وشاعر فذ؛ ولذلك ظهر هذا في كتابه، فإن كتابه يتميز بجودة الأسلوب والبيان، وهذا مما يؤثر في القارئ لا شك وينفعه.
ومن ميزات الكتاب: أنه كتب بمداد من العاطفة والشعور الحي، وزكاه مؤلفه بدمه؛ فأصبح القارئ المنصف إذا قرأه يتفاعل مع المؤلف ويتأثر به وينفعل.
وكم من إنسان قرأ الكتاب فكان سبباً في هدايته! أما هل في الكتاب أخطاء؟! نعم فيه أخطاء ولا شك، وأي كتاب لا يوجد فيه أخطاء! فمن الملاحظات، بل من أبرزها على الكتاب: أنه في عدد من قضايا الاعتقاد قرر فيها خلاف ما هو مستقر من عقيدة أهل السنة والجماعة، في مواضع كثيرة في الكتاب، وذلك وإن كان باجتهاد، إلا أنه لا يعفي من التنبيه عليه، والتحذير من الاغترار بما سطره أو كتبه رحمه الله تعالى، وعفا الله عنه وعنا- فإن القارئ ينبغي أن يتفطن أن المؤلف عندما يتكلم في قضايا الاعتقاد، ينبغي ألا يأخذ عنه تفصيل الاعتقاد.
بل الاعتقاد يؤخذ من الكتب الموثوقة، كتب أهل السنة والجماعة، ابن تيمية، ابن القيم أئمة الدعوة الوهابية وغيرهم من الأئمة المتقدمين والمتأخرين أيضاً، هذا يلاحظ.
الأمر الثاني الذي يلاحظ في الكتاب: أن الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- قد يتكلم أحياناً في بعض قضايا الأحكام بكلام غير محرر، قد يتكلم في حكم شرعي في الحج أو الزكاة أو الصوم أو غيرها بحكم ويرجحه، ويكون الراجح خلاف ما ذكره، بل ربما يذكر قولاً بعيداً عن الصواب في هذه الأمور.
الملاحظة الثالثة: أنه قد يذكر أحاديث ضعيفة كثيرة ولا ينبه عليها، بل قد يعتمد عليها، وهذا لأنه رحمه الله لم يكن من المحدثين المعروفين.
الملاحظة الرابعة: أنه قد يرجح من الآراء في التفسير خلاف ما هو الراجح، وهذا أمر طبيعي يوجد في أي كتاب.
الملاحظة الخامسة: وهي مهمة، أنه رحمه الله قد يضعف أحاديث صحيحة، ويقول بخلاف ما تدل عليه، ولعل من أبرز ذلك: أنه في تفسيره لسورة [قل أعوذ برب الفلق] و [قل أعوذ برب الناس] : أنكر الأحاديث الواردة في سحر النبي صلى الله عليه وسلم، ونفى أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سحر، وهذا لا شك قول ضعيف، قال به جماعة من المتقدمين والمتأخرين، لكن الصحيح خلافه.
فقد صح في البخاري، ومسلم وغيرهما {أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطه، ووضعه في جف طلعة ذكر، ثم ألقى بها في بئر ذروان وجاء ملكان فقرأا على النبي صلى الله عليه وسلم وأمرا النبي صلى الله عليه وسلم، أن يذهب ويستخرج هذا السحر} وذهب ما كان يجده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا السحر لم يكن يؤثر فيما يبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه.(169/17)
أهم كتب التفسير
ب- القسم الثاني: أسئلة تتعلق بالسؤال عن بعض الكتب.
السؤال الأول منها يسأل عن بعض الكتب في التفسير:
السؤال
يقول: ما هي أهم الكتب التي يمكن أن أقرأها في التفسير؟
الجواب
كتب التفسير كثيرة جداً، وغالب هذه الكتب ينقل بعضها عن بعض، ويعتمد بعضها على بعض، ففيها تكرار كثير.
إضافة إلى أن كتب التفسير ينحو كل كتاب منها منحى.
فمن كتب التفسير من يهتم مثلاً بالفقه كتفسير القرطبي، ومنها ما يهتم بالأحكام ككتب الأحكام، أحكام القرآن لـ ابن العربي، وأحكام القرآن للجصاص، و"أحكام القرآن للكيا الهراسي، وغيرها من كتب الأحكام، وقريب منها كتاب الشيخ الشنقيطي أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن" فإنه يعنى بآيات الأحكام ويختارها، ولا يفسر كل الآيات.
ومن كتب التفسير ما يهتم باللغة العربية كتفسير أبي حيان، ومنها ما يهتم بنشر العلوم الدنيوية وذلك كالطب مثلاً، أو الرياضيات، أو غيرها من العلوم، ومن هذه الكتب كتبٌ متقدمة، وذلك كما في الكتب التي تهتم بالعقليات كتفسير الرازي، ومنها الكتب المتأخرة ككتاب طنطاوي جوهري الذي يصح فيه ما يصح في كتاب الرازي، أن فيه كل شيء إلا التفسير! فيه هندسة وفلك وكيمياء وفيزياء ورياضيات وعلوم حديثة، إلا التفسير فلا يوجد فيه.
ومنها كتب تفسير منحرفة تهتم بنشر عقائد، كتفسيرات الشيعة، وهي كثيرة جداً، وكتفسير الزمخشري الكشاف فإنه كتاب وإن كان مهماً من حيث اللغة، ومؤلفه إمام في اللغة، إلا أنه ملأه بالاعتزاليات، ودسها فيه بطريقة ذكية، حتى أنها لا تكاد تستخرج منه إلا بالمناقيش.
أما الكتب المختارة التي يمكن أن يعتمد عليها طالب العلم باختصار، فقد رأيت الاقتصار منها على ثلاثة أو أربعة: أولها "تفسير الطبري" فإنه إمام المفسرين، وهو يروي بالأسانيد، ويذكر الأقوال في الآية، ويستطرد في ذلك، فإن جميع المفسرين من بعده لا يسعهم الاستغناء عنه، بل هم يعتمدون عليه، وهو كتاب تفسير فذ في بابه.
وأنصح طالب العالم على الأقل إن لم يقرأه أن يجعله ضمن المراجع التي يرجع إليها إذا احتاج إلى تفسير آية، فإنه كتاب جامع، ومؤلفه من أهل السنة والجماعة، ومن أصحاب العقيدة السليمة النقية، وله في ذلك رسالة صغيرة عقيدة الإمام الطبري ذكرها الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وقد طبعت في رسالة مستقلة.
فهو ممن يوثق باعتقاده، وهذا ظاهر أيضاً في تفسيره، وبعض الذين اختصروا تفسير الطبري فقدوا هذه الميزة فأدخلوا فيه بعض المعاني المنحرفة في العقيدة.
الكتاب الثاني: هو تفسير ابن كثير "تفسير القرآن العظيم" لمؤلفه الحافظ ابن كثير؛ وهو أيضاً يتميز بميزات مهمة: أولها: أنه لخص أحسن وأجمل ما في تفسير الطبري.
الثاني: أنه يهتم بإيراد الأحاديث النبوية؛ وذلك لأن ابن كثير رحمه الله محدث من الطراز الأول، فيروي من المرويات والأحاديث في تفسير كل آية ما يبصر القارئ بمعناها، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لها، وقد يتعقب بعض الأحاديث التي يذكرها.
الثالث: أنه يختار الأقوال الجيدة في تفسير الآيات، فلا يهتم فقط بإيراد الأقوال، بل يورد الأقوال، ثم يختار قولاً منها، وغالباً ما يكون اختياره موفقاً.
الميزة الرابعة: أن مؤلفه أيضاً من أهل العقيدة الصحيحة، ومن أهل السنة والجماعة، وقد استفاد واستنار كثيراً بعلم الإمام البحر الحافظ الجهبذ الشيخ الإمام ابن تيمية رحمه الله فكان أحد تلاميذه، فهذا كتاب فذ، وإذا كان لابد من الاختيار بينه وبين تفسير الطبري، فأرى أن يقتصر الطالب على تفسير ابن كثير وهو أربعة مجلدات من السهل أن يقرأه الإنسان، ليس فيه صعوبة.
من الملحوظات على "تفسير ابن كثير" أو من أبرزها، أنه قد يكثر من إيراد الإسرائيليات، وهذا مما ضخم حجم الكتاب، إضافة إلى أن تفسير القرآن بهذه الإسرائيليات مما لا يسوغ، وبعضها مما ظاهره أنه يعارض القرآن، أو يعارض بعض السنة الصحيحة.
فهذا مما يعاب على الكتاب، وقد يورد أحاديث ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما موضوعة أحياناً، وإن كانت قليلة، والغالب أن الإمام ابن كثير يتعقب هذه الروايات.
الكتاب الثالث: كتاب لأحد العلماء المتأخرين اسمه عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير، للشيخ المحدث العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله من محدثي أرض الكنانة مصر، وعمدة التفسير هو عبارة: عن اختصار لـ ابن كثير.
وقد قرأته بكامله وإن كان لم يكمل الكتاب، بل وصل فيه إلى نصف القرآن، أو تجاوز ذلك، وأظنه وصل إلى سورة الرعد ثم وقف، أو قريباً من ذلك.
المهم أن المؤلف -رحمه الله- توفي قبل أن يتم الكتاب، وقد طبع وهو يباع في المكتبات، لكن القدر الذي لخصه من تفسير ابن كثير في الواقع أنه لخصه تلخيصاً بديعاً جميلاً لا مزيد عليه؛ حذف الإسرائيليات، واقتصر على الروايات الصحيحة، وحافظ على عبارة ابن كثير، فلم يتصرف فيها، فجاء الكتاب نافعاً ولو تم لكان فيه غناء عن كثير من الكتب، ولعل الله عز وجل يوفق بعض طلبة العلم الذين عرفوا بصفاء العقيدة والقوة في علم الحديث النبوي، أن يكملوا هذا الكتاب، حتى يكون كاملاً بين أيدي الناس.
هذه ثلاثة كتب.(169/18)
حديث أسئلة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
من الأحاديث التي سأل عنها بعض الإخوة حديث طويل سألني عنه منذ زمن، وكنت أبحث عنه، لكني في الواقع لم أعثر لهذا الحديث على أثر.
وهو حديث ذكره أبو الليث السمرقندي في كتاب تنبيه الغافلين.
يقول: روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: {بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس مع المهاجرين والأنصار، إذ أقبل إليه جماعة من اليهود، فقالوا: يا محمد إنا نسألك عن كلمات أعطاهن الله تعالى لموسى بن عمران، لا يعطيها إلا نبياً مرسلاً أو ملكاً مقرباً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سلوا.
فقالوا: أخبرنا عن هذه الصلوات الخمس التي افترضها الله على أمتك.
قال: أما الظهر: إذا زالت الشمس يسبح كل شيء لربه، وأما العصر: فإنها الساعة التي أكل فيها آدم من الشجرة، وأما المغرب: فإنها الساعة التي تاب الله عليه إلى آخره وأما الفجر: فإن الشمس إذا طلعت تطلع بين قرني شيطان.
فقالوا: صدقت يا محمد! فما ثواب من صلَّى؟ فذكر ثواب الصلوات الخمس.
ثم قالوا له: صدقت يا محمد! ولم افترض الله على أمتك الصيام ثلاثين يوماً؟! فقال: إن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة بقي في بطنه مقدار ثلاثين يوماً، فافترض الله على ذريته الجوع ثلاثين يوماً، ويأكلون بالليل تفضلاً من الله تعالى على خلقه، قالوا: صدقت يا محمد! فأخبرنا ما ثواب من صام؟ قال: ما من عبد يصوم من شهر رمضان يوماً محتسباً إلا أعطاه الله تعالى سبع خصال؛ يذوب اللحم الحرام من جسده، ويقربه من رحمته، ويعطيه خير الأعمال، ويؤمنه من الجوع والعطش، ويهون عليه عذاب القبر، ويعطيه الله نوراً يوم القيامة حتى يجاوز به الصراط} إلى آخر الحديث؟
الجواب
هذا الحديث مما أجزم ولا أتردد وأقطع بأنه حديث موضوع.
وإن كنت بحثت في كتب الأحاديث، صحيحها وحسنها، وبحثت في الأحاديث الموضوعة والمشتهرة، فلم أعثر له على أثر، لم أقف على هذا الحديث.
لكن أجزم بأن هذا الحديث موضوع، وأمارات وضعه طويلة منها: أنه من الأحاديث الطويلة التي يظهر عليها أثر الوضع في هيئتها وطولها وركاكة أسلوبها.
ومنها: أن الحديث يقول: جاء جماعة من اليهود، فكانوا كلما قال النبي شيئاً، قالوا: صدقت يا محمد! صدقت يا محمد! ولم تكن العادة أن اليهود يصدقون الرسول عليه الصلاة والسلام فيما قال، بل بالعكس، الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يصدقهم أو يكذبهم، كان يسألهم عن شيء يقول: تصدقونني، فيقولون: نعم نصدقك، فإذا سألهم كذبوه فيقول: كذبتم، ثم يخبرهم بالحق.
كما ورد هذا في حديث الفرقة الناجية وغيره، فلم تكن العادة أن اليهود يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يصدقونه.
ومن علامات وضعه، والله تعالى أعلم: ذكر الصلوات الخمس، وأنهم يقولون: أعطاها الله تعالى لموسى بن عمران، والمشهور المعروف أن صلوات الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام كانت عند طلوع الشمس وعند غروبها.
إلى غير ذلك من التفاصيل التي زعموا أن الله تعالى أعطاها لموسى، ولم يوجد دليل أن الله تعالى أعطاها لموسى، بل الظاهر أن الله تعالى خص بها محمداً صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة على وضعه: أن هذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب السنة، وكفى بذلك دليلاً على أن هذا الحديث موضوع لا يصح، ولو كان الحديث صحيحاً من حيث معناه، لكن لم ينقل لنا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف، فإننا نجزم بأنه من الأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* هذا هو القسم الأول من الأسئلة وهو ما يتعلق بالسؤال عن أحاديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.(169/19)
حديث: إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه
السؤال
من الأحاديث التي يسأل عنها أيضاً حديث: {إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه} .
الجواب
الحديث صحيح بلفظ: {إزرة المؤمن} بالهمزة المكسورة، {إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه} بل ورد في هذا أحاديث وليس حديثاً واحداً، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: {إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه} وقد رواه أبو يعلى كما في [11/526] والطيالسي [1/352] والإمام أحمد في "مسنده" [2/504] وزاد الإمام أحمد: {إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، ثم إلى الكعبين، فما كان أسفل من ذلك ففي النار} .
فبين أن الإزرة (الثوب) إلى نصف الساق، فإن كان ولا بد فإلى الكعبين، أما ما أسفل من الكعبين فهو في النار، والحديث سنده حسن، وهو صحيح لغيره.
ومن الأحاديث في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: {إزرة المؤمن إلى نصف الساق، ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله تعالى إليه} .
وهذا الحديث رواه مالك في موطئه" [2/914] ، وأحمد [3/5] وأبو داود [رقم 4093] وابن ماجة [رقم3573] ، وأبو يعلى [2/ 268] ، ورواه أيضاً ابن حبان وصححه، والبيهقي كلهم عن أبي سعيد الخدري [وسند الحديث صحيح] .
الحديث الثالث أيضا: ً {إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه} رواه النسائي عن ابن عمر، وروى مسلم في صحيحه [3/ 1653] عن ابن عمر رضي الله عنه قال: {مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: يا عبد الله ارفع إزارك، فرفعته.
فقال: زد، فزدت.
قال ابن عمر فما زلت أتحراها بعد، فقال له بعض القوم: إلى أين؟ قال: إلى أنصاف الساقين} .
إذاً: هذه الأحاديث صحيحة، وقد روى النسائي في سننه أيضاً [2/206] عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {موضع الإزار إلى أنصاف الساقين والعضلة، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فمن وراء الساق، ولا حق للكعبين في الإزار} .
فهذه أربعة أحاديث عن أبي هريرة، وابن عمر، وأبي سعيد، وحذيفة، كلها صريحة في أن إزار المؤمن إلى نصف الساق، فإن أبى وأصر، فإلى الكعبين، وما كان أسفل من الكعبين ففي النار.
ولي على هذه الأحاديث الأربعة تعليقاً.
أولها: قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] وقال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] .
وبناءً عليه: فإن المؤمن بالله ورسوله بعد أن يسمع هذه الأحاديث الصحيحة -وغيرها كثير مما لم أذكره- فإنه ينبغي ألا يمقت أو يستهجن أو يشمئز إذا رأى إنساناً قد رفع ثوبه إلى نصف الساق، فإن هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه في أحاديث صحيحة، سقت بعضها، وليس من شأن المؤمن أن يعترض أو ينكر ما يعلم أنه يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الكلام أسوقه للمؤمنين.
وأقول: إن من ينكر، أو يستهجن من يرى أنه يقصر ثوبه، فلا شك أنه جاهل أو معاند، أحسن أحواله أن يكون جاهلاً، فإنه من علم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس له أن يدعها لقول أحد، كما قال ابن المنذر، والشافعي، وغيرهما من أهل العلم: "أجمع أهل العلم على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد".
ثانياً: نقول للذين لا يعجبهم هذا الكلام، ممن ليسوا من أهل التدين والصلاح أصلاً، وإنما هم من أهل الريب والوقيعة في العلماء والدعاة وطلاب العلم، وممن يستغلون مثل هذه الأشياء للسخرية والعيب للمؤمنين والصالحين من الشباب وغيرهم.
فأقول لهم: إذا كنتم لا تقبلون ما تسمعونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنصاعون له، وقد ارتضيتم لأنفسكم هدياً غير هديه وسنة غير سنته، فأصبحتم تعارضون رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يأمركم -معشر الرجال- بتقصير ثيابكم، نبصر الواحد منكم وقد أطال ثوبه، وجره وراءه، وإذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم نساءكم بالستر والتصون والعفاف، ورخص للنساء كما في حديث أم سلمة وغيرها {أن يرخين الثوب ذراعاً ولا يزدن على ذلك} وجدنا نسائكم يقصرن ثيابهن يوماً بعد يوم، حتى إن المرأة أصبح ثوبها أحياناً إلى نصف الساق! وما ذلك إلا محادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فنقول لهم: إذا كنتم رضيتم لأنفسكم بهدي غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك من باب تقليدكم للغرب واتباعكم لآثارهم وسيركم على سننهم وطريقتهم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه} كما رواه الشيخان، فلماذا خالفتم هدي سادتكم من الغرب في هذه المسألة؟! فإننا رأينا هؤلاء الغربيين الذين تقلدونهم، وتسيرون على طريقتهم، رأيناهم يعتبرون مسألة الثياب من قضية الحرية الشخصية، فتأتي إلى بلاد الغرب وهم لا يلبسون إلا البنطلونات -الملابس الإفرنجية المعروفة- فيلبس الإنسان منا ثوباً من الثياب العربية هذه، وهو غريب مستنكر عندهم، فلا يجرؤ أحد منهم على أن ينظر إليه، فضلاً عن أن ينكر عليه.
وقد رأيت بعيني: إذا رآنا الصبيان الصغار والتفتوا إلينا، فإن الأب يجر ولده بشدة، ويصرف بصره، يعني يقول: لا تنظر، ما شأنك! هذه حريات شخصية، لا ينبغي لأحد أن يتدخل فيها بشأن أحد.
فإذا كنتم لا تؤمنون -والخطاب للذين يسيرون وراء اليهود والنصارى والغربيين في تقاليدهم وعاداتهم وأزيائهم- إذا كنتم لا تؤمنون بهذه السنة أفلا أدخلتموها في باب الحرية الشخصية، فقلتم: هذا الشاب الذي رفع ثوبه فوق الكعبين أو إلى نصف الساقين، أو إلى ما أسفل من الركبة، أيضاً هذا من باب الحرية الشخصية ولا شأن لكم به! ونحن نرى لاعبي الكرة وهم يلبسون السراويل القصيرة إلى الفخذين، وربما أقل من ذلك، فلا يعيب عليهم أحد، بل لو لبسوا غير ذلك لعيب عليهم، بل لمنعوا من ذلك بمقتضى القوانين الدولية الرسمية التي تحكم في كل مكان، بما في ذلك هذه البلاد، ولا يجرؤ أحد على مخالفتها! فالتعليقة الثانية أن نقول للذين لا يقبلون أن هذه سنة: اجعلوا هذا من باب الحريات الشخصية، ولا تتدخلوا في شئون الآخرين، إنسان طول ثوبه، قصر ثوبه، لبس نوعاً معيناً من الثياب، أو نوعاً آخر، اجعلوا هذا في باب الحرية الشخصية، ولا تتدخلوا في ذلك.
ثالثاً:- إن الذي يقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته يلحظ بشكل جلي أن هذا الأمر الذي كان أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه فعله أحياناً كثيرة، إلا أن من الظاهر -والله أعلم- أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يفعله هو وأصحابه على الدوام، ومن ذلك مثلاً: في صحيح البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم {لما كسفت الشمس خرج فزعاً يجر إزاره يخشى أن تكون الساعة} يجر إزاره، قال أهل العلم: إنما جره صلى الله عليه وسلم لإزاره على سبيل العجلة لاستعجاله في خروجه عليه الصلاة والسلام، لكن فقه الحديث أن إزار النبي صلى الله عليه وسلم لو كان إلى نصف الساق، أو فوق ذلك -والله تعالى أعلم- لما كان ينجر من العجلة مهما استرخى؛ قد يسترخي فيكون إلى حول الكعبين، أو قريباً منهما، أما أن ينزل بحيث ينجر فهذا بعيد.
ومثل ما ورد في الصحيح: {أن أبا بكر قال: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده -وذلك لأن أبا بكر رضي الله عنه كان رجلاً نحيف الجسم ضعيفاً، فكان ثوبه يسترخي، فيتعاهده -يرفعه- ثم يسترخي- ويرفعه، ثم يسترخي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لست ممن يصنعه خيلاء} .
والذي يظهر لي أن أبا بكر رضي الله عنه لو كان إزاره إلى نصف الساق، أو إلى ما تحت الركبة بأربعة أصابع كما يذهب إليه البعض، لم يكن حين يسترخي ينزل إلى ما تحت الكعبين، والله تعالى أعلم.
فلا بأس أن يفعل الإنسان هذا حيناً، وهذا حيناً، أو يفعل هذا إن كانت المصلحة تقتضيه، ويفعل هذا إذا كانت المصلحة تقتضيه.
التعليقة الرابعة في هذا الموضوع: وهي للدعاة وطلاب العلم خاصة أقول: لا ينبغي أن نجعل مثل هذا الأمر المتفق على إباحته -أعني إنزال الثوب إلى ما فوق الكعبين- لا ينبغي أن نجعل مثل هذا الأمر هو الفيصل بيننا وبين الناس، فإذا وجد الشاب الداعية، أو طالب العلم، في مجتمع يرفض ذلك ويمقته، كما هو الحال في كثير من المجتمعات التي عمَّ الجهل فيها وطم وغلب، واختفت فيها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يقبل الشاب على تعليم الناس العقيدة الصحيحة، وتحريرهم من التصوف ومن عبادة القبور، وتحريرهم من أكل الربا، وتربيتهم على إقامة الصلاة في الجماعة وعلى الصيام وعلى الحج وعلى أداء الزكاة وعلى غير ذلك من الواجبات الأساسية والفروض الكبيرة، ويجعل مثل هذه السنن مما يعلمهم إياها بين الحين والحين بطريقة لبقة، فإذا رأى أنهم ينفرون منها أجلها حتى تتروض نفوسهم وتعتاد مثل هذه الأشياء.
وعلى كل حال؛ فإن من الحكمة التي ورثناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نتدرج في دعوة الناس، ونبدأ بالأهم ثم المهم.
روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قا(169/20)
حديث: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه
السؤال
الحديث الثالث الذي يسأل عنه بعض الإخوة هو قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه}
الجواب
هذا الحديث لم أجده إلا في كتاب "شعب الإيمان للبيهقي الذي طبع أخيراً في [4/334] رقم [5312-5314] وقد نسبه المناوي في فيض القدير [2/87] إلى أبي يعلى، وابن عساكر، لكنني لم أجده في "مسند أبي يعلى" المطبوع.
والحديث ضعفه السيوطي في جامعه الصغير رمز له بالضعف قال: [ض] يعني: ضعيف، وعلل المناوي سبب ضعف الحديث: بأن في سند الحديث بشر بن السري، وقال المناوي: متكلم فيه من قبل التجهم -يعني: كأن الرجل مطعون في عقيدته، أنه يميل إلى عقيدة الجهمية- لكن هذا الكلام الذي ذكره المناوي، وقبله أشار إليه السيوطي، كلام لا يعول عليه فيما يظهر لي.
فقد ترجم الحافظ ابن حجر في كتابه تهذيب التهذيب لـ بشر بن السري هذا في [1/451] وذكر عن يحيى بن معين أنه قال: رأيت بشر بن السري وقد استقبل الكعبة، وهو يدعو على قوم يرمونه برأي جهم، ويقول: معاذ الله أن أكون جهمياً! معاذ الله أن أكون جهمياً!! إذاً، لم يثبت عن بشر بن السري أنه جهمي، بل هذه تهمة باطلة، والله تعالى أعلم، ولا ينبغي الطعن في عقائد الناس إلا بحجة بينة.
ثم إن بشراً هذا قوي من قبل حفظه، لا يكاد أحد من الأئمة يطعن فيه، فهو ثقة فيما يظهر، وأقل أحواله أن يكون حسناً، ولذلك أن يكون صدوقاً، ولذلك [فالحديث حسن] .
وممن حسنه: الشيخ الألباني كما في صحيح الجامع [2/144] .(169/21)
حديث: ويل للذي يحدث فيكذب
السؤال
يسأل أحد الإخوة عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ويل لمضحك القوم، ويل له، ويل له} ؟
الجواب
هذا الحديث حديث حسن، رواه الإمام أحمد في مسنده صفحة [5/75] وأبو داود، [5/265] والترمذي في كتاب [الزهد] من "سننه" [رقم 2316] .
وقال الإمام الترمذي: وهذا [حديث حسن] ونسبه الإمام المنذري للنسائي، ولعل ذلك في "سننه الكبرى" وليس في "السنن الصغرى"، ورواه الحاكم في "مستدركه" أيضاً [1/46] كلهم من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده؛ وجده هو معاوية بن حيدة، صحابي جليل معروف.
ولذلك قال الحاكم عقب رواية الحديث: لا أعلم خلافاً بين أكثر أئمة أهل النقل في عدالة بهز وأنه يجمع حديثه.
ولذلك كان الحديث كما قال الترمذي وغيره حديثاً حسناً، ولفظه: {ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم، ويل له، ويل له} .
فقد توعد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من يكذب في حديثه، من أجل أن يضحك الناس، توعده بالويل، وكرر ذلك ثلاث مرات، كعادته عليه الصلاة والسلام في الأمور الهامة.
وقد سبق الكلام في موضوع المزاح، وموضوع النكت والطرائف، وهذا الحديث من الأحاديث التي تدل على تحريم الكذب، وإن كان الإنسان هازلاً يقصد الإضحاك.
وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً.(169/22)
حديث: البذاذة من الإيمان
السؤال
الحديث الثاني: يسأل أحد الإخوة عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {البذاذة من الإيمان} ؟
الجواب
البذاذة: هي عدم الاعتداد بالملبس؛ تواضع الإنسان في ملبسه، وبعده عن الرفاهية، والتوسع في جمال الملابس وهيئتها.
وحديث {البذاذة من الإيمان} أيضاً [حديث صحيح] أخرجه ابن ماجة في "سننه" [رقم 4118] من حديث أبي أمامة الحارثي، وأخرجه الحاكم في "مستدركه" [1/9] وأخرجه أبو داود [رقم 4161] والطحاوي في "مشكل الآثار" [1/478] .
وقال الإمام العراقي: هو حديث حسن، وقال الديلمي، وابن حجر: هو حديث صحيح، وهو كما قالا.
وفي هذا الحديث: دليل على أن تواضع الإنسان في ملبسه، وهيئته، وغير ذلك، أنه من الإيمان، ولعل من المناسب أن أذكر أن للشرع في هذه الأمور؛ أمور الملابس وغيرها مسلكان: الأول: الترغيب في الزهد فيها، والبعد عن المظاهر الكاذبة، كما في هذا الحديث {البذاذة من الإيمان} .
فنقول: من تواضع في ملبسه لله جل وعلا، وبَعُد عن المبالغة في الزينة لله جل وعلا، من أجل البعد عن الكبرياء، فإن هذا من الإيمان، لكن في مقابل هذا الحديث لدينا مجموعة أخرى من الأحاديث الصحيحة الكثيرة، تدل أيضاً على أن حسن الملبس قد يكون من الإيمان، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم لما قال عليه الصلاة والسلام: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
فقال رجل: يا رسول الله! إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال} .
فدل على أن كون الثوب حسناً والنعل حسناً مما يحبه الله جل وعلا.
ومثله ما ورد عن أصحاب السنن من طريق جماعة من الصحابة، وهو [حديث صحيح] {أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أشعث رأسه، رثة ملابسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أي المال آتاك الله؟ فقال: يا رسول الله، من كل المال قد آتاني الله: من الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فذهب الرجل، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد رَجَّل رأسه، ولبس من أحسن ثيابه وتعطر.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خير من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس، كأنه شيطان} .
إذاً: ترجيل الشعر ودهنه واستعمال الطيب وحسن الملابس وحسن النعل، هو أيضاً من الإيمان، فكيف نجمع بين هذين المسلكين؟ الجمع بينهما يكون من طريقين: إما أن يقال: إن من الناس من يصلح له هذا، ومن الناس من يصلح له ذاك، فإن الله تعالى خلق خلقه متفاوتين في كل شيء؛ في أشكالهم، في قامتهم، في أخلاقهم، في علمهم، في عقولهم، في أموالهم، في كل شيء.
فمن الناس من جبل محباً للجمال في هيئته، وملبسه، ونعله، وسيارته، وثوبه ونحو ذلك، فهذا يقال له: اعتنِ بهذه الأمور، ولكن بنية إظهار نعمة الله تعالى عليك، والتحدث بها، وبيان أن هذا لا يُعارِض الاستقامة، ولا يعارض الزهد في الدنيا، فيكون نوعاً من الدعوة إلى الله جل وعلا.
ومن الناس من جبل على الزهد في هذه الأمور، والإعراض عنها، والتعلق بغيرها، فلا يحب هذه الأمور، ولو تكلف أن يحسن ثوبه يوماً فإنه سرعان ما يعرض عن ذلك، وقد تأتيه يوماً وقد تكلف لتحسين هندامه وبزته، فلبس ثوباً جديداً، ولبس غترة جديدة مغسولة مكوية، فبعد يوم تأتيه وقد قلب المرزاب، وأصبحت الغترة طرفها عند كتفه، وأصبح ثوبه بهيئة أخرى، وكأنه قد لبسه منذ زمن طويل؛ لأنه لا يحب هذا، ولم يفطر عليه.
فيقال: {كل ميسر لما خلق له} فمن كان يصلح له هذا فليفعله بحسن نية، ويؤجر عليه، ومن كان يصلح له ذاك، فيفعله بحسن نية، ويؤجر عليه، ولا ينبغي أن يلوم هذا هذا، ولا هذا هذا.
لا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى شخص قد تجمَّل ليظهر نعمة الله عليه، ويدعو إلى الله تعالى بحسن بزته، ويبين أن هذا لا يعارض الإسلام، فلا يلام هذا، ويقال: هذا إنسان متكبر! أو هذا إنسان مهتم بمظهره! كما أنك لو رأيت إنساناً متواضعاً في ملبسه، لا تقل: هذا يشوه الإسلام! وهذا يعطي صورة غير جيدة، وهذا يتظاهر بالزهد وليس كذلك، فلا يلوم أحد أحداً، ولا ينكر أحدٌ على أحد.
وهو في نظري أجود وأحسن.
الوجه الثاني أن يقال: إنه يجمع بين النصوص؛ بأن المقصود أن يكون الأمر على سبيل الاعتدال.
فليس الحث على الجمال مدعاة لأن يسرف الإنسان فيه، ويضيع وقته في تحصيله، وليس الحث على البذاذة مدعاة إلى أن يبالغ الإنسان في ذلك، فيتعدى فيه حد الاعتدال.
فيكون الجمع بين هذه النصوص بأن يقال: إن المقصود في كلا النوعين من النصوص الاعتدال والتوسط.(169/23)
رسالة خاصة
المعصية هي الخطر الذي يتهدد العبد السائر إلىالله، فلعله يكون من أهل الحق والإحسان فينقلب في طريق المعاصي وينغمس فيها بألوانٍ وأشكال فتنزل عليه المصائب وتحلُّ عليه البوائق ويزوره كل مكروه وما ذلك إلا جزءٌ من العقوبة ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) .(170/1)
رسالة عاجلة إلى أهل المعاصي
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأدى الرسالة، وبلغ الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه، فجزاه الله عنَّا خير ما جزى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم إني أعتذر إليكم عن الحديث في هذه الليلة، ليلة الثالث من رمضان، من هذا العام (1413هـ) ، إذ إنني سوف أحاضر أخاً لي أعلمه موجوداً بينكم، بلغني عنه ما لا يحسن ولا يسوغ، ورأيت أن العتاب بين الأحباب يزيد المودة، ويعمم الألفة، ويزيل الوحشة من القلوب، أما أنتم فلستم بالغرباء عنه، ولا هو أيضاً بالغريب عنكم، فهو منكم وأنتم منه، والحديث على كل حال خاص بيني وبينه وليس للنشر.
أخي الكريم: يا من تجلس بين هذه الجموع، وتستمع إلى هذه الكلمات، وتظن نفسك مستوراً، لقد حدثوني عنك، وأرجو أن يكون ما بلغني عنك غير حقٍ.(170/2)
التوبة قبل الندم
ثم إنني أذكرك -أيها الأخ الكريم- وأنت لا زلت عندي بالمحل الأرفع، غير أني أرجو أن يتوب الله عليك، وأن يفتح الله قلبك وأن تراجع نفسك، وأن تجد في هذا الشهر الكريم وأنت تستقبل أيامه وساعاته، فرصةً ثمينة بأن تحدث لله تعالى توبة، فإنه لا يُدرى لعله أن يفجعك الموت قبل نهاية الشهر، أو قبل نهاية العام! وربما -ولا أريد أن أكون صريحاً معك أكثر فأكثر- كان بعض أقاربك الذين يحبونك، ويحبون لك الخير، ويعرفونك ويجالسونك، وأنت تحادثهم وتبثهم مشكلاتك، ربما كان أحدهم رأى فيك رؤيا وشاهد فيك ما ينبئ عن قربِ أجلك، ودنو موتك وأن أيامك معدودة! أفلا تبادر الموت بتوبة نصوح، إن هذا هو الحري بك والجدير.(170/3)
ما قلت لك إلا القليل
ثم إني ما قلت لك مما أخبروني عنك شخصياً إلا أقل القليل، نعم، ولقد أخبروني عنك أنك كنت تبحث بالأمس عما يطفئ الشهوة، ويهدئ لهيبها، أما اليوم فقد انقلبت الآية، واختلف الأمر، فأنت تبحث عن ما يؤجج الشهوة، ويثيرها ويحركها، وينفر مختبئها، ويخرج كامنها، لقد شربت الكأس الأول من المعصية، أو من الشهوة، على لذةٍ ووجدت شيئاً من طعمها، أما الكأس الثانية فهي عادة لا طعم فيها ولا سرور معها، ولكنها أمرٌ أصبح جزءاً من حياتك، وعادةً يصعب عليك أن تتركها.
إذا كان صحيحاً ما بلغنا أنك في النهار تترقب الليل، أفلا تترقبه للصلاة والقيام، كما يفعل الصالحون؟ وإذا كنت تترقب الليل أفلا فكرت قليلاً في النهار الذي يتلوه، حينما تذهب اللذة وتبقى الحسرة؟ إن أهنى عيشةٍ قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل وإن اغتفرنا لك -وهيهات هيهات- زمان الصبا، وعمر المراهقة، وفترة الطيش والجهل وغرور الشباب، فكيف ترى يغتفر لك الأمر وهو خطبٌ جلل، وهاأنت قد تجاوزت سن المراهقة، بل وتزوجت وأنجبت ورأيت طفلاً ترجو أن ينشأ نشأةً صالحة، وتحب له الخير، ويسرك أن يكون على أحسن حال، وهاأنت تعيش في بيتك، وتحت سقفك مع زوجةٍ ترجو لها الصلاح، وتحب لها الخير، ولا ترضى أن يظهر منها أنملة، ولا أن يسمع منها همس صوت، ولا يسرك أن يتحدث عن عرضها قريب ولا بعيد.
أصحيح أنك ترى الخاشعين والباكين والراكعين والساجدين، وأهل الطواف وأهل الاعتكاف، ثم تنظر في قلبك وتتحسس في وجدانك، فلا تجده إلا قاسياً غليظاً كما عُهد؟! أيصح عنك أنك صاحب أخبارٍ وأسفار ومغامراتٍ ومقامرات؟! أما هجس في قلبك يوماً أن تسقط الطائرة وأنت فيها؟! أو تنقلب السيارة وأنت داخلها؟ أو أن يؤذيك الصداع فيصارحك الطبيب أنها بداية جلطة في المخ أو في القلب؟! : {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} [النحل:45-48] قال ابن عباس وقتادة: [[في أسفارهم فيصيبهم بالبلاء وهم مسافرون، في جوهم أو بحرهم أو برهم.
وقال أيضاً: يأخذهم في منامهم]] .
يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا وكم من فتىً أمسى وأصبح سالما وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري وقال الضحاك وابن جريج ومقاتل: [[أي يأخذهم في ليلهم ونهارهم، فإن الليل والنهار مطايا، يسلمك الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل]] .
يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا(170/4)
رويدك لا تغضب
أخي، هل غضبت حين صارحتك على الملأ، وتحدثت عن حالك في مجلسٍ حافلٍ من الناس، رويدك لا تغضب، فإن فضيحة الآخرة أهول وأطول، وأعظم وأطم: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21] إن امرءاً ربما قدر الله عليه شيئاً من تسرب أخباره، وانتشار أحواله، وتحدث الناس فيما حصل منه، لعله أن يرعوي وينزجر، إن رادع الإيمان في قلبه لم يفعل فعله، وخوف الله تعالى لم يمنعه عن المعصية، فربما خاف من عقاب المخلوقين، وربما خشي أن يكون عرضه كلأً مباحاً، وحديثاً متداولاً مشاعاً، فردعه ذلك فارعوى وانزجر.(170/5)
الولوغ في المعصية
حدثوني أنك والغ في المعصية، حتى صارت المعصية جزءاً من حياتك وشخصيتك وتكوينك، وأنه لو عرف الناس حقيقة أمرك لاجتنبوك وباعدوك، وهجروك وقلوك، وأنك قد أفلحت في تزيين ظاهرك بعض التزيين، أما باطنك فتركته تلعب فيه المعاصي والآثام.
أصحيح ما بلغني عنك؛ أن المعصية تخايلك حتى وأنت واقف بين يدي الله تعالى في صلاتك؟ فذهنك شريد، وعقلك بعيد، كلما بحثت عن ذهنك وجدته على شفير زلة، أو على مشارف هاوية، أو قريباً من معصية، أو متأملاً أو متفرجاً.
أصحيح أن المرأة أصبحت صورةً دائمة بين ناظريك، وصوتاً هامساً يرن في أذنيك، ورسماً مطبوعاً في خيالك لا يفارقك؟ وإذا صدق الوشاة الذين حدثوني، فأنت تعدُّ ساعات النهار في هذا الشهر الكريم عدَّاً، وتتمنى مضيها وتزجيها بكل سبيل، ساعةً في نوم، وساعةً في شغل، وساعةً في تشاغل، كل ذلك ليقبل عليك الليل، فتنطلق من إسارك وتعمل ما يمليه عليك الهوى.
إذاً: لقد أصبحت المعصية إدماناً يجري في دمك، ويتخلل في عروقك، ويأكل معك ويشرب، وينام على فراشك ويستيقظ.
أو حقاً أنك تدير قرص الهاتف تبحث عن فريسةٍ مغفلة سهلة الاصطياد، وتتحمل في سبيل ذلك ألوان الإهانات؟ فحيناً تسمع صوتاً يلعنك، وحيناً يلعن والديك، وحيناً يصفك بأبشع الأوصاف، وحيناً يطلق عليك مُرَّ الدعوات، وأنت تتحمل ذلك كله في سبيلٍ هدف غير نبيل، وعملٍ غير شريف.
أو حقاً أنك لا تدع امرأةً تمر بك إلا حدقت فيها بنظرك، وأمعنت فيها ببصرك، حتى يتوارى عنك سوادها ويغرب عنك خيالها، ثم تتبع ذلك بالحسرات والزفرات؟ فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر أو حقاً أن أذنك تطرب لصوت فاجر يبثه مذياع، أو يرسله شريط الكاسيت؟(170/6)
من آثار الذنوب والمعاصي
أيها الأخ الكريم: إنني أذكر أننا التقينا يوماً من الأيام، فحدثتني أنت عينك ونفسك، عما تعاني من الكرب، والهم والغم والألم، ولو صدقتك لقلت لك: هذه ثمرات الذنوب، أفلا تتوب؟! ولقد نصحتك بالرجوع إلى كتب أهل العلم، وقراءة ذلك الكتاب النفيس الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي للإمام الفذ ابن قيم الجوزية، فاعتذرت مني بكثرة الشواغل والصوارف والعوائق، وأنا أرى أن هذه المشاغل ما صرفتك عن لذاتك وشهواتك، ولا منعتك من أسفارك وأعمالك، ولا حالت بينك وبين من تحبُ وتعشق، ولكنك اثَّاقلت إلى الأرض، ورضيت بالحياة الدنيا عن الآخرة، وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
إنني أجد نفسي مضطراً أن أقيم الحجة عليك الآن، في خمس دقائقَ أو قريبٍ من ذلك، وقد أعيتني فيك الحيلة، واعتذرت مني بشتى المعاذير، فها أنا أنقل لك بعض ثمرات المعاصي، فتحسسها في قلبك، واقرأها في دفتر حياتك، وتأملها فيما أصابك مما مضى وما حضر، وانظر عظيم نعمة الله عليك، حيث أمهلك ولم يعاجلك بالعقوبة: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:7] .(170/7)
ذهاب الحياء
أما الرابعة عشرة: فذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وأصلُ كل خير، وذهابُ الحياء ذهابُ الخير، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {الحياء من الإيمان} وقال: {الحياء لا يأتي إلا بخير} فمن استحيا من الله تعالى لم يعصه، ثم استحيا من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من معصية الله تعالى؛ لم يستح من عقوبته يوم يلقاه.(170/8)
احذر من أن ينساك الله كما نسيته
وأخيراً: فإني أخشى أن ينساك الله تعالى كما نسيته، وأن يخلي بينك وبين نفسك.
ونفسك ضعيفة أمارةٌ بالسوء، والشيطان أمامك ووراءك وبين يديك، وخلفك، قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] ؛ ولكن بقي أمامك طريقٌ واحد وهو الفوق، فإن الشيطان ما قال: ومن فوقهم لأن فوقك الله رب العالمين، يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] .
فيا أخي الكريم: اسمع داعي الله يقول لك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19] نعم، لقد تراجع سيرك إلى الله تعالى والدار الآخرة، وانغمست في الدنيا، وغرقت في الشهوات، وضعت في لججها وبحورها، ولكني أرى فيك بقيةً من خير، وأثراً من حياء، فلعل الله أن يستدركك في ذلك فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان فاصدق الله تعالى، وامدد يديك إليه، وتمرغ وأنت ساجدٌ لوجهه، وهُلَّ دموع الخوف والندم، عسى الله تعالى أن يعيد قلبك حياً كما كان.
أيها الأخ الكريم: هذا ما عندي لك، وقد محضتك النصيحة، وإني -والله- أدعو الله تعالى في سجودي أن يرحمك برحمته، ويخرجك من هذه الورطات والهلكات، التي لا مخلص منها إلا بحول الله تعالى وتوفيقه، فأعن إخوانك على نفسك بكثرة السجود، وأسأل الله تعالى أن يتولاني وإياك.
ثم أيها الإخوة لعلكم تتساءلون: ما الذي يدعوني إلى أن أخاطب هذا الأخ؟ إنني لا أعرفه ولكنني أعرف أن من بينكم من يكون كذلك، فليتحسس كلٌّ واحدٍ منكم جاره، فلعله هو المخاطب، فإن لم يكن فلينظر بين ثوبيه فربما كان المخاطب بين ثوبيه.
اللهم اهدنا ولا تضلنا، اللهم اهدنا ولا تضلنا، اللهم اهدنا ولا تضلنا، اللهم أعنا ولا تعن علينا، اللهم انصرنا على من بغى علينا، اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا.(170/9)
فساد العقل
العاشرة: فساد العقل وإطفاء نوره، كما قال بعض السلف: ما عصى الله أحدٌ حتى يصيب عقله، ومن ذلك قول الكافرين كما حكى الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] أين العقول؟! نعم إنها عقولٌ قد أنتجت في الدنيا، وبرعت واخترعت، لكنها غافلة عن الآخرة: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] .
ولعلي أكون مصيباً عندما أكذب خبر الذين حدثوني أنك تعاقر الخمر، وتتعاطى الدخان، وربما تهم بالمخدرات، وقد تركها العقلاء حتى في الجاهلية، وابتعدوا عنها، إذ كيف يشرب الإنسانُ ما يزيل عقله ويذهب بلبه، ويجعله في جملة المجانيين والصبيان؟!(170/10)
الخوف من أن يطبع على قلبك
أما الحادية عشرة فهي: الخوف عليك أن يطبع على قلبك، فتكون من الغافلين، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] إن المعصية مع المعصية توجب سواد القلب، فما زال القلب في بياضٍ حتى يطبع عليه بالمعاصي، فإذا عصى العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء، ثم أخرى، ثم أخرى، حتى يكون القلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه! أخي الكريم: تحسس قلبك، أفتراه وصل إلى هذه المرحلة؟ وأسأل الله ألا يكون الأمر كذلك، فإني لك محذِِّر، وعليك مشفق، وأرجو الله تعالى أن يريني منك ما تقر به عينك.(170/11)
لعلك تحرم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما الثانية عشرة فهي: أنني أخشى عليك أن تحرم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعوة الملائكة الكرام الكاتبين عند رب العالمين، وغيرهم الذين يدعون للتائبين، ويدعون للمؤمنين: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7] أفتراك اليوم وأنت تستقبل الشهر منظوماً في عداد التائبين؟! أم تراك من ضمن المؤمنين، أم تراك قد خسرت الأمرين فلم تظفر بهذه الدعوة الكريمة التي هي مضنةُ الإجابة؟!(170/12)
احذر أن تدخل في لعنة الله ورسوله
أما الثالثة عشرة: فهي أعظم من ذلك! أخشى أن تدخل في لعنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد لعن العاصين صلى الله عليه وسلم، لعن آكل الربا وأنت أموالك في البنك الربوي، ولعن شارب الخمر وأخشى عليك منها لأن أصحابك من أهلها، ولعن المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، ولعن السارق، ولعن ولعن(170/13)
الهوان على الله
أما التاسعة: أفلا ترى أن وقوعك في هذه الذنوب وولوغك فيها، ربما أدى إلى هوانك على الله عز وجل، وسقوطك من عينه! لقد هنَّا على الله إن عصيناه، كما قال بعض السلف: هانوا على الله فعصوه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم من المعصية، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] قال الإمام عبد الله بن المبارك: رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوءٍ ورهبانها وقال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر:10] لقد هنت على الله؛ فهُنت على خلقه، فكم لقيت من الأذى والإهانات، وعدم الاعتبار، وأنت تتحمل ذلك كله، أما تذكر يوم كنت داعيةً بالأمسِ أو شبه داعية، أو طويلبَ علمٍ، فقد كان يؤذيك مسح النسيم، ويجرح قلبك الكلام الخشن، أما اليوم فقد تكسرت النصال على النصال، وما أدري أي خطبٍ دهاك، فأنت جبار في الجاهلية خوارٌ في الإسلام! يوم كنت داعية كنت لا تتحمل في سبيل ذلك الأذى، أما اليوم فتحملت الكثير دون مقابل، إنها الذلة، قال صلى الله عليه وسلم: {وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري} وقال الحسن البصري رحمه الله: [[إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، إلا أن ذل المعصية في وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه]] .(170/14)
استصغار الذنوب
أما الثامنة: فما أعظمها! فلقد علمتك بالأمس وأنت ترتكب الذنب الصغير، فتأتي وقد اسود وجهك، وقلصت شفتاك، ودمعت عيناك، وأنت تقول: فعلت وفعلت، فإذا تأملناه وجدناه ذنباً، نعم؛ ولكنه صغير، وربما خرجت منه بتوبةٍ واستغفرت منه، أما الآن وما أدراك ما الآن! فإن قلبك لم يعد يستقبح المعاصي، بل أصبحت عادة، وأصبحت نوعاً من الأنس الذي تهش إليه نفسك، وتشرئب إليه طباعك، وتفرح به وتأنس، فإذا فارقته شعرت بالغربة.
لقد سترك الله تعالى وأنت تأبى إلا أن تجاهر أمام الناس، وهذا مرتبةٌ خطيرة: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن أين القلب الذي كان يتحدث بالأمس عن الضالين بحسرة لا تعدلها حسرة؟ وعطف عليهم وحرص على هدايتهم، وتشوق إلى إخراجهم من الظلمات إلى النور؟! فها أنت قد أدركتك السُنَّة، ومضت عليك الآية، فأصبحت أحوج ما تكون إلى من يأخذ بيدك من هذه المناطق، ويخرجك من هذه الضلالات، وينقذك مما أنت فيه.(170/15)
ضعف القلب
أما السابعة وهي أخطرها: فضعف القلب في إرادة الخير، وقوة الإرادة في المعصية، إلى أن ينسلخ القلب بالكلية، وهذا من أعظم الأشياء خطورةً، قال ابن القيم رحمه الله: والله ما أخشى الذنوب وإنها لعلى سبيل العفو والغفران لكنما أخشى انسلاخ القلب من تحكيم هذا الوحي والقرآن نعم تلك المعاصي والذنوب أضعفت قلبك فأصبحت لا تنشط للخيرات، إن قلنا لك: أنفق في سبيل الله؛ مددت يدك وأنت ثقيل، فأخرجت ريالاً أو عشرة، ولكنك في المعاصي تخرج الآلاف المؤلفة، لا تحسبها ولا تعدها، وإن قلنا لك: هلم إلى الصلاة، قلت: اليوم أنا مزكوم، وأشعر بثقل في جسدي، وأشعر بحرارةٍ في رجلي، أما إن كنت واقفاً على معصيةٍ أو مستمعاً إلى أغنية، أو مشاهداً لحرام؛ فإنك تقف الساعات الطوال، وتتحرك جوارحك كلها، فالعينان تنظران، ويداك تتحركان، وجسمك يتقدم ويتأخر، وكل جزءٍ من جوارحك مشدود، وأعصابك مهزوزة، فيا ترى ما الذي يجعلك تسرع إلى المعصية وتبطئ بالطاعة؟ إنه قسوة القلب ومرضه، وإذا لم تسارع بالعلاج لدى الطبيب فيخشى أن يكون الأمر موتاً، فإن القلوب تموت، بل تعدم، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] أفترى -أخي- أن قلبك مفقود؟! إن هذه المضغة موجودةٌ ولا شك؛ ولكن ما في داخلها من مراقبة الله والاعتبار والاتعاظ ربما غطى عليه الغبار، وربما غلبت عليه الشهوات، فالبدار البدار، فإن الأمر أعجل من ذلك.(170/16)
المعصية الأولى واحدة واليوم بلا عدد
أما السادسة: فإن المعصية الأولى كانت واحدة، أما اليوم فهي بلا عدد، وأراك ما زلت تطلب المزيد، أو تسعى فيها، إن المعصية تزرع أمثالها، وإذا رأيت على إنسانٍ ذنباً، فاعلم أن عنده إخوانه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس:27] فالسيئة تجر السيئة، والحسنة تسبب الحسنة، والإنسان ينضم مع إلفه وشريكه ونظيره، وإن الحسنات والقربات وقراءة القرآن والصلوات والخيرات، لم تجد عندك صدراً رحباً، ولا قلباً واسعاً؛ لأنها وجدت المكان مشغولاً في غير ما يناسبها وما يلائمها، فابتعدت عنك وذهبت إلى من سواك، أما المعاصي فإنها وجدت نظيرها وشريكها.(170/17)
الوحشة بينك وبين الناس
الرابع: الوحشة بينك وبين الناس، فإنك عصيت الله عز وجل فجعل الله تعالى عقوبة ذلك وسماً في علاقتك بزوجك، فهي ليست لك كما تحب، وليست لك كما كانت بعد الزواج، حينما كنت صالحاً مستقيماً، وكنت تقوم معها بعض الليل، وتقرأ معها بعض القرآن، وتشترك معها في قراءة الورد صباحاً ومساءً، أما اليوم فالله المستعان! فما الناس بالناس الذين عرفتهم وما البيت بالبيت الذي كنت أعرف أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها فأنت قد هجرت ذلك كله، وابتعدت عنه، حتى إن أمرتْكَ زَوْجَتُك بالقيام لصلاة الفجر، أو المسارعة إلى الصلاة، وجدت في ذلك ثقلاً، وغضبت عليها، وأرغيت وأزبدت، فأين أنت بالأمس؟! أين ذلك الشاب الذي كان يبحث عن فتاةٍ أول شروطها أن تكون متدينة؟! إنها الوحشة بينك وبين الناس من أثر المعصية، ولقد قال بعض السلف: إني لأعصي الله تعالى فأرى ذلك في خلق امرأتي ودابتي.
وما تجده أيضاً فيمن تعاملهم ويعاملونك من المشكلات والمشاكسات، وتباين وجهات النظر، والقيل والقال، وتغير في الأحوال، إن ذلك كله بعض ثمار المعاصي، والأمر أكبر من ذلك إذا لم تسارع إلى الله تعالى بالتوبة والإنابة.(170/18)
تعسير الأمور عليك
أما الخامسة: فهاأنت ترى أن كثيراً من أمورك تعسرت، فأنت لا تطرق باباً إلا وجدته موصداً في وجهك، ولا أريد أن أضع النقاط على الحروف، ولكن الخبر وتفصيله عندك، كيف وجدت نفسك يوم أن كنت تدرس، وقد أوصدت في وجهك الأبواب، ثم في الوظيفة، ثم في التجارة، ثم في المعاملات الكثيرة التي كنت تديرها مع الناس.(170/19)
الوحشة وفقدان لذة العبادة
ثالثها: الوحشة التي تجدها في قلبك بينك وبين الله عز وجل، وفقدان لذة العبادة، التي لا تعدلها لذةً في الدنيا، ولا تقاربها، ولا يشعر بذلك إلا من كان في قلبه بعضُ الحياة.
لقد دعوتك إلى قراءة القرآن، ولكنك اعتذرت مني بأنك ما إن تفتح المصحف حتى تهجم عليك الهواجس، وترِدُ عليك الواردات، وتشعر بثقلٍ في قلبك، ورغبةٍِ في الراحة أو النوم، وأنك تستثقل قراءة القرآن، فهذا جزاءُ من هجر القرآن، وأعرض عنه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] .(170/20)
حرمان العلم
أول ذلك: حرمان العلم.
فإن العلم نورٌ من الله تعالى يقذفه في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.
شكوت إلى وكيع ٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نورٌ ونور الله لا يؤتاه عاصي أفلا تذكر أنك كنت تحفظ من كتاب الله أجزاءً، فأين تلك الأجزاء؟! أفلا تذكر أنك في طفولتك كنت المقدم بين زملائك، الممدوح من أساتذتك، وكان يظن أنك ستكون وتكون فها أنت أصبحت رماداً بعد أن كنت ناراً! أرى ناراً قد انقلبت رماداً سوى ظل مريض من دخان ولكن لا زال الباب مفتوحاً، والاستدراك ممكناً.(170/21)
حرمان الرزق
الثاني: حرمان الرزق.
قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير} [الشورى:30] نعم! أنا أذكر أنك حادثتني عن ديونٍ قد ركبتك، وشغلت ذمتك، وعن غرماء طالما طرقوا بابك، وأذكر -أيضاً- أنك حادثتني عن نقصٍ في رزقك، وشظفٍ في عيشك، وكدرٍ في حياتك، فها أنت تسمع نداء نبيٍ من أنبياء الله نوح عليه الصلاة والسلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:10-14] إن أردت الرزق، أو أردت المال أو أردت ربح التجارة فعليك بالطاعة، وإن أحببت الصحة في بدنك فعليك بالطاعة، وإن أردت الأولاد والذرية فعليك بالطاعة: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] .(170/22)
رسالة إلى موسوسة
الوسواس عضال، يصيب النساء كما يصيب الرجال، وهذه المحاضرة رسالة إلى موسوسة، تعالج وسوستها التي قد تؤدي بها إلى مرض، أو إلى بغض للعبادة والدين.(171/1)
سبب الحديث عن موضوع: رسالة إلى موسوسة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد فأولاً: مكان وزمان هذا التسجيل: قمت بتسجيل هذه المادة في يوم الإثنين (4) ذي القعدة لعام (1410هـ) في ضحى ذلك اليوم، وفي تمام الساعة الثامنة في منزلي وعلى أجهزة تسجيلات القادسية الإسلامية ببريدة جزاهم الله خيراً.
ثانيا: فكرة هذا الشريط: لقد سبق أن تكلمت عن موضوع الوسواس في محاضرة وزعت ونشرت، بعنوان: رسالة إلى موسوسة، والحمد لله تعالى استفاد منها جمع طيب من الشبان والفتيات وغيرهم ممن ابتلوا بالوسواس في مناطق شتى، ولعل الله تعالى نفع بها خلقاً منهم.
ثم كان ثمة اتصالات ومراسلات وأسئلة حول هذه الأمور.
وفي الواقع أنني لم أشعر أن ثمة شيئاً جديداً أريد أن أضيفه إلى ما سبق، فإنني قد أفرغت جل ما عندي في تلك المحاضرة، ولكن نزولاً على رغبة إحدى الأخوات التي ألحت على تسجيل مادة تكون قريبة منها، تراجعها كلما اشتد بها الأمر، أو زادت الحاجة إليها، وكنت أماطل وأُسوّف في هذا الطلب زماناً طويلاً، حتى شعرت أن الأمر لازم، واستخرت الله تعالى في تسجيل هذا الشريط لبعض الإضافات وبعض الإضاءات التي ربما تكون ذكرت هناك عرضاً فأذكرها هاهنا بشيء من الإيضاح والبسط والتفصيل.
ولا يغب عن بالك -أيتها الأخت الكريمة- أن تسجيل هذا الشريط إنما تم لعلاج حالات مستعصية أو صعبة، ومثل هذه الحالات لا شك تحتاج إلى قدر من الشدة والقسوة وقد يتطلب الأمر فيها ذكر علاجات لا تصلح لكل إنسان، إنما تصلح لإنسان وصل إلى ذلك المستوى، فإن الوسواس والعياذ بالله إذا تغلغل في النفس واستقر فيها، ضربت جذوره في القلب، وتأصل وأصبح من غير اليسير إزالته إلا بجهد جهيد، وبعلاج شديد وقد يكون له في ذلك ما ليس لغيره.
وأول النقاط التي رأيت من المصلحة إثارتها في هذا الشريط، حول نفسية الموسوس:(171/2)
نفسية الموسوس
ما هي المشاعر التي يعيشها الموسوس؟ والغرض من ذلك، لأن كثيراً من الموسوسين يظنون أن الناس لا يحيطون ولا يعرفون مشاعرهم، وما يدور في نفوسهم، فإذا تبين للمريض أن الطبيب عالم بشكواه، مدرك لمعاناته، فإنه يزداد به ثقة وقناعة، ولهذا لو أتى إنسان إلى طبيب، فذكر له مبادئ المرض؛ فقال له الطبيب: أنت تجد كذا، وتجد كذا، أو تجد كذا وتجد كذا، فكانت ظنون الطبيب مصيبة في الواقع، فإن هذا يجعل المريض يثق به، ويطمئن إلى علاجه فيكون هذا من أسباب قبوله للدواء وانتفاعه به، بخلاف ما لو خرج من عنده، وهو يقول إن هذا الطبيب لم يعرف ألمي وشكواي ومرضي، ولذلك ربما صرف لي علاجاً لا يناسبني، فلا بد أن يدرك الموسوس أن الذي وصف له الدواء عارف بالحال التي يعاينها، والنفسية التي يعيشها، والخواطر التي تتردد في نفسه -أستغفر الله- وليس هذا من باب معرفته بغيب مكنون مستور عنه، ولكن من باب التجربة، فإن ما يعيشه موسوس يعيشه أكثر الموسوسين، وكثير من هؤلاء كتبوا لي أوراقاً ودفاتر وكتباً ومذكرات يطول الوقت بقراءتها، فضلاً عن عرضها، يذكرون ما يعانون فيها، وعدد آخر منهم التقيت بهم بصفة شخصية، فصاروا يتحدثون عما يجدون، فوجدت هناك قواسم مشتركة عند هؤلاء توجد عند إنسان فإذا قلتها لآخر وجدتها عنده سواء بسواء.
فإلى الأخت التي ألحت في تسجيل هذا الشريط: أن تنظري -أيتها الأخت الكريمة- إلى مدى انطباق هذا الوصف الذي سوف أذكره على ما تجدينه في نفسك.(171/3)
ضعف النفسية
أما الصفة الثانية المتعلقة بنفسية الموسوس والموسوسة فهي: صفة الضعف، ضعف النفسية، وأيضاً ضعف النفسية هو من أسباب الوسواس -كما بسطته هناك في الشريط المشار إليه أولاً- فإن الشيطان إنما يتسلط أكثر على من يكون في نفسيته ضعف وخور وعجز، ولذلك يلاحظ الكثير أنه يمكن أن يقال إلى حد ما: إن الوسواس مرض وراثي، فإذا وجدت وسواساً متأصلاً في شخص، فابحث في أقاربه وأجداده، وأخواله تجد شيئاً من ذلك عندهم قلَّ أو كثر، فيكون له جذور في نفسية العائلة كلها، وهذا لا يعني بالضرورة وبشكل دائم أن معنى ذلك أن أسباب الوسواس قائمة في النفس ولا سبيل إلى إزالتها!! وإنما أقول هذا الكلام لأن الإنسان إذا عرف من أين أُتي، ومن أين تسلل إليه الشيطان فإنه -بإذن الله تعالى- يستطيع أن يسد المنافذ التي دخل منها الشيطان، حتى يتمكن من العلاج.(171/4)
التردد الذي لا يكاد يكون معه يقين
أبرز صفة في الموسوس، هي صفة التردد والشك، فهو يشك في كل شيء، بحيث أن اليقين في نفسه عزيز لا يكاد يوجد، فهو يشك هل صليت؟! هل توضأت؟! هل قمت بهذا العمل؟! هل أحدثت؟! ربما نقضت أثناء الوضوء، فيعيده من جديد، وهكذا، ثم إذا انتهى -مثلاً- من الوضوء وبدأ بالصلاة، رجع يشك في الوضوء، وربما يقول: بنيت على أمر غير صحيح في هذه العبادة وما بني على باطل فهو باطل، إذاً فيرجع ليتوضأ مرة أخرى، ثم يرجع ليصلي مرة أخرى، وهكذا فهو في شك مريب لا يكاد يزول عنه بحال من الأحوال.
فإذا طالت شكواه وامتد به المرض، واكفهرت في وجهه الأحداث، فزع إلى مفتٍ من المفتين، أو عالم من العلماء يسأله، فإذا سأله بدأت الشكوك تتناوبه مرة أخرى: ربما المفتي لم يفهم مسألتي، ولم يعطني فرصة لأعرض له بالضبط ماذا أعاني، ولذلك فهو لا يدري بالضبط ماذا عندي، وربما أفتاني بأمر لا يتعلق بي، ثم إن هذا المفتي أفتاني بحسب اجتهاده هو لكن أنا غير معذور في قبول فتواه، مادام أنني أتوقع أنه لم يعلم بما عندي، ويمكن أن هذا المفتي أجابني يظن أن عندي وسواساً، والذي عندي في الواقع ليس بوسواس، بل هو أمر حقيقي أنا أعرفه وإن لم يعرفه الناس، وهكذا بسبب اتساع دائرة الشك في قلب الموسوس، حتى أصبح يشك في كل شيء، يشك في نفسه وأعماله، يشك في وضوئه، وصلاته، يشك في نيته، وصيامه، يشك هل بلغ الكلام للناس، أو لم يبلغ، هل قال أو ما قال، هل فهم الناس ما يريد أو لم يفهموا.
يشك في الفتوى، ويشك في الشك أيضاً.
ولهذا تلاحظين ولع الموسوسين بالتفاصيل، فهم حريصون على أن يتحدثوا إليك عن كل دقيق وجلي، وعن كل شيء، وعن جميع الجزئيات والخطرات والأفكار التي دارت في ضمائرهم، والأحوال التي عاشوها، ويتمنى الواحد منهم أن يعطيك تاريخاً مفصلاً لحياته، خاصةً منذ بدأ يعاني من موضوع الوسواس إلى حال التاريخ، ويفصل ويكرر بصورة مملة جداً، لأنه كلام يعرفه من قبل، ومكرر، وغير ذي جدوى، لكن الموسوس يخيل إليه أن هذا كان ضرورياً؛ لأن الوسواس مع الأسف تعدى حتى إلى السؤال، فأصبح وهو سائل موسوساً في سؤاله فيذكر أشياء كثيرة لا تعلق لها بالموضوع ولا قيمة لها.
وربما أقول: إن كثيراً من الأسئلة الذي يوجهها الموسوس إلى العلماء، والمشايخ، ربما إنه لا يحتاج إلى السؤال عنها أصلاً، فإجابتها معروفة وجاهزة وحاضرة، بل -مع الأسف الشديد- ربما يكون هذا الموسوس سمع الفتوى الواحدة من عشرة علماء، وبالنسبة للأخوات يتصلن بالهاتف على عشرات المشايخ في أنحاء البلاد، وتعيد السؤال نفسه، وتكرره، وتظن أنه يمكن أنه لم يجبها الجواب الصحيح، ويمكن لم يفهم، وربكت أجابها مراعاة لكونها موسوسة ولم يعطها الجواب الشرعي الأصلي، فإذا عملت بالجواب الذين تظن أنه لمراعاة حالها ثم بعد فترة قالت: ربما زال عني الوسواس، إذاً أرجع إلى الوضع الطبيعي مثل غيري من الناس، وهكذا تظل في أمر مريج، وقد تختلف إجابات أهل العلم، لأنه ربما أن بعضهم لا يعلم أنها موسوسة، أو يختلف اجتهادهم في هذا تبعاً لاختلافهم في أمور كثيرة، الفتوى قد تتغير من عالم لآخر بحسب اجتهاده، فهذا الاختلاف -أيضا- يوقعها في حيرة، وقد تأخذ نفسها بالأشد، ويكون في ذلك من العنت عليها ما فيه، وكثيراً ما تقول الموسوسة: الناس لا ينفعونك، وهؤلاء المفتون لا يمكن أن ينقذوك من النار، وقد أموت بلا وضوء، بلا صلاة، بلا صيام، بلا حج، وهكذا سيظل هذا لهيباً في قلبها يحرقها، والواقع أن الذي يوقد هذا اللهيب، وهذا الجمر ويضع عليه هذا الحطب، هو شخص اسمه إبليس، وهو الذي يحتاج إلى أن يعلن الموسوس وتعلن الموسوسة عليه حرباً لا هوادة فيها حتى يخرج من قلبه.
إذاً: فأول صفة للموسوس هي صفة التردد والشك، الذي لا يكاد يوجد معه يقين، ولذلك فإن الموسوس يقال له: إنه لا يطلب منه اليقين في سائر أموره الشرعية، كما يطلب من غيره في كثير منها، بل إنه يكفي أن يعمل بما يغلب على ظنه في مثل هذه الأمور، وما ظهر له وما تيسر دون أن يحتاج إلى يقين في ذلك، وقد ذكر أهل العلم أن موسوساً جاء إلى أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي رحمه الله وهو من أذكياء الفقهاء وعظمائهم، فقال له: إني أنغمس في الماء، ثم أخرج وأخشى ألاَّ أكون بلَّغت الماء إلى جسدي للاغتسال من الجنابة، فقال له أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: اذهب فإنه لا وضوء عليك ولا غسل ولا صلاة، فقيل له في ذلك يرحمك الله: كيف أفتيته بهذا؟! قال: هذا مجنون!! والواقع -وأرجو ألا تكون الكلمة حارة- أن الوسواس شعبة من الجنون في كثير من الأحيان، وأنك تشك في استقامة عقل من أمامك من الموسوسين حين تسمع منه بعض الأسئلة، وبعض التفاصيل، وبعض الاستفسارات، وتجد منه بعض التلون، فأنت تدخله من باب فيخرج من باب آخر، ويعرض إليك الموضوع الواحد بعشرين صورة وكأنه لا يعي ولا يعقل ولا يفقه، وكأنه لا يدرك شيئاً، ولهذا فكأنه مولعٌ أبداً بالحديث عما يعاني غير ملتفت إلى ما يسمع، وما يراد له أن يسمع.(171/5)
مظاهر الضعف عند الموسوس
من مظاهر الضعف عند الموسوس -ضعف النفسية-: أنكِ تجدينه عاجزاً عن المقاومة، عاجزاً عن الإصرار، عاجزاً عن التنفيذ، وقد يسمع الكلام ويعزم حين يسمع الوعظ، والتوبيخ، واللوم، والعتاب، ويجد المشكلات التي تواجهه في حياته، والتي ربما تدمر حياته تدميراً، فقد يعزم عزيمة صادقة على أنه سيفعل، حتى إنه يحدثني أحد الشباب، وقد جاء إليَّ يشتكي من الوسواس وفي يديه وقدميه ووجهه احمرارٌ شديد من أثر الدلك والعرك بالماء، والبقاء على ذلك فترة طويلة، فلما حدثته وعاتبته وشددت عليه في الموضوع، يقول لي فيما بعد: كنت أتمنى أن تنهي الحديث حتى أخرج من عندك لأتوضأ الوضوء الطبيعي الذي لا تكلف فيه؛ كأنني أحس أنه لا يعيقني عن هذا الوضوء الطبيعي الذي تأمرني به إلا أن أخرج من عندك فقط، لكن لما خرجت شعرت بأن الشيطان قد أجلب عليَّ من جديد، بخيله ورجله وحاصرني، فرجعت إلى الأمور من جديد، وعدت لا أستطيع أن أفعل إلا ما كنت أفعل، فسرعان ما يخور وينهار، وتضيع النصائح الموجهة إليه أدراج الرياح عند أول موقف عملي من المواقف التي يوسوس فيها، عند الوضوء -مثلاً- عند النية، عند التكبير، عند الصلاة، عند أي أمر من الأمور التي يوسوس فيها، كأن المواعظ السابقة كلها لم تكن.
فعند أول نفخة من فم إبليس اللعين تتبخر كل هذه التوجيهات وكل هذه التعليمات، فكأن الإنسان يصب في إناء مفتوح لا يستقر فيه الماء، بل ينزل ويضيع في التراب، ولذلك فإن الموسوس -أيضاً- بحاجة إلى أن يتمالك ويتماسك ويحاول أن يقوي إرادته بقدر المستطاع، حتى يتمكن من تنفيذ هذه الأوامر والتوجيهات التي أسديت إليه، وحتى يستطيع أن ينتصر على كيد الشيطان ووسواسه، وإلا فالواقع أن الناس لا يملكون له شيئاً.
أختي الموسوسة: أنت تؤمنين بالله تعالى، وأن إخبار الله تعالى صدق مطلق لا شك فيه، إذاً فاسمعي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] وانظري -أيتها الأخت- إلى الجن الذين نخافهم، ونهابهم، ونرهبهم، وما زال الإنس يرهبونهم منذ الجاهلية، وضعفاء الإيمان يرهبونهم، مع ذلك انظري كيف ينهارون ويتهالكون عند بعض القراء والوعاظ، وكيف يسمع لهم بكاء ونحيب وصراخ، وكأن الواحد منهم طفل يخشى من كل شيء، ويخشى من أي تهديد، فهذا هو واقعهم، هم ضعفاء وكيدهم ضعيف ومخاوفهم شديدة، ويسهل استفزازهم والاستخفاف بهم، ولذلك ذكر الله تعالى عن الجن أنهم كانوا في الجاهلية إذا استعاذ بهم الإنس كبروا وأصابهم الرهق: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] وأحد الأوجه في تفسير الآية أن الإنسي من العرب في الجاهلية كان إذا نزل هذا الوادي استعاذ من سفهاء قومه، أي: من الجن، فيبيت العرب آمنين في هذا الوادي، لكن الجن يصيبهم الرهق، أي: العجب والغرور، ينتفخون في أنفسهم إذا رأوا أن هؤلاء الإنس الآن يخافون منهم ويستعيذون منهم، فيصيبهم العجب والغرور.
إذاً: نفس الوضع تعيشه الموسوسة -الآن- إلى حدٍ ما، فالشيطان حين يرى كيف ضحك بالموسوسة، وكيف صار يسخر منها، فيؤذيها وينفث في قلبها عند الوضوء، ثم يجلس من بعيد يتفرج عليها، وهو يقهقه ويضحك، ثم إذا تخلصت منه بعد جهد جهيد، بعدما تجلس زماناً طويلاً في دورات المياه، ثم تخرج بعد ذلك لتتوضأ، فإنه يبدأ ينفث في قلبها، ويضحك، وقد يأتي معه بكوكبة من أصحابه يشاهدون الموقف، وهم يقهقهون ويضحكون على هذا الإنسي المسكين، كيف سخروا به، وضحكوا منه، وسلبوا منه عقله، ويحاولون أن يسلبوا منه دينه.
فيا سبحان الله!! الجني أو الشيطان، الذي قال الله فيه: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] وأمر بقتاله.
كيف يضعف أمامه مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، ويفترض أن عنده قدراً من التوكل على الله تعالى، والثقة به، والاعتماد عليه؟! كيف تسلل الشيطان؟ وكيف استقر؟ وكيف بقي هذه المدة الطويلة؟ هاهنا السؤال.
وقد تضافر على ذلك عوامل عديدة منها: الغفلة عن ذكر الله تعالى قائمةً، وقاعدةً، ومضطجعةً، وذاهبةً، وآيبةً، وداخلةً، وخارجةً، وفي كل حال.
ومنها: ضعف العلم الشرعي، بحيث إن الإنسان التبست عند هـ الأمور، وأصبح لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، ولا يعرف المطلوب منه في كثير من الأمور.
ومنها: ضعف النفس -كما أشرت.
ومنها: وجود أسباب كثيرة أشرت إليها في مطلع الدراسة الثابتة في موضوع الوسواس لا داعي لإعادتها الآن.
المهم أن الإنسان بحاجة إلى إزالة هذه الأسباب، والتخلص من كيد الشيطان، والعمل بشريعة الرحمن جل وعلا، والثقة أولاً بأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، ولا بد أن تؤمن الموسوسة بهذه الآية حق الإيمان، ولا بد أن تضعها نصب عينيها وتعرضها على نفسها مرة بعد أخرى، وكلما عرض لها عارض الوسواس في وضوء، أو صلاةٍ أو نيةٍ أو تكبيرٍ أو صومٍ أو حجٍ أو غسلٍ أو غيرها تذكرت هذه الآية، من الذي يوسوس لها؟ إنه الشيطان، وهذا مفروغ منه لأن الموسوس أول ما يقول: عندي وسواس، وابتليت بوسواس الشيطان -أعاذنا الله منه-.
إذاً، هو يعرف الموضوع من الأصل، هذا لا إشكال فيه من حيث الإجمال، لكن إذا جاء إلى التفاصيل نسي أنه موسوس، وبدأ يتكلم عن التفاصيل كأنه يريد أن يستبرئ لدينه، وهو في الأول يعرف أن هذا كان من الشيطان، وأن الشيطان هو الذي يدفعه إلى ذلك.
إذاً: فتذكري -أيتها الأخت الكريمة- أن كيد الشيطان كان ضعيفاً، وتذكري أن الشيطان ما استقر وباض وفرخ في قلبك إلا بسبب أنك استجبت له أول الأمر، وهذا لا بد أن تعرفيه جيداً.
أيضاً في هذا المجال يقول الله عز وجل حكاية عن قول الشيطان الأكبر يوم القيامة: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] إذاً لم يكن للشيطان سلطان على الإنسان، إلا أنه دعاه فاستجاب له {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] .
فالوسواس ذنب وإثم يجب التوبة منه والمسارعة بذلك والإقلاع عنه، وإن ترتب على ذلك حزن مؤقت للإنسان بسبب تركه لأمر اعتاده، فإنه يعقب هذا الحزن سعادة طويلة في الدارين بإذن الله تعالى.
أختي الموسوسة: اعلمي تبعاً لذلك أن طول بقاء الوسواس في نفسك ليس في صالحك، والوقت ليس في صالحك، كل يوم، بل كل ساعة، بل كل دقيقة تقضينها وأنت في حال وسواس؛ فإن الشيطان يزداد فيها رسوخاً واستقراراً في قلبك، ويبني فيها أبراجاً جديدة، وحصوناً جديدة، وقصوراً جديدة في قلبك، فإذا حاولت التخلص منه وجدت أن القوى الشيطانية قد تغلغلت وتمكنت، وإذا كنت تقولين هذا قد حصل الآن، فالوسواس -مثلاً- معي منذ ست سنوات، فإنني أقول: وأيضاً إذا زاد الأمر عن ست سنوات كان أصعب، ومع أن الوسواس له ست سنوات، فإن الله تعالى يقول في كتابه: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] وهذه الآية لا يزال مفعولها سارياً حتى بعد ست سنوات، أو قبل ست سنوات، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهي حكم قطعي ثابت لا يتخلف أبداً.
أختي الموسوسة: واعلمي أيضاً تبعاً لذلك أن المكث في الأماكن القذرة، ومأوى الشيطان مما يزيد الوسواس في قلبك، فمع الأسف الموسوسون ربما يجلس الواحد منهم ساعتين في دورة المياه، في انتظار قطرة من بول يظن أنها تخرج، وفي انتظار أن يستكمل ذلك، ثم يتوضأ، أو يستجمر ويستنجى، ثم يعيد مرة أخرى، وثالثة، وعاشرة وهكذا يكرر.
وقد يقوم ويقعد ويتنحنح، ويتحرك ويقفز إلى غير ذلك بحجة إخراج ما في جوفه من هذا البول وغيره، ثم إذا بدأ في موضوع التطهر وإزالة النجاسة، أصابه من ذلك ما قرب وما بعد، وينسى هذا المسكين المغفل أن الشيطان يكسب منه في ذلك مكاسب عديدة منها: إيذاؤه بهذا الوسواس، وتفويت العبادة عليه، وتبغيض العبادة إليه، وشغله بأمور تضره ولا تنفعه.
ومنها: أن مكثك في دورة المياه وفي الخلاء هو في مصلحة الشيطان؛ فهذه الحمامات تقيم فيها الشياطين؛ لأنه يقيم في الأماكن القذرة، وفي الأماكن الرديئة، وفي الأماكن الخربة، وفي أماكن النجاسات والقاذورات، وفي أعطان الإبل، ومباركها.
فالشيطان يجلس وينام ويستقر -إن كان له ذلك- في الأماكن التي تناسبه وتلائمه، فإذا جاء إلى الأماكن التي يوجد فيها الخير، والذكر، والقرآن، والعلم، والحديث والصلاة، وتتردد فيها الملائكة، صاعدة هابطة، فإنه يخاف -كما أشرت- قبل قليل ويبتعد، فهو لا يستطيع المواجهة، بل يتهرب إلى هذه الأماكن القذرة، ولذلك: أولاً: لا بد من الاعتصام بالأذكار عند دخولها اعتصاماً جيداً، فتقول: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، ويستعيذ بالله من الشياطين ذكرانهم وإناثهم، ومن مكرهم، وكيدهم، ثم يجلس في دورة المياه بقدر ما يحتاج ولا يزيد، فإن طول مكثك فيها لا شك أنه ليس في صالحك بل هو في صالح الشيطان.
إن مثل قلب الموسوس في ظني وتقديري وحسابي -خاصة إذا طال معه الوسواس- أشبه ما يكون بمجموعة من اللصوص احتلوا بلداً، وطردوا منه أهله، وهم يتوقعون أن يغير عليهم أهل البلد ليستردوا أرضهم صباحاً أو مساءً، فماذا يفعل أولئك اللصوص؟ لا شك أنهم سوف يحفرون الخنادق، وسوف يحصنون المدينة، وسوف يضعون أجهزة للمراقبة، وسوف يضعون كمائن، وسوف يبنون مباني ضخمة بقدر ما يسمح لهم الوقت، حتى يتحصنوا بها من القوة التي سوف تهاجمهم صباحاً أو مساءً، وهكذا الشيطان تقريباً، قد احتل قلبك، أو مواقع كثيرة من قلبك، فلذلك هو يتحصن ويبني له معاقل، وأسواراً وحصوناً منيعة يوماً بعد يوم، وكل الوساوس كذلك، ولهذا لا بد أن تضعي هذا في الاعتبار، وتفكري جيداً في النقطة الثانية في موضوع الوسواس التي أريد أن أطرحها الآن، وهي بيت القصيد وهي قضية كيف أعالج الوسواس؟!(171/6)
علاج الوسواس
وفيما يتعلق بالعلاج فإني أشير إلى النقاط التالية:-(171/7)
الحزم القاطع الصارم على ترك الوسواس
العلاج الرابع: هو الحزم القاطع الصارم الذي لا تردد فيه، والإصرار على أن يرفض الإنسان جميع صور الوسواس، وأن يكتفي من الوضوء، والغسل، والطهارة والصلاة، والنية، وغيرها، بمثل ما عليه المؤمنون، والعلماء، والصالحون ويقتصد في ذلك، فإذا نجح في هذا وقاوم الأمر وأصر عليه فالحمد لله، وإلا فإني أقولها صريحة للأخت الموسوسة ولكل الموسوسين من ورائها: لا داعي لاستهلاك أوقاتكم وأوقات الآخرين لطلب نصيحة لا تنفذونها، وتوجيه لا تعملون به، وتأكدوا جيداً أنه ليس هناك وصفة طبية يتعاطاها الموسوس عبارة عن حبة في الصباح، وحبة في الظهر، وحبة في المساء تصرف لكم ثم يكون فيها زوال الوسواس! وإن كان بعض هذه قد ينفع أحياناً، لكن فيما يتعلق بزوال الوسواس في القلب، ليس هناك وصفة طبية يتعاطها الإنسان ثم تزول، إنما هي توجيهات ونصائح وإرشادات وتقوية لعزيمة الإنسان وإرادته يترتب عليها أن يخلص من هذا الأمر، فإذا عجز الإنسان عن ذلك -لا أقول عجز- لكن إذا لم يفعل ولم ينفذ فلا يظن أن الناس يملكون له أكثر من ذلك.(171/8)
استشعار الذنب
الأمر الثالث: من وسائل العلاج استشعار الذنب، وأن الوسواس ذنب يتاب منه فهو ذنب من وجوه عديدة.
أولاً: مخالفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم: حيث إن الموسوس لم يسعه ما وسع ملايين المسلمين عبر العصور، الذين حجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام حجة الوداع مائة وأربعة عشر ألفاً، ما فيهم موسوس، والتابعون كذلك، ثم هذه الأمة الممتدة في شعاب الزمن جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل.
تصوري كم رجل وكم امرأة عاشوا على ظهر الأرض منذ البعثة إلى اليوم، إنهم خلق لا يحصيهم إلا الله عز وجل ألا يسعك ما وسع هؤلاء الملايين؟! بل ألوف الملايين من الأمم التي هي أحسن هدياً، وأكثر صدقاً، وأصلح قلباً، وأوسع علماً، وأقل تكلفاً، ألا لا وسَّع الله على من لا يسعه ما وسع هذه الأمة منذ نبيها صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين هم خير القرون، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الأشهاد، ألا لا وسَّع الله على من لم يسعه من الهدي ما وسع هؤلاء.
فليحذر الإنسان أن يكون عرضة لدعوة المؤمنين عليه بالضيق، وأن يعاقب على هذا الأمر الذي يفعله تديناً، ومع ذلك هو عرضة لعقاب الله تعالى وأخذه له في الدنيا والآخرة، فإن هذا يعاقب عاجلاً، ومن عقوباته العاجلة: أنه إذا لم يسارع بالإنقاذ وإخراج نفسه من هذه الورطات؛ فإن الأمر قد يزيد في شأنه، وقد يصبح يوماً من الأيام وكأنه يشعر أن لا علاج له، وإن كنا نؤمن قطعاً أنه ما أنزل الله من داء إلا له دواء علمه من علمه وجهله من جهله، هذا نؤمن به ولا شك.
ثانياً: أيضاً وجه كون الوسواس ذنباً من جهة الإسراف: فإن الموسوس يسرف في استخدام الماء: في الغسل والوضوء، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام أبصر الناس، وأطهر الناس، وأعبد الناس، وأصلح الناس، وزوجه عائشة رضي الله عنها أخذت عن الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، فكيف كانت تغتسل؟ هل تعجبين أيتها الأخت إذا قلت لك ما في صحيح مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وعائشة {كانوا يغتسلون بثلاثة أمداد} أي: أقل من صاع، غسل وهم أوفى منَّا شعراً، وأكبر منَّا أجساماً، وأعمق منَّا علماً، وأقل منَّا تكلفاً، وأحرص منَّا على الخير، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فالذي لا يسعه هذا الهدي ولا يعجبه هذا المسلك؛ فليختر لنفسه طريقاً آخر غير الطريق الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدياً آخر غير الهدي الذي سار عليه عليه الصلاة والسلام.
ومن أحبت منكن -أيتها الأخوات المؤمنات- أن تحشر في زمرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ترد حوضه، وأن تكون معه في الجنة، فلتلزم هديه وغرْزَه، ولتحاذر كل الحذر أن يجرها الشيطان إلى هدي آخر أو إلى طريق آخر غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: التقصير في العبادة من أوجه: كون الوسواس ذنباً فهو مدعاة للتقصير في العبادة، والإخلال بما أوجب الله تعالى، فما هو الذي أباح لكِ -أيتها الموسوسة- أن تقطعي صلاتكِ بعدما شرعت فيها؟ فإن هذا عبث وتلاعب بالعبادة، كيف تقولين: الله أكبر وأنت مستقبلة القبلة، ثم بعدما تُكبري تقولي: هاه!! يمكن أني لم أنو؛ ويمكن أني نسيت ولم أغسل اليد اليمنى أو اليسرى، أو لم أمسح الرأس، ويمكن أن بقعة لم يصبها الماء، ويمكن يمكن ثم تفرض من هذه الفرضيات الخيالية التي لا تنتهي أبداً، ثم تقطع صلاتها، وتذهب لتتوضأ مرة أخرى، أو تقول: ربما لم أنوِ، أو لم أكبِّر، أو إذا تعدت عملاً قالت: قد لا يكون فعلته، يمكن، يمكن، … وهكذا.
ما هو الدين الذي أباح لها ذلك؟! أي شريعة أباحت لها ذلك؟! وأي نص أباح لها ذلك؟! هل نحن نعبد الله بأهوائنا وبأمزجتنا وبميولنا وآرائنا الشخصية، أو نعبد الله تعالى بما شرع؟! نحمد الله تعالى الذي لم يترك مجالاً في أمور الشرع إلا وبينّه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فهاتِ لنا -بالله عليك- إذا كنت تعرفين نصاً يؤيد ما تزعمين وتفعلين.
كل الناس يرغبون أن يرضوا الله تعالى وأن يطيعوه، وأن يسيروا على نهج رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان عندك من العلم والمعرفة بطريقة العبادة والوضوء والغسل والصلاة والصيام والنية ما ليس عندهم فهات، هات حتى يشاركك غيرك في هذا الخير الذي تزعمين أنه عندك ولم يصل إلينا، أما إذا كنت تعرفين أنه باطل فلا داعي لأن نخدع أنفسنا، ونسأل أسئلة باطلة لا يسأل عنها، فالباطل يترك جملة وتفصيلاً، ولا يلزم أن يعرف الإنسان تفاصيل الباطل حتى يتركه، بل الباطل باطل يترك بدون سؤال.
رابعاً: ومن أوجه كون الوسواس ذنباً وإثماً يتاب منه، ويستغفر منه: أن فيه إساءة للآخرين وظلماً لهم، وبخساً لحقوقهم، فالزوجة تسيء إلى زوجها، وتمنعه حقه، فهي أبداً إما في دورة المياه، وإما تصلي، وإما في غرفتها تبكي مع نفسها فتمنع زوجها من الاستمتاع الذي أباحه الله تعالى لهم، وهذا ظلم له، والزوج إذا كان مبتلى بالوسواس، فهو يسيء للآخرين، يسيء لزوجته، فهو يفكر أبداً في الطلاق، ويقول: أظنه خرج مني، أو فكرت فيه، أو نويته، ونية الموسوس لا عبرة بها؛ لأنها ليست نية في الواقع، وكل شيء يخطر في باله يتحول إلى نية في ظنه، فيأتي ويقول: أنا نويت الطلاق ولم أنطق به، وقد يأتي إلى إنسان لا يعرف حاله فيقول: نويت الطلاق ولم أنطق به، فيقول له: ما دام أنك نويت الطلاق فهو واقع: {إنما الأعمال بالنيات} ويظن هذا المسكين أنه طلق زوجته، وقد يراجعها بناء على أن الطلاق الأول حصل، فيقول: ما دام حصلت الرجعة إذاً الطلاق حاصل من باب الأولى، وهكذا يظل المسكين في سلسلة من الأوهام والظنون والأخطاء، والسبب كله هو جهل هذا الإنسان، وعدم معرفته بحاله، ولا بحكم الله تعالى في أمثاله، فيسيء هذا الموسوس إلى زوجته، ويمنعها حقوقها من الاستمتاع المباح، والمعاشرة بالمعروف بسبب هذا الكيد الشيطاني، وهذا الوسواس الذي تغلغل في قلبه.
خامساً: من أوجه كون الوسواس ذنباً: أن فيه تشويهاً لسمعة الدين، وتشويهاً للمتدينين، وإنه ليسوءنا جميعاً معشر أهل الإسلام، ومعشر المنسوبين إلى الخير، يسوءنا أن يكون الموسوسون من بيننا، وأن يحسبون علينا، لأن الناس إذا أرادوا أن يذموا إنساناً، أو يسخروا منه قالوا: فلان موسوس، فيكفي هذا ذنباً له، وحطاً من قدره.
إذا قيل: موسوس، تصورنا إنساناً يتحرك بصورة معينة، ويتردد في كل شيء، ويشك في كل شيء، وله حالة خاصة، ونفسية خاصة، فهو يسيء إلى سمعة الدين ومظهر المتدينين، ويمنع كثيراً من الناس من الالتزام بهذا السبب.
إذاً فأنتِ -أيتها الأخت الموسوسة- من حيث تشعرين أو لا تشعرين أسأت إلى الدين والمتدينين، فيجب أن تكفي عن هذا الأمر، وأن تعيدي التصور الصحيح عن المتدينين، وتزيلي هذا المظهر السيئ وهذه السمعة السيئة التي نَمت إليهم من خلال فعلك وأفعال أمثالك من الموسوسين والموسوسات.
فضلاً عن الانقطاع عن مصالح الدنيا والآخرة، الموسوس لا يقرأ القرآن إلا قليلاً، ولا يذكر الله إلا قليلاً، ولا يصوم إلا قليلاً، ولا يصلي إلا قليلاً، لأنه مشغول بهذه الوساوس التي انقطع بسببها حتى عن مصالحه الدينية، أما المصالح الدنيوية فحدّث ولا حرج، فالموسوس ربما فكر في ترك الوظيفة، وترك الدراسة، وترك أشياء كثيرة والتفرغ لهذا الوسواس.
والأخوات المبتليات بهذا الأمر يقال فيهن ما يقال في الذكران، فالموسوسة تترك التدريس، وتترك الوظيفة وما فيها من إصلاح وخير وبر ونفع للخلق وهداية، وتنقطع لهذا الأمر، وتترك مصالحها الدنيوية فقد لا تقوم -كما أسلفت- بحقوق زوجها من طبخ، وتنظيف للمنزل، وغسل للثياب وكيها، وإصلاح شئونها، والقيام على أطفالها، لماذا؟ لأنها مشغولة بهذا الأمر الذي استحوذ عليها وأصبح يمنعها من كل شيء.
وهذا لا شك إثم يُتاب منه، وباب التوبة مفتوح كما قال الرسول عليه السلام: {لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها} .
سادساً: ومن أخطر ما يجعل كون الوسواس إثماً، أنه مخالفة صريحة واضحة صارخة لنصوص الكتاب والسنة التي بين الله تعالى فيها رفع الحرج، وهي كثيرة: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5] {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن هذا الدين يسر ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، والقصد القصد تُبلغوا} أين القصد؟! وأين اليسر؟! وأين التسديد؟! وأين المقاربة؟! بل هو -والله- الحرج كل الحرج، والشدة كل الشدة، والعسر كل العسر، والجور كل الجور، وليس فيه رائحة التيسير، والرفق، والقصد.
ويا ترى هل تؤمن الأخت الموسوسة بنصوص الكتاب والسنة المصرحة بنفي الحرج، ونفي العسر، وهداية الرسول صلى الله عليه وسلم لليسرى، وتيسيره لها؟! لا شك أنها تؤمن ما دامت مسلمة.
إذاً: الحال التي تعيشها هل تعتقد أنها يسر؟! كلا والله، بل هي الحرج كل الحرج، والله عز وجل خفف عن الخلق في الشرع أموراً دون ما تعانيه الموسوسة بمراحل كثيرة، ومع ذلك يسَّر عليهم فيها، وخفف عليهم فيها بنفي الحرج عنه، وبيان الفسحة في الدين، فما بالنا نشدد على أنفسنا في أمور يسرها الله تعالى علينا فيما دونها كثيراً كثيرا.
فليحذر الإنسان أن يكون مشرعاً لنفسه غير ما أنزل الله، وحاكماً لنفسه بغير ما أنزل الله، ومختاراً غير طريق الله، ومبتغياً هدياً وسنةً غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، ليحذر من ذلك، وليستشعر أن هذا ذنب، ينبغي أن يسارع في التوبة منه.(171/9)
عدم الاكتراث بالوساوس
ثانياً: عدم الاكتراث بوساوس وخواطر الشيطان وتخييلاته وشكوكه أياً كانت هذه الوساوس: وساوس في الله تعالى، أو في اليوم الآخر، أو في القرآن، وكثير ما تشتكي إليّ بعض الأخوات أشياء من ذلك كثيرة جداً.
فأهم علاج بعد الاعتماد على الله تعالى واللجوء إليه، هو عدم الاكتراث بذلك، لا يكترث الإنسان بتردده في طهارة، أو صلاة، أو صوم، أو نية، بل يستمر على ما هو بصدده، ويدع هذه الوساوس جانباً، فإن شدة اهتمامك بذلك، وشدة خوفك منه، وكثرة تفكيرك فيه، وانشداد أعصابك، ووصول هذا الأمر في نفسك إلى حد أنه أصبح ينغص عليه حياتك هذا في حد ذاته يعتبر مكسباً للشيطان، فإذا نظر إليك وأنتِ مسكينة مكفهرة، قلقة، كئيبة، فإنه يسر بذلك ويفرح أيما فرح، ويكفيه هذا نجاحاً، فالشيطان كالكلب إذا حارشته نبحك، وإذا أعرضت عنه ولى وتركك.
إنني أرثي لحال بعض الأخوات، وأحزن لحزنهن ممن تكتئب من هذا الوسواس بشدة، وتخاف، وتفزع، وتقلق، وتوجل، فتتكلم ونظراتها تتقطع بالبكاء، والنحيب، والشهيق، والحزن، كلا، بعدما تستخدمين الوسائل الشرعية من الأذكار اهدئي واطمئني، والأمر أهون من ذلك، والشيطان لا يمكن أن يبلغ بك ما تخافين ما دمت قد اعتصمت بالله تعالى فلا تخافي ولا تحزني.
حاولي أن تقللي من الاكتراث والخوف من هذا الوسواس، ولا تعطيه من الأهمية هذا الحجم الكبير، الذي هو واقع الآن، وقللي من مخاوفك تجاهه، فإن هذا من أعظم وسائل علاجه، فإنك بذلك تسحبين الفتيل؛ لأن الشيطان لا يعرف ما في قلبك، حتى لو كان في قلبك شيء من الخوف، لكنك أظهرت التجلد فإنك تخدعين الشيطان بذلك، فيظن أنه ما نجح معك، الله هو الذي يعلم خفايا النفوس، أما الشيطان فلا يعلم الغيب، ولذلك قد يكون في قلب الإنسان خوف، لكن يظهر الجلد، والصبر، حتى يصبح صبوراً، جلداً، والشيطان ينخدع بذلك.(171/10)
الذكر والدعاء
أولاً: لا بد من الاستعاذة والذكر والدعاء: فإن الدعاء حرز، أي: حرز من كيد الشيطان وتزيينه، ولا بد من التوكل على الله تعالى؛ فإن الله هو القوي الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وهو القادر الذي لا يعجزه شيء، ولهذا فإن العبد يفر إلى الله تعالى من كل ما يخاف، ويرغب إليه تعالى في كل ما يرجو: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)) [الذريات:50] .
أيتها الأخت المؤمنة: فري إلى الله، اهربي إلى الله تعالى، اهربي إليه من كيد الشيطان، لوذي وعوذي بجنابه وكنفه جل وعلا، واصدقي في ذلك، فإن الله تعالى لا يمكن أن يدع عبده الذي صدق في الولاء له، والتوكل عليه والإنابة إليه والرغبة أن يدعه للشيطان، ووسواس الشيطان، واحرصي على الأذكار والأدعية الواردة في السنة النبوية: أذكار النوم، أذكار اليقظة، أذكار الصباح، أذكار المساء، أذكار الدخول والخروج، والوضوء، والصلاة، أذكار العبادات من صوم وحج وغيرها، احرصي على ضبط هذه الأذكار، وترديدها بيقظة قلب وحضور في مناسبتها.(171/11)
حملة تطهيرية لطرد الوسواس
كل ما ينصح به الموسوس والموسوسة، وأنصحك أنت أيتها الأخت بصفة شخصية؛ أن تقومي بحملة تطهير واسعة النطاق لطرد الشياطين من قلبك، وإعادة المياه إلى مجاريها، والأنس بذكر الله، واستغفاره، ومحبته، وعبادته بصورة طبيعية، مثل ما عليه العلماء وطلاب العلم والصالحون وسائر المسلمين ولا تسمحي لنفسك بأكثر من ذلك؛ فتقعين فيما تخافين وتهربين منه.
وخلال هذه الحملة التطهيرية التي لا بد منها والتي تقومين بها على نفسك وعلى شياطينك، خلال هذه الحملة التي أعتقد أنها لب العلاج بعد الاعتماد على الله عز وجل تحتاجين إلى أمور:(171/12)
مراجعة طبيب النفس
عاشراً وأخيراً: لا أرى حرجاً لمن طال به السقام، وأعياه الشفاء، وتوسع في نفسه موضوع الوسواس، وكان له جوانب أخرى في نفسه، لا أرى حرجاً أن يراجع طبيباً نفسياً موثوقاً من الأطباء النفسيين المؤمنين الصالحين الخيرين، ويعرض عليه حاله، فإنه قد يساعده بنصائح أو توجيهات أو علاجات معينة قد تساعده، وإن كنت أقول جزماً: إنها لن تغني عن هذه النصائح التي ذكرتها وما شابهها من النصائح والتوجيهات الدينية الشرعية التي هدفها تقوية عزيمة الإنسان، وتقوية إرادته، وجمع نفسه على التخلص من هذا الأمر، والشد من عزيمته، لكن هذه العلاجات النفسية التي قد يقولها الطبيب النفساني المؤمن الموثوق لا مانع أنها قد تساعد في مثل هذه الأمور، خاصة وأن الوسواس قد يكون له جوانب أخرى، أو أغوار في نفس الإنسان، ليس مجرد الجهل -كما أسلفت- بل له أسباب غير ذلك.(171/13)
الانتقال إلى عمل آخر وعدم الالتفات إلى الشك
رابعاً: إذا شكك الشيطان في عمل فانتقلي مباشرة إلى ما بعده، واحسمي قضية الشك، فمثلاً أنتِ تتوضئين وغسلت يديك، وقال الشيطان: لم تنوِ، فلا ترجعي وتقولي سأنوي ثم أغسل يدي، هنا الخطأ، فإذا غسلت يديك، فقال الشيطان: لم تنوِ فانتقلي مباشرة إلى المضمضة والاستنشاق، فإذا قال: لم تتوِ فانتقلي مباشرة إلى غسل الوجه، فإذا قال: أبطلي الوضوء واستأنفي من جديد، فانتلقي إلى غسل اليد اليمنى، قال لك: لا ينفعك الناس والمرشدون والمفتون، انتقلي إلى غسل اليسرى، قال هذه المرة فقط لعلك تستأنفين الوضوء، والمرة الثانية من أول الوضوء تكونين قد ضبطتِ الأمر وانتهيت من الوسواس انتقلي إلى مسح الرأس فإذا زاد وجمع عليك وألب جنوده انتقلي إلى غسل الرجلين، قال لك: ما دمت عند الماء، وفي دورة المياه يفضل أن تعيدي الوضوء مرة أخرى، فاذهبي إلى المصلى وصلي وكبري.
وهكذا كلما شككتِ في عمل، انتقلي إلى العمل الذي بعده، انتقلي مباشرة وبسرعة؛ ولا تدعي فرصة لمثل هذه الأشياء، لأن مجرد كونك تتوقفين لحظة واحدة، وتفكرين هل تفعلين أو لا تفعلين فإن هذا يعتبر كسباً للشيطان، والوقت في صالحه وليس في صالحك، فتفطني لهذا جيداً بارك الله فيك.(171/14)
احذري السؤال
خامساً: احذري
السؤال
سواء بصفة مباشرة أو بصورة هاتفية للمشايخ والعلماء فالطريق أمامك مرسوم، والأمر واضح، وليس في ديننا -ولله الحمد- تعقيد، ولا غموض، ولا إشكال، خاصةً في هذه القضايا، فهي أمور يعرفها الخاص والعام، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، وهي أصبحت عند الكثيرين -خاصة عندك أنت- من البدهيات الظاهرة.
كيف يتوضأ الإنسان؟ كيف يتطهر؟ كيف يغتسل؟ كيف يصلي؟ إن هذه أصبحت أموراً ظاهرة، واحذري أن ترفعي سماعة الهاتف للاتصال بفلان أو علان للاستفسار عن أي قضية تتعلق بالوسواس، ولذلك أقول لبعض الأخوات اللائي يتصلن بي، وكذلك لبعض الإخوة: بالمناسبة إنني أكره أن أسمع سؤالاً يتعلق بالوسواس في الهاتف، فإنه مقلق، ومضيعة للوقت، وممل -كما سلف- وإذا كان ولا بد فلتكن رسالة بريدية، أهون بكثير من أن تكون مكالمة هاتفية، وبعض الشر أهون من بعض.
المهم يا أختاه: احذري من الاتصال أو السؤال أو الاستفسار، فإن الطريق أمامك مرسوم، والمنهج واضح، والأمور بينة، ولا داعي لأن نضحك على أنفسنا، ولا داعي لأن نلعب على أنفسنا، ونحن نعرف كل شيء، وقد اتضحت لدينا الأمور في هذا الجانب، فكوننا نرفع السماعة لنتصل فإن هذا مجرد تعبير عن قلق أو ضيق نعانيه، ونريد أن نزيل هذا الضيق، أو نخفف هذا الضيق عن أنفسنا بالاتصال بفلان وعلان.
وفلان وعلان لا يملكون لنا من الله شيئاً، وأقصى ما يستطيعونه أن ينصحونا، وقد فعلوا ونصحوا وبذلوا ما يقدرون عليه، فبعد ذلك ينبغي أن نضع الأمر أمام أنفسنا بصورة جلية واضحة، وهذه النصائح موجودة إما أن ننفذ ونصبح أناساً جادين كغيرنا من الناس ونسلك الطريق، وإذا لم نفعل فلنلم أنفسنا، ولننكفئ على أنفسنا، ولا داعي لأن نتصل بهذا، وذاك، والثالث، والرابع، والسؤال نعيده ثلاثين وأربعين مرة، ونتصل بعشرين وثلاثين وأربعين شيخاً.(171/15)
الانتقال من عمل إلى بدله عند العجز
سادساً: إذا شعرت بالعجز عن شيء، فانتقلي لما بعده، أو للبدل الذي يقوم مقامه، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فمثلاً: إنسان شعر بالعجز عن شيء، يقول: لا أستطيع فعل كذا وعجزت، نقول: اترك هذا العمل، ما دام أنك لا تستطيع فعله، وانتقل لما بعده، وإذا عجزت سقط عنك هذا الشيء الذي عجزت عنه، ولا أريد أن أضرب أمثلة في هذا المجال؛ لأنها كثيرة.
وكذلك يمكن أن ينتقل الإنسان عند العجز إلى البدل، إذا كان للشيء بدل -فمثلاً- عند العجز عن الوضوء بالماء، ينتقل إلى التيمم، والله عز وجل شرع لنا التيمم في حال المرض، أو فقدان الماء، أو خشية الضرر باستخدامه، فكيف إذا كان بعض الموسوسين وسواسهم -من قبل الشيطان- في الماء، وجاهد نفسه سنوات طوال، وهو يجلس عند الماء أزمنة طويلة، ويتوضأ ثم يعيد الوضوء، ويغتسل ثم يعيد الغسل، وقد أتاني أحدهم بعد ما ارتفعت الشمس وتعالى النهار، وهو يصرخ ويصيح ويقول إنه لم يصل الفجر حتى الآن، وأنه عجز عن الاغتسال، وهو ينغمس في الماء ثم يخرج منه، هذا قام بالواجب عليه، وهو أصلاً قام بالواجب لكنه لم يقتنع بأنه قام بالواجب، فنقول له: هذا سقط عنك، وهذا الذي قمت به قد قمت به، وعندك التراب فتيمم به.
فإذا عجز عن شيء انتقل إلى البدل عنه، أو عجز عنه وليس له بدل انتقل إلى ما بعده، وأنا أقول هذا لأن الأكثر أو كل الأشياء الذي يظن الموسوس أنه عجز عنها، هو في الواقع قام بها لكنه لا يدري أنه قام بها.
وذلك مثل النية لا يحتاج الإنسان أن يستحضر فيجلس ليستجمع نيته، فمثلاً: أنتِ توضأت الآن ثم أتيتِ ووقفت على المصلى مستقبلة القبلة، فمن المعروف أنك لم تقفي هنا لأجل أن تطبخي، ولا من أجل أن تعملي شيئاً آخر، إنما وقفت لأجل أن تصلي، فالأمر واضح، فهذه النية موجودة ومستقرة وتكلف استحضار واستجماع النية؛ هذا الأمر غير مطلوب، فالنية موجودة في الحالة هذه، لكن مع ذلك يقول الإنسان: أنا ما نويت، هذه النية كافية اترك كبر وانتقل، انتقل إلى ما بعد النية وهو التكبير، وهكذا، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع من شرح حديث: {إنما الأعمال بالنيات} يقول: إن النية أمر ضروري جبل عليه الإنسان، حتى لو أن الإنسان أراد أن يدفع النية عن نفسه لما استطاع، ولو قيل للإنسان: لا تستحضر النية فإنه لا يستطيع، وهذا من تكليفه بما لا يطاق، وكيف يفعل شيئاً من غير نية وهو إنسان عاقل بكامل قواه العقلية، فهو لا يستطيع أن يدفع النية، لأن النية تسبق العمل أصلاً، فالإنسان لا يقدم على العمل إلا بعدما ينوي ويهم ويعزم بفعل الشيء، ويتجه إليه إلا أن يكون مجنوناً، أما الإنسان العاقل فنيته وعزمه يسبق عمله، فهو يهم بالشيء ثم يفعله.(171/16)
التجلد والصبر
سابعاً: تماسكي وتجلدي فالفرج قريب، ولو قيل لك اصبري أسبوعاً أو عشرة أيام، مهما واجهت أو عانيت ولو كنت على مثل جمر الغضى، ما دام أنتِ الآن لك سنين طوالاً وأنتِ تذوقين الأمَرَّين من جراء هذا الوسواس، فالآن نحن نقول لك: بدلاً من هذه السنين الطويلة التي تعذبت فيها تجلدي عشرة أيام، ونفذي فيها هذه التعليمات بدقة، قومي على نفسك بهمة وعزيمة صلبه، وإرادة قوية، لا تعرف التردد والشك والخور، وأصري وصممي، ثم انظري النتيجة، ونحن لا نقول: سنة، بل نقول: عشرة أيام، وهذه -والله- تجربة وقفت عليها بنفسي في عدد من الإخوة الشباب، حتى إن أحدهم أتاني بعد أقل من هذه المدة، وقد شفاه الله تعالى تماماً وإلى الآن، فقط أن الرجل استجمع قوته واستحضر إرادته، وتوكل على الله عز وجل واستطاع أن ينفذ هذه التوجيهات بدقة، وخلال أقل من أسبوع جاء وهو يقول: إن الأمر عندي أكثر من طبيعي، وإنه أصبح شخصاً عادياً تماماً حتى كأنه ما به شيء، ولا مسه سوء قط.(171/17)
التصميم وتكرير العلاج
ثامناً: إذا فشلتِ مرة في ذلك وغلبك الشيطان، فكرري الأمر من نفسك مرة أخرى، واعلمي أن الناس لا يملكون لك من الله شيئاً، ولا يملكون أكثر من توجيهات لهذا الأمر، ولا تقنعي بحجة أنكِ عاجزة، فقضية: إنني عاجزة، احذري أن تقنعي نفسك بها، وهذه الحجة يدعيها مدمن المخدرات مع الأسف، وإذا قيل له في ذلك قال: أنا مدمن، وعجزت من الخلاص، ويدعيها متعاطي الربا فيقول: أنا وجدت لذة المال الحرام، والمكاسب الضخمة والفوائد، فيقول: لا أستطيع أن أتخلص من هذا، وعجزت عن ذلك!! ويدعيها متعاطي الزنا -والعياذ بالله، وحمانا الله تعالى وإياك، وإخواننا، وأخواتنا المؤمنات- يقول: بليت بهذا الأمر، وتولعت به نفسي، وأصبحت كثير التفكير فيه، فلا أستطيع أن أتخلص منه، ويدعيها الذي يشرب الدخان، يقول: لا أستطيع ترك هذا الأمر، فهل هذه حجة لهم؟! فهل هم معذورون؟! كلا، ثم كلا، ثم كلا.
وكذلك من ابتلي بأمر آخر بالوسواس أو غيره، فليس عذراً له عند الله عز وجل أن يقول: إنه عاجز، فالله تعالى قد أعطاه سمعاً، وبصراً، وعقلاً، وفؤاداً، وفهماً، وعلماً، وإرادة، فلا يجوز أن نُقنع أنفسنا بأننا عاجزون، وفعلنا ما نستطيع، ونصدق ما أملاه الشيطان علينا من ذلك.(171/18)
الاشتغال بما يفيد
تاسعاً: اشتغلي بما يفيدك دنيا وأخرى، واحذري الفراغ فإن الفراغ مفسدة، فاشغلي وقتك بالأمور النافعة، دينية كانت أو دنيوية، واملئي وقتك بهذه الأشياء، ولا تدعي فرصة لمثل هذه الوساوس والأفكار، فإن كثيراً من الفتيات ربما تجلس ساعات طوالاً واضعة خدها على يديها، وهي تفكر، وتسرح النظر والطرف، وتتأمل ما حصل وما جرى وما حدث، وكيف؟! وكيف؟! وكيف؟! وربما يكون هذا من أنفع الأوقات التي يتسلل فيها الشيطان ليملي عليها بطريقة ذكية خبيثة أموراً كثيرة، فلا تدعي فرصة للشيطان، بل اشغلي وقتك بما يفيدك دنيا وأخرى، فاملئي وقتك بالقراءة المفيدة، وبالعلم، وبالزيارة للأهل والأقارب والجيران وأولي الأرحام ممن لهم حق، وبالقيام بأعمال المنزل، وبسماع الأشرطة المفيدة، وبالكلام المفيد، وبالصلاة، وبقراءة القرآن، إلى غير ذلك من الأشياء التي تملأ وقت الإنسان.
إن الموسوس بحاجة إلى علاج نفسه أيضاً، ومن علاج النفس: أن يشتغل الموسوس بما يفيد، فيتصل بالناس ولا ينقطع عنهم، لأن الوسواس -أحياناً- مدعاة إلى أن الإنسان يعتزل الناس، وهو لا يريد أن يعلموا به، ولا يستطيع أن يعيش إلى جوارهم لأنه سوف ينكشف أمره بينهم، وقد يجد حرجاً، فلذلك يتجنب الناس، وخلال هذه العزلة التي ضربها الإنسان على نفسه، ويتفرد به الشيطان، فيعبث به أيما عبث.
إذاً: اشغلي وقتك بما يفيد، اختلطي بالصالحين، بالأقرباء، بالجيران من الطيبين والأخيار، وانفعيهم وانتفعي منهم، واجعلي لنفسك أهدافاً تعملين عليها، فتعملين على إصلاح الجيران، والأقارب، والأهل، ومن حولك، وعلى أن تنفعي هؤلاء، وتوصلي الخير والبر والإحسان إليهم في أمور دينهم ودنياهم، وستجدين لذلك ثمرة طيبة بإذن الله تعالى.(171/19)
عدم الإصغاء للمخاوف
الأمر الثالث: عدم الإصغاء للمخاوف والإرهاب والابتزاز الذي يمارسه الشيطان معك، فأنت خبيرة لا تحتاجين إلى أن تخبري، ماذا يقول لك الشيطان حينما تعملين بهذه النصائح؟ يقول: صليت بغير وضوء، وتوضأت بغير نية، وفعلت كذا وفعلت والذي يصلي بغير وضوء فهو كالمستهزئ بالله وهذا كفر بالله، وقد تموتين وأنت على تلك الحال، ولا يزال الشيطان يضع جمراً تحتك حتى كأنما تتقلبين على جمر الغضى من وساوسه ومخاوفه، وهذا معروف أيضاً، فأنصتي إلى كتاب الله تعالى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] أي: لا تخافوا أولياء الشيطان، ولا تخافوا الشيطان، وخافوني إن كنتم مؤمنين، لماذا لا تخافين الله عز وجل أن يراك وأنت على هذه الحال المخالفة لهديه وأمره وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟! وأنت قطعاً تعلمين ذلك، ولهذا تفزعين إلى السؤال، وتدركين أن ما أنتِ عليه ليس هو ما يريده الله تعالى ويرضاه شرعاً، فكيف ترضين أن يراك الله عز وجل في حال لا يحبها سبحانه؟ ومع ذلك تستجيبين لتخويف الشيطان وابتزازه الذي لا يزال يثير هذه المخاوف الوهمية الكاذبة في نفسك: لا تموتي على الكفر! صليت بغير وضوء! توضأت بغير نية! لم تقولي: بسم الله! وربما نويتِ نقض الوضوء! إذاً أعيدي من جديد! وهكذا يظل يضحك، ويضحك، ويضحك، وأنت أيتها الأخت الكريمة -وأقول: المسكينة أيضاً- تستجيبين له بهذه الصورة المحزنة، هذا لا يجوز ولا يسوغ أبداً.(171/20)
عدم الالتفات إلى الشكوك
الأمر الثاني الذي لا بد منه من خلال تلك الحملة التي نبهت إليها: هو عدم الالتفات إلى أي شك يطرأ في نفسك في عمل من الأعمال، بل هذا الشك وإن بقي في نفسك وإن تردد شيئاً ما، ينبغي ألاَّ يتحول إلى شيء يقلقك، ثم إلى شيء تفعلينه وتعملين به، فإذا شككت -مثلاً- في انتقاض الوضوء فمهما تردد هذا الشك في نفسك لا تعملي به.
فإذا توضأتِ فلا تعيدي الوضوء، وإذا صليتِ فلا تعيدي الصلاة، وإذا سجدتي فلا تعيدي السجدة، أما إذا أصغيت لهذا الشك ثم عملت به فحينئذٍ فأنت كالذي أشبهت من بعض الوجوه ما وصف الله تعالى به المنافقين، من قوله: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45] فاحذري من الشك والتردد في الشك والإنصات له، والعمل به، فإن الشك أحط رتبة من الظن، والله عز وجل يقول: {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم:28] {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] فاحذري، ثم احذري، ثم احذري، هذا لمن يريد النجاة!!(171/21)
الاقتصار على أقل المشروع
أولها: الاقتصار على القدر المشروع فقط، فعند الوضوء -مثلاً- تتوضئين مرة مرة، فإن كان ولا بد فمرتين، فإن كان ولا بد فثلاثة ثلاثة، ولا تزيدي على هذا أبداً، فإن الزيادة حرام وإثم وإن وجد عندك شك أو تردد في أن هناك بقعة لم يصبها الماء، مثل ذلك في الغسل فعليك أن تعممي بدنك بالماء مرة واحدة، ولابد من الاقتصار على القدر الواجب والمشروع، وعدم السماح للنفس بالزيادة عليه في حال من الأحوال، حتى لو فرض جدلاً أنما خافه الإنسان وما خفتيه وقع فعلاً، فإذا غسل إنسان يده مرة، ومرتين وثلاثاً، ومع ذلك بقيت بقعة لم يتفطن لها وربما نبا عنها الماء، مع أن الماء بطبيعته سيال لطيف، ولكننا نفترض هذا جدلاً على أسوأ الأحوال، فهل يطلب من الإنسان تبليغ ذلك ضرورة بحيث يقطع بأنه حصل أو يعمل بما ظهر له؟ إن الشارع إنما تعبدنا بما يظهر لنا، وإلا فإن اليقين في كثير من الأمور عزيز، أرأيت -أيتها الأخت الكريمة- الفطر يوم يفطر الناس، والصوم يوم يصومون، والحج يوم يحجون، أي: إذا ظهر للناس إن هذا اليوم عيد فأفطَروا بحسب ما قام عندهم من الأدلة وجاءنا شاهدان على ذلك، أو أنه صيام فصاموا، وقد يكون أحد هذين الشاهدين ظاهره العدالة وحقيقته خلاف ذلك، أو كلاهما خلاف ذلك، فهل الناس مؤاخذون بهذا؟ أم الأمر على الحقيقة خلاف ما عملوا به؟ إنهم ليسوا مؤاخذين.
أرأيت إنساناً سافر وفي الطريق أراد أن يصلي فاجتهد وصلى إلى ما يظن أنه القبلة، وبعد فترة تبين له أنه صلىَّ إلى غير القبلة، هل نقول: إنه آثم؟! أو نقول له: أعد الصلاة؟! كلا.
لا إثم ولا شيء عليه، ولا يعيد الصلاة، بل هو صلى كما أمر وبحسب ما يستطيع، وهذا هو الذي يكلفنا الله عز وجل به.
إذاً، هذه الاحتمالات ينبغي أن نضرب عنها صفحاً، ولا نجعل لها في أنفسنا مكاناً ولا مستقراً، مثل احتمال أن هناك بقعة ما أصابها الماء، أو موضعاً ما جاء إليه الماء، إذا ابتدأنا بهذه الاحتمالات، فمعنى ذلك أن الوسواس لن يزول عنا أبداً، فالوسواس هو احتمالات يضعها الإنسان على أنها حقائق، وما يدرينا؟ يمكن، يمكن وبالتالي لا يفرغ منها أبداً.
فإذا أردت الخلاص فقضية الاحتمالات هذه ينبغي ألاَّ يكون لها مكان في نفسك، فاقتصري على القدر الواجب فقط، بل لا بأس ألا تغسلي إلا مرة واحدة في البداية، حتى تجدي أنك تغلبتِ على هذا الأمر، ثم تلتزمين بالسنة وهي الغسل ثلاثاً.(171/22)
بعض التجارب الإيجابية
وأختم هذه النصائح والتوجيهات بالإشارة إلى بعض التجارب الإيجابية النافعة في هذا المجال.(171/23)
قصة أخرى
وقد أتاني أحد الشباب -ولعلي أشرت إلى قصته إشارة عابرة- يشتكي من الوسواس، فجلست معه جلسة مختصرة لضيق الوقت، وكثرة من يرغبون في مثل ذلك، والمشاغل لا تسعف ولا تسمح بهذا أبداً، فجلست معه وبعد توجيه ومناصحة، قلت له بقوة وحدة: إذا عملت بهذه النصائح فيمكن أن أستقبلك بعد أسبوع، وإذا لم تعمل بها فأرجو أن يكون طريقك على غيري، ولا تشغلني وتشغل نفسك، وتضيع وقتي وتضيع وقتك، وأنا ما عندي إلا كلام واحد هو ما قلته لك، فإن نفع فيك، فيمكن أن ننتقل إلى غيره، وإلا فابحث عن غيري.
بعد أسبوع أتاني وهو يقول: هذه المرة فقط أرجو أن تجلس معي وتفرِّغ لي ولو نصف ساعة، وأمام إلحاحه، قلت له: أفرغ لك نصف ساعة، لكن ثق ثقة تامة أنه إن تكرر الأمر فإنه ليس لدي أي وقت لتكرار مثل ذلك، فجلس عندي نصف ساعة، وشددت من عزيمته، وشحذت همته، وأكدت عليه الأمر، وخرج من عندي وهو مصمم ومصر على أن يتخلص من هذا الوسواس، ويقوم بما أشرت إليه قبل قليل من هذه الحملة التطهيرية الواسعة على نفسه، وعلى شيطانه، وأن يعمل كما يعمل الناس، وقد فعل ذلك، وبعد فترة ليست بالطويلة -والله- لقد آتاني، وكأنه لم يصبه شيء، ويقول -سبحان الله- ما أسهل الأمر! مجرد قشر رقيق يحتاج إلى شجاعة لتمزيقه، وبعد ذلك يخرج الشيطان، ويغادر إلى غير رجعة.
وفي مقابل ذلك لا أستطيع أن أتجاهل حالات أخرى، حيث أتاني أناس آخرون في مثل ذلك، وأكثروا من التردد، وكان الواحد منهم يجلس معي ربما ساعات، وبعدما يخرج ينفذ ما في نفسه، ولا يلتفت إلى ما يقال، فمثل هؤلاء أعرف أنهم منذ سنين طويلة وهم على ما كانوا عليه، بل لا يزداد الأمر بهم إلا شدة، وأعتقد أن مثل هؤلاء: العلاج لا يمكن أن يأتيهم من خارج أنفسهم، إلا أن يكون من الله عز وجل: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] .(171/24)
القصة الأولى
أذكر نماذجاً يسيرة من ذلك، من هذه النماذج: يقول أحد الشباب: لم يكن يخطر في بالي طرفة عين أنني من الموسوسين، وكيف أكون موسوساً وأنا أعالج بعض حالات الوسواس؟! ويتردد إلي بعض حالات الموسوسين، ويشفون بإذن الله تعالى، لكن كان يحدث عندي شيء أشبه ما يكون بسلس البول تقريباً، فأحس بخروج شيء قليل من البول أحياناً، خاصة بعد الوضوء، وكان يؤذيني هذا كثيراً، وكان يضع على عضوه شيئاً ويشده، ثم يخرج معتبراً نفسه أنه ليس بموسوس، ومعتبراً نفسه أنه مصاب بالسلس، وظل على هذا سنين، بعد ذلك تضايق من هذا الأمر؛ لأنه يحتاج إلى أن يمكث في المسجد فترة طويلة ولا يخرج فيحرجه أن يخرج، فيقول: فذهبت إلى الأطباء وعملت الفحوص اللازمة، فقالوا: إنه سليم، وجميع جهازه البولي ليس فيه أي أمر يستنكر، وقال له الطبيب: قد يكون عندك نوع من الوسوسة، فقال له: كلا.
ليس عندي شيء من الوسوسة -بحمد الله- بل أنا طبيعي جداً، وربما أكون أميل إلى التفريط والتساهل مني إلى الوسواس والتشدد، قال له الطبيب: إذا لا شيء فيك ولا أعلم شيئاً.
فلم يقنع بل ذهب إلى طبيب آخر أعلم وأكبر، أجرى له فحوصات، وأشعة ملونة، وأشياء كثيرة جداً، واعتنى بالموضوع أشد العناية، وأوقفه بنفسه على الأمر، وإذا بالرجل سليم تماماً، وليس فيه شيء أبداً، ويفسر ما يظن أنه شيء من السلس، وبعد ذلك كله حين وقف أمام الحقيقة وجهاً لوجه، والرجل لم يكن فعلاً موسوس بالصورة المخوفة، لكن كان فيه شيء من ذلك فيما يبدو، فلما وقف على الحقيقة بنفسه، أصبح لا يلتفت إلى هذا الأمر، ولا يتوضأ لكل صلاة، ولا يضع على ذكره شيئاً، وهكذا زال عنه الأمر، وزال ما كان يخافه، والسبب في ذلك -والله تعالى أعلم- أن شدة الخوف من خروج شيء، يكون سبباً في خروج شيء فعلاً.
فكون الإنسان يخاف، قد يكون سبباً في استرخاء العضلات والأعصاب، فإذا ذهب ينظر ربما يجد شيئاً، وهذا الشيء الذي خرج لست مطالباً أن تنظر هل خرج أو لم يخرج، ولو خرج وأنت في طريقك، وفي سبيلك، وصليت دون أن تفكر فيه، أو تلتفت إليه لا يضرك ذلك ما دام أنك ما علمت يقيناً بخروجه، لكن لما ذهبت وقلت: أتحقق وأتأكد بنفسي، ثم نظرت وربما مع تحريك الذكر، ومع شدة الاهتمام، أو شد الأعصاب خرج شيء فصار عند الإنسان هم، وهكذا تضاعف هذا الهم، حتى تحول إلى أنه يظن أنه مصاب بسلس البول، وبعد سنين اكتشف أن الأمر كله لا يعدو أن يكون حيلة محبوكة من الشيطان الرجيم، وفي هذا عبرة في الواقع.(171/25)
نصائح
وفي ختام هذا اللقاء أود أن أشير إلى بعض النقاط الصغيرة المهمة:(171/26)
النصيحة الأولى
أولاً: التجربة: جربي أختي المؤمنة هذه النصائح، واعملي بها، وستجدين نتيجتها عاجلاً، وكما سبق وأن أكدت ضعف كيد الشيطان، وسهولة الخلاص منه، وإن كان قد بنى وأسس، وتوطد وتوطن، إلا أن نسف الشيطان والخلاص من كيده أمر ميسور في الإمكان، وما أنزل الله من داء إلا له دواء.
فاعزمي -أيتها الأخت- وتوكلي على الله عز وجل وثقي به، واعتمدي عليه، وأخلصي له، وكوني صادقة كل الصدق في الخروج من هذا المأزق الذي تعانيه الذي كدر عليك صفو حياتك، والذي نغص عليك عبادتك، والذي جعل الدنيا تظلم في عينيك، انسفيه نسفاً خلال ساعة، وستجدين العاقبة حميدة بإذن الله عز وجل.(171/27)
النصيحة الثانية
كأني بك -أيتها الأخت الكريمة- وقد انتهيت الآن من سماع هذا الشريط، وأنت تقولين: صحيح جزاه الله خيراً، ولكن (ماشي!!) وكلمة (ماشي) تعني: لم يقل الكلام الذي يشفيني، وهذا يعود إلى ما سبق أن ذكرت، وهو أن بعض الموسوسين يبحثون عن شيء لا يوجد، ويبحثون عن لا شيء، لأن الأمر منهم وإليهم، والأمر يعود إلى أنفسهم، فليس هناك علاج يتعاطى بالفم، وإنما هو علاج يتعاطى عن طريق النصح والتوجيه والإرشاد وهذا أقصى ما يملكه هذا المتحدث إليك، وقد قال ما يستطيع، فإن انتفعت بها -فالحمد لله- وإلا فأنا لا أزعم أن غيري ليس عنده شيء آخر.
بل قد يكون ذلك، بل لا شك أن هناك من العلماء، وطلاب العلم من عندهم شيء كثير، لكن الناس مشغولون بأمورهم، ومشغولون بقضاياهم، وليس همهم الأكبر فقط وجود إنسان موسوس يعاني أشياء معينة من هذا القبيل وهم يسعون في خلاصه، وهو يعتبر هماً ضمن هموم كثيرة تشغل طلاب العلم والعلماء، وقد لا يكون هو أهم شيء لديهم، والأمر -كما ذكرت- هو أن الموسوس قد لا يقنع بكل شيء.
وأخيراً، فإنني أعتذر إليك أيتها الأخت الكريمة، عن عدم الدخول في التفاصيل، وإنني لم أجد متسعاً من الوقت لقراءة الأوراق والإجابة عليها، وذلك لسبب أو لأكثر، ففضلاً عن الشغل، فإن عندي قناعة تامة بأن القضية ليست قضية إشكالات فقهية تعانينها، وليست قضية جزئيات وتفصيلات تنتظرين الجواب عليها، فالقضية قضية وسواس في النفس ويحتاج إلى علاج وإزالة، ثم بعد ذلك ستكون أسئلتك كأسئلة غيرك من الناس، أسئلة عادية وأسئلة على الجادة.
ولكنني أسأل الله تعالى أن يكتب لك الشفاء العاجل، وأن يعينك على الخلاص مما أنت فيه، إنه على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.(171/28)
رسالة إلى موسوس
الوساوس داء عضال، ومقت ووبال، وقد يبغض المرء بسببه العبادة، ويستثقل الحياة، وقد يصاب بمرض نفسي أو عضوي بسبب الوسواس، وهنا تجد بيان حقيقة الوسواس وأسبابه، وعلاجه.(172/1)
الصراع بين الشيطان والإنسان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل لله ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً: الحمد لله الذي جعل هذه الحياة داراً للابتلاء والامتحان، وميداناً للصراع بين الإنسان وبين الشيطان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:5-6] وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:1-2] أيكم أخلص عملاً لله وأيكم أكثر اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.(172/2)
لفتة لعنوان المحاضرة
إخوتي الكرام عنوان هذه المحاضرة هو: (الوسواس الخناس) ورغبت في تعديله بعد أن أستأذن الإخوة إلى عنوان آخر وهو: (رسالة إلى موسوس) وذلك لأني كثيراً ما أسمع من شباب وفتيات هذه الصحوة المباركة، حفظهم الله وكثر سوادهم وسددهم، وحشرنا في زمرتهم، وجعل العاقبة في الدنيا والآخرة لهم.
كثيراً ما أسمع منهم الشكوى من الوسوسة في أشياء كثيرة من شئون دينهم ودنياهم، وبعضهم ممن لا يتيسر الحديث المباشر معه في هذه الأمور، فأحببت أن تكون هذه المحاضرة حديثاً إليهم جميعاً في هذه القضية التي يشتكي منها الكثيرون، وسأجعل هذا الحديث في النقاط التالية: الأولى: ذكر سبب الوسوسة في النفس.
والثانية: ذكر أنواع الوسوسة.
والثالثة: ذكر آثار الوسواس ومضاره.
والرابعة: هي ذكر علاجه الذي يدفعه بإذن الله تعالى.(172/3)
قوة الشيطان وقوة الإنسان
إخوتي الكرام إن ميدان الصراع بين القوتين العظيمتين: قوة الشيطان وقوة الإنسان ومنطقة النفوذ التي يشتد حولها الصراع هي: قلب الإنسان، لأنها مركز القوة، فإذا فسد القلب فسد الجسد كله، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، ثم يمتد الصراع إلى سائر جوانب حياة الإنسان، وهذا القلب إما أن تسيطر عليه القوة الشيطانية ويحتله جنود إبليس، ويقتحمون حصونه، فيصبح مرور الخير ولَمَّة الملكِ فيه قليلاً نادراً سرعان ما يخرج، وإما أن تحتله قوة الخير والإيمان وتقتحم حصونه فيصبح مرور الشيطان وجنوده ووساوسه على القلب مروراً سريعاً خفيفاً لا يطول، والإنسان مطالب في هذه الدنيا بأن يحذر كيد الشيطان ويعرف أساليبه ووساوسه في المكر والخديعة.(172/4)
الاهتمام بالجزئيات وترك الكليات
كثير من الناس مشغولون بأشياء لا تسمن ولا تغني من جوع، الشيطان واحد أو مجموعة؟ إبليس هل هو من الجن أو من غيرهم؟ أين يسكن إبليس؟ هل هو متزوج أم أعزب؟ هل له أولاد أو ليس له أولاد؟ كيف يوسوس الشيطان إلى قلب الإنسان؟! لاشك أن الله عز وجل بين لنا من هذه الأمور ما فيه الكفاية فبين لنا أن له ذريه وأنه يكيد في قلب الإنسان، وأن الشياطين كثر، لكن كثيراً من الناس شغلوا أنفسهم بهذه الفرعيات، ولم يهتموا بالقضية الأصلية وهي قضية معرفة وسائل الشيطان للكيد، وكيفية مقاومته، ولذلك يذكرون عن الإمام المحدث الظريف سليمان الأعمش: أن رجلاً سأله وهو في مجلس حديثه، فقال له: يا إمام هل لإبليس زوجة، فقال له: ذاك نكاح لم أشهده.
وهذه طرفة لكن من ورائها تأديب من الإمام للسائل أن هذا السؤال لا ينبغي أن يوجه، ومن ينشغل بهذه الأشياء ويغفل عن كيفية المقاومة فشأنه شأن إنسان دخلت الحية بينه وبين ثيابه فأوسعته لسعاً ولدغاً، وأفرغت السم في جسده وهو يسأل: هذه الحية ما لونها؟ ما شكلها؟ ما طولها؟ من أي أنواع الحيات وفصائلها؟ هل هي حية أو ثعبان، أو كذا، أو كذا؟ وهذا منتهى الجنون!(172/5)
سبب الوسوسة
أما ما يتعلق بالنقطة الأولى: وهي سبب الوسواس، فقد ذكر أهل العلم كالإمام الجويني -رحمه الله- في كتابه الذي سماه: التبصرة في الوسوسة، ثم نقل هذا عنه عدد من العلماء، كـ النووي، والغزالي، وابن الجوزي، وغيرهم -رحمهم الله جميعاً- أن للوسواس سببين، حيث قال: إن الوسواس لا يكون إلا بأحد سببين: إما نقص في غريزة العقل، وإما جهل بمسالك الشريعة.(172/6)
طبيعة المرحلة
والسبب الخامس: طبيعة المرحلة التي يعيش فيها الإنسان، فإن الوسواس ينتشر عند كثير من الشباب في مرحلة المراهقة، ذكوراً كانوا أم إناثاً يستوي في ذلك الوسواس المتعلق بالإيمانيات وقضايا الألوهية وغيرها -مما يسميه علماء النفس بالشك الديني، وهو في الواقع ليس شكاً، ولا ينبغي أن يسمى شكاً، إنما هو وسواس- والوسوسة في قضايا الطهارة والصلاة وغيرها من العبادات، حيث يقبل الشاب على الله عز وجل وعلى الإسلام، ففي بداية مرحلة تعلقه بالدين يصاب بشيء من ذلك، والذي يظهر -والله أعلم- أن أكثر المقبلين على الله عز وجل في هذه المرحلة قد يبتلون بشيء من ذلك؛ لكنه خفيف يسير فيتجاوزونه بتوفيق الله عز وجل، ثم بتوجيه المرشدين الصالحين.
وبعضهم يكون هذا الوسواس شديداً معه أو لا يوفق بمن يوجهه التوجيه الصحيح بل قد يزيد هذا الأمر ويزيد الطين بلة -كما يقال- فيزداد الوسواس معه، فهذه أسباب خمسة يظهر لي أن معظم ما يصيب الناس من الوسواس يعود إلى أحدها أو إلى أكثر من سبب منها.(172/7)
الجهل بمسالك الشريعة
أما السبب الثاني الذي أشار إليه الجويني وَمنْ بعده: فهو الجهل بمسالك الشريعة، وذلك أن كثيراً من الموسوسين أيضاً يجهلون حكم الله ورسوله فيما يعانونه، يجهلون أسماء الله عز وجل وصفاته وما ينبغي له، وما لا يجوز عليه، فيقعون في الوسوسة في أسماء الله وصفاته، يجهلون أحكام الطهارات والمياه وغيرها فيقعون في الوسوسة في ذلك، فقد يبتلى أحدهم فيقرأ في بعض الفروع التي فيها تفصيلات كثيرة، وتفريعات كثيرة، فيقرأ بعض الأقاويل الفقهية فيتشبث بها ويتمسك بها في وسواسه وينسى ويتجاهل كثيراً مما قرأ مما لا يساعده على ما هو فيه.(172/8)
التأثيرات العضوية في الجسم وضعف النفس
أما السب الثالث: فهو أن الوسواس قد يكون بسبب تأثيرات عضوية في جسم الإنسان، وهذا أشار إلى جانب منه الإمام ابن القيم في كتاب زاد المعاد، في الجزء الثالث المتعلق بالطب النبوي، وهو يتحدث عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح والجماع، فأشار إلى أن حبس الإنسان للماء بترك الزواج وترك الجماع يسبب له أمراض رديئة منها الوسواس والجنون والصرع وغير ذلك.(172/9)
ضعف نفس الإنسان وخور إرادته
والسبب الرابع: هو أن الوسواس قد يحدث بسبب ضعف نفس الإنسان وخور إرادته فأنت تجد كثيراً من الموسوسين إذا قابلتهم تجد في شخصياتهم ضعفاً ورداءة، وفي هممهم وعزائمهم وهن وخور وضعف سببه تسلط الشيطان عليه، وتجد كثيراً من الموسوسين يبتلون بتكثير الكلام، وترديده وإعادته، والتنطع في كثير من القضايا، مما يجعلهم ممقوتين عند الله وعند خلقه، نسأل الله العافية والسلامة.(172/10)
النقص في غريزة العقل
إذاً: فالسبب الأول هو: النقص في غريزة العقل، وذلك أن كثيراً من الموسوسين في عقولهم ضعف يتمكن الشيطان من التأثير عليهم ولبس الحق بالباطل ولذلك ذكر ابن الجوزي وابن القيم رحمهما الله أن رجلاً جاء إلى الإمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي فقال له: يا إمام إنني أنغمس في الماء مرة، ومرتين، وثلاثاً، ثم أخرج منه، وأنا أشك هل ارتفعت الجنابة عني أم لا، هل اغتسلت أم لا.
فقال له أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة، فلما ذهب هذا خوطب الإمام أبو الوفاء وقيل له: كيف قلت لهذا الرجل ما قلت؟! قال: إنه مجنون، فالذي ينغمس في الماء ثلاث مرات ثم يشك، هل بلغ الماء إلى جسده وأعضائه أم لا، فهو مجنون وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق} وهذا مجنون.
وبعض الناس أخذوا من هذه القصة فتوى فأفتوا لبعض من بلغ بهم الوسواس مبلغه بترك الصلاة، وفي هذه الفتوى نظر كبير، فإن الصلاة من أهم أركان الإسلام، ولا تسقط إلا عن من سقطت عنه في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كالحائض والنفساء، ولكن المقصود من سياق هذه القصة الإشارة إلى أن غالب من يصاب بالوسواس ويتعمق فيه الوسواس يكون في عقله شيء من النقص والخفة.(172/11)
أنواع الوسوسة
أما النقطة الثانية: فهي الحديث عن أنواع الوسوسة: أنواع الوسوسة كثيرة، لا تنحصر، وإذا كان الإمام أبو الوفاء بن عقيل، يقول: إن الوسواس نوع من الجنون؛ فإن العرب يقولون: إن الجنون فنون، لكنني أذكر معظم هذه الأنواع.
فمن أنواع الوسواس:(172/12)
الوسوسة في المعاملات
والنوع الخامس من أنواع الوسوسة: هو الوسوسة في المعاملات، فتجد الإنسان ينقر على نفسه ويبالغ في ذلك حتى أن أحد الطلبة مثلاً إذا قال الأستاذ للطلاب وقد شرح لهم الدرس: أفهمتم؟ هل الدرس واضح؟ قال نعم، فكلمة نعم التي خرجت من فمه عفوية عادية تصيبه أو تسبب له بعد ذلك من الكوارث والمحن ما الله بها عليم، ويجلس أياماً طويلة وربما سافر، وذهب وجاء واتصل بالعلماء من أجل أن يقول: إنني قلت: نعم وأنا لم أفهم الدرس، وربما يكون في هذا كذب وهل لي من توبة؟ إلى غير ذلك! وربما يطول بكم العجب لو رأيتم بعض ما ابتلي به هؤلاء الموسوسون في مثل ذلك، ثم إذا اشترى شيئاً أو باع شيئاً، رجع إلى بيته فنسي، هل أديت المال وقيمة هذه السلعة أم لا؟ فغلب على ظنه أنه لم يؤدها فرجع وربما يدفع قيمة ما اشتراه مرتين وثلاث مرات، وربما يكثر من مراجعة نفسه، أنك قلت في فلان كذا والواقع أن الأمر كذا، وقلت في أمك كذا، وقلت في أبيك كذا، وقلت في زوجتك كذا، وبدأ الشيطان يتلاعب به في أقواله وأفعاله، حتى أفسد عليه دينه ودنياه، هذه أهم أنواع الوسوسة.(172/13)
الوسوسة في العبادات
الرابع من الوسوسة: وهو في العبادات، في الصلاة مثلاً، فبدأ يوسوس في الصلاة، ويسهو ويزيد، وينقص، ويطيل، حتى إنني حُدِّثت أن بعضهم جلس من الساعة العاشرة عصراً إلى الساعة الرابعة ليلاً، أي ست ساعات وهو يصلي ثلاثة أوقات، التي هي العصر والمغرب والعشاء، فإذا رأى أهله منه ذلك، وقاموا عليه ومنعوه من هذا الأمر بدأ يبكي ويقول: أنا لست بمسلم، لأنني ما صليت، وقد سهوت في صلاتي، أو زدت، أو نقصت، أو نويت قطع الفريضة، أو صليت بغير وضوء، أو غير ذلك مما يدخله الشيطان عليه نسأل الله السلامة.
وبطبيعة الحال فالوسوسة في العبادة ليست في الصلاة، فقط، بل قد يداخله الوسواس في الصيام وفي الحج، في عدد الطواف مثلاً، وفي عدد الحصوات التي رمى بها، وفي نوع العمل الذي عمله وفي كل عبادة من العبادات، فيفسدها عليه، ويحرمه من لذة العبادة وغير ذلك.(172/14)
الوسوسة في الطهارة والمياه
أما النوع الثالث من أنواع الوسوسة: فهو الوسوسة في الطهارة والمياه وغيرها، فتجد الإنسان إذا قضى حاجته تعب في ذلك أشد التعب، فهو بعدما يتبول يبدأ بهذه البدع المنكرة من نتر الذكر، ونفضه، وسلته، ليخرج ما فيه، ثم تفقده لينظر إن كان بقي شيء من البول في رأس الذكر في مخرج البول، ثم بالتنحنح ليخرج ما بقي من قطراته، ثم بالقيام، والمشي، ثم بالقفز، ثم بعضهم يضع له حبلاً يتعلق فيه، ثم ينزل إلى الأرض بسرعة، ثم بعضهم يأتي ببعض من القطن فيحشو به ذكره، لئلا يخرج منه شيء، ثم يعصبه بعصابة، والعياذ بالله! ثم يركض، ويمشي، ويصعد الدرج حتى يطمئن إلى أنه لن يخرج شيء منه، وهذه عشر أو إحدى عشرة بدعة وقع فيها هؤلاء الموسوسون أثناء قضاء الحاجة مع أن البول كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا استُدْعِي در، وإذا تُرِك قر.
فالإنسان إذا استدعاه ربما لو جلس ساعات طويلة لخرج منه في الوقت بعد الوقت قطرة أو قطرتان، لكن إذا تركه بقي في مكانه لم يخرج، هذا في قضاء الحاجة.
ثم إذا أراد أن يتوضأ، بُلي بالمياه والوسوسة في المياه والشك فيها واحتمال نجاسة الماء أو أن يكون وصل إليه قطرة أو قطرات من البول، أو أن يكون خلت به امرأة، أو أن يكون أو أن يكون، ويضع مئات الاحتمالات لهذا الماء الذي بين يديه أن يكون تنجس، أو تلوث، ثم إذا اطمأن إلى الماء أتى بماء كثير جداً، وربما يكون عدداً من القرب، وربما يتوضأ به الفئام من الناس، فيبدأ يتوضأ، ويعرك أعضاءه مرة بعد أخرى، حتى إن بعضهم ليجلس في الخلاء الساعتين والثلاث ساعات والعياذ بالله محروم من ذكر الله عز وجل، في هذا المكان الذي هو مأوى الشياطين وربما فاتته الجماعة، بل ربما خرج وقت الصلاة وهو على هذه الحالة، ثم إذا توضأ بعد العرك، والفرك، والدلك والتعب والجهد الجهيد، أتى للنوع الرابع من الوسوسة.(172/15)
الوسوسة في الإيمانيات
الوسواس في قضايا العقائد والإيمانيات، حيث يتنطع بعض الناس في التفكير في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته وما ورد في القرآن والسنة من ذلك، ويخطر في فكره وقلبه مخاطر وتصورات وظنون تشغل باله، وتجعله يشك في نفسه ويشك في إيمانه وتقلقه، حتى ربما يسهر بعضهم الليالي ذوات العدد وهو يتقلب في الفراش يفكر في هذه الأمور ويحاول أن يدفعها، ثم يرد على قلبه خاطر أعظم وأطم من ذلك، فيقول له الشيطان الذي أوقعه في الشبكة: مسكين أنت، قد تموت وأنت على هذه الحال، شاك في الله عز وجل مرتد عن دينه، فيكون مصيرك إلى نار جهنم، ولا يزال الشيطان يغلي هذا الإنسان في هذا الحريق حتى يصبح كالحبة التي تتقلب على النار، لا يهدأ له بال، ولا ينعم بنوم، فهذا هو النوع الأول.(172/16)
الوسوسة في النية
أما النوع الثاني: فهو الوسواس في شأن النية: فإن كثيراً من الناس يوسوسون في نياتهم ومقاصدهم، يوسوس في نيته إذا أراد الطهارة، فيقول في نفسه: نويت رفع الحدث، ثم يرجع فيقول: نويت استباحة الصلاة، ثم يعود ثم يبدأ في الوضوء، فإذا انتصف قال: ربما لم أتوضأ، فقطع النية وعاد من جديد وهكذا يبدأ ويعيد، فإذا أراد أن يصلي أصابه ما قرب وما بعد في شأن النية، قد يقع بعضهم في كثير من البدع التي تزيد على عشر بدع، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن بعضهم يقف ليصلي فيقول ويجهر يقول: نويت أن أصلي صلاة الظهر -مثلاً- إماماً أو مأموماً أربع ركعات أداءً في الوقت أو فريضة الوقت مستقبلاً القبلة، وبعد ذلك يرفع رأسه وينصبه ويشد عروق رقبته، ويرفع يديه في قوة، ثم يصرخ بقوله: الله أكبر وكأنه يكبر في وجه عدو في ساحة حرب وينفض جسمه نفضاً، ثم يعيد شيئاً من ذلك.
ومن الطريف ما ذكره أبو محمد المقدسي رحمه الله في كتابه في الوسوسة: أن أحدهم وقف ليصلي وهو من المصابين بالوسواس، فرفع يديه وبدأ يردد هذه النية: نويت أن اصلي -وهو يتنطع في إخراج الحروف ويكررها، فبدلاً من أن يقول: أصلي صلاة الظهر أداءً، نطق الدال ذالاً، فقال: أذاء لله عز وجل، فقطع الصلاة رجل إلى جواره فقال له: نعم، أذاء لله ولرسوله وللملائكة ولجماعة المصلين أي: أنك آذيت الله ورسوله والمؤمنين بهذه البدع المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ويوسوس الواحد منهم في نيته في كل عمل، فإذا كبر للصلاة وانتصف فيها، شك في أمر من الأمور، ربما أنني ما نويت فقطع الصلاة فقال: لابد أن تبدأ الصلاة من جديد، ويصيبه من ذلك والعياذ بالله من المشقة والعنت ما لا يحمد عليه في الدنيا، ولا يؤجر عليه في الآخرة فنسأل الله السلامة بمنه وكرمه.(172/17)
آثار الوسوسة ومضارها
النقطة الثالثة هي: الكلام على آثار الوسواس ومضاره، فهذا الوسواس له آثار ومضار كبيره جداً على الإنسان الموسوس وعلى غيره من الناس، فأما مضاره على الشخص المبتلى بالوسواس، فهي تنقسم إلى: مضار دينيه، ومضار دنيوية.(172/18)
آثاره على غير الموسوس
أما آثار ومضار الوسواس على الآخرين، فمن آثاره ومضاره: أنه يجعل نفسه مسخرة للناس حيث يضحكون به ويسخرون به، وربما نالهم الإثم بسبب غيبتهم له أو ضحكهم منه، أو استهزائهم بأعماله وتصرفاته.
ومن آثاره أيضاً أن بعض من يحسنون الظن بهذا الموسوس قد يجارونه ويسايرونه ويقتدون به فيما فعل، فيسبب لهؤلاء الناس ضرراً وإثماً، وكان قدوة سيئة لغيره في ذلك.
ومن أضراره على الناس أيضاً، وهذه من الأضرار العظيمة في هذا العصر خاصة أنه يفتح ثغرة على أهل الخير حيث إن كثيراً من الأشرار وأعداء المؤمنين قد يسخرون منهم بسبب هؤلاء الموسوسين، فإذا وجدوا بين المؤمنين شخصاً موسوساً أطلقوا الوسواس على كل المؤمنين، فإذا رأوا إنساناً يعمل عبادة مشروعة مستحبة، بل ربما يعمل واجباً قالوا: هذا موسوس، فألصقوا به هذه الفرية بسبب وجود فرد أو أفراد مبتلين بهذا الداء، وبعضهم يقول للأب إذا رأى ابنه مع الصالحين: ابنك سيتحول إلى موسوس ويصاب بما أصيب به فلان من ترك العمل، وترك الدراسة، وكثرة البقاء في دورات المياه وإطالة الصلاة، وما أشبه ذلك من الأمور التي قد يجدونها في بعض الموسوسين.(172/19)
المضار الدنيوية على الموسوس
أما المضار الدنيوية فهي كثيرة منها: أن الإنسان قد يبتلى ببلاء من جنس ما وسوس فيه.
أعرف بعض الشباب ابتلي بالوسوسة في التبول، يطيل الأمر في ذلك ومع الزمن صار عنده شيء من سلس البول، فيقول له الأطباء: إن هذا السلس الذي تشعر به ليس سببه عضوياً، كأن يكون عندك مثلاً ارتخاء في أعضاء التبول وما أشبه ذلك، وإنما سببه أن كثرة اهتمامك وتركيزك على خشية نزول البول وخروجه جعلك مع الاستمرار تشعر بخروج البول ثم يخرج فعلاً قطرات من البول، وهذا يزيد الإنسان ثقة أن الوسواس الذي ابتلي به هو حق، وهو ورع، وهو خروج من النجاسة لا بد منه في الصلاة، هكذا يفكر هذا الموسوس، وهذا ضرر ديني ودنيوي في نفس الوقت.
ومن مضاره الدنيوية: أنه يؤثر في صحته وجسمه، حتى إنك إذا رأيت بعض الموسوسين -وأقسم لكم بالله إن هذا الأمر واقع- إذا رأيت بعض الموسوسين عرفت من قسماته وآثاره وسيما وجهه وجسده أن هذا الرجل مبتلى بالوسواس، لأن هذا الوسواس فعل فيه وأثَّر فيه تأثيراً بليغاً خاصة إذا طال الزمن.
ومن أضراره الدنيوية أنه قد يحرم الإنسان من المنافع الدنيوية، فأعرف من ترك طلب العلم والدراسة، أو التجارة أو غير ذلك وانشغل بهذا الأمر، فإذا انشغل تفرغ لهذا الوسواس وتفرغ الشيطان له، وكما يقال: زاد الطين بلة.(172/20)
المضار الدينية على الموسوس
فالمضار الدينية أن هذا الموسوس قد يبغض إليه كثير من أمور الدين بسبب ما ابتلي به من الوسواس، فيبغض العبادة، يبغض الصلاة ويبغض قراءة القرآن لما يعرض له في ذلك من كيد الشيطان، وإذا حصل له هذه النوايا في قلبه بسبب ما ابتلى به من الوسواس ابتلي بوسواس آخر فقال له الشيطان: أنت الآن تبغض قراءة القرآن، أنت تبغض الصلاة لأنك ربما قد وقعت في الكفر، فجره إلى نوع آخر من الوسوسة والعياذ بالله! وانظر كيف يتدرج الشيطان بالإنسان، فهي سلسله من الوساوس إذا بدأت في الإنسان لا تكاد تنتهي، إلا بتوفيق الله عز وجل.
ومن المضار الدينية التي يبتلى بها الموسوس أنه قد يترك هذه العبادة، لا يكتفي ببغضها بل قد يتركها، فربما ترك الصلاة أو ترك على الأقل كثيراً من النوافل بسبب الوسوسة.
إن الوسوسة تشغل كثيراً من وقته فيما لا فائدة فيه فينشغل عن القراءة والذكر والعلم والدعوة بهذا البلاء المستطير، وربما دخل قلبه شيء من الخوف الذي هو خوف في غير مكانه، وأدى إلى ضرر عظيم على هذا الإنسان.(172/21)
علاج الوسواس
أما النقطة الأساسية والمهمة في هذا الموضوع فهي علاج الوسواس، وهي بيت القصيد لذلك أرجو أن تتحملوا إن طال الكلام في هذه النقطة بعض الشيء؛ لأنها كما ذكرت هي المسألة المقصودة في هذا الحديث، فالوسواس داء وما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء عَلِمه من عَلِمه وجَهِله من جَهِله.
فيا أيها المبتلى بهذا الداء! عليك أن تعرف أين الطريق، وعليك أن تدرك أنك إن أُتيِتَ فمن قبل نفسك، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166] وفي الآية الأخرى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: الآية165] .
فما أصابك فهو بقضاء الله وقدره، وهو أيضاً من عند نفسك، فعليك أن تكون شجاعاً في مواجهة هذا البلاء المستطير ومعالجته، وذلك من خلال الوسائل التالية:(172/22)
من وسائل العلاج: العلم
الوسيلة التالية من وسائل إزالة هذا الوسواس هي: العلم، وذلك أنه سبق أن من أسباب الوسواس الجهل بمسالك الشريعة، إذاً فدفعه لا بد فيه من العلم، والعلم يشمل أولاً: العلم الصحيح بالعقائد الذي يدفع كيد الشيطان ووساوسه، والعلم الصحيح بالأحكام الشرعية، وخاصة أبواب المياه والطهارات، والوضوء، والغسل، والصلاة، وغيرها ليعبد الإنسان ربه على بصيرة، ولا يقبل كيد الشيطان، ولا يتعلق ببعض الأقوال الفقهية الضعيفة التي ربما يجد فيها بعض الموسوسين مستمسكاً لهم، بل يعرف الهدي الصحيح من القرآن والسنة وهو الذي فيه الهدى والنور، والذي من اتبعه وعمل به وجد اللذة والسعادة في عبادته، ووجد الراحة في دنياه، ووجد الأجر في آخرته، أما الموسوس فقد لا يخرج بالكفاء.
ومن العلم: المعرفة بالوسواس، وأسبابه ودوافعه، وكيفية التغلب عليه ولذلك أشير إلى بعض الكتب والمواضع، التي تكلم فيها أئمة الإسلام عن الوسواس وأسبابه وكيفية دفعه وعلاجه، فمن ذلك ما كتبه الإمام، إمام الحرمين أبو محمد الجويني، في كتابه الذي سماه: التبصرة في الوسوسة، ولا أظن هذا الكتاب مطبوعاً، ولكن نقل كثير من مقاصده الإمام النووي في كتابه المسمى بالمجموع شرح المهذب، نقلها في المواضع المختلفة بحسبها في باب الوضوء وفي باب الصلاة، وفي غيرها، ومن ذلك ما كتبه الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين، في الجزء الثالث المتعلق بربع المهلكات، حيث تكلم عن الوسوسة ومداخلها وقال: إن مد الله في الأجل، ونسأ في العمر كتبت كتاباً خاصاً عن تلبيس إبليس، ولكنه لم يكتب في ذلك كتاب خاصاً فيما أعلم، فلذلك كتب الإمام ابن الجوزي وهذا من المصادر المهمة في معرفة الوسواس ودفعه، فكتب كتابه القيم الذي سماه "تلبيس إبليس" وهو كتاب مطبوع، ومن ضمن ما تحدث فيه عن الوسوسة في الطهارة، والوسوسة في العبادة والصلاة وفي المعاملات وفي غيرها.
ومن الكتب المفيدة جداً في ذلك ما كتبه الإمام ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان، في مطلع الجزء الأول حيث تكلم عن مدخل الشيطان على بني آدم بالوسوسة، ونقل عن أبي محمد المقدسي في ذلك فصولاً، وكتب فيه كتابةً لا يكاد يكون غيره من العلماء كتب مثلها، فأنصح إخوتي وأخواتي من المؤمنين والمؤمنات بقراءة هذا الفصل، خاصة مرة ومرتين وتكراره، حتى يرسخ في قلب الإنسان، ويكون له بصيرة، ونوراً في دفع هذا الوسواس.(172/23)
العزيمة على دفع الوسواس
ومن الوسائل والأسباب المعينة على دفع الوسوسة، وهو سبب مهم جداً أن يكون لدى الإنسان عزيمة، وإرادة على دفعه، وهذا السبب إذا فقد، ربما لا تنفع معظم الوسائل السابقة، إذا لم يوجد عند الإنسان قوة إرادة، وعزيمة فإنه لا يكاد يتخلص من الوسواس، لأن الوسواس حينئذٍ يكون سببه خوراً في نفس الإنسان، وضعفاً في معنويته وإرادته، فلا يكاد يتخلص منه الإنسان، ولذلك بعض الموسوسين إذا وجد من يقوي عزيمته، ويشحذها، فإنه يبدأ شيئاً فشيئاً يتغلب حتى يتخلص من الوسواس حتى إن أحدهم يقول لي: إنه وهو يتوضأ يحاول أن يطبق السنة في الوضوء، ويتخلص من الوسواس، لكن يشعر وهو يحرك يده على ذراعه، يشعر أن يده كأنها تلتصق بذراعه، لا تريد أن تخرج من هذا المكان، أو تتعداه إلى غسل المكان الآخر، والعياذ بالله! وكأن أعصاب يده الأخرى تيبس، فلا تريد أن تتحرك، وهكذا يصنع الشيطان.
فإذا قويت إرادة الإنسان بالاستعاذة بالله عز وجل وصدق العبادة، وصدق التوكل، مع استجماع قوته، ومع معرفة ما هو مبتلى به، فإنه يستطيع أن يتغلب على ذلك، لأن الشيطان حينئذٍ يأتيه بعد أن ينتهي من الوضوء، فيقول: مسكين! أين أنت ما توضأت الآن، هذا الوضوء لا تقبل صلاتك به، وربما تصلي على غير وضوء فتكون كافراً لأن أهل العلم يقولون: من صلى على غير طهارة فهو مستهزئ، والمستهزئ كافر، وأنت سمعت الشيخ فلان يقرر هذا الكلام، مسكين! ولا يزال الشيطان يثكله في الغالب، حتى يقول إنك ضائع، ولا يغرك فلان وفلان، فعليك أن تعيد الوضوء، فينخدع المسكين، ويعود يرتكس في الحمأة من جديد، فيحتاج إلى أن يكون عنده قوة عزيمة أن يقول للشيطان: رغم أنفك، كما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في سنن أبي داود وغيره: {أن الشيطان إذا جاء إلى أحدكم فقال: إنك أحدثت، فليقل له كذبت} زاد ابن حبان في صحيحه {فليقل له في نفسه: كذبت} .
لكن بعض الموسوسين -أيضاً- يقول بصوت مرتفع كذبت، وبعد أن يقول: كذبت يذهب يعيد الوضوء، فما نفعه قوله: كذبت، إلا أنه زاده والعياذ بالله بلاءً على بلائه، إذاً يحتاج الموسوس إلى أن يستجمع قوته وإرادته، وأن يتغلب على هذا الشيء الذي لابس قلبه، مهما أصابه من الهم والحزن، إذ يقول له الشيطان يوماً، ويومين، وثلاثة: إنك على غير سبيل، وعلى غير جادة، ويمكن أن تموت وأنت على هذه الحال، هذا الكلام قد لا يفقهه إلا الموسوسون الذين يشعرون فعلاً بأن الشيطان ربما أكثر ما يأتيهم من هذا الباب، فإذا حاولوا أن يطبقوا ما يسمعون من النصائح، أحبط الشيطان هذه المحاولة بهذا الأسلوب.
فتحتاج أيها الموسوس، إلى أن تمتلك قوة في عزيمتك، وقوة في إرادتك، وقوة في معرفتك تجعلك لا تلتفت إطلاقاً إلى هذا الإيراد الشيطاني، وصلّ صلاةً معتدلة، وتوضأ وضوءاً معتدلاً، ولا تُعِد الوضوء، ولا تعد الصلاة مهما جاءك من الإرادات، ومهما أصابك من الهم والحزن، ومهما أجلب عليك الشيطان بخيله ورجله، واستمر على ذلك أياماً، ومن المؤكد الملزوم به المجرب، ولعلي أقول لكم إني أعرف عدداً من الإخوة الذين جربوا هذا الأمر، فوجدوه رأي العين، بل وجدوه في أنفسهم، فإن الإنسان إذا أصر وتحدى هذا الكيد الشيطاني، واستمر على ما هو عليه من المجاهدة، ولم يلتفت ولا يعيد الوضوء، ولا يغسل العضو أكثر من ثلاث مرات، ولا يعيد الصلاة، ولا يرفع صوته فيها، ولا يسجد للسهو، أنه لا يكاد يمر عليه أسبوع، أو عشرة أيام على أكثر تقدير، إلا ويخرج من هذا كأنه لم يصبه، وهذا أمر مجرب ومؤكد لا يشك فيه أحد إلا جاهل.
والفيصل في ذلك أن يقال لكل موسوس: جرب هذا الأمر، أنت مبتلى بالوسواس ربما من سنة أو سنتين، ما تركت عالماً، ولا طبيباً نفسياً، ولا طالب علم، ولا إمام مسجد، ولا جاهلاً، ولا عامياً، ولا قريباً، ولا بعيداً؛ إلا وسألته وأشغلته بالليل والنهار.
ومن بلايا الموسوسين -أجارنا الله وإياكم- أنهم ما أكثر تكرارهم للكلام، بدئه وإعادته، يأتيك الصباح، ويأتيك الظهر، ويأتيك في المساء، ثلاث مرات صباحاً، وظهراً، ومساءً، وربما أزعجك من نومك، وربما أوقفك في الشارع وأنت في عملك، وربما كتب لك الكتابات، وربما أشغلك بالهاتف، يقال له: أنت ما تركت أحداً إلا طرقت بابه، فجرب الآن مرة واحدة أن ترفض جميع ما أنت فيه من الشكوك ومن الإعادات، ومن التكرار ومن الوساوس، وافعل كما يفعل غيرك، ممن يلتزمون بالسنة، ولا تتنطع، وستجد أنك بعد أسبوع تخلصت من ذلك نهائياً، وجرب تجد.
لكن هذه التجربة مع أنها أسبوع، وربما المعافى -ولله الحمد عافانا الله وإياكم- يتصور أن أسبوعاً سهل، لكن -والله- إن تطبيق هذا الأمر يوماً واحداً، بل وقتاً أو وقتين على الموسوس، إنه عليه أثقل من أشياء كثيرة، ربما يكون أثقل عليه من أن ينقل جبلاً من مكانه، أثقل عليه من كل شئ، وربما يقول لك: سأفعل ونحن من أولاد اليوم، وأنا أعطيك وعداً، وبعضهم يقول: أتمنى أن أخرج الآن حتى أبدأ في التطبيق، فإذا خرج عاد كل شيء كما كان، لأن الشيطان قد تشرب قلبه ولابسه، ولأنه واهن الإرادة، ضعيف القوة، سرعان ما يخور.
فيا أيها الإخوة والأخوات: يا من ابتلوا بالوسوسة، اتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في دينكم، واتقوا الله في إخوانكم، واعلموا أنه لا هدي إلا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا دين إلا دينه، ولا شرع إلا شرعه، ولو أنفق أحدكم عمر نوح ليبحث عن حديث واحد صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو موضوع، أن النبي صلى الله عليه وسلم شك في وضوء فأعاده، أو شك في صلاة، فأعادها، أو وسوس في أمر من هذه الأمور، أو ترك ماءً للشك، أو أعاد صلاةً للشك، أو خلع ثوباً للشك، لو أنفق عمر نوح ما وجد شيئاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم يسنده في ذلك، ولا عن أصحابه، والمؤمنون يقولون: لو كان خيراً لسبقونا إليه، كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره لقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] قال: أما المؤمنون فإنهم لا يبتدعون، ولا يحدثون أشياء من عندهم، بل يقولون: لو كان خيراً لسبقونا إليه، أي: لو كان هذا الفعل خيراً لسبقنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، فاسلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتجنب الجواد، والطرق التي على كل جادة، منها شيطان يدعوك إليه ويزينه لك، ويغريك به، ويصور لك أن هذا هو طريق الجنة، ولا يلتبس عليك الحق بالباطل، فإن الحجة قائمة، والدين محفوظ: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس:108] ولا يجوز لمؤمن أن يبغض إلى نفسه عبادة الله تعالى ولا يبغض ذلك إلى غيره، ولا أن يفتح ثغرة لأعداء الإسلام، ليطعنوا منها في المؤمنين، ولا أن يفتح ثغرة للجهلة ليسخروا منه ويغتابوه، ويقعوا في عرضه.
حماني الله وإياكم من كيد الشيطان ووسواسه، وثبتني وإياكم بقوله الثابت، وبصرني وإياكم بمواطن الضعف في نفوسنا، ورزقني وإياكم قوة التوكل عليه، والإنابة إليه، وصدق اللجوء، والانطراح بين يديه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(172/24)
تذكر كيد الشيطان
العلاج الثالث: أن تتذكر كيد الشيطان، وأن ما أنت فيه إنما هو تزيينه وتشكيكه، فإن الغريب أن كثيراً من الموسوسين يشتكي مما هو فيه مما يدل على أنه يدرك فعلاً أن هذا من إملاء الشيطان، وإذا رجع، (عادت حليمة إلى عادتها القديمة) ! وبدأ ينصت لهذا الصوت الشيطاني الذي يملي عليه ما يملي، ولذلك لما دخل أبو حازم رحمه الله وهو من أئمة التابعين إلى المسجد فأراد أن يصلي، جاءه الشيطان وقال له: لعلك أن تصلي وأنت على غير وضوء فماذا قال أبو حازم للشيطان؟ هل قال له أحسنت، وأصغى له وذهب ليعيد الوضوء؟! قال له الكلمة الحكيمة: ما بلغ بك النصح إلى هذا، وعرف أن هذا من الشيطان فقال: ما بلغ بك النصح إلى هذا، ما اعتدنا من الشيطان أنه ناصح يذكرنا أنه في بقعة من جسدك ما أصابها الماء، وربما أنك ما نويت، وربما أنك ما كبرت يمكن، يمكن، ما بلغ النصح بالشيطان إلى هذا، وإن كان يدعي ذلك: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فدلهما بغرور} [الأعراف:21-22] فلابد لك من معرفة كيد الشيطان، وأن ما أنت فيه من الوسوسة إنما هو من كيده.(172/25)
الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وهديه
الوسيلة الرابعة من وسائل العلاج: هي الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله تبارك وتعالى أسوة وقدوة للمؤمنين الذين يرغبون أن يردوا حوضه، ويرغبون أن يحشروا في زمرته، ويرغبون أن يكونوا من جلسائه في جنات النعيم، ويرغبون أن تشملهم شفاعته يوم الدين، فكيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأشياء؟ 1- في الإيمانيات: انظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قضايا الاعتقاد والإيمانيات، أعطاهم الدين يسيراً واضحاً لا تعقيد فيه ولا إشكال، وبين لهم أسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله، وحين جاء الصحابة يشتكون إليه ما يجدون من وسوسة الشيطان، هون الموضوع عليهم صلى الله عليه وسلم، فقال لهم كما في صحيح مسلم: {هل وجدتموه قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان، الحمدالله الذي رد كيده إلى الوسوسة} فبين لهم أن ما أصابهم هو بسبب إيمانهم؛ لأن الشيطان إنما يوسوس في القلب الذي فيه إيمان، واللص لا يتسور البيت الخرب، وإنما يتسور البيت المليء بالحلي والذهب، فهذا الوسواس وشعور المؤمن بكراهيته وخوفه منه هو دليل على الإيمان، لكن عليه أن يعمل بوصية النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال في الحديث الآخر الصحيح: {فليستعذ بالله ولينته} وهو في الصحيحين، وحين ذكر أبو هريرة رضي الله عنه كما في الصحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن الشيطان لا يزال يسألكم مَنْ خلق كذا، مَنْ خلق كذا، حتى يقول: مَنْ خلق الله، فليقل الإنسان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم} وفي حديث صحيح {أنه أمره بقراءة قل هو الله أحد} .
إذاً: القضية سهلة وميسرة وهي أن عليك أن تغفل هذا الأمر ولا تعيره اهتماماً، اقرأ هذه الأدعية والأذكار وتحصن من الشيطان، وادع الله عز وجل ولا تكترث بهذا الأمر، فكثرة تفكيرك به وحرصك الشديد المبالغ فيه على مدافعته يجعل الأمر يزيد وينتشر في قلبك، فإن الشيطان مثل الكلب، إذا التفتَّ إليه ودافعته فإنه ينبحك ويركض وراءك، فإذا أعرضت عنه نبح مرة أو مرتين ثم ذهب وتركك.
هذا جانب من هديه صلى الله عليه وسلم في الإيمانيات.
2- في قضايا المياه: تأمل هديه صلى الله عليه وسلم في قضايا المياه كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر في شرقي المدينة يلقى فيها النتن والحيض ولحوم الكلاب، فقالوا: يا رسول الله! إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها النتن، والحيض، ولحوم الكلاب، فقال صلى الله عليه وسلم: {الماء طهور لا ينجسه شيء} والحديث رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وغيرهم، وصححه أحمد، ويحي بن معين، والترمذي، وغيرهم، فهو حديث صحيح، فلا وسع الله على من لم يسعه هدي محمد صلى الله عليه وسلم: {الماء طهور لا ينجسه شيء} .
وكان من هديه أن يتوضأ بكل ماء إلا أن يظهر على هذا الماء أثر نجاسة بلونه أو طعمه أو ريحه، توضأ من قصعة فيها من اثر العجين، وكان صلى الله عليه وسلم يتوضأ من الحياض، والمقالي التي تردها السباع والدواب في الصحراء، فقال بعض الصحابة، لعله عمر بن الخطاب أو غيره بحسب الروايات: {يا صاحب المقراة! أخبرنا عن مقراتك تردها السباع، أم لا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تخبره، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطهور} والحديث صح عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري في السنن وغيرها، وقيل له كما في حديث جابر: {يا رسول الله! أنتوضأ بما أفضلت الحمر، قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها} رواه الدارقطني، والبيهقي بأسانيد إذا ضم بعضها إلى بعض أصبحت قوية كما يقول البيهقي.
وفي حديث عائشة عند الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم: {جيء له بماء يتوضأ، فأقبلت الهرة فأصغى لها الإناء لتشرب ثم توضأ بفضلها} .
هذا هديه صلى الله عليه وسلم في المياه، ما تنطّع وما تشدّد على نفسه، ولا ذهب ليسأل هل هذا الماء طاهر أو نجس أو ما أشبه ذلك، ثم كان يتوضأ بالماء القليل، فكان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، والمد هو قدر راحة الإنسان المتوسط مبسوطتين، -كما يقول صاحب القاموس وغيره- يتوضأ بقدر ما يملأ راحتيك إذا مددتهما وبسطتهما وملأتهما بالماء، ويغتسل بالصاع: وهو أربعة أمداد بل يغتسل بما دون ذلك، ففي صحيح مسلم من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل معها بإناء يسع ثلاثة أمداد أو نحو ذلك، وكان يغتسل مع زوجاته، مع عائشة، وأم سلمة، كما في الصحيحين ويغتسل بفضل ميمونة كما في صحيح مسلم، ومعروف أن آنيتهم كانت صغيرة، وعائشة وأم سلمة تقولان: إنهما كانتا تغتسلان معه، فـ عائشة تقول: {كنت أغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء تختلف أيدينا فيه} كأن هذا الإناء الصغير لا يسع يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويدي أم المؤمنين فإذا رفع يديه، أدخلت يديها، زاد البخاري من حديث عائشة، {فيبادرني، وأبادره} أي: كل واحد منهما يستعجل ليأخذ شيئاً من الماء وفي رواية النسائي: {حتى أقول: دع لي دع لي، ويقول: دعي لي دعي لي} ما كان يتوضأ بإناء يسع خمس قرب أو ست قرب، ولا كان يفتح الصنبور مدة ربع ساعة أو نصف ساعة صلى الله عليه وسلم.
3- هدي النبي في الطهارة: ثم هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء: كان يتوضأ مرة، مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، كما في الصحيحين لا يزيد على ذلك، وسبق قبل قليل الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم: {توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا الوضوء فمن زاد فقد أساء، وتعدى وظلم} ثم انظر إلى هديه صلى الله عليه وسلم في النجاسات في الثياب وغيرها، كان يحمل الصبيان والغلمان فربما بال أحدهم على ثوبه صلى الله عليه وسلم، فلا يصنع عليه الصلاة والسلام أكثر من أن يدعو بماء فيرشه وينضحه بالنسبة للصبيان، كما في الصحيحين من حديث أم قيس بنت محصن ومن حديث عائشة في صحيح البخاري، وأحاديث كثيرة ربما بلغت حد التواتر: {وهي أنه كان ينضح ما يصيبه من بول الصبيان} وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينام مع زوجاته، وربما أصاب ثوبه شيء من دم الحيض فيكتفي بأن يغسل موضع الدم ثم يصلي به صلى الله عليه وسلم، وربما أصاب ثوبه شيء من منيه عليه الصلاة والسلام، فاكتفى بأن يفركه، أو تفركه إحدى زوجاته إن كان يابساً، أو تميطه بخرقة، أو أذخرةٍ، أو تغسله إن كان رطباً.
وفي صحيح ابن خزيمة وسنن البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم: {صلى والمني في ثوبه، فكانت عائشة تفركه من ثوبه وهو يصلي} .
وسأل معاوية رضي الله عنه أم المؤمنين أخته كما عند الطحاوي وغيره بسند صحيح: {أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يضاجعك أو يجامعك فيه؟ قالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى} .
ثم تأمل هديه صلى الله عليه وسلم في هذا تجد أنه أكمل الهدي، وأسلمه، وأبعده عن التعمق، والتكلف وأخذ هذا عنه أصحابه رضي الله عنهم، فما كانوا يقبلون غير ذلك، وكذلك أخذه عنه من بعدهم، فكان التابعون يتوضئون بالماء اليسير، حتى أن منهم من توضأ بنصف المد، ومنهم من توضأ بربعه، وهذا كما يقول ابن قدامة مبالغة شديدة، ومنهم من توضأ فلا يبل وضوءه الأرض، وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول: من فقه الرجل قلة وضوئه بالماء، وقال المغوزي: أردت أن أوضئ الإمام أحمد وأنا في العسكر، فسترته من الناس لئلا يراه العوام فيظنون أنه لا يحسن الوضوء لقلة استعماله للماء.
انظروا إلى هديه صلى الله عليه وسلم في انتقاض الوضوء الذي ابتلى كثير من الموسوسين بأنه قد يكون خرج منه شيء، فيعيد الوضوء مرات -كما سبق- ويتنطع، ويذهب لينظر في ذكره وما أشبه ذلك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين في حديث عبد الله بن زيد: {شُكِي إليه الرجل يجد الشيء في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً} وفي حديث أبي هريرة بنحو ذلك.
إذاً: الطهارة أصل، والحدث طارئ عليها مشكوك فيه فلا ينصرف حتى يقطع بأن حدثه قد انتقض، ولا ينبغي أن يشغل نفسه بالتفكير والنظر هل خرج منه شيء أو لم يخرج، لكن إذا علم ذلك بصوت أو ريح أو ما أشبههما من الوسائل اليقينية القاطعة فحينئذٍ يتوضأ، أما تكرير الوضوء وإعادته وتكريره وكثرة العرك، والفرك فهذه من مخالفة هدي طائفة السلف رضي الله عنهم.
4- هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة: كذلك هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة وعدم الوسوسة أو كثرة التكرير أو الشك فيها كما يفعل كثير من الموسوسين في التكبير، ثم في أفعال الصلاة ربما زاد وربما نقص، وربما أعاد وربما لا يكاد يصلي أحد منهم إلا ويسجد للسهو، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعيداً عن هذا كله مع استحضار قلبه للصلاة وخشوعه فيها، وكمال ذكره، قل ما يسهو، وربما سها فنبه إلى ذلك كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين فاستقبل القبلة فصلى ركعتين ثم سجد للسهو صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص، وهي بنت بنته صلى الله عليه وسلم فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها وهذا أيضاً في الصحيحين، وربما صلى صلى الله عليه وسلم وبجواره الحسن أو الحسين فارتقى على ظهره عليه الصلاة والسلام، فتأخر في السجود حتى ينزل، فيسأله(172/26)
معرفة أنه من كيد الشيطان
أما العلاج الآخر فهو: أن يعرف أن الله تبارك وتعالى قال عن كيد الشيطان، وهو يذكر على لسان إبليس وكيده للإنسان، أن الشيطان كان يقول: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] .
فقال: من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، أي: من كل طريق يسلكه الإنسان، فالشيطان يقعد له بطريق الإسلام، بطريق الهجرة، بطريق الجهاد، بكل طريق يسلكه، ولكن المقصود في هذا الموضع، أن الشيطان ذكر اليمين والشمال، والأمام، والخلف، ولم يذكر الفوق، ما قال (ومن فوقهم) لماذا؟ لأنه يعرف أن الله فوقه، وأنه لا يستطيع أن يحول بينهم وبين الله عز وجل، وبينهم وبين رحمة الله تبارك وتعالى، ولذلك فالمبتلى بالوسواس أو بغيره، إذا سأل الله عز وجل بصدق قلب، وإقبال وحرارة فإن الله عز وجل لا يرد من قرع بابه في صدق: لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يَغضب فمن سأل الله بصدق وإقبال فإن الله عز وجل لا يخيبه أبدا، ولذلك ما قال الشيطان: من فوقهم؛ لأنه يعرف أن الله عز وجل قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وليعلم الموسوس أن الانطراح بين يدي الله عز وجل هو مفتاح الشفاء لهذا المرض ولغيره، بل ولأمراضه الحسية والجسدية.
ومن ذلك أن يعلم الموسوس أن الله رحيم بعباده، هذه مهمة جداً فالشيطان لا يحول بينك وبين رحمة الله، فإذا قال لك الشيطان: إنما أنت فيه من الدين؛ فتذكر أن الله عز وجل لا يريد أن يشق على عباده ولا أن يهلكهم بهذه الأشياء، وإذا قال لك الشيطان: يمكن أن تموت على الكفر بهذه الوساوس والشكوك؛ فتذكر أن الله عز وجل عليم بعبادة {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147] فالله عز وجل يريد أن يرحم عباده {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] .(172/27)
الاقتناع بأن الوسواس مرض يجب التخلص منه
الوسيلة الأولى: هي أن تدرك فعلاً أن ما أنت فيه هو مرض يجب علاجه والتخلص منه، فإن الإنسان إذا لم يقتنع بأنه مصاب بالمرض فعلاً، فإن استجابته للعلاج ضعيفة أو معدومة، لأن هذا مرض يمكن أن نقول عنه: إنه نفسي، والمريض النفسي إذا لم يقتنع أنه مريض قد يُعطى العلاج فيرمي به ولا يبالي، لأنه يرى أن ما هو فيه ليس بمرض بل هو عين الحق وعين الصواب، بل قد يرمي غيره بمن لم يبتلوا بهذا الداء بأنهم مفرطون لا يبالون بأي ماء توضئوا، ولا بأي مكان صلوا، ولا بأي نية عملوا، ولا يبالون بأعمالهم وعباداتهم، وأنهم متساهلون في هذه الأشياء فلا بد أن تدرك أن ما أنت فيه هو بلاء ومرض وأنه ليس عبادة تؤجر عليها وإليك الدليل: الدليل على أنه ليس عبادة تؤجر عليها: أن الله عز وجل يحب العبادات يحب الطهارة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] يحب الصلاة ويحب المصلين، وهو يبغض الوسواس والموسوسين، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وسعيد بن منصور بسند حسن، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم: {توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هذا الوضوء فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم} إذاً الموسوس متعدٍ، والله عز وجل يقول في محكم التنزيل: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] .
إن الله لا يحب المعتدين في الوضوء، والطهارة، والصلاة، والدعاء، وغيره، وغاية ما يقال في شأن الموسوس: إنه مبتلى، وإلا فقد يقال: إنه لو اعتقد أنما هو فيه هو عين الحق والصواب، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه: إنه مشاقٌ لله ورسوله، مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، مخالف لمنهج السلف الصالح، قال: وقال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية - إنه يستحق التعزير البليغ على مخالفته لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لابد أن يعرف الموسوس أنه مصاب ومبتلى، وإلا فلن يستجيب للعلاج، وقد صلى بجنبي يوماً من الأيام رجل في أحد المساجد، فرأيت من جهله بالصلاة وكثرة إعادته للتكبير وتشدده وابتلائه في ذلك ما جعلني بعد أن سلَّم وكان مسبوقاً بركعة، أحببت أن أحدثه في ذلك وأنصحه، فلما سلم عن شماله قام سريعاً وخرج يركض، وهو لا يريد أن يكلمه أحد في هذا السبيل، وبعضهم إذا علم أنك ستحادثه تجنب ملاقاتك خشية أن تفتح معه هذا الموضوع، إذاً القضية خطيرة وقد تودي بالإنسان إلى مخاطر ومحاذير كثيرة.
فعلى الموسوس أولاً: أن يكون لديه معرفة أنه مبتلى ويجب أن يستجيب للعلاج.(172/28)
الأسئلة(172/29)
كيفية قضاء العمر
السؤال
كيف يمكنني أن أقضي وقتي بما فيه فائدة، خاصة وأن بعض الشباب يقضون أوقاتهم بما ليس فيها فائدة؟
الجواب
"العمر سريع التقضي، أبي التأني، بطيء الرجوع" كما يقول شيخ الإسلام الهروي في منازل السائرين، ولذلك على الإنسان أن يغتنم ساعات العمر، والأيام، والليالي، فأفٍ وتف، ثم أفٍ وتف، لعمر يضيع في لهو، ولعب، وهو الفرصة الوحيدة لي ولكم أن نقدم لأخرانا ما استطعنا من الأعمال الصالحة.
فالإنسان الشاب عليه أن يتدارك عمره في طلب العلم النافع، وصحبة الأخيار، وحضور مجالس الذكر، وحفظ القرآن، وتدريسه، وأن يعمل بما علم، ويعلّم غيره، فإن زكاة العلم العمل والتعليم، وأنا أعتذر إليكم عن هذه الإطالة.
ونسأل الله أن يجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وجزاكم الله خيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(172/30)
النتر والسلت بين البدعة والسنة
السؤال
إنك ذكرت أن النتر والسلت من البدع المحدثة، إذا كان يخرج من الذكر نقطة أو نقطتان، فكيف أفعل بذلك؟
الجواب
بعض الفقهاء ذكروا أنه يسلت ذكره، وقد ورد في ذلك حديث عند ابن ماجة لكنه لا يصح، وقد أنكره شيخ الإسلام ابن تيمية، أنكر السلت، والنتر، وراجعه ابن القيم في ذلك مراراً، فقال: لا يفعل ونهاه عن ذلك، وقال-كما سبق-: إن البول إذا استدعي در، وإذا ترك قر، فإذا كان الإنسان جرب عملياً، أنه بعدما يتبول ينتظر بعد ذلك دقيقة أو نحو ذلك، ثم يخرج قطرة أو قطرتين عادة، وأنه لو توضأ وقام خرجت منه فعلاً وقطعاً بلا شك ينتظر حتى تخرج منه، لكن أقول التحفظ السابق، هذا الكلام قد يستغله بعض المصابين بالوسواس.(172/31)
سؤال عن أم موسوسة
السؤال
له والدة تبلغ من العمر سبعين سنة تقريباً، ابتليت بالوسوسة في الصلاة والوضوء، فقد تصلي العصر إلى ثمان ركعات، ولا تصلي الصلاة إلا ولا بد أن تسجد فيها للسهو، وفي الوضوء تتوضأ بماء كثير، وتمكث في دورة المياه حوالي نصف ساعة، تستهلك الماء الكثير، وحاول أن يعالجها فلم يستطع، فبم توجهني جزاك الله خيراً؟
الجواب
التوجيه بما سبق، وامرأة في هذا السن، ولا زالت على الوسواس الأمر فيه صعوبة، ولكن على الأخ ألاَّ ييئس وأن يستمر شيئاً فشيئاً، ويذكرها بالله، ويسمعها كلام أهل العلم في ذلك، ويقرأ عليها الأحاديث، ويعلمها بعض الأحكام التي قد تجهلها، وإن كانت تنسى أو غير ذلك، فيعيد عليها هذا الأمر مرة بعد أخرى، لعل الله أن يعينها على ما هي فيه.(172/32)
ترك الصلاة خوف الرياء
السؤال
عندما أؤدي أي عبادة أحس أنني مراءٍ، وفي بعض الأحيان قد أترك هذه الصلاة أو العبادة بسبب هذا الوسواس، أرجو منكم العلاج؟
الجواب
نعم، هذه من الوساوس، وهو أن الشيطان يلبس على الإنسان ويقول له: قد تكون مرائياً، حتى يترك العمل، وكونك تركت العمل دليل أنك لست مرائياً، لأنك لو كنت مرائياً لاستمررت على العمل، فكونك تركته خشية الرياء دليل على أنك تحاذر الرياء، فالشيطان له مداخله العظيمة، قد يدخل من الأبواب التي يخيل إليك أنك تتقي الشيطان فيها، فإذا وسوس لك الشيطان في عمل بأنك تقصد غير وجه الله بهذا العمل، وبدأت نفسك تقول: أترك هذا العمل، فالذي أنصحك به وغيرك، أقول: اعمل هذا العمل وزد عليه وأرغم أنف الشيطان.(172/33)
الوسوسة في الإيمان
السؤال
يقول إنه في التاسعة عشرة من عمره، كان يشعر بقوة الإيمان، وفي هذه السنة بدأ يأتيه الشك، حتى إذا سمع قول فرقة من الفرق الضالة، بدأ يشك، هل هذا من الوسوسة، ويرجو العلاج؟
الجواب
هذا من الوسواس، وهو معروف عند العلماء يسمونه -كما أسلفت قبل قليل- بالشك الديني، والواقع أنه وسوسة تصيب كثيراً من الشباب في هذه المرحلة، حتى إن منهم من يوسوس في البديهيات، أحد الشباب يوسوس يقول: ما هو الدليل على أنه كان هناك رسول موجود؟! ما هو الدليل على أنه كان هناك خلفاء راشدون؟! ما هو الدليل على وجود الدولة الأموية؟! ودولة أخرى تسمى الدولة العباسية؟! ودولة ثالثة تسمى دولة العثمانيين؟! ما هو الدليل على ذلك؟! أقول: ما هو الدليل إذاً على وجود دول في أوروبا وأمريكا؟! ما هو الدليل على وجود عقلك أيها السائل؟!! يشكك الإنسان، ثم إن هذا الإنسان جاء يوماً من الأيام فرحاً مسروراً، وكأنه قد اكتشف أمراً عظيماً، ماذا اكتشف؟! وجد أن هناك درهماً أو ديناراً مضروباً في عهد عبد الملك بن مروان، فقال: إنه اكتشف الآن أنه موجود أي عبد الملك بن مروان، لماذا هو موجود؟! قال: لأن اسمه مضروب على هذه السكة.
فتح الله عليك!! هذه الدنيا كلها، وهذه الكتب، والناس كلهم، مسلمهم، وكافرهم، عربهم، وعجمهم، ذكرهم، وأنثاهم، عالمهم، وجاهلهم، يعرفون هذه الحقائق، فوجود الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يشكك فيه ولا اليهود، ولا النصارى، ولا البوذيون، ولا الوثنيون، ولا غيرهم.
قد يكفرون به عليه الصلاة والسلام، لكن جميع هذه الطوائف لا يشككون في وجوده عليه الصلاة والسلام، فهذا نوع من الخفة تصيب عقل الإنسان، قد يكون سببها أحياناً فترة المراهقة، والشيء الخطير جداً هو إنصات الإنسان لهذا الشيء، وكثرت اهتمامه به، واكتراثه له، وتفكيره فيه، ولذلك النصيحة الذهبية التي تُهدى لكل شباب مبتلى بهذا الأمر، أن يقال له: اشتغل بأمورك، وأمض في سبيلك، في دراستك، وصداقتك مع زملائك، وأعمالك في البيت، وما أنت بشأنه، ولا تكترث لهذه الأشياء، لا تكترث لها، وكل ما يخطر في بالك فادفعه ولا تبالي به.
وإن كان في شأن الله عز وجل فتذكر النصيحة التي أثبتها بعض العلماء كـ الغزالي رحمه الله وغيره: كل ما خطر ببالك فالله ليس كذلك، أيّ صورة يصورها لك الشيطان عن الله عز وجل فيها نقص فلا تكترث؛ لأن هذا ليس هو الله عز وجل والله لا تدركه الأبصار، ولا تحيط به العقول، فلا تبال بذلك، ولا تكترث، ولا تضق به ذرعاً، لأن الشيطان يريد أن يحزن الذين آمنوا.(172/34)
نقص غريزة العقل والوسواس
السؤال
قلت: إن السبب الأول في الوسواس، هو نقص في غريزة العقل؟ إضافة العقل إلى الغريزة إضافة مناسبة، هذا يقتضي أن يكون العقل غريزة.
الجواب
هذا الكلام أظن أنه بنصه بنصها من كلام الإمام الجويني، وفيما يبدو لي أنه وجيه، أن العقل غريزة، بمعنى أنه مغروز، لأن أصل كلمة غريزة في اللغة، أي أنها شيء مغروز، أو مغروس، أو مخلوق مع الإنسان، وليس من كسبه هو.(172/35)
العجز عن المجاهدة
السؤال
يقول السائل: إنه عجز عن مجاهدة النفس بتخليل الماء فهل هو آثم؟ وما هو العلاج؟
الجواب
العلاج سبق، ولو صح أنه عاجز فعلاً، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن غير صحيح أنه عاجز، كيف يكون عاجزاً؟ وهو رجل مستطيع قادر، فلا يمكن أن يقال: إنه عاجز، وهذا يذكرني بالسؤال الطريف الذي سأله أحدهم الإمام أبا محمد المقدسي، قال له يا أبا محمد! إنني عجزت أن أقول السلام عليكم، إذا أردت أن أسلم للصلاة لا أستطيع أن أقول السلام عليكم ورحمة الله، فضحك الإمام أبو محمد، وقال: قل مثلما قلت الآن! فما بالك إذا كنت تتحدث مع الناس تقولها بهدوء، فإذا جاء وقت الصلاة أصابك ما قرب وما بعد، أنت الآن تقول: إنك لا تستطيع أن تغسل أعضاءك بسهولة، لو كنت تريد أن تغسلها غسلاً عادياً لغير الوضوء لغسلتها بكل يسر، فلم إذا جاء غسلها من أجل الوضوء أصابك هذا! لا، أنت تستطيع ولست بعاجز.(172/36)
الوسوسة في الصلاة
السؤال
إنه عندما يأتي إلى الصلاة يحس بالوسوسة، مثل التفكير بالموت، أو الأهل فبماذا تنصحني؟
الجواب
كل أمر إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده، أحد الشباب كان يقول: أصابه الخوف والذعر من الموت، وبدأ يوسوس في الموت ليل نهار، وتعدى الأمر إلى وساوس كثيرة جداً في الوضوء، والطهارة، والصلاة، لكن بلغ الأمر - والعياذ بالله- إلى أنه يتجنب المرور في الشوارع القريبة من المقابر وهي في طريق عمله، فيذهب في طريق بعيد لئلا يمر بهذا، لأنه يصيبه ما يصيبه.
وإذا رأى الناس في المسجد أصابه ما أصابه، هذا من ضعف النفس من خور القلب، وقلة الإيمان، فعلى الإنسان أن يحرص أن يملأ قلبه بالمادة الصالحة، كل هذه الأسئلة الإجابة عنها أن تملأ قلبك بالمواد الصالحة: بحفظ القرآن، بطلب العلم النافع، بالدعوة إلى الله، بكثرة التسبيح والتهليل، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحينئذٍ تنطرد جميع المواد الخبيثة، ويقول بعضها لبعض لا مقام لكم فارجعوا، فتخرج من قلبك، أما إذا خلا القلب فإن الشياطين تتلاعب وتتراكض كما تتراكض الذئاب في الصحراء الخالية.(172/37)
النفث في الصلاة
السؤال
إذا أشغل الشيطان المصلي، هل ينفث عن يساره ثلاثاً؟ وما هو الحل من وساوس الشيطان وخاصة في الصلاة؟
الجواب
موضوع طرد الوسواس واستحضار النية، باختصار شديد: سبب الانشغال في الصلاة بالخواطر، والواردات، إما أن يكون سبباً خارجياً، مثل أن يكون الجو الذي فيه الإنسان، أو المسجد فيه ما يشغل الإنسان من صوت، أو صورة، أو ما أشبه ذلك، فعلى الإنسان أن يحرص على دفع هذا الأمر، وإبعاده عنه، وإما أن يكون سبباً داخلياً، وهو أن يكون قلب المصلي مشغولاً بدنيا، بطلب تجارة، برئاسة، بشيء من هذه الأشياء، وهذا هو الأمر الذي يحتاج إلى مجاهدة شديدة في علاجه.
فعلى الإنسان أن يجعل حياته في طاعة الله، وألاَّ يشغل دنياه إلا في مرضاة الله، وحتى ما يشتغل به من أمور الدنيا لا يكثر منه ويشغل قلبه به، أما إذا أشغل قلبه به، فليبشر أنه إذا صف في الصلاة فإن هذه الواردات ستخطر على قلبه، وإذا كان سبق معكم قبل قليل من أسباب دفع الوسواس، الانطراح، والدعاء وذكر الله عز وجل فما بالكم حين يكون هذا السبب لدفع الوسواس هو نفسه قد وسوس فيه الشيطان، حتى إن كثيراً من الناس لا ترد عليه الخواطر، والواردات إلا إذا بدأ يصلي.
وكلكم تعرفون قصة الرجل الذي جاء إلى أبي حنيفة، فقال: إنه فقد مبلغاً من المال ونسي، لا يدري أين وضعه فقال له: اذهب وصلّ عشر ركعات، فصلى هذا الرجل ركعتين، ثم جاء لـ أبي حنيفة وقال: جزاك الله خيراً قد تذكرت أين هو، قال أبو حنيفة: إن الشيطان لما رأى أنك تريد أن تصلي عشر ركعات، قطع عليك الطريق وأخبرك أين هو، حتى لا تكمل هذه الركعات العشر التي نويت أن تصليها، فالشيطان يحول بين الإنسان وصلاته، كما في حديث أبي هريرة في الصحيح.
فعلى الإنسان أن يستحضر معنى ما يقرأ من الأذكار والأدعية، يبكر إلى الصلاة، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ويتنفل، ويخبت لله عز وجل ولا يكثر الحركة، ومهما تذكر أنه في صلاة فيحرص على استحضار النية، واستحضار الخشوع.
أحياناً قد لا تذكر أنك في صلاة إلا وأنت في التشهد الأخير، وأنت تقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، تذكرت أنك في صلاة، فتقول: هل فاتت علي هذه؟ لا، ما فاتت بقي عليك هذا الدعاء الأخير، حاول أن تستذكر معناه، وتسأل الله بقلب صادق، وبالمجاهدة، فالدنيا ميدان جهاد.(172/38)
الوسوسة في أخذ العين المحرمة
السؤال
يحصل عندي وسوسة، وذلك لأجل أني اشتريت شيئاً محرماً، ولم أؤدِ قيمته، وعندما هداني الله للحق والصواب، حصل عندي وسوسة لأنني إن أعطيته أكون معيناً له على الحرام، أرجو إرشادي؟
الجواب
إذا كانت الوسوسة في هذا الأمر فقط، فهذه ليست وسوسة، هذا شك أو جهل بالحكم الشرعي، أما إن كانت وسوسة عامة في أمور كثيرة، فالكلام السابق كله يتعلق بالوسواس، أما فيما يتعلق بهذا الأمر فلا تعطه قيمة هذا الشيء المحرم الذي اشتريته منه، لكن أنصحك بأن تتصدق بقيمته في سبيل الله.(172/39)
وسوسة في البول
السؤال
إذا انتهيت من قضاء الحاجة، أحس أن البول لم ينقطع، فكيف أفعل في التخلص من هذه المشكلة؟
الجواب
إذا كان ذلك من باب الوسوسة فسبق الجواب.
إما إن كان فعلاً عنده شيء من السلس، ويحس بعدم خروج هذه القطرات، فإن كان يكفي أن ينتظر دقيقتين أو ثلاث دقائق حتى تخرج ثم يتوضأ فحسن وإن كان سلساً مستمراً معه فحكم السلس معروف، وهو أنه يتحفظ بما يمنع وصول النجاسة إلى المسجد أو غيره، ثم يتوضأ إذا دخل وقت الصلاة ويصلي، كما في أحاديث المستحاضة، وهي أحاديث في الصحيحين وغيرها، أنها تتوضأ لكل صلاة، وتصلي، وهكذا من به حدث دائم كالسلس.
وكذلك أرشد الأخ إلى أنه بعد أن ينتهي من الوضوء، عليه أن ينضح فرجه، وسراويله بشيء من الماء، وقد ورد هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم: {أنه كان إذا توضأ نضح فرجه} وكذلك ورد عن الصحابة، والتابعين، وكثير من السلف، كان إذا توضأ نضح فرجه، حتى إذا وسوس له الشيطان بوجود رطوبة، قال: هذا من الماء الذي نضحت به فرجي، أو سراويلي.(172/40)
الوسوسة في عدم فعل الكمال
السؤال
أنا شاب أرى كلما عملت عملاً، وفعلت فعلاً في طاعة الله عز وجل أنه ناقص، ولم أفعله على الوجه الأكمل؟ فهل هذا يعتبر من الوسواس؟
الجواب
أما كون الإنسان دائماً يتطلع إلى الأفضل، فهذا خير ومطلوب، والعبد لا يزال في جهاد حتى يموت، ولا يجوز للإنسان أن يعتقد أنه بلغ الكمال، فإن اعتقد أنه بلغ الكمال، فإنه من نقصه، أما إن كان يحس بأن هذا شعور غير طبيعي، وكلما عمل عملاً يحصل عنده تردد، وتذبذب، وشك، ووسوسة، فعليه أن يعمل، ويتوكل على الله عز وجل ولا يلتفت إلى هذا الشعور.(172/41)
الشك في الإخلاص
السؤال
هذا أخ يقول: إنه يخدم زملاءه، لكن يشك في هذه الخدمة، هل هي خالصة لوجه الله أم لا؟
الجواب
هذا من الأشياء التي يدخل منها الشيطان على الإنسان، تشكيكه في النية، والنية ظاهرة أحياناً، فالإنسان يعرف نيته في كثير من الأشياء، أرأيت فيما يتعلق بالوضوء؟ إذا أحضر إنسان ماءً ودخل دورة المياه، وأغلق الباب، ماذا يريد؟ أيريد أن ينام؟! يريد أن يتوضأ ثم يخرج ليصلي؟ وإذا جاء إنسان إلى المسجد، وجلس خلف الإمام ينتظر إقامة الصلاة، لماذا يجلس؟ ماذا ينتظر؟ كل الناس يعرفون أنه جالس للصلاة، هذه قضية معروفة، والشك في النية من أعظم الأدلة على الخبل في عقل الموسوس، لأن الناس يعرفون نيتك في مثل هذه الأمور من آثارها، فكيف لا تعرف نيتك وقصدك؟! ولا داعي للتنطع، ولو كلف الإنسان أن يدفع النية عن قلبه لما استطاع، لا يستطيع الإنسان أن يعمل عملاً بدون نية، ولا يتنطع في إحضار النية، لأن النية مجرد هذا القصد الموجود في قلبك.
الأعمال الأخرى: إذا كان أصل قصد الإنسان فيها حسناً، أو دافعه ليس بسيئ، لم يكن عمل هذا العمل من أجل أن يمدح، ولا من أجل نيل أمر من أمور الدنيا، فعليه أن يستمر في هذا العمل، ويحرص على إخلاص النية، ولا يجعل مدخلاً للشيطان أنه قد يترك أعمالاً طيبة، لأن الشيطان شككه بأن قصده ليس بحسن.
اعمل هذا العمل من خدمة زملائك، أو طلب العلم، أو الدعوة إلى الله، أو التعليم، وإن كنت تحس أن نيتك ليست تامة، فليس الحل هو أن تترك هذا العمل، الحل أن تستمر في هذا العمل، وترغم أنف الشيطان، وتجاهد نفسك في إصلاح نيتك.(172/42)
البطء في الغسل تلذذاً بالماء
السؤال
عندما أريد الاغتسال من الجنابة، أجد في الاغتسال تلذذاً وأطيل زمن الجلوس في الماء؟ هل هذا يعد من أمور الوسواس؟
الجواب
إذا كان لمجرد التلذذ بالماء لبرودته -مثلاً- أو لسخونته في وقت الشتاء أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يعد من الوسواس ولكنه يعد من الإسراف، وقبل قليل سمعتم ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {أنه كان يتوضأ بمد، ويغتسل بصاع} وحديث عائشة في صحيح مسلم {أنها كانت تغتسل هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء يسع ثلاثة أمداد} وفي حديث سعد عند أحمد {لا تسرف} قال: أو في الماء إسراف يا رسول الله؟ قال: نعم ولو كنت على نهر جار} .(172/43)
كتب في الوسواس
السؤال
ما الكتب التي تنصح بقراءتها فيما يختص بهذا الموضوع؟
الجواب
ذكرت بعض الكتب سابقاً، وعلى من ابتلي بهذا مع قراءة الكتب أن يتصل بأحد المشايخ أو غيرهم، ويعرض عليه حاله، لكن يحذر من أن يكون ممن يسمع بأذن، ويخرج ما يسمع من الأذن الأخرى إما أن يكون رجلاً يسمع ويطيع، وينفذ، وإما أن يجلس في حاله، ولا يشغل الناس فيما هو فيه.(172/44)
الوسواس في الطاعة أم المعصية
السؤال
هناك بعض الناس يطلق على الملتزم بأوامر الشرع من إعفاء اللحية، والمحافظة على الصلوات، والمداومة على حزب من القرآن الكريم، وغيرها من الواجبات، والنوافل، كلمة موسوس.
فهل الشيطان الرجيم يوسوس بالطاعة، أم بالمعصية، كحلق اللحية، والإسبال، كما وسوس لأبينا آدم عليه السلام، بمعصية الله عز وجل بالأكل من الشجرة؟
الجواب
الواقع أن الله عز وجل ذكر لنا {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِين * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّون َ) [المطففين:29-32] فليس من الغريب أن يُسخَر من المؤمن، لأنه أعفى لحيته، أو لأنه مقصر ثوبه، أو يبكر إلى المسجد، أو يكثر من تلاوة القرآن، أو طلب العلم، أو يتجنب أكل الربا والحرام، أو لا يدخل أجهزة الهدم والدمار والتخريب إلى بيته.
ليس غريباً أن يُسخر منه لأن الله جل وعلا أخبرنا أن هذا سنجده في الطريق، بل الغريب لو لم يقع هذا، بل لا يمكن أن لا يقع هذا، كيف لا يقع والله سبحانه أخبرنا أنه سيقع؟! لكن المؤمن يصبر، ويدرك أنه إذا كان الله معه فلا يضيره أن يعاديه الناس، وإذا كان واثقاً من طريقه فما يبالي أن يسخر منه التائهون، ولك أسوة وقدوة بنوح عليه الصلاة والسلام، قال الله فيه: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] سخروا سخرية الجاهل، يا نوح أتصنع السفينة وأنت في بر أين عقلك؟ سخروا منه: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:39] تسخرون بالباطل ونسخر منكم بالحق.(172/45)
صلاة المرأة الحائض
السؤال
امرأة في جماعة وهى حائض، ولا تريد أن يعلم بها من حولها أنها حائض، وتصلي أمامهم بلا طهارة، ولا قراءة، إنما مجرد أفعال، حتى لا يُعلم أنها حائض؟
الجواب
أولاً الحيض أمر طبيعي ليس فيه عيب أو عار، وكل بنات آدم كتب الله عليهن هذا الأمر، وليس هناك مجال حتى تكتمه المرأة أو تستره، ولا يجوز بحال من الأحوال لغير متوضئ أن يصلي، لكن ننتبه، لا يأتي أحد الموسوسين إلى هذه الفتيا فيجريها لصالحه -كما أشرت قبل قليل- فإذا توضأ مرتين، أو ثلاثاً، أو عشر مرات، وجلس ساعتين، أو ثلاث ساعات في الخلاء، ثم خرج، وقال: والله يمكن إني نسيت أن أمسح رأسي، فإذا كبر تسلط عليه الشيطان، وقال أنت تصلي بدون وضوء، وأنت سمعت فلاناً يقول: إنه لا تجوز الصلاة بدون وضوء، أو أن الصلاة بدون وضوء قد تكون سخرية واستهزاء، لا، امرأة حائض لا يجوز أن تصلي، ورجل يعلم من نفسه أنه غير متوضئ لا يجوز أن يصلي، لكن الموسوس إذا توضأ وغسل أعضاءه ولو مرة واحدة يصلي ولا شيء في ذلك.(172/46)
رسالة إلى الأب
تحدث الشيخ عن نعمة الأولاد منبهاً على أن البنات نعمة كالبنين، وكما أن لكل نعمة شكراً يقدمه العبد إلى ربه، فلنعمة الأولاد شكر وهو القيام بحق الله فيهم وحسن تربيتهم على الدين والأخلاق، وقبل ذلك اختيار أمهم والالتزام بشرع الله في الزواج بها، وحسن اختيار الاسم عند الولادة، وتظل التربية إلى آخر العمر فلا حدود لها، ومن أهم وسائلها زرع الحنان والبيئة الصالحة والعدل بين الأولاد والقدوة الحسنة.(173/1)
نعمة الأولاد
الحمد الله الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، تفرد بالوحدانية, وجعل من صفات خَلْقِه الزوجية، فقال عز وجل: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] .
اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء, وأنت الآخر فليس بعدك شيء, وأنت الظاهر فليس فوقك شيء, وأنت الباطن فليس دونك شيء, اقض عنا الدين وأغننا من الفقر.
لقد امتن الله تعالى على عباده بنعم عظيمة وآلاء جسيمة, وكان من أعظم هذه النعم نعمة الأولاد, فقال عز وجل: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:11-15] فوجود هؤلاء البنين والأولاد بحضرة أبيهم, يغدون معه ويروحون, زينة في المجالس, وبهجة في الحياة الدنيا, وعون على لأواء الحياة, هو من أعظم نعم الله تبارك وتعالى، قال عز وجل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل:72] .
فوجود الأولاد وجعلهم وخلقهم هو من نعمه تعالى التي يمتن بها على عباده, ولو أن الإنسان منا تصور نفسه يواجه الحياة وحيداً فريداً بلا ولد ولا عون ولا مساعدة, لشَعَر بأن الحياة مظلمة جداً, ويعرف ذلك ويدركه حق المعرفة أولئك الذين امتحنهم الله تعالى بالعقم, فلا يولد لهم, فيدخل الواحد منهم بيته، وهو يشعر كأنه يدخل قبراً، ليس فيه صياح الأطفال ولا صراخهم ولا تضاغيهم, بل ولا تخريبهم الذي يتمناه ويتصوره ويتخيله، ولكن هيهات! فالله عز وجل خلق الناس واختار لهم، قال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:49-50] .
أيها الإخوة هذه النعم العظيمة ما زال الإنسان يفرح بها ويُسَر منذ الأزل, بل ما زال الإنسان يجد في هؤلاء: الروائحَ الزكيةَ, والأنفاسَ الطيبةَ, والفرحةَ التي يفرح بالدنيا من أجلها يقول أحدهم: لولا بنيات كزغب القطا رُدِّدن من بعض إلى بعض لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض فهؤلاء الأولاد هم كالأكباد التي تمشي على الأرض, ولو أنك تصورت -أيضا- أنك رزقت ولداً مشوهاً أو ناقصاً أو مريضاً أو معتوهاً, لأدركت حق نعمة الله تبارك وتعالى عليك بسلامة الأولاد وعافيتهم, وعرفت أن هذه النعمة تستحق منك شكراً كثيراً متواصلاً.(173/2)
قصة طريفة
كان ثمة رجل لا يولد له إلا البنات، فضاق بذلك ذرعاً، وهدد زوجته إن أنجبت هذه المرة أنثى أنه سيطلقها أو يتزوج غيرها ما لـ أبي حمزة لا يأتينا يقيم في البيت الذي يلينا غضبان ألا نلد البنينا تالله ما ذلك في أيدينا وما منحناه فقد أعطينا وذهبت زوجته إلى المستشفى وهي في كرب شديد, ولاحظ الأطباء على وجهها علامات الإعياء والإرهاق, وعلى قسماتها آثار حزن عميق طويل, فسألوها: ما الخطب؟ فتمنعت, ثم ألحوا عليها فأخبرتهم, فقال أحد الأطباء: أنا له، وانتظر الزوج طويلاً حتى قدم, فقال له: أبشر! فقد رزقت بولد, فتهلل وجه الزوج وفرح وأشرق, ثم قال: ولكنه مصاب بعَتَهٍ وتخلف عقلي بسبب نقص في الدماغ, ومصاب بالتشوه الجسماني, ففي يديه كذا, وفي وجهه كذا, وفي بطنه كذا, وفي ظهره كذا, وفي عينه كذا, وفي أذنه كذا, ثم طفق يصبّره ويرضّيه بقضاء الله تعالى وقدره, فانهلّت من عين الأب دمعتان، وقال: ما هذا إلا بسبب عدم رضائي بقضاء الله تعالى وقدره, حينما سخطت البنات, والله لو لم يكن نسلي إلا بنات فلن يرى الله تعالى مني بإذنه إلا الرضا والفرح والسرور! فقال له الطبيب: إذاً هوّن عليك, فإنما رزقك الله تعالى ببنت كاملة سوية، ليس فيها ما ينقص أو يعاب, فاستغفر الله تعالى وعرف عظيم نعمة الله تعالى عليه, حين يرزقه ولداً سوياً سليماً معافىً من الآفات والأمراض والنقائص العقلية أو الجسمية.
وإنما تعرف النعمة بفقدها.
والضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء(173/3)
البنات نعمة
كان ثمة رجل لا يولد له إلا البنات, وكثيرًا ما كان الناس يتضايقون من هذا, ويتبرمون منه، وينسون أن البركة ربما تأتي مع البنت, والعون الرباني ربما يصاحبها, وأن الله تعالى قد يرزقك بسببها, قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {أبغوني ضعفاءكم! هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟!} والمرأة والبنت من الضعفاء, فالمؤمن الحق يفرح بميلادها, ويهلل ويكبر, ولو لم يكن من ذلك إلا مخالفة عادات الجاهلية الأولى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل:58-59] فلو لم يكن من الفرح بالبنت إلا مخالفة عادات الجاهلية الأولى وإعلان الرضا بما كتبه الله تعالى وقَدّره وقضاه, لكان ذلك خيراً.
ويكفيك أن تعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل بنته فاطمة رضي الله عنها, وكيف فرح بها، وكيف فرح ببناته الأخر, وكيف كان عليه الصلاة والسلام يظهر لهن من الود والحب والعطف ما لا يخطر على بال.(173/4)
شكر الله على نعمة الأولاد
فيا أخي الأب! حتى ولو كنت أباً لطفل واحد، بل حتى لو كنت أبا لحملٍ يتحرك في أحشاء زوجتك, هل تدري أية نعمة أنت فيها؟! وهل تدري أي شكر أنت مطالب به؟! إياك أن تكون ممن يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها! إن واجبك هو الشكر، والشكر ليس كلمة تقال باللسان, بل هو عمل، قال الباري جل وعلا: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ:13] إذاً الشكر عمل، والشكر تطبيق، والشكر امتثال، والشكر تنفيذ أوامر المنعم فيما أنعم به عليك, فشكر المال -مثلاً- أن تكسبه من حله، وتنفقه في حله، وتؤدي حق الله تعالى فيه، وشكر الولد هو كذلك بأشياء عملية.(173/5)
تجنب منكرات الأعراس
ومن بداية التربية اختيار الأسلوب المناسب للزواج, فهذا الذي عقد على زوجته، ثم دخل عليها في وسط ملأ حاشد من الناس على المنصة -كما يقولون- والرجال والنساء يرونهم! بل حدثني ثقات رأوا بأعينهم في بلادنا هذه أن الشاب يدخل على زوجته بحضرة أقاربها وأقاربه، ثم يصافحها بيده, ثم يقبلها على خدها الأيمن وأخرى على خدها الأيسر! أين الحياء؟! وأين المروءة؟! هي زوجتك أحلها الله تعالى لك، وهي حليلتك: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] لكن أمام الناس هكذا؟! إنه مجرد التقليد الأعمى لعادات غربية, ما أنزل الله بها من سلطان, وأصبحت طقوس الكنيسة ورموزها في الزواج تنقل إلينا حرفاً بحرف, فهذا الثوب الطويل الذي تلبسه العروس ويسحب وراءها مترين، وهو ثوب أبيض -ما يسمى بالتشريعة- ثم هذه الزهور التي تحمل ما بين يديها ومن خلفها, ثم دخول الزوج عليها, ثم مصافحته لها أو تقبيله, وكل هذه الأشياء إنما هي من العادات الغربية التي وفدت إلى مجتمعات الإسلام.
فبالله عليكم أليس عندنا عادات؟! أوليس عندنا تقاليد تكفينا؟! أم هي فاشلة فاسدة منحرفة؟! أستغفر الله وأتوب إليه! بل عندنا خير الهدي: هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وعندنا خير منهاج وخير سنة، ومن يرغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه إلا من سفه نفسه، والإنسان يحشر يوم القيامة مع من أحب: {من تشبه بقوم فهو منهم} كما قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
فلماذا تتحول أعراسنا إلى مظاهرة لتطبيق العادات الغربية والتقاليد الأجنبية، ومخالفة رسوم الشريعة ومقتضيات الحياء والمروءة والإنسانية؟! وأعظم من ذلك كله أن هذا كله يصور بكاميرات الفيديو، ثم تنتقل الكاميرا لتصور النساء المدعوات من الفتيات والنساء المزوجات, وهن بأبهى زينة, وفي أحسن الثياب, وأجمل الملابس متبرجات، ثم يرقصن في موسم العرس والفرح, والكاميرا تدور عليهن، وبعد ذلك هذا الشريط يتناقله الشباب سراً اليوم, ويتناقلونه علانية غداً وبعد غد, وهذه زوجة فلان, وهذه زوجة فلان, وهذه بنت فلان, فأي شيء هذا؟! إذا لم يكن من دينك ما يردعك، فليكن من حيائك ما يمنعك, وإذا لم يكن دين ولا حياء فالمصلحة, فمن الذي يرضى لزوجته أو بنته إن كانت جميلة أن يتغزل بها الشباب ويعشقونها ويطيلون النظر إليها عبر الشريط، وإن كانت دميمة أن يسخروا منها ويتكلموا عنها في المجالس؟! كيف ترضى بأن تبوح وتكشف ما أمر الله تعالى بستره؟!(173/6)
حسن اختيار الاسم
ثم من حسن التربية أن تختار الاسم المناسب للولد, فلا تعطه أي اسم، كأن تسميه باسم المكان الذي ولد فيه مثلاً, أو تسميه باسم المناسبة, أو تسميه على أبيك وجدك، وقد يكون اسم جدك غير مناسب, لأن الاسم مرتبط بالزمان، وكل زمان له أسماء قد لا تكون مناسبة في غيره.
أو البنت كذلك، تسميها بأي اسم قد يعيبها إذا كبرت, ويظل عاراً يلاحقها, وأنا أعرف من البنات والأبناء من كان اسمه سبباً في أمراض نفسية وعقد لحقت به؛ لأن الاسم كلما ذكر تلفت إليه الناس, منهم من يبتسم، ومنهم من يضحك، ومنهم من يداري فمه, ولكن في قلبه نقد وعتاب.(173/7)
التربية الدينية
أما الحق الآخر فهو حق التربية الدينية والقيام عليهم في أمر دينهم, وهذا القيام الذي يجهله الكثيرون منا, فيهملون أمر الأولاد ولا يتابع الأب أبناءه, بل هو مشغول عنهم, فهو إما مشغول بصفق التجارة, أو مشغول بالوظيفة, أو بالمزرعة, أو بزوجة أخرى, أو مشغول بأي أمر آخر, ثم إذا كبر الولد، وصار في سن الخامسة عشرة، رأى الأب من ولده إعراضاً وإهمالاً، وسوءاً في الألفاظ والعبارات, وقسوةً على والده، وعدم انصياع لأوامره, بدأ الأب يتأفف ويقلب رأسه يمنةً ويسرةً، ويقول الله المستعان على أبناء هذا الزمان! نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا وقد نهجو الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان بنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا فهل وجدت مزارعاً يترك مزرعته دون سقي أو متابعة, ثم ينتظر أن تثمر؟! كلا! فقد تموت وهو لا يدري بها, إن أولادك هم بذرة، ولكنها أعظم من بذرة الدنيا, وأعظم من الزرع, وأعظم من المال, وأعظم من كل أمور الحياة الدنيا.(173/8)
اختيار الزوجة الصالحة
لا بد أن تتعاهد أولادك منذ البداية, فتتعاهدهم أولاً باختيار الزوجة؛ فإن الأم هي المحضن الذي يتربى فيه الأطفال.
وكثير من الشباب المقبلين على الزواج قد يسأل عن جمال الفتاة, وقد يسأل عن نسبها, وقد يسأل عن دراستها أو وظيفتها, وقد يدقق، فيسأل عن طول الشعر, وطول الجسم واعتدال القوام وتفاصيل الوجه وكل شيء ولا نلومه، لكننا نقول له: لماذا لم تضع خانة للسؤال أيضاً عن أخلاقها وعن دينها وعن طيب معدنها ومعشرها؟ حتى تطمئن إلى أن أولادك سوف يتربون بإذن الله تعالى في تربة صالحة وبيئة صالحة.
إننا نعلم أن الكثيرين ماتوا والطفل الأول في بطن أمه, وأنت تعلم ذلك أيضاً، فهب أنك كنت ذلك الإنسان! إن الطفل يحتاج إلى أمه كثيراً خاصة في السنين الأولى من تربيته, ربما إلى تسع أو عشر سنوات وهو يحتاج إلى تربية أمه ورعايتها, فإذا كانت الأم فاسدة أو منحرفة, أو كانت جاهلة لا تعرف, أو كانت قاسية سيئة الخلق لا تعرف إلا السب والشتم والدعاء والإغلاظ ورفع الصوت على الأطفال, فكيف تظن أن يتربى أولادك في مثل هذا الجو العاصف غير المستقر؟! فلا بد أن تبدأ تربية الطفل باختيار الزوجة، ولا نلومك في حسن الاختيار في الأمور الجسمية, ولكننا نطالبك -أيضاً- أن تبحث عن ذات الدين والخلق تَرِبَت يداك!(173/9)
ضرورة القيام بحقوق الأولاد كاملة
فمن شكر الولد القيام بحقه في شريعة الله تعالى, والكثيرون منا يعلمون أن من حق الولد أن تطعمه إذا طعمت, وتكسوه إذا اكتسوت, وتسقيه وتؤويه من أذى الحر والقر، وهذا صحيح, ولكن أولاً: حتى هذا الطعام الذي تقدمه له, وهذا اللباس الذي تمنحه له, وهذا البيت الذي تؤويه فيه, يجب أن تتذكر أنك مسئول بين يدي الله عز وجل يوم القيامة: من أين أطعمته؟ ومن أين ألبسته؟ وفيم أسكنته؟ وإنه لغبن شديد, وخسار عليك أي خسار: أن تتعب في جمع المال في هذه الدنيا, ثم تضعه في فم ولدك, أو تضعه ثوباً على جسده, أو تبني به بيتاً يؤويه, ثم يكون ذلك عاراً عليك في الدنيا، وناراً عليك في دار القرار, لأنك كسبت هذا المال من حرام, فكسبت المال من الربا, ومن المساهمة في البنوك الربوية -مثلاً- أو المساهمة في الشركات الربوية, أو الشركات التي تودع أموالها في البنوك بفوائد، وتعطي هذه الفوائد للمساهمين, أو من بيع حرام, أو من بيعٍ صَاحَبَه حَلِفٌ بغير الله أو كَذِبٌ أو غِشٌّ أو خديعةٌ, أو أخذت أرض غيرك بغير حق, أو ما أشبه ذلك من المكاسب المحرمة التي يعلم صاحبها قبل غيره أنها حرام.
فإن من حكمة الله تعالى أنه جعل في قلب الإنسان فرقاناً يبين له الحرام في هذا الأمر, فالبر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك، فهذا المال الذي شككت في أمره, وقلت: ربما كان حراماً، أو شعرت بأنك كسبته من غير حله, ينبغي أن تقيه ولدك كما تقيه نفسك, وأن تتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أيما جسد نبت على سحت فالنار أولى به} .
وقد كان لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في الجاهلية غلام, فأعتقه وكاتبه على أن يأتيه كل وقت بقسط من أقساط الكتابة, فكلما جاءه بقسط قال له أبو بكر رضي الله عنه: من أين كسبته؟ فيقول: اليوم بعت كذا, أو اشتريت كذا, أو عملت كذا, فيأخذ أبو بكر رضي الله عنه هذا المال ويأكله, ولكنه مرة من المرات أتى له بشيء فأخذه وأكله, فلما أكله قال هذا العبد لـ أبي بكر: لم تسألني اليوم كما كنت تسألني من قبل! قال: الآن أسألك من أين لك هذا؟ قال: إني كنت في الجاهلية في مجلس، فأتاني قوم من العرب, وسألوني عن شيء مما لا يعلمه البشر, فتكهنت لهم وادعيت أني أعلم, وأنا لا أعلم ولا أحسن الكهانة, ولكنها أصابت عن طريق الصدفة، فرأيتهم اليوم، فأعطوني جعلي على ذلك العمل, فهذا هو الذي أكلته، فجعل أبو بكر رضي الله عنه أصبعه في حلقه يخرج الطعام من جوفه فلما شق عليه ذلك, وقال له في ذلك بعض من حوله، قال: {والله لو لم تخرج آخر لقمة منه إلا مع آخر نفس مني ما تركته في جوفي قط! وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيما جسد نبت على سحت فالنار أولى به} .
إنه لغبن أي غبن، وفشل عظيم، وحرمان كبير, وخذلان ليس بعده خذلان, أن تتعب أنت وتسهر ليلك وتبذل جهدك وعقلك وتفكيرك وأعضاءك، وتستخدم كل إمكانياتك وصلاتك ومعرفتك من أجل الحصول على هذا المال, ولكنه مال حرام, فتطعمه زوجتك وأولادك، فيكون لهم طيبه, وعليك أنت إثمه وجرمه, هذا فضلاً عن أن أجسادهم تلك التي نبتت من حرام لا يبارك فيها, فلا أظنك تجد برهم, ولا تفرح ببركتهم, ولا تجد شيئاً من نفعهم في هذه الدنيا، وأنت قد أطعمتهم من ذلك المال الحرام.
إذاً: فأول الحقوق هو ما يمكن أن نعبر عنه بالحقوق المادية من مطعم وملبس ومشرب ومسكن وغير ذلك, ولكن ينبغي أن تعلم أن هذه الحقوق لا يمكن أن تأتي بها إلا من طريق حلال يرضي الله عز وجل, هذا إذا كنت ممن يرجو النجاة في الدار الآخرة, ويرجو عاجل بر أولاده ونفعهم في هذه الحياة الدنيا.(173/10)
التربية بلا حدود
فهاهنا تبدأ التربية: تبدأ باختيار الزوجة, وتبدأ بذكر الله تعالى على كل حال, حتى عند مضاجعة الزوجة, وتبدأ بالعناية بمراسم الزواج, وتبدأ باختيار الاسم المناسب للولد, ثم لا تنتهي بعد ذلك إلا بالموت، فليس ثمة حد محدود ينتهي عنده أمر التربية.(173/11)
قصة وزير
وهناك وزير عمره تجاوز الستين في أحد البلاد العربية, يقول هذا الوزير في مقابلة له: عندي والد كبير السن لا أخرج من البيت أبداً إلا ويوقفني عند الباب, ويقول: يا ولدي إلى أين أنت ذاهب؟ فأقول له: ذاهب إلى زيارة بعض الأصدقاء والأقارب, فيزودني بالدعاء، ويقول: ساعدك الله وأعانك الله وردك إلينا سالماً! تفضلْ، فإذا دخلت أوقفني, وقال: من أين جئت يا ولدي؟ فأقول له: جئت من كذا وكذا, فقال: حياك الله وبياك! تفضل, نم.
يقول: أنا في الستين من عمري، وطيلة هذه السنين الطوال ووالدي يتعاهدني.(173/12)
فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم
وهذه فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء العالمين وبنت محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفيها ذلك شرفاً وفخراً، وهي زوج علي بن أبي طالب، خرجت يوماً من الأيام من بيت والدها, فرآها النبي صلى الله عليه وسلم، فما قال: هذه بنت موثوقة ومأمونة, ولا قال: هذه بنت كبيرة وعاقلة ولا تحتاج نصيحة, فالعاقل خصيم نفسه, لا! ولكن أوقفها، وقال: {يا فاطمة! من أين أقبلت؟ قالت: يا رسول الله، أتيت من عند أهل هذا الميت, فعزيتهم بميتهم، قال: لعلك بلغت معهم الكدى -وهو مكان قرب المقابر- قالت: لا يا رسول الله! معاذ الله أن أبلغ معهم الكدى وقد سمعتك تقول فيه ما تقول -تعني في منع النساء من زيارة المقابر- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك} .
والشاهد في الحديث أن التربية لا تقف عند حد معين, بل تستمر حتى الموت إما أن تموت أنت أيها الأب، فتلقى الله تعالى غير مغير ولا مبدل, بل قائماً بالحقوق والواجبات, وإما أن يموت الولد فتنام قرير العين، وتقول: الحمد لله أنني لا أذكر شيئاً قصرت فيه, ولا أمراً لم أفعله أقول: يا ليتني فعلت كذا! ولا أمراً فعلته أقول: يا ليتني لم أفعله! فتنام أيضاً وأنت قرير العين.
إنه لا بد من العناية بتربية أولادنا, وبذل الجهد في هذا السبيل, وكما تبذل في التربية يرزقك الله تعالى من صلاح الأولاد وبرهم.(173/13)
وسائل التربية
إن من أهم وسائل التربية:(173/14)
التعليم
ومن وسائل التربية: التعليم, والتعليم ليس مهمة المدرسة فقط, بل مهمة البيت قبل ذلك وبعده, فتعلم الولد بالكلمة الطيبة وبالقدوة الحسنة وبكل أسلوب، وأيضاً تعلِّم الأم كيف تعلم ولدها.(173/15)
تصحيح الأخطاء
ومن وسائل التربية: تصحيح الأخطاء حينما يقع فيها الولد أو تقع فيها البنت.
وليس تصحيح الأخطاء بالعصا وحدها, فليس بالعصا وحده يعلم الإنسان, ولكن تصحيح الأخطاء يكون أولاً بالكلمة الطيبة والتوجيه, فإذا أفادت وإلا تشتد عليه بالكلام، وتصحيح الأخطاء يمكن أن يكون بالحرمان، فتقول له: يا ولدي! أنت أخطأت اليوم، ولهذا لا أعطيك كذا, ولا أمنحك كذا, ويكون بالترغيب والترهيب: إن تركت كذا فلك عندي كذا.
ويجب أن ينتبه الأب إلى أنه في الوقت الذي يصحح فيه الأخطاء: لا ينبغي أن يجعل تصحيح الأخطاء سيفاً يحطم به الولد, إذا قلت: كيف؟ فأقول: أضرب لك هذا المثال وأسوق لك هذه القصة الواقعية: حيث أن هناك منزلاً جديداً وأثاثاً جديداً بذل فيه أحد الرجال جل ماله, وتعب فيه حتى أصبح بيته زهرة في نظافته وحسنه وجماله, ثم ذهب بالزوجة فرأت هذا البيت، فأصابها من الفرح والسرور الشيء الكثير, ثم انتقلوا إلى هذا المنزل, وذهب الرجل إلى دوامه صباحاً، وترك في المنزل زوجته وأطفاله, فقام أحد الأطفال ورأى هذه المناظر الجميلة, وبعبث الأطفال وشقاوة الأطفال وغرور الأطفال وجهل الأطفال أخذ السكين وبدأ يلعب بهذا الأثاث, فخرق كنباً هنا, وأفسد كرسياً هناك, حتى جاء الأب من عمله, فماذا رأى؟! وجد أن هؤلاء الأطفال عبثوا بأثاثه أيما عبث! فغضب من ذلك وأمسك بأكبرهم الذي تولى كبر هذا العمل, فربطه بيديه ورجليه بالحبال وأوثقه, فظل هذا الطفل يبكي ويبكي ويتوسل، ولكن دون جدوى, فإن الغضب أحياناً يعمي ويصم, وجاءت الأم تحاول أن تفك أسر ولدها، فقال لها أبوه: إن فعلت ذلك فأنت طالق، وظل هذا الطفل يبكي ويبكي حتى أعياه البكاء، فاستسلم إلى ما يشبه النوم العميق, وفجأة بدأ جسمه يتغير ويتحول إلى اللون الأزرق, فخاف الأب وفك أسر الطفل، ثم وجد أنه في غيبوبة, فحمله إلى المستشفى سريعاً, وبعد فحوص سريعة قرر الأطباء أنه لا بد من بتر أطراف يديه ورجليه, حيث إن الدم تسمم، وفي حالة وصول هذا الدم إلى القلب, فإنه قد يموت، وقرروا فعلاً عملية البتر ووقع عليها الأب, وهو يبكي ويصيح, وكانت المصيبة حينما خرج الطفل من هذه العملية، فكان ينظر إلى أبيه، ويقول: بابا بابا! أعطني يدي ورجلي, ولا أعود بعد ذلك مرة أخرى إلى مثل هذا العمل.
إنها عقوبة على المبالغة في العقاب والقسوة التي تجعل الكثير من الأطفال ليس لهم شخصية, لماذا؟ لأنه أصبح لا يستطيع أن يعمل شيئاً, فهو يخاف من أبيه أو يخاف من أمه, بل يجب أن تجعل للطفل شخصية، وإذا عاقبته يجب أن يكون عقابك في حدود العقل والمنطق والمصلحة, ولا تستسلم إلى دوافع الغضب ونوازعه.(173/16)
احترام الشخصية
ومن وسائل التربية: احترام شخصية الطفل, وألا تعتبر أن مقياس حسن التربية أن الطفل يقول لك: نعم نعم! سمعاً وطاعة! فهذا من التربية, ولكن من التربية أن يكون للطفل شخصية، وأن يكون لديه ثقة بنفسه، ومعرفة بإمكانياته، وقدرة على الكلام، وقدرة على المشاركة.
فمثلاً: حينما تذهب بالطفل من أجل أن تشتري له لعبة يفضل ألا تختار أنت له لعبة وتسلمها له, بل تجعل له نوعاً من المشاركة، فتقول له: هذه اللعبة ثمنها كذا، وصفتها كذا، وفائدتها كذا وهذه وهذه وهذه, ثم تجعل له لوناً من الاختيار، وتساعده أنت عليه, حتى يكون له شخصية، وتستشيره حتى في بعض أمورك الدنيوية، حتى يتعود المشاركة لك منذ الصغر, ولو لم تقبل رأيه, لكنه يشعر بأن له رأياً, وله عقلاً, وله اختياراً, وله قيمة.(173/17)
العدل بين الأولاد
وأخيراً: فإن من أعظم وسائل التربية: العدل بين الأولاد.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم} فإياك أن تشعر أحد الأولاد بأنك لا تحبه, أو تفضل غيره عليه! أو تشعر البنت بأن الولد مفضل عليها! فإن هذا من أعظم أسباب العقوق, وكما تريد أن يكونوا لك في البر سواءً، فيجب أن تكون لهم أنت في التربية والقيام على شئونهم عادلاً بعيداً عن الظلم: {واتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة} .
اللهم اجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين, اللهم أصلحنا وأصلح ذرياتنا يا حي يا قيوم, اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة, اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا وفي دنيانا وأهلنا ومالنا, اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا, ونعوذ بعظمتك أن نغتال من فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.
اللهم أصلح شباب المسلمين من بنات وبنين, اللهم أصلحهم واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين, اللهم اكفهم شر قرناء السوء الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون, اللهم انفع بهم أمتهم وبلادهم وأهلهم ووالديهم يا حي يا قيوم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(173/18)
القدوة الحسنة
ومن وسائل التربية: القدوة الحسنة قال الشاعر: مشى الطاوس يوماً باختيالٍ فقلد شكل مشيته بنوه فقال: علام تختالون؟ قالوا: سبقت به ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه فالكلمات التي يرددها الأب تَيَقَّنْ أن الطفل يرددها من يوم بدأ يحسن النطق والكلام, وقد يفرح الأب بهذا، فتجد أن الابن الصغير حين ينطق بكلمة فاحشة بذيئة أو شتيمة, ليضحك الأب وتضحك الأم, لماذا؟ لأنه بدأ يتكلم, وينسون أن هذا الضحك يعني عند هذا الطفل أن هذه الكلمة كلمة حلوة جميلة, وأنه ينبغي أن يرددها دائماً وأبداً، وهذه الكلمة لم تخلق مع الطفل ولم تولد معه, وإنما ترامت إلى أذنه من فمك أنت أيها الأب أو من فم الأم أو من فم بعض أهل المنزل, وهكذا الأفعال فلا بد من القدوة الحسنة ليتربى الطفل عليها قبل أن تكون التربية كلاماً يقال باللسان.(173/19)
اختيار البيئة الصالحة
ومن وسائل التربية اختيار البيئة الصالحة, وإصلاح البيئة التي يكون فيها الأولاد -كما ذكرنا من قبل- باختيار الزوجة, وفي حسن التربية, وفي العناية بحسن العلاقة الزوجية, وجعل أية مشكلة بين الزوجين تناقش في جو خاص بعيداً عن علم الأطفال, وهذا لا بد منه.
ومن البيئة التي ينبغي أن يختارها الأب: الأصدقاء، فمن هم أصدقاء ولدك؟ ومن صديقات ابنتك؟ هل تدري حين تأتي بنتك بالحقيبة -مثلاً- من المدرسة ماذا في هذه الحقيبة؟ قد تجد أن بعض صديقاتها أعطينها أرقام هواتف, وصوراً لبعض الشباب, وأشرطة فيديو أو غناء, وكلمات حب وغزل, وعندي من ذلك أخبار كثيرة.
وقد تكون البنت طيبة القلب -وأخص المرحلة المتوسطة حيث السذاجة والبساطة والغفلة- ولكن إذا وجدت مجموعة من صديقاتها، واحدة تقول: اتصل بي فلان, وأخرى تقول: اتصلت بفلان, وثالثة تقول: هذا رقم علان, ورابعة تقول: هذه صورة ابن عمي, وجدت هذه البنت أنها تستحي أن تكون من بين جميع صديقاتها لا تتكلم في هذه الأمور, فأصابها شعور بالضعف، فصارت أول مرة تقول كلاماً غير صحيح, فتقول: أنا لي صديق أكلمه ويكلمني، ويكون هذا غير صحيح, ولكن في الواقع أنه بدأ عندها شعور بأنه يجب أن يكون لها صديق, بسبب تأثير الصديقات.
وهكذا الولد قد يجره أصدقاؤه إلى التدخين, وإلى تعاطي المخدرات, وتضييع الأوقات, وإيذاء الناس, وترك الصلوات، وسماع الغناء, والسفر إلى بلاد أجنبية, وإلى غير ذلك مما حرم الله عز وجل.
وقد يصعب عليك تدارك الأمر بعد فوات الأوان، وأول خطوة يمكن أن توقفها، لكن لا تستطيع أن توقف الأمر إذا كان في نهاية الطريق.
وكذلك الحال بالنسبة للمدرسة، فهل تدري أنت في أية مدرسة يدرس ولدك؟ ومن مديرها؟ ومن أساتذتها؟ وما مستوى هذه المدرسة من حيث العلم ومن حيث الأخلاق والتربية والمراقبة؟ فلا بد أن تختار المدرسة ولو استدعى الأمر أن تذهب به بالسيارة إلى مدرسة بعيدة أفضل وأحسن شروطاً, لم يكن هذا كثيراً.(173/20)
التفاهم بين الوالدين
لا بد من التفاهم بين الوالدين, فكيف يكون البيت ويكون الأولاد والبنات الذين يفطرون ويتغدون ويتعشون وينامون ويستيقظون ويصحون على مشاكل الخصومة بين الأم والأب؟! فالأب يتكلم على الأم, والأم تتكلم عليه أمام الأطفال, ثم إذا خلت الأم بالأولاد قالت لهم: أبوكم فيه كذا وكذا وكذا! وإذا خلا الوالد بأولاده قال: أمكم فيها كذا وكذا وكذا وعسى الله تعالى أن يعين عليها! فتربى الأطفال في هذا الجو القلق المتوتر لا استقرار ولا طمأنينة ولا أمان, وبذلك صاروا عرضةً للفساد والانحراف, ثم كانت الطامة الكبرى أن الأب نتيجة هذه المشاكل رأى أنه يستطيع أن يخرج منها بالزواج الثاني, فتزوج أخرى وصار لا يأتيهم إلا لماماً, وربما جلس أياماً, لا يطعمهم ولا ينفق عليهم, ولا يتعاهدهم ولا يتفقدهم.
وأقول لكم أيها الإخوة من تجربة عملية وملاحظة ميدانية: إن معظم الأولاد والبنات الشاذين والمنحرفين الذين يقبض عليهم عن طريق أجهزة الأمن, يكونون من بيوت لا تعرف الاستقرار العائلي, حيث يكون الأب متزوجاً من امرأة أخرى, ولذلك لا يأتي إلى البيت، ولا يراقب الأولاد, ولا يدري ماذا يدرسون, ولا أين يدرسون, ولا مع من يجلسون, ولا يعرف عنهم أي أمر من الأمور.(173/21)
الحنان والعطف
هو زرع الحنان في المنزل, فلا يجوز أن يكون الأب في بيته امبراطوراً مقطب الحواجب مكفهر الوجه، لا يحسن إلا الصراخ والشتم والسب وتوزيع الأوامر يمنة ويسرة, إن هذا الأسلوب لا يمكن أن يخرج أولاداً صالحين, بل لا يخرج إلا أشراراً وليست قدوتك -أيها الأب- بهؤلاء الناس الذين قد نتناقل أخبارهم أحياناً أنهم على مستوى من الهيبة, أو على مستوى من الشخصية بحيث يُخاف منهم, ولا يؤمن جانبهم.
بل قدوتك أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام, وحسبك ويكفيك من هؤلاء قدوة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فهو يضع الصبي في حجره, ويضمه ويشمه ويقبله، حتى لو لم يكن من ولده, وربما بال الصبي أو بالت البنت في حجر النبي صلى الله عليه وسلم, فدعا بماء فرشّه إن كان ولداً, وغسله إن كانت بنتاً, بل ربما ذهب بنفسه صلى الله عليه وسلم إلى بيت بعض بناته كبيت فاطمة كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة فوقف بالباب، وقال: أين لكع؟ أين لكع؟ أي: يمزح مع الحسين حتى في مناداته باسمه فيأتي الحسين يركض -لأنه يحب جده ويفرح به- فيفتح له النبي صلى الله عليه وسلم ذراعيه ثم يضمه إليه, ويقعده في حجره ويقبله فيجد أبو هريرة رضي الله عنه أن فاطمة قد أبطأت بولدها؛ لأنها لبست ابنها ثوباً جميلاً، وألبسته بعض الأشياء التي تلبس على الأولاد الصغار فرحاً بمقدم والدها محمد نبينا عليه الصلاة والسلام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الصبيان, فرآه أعرابي من هؤلاء الجفاة، فقال: تقبلون صبيانكم؟! والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم! قال: {أوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!} وفي الحديث الآخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من لا يَرحم لا يُرحم} فيجب أن نعلم أن أولئك الذين يدمرون المجتمعات ويخربونها, ولا يحترمون التقاليد ولا العادات ولا الأخلاق ولا الأديان, هم في الغالب من أولئك الذين نشئوا في بيئات فقدوا فيها الحنان.
وهذا الولد الذي فقد الحنان أو تلك البنت سرعان ما يجدون قرناء السوء الذين يشعرونهم بالحنان, فهذه بنت تقسو عليها أمها، وتغلظ لها في القول، وتشتمها صباح مساء وتعيرها؛ حتى شعرت البنت بأن الأرض قد ضاقت عليها بما رحبت، ثم يوماً من الأيام تسمع رنين الهاتف، فترفعه من باب الفضول, ولأنها لم تترب تربية سليمة, فتعودت أن ترد على الهاتف دائماً وأبداً.
فتجد صوتاً هادئاً رخيماً عذباً يحدثها, ويسألها عن أحوالها, ويطمئن عليها, ويخبرها بأنه يحبها, وأنه يموت إن لم يلقها أو يرها, فصدقت هذه المسكينة، ووجدت الحنان ولو باللسان الذي فقدته في بيتها, فسلكت درب الرذيلة والانحراف, وصوّر لها هذا الذئب بأنه حملٌ وديع, وأنه لا يستطيع العيش بدونها, فإذا قضى منها ما يريد, ألقى بها وذهب يبحث عن غيرها, وجلست هذه المسكينة تعاني آلامها ومشاكلها, وما علم المجتمع أنها وإن كانت مسئولة عن جريمتها, إلا أن أمها وأباها مسئولان قبلها؛ لأنهما لم يراقباها مراقبة صحيحة, ولأنهما لم يمنحاها الحنان الكافي, فصارت تشعر بأنها بحاجة إلى من يعبر لها عن محبتها, وبحاجة إلى من يسألها عن أحوالها, وبحاجة إلى من تفضي له بهمومها, وتتكلم معه عن مشاكلها وآلامها وأحزانها.(173/22)
دروس ووقفات تربوية من السنة النبوية
انظر حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وتواضعه معهم ومشاركته في حل مشاكلهم، فيجب علينا تطبيق النص النبوي في واقعنا لما له من أهمية وعلينا استحضار هيبته.
وقد اهتمت النصوص الشرعية بأمور كثيرة منها: المعاملات، والعبادات، والمناقب وبيان الأصول التي ينبغي الرجوع إليها، والدعاء وأهميته، والمظهر وحسنه والربط بين العقيدة والعمل والربط بين القرآن والسنة.(174/1)
حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه
حمداً لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة أيها الأكارم أيها الفضلاء الذين مشيتم هذه الخطى إلى روضة من رياض الجنة وبيتٍ من بيوت الله، أسأل الله تعالى أن ينزل من رحمته وبره وبركته على هذا المجلس ما يسعد به قلوبهم وينور به دروبهم، ويجعلهم به موفقين في كل أمورهم إنه على كل شيءٍ قدير، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، إنك على كل شيءٍ قدير.
أما بعد فهذه المحاضرة المباركة -إن شاء الله- في هذا المسجد الكبير بهذه المدينة الطيب أهلها، في هذه الليلة: ليلة السبت العاشر من شهر صفر من سنة 1413هـ، وهي حول دروس ووقفات تربوية من السنة النبوية.(174/2)
أفضلية كتب السنة والسيرة بعد القرآن
أفضل الكتب بعد القرآن هي الكتب التي تحكي لنا سيرته صلى الله عليه وسلم وسنته وأقواله وأفعاله، فيقرأ الإنسان -مثلاً- صحيح البخاري أو صحيح مسلم فيجد فيه أنفاس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلماته وعباراته وأقواله وأفعاله وتقريراته وأحكامه وفتاويه التي لا يمكن أن يقارن بها كلام غيره من البشر، ولهذا قال القائل: أهل الحديث همُ أهل النبي وإن لم يصحبوا نَفْسه أنفاسَه صحبوا وقال آخر: دين النبي محمد آثارُ نعم المطية للفتى أخبارُ لا ترغبن عن الحديث وأهله فالرأي ليلٌ والحديث نهارُ ولربما جهل الفتى أثر الهدى والشمس طالعة لها أنوارُ فهذه الكتب من أعظم الكتب وأولاها بالعناية وأحقها بالدراسة، ونحن في جلسةٍ مباركةٍ -إن شاء الله- مع بعض هذه الكتب، وإن الوقت لا يسعف بأن ندخل إلى مضمونات هذه الكتب من الأحاديث والنصوص، فهذا أمرٌ يطول، ولكننا سوف نطرق الأبواب فقط، ونقف عند الكتب فحسب، وسنجد فيها خيراً كثيراً إن شاء الله.(174/3)
كثرة جلوسه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه
في حديث الهجرة -وهو في صحيح البخاري- قدم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر إلى المدينة فلم يعرف الأنصار الذين لم يبايعوه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا إلى أبي بكر يطيفون به، ويجعلون وجوههم إليه يظنون أنه هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر ٍ يظلله بردائه فعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويأتي الرجل الأعرابي في ملأٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقف فيهم، ويقول: أيكم محمد؟ لأنه لا يتميز عنهم بمجلس ولا ببزة أو ثوب ولا بِسِمَةٍ ولا بعلامة، وإنما كان صلى الله عليه وسلم غاية في الحلم والتواضع والإخبات إلى الله عز وجل حتى وهو في أعظم المواقف، ينزل عليه الوحي من السماء، وأي إنسان ينزل عليه الوحي؟ إنه لا ينزل إلا على المختار من عباد الله عز وجل، على الرسل الكرام، ينزل عليه الوحي فيكون أضعف ما يكون صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ليتفصد من جبينه العرق في اليوم الشاتي، ويسمع له غطيط مثل غطيط البكر، ويحْمَرُّ وجهه صلى الله عليه وسلم، وهو بين ذلك في خيمة، فينظر إليه بعض أصحابه ويتعجبون منه صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] فلحظة تنزيل الوحي هي لحظةً من لحظات تحقق العبودية، وكمال الذل لله عز وجل، وهو كمال الإنسان، ورفعة الإنسان.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا لحظة التعبد لله عز وجل وتمريغ الوجه بالتراب له تعالى، وهي لحظةٍ ضعف في ظاهرها وذل، لكنها لحظة كمال للإنسان، ولهذا قال الله عز وجل: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] أي: رسول الله، فلحظة عبادته لله تعالى ودعائه إياه: هي لحظة عبودية يتجلى فيها ما وهبه الله تعالى من خصائص الجمال والجلال والكمال.(174/4)
التطبيق لمبادئ وأحكام الإسلام
إذاً: ليس الإسلام أحلاماً طائرة، ولا أمثلةً خيالية، ولا دعواتٍ لا رصيد لها من الواقع، كما هي النظريات المنحرفة، حيث رفعت الشيوعية -مثلاً- شعار العدل والمساواة، فلم نجد إلا أنها ساوت الأغنياء بالفقراء، وجعلتهم جميعاً يعيشون حالةً من العوز والفقر دون مستوى الإعدام، ورفعت كثيراً من الدعوات شعار الحرية، فلم نجد في حقيقتها إلا أنها سحقت الناس، وصادرت حرياتهم، وقضت على إنسانيتهم، وجعلتهم أمثال البهائم والدواب، وزجت بهم في غياهب السجون، وشهدت الأمة العربية والإسلامية من ذلك الشيء الكثير، فالدعوات والأحزاب التي حكمت في بلاد الإسلام شرقاً وغرباً باسم البعثية والاشتراكية والقومية والناصرية والديمقراطية والحرية ماذا جنت منها الأمة الإسلامية؟ جنت الفقر والذل والجهل والهوان والعبودية والقضاء على إنسانية الإنسان، وجنت الهزائم المتتابعة حيث أن الأمة لا تحسن شيئاً كما تحسن الهزائم على يد أولئك القادة الذين شرقوا بها وغربوا، ولكنهم لم يتجهوا بها إلى الكعبة، ولم يقولوا: ربنا الله ثم يستقيموا.
لم تكن دعوة الإسلام دعوةً نظرية ترفع شعاراً وتطبق غيره، بل كان الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم -وهو يتكلم- يطبق في واقع الحياة، فيقِيْدُ حتى من نفسه، فإن طلب أحدٌ القصاص من شخصه الكريم نفذ عليه الصلاة والسلام.
فقد كشف بطنه يوماً من الأيام لرجل من الصحابة اسمه سواد بن غزية: {وقال استقد يا سواد! -أي: خذ حقك- فأكب على النبي صلى الله عليه وسلم يقبله، ويقول: يا رسول الله! حضر ما ترى من أمر الحرب فأحببت أن يكون آخر العهد بك، أن يمس جلدي جلدك} .
وسرقت امرأة من بني مخزوم، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حِبَّه وابن حِبهِّ، فكلمه أسامة بن زيد، فغضب الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: {أتشفع في حدٍ من حدود الله، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها} .
وقد كسفت الشمس، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقام عليه الصلاة والسلام وقال: {إنهما لا تنكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، وإنما يخوف الله تعالى بهما عباده} إنه بشرٌ رسول، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، هابه رجل من الأعراب، فاضطرب، فقال: {هَوّن عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة} فهو يأكل مع أصحابه، ويشرب ويجلس وينام معهم، حتى يأتي الرجل الغريب لا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم من غيره.(174/5)
الرسول القدوة
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم! مصلح المصلحين، وإمام الأئمة، وقدوة وليس غيره أحد يُقتدى به ويُتأسى، فعليه صلوات الله وسلامه، وجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، ولذلك كانت حياته صلى الله عليه وسلم برنامجاً عملياً وافياً كافياً شاملاً للمسلمين، وكل مسلم إلى قيام الساعة إذا أمر أو نهى تذكر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الأمر والنهي هو من عند الصادق المصدوق، وكان قد طبق تطبيقاً عملياً في تلك الفترة النقية من حياة البشرية، فترة النبوة والخلافة الراشدة.(174/6)
من تواضعه صلى الله عليه وسلم
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ملكاً متجبراً، ولا ملكاً متعالياً، ولم يكن يعيش في برجٍ عاجي بعيداً عن الناس، ولكن كان يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، يعطف على مسكينهم، ويرحم فقيرهم، ويطعم جائعهم، ويعلم جاهلهم، كما وصفه بذلك أصحابه، فقالت أسماء رضي الله عنها وأرضاها لـ عمر حينما قال لها: [[نحن سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، قالت: كلا والله! كنتم قريبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم، ويعلم جاهلكم، ونحن كنا في دار البعداء البغضاء، الحبشة]] .
إذاً: هكذا كان هديه صلى الله عليه وسلم، فكان يراقب كل أمورهم، ولم يكونوا يقطعون أمراً دونه دق أو جل، دعك من كونه صلى الله عليه وسلم خطيبهم في الجمعة، ومقدمهم في الحرب، وإمامهم في الدين، ووسيطهم في الوحي، ينقل لهم خبر السماء بكرةً وعشياً.
بل حتى أدق أمورهم كانوا يستشفعون به صلى الله عليه وسلم فيها، فربما وجد العبد الرقيق من قومه ومواليه أذى أو إثقالاً بالعمل، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه، وربما أخذت الأَمَةُ بيده صلى الله عليه وسلم في أي سكك المدينة، فكلمته حتى ينتهي ما عندها، وربما أبت المرأة زوجها وكرهته، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستشفع به إلى زوجه أن تقبله وتعيش معه، فكان صلى الله عليه وسلم معهم في كل أمورهم ومنقلباتهم.
ولهذا لم يمت صلى الله عليه وسلم؛ حتى كان أكثر صلاته من الليل وهو قاعد بعد أن أصابه الإجهاد، لكثرة مجيء الناس إليه، وكثرة مشاكلهم وأسئلتهم، وكثرة ما يعانون ويواجهون، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم لحظةً لحظةً، وساعةً ساعةً، ويوماً يوماً في كل أمورهم، وفي كل أشيائهم، ولهذا كان منهم محل الروح من البدن، ومحل السمع والبصر، فلما دخل المدينة صلى الله عليه وسلم أشرق منها كل شيء، فلما مات صلى الله عليه وسلم ودفن، أظلم من المدينة كل شيء كما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.(174/7)
أهمية النص النبوي
الدرس الأول في هذه الكتب هو أهمية النص النبوي، واعتماد المسلم على هذا النص في أحكامه وعقائده وعباداته ومعاملاته وفي سائر أموره.(174/8)
تطبيق النص في واقعنا
إن هذا النص يجب أن يكون هو الأصل الذي نبني عليه ونفرع عنه، فكل أقوال الناس وكتب البشرية جميعها لا تعد شيئاً مذكوراً بالقياس إلى هذا التراث العظيم الذي ورثناه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إن كتاباً واحداً كمسند الإمام أحمد يحتوي على ما يزيد على ثلاثين ألف حديث تقريباً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلها نور وهدى وعلم، حتى قال أحد زعماء الغرب واسمه برناردشو: " لو كان محمد صلى الله عليه وسلم حياً لحل مشاكل عالم ريثما يشرب فنجاناً من القهوة ".
ففي هذه الكتب تجد أحكام الصلاة والعبادات إلى جانب المعاملات، والعقائد، والأخلاق، والاقتصاد والبيع، والسياسة، والجهاد، والسير والمغازي، والفضائل… إلخ.
وكل شيءٍ من أمور هذه الحياة تجده في هذه الكتب، وأولى بنا ثم أولى أن ننطلق من هذه الكتب بعد كتاب الله عز وجل، فنجعل اقتصادنا قائماً عليها، وسياستنا منبثقة منها، ومعاملاتنا تدور حولها، وعباداتنا تنبثق عنها، ولا نتركها في صغيرٍ ولا كبير.(174/9)
استحضار هيبة النص النبوي
ولا شك أن ذكر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم استخراج الفوائد والعبر منه أولى من أن نذكر كلام الناس ثم نستدل له بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله.
إننا يجب أن نضع لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم هيبة في النفوس، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في صحيح مسلم: [[كنا إذا سمعنا أحداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا]] رفعوا إليه عيونهم، واشرأبوا يريدون أن يسمعوا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم ناكسو الأذقان، مطرقو الرءوس، لا يتكلم أحدٌ منهم بشيء، لأنهم يريدون أن يسمعوا ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهزة الاستقبال عندهم كلها في غاية القوة والانشداد والانصياع لهذه الأحاديث المأثورة عن سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
فينبغي أن نعظم هذه الهيبة في نفوس الناس كبيرهم وصغيرهم، فنجعل الحديث أصلاً، ونجعل الفوائد والدروس والعبر والأحكام والاستنباطات كلها تفريعاً عن هذا الحديث، وليس العكس، ولهذا أقول: إن الأولى مثلاً بدارس الفقه أن يدرس الفقه على ضوء الحديث، فيقول مثلاً: باب النية، وعن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما الأعمال بالنيات} في هذا الحديث فوائد وهي كالتالي.
هذا أولى من أن نقول: قال فلان، وقال فلان، وذهب مالك، وذهب الشافعي، وذهب أحمد وذهب أبو حنيفة، ثم نسوق الحديث بعد ذلك، وإن كان هؤلاء الأئمة يحرصون لا شك على ألا يخرجوا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريره قدر أنملة.
فكلهم من رسول الله ملتمسٌ غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم وكثيرون اليوم يتمسكون بأقوال الرجال؛ لأنها سبقت إلى قلوبهم، فإذا جاءهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهدوا في تخريجه أو صرفه عن ظاهره، أو رده بوجهٍ من الوجوه؛ لأنه يخالف كلام فلان وكلام علان، وهذا ما شكا منه الأول حين يقول: عذيري من قومٍ يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالكٌ فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهبٌ وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن عدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت: قال الله ضجوا وأعولوا وصاحوا وقالوا: أنت قرنٌ مماحك وإن قلت: قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالكُ فيجب أن نعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونجعل له هيبةً في النفوس، وهكذا كان السلف، قال عمران بن الحصين رضي الله عنه، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في مقدمة صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الحياء من الإيمان} فقام رجلٌ يقال له بشير بن كعب العدوي وهو إمام جليلٌ من التابعين فاضلٌ نبيل، ولكنه قام وقال: يا صاحب رسول الله! إنا نسمع إن من الحياء خيراً ومنه ضعفاً -يقول: أنا سمعت في الكتب أن الحياء نوعان: حياءٌ محمود، وحياءٌ ناتج عن ضعف في الإنسان- فغضب عمران رضي الله عنه، وقال له: لا أكلمك أبداً، وتجهم في وجهه، وقالوا له: يا عمران هذا رجل من الصالحين، وهذا كذا وهذا كذا، فقال: أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثني من كتبه؟! إذاً: احذر أن تواجه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولٍ من عندك، إن بعض العوام -مثلاً- تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لك: (هين) ، لا يا أخي! ليس بهين أنت الهين.
إن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقال له: هين، ولا يقال: دع هذا أو اترك هذا، إذا سمعت قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن تشرئب وتخاف وتحذر وتفتح قلبك وأذنك لما يقال، وفي حالة ما إذا وجدت هذا الحديث يخالف حديثاً، أو علماً آخر عندك، فعليك أن تسأل بأدب، فتقول: لقد سمعت أحداً يقول: كذا وكذا، فهل ما قاله هذا الرجل صحيح أو ليس بصحيح؟ فتتلطف حتى في طريقة الاستفسار عن معنى الحديث، ولا تواجه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يشعر بالرد، أو عدم القبول أو عدم التعظيم لما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام.(174/10)
العبادات والمعاملات
الوقفة الثانية: حول العبادات والمعاملات:(174/11)
الأصل في المعاملات الحل
أما فيما يتعلق بالمعاملات فليس الأمر فيها كذلك، فالمعاملات الأصل فيها الجواز، ولا يشترط لمعاملة أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أذن فيها، بل الأصل الإباحة.
وعلى سبيل المثال بيع المعاطاة والاستصناع، فكونك تأتي إلى البقال، فتضع له الدراهم ثم تأخذ مقابلها، دون أن يكون هناك إيجابٌ ولا قبول أو كلام أو أي شيء، هذا الأمر الأصل فيه الإباحة؛ لأنه لونٌ من ألوان البيوع التي أحلها الله تعالى، ولو لم يرد في هذا البيع بذاته نصٌ، فالأصل في المعاملات الجواز، إلا ما ورد النص على تحريمه، ولذلك تجد أن الأحاديث الواردة في أمر المعاملات: هي أشبه ما تكون بالقواعد العامة التي يستفيد منها الناس، وهذا من تيسير الله تعالى على عباده، فإن ربك تعالى حكيمٌ عليم، علم أن الزمان سوف يتغير، وسوف يستحدث الناس ألواناً كثيرة من البيوع والمعاملات والاتفاقات، وألوان التصنيع وغير ذلك مما لم يأتِ به نص، فجعل ثمة قواعد كلية عامة تقول للمسلم: هذه الأمور حلال، لأن الأصل فيها أنها حلال إلا ما استثني من ذلك أو دل الدليل على منعه، وتجد أن أمور المعاملات غالب الأحاديث الواردة فيها تتكلم عن أنواع المكاسب، وعما ورد النص على تحريمه، مثل: بيع الرجل على بيع أخيه، أو بيع المعدوم، أو بيع المجهول، أو الربا، أو ما أشبه ذلك مما ورد النص على تحريمه.(174/12)
التيسير
كما أنك تلاحظ أيضاً في موضوع العبادات أمر التيسير، من الله تعالى على عباده، ويبرز هذا الأمر التيسير في تنوع العبادات، فالأذكار مختلفة ومتنوعة، بإمكانك -مثلاً- وأنت تقرأ دعاء الاستفتاح أن تقول: {سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك} أو تقول: {وجهت وجهي للذي فطر السموات} أو تقول: {اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب} إلى غير ذلك، ومثل أدعية الركوع والسجود والقعود والتشهد وأدعية ما بعد السلام، ومثل صفة صلاة الكسوف، ومثل: صفة صلاة الخوف، وألوانٌ أخرى كثيرة من العبادات تجد فيها تنوعاً كبيراً، وسع الله تعالى فيها على عباده.
وأيضاً من التيسير الرخصة للناس في أشياء كثيرة: الرخصة في كذا، وفي كذا، وهذا موجودٌ في هذه الكتب من باب توسعة الله تبارك وتعالى على عباده في أمور عباداتهم، وفي أمور معاملاتهم.(174/13)
التوقف في العبادات
تجد أن في تلك الكتب وفي هذه المصنفات أبواباً خاصةً بالعبادات: بالصلاة، بالصوم، بالحج، بالعمرة، بالزكاة، وأبواباً أخرى خاصة بالمعاملات كالتجارة والنكاح، والطلاق، والصلح، والإجارة، وغير ذلك، وأنت تلاحظ فرقاً كبيراً بين هذين النوعين، فأنت تجد في مجال العبادات التفصيل.
خذ مثلاً: كتاب الصلاة تجد أن الأحاديث فصلت لك كيف تتوضأ، وتغتسل من الجنابة، وتقف للصلاة، وكيف تُكَبِّر، وكيف تركع، وما هي صفة الركوع، وماذا تقول، وكيف ترفع، ومتى ترفع يديك، وإلى أين ترفعهما، ومتى تضعهما، وماذا تقول، فستجد أنك مع الأحاديث منذ دخولك في الصلاة إلى أن تقول: السلام عليكم ورحمة الله، بل وبعد ذلك: كيف تذكر الله، وماذا تقول من الأدعية، ومن الأذكار إلى غير ذلك.
فتجد تفصيلاً دقيقاً جداً في مجال العبادات: في الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والعمرة، وذلك لأن هذه الأمور أمور تعبدية محضة مبناها على التوقيف، فلم نكن نعرف الصلاة والزكاة ولا الصوم والحج لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فهذه الأمور مبناها على التوقيف، وعلى النص وعلى النقل، فلا يحق لأحدٍ أن يبتكر عبادة لم يأت بها الرسول صلى الله عليه وسلم أو أن يتصرف في غير ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(174/14)
المناقب
الوقفة الثالثة:(174/15)
أهمية الثناء على من يعمل الخير
هب أن إنساناً يعمل في إدارة حكومية، ويبذل وسعه وجهده، ثم يجد أن المدير لا يلتفت إليه، بل يوبخه دائماً وأبداً، ولا يهتم بما بذل، ويساويه بغيره، فستجده بعد فترة وقد فَتَر، وقال: أنا مثل غيري ولا داعي للاجتهاد، لكن لو أن هذا المدير كان ذكياً حكيماً، فقام وكتب خطاب شكر إلى هذا الموظف على الجهد الذي يقوم به، وقال فيه إننا نلاحظك؛ لوجدت أن هذا الخطاب -وهو لا يعدو أن يكون ورقة وبضعة أسطر وكلمات لا تكلف شيئاً- يكون له وقعٌ كبير على نفسية هذا الموظف.
فالإنسان ليست حاجته -أحياناً- إلى أن تعطيه مالاً أو جائزة، وإنما مجرد التعبير عن الارتياح والشكر والثناء على عملٍ قام به يدعوه إلى مزيدٍ من البذل والمشاركة.
ثانياً: أن هذا من العدل، فكما أن من المطلوب أن يقال للمسيء: أسأت، فالمطلوب -أيضاً- أن يقال للمحسن: أحسنت، وأن يثنى عليه، حتى يقلده غيره في عمل الخير.
وثالثاً: أن هذا كان نتيجة الاطمئنان على أن المدح لا يغير من أحوالهم شيئاً -أي لا يضرهم- فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: {خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة بن الأكوع} كان يعلم صلى الله عليه وسلم أن هذا المديح وهذا الثناء لا يضر أبا قتادة أو سلمة بن الأكوع، ولا يجعلهم يغترون بأنفسهم، أو يعجبون بهذا العمل الذي قاموا به، بل سوف يزيدهم إقبالاً على العمل الصالح، وحرصاً على الخير، وعلى البذل في سبيل الله عز وجل.
ولهذا متى ما رأيت أن المدح والثناء والشكر يضر هذا الإنسان فتجنبه، ولذلك بوب البخاري في صحيحه في كتاب الأحكام: (ما يكره من ثناء السلطان) وذلك أن الثناء على السلاطين عادةً ما يكثر، ويكون الناس حريصين عليه رغبةً أو رهبة، فيكون هذا سبباً في أن السلطان يستوحش من الناصحين، لأنه تعود ألا يسمع إلا الثناء والمدح بالحق والباطل والمبالغات، فإذا جاء إنسان يقتصد في المديح لم يعجبه، لأنه لم يقل الكلام الذي تعود أن يسمعه، وإذا جاء إنسان ينصح لم يعجبه أيضاً؛ حيث أن الناس كلهم يمدحونه وأنت وحدك الذي لم تمدحه، وإنما اتجهت إلى النقد والنصيحة، ولهذا يستوحش، من الناصحين: {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] فلا يَمْدَح عندما لما يكون المدح سبباً في ترك النصيحة، والإعراض عنها وكره أصحابها.
ويكون المديح أيضاً حتى يُعرف لأهل القدر قدرهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما يقول عن أبي بكر وعمر وقد أقبلا: {هذان السمع والبصر} ويشير لأصحابه أن هؤلاء من أخص أصحابي، فاعرفوا لهما قدرهما، لا تؤذوهما ولا تتعرضوا لهما، وقدموهما حينما يكونا موجودين، ولذلك لما تكلم بعض الصحابة، وحصل بينهم وبين أبي بكرٍ كلام غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: {هل أنتم تاركو لي صاحبي؟} يعني أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، وأثنى عليه الثناء الذي جعل الصحابة يعرفون أنه هو الأحق بالخلافة من بعده، وقد أمهم رضي الله عنه بالصلاة حينما مرض النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فالمدح حتى يعرف الناس لهم قدرهم ومكانتهم، فلم يكن المدح مجاملة كما يفعله البعض، كلا! وحاشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجامل أحداً، وهو الذي كان يواجه الناس بالنصيحة، نعم لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يواجه أحداً بما يكره في وجهه وفي ذاته، ولكنه كان يقول الحق، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي -وذكر قبيلة من قريش أو حياً من قريش- إنما ولييّ الله وصالح المؤمنين} .
ومن العجيب أن العلماء والمحدثين، بل والرواة لم يذكروا اسم هؤلاء (آل بني فلان) بل ذكروه على سبيل الإبهام والإجمال، وذلك لأنه في مقام الذم، وهذا دليل على كرم المسلم، وكرم العالم والمحدث، وبعده عن التعرض للناس والوقوع في أعراضهم والولوغ فيها، ولأن هذا لا يليق بالإنسان الفاضل الكريم، فنقلوا الحديث، وتركوا مكان فلان بياضاً، لا يدرى من هو، أو قالوا آل بني فلان، ولذلك اختلف العلماء في المقصود بهذا الحديث.
ومثله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: {خير دور الأنصار بنو فلان، فجاء بعضهم، وقالوا: يا رسول الله! ذكرتنا آخراً! قال: بحسبكم أن تكونوا من الأخيار} أي: يكفيكم أن تكونوا من المعدودين، ولو كنتم في آخر المعدودين من الفضل.(174/16)
ذكر الشر إجمالاً
وهذا أمرٌ عجيب، فأولاً: هذه الكتب فيها المناقب والفضائل، ولكن لا تجد فيها المثالب والمعايب، فإن العلماء لم يتجهوا إلى جمع مثالب الناس، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم في حق بعض الأشخاص، وقد جاءه رجل، فقال: {ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، فلما دخل هش الرسول صلى الله عليه وسلم في وجهه وبش، فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله! قلت فيه ما قلت، ثم استقبلته فقال: يا عائشة! إن من شر الناس منزلةً عند الله تعالى من تركه الناس اتقاء فحشه} فهذا ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم وذم غيره، ولكن العلماء لم ينشطوا إلى جمع هذه العيوب والمآخذ والمذام التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم في حق بعض الناس، وذلك لأن المسلم كريم فاضل نبيل طيب النفس، فهو ينظر إلى المحاسن أكثر مما ينظر إلى المساوئ، وينظر إلى الجوانب الإيجابية أكثر مما ينظر إلى الجوانب السلبية، فليس همه أن ينظر إلى الناس، ويبحث عن عوراتهم وسوءاتهم وزلاتهم، ثم يجمعها ويحشدها في حيزٍ واحد من أجل أن يحطم بها فلاناً، أو ينتقص بها من علان، إنما همّ المسلم ذكر الخير والثناء به على من هو أهله، وأما الشر فإنه يذكره إجمالاً، ولا يفصل فيه، ولا يجمعه في حيزٍ واحد.
فهو يذكر الخير تفصيلاً، وأما الشر فيذكره إجمالاً.
لماذا أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الناس الذين أثنى عليهم؟ أولاً: لأن هذا الثناء هو أحد وسائل التعبير عن الرضا عن عملٍ قاموا به، أو قولٍ قالوه، أو اجتهاد اجتهدوه، وهو بالتالي حثهم على المواصلة على الخير، فإن الإنسان دائماً وأبداً بحاجةٍ إلى الحث والترغيب.(174/17)
ذكر الخبر تفصيلاً
في هذه الكتب الكثيرة العظيمة بابٌ خاصٌ يسمى: "باب المناقب" يذكرون فيه مناقب البلدان، والقبائل، والأمم والطوائف، ومناقب الأشخاص: الرجال، والنساء أي: يذكرون فضائلهم وممادحهم ومحاسنهم التي أثنى بها عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
فـ البخاري -مثلاً- بوب "كتاب المناقب"، ومثله أيضاً الترمذي، أما مسلم فقد جعلها باسم الفضائل، وأبو داود ذكر هذه الأشياء ضمن كتاب السنة في سننه، وابن ماجة ذكرها ضمن المقدمة، والنسائي ذكرها في سننه الكبرى، وأطال فيها كثيراً.
وكتاب المناقب يذكرون فيه فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، وفضائل الصحابة رضي الله عنهم: الخلفاء الأربعة، وسائر العشرة المبشرين بالجنة، وفضائل المهاجرين، وفضائل الأنصار، وفضائل أمهات المؤمنين، وفضائل … إلخ.
ويبدءون بعد ذلك بفضائل الصحابة فرداً فرداً، ويذكرون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه.(174/18)
عناية كتب السنة ببيان الأصول
الوقفة الرابعة: أن هذه الكتب وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت تعنى ببيان الأصول التي ينبغي على الإنسان الرجوع إليها.
وأنت تجد الكثير من الناس اليوم يهتمون ببعض المسائل الجزئية، ويغفلون عن الأصول التي يمكن إرجاع هذه المسائل إليها.(174/19)
حرمة المسلم
فمثلاً: بوب النسائي -رحمه الله- باب تحريم الدم، وذكر فيه الأحاديث الواردة في حرمة دم المسلم، وهي كثيرة منها: حديث أبي هريرة وابن عمر في الصحيحين وابن مسعود أيضاً: {لا يحل دم مسلم} إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تبين حرمة دم المسلم وأن الإنسان لا يزال في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، وأن قتل المسلم من أكبر الكبائر عند الله عز وجل، فهذا أصلٌ أصيل وركنٌ ركين، وقاعدة عظيمة، ومشرعٌ كبير، لكن تجد البعض قد يغفلون عن هذا الأصل، ثم يعتدون على المسلم في نفسه وعرضه، بل وفي ذاته بالقتل -أحياناً- دون أن ينتبهوا إلى ذلك الأصل لمجرد أنه خالفهم في اجتهاد من الاجتهادات الفقهية، وهذا موجود مع الأسف في بعض مجتمعات المسلمين في أكثر من بلدن حيث يختلفون في مسألة فقهيةٍ أو حتى مسألة اعتقادية، فتجد أن السلاح سرعان ما يتحرك بينهم، صحيح أنه محدود، ولكنه موجود أيضاً، وينسون هذا الأصل الأصيل والركن الركين الذي هو باب تحريم الدم.(174/20)
حق الوالدين
ومسألة حق الوالدين وطاعة الوالدين، وما ورد من بيان فضلهما ومكانتهما، ووجوب برهما، هذا أيضاً من الأمور الكبار التي تكلم عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال صلى الله عليه وسلم، في أفضل الأعمال: الإيمان بالله ثم ذكر بر الوالدين ثم ذكر الجهاد في سبيل الله فتجد أن الكثيرين قد يتعللون في معصية الوالدين بكافة الأسباب.
فمرة يذهب أحدهم إلى الجهاد بدون إذن الوالدين، ويقول: الجهاد فرض عين، وينسى ذلك الأصل الكبير العظيم الذي جاء كل الرسل والأنبياء بالأمر به.
ومرة تجد أنه يعصي والديه في أمر، ويقول: أنا ذاهب لطلب العلم، ومرة يقول: أنا ذاهب للدعوة، نعم نحن نقول: ينبغي للإنسان أن يقوم بالدعوة إلى الله، وأن يقوم بطلب العلم، وأن يجاهد في سبيل الله، لكن ينبغي -أيضاً- أن يعرف للوالدين حقهما، حتى لو ذهب إلى هذه الأعمال الخيرية، يذهب بعدما يرضي والديه ويقر عيونهما ويطيب نفوسهما، أما أن يقول شابٌ في مقتبل العمر: لا سمع لك ولا طاعة، أنا سوف أذهب إن رضيت وإن سخطت، فهذا المسلك ليس حميداً ولا سليماً.(174/21)
حسن الأدب في القول والعمل
وكذلك أيضاً حسن الأدب في القول والعمل، ولذلك تجد الأئمة وضعوا للأدب أبواباً خاصة باسم: (أبواب الأدب) وذكروا فيه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ينبغي وما لا ينبغي من الأقوال، وما ينبغي وما لا ينبغي من الأعمال، وذكروا في ذلك أشياء عجيبة ودقيقة جداً، ومع ذلك تجد كثيراً من الناس يغلظ في القول، فإذا قلت له في ذلك قال: هذا يستحق أن يغلظ له؛ لأنه فعل كذا وكذا، فنقول له: لماذا تأولت هذا الموقف الخاص، ونسيت ذلك الأصل العظيم الذي هو وجوب الإحسان في القول للناس، قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] فضلاً عن النصوص النبوية الكثيرة التي تأمر باللطف في القول وحسن العمل.(174/22)
الحب في الله
مثل ذلك مسألة الحب في الله والمؤاخاة، فيها أبواب وفصول، وأحاديث عظام جليلة، تدل على فضل المحبة في الله حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: {قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ والمتباذلين فيَّ والمتجالسين فيَّ والمتزاورين فيَّ} وقال: {أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله} إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة، ومع ذلك تجد أن البعض يغفلون عن هذا المعنى العظيم، وهذا الأصل الأصيل الذي هو أصل الولاء للمؤمنين، ويتعللون على ترك حقوق الأخوة وترك المودة والزيارة، والهشاشة والبشاشة بأوهى العلل.
فمثلاً: اختلاف المناهج الدعوية أو اختلاف الشيوخ الذين يتلقى عنهم، فلانٌ عن فلان، أو اختلاف القبائل أو البلدان، أو اختلاف الاجتهادات، كثيراً ما تكون سبباً في نوعٍ من المهاجرة والمباعدة، وتكبر في القلوب، وتمتلئ الصدور والنفوس؛ حتى يلقى المسلم بل يلقى الداعية أخاه فَيَزْوَرًُّ عنه ويعرض، وإن صافحه صافحه في غير بشاشة، وإن ابتسم في وجهه فهي ابتسامة لا تنم عن رضا، ولكنها ابتسامة متكلفة.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد علمنا غير ذلك، علمنا أن: {المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه} .(174/23)
الأدعية
الوقفة الخامسة: قد صنف العلماء في الأدعية كتباً خاصة، كما أفردوا لها أبواباً وكتباً ضمن مصنفات السنة النبوية، فـ البخاري -مثلاً- جعل كتاباً خاصاً اسمه "كتاب الدعوات" ومسلم "باب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار"، والنسائي "كتاب الاستعاذة" وجعل فيه ما يزيد على خمسٍ وستين باباً: باب الاستعاذة من قلبٍ لا يخشع باب الاستعاذة من شر السمع والبصر باب الاستعاذة من الجبن من البخل من الهم من الحزن من المأثم من المغرم من العجز والذلة والقلة من النفاق والشقاق وسوء الأخلاق إلى غير ذلك.
هذه الهتافات الحارة الموروثة عن سيد المتعبدين صلى الله عليه وسلم، كان يستعيذ بالله تعالى من شر ذلك كله، وهي تعبر عن أهمية الدعاء في حياة المسلم، وأنه ينبغي للإنسان أن يجعل الدعاء زاده ورفيقه وألا يقلل من شأنه: أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنع الدعاءُ سهام الليل لا تخطي ولكن لها أجلٌ وللأجل انقضاءُ(174/24)
النصر بالدعاء
ما يدريك أن تكون المكاسب التي حققها المسلمون في أفغانستان -مثلاً- أو الجزائر أو فلسطين أو في غيرها أو حتى ما نسمعه من بوادر تقدم للمسلمين في بلاد البوسنة والهرسك في يوغسلافيا، أن تكون هذه المكاسب هي بعض دعوات المخلصين الغيورين! بل أعظم من ذلك ما يدريك أن تكون هذه الصحوة التي عمت الآفاق وملأت البيوت والمساجد والمدارس والجامعات، وحيرت المختصين في الشرق والغرب، وأقلقت بال الساسة في بلاد أوروبا وأمريكا وأعجزتهم، وأفرحت قلوب المؤمنين، فهي تزيد الكافرين أسىً وغيظاً إذا نظروا، وترضي المؤمنين ما يدريك أن تكون هذه الصحوة المباركة أثراً من آثار دعوات الغيورين التي يرفعونها بالأسحار إلى الملك الجبار، فتفتح لها أبواب السماء، ولذلك ينبغي للإنسان أن يكثر من الدعاء ولا يزدريه.(174/25)
الدعاء منهج حياة
الأمر الثاني: أن هذا الدعاء ينبغي أن يكون منهج حياة، إذ ليس جديراً بالإنسان أن يدعو الله تعالى وهو مقيمٌ على معصيته، مخالفٌ أمره، فإن هذا يوجد في قلبك وحشة من الله تعالى وبعداً، فلا تجد إقبالاً على الدعاء، ولا تجد في قلبك إخباتاً إلى الله تعالى، تبحث عن قلبك فلا تجده عند الحاجة إليه؛ لأنك ملأت قلبك بالذنوب والمعاصي، فاسود قلبك وصارت فيه وحشة من الله تبارك وتعالى، فإذا أردته ببكاءٍ أو دعاءٍ أو خشوع بحثت عنه فلم تجده، ولهذا ينبغي أن تدرك أن الدعاء يستوجب فعل الأسباب، ولهذا جاء ربيعة بن مالك الأسلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: {فقال: يا رسول الله! ادع الله أن أكون معك في الجنة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعنيِّ على ذلك بكثرة السجود} ولما دعا المؤمنون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] بين الله تعالى في موضعٍ آخر أن الإمامة في الدين تتطلب فعل الأسباب، ومن الأسباب: الصبر واليقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قال سفيان: [[بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين]] .
إذاً: حين تدعو، وحين تستعيذ بالله من الجبن لا ينبغي أن تستعيذ بالله من الجبن وأنت تمارس كل ألوان الجبن، والخوف؛ كالخوف من المخلوقين، ومن الناس والسلاطين، والخوف من رجال الأمن والقوى العظمى، والخوف من اليهود، بل ينبغي أن تقول: أعوذ بالله من الجبن، وتربي نفسك على الشجاعة في الوقوف أمام الناس، وفي قول كلمة الحق، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشجاعة بالبحث عن العلم والسؤال عنه، فإنه لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر، والشجاعة في كل موقف، وألا تخاف إلا الله عز وجل، فإن أرزاق العباد وآجالهم وأموالهم وأنفاسهم بيد الله تعالى، لا يقدمون ولا يؤخرون، قالوا: قالوا تحفّظ فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محنُ فقلت: هل عيبهم لي غير أني لا أدين بالدجل إذ في دجلهم فتنُ وإنني مولع بالحق لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهنُ دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من غيظهم منهم له كفنُ فإن كلمة الحق لا تباعد من رزق، ولا تقرب من أجل، فينبغي للإنسان أن يربي نفسه وغيره على الشجاعة في الحق، والقوة فيه، وألا يخاف إلا الله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] .(174/26)
المظهر والمخبر
المظهر هو الزينة: اللباس الشعر النتعل الترجل التطيب فهذه كلها أشياء شكلية أو مظهرية، وقد اهتم العلماء بها تبعاً لعناية الإسلام وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام لها، فمثلاً: النسائي سمى باباً في كتابه "باب الزينة" والبخاري "باب اللباس" أما أبو داود فقد جعلها على ثلاثة أبواب، "باب اللباس"، "باب الترجل"، "باب الخاتم"، أما مالك في موطئه فجعل باباً خاصاً للشعر.
فهذه الأحاديث المتعلقة بالشعر والزينة والملابس، وبكيفية لبس النعل وخلعه، والفضل في ذلك وفي التطيب إلى غير ذلك من هذه الأشياء تدل على أمور:(174/27)
المسلم ليس عبداً للجسد
فهذا الأمر مما هو مطلوب، وتدل هذه التبويبات والكتب على ضرورة عناية المسلم به، بشرط: أن تكون هذه العناية عناية معتدلة.
فالمسلم ليس عبداً للجسد، وإنما الجسد عنده خادم للقلب الذي يسير إلى الرب تبارك وتعالى، لا يجعل الجسم معبوداً بل الجسم مستخدم.
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسرانُ أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ ولو أن الإنسان عني بمظهره أشد العناية لم يكن في مثل زهو الطاوس وجماله وحسنه، ولو أنه عني بقوته أشد العناية لم يكن في مثل قوة الفيل.
إذاً: ليس الإنسان إنساناً بمظهره، ولكنه بنفسه وقلبه وروحه وإيمانه وعبادته، وطاعته لله عز وجل، ولكن مع ذلك يعطي المسلم هذه الأشياء قدراً من العناية والاهتمام، حتى لو لم تكن هذه الأشياء فاخرة أو غالية الثمن، ولكنها حسنة، فالثوب أو النعل الجميل، أو الطيب الحسن، ليس بالضرورة غالي الثمن، ولكن يكون نظيفاً وحسناً وطيباً، فهذا فيه الكفاية.(174/28)
العناية بالمظهر
أولها: العناية بالمظهر في حسنه ونظافته وطيب رائحته، وأن ذلك مطلوب شرعاً، وهو من سنن الفطرة التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بها وحث عليها، وهو سبب في ارتياح الناس إلى الإنسان، وتأليف قلوبهم عليه ومحبتهم له، وهو دليلٌُ على تهذيب القلب، فليس من سمات المسلم أن يكون بذَّ الثياب متبذلاً، منتن الرائحة، بعيداً عن الزينة! كلا.
بل هو حسن الثياب، حسن الهيئة والرائحة، وقد قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جميلٌ يحب الجمال} فأقرهم على رغبتهم في حسن الثياب واللباس، وحسن الرائحة، بل: {جاءه صلى الله عليه وسلم -كما في سنن أبي داود- رجل أشعث الرأس سيء الرائحة، وسخ الثياب، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: من أي المال أعطاك الله؟ فقال: من كل المال -من الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده- إذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمته عليك- فذهب الرجل، وتطيب وتزين وسرح شعره ولبس ثوباً جميلاً، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا أفضل من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس كأنه شيطان} .(174/29)
العقيدة والعمل(174/30)
صلاح الظاهر يدل على صلاح الباطن والعكس
يظن البعض أنه يكفيه أن يتكلم عن صلاح الأعمال، وربما اتصل بي أناس، فقالوا لي: نحن مقصرون في الصلاة، نتركها أحياناً ونصلي أحياناً، ولكننا بحمد الله نملك قلوباً سليمة! وهذا المقياس عجيب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} والحديث في الصحيحين، فبين أن صلاح القلب يتبعه صلاح الأعضاء والجوارح، فإذا صلح القلب صلحت العين فلا ترى إلا ما أحل الله، والأذن لا تسمع إلا ما أحل الله، واليد لا تأخذ إلا الحلال، والرجل لا تمشي إلا إلى حلال، وصلح الجسد كله، وإذا فسد القلب فسد الجسد كله.
إذاً الظاهر والباطن ليس بينهما فاصل في الإسلام أبداً، بل الظاهر دليلٌ على الباطن، وصلاح الظاهر دليلٌ على صلاح الباطن، وصلاح الباطن يصلحه صلاح الظاهر.(174/31)
تبويبات البخاري ربط بين العقيدة والعمل
وقد لفت نظري جداً تبويب الإمام البخاري في صحيحه حينما قال: "كتاب الإيمان" والإيمان بلا شك يتعلق بالعقيدة، فلننظر ما هي الأبواب التي أدرجها تحت هذا الكتاب -كتاب الإيمان-.
إنها أبواب كلها تتعلق بتهذيب النفس، وترقيق الأخلاق، والحث على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور والأعمال الصالحة، وخوف الإنسان على نفسه من أن يحبط عمله، وهو لا يشعر.
إذاً: [[ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل]] كما قال الحسن البصري رحمه الله، ويروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يصح.
والكثيرون يخدعهم الشيطان، فيظنون أنهم حراس الدين، وأنهم الذين يحمون الملة، فيشتغلون بالناس عن أنفسهم، ويظن الواحد منهم أنه ينبغي أن يرد على فلان، ويتكلم في حق علان، ويشتم هذا، ويسب ذاك، وينتقص من هذا، وهو يظن أنه يدل على صحة الإيمان والدين والعقيدة، وربما غفل هذا الإنسان عن نفسه، أو عن الأعمال الصالحة، أو عن تحقيق الإيمان في قلبه، فلننظر كيف بوب البخاري بعد كتاب الإيمان بعض أبوابه: كتاب الإيمان: باب/ "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" هذا من الإيمان.
باب/ "من الإيمان إطعام الطعام".
باب/ "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
باب/ "حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان".
باب/ "علامة الإيمان حب الأنصار".
باب/ "من الدين الفرار من الفتن".
باب/ الحياء من الإيمان، إفشاء السلام من الإسلام، قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، الجهاد من الإيمان، الصوم من الإيمان، الصلاة من الإيمان، الزكاة من الإيمان.
باب/ الدين يسر.
باب/ حسن إسلام المرء.
باب/ اتباع الجنائز من الإيمان، خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر، أداء الخمس، النية، النصيحة.
وهذه أبواب كلها أبواب عملية توجهك إلى القول الحسن، والفعل الحسن، والنية الحسنة، وتبين لك ما يكون به الإيمان، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعل الإيمان دعوى في القلب أو في اللسان أبداً، ولكن جعل الأعمال هي التي تدل على صدق الإيمان، فإذا رأينا الإنسان يعتاد المساجد ويصلي فيها، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويغار لدين الله تعالى، ويتجنب المحرمات، ويصل رحمه، ويحسن إلى الناس، ويقوم الليل، ويصوم رمضان، ويؤدي الزكاة، ويحب المؤمنين ويواليهم إلى غير ذلك، عرفنا أن هذا الإنسان مؤمن، أما مجرد الدعوى فكما قيل: والدعاوى ما لم يقيموا عليها بيناتٍ أصحابها أدعياء كتاب العلم: ومن هذا الباب أيضاً "كتاب العلم"، فالعلم في نظر الكثيرين مجرد حلقات يحضرها الإنسان، أو أشرطة يستمع إليها، أو كتب يقرؤها أو يحفظها ويستظهرها، ثم يتزين بها في المجالس، ويمارس بها نوعاً من إظهار القوة على الآخرين أحياناً، وذلك إذا لم يصاحب العلم نية صالحة واحتساب لوجه الله عز وجل.
ولكن الذي يدل عليه الحديث النبوي الشريف: أن العلم ليس زينةً في المجالس، وليس مفاخرة ومباهاة، بل هو سلوك وسمة وخلق ودين قبل ذلك كله، ولذلك كان كتاب العلم في صحيح البخاري جله يتعلق بالأدب أدب الجلوس للتعلم وأدب السؤال (سؤال العالم) أدب الاستئذان أدب المراجعة والتصحيح أدب السمر أدب الحياء في طلب العلم ووسائل الحرص على التعلم إلى غير ذلك مما يتعلق بآداب الإنسان وهو يطلب العلم.
كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح البخاري، تجد أبواباً تتعلق بالاعتصام بالقرآن والسنة، لكنها تأتي بالشكل التالي: - باب: ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع.
إذاً: العلم وسيلة إلى محبة الله ومعرفته وعبادته وطلب ما عنده، فلا داعي للتعمق والمبالغة والتنازع والغلو والبدع؛ لأن هذه كلها تباعد عن الله ولا تقرب إليه.
- (باب: لا تزال طائفة من أمتي) وهؤلاء هم العلماء العاملون المتمسكون بالسنة الداعون الناس إليها، وهم الطائفة المنصورة التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم.
- باب: قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] فيشير إلى التفرق والتنازع الحاصل في هذه الأمة، وأن هذا سوف يقع، وقد يكون هذا التنازع -أحياناً- بين العلماء، أو بين طلبة العلم، أو بين الدعاة إلى الله عز وجل، وهو في كل حال مذموم، وإن كان النص أخبر بوجوده، فوجوده ليس دليلاً على مشروعيته؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن هذه الأمة ستتبع سنن من كان قبلها مع أن هذا الأمر محرم، فليس الإخبار بأمرٍ قدري، دليلاً على جوازه أو حله.
- باب: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54] المجادلة في العلم، فلا تجعل العلم ذريعة للجدل والقيل والقال، وأن تُباري به العلماء، أو تُمارِي به السفهاء، أو تصرف وجوه الناس إليك.
- باب: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ إذا كنت من طلبة العلم ومن المتبعين للسنة والحريصين على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تلم الناس إذا اجتهدوا فأخطئوا أو زلت بهم قدم، أو زلت بهم كلمة، أو أخطئوا في قول أو فعل أو اجتهاد، فإن الإنسان إذا اجتهد فأخطأ، فله أجر واحد، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران كما في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
- (باب كراهية الخلاف) إذاً: الخلاف مكروه ومذموم، وينبغي للإنسان أن يحرص على تجنبه، وأن يحرص على جمع الكلمة ووحدة القلوب بقدر ما يستطيع، وهذا من أفضل وأعظم ما دعا إليه الشرع، وهو من المبادئ والأسس الكبار، والأصول العظيمة التي يغفل عنها الناس ويتفطنون إلى جزئيات تتعلق بها، وهم يتعلقون بها -أيضاً- ويتمسكون.
ولذلك تجد العلماء في كتب الحديث كثيراً ما يبوب أحدهم: (باب هل يجوز كذا؟) إشارة إلى أنه لم يجزم في المسألة، فلم يقل: لا يجوز كذا أو يجوز، بل قال: هل يجوز؟ فطرحها على شكل سؤال دليل على أن عند الرجل تردداً، هل يجوز أو لا يجوز؟! لأن الأدلة عنده محل نظرٍ وتنازع، أو يقول: باب/ الرخصة في كذا، أو يقول: (باب ذكر كذا وكذا) دليلاً على أنه لم يتبين له فيه رأي -أحياناً- فقد ذكره دون أن يجزم فيه نظراً لتنازع الأدلة واختلاف مآخذها.(174/32)
القرآن ومثله معه
الأئمة يربطون القرآن بالحديث، فإذا ذكروا القرآن فسروه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تجد هذا -مثلاً- في منهج الإمام الطبري في تفسيره، أو منهج ابن كثير في تفسيره، فإنه يسوق الأحاديث المتعلقة بالآية سياقاً حسناً جميلاً، يربط بذلك بين القرآن والحديث، وكذلك أئمة الحديث، إذا ذكروا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربطوه بالآيات القرآنية وجمعوا بينهما، ولذلك تجد أن كتب السنة كلها جعلت باباً خاصاً للتفسير -كتاب التفسير- وساقت فيه الأحاديث الواردة في تفسير كلام الله تعالى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواءً كان هذا التفسير تفسيراً قولياً أم تفسيراً عملياً، ما هو التفسير القولي؟ وما هو التفسير العملي؟(174/33)
عدم التعارض بين القرآن والسنة
فالقرآن والسنة مجتمعان، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث المقدام بن معد يكرب وهو صحيح: {ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه} فهما مجتمعان لا يفترقان أبداً، أما أهل البدعة فإنك تجد أنهم يضربون القرآن بالسنة، ويضربون السنة بالقرآن، فإذا قلت لهم: هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: دعنا من هذا! القرآن يقول كذا وكذا.
ولا شك أنه لا يمكن أن نعارض السنة بالقرآن، ولا أن نعارض القرآن بالسنة، بل هما يجريان معاً على سنن الوحدة والوفاق، وما جاء من عند الله تعالى فإنه لا يختلف، فالسنة وحيٌ غير متلو، والقرآن وحيٌ متلوٌ، وليس القرآن معارضاً للسنة، ولا السنة معارضة للقرآن.
ولذلك تجد أن العلماء -كما قلت- يبوبون أبواباً للتفسير، وأبواباً لفضائل القرآن، وأبواباً لثواب القرآن، وأبواباً لفضائل السور، ليس هذا فقط، بل حتى وهم يتكلمون في أبوابٍ أخرى يسوقون الآيات المتعلقة به، وأبرز من يصنع ذلك هو الإمام البخاري حيث يصنع ذلك كثيراً في تفسيره، بل يجعل الآيات أحياناً عنواناً للباب، وعلى سبيل المثال لا الحصر في كتاب الجهاد مثلاً: باب: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] .
باب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] باب: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران:169] .
باب: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:95] .
باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] .
باب: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] .
وما ذكرت الآن إلا الأبواب التي فيها نص آية، أما الأبواب التي فيها ضمن الترجمة آية، ولكن الباب من عند المؤلف فإنني لم أسقه، وهذا دليلٌ على أن المسلم أو طالب العلم ينبغي ألا يضرب القرآن بالسنة ولا السنة بالقرآن، ولكن هناك من يعني بالقرآن فقط ولا يعني بالسنة، وهذا خطأ كبير؛ فإن القرآن وضع القواعد الكلية والمعاني العامة، والسنة جاءت بالتفصيلات التي لا تجعل للمبتدع أو الضال أو المنحرف مجالاً للتدخل في معاني القرآن الكريم، وكذلك: هناك من قد يقبل على السنة ويغفل عن القرآن الكريم، وهذا -أيضاً- خطأ آخر؛ فإن الإنسان ينبغي عليه أن يهتم بهذا وذاك.
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم هداة مهتدين، وأن يجعلنا جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.(174/34)
التفسير القولي والعملي
أما التفسير القولي فمثل قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] إذ قال: {ألا إن القوة الرمي} أما التفسير العملي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفسر آيات القرآن الكريم بفعله، كما قالت عائشة رضي الله عنها لمن سألها: [[كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن]] صلى الله عليه وسلم، أي: أن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم كانت تفسيراً للقرآن في مثل قوله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وغير ذلك من الآيات التي مدح الله تعالى فيها رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانت أفعاله مطابقة لما في القرآن.
ومثله قوله عز وجل: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:2] فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، فكان يقوم الليل بصورٍ وصيغ مختلفة ذكرها أهل العلم، فكانت السنة تفسيراً للقرآن.(174/35)
الأسئلة(174/36)
الصلاة في مسجد فيه قبر
السؤال
ما حكم الصلاة في مسجد فيه مقبرة قديمة؟
الجواب
إذا كانت هذه المقبرة موجودةٌ قبل المسجد، فيجب هدم هذا المسجد، أما إذا كان المسجد بني أولاً، ثم وجد فيه القبر، فينبغي أن يزال القبر ويوضع في مكانٍ آخر، أما أن يصلى فيه مع وجود القبر فلا.(174/37)
الإيفاء بالنذر
السؤال
أنا شابٌ نذرت على نفسي عندما أكمل الدراسة الجامعية أن أعمل وليمة للأصدقاء والأقارب، ولكن مضى عدة سنوات، ولم أنفذ هذا النذر، هل يمكنني أن أتصدق بالمال؟
الجواب
لا.
بل ينبغي أن توفي بنذرك، فتعمل وليمة وتجمع لها الأصدقاء والأقارب.(174/38)
أخبار المسلمين
السؤال
ما هي أخبار المسلمين في أفغانستان والجزائر ومصر بصورة مختصرة وسريعة، وذلك لنطمئن على أحوال إخواننا في تلك البلاد؟
الجواب
هناك أخبارٌ توجب عليكم أن تتابعوها، فإن أقل حق للمسلم على أخيه أن يتابع أخباره، فإن رآه على خير بكى فرحاً، وإن رآه على سوءٍ بكى ألماً، أو يدعو له بظهر الغيب دعوة صادقة، وقد ذكرت جوانب من أخبار المسلمين في هذه البلاد في درس حديث الركب، فلعلك تراجعه، فيغنيني عن إعادته هنا.(174/39)
خطر المسلسلات الخليعة
السؤال
هناك مسلسل يعرض، وهو مسلسل فرنسي تظهر فيه المرأة بصورة سيئة؟
الجواب
نعم هذا صحيح، والمسلسلات أصبحت اليوم كثيرة، وأصبح من المعتاد أن تظهر المرأة بثيابٍ إلى نصف الفخذ وما فوق ذلك، ومع الأسف الشديد أن الأولاد والبنات يشاهدون ذلك، ويتعلمون منه الكثير، أكثر مما يتعلمون من الخطيب أو من المدرس، وأقول: أين واجبنا؟! هذا الجهاز موجود في بيتك، يتحلق حوله أولادك وأهلك وبناتك وأخواتك، لماذا لا تقوم بدور التوعية في المنزل؟! لماذا لا تقوم بدور إيجاد البديل في المنزل من الكتاب والشريط، والأجهزة المفيدة النافعة، وإقامة الحلقات العلمية، والدروس داخل المنزل، والدعوة إلى الله ورسوله وتحصينهم ضد هذا الشر والفساد؟! ثم: لماذا لا تقوم بواجبك، بإنكار المنكر؟! هل كتبت تقريراً عن هذا المسلسل ابتليت بمشاهدته، ورفعته إلى طلبة العلم أو العلماء، أو خاطبت وزارة الإعلام بذلك؟! لو أن عشرة أو عشرين فعلوا ذلك فأنا متأكد أن مثل هذا المسلسل سوف يوقف، وقد أُوقفت بعض المسلسلات بعدما عرضت؛ لأنه وجد اعتراض عليها من بعض المشاهدين، فلماذا نكتفي بمجرد التشكي والتلاوم ولا نقوم بدورنا؟! أو نعتقد أحياناً أن دورنا لا يمكن أن ينفع شيئاً، فمجرد رسالة أو كتابة لا تنفع شيئاً.
يا أخي هذه تنفع الكثير، وتصور أنك تقوم بهذا الدور، وغيرك يقوم به في بلدٍ آخر، وفي مكان آخر، فالمجموع يتكون منه رأيٌ عامٌ قوي يؤثر تأثيراً كبيراً في مجرى الأحداث.
نسأل الله تعالى أن يبارك لنا ولكم فيما نقول ونسمع، ويجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(174/40)
بعض العادات السيئة في العرس
السؤال
يوجد في بعض القرى عادة توجب على ولي أمر العروس دفع مبلغٍ من المال عندما تزف خارج القرية، ويسمى المكسر، وعند عدم دفعه يقوم أهل القرية بمقاطعته، فما الحكم؟
الجواب
لا شك أن هذا ليس شرعاً، ولا أصل له في الدين، وينبغي القضاء على مثل هذه العادات، والمسئولية أولاً على الخطباء والعلماء والقضاة والدعاة أن يتكلموا عن مثل هذه الأمور، وكذلك ينبغي معالجة هذا الأمر معالجة واضحة وقوية وصريحة للقضاء عليها.(174/41)
صلة الرحم للعاصي
السؤال
كيف تكون صلة الرحم إذا كانوا يعصون الله تعالى، ويتركون الصلاة في المساجد إلا قليلاً؟
الجواب
تكون صلة الرحم بزيارتهم، وتحري الأوقات التي لا يكونون فيها على معصية، والتحبب إليهم بحسن الخلق، والكلمة الطيبة، والبسمة في وجوههم، ومن صلة الرحم دعوتهم إلى الله تعالى بالكتيب والكتاب والشريط والاتصال والرسالة، ولا تغلظ عليهم بالقول، ولا تقس عليهم، ولا تيئس منهم، بل اصبر وصابر وثق بأن الله تعالى سوف يكتب لك أجر هدايتهم بإذن الله عز وجل.(174/42)
التحذير من أجهزة البث المباشر
السؤال
كما تعلم انتشار أجهزة البث المباشر، وما يسمى بالدش، وأنه يباع علناً بالمحلات التجارية دون رادعٍ أو منكر، فنحملكم إبلاغ ولاة الأمر عن هذا المنكر، ووضع رقابة على هذا الجهاز، ومنع بيعه، حرصاً على مصلحة المجتمع، وردعاً للدعارة والفساد الموجود في مثل هذا الجهاز؟
الجواب
هذا الجهاز من أخطر ما ابتليت به المجتمعات الإسلامية، لأن بعض هذه الأجهزة قد يستقبل أحياناً ما يزيد على خمسين محطة من أنحاء العالم، بعضها محطات -فعلاً- تعرض الدعارة صراحة عياناً، وبعضها قد تعرض الرقص الفاسد والرقص المختلط، وبعضها تعرض الأزياء وعارضات الأزياء، وأما الغناء والرحلات المختلطة والأفلام، فحدث ولا حرج، بل بعض هذه الأفلام، وبعض هذه القنوات موجهة خصيصاً للشرق الأوسط خاصةً بعض المحطات التنصيرية، ويوجد عشرات المحطات التي تقوم عليها الكنيسة، وهي موجهة لتغيير عقائد المسلمين في المنطقة بالذات، ومحاولة تحويلهم إلى نصارى، وهذا خطر داهم يهدد بلاد المسلمين، وقد تكلمت عنه مرات في الدروس العلمية، وتكلم عنه عدد من المشايخ، وكلمنا فيه سماحة الوالد، وأصدر -جزاه الله خيراً- فيه بياناً لعله وصل إليكم أو يصل إليكم بعد حين، وقد تكلم فيه عن تحريم هذا الجهاز، وتحريم بيعه واقتنائه ووجوب العمل على إزالته، وأن الواجب علينا التعاون على ذلك، فإنه من التعاون على البر والتقوى، ومن النصيحة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فينبغي أن نبذل الوسع في ذلك؛ مخاطبةً للخطباء والدعاة أن يتكلموا عن خطره، ووجوب توعية الناس منه، فإنه ينبغي أن نوعي الناس بخطره، حتى على فرض أن هذا الجهاز ظل موجوداً بينهم؛ فنبين خطره على الأشخاص وعلى النساء، وعلى المراهقين، بل خطره على أمن هذه البلاد، وعلى أخلاقياتها وسلوكياتها وسياساتها، فإن الناس سوف يطلعون من خلال هذه الأجهزة على فضائح سياسية من أنحاء العالم العربي، وسوف يطلعون على وسائل كثيرة، وسوف يطلعون على أساليب وأخبار ربما لم يكن أحد فيما مضى يرغب في أن يطلعوا عليها، فضلاً عما فيه من تدمير الأخلاق والتنصير وغير ذلك.(174/43)
الأضحية بالبدنة
السؤال
سمعنا أن أحداً أفتى: أن البدنة لا تجزي إلا إذا كان الأشخاص عددهم سبعة، وإذا كانوا أقل من ذلك، فإنها لا تجزي؟
الجواب
الواقع أنها تجزي وإن كان العدد أقل من ذلك، فإنها تجزي عن هذا العدد فما دونه.(174/44)
الصلاة مع الإباضية
السؤال
أنا موفد خارج المملكة، وذلك للتدريس في إحدى الدول الإسلامية، ومذهب هذه الدولة هو المذهب الإباضي، هل يجوز لي أن أصلي وأصوم معهم، علماً أنهم ينكرون رؤية الله تعالى يوم القيامة، كما أنهم يقولون: إن المسلم إذا أذنب ذنباً فهو مخلد في النار؟
الجواب
الإباضية هي إحدى فرق الخوارج، وهي موجودة في عمان، وموجودة على قلة في الجزائر والمغرب وليبيا وبعض البلاد، وإن كانت إباضية الجزائر والمغرب، غير إباضية المشرق، وعلى أية حال، هي إحدى فرق الخوارج، فإذا علمت أن الإمام مبتدعٌ مثل هذه البدعة الغليظة، فلا أرى لك أن تصلي وراءه، خاصةً ونحن نعلم أن هناك مسلمين سنة في تلك البلاد، وأنهم يعانون من المضايقة الشيء الكثير، فينبغي للإنسان أن يبحث عن جماعة من أهل السنة ويصلي وراءهم.(174/45)
سفر المرأة
السؤال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يصح لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة بريدٍ دون محرم، قيل: وما البريد؟ قال: ما يعادل واحداً وعشرين كيلو متراً} ما صحة هذا الحديث؟
الجواب
هذا ليس بصحيح، وهو حديثٌ موضوع، وإنما الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم} بمطلق السفر، فكل سفر لا يجوز للمرأة أن تسافره إلا مع ذي محرم.(174/46)
صلة الرحم
السؤال
هل من كلمة حول صلة الأرحام؛ لأنه يوجد في هذا المجلس من هجر، وما زال هاجراً لقرابته، ربما أكثر من سبع سنوات؟
الجواب
نسأل الله السلامة من ذلك، قطيعة الرحم من الكبائر، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة قاطع} أي: قاطع الرحم لا يدخل الجنة -والعياذ بالله- مما يدل على أن فعله من كبائر الذنوب، وعلى الإنسان أن يدرك أن صلة الرحم أمرٌ سهل، لا يتطلب أكثر من الانتصار على شهوة النفس وهواها، فهذا القريب الذي قاطعته، قاطعته وأنت تقول: هو المخطئ وهو الظالم والآثم وهو كذا وكذا، لكن لو تذكرت ما عند الله تعالى يوم القيامة، ثم قلت: أتغلب على نفسي وأنتصر وأذهب إلى هذا، حتى لو آذاني وطردني واعتدى عليَّ، فإنني سوف أفعل، فذهبت إليه واعتذرت منه، وقلت: أصلح ما بيني وبينك، وليس بالضرورة أن نتحول إلى إخوة أصدقاء نتزاور بكرة وعشية، المهم أن يزول ما بيننا، ويكون بيننا روابط الأخوة العامة والصلة الدينية، ويسلم بعضنا على بعض، ونلتقي في المناسبات، فإن هذا يكفي، وإذا قلت له ذلك، فإن قبل فبها، وإن رد كان حينئذٍ هو الذي باء بإثمها.(174/47)
الصلاة بين السواري
السؤال
كثيراً من الناس يجلسون بين السواري، وقد يؤدون الصلاة، فأرجو التنبيه لهذا؟
الجواب
الصلاة بين السواري مكروهة إلا لحاجة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الصلاة والصف بين السواري، إلا أن يكون محتاجاً إلى ذلك، وعلة النهي قال بعضهم: لأنها مكان الجن، وهذا لا يصح، والواقع أنها تكون سبباً في عدم اتصال الصفوف.(174/48)
واجب الناس في تصحيح الأوضاع
السؤال
سيفتح في مدينة القنفذة معهد صحي للبنات، فما هو واجبنا نحو ذلك، وخاصة شباب الصحوة؟
الجواب
أي أمر يوجد في واقع الناس ينبغي أن ينظر فيه، فإذا كان هذا الأمر فيه ما لا يرضي الله عز وجل، فينبغي أن يدرك الإنسان أن واجبه حينئذٍ يتلخص في كلمتين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة وبالاتصال بالمسئولين ودعوتهم إلى تصحيح الأمور، وتصحيح الأوضاع، والدعوة إلى كذا، والتبديل إلى ما هو أفضل وأحسن وما هو خير، وكذلك الاتصال بمن يكونون عوناً على مثل هذا الأمر ودعوتهم، ولو أننا بذلنا كل ما بوسعنا وتعاونا لا شك أن هذا المجتمع سيتحسن وتصلح أحواله، ما رأيكم في مجتمع تتظافر مئات الأيدي والسواعد والأكف والقوى والإمكانيات لإصلاحه وتصحيح أوضاعه؟ لابد أن هذا المجتمع سيصلح.(174/49)
أماكن القبور التي يخاف عليها من العبث
السؤال
يوجد قبر في منطقة سياحية على ساحل البحر وهو بارز، ويُخاف عليه من العبث، فما هو الحل لهذا القبر وحمايته؟
الجواب
هذا يرجع فيه إلى القاضي في المنطقة القريبة من هذا القبر ليجتهد وسعه في ذلك وينظر في أمره.(174/50)
إدخال الخادمات إلى الأماكن المقدسة
السؤال
أدخل رجل خادمة نصرانية إلى مكة عندما كان ذاهباً للعمرة، ومن ثم إلى جدة، فماذا عليه؟
الجواب
ما دام يعلم أن هذا الأمر حصل، فإنه ليس عليه شيء، لكن عليه أن يتوب إلى الله عز وجل من مثل هذا العمل، ولا يكرره مرة أخرى، خاصة في مكة المكرمة، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] .(174/51)
غلاء المهور
السؤال
أنا شاب تقدمت إلى إحدى الأسر طالباً خطبة ابنتهم فاشترطوا أن يكون المهر خمسين ألف ريال، بالإضافة إلى قيمة هدايا للمخطوبة، فقد يكلف زواجي ما يقارب مائة وعشرة آلاف ريال سعودي، وأفيدكم بمقدرتي على دفع مثل هذا المبلغ، لكن سؤالي الذي يشغل بالي يتمثل في: هل مثل هذا المبلغ يدخل في باب التبذير المنهي عنه؟! مع العلم أن المخطوبة لن ينالها من مهرها سوى قيمة الذهب واللبس، والباقي يوزع هدايا لأقاربها بصريح كلام أبيها لي، وشرعاً المهر من حق العروس، وأفيدكم أنني لم أرد على ولي أمرها حتى الآن، فهل لكم أن توجهوني: هل أقبل أم لا أقبل مثل هذه الزيجة؟
الجواب
هذه من المصائب في الواقع، مائة وعشرة آلاف ريال من أجل الزواج! هذا فضلاً عن البيت الذي سوف يؤثثه، وتكاليف السيارة، وأجرة البيت، ومشاكل أخرى كثيرة، وأنه حتى إذا كان هذا الإنسان يستطيع فبقية الشباب لا يستطيعون، والشاب مجبولة ومفطورة ومركوزة فيه هذه الغريزة، فكيف يستطيع وهو يرى الفتن والمغريات والشهوات تواجهه في البقالة والمتجر والطائرة والسيارة وفي السوق والبر والبحر وفي التلفاز والفيديو وفي كل مكان، كيف يستطيع أن يعف نفسه؟! وهو يرى هذه المغريات تدفعه دفعاً إلى الحرام من جهة، فيبحث عن طريق الحلال، فيجد هذه العقبات الكبيرة التي تتمثل في أمور عديدة، منها عشرات آلاف الريالات مهراً، فضلاً عن التكاليف الأخرى، ألا نخاف الله؟! ألا نتقي الله عز وجل؟! إن خير النساء وأفضلهن وأعظمهن بركة أيسرهن مئونة.
والمرأة: إذا تزوجها الإنسان بهذا المبلغ الضخم، فهذه أول بوادر الفشل، لأنه حينئذٍ يشعر بأنه تعب من أجل المرأة كثيراً، فكلما أساءت إليه، أو قصرت في حقه صار في قلبه شعور: امرأة دفعت من أجلها كل شيء، وأنفقت من أجلها هذا المال الكثير، وفي النهاية هذا كلامها لي؟! أهذا تقديرها لي؟! أهذا موقفها معي؟! فيظل قلبه يجمع ويجمع ويجمع، حتى في الأخير ربما طلقها، بل ربما طلقها بطريقة أخرى، لا يطلقها هكذا، بل يقول: لابد أن أسترد هذا المال، فيؤذيها ويضايقها ويضارها، من أجل أن يضغط على أهلها أن تطلب هي الطلاق، من أجل أن القاضي بحكمه يرد إليه المهر الذي دفعه إلى أهلها، ويكون بذلك خلعاً، لأنه كان بطلب من المرأة.
وكثير من المشاكل والحوادث التي حصلت هي بسبب مثل هذا الأمر، فينبغي أن نعتدل في أمر المهر، وأن نحرص على القصد فيه، ولا شك أن مثل هذا المبلغ فيه قدر من التبذير خاصةً وهو طلب من الأهل، كون الرجل دفع ما دفع هذا شيء، لكن كون الأهل يطلبون مبلغاً يصل في مجموعه إلى مائة وعشرة آلاف ريال مهراً لابنتهم، هذا كيف يكون؟! أما بالنسبة للأخ فكونه يقبل أو يرد هذه قضية شخصية، وينبغي أن يستشير من حوله، أو حتى لو اتصل بأحد، وشرح له ظروفه وأوضاعه، فهذا موضوع آخر، لكن المهم هو القضية العامة في مثل هذا الموضوع.(174/52)
تعظيم المصاحف
السؤال
هناك بعض الإخوة يجلسون هنا في المسجد، وأظهرهم على دواليب المصاحف جاعلين القرآن خلفهم، نرجو إذا كان في الأمر شيء التوجيه بذلك؟
الجواب
الأولى ألا يجلسوا إذا كانت المصاحف مكشوفة وظاهرة.(174/53)
التحذير من جريدة الشرق الأوسط
السؤال
هناك منشور يحذر من جريدة الشرق الأوسط، والمنشور باسمك فهل كتبته أنت مع أنه يوزع في كل مكان؟
الجواب
أما هذه الجريدة -خضراء الدمن الشرق الأوسط- فهي من الجرائد السيئة التي حاربناها، وما زلنا نحاربها، ولم نسالمها منذ حاربناها؛ لأنها جريدة أخذت على عاتقها تشويه صورة الإسلام والمسلمين، والدعوة إلى العلمانية والنيل من المسلمين ومن الجماعات الإسلامية، واتهامها بكل نقيصة، وتشويه الأخبار المتعلقة بالمسلمين، إضافةً إلى ما فيها من إفساد الأخلاق والقيم ونشر الأخبار السيئة المرذولة.
ولذلك دعونا -وما زلنا ندعو- إلى مقاطعتها ومحاربتها، فلا تباع، ولا تشترى، ولا تتداول، وأن يعمل كل إنسان على نشر هذه الدعوة، فإننا واثقون -بإذن الله- أن الأخيار إذا قاطعوها، فإنها سوف تضطر إلى أن تصفي نفسها، كما فعلت أختها بالأمس جريدة الصباحية.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب وأنا أدعوكم مرة أخرى إلى ذلك، وقد كلمنا سماحة الوالد الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في أمر هذه الجريدة مرات كثيرة، كان آخرها ليلة الخميس الماضي، وكان قد وعد حفظه الله تعالى أن يكتب هو فتوى في مثل هذا الأمر وتوزع على المسلمين، ولكنه قبل ذلك كتب إلى المسئولين، لعله يمكن منع هذه الجريدة، وألا تدخل إلى البلاد، فإن أمكن ذلك فبها ونعمت، وإن لم يمكن فلعله أن يكون هناك بيان من سماحته في هذا الخصوص.
فأما المنشور فإنني لم أكتبه، ولكن بعض الشباب فيما يبدو لي فرغوه من بعض الأشرطة، ونشروه بين الناس، وأنا أقول جزاهم الله تعالى على ما فعلوا خيراً.(174/54)
فضيلة الشيخ عايض القرني
السؤال
لقد سمعنا ما حصل لفضيلة الداعية الشيخ عائض القرني الذي يسمعه الكبير والصغير والرجال والنساء، فما هو الواجب علينا لكي يرجع الشيخ إلى ما كان عليه خطيباً وداعياً يهز أعواد المنابر؟
الجواب
إن شاء الله سوف يعود الشيخ بإذن الله تعالى، فإن الداعية وإن توقف لفترةٍ فإنه يظل لديه من القدرة والإمكانية على أن يواصل المسير ويستمر في هذا الطريق بعون الله تعالى وبإذن الله عز وجل الشيء الكثير، فإن المؤمن لا يستمد قوته من كونه يتحدث إلى الناس أو يخطب بينهم أو يخاطبهم, وإنما يستمد هذه الطاقة من شعوره بأنه مؤتمن على رسالة يجب أن يؤديها، ومن شعوره بأن الله عز وجل قد أعطاه من العلم شيئاً ينبغي أن يقوله للناس، ومن شعوره بحاجة الأمة إلى الوعظ والتذكير، ومن شعوره -أيضاً- بأن هذا الإقبال الكبير الذي تشهده الدعوة الإسلامية في كل مكان حريٌ بالحفاوة، ومن الحفاوة به أن نقدم له ما نملك، ولو لم نملك إلا الكلمة الطيبة أو الخطبة الهادفة أو النصيحة أو الكتاب، فإن ذلك نافعٌ أيما نفع، وعلينا جميعاً أن ندعو الله تعالى بقلوبٍ صادقة أن يعيد الشيخ داعياً وخطيباً ومجاهداً في سبيل الله.
كما إنني أقول للإخوة: ينبغي أن نكون دائماً وأبداً على اتصال بعلمائنا ومشايخنا، ليس فقط في المناسبات، بل أن يكون لنا اتصالٌ دائم بالعلماء، سواء كان هذا الاتصال مباشراً، أو من خلال الهاتف أو الرسالة، أو البرقية أو غير ذلك، ونحدثهم بشئوننا وشجوننا وما نجد وما نرى وما لا نرى، فإن الاجتهاد يخطئ ويصيب، والعالم عندما يسمع كلام الناس ويرى تأثرهم قد يطرأ عليه ما لم يكن في باله من قبل، وقد يحرص على الأمر أكثر مما كان حريصاً عليه من قبل، كما أننا ينبغي أن نحفظ لعلمائنا مكانتهم وسمعتهم وفضلهم، ونثق بأن دافعهم دائماً وأبداً هو حب الخير والرغبة في الإصلاح وبذل الجهد، ولا شك أن هذا هو الحق الذي لا نقوله مجاملةً، وإنما نقوله لما نعلمه من واقع هؤلاء الشيوخ وتاريخهم وجهادهم وبلائهم وصبرهم، ولكن هذا اجتهاد، وإذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد.
وقد كتب فضيلة الشيخ عائض لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز وللجنة الخماسية خطاباً جيداً جميلاً، أثنى عليهم فيه، ودعا لهم وشكرهم، وقال: لست بالذي يقبل حكمكم على الناس، ويأبى حكمكم على نفسه، وإني أدعو الله إن كنتم مصيبين أن يمنحكم أجرين، وإن كنت مخطئاً أن يغفر لي إلى غير ذلك من الكلام الطيب الذي أعجب الشيخ عبد العزيز أيما إعجاب ودعا للشيخ عائض دعاءً كثيراً، وكذلك قُرئ الخطاب على المشايخ أعضاء اللجنة فسرهم ذلك.
ولكنني أقول: ينبغي أن يكون لنا اتصال ومحادثة مع هؤلاء المشايخ العلماء، فإذا لم نتصل نحن بعلمائنا، فبمن نتصل؟! وإذا لم نتصل نحن بهم، فمن الذي يتصل بهم إذاً؟! وأيضاً غير العلماء: كل من تعتقد أن الاتصال به قد ينفع أو يدفع، فليس هناك أبواب مغلقة، والحمد لله، بل الأبواب مفتوحة، وإمكانية الاتصال متيسرة.(174/55)
كثرة المساجد في القرية الصغيرة
السؤال
كثرت الزوايا والمساجد، بل إن البعض يبني له مسجداً لوحده، وتفرق الناس، ففي القرية الصغيرة يمكن أن يوجد أكثر من تسعة مساجد، فما رأيكم ونصيحتكم؟ وكذلك هل بالإمكان أن يقام بإزالة هذه المساجد؟
الجواب
أما إزالتها فأعتقد أنه قد يكون صعباً بعدما أقيمت، لما يترتب على ذلك من المفاسد والفتن، ولكن ينبغي أن ندرك من أجل ماذا تقام المساجد، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث عثمان، وهو في الصحيح: {من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة} فتبني مسجداً لله تعالى، لا لمفاخرة أو لمباهاة ولا من أجل شيء آخر.
وأيضاً: كثرة الُخطا إلى المساجد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط} فأن تمشي خطوات إلى المسجد، ويكون الجمع أكثر، والبركة والرحمة أقرب، هذا أولى من كثرة المساجد وتعددها وتفرق الناس حولها، خاصةً: إذا دخل في ذلك -أيضاً- أمر المباهاة والمفاخرة والمنافرة والمباعدة.
فمثلاً: أنا لا أذهب إلى هذا المسجد، لأنه لبني فلان، فهذه من أعظم الأخطاء، فإن صلاة الجماعة أصلاً من أسباب وحِكَم مشروعيتها تقريب القلوب وجمع النفوس وإزالة البغضاء والعداوة بين المؤمنين، فإذا صارت المسألة أن تبني مسجداً وأبني مسجداً، فهذه كارثة! بل رأيت في قرية سكانها قليلون جداً مسجدين للعيد، وقال لي الإخوة: إن هذين المسجدين أقيما بسبب ما بين أفراد تلك القرية من التناحر والتباعد.(174/56)
الكرة مالها وما عليها
السؤال
مباريات رياضية تقام بين بعض الفرق، ونظامها يقوم على أن يدفع كل فريق مبلغاً كاشتراك في هذه الدورة، ويشترك فيه عدد من الفرق، والكأس الذي تلعب عليه هذه الفرق يدفع للفائز فيها كما أنه هناك خمسمائة ريال تدفع كتأمين إذا انسحب الفريق، يقول: نرجو بيان وجهة النظر في مثل هذا الأمر؟
الجواب
أولاً: هذا العمل لا يجوز، لأنه من السبق المحرم لكونهم يدفعون مالاً، ثم يأخذه من فاز منهم، اللهم لو كان هناك جائزة يدفعها طرف أجنبي للفائز كهدية أو جُعْل لكان هذا شيئاً آخر، لكن أن يدفع كل فريق منهم شيئاً، ثم يأخذه الفريق الغالب فهذا لا يجوز.
وثانياً: ماذا صنعت وفعلت بنا الكرة؟! لقد شتت شملنا، وفرقت وحدتنا، وجعلت من أبناء القبيلة والأسرة الواحدة -بل والبيت الواحد- شيعاً وأحزاباً، فهذا يشجع هذا الفريق، وذاك يشجع فريقاً آخر، وربما تغاضبوا وربما طلق الزوج زوجته، وربما غضب الأب على أولاده، أو عق الأولاد أبيهم نظراً لاختلاف الميول والانتماءات، فأي شيءٌ هذا يكون؟! أين الولاء والبراء في الدين؟! أين الأخوة الإيمانية؟! لقد حلت هذه الكرة من بعض شبابنا محل الروح من الجسد، فأصبحت شيئاً كبيراً في واقعهم، وأصبح الواحد منهم لا يعنيه أمر انتصار الإسلام، ولا يعنيه أمر المسلمين، ولا يعنيه أمر التقدم العلمي والصناعي للأمة الإسلامية، ولا يهمه أمر طلب العلم الشرعي، إنما يعنيه أن يفوز هذا الفريق، ولو هزم فريقه لوجدت أنه يعيش حالة من اليأس والإحباط والقلق لا يعلمها إلا الله، بل الأمر أكبر من ذلك، فقد قرأت يوماً من الأيام في جريدة الجزيرة مقالاً عنوانه " ضحايا الكرة " وتحدث عن مجموعة من الناس يموتون على مدرجات الكرة فرحاً بهدفٍ جاء لفريقهم، أو حزناً من هدفٍ جاء على فريقهم ومن مكر الله تعالى بهؤلاء الذين خالفوا أمره أن هذا الهدف الذي فرح من أجله فلانٌ فمات، لم تنته المباراة حتى جاء هدفٌ آخر، وانتهت المباراة بالتعادل، وصار موت هذا الإنسان على غير شيء.
هؤلاء هم ورثة وأحفاد علي بن أبي طالب البطل الشجاع، وصلاح الدين وطارق بن زياد وأمثالهم فالله المستعان؟!(174/57)
استقدام الخادمات النصرانيات
السؤال
ما حكم استقدام الخادمة النصرانية مع وجود المسلمة؟
الجواب
جاء في أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج المشركين واليهود والنصارى من جزيرة العرب، وهذا يدل على أن الأولى بالمسلم ألا يستقدم في هذه الجزيرة خاصة غير المسلم، ولا يستعمله خاصةً مع وجود المسلم الذي يمكن أن يقوم بنفس الدور، وإذا تصورنا أن النصارى يحاربون المسلمين في بلادهم، في الفلبين -مثلاً- وتايلاند وسيلان وإندونيسيا، وفي بلاد العالم كلها، وأنهم يتقوون بهذا المال الذي تعطيه أنت للخادم أو للسائق أو الخادمة على إخوانك المسلمين أدركنا أننا نعين بذلك النصارى على إخواننا المسلمين، هذا من جانب.
ومن جانب آخر: فإنه عقد مؤتمرٌ للنصارى قبل أشهر وتكلم مسئول نصراني في الشرق الأوسط وقال: لقد اتخذنا قرارات حاسمة وضرورية لنقل النصرانية إلى منطقة الجزيرة العربية خاصة، وإلى البحث عن موطئ قدم في هذا البلد المغلق، وأن أعظم وسيلة سوف نستخدمها لذلك هم السائقون والخدم والممرضات ونحو ذلك ممن يمكن أن يتسللوا إلى البيوت وإلى العقول وإلى المسلمين، ويؤثرون على عقولهم ويقنعونهم بالديانة النصرانية عاجلاً أو آجلاً.
ولذلك لا تستغرب أن يوجد من بين الممرضات والخدم والسائقين، والعمال الذين تستقدمهم الشركات أو المؤسسات -رسمية، كانت أو غير رسمية- أن يكون من بين هؤلاء أعداد كثيرة ممن جندتهم الكنيسة للدعوة إلى النصرانية، والتأثير على عقول المسلمين وقلوبهم، خاصة وأننا نسلمهم أطفالنا وفلذات أكبادنا.
تقول إحدى اللجان التي تجاهد في سبيل الدعوة إلى الإسلام: أتينا إلى بلد في نيجيريا فوجدنا فيه مسجداً، فسألنا: من بناه؟! فقال لنا إمام المسجد: بناه نصرانيٌ جاء من فرنسا! فتعجبنا وقلنا: سبحان الله! نصرانيٌ يبني مسجداً! قال: نعم.
وزيادةً على ذلك قد بنى مدرسة لأولادنا بجوار هذا المسجد، قال: فذهبنا إلى المدرسة فلم نجد فيها أحداً من المدرسين، ولكننا وجدنا فيها الطلاب الصغار -أولاد المسلمين وفلذات أكبادهم- قال: فسألنا هؤلاء الأطفال، وكتبنا لهم على السبورة: من ربك؟ فرفعوا أصابعهم واخترنا أحدهم، فقام وقال: ربي المسيح! ووجدنا أن عدداً من الخادمات في البيوت تحمل معها -أحياناً- صلباناً، بل تحمل معها أصناماً تعبدها وتقيم أعياداً وثنيةً، وأعياداً شركية، وقد يشارك بعض أهل البيت في ذلك، وتؤثر على الأطفال تأثيراً كبيراً بليغاً، ألم تعلموا بخبر تلك النصرانية التي قتلت سيدها في هذه البلاد في يوم من الأيام؟ وكانت قد ضربته هو وزوجته وأطفالهم بالساطور وقتلتهم جميعاً، وبعد التحقيق في القضية قالت: قتلتهم لأنهم يستهزئون ويسبون الصرب النصارى، فثأرت هذه الكافرة المعاندة لبني قومها من الصرب؛ لأن هؤلاء يسبونهم! والمسلم الآن -مع الأسف- لا يثأر لإخوانه المسلمين المقتولين في البوسنة والهرسك مع أنهم لا يسبون أو يشتمون، وإنما يسحقون ويقتلون ويبادون، بل جاءت آخر الأخبار: أن أطفال المسلمين تصنع أجسادهم المسحوقة أعشاباً وأعلافاً للحيوانات، وجاءت أخبار أن هؤلاء الصغار يحملون على الطائرات إلى إيطاليا مركز الصليبية وإلى ألمانيا وغيرها، من أجل أن يربوا على الكنيسة النصرانية، والله المستعان!(174/58)
حديث مع بعض طلبة العلم
طلب العلم ضرورة وفضيلة، حيث إن الناس مع ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والخير أصناف، فمتعلم مستفيد، ومتعلم مفيد غير مستفيد، ومعرض جاهل، فتحدث الشيخ موضحاً ذلك منبهاً على أهمية الصبر والمثابرة لطالب العلم.(175/1)
ضرورة وجود من يحفظ العلم
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
بمناسبة وجود الشيخ سلمان العودة في هذه المدينة أردنا أن نجمع الشباب من أجل أن نستفيد من علمه في بعض الأمور التي نحن بحاجة إليها، وكنا عادة نقرأ في مثل هذا اليوم في كتاب جامع الترمذي وفي زاد المعاد لـ ابن القيم، وكنا نتمنى أن يحضر الشيخ درسنا وأن يعلق على بعض الأمور، ولكن لما كانت الحاجة إلى غير هذا أمَسّ، طلبنا من الشيخ أن يتحدث في بعض الأمور التي تهم طالب العلم، في طلب العلم وما المقصود من طلب العلم وما الغاية وما الثمرة؟(175/2)
شرع الله لا يدرك بالعقول
أيها الإخوة: تعلمون أن شرع الله عز وجل لا يدرك بالعقول، ولذلك لم يَكِل الله الناس إلى أنفسهم في معرفة دينه وشرعه، بل أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، حتى لا يكون على الله حجة بعد الرسل، وجاءت رسل الله تعالى بدينه وشرعه، فعلم بها أنه ليست كل أمور الدين والشرع تدرك بالعقل؛ بل إن أمور الدين مبناها في الأصل على اتباع ما أنزل إلينا من عند الله تعالى، وهناك مسائل كثيرة في أبواب الاعتقاد وفي أبواب العبادة وغيرها، لا تخضع للقياس؛ ولذلك نحن نجد أن الله تبارك وتعالى يفرق في خصال الكفارة، أحياناً تجد أن الكفارة يكون فيها اليوم مقابلاً بإطعام ثلاثة مساكين، وأحياناً يكون مقابلاً بإطعام مسكين، وأحياناً يكون بغير ذلك.
فمثلاً: في كفارة الظهار صيام اليوم الواحد مقابل لإطعام مسكين واحد؛ لأنها إطعام ستين مسكيناً أو صيام شهرين متتابعين -أي: ستين يوماً- لكن في كفارة اليمين مثلاً تجد أن من خصالها إطعام عشرة مساكين، كما في الآية، وفي آخرها: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة:196] فكان صيام اليوم يقابل إطعام ثلاثة مساكين وثلث، وفي كفارة من حلق رأسه في الحج وهو محرم كما في حديث كعب بن عجرة: {أنه أمره صلى الله عليه وسلم بإطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام} فكان صيام اليوم مقابلاً لإطعام مسكينين، فعلم بذلك من هذا المثال أن هذه الأمور لا تخضع للقياس، وإنما تدرك بالوحي والشرع.(175/3)
من يحفظ شرع الله
هذا الوحي والشرع المنزل من عند الله تعالى يحتاج إلى من يقوم بحفظه، ولا شك أن الله تعالى تكفل بحفظه كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] والذكر هو القرآن، لكن حفظ القرآن يتضمن حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن السنة كما هو معلوم مبينة وموضحة وشارحة للقرآن، ولا يمكن أن يستغنى عنها بالقرآن بحال من الأحوال، فعلم أن حفظ القرآن يتضمن أيضاً حفظ السنة، وكيف حفظ الله تعالى على هذه الأمة دينها قرآناً وسنة؟ إنما حفظه بأن سخر من علماء هذه الأمة ورجالها من يجتهدون، ويبذلون ثمرة أوقاتهم وخلاصة أعمارهم في تتبع العلم وحفظه واستظهاره ونشره بالكلام والتصنيف والدعوة وغير ذلك.(175/4)
أمثلة من الجيل الأول
ولهذا تجد تاريخ هذه الأمة يحفل بأولئك العلماء الذين ضربوا الأمثلة الرائعة في الذود عن السنة والاجتهاد في تحصيلها، وعلى رأس هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا يجتهدون في حفظ حديثه عليه الصلاة والسلام.(175/5)
جابر بن عبد الله
ومثله جابر بن عبد الله يرحل أميالاً طويلة إلى عبد الله بن أنيس طلباً لتحصيل حديث في المظالم والقصاص يوم القيامة، بل إن من الصحابة من يسافر إلى الشام أو إلى مصر أو إلى العراق في طلب حديث، فإذا وصل إلى صاحب الحديث حدثه به وهو على راحلته لم ينزل، ثم بعد أن يسمع الحديث ينصرف على راحلته دون أن تقع قدمه على هذا البلد الذي جاء إليه، كل هدفه أن يسمع الحديث هذا ثم ينصرف.(175/6)
البخاري رحمه الله
ومن بعدهم توفر علماء أفذاذ جهابذة لتدوين السنة وحفظها، ويكفيك أن تعرف جهود الأئمة الستة في حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
إن الإمام البخاري رحمه الله قضى عمره كله في هذا السبيل، شغل وقته وذهنه فيه.
حتى إنك إذا جئت إلى أحدهم في مجال العلوم الشرعية والتحصيل وجدته يملك حافظة فذة، فإذا أتيته في أمور الدنيا وجدت كأنه لا يفقه شيئاً.
البخاري رحمه الله لما صنف كتاب التاريخ الكبير في هذا الكتاب، الذي هو تراجم الآلاف من أسماء الرجال، تجده مع ذلك يقول: قَلَّ اسم في التاريخ الكبير إلا وله عندي قصة، لكني تركتها خشية الإطالة! وهذا يدل على سعة علمه بالرجال والحديث وغيره.
وفي مقابل ذلك يقول رحمه الله: إن بعض قريباته كن يبعثن إليه ببخارى بالسلام، فأراد يوماً ليكتب رسالة ليقرئهن السلام، فعزبت عنه أسماؤهن حتى لا يذكر منها شيئاً، لأنه قد استفرغ جهده وهمه في الحديث النبوي، ولذلك لم يعبأ بما سوى ذلك، وصار عنده عدم اكتراث لها، فغفل عنها وصار ينساها بسهولة، فيما يتعلق بالأمور الدنيوية التي لا يحتاج إليها في أمور العلم.
وبذلك علم كيف حفظ الله دينه بواسطة من سخر من العلماء والرجال الأفذاذ من يتوفرون على حفظ السنة.(175/7)
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه
ومثله عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه حيث كان كما في الحديث الصحيح يكتب كل ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بعض القوم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {اكتب فوالله ما خرج منه إلا حق} يعني فمه الطاهر صلى الله عليه وسلم، فكان يكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ثمرة هذه الكتابة وجود صحيفة تسمى الصادقة عند عبد الله بن عمرو بن العاص، كان يقول في بعض أقواله: لولا هذه الصحيفة وأشياء أخرى لكان يفرح بالموت، وقد نقلت هذه الصحيفة عنه رضي الله عنه.
بل إن الواحد من الصحابة كان يسمع بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان، فيذهب حتى يحصل عليه.(175/8)
ابن عباس رضي الله عنه
وقد ذكر الإمام أحمد وغيره وكذلك قصة ابن عباس مع الأنصاري، كان ابن عباس يسمع بالحديث أو العلم عند أحد الأنصار وهو شاب، فيذهب إليه في الظهيرة، فيجده نائماً، فيتوسد رداءه عند بابه ينتظر خروجه، فتأتي الريح وتسفي عليه وهو صابر على ذلك، فإذا حانت صلاة العصر خرج الأنصاري للصلاة، فوجد ابن عباس متوسداً رداءه عند عتبة بابه، فيقول له: ابن عباس؟! فيقول: نعم، فقال: ما الذي جاء بك يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لو أرسلت إليّ فأتيتك! فيقول ابن عباس: كلا! العلم أحق أن يؤتى إليه، حديث بلغني عنك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أسمعه، فيسمع منه الحديث.(175/9)
أبو هريرة رضي الله عنه
كان أبو هريرة -مثلاً- يتتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في مجالسه وذهابه وإيابه، ويحفظ كل ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يوماً: ابسط رداءك فبسطه، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بألا ينسى شيئاً حفظه، فما نسي شيئاً حفظه بعد، وكان حافظ الإسلام.(175/10)
حفظ الله لنصوص دينه
ليس حفظ الله لدينه بحفظ نصوصه، وإن كان حفظ النصوص أمراً مهماً، لأننا الآن -ولله الحمد- نجد أن هذه الميزة للأمة الإسلامية لا توجد في الأمم الأخرى، فأصحاب الكتب السماوية الأخرى حرفت كتبهم كما هو معلوم، ولذلك هم مختلفون في كتبهم وليس لهم شيء يرجعون إليه، فإذا اختلف اليهود أو النصارى في مسألة من مسائل دينهم، فكيف يمكن أن تحل هذه المسألة؟! لا يمكن أن تحل لأنه ليس عندهم شيء يرجعون إليه ويقبلون به جميعاً، لكن المسلمين إذا اختلفوا فعندهم قاعدة لحل هذا الخلاف، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] .
والرد إلى الله هو الرد إلى القرآن الكريم لأنه كلام الله، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى حديثه بعد وفاته، ولذلك صارت سنته محفوظة، ويرجع إليها عند التنازع، وعندئذٍ يحل بها الإشكال.(175/11)
خطورة من ينادي بنبذ السنة
وبهذا يدرك مدى خطورة من ينادون بنبذ السنة؛ لأنهم بذلك يتسببون في مزيد من الاختلاف بين المسلمين، كما في القصة التي كان فيها عمر رضي الله عنه يسأل ابن عباس عن المسلمين، وكيف يختلفون مع أن دينهم واحد ونبيهم واحد وربهم واحد؟ فقال له ابن عباس رضي الله عنه: إن القرآن أنزل علينا ونحن نعلم فيم أنزل، وسيأتي بعدنا أقوام لا يعلمون فيم أنزل، فيختلفون فيه، فإذا اختلفوا وتنازعوا اقتتلوا.
لذلك لو أقصيت السنة -مثلاً- وصار المدار على القرآن؛ فإن القرآن كما قال علي رضي الله عنه: حمال وجوه، دلالاته متنوعة، وكثير من آياته ظنية الدلالة، وليست قطعية الدلالة، ولذلك يفتح لهم الباب على مصراعيه ليقولوا في الدين ما شاءوا.(175/12)
حفظ القرآن والسنة
المقصود أن حفظ نصوص القرآن والسنة هي نعمة كبيرة، لأنها تشكل -كما يقال- قاعدة يمكن الرجوع إليها عند التنازع، ما دمنا سلمنا بأن القرآن والسنة هما مصدر التشريع، فعند حدوث أي نزاع في مسألة علمية يمكن الرجوع إلى القرآن والسنة وفهم السلف الصالح لهذين المصدرين، فهذا لا شك جزء كبير من حفظ الله بالذات، لكن أيضاً لا ننسى أن من حفظ الله للدين، أن قيض لهذه الأمة من يربون الناس ويزكونهم، وإلا فما قيمة النص إذا كان لا يعمل به؟! ألسنا جميعاً نعلم أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن يُسرى عليه في آخر الزمان في ليلة حتى لا يبقى في الأرض منه آية، وإذا أسري على القرآن فمعناه أن السنة قد ضاعت قبل ذلك بكثير، ولم يسرى على القرآن في ليلة حتى لا يبقى منه آية؟ لأنه تعطل العمل به، ولم يعمل به الناس، فلم يقيموا حياتهم الفردية والاجتماعية على منهاج القرآن الكريم، فلذلك أذن الله برفعه.
كما يأذن سبحانه بخراب الكعبة حيث يسلط عليها ذا السويقتين من الحبشة، فيقلعها بمسحاته حجراً حجراً -كما في الصحيحين- لأنه لم يعد هناك من يحج أو يعتمر أو يصلي إلى هذه الكعبة، وكما يأذن الله عز وجل بقبض أرواح الطائفة المنصورة الذين أقامهم لحفظ الدين وحمايته ودعوة الناس إليه، يأذن بقبض أرواحهم فيبعث ريحاً طيبة فتقبض أرواحهم؛ لأنه لم يعد هناك من يطيعهم ويتقبل ما عندهم من العلم والخير والصلاح، فرحمةً بهم يأذن الله بقبض أرواحهم قبل قيام الساعة.(175/13)
أحوال الناس مع العلم
ونحن نعلم أن الدين ما نزل ليكون نصوصاً تتلى، وإنما نزل ليتدبره الناس ويعملوا به، فإذا تعطلت هذه المنافع رفع القرآن، وهدمت الكعبة، وقبضت أرواح المؤمنين الداعين إلى الله.(175/14)
الدعوة إلى الله على بصيرة
ومن العمل بالعلم أن يدعو الإنسان إلى الله تعالى على بصيرة، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {بلغوا عني ولو آية} فإننا نجد الآن كثيراً من الناس يترك تعليم الناس ودعوتهم إلى الله تعالى بحجة أنه متفرغ لطلب العلم، وما هكذا كان توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإذا كنت تحفظ آيات وأحاديث غير قليلة وتوجيهات للناس، فكيف تترك الناس ولا تبلغهم مع أنه عليه السلام أمرك بذلك، وقال: {بلغوا عني ولو آية} ؟! وفي مقابل ذلك تجد طائفة من الناس قد تشتغل بأمر الدعوة إلى الله وتوجيه الناس دون علم، فتبلِّغ في الحقيقة آراءها وأهواءها، ولا تبلغ ما أنزل الله على رسوله، فلا بد من الاعتدال والتسديد والمقاربة في هذا الباب وفي غيره.(175/15)
أصناف الناس مع العلم
فالقرآن والعلم يحدث انقلاباً كاملاً في شخصية الإنسان، وتغيراً كاملاً فيها من جميع جوانبها، فما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم هو كالمطر إذا نزل على الأرض أخرجت زينتها، وقد تأتي إلى أرض قاحلة جدبة شهباء، فإذا نزل عليها المطر، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، لكن أيضاً الأرض تتفاوت، وليست الخصوبة سواء، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر ثلاثة أصناف من الناس في هذا المثل.
1- متعلم مستفيد: قال صلى الله عليه وسلم: {فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير} .
هذا هو الصنف الأول من الناس يقابل هذا الصنف من الأرض، طائفة من الناس طيبة قبلت الهدى والشرع وتعلمت، وليس فقط علماً باللسان يتحدث به في المجالس، ويتخاصم فيه في المناسبات، ويظهر فيه كل إنسان ما لديه من المعرفة، كما يقع أحياناً لنا، بل كثيراً ما يقع في هذا العصر من هذا! تجد طالب العلم أحياناً همه أن يحصل مسائل معينة، يجادل ويخاصم فيها، وكل ما حصله من العلم هو ما يقع فيه جدل وخصومة في عشر أو عشرين مسألة من المسائل الفرعية في الصلاة وغيرها، فإذا أتيت إلى أمهات المسائل وإلى أصول العلم وجدت أنه لا يملك منها شيئاً.
إنما هي طائفة طيبة قبلت هذا الماء، فأنبتت الكلأ والعشب، وظهر أثر التأثر بالقرآن والسنة على أقوالها وأفعالها وسلوكها ومواقفها كلها، ولا شك أن هذه نفع الله بها نفعاً عظيماً، لأن غاية ما يتصور من أرض نزل عليها المطر أن تنبت الكلأ والعشب الكثير.
2- متعلم مفيد غير مستفيد: {وأصاب طائفة أخرى أجادب أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا} هذا القسم الثاني، هناك أرض صلبة إذا نزل عليها المطر، فإنها لا تتشربه بل تمسكه، فتصبح مثل الإناء، لا تشرب الماء فتنبت الكلأ مثل الطائفة الأولى، وإنما تمسك الماء حتى يأتي الناس، فيأخذوا من هذا الماء فيشربوا، وهذا يشبه الإنسان الذي حصل على علم من علم الدين، لكنه لم يتأثر بهذا العلم، ولم ينتفع به في قلبه وفي سلوكه، إنما يحمل هذا العلم لينتفع به الناس، ونسأل الله أن نكون من الأولين، ونفترض أن هذا الصنف الثاني لا بد أن يكون عندهم شيء من التأثر، فعلى الأقل أصل الإسلام والإيمان عندهم، وإلا لم يكن علمهم هذا شيئاً، ولم يؤخذ منهم هذا العلم الذي عندهم لو لم يكونوا مسلمين، فهم تأثروا لكن تأثراً قليلاً قياساً على العلم الذي عندهم، فإذا أتيت إلى العلم الموجود عند الواحد منهم لقلت: هذا يفترض أن يكون إماماً في العمل، وفي الدعوة، وفي الإصلاح، ولكن واقعه على خلاف هذا، نسأل الله العافية.
فهم لم يعملوا بهذا العلم الذي علموه، فينتفع الناس بعلمهم، وربما يدخل بعض الناس الجنة بسبب ما علموهم، وهؤلاء الله أعلم ماذا يكون مصيرهم، وفي صحيح البخاري من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! أي: فكيف دخلت النار- فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه} .
فربما كان ممن أمرهم ونهاهم من أطاعوه، فدخلوا الجنة، وهو يدور بأقتابه كما يدور الحمار برحاه في نار جهنم، نسأل الله العافية والسلامة.
فهذا لم يزده ما عنده من المعرفة والعلم إلا بعداً عن الله عز وجل، هذه الطائفة الثانية من يحفظ العلم على الناس، لكنه لا يعمل به، فهو مثل الأرض الصلبة التي أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، لكن هي ما انتفعت، فهي كالسراج أو كالشمعة تحرق نفسها لتضيء للناس.
3- معرض جاهل: والطائفة الثالثة: {إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً} .
أرض تشرب الماء ولا تنبت، فهذا مثال لمن لم يتعلم علماً شرعياً ولم يعمل به، فخسر الاثنتين، وهذه شر الطوائف.
فعلم بذلك أن المقصود من الوحي والعلم الشرعي أن يظهر أثره على حامله قولاً وعلماً وسلوكاً، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الذين يخرجون في آخر الزمان، الذين هم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، قال: {يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} وقوله: لا يجاوز حناجرهم: إما أن يكون المعنى أنه لا يرفع لهم؛ أو أنهم لا يستفيدون منه.(175/16)
أثر العلم في صاحبه
وبذلك نعلم أن المقصود الأعظم من طلب العلم هو العمل بالعلم في الواقع، وظهور أثر العلم على صاحبه كما في حديث أبي موسى رضي الله عنه في الصحيح عندما ذكر المثل العجيب فقال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً} الهدى والعلم كالمطر ينزل على الأرض، فتهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج، وهذا أمر ملحوظ مشهود فإنك تجد كثيراً من الناس يعيش في عماية، فإذا عرفت حاله في جاهليته قلت: سبحان الله! هذا لا خير فيه، سوء خلق وقلة أدب وقلة دين، لا ينفع في دين ولا دنيا، لكن إذا قيض الله من يعلمه ويربيه على الحق والخير حتى كأنه بعد هدايته خلق آخر، تبارك الله رب العالمين! وهذا موجود في جيل الصحابة رضي الله عنهم، قارن بين عمر قبل إسلامه وبعد إسلامه، عمر كان قبل إسلامه الرجل الغليظ الجافي القاسي، وله في ذلك قصص وآثار معروفة، وبعد إسلامه كان يسمع الآية من القرآن تقرأ، فيبكي حتى يجلس في بيته أياماً يعاد من جراء تأثره بهذه الآية.(175/17)
ضرورة الاستمرار على طلب العلم
ولعل هذه الكلمة قد طالت أكثر مما كنت أريد، فأختمها بالتأكيد على أهمية الاستمرار في طلب العلم، لأن العلم الشرعي في الواقع -كما يقال- بحر ليس له ساحل، ومن ميزة العلم الشرعي أنه كلما تعمق فيه الإنسان، ازداد تواضعاً لله تعالى لمعرفته بجهله حينئذ، كما قال الأول: وكلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي وهذا والله هو الواقع، فإن الإنسان كلما توسع في العلوم، أدرك شدة جهله، لأنه عرف مقدار العلوم الكثيرة التي لا يعلمها، وربما لا يعرف من بعض العلوم إلا أسمائها أو رءوس المسائل فيها، فأدرك حينئذ أنه جاهل، لكن بعض العامة أحياناًَ -فضلاً عن بعض طلبة العلم المبتدئين- قد يقول الواحد منهم: نحن كل شيء نعرفه، ما يخفى علينا شيء، لكن عسى الله أن يهدينا! لماذا يظنون أنهم يعرفون كل شيء وأنهم لا يخفى عليهم شيء؟! لشدة جهلهم، فإذا عرف الواحد منهم مسائل كثيرة ظن أنه يعرف، فالعلم الشرعي بحر ليس له ساحل، بل هو بحار.(175/18)
علو همة طالب العلم
ولهذا فإن طالب العلم ينبغي أن يوطن نفسه منذ بداية طريق الطلب أن يكون عالي الهمة، صبوراً في تحصيل العلم، وأن يتعود على أن يثني الركب في طلب العلم وتحصيله، ويصبر على هذا الأمر، كما نبهنا الله تعالى إلى ذلك في قصة موسى والخضر عليهما السلام، حيث قال موسى للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:66-67] فبين الخضر أن الصبر ضروري لمن يريد أن يتعلم الرشد، فكان جواب موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف:69] لا بد من الصبر! ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد في الصحيح: {ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من صبر} .
اصبر على طلب العلم، وإلا فنحن نجد في كل مكان أنه حين يبدأ درس -مثلاً- قد يحضر هذا الدرس -ربما- مئات من الناس، لكن هؤلاء لماذا حضروا؟ هل حضروا فعلاً وهم يعرفون لماذا جاءوا؟ أم أنه يريدون أن يستطلعوا الأمر أول مرة فقط، ثم ينصرفوا بعد ذلك إلى شغلهم؟ فبعد فترة تجد أنه يصفو من هذا الجم الغفير أعداد قليلة، وهذا يكفي؛ لأنه ليس مطلوباً أن يكون الناس كلهم علماء ومتخصصين في علوم الشريعة {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] يكفي أن يوجد طائفة من الناس في كل بلد تتفرغ لطلب العلم الشرعي وتحصيله؛ لتكون مرجعاً يرجع الناس إليها في العلم والفتيا والحلال والحرام، المهم وجود الصبر والدأب والاستمرار حتى يحصل الإنسان على ما يريد أو على بعض ما يريد.
جعلني الله وإياكم ممن عَلِمَ وعمل وعلَّم، فذلك يدعى في ملكوت السموات كبيراً، كما قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه وأرضاه.
وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(175/19)
الأسئلة(175/20)
طلب العلم للنساء
السؤال
إحدى الأخوات تطلب الدلالة على كيفية طلب العلم للنساء بسبب ظروفهن العائلية، وترجو توجيه كلمة لأولياء أمور النساء في مساعدتهن في هذا الأمر؟
الجواب
أما كيفية طلب العلم للنساء فكما في حديث رواه النسائي وغيره بسند قابل للتحسين: {أنما النساء شقائق الرجال} فما يقال في الرجل يقال في المرأة أيضاً في طلبها للعلم، والطريق واحدة، لكن ظروف المرأة العائلية قد تحول دون بعض ذلك، فيمكن للمرأة أن تعوض ما فاتها عن طريق سماع الأشرطة وقراءة الكتب وما أشبه ذلك.
ثم إنني أنصح الأخوات الحريصات على طلب العلم على التركيز على العلوم التي يحتجن إليها في أمورهن العملية والحياتية بصفة أخص، لأن طبيعة المرأة ودور المرأة في المجتمع من الزواج ثم الحمل والإنجاب والاشتغال بالولد تحول بين استمرارها على وتيرة واحدة في الطلب، فكونها تقدم الأهم هذا هو الأحزم والأولى في حقها، فتعنى -مثلاً- بمسائل الطهارة ومسائل الصلاة، والمعاشرة، وحقوق الأهل، ومعرفة أحكام بعض المنكرات الموجودة والأدلة على تحريمها، وأحكام بعض الأعمال التي يعملها الناس؛ حتى تكون آمرة ناهية، ومعرفة العقيدة، وهذا قبل ذلك كله، والدعوة إليها، معرفة الترغيب والترهيب وما ورد فيه من أحاديث؛ لأن هذه من الأشياء التي تحتاجها المرأة في مجالستها ومعاملتها مع غيرها من الناس، وتستفيد منها بشكل أكبر، فإذا بقي عندها بعد ذلك فضل وقت، فلا بأس أن تصرفه في فروع العلوم الأخرى.
أما أولياء أمور النساء، فلا شك أن ولي أمر المرأة لها عليه حقوق كثيرة، من أهمها أن يعلمها حدود ما أنزل الله على رسوله، ومن العيب أن يكون طالب العلم أحياناً مشتغلاً بالعلم، وربما بالتعليم أيضاً، فإذا أتيت إلى أهله، وجدت عندهم جهلاً مطبقاً، وقد علمت أن بعض النساء يوجد عندهن جهلٌ غريب في أمور الدين؛ بسبب أن المرأة محصورة في بيتها لا تذهب ولا تجيء ولا تخرج، وفي نفس الوقت ولي أمرها لا يوصل إليها ما يسمعه من العلم والذكر، فلا هي سمعت بنفسها، ولا هو أوصل إليها بعض ما سمع، حتى إن من النساء من قد تجهل أصول الإسلام.
وقد علمت أن إحدى النساء وهي نشأت في بيئة طيبة جداً، ومع ذلك لم تكن تعلم أن الناس يبعثون بعد موتهم حتى تزوجت، وحدثني آخر أن زوجته لا تصلي، ولما أمرها بالصلاة وألح عليها، قالت: ما سمعنا أن الدين للمرأة! الدين للرجال، تقوله جادة ليست ساخرة، تقول الدين للرجال، وهم الذين يخاطبون وينهون ويذهبون إلى المساجد، أما المرأة فليس عليها دين، فالمرأة بأمس الحاجة إلى أن ولي أمرها إن كان عالماً أو عنده علم، يوصل إليها ما عنده من علم، وإن لم يكن كذلك يمكنها من سماع العلم والذكر والموعظة، ويذهب بها إلى الدروس والمحاضرات والمجالات التي يكون فيها خير، ويحضر لها ما تحتاجه من الكتب والأشرطة وغيرها؛ ليقوم بذلك ببعض الواجب الملقى على عاتقه تجاهها.(175/21)
ترك إظهار العلم خشية الرياء
السؤال
ما حكم ترك إظهار العلم خشية الرياء؟
الجواب
إذا عرفنا الهدف من تحصيل العلم وجمعه، فالعلم لا شك إذا كان علماً لا يُبدى، فهو مثل إنسان عنده كنز من الأموال، لكنه محفوظ في خزائنه لا ينتفع الناس به، إنما يكون حساباً عليه يوم القيامة، فما هي الأشياء التي تمنع الإنسان من إبداء العلم؟ قد تكون هناك أسباب شرعية تمنعه من إبداء العلم، مثل ظنه بأن هذا الإنسان الذي سأله أو طلب منه سوف يستخدم هذا العلم في غير وجهه الشرعي، فيرى من المصلحة حجبه عنه للمصلحة الشرعية، أو يرى أن إبداء هذا العلم قد يكون ليس هذا أوانه، وله وقته المناسب، كأنواع خاصة من العلوم، وقد يكون على الإنسان خطر في نفسه أو ماله، فيجوز له أن يترك ذلك، وإن كان الأولى والأحرى به أن ينشر العلم كما قال أبو ذر رضي الله عنه: [[لو وضعتم الصمصامة على هذه -أي على رقبته- ورأيت أني أنفذ شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تقتلوني لأنقذته]] .
أما ترك إظهار العلم خشية الرياء، فهو من مزالق ومداخل الشيطان على ابن آدم، في العلم وغير العلم، وكثيراً ما يوسوس للإنسان من خوف الرياء، فيدعوه إلى القعود عن الطاعة والعبادة، وكم من إنسان ترك التقدم إلى الجماعات، وترك إمامة الناس في الجمع والجماعات، وترك الدعوة إلى الله، وترك قراءة القرآن، وترك صلة الأرحام، بحجة أنه يخشى أن يكون هذا من الرياء، وليس الحل أن يترك العمل، إنما الحل أن يستمر في العمل، ويدافع الرياء.
ومبدئياً كونه ترك العمل خوف الرياء دليل على أن عنده أصل الإخلاص، وإلا فالمرائي يفرح ويفخر بأن يظهر العمل للناس ليمدحوه به، فكون الإنسان يكون عنده هاجس وهم بأنه سوف يترك العمل خوف الرياء دليل على أن عنده إخلاص، لكن قد يخطر الرياء في قلبه، وأصل النية عنده خالصة، فلا ينبغي له أن يترك العمل حينئذٍ، بل عليه أن يستمر في العمل، ويحرص على دفع الرياء ما استطاع، فإن لم يندفع الرياء، وكان الأصل الدافع للعمل خالصاً، فإن هذا لا يؤثر في أصل العمل، وإن كان قد يقلل من أجره.(175/22)
المفاضلة بين العلم والعبادة
السؤال
هل العلم نفسه عبادة لله عز وجل؟ فبعض الناس يحجم عن طلب العلم بحجة أنه لا يستطيع تبليغ العلم في هذا الزمان، وما كل أمر يريد أن يقوله يستطيع أن يقوله؟ فما رأيكم؟
الجواب
أما أن طلب العلم عبادة، فلا شك أنه إذا كان لوجه الله تعالى فهو من أعظم القربات، ولذلك صرح بعض أهل العلم كـ الشافعي والإمام مالك وغيرهما بأن طلب العلم يقدم على النوافل الأخرى، وهذا ظاهر لأسباب كثيرة:- منها أن العبادات تفتقر إلى العلم، والعلم لا يفتقر إلى نوافل العبادات، فالإنسان لو تعبد على غير علم قد يعبد الله على جهل وضلال، فالعبادة تفتقر إلى العلم في تصحيحها، والعلم لا يفتقر إلى العبادة.
ومن جوانب فضل العلم على العبادة أن العلم نفعه متعدٍ، والعبادة نفعها لازم، فالعالم ينفع الله به الناس كلهم، والعابد ينفع نفسه.
ومنها: أن العلم يكون به حفظ الشريعة، وليس كذلك العبادة، فإن العُبَّاد قد ينشغلون عن طلب العلم وتحصيله، ويضيع عليهم الكثير من أمور الدين.
ومنها: أن العلماء هم ورثة الأنبياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن العلماء ورثة الأنبياء} وليس كذلك العُبَّاد، فلم يرد في شأن العُبَّاد مثلما ورد في شأن العلماء أنهم ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
ومنها أن العلماء هم الذين أمر الله تبارك وتعالى بطاعتهم، ولم يأمر بطاعة العُبَّاد كما في قوله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] وكما في قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فأولي الأمر -كما قال المفسرون- هم العلماء والأمراء، فطاعة العلماء فيما يبلغونه من دين الله وشرعه واجبة بخلاف العباد إلى غير ذلك من الأسباب التي يعلم بها أن الاشتغال بالعلم من أعظم القربات وأجل الطاعات، لأن فيه حفظ الدين كما ذكرت.
أما كون الإنسان أحياناً لا يستطيع أن يقول كل ما في نفسه، فنحن نسأل: لماذا؟ لغلبة الشر وكثرة الأشرار، فلو أن المسلمين انتدب منهم من يحرصون على تعلم العلم وتعليمه ونشره لتغير الحال، وأصبح الخير هو الغالب، وأمور المجتمعات -أيها الإخوة- مرتبطة بعضها ببعض، فكثيراً ما تجد بعض الناس يكثر من اللوم على القائمين على أحوال المسلمين، من السلاطين وغيرهم وما وقعوا فيه، وينسى لوم الناس أنفسهم، والواجب لوم الجميع؛ لأن الأمور هذه مرتبط بعضها ببعض، والله عز وجل يقول في كتابه: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] فإن ما سلط على الناس يكون سبباً في عدم إمكانية أن يقول الإنسان كل ما عنده، وينشر علمه في كثير من البلاد، بسبب سوء أحوال الناس وانحرافهم، فعوقبوا بشيء من ذلك.
فإذا عملنا على إصلاح أنفسنا ونشر العلم؛ فإننا بذلك نجد كثرة العلماء والمتعلمين وكثرة الفرص التي يستطيع الإنسان بها أن ينشر علمه، وفي كثير من الأحيان قد تجد هناك مسئولاً فيه خير وصلاح، يبحث عن إنسان صالح ليعتمد عليه في من حوله، فلا يجد، لغلبة الشر -كما ذكرت- وكثرة الأشرار وتنفذهم، فهذا الذي ترك طلب العلم بحجة أنه لا يستطيع أن ينشر علمه، فماذا عمل بعد ذلك؟ قعد في بيته واشتغل بتجارته أو وظيفته أو دراسته، وتعطل من المصالح الشرعية جملةً، وهذا في الواقع ليس بحل.(175/23)
ضرورة وجود الهمة العالية
السؤال
هل الهمة مطلوبة في طلب العلم؟
الجواب
الهمة مطلوبة في كل أمر يعمله الإنسان، وما لم يكن عند الإنسان همة، فإنه لا يستطيع أن يصل إلى ما يريد، ولذلك لو نظرت إلى أي أمر من الأمور العادية لوجدت أن تحصيل الإنسان مربوط بعلو همته، فالذي يكون عنده قناعة بأي أمر من الأمور لا يواصل؛ لأنه إذا حصل على شيء ولو يسيراً اكتفى به.
خذ على سبيل المثال الأمور الدنيوية كالتجارة؛ لو أن هناك إنساناً يقول: أنا قنوع ولا أريد أموالا كثيرة، ويكفيني ما يعيلني وأولادي، لفتح محلاً متواضعاً يتناسب مع هذه الهمة الموجودة عنده، كذلك العلم الشرعي -وهو لا شك من المنافسات الشرعية التي يتنافس فيها أرباب الهمم العالية- قد تجد إنساناً يقول: أنا ليس لي طموح أن أحصل على علم كثير يستفيد منه الناس ويحتاجون إليه.
الله المستعان! ويأتي بعبارات تدل على خمول همته وخمودها، لكن يكفيني أن يكون عندي بصيص على الأقل لنفسي، فمثل هذا -بطبيعة الحال- لا يمكن أن يواصل الطلب، لأنه متى حصل على العلم الذي يخصه من علم فرض العين الذي يتعلق به من حيث الصلاة والطهارة والمعاشرة وما أشبه ذلك اكتفى به، وكلما علت همة الإنسان، كان لديه إمكانية أكثر في التحصيل.
والله تعالى قسم الهمم بين الناس، فقد تجد من الناس من تكون همته أن يصلح أهل البلد، ويوصل الخير إليهم جميعاً، وقد تجد آخر همته فوق ذلك قد يطمح أن يصلح أهل دولةٍ بأكملها، وربما تجد ثالثاً همته أن يصلح أحوال المسلمين بكاملهم، وليس بالضروري أن يحصل الإنسان على الهمة التي يتطلع إليها، ولكن بقدر همته يحصِّل، ولذلك كان يقال: وكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا فكلما علت همة الإنسان كان أدعى وأكثر لتحصيله، ولعلكم تعرفون كلمة الإمام الشافعي رحمه الله التي قالها في مجال طالب العلم والإصرار عليه، يقول: سأطلب علماً أو أموتَ ببلدة يقل بها سفح الدموع على قبري أي أنه: سوف يصر على طلب العلم حتى يتغرب في بلاد لا يُعرف فيها بحثاً عن الحديث والسنة، فإن نلت علماً عشت في الناس سيداً وإن مت قال الناس بالغ في العذر إذا ما مضى يومٌ ولم أستفد يداً ولم أكتسب علماً فما ذاك من عمري وعلو الهمة في حياة السلف أمر عجيب، والكلام فيه يطول، لكن لا بد من وجود الهمة عند طالب العلم، وبقدر همم الناس يحصلون من العلوم بإذن الله تعالى.(175/24)
أهمية حفظ القرآن الكريم لطالب العلم
السؤال
هل حفظ القرآن الكريم شرط لتحصيل العلم؟
الجواب
القرآن هو أساس العلم وأصله، كما قال الله عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فوصف الذين حفظوا القرآن وكان القرآن في صدورهم أنهم من الذين أوتوا العلم، ولذلك فإن العمل على حفظ القرآن من الأشياء التي ينبغي أن يأخذ طالب العلم بها نفسه، نحن لا نقول هذا شرط لتحصيل العلم، فليس هناك ما يدل على هذا، بل إننا نعلم من حياة السلف أن منهم من كان لديه علم يشار إليه بالبنان، ولم يكن حافظاً للقرآن كله، لكن من أراد أن يحفظ العلم، فعليه أن يبدأ بحفظ القرآن الكريم، ولا تعارض بين حفظ القرآن وبين طلب العلوم الأخرى كالحديث والفقه والأصول وغيرها، بل على الإنسان أن يجعل له وقتاً يحفظ فيه القرآن، كأن يحفظ في اليوم وجهاً أو وجهين أو ثلاثة، بحسب ما يتيسر له، المهم أن يلتزم بمقدار من حفظ القرآن الكريم لا يتخلف عنه أبداً، ويجعل له وقتاً لحفظ السنة وطلب العلم؛ بحيث أنه بعد ثلاث سنوات أو أربع سنوات، يجد نفسه قد حفظ كتاب الله، وحصل جزءاً طيباً من العلوم.
أما من يقول: أريد أن أتوفر على حفظ القرآن فقط دون غيره فهذا يختلف، بعض الناس قد يكون عنده جودة وسرعة في الحفظ، حتى أن منهم من حفظ القرآن في شهر، ومنهم من حفظ القرآن في شهرين، فهذا لا بأس أن يتفرغ شهراً أو شهرين ليحفظ القرآن كاملاً، لكن غالب الناس لا يستطيع حفظ القرآن إلا على الأقل في حولين كاملين، فمثل هذا من العسير أن يقال له: تفرغ حولين كاملين لحفظ القرآن، اللهم إلا أن يكون الإنسان لا يستطيع إلا ذلك، أو مشغول في أمور أخرى، وكل حالة تقدر بقدرها، لكن ينبغي أن يكون حفظ القرآن هو الأمر الأول في أساسيات طالب العلم.(175/25)
أنصفوا المرأة
تعرض الشيخ لقضية المرأة، وأسباب معالجة موضوع المرأة.
وذكر صوراً من ظلم المرأة، مبيناً نظرة الإسلام إلى المرأة؟ محذراً من آثار هذا الظلم.(176/1)
لا تكن أنانياً
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛ عنوان هذا الدرس" أنصفوا المرأة " وهو الدرس السابع والسبعون من هذه الدروس العلمية العامة، في هذه الليلة: ليلة الإثنين الخامس عشر من شهر جمادى الأولى من سنة 1413هـ.
وعندي لك أيها الأخ الحبيب سبعة عناوين: أولها: يناديك ويقول لك لا تكن أنانياً، فالمؤمن الحق منصف بطبعه، جعل من نفسه رقيباً على نفسه، وتبرأ من وصمة الأنانية والذاتية وحب الأثرة، فأصبح قلبه يسع هموم الآخرين، وأصبح قاضياً وحاكماً بنفسه على نفسه.
إن من الأمراض المتفشية بيننا اليوم أن كل فئة أصبحت تحتجر الخير لذاتها، وتدافع عن نفسها حتى ولو على حساب الآخرين، وأصبحنا نستنكف ممن يدلنا على عيوبنا.(176/2)
المدافع عن المرأة هو مدافع عن الرجل
أيها الأحبة إن المدافع عن حقوق المرأة هو مدافع عن حقوق الرجل أيضاً، فالمرأة أمك وزوجك وأختك وبنتك، وإذا كنت اليوم تكلمت عن المرأة وحقوقها، فإنني لم أقصد من وراء ذلك إلى إزعاجك، ولا إلى أن أخسرك كما عبر أحد الإخوة: إن تكلمت عن هؤلاء خسرت أولئك لا، لا أريد أن أخسرك -أيها الرجل- فأنت بعد الله تعالى سندي وعضدي وصاحبي، وطالما تحدثت وتحدث غيري من الإخوة من طلبة العلم والدعاة عن حقوقك، وما يجب لك تجاه ولدك، وتجاه زوجتك، وتجاه الآخرين، وقد أمسك بزمام المبادرة أحد الإخوة الأكارم الفضلاء، الذين كتبوا إليّ حول هذا الموضوع، واقترح عليَّ موضوعاً قادماً عنوانه " أنصفي الرجل " فهو خطاب للمرأة: أن أنصفي الرجل: أباً، وابناً، وأخاً، وزوجاً، وسيكون هذا بإذن الله تعالى، وعلى كل حال فإذا كنت أقول لكم اليوم: أنصفوا المرأة، فلا تظنوا أنني سأقول للمرأة: نامي قريرة العين ريثما يفرغ الزوج من إعداد وجبة الطعام، فقد عتب بعض الإخوة على من يروون ذلك الحديث الذي كان فيه: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله، حتى إذا أذن المؤذن خرج للصلاة} وهو في صحيح البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها.
وقالوا: لابد من بيان هذا الحديث وإيضاحه، فعلى كل حال لن أقول هذا الكلام الآن، وإنما سوف أقول ما تسمعه بعد قليل.(176/3)
الناس بطبيعتهم يحبون الثناء
إن الناطق عن شريعة الله عز وجل -أيها الأحبة وأيتها الأخوات الكريمات- يقول ما يجب شرعاً أن يقال، وليس ما يحب الناس أن يقال، وبين ما يجب وما يحب الناس فرق، فقد يحب الناس أن تدغدغ مشاعرهم بطيب القول، وأن يثنى عليهم بجميل الثناء، ولو لم يكن الأمر كذلك، وقد يكون الحق أحياناً مراً، وفي صحيح ابن حبان: {قل الحق ولو كان مراً} وهذا الحديث وإن كان فيه ضعف إلا أن معناه صحيح، وليس المهم أن يرضي الإنسان طرفاً ليسخط آخر، المهم أن يرضي الله تعالى، ويقول ما يعتقد أنه حق، ولو سخط عليه في ذلك من سخط.(176/4)
الله يأمر بالقسط
أين نحن من هدي القرآن الكريم؟! قال الله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8] فأمرنا الله تعالى أن نقوم له سبحانه بالحق والعدل والقسط، وأن نشهد بذلك على القريب والبعيد، وعلى العدو والصديق، وألا تحملنا العاطفة، حباً أو بغضاً، عداوة أو صداقة، على أن نجور أو نظلم، بل واجب علينا أن نعدل، فالعدل اقرب للتقوى، وفي سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:135] فَتَحصَّل من مجموع هاتين الآيتين الكريمتين ما يلي: أولاً: وجوب القيام بالقسط، وهو العدل لله تعالى، لا لأجل غرض آخر، فنحن مثلاً لا نقوم بالقسط والعدل؛ لأنه في مصلحتنا كما هو شأن المنافقين {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:48-49] لا، لأنه الحق؛ ولكن لأنه في مصلحتهم، يحقق لهم أرباً دنيوياً، كلا! بل يجب أن نقوم بالقسط وهو العدل، نقوم بذلك لله تعالى لا لغيره.
ثانياً: أن من الواجب علينا أن نقوم بحقوق الله تعالى، أن نقوم لله تعالى بعبادته وطاعته أيضاً، نقوم بهذا العمل ابتغاء مرضاته، لا رياء ولا سمعة، وفي حديث عبادة بن الصامت وهو في الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعهم وكان مما أخذ عليهم: وأن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم} فالحق يقال به، ولابد أن يعلن مهما كان الأمر.(176/5)
حال الرجال والنساء
أحبتي: لقد جالست رجالاً كثيراً، فوجدت حديثهم ومسلماتهم التي لا تقبل الجدل: الكلام عن عيوب النساء، وظلمهن وتسلطهن، حتى كأن هذا الأمر أمر مفروغ منه، لا يكاد يشرع الحديث فيه بين الرجال حتى تتوالى التعليقات والإضافات والأحاديث من هنا وهناك، وكل يشتكي ويتذمر من واقعه.
كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن ثم استمعت إلى حديث بعض النسوة، وقرأت أوراقاً ورسائل وشكاوى، فوجدت أن المرأة هي الأخرى تشارك الرجل في الطبيعة ذاتها والصفة نفسها، فما تكاد تجتمع فئة من النساء إلا وكان حديثهن: عن الرجال وظلمهم، واستبدادهم وإصرارهم على أخطائهم، وما أشبه ذلك.
إن هذا وذاك لا يليق بالمؤمن الحق، الذي جعل مقياسه شريعة الله عز وجل.(176/6)
الكل يطالب بحقوقه
إن الداعية اليوم أو الخطيب إذا تحدث عن حقوق الأبناء والبنات أغضب الآباء والأمهات، فقالوا: فتحت عيون أولادنا عن أمور كانوا عنها غافلين، فإن تكلم عن حقوق الآباء على الأبناء، قال له الأبناء: ليس آباؤنا بحاجة إلى من يزيدهم ضغطاً علينا وحجراً على حقوقنا، وإن تكلم عن حقوق الأزواج (الرجال) اضطربت الزوجات وقلن: أنتم لا تتكلمون إلا عن حقوق الزوج، وكأن المرأة عندكم مهدرة الحقوق، مهضومة الجانب، أما إن تكلم عن حقوق الزوجات والأمهات والبنات؛ فإن بعض الأنوف ترم، ويقول قائلهم: المرأة طول عمرها قانعة بما هي فيه، حتى أتيتم أنتم ففتحتم لها الأبواب وهيأتم لها الأسباب، وأغريتموها بالمطالبة والمغالبة.
وإن تكلم المتحدث اليوم عن حقوق المدرسين غضب الطلاب وأرغوا وأزبدوا، وإن تكلم عن حقوق الطلاب غضب المدرسون ومالوا وقالوا، وإن تكلم عن حقوق هؤلاء جميعاً غضب الإداريون، وقالوا: قلت وفعلت، وإن تكلم عن حقوق الرعية غضب الراعي، وإن تكلم عن هؤلاء غضب أولئك، ولهذا يميل الكثيرون اليوم إلى ترك الحديث عن الموضوعات الساخنة والموضوعات الحية إيثاراً للسلامة والعافية في أنفسهم وفي أعراضهم وفيما يقولون، ويتركون الجرح غضاً طرياً نازفاً ينزف بالدماء، ولو كانوا يتحسرون في دخيلة نفوسهم على هذا، ولكنهم لا يملكون الجرأة والشجاعة إلى أن يجاهروا بإنكار العيوب والدعوة إلى إصلاحها.(176/7)
واحد صادق والبقية يكذبون
أما حديثي الآخر إليك فهو بعنوان " واحد صادق والبقية يكذبون " إنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان هذا النبي المختار كما وصفه ربه عز وجل رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] جنِّهم وإنسهم، رجالهم ونسائهم، عربهم وعجمهم، مؤمنهم وكافرهم.(176/8)
كذب جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة في الغرب
لقد عرف الغرب جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة التي استدرجت المرأة شيئاً فشيئاً إلى المصنع، حيث الدخان والأصوات المزعجة والسواعد المفتولة، واستدرجها إلى المتجر لتكون زينة تغري المتسوقين بالشراء، واستدرجها إلى المسرح وصالات العرض؛ لتكون جسداً يغري بلا روح، واستدرجها إلى ميدان السياسة؛ لتكون وزيرة ومسئولة ورئيسة ومديرة وغير ذلك، وأخيراً استدرجها إلى جحيم الحرب، حيث غدت المرأة تشكل في الجيوش الدولية أعداداً لا يستهان بها ضمن الضباط والمحاربين والمجندين في أشق الأعمال وأكثرها صعوبة وأذى.
فماذا كسبت المرأة من وراء ذلك كله؟ لعل من الطريف والعجيب في الأخبار، أنه قام اليوم في فرنسا وغيرها جمعيات أخرى على النقيض من ذلك تطالب بحقوق الرجل، وتدافع عن الرجل، المضطهد تحت تسلط المرأة وقهرها وعنادها.(176/9)
نشوء جمعيات حقوق المرأة في الشرق
ولقد عرف الشرق أيضاً جمعيات تنتمي إلى المرأة، وتدافع عن حقوقها زعماً، في مصر ولبنان والشام والخليج والمغرب العربي وغيرها، ومعظم هذه الجمعيات لا تخرج من الاحتمالات التالية: أولاً: جمعيات أنشأها المستعمرون لتكون أوكاراً للفساد، وبؤراً لتخريج البائسات المنخلعات عن الفضيلة والعفاف.
الاحتمال الثاني: جمعيات أنشأتها نسوة يشعرن بالنقص في تكوين المرأة وجِبِلَّتها وطبيعتها، فسعين إلى سد هذا النقص بمزاحمة الرجل في ميدانه وفي تخصصاته، وخالفن بذلك فطرة الله التي فطر المرأة عليها، إذ أي شأن للمرأة في بالرياضة وحمل الأثقال؟! ومعظم هؤلاء النسوة ينطلقن من معاناة شخصية وظروف مرت بها الواحدة منهن.
الاحتمال الثالث: تلك التي لا ترى في المرأة إلا جسدها فحسب، فهي تعتني بملابسها وتناسق هذه الملابس بألوانها وأشكالها وخطوطها مع أحدث الموضات، أو تعتني بشعرها وتسريحاته الجديدة التي تضاهي أحدث التسريحات الغربية، أو تعتني بألوان المكياج والأصباغ والعطور، والإضافات والتعديات على شكل المرأة وخلقتها، حتى إن وزن المرأة يضعف أحياناً مما تحمل من تلك الأثقال، التي بعضها يوضع على الرأس، وبعضها على الأذنين، وبعضها على الظهر، وبعضها على الكتفين، وبعضها على القدمين، وبعضها على الساقين، وهكذا سائر البدن ينوء بهذه الأثقال والأحمال، التي لولا أن تكاليف الموضة ورسومها أصبحت قانوناً عند كثير من النساء، لكان من الصعب على المرأة أن تتحمل ذلك وتنفذه، وأنا هنا لا أعمم فيما أقول، وقد كتب إلي واتصل بي عدد من الأخوات، حين تحدثت عن إحدى الجمعيات في المنطقة الشرقية قبل أسبوعين، فأقول: إنني لا أنكر أنه لا يوجد أخوات دينات داعيات إلى الله عز وجل، يبذلن جهوداً كثيرة في كل الميادين وفي كل المجالات، وقد ترى بعض هؤلاء الأخوات أن تدخل في هذه الجمعيات، إما لخير تحققه أو لشر تدفعه، فلهؤلاء مني الدعاء أن يوفقهن الله سبحانه وتعالى في هذا المسعى الحميد، وأن يبارك الله سبحانه وتعالى في جهودهن، وأن يجري على أيديهن الخير الكثير على بنات المسلمين في هذه البلاد وفي كل البلاد.(176/10)
العلمانيون والمرأة
لقد عرف الناس هنا وهناك في الشرق وفي الغرب الجهود الإعلامية التي يقف وراءها العلمانيون، الذين يضربون دائماً على وتر واحد يعرضونه لنا في الكلمة، وفي المقالة، وفي الرسالة، وفي الأغنية، وفي القصيدة، وفي الكلمات التي تنشر أحياناً بأسماء بعض الفتيات، كلمة واحدة ولحن لا يقولون: إنك أيتها المرأة في مجتمعنا مهدرة الحقوق، مسلوبة الكرامة، مسحوقة الشخصية، وأن على المرأة أن تثور على الرجل، وأن تقول له: لا.
بصوت عالٍ، وأن تتخذ قرارها بنفسها دون ضغط أو تأثير، إنه لم يعد همساً ذلك الصوت النسائي الذي يتحدث عبر الأثير، أو يتقدم في التلفاز، أو يكتب في الجريدة، يسانده صوت رجالي يخفى وراءه المكر والخديعة، ويطالب بما يسميه حقوق المرأة، من باب: (يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها) وإلا فهل حقوق المرأة هي أن تسافر المرأة إلى أقطار الدنيا بمفردها، لتكون عرضة للذئاب؟ أم أن حقوقها أن تفتح لها أماكن يسمونها أماكن الترفيه كما زعموا، ونماذجها موجودة في الإسكانات الخاصة بالشركات، كشركات الطيران، وشركات البترول، وشركات التصنيع، والشركات الطيبة، والإسكانات في المستشفيات وغيرها، والتي تحتوي على المسابح المختلطة، وأماكن الرقص، وأماكن عرض الأزياء، بل وأقول: وعندي الوثيقة- وأحياناً بارات للخمور.
إن هؤلاء كمن يدس السم في الحلوى، فهم يضربون على هذا الوتر الحساس، وينادون المرأة بالصوت الذي تستعذبه وتستلذه، ولكنهم يهدفون من وراء ذلك إلى أن يلقوا بها في شراكهم، حتى يضحكوا عليها ويدعوها باكية تتحسر بلا مجيب.(176/11)
دور العلماء والدعاة
وأمام هذا وذاك كان لابد أن يكون للعلماء والدعاة دور بارز في الدفاع عن حقوق المرأة، وحمايتها من الظلم الحقيقي الذي يقع عليها، سواء كان هذا الظلم ظلم الذين يبخسونها حقوقها ويضطهدونها، أم كان ظلم الذين يريدون أن يخرجوا بالمرأة عن فطرتها، وعن أنوثتها، بل وعن إنسانيتها؛ لتكون دمية يعبثون بها حيث شاءوا.
إن سر كمال المرأة هو في احتفاظها بشخصيتها التي خلقها الله عليها، شخصية الأنثى، لا هي بالتي تحول إلى رجل مفتول الساعدين، ولا هى بالتي تحول أيضاً إلى لعبة أو زهرة يشمها كل عابر، إن كمال المرأة هو في ضعفها، فهذا الضعف هو سر إغرائها وجاذبيتها وتأثيرها، وهو سر قوتها أيضاً: هي الضلع العوجاء لست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارها أتجمع ضعفاً واقتداراً على الفتى أليس غريباً ضعفها واقتدارها بلى إنه لغريب! ولكنه صنع الله الذي أتقن كل شيء.
إن دموع المرأة أحياناً تفلح في تغير قلب، كأنما قُدّ َمِنْ صخر، وكلماتها الرقيقة تنطلق أحياناً أقوى من المدافع.(176/12)
الصادق هو محمد صلى الله عليه وسلم
إن أعظم المدافعين عن حقوق المرأة هو محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى رغم أن المجتمع الجاهلي العربي الأول حارب الدعوة، وأعلن النكير عليها وقاومها، فإن هذا لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفكر في مهادنتهم أو مداهنتهم في مسألة المرأة، وهى قضية عندهم ذات حساسية، وذات وقع، وذات تأثير، وكانت النساء في الجاهلية مأسوراتٍ مقهورات محقورات، فأعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مدويةً مجلجلةً، وإن حشدت حوله المزيد من الخصوم والمزيد من الأعداء.
لقد كانت الجاهلية الأولى تبتئس بالمرأة بنتاً مولودة وتضيق بها، فتحاول أن تئدها وتقتلها، أو تمسكها على هون، فصرخ النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وفي وجوههم، وقال: {من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين} وضم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه كما في صحيح مسلم.
وما زال الكثيرون اليوم يتشاءمون من ميلاد البنات، وربما هجر الرجل زوجه بسبب ذلك: ما لـ أبي حمزة لا يأتينا يقيم في البيت الذي يلينا غضبان ألا نلد البنينا تالله ما ذلك في أيدينا وما رزقناه فقد رضينا وكان المجتمع الجاهلي الأول يصادر حق المرأة، لضعفها وعجزها عن الدفاع، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فيهم وقال بأعلى صوته، وأشهد الله تعالى: {اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة} وهو حديث حسن رواه النسائي وغيره بإسناد جيد كما قال النووي.
وكان الرجل يسارع إلى ضرب امرأته وإيذائها، والاعتداء عليها في جسدها، وفي كرامتها، وفي سمعتها، فوجدت المرأة في شكواها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجاً ومخرجاً مما تعاني وتلاقي، فأصدر النبي صلى الله عليه وسلم أمره في المدينة إلى المؤمنين المصدقين: {يا عباد الله لا تضربوا إماء الله} -كما في حديث أبي داود وهو حديث صحيح- فقال عمر: يا رسول الله! ذئرن النساء، فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فطاف عليه نساء كثيرات يشكون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {والله لقد طاف بأبيات آل محمد صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم} نعم ليسوا من الخيار فإن الخيار هم الخيار لنسائهم، كما في حديث أبي هريرة الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {خياركم خياركم لنسائهم} .
لقد وفر النبي صلى الله عليه وسلم حق المرأة على ولدها وعلى زوجها وعلى أبيها، بل وعلى مجتمعها كله.
فأي محافظ ومدافع عن حقوق المرأة، وحامٍ لها بقوله وفعله، يشابه أو يقارب هذا النبي المصطفى المختار، الذي هو رحمة مهداة ونعمة مسداة؟!(176/13)
لماذا نعالج موضوع المرأة؟
أولاً: نعالجه طاعةً لله تعالى الذي أمرنا بالعدل والإنصاف والمساعدة في رفع الظلم عن المظلومين، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
ثانياً: نعالجه اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، الذي أستطيع أن أقول بكل ثقة: إنه عليه الصلاة والسلام أحدث نقلاً في بناء حياة المرأة، ليس على مستوى الجزيرة العربية، بل على مستوى العالم كله، العالم الذي كان يعقد المؤتمرات ليبحث هل للمرأة روح أم لا! فقام محمد صلى الله عليه وسلم ليبين عن حقوق المرأة ومكانتها ومالها من الفضائل.
ثالثاً: نعالج هذا الموضوع لمنع متاجرة أعداء المرأة، الذين يغرونها بلذيذ الكلام، ويستغلون بعض الظلم الواقع فعلاً على المرأة، وليس لهم همٌ إلا الحديث عن هذا الأمر، حتى ظن بعض السذج والمغفلين أنهم هم المدافعون فعلاً عن حقوق المرأة، وهم المطالبون فعلاً بتحرير المرأة، ولهؤلاء من المنابر الإعلامية ضجيج يصم الآذان، وبأيديهم من الوسائل ما يصل إلى العقول وإلى العيون وإلى الآذان، وما يقرؤه أو يسمعه أو يشاهده الكثيرون.(176/14)
هل المرأة مظلومة؟
هناك من يبالغ في تصوير الظلم الواقع على المرأة لأنه يعاني ربما وضعاً شخصياً خاصاً، وقد يكون اطلع أحياناً على انتهاكات وتعديات يعممها على الجميع، وقد يدخل بعض الناس -وهم يتكلمون عن الظلم الواقع على المرأة بعض الضوابط والأحكام الشرعية في ظلم المرأة، وهذا نسبة للظلم إلى الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] .
مثلاً تعدد الزوجات الإذن الشرعي للرجل أن يتزوج أكثر من امرأة، قد يصنف البعض هذا من الظلم، وهذا أمر ثبت في القرآن، قال الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] وقد تكلمت كثيراً عن العدل، وسأتحدث بعد قليل عن الضوابط في موضوع التعدد، ومتى يعدد الإنسان ومتى لا يعدد، لكن المقصود أن أصل التشريع ثابت بنص القرآن وبإجماع المسلمين، فلا يحق لمسلم أبداً أن يعتقد أن هذا من الظلم، لا رجل ولا امرأة.
وهناك في المقابل من يبالغ في نفي الظلم وتقليله، وهو قد يكون معذوراً، لأنه رجل كريم محسن لزوجته، وبار بأمه، وأمه ورفيق ببنته، وكريم مع أخته، فهو يظن الناس مثله، وكما يقول المثل " ما يحس بالنار إلا واطيها " والواقع أن المجتمع فيه هذا وذاك، فأما المظالم الواقعة على المرأة فهي ميدان رحب فسيح، وسأتحدث عنه بعد قليل.(176/15)
وجوب العناية الكبيرة بالمرأة
إن مجتمعنا لا يزال يحتفظ على الأقل بالقشرة الظاهرة من حفظ المرأة وصيانتها من الابتذال والإهانة، وعلينا أيها الأحبة أيتها الأخوات أن نستنفر كل طاقتنا لسد المنافذ على المغرضين، الذين يحاولون أن يجدوا موطئ قدم لهم، لمخاطبة المرأة وإفسادها وإخراجها، وليس سد المنافذ يعني أن نمنع المرأة أن تسمع مثلاً أو تقرأ أو تكتب أو تتصل فهذا غير ممكن في الغالب، وإن أمكن حيناً فهو لا يمكن في كل حين.
إنك تستطيع أن تمنع المرأة يوماً، لكنك لا تستطيع أن تمنعها كل يوم، وتستطيع أن تمنع واحدة، ولكن لا تستطيع أن تمنع الجميع، ولكن ذلك يكون بأن نحفظ للمرأة حقوقها، ونضمن لها الحياة الحرة الكريمة في بيتها وفي مكان عملها، ويكون بأن نربيها على مكارم الأخلاق، وعلى معالي الأمور، وعلى التدين الحق الظاهر والباطن، وننأى بها عن سفاسف الأخلاق، وما لا يليق بها، ويكون بأن نتولى الدفاع عن قضاياها، ونطالب برفع الظلم عنها قبل أن نعض أصابع الندم ولات ساعة مندم!(176/16)
مكانة المرأة في مجتمعاتنا
سوف أذكر الآن كمقدمة بعض الإكرامات التي يقدمها المجتمع هنا للمرأة، لأؤكد أنه على رغم النقص والتقصير والظلم الذي يقع هنا أو هناك، إلا أن مجتمعنا لا يزال مجتمعاً -بحمد الله- أفضل من أي مجتمع آخر في مجال حفظ حقوق المرأة.
فمثلاً: البر بالأمهات والجدات، وتربية الكبار والصغار على ذلك، من السلام عليهن وتقبيلهن وتحيتهن صباحاً ومساءً، باعتبار أن هذا جزء من روتين الحياة اليومية للصغار والكبار، وتوفير جميع الخدمات والمتطلبات لهذا الجيل أو ذاك.
إن هذه المرأة في الغرب تراها في المطار وهي تتوكأ على عصا، وتتحامل على نفسها، وتجر وراءها عربة، أو يحسن إليها غريب، فيجر العربة معها، وهى تنتقل من مطار إلى مطار، أو تتقلب في ميادين العمل، أو على أحسن الأحوال ترقد في دور الرعاية الاجتماعية لا يعرف بها أحد، وهى تموت موتاً بطيئاً.
من كرامة المرأة في مجتمعنا الحرص على تحقيق بعض المطالب الشخصية لها، حتى إن البنت مثلاً -وهذا مثال رأيته ولمسته بنفسي- ترفضها الجامعة عن أن تقبل أو لا تجد لها ميداناً للعمل، فيسعى أبوها ويلح في الطلب، ويطرق كل باب حتى يفلح في تحقيق مطلب هذه البنت، أما الولد أخوها فربما جلس دون دراسة أو دون عمل لفترة سنة أو سنوات.
ومن ذلك الاحترام العام للمرأة في المجتمع، ومساعدة من يرون معه عائلة، وتقديم هؤلاء في سائر المرافق، فرجال المرور مثلاً أو الأمن، أو العاملون في المطار، أو سائر العاملين في أي قطاع أو مرفق، بل عامة الناس، يحترمون المرأة، ويسهلون مهمة الرجل الذي تكون معه أسرته أو عائلته.
إن الرجل يقف ليمر عبر الشارع فينتظر طويلا ً، أما المرأة فإن الجميع يقف لها احتراماً وتقديراً ومراعاةً لظروفها، وحتى في حالة حصول خطأ من بعض النساء أو تعدٍ فإن الكثيرين من الرجال يحجمون عن مقابلة ذلك بمثله، صوناً للمرأة، والتزاماً بالأخلاقيات العامة التي تحكم المجتمع.
إن من الكرامة التي يقدمها المجتمع للمرأة توفير الكثير من الاحتياجات والخدمات لها في بيتها، فالرجل مثلاً وهو القيم الذي يكدح ليوفر لها الغذاء والكساء والدواء، وقد ساهمت الآلات والتيسيرات الحديثة في تخفيف المسئوليات عن المرأة، فلم تعد مكلفة مثلما كانت بالأمس قبل سنوات ليست بالطويلة، بالغسيل اليدوي، والخياطة لنفسها وأهلها وولدها وزوجها، بل حتى ملابسها يقوم بها غيرها, وأصبحت ألوان الأطعمة الجاهزة في متناول يديها، يخفف ذلك أعباء الحياة المنزلية تخفيفاً كثيراً.
هذه مجرد نماذج سريعة، وهى تقدم للمرأة دون مَنٍّ ولا أذى، فإن المرأة التي تخدم ليست عنصراً غريباً على المجتمع، ولا شيئاً دخيلاً، هي أمي وأمك، وأختي وأختك، وزوجي وزوجك، وقريبتي وقريبتك، فهي جزء منا، وما نقدمه لها هو بعض من واجبنا ومسئوليتنا، فضلاً عما تلقاه المرأة من حفاوة في بيتها ومقر عملها ومدرستها، وغير ذلك في غالب الأحيان.(176/17)
النقطة الخامسة: صور من ظلم المرأة
وهذه الصور: أولاً: ليست على سبيل الحصر بل هي على سبيل المثال.
وثانياًَ: لا أدعي أن هذه الصور موجودة في كل مجتمع، فضلاً عن أن تكون موجودة في كل بيت، لأنه لا بد من الإشادة بالرجال الفضلاء الأماجد الذين يحترمون المرأة ويحفظون حقها، ويكفيهم شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم أنهم من الخيار: {خياركم خياركم لأهله} ومن هذه الصور:(176/18)
رفض مناقشة المرأة واستشارتها
رابعا ً: رفض البعض مناقشة المرأة له في أي غرض، ولو كان يتعلق بها أو يخصها، حتى إنك تجد البعض قد يستشير أقرباءه وأصدقاءه وزملاءه وغير ذلك، أما المرأة فلا يسمح ولو بسماع رأيها، وقد يحتج بعضهم بحديث: {إنهن ناقصات عقل ودين} وأقول: الحديث صحيح، فالمرأة ناقصة عقل ودين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم فسر نقصان عقلها بأن شهادتها بشهادة رجلين، وليس المعنى أنها ناقصةٌ من جميع الوجوه عن الرجل، بل قد تكون المرأة أحياناً أكثر حفظاً من الرجل، وقد تكون أعظم إدراكاً من الرجل في بعض، الأحوال وقد تحصل من العلوم على أشياء لا يحصل عليها بعض الرجال: والناس ألف منهم كواحد وواحدة كالألف إن أمر عنا ومع اعترافنا -ولا شك- بنقص المرأة، وأن شهادة امرأتين بشهادة رجل، كما قال الله عز وجل: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] وذلك في خمسة مواضع، أترك الحديث عنها وتفصيلها لذاكرتكم.
ومع هذا النقص الذي ذكره الله في كتابه، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هناك أموراً تقدرها المرأة، وتدركها أكثر من غيرها بحكم تخصصها ومعرفتها، أو دأبها وإصرارها واجتهادها، أو غير ذلك، ومع النقص أيضاً فإنه قد يوجد في الأنهار ما لا يوجد في البحار.
وهل أنت حين تستشير لا تستشير إلا من هم أكثر منك ذكاءً، وأوسع منك خبرة، وأطول منك عمراً؟ كلا! بل قد تستشير من هو مثلك أو دونك، وقد يشير عليك بالرأي السديد.(176/19)
استبشاع مجرد ذكر المرأة
ثانياً: استبشاع مجرد ذكر المرأة، فإن في بعض البيئات وفي بعض المجتمعات إذا قال: المرأة، فلابد أن يثني بكلمة تدل على التقزز من هذه الكلمة، فيقول مثلاً: المرأة أجلك الله! أو المرأة لك الكرامة! والواقع أن هذا عين الجهل والخطل والخطر في الرأي والعقل والدين، فإن المرأة تدخل الجنة إن كانت مؤمنة، بل تكون سيدة نساء أهل الجنة، كما كانت فاطمة رضي الله عنها، وهل ترى ذلك الرجل سيذكر اسم أمه، أم المؤمنين عائشة، أو يذكر اسم سيدة نساء العالمين، أو يذكر اسم فلانة وفلان، ثم يقول مثل تلك الكلمات التي جرت بها عاداتهم وألسنتهم، لا يفعل هذا أحد يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر.(176/20)
الحياء من أن يُرى الإنسان مع أهله
ثالثاً: الحياء من أن يرى الإنسان مع أهله، حتى في أماكن العبادة فضلاً عن أماكن الشراء أوغيرها، فربما تركها بمفردها خشية أن يرى معها، وربما تقدم عنها تلافياً للإحراج، وكم رُئِيَ النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله في الحضر والسفر؟ إنه مجرد سؤال والإجابة عليه عشرات الأحاديث، وعشرات القصص، وعشرات الروايات الصحيحة، بل كان عليه الصلاة والسلام يصحب زوجته ويقلبها إلى أهلها، ويذهب بها معه في السفر، وتصحبه في المغازي والسرايا والبعوث وغيرها.(176/21)
احتقار جنس المرأة
أولاً: احتقار جنس المرأة، فالبعض يزدرون المرأة ولا يرون لها قيمة في ذاتها، وينظرون إليها شزراً، فهي في تكوين هذا الرجل وعقليته مخلوق من الدرجة الثالثة أو الرابعة وينسى {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] وينسى {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] وينسى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات:13] وينسى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] فالأصل واحد والطبيعة متشابهة، وهن شقائق الرجال كما نطق الرسول صلى الله عليه وسلم.
من ذلك الاحتقار: الخجل من التصريح باسم المرأة واعتبار ذكر اسمها عيباً يُستحيا منه، والله تعالى سمى لنا في القرآن الكريم مريم في مواضع، بل يوجد في القرآن الكريم سورة اسمها سورة مريم، إضافة إلى سورتين أخريين سورة النساء الكبرى والصغرى، {ورسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- مشى مع امرأة، فمشى بعض أصحابه، فقال: على رسلكم إنها صفية} .
ويعرف طلاب المدرسة الابتدائية أسماء زوجات النبي عليه الصلاة والسلام {طرقت امرأة واستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه السلام لـ بلال: من؟ قال: يا رسول الله، إنها زينب قال: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله بن مسعود} إذاً ذكر اسمها، ويعرفها بلال، ورسول الله يعرف اسمها، ويعرف مجموعة من الزيانب أيضاً، فيسأل أيتهن بالضبط المرأة المستأذنة! والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر لنا آسية امرأة فرعون وأنها من النساء الكوامل، {كمل من الرجال كثير، وكمل من النساء أربع، وذكر منهن رسول الله صلى الله عليه وسلم - آسية - امرأة فرعون التي قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد} صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عنها: {دخلت عليه فاطمة وهو في مرض موته، فسارها بشيء فبكت، ثم سارها بشيء فضحكت، فلما مات سألتها عائشة -كما في الصحيحين- فقالت لها: ماذا قال لك؟ قالت: أخبرني أنه يموت في مرضه ذاك فبكيت، وأخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة فضحكت لذلك} وفي رواية {أخبرني أنني أول أهله لحوقاً به فضحكت لذلك} وكلا الحالتين والخبرين صحيح.
إذاً لا بأس أن تُعرف المرأة ويُعرف اسمها، ولا بأس أيضاً أن يكني الإنسان عن المرأة بغير اسمها، فيقول مثلاً: أهلي بدلاً من أن يقول: فلانة أو زوجتي، لا مانع أن يقول: أهلي، والله تعالى قال عن موسى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ * قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [القصص:28-29] {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه:132] إلى غير ذلك، لكن هذا تجنباً لذكر المرأة باسمها، ولا تعيُّباً لذلك ولا إنكاراً له.(176/22)
مسألة الطلاق وصور الظلم فيها
تحدثت عن الطلاق وصوره سابقاً في درس الحلال البغيض، لكنني أذكر الآن صوراً عابرة من الظلم الذي يقع على المرأة في موضوع الطلاق.(176/23)
إيقاع الطلاق عند أدنى سبب
من ذلك إيقاع الطلاق عند أدنى سبب حتى ولو كان سبباً تافهاً، ثم لا ينفع بعد ذلك أن يندم الإنسان، فإنه قد يطلق بسبب العشاء أنه تأخر أولم يجهز، وبسبب الثوب أنه احترق في المكواة، أو لغير ذلك من الأسباب، التي لا يصح أن تكون سبباً للهجر، فضلاً عن أن تكون سبباً للطلاق.(176/24)
كثرة استعمال أيمان الطلاق
ثانياً: كثرة استعمال أيمان الطلاق على ألسنة بعض الجهال، وفي كل مناسبة، حتى إذ جاءه ضيوف وأصر عليهم، بالدخول فاعتذروا حلف بالطلاق أن يدخلوا.
وإن من الطريف مما يذكر في النكت -ومع الأسف أنه واقع وليس نكتة- يروى أن رجلاً أضاف أناساً، فجلسوا عنده، فجهز العشاء لهم، فقاموا وهموا بالخروج، فألح عليهم بالبقاء، فاعتذروا بأنهم مرتبطون بمواعيد، فأصر عليهم فأبوا، فقال لهم: اجلسوا وحلف عليهم بالطلاق من زوجاته إلا جلسوا، فقالوا: لا شأن لنا بك ولا بزوجاتك، نحن لا نستطيع الجلوس فقال: إذاً فانتظروا قليلاً، فذهب إلى المنزل وأحضر الكلاشينكوف وأشهره عليهم، وقال لهم: والله إن يخرج واحد منكم فإنني سوف أفجر رأسه، ولكن اذهبوا وكلوا الطعام، فذهبوا مضطرين وأكلوا وجبتهم، ولا أدري بأي شعور كانوا يأكلون! التهديد بالطلاق أيضاً عند أية زلة، وبقدر سرعة الرجل في القرار بالرغبة في هذه المرأة، أو الموافقة على الزوج منها، بقدر ذلك تكون سرعة الرجل في إيقاع الطلاق، إن الكثير من الرجال كلما قالت له المرأة شيئاً، قال لها: كذا أو الطلاق، اختاري كذا أو الطلاق، وهذا ليس من المروءة ولا من شيم الرجال، إذا كنت عازماً على الطلاق بعد دراسة وتأنٍ ومشورة واستخارة، وبعدما اقتنعت قناعة تامة أن الطلاق أرفق بك وبالمرأة، فإيقاعه هنا يتم كما أمر الله تعالى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] أما أن تعتبر أن الطلاق سيفٌ يشهر على المرأة، تهدد به في كل حين، فهذا ليس من الشرع.
ولا من العقل ولا من المروءة في شيء.(176/25)
نظرة المجتمع للمرأة المطلقة
ثالثاً: نظرة المجتمع للمرأة المطلقة: قد تكون المرأة طلقت لعيب في الرجل، وقد يكون الطلاق بسبب عيب في المرأة وقد يكون الطلاق بسبب عدم الوئام والاتفاق بينهما، وليس في الرجل من عيب ولا في المرأة، ولكن لم يكتب بينهما مودة فطلقها، والمؤسف أن المجتمع ينظر دائماً إلى المرأة المطلقة على أنها مخطئة، وهذا تعميم غير سليم، فقد تكون بريئة، وقد تكون صالحة، وقد تكون ملائمة، وقد يكون الأمر قلبياً محضاً لا يد للمرأة ولا للرجل فيه.
فينبغي ألا نعمم النظرة إلى المطلقة، بل أن ندرك أن كل حالة تقدر بقدرها، فلابد من معرفة ما هو سبب الطلاق؟ وكيف تم الطلاق؟ وما الذي حصل من المرأة؟ ولا أعتمد على مجرد الإشاعات، فإن المجتمع مع الأسف مصابٌ بداء، وهو داء الفضول، والبحث عن أسرار الآخرين، فإذا لم يجد الناس اليوم معلومات صحيحة؛ لفقوا معلومات غير صحيحة، وأشاعوا بعض الأقاويل غير الموثقة، فقالوا: فلانة طلقت لكذا ولأنها قالت: كذا، ولأنها فعلت كذا، ولو تحريت وتَثَبَّت لم تجد الأمر كما أشيع.(176/26)
التضييق على المرأة المطلقة
رابعاً: التضييق على المرأة المطلقة، وعلى أولادها في بيت أبيها أو أهلها أحياناً، وتعييرها بذلك وسب أولادها، وهذا كله مما لا يليق، ولا يسوغ مع مكارم الأخلاق، فضلاً عمن أنعم الله تعالى عليهم وأكرمهم بهذا الدين، الذي من أُسُسِه التضامن والتكامل الاجتماعي بين الأباعد، فكيف بالأقارب؟!(176/27)
مسألة التعدد وصور الظلم فيها
ثالثاً: مسألة التعدد (تعدد الزوجات) وهى شريعة ماضية كما أسلفت {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] ولكن حول موضوع التعدد: لاحِظْ النقاط التالية:(176/28)
التهديد الدائم بالزواج بالأخرى
أولاً: تهديد بعض الأزواج الدائم بالزواج بأخرى، حتى لو كان على سبيل المزاح، وهذا لا شك يؤثر على نفسية المرأة فتجد الرجل دائماً وأبداً يقول لها ذلك، حتى أنني أعلم أزواجاً في ليلة العرس دخل على زوجته، وبعد ساعة أو ساعتين كان يحدثها عن الزوجة القادمة.
فلا داعي للتهديد، إذا اتخذت قراراً بالزوجة الثانية بعد دراسة وتأمل ونظر، فلا تظن أن القضية مجرد تنويع، بل لابد أن تدرس الموضوع دراسة صحيحة وسليمة ومضبوطة، فإذا اتخذت القرار بعد الاستخارة والنظر والاستشارة، فبإمكانك أن تنفذ دون حاجة أن تروع قلب المرأة صباح مساء بالزوجة الثانية.(176/29)
سرعة اتخاذ القرار للزواج الثاني
ثانياً: سرعة اتخاذ قرار الزواج الثاني دون أن يكون الإنسان مرشحاً لذلك، إما من الناحية العاطفية، أو من الناحية الجسمية، أو من الناحية المالية، أو من النواحي جميعها.
إنني أعرف الكثير حتى من الصالحين والملتزمين، قد يسارع الواحد منهم بالزواج بالأخرى دون تأمل ولا دراسة ولا نظر ولا استشارة، بل يَسْتَبِدُّ برأيه، وسرعان ما تكون الأمور على خلاف ما يريد! ويفاجأ بأشياء لم تكن له في حساب، وبحسب ما نظرت ورأيت وقدرت، فإنني أجد أن الفشل والإخفاق في الزواج الثاني أكثر منه بكثير في الزواج الأول، خاصة أن الزوج الذي يتزوج ثانية قد تنازل عن بعض الشروط؛ لأنه يدرك أنه معدد وعنده زوجة، فلن يحصل على الشروط التي يريدها تماماً، فهو متنازل عن بعض الشروط، ونتيجة لذلك سيجد في زواجه الثاني بعض المكدرات وبعض المنغصات، التي قد تجعله يندم على هذا القرار المتسرع.(176/30)
الميل إلى إحدى الزوجتين
ثالثاً: الميل إلى إحدى الزوجتين، فوجهه إلى فلانة، وضحكه معها، ونكته إليها، وبصره إليها، إذا كانت الزوجتان في مجلس واحد، ولأولادها من العناية والرعاية وشراء الهدايا واللعب ما ليس للأخرى، وأنت تجده وَلَّاَجاً خَرَّاجَاً على فلانة في يومها وفي غير يومها، أما الأخرى فقد يهملها ولا يأتيها، وقد يتشاغل عنها، وقد يجعل المواعيد كلها في يومها حتى يتعلل بكافة العلل عن دخول المنزل، أو النظر إليها، أو الجلوس معها، أو مداعبتها أو مداعبة أولادها.
وربما مال بعضهم مع المرأة الجديدة وترك أولاده، لا يرعاهم ولا يربيهم ولا يشملهم ولا يضمهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير {اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم} فكما تحب أن يكونوا لك في البر سواء، فينبغي أن تكون لهم في العناية والرعاية سواء، ومن أعظم أسباب الخصومات بين الأولاد والأحقاد، ألا يعدل الأب بينهم.
وربما يسافر الزوج بإحداهما ويترك الأخرى، وقد يجود على تلك بالمال ولا يعطي ضرتها، والله تعالى يقول كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلت بينكم محرماً فلا تظالموا} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه مسلم أيضاً عن جابر: {اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم} .
عاقبة الظلم والظالمين: إن العالم يشهد مظالم شنيعة اليوم إهدار لكرامة شعوب بأكملها، خاصة الشعوب الإسلامية، وتسليط الأعداء عليها، وتسليط الحكام الجائرين الذين سلبوا خياراتها، ونهبوا ثرواتها، وأهدروا حقوقها، وأودعوها في السجون، وساموا شعوبهم سوء العذاب، وما يدريك أن يكون هذا الظلم العظيم الذي يلقاه المسلمون عقاباً من الله تعالى؟! فإن الله يعاقب الظالمين بالظالمين، قال الله تعالى ووعد، ووعده الحق، قال: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] ومعنى نولي: نجعلهم أولياء، فيجعل الله تعالى عقوبة الظالم أن يسلط عليه من هو أظلم منه.
وما من يد إلا يد الله فوقها وما ظالمٌ إلا سيبلى بأظلم وفي حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- وهو حديث صحيح رواه الترمذي وأبو داود وأحمد في مسنده وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره من العذاب في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم} .
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم إن هذه المشكلات في ظلم المرأة، أو الإحجاف بحقها، أو الجور عليها أو بخسها، إنه لا تَحلُّه القوانين والأنظمة، ولا تحله المحاكم ذهاباً وإياباً، فالحيل كثيرة، وإمكانية المكايدة والتلاعب في الحياة الزوجية قائمة ولكن يُحلُّه التذكير بعقوبة الله عز وجل، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30] .
أيها الأحبة والله الذي لا إله غيره إنني أعلم اليوم أن كثيراً من البيوت تغلق على مظالم، ومفاسد، وجور، وإيذاء، وعسف، وعلى اضطهاد، فعلينا أن نتقي الله تعالى في من ولانا أمرهم.
وفي الحديث الذي رواه أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق إلا أتى الله تعالى مغلولة يده إلى عنقه، فَكَّهُ بِرُّه، أو أوبقه إثمه} قد يكون مجموع أهلك عشرة أو أكثر، لكن لنفترض أنهم أقل، لنفترض أنه ليس لديك إلا زوجتان أو زوجة واحدة فقط، ففي حديث ابن عمر المتفق عليه: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} وفي حديث أبي هريرة وهو حديث صحيح، رواه أحمد وأبو داود والنسائي والطيالسي وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل} .
أخي الكريم إن المرأة مخلوق له شخصيته، وله كرامته، وله عاطفته، له مطالب للجسد، ومطالب للروح، ومطالب للوجدان، فليس كل مراد المرأة فقط توفير الأكل والشرب واللباس والسكن، لا! هذا لا يكفي، ولا كل مرادها أيضاً اللقاء الجسدي في الفراش فحسب، هذا أيضاً لا يكفي، بل الأمر يتطلب أوسع من ذلك حسن الخلق الإمساك بمعروف حسن المعاشرة الصبر على أخطاء المرأة التسامح معها، بل ما يقدر الرجل عليه في ذ لك، وهو يقدر على الكثير والكثير.(176/31)
مسألة الزواج وصور الظلم فيها(176/32)
اضطهاد المرأة في دينها
النقطة الثامنة: اضطهاد المرأة في دينها، ودين المرأة هو أغلى ما تمدح، كما في حديث أبي هريرة {فاظفر بذات الدين تربت يداك} ومع ذلك نجد في بلاد المسلمين هنا أوهناك مضايقات للمرأة في دينها منها: أولاً: عرض المسلسلات والأفلام الرديئة التي تصور المرأة على أنها تلهث دائماً وراء الرجل، وتبحث عن المتعة لا غير، وهذه الأفلام والمسلسلات تجاهلت الشخصية الإنسانية للمرأة، التي هي سر عبوديتها لله تعالى، وسر كمالها، وسر صلاحها، وسر إنسانيتها ونجاتها في الدنيا وفي الآخرة، وتجاهلت أخلاق المرأة، وتجاهلت عقل المرأة، وتجاهلت شخصية المرأة؛ فلم تظفر المرأة منها إلا بتلك الفتاة التي تلاحق الشباب، وتعاكسهم وتغازلهم، وتترك هذا إلى ذاك، وتتصل بهذا ليغار منها ذاك.
ثانياً: فرض الاختلاط في بعض الجامعات والمدارس والمؤسسات والشركات، وأخيراً البنوك مما من يجعل المؤمنة بين خيارين أحلاهما مر؛ إما أن تترك هذه الأشياء التي قد يكون لها فيها فائدة، وقد يكون فيها للمسلمين فائدة، وقد تكون ثمة حاجة، بل ربما كان لديها ضرورة، أو أن تختلط بالرجال وتجالسهم، وتحدثهم وتنظر إليهم وينظروا إليها، وفي ذلك من الأضرار والمفاسد ما لا يخفى على عاقل.
ثالثا ً: منع ارتداء الحجاب الشرعي أيضاً في بعض الجامعات والشركات، بل يصل الحال كما سمعتم في الأخبار إلى تهديد المنتقبة أحياناً بالفصل من أعمالهن، من شركات معروفة، ومن جامعات معروفة، بل يتعدى الأمر إلى اتخاذ القرار وطرد الفتاة المتنقبة من الجامعة حتى تخلع الحجاب والنقاب.
رابعاً: عدم العناية بالتطبيب النسائي المتخصص للمرأة، حيث يعالج الرجال كثيراً من النساء، وربما وجدت المرأة نفسها مضطرة لمقاساة الآلام، بأمراض أو آلام الوضع، أو غير ذلك، تجنباً لكشف الرجل عليها، وإنَّ من حق المرأة المسلمة على المجتمع، بأفراده، وبتجاره، وبأثريائه، وبأطبائه، وبمسئوليه، أن يوفروا لها المجال المناسب الذي تمرض فيه، وتطبب فيه، وتعالج فيه بستر وصون وعفاف، بعيداً عن أعين الرجال، فضلاً عن أيديهم وما سوى ذلك.
خامسا ً: تهيئة الفرص للاعتداء على المرأة في أحيان كثيرة، والإستفراد بها مثل تشجيع السفر الانفرادي للمرأة، سواء كانت المرأة مسافرة من بلدها، قادمة من بلد آخر، من غير حاجة أو ضرورة تدعو إلى ذلك، ثم تسهيل وسائل الاتصال من خلال الاتصالات الهاتفية أو الاتصالات المباشرة، أو السيارات، أو الأجرة، أو الليموزين أو غير ذلك.(176/33)
مصادرة حق المرأة
خامساً: مسألة مصادرة حق المرأة في التعبير عن رأيها، سواءً في الزواج كما أسلفت، في من تقبله شريكاً لحياتها ورفيقاً لدربها، أو في الأولاد وما يتعلق بهم، فالأولاد بضاعة مشتركة بينك وبينها، لكن الملاحظ أن الكثير من الآباء لا يجعل للمرأة دوراً في تربية الأولاد، ولا في الشئون المتعلقة بهم، بدءاً باختيار الاسم، ومروراً بكل القضايا المتعلقة بالأولاد، حتى القضايا الشكلية المتعلقة بما يلبسون، وأين يذهبون، وكيف يعملون؛ فإن هذه الأشياء لا يدع الرجل أحياناً للمرأة فيها دوراً، مع أن الملاحظ أن الرجل مشغول، والمرأة ألصق بالأولاد خاصة قبل أن يتجاوزوا سن المرحلة الابتدائية، فهي بحاجة إلى أن تكون قريبة منهم، وأن تشعر بمسئوليتها ودورها في تربيتهم.
كذلك مصادرة حقها أيضاً في الرأي المتعلق بالمنزل وتقلبات الحياة، من سفر، وإقامة، وتنقل، وحل وترحال، وسكن، وغير ذلك، ومثل قضايا الولائم وسواها، فإن الرجل في كثير من الأحيان لا يجعل للمرأة مجالاً في مثل هذه الأمور، ولا شك أن هناك أشياء تفرض نفسها على الرجل والمرأة على حد سواء.
لكن إذا كان ثَمَّ مجال للمشاورة، فإنه لا بأس أن تأخذ رأيها.
إن الرجل الكريم ليس هو ذلك الذي سلم قيادته للمرأة، وأصبح تابعاً لها، تسير به حيث تشاء، فإن هذا ليس من الرجولة في شيء، وما جعل الله تعالى القوامة للمرأة على الرجل، وإنما جعل القوامة للرجل على المرأة، قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] ولكن هذا لا يعني أن يبدو الرجل في بيته امبراطوراً، إذا ظهر طأطأت الرءوس، ونكست الأذقان! وقد قال الله تعالى عن رسوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فاقرأ وراجع ولو في كتاب واحد، كيف كانت معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهله، والكلام اللين مع المرأة يحل كثيراً من المشكلات، والتفاهم هو أساس من أسس الحياة الزوجية الناجحة.(176/34)
عدم مراعاة طبيعة المرأة
سادساً: عدم مراعاة طبيعة المرأة الخاصة، إن المرأة خلقت بتكوين خاص، وتركيب أنثوي يختلف عن الرجل في جوانب كثيرة، فلها جانب عاطفي -مثلاً- يتطلب مراعاةً في الكلام الذي يقال لها، والحديث الذي يوجه إليها، والتعامل الذي تبدأ به، فلابد من مراعاة ذلك، ولابد من مراعاة طبيعة المرأة الخاصة في نوع العمل الذي توجه إليه، ليكون متلائماً مع طبيعتها.
ومن الظلم لها أن تُلْقى المرأة في مجال عمل لا يناسبها ولا يلائم طبيعتها، بل يجور على أنوثتها، ويغير من تكوينها وطبيعتها وما جبلها الله تعالى عليه.
ومن الظلم الذي يقع -أحياناً- الإثقال على المرأة بالأوقات التي تقضيها خارج المنزل في أعمال طويلة عريضة، تبدأ ولا تنتهي، فتأوي المرأة إلى منزلها وهى مرهقة منهكة، لا وقت لديها للقيام بحقوق الزوج، ولا للقيام بحقوق الأولاد، وقبل ذلك كله القيام بحقوق الله تعالى من طاعته وعبادته وذكره واستغفاره، وإنما تكون مجهدة منهكة، وربما تسبب هذا في مشاكل زوجية، وفي أضرار تربوية، وإنما الجور حينئذٍ من المجتمع الذي أصبح يعامل المرأة كما يعامل الرجل سواءً بسواءٍ.
إننا ونحن نجد اليوم الكثير من بناتنا وفتياتنا قعيدات البيوت بعد التخرج بلا عمل، وبالمقابل نجد الأخريات يعملن دواماً كاملاً، فلماذا لا يفكر -مثلاً- في تقسيم العمل بين هؤلاء وهؤلاء، أو توزيعه بطريقة أخرى، تضمن أن يكون الجميع عنده قدر من المشاركة، وفي نفس الوقت قدر من الفراغ للقيام بحقوق الله تعالى، ثم القيام بحقوق الزوج والأولاد والمنزل وغير ذلك؟! ومثل ذلك الجور على المرأة في الأماكن التي تعمل بها أو تعين بها، سواء كانت موظفة أو معلمة أو غير ذلك، فإنها بحاجة إلى مراعاة كونها امرأة، لا تستقل بنفسها في ذهاب ولا إياب، ولا سفر ولا إقامة، ولا غير ذلك.
ومثل ذلك الجور في أسلوب معاملتها من الزوج، الذي يريد أن يكون كل شيء منها كما يحب، وينسى وصية الرسول صلى الله عليه وسلم الواردة في الصحيحين: {استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها} إن كونك تنتظر من المرأة أن تلبي جميع مطالبك، وتكون لك دائماً وأبداً كما تريد وكما تحب إنه طلب المحال، والذي يطلب المحال لا شك يبوء بالفشل.
ومثل ذلك المعاملة أيضاً من الإخوة أو الوالدين أو الأقارب، فلابد أن تكون المعاملة بالرفق: {رفقاً بالقوارير} .(176/35)
حرمان المرأة من بعض حقوقها الشرعية
سابعا ً: حرمان المرأة من بعض حقوقها الشرعية ومنها: حقها في الزواج كما أسلفنا.
ثانياً: حقها في الميراث، وبعض البيئات تمنع المرأة من الإرث الذي شرعه الله تعالى لها في كتابه، تأسياً بحال أهل الجاهلية الذين كانت المرأة عندهم موروثة لا وارثة، فكان بعض الأقرباء إذا أعجبته زوجة الميت ألقى عليها ثوبه، ثم قال: هذه لي، فلا تكون لأحد غيره إلا أن تفتدي نفسها منه.
ثالثاً: الخروج الشرعي المباح لحاجة أو مصلحة، كخروج المرأة مثلاً لزيارة والديها، فإنه حق مشروع لها أو خروجها لزيارة أهلها، وقد جاء هذا في حديث ضعيف ذكره بعض الشيوخ ولا يصح.
ومثل ذلك خروجها للعلاج أو لطلب علم تحتاج إليه أو للدعوة إلى الله تعالى، والدعوة إلى الله تعالى أمر لابد منه في المجتمع، فلابد للناس من آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومعلمين، ونحن نعلم أنه في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم كان هناك من النساء من تعلم، بل كانت أمنا عائشة رضي الله عنها، كانت معلمة للرجال، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: [[ما أشكل علينا أمر؛ فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً]] وكانت تستدرك على الصحابة، وقد استدركت على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيرا ً، واستدركت على عبد الله بن عمر وعلى أبي هريرة وعلى ابن عباس وعلى ابن مسعود وغيرهم.
وجمع استدراكاتها وملاحظاتها الإمام الزركشي في كتاب سماه الإجابة في إيراد ما استدركته عائشة رضي الله عنها على الصحابة ".
وإن كنا نحن جميعاً نرى أن القرار في البيت ولزومه أحسن للمرأة وأفضل، وهو وصية الله تعالى لأفضل النساء وأطهر النساء، أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] لكن هذا الأمر وهذه الوصية لم تمنع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج للزيارة (زيارة الأهل) والخروج لقضاء الحاجة، والخروج للصلاة في المساجد أحياناً، وصلة الرحم، والخروج مع المسلمين في الغزو إلى غير ذلك.
رابعاً: حرمان المرأة من رؤية أبنائها خاصة في حالات الطلاق، حيث يحال بينها وبين فلذات أكبادها.
خامساً: حرمانها من النفقة الواجبة لها في أحوال كثيرة، سواء حين تكون بعصمة الزوج، أو تكون بغير عصمته.
سادساً: منعها من الإنجاب أو منعها من كثرة الأولاد، مع أن الأولاد هم كما قال الله تعالى أنهم زينة الحياة الدنيا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] وما هو تصورك لو كنت أنت عقيماً لا يولد لك؟! كم كنت تشتاق إلى ضم الأولاد وشمهم ورؤيتهم؟ وتفرح حتى بصياحهم وبكائهم.
وإذا سمعت صراخاً في بيت الجيران غمك قلبك، وامتلأ صدرك بالحسرة فلماذا لا تعامل الناس بهذا المنطق الذي تريده لنفسك؟! لماذا تمنع زوجتك من الإنجاب؟! ما رأيك لو ماتت دون أن يكون لها ولد؟ ألا تشعر بالحزن والإثم أن تكون سبباً في انقطاعها من الذرية الذين يدعون لها في الدنيا وقد يكونون سبباً في رفعة درجاتها في الجنة؟ إنه لا يجوز للرجل أن يحول دون زوجته ودون الإنجاب.
وبعضهم قد تكون زوجته معه ست سنوات أو سبع سنوات يمنعها من الإنجاب لماذا؟ لأنه لا مكان عنده للتربية ولا وقت مثلاً، أو لأنه يريد أن تكون خفيفة، أو لأنه لم يستقر معه قرارها، امرأة عندك منذ ست سنوات أو سبع أو ثمان وما استقر قرارها معك أو قرارك معها بعد؟! إن هذا أمر لا يجوز بحال.
فعليك أن تتقي الله، والرسول صلى الله عليه وسلم أشهد في خطبة حجة الوداع على رءوس الأشهاد، وعلى رءوس الناس وقال: {اتقوا الله في النساء، اتقوا الله في النساء، اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوانٍ عندكم - أي: أسيرات في بيوتكم- استحللتم فروجهن بكلمة الله، وأخذتموهن بأمان الله} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ألا فاتقوا الله في النساء، فلا تخالف وصية الرسول صلى الله عليه وسلم إن كنت ترجو أن تحشر معه يوم القيامة، وأن تدخل الجنة، وأن تكون ممن أنعم الله عليهم وحشرهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، فلا تخلف وصية محمد صلى الله عليه وسلم في هؤلاء النساء الأسيرات عندك في منزلك.
وبعضهم يريد أن تنجب بين الحين والآخر، ويجعل بين الولد والولد وقتاً طويلاً جداً، والمرأة تكون متعلقة بالأولاد.
يا أخي سبحان الله! ما يدريك أن تكون سعادتك أنت في الدنيا والآخرة بسبب بركة هؤلاء الأولاد الذين أنجبتهم لك؟! لماذا تمنع نفسك من الخير، وتحول دون هذا الأمر الذي شرعه الله تعالى، وجعل فيه بركةً وخيراً وبراً؟! ومما يذكر أن رجلاً كان عنده أربعة أطفال، فقام بربط رحم زوجته لئلا تنجب، فكان أن حصل حادث مفاجئ ذهب فيه هؤلاء الأولاد الأربعة كلهم في لحظة واحدة، فاتقِ الله أخي الكريم! ولا تمنع زوجتك من الإنجاب ما دامت تريده، ولا تحل بينها وبين طفل تضعه في حجرها، وتضمه إلى صدرها، وتشمه فتفرح به، ويكون أنساً لها في حياتها، وسعادةً لها في قبرها وفي آخرتها بدعائه واستغفاره، وهناك شكاوي في الواقع كثيرة في هذا القبيل.
ومن ذلك أيضا العقوق بالأمهات، فهو حرمان من الحقوق الشرعية، والنبي صلى الله عليه وسلم سأله سائل كما في الصحيح: {من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال في الرابعة: أبوك} وفي رواية: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل -وهو حديث في الصحيح أيضاً- عن أفضل الأعمال فقال: أيمان بالله، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله} فقدم صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله، والحديث الثالث: {أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أجاهد معك، وتركت والديا يبكيان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما} وفي رواية: {أنه عليه الصلاة والسلام سأله فقال: أّحَيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد} .
وكان رجل يطوف بالبيت ويدعو الله تعالى على ولده ويقول: جزت رحم بيني وبين منازلٍ جزاءً كما يستنزل الدين طالبه وربيته حتى إذا ما تركته خا القوم واستغنى عن المسح شاربه تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه أئن رعشت يدا أبيك وأصبحت يداك يدي ليث فإنك ضاربه؟! إن من المآسي العظام أن أصبحنا نسمع اليوم قصصاً ترتعد لها الفرائص فزعاً ورعباً.
من كان يتصور أن يعتدي رجل على أمه بالقتل؟ وأي قتل؟! إنه يقتلها بكل الوسائل، فيضربها بالسكين، فإذا عجز صب عليها الأسيد، فإذا عجز ضربها بالحجارة، فإذا عجز استخدم كل الوسائل؛ حتى يفلح أخيراً في قتل أمه بهذه الوسائل.
سبحان الله! حتى والإنسان يقتل حيواناً أو إنسانا مستحقاً للقتل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث شداد بن أوس وهو في الصحيحين: {إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء، فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة} .
فيا سبحان الله! هذا الأمر الدوي الذي بدأ يتسرب إلى مجتمعاتنا، فضلاً عن العقوق، نساء كثيرات من العجائز، وكبيرات السن والأرامل، قاعدات في البيوت يلقين ألواناً من الضيم والذل والهوان، لا يعلم بها إلا الله عز وجل! يا أخي! هذه جنتك ونارك، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {الزمها الزم قدمها فثم الجنة} حديث صحيح، فماذا تريد أنت أكثر من أن يجعل الله السعادة في قلبك، ويجعلك مباركاً أينما كنت، ويوفقك في أمور دينك ودنياك، ويجعل الجنة لك بفضله سبحانه! ثم بفضل برِّك بأمك؟! البر بالأم سبب في السعادة، وسبب في قبول الدعاء، وسبب في سعة الرزق، وسبب في صلاح الأولاد إلى غير ذلك من النعم التي ينعم الله بها على البررة.(176/36)
الإعراض عن الفتيات الصالحات
الأمر الرابع: هو الإعراض عن بعض الفتيات الصالحات من قبل الراغبين في الزواج، بحجج واهية أحياناً، وغير كافية أحياناً أخرى، فقد يتركها لأنها غير جميلة، وقد يكون في هذه المرأة من البركة والخير؛ ما يكون سبباً في سعادته في الدارين، أو لأنها غير متعلمة، وقد تكون قارئة كاتبة فاهمة واعية، عارفة بأمور دينها، أو لأنها تدرس في كلية لا تناسبه، فمن يكون لهؤلاء النساء إذا أعرض عنهن الجميع؟! أو لأن والدها يعمل في كذا، أو صفته كذا، مع أن هؤلاء جميعاً أهملوا الوصية النبوية الصحيحة التي يرويها لنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: {تنكح المرأة لأربع لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين ترتب يداك!} .(176/37)
أخذ مهر البنت دون إذنها
ثالثاً: أخذ مهر البنت دون إذنها، وهو حق لها لا شك، لا يؤخذ منه شيء إلا بإذنها، فالمهر للمرأة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فلها المهر بما استحل من فرجها} والتراضي على أخذ شىء من المهر للأب أوللأم تطييباً للنفس لا بأس به، أما أن يعتقد الأب أن المهر تعويض له مقابل رعايته ونفقته فليس هذا بصحيح، وهذا هو الولد الذكر تربيه أنت، وتنفق عليه، ثم تدفع أنت طائعاً مختاراً مهره للتزويج أيضاً، والعوض لك ليس في هذه الدنيا، إن العوض لك على ما أنفقت على أولادك عند الله تعالى في الدار الآخرة، أما في الدنيا فستجد عوضاً من نوع آخر، إنه الدعاء الصالح لك من أولادك وبناتك، لقاء ما أحسنت لهم ورفقت وساعدت وفي صحيح مسلم: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له} .(176/38)
تزويج البنت بغير إذنها
ثانياً: ومن صور الظلم في موضوع الزواج تزويج البنت من دون إذنها، بل من دون علمها، والصواب من أقوال أهل العلم أنه لابد أن تستأذن المرأة في الزواج، بكراً كانت أو ثيباً، لكن البكر إذنها أن تسكت، فسكوتها موافقة، أما الثيب فلابد أن تنطق بذلك، ولو نطقت البكر لكان هذا أولى وأجدر وأبلغ في التعبير عن مرادها، وقد تجد بعض الآباء يزوج بنته رجلاً معه زوجة أو زوجات، أو يزوجها رجلاً مسناً، كل ذلك دون رضاها، وإلا فإنها قد تقبل برجل معه زوجة، وقد ترى فيه خيرا ً، وقد تقبل برجل يكبرها سناً، وترى فيه من الخير والصلاح والمميزات ما يعجبها به، وهذا شأنها، ولا نمانع أن يعمل الأب على عرض الأمر عليها، أو إقناعها به إن استطاع، لكن المشكلة أن يفعل ذلك دون رضاها؛ فإن هذا من أعظم أسباب الجريمة، وقد كتبت إليَّ إحداهن قبل أسبوع أنها همت بقتل هذا الرجل، ثم أن تقتل نفسها وتنتحر؛ لأن الدنيا كلها ضاقت عليها، لولا أن الله تعالى سَلَّم.
فيا من تقدمون على هذا الأمر! إن هذا الأمر أمر عظيم وجرم كبير، أين قلوبكم على محارمكم وبناتكم؟! هل ترضى أنت أن تخالف بنتك زوجها لتعاكس في الهاتف، أو تتصل برجل غيره؟! لماذا تتبرع أنت بتحمل المسئولية عنها؟! تقول: لستم أحرص مني على بنتي، ونقول لك: نعم لسنا أحرص ولا أغير منك على ابنتك، ولكننا نتعجب أين ذهب عقلك؟! ونتساءل أين حنان الأبوة، حينما ألقيت بهذه البنت في هذا البيت الذي لا تجد فيه الرجل الذي تريده، ولا تحبه ولا تقبل به، ولا توافق عليه بدءاً ولا انتهاءً؟!(176/39)
عضل البنات عن الزواج
من المظالم في مسألة الزواج عضل البنات عن التزويج، ألم تسمع ببكر في الأربعين؟! لقد عرفنا بيوتاً تغلق على بنات جاوزن أربعين سنة دون زواج، إنها امرأة ركبت فيها الطبيعة والغريزة، وهى تتطلع إلى أطفال يملئون حياتها بالفرحة، ويكونون سبباً في ذكرها بعد موتها، تجتمع بهم يوم القيامة، ولكن الطمع في راتبها جعل والدها يمنعها عن الخُطَّاب، أو يمنع الخُطَّاب عنها، ويردهم دون أن تعلم هي بذلك، أو يدعي بعضهم عدم وجود الأكفاء، وما أدري أي أكفاء يريد! تزوجَتْ بنات الناس كلهَّن إلا أنت، فبناتك لم تجد لهن الأكفاء! إن هذا الأمر وهو ترك البنات دون تزويج، على رغم تفاقم الأمر وطول العمر، إنه خيانة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وسبب لانتشار الفواحش والموبقات، وحري بمن يكون هذا شأنه وهذا عمله، أن يعجل له الله العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له من العذاب يوم القيامة.(176/40)
أضواء تحذيرية
أولا ً: أخوفك عواقب الظلم في الدنيا قبل الآخرة، فإن الظلم قسوة في قلبك، وضيق في رزقك، وحرمان من التوفيق، وفضيحة لك أو لولدك {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم:6] {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] .
ثانياً: وأحذرك -أيضاً- عواقب الظلم في الآخرة قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19،18] .
ثالثاً: تذكر أنك تتعامل مع إنسان كرمه الله تعالى واختاره واصطفاه قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] إن بنات آدم وبنات حواء داخلات في هذا التكريم والتفضيل.
ألا تعلم أخي أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
ألا تعلم أن أخرى دخلت الجنة في كلب سقته فشكر الله لها وغفر لها فأدخلها الجنة: {إن في كل كبد رطبة أجرا ً} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه.
فهلم أخي الحبيب! وسارع في اغتنام الأجور في بر والديك، والرفق بأهلك وزوجاتك، والإحسان إلى بناتك، والكرامة مع أخواتك، وبذل المعروف والندى لمن تعرف ومن لا تعرف.
رابعاً: إن كنت تريد أن تحشر مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فعليك بعملهم من الإحسان إلى القريب والبعيد، والأمر لأهلك وأولادك وبناتك وأقاربك بالصلاة والزكاة والتقوى، قال الله عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وقال الله عز وجل: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:55] .(176/41)
نصائح أخيرة للمرأة
أولاً: عليكِ أيتها المسلمة أن تنصفي من نفسك، ولا تأخذك العزة بالإثم، فإن المرأة في كثير من الأحيان هي سبب مباشر أو غير مباشر لما يقع عليها، فعلى المرأة أن تنظر أين أخطأت، ومتى اعتدت، ومتى فرطت، ومتى قصرت؟ ثانياً: عليك أن تتقي الله تعالى وتخافينه، فإنه ما يصيب العبد من أمر إلا وسببه المعاصي والذنوب، قال العباس رضي الله عنه: [[إنه ما وقع بلاء إلا بذنب ولا ر فع إلا بتوبة]] فأسرعي بالتوبة إلى الله عز وجل، واتقي الله تعالى في أعمالك وفي أقوالك، عسى الله تعالى أن يسخر لك من حولك.
ثالثاً: تذكري أن الدنيا لا تصفو لأحد.
حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار بينا يرى الإنسان فيها مُخْبِراً حتى يرى خبراً من الأخبار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هار فاقضوا مآربكم عجالى إنما أعماركم سفر من الأسفار والموت نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال ساري لابد في الحياة من منغصات، جعلها الله تعالى بهاراً في هذه الحياة الدنيا، ليقول لك: إن الدنيا ليست دار مقر، وإنما هي دار ممر، قال عيسى عليه السلام: [[الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها]] لقد جعل الله تعالى في الدنيا المنغصات من الآلام والنقائص والمصائب والنكبات، وآخرها الموت، لتنادي على أهلها بالفضيحة، وألا تتعلقوا بالدنيا ولا تركنوا إليها.
وعليكم أن تستعدوا للدار الآخرة، فاستعيني على ما تلاقين من عناء الدنيا بالصبر والصلاة، قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] وعليك أن تتقي الله تعالى وتصبري، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة المصابة عندما مَرَّ عليها وهى تبكي على قبر فقال لها: {اتقي الله واصبري} .
رابعاً: أقبلي على تربية أولادك تربية سليمة، وادعي الله تعالى لهم بالهداية والصلاح، وابذلي وسعك معهم، فربما وجدت طعماً آخر للحياة في ظل أولادك، هذا إذا صلحوا واهتدوا، لئلا يكونوا شقاءً يضاف إلى ما تعانينه، عليك أن تبذلي وسعك في تربيتهم ورعايتهم، والدعاء لهم، والحرص عليهم في صغرهم قبل أن يكبروا.
خامساً: أحسني إلى زوجك وإلى أبيك، إلى أخيك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإن هؤلاء هم سترك في الدنيا، وهم في الآخرة جنتك ونارك، واحذري من التفريط بشيء من ذلك.(176/42)
قصيدة من فتاةٍ مسلمة
هنا قصيدة أرسلتها إحدى الأخوات، وهى مشاركة جميلة، تقول: منبر نعرفه ونحبه ولا شك، ولا نخال إلا أنه سيحتفي بقدومنا، ويدلل على احتفائه بقراءة ما بثته قلوبنا وذكرت قصيدة طويلة، ولضيق الوقت، أكتفي منها ببعض الأبيات تقول: نعم إنا بنيات هدينا ألا يا كل دنيانا اعرفينا نهجنا نهج سيرتهن طراً فكن النسل والخلف الأمينا وفي حضن الصفية قد نشأنا فكان لنا مهاداً يحتوينا وذاك الربع تملؤه علوم بأسماء ترن به رنينا وذاك الربع حفصة عطرته بآي فيه بشرى المتقينا بآي لانت الأحجار منها وكانت قبل تأبى أن تلينا نعم إنَّا بنيات هدينا نعم سنظل ذخر المسلمينا إذا نهبت حقوق الناس قمنا نرد الحق أو نلقى المنونا وإن هبت على الإسلام ريح تصدينا بأُسدٍ من بنينا (لا تظنوا أنها هي سوف تحارب لكن تحارب بأولادها) صنعناهم ونعم الصنع كانوا بناة لن تذل ولن تهونا زرعنا في قلوبهم افتخاراً بهذا الدين زلزل معتدينا نعم إنا بنيات هدينا ونحن إذن وقود الفاتحينا نعم إن كان في اليمنى مهادٌ يهز ففي الشمال العالمونا إلينا يا شموس الخلد هيا أطلي من علاك وصافحينا إلينا يا شموس الخلد طوفي بكل ربوع منبتنا احضنينا فكل ربوعنا شهدت تقانا وأشهدت الدنا والعالمينا وكل ربوعنا شهدت بأنا على علم وفضل قد بنينا فهذا الربع للالزهراء فيه مجالس قد عمرناها سنينا تحدثنا ونصدقها استماعاً حديثاً يمنح القلب المعينا حديثاً تشرق الأنوار منه ومنه الزهر يستجدي غصونا تعلمن الحجاب وكيف يؤتى حقيقته وكيف به حبينا وما فحواه من هدف عظيم وكيف يشيد للتقوى حصوناً وكيف يكون صنواً للعفاف وتشرح كل حكم الله فينا(176/43)
الأسئلة(176/44)
وقفة مع جريدة البلاد
السؤال
هذه أيضاً ورقة وصلتني من بعض الإخوة ونشرت في جريدة البلاد يوم الجمعة الماضي الملف عدد [1003] عنوانه (ممنوع من الزواج) وقد جاءني هذا المقال أول مرة فأعرضت عنه، ووجدت أنه جاءني أكثر من ثمان قصاصات مكررة لهذا، فحملت نفسي على قراءته لأجد ما فيه، فوجدت أن هذه الجريدة -سامحها الله- نشرت تقريراً عن تونس عن رجل يناهز الثمانين وقالت: إنه يتمتع بروح الشباب؟ - ومن ضمن الأسئلة الموجهة إليه أنهم سألوه لماذا كان قد حلق شعر وجهه وأطال شنبه؟ - فقال: إن هذه أصول الشغل لكسب السياح إلى هذه القرية.
- ثم بعد ذلك سُئِلَ: إنك متزوج من امرأتين وهذا مخالف للقانون؟ - فقال يا ولدي، كنت أريد الزواج من أربع، ولو لم يمنعني الرئيس السابق لفعلت.
- ثم سألوه: عن عدد المرات التي أحب فيها؟ قال: أكثر من عدد شعر رأسي.
- ثم سألوه: هل كنت محبوباً مع من أحببت أو كما أحببت؟ قال: لقد كنت ألقب بزير النساء، ليس في تونس فحسب وإنما في منطقة المغرب العربي بأسره، وقد تحدث الركبان بأخباري وقصص مغامراتي النسائية، ولا سيما مع السائحات الأوربيات.
- قالوا له: ما هي نصائحك للشباب حتى يفوز بقلوب الفاتنات؟ -أنا أقرا لكم الآن ليس من صحيفة غربية مترجمة، ولا من صحيفة أجنبية، إنما من صحيفة تصدر من بلاد الحرمين، من أرض الحجاز الطاهرة المقدسة، من جريدة البلاد - تسأل رجلاً تونسياً، نصائحك للشباب حتى يفوز بقلوب الفاتنات - - فيقول: أنصحهم قبل أي شيء بعدم إظهار الاهتمام الكبير بالفتاة التي تعجب أحدهم، وأن يتحلى بالصبر، وأن يظل متمسكاً بعاداته العربية، وبعد ذلك سيجد أن الفتاة التي أعجب بها هي التي ستلاحقه بدلاً أن يقوم هو بملاحقتها.
فيقولون له: باعتبارك خبيراً بشئون النساء، أي النساء أكثر جمالاً؟ قال: الأوربيات يمتزن بجمال القوام، والعربيات بدفء العاطفة، والآسيويات بالطاعة، والإفريقيات السوداوات بسرعة الوقوع في الحب، ولكنني أنصح كل من يريد أن يتعرف إلى نساء جمال العالم أن يأتي إلى جزيرة جربة في الصيف، لأنه سيجد من الحوريات ما يسر النظر ويفرح القلب، وينشط الشعور، أو كلمة نحو هذا.
إنه منكر عظيم وأمر خطير، والله لم أكن أتصور أن تقدم الجريدة على مثل هذا الكلام ونشره، وهي ما أقدمت إلا لأنكم غافلون، لا تتصلون بهذه الصحف، ولا تراسلونها، ولا تنكرون عليها، والمؤسف أيها الإخوة أننا نشتريها بأموالنا وتقرؤها ونقدمها لأولادنا وبناتنا وزوجاتنا، ثم لا يكلف الواحد منا عناء نفسه، أن يرفع الهاتف على أقل تقدير على الجريدة ليقول: هذا خطأ، أو يرسل فاكساً، أو رسالة بريدية، أو يتصل بأي أسلوب لينكر، ويقوم بهذا الواجب الذي لا يسعه التخلي عنه.(176/45)
حكم المشاركة في الجمعيات النسائية
السؤال
الجمعيات النسائية المنتشرة في جميع البلاد، هل تنصح بالمشاركة فيها أو العكس؟
الجواب
أقول: إن كانت المشاركة في هذه الجمعيات، سوف تضمن للأخوات المشاركات الهيمنة على الجمعيات، والتحكم في أنشطتها ومنع المنكرات والمحرمات القائمة فيها، أو تقليل ذلك بشكل واضح فحسن، أما إن كانت المشاركة سوف تؤدي إلى تحسين صورة الجمعيات في نظر المجتمع، دون أن يتمكن الخيرون من الهيمنة على نشاطاتها فلا شك أنه ينبغي تجنبها.(176/46)
حكم من يقول: إنكم دائماً تتهمون المرأة
السؤال يقول: ما رأيكم فيمن يقول " إنكم دائماً تتهمون المرأة " أليست هذه المقولة -إن قالتها فتاة ملتزمة- هي لوثة تغريبيه اعتدنا قراءتها في الصحف والمجلات؟ وهل الناصح الذي يدعو المرأة للخير يتهم في نيته عندما يذكرها بما عليها؟
الجواب
هذا يعود إلى أسباب منها ما ذكرنا من أثر الإعلام، ولكن له سبب آخر وهو دور الوالدين والزوج والإخوة والأقارب، فمثلاً أنت حينما تجد شريطاً يناسب المرأة، ويخاطب المرأة، ويتكلم عن حقوق المرأة، تحجبه عن أختك وزوجك؛ لئلا تطلع على بعض حقوقها، فإذا وجدت شريطاً يبين ما عليها من الواجبات أوصلته إليها، وهكذا تصورت أن الأئمة والعلماء والخطباء والدعاة لا يتكلمون إلا عن الواجبات التي تجب عليها، ولا يذكرون الحقوق التي تجب لها.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين.(176/47)
المسلمون بين التشديد والتيسير
من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم بُعث من أجل رفع الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، وما برح الشيطان يصرف البشر عن الحق فيحرم عليهم ما أحل الله لهم.(177/1)
حقيقة الرسالة المحمدية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] .(177/2)
الحرص على الأمة ورحمته بها
ثم وصفه الله تبارك وتعالى بقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] أولاً: يشق عليه صلى الله عليه وسلم ويعنته ويحرجه كل أمر يشق على أمته ويحرجها ويعنتها.
وهو حريص على أمته، وعلى جلب المصالح لها، وعلى دفع المفاسد والمساوئ عنها.
(بالمؤمنين رؤوف رحيم) .
أيها الإخوة نحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع الضالين والمبتدعين، الذين يزعمون أنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخرجون به عن الحدود التي وصفه الله سبحانه وتعالى بها ليمنحوه شيئاً من خصائص الألوهية، فيدعون أنه يعلم شيئاً من الغيب، أو أنه يعلم الغيب كله، أو أنه يعلم المغيبات الخمس التي لا يعلمها إلا الله، أو يصرفون له شيئاً من ألوان العبادة التي لا يجوز صرفها إلا لله تبارك وتعالى.
ولذلك فإنني أقول: إن من واجبنا نحن أهل السنة أن نكثر من الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نكثر من ذكره، وذكر فضائله ومحاسنه ومناقبه وصفاته صلى الله عليه وسلم، وأن نرقق بها قلوبنا، ونربي عليها أولادنا، ونخلص له الحب من أعماق قلوبنا.
ومن واجبنا ألا يكون كلامنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدحنا له وثناؤنا عليه رد فعل لما يدعيه الأقوام المبتدعون من أننا لا نحبه، كلا! يجب أن نقوم ابتداءً بواجب المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم وواجب الثناء عليه، وواجب اتباعه وواجب الصلاة عليه، كما ذكر في الصلاة وغيرها، وهذا بعض حقه علينا صلى الله عليه وسلم.(177/3)
صفة البشرية
أيها الإخوة! الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، إن هذه الآية تلخص لنا حقيقة الرسالة المحمدية التي امتن الله بها على البشرية كلها، فأقامها هدايةً للمهتدين وحجةً على المعاندين، إنها تلخص حقيقة هذه الرسالة، وتبين صفة هذا الرسول وأنه من أنفسنا، فهو من البشر، وليس ملكاً من الملائكة، ولا خلقاً آخر غير البشر، وذلك حتى يكون مجالاً للاهتداء بهديه والاستنان بسنته، ولئلا يقول منقول: إن هذا الرسول يستطيع ما لا يستطيعه البشر، أو يملك ما لا يملكه البشر، ولذلك وصفه الله سبحانه وتعالى بالبشرية، في غير ما آية من كتاب الله، وأمره أن يعلن على الملأ أنما هو بشر كسائر البشر، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] فهو من أنفسنا من هذا الاعتبار، وهو من أنفسنا -أيضاً- باعتباره من جنس العرب الذين بعث فيهم، ونزل القرآن بلغتهم، فالحجة عليهم أكبر من غيرهم من الشعوب والأجناس الأخرى.(177/4)
موقف الناس من دعوة الرسول
أيها الإخوة إن الله تبارك وتعالى بيّن رحمة رسوله صلى الله عليه وسلم بأمته، بل وبالخلق أجمعين في هذه الآية وفي غيرها، ولقد وقف الناس إزاء دعوته التي جاءت رحمة للعالمين وإنقاذاً للبشرية، أحد موقفين:(177/5)
موقف الصدق والاتباع
أما الفئة الثانية: فهي فئة المؤمنين بهذا الدين المتبعين المصدقين لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء لهم من النور واليسر والخير والنعيم والنجاة في الدنيا والآخرة بقدر إخلاص والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وبقدر محبته، وهؤلاء -أيضاً- انقسموا إلى ثلاثة أصناف: الصنف الأول: من جهلوا أو تجاهلوا حقيقة هذه الآية: {رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] جهلوا معنى هذه الآية، وجهلوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالتيسير، فشددوا على أنفسهم، فشدد الله تبارك وتعالى عليهم، وأصابهم من الأسباب الشرعية والقدرية ما جعل كثيراً من أمورهم تصعب وتتعسر كما سنبين من خلال الحديث.
الصنف الثاني: من فهموا هذه الآية، ولكنهم نسوا حقيقة التيسير في الإسلام، وأنَّ التيسير في الحقيقة ليس بما تهواه النفوس، وتميل إليه القلوب، وتطمح إليه الشهوات، إنما هو بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالآية نصت على أن الرسول صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة:128] أي: يشق عليه ما يعنتكم ويحرجكم وهو لم يأتكم إلا باليسر، نسوا هذا الأمر، ونسوا أن معنى الآية أن كل أمر في الدين فهو يسر، فوسعوا على أنفسهم بما لم يوسع الله به عليهم، وهؤلاء -أيضاً- لم يخلصوا المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
الصنف الثالث: هم الأمة الوسط أهل السنة والجماعة الذين جردوا المتابعة له صلى الله عليه وسلم، وتخلصوا من شهوات نفوسهم ورق قلوبهم، وأرغموا أنفسهم على المتابعة التامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره، وفيما يحبون وفيما يكرهون، وفيما تهوى أنفسهم وفيما لا تهوى، وهؤلاء حقاً هم أهل المتابعة، وهم الذين حققوا معنى شهادة أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا منهم.(177/6)
موقف الرفض والإنكار
الموقف الأول: موقف المتولين الرافضين لدعوته، المتنكرين لها، المعرضين عنها، وهؤلاء هم الكافرون به صلى الله عليه وسلم على اختلاف أجناسهم ومللهم ونحلهم، وهؤلاء لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، ولا أن ينيرها بهذا الوحي المنزل من عنده، وهؤلاء لا شك حرموا من خير كثير من يسر هذا الدين وسماحته، حرموا من ذلك في الدنيا، وحرموا من لذة الإيمان بالله ورسوله، ولذة المتابعة، ولذة الطاعة، وابتلوا بنكد العيش وضيق الدنيا وجور الأديان، كما أنهم حرموا نعيم الجنة ورضوان الله والنظر إليه يوم القيامة، حرماناً أبدياً، ولا مطمع لهم في إدراك شيء من ذلك البتة، ومثل هؤلاء نقول عنهم: إنهم لم يصبهم من يسر الإسلام وسماحته إلا القليل مما قد يكون أصابهم من أنواره، أما حقيقة الدين والسعادة به في الدنيا والنجاة به في الآخرة، فهم -والعياذ بالله- محرومون منها.(177/7)
اختلاف أهل القبلة في فهم اليسر
أيها الإخوة لقد علمتم من خلال هذا العرض السريع، لمواقف الناس وأصنافهم، ولاحظتم من خلال هذه الآية أن المسلمين من أهل القبلة يختلفون في فهمهم ليسر الإسلام وسماحته، فمن مسلم شدد على نفسه، فشدد الله عليه، إلى ميسر بغير بينة ولا برهان، إلى الأمة الوسط التي تعتبر التشديد والتيسير أمراً لا يخضع لأهواء البشر، وإنما يخضع للنصوص الشرعية التي جاءت من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءنا بهذا الدين من عند الله الذي خلق البشر وعلم خصائصهم وصفاتهم وطبائعهم، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] بلى يعلم سبحانه، وقال: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان:6] لا تخفى عليه خافية.
لقد خلق الله جنس الإنسان من لدن أبينا آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بصفات هو بها أعلم، ووصف الإنسان في محكم تنزيله بالضعف والجهل والعجلة والظلم والنقص، وخلق الإنسان كما في الحديث الصحيح: {خلقاً لا يتمالك} خلق الإنسان محتاجاً للطعام ومحتاجاً للشراب ومحتاجاً للنوم ومحتاجاً للزوجة ومحتاجاً للأنس والترويح، ساعة بعد ساعة، ومحباً للمال والأهل والولد والمتاع، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14] فالإنسان بطبعه بشر من البشر، فيه ضعف البشر، ونقصهم، وجهلهم، وحاجتهم، لا ينفك عن هذه الخصائص مهما ارتقى في مراقي العبودية والإخلاص لله تبارك وتعالى.(177/8)
من نتائج الرهبانية
كان من أهم نتائج هذه الرهبانية أن تزلزلت دعائم الحياة المنزلية، وعمت القسوة على الأقارب، وكان الرهبان الذين تفيض قلوبهم حناناً ورقة ورحمة، وتفيض عيونهم من الدمع؛ تقسو قلوبهم وتحمد عيونهم أمام الآباء والأمهات والأولاد، فيخلفون الأمهات ثكالى، والأزواج أيامى، والأولاد يتامى عالة يتكففون الناس، ويتوجهون قاصدين الصحراء، همهم الوحيد -فيما يزعمون- أن ينقذوا أنفسهم، لا يبالون إن ماتوا أو عاشوا، وحكى بعضهم من ذلك حكايات تدمع العين وتحزن القلب.(177/9)
قصص مزرية عن الرهبان
يقول أحد المؤرخين عن راهب من رهبان النصارى يقال له مكاريوس: إن هذا الراهب نام ستة أشهر في مستنقع، ليقرص جسمه العاري ذباب سام، وهو يعتبر أن هذا من التخلص من الدنيا ومن التقرب إلى الله عز وجل بتعذيب الجسم، وكان يحمل قدراً كبيراً من الحديد على رأسه باستمرار.
وهناك راهب آخر أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح منه الماء يترهبن ويتعبد، وجلس أحد الرهبان سنين قائماً على رجله، لم ينم ولم يقعد طول هذه المدة، وإذا تعب أسند ظهره إلى الجدار، ثم واصل العبادة فيما يزعم ويظن، وكان كثير من هؤلاء القوم يتسترون بشعرهم الطويل الذين يرسلونه باستمرار، ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام، ويسكنون في مغارات السباع والآبار والمقابر، ويأكلون الحشيش والكلأ، ويتأثمون من لمس الماء، ويعتبرون هذا منافياً لنقاء الروح، ويتأثمون من غسل الأعضاء، حتى قال أحدهم: إن الراهب فلاناً لم يغسل الرجلين طول عمره وقال آخر: إن فلان لم يمس وجه الماء ولا رجله مده خمسين عاماً، وبعدما ضعفت هذه الروح عندهم، قام أحد رهبانهم يتأسف على الأيام التي مضت، لهؤلاء الأقوام الذين فرضوا على أنفسهم نوعاً من الرهبانية لم يأذن به الله، ويقول: وآأسفاه! لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه، حراماً، فإذا بنا الآن ندخل في الحمامات! وينعى على نفسه هذه الحال إلى آخر ما يذكر المؤرخون عن حال هؤلاء الأقوام.
إننا قد نستغرب هذه الصورة، وهي ليست إلا صورة واحدة من صور كثيرة عج بها تاريخ النصارى، والذين كان الرهبان عندهم يعدون بعشرات الآلاف، بل كان أحد الرهبان يحكم تحت يده أكثر من عشرة الآلاف راهب، وكانوا كهلم بهذه المثابة قد تركوا الدنيا، وتركوا الزواج، والأموال والأولاد والمتاع وكل شيء، وتخلصوا لما يزعمون، أو يرون أنه عبادة، وهذه صورة ناطقة تمثل جزءاً من قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:1-7] كما قال ذلك بعض السلف.
ويقول أحد المؤرخين أيضاً: إن هؤلاء الرهبان الذين كان الواحد منهم مثالاً في رقة القلب والزهد في الدنيا قد عدوا عدُّ الفضائل عيوباً ورذائل، وزهد الناس في البشاشة وخفة الروح والصراحة والسماحة والشجاعة والجرأة وهجروها.(177/10)
الرهبانية المبتدعة
ولقد نعى الإسلام على الذين يميلون إلى التزهد والتبتل، ورفض الحياة الدنيا، ويلزمون أنفسهم بما لم يلزمهم الله به، فقال الله عز وجل: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ولقد رد الرسول صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، يقول بعض الصحابة: ولو أذن له لاختصينا.
لقد قاوم الإسلام هذا المنزلق الخطير من المزالق التي تردى فيها عباد اليهود والنصارى، حتى وصل بهم الحال إلى صور فظيعة من صور التزهد والترهب، يذكر بعض المؤرخين منها ما تقشعر منه الأبدان.
اسمعوا إلى أين وصل أولئك القوم الذين لم يرضوا بحكم الله، ولا بحكم رسوله، ولا بشرعه، فبلغ بهم الغلو في الدين إلى حد أن انقطعوا في الأديرة والصوامع، ووصلوا إلى الحال التي يقول عنها بعض المؤرخين ما يلي:(177/11)
نزول الدين موافقاً لخصائص البشر
وإذا كان الذي خلق الإنسان بهذه الخصائص هو الله عز وجل، وهو الذي أنزل الدين، وهو الذي أنزل الإسلام وغيره من الأديان السابقة، فمما لا شك فيه أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الدين موافقاً لخصائص البشر التي جبلهم عليها، وملبياً لحاجتهم، موافقاً فيما جبلوا عليه من نقص، أو كمال وأباح الله عز وجل للناس زينتهم التي أخرجها لعباده {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] .
ونزل الدين ملبياً للرغبات البشرية بالطريقة المشروعة، شريطة أن يقف الناس عند الحلال ولا يتجاوزوه إلى الحرام، وقد وصف الله المؤمنين المستحقين للفردوس والخلود فيها بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] لم تقف الآية عند هذا الحد بل استثنى الذي خلق الإنسان وهو اللطيف الخبير- لما يعلم من طبيعة الإنسان وجبلته فقال: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] ثم قال (وانظر إلى هذا التعقيب) : {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] أي: لا يلامون في هذا؛ لأنها جبلة خلقها الله عز وجل فيهم لحكمة، وأنزل الأديان لتنظيم هذه الغريزة وأن تأخذ طريقها المشروع، فلا تنحرف إلى الحرام، ولم ينزل الدين ليكبس هذه الغريزة ويمنعها، بل لينظمها بالطريق المشروع، وهو الزواج أو ما ملكت اليمين من الإماء.(177/12)
موقف الإسلام من الرهبانية
إن هذه الصورة وإن كانت صورة غريبة إلا أنها تتكرر، لا أقول عند النصارى، بل تتكرر عند كثير من جهلة المسلمين، الذين تأثروا بكثير من الأسباب والمؤثرات، فسلكوا من حيث لا يشعرون هذا الطريق.
وقبل أن أدخل في ذكر صور التشدد وأسبابه ونماذج من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم تنير لنا الطريق، وتبين لنا كيف كان هدي هذا الرسول الحريص علينا، الذي بعث رحمة لنا، قبل أن أدخل في هذا أو هذا أحب أن أبين أن موقف الإسلام كان صريحاً في رفض جميع ألوان الرهبانية أو المسالك التي تشتط بالإنسان، وتخالف جبلته البشرية، ولا تراعي فطرته.(177/13)
لماذا نتكلم عن التشدد؟
لو نظرنا -أيها الإخوة- إلى واقعنا الذي نعيش فيه اليوم، سواء إلى واقعنا القريب، أو إلى واقع الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها حيثما وجد المسلمون، لو نظرنا إلى التشدد عند المسلمين، لوجدنا صوراً كثيرة، وكأني ببعض الناس قد يقول: لماذا تتحدث عن التشدد؟ أليس كثير من المسلمين مقصرين في أمور الدين ومفرطين في الواجبات، ومتهاونين في الفرائض، بل وتاركين لكثير منها؟! أفليس الأجدر بك أن تتحدث عن التساهل والتفريط؟! كأني بإنسان يقول هذا، وأقول: إن هذا الكلام فيه حق وباطل، أما الحق فنعم يجب أن نتكلم عن التفريط في الدين، ونحذر الناس من مغبة ذلك، ونبين لهم حدود الله عز وجل، ونحرضهم على الوقوف عندها: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] يجب على طلاب العلم والمصلحين أن يحرصوا على تعليم الناس دينهم، ونهيهم عن التفريط فيه، فهذا حق، وأيضاً المتهاون في الدين والمتشدد فيه، كلاهما على طرفي نقيض، وكلاهما مذموم، وقد قيل: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم وقول الله أبلغ: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77] وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: {بمثل هذا فارموا، وإياكم والغلو} وقوله صلى الله عليه وسلم: {إنما أهلك من كان قبلكم الغلو} .
إذاً يجب أن نتكلم عن التشدد في الدين، وأنه خلاف التيسير الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، كما نتحدث عن التساهل، والتفريط في الدين، وهذا وذاك وجهان لعملة واحدة.(177/14)
من شدد شدد الله عليه
هذه إلى كلمات جميلة، قالها إمام من أئمة المسلمين، وعالم من كبار علمائهم وجهابذتهم هو شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، وإن النفوس خلقت لتعمل لا لتترك، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام} .
لماذا كان أصدق الأسماء حارث وهمام؟ لأن حارثاً مأخوذ من الحرث، وهماماً مأخوذ من الهم وما من إنسان مخلوق على هذا الأرض إلا وهو حارث وهمام؛ لأنه يهم ويعمل، فالإنسان خلق ليعمل لا ليترك ولا يترك شيئاً إلا بشيء.
ويقول رحمه الله كلمة مكملة للكلمة الأولى: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، ولم بتبديل الفطرة وتغييرها، فالفطرة التي جبل الله الناس عليها نزلت الأديان موافقة لها منسجمة معها، ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة واتفق على إخراجه البخاري ومسلم: {ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، حتى يبين عنه لسانه -والمقصود بالفطرة الملة- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يشركانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء} أي: أن الأصل عند البهيمة أن تولد مكتملة الأعضاء، حتى يأتي أهلها، فيقطعون أذنها أو يشقونها، أو يفعلون ما كانوا يفعلون في الأزمان الغابرة.
ويقول رحمه الله في كلمة له: إن التشديد على النفس ابتداءً يكون سبباً لتشديد آخر يفعله الله، أي أن الإنسان إذا بدأ يشدد على نفسه تشديداً لم يأتِ به الإسلام والشرع، فإن الله عز وجل يقيض له تشديداً حقيقياً، فيكون تشديده على نفسه في البداية سبباً لتشديد آخر يفعله الله به، إما في الشرع وإما في القدر.
قال: فأما بالشرع فمثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم، كنحو ما خافه لما اجتمعوا في صلاة التراويح معه، ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم، ومثل أن من نذر شيئاً من الطاعات وجب عليه فعله، وهو منهي عن نفس عقد النذر، وكذلك الكفارات الموجبة بأسبابها.
أي أن الناس الذين كانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وفي وقت التشريع عن أمور فيها تشديد قد يبتلون نتيجة لذلك بأن تفرض عليهم هذه الأشياء، كما علل الرسول صلى الله عليه وسلم عدم استمراره على صلاة التراويح جماعة في رمضان، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح {إن من أعظم الناس جرماً من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته} وكذلك من نذر شيئاً قد يكون صعباً وشديداً، هذا الشيء ليس موجباً عليه في الأصل، فمن نذر إن شفا الله مريضه أن يصوم شهراً على سبيل المثال، فصوم هذا الشهر هو ليس موجباً عليه في أصل الشرع، والعليم الخبير بالنفوس لم يوجب على الناس إلا صيام شهر واحد في السنة، لكن من شدد على نفسه بالنذر، شدد الله عليه فصار واجباً عليه أن يفي بنذره، مع أن النذر ليس مشروعاً في الأصل، بل هو مكروه، بل قال شيخ الإسلام: إنه محرم.
وكذلك الكفارات الموجبة لأسباب يفعلها الإنسان ابتداءً، فهذا تشديد من الله في الشرع على من شدد على نفسه ابتداءً.
أما تشديده سبحانه وتعالى على من شدد على نفسه ابتداء أيضاً، فكثيراً ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم، مثل كثير من الموسوسين في الطهارات، إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب عليهم أشياءً فيها عظيم مشقة ومضرة، فالله عز وجل أوجب علينا في الوضوء غسل هذه الأعضاء مرة، وما زاد إلى ثانية أو ثالثة فهو تطوع، خلا الرأس فإنه لا يمسح إلا مرة واحدة، ولكن من شدد على نفسه في أمور الطهارة، وبالغ في التطهر حتى غلا وبلغ الحد المشروع، قدر الله عليه أسباباً حقيقية تجعله يزداد في غلوه وتشدده وتنطعه، وهكذا من شدد شدد الله عليه، وفي الحديث {شددوا فُشدِّد عليهم} كما في سنن أبي داود.(177/15)
أقسام التشدد
إن هناك صوراً كثيرة من التشدد، ولا يتسع المجال أن أعرض لكم صوراً تفصيلية، فأكثركم أو كلكم يسمع أشياء كثيرة من هذا القبيل، ولكني أعرضها بصورة مجملة، وأقسمها إلى ثلاثة أقسام:(177/16)
التشدد في المعاملات
الصورة الثالثة من صور التشدد في الدين: التشدد في المعاملة، وكأني بكم تسألون: كيف يكون التشدد في المعاملات؟ يتشددون في معاملة الناس فيحرمون ما أحل الله، ثم يريدون من الناس أن يوافقوهم على تحريم هذا الحلال، ومن لم يوافقهم هجروه وشنعوا عليه، وأنكروا عليه، واعتبروه منحرفاً.
لقد سمعت من يقول: إن النظر إلى وجه العاصي حرام، انظروا -أيها الإخوة- إلى من شددوا في الدين بأمر لم يأذن به الله، هل قال لنا ربنا ذلك؟ أم قال لنا الصادق المصدوق ذلك؟ {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148] إنه والله مما يدمي القلب، ويجرح الفؤاد، ويحزن النفس أن يوجد من الغيورين على الدين، الذين دفعتهم الغيرة إلى أن يتعدوا حدود الله، ثم لا يسمعون لقائل مقالاً، ولا يستطيعون أن يسمعوا الحق أو أن يقبلوه، لما وقر في نفوسهم وتشبعت به قلوبهم من أن ما هم عليه هو الحق، وصدق الله العظيم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] .
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن هذه صور من صور التشدد في العقائد أو العبادات أو المعاملات، ولو ذهبت أسترسل في الأمثلة والنماذج والصور لطال المقام، ولم نصل إلى ما نريد، ولكن حسبي أن أعطي مثالاً لكل نوع من هذه الأنواع، بإمكان الإنسان أن يقيس عليه مئات الصور التي يراها أو يسمع بها.(177/17)
التشدد في العبادات
أما القسم الثاني: فهو في العبادات، وبالذات في الطهارة والصلاة، ثم في غيرها من سائر أمور الدين كالزكاة والصيام والحج وغير ذلك.
وهناك أناس كثيرون يوسوسون ويتشككون، فيقول قائلهم: لا أدري توضأت أم لم أتوضأ، وبعد أن ينتهي من الوضوء يبدأ عنده الشك هل غسلت وجهي أم لا، هل غسلت يدي أم لا، ثم إذا توضأ وتوضأ، وزال الشك بكل صعوبة جاء يصلي، فإن كان مع الإمام بدأ يجهر بصوته في قراءة الفاتحة، ويشوش على جيرانه، وإن كان منفرداً فالخطب أعظم وأطم، فتجده يجهر ويكرر الآية مراراً، فإذا أنهى الفاتحة كررها كلها، وإذا ركع مثل ذلك، وإذا سجد مثل ذلك، ثم قد يزيد الرباعية فيجعلها خمساً؛ لأنه شك هل ركع الركعة الأولى أم لا، ثم يسجد للسهو حتى يصل به الحال إلى صورة يكره معها العبادة؛ لأنه يتكلف ويجور على نفسه بالوضوء وبالصلاة، ولقد علمت من إنسان أن الأمر وصل به إلى ترك الصلاة لأنه صار يجهد حتى هم بترك أمور المعاش أو الدراسة، أو طلب العلم، أو طلب الدنيا المباحة، كل ذلك لأنه لم يعد له هم إلا أن يتوضأ، ثم يصلي، ثم يعيد الصلوات التي شك فيها.(177/18)
التشدد في العقائد
القسم الأول: التشدد في العقائد، وذلك كمن يبالغ بالتنقير والتنقيب عن قلوب الناس، ويتشدد في الألفاظ والعبارات، ويتعمق في بحث مسائل مسكوت عنها، لا طائل من البحث تحتها، ولقد كان سلف هذه الأمة، وخاصة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم من خبرهم وعايشهم، قال: فلقد رأيتهم أقل الناس تكلفاً، وأبعدهم عن التشدد، وأقربهم إلى التيسير، كانوا يقرءون القرآن، ويقرءون الحديث، فيؤمنون بذلك على ظاهره إيماناً حقيقياً، كما يليق بجلال الله وعظمته، دون أن يدخلوا أنفسهم في المتاهات التي أدخل علماء الكلام أنفسهم فيها، فضلوا وأضلوا، ورجعوا من حيرتهم بخفي حنين، حتى قال قائلهم بعد أن أمضى عمره في البحث عن تلك المسائل التي لا فائدة منها يقول: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من كدنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال وهذه خبرة رجل قضى عمره في هذا العلم، وهذه نتيجته، وهذه غايته.
وهذا الرازي يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمسالك الفلسفية، فما وجدتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، فوجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في النفي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] واقرأ في الإثبات قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] .
إذاً: الطريقة الوسط الميسرة في العقائد هي طريقة القرآن والسنة، لا تتكلف ما ليس لك به علم، ولا تتعمق في البحث عن مسائل لم يأتِ بها نص عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وآمن بالله وبما جاء عن الله وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء عنه على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل.
وكثيراً ما تجد بعض المبتدئين في العلم، بل بعض العوام الذين يجالسون بعض العلماء، يدخلون أنفسهم في أمور العقائد، وينفون ويثبتون، ويتكلمون في قضايا لم يتكلم فيها السلف، كما تجد كثيراً من الناس يبالغ في السؤال عن الناس، هذا عقيدته صحيحة، وهذا لا أصلي خلفه حتى أسأل عن عقيدته، وهذا لا بد أن أختبره.
وقد أنكر السلف على من هذا مسلكه، وقالوا: الأصل في المسلم الستر والصيانة، فإن ظهر لك منه ما يدل على انحرافه، أو ضلاله فهذا أمر آخر، أما أن أُنقب عن الناس وعما في قلوبهم وأختبرهم، وإلا أتبرأ منهم، بل قال بعضهم، الأصل في هؤلاء عدم البراءة حتى تثبت براءتهم، وهذا مسلك خطير، ومخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
{كان يأتيه الأعرابي فيقول: يا رسول الله، رأيت هلال رمضان، أو هلال شوال، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ فيقول: نعم، فيقبل شهادته} وهكذا مسلك التيسير والتسهيل، وتجد أصحاب هذا المسلك ممن خففوا فخفف الله عنهم ووافقوا السنة، وعاشوا بارتياح، وهكذا كل من اتبع السنة تجده مرتاحاً في حياته الدنيا قبل الآخرة.
أما أصحاب المسلك الآخر المتشددين، فتجدهم دائماً في تعب وجهد وفي شك وتردد.
يقول أحدهم: صلاة صليتها خلف فلان أريد أن أعيدها فلان، لا أصلي خلفه؛ لأني لا أدري عنه شيئاً! شددوا فشدد الله عليهم.(177/19)
أسباب التشدد في الدين
وهنا أحب أن أقف، وأسأل نفسي وأسألكم سؤالاً: يا ترى ما هي الأسباب والدوافع التي جعلت هؤلاء القوم يقعون فيما وقعوا فيه؟! إذا كنا نعلم أن التشدد ليس ناتجاً من التقصير في الدين، فنحن جميعاً نعلم سبب ترك الصلاة، أو سبب التقصير في العبادات، إن سببه هو التهاون في حدود الله، وضعف الإيمان، وقلة الدين والورع، لكن قد يخفى على الكثيرين أسباب التشدد في الدين، مع أن الإسلام هو دين اليسر والسماحة.
إنَّ هناك أسباباً كثيرة لا أستطيع أن أنفرد بها لكنني رصدت أربعة أسباب، أرى أنها أسباب رئيسة في هذا الموضوع:(177/20)
الطبيعة المتشددة
أما الأمر الآخر من أسباب هذه الظاهرة فهو: الطبيعة المتشددة عند بعض الناس، فالله عز وجل خلق الناس متفاوتين في كل شيء، ثم كل إنسان يولد ويعيش ويتربى في بيئة، تؤثر عليه تأثيراً كبيراً سلباً أو إيجاباً، ومن الناس من هو لين الجانب، واسع الصدر، هادئ الطبع، وبشوش، وبسام، مقبل على الناس، محبوب لديهم، محسن إليهم.
ومن الناس من هو غليظ، جلف جافٍ، لا تراه إلا مكفهراً، مقطب الجبين، منقبضاً، معرضاً عن الناس.
ومنهم من هو بين ذلك، وهذه الطبائع من غير الممكن أن يتجرد عنها الإنسان، فإذا غفل المرء عن هذه الطبيعة الخاصة به، وصار يتكلم باسم الدين والفتيا، ويلتمس دون أن يشعر من الأدلة والأحكام، والفتاوى ما يناسب هذه الأدلة، ويتمسك به ويبتعد عن غيره ويتركه، فحينئذ يكون في ذلك الخطر الشديد.(177/21)
ضيق عقول كثير من الناس
السبب الثالث: هو ضيق عقول ومدارك كثير من الناس، وتشبعهم بطريقة من الطرق، مما يحول بينهم وبين سماع الحق، ويجعلهم كما وصف الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32] .
إنَّ صاحب الحق لا يخاف على الحق الذي معه، فالذي يخاف هو صاحب الباطل، الذي يخشى أن ينكشف باطلة وينفضح، أما صاحب الحق فيقول: الحق يملء فيه، ومستعد أن يقف أمام أي إنسان، ويأخذ معه ويعطي، ويرد عليه بالبينات والحجج.
ولذلك فإن ما يفعله كثير من الناس من الانطواء على أنفسهم، ونظرتهم إلى الآخرين على أنهم لا شيء عندهم، وأن الخير محصور فيهم هم فحسب، إنه خطر عظيم، وقد يودي بالإنسان والعياذ بالله إلى شيء من العجب والغرور، وهذا لا شك محبط للإعمال.(177/22)
الرد المعاكس للفساد
أما السبب الرابع: فهو ردة فعل هؤلاء القوم ضد الفساد المنتشر، فإن العلماء يقولون: كل فعل له ردة فعل، فانتشار الفساد وكثرة الجرائم، وانفتاح الناس على الدنيا واستغراقهم فيها جعل هناك من يقف في الطرف الآخر ليتجرد من الدنيا ويبالغ في ذلك حتى تعدى الحدود المشروعة.
ولو نظرنا إلى نشأة الصوفية في الأسلام، لوجدناها كانت نتيجة انفتاح المسلمين على الدنيا، ولو نظرنا إلى نشأه الخوارج، لوجدناها أنها نشأت في ظروف مشابهة، وهكذا تفرق المسلمون شيعاً وأحزاباً، واختلفوا في التيسير والتشديد، وليس يشفع للمشدد أنه إنما شدد غضباً لحرمات الله.
كما أنه لم يشفع للخوارج أنهم تشددوا حمية للدين، فلقد قال الصادق المصدوق -في أحاديث صحاح متواترة عن الخوارج: {أنهم شر الخلق والخليقة، يمرقون من الدين كما يمرق السهم عن الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} ووصفهم بقوله: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، ومع ذلك يقرءون القرآن رطباً لا يجاوز حناجرهم} وقال: {لو يعلم الذين يقتلونهم ما لهم عند الله من الأجر لنكلوا عن العمل} وسماهم كلاب النار، كل ذلك وهم يقولون: إن العاصي كافر، لو سألناكم وسألنا غيركم، ما هو الذي جعل الخوارج يحكمون على العصاة بأنهم كفار؟ هل هو التساهل في الدين؟ هل هو انتهاك لحرمات الله التشدد في الدين وتعظيم حرمات الله؟ لا، إنما هو بصورة تعدت ما شرع الله؛ حتى صاروا يبحثون عن النصوص التي توافق أهواءهم، ويعملون بها، ويأتون إلى النصوص التي لا توافقهم فيدفعونها عنهم بالأيدي، ويدعونها، ويتخلصون منها بالتأويل أو التضعيف أو غير ذلك.
فلينظر كل امرئ لنفسه أنه لا يشفع له أن يكون غيوراً، إنما يشفع له أن يكون وقافاً عند حدود الله، وإن اتباع الهوى كما يكون في التساهل، يكون في التشدد، فأهواء الناس تختلف.(177/23)
الجهل في الدين
أما السبب الأول: فهو الجهل بالدين، إذ لا يكفي للإنسان حتى يكون مستقيماً على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون متحمساً للدين راغباً فيه مقبلاً عليه، ولله در الإمام الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد قيل له: [[يا أبا عبد الرحمن، هاهنا قوم في المسجد يفعلون فعلاً غريباً، قد جمعوا الحصى، وحولهم شيخ لهم يقول: سبحوا ثلاثاً وثلاثين فيعدون ثلاثاً وثلاثين حصاة يسبحون كبروا ثلاثاً وثلاثين، هللوا ثلاثاً وثلاثين وهكذا، فقال قائل: هؤلاء على خير وعلى حق؛ لأنهم يسبحون الله، ويحمدون الله، ويكبرون الله، ويهللون، ففعلهم من جهة متلبس بالخير والعبادة، ولكن -من جهة أخرى- هذا العمل رفضته نفوس الصحابة الذين لم يألفوا البدعة، فجاء آتيتهم إلى ابن مسعود وهو عالم ووعاء من أوعية العلم والسنة، وقال: يا أبا عبد الرحمن والله لقد رأيت في المسجد شيئاً وما رأيت إلا الخير فأخبره بما رأى، فجاء إليهم عبد الله بن مسعود، وقال لهم: والله إنكم إما قد سبقتم أصحاب محمد علماً، أو أنكم على ضلالة أنتم أحد أمرين: إما أن عندكم علماً خفي على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا بطبيعة الحال المقصود به التعجيز؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يقول: إنه أعلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين تلقوا العلم غضاً طرياً من فيه إلى آذانهم صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم وأرضاهم -لقد فقتم أصحاب محمد علماً أو أنكم على ضلالة، فقالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما قصدنا إلا الخير- تعذروا أن دافعهم إلى هذا العمل هو حب الخير، فهل شفع لهم هذا الأمر عند ابن مسعود؟ لا، قال لهم هذا الإمام كلمة يجب أن نحفظها وأن نرددها: وكم من مريدٍ للخير لم يبلغه]] .
إن الذي يريد الخير ويريد الطريق المستقيم، يجب أن يعلم أنه ليس هناك طريق مستقيم إلا واحدٌ فقط، هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع الطرق والأبواب غيره هي أبواب تأخذ لسالكها ذات اليمين، وذات الشمال عن الطريق المستقيم، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] .
إذاً السبب الأول هو الجهل بالدين، إذ أن العالم يعلم أنَّ النص الوارد عن الله، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم هو المقياس في الحلال والحرام، ولذلك لما أمرنا الله عز وجل بالجهاد، قال لنا: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] هذه قاعدة مهمة: كل أمر جاء به الدين فهو يسر وسهولة، لا حرج فيه مهما ظن الظانون أنه حرج، وعكس ذلك: كل أمر لم يأت به الدين ولم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو أمر عفو ومباح في الأصل، مهما ظن الظانون أن الدين غيره، وأن في إتيانه حرجاً.
إذاً الحرج في مخالفة النص، واليسر في اتباع النص، فما جاء به الله ورسوله، فهو اليسر الذي لا يسر في غيره، وما نهى الله عنه، فإتيانه هو الحرج الذي فيه الحرج كل الحرج، وهذه قاعدة مهمة، تشتط أهواؤنا أو عواطفنا ومألوفاتنا، فما ألفنا فهو من الدين، وما جاء غريباً علينا استنكرناه، ثم نفيناه عن الدين، والمثل القديم يقول: "الناس أعداء ما جهلوا" فليس كل ما جهله الناس حراماً، ولا كل ما عرفه الناس وأقروه مباحاً، بل الحرام ما حرمه الله أو رسوله بالنص الصحيح، والحلال ما أباحه الله ورسوله بالنص الصحيح الصريح، أو سكت عنه، وما سكت عنه فهو عفو، وهناك قواعد كثيرة تضبط هذا الأمر، ليس هذا مجال سردها.
أيها الإخوة: إن المسلم الذي جرد الاتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يتردد في الانقياد والتسليم لكل أمر ورد من الله ورسوله، ولكن لا يحرم من تلقاء نفسه، ولا يعمل شيئاً على سبيل العبادة لله سبحانه وتعالى إلا بتوقيف، وليعلم الجميع أن محرم الحلال كمحلل الحرام سواءً بسواء، فإنك لو عبدت الله بعبادة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخرج من هذه العبادة سالماً، فضلاً عن أن تتقرب إلى الله بها، بل إن هذه العبادة وبالٌ عليك، أنت تتعب فيها، وتجهد فيها، وتضني نفسك، وتسهر ليلك، أو تتعب نهارك في عبادة لم يشرعها الله، ومع هذا كله تأثم بهذا العمل، كما أن الإنسان الذي يقول: إن الخبز أو التمر حرام، هو بالضبط مثل الإنسان الذي يقول: إن الخمر حلال، فكلاهما سواء.
لا يكن هوانا أيها الإخوة مع من يميل إلى التحريم، فإذا كان الإنسان يقول: هذا الشيء حرام، ملنا معه لأنه يعظم حرمات الله، ويمنع الناس من أمور ما جاء بها الدين، كلا! يجب أن نعلم أنه من قال عن شيء مباح: إنه حرام، فهو كمن قال عن شيء محرم: إنه حلال، وهما بمنزلة واحدة.(177/24)
من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم
والحقيقة أنني كنت أحضرت قدراً ممتعاً شيقاً من أخبار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومواقفه المختلفة سواء في بيته، أو مع زوجاته، أو مع أصحابه، أو مع العصاة والمذنبين، أو مع الكفار، ومع سائر الناس، وفي جميع المواقف، وكنت أتمنى أن يكون الوقت أطول، حتى نمتع أنفسنا بسماع طرف من أخباره عليه الصلاة والسلام؛ لنعرف المعنى الحقيقي ليسر الدين وسماحته.
وباختصار أقول: لو رأينا هذه القصص والأخبار، ثم قسنا عليها واقع كثير من المنسوبين إلى العلم لاستغرابنا.
إن كثيراً من الناس يوقرون أنفسهم عن أشياء، ويرفعون أنفسهم عن أشياء كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعلها بكل بساطة وتواضع، كان الكافر يأتي ويدخل المسجد، فيمر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيخاطبه ويكلمه، ويقول له: ماذا تريد؟ وهذا في الصحيحين.
وكان الرجل الأعرابي يأتي في الخطبة، فيقول: يا رسول الله! جاهل يسأل عن أمر دينه، فلا ينهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ينزل عن منبره كما في الصحيح، فيوضع له كرسي قوائمه من حديد، فيجلس، فيعلمه دينه، ثم ينصرف إلى خطبته.
وكان الرجل يأتي مكتئباً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قد فعل موبقة من الموبقات، إما جامع أهله في نهار رمضان، أو زنى والعياذ بالله أو فعل شيئاً من ذلك، فيقابله الرسول صلى الله عليه وسلم برحابة صدر وهدوء بال، وإذا أقام عليه الحد لم يسمح أن يساء إليه، ولا أن يشتم، بل قال: لا تفعلوا، لا تسبوه إنه يحب الله ورسوله، وهذا في الصحيحين تطلب منه عائشة رضي الله عنها أن تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فيضع كتفه لها، وتضع هي خدها على خده تنظر حتى ملّت، فيلتفت إليها، ويقول: حسبك يكفيك، فتقول: نعم، فينصرف لا ينصرف حتى تنصرف هي، وأخبار من ذلك كثيرة معلومة، لو اتسع الوقت لسردنا شيئاً منها طيباً ممتعاً انتقيته مما في صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله.(177/25)
أسباب الكلام عن يسر الإسلام وسماحته
الحمد لله وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ الذي بعثه الله بهذا الدين وجعله خاتماً للرسل، وجعل دينه خاتماً للأديان كلها، فقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار} .
ونحمد الله أن جعلنا من أتباع هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، وجعلنا من المؤمنين بهذا الدين، ونسأله أن يثبتنا عليه حتى الممات، وأن يبعثنا عليه، وأن يحشرنا في زمرة أوليائه وحزبه المفلحين.
أيها الإخوة إنه كلما ازداد بُعد المسلمين عن دينهم، وازداد جهلهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وازداد تعلقهم بالدنيا وركضهم وراء متاعها الرخيص الفاني كانوا معرّضين لدائين من أخطر الأدواء وأشدها فتكاً بالأمم والأفراد: الداء الأول: هو داء ضعف اليقين، وضعف الإيمان، وضعف الاتباع الذي يترتب عليه التقصير في أداء الواجبات؛ فضلاً عن السنن والمستحبات، والتساهل في فعل المحرمات؛ فضلاً عن فعل المكروهات، فهذا هو الداء الأول.
أما الداء الثاني: فهو داء عكسي، وهو التشدد في الجانب الآخر؛ حيث يوجد من المسلمين إزاء هذه الهجمات المادية وإزاء طغيان المادة وغلبتها على المسلمين من يقف في الطرف الآخر؛ فيتشدد ويغلو كرد فعل لهذه الموجة الطاغية، ولو قلبنا صفحات التاريخ الإسلامي لوجدنا هذا الأمر واضحاً جلياً، فحينما فُتحت الدنيا على المسلمين وتمتعوا بالثراء والنعم الكثيرة ترتب على ذلك ضعف تمسكهم بالإسلام أولاً، وترتب عليه ظهور بعض الفرق والطوائف المغالية في الدين والمتشددة فيه.
وفي مثل هذه الأيام التي نعيشها نجد هذا الأمر -أيضاً- واضحاً؛ حيث فُتحت الدنيا على المسلمين في الثراء والمال والنعم، وحيث أثّرت فيهم الحضارة الغربية بما فيها من مفاتن ومفاسد، فضعف تمسك كثير منهم بالإسلام، وترتب على هذا أمر آخر، حيث وجد من المسلمين من يتشدد ويغلو في الدين كردة فعل لهذا الانحراف وضعف اليقين عند الناس.
وأمام هذا الأمر يكون من الواجب على طلاب العلم أن يهتموا بالحديث عن يسر الإسلام وسماحته لسببين: الأول: حتى يردوا على من غلا في الدين وتشدد بما لم يأذن به الله، ويبينوا أن هذا ليس هو منهج الأنبياء والمصلحين.
السبب الثاني: حتى يردوا المبتعدين عن الدين إلى الدين؛ لأن أولئك المبتعدين في حاجة إلى من يبصرهم بسماحة الإسلام ويسره ومراعاته لفطرة البشرية، حتى يتألف قلوبهم على هذا الدين ويردهم إليه بالتي هي أحسن؛ ولذلك عندما أتيحت لي فرصة أن أتحدث عن موضوع فاخترت الحديث عن يسر الإسلام وسماحته -أو الحديث عن المسلمين بين التيسير والتشديد- وأصل هذه الكلمة هي أن نعيش معكم لحظات نتحدث فيها عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن طرف من أخباره وأسلوبه في مواجهة الأمور، وهديه صلى الله عليه وسلم في التيسير، وتحذيره من التنطع والتشديد.
ولكنني قبل ذلك أستغرق من الوقت دقائق معدودة؛ حتى أمرّ فيها مروراً سريعاً على الموضوع لأبين أسباب هذا التشدد، وصوره ونتائجه وعلاجه.(177/26)
الأسباب التي تدعو الناس إلى التشدد
فأما الأسباب التي تدعو الناس إلى التشدد في الدين؛ فإنه يمكن أن نعد منها ما يلي:(177/27)
تأثير البيئة
أما السبب الثاني: فهو تأثير البيئة، فنحن نجد كثيراً من البيئات متفاوتة فيما بينها تفاوتاً شديداً؛ سواء في قدر فهمها للأمور، أو في انفتاحها على المجتمعات الأخرى أو انغلاقها عنها، أو في تأثرها بما حولها، أو في غير ذلك، فبعض البيئات توحي بالتيسير الذي قد يتعدى حدوده، وبعض البيئات توحي بالتشديد الذي قد يتعدى حدوده، والحق الوسط هو ما أنزل الله وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم.(177/28)
ميل بعض الناس إلى التشديد
السبب الثالث: هو طبيعة بعض الناس التي تميل إلى التشديد؛ لأننا نجد الناس خلقوا مختلفين، وفي الحديث: {إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من الأرض} ولذلك جاء فيهم الأبيض والأسود والطيب والخبيث، وهكذا نجد في الناس القاسي الغليظ، ونجد فيهم اللين الرفيق، ونجد في الناس مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان سهلاً رقيقاً رفيقاً -كما سيبدو- حتى تأتي المرأة فتأخذ بيده إلى أي سكك المدينة شاءت، وحتى يقبل غلمانه وصبيانه ويضمهم إليه؛ بل ويصلي وأحدهم على كتفه، فيأتي رجل من الأعراب يمثل الطرف الآخر في القسوة والغلظة فيقول: {أو تقبلون صبيانكم، فوالله إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم، فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك} .
إذاً طبيعة الناس تختلف، فمنهم من يميل بطبعه إلى التيسير، ومنهم من يميل إلى ضد ذلك.(177/29)
ردة الفعل ضد الفساد المنتشر
السبب الرابع: هو ما أشرت إليه في مقدمة هذا الحديث، وهو ردة فعل كثير من الناس ضد الفساد المنتشر، وانفتاح الدنيا على الناس، واستغراق الناس أو أكثرهم في ألوان الترف والنعيم، وتشمل ردة الفعل -أيضاً- أمراً آخر، فإننا نجد كثيراً من الناس -وخاصة الشباب- تشطح بهم أهواؤهم، فيبتعدون عن الطريق، ويقيض لهم قرناء من رفقة السوء فيضلونهم ضلالاً بعيداً، فقد يصحو هذا الشاب يوماً من الدهر فيجد نفسه في وضع سيئ، ويذكر أن أمامه الموت والبلى، والجنة والنار والحساب، فيستيقظ ضميره فيقبل على الله ويتوب إليه، وهنا يشعر هذا التائب أنه لا يكفيه أن يكون مثل الناس مستقيماً على الدين، إنما يشعر أنه لا بد أن يعوض عمَّا فقد، فإن وفق بأهل سنة وطاعة واتباع دلوه على الطريق المستقيم وحذروه من كلا طرفي قصد الأمور، وحذروه أن يكون منتقلاً من التساهل إلى التشدد، وكلاهما شرٌ، وطلبوا منه أن يكون معتدلاً على الجادة؛ لا أقول التي عليها عوام الناس؛ بل الجادة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(177/30)
ضيق التفكير عند كثير من الناس
السبب الخامس: هو ضيق تفكير كثير من الناس، وكراهيتهم أن يسمعوا ما عند غيرهم من الحق، فيظنون أن الحق هو ما عرفوه وألفوه وآمنوا به، وأن ما عند غيرهم باطل لا شك فيه، ويخافون من فتح آذانهم لسماع ما عند غيرهم، والحق أن صاحب الحق لا يخاف لأنه يعلم أن الحق دائماً هو المنتصر.
فهذه أهم الأسباب التي حصرتها بذهني، والتي تؤدي بالإنسان إلى نوع من التشدد في الدين.(177/31)
الجهل بالدين
أولاً: الجهل بالدين؛ لأن العالم بالدين لا يشدد على الناس فيما لم يشدد الله به عليهم، ويعلم أن قضية التيسير والتشديد ليست بالهوى ولا بالرغبة، ولا بمراعاة الطبائع؛ إنما هي باتباع النصوص، فالله تبارك وتعالى لم يجعل في هذا الدين مقالاً لقائل؛ بل أنزل الدين وأتمه وأحكمه، وبيَّن فيه الحلال من الحرام، فما حرم الله فهو الحرام، وما أحل فهو الحلال، وما سكت عنه فهو عفو، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول حين سمع أن علياً ابن أبي طالب يريد أن يتزوج ابنة أبي لهب، وكانت تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {لا تجتمع ابنة نبي الله، وابنة عدو الله في بيت واحد، ثم قال: أما إني لا أحرم الحلال} أي: إن أمر تعدد الزوجات أمر أباحه الله ورسوله، فلا يحرمه أحد بعد ذلك، وهكذا شأن البشر من الصحابة رضوان الله عليهم وغيرهم لم يكن من شأنهم أن يتدخلوا في تحريم حلال أو تحليل حرام؛ إنما كان شأنهم نقل الدين كما أنزله الله، ولو تدخلوا فيه بأهوائهم تيسيراً أو تشديداً لما كان هو الدين المنزل من عند الله، وللعبت به أهواء البشر، وإنما كان شأنهم أن ينقلوا هذا الدين إلى الناس كما أنزله الله وكما بينه رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالجهل بالدين هو السبب الأول من أسباب التشدد فيه.(177/32)
صور التشدد في الدين
أما صور هذا التشدد فقد تكون:(177/33)
التشدد في الاعتقاد
أولاً: في الاعتقاد، فمن الناس من يتشدد في الاعتقاد سواء في نظرته إلى الناس وإلى عقائدهم، أو في تشدده وتقعره في الكلمات، أو في بحثه في أمر من أمور العقيدة لم يأذن الله سبحانه وتعالى ببحثها، ولم يأتِ الرسول صلى الله عليه وسلم ببيانها، كما تشدد علماء الكلام وغيرهم؛ حيث دخلوا في مباحث خرجوا منها صفر اليدين، ولم يجنوا منها سوى القيل والقال، وكان أحدهم يموت وهو يقول: أموت على عقيدة عجائز نيسابور -أي: أنه بعد البحث والجهد الجهيد آثر أن يموت على العقيدة التي عليها العجائز والعوام الذين لم يتلقوا شيئاً من العلم- فهذا هو اللون الأول.(177/34)
التشدد في العبادات
أما اللون الثاني: فهو التشدد في العبادات، كمن يتشدد في الطهارة، أو في الصلاة، أو في غيرها من العبادة، ويدخل عليه الشيطان فيوسوس له، فتجد كثيراً منهم يعيد الوضوء مرات، ويعيد الصلاة مرات؛ حتى يصل به الحال إلى ترك ذلك كله والعياذ بالله لما يجد من الجهد والمشقة، وهذا هو ما يريده الشيطان.(177/35)
التشدد في المعاملة
أما اللون الثالث: فهو التشدد في المعاملة، كمن يتشددون في معاملة الناس في أمور مباحة، أو يتشددون في معاملة الفساق ويعرضون عنهم إعراضاً قد يدعوهم إلى زيادة فسقهم، أو يتشددون في معاملة أهليهم ومن ولاهم الله أمرهم من الأولاد وغيرهم.(177/36)
نتائج التشدد في الدين
ومن نتيجة هذا التشدد ما يلي:(177/37)
عقوبة الله تعالى للمتشددين في الدين
أولاً: أن من تشدد في أمر ليس من الدين عاقبه الله عز وجل أن يقيض له تشديداً آخر، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قال: من شدد على نفسه في أمور ليست من الدين فإنه يبتلى بتشديد من وجهين: الأمر الأول: أن يقيض الله سبحانه وتعالى له من الأسباب الشرعية ما يجعله يواجه شدة أكثر مما كان من قبل، مثال ذلك: لو أن إنساناً نذر لله إن عافاه الله أو نجحه في امتحانه , أو شفى مريضه أو رد غائبه أو غير ذلك أن يصوم كذا أو أن يتصدق بكذا، أو أن يفعل كذا من العبادات، فهذا لون من التشديد على النفس بما لم يشدد الله به؛ إذ أن أصل هذا العمل الذي نذره الإنسان ليس واجباً عليه، ولكنه حين نذره صار واجباً عليه، وقد يعجز عن القيام به، فهذه أسباب شرعية -هذا النوع الأول- التي يشدد الله بها على من شدد على نفسه.
النوع الثاني: هي الأسباب القدرية، فيقيض الله له من الأسباب والأقدار ما يجعله يواجه ألواناً من الشدة، وقد ذكر شيخ الإسلام أنه رأى أنواعاً كثيرة من هؤلاء القوم، وفي الحديث الذي رواه أبو داود وسكت عنه لما ذكر الرهبان قال: {شددوا فشُدِّد عليهم} وهذا عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: [[شددت فشُدِّد عليّ]] فهذه نتيجة من نتائج التشديد.(177/38)
النفور والتمرد والغلو في الانحراف
أما النتيجة الأخرى: فهي نتيجة عامة، وهي أن التشدد دائماً يحدث ضده، كما أن التساهل -كما ذكرنا- يحدث ضده، فينشأ نتيجةً لهذا التشديد جيل من الناس نافر من الدين أبيٌ متمرد عليه، وقد يغلو والعياذ بالله في الانحراف، ويحطم القيم والأعراف والمقدسات، وهذا كله نتيجة عدم الالتزام بأمر الله ورسوله.
فالجدير بالمسلم ألا يأخذ الأمر من الطرف، لا هذا ولا هذا.
فالدين ليس بالأهواء ولا بالشهوات، ولا بالميول ولا بالرغبات؛ بل الدين هو النص فإذا قال الله أمراً أو أمر به فيجب علينا ألا نظن أن في هذا لوناً من التشديد، وانظروا إلى قول الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78] فقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن نجاهد فيه حق الجهاد، وهذا أمر شديد على بعض النفوس؛ ولذلك عقب الله عز وجل عليه بقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، وهذا التعقيب له معنيان: المعنى الأول: أن الجهاد في الله حق جهاده لا يعني أن يبذل الإنسان شيئاً فوق وسعه وطوقه؛ بل لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
الأمر الثاني: أن كل ما كلفك الله به من الدين فليس فيه حرج ولا تشديد، بل هو التيسير بعينه.
إذاً كل ما إذن كلما كلفنا به من الدين فهو يسر لا تشديد فيه، وكل ما سكت عنه فهو عفوٌ وإتيانه مباح وفق القواعد والضوابط الفقهية المعروفة لدى علماء أصول الفقه.
فالمسلم ليس له أن يزيد ولا أن ينقص.
وقد يقول قائل: فما الضابط في ذلك؟ وما الذي يحكمنا؟ فأقول: الذي يحكمنا هو النص إذا قال الله وقال رسوله بطل قول فلان وفلان من الناس، وليس لأحد قول مع قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الضابط وهذا هو الميزان.(177/39)
أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم ومعالجته لكثير من الأمور
أما الأمر الأساس في هذه الكلمة، والذي أريد أن أدخل إليه الآن، فهو الحديث عن أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته في معالجة كثير من الأمور، ولا شك أننا جميعاً نعلم أنه هو القدوة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] .
انظروا كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعامل أهله؟ وكيف كان يعامل أصحابه حتى المنحرفين أو المخطئين؟ بل وكيف كان يعامل الكفار؟ أولاً: لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر أمته تحذيراً شديداً من الغلو والتنطع في الدين، ففي الحديث الذي رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من يحرم الرفق يحرم الخير كله} وفي صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه} .(177/40)
حديث عن عائشة
ويقول صلى الله عليه وسلم فيما روته عائشة رضي الله عنها، كما يقول عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء، فقالت لي: ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبكم في غزاتكم هذه؟ أي كيف كان أميركم في الغزو؟ هل كان شديداً عليكم أم رفيقاً بكم؟ قال هذا الرجل: ما نقمنا منه شيئاً، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، ويموت له العبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فوصف هذا الأمير باللطف والتيسير على رعيته، فقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: أما إنه لا يمنعني الذي فعله بـ محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم -على رغم أنها تجد على هذا الأمير شيئاً لموقف كان منه مع أخيها، فهذا لا يمنعها أن تخبر بما سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم، في شأن مثل هذا الأمير ممن رفقوا برعيتهم- قالت: يقول في بيتي هذا (تعني الرسول صلى الله عليه وسلم) {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفق بهم فارفق به} .(177/41)
حديث الرسول لمعاذ وأبي موسى الأشعري
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو موسى: أنه حين بعث عليه الصلاة والسلام معاذاً وأبا موسى إلى اليمن معلمين، وداعيين، وقاضيين، وأميرين، قال لهما: {يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا} والحديث أصله في الصحيحين، ولم يكتف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر بالتيسير، بل أضاف إليه النهي عن التعسير، والأمر بالرفق، والنهي عن الشدة، والأمر بالتسهيل وتأليف الناس على الإسلام، وهذا فيه قطع لدابر أي لون من ألوان التشدد، أو التعسير على الناس.(177/42)
موقفه مع اليهود
وقد روى الإمام البخاري هذا الحديث، وذكر في أوله قصة تزيد من دلالة الحديث ووضوحه، فقد كان اليهود لعنة الله عليهم يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقولون: السام عليك يا محمد، ويقصدون بالسام الموت، وكأنهم يظهرون أنهم يسلمون عليه، وهم يدعون عليه بالموت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وعليكم، فغضبت عائشة مما سمعت منهم، وقالت لهم: وعليكم السام واللعنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعتم.
في موقف مع أشر خلق الله وأكثرهم عداوة للرسول صلى الله عليه وسلم وللذين آمنوا، تجد الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر عائشة رضي الله عنها بالرفق، وينهاها عن العنف، ويبين لها أن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، فإذا كان هذا الأمر مع هؤلاء القوم، فما بالكم بأسلوبه صلى الله عليه وسلم مع المقربين منه من المؤمنين؟!(177/43)
من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل
وفي الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم يقول: {هلك المتنطعون} والمقصود بالمتنطعين: هم المتشددون في الدين بما لم يأذن به الله، هذا هديه صلى الله عليه وسلم في أقواله وإرشاداته وتوجيهاته، فلننظر، ما هو الأسلوب الذي كان يستخدمه في معاملته لأصحابه.(177/44)
قصة ثمامة بن أثال الحنفي
وأختم هذه القصص بقصة رجل من أصحابه صلى الله عليه وسلم، وهو ثمامة بن أثال الحنفي، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة قال: {بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال الحنفي، وهو سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي -يا محمد خيراً- إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت} أي: أنت بين ثلاثة أمور، يقول ثمامة: إن تقتلني فأنا ذو دم، ومعنى أنه ذو دم: إما أنه مستحق للقتل لخصومته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أنه رجل عزيز شريف في قومه، فإن قتلتني فإن قبيلتي تأخذ بثأري منك ومن أصحابك، الأمر الثاني أن تنعم علي بالإطلاق، والأمر الثالث: أن تفاديني بالمال، وأيها فعلت فالأمر إليك، {فتركه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد، قال له، فقال: كذلك، فلما كان من اليوم الثالث، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أطلقوا ثمامة - انظروا إلى حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: فاطللقوه، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال بصوت جهوري: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فلقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي والله ما كان في الأرض دين أبغض إلى دينك، فلقد أصبح دينك أحب الأديان، كلها إلي، والله ما كان بلد أبغض إلي من بلدك، فلقد أصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، ثم قال: إن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر فاعتمر، فلما ذهب إلى مكة، علم أهل مكة بإسلامه، فقال له قائل منهم: صبوت؟ -أي خرجت من دينك وتابعت محمداً صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسمون من أسلم صابئاً -فقال: لا ما صبوت، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة -كانت الحنطة تأتي من اليمامة إلى مكة- حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم} انظروا! هذا الرجل الذي كان بالأمس خصماً للرسول صلى الله عليه وسلم يسلم بأسلوب المعاملة، ويصبح الرسول صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه، وبلده أحب البلاد، ودينه أحب الأديان، ويصبح خصماً لقريش، يخبرهم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم قد علا واستوسق، فلا تأتيكم حبة حنطة حتى يأذن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لعلني أطلت عليكم بسياق هذه القصص، ولكن الأمر كما يقول الشاعر: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع إن أفضل ما بذلت فيه الأوقات هو معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى نعرف أسلوباً عملياً ندرك من خلاله كيف نعامل الناس، كيف نعامل أهلنا في بيوتهم؟ وكيف نعامل أولادنا؟ وكيف نعامل الآخرين؟ وكيف نعامل الفساق، بل وكيف نعامل الكفار؟ لكن لا من منطلق التساهل والتفريط؛ بل من منطلق الدعوة إلى الله، نفعل ذلك كله بروح الداعية الذي يريد أن يؤلف قلوب الناس على الدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(177/45)
أسلوبه صلى الله عليه وسلم مع الكفار
وأخيراً فإن أسلوبه صلى الله عليه وسلم حتى مع الكفار عجبٌ من العجب، سألته عائشة رضي الله عنها وقالت: {يا رسول الله، هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك -يعني قريش- وكان أشد ما لقيت يوم العقبة- ولعل هذا بعد خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ورجوعه منها- قال صلى الله عليه وسلم: إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب -موضع قريب من مكة - قال صلى الله عليه وسلم: فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله عز وجل سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، وقال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين} -وهما جبلان بمكة، وهذا الحديث في صحيح مسلم- فماذا قال رسولنا صلى الله عليه وسلم؟ ماذا قال إزاء هؤلاء القوم الذين آذوه وسبوه وشتموه وضربوه، وألقوا السلى على ظهره وهو يصلي، وسخروا منه، ثم أخرجوه من مكة، وحالوا بينه وبين نشر دعوته، وآذوا أصحابه، بل وقتلوهم وفعلوا بهم الأفاعيل؟ وأمام هذه الآلام كلها، واجه ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: {بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً} وكانت نتيجة هذا الأسلوب الحكيم منه صلى الله عليه وسلم: أن كثيراً من هؤلاء القوم كان مصيرهم أن يدخلوا في دين الله، فإن لم يدخلوا في الدين، فعلى أقل الأحوال كانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلون إليه الأسرار والأخبار ولا يمالئون عليه الأعداء.(177/46)
أسلوبه مع العصاة
أما ما يتعلق بأسلوب معاملته للعصاة والفساق أو للكفار، فهو عجب من العجاب، فقد علمنا صلى الله عليه وسلم ألا يعجب العامل منا بعمله إن كان عمل خيراً، بل يتواضع، ولعل بعض من قصروا فيما وجب عليهم، يكون عندهم من الخوف والإخبات والانكسار ما يقربهم من الله أكثر مما يقرب العامل عمله، وأكثر مما تقرب العابد عبادته، ولذلك حكى لنا صلى الله عليه وسلم خبر رجلين من بني إسرائيل أحدهما عابد، والآخر مسرف على نفسه، {فقال العابد: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله تبارك وتعالى: من ذا الذي يتألى علي ويقسم على ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك} رواه مسلم عن جندب رضي الله عنه.
هذا الأسلوب الذي ربى الرسول صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه بصورة نظرية دربهم عليه عملياً، فها نحن نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى برجل يشرب الخمر فيجلده، ثم يؤتى به أخرى فيجلده، ثم يؤتى به مرة ثالثة فيجلده، فيقول رجل من الصحابة: أخزاه الله! ما أكثر ما يؤتى به- أي ما أكثر ما يؤتى بهذا الرجل شارباً للخمر -فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله} أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: فيما أعلم أن هذا الرجل يحب الله ورسوله، وهذا لا يعني التقليل من خطر الخمر، بل من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، وفي الحديث الآخر: {فإن عاد في الرابعة فاقتلوه} لكن في أسلوب معاملة العاصي بعد أن يقع في المعصية، يجب أن نحاول أن نساعده على أن يخرج مما هو فيه، نساعده على أن ننتشله من الوحل ومن الوهدة التي وقع فيها، ولا نعين الشيطان عليه، ولذلك في اللفظ الآخر الذي عند البخاري، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان} وجيء صلى الله عليه وسلم برجل قد زنى، ولكنه قد تاب توبة نصوحاً، وأحرق الندم قلبه، فكان يجلس أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا رسول الله زنيت فطهرني، فينصرف عنه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجهة الأخرى، فيقوم يجلس قبالته، فيقول: يا رسول الله زنيت فطهرني، ويأتي ثالثة، ورابعة، فلما ثبت أنه وقع في الزنا، يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم به فيرجم، فلما رجم سبه بعض الصحابة، فاستنكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال لأصحابه بعد ثلاثة أيام من رجمه: {استغفروا لـ ماعز بن مالك فقال الصحابة رضي الله عنهم: غفر الله لـ ماعز بن مالك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم} وقد تكررت نفس العملية مع الغامدية، فلما ردها الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: لعلك تريد أن كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى من الزنا.
انظروا إلى حرارة الإيمان في القلب، نعم وقعت في فاحشة، ولكن الله عز وجل وصف المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135-136] لقد تابت إلى حد أنها جادت بنفسها، كما قال صلى الله عليه وسلم، ولقد جاءت وهي تعلم أنها سترجم، فتقول للرسول صلى الله عليه وسلم: الطريق مغلق أمام الالتفات كما التفت عن ماعز، لأنها حبلى من الزنا، ثم يرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: إذا وضعت فأتيني، فلما وضعت جاءت بالغلام، كان بإمكانها ألا تأتي، ولكنها جاءت لأنها قد تابت توبة نصوحاً، فلم ترض إلا أن تُطَهَّر في الدنيا، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تذهب حتى تفطمه، فبعد فترة جاءت بالغلام وفي يده كسرة خبز، وكأنها تريد أن تعطي دليلاً عملياً على أنها فطمت الغلام، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بها فرجمت، فرشق شيء من دمها على أحد الصحابة فسبها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {والله لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم} أو: {لو تابها صاحب مكس لغفر له} هكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتعامل مع من وقعوا في المعاصي، بل هكذا يتعامل معهم حتى بعد أن أقيمت عليهم الحدود، وغادروا الدنيا، كان يصون أعراضهم صلى الله عليه وسلم من أن يسبهم أحد أو يتناول منهم أحد؛ لأنهم مؤمنين ينغمسون في أنهار الجنة، فلا يحق لمؤمن أن يتعرض لهم بسوء، بل يجب عليه أن يستغفر لهم كما أمر صلى الله عليه وسلم.(177/47)
قصة عبد الله بن عمرو بن العاص
وهناك صحابي جليل مشهور، وهو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقد زوجه أبوه، فسأل أبوه زوجته يوماً: كيف حال عبد الله معك؟ وكانت امرأة ذكية، فقالت: نعم الرجل عبد الله! لم يطأ لنا بساطاً، ولم يكشف لنا كنفاً، تقول: نعم الرجل! إنه لم يقترب مني، وهذا لحن معروف، لأن الرجل رضي الله عنه كان مشغولاً بالعبادة، يقوم الليل، ويصوم النهار، فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ولنترك عبد الله بن عمرو بن العاص يحدثنا عن قصته.
يقول: {كنت أصوم الدهر، وأقرأ القرآن كل ليلة، قال: فإما ذكرت للرسول صلى الله عليه وسلم، وإما أرسل إلي فأتيته، فقال لي: ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟ قلت: قلت بلى يا نبي الله، ولم أرد بذلك إلا الخير -كأنه يعتذر بهذه الكلمة، لأنه علم من ملابسات الحال أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحضره، أو أراد أن يناقشه فيما فعل على سبيل تعديل هذا الأسلوب في العبادة- فقال له صلى الله عليه وسلم: فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، قلت: يا رسول الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فإن لزوجك عليك حقاً -فلا يجوز للإنسان أن يفرط في حق من هذه الحقوق، بل يجب أن يؤدي حق الجسد وحق الزوج وحق الناس، إضافة إلى ما يقوم به من العبادة بصورة ميسرة- ثم قال له صلى الله عليه وسلم: صم يوماً، وأفطر يوماً، وهو صيام داود عليه الصلاة والسلام فإنه كان أعبد الناس، قلت: يا رسول الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك، قال: واقرأ القرآن في كل شهر، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في كل عشرين، قلت: أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في كل عشر، قلت: أطيق أفضل من ذلك، قال: فأقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك -ثم كرر عليه صلى الله عليه وسلم الملاحظة التربوية بقوله- فإن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: فشددت، فشدد علي، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: فلعله أن يطول بك عمر} وفعلاً طال بـ عبد الله بن عمرو بن العاص وتمنى أن يكون قد قَبِلَ رخصة النبي صلى الله عليه وسلم التي رخصها له، لكنه كره: أن يغير أمراً فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا تعب أفطر أياماً متتالية، ثم يقضيها ويصوم مثلها، ويقول: {وددت أني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما شددت فشدد علي} .(177/48)
في شعائر الحج
وأما فيما يتعلق بالشعائر والمناسك الأخرى، فلا شك أنكم سمعتم ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، في موضوع الحج، واتفق على إخراجه البخاري ومسلم {أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان واقفاً للناس بمنى يوم النحر، فلا يسأل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج، فيأتي رجل فيقول: حلقت قبل أن أنحر، فيقول: اذبح ولا حرج، ويأتيه آخر، فيقول: نحرت قبل أن أرمي، فيقول: افعل ولا حرج، وهكذا حتى قال الراوي: فما سئل عن شيء قدم ولا أخر، إلا قال: افعل ولا حرج} .(177/49)
أسلوبه صلى الله عليه وسلم مع أهله
أما فيما يتعلق بأسلوبه صلى الله عليه وسلم مع أهله وفي بيته، فيكفيني أن أشير لكم إلى قصته مع عائشة رضي الله عنها، وكان يحبها حباً شديداً، تقول عائشة رضي الله عنها: {دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في يوم عيد، وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث -ويوم بعاث كان في الجاهلية بين الأوس والخزرج- قالت: فاضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفراش، وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: دعهما، -وفي لفظ آخر- فإنه يوم عيد، قالت: فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، وكان ذلك في المسجد، قالت: فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما قال لي: تشتهين أن تنظرين؟ قلت نعم، قالت: فأقامني وراءه خدي على خده، -أي وقفت خلفه على كتفه وخدها إلى خده صلى الله عليه وسلم تنظر إليهم وهم يلعبون بالحراب في المسجد- قالت: وهو صلى الله عليه وسلم يقول: دونكم يا بني أرفده، دونكم يا بني أرفدة- وكأن هذا نوع من الإغراء، وكأنه يحثهم على هذا الذي هم فيه، -قالت: حتى إذا مللت، قال: حسبك، قلت: نعم، قال: فاذهبي} .
صلى الله عليه وسلم مشغول بأمور الجهاد، ومشغول بأمور تعليم الناس الدين، ينزل عليه الوحي بكرة وعشياً، ومع هذا كله يتبسط صلى الله عليه وسلم في طريقته مع أهله، إلى حد أن يقف مع عائشة رضي الله عنها تنظر إليهم وهم يلعبون، فلا ينصرف حتى تمل هي رضي الله عنها، فتنصرف فيتركها صلى الله عليه وسلم.(177/50)
المرأة التي لا تنام الليل للعبادة
أما في موضوع العبادة فقد كان الصحابة -أيضاً- ممن يطمحون إلى أن يبلغوا الغاية فيها، وكان منهم من يحرص على أن يقوم الليل وعلى أن يصوم النهار، بل كان منهم من يطمح إلى أن يتبتل، ويترك الدنيا ويطلقها ثلاثاً لا رجعة فيها، ليفرغ لعبادة ربه والصيام والقيام، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بينهم يتعاهدهم ويربيهم.
انظروا إلى امرأة من أصحابه صلى الله عليه وسلم تسمى الحولاء بنت تويت {وكانت عند عائشة رضي الله عنها، فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم عليها فقالت عائشة له: يا رسول الله، هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل للعبادة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تنام الليل! -على سبيل الاستغراب والاستنكار- خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا} الله تبارك وتعالى يرشدنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن نكلف من العمل ما يكون في طاقتنا وما يتلاءم مع طبيعتنا وجبلتنا، لئلا نقوم بعمل كثير، ثم نعجز عنه فنتركه، فنكون كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وهذا هو أسلوبه صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه على التيسير في موضوع العبادة.(177/51)
عدم التشديد في موضع الطهارة
وانظروا إلى حذيفة رضي الله عنه، يستنكر على رجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، كان له مسلك خاص في موضوع الوضوء والطهارة، فقد كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يشدد في البول، حتى إنه كان يبول في قارورة، كما روى ذلك مسلم في صحيحه والحديث أصله في الصحيحين، وكان يقول رضي الله عنه: [[إن بني إسرائيل كان إذا أصاب جلد أحدهم البول قرضه بالمقاريض]] فلما سمع حذيفة بهذا كره هذا التشدد، وقال: [[لوددت أن صاحبكم لا يشدد هذا التشديد]] ثم استشهد حذيفة رضي الله عنه بنص، يدل على تيسير الرسول صلى الله عليه وسلم في موضوع الطهارة فقال: {لقد رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى، فأتى سباطة خلف حائط، -والسباطة هي القمامة- فقام صلى الله عليه وسلم كما يقوم أحدكم فبال} وفي اللفظ الآخر: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم، فبال قائماً، فقال حذيفة فانتبذت منه -أي فابتعدت منه- فأشار إلي فجئت فقمت عند عقبه حتى فرغ} وهذا يؤخذ منه عدم التشديد في موضوع الطهارة، وعدم إتاحة المجال للشيطان ليوسوس للإنسان ويقول له: لعله أصابك شيء، لعلك لم تتطهر، لعل رذاذ البول وصل إليك إلى غير ذلك من الوساوس التي لو فتح الإنسان بابها لوصل إلى أمر من التشديد قد يسر الله سبحانه وتعالى فيه على الإنسان.
ويؤخذ من الحديث أنه يجوز للإنسان ويقول له: أن يبول وهو قائم، إذا كان في ذلك استتار عن الناس، وإذا لم يكن في أرض صلبة يتراشق منها البول على ثيابه أو على جسده، وهذا الحديث كما ذكرت لكم في صحيح مسلم.(177/52)
الرجل الذي بال في المسجد
وانظروا إلى صورة أخرى تؤكد ما قلنا: وهي ما رواه الشيخان من قصة الأعرابي الذي جاء إلى المسجد فبال فيه، فكان موقف الصحابة رضوان الله عليهم: أن قاموا إليه ليزجروه وينهروه، لكن المعلم الأول الذي وصفه الله تبارك وتعالى بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] والذي وصفه سبحانه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ووصفه بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فهو صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يتركوا هذا الرجل، وقال: لا تزمروه -لا تعجلوه- دعوه حتى يتم بوله، فلما أتم بوله أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ثم دعا هذا الرجل، وقال له: {إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا البول وهذا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة وقراءة القرآن -فماذا كانت النتيجة- فقال هذا الرجل: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً} لأنه أعجب بأسلوب النبي صلى الله عليه وسلم، ونفر من طريقة الصحابة رضي الله عنهم، فلم يرض أن يشركهم معه بطلب الرحمة، وطلب أن تخص الرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم معه فقط، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: {لقد تحجرت واسعاً} وفي بعض الألفاظ أنه قال لأصحابه: {أتقولون: هو أضل أم بعيره} لأن هذا يدل على جهل هذا الرجل وبعده عن العلم والمعرفة، فكيف يحجر رحمة الله التي قال الله تبارك وتعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] فكيف يطلب أن تقتصر هذه الرحمة عليه، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد أن هؤلاء الصحابة نهوه عن أمر هو محرم في الأصل.
إذن هكذا كان أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملة مثل هؤلاء الناس.
ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم شأنهم في ذلك شأن غيرهم من البشر، فيهم وفيهم، فيهم من يميل إلى التيسير، وفيهم من يميل إلى التشديد، لكن فرقهم رضي الله عنهم عن غيرهم من الناس أنهم يقفون عند النص لا يتعدونه، فإذا ثبت لديهم النص عن الله أو عن رسوله، خالفوا كل ما يهوون أو يشتهون أو يريدون، واتبعوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.(177/53)
رجل شمت عاطساً في الصلاة
موقف آخر أغرب من هذا، إلى رجل آخر، يتصرف في شعيرة عظيمة ألا وهي الصلاة، وبأسلوب عجيب غريب، كما هو شأن كثير من الأعراب، وانظروا إلى أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في مواجهة هذا الموقف، يقول معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه وأرضاه: {بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم في الصلاة، فقلت له يرحمك الله -رجل جاهل ظن أن تشميت العاطس في الصلاة مشروع، فقال له: يرحمك الله- قال: فرماني القوم بأبصارهم -ينظرون إليه على سبيل الاستنكار لما فعل- قال: فقلت: واثكل أمياه -الثكل هو الفقد، أي كأنه يقول: وافقد أمي- ما شأنكم تنظرون إلي؟! قال: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم كأنهم يسكتونني، قال: فلما رأيتهم يصمتونني سكت -كأنه يقول: لما رأيتهم يصمتونني غضبت وتغيرت من فعلهم، ولكني آثرت الصمت فسكت- قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي -أي أفديه بأبي وأمي إعظاماً له وإعجاباً بأسلوبه صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم- يقول: والله ما كهرني -أي ما نهرني ولا تغير علي- ولا ضربني ولا شتمني، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه، قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هي ذكر الله والتسبيح والتكبير وقراءة القرآن} ولم يزد صلى الله عليه وسلم على ذلك، فاطمأن به هذا الرجل وزاد فيه حباً وإعجاباً، ولذلك قدم لهذا الخبر بقوله: والله ما رأيت معلماً قط أحسن منه، ما ضربني ولا كهرني ولا شتمني، وإنما أخبره بالأمر بكل يسر وسهوله، فاطمأن هذا الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانفتحت نفسه لسؤاله، وصار يتذكر الأشياء التي تشكل عليه في أمر دينه حتى يسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: {يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يأتون الكهان -يسأله عن ذلك- قال صلى الله عليه وسلم: فلا تأتهم قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنك-أي إذا تطير الإنسان بشيء في قلبه، فيجب أن يمضي لما أراد ولا يلتفت إلى ما حاك في صدره، وليتوكل على الله- قال: ومنا رجال يخطون، -أي يخطون في الرمل خطوطاً، يدعون أنهم بها يتعرفون على الأشياء والنتائج وأسبابها- قال صلى الله عليه وسلم: كان نبيٌ من الأنبياء يخط؛ فمن وافق خطه فذاك} وهذا على سبيل التعجيز لهم، أي أن هذا النبي لا يعلم خطه، وإنما هو أمر اندرس، ولم يطلع الله تبارك وتعالى عليه أحداً من خلقه، فهيهات هيهات أن يدرك أحد خط هذا النبي، وكأن هذا على سبيل التوبيخ لهؤلاء القوم، وعدم الرضى بفعلهم، وكأنه يقول لهم من أين لكم أن تصيبوا بخطكم؟ هل نزل عليكم وحي أن خطكم يوافق خط هذا النبي؟! فهو على سبيل النهي والتحريم للخط.
{قال: فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كانت لي جارية ترعى غنماً قبل أُحد والجوانية- موضع قرب المدينة فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها قال: وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، قال: فلطمتها أو صككتها صكة -وكأنه يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ما كفارة ما فعلت- فعظم ذلك عليه، قلت: أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتاه بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: فأعتقها فإنها مؤمنة} .
الشاهد من هذا الحديث أن هذا الرجل تكلم في الصلاة بكلام لا يجوز فيها، فشمت من عطس، ثم قال: واثكل أماه! لما صمته الناس، ومع ذلك كان أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم هو ما رأيتم، فأعجب بأسلوبه صلى الله عليه وسلم، وانفتحت نفسه ليسأل عن دينه.
أما لو ووجه مثل هذا الرجل الجاهل بأمر دينه بأسلوب الغلظة والقسوة لربما دعاه ذلك إلى أن يخرج من دينه، أو على الأقل أن يترك ما يجهل من أمر دينه فلا يسأل عنه.(177/54)
الأعرابي والرسول يخطب
إننا نجد أمراً لو قسناه على واقع كثير من المنتسبين إلى العلم اليوم لوجدنا الأمر مختلفاً جداً، انظروا إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة فيما رواه أبو رفاعة قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقلت: يا رسول الله رجل غريب، جاء يسأل عن دينه فيقطع الخطبة، فينزل الرسول صلى الله عليه وسلم من منبره، فيوضع له كرسي قوائمه من حديد على الأرض، فيجلس الرسول صلى الله عليه وسلم على الكرسي، ويقبل على هذا الرجل يعلمه دينه، ويترك الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من شأن الخطبة، ثم إذا انتهى منه، ذهب إلى خطبته فأكملها، هذا أسلوب من أساليبه صلى الله عليه وسلم في تعليم الجاهل.(177/55)
الأسئلة(177/56)
حكم كراهية أهل المعصية
السؤال
يقول السائل: إذا كرهت أولادي في الله وانعزلت عنهم بعد أن قدمت لهم ما بوسعي، ولا أعلم هل كان ذلك التقديم لهم من تربية صحيحة أم لا، فهل تبرأ ذمتي وأستمر فيما أنا عليه؟
الجواب
هذا لا شك يتعلق بموضوع كراهية أهل المعاصي.
وأقول: كراهية ما عليه أهل المعاصي أمر مطلوب حتى قبل أن تقدم لهم شيئاً، فيجب أن تكره ما هم عليه من المعصية، فتحبهم بقدر ما عندهم من الطاعة وتكرههم بقدر معصيتهم، وقد يجتمع للإنسان أحياناً حبٌ وكرهٌ في نفس الوقت، فتحب منه أشياء وتكره منه أشياء، فإذا قدمت ما بوسعك وكرهتهم حينئذٍ فلا أرى في هذا شيئاً، ولكني لا أرى أن ييأس الإنسان ويلقي بالسلاح؛ بل أرى أن يبذل كل ما يستطيع، وإذا عجز هو فليوصي غيره من زملائهم أو مدرسيهم، أو جيرانهم، أو أصدقائهم، ويكثر من الدعاء لهم ويتألف قلوبهم بالأسلوب المناسب، ولعل الله أن يهديهم ويقر بهم عينه في الدنيا والآخرة.(177/57)
نصيحة لموسوس
السؤال
يقول أيضاً: بعض الناس يستمر في الوضوء وإعادة الصلاة حتى يخرج وقت الصلاة، فبم توجهون مثل هذا؟
الجواب
لعلي أشرت إلى نوع من ذلك، وأذكر أنني أعلم بعض الأشخاص -والعياذ بالله- أتاهم الشيطان من جهة الوضوء، فصاروا يكررون الوضوء ويشكون فيه حتى يتعبون فيه أشد التعب، فإذا انتهى أحدهم من الوضوء بدأ بالصلاة بحجة صلاته غير صحيحة وتعب فيها أشد التعب إلى أن وصل بهم الحال إلى ترك الوضوء وترك الصلاة -والعياذ بالله- وهذا غاية ما يريد الشيطان.
فالأمر خطير، ولذلك أقول: على الإنسان أن يعرف أن هذا نوع من الوسواس الذي لا يجوز، والذي قد يودي بالإنسان إلى المهالك، فعليه أن يتوضأ كما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وضوءاً طبيعياً يمر الماء على جسده، إن توضأ مرة أجزأه وكفى، وإن توضأ مرتين أو ثلاث فهي السنة ما خلا الرأس فأنه لا يشرع إلا مسحه مرة واحدة، يبدأ بمقدمة رأسه فيقبل ويدبر -يردهما إلى قفاه ثم يدبر بهما- فهذا هو المشروع في الوضوء.
أما المبالغة في التطهر فلقد علمتم فيها ما علمتم، ورأيتم فيها ما رأيتم، ولعلكم تسمعون بأشياء كثيرة غير ما أشرت إليها.
فعلى الإنسان أن ييسر في أمور دينه، وإذا كان مبتلى بالوسواس فالذي أنصحه به نصيحة أخوية ألا يلتفت لهذا الوسواس لفترة معينة، شهراً أو أكثر من ذلك، وسيجد بعد ذلك أن الشيطان قد خنس وتركه ويئس منه؛ لأن من شأن الشيطان كما وصف الله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] فأنت إذا تعرفت بالشيطان طمع بك، وإذا أعرضت عنه تركك وذهب يبحث عن آخر، فأنصح من ابتلي بشيء من ذلك ألا يلتفت إلى شيء من هذه الوسوسة، بل يتوضأ كما يتوضأ غيره، ويصلي كما يصلي غيره لفترة، وسيجد بعد ذلك أن الأمر صار بالنسبة له طبيعياً.(177/58)
حكم هجران أهل المعاصي
السؤال
يقول السائل: ذكرت في محاضرتك أن التشدد مذموم، وأن التشدد مع الفاسق يوجب له الابتعاد عن دين الله، فهل يعني ذلك عدم الإنكار عليه، وهل يعني ذلك عدم هجر أهل المعاصي والابتعاد عنهم بعد نصيحتهم إذا نصحتهم وحذرتهم، أرجو توضيح ذلك؟
الجواب
أما قضية إنكار المنكر فأقول: إن هذا واجب، لكن كيف تنكر المنكر؟ قد تنكر المنكر بأسلوب يترتب عليه ما هو أشد مما أنكرت، وقد تنكر المنكر بأسلوب يحببك إلى من أنكرت عليه، ودعونا نقف عند الأمثلة التي ذكرتها في المحاضرة، كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل، هل كان يسكت عن المنكر؟ كلا، بل كان ينكر على كل من فعل خطأ لكن ينكر بالأسلوب المناسب، وبالأسلوب الحكيم، فقد أنكر على من تكلم في الصلاة، وأنكر على من بال في المسجد، ولكن كانت طريقته في الإنكار طريقة محببة تدعو إلى القبول والاستجابة، وليست طريقة شديدة تدعو إلى النفور من هذا الأمر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ولكن بالحكمة والأسلوب المناسب.
أما النقطة الثانية: وهي قضية الهجر، فأقول: الهجر أنواع: فإن علمت أن هذا العاصي قد يرتدع بالهجر كان هجره مطلوباً حينئذٍ، كما لو كان شخصاً يجلك ويحترمك ويقدرك فإذا هجرته تضايق من ذلك وأقلع عما هو فيه، أما إذا علمت أن هجرانك لهذا العاصي قد يزيده معصية، ويجعلك لا تنكر عليه شيئاً، ويجعله إن كان يجاملك في الماضي بأشياء ربما لا يبالي بك بعد هجره، فحينئذٍ يكون عدم الهجر أولى من الهجر، فالهجر أمر مصلحي يخضع لنوعية الشخص المراد هجره، وطبيعة الظروف المحيطة به.(177/59)
حكم هجر الأهل هروباً من الفتنة
السؤال
يقول السائل: ما تقول في بعض الشباب الذين كثيراً ما يهجرون أهليهم وأسرهم ويبتعدون عن البيت، بحجة أنهم مع أقرانهم الشباب الطيبين؟
الجواب
الذي أراه أن من واجب الشاب المسلم أن يكون أنموذجاً في كل مكان، وأن يعطي لأهله القدوة الحسنة؛ لأن هذا الشاب مطلوب منه أن يؤدي دوره داخل البيت في إزالة المنكرات، وفي تعليم أهل البيت ما يجهلونه من أمور دينهم، فإذا كان لا يجلس في البيت إلا قليلاً انشغالاً مع أصحابه أو كراهية للجلوس في البيت؛ لأنه قد يوجد فيه بعض الأشياء التي تضايقه، فإن هذا يترتب عليه ضعف تأثيره في البيت، فيزداد ما في البيت من المنكرات والمعاصي، ويصبح في البيت شخصاً عادياً لا تأثير له.
والذي انصحهم به أن يدخلوا مع أهلهم ويشتغلوا بقضاء حوائجهم ويشاركوهم في مناسباتهم، ومع ذلك يحرصون على أن يكونوا مؤثرين بالأسلوب اللين الحسن، فإن العادة أن الكبير قلّ أن يقبل من الصغير، إلا إن كان ممن وفقه الله بقبول الحق ممن جاء به، كبيراً كان أم صغيراً؛ ولذلك عليك ألا تكون قاسياً؛ بل اطرح ما لديك بأسلوب جيد.
ومن الأساليب الجيدة إذا أردت أن تعطي أهلك أو تبلغهم بأمر من الأمور ألا تأتي به من نفسك؛ لأنهم سيقولون حينئذ: أنت لا تفهم شيئاً من أمور الدين، فالحل أن تختار كتاباً لأحد العلماء المشهورين، فيه نفس المسألة التي تريد أن تقولها، فتأتي لأهلك فتقرأ عليهم هذه المسألة من هذا الكتاب، وتقول لهم هذا كلام الشيخ فلان بن فلان؛ لأنهم حينئذ سيقبلون الكلام لا لأنه منك، ولكن لأنه من كلام الشيخ فلان بن فلان، وهذا من الحكمة والموعظة الحسنة.(177/60)
حكم تشجيع القائمين بالسنن
السؤال
يقول السائل: يقال أحياناً للقائم بعمل سنة: أنك متشدد؛ فأرجو إيضاح ذلك.
الجواب
لا ليس متشدداً، بل القائم بعمل سنة من السنن مثاب مأجور على عمله، وهو أولى برسول الله صلى الله عليه وسلم من المفرطين والكسالى والقاعدين.
وأقول بهذه المناسبة: أيها الإخوة، إن استطعنا أن نقوم بالسنن التي يستحب لنا فعلها فبها ونعمت، وينبغي لنا ألا نحرم أنفسنا هذا الخير، فإن لم نستطع فعلى أقل الأحوال علينا أن نكون معينين لمن يقوم بهذه السنة، وعلينا أن نفرح إذا سمعنا من يؤديها ونشجعه على ذلك، ونثني عليه خيراً ليكتب لنا بعض الأجر مقابل تشجيعنا لعمل الخير، فقد قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وهذا من التعاون على البر والتقوى.(177/61)
حكم إتيان الرخص
السؤال
يقول السائل: الإسلام دين اليسر والسهولة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله يحب أن تؤتى رخصه} وبعض الناس إذا عمل بهذه الرخص قيل له: من تتبع الرخص فقد تزندق، فما رأي فضيلتكم بذلك؟
الجواب
أما قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب أن تؤتى رخصه} فهو حديث صحيح، لكن المقصود هنا بالرخص هي الرخص التي تنسب إلى الله، فرخصه، أي: رخص الله تعالى التي رخصها لنا، مثل القصر في السفر فهو مستحب، وقال بعضهم هو واجب، ومثل الجمع في السفر لمن احتاج إلى ذلك، ومثل الفطر في السفر لمن احتاج إلى ذلك، فهذه كلها من الرخص الشرعية، وهناك رخص للمحتاجين والمضطرين معروفة في كتب الفقه.
أما قول بعضهم: من تتبع الرخص فقد تزندق، فلعلهم يقصدون بها من تتبع الرخص الفقهية، بمعنى: أن أبحث في المذاهب الفقهية فإذا وجدت مذهباً يرخص في أمر من الأمور اتبعت هذه الرخصة لا لأنها رخصة شرعية، ولا لأن الدليل معها، ولكن لأن فيها تيسير وأنا أحب الرخص، فآخذ من كل مذهب ما يناسبني من الرخص، وهذا قد يكون فيه نوع من الانحراف بلا شك؛ لأن كل مذهب فيه رخص، فإن شئت أن تأخذ بالمذهب كله بشدائده ورخصه فنعم، وإن شئت أن تبحث في الأدلة الشرعية وتعرف الحلال من الحرام بالأدلة إن كنت أهلاً لذلك، فهذا هو المتعين عليك، أما أن تأخذ بالتشهي ما يروق لك ويعجبك فهذا لا ينبغي ولا يصلح.(177/62)
حكم التشدد بحجة الخوف من الله
السؤال
يقول السائل: بعض الناس يشدد بحجة خوفه من عذاب الله إن لم يعمل بهذا العمل واقتناعه بأنه يلزمه هذا العمل، فبم توجه هؤلاء؟
الجواب
أوجه هؤلاء بالكلام الذي سقته في الكلمة السابقة.
فإذا كنت تخاف من عذاب الله فاعلم أن الذين يعذبون بعذاب الله نوعان: النوع الأول: هم المفرطون في حدود الله من الكفار والفساق وغيرهم.
النوع الثاني: هم المتعدون لحدود الله، وانظر إلى الخوارج مثلاً حيث كانت جباههم دائماً في سجود على الأرض حتى أثر فيها ذلك، فصارت كأخفاف الإبل، وكانوا أمضاغ عبادة وأطلاح السمر، صفر من كثرة الصيام والقيام وقراءة القرآن، فيقرءونه رطباً ولكن لا يجاوز حناجرهم، وقال عنهم صلى الله عليه وسلم: {كلاب النار} وقال: {لو يعلم الذين يقتلونهم مالهم عند الله من الأجر لاتكلوا أو نكلوا عن العمل} وقال: {شر الخلق والخليقة} وقال: {شر قتلى تحت أديم السماء} وقال: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد -أو قتل ثمود-} .
إذن فالمعذبون قسمان: المفرطون في حدود الله، والمتعدون لحدود الله، والمطلوب من المسلم أن يكون وقافاً عند حدود الله لا يتعداها ولا يقصر دونها.(177/63)
حكم الزيادة في النافلة
السؤال
يقول السائل هل الزيادة في النافلة تعتبر تشدداً في الدين -أي: هل الزيادة في السنة الراتبة التي قبل الصلاة وبعدها يعتبر تشدداً- أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
النوافل -أيها الإخوة- على أنواع، فهناك السنن الرواتب وهي معروفة، وهناك نوافل حث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {بين كل أذانين صلاة} أي: بين كل أذان وإقامة سنة، وقال في الثالثة: لمن شاء، وكقيام الليل وما أشبه ذلك، فإذا فعل الإنسان نافلة من النوافل المطلقة التي لم يرد فيها نص خاص، فإن كان هذا الأمر منسجماً مع ما ذكرنا معطياً كل ذي حق حقه، ولم يبالغ في الزيادة في التعبد، فهذا الأمر لا يعتبر تشدداً.
ولكن لو أن إنساناً زاد في ذلك كما يفعله -أحياناً- بعض الصوفية -أو كثير من الصوفية - فتجد أنهم يقومون الليل كله، فلا شك أن هذا الأمر غير مشروع أن يستمر عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم وينام، وقد أرشده الله تعالى إلى ذلك بقوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:2-4] .
إذن فالمبالغة في الإكثار من التعبد بدعة، والمبالغة في ذلك تكون بتعدي المشروع.
وهناك صورة أخرى تعتبر بدعة وهي أن يشرِّع الإنسان نوعاً من العبادة غير مشروعة؛ لأن العبادات توقيفية فلا يخترع الإنسان من عند نفسه عبادة ويداوم عليها، فلو أن إنساناً داوم على لون من الصلوات -غير المشروعة- في يوم محدد وفي وقت محدد كما يفعله كثير من الناس فيما يسمى بنوع من أنوع الصلاة، وقع فيه كلام بين العز بن عبد السلام وغيره من العلماء، وقد تكلم فيه الإمام النووي وابن الصلاح وغيرهم، ويسمون هذه الصلاة: صلاة الرغائب.
فمثل هذه الصلاة وغيرها من الصلوات التي يخترعها الإنسان نقول: لا يجوز أن يبتكر الإنسان من عند نفسه طريقة معينه في التعبد، أما الصلوات المشروعة أو السنن المطلقة، فهذه كلها لا شيء فيها؛ بل يثاب الإنسان على فعلها.(177/64)
حكم ترك الإمامة لمن كان مخلاً ببعض الأركان
السؤال
يقول السائل: أنه كان إماماً يصلي في مسجد، وبعد ذلك يقول: سمعت أن الإمام لابد أن يكون متماً لجميع الأركان فتركت الإمامة، فما شروط الإمامة مع أنني أجيد التلاوة والقراءة؟
الجواب
نعم، أما أن الإمام لا بد أن يكون متماً لجميع الشروط والأركان فهذا لا شك فيه، فالأركان والشروط والواجبات لا بد من الإتيان بها جميعاً، ولكن هذا لا يعني أن الإنسان يترك الإمامة؛ لأنه حتى وإن كان مأموماً يجب عليه أن يأتي بالأركان والشروط والواجبات، ويستحب له أن يأتي بالسنن والمستحبات، فلا أرى أن يترك هذا الإنسان الإمامة اللهم إلا إن كان يوجد في المسجد من هو أجدر منه بالإمامة فهذا أمر آخر.(177/65)
حكم إنكار المنكر
السؤال
يسأل هذا السائل عن قضية حكم إنكار المنكر، وأورد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده} الحديث ويقول الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فهل من رأى منكراً وهو يستطيع أن يغيره فلم يغيره عليه إثم؟
الجواب
أقول: أولاً: يجب أن نفرق بين الدعوة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعل مفهوم الدعوة أوسع من مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد تدعو إنساناً وإن لم تر عليه خطأً، وقد تدعوه ابتداءً إلى أمر من أمور الدين، وقد تدعو الناس عموماً وتشرع لهم ما يهمهم من دينهم، وإن كنت لا تعلم منهم تقصيراً في ذلك أو إخلالاً به، فهذه دعوة.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون لمن قصّر بالإتيان بالمعروف، أو فعل أمراً منكراً، فيجب على من رآه الإنكار عليه، فينكر بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه.
وهنا أحب أن أنبهكم -أيها الإخوة- إلى أنه لا يمكن أن يوجد مؤمن على ظهر الأرض يرى المنكر -ويعلم أنه منكر- فلا يتحرك قلبه البتة، فإذا كانت رؤيته للمعروف ورؤيته للمنكر سواء، فهذا ليس بمؤمن- والعياذ بالله، فأقل مراحل الإنكار هو أن يكره قلبك هذا المنكر، ويعلم الله أنك كاره له.
أما هل يجب على الإنسان أن يغير: فليس بعد قول الرسول صلى الله عليه وسلم مقال لأحد، فيغير بحسب ما يستطيع، وبحسب الظروف التي تحيط به، ولكن قد يكتنف المنكر ظروف تجعل الإنسان يفكر قبل أن يغير، فإن كان يترتب على التغيير منكر أكبر فلا يجب التغيير، كما مر معنا في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فهو فعل منكراً ومع ذلك لم يغيره الرسول صلى الله عليه وسلم في البداية؛ لأن التغيير المباشر كان يترتب عليه أن يلوث المسجد كله، وكان يترتب عليه أن يحبس هذا الرجل بوله وهذا يضر به؛ إضافة إلى أنه يترتب عليه كراهية هذا الرجل للدين وأهله، فإذا ترتب على النهي عن المنكر منكر أكبر منه حرم التغيير، وإذا ترتب عليه منكر مثله فهذا مجال اجتهاد، وإذا ترتب عليه منكر أصغر منه، أو لم يترتب عليه منكر وجب التغيير، ولشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله كلام في ذلك يمكن الرجوع إليه والاستفادة منه.(177/66)
حكم مصاحبة أهل المعاصي بحجة أن الدين يسر
السؤال
كثير من الناس يصاحبون أهل المعاصي، ويقولون: الدين يسر، وماذا في مصاحبتهم ولسنا على طريقتهم، ونحن يجب ألا نكون منغلقين، فما رأيكم في هذا الكلام؟
الجواب
السائل يعرض أسلوب بعض الناس في مصاحبة بعض الأشرار، فإذا قيل لهم في ذلك، قالوا: الدين يسر وسهوله، ويجب أن ندخل مع هؤلاء الناس، وألا نغلق على أنفسنا عنهم، فأقول: أولاً: إن كل معصية يعلم الإنسان أنها معصية -قد سبق الحديث خلال هذه الكلمة- ففعلها ليس هو اليسر؛ بل فعلها هو الحرج والعسر، وتركها هو اليسر، فهذه هي القاعدة، فكل معصية إتيانها ليس هو اليسر، فلا تأت المعصية وتقول الدين يسر، ولو كان الدين حرج لكان من المعقول أن تأتي هذه المعصية، لكن ما دام أن الدين يسر والحمد لله، فيجب أن تعلم أن من يسر الدين أن تترك المعاصي كلها؛ لأن التشديد والتيسير أولاً ليس بالهوى والمزاج والرغبة والتشهي؛ بل هو بالنص.
وثانياً: لأن المسلم يعلم أن الدنيا بعدها آخرة، وأن من العسر كل العسر أن يعرض الإنسان نفسه لعقوبة الله تعالى وغضبه؛ فكل معصية يعلم الإنسان أن فعلها حرج وتركها هو اليسر.
وقد يقول قائل: إن هدفي من هؤلاء القوم هو دعوتهم إلى الله عز وجل، فأقول: إن كان الأمر حقيقة في قرارة في نفسك كما تقول فنعم، ولا بأس أن تخالطهم بالأسلوب الحكيم مخالطة جزئية لتدعوهم إلى الله، شريطة أن يكون رفقاؤك الدائمون من أهل الخير والطاعة والصلاح، وجلوسك مع هؤلاء القوم بشكل استثنائي لتدعوهم إلى الله، وشريطة أن تكون تمارس ذلك فعلاً، فلا تتمنى الأماني وتجلس معهم بهذه الحجة وأنت لا تغير شيئاً، وشريطة أن تكون قادراً على التغيير والدعوة، وتلحظ فيهم شيئاً من الاستجابة، ويجب أن تعلم أن الله مطلع على حقيقة نيتك وقصدك وما تكنه في قلبك.(177/67)
مشكلة اتهام
السؤال
صاحب هذا السؤال تغلب عليه الحيرة، ويقول: أنا طالب علم مسلم أحب الدين، وأحب أن أعمل أعمال الخير، وبعض الطلاب يقولون: إني مراءٍ؛ لأني أحب مطالعة الكتب وسماع الأشرطة الإسلامية، وأحدهم يقول: منافق، وأنا لم أجد حلاً لهذا الكلام، نرجو من فضيلتكم أن تساعدوني على هذا؟
الجواب
أقول: هذا الكلام لا يضر، لأن الإنسان إذا كان واثقاً من طريقه، لا يلتفت إلى المشككين، إنما الذي يلتفت إلى المشككين هو المتشكك من طريقه، إذا كان هناك طريق تسلكه -مثلاً- من البيت إلى المسجد في اليوم خمس مرات، ثم جاءك إنسان، وقال: ليس هذا طريق المسجد، أو ضحك بك، وقال: أنت تريد المسجد: طريق المسجد هذا، وليس الذي تسلكه، لا تلتفت إلى هذا الإنسان؛ لأنك تعلم أنك على الحق، وأنه مشكك، فالواثق من طريقه لا يلتفت إلى تشكيك المشككين وأقول: إن بعض الطلاب قد يكون سبب ما يقوله هو الغيرة، وهذا أمر عرفناه، فقد يكون أحد زملائك يرى أنك تحرص على العلم والقراءة وسماع الخير، وحضور مجالس الذكر، فيحسدك لذلك، ويشهر بك ويصفك بالنفاق أو الرياء كنتيجة للغيرة التي تأكل قلبه، فعليك ألا تلتفت إليه، بل تعامله بالحسنى، وتعفو عنه، وتصفح وتستمر في طريقك.(177/68)
صحبة الأخيار
السؤال
يقول: أنا شاب لي أصحاب أخيار، ولا أزكي على الله أحداً، ولكن يأتيني في بعض الأحيان نزوات تجعلني أتركهم ما سبب ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
صحبة الأخيار هي من أهم المعينات على ثبات الإيمان، انظروا إلى وصية الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] قد يكون الذي يصدك عن هؤلاء الأخيار صديق سوء، يحاول أن يوسوس لك بتركهم، فهذا نقول له: لا تطعه، كما قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28] وقد يكون الذي يصدك عنهم: نقص في نفسك، فعليك أن تعلم أنه لن يسد هذا النقص إلا طول صحبتهم ومجالستهم، وقد يكون الذي يصدك خطأ موجود عندهم، فيجب أن تعلم أن الأخ لا يسلم من خطأ لا بد أن تحتمل خطأه، ويحتمل خطأك، وإلا فلن تستطيعوا أن تعيشوا جميعاً، وعليك أن تثبت نفسك معهم، وتكون عضواً فعالاً نشيطاً، حتى يوفقك الله، ويستمر هذا الإيمان، وتثبت عليه حتى الموت إن شاء الله تعالى.(177/69)
التهاون في الذنوب
السؤال
هل يعتبر من تيسير الإسلام أن يفعل كثير من الناس كثيراً من المعاصي، ويقولون: إن الله غفور رحيم، أو لو لم يكن لدينا من الذنوب إلا هذا فهو بسيط، أرجو إلقاء الضوء على هذه الناحية أثابكم الله وزادكم علماً وتوفيقاً؟
الجواب
أما قضية أنه من التيسير، فنحن اتفقنا أن التيسير ليس بالشهوة، إذا اشتهينا شيئاً قلنا هذا من التيسير، وإذا كرهناه تركناه، التيسير دين، ما جاء في النص فهو تيسير، وما منع منه ففعله حرج وإثم ولا يجوز، هذه هي القاعدة التي ننتهي إليها عليها، ففعل المعاصي هو الحرج بعينه، أرأيتم هل هناك حرج أعظم من أن يوجع الإنسان نفسه في سخط الله؟! أو يعرض نفسه لعذاب الله؟! إذا كنت يا أخي مؤمناً بالبعث وبالجنة والنار وعارفاً؛ أنك ستقف بين يدي الله تعالى، فأنت حينئذ مدرك أن الحرج كل الحرج في فعل المعصية، وأما من يحتج بأن الله غفور رحيم فهذا مثل من يقرأ قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] ويسكت، ويأتي من الآية بنقيض ما تري؛ في حين أن الآية يقول الله تعالى فيها: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] فيعد من سهى عن الصلاة وتخلف عنها هو عكس المعنى ووقف عند قوله فويل للمصلين.
نقول إن الله غفور رحيم وهو شديد العقاب، يقول تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وأن وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] وقال: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165] لو علم الإنسان سعة رحمة الله لطمع في جنته كل أحد، ولو علم الإنسان شدة عذاب الله لما طمع في النجاة أحد، فالله شديد العقاب، وهو غفور رحيم، ورحمة الله لا تنال إلا بالعمل الصالح وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا} [الأعراف:156] يكتبها لمن؟! للنائمين!! الناعسين!! الكسالى!! الذين تمنوا على الله الأماني!! كلا قال تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ.
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157] .(177/70)
الفتاوى الغريبة
السؤال
بعض الشباب يتندر -دائماً- بفتاوى غريبة يجدونها لبعض أهل العلم، ويرون اتباعها من التيسير في الإسلام، فما رأيكم؟
الجواب
الحقيقة أنا فهمت من أول السؤال فهماً، وفهمت من آخره فهماً آخر؛ لأنه في أوله يقول: يتندر بفتاوى غريبة، ومعنى يتندر: يجعلها من النوادر، أي من الحكايات التي يضحك منها -هكذا افهم- وفي آخر السؤال يقول: ويرون اتباعها من التيسير في الإسلام، فإن كان المقصود من المعنى الأول أنهم يتناقلون فتاوى غريبة لبعض العلماء ويضحكون منها، فأقول: كتب الفقهاء رحمهم الله كثيرة جداً، وقد أستفرغوا وسعهم في خدمة هذا الدين، وكتابة المسائل وإيجاد الحلول لها على وفق اجتهادهم وما يبلغ إليه علمهم، وهم ليسوا معصومين من الخطأ بحالٍ من الأحوال، ولكن لا يجب أن تتخذ أخطاء العلماء فكاهات يتندر بها في المجالس، ويضحك منها، فإن كان في بيانها مصلحة للآخرين كالتحذير منها، فهذا قد يكون لا بأس به والله أعلم، خاصة لو كانت هذه من الأخطاء والشذوذات المشهورة، أما إن كان مقصود السائل المعنى الثاني وهو أنهم يأخذون ما يعجبهم من فتاوى العلماء، ويرون أنه من التيسير، فقد سبقت الإجابة على هذا السؤال قبل السابق.(177/71)
أخذ الأيسر من أقوال أهل العلم
السؤال
فضيلة الشيخ، يظن بعض الناس أن اتباع الأيسر من فتاوى أهل العلم، دارج على قاعدة التيسير، مع أنهم لا يلتزمون شيخ بعينه أو مذهب معين، أجيبونا أثابكم الله؟
الجواب
إن بعض الناس يأخذون من الأحكام والفتاوى ما يناسبهم ويسهل عليهم، ويرون أن هذا من يسر الدين، وهؤلاء الناس هم أحد صنفين: إما أنهم طلاب علم، ويملكون معرفة الأدلة والبحث في كل مسألة، فهؤلاء لا يجوز لهم أن يأخذوا بالأسهل، بل عليهم أن يبحثوا؛ حتى يترجح عندهم بالدليل الصحيح قول من الأقوال، فيعملوا به، بغض النظر عما إذا كان أسهل، أو أشد.
الصنف الثاني: أن يكونوا من العوام ممن لا يملكون البحث ولا طلب العلم، فهؤلاء حكم العلماء وأهل الأصول بأن شأنهم التقليد، فينظر إلى عالم من العلماء الذين يثق بعلمهم ودينهم، وعفافهم وصيانتهم، ويتابعه فيما يشكل عليه من أمور دينه، ويأخذ فتواه ما يرى منها صعباً وما يرى منها سهلاً، أما أن تسأل هذا الشيخ عن مسألة، فإذا أفتاك بما تحب أخذت به، وإذا أفتاك بما تكره ذهبت إلى غيره، فهذا يخشى أن يكون فيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إن أفتاكم بما تحبون فأقبلوا، وإن أفتاكم بغير ذلك، فاحذروا، فالمسلم قد عقد العزم على المتابعة لله، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره، وكلمة الإسلام غالية، وليس مجرد كلمة تقال باللسان.(177/72)
العادة والشرع
السؤال
يرى بعض كبار السن أن ما درجوا عليه من عادة هو الشرع، وإذا رأى من أولاده خلاف ما اعتاده شنع عليهم، ما رأيكم في ذلك؟
الجواب
هذا أيضاً سبق الإجابة عليه أثناء هذه الكلمة، فالمسلم لا يعبأ لا بالمعروف ولا بالعرف، ولا بما درج عليه الآباء والأجداد، وإنما شأنه وديدنه اتباع النص، وكما يقولون: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ويقول الآخر: دعوا كل قول عند قول محمد فما آمنٌ في دينه كمخاطر فالمتبع للسنة آمن في الدين، أما الذي يتبع الأهواء والمألوف فهو مخاطر، ولذلك أقول ليس عرف الآباء والأجداد من مصادر هو التشريع، مصادر التشريع هي: القرآن والسنة والإجماع والقياس الصحيح، وما تبع ذلك من المصادر التي عدها الأصوليون وأقروها، أما الرؤى والأحلام والقياس الفاسد، والرغبة والهوى، والأشياء التي أخذناها عن الآباء والأجداد، فهذه كلها ليست من مصادر التشريع، ولا تحل حراماً، ولا تحرم حلالاً، ولذلك أحذر إخواني من التأثر بذلك، وقبل أن أترك الجواب عن هذا السؤال أحب -أيضاً- أن أشير إلى ناحية أخرى؛ قد يكون هناك أمور كثيرة درج الناس على خلافها، فاعتادوا غيرها، فيأتي طالب علم يعلم أن هذه الأشياء لا بأس فيها، فقد يصادم الناس بأمور لم يتعودوها، فيترتب على ذلك مفاسد، وتثور فتن في أمور بسيطة، ولذلك تجد -مع الأسف- المسلمين مشغولين بقضايا تافهة؛ لأنها ليست من الدين أصلاً، إنما هي من عقولهم حاولوا أن يبحثوا لها عن أدلة، فهم مشغولون في أمور فلكية، أو في صناعات، أو في أمور طبية، أو اجتماعية أو غيرها ليس لها حكم في الإسلام، بل هي من الأمور المسكوت عنها، المتروكة لاجتهاد البشر، ومع ذلك تثور المعارك بينهم من أجل ذلك، فالأولى بطالب العلم أن يكون حكيماً في إيصال ما لديه من العلم إلى الناس، وألا يصادم العامة بما يكرهون، حتى لا يصيبه ما يكره، وحتى يقبلوا منه ما عنده من الحق، والإنسان يجب أن يأتي الأمور من أبوابها.(177/73)
التهاون في ترك صلاة الجماعة
السؤال
فضيلة الشيخ مما نشاهده الآن -وللآسف الشديد- التهاون بأداء صلاة الجماعة في المسجد عند كثير من الناس، ويدعي أنه يصلي في البيت بحجة أن الإسلام يسر وليس بعسر، ما توجيهكم لذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الإجابة على هذا السؤال سبقت، فقد ذكرت لكم أن الله عز وجل لما أمرنا أن نجاهد فيه حق جهاده، عقب على ذلك وقال: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] إذاً فالجهاد حق الجهاد ليس فيه حرج، لأنه من أمر الله، والله يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى في الشريعة وفي العقيدة وغيرها، فصلاة الجماعة يسر لا حرج فيها ولا مشقة، وكل ما في الأمر أن المسلم الذي فهم معنى الإسلام حقيقة عليه أن يعرف هل هذا الأمر من الدين أم لا؛ فإذا كان من الدين لا يدخل أهواءه في ذلك، وإذا لم يكن من الدين فالمجال أمامه مفتوح أن يفعل أو لا يفعل، فعلى سبيل المثال: صلاة الجماعة في القرآن والسنة لها أدلة كثيرة جداً تدل على وجوبها، وليس هذا مجال بسطها، ويكفي منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأعمى: {أجب} وقوله صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: {لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة مع الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار} إنَّ المشفق على هذه الأمة والحريص عليها والرحيم بها يحرق أو يهم بتحريق قومه بالنار، وما هم بتحريقهم إلا لفعلهم جرماً عظيماً، وصلاة الجماعة تفعل حتى حال القتال والمسابقة، كما في صفة صلاة الخوف الكثيرة، ولذا صلاة الجماعة واجبة، على القول الصحيح عند جمهور العلماء والصحابة والتابعين، وإذا علم المسلم أنها واجبة، فليس عنده خيار أن يقول: إن الله كلفنا المشقة، اللهم لو كان هذا الإنسان كبير السن؛ لا يستطيع أن يسير إلى المسجد إلا بكل كلفة وصعوبة، أو يشق عليه هذا الأمر من مرض أو من غيره من الأسباب الطارئة، أما المسلم المعافى القادر، فليس له عذر بحال من الأحوال، وصور نفسك مكان عبد الله بن أم مكتوم، أعمى، بعيد الدار، ليس له قائد يلازمه، وبينه وبين المسجد وادٍ كثير السباع والهوام، يجيبه الحريص على الأمة والمشفق عليها بقوله: {أجب} .(177/74)
الفرقة الناجية والفرقة الضالة
تكلم الشيخ عن أهمية طلب العلم وأن هناك صفات للخوارج وغيرهم من أهل البدع، وفرَّق بينهم وبين الفرقة الناجية التي تأخذ بالكتاب والسنة على فهم الصحابة، وختم بذكر أنواع الناس من حيث الانتفاع بالوحي وضعفه وعدمه.(178/1)
أهمية طلب العلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: نتكلم في هذا الدرس -إن شاء الله- عن إشارات تربوية في السنة النبوية، وفي اعتقادي أن طالب العلم لا ينبغي أن يكتفي بأخذ الأحكام والحلال والحرام، وهذا وإن كان لا بد منه إلا أنه لا يكفي وحده، فأنت حين تقرأ القرآن الكريم تجد أن الله عز وجل ينزل آية الوعيد بادئةً ببيان حكم من الأحكام، وكذلك آية الرحمة، فإذا حرَّم أمراً عقب عليه بذكر عقاب الله تعالى وأخذه للعصاة، وإذا أوجب أمراً عقب عليه بذكر الجنة ونعيمها وما أعده فيها، وذلك من أجل أن يكون قلب الإنسان مستعداً لتلقي الأحكام الشرعية.
ومن حكمة الله: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة، وهو يدعو إلى العقيدة، ولم ينزل من الأحكام إلا القليل، فلما هاجر إلى المدينة وقوي الإيمان في نفوس الناس، وصار لديهم استعداد قوي لتنفيذ الأوامر، وصار الواحد منهم كالجندي في المعركة ينتظر الأوامر لينفذ، بدأت الأحكام تنزل بكثرة حتى نزل في المدينة كثير من الأحكام الشرعية التفصيلية، وهذا يؤكد أن طالب العلم مع شدة حاجته إلى معرفة الحلال والحرام والأحكام التفصيلية، أيضاً حاجته أشد إلى معرفة الأمور القلبية، والأشياء التي تزيد من حرصه على التطبيق والتنفيذ، ومن تباعده عن مخالفته لأوامر الله عز وجل، وتجعله أكثر انتفاعاً بالقرآن والسنة.(178/2)
وصف الخوارج
وهناك أحاديث كثيرة جداً، فيها فوائد عظيمة في هذا الموضوع، وأذكر منها الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في وصف الخوارج حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: {يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية -ثم قال صلى الله عليه وسلم في كلام عجيب بليغ- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يرى فيه شيء، وينظر إلى رصافه فلا يرى فيه شيء، وينظر إلى نضيه فلا يرى فيه شيء، وينظر إلى قدحه فلا يرى فيه شيء، قد سبق الفرث والدم} .
أولاً: الكلمات والمعاني الموجودة في الحديث، بقوله صلى الله عليه وسلم: {يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم} ما معنى كونه لا يجاوز تراقيهم؟ خلاصة كلام العلماء وشراح الحديث في تفسير هذه الكلمة، أمران:(178/3)
عدم فهم الخوارج لمعاني النصوص
الأمر الأول: أن هؤلاء القوم يقرءون القرآن، ولا يفهمون معانيه، ولا يتدبرونه، ولا ينتفعون به، بل ما وجدوا من القرآن مما يناسبهم أخذوا به، وما وجدوا مما يخالف ما هم عليه اشتغلوا بتأويله وصرفه عن ظاهر معناه، فمثلاً: إذا سمعوا قول الله عز وجل: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:14-16] قال الخوارج: هذا دليل على أن كل من عصى الله فهو كافر مخلد في النار، وأن من دخل النار لا يخرج منها، حيث قال تعالى: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:15] أي: لا يصلاها إلا البالغ الغاية في الشقاء: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:16] .
فدل هذا عندهم على أن من دخل النار لا يخرج منها، وبذلك أنكروا خروج عصاة الموحدين من النار إلى الجنة، وهذا أمر ثابت متواتر بالقرآن والسنة، وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والشفاعة أمر ثابت بالقرآن والسنة، وحكموا بكفر مرتكب الكبيرة، أو مرتكب المعصية، أخذاً بهذه الآية، وكأنهم لم يقرءوا في مقابلها قول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] ثم قال في الآية التي تليها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] .
فإن الله تعالى قد أثبت للمتقاتلين الإيمان والأخوة: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الحجرات:9] فأثبت لهم الإيمان، وأثبت لهم الأخوة: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] .
فدل هذا على أن الإنسان قد يقع في المعصية، ومع ذلك لا يكفر إلا أن تكون هذه المعصية هي الشرك والعياذ بالله فالشرك بالله مخرج من الإسلام، أما المعاصي فهي من أمر الجاهلية كما قال الإمام البخاري: باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر بها صاحبها إلا بالشرك، فالخوارج أخذوا ما يناسبهم، ويناسب مذهبهم فيما يزعمون، وهو قوله تعالى مثلاً: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] أو {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن:23] ونسوا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] وهو القاتل هاهنا والمقتول، فاعتبرهم إخوه، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.
بل من أصرحها قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] .
فهذا هو الوجه الأول في معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا يجاوز تراقيهم} أي: لا يفهمون معانيه ولا يتدبرونه ولا يعملون به.(178/4)
لا يرفع لهم أجر
والوجه الثاني: أن قوله: {لا يجاوز تراقيهم} معناه: لا يرفع لهم أجره ولا يكتب لهم ثوابه، فهم يقرءون القرآن وعملهم هذا حابط عليهم، وليس لهم، فالقرآن لا يجاوز تراقيهم لسببين: الأول: وكلا المعنيين صحيح، فيقال: إنه لا يجاوز تراقيهم ولا يكتب لهم أجرهم، لماذا؟ لأنهم لم يقرءوا القرآن ليعرفوا الحلال والحرام، والحق والباطل، والهدى والضلال، بل قرءوا القرآن ليعلموا ما يوافق بدعتهم في الظاهر، فيؤلونه على ما يريدون، وأما ما يخالف بدعتهم فيردونه ويئولونه، فما يوافق بدعتهم يأخذونه كما يريدون، وما يخالف بدعتهم يؤولونه ويصرفونه عن ظاهره، ولذلك لا يكتب لهم أجره.(178/5)
مروقهم من الدين
ثم قول النبي صلى الله عليه وسلم: {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} فما المقصود بالرمية؟ المقصود بالرمية: هي الشيء المرمي، فهي كما يقول أهل اللغة: فعيل بمعنى مفعول أي: المرمي، والشيء المصيد.
فهم يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، وكيف يمرق السهم من الرمية؟ بين لك الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يمرق السهم من الرمية، والعرب: لهم طريقة خاصة في صناعة السهام معروفة لدى بعضكم، وهي تجعل السهم إذا أصاب طائراً فإنه ينفذ فيه ثم يخرج بسرعة شديدة جداً، حتى أنك تأخذ السهم بعد ما خرج من الرمية، فتنظر في نصله -وهي الحديدة- فلا ترى فيه شيئاً من دم، وتنظر في رصافه وهو العصب الذي يعصب فيه السهم فلا ترى فيه شيئاً من الدم ولا من الفرث، وتنظر في نضيه: وهي الخشبة التي تبرى حتى تصبح دقيقة جداً فهو نضي بمعنى دقيق ضعيف، فلا تجد فيها شيئاً من أثر الفرث والدم، وتنظر في قدحه -أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {في قذذه} وهو القدح، وهو ريش السهم- فلا تجد فيه أثراً لهذه الأشياء.(178/6)
خلاصة التشبيه
وخلاصة هذا التشبيه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبه هؤلاء القوم لسرعة دخولهم في الإسلام، ثم خروجهم منه بالسهم الذي دخل في الطير المصيد بسرعة فائقة، وخرج منه قبل أن تتفجر العروق والشرايين بالدم، وقبل أن يصيبه شيء من ذلك، فتنظر في السهم بعد أن خرج من الصيد فتتعجب، ليس فيه دم ولا فرث، ولذلك عقب الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث بقوله: {قد سبق الفرث والدم} أي: هذا السهم الذي رمي خرج بسرعة، وسبق الفرث والدم فلم يصبه شيء منه، وهكذا هؤلاء القوم دخلوا في الإسلام بسرعة وخرجوا منه، وقرءوا القرآن وخرجوا منه ولم يتأثروا به.(178/7)
عموم الحديث في أهل البدع
وهذا -أيها الإخوة- ليس خاصاً بالخوارج فقط، بل هو عام في سائر أصحاب البدع، ولذلك نبينا صلى الله عليه وسلم لما ذكر الفرق الضالة قال: {افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار -ومن هؤلاء الفرق الخوارج الذين هذا شأنهم- إلا واحدة وهي: ما أنا عليه وأصحابي -وفي رواية: الجماعة-} وقد صح الحديث بهذين الوصفين، والحديث ورد بصور عدة، حيث وصفهم: {بالجماعة} و: {ما أنا عليه وأصحابي} ووصف ضدهم -يعني الفرق الضالة- بما تقدم.(178/8)
خصائص الفرقة الناجية في تلقي نصوص الوحي
إذاً: الفرقة الناجية ما هي طريقتها في أخذ القرآن والسنة؟ ما هي طريقتها في تلقي نصوص الوحي؟ طريقتها هي طريقة الجيل الأول؛ لأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هم الذي اتفق العلماء على أنهم الفرقة الناجية، ومن كان على ما كانوا عليه.
فانظر إلى أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام كيف كانوا يأخذون الوحي والقرآن والسنة، وفي هذا المجال يشار إلى أربع خصائص أذكرها باختصار:-(178/9)
معايشتهم لوقت التشريع
أولاً: أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا معايشين للنبي صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر والظعن والإقامة، فكانوا يعرفون الملابسات والأسباب التي نزلت فيها النصوص، ولذلك كانوا أكثر الناس إيماناً بالنصوص، وأكثر الناس فهماً لها رضي الله عنهم، وهذه قضية مهمة جداً، بحيث يقال: كل فهم للقرآن والسنة مخالف لفهم الصحابة فهو مردود على صاحبه، ولا يقال: هؤلاء رجال ونحن رجال؛ لأن الله زكاهم، والرسول صلى الله عليه وسلم زكاهم، فكل فهم للقرآن والسنة مخالف لفهم الصحابة فهو مردود على صاحبه.(178/10)
فصاحتهم
ثانياً: أنهم كانوا عرباً أقحاحاً فصحاء، يعرفون معنى القرآن والسنة، ولم تختلط ألسنتهم بشيء من العجمة أو اللكنة التي دخلت فيمن بعدهم، فكانوا يفهمون المعاني المرادة بلغة العرب، بخلاف من جاءوا بعدهم.(178/11)
سلا متهم من البدع والأهواء
ثالثاً: أن الله عز وجل حماهم وعصمهم من أن يتلبس أحد منهم بشيء من البدع، فقد انتهى جيل الصحابة، ولم يقع واحد منهم في بدعة من البدع على الإطلاق، ولذلك فهم حين يفهمون من القرآن أو من السنة شيئاً يفهمون أن هذا هو مراد الله، ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس تعصباً لبدعة أو هوى، بخلاف كثير ممن جاءوا بعدهم، فقد بدءوا يميلون بالنصوص يميناً وشمالاً لتوافق أهواءهم.(178/12)
قرب عهدهم بالوحي
رابعاً: أن قرب عهدهم من وقت التشريع أعفاهم من سلسلة الإسناد الطويلة، فكانوا يأخذون مباشرة، فيسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، أما من جاء بعدهم، وخاصة من المتأخرين، فقد جاءت الأسانيد، ولذلك تجد أن العلماء يختلفون في تصحيح الحديث أحياناً أو تضعيفه، والتبس على كثير من الناس الحق بالباطل، بل وصل الحال ببعض الجهال إلى ألا يقبل كثيراً من الأشياء الواردة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: أن هناك أحاديث ضعيفة قد يكون هذا منها، ولا يأخذ بكلام أهل العلم الذين صححوا هذا الحديث.
ولذلك يقول عبد الله بن عباس كما في مقدمة صحيح مسلم: [[كنا إذا سمعنا أحداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا]] أي: من شدة تلهفهم إلى معرفة السنة، سمعوا أحداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارهم.
ولذلك كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه مع أنه من صغار الصحابة، يروي كثيراً من الأحاديث، وهي ما يعرف بالمراسيل، والمراسيل التي رواها ابن عباس عن غيره من الصحابة: عن أبي هريرة، وعن الفضل بن العباس، وعن ابن عمر، وعن غيرهم من الصحابة كثيرة، حتى قيل: إنه لم يروِ عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، إلا نحو أربعين حديثاً، وما عدا ذلك فهو من المراسيل.
فيقول ابن عباس رضي الله عنه: [[فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما نعرف]] .
فهذه أربع خصائص لجيل الصحابة رضي الله عنهم.
فالخاصية الأولى هي: معايشتهم لوقت التشريع، ومعرفتهم بأسباب النزول.
الخاصية الثانية هي: فصاحتهم.
الخاصية الثالثة هي: سلامتهم من البدع والأهواء.
الخاصية الرابعة هي: قرب عهدهم بالوحي وعدم حاجتهم إلى سلسلة الإسناد التي قد يلتبس على بعض الناس الصحيح بغيره.
ولذلك نقول: إن فهم الصحابة رضي الله عنهم للقرآن والسنة هو الفهم الصحيح الذي يجب أن يكون مقياساً لمن جاء بعدهم من الناس، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في وصف الفرقة الناجية: {من كان على ما أنا عليه وأصحابي} .(178/13)
أصناف الناس بالنسبة لانتفاعهم بالوحي بعد جيل الصحابة
وإضافة لهذا الحديث نقف الآن بإيجاز عند أصناف الناس الذين قل انتفاعهم بالوحي أو انعدم، ولم يهتدوا بهداية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم ينتفعوا من الوحي، إما أنهم لم ينتفعوا بالكلية أو أنهم انتفعوا انتفاعاًً جزئياً.(178/14)
عدم الانتفاع بالوحي بالكلية
أما الذين لم ينتفعوا بالكلية فهم الكفار الذين ردوا وحي السماء جملة وتفصيلاً، وقد ذكرهم الله تعالى بقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] فهم لا يستفيدون من الآيات الشرعية ولا من الآيات الكونية، فأما الآيات الكونية، فمثل ما يرون في الكون وفي الأنفس من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته، وأنه هو المستحق للعبادة، فلا ينتفعون بذلك، بل ينظرون إليها، ويقولون: إنها خلقت باطلاً أو لهواً وعبثاً، كما قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27] فهم لا يستفيدون من الآيات الكونية ومن رؤيتهم للأرض أو للشمس أو للقمر أو للسماء أو للإنسان وما فيه من بديع الصنع.
وكذلك لا يستفيدون من الآيات الشرعية، والمقصود بالآيات الشرعية، القرآن الكريم، فهم لا ينتفعون به، ولا يزيدهم إلا خساراً، كما قال تعالى: {وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82] فهم لا يزيدهم نزول القرآن إلا بعداً؛ لأنهم يكذبون به، وكلما كذبوا بوحي جديد زاد كفرهم، ولجوا في العناد، ولأنهم يجهدون في الرد عليه وصد الناس عنه وتحذير الناس منه، فيزدادون كفراً إلى كفرهم، وهؤلاء هم الصنف الأول، وهم الذين حرموا هداية الوحي ونفعه، وهم الكفار، وحرمانهم منه حرمان كلي مطلق، والعياذ بالله.(178/15)
الانتفاع الجزئي بالوحي
والصنف الثاني: هم من حرموا من هداية الوحي من بعض الوجوه دون بعض، بمعنى أنهم مسلمون في الجملة، لكن عندهم مانع حال بينهم وبين الانتفاع بنصوص الوحي كما ينبغي، ولو في جانب من الجوانب، وهؤلاء أصناف من الناس.
الصنف الأول: هم أهل الأهواء والبدع الذين استقرت في نفوسهم البدعة والهوى، وصاروا يقرءون في القرآن والحديث ليبحثوا عما يؤيد بدعتهم، ويلتمسوا منها ما يناسبهم في ذلك، وهؤلاء فيهم شبه كبير من الصنف الأول -الكفار- في عدم استفادتهم من الوحي.
ولذلك قرن الله تعالى بين هذين الصنفين في كتابه، ولو التفتنا إلى الآية لوجدنا هذا ظاهراً، فبعد أن ذكر الله عز وجل في الآية السابقة الكفار من أصحاب النار الذين ذرأهم لجهنم من الجن والإنس، والذين لم يستفيدوا من عقولهم، لا بالآيات الشرعية ولا بالآيات الكونية، وقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] عقب بقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180] فجمع بين الذين يلحدون في أسماء الله عز وجل وبين الكافرين، سواء كان هذا الإلحاد في أسماء الله كأن يسمى غير الله بها، أو بصرفها عن معانيها الظاهرة إلى معانٍ غير صحيحة، أو بتسمية الله عز وجل بأسماء ليست صحيحة لم يسم بها نفسه ولا سماه بها رسوله، أو غير ذلك من ألوان الإلحاد، فهذا نوع من الهوى.
ولذلك كان من أصحاب الأهواء المعتزلة والجهمية وغيرهم من الذين أولوا أسماء الله وصفاته عن معانيها الحقيقية إلى معانٍ أخرى مجازية، ومنهم من قال: إن هذه الأسماء هي أعلام لا تدل على صفة، وكوننا سمينا الله بالرحمن الرحيم، لا يعني وصفه بالرحمة عندهم، وهؤلاء هم المعتزلة، وإنما هي مجرد علم، كما يسمى الإنسان محمداً أو عبد الله، فألحدوا في الاسم ونفوا عنه الصفة التي يأخذها ويدل عليها، فهؤلاء -أيضاً- حرموا من هداية الوحي من هذا الباب، واستسلموا لفكرهم وأهوائهم، أو استسلموا للفلسفات اليونانية التي أفسدت على المسلمين كثيراً من علومهم.
وقال سبحانه في آية أخرى عنهم: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] فبين أنهم يتبعون المتشابه، في حين أن أهل العلم والإيمان يحملون المتشابه على المحكم ويردونه إليه، فيسلمون من اتباع المتشابه.
ولذلك عقب بقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران:7] وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، وهي قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)) [آل عمران:7] ثم قال: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فأحذروهم} .
ولذلك تجد أن أهل البدع كلهم قد يستدلون بالقرآن، أو بالحديث على بدعتهم وهم يستدلون بعمومات ونصوص متشابهة كان عليهم أن يردوها إلى النصوص الظاهرة البينة.
وقد رأيت بعض الضالين المنحرفين ممن يكفرون سواد المسلمين، ويقولون: إن أتباع المذاهب الأربعة كفار، فلما نوقشوا في هذا القول وما دليلهم، قالوا: إن الله يقول: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] فوصف الذي فرقوا دينهم وكانوا شيعاً بأنهم من المشركين، وأهل المذاهب الأربعة هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فهم مشركون.
ولذلك يتجنبون الصلاة خلفهم، فلا يصلون معهم جمعة ولا جماعة، بل ولا يعتمدون على المسلمين في رؤية هلال رمضان، ولا في رؤية هلال ذي الحجة، ولذلك قد يصومون قبل المسلمين، وقد يقفون بعرفة قبل العيد أو بعده، وكل هذه الضلالات -وأعظم منها وقوعهم في تكفير سواد المسلمين- بسبب شبهة عرضت لهم أو نص عام لو ردوه إلى النصوص الخاصة الصريحة لسلموا من هذا الانحراف.
ومع الأسف إن الإنسان إذا تشبع قلبه ببدعة يصعب عليه أن يخرج منها، خاصة إذا كانت هذه البدعة بدعوى أنه يرجع إلى الكتاب والسنة، كما سولت لهم أنفسهم، فهؤلاء ممن حرموا من هداية القرآن والسنة في كثير من جوانب حياتهم، وهم أهل الأهواء.
الصنف الثاني الذين حرموا من هداية القرآن والسنة في كثير من جوانب حياتهم: هم الذين انصرفوا عن تعلم الدين واشتغلوا بالدنيا عن الآخرة، والاشتغال بالدنيا عن الآخرة من سيما الكفار، قال الله عز وجل في وصف الكافرين: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم:2-3] وقال سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16-17] وقال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً.
فالذي يؤثر الدنيا ويتعب من أجلها، ويغفل عن تعلم علم الشرع الذي لا بد له منه، قد حرم من كثير من هداية الوحي ونصوصه، وهو عبد لهذا الشيء الذي شغل نفسه في طلبه؛ وكما في صحيح البخاري عن أبي هريرة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش} فيدعو الرسول عليه الصلاة والسلام عليه، وهذا الحديث عظيم جداً ولابد أن نقف عنده، لكن المقصود والشاهد منه الآن هو قوله: {عبد الدرهم، عبد الدينار} فليست العبودية فقط أن يجعل الإنسان له صنم ويصلي إليه، أو أن يطوف بقبر.
ومن أنواع العبودية أن يتجه القلب ويتأله لغير الله، فمثلاً: الذي يؤثر الدنيا على الآخرة، ويقدمها عليها عبد للدنيا، فكيف يؤثر الدنيا على الآخرة؟! هو أن يشتغل بالدنيا عن الصلاة، أو يشتغل بالدنيا عن الصيام، أو يشتغل بالدنيا عن فعل الواجبات، أو تدعوه الدنيا إلى فعل الحرام.
كأكل الربا، والسرقة، والنهب، وما أشبه ذلك من الأشياء، فإذا قدم الدنيا على الدين في مثل هذه الأشياء، فقد وقع في شيء من العبودية للدنيا قل أو كثر، ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى: {عبد الدرهم، عبد الدينار} وكأنه جعل هذا الدينار أو الدرهم أمامه وصار يتعبد له، لأن العبودية في الأصل هي خضوع القلب وذله وانقياده، فمن انشغل قلبه بشيء فهو عبد له.
الصنف الثالث من الذين حرموا من الانتفاع بالوحي هم: أهل التقليد، الذين يقدمون آراء الرجال وأقوالهم على كلام الباري جل وعلا وعلى كلام المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم، وهم بذلك يخالفون قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وقول الأئمة الذين قلدوهم.
فأما مخالفتهم لقول الله فإن الله تبارك وتعالى أمر بطاعته، وطاعة رسوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92] {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3] ونعى سبحانه على أهل الكتاب طاعتهم للأحبار والرهبان في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] وتفسيرها الذي لا إشكال فيه، كما يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ هو ما فسرها به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه وأحمد وغيرهما.
{عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله! ما كنا نعبدهم، قال: أليسوا يحرمون عليكم الحلال فتطيعونهم؟ قال: بلى.
قال: ويحلون لكم الحرام فتطيعونهم؟ قال: بلى.
قال: فتلك عبادتهم} .
وقد عقد الإمام محمد بن عبد الوهاب لهذه الآية باباً نفيساً في كتابه: كتاب التوحيد عنوانه: باب من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله، فارجع إلى هذا الباب، وارجع إلى شرحه في كتاب فتح المجيد فإن فيه كلاماً مفيداً.
وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه أيضاً أمر باتباع الكتاب والسنة، وقال: {ألا إني أوتيت القرآن، ومثله معه} وأنكر على من رد سنته، وقال: {ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: ما وجدنا في كتاب الله أخذناه الخ} .
فأمر بطاعة الله، وجعل طاعته صلى الله عليه وسلم من طاعة الله.
وكذلك العلماء الذين يقلدونهم كانوا مجمعين على أنه لا يجوز لأحد عرف السنة أن يخالفها لقول أي عالم من العلماء، يقول الإمام الشافعي رحمة الله: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: أجمعوا على أن المقلد ليس من(178/16)
السهام الأخيرة
إن معركة الإسلام ومواجهته للحرب الضروس من قبل أعدائه، وتكالب أمم الكفر عليه، واستخدام الحكام المسلمين كأيدٍ تضرب الإسلام في وطنه، هي مسألة خطيرة تثير النخوة وتحفز النفوس للدفاع عن هذا الدين، وفي هذا الدرس ما يوضح كثيراً من جوانب هذه المسألة وطرح الحلول لذلك.(179/1)
التكالب على الإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: رقم هذا الدرس هو السابع والثمانون، وهو في هذه الليلة ليلة الإثنين (5/ من ذي القعدة/ من سنة 1413هـ) ، وأرجو ألا تفاجئوا مرة أخرى بنوع من التغيير فيما وعدتكم به، فسوف أكون مضطراً في هذه الليلة إلى تأجيل الدرس الموعود مرة أخرى، أما في هذه الليلة فسوف يكون حديثي إليكم بعنوان (السهام الأخيرة) .
لقد ألح عليَّ العديد من الإخوة في تعليقات متفرقة على الأحداث التي تشهدها الساحة الإسلامية، بما في ذلك بعض الأشياء التي عرضت لها في المجلس السابق، ثم ما تلا ذلك من قرارات جائرة وتصريحات ماكرة وتحليلات وتوقعات في سائر بلاد الإسلام، بل وحتى في بلادٍ غير إسلامية.
إن الساحة العربية والدولية تشهد حرباً على ما يسمونه هم بالأصولية، أو التطرف، أو العنف، أو الإرهاب، وقد أصبحت هذه الكلمات تدل على كل معاني الوحشية والقسوة في نظرهم.
فيكفي أن يوصم بها شخص ليكون مجتمعاً في نظرهم من النقائص والعيوب خلواً من كل معاني العطف والإنسانية، وتتنادى الدول ضد هذا العدو الجديد الذي يراد له أن يحل محل الشيوعية مع أن الشيوعية هي الأخرى بدأت تجمع فلولها لمعركة مع الجميع، وتتحالف ضد هذه الأصولية.
ومن الواضح أن هذه الحرب هي في حقيقتها ضد الإسلام من حيث هو دين الله عز وجل، فليس هناك في عرف هؤلاء نمط مقبول من الإسلام ولا نموذج مرتضى، مهما تنازل المسلمون وتخلوا عن بعض حقائق دينهم.
لقد أصبح الجهاد -وهو شريعة مجمع عليها- يطلق عليه في نظر الكثيرين أنه نوعٌ من الإرهاب، أو التطرف، أو العنف، أو التهييج، ولذلك فهو مرفوضٌ في قوانين الأرض، وإن كان مأموراً به في شريعة الله عز وجل.(179/2)
تجفيف المنابع في بعض البلاد
إنك تجد في بلادٍ كبعض بلاد المغرب العربي ترفع شعار تجفيف المنابع، أي: إزالة أي أثر للإسلام في الحياة في التعليم أو في الإعلام أو في المجتمع خشية أن يترك ذلك بعض الآثار على الأجيال، فيكون عندها شيء من الولاء للإسلام؛ مع أن الحياة هناك تريد لها أن تكون حياة غربية، ومع أن الراية الإسلامية المرفوعة هي رايةٌ مرنةٌ جداً، وملطفةٌ جداً، وفيها كثيرٌ من التنازلات، ولكن كل هذا لا يرضي غرور الخصوم، وفي بلد أفريقي تحكمه دولة أصولية -كما يعبرون- هناك قدر كبير من المرونة تبديه، ونوعٌ من الخطاب اللبق للعقلية الغربية، وتنازلات هنا وتنازلات هناك، لكن هذا أيضا لا يرضي الخصوم الذين لا يريدون حتى مجرد رفع الراية الإسلامية.
وفي البوسنة فالأمر أظهر وأوضح، فهناك مجتمع كان يقوم على أساس علماني في الأصل، وكان الاختلاط بين الرجل والمرأة، أو شرب الخمر، أو وجود أماكن ترفيه تحتوي على ما حرم الله أمراً مألوفاً في تلك المجتمعات التي يختلط فيها المسلمون بالصرب وبالكروات، وكلا الشعبين -أعني الصرب والكروات- من النصارى، ومع ذلك فالحرب قادت هؤلاء إلى مزيد من الالتزام بالإسلام والعودة إلى جذورهم وأصولهم، وتلك الأوضاع العلمانية التي قام عليها مجتمعهم لم تشفع لهم عند أعداء الإسلام من النصارى المجاورين وغير المجاورين.
والغرب يضغط على الجميع ليس هذه الأمثلة التي ضربت فحسب، بل في جميع بلاد الإسلام لاتخاذ مواقف مشابهة في محاربة الفرص الإسلامية، وتمهيد الطريق لدعاة العلمنة، أو دعاة الشهوة لينفذوا بسمومهم إلى مجتمعات الإسلام.(179/3)
الحرب الإعلامية
إن وسائل الإعلام العربية أصبحت تستكثر ساعةً أو ساعتين في اليوم والليلة للإسلام، مع أن الذي يستغلها ويتحدث باسم الإسلام هو ذلك المفتي الرسمي، ولكن كيف نبذل ساعتين للإسلام، ونحن ننادي بإسكات صوت المؤذن من التلفاز، لئلا يفهم أننا دولة دينية أو -كما يقولون- حكومة ثيوقراطية.
نعم لقد بلغت الجراءة والوقاحة أن يعرض شيء، نستطيع أن نعبر عنه بالجنس في قنوات تبث للمسلمين كيف؟ نعم إنهم يصورون الحيوانات وهي تتسافد وتتوالد وتتكاثر، ويصورون الأنثى وهي تخطب ود الذكر، ويصورون الذكر وهو يبحث عن الأنثى، بل وهو يقوم معها بالعملية الجنسية، ويتحرك بصورة مثيرة، وهم يقولون من خلال هذه البرامج البريئة في ظاهرها للشاب وللفتاة: إن العملية الجنسية عملية بيولوجية وفسيولوجية تتعلق بالإنسان من حيث تكوينه، وتتعلق بسائر الذكور من المخلوقات، فكما أن الجمل يتعامل هكذا مع أنثاه، وكما أن العصفور يتعامل هكذا مع أنثاه، فهكذا أيضاً يجب أن تتعامل الفتاة مع الفتى، ويعرض هذا في قنوات تلتقط في طول بلاد العالم الإسلامي وعرضها.
أما نصف ساعة لبرنامج ديني فهي كثيرة، أما الأذان في هذه الإذاعات والمحطات فهو أيضاً لا داعي له، فهو يظهرنا كما لو كنا دولة دينية، ويوجد في أوساطنا النصارى، ويوجد في أوساطنا اليهود، ويوجد في أوساطنا من لا دين لهم.
وحين تتصفح وجوه الجرائد والمجلات هنا أو هناك في أي محلٍ أو مكتبةٍ، أو بقالة سوف تجد للإثارة والإغراء والفن والحب مئات بل آلاف المطبوعات، ولا تستغرب أن تجد صوراً غايةً في الخلاعة والتبذل، أما حين تبحث عن نصيب الإسلام فستجد مجلات تعد على رءوس الأصابع، ثم حين تلج إلى داخلها تجدها تقدم نفسها على استحياء، وتجدها تتراءى أشباحاً في الظلام، وتخاف من عين الرقيب أو من مقصه، فتقول قليلاً وتسكت عن كثير، ومع ذلك فلا تعدم أن تجد صفحةً مقصوصة هنا، وملزمةً منزوعة هناك، والصوت الوحيد -ربما- الذي لا يزال يصل إلى المسلمين هو صوت المنادي في المسجد صوت الخطيب أو المتحدث، وحتى الخطبة هي في طريقها إلى التأميم لتصبح نسخةً طبق الأصل يقرؤها الجميع بلسان واحد، وهناك دعوة جادة لمحاولة جعل خطب الجمعة خطبةً واحدة توزع على الخطباء ليقرءوها من على المنابر، وحينئذ يمكن أن يقرأها حتى طالب المدرسة الابتدائية، لأن الأمر لا يتطلب أكثر من مجرد فك الحروف.(179/4)
تعليقات سريعة على الأوضاع
وإزاء هذه الأوضاع وهي كثيرة كان هناك بعض التعليقات السريعة وهي تتلخص في عشر نقاط أسوقها تباعاً:(179/5)
تاسعاً: ماذا بيدي؟
كلما سمعنا خبراً جديداً تساءلنا، ماذا نفعل؟ ماذا نقول؟ ما هو دورنا؟ ما مهمتنا؟ أنا لا ألومك، ولا أعترض على طريقتك، افعل ما تشاء، واجتهد قدر وسعك في إصلاح أي وضع فاسد أو إزالة أي منكر قائم، أو إيجاد أي معروف قد اختفى وزال، ولا أحد يلومك، فاجتهد وسعك في ذلك، ولكن لا يجوز أن يكون الجهد الذي تبذله مرهوناً بظرف خاص، أو مرتبطاً بمشكلةٍ وقتيه، لا، نحن نريد جهداً دائماً.
ويتصور البعض أن الطرق مقفلة، والأبواب مغلقة، والواقع أن الدعوة إلى الله عز وجل لم تشهد خصباً في المجالات، وتنوعاً في الأساليب، وكثرةً في الطرائق كما تشهدها الآن، حتى إنني أقول: لكأنك في أرض جرداء بور لا يملكها أحد.
خط برجلك بقدر ما تريد واملك، امش خطوة ينفتح أمامك ألف خطوة، لكن لا تكن هياباً ولا وجلاً ولا متردداً، ولا ذا همةٍ ضعيفة.
كن ذا همةٍ قوية، واجعل نطاق تفكيرك أكبر من مدينة أو بلد أو قرية أو حتى دولة، أنت تعيش بين عشرة ملايين، لكن ألا تعلم أن ثمة مائة وخمسين مليون مسلم جاءهم الإسلام عن طريق قليل من التجار الحضارم الذين ذهبوا إلى هناك للتجارة، وحملوا الإسلام على طريقهم، فلماذا لا تكون واحداً من هؤلاء؟ إن الصدمات التي يلقاها المسلمون لا تحطمهم قط، بل هي تنشئ وتعزز وتقوي، وكما يقول المثل: السم الذي لا يقتلك يعطيك المناعة بإذن الله.
مثل دنيوي: هذه دولة اليابان اليوم، وهي دولة عزيزة منيعة ممكنة في الأرض، ضُرِبَتْ أمس بالقنابل الذرية ودمرت، ورفعت يديها بالاستسلام المطلق إن هذه القنابل التي نزلت عليهم كانت من أسرار قوتهم، وتمكينهم الذي يشهدونه اليوم، لقد جعلوا من آثارها ميداناً واسعاً يذكرهم ويشد شعبهم إلى مأساة الماضي، ثم يحفزهم إلى الإعداد للمستقبل، وبذل الوسع والجهد في تطويره، ومواجهة العدو بالوسائل المكافئة، فنجحوا مع أنهم لا يملكون الأرض، ولا يملكون الثروة، ولا يملكون أي عامل من العوامل المادية، بل وقبل ذلك لا يملكون العقيدة الصحيحة التي هي سر من أسرار التضحية والبذل والفداء والجهاد.
لا يملكون إلا الإنسان الجاد الحازم المصمم على رغم الإفساد الأمريكي، أما نحن المسلمون فكم صدمنا وصفعنا بالأحداث، صفعنا النصارى واليهود والغرب والشيوعيون ومن لا دين لهم، ونحتاج إلى أن نحول من هذه الصدمات فرصةً نجدد فيها العزيمة والصدق مع الله عز وجل.
التضحية: إنه لا بد من التضحيات، فلقد أُخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة وكان يمر على القبائل: {من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي؟} فلم يعد نفسه مربوطاً بقبيلة، ولا بظرف، ولا ببلد، ولا بوضع، إنما مهمته هذه الدعوة، من استجاب لها فهو الذي يظفر بمقام النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيه، ونحن كثيراً ما نحجم عن عمل من الأعمال بسبب المخاوف الوهمية التي لا حقيقة لها، والتي ليست سوى تثبيط من الشيطان، وهي أمور ليست محرمة في الشريعة، ولا ممنوعة في الأنظمة أيضاً، ولكن كما يقال: أذل الحرص أعناق الرجال.
افترض أنك ضحيت وضاع شيء من مالك، أو تأخرت الترقية، أو حتى تعرضت للمساءلة، افترض أنك سجنت، فماذا في ذلك؟ هل أنتِ إلا إصبعٌ دميت وفي سبيل الله ما لقيت ولست أبالي حين أقتل مسلماً لى أي جنبٍ كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع إن المسلم يخوض المعركة وهو يبحث عن الموت أو القتل في مظانه، فأي ضيرٍ عليه أن يسجن في سبيل الله، أو يعذب، أو يساءل، أو يتأخر عليه شيءٌ من عرض الحياة الدنيا الزائل؟! إن المصيبة -أيها الأحبة- أن لدينا استعداداً أن نعمل شيئاً، لكن لا نريد أن يهب النسيم على وجوهنا، قد يتطلب الإسلام دمك، وقد قتل غلام فحيت أمة، (باسم الله رب الغلام، آمنا برب الغلام) .
نعم آمنوا كلهم، فمات واحد وحيت أمة بأكملها، والله تعالى يقول: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] وهكذا تكون التضحية في أوانها وفي حينها وفي وقتها المناسب.
نعم لقد قتل ولم يكن منتحراً يوم دل الملك على الطريقة السليمة التي يتم بها قتله وإزهاق روحه، فقال: اصلبني إلى جذع شجرة، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، بعدما تجمع الناس على صعيد واحد، لم يكن منتحراً، بل كان يفعل عين الصواب، وعين الحكمة، وعين المصلحة، لأنه وإن ذهب هو فقد آمنت هذه الأمة كلها ففقد الناس رجلاً مؤمناً واحداً، وظفرت الأرض بآلاف من المؤمنين الذين صبروا على ما عذبوا وكذبوا وأوذوا، حتى حفرت لهم الأخاديد، وآمنوا بالله عز وجل، وانتقم الله عز وجل لهم من فوق سبع سماوات.
ليس ضرورياً أن تكون أنت فارس الميدان الذي لا قبله ولا بعده، لكنك تصلح لشيء ما، وأنت تعلم أنه لما مات الرسول عليه الصلاة والسلام ولى الناس بعده أبا بكر، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بون شاسع، فهذا نبيٌ مصطفى مؤيدٌ بالوحي من السماء، وهذا خليفة صديق ولكن مع ذلك كان لا بد من هذا.
إذاً: فيجب علينا أن نقوم بدورنا دون أن يتصور الواحد منا أنه إما أن يقوم بكل شيء، وإما ألا يقوم بشيء، ليس للدعوة شرط إلا {بلغوا عني ولو آية} أن تتكلم فيما تعلم.(179/6)
ثامناً: المعركة محسومة
الإسلام منتصر، حتى هذه الحرب الضروس التي تدار اليوم ضده هنا وهناك، هي إحدى الدلائل على انتصار الإسلام، فالناس لا يحتشدون إلا لحرب الأقوياء، ولعلها آخر السهام.
هو دين الله عز وجل وليس مرهوناً بشخص ولو كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد مات وبقي الإسلام قال الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] .
دين الله عز وجل أكبر من الأفراد، وأعظم من الجماعات، وأوسع من المذاهب، وأعمق من الاتجاهات، وهو أبقى وأرسخ من الدول والأجناس، وكل من تخلى عن هذا الدين فلا يضر إلا نفسه، فكلما تخلى عنه قوم تلقفه آخرون كما وعد الذي لا يخلف الميعاد، قال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] وقال: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] وقال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد:38] .
وقبل قليل ذكرت لكم أمر العثمانيين: لماذا جاء العثمانيون؟ ولماذا جاء المماليك؟ إنهم ما جاءوا من فراغ، لكن لما تخلت الأمة العربية عن دورها ومهمتها وتميزها بالإسلام، قيض الله له شعوباً وأجناساً أخرى تحمله وتعمل به وتدعو إليه.
1- انتصار الإسلام أمر مقطوع به: إن انتصار الإسلام أمرٌ مقطوع به لا مثنوية فيه، ولا يجوز أبداً أن تستهلكنا لحظة حاضرة أو فترة عابرة، بل اللحظة الحاضرة ذاتها تشهد كل ساعة بميلاد الانتصار الكبير لهذا الدين، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] .
إنه التحضير للمعركة الكبرى، المعركة الفاصلة، وإن طال أمدها، وإلا فلماذا يتجمع اليهود مثلاً في فلسطين؟ إنهم يتجمعون للمعركة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث الصحيح، ولماذا نعرف اليوم أن هناك مأوى وحصناً للإسلام بأرض البلقان على مسافة خطوات من روما، التي هي الهدف الأخير للفتح الإسلامي القادم.
إنها الأوراق القديمة تبعث من جديد، لتظهر من خلالها الفرص التي سوف تبرز وتلمع للإسلام وجنود الإسلام القادمين بإذن الله على رغم أنف الكارهين.
إن النصر يولد في أعماق الظلام، والفرج يخرج من عمق المعاناة، ولهذا قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] وقال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] .
2- النصر من عند الله: أخي لا تحمل هم النصر، بل احمل همَّ العمل.
ففي حديث البخاري يأتي خباب بن الأرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية الصحابة، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فيقولون: {يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! -لقد كوتهم الآلام والمصائب والنكبات- فيقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما يعتدل في جلسته: إن الرجل ممن كان قبلكم يؤتى به، فيحفر له في الأرض فيوضع فيها، ويمشط بأمشاط من حديد ما دون لحمه وعظمه من عصب ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون} .
نعم، يقولها صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة، فلا تحمل همَّ نصر الإسلام، نصر الإسلام ليس بالضرورة منك أنت، النصر من عند الله تعالى كما قال سبحانه: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] ولكن منك أنت العمل والإعداد والبذل بقدر ما تستطيع.
والنصر يأتي بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله، ولهذا أيضاً في الحديث الآخر المتفق عليه حديث أبي هريرة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {بينا أنا نائم، إذا أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي} نعم وضعت في يده وهو نائم عليه الصلاة والسلام فهذه أمة مرحومة، أمةٌ منصورة، أمةٌ حملها الله تعالى رسالة الإسلام، وكتب لها النصر، لماذا؟ لأنها ليست أمة عِرْق، لا نعني بذلك الأمة العربية مثلاً، أو الأمة الكردية، وإنما نعني بذلك الأمة الإسلامية من أي لون، أو جنس كانوا.
الإسلام دين الله عز وجل، والقرآن كتابه، وليس الإسلام أمراً شخصياً يموت بموت صاحبه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول كما في الحديبية: {أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني} .
فدين الله تعالى محفوظ ولا ينبغي لك أبداً أن تخاف عليه، وهكذا نور الدين محمود لما قال له القاضي: يا إمام لا تخض المعركة، فإنك إن قتلت انكسر المسلمون، فتبسم وقال: مَن محمود؟! لقد أعز الله البلاد بالإسلام قبلي.
لا إله إلا الله، فالدين دين الله، والأمر أمره وهو المتكفل بحفظه وصيانته، وما عليك أنت إلا أن تبذل وسعك لنجاة نفسك لا غير.(179/7)
سادساً: الدهماء من الناس
يتحدث البعض عمن يسمونهم بالدهماء، ويعنون بهم جمهور المجتمع أو عامة المسلمين، ويظنون أن هؤلاء القوم جهلة غير متعلمين، أغبياء لا يفهمون، وهذا الاستخفاف هو في حقيقته استخفافٌ بالأمة الإسلامية وإهدار لطاقاتها، إذ أن الأمة في مجملها من هؤلاء، نعم فيها علماء وطلاب علم ودعاة، ولكن غالب الأمة هم من هؤلاء، ولدى معظم هؤلاء قدرة على الفهم، وقدرة على التفاعل مع الأحداث نعم يمكن أن تخدعهم، ولكنها خديعة مؤقته، وليست خديعة دائمة، بل هذه الخدعة التي تقدمها لهم عبر أجهزة الإعلام، أو عبر طريقة أو أخرى تنعكس، فيصبح كل ما تقدمه لهم مرفوضاً ولو كان حقاً؛ لأنهم جربوا عليك الكذب.
1- استعداد الأمة للمصارحة: إن لدى الأمة استعداداً للمصارحة والتفاهم والتفهم والمناقشة متى وثقت بمن يخاطبها، وقديماً كان فقهاء الإسلام يرفضون التقليد المطلق للأمة، ويطلبون منها على الأقل أن تجتهد في من تختار فتياه، وتقبل قوله، حتى في المسائل الدينية الشرعية، فكيف بغيره.
إنه لا يصح أبداً أن تعزل الأمة عن قضاياها، وتبعد عن مشاكلها، وتقصى عن همومها، ويحال بينها وبين الوعي الصحيح وإدراك الأمور على ما هي عليه بحجة أن الأمة لا تعي أو لا تعقل أو لا تدرك أو ليست على المستوى المطلوب أو أنهم دهماء أو أنهم عوام لا يفقهون.
وهذا مثال: الإعلام يصور الناس في مصر على أنهم مع الحملة الأمنية مؤيدون لها ضد الإرهاب كما يسمونه، ولكن الأخبار التي تأتي من هناك تؤكد أن الشعب المسلم في مصر يتعاطف مع المسلمين ومع الشباب المتدين، ويؤيدهم، ويقف بصفهم، ويحميهم، وينصرهم، ويتستر عليهم، ولا أدل على ذلك من عجز أجهزة الأمن من ملاحقتهم أو القضاء عليهم، فهم يجدون درعاً حصيناً في المتعاطفين معهم من عامة المسلمين الذين يدركون لماذا يحارب هؤلاء، ولماذا تسكت البنادق الموجهة إلى دولة اليهود وتوجه إلى صدور المؤمنين والشباب الذي يطمع أن يكونوا هم سر الإنقاذ في تلك البلاد.
وفي الجزائر يعلنون أيضاً عن تنظيم المظاهرات بعشرات الألوف لشجب الإرهاب وإدانته واستنكاره، ولكن الأحداث تؤكد أن هذه لا تعدو أن تكون تمثيليات محبوكة مضبوطة، وأن هؤلاء الذين يخرجون إنما يخرجون بأجور مرسومة مدفوعة إليهم سلفاً، وأن الشعب المسلم هناك قد أعلن عن كلمته منذ زمن بعيد، وأنه لا يريد إلا الإسلام، ولا يثق إلا بالمسلمين، ولا أدل على ذلك أيضاً من أن معظم الأعمال التي يقوم بها الإسلاميون هناك بغض النظر عن تحديدها أو تشخيصها أو الكلام عن تفصيلها، قلما يمكن التعرف على الذين يقومون بها.
إن مجرد ضجيج إعلامي لا يقنع الناس أبداً؛ لأنهم يعيشون الواقع ويشاهدونه، ويدركون أحياناً ما وراء الأحداث، ويخمنون ويتوقعون الدوافع وراء هذا العمل أو ذاك، وهذا التصرف أو ذاك، وهذا القرار أو ذاك.
2- إخلاص رجال الأمة: ومتى وجدت الأمة رجالها المخلصين -أي أمة كانت سواء كانت من الأمم الإسلامية أو من غيرها- شاركتهم في كل شيء ونزلت معهم في الخندق والميدان.
هذا زعيم من زعماء الكفر والضلال يذكره التاريخ تشرشل الذي تولى الوزارة في بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وعد الشعب البريطاني بماذا؟ لم يعده بالرفاهية، بل وعده بالدماء والدموع حتى ينتصروا على ألمانيا، أما إذا كنتم تريدون الهزيمة فابحثوا عن رجل سواي، لم يقل لهم: غداً سوف ننتصر، ولم يقل لهم: سوف أحول الدنيا إلى ورق بلا شوك، ولكنه أخبرهم بالحقيقة، وجعلهم يتفهمون ويعيشون كل ظروفها ومجرياتها.
إن الأمة الإسلامية أعظم استعداداً من كل أمم الأرض للفهم والوعي والمشاركة والمناقشة، وهذه الأمة على رغم الفقر وقلة ذات اليد، وعلى رغم الجهل وقلة المعرفة، وعلى رغم الحصار الإعلامي، إلا أنها مع ذلك من أقوى الأمم وعياً، وأكثر الأمم نضجاً، وأنت تجد هذه الأمة تحتفظ بفطرتها السليمة وأخلاقياتها، حتى يأتي الرجل الكافر، وقد يكون مثقفاً أو دكتوراً أو أستاذاً أو عالماً في أمور الدنيا، فإذا عاش في عوام المسلمين فترة، قاده ذلك إلى الإسلام، كما فعل محمد أسد وقد جاء إلى فلسطين أثناء الحرب العالمية، جاء صحفياً، فلما عاش بين المسلمين وجد كرم الأخلاق وسلامة الفطرة، وقاده ذلك إلى الإيمان بالله عز وجل ورسوله، وأمثاله كثير.
فهذه الأمة هي أسلم الأمم فطرةً، وأقربها إلى الحق، وأكثرها وعياً وإدراكاً على رغم التعتيم الذي يضرب حولها.(179/8)
سابعاً: لا عز إلا بالإسلام
لقد كانت هذه الأمة في الجاهلية تركض وراء اليرابيع في صحرائها المترامية الأطراف، ليس لها شأن في دنيا ولا هَمٌّ في دين، ولما جاء الإسلام توحدت به ونادت إليه، وبذلت في سبيله كل غالٍ ونفيس، ثم شاد هؤلاء الرعاة مملكة ما شادها قيصر ولا كسرى ولا شاه ولا أنوشروان.
هذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يعبر عن هذا المعنى: [[لقد رأيتني خامس خمسة مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مالنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت منه أشداقنا، وما أصبح اليوم منا رجل إلا وقد أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني والله أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله حقيراً]] .
لقد كان سعد رضي الله عنه ومن معه من المؤمنين بهذه الحالة، ثم أعزهم الله تعالى بالإسلام حتى صاروا إلى مثل أحسن حال.
والأمة العربية إذا تخلت عن دينها لم يبق لها إلا عروبتها، وماذا نحفظ من تاريخ العرب في الجاهلية إلا يوم ذي قار وحرب البسوس، والمعارك الدامية الطاحنة بين قبائل العرب من أجل أمر دنيوي سهل، وماذا نعرف من تاريخ الأمة العربية إلا أنها تركض وراء أذناب الإبل في ربيعة ومضر! إن تخلي هذه الأمة عن دينها يعني تخليها عن كل مميزاتها، ماذا استفاد العثمانيون الذين حكموا بالإسلام، وجاءوا باسم الشريعة إلى الأمة الإسلامية، وحكموا قروناً متطاولة ماذا استفادوا من التخلي عن الإسلام والتنازل عن شعاره وشريعته ولبس جلباب العلمانية؟! لم يستفيدوا إلا مزيداً من الهزائم المتتالية كانت نهايتها سقوط دولتهم.
1- زوال الدولة العثمانية: لقد كان العثمانيون يأتون بالأمس إلى سائر بلاد الإسلام باسم الدين، وترسل حكومتهم -أو يرسل الصدر العالي- ما يسمى بالقائم، أو الباشا، أما اليوم فهم لا يرسلون إلا الطباخين والحلاقين والعملة، أين هذا من ذاك؟ ذاك عز الإسلام وهذه ذلة العلمانية.
رأى أحد الدعاة رجلاً تركياً في بلاد الغرب، ورآه قد علق صورة كمال أتاتورك في متجره فقال له: لماذا تعلق صورة هذا الصنم الطاغية وأنت تعلم حاله وعداءه للإسلام؟ قال له: نعم أنا أعلم عداءه للإسلام، ولكنني أخشى من بطش السلطة، فإن السفارة لها رسل يأتوننا صباح مساء، يتفقدون وجود مثل هذه الصورة في محلاتنا ومتاجرنا.
إن هذا يذكرنا بتلك الكلمة التي قالها الصحابي الجليل عند فتح قبرص، حينما بكى وقال: [[بينما هم أمة قائمة ظاهرة إذ تركوا أمر الله عز وجل، فصاروا إلى ما ترى]] .
إن الذي يلفت النظر أن العثمانيين حاربوا الدعوة التجديدية، دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى عليه في هذه البلاد.
نعم كانوا يحاربون باسم الإسلام، ولكن الاسم لا يكفي، وما لم يكن الإسلام حقيقة فإن مجرد الشعار لا يكفي، وكم من إنسان يقول بلسانه ما يكذبه بفعاله، حاربوا تلك الدعوة التجديدية، فذهبوا هم وبقيت الدعوة، فذهبوا لتخليهم عن الشريعة التي وجدوا من أجلها، فهم قاموا وحكموا العالم الإسلامي، لا لأنهم عثمانيون، ولا لأنهم من أولاد فلان، ولا لأنهم جاءوا من الدولة الفلانية، وإنما حكموا باسم الإسلام، فلما تخلوا عن الشريعة، وأعلنوا الحرب عليها وناصبوها العداء سقطوا هم وزالوا، فشرعيتهم زالت، وبقيت الدعوة التي حاربوها؛ لأنها تحمل عوامل القوة والبقاء والنماء، فهي دعوة إلى الله تعالى ودعوة إلى شريعته وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أفنحسب أن النواميس الإلهية والسنن قد تعطلت ولم تعد تفعل فعلها في عصر الذرة والصاروخ والكمبيوتر؟! كلا! إن الله تعالى واحدٌ لا إله إلا هو، وشريعته قائمة ماضية، ودينه باقٍ، والسنة لا تتغير، فهي تجري على الناس اليوم وغداً كما جرت عليهم أمس وقبل أمس.
2- سرّ الاستقرار هو الحكم بالإسلام: إن الشعوب الإسلامية لا يمكن أن تحكم أبداً إلا بالإسلام، والناس أصلاً ما خضعوا للحكم وما فيه من تقييد صلاحياتهم إلا طواعيةً للشريعة، أما الأمن فهو تابع لذلك، وأما شرعية الإنجاز كما يقال فهي أيضاً تابعةٌ لذلك.
فالأصل هو الحكم بالشريعة والشرعية العقائدية المنبثقة من الطاعة لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبع ذلك استقرار الأمن، ويتبع ذلك الإنجاز، ويتبع ذلك حفظ الاقتصاد، ويتبع ذلك حفظ الحوزة والبيضة، وهذه الأمور كلها تابعة، والشريعة هي الأصل.
وتغيير الشريعة لا يمكن ولا يكون إلا بمسخ الشعوب وتغيير هويتها من شعوب إسلامية تحب الإسلام وتحب الشريعة إلى شعوب لا دينية، وتغيير هذه القناعة هو أمر غير ممكن، لأنه يعني مسخ الإسلام في تلك البلاد، وهذا أمر متعذر، كم حاوله أقوام وأقوام وأحزاب وأمم ودول وأساطيل، ثم رجعوا بالخيبة والخسارة.
الذين يطالبون بتحكيم الشريعة والدعوة إلى الله تعالى هم يدعون إلى الأصل الثابت المستقر، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] والشيء الوحيد التي تأتلف عليه القلوب والنفوس هو دين الله عز وجل أما بغير ذلك فسنعود عرباً كما كنا قبل الإسلام يقتل بعضنا بعضا: فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال باديةٍ ترانا نغير على القبائل من معدٍ بضبة إنه من مان حانا وأحياناً على بكرٍ أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا إنه ليس داعية فتنة الذي يدعو إلى إعادة عمل الشريعة وإلى تحكيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو يدعو إلى الرجوع إلى الأصل الذي تنتظم به الأمور، وتأتلف به الأحوال، ويجتمع به المقال، ويزول به كل أثرٍ لخلاف بين فردٍ وآخر، سواء كان رفيعاً أم وضيعاً.(179/9)
نحن مستهدفون
إن المسلمين بكل ألوانهم وعلى كافة مستوياتهم حتى أولئك المفرطين والمقصرين والكسالى والتائهين والبعيدين عن دينهم، إنهم مستهدفون لهويتهم الإسلامية وانتسابهم وموروثهم الشرعي بالدرجة الأولى، ثم هم مستهدفون بعد ذلك لخيراتهم وثرواتهم التي أراد الله عز وجل بحكمته أن تزخر بها بلادهم، ولذلك فالعدو يستفيد قطعاً من تفجير المعارك داخل بلاد الإسلام.
1- الأعداء وتنفيذ الأهداف: وعلى سبيل المثال فاليهود يستفيدون أعظم الفائدة من الصراع الدائر في مصر بين الشباب المتدين وبين أجهزة الأمن.
إن مصر دولة كبيرة فيها ما يزيد على خمسين مليون إنسان، وهي يمكن أن تكون قلعةً من قلاع الإسلام وحاميةً لدين الله عز وجل وشريعته، وقد كانت متقدمة حتى في مستواها الاقتصادي قبل سنوات ليست بالبعيدة.
والشباب المتدين في مصر وفي غير مصر هو الذي أذاق إسرائيل الضربات الموجعة خلال معاركه في قناة السويس وفي غيرها، وهي معارك شهيرة دونت في الكتب، وذكرت في الصحف في وقتها.
ولذلك فإن من مصلحة اليهود قطعاً أن يضربوا هذا بذاك، وأن يعملوا على تدمير هذه القلعة والقضاء عليها وعلى تدمير الشباب المؤمن هناك وإلصاق شتى التهم به.
إنه يشاع أن تفجير ميدان التحرير عمل من أعمال الموساد ومن أعمال المخابرات اليهودية، تماماً كما يشاع أن المبنى التجاري الذي فجر في نيويورك كان من عمل الموساد، وهناك شخص اسمه هداس، جرى له ذكر وتحدث عنه الإعلام فترة، وهو شخصية غامضة أسدل عليها الستار بعد ذلك، وتدور أقاويل كثيرة على أن له علاقة بالموساد (المخابرات الإسرائيلية) الموجودة هناك.
2- ضرب الأمة بقادتها: إن ضياع مقدرات البلاد الإسلامية في صراع مكشوف أو مستور بين الشباب المتدين وبين الأجهزة المختلفة أمنية كانت أو عسكرية أو إعلامية أو غير ذلك هو إهدار لطاقات الأمة وممتلكاتها، وليس شرطاً أن يكون الصراع حرباً في الشوارع، بل هذه لا تعدو أن تكون صورةً فحسب، وهناك ألوان من الصراعات الخفية المستترة آلتها ووسيلتها القلم، والورقة، والكتابة، والتقرير، والقرار، ومن خلال ذلك يتم الشيء الكثير.
لقد نجح الأعداء في تصوير الدعوة الإسلامية على أنها الخطر الأكبر الدائم الداهم، وأقول متى كان الدين خطراً على الأمة، وعلى أهله ودعاته وحماته؟! نعم ذلك المتدين المكسور الجناح المقهور المضطهد المضيق عليه الممنوع حتى من عبادة ربه، قد تكون أنت فرضت عليه بالقوة نوعاً مما تسميه بالتطرف.
أنت فعلت هذا بأسلوبك في التعامل معه، وكما قيل: إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها إن الإنسان كلٌ لا يتجزأ؛ فاعطه فرصةً طبيعية، ودعه يعبد ربه، ويدعو إلى ربه، ويقول كلمة الحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالحكمة وبالموعظة الحسنة، دعه وحينئذ سوف بتكلم بصورة صحيحة، ويفكر بصورة صحيحة، ويتعامل بمنطق لا إشكال فيه، أما إذا حاصرته وضغطت عليه، فستجد آثار هذا الضغط تصديقاً لبعض الشائعات، ولو لم يتثبت منها، وتفكيراً بطريقة غير سوية وتحليلاً للأحداث لا يخدمه ولا يخدمك.
إننا نجد تلك الدول تقدم كل يوم وجبة جديدة من فلذات أكبادها وشبابها، حتى في سن المرحلة المتوسطة إلى أعواد المشانق، فمتى كانت مهمة الدولة القوية إعدام مواطنيها وتقديم المجموعة منهم بعد الأخرى للقتل من الشباب المتدين الغض الطموح؟! 3- اعتبروا يا أولي الأبصار: أيها الفرعون! هل تريد أن تكرر خطيئة سلفك الأول، حينما جاءه موسى عليه الصلاة والسلام، فدعاه إلى الله عز وجل، فأصر وكفر بالله تعالى، وقال قولته الفاجرة الكافرة: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] فناداه موسى وقال له: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:17] خل بيننا وبينهم، دعهم لنا، ألست أنت أيها الفرعون متضايقاً من بني إسرائيل خائفاً منهم؟! قد أخبرك السحرة أن زوال ملكك على أيديهم، إذاً دعهم لنا، أرسل معنا بني إسرائيل، ولكن هذا الفرعون لم يرض بذلك، بل اغتاظ وقال: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54-56] وقام بذلك العمل الجبان الذي يدل على أنه لا يشعر بهموم قومه، وأنه ليس مخلصاً لرعيته قط.
أي معنى أن ينزل فرعون الجيش إلى الشوارع؟! أمن أجل أن يقاتل أعداءه؟ كلا! إنما من أجل أن يقاتل الشعب بعضه بعضاً، ومن أجل أن يقوم بسحق المؤمنين مع موسى عليه الصلاة والسلام، لقد جر الجيش إلى معركة خاسرة، وجر وراءه أجهزة أمنه إلى معركة مشابهة، ولهذا قال: (وإنا لجميع حاذرون) أننا على حذر شديد وأجهزتنا مسلطة على هؤلاء، فماذا كانت النتيجة؟ لقد حارب الدين فكان ذلك زواله، وكانت المعركة الفاصلة هي نزوله في الميدان في مواجهة المؤمنين، فأنجى الله تعالى موسى ومن معه أجمعين وأغرق بعد الباقين.
وهذه قريش والعرب حاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعاهم إلى الله تعالى فما استجابوا له فقال: {يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟} لكنهم لم يرضوا بذلك، بل كانوا يلاحقون أصحابه حتى وهم يذهبون إلى الحبشة وإلى غيرها في محاولة لإحكام الحصار المفروض على الإسلام.
طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فما استجابوا، بل أصروا على الحرب، وكانت النتيجة أن مكَّن الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ورأوه بأعينهم وهو يدخل مكة فاتحاً يقول: {يا معشر قريش: ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟} 4- الشباب أبقى والحرية أولى: الشباب الغض العفيف المؤمن الصابر الصادق هو وقود الحرب ضد الأعداء، وهو صاحب الخبرة التي تنفع في كل مجال من مجالات الحياة، به يستنزل المطر من السماء، وبه تستدفع العقوبات التي يخشى أن تحل بالمسلمين ليلاً أو نهاراً، فلماذا لا تعط هؤلاء الشباب فرصة للمناقشة وفرصة للحديث؟! كما عبرت عن رأيك وتحدثت في أجهزة الإعلام، وقلت كل ما تريد، دعهم يتحدثون ولو عن بعض ما يريدون، وناقشهم واعطهم فرصةً ولو جزئية، ولا مانع أن تعمل لهم محاكمة علنية، لكن لا يجوز أبداً أن يكون الذين يتولون محاكمتهم قومٌ يخضعون لأمرك، ويتأثرون بضغوطك، ويستجيبون لك ويتأثرون بما تقول، فأنت حينئذٍ لست عادلاً بل: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم ادع العلماء -وبلاد الإسلام بحمد الله غنية بالعلماء الصادقين بكل مكان- ادع العلماء من الجزيرة العربية، أو من بلاد الهند، أو من بلاد الشام، أو من أي بلد إسلامي آخر من أهل العلم والإيمان والفقه والسنة؛ ليتم معرفة الحق واتباعه، وليعرف ما إذا كان هؤلاء الشباب على صواب أم على خطأ، أما أن تجعلهم وقوداً للحرب، وتسلط عليهم أجهزة الأمن، وتقتلهم وتحرمهم من حق التعبير والكلام، فلا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، ثم إذا أصدر الواحد منهم ورقةً أو ألف كتاباً أو أصدر مجلة، أصبحت ترميه بأنه يوزع المنشورات، ويكتب الأقاويل، ويتحدث، وأنت ماذا كنت تفعل؟!!(179/10)
القنوات المفتوحة
إن المجتمع الذي يتيح قنوات التعبير الصادق والتعبير المسئول هو مجتمع ناضج محفوظ بإذن الله عز وجل من الزعازع والانفجارات؛ لسبب واحد وهو: أنه يقيم شريعة الله عز وجل شريعة الحسبة، ومجرد التعبير أحياناً بأمر بمعروف أو نهي عن منكر يعطي انطباعاً بقوة هذا المجتمع وثقته بالأسس التي يقوم عليها، فليس ترك المجال للكلمة الهادئة الناقدة البصيرة ليس ذلك علامة ضعف، بل علامة الضعف هو الخوف من تلك الكلمة والقلق منها.
لماذا يخاف أولئك الذين أوجدوا ما يزيد على ثلاث أو أربع قنوات للفساد، وأخرجوا عشرات المجلات للفن، أو الرياضة، أو غيرها، لماذا يخافون من صوت واحد يتكلم باسم الدين أو باسم الإسلام؟! لماذا يتحدثون عن هؤلاء المتطرفين وهم يزجون بهم وراء الجدران وفي غياهب السجون؟! أفلا قدموهم للناس ليسمعوا منهم مباشرة ويعرف الناس الصوت الآخر إن كان حقاً أو باطلاً؟! إن البلاد المفتوحة أكثر أمناً واستقراراً من غيرها، ويوم كانت هذه الأمة تقيم شريعة الله عز وجل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحسبة على سائر أفرادها ورجالها، الكبير منهم والصغير، أمنت -بإذن الله تعالى- من عقابه بأن يسلط بعضها على بعض.
1- حال الأمم الدنيوية: إن الأمم الدنيوية التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر اليوم بقدر تضييقها على شعوبها تكثر القلاقل فيها، وبقدر توسعتها عليهم تخف وطأتها، وينتشر ويستقر أمنها.
لعل الجميع لاحظوا أن القلاقل في أمريكا وبريطانيا وأسبانيا وربما فرنسا قد بدأت الآن تتزايد، والبارحة أعلن في عاصمة بريطانيا عن انفجار يشبه الانفجار الذي وقع في نيويورك.
وما هذه الزعازع إلا إرهاصات وبدايات تدل على أن هناك نوعاً من التضييق والحصار بدأت تلك الدول تمارسه، ليس فقط على شعوبها، بل بالدرجة الأولى على من تسميهم بالغرباء، أو بالأجانب، أو بالشعوب المستعمرة، أو بالشعوب المستضعفة، فبدأت تعدل قوانين الهجرة، وبدأت تعدل قوانين التجارة، وبدأت تحد من نطاق التملك، وبدأت تمنع حصول الإنسان على الجنسية أو على حق اللجوء في بلادهم، أو حتى على حق التعبير، ولهذا بدأ الناس يسلكون أسلوباً آخر في التعبير عن سخطهم ورفضهم.
2- حال البلاد الإسلامية: أما في البلاد الإسلامية فالنماذج كثيرة، بل أكثر البلاد الإسلامية تصلح نماذج، لكن لا مانع أن نعرج على مصر: لقد أعلن الحاكمون حرباً على الإسلام منذ خمسين سنة، وامتلأت السجون يوماً من الأيام بما يزيد على خمسين ألفاً من العلماء والدعاة والمخلصين والمنتسبين إلى الجماعات الإسلامية؛ سواء كانوا منتسبين إلى الإخوان المسلمون، أو إلى التبليغ، أو إلى أنصار السنة، أو إلى الجمعية الشرعية، أو حتى كانوا متدينين لا يعرفون هذه الانتسابات، وظن الظانون أنه لن يقوم للإسلام بمصر قائمة، وإذا بالحكام الذين أعلنوا الحرب على الإسلام يذهبون، تُشيعهم دعوات الناس عليهم وشماتتهم بهم، ويبقى الإسلام عزيزاً قوياً شامخاً منيعاً.
نعم إن الذين يسمعون الأخبار اليوم يظنون أن الإسلام في مصر يحتضر، والواقع أن الإسلام في مصر قوي عزيز، وأن ذلك الشعب المسلم قد اختار الإسلام حقاً، ورضي أن يبذل من عرقه، وجهده، وصبره، ودمه، وأرواح أولاده وبناته في سبيل هذا الدين، ويصبر على ما يلقى في ذات الله عز وجل.
لكن ماذا كسب أولئك؟ لقد تزعزع أمنهم، واهتز اقتصادهم، وقلقت أحوالهم، وأصبحت الدول الأخرى تنظر إليهم بريبة، وتشعر بأنهم عاجزون عن ضبط الأمن، وليس ينفعهم أن يأتيهم دعم من هنا، أو تشجيع من هناك، أو تهنئة بالسلامة من محاولة اغتيال من هذا البلد أو ذاك، إن الأمر عميق ومزمن في جذورهم، وفي أعماق المجتمع، وليس تحله رصاصة أو طلقة طائشة.
إن الخسائر الاقتصادية تقدر بمليارات الدولارات، وإن الفنادق التي أقاموها لما هو معروف بالسياحة، إن تلك الفنادق قد تحولت اليوم إلى دور مغلقة ليس فيها داعٍ ولا مجيب، وقد انجفل عنها الناس وأعرضوا عنها، وهذه نتيجةٌ ماديةٌ مباشرةٌ فقط لمثل تلك الحرب على الله ورسوله.
أما النتائج الأخرى فهي أمر أعجب، ولعلكم سمعتم كنموذج آخر بالظاهرة الغريبة في أوساط الفتيات التي انتشرت في معظم المحافظات المصرية حالات إغماء مفاجِئة، تعرض لها آلاف من الفتيات في المدارس المتوسطة والثانوية، وتنادى الأطباء وتداعوا، وعملوا الفحوصات والإجراءات، وكل النتائج سليمة، ثم قاموا ونظروا في الجو هل يوجد فيه مواد غريبة، في التربة لم يجدوا شيئاً، وفي المياه لم يجدوا شيئاً فظل الأمر محيراً مجهولاً.
إن مثل هذه الأشياء هي رسائل يجب أن تفهم، إن الذي يحارب الله عز وجل لا طاقة له ولا قبل بمن يملك كل شيء، وله كل شيء، وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وبيده مقاليد كل شيء.
أما في الجزائر فقد أعلنوا الحرب على تحكيم الشريعة الإسلامية، وحالوا بين الشعب المسلم وبين ما يشتهي من تطبيق شريعة الله تعالى، وأودعوا الشباب في المحتشدات والمعتقلات، وسجنوا ما يزيد على ثلاثين ألف في فترة مضت، وقتلوا منهم من قتلوا، فما الذي جرى؟ فبعد مضي ما يقارب السنتين، تنظر في الجزائر، فتجدها لم تشهد منذ استقلالها عن فرنسا قلاقل وزعازع وتهديداً للأمن مما تشهده الآن، ولا أكثر انهياراً للاقتصاد مما تشهده الآن، ولا أكثر جهلاً بالمصير الذي تكون إليه مما هي عليه الآن.
ماذا نفعتها عساكرها التي واجهت الإسلام بالمدفعية والدبابة والبندقية، وضربت الناس في الشوارع؟ ولكن الإسلام كان أبقى؛ لأنهم لا يستطيعون أن يحاربوا شعباً بأكمله يريد الإسلام، لكن ماذا عليهم لو خلوا بين هذا الشعب وبين الإسلام؟! ماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله؟! ماذا عليهم لو خلوا بينهم وبينه؟! فإن انتصر الإسلام وعز وحكم، فذلك عزٌ لهم جميعاً، وإن كانت الأخرى فقد كفوا بغيرهم.(179/11)
ثانياً: الكلمة الصادقة
إن الكلمة إذا كانت ربانية فهي باقية كما قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24-25] .
نعم إن أشجار الناس منها ما يثمر في الصيف، ومنها ما يثمر في الشتاء، ومنها ما يثمر مرةً في الصيف ومرةً في الشتاء، وأما كلمة الحق وشجرة الحق، فإنها تؤتي أكلها كل حين، فهي لا تتأثر بالظروف، ولا تتغير بتغير الأحوال، بل هي باقية قائمة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
إنها تتمرد على كل السدود والقيود، والحواجز والموانع، لينتفع منها كل إنسان ويقطف ثمرتها كل مخلص.
إنها عميقة الجذور، ومن العسير أن يتم اقتلاعها، فهي تتغلغل في التربة، بل تتغلغل في الصخور، وتحفر لنفسها مجرىً في أعماق القلوب، ولا يضرها أن يعرض عنها معرض، أو أن يحاربها عدو، أو أن يكيد لها كائد.
هذا هو الطفيل بن عمرو رضي الله عنه يأتي مكة فما يزالون به حتى يضع القطن في أذنيه لئلا يسمع كلمة الحق من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأبى الله عز وجل إلا أن يسمعه تلك الكلمة، فيلين لها قلبه، ويسلم لله رب العالمين، فماذا أجدت أعمال قريش ومحاولاتهم وحصارهم وجهودهم؟ لقد ذهبت أدراج الرياح، وتسللت تلك الكلمة على رغم القطن الذي حشا به أذنيه، وعلى رغم الأقوال والشبهات التي ملئوا بها عقله، وعلى رغم الأشياء والشهوات التي حاولوا أن يحشروها في قلبه.
إنَّ حملة هذه الكلمة كثير، وحداتها ليس لهم حصر، وهي ليس لها مكان، فهي تقال في المجلس كما تقال في الطائرة، كما تقال في السوق، كما تقال في البيت سواءً بسواء كما تقال في المسجد أو في المدرسة.
إنها ليست أمراً مخجلاً يستحي منه الإنسان، أو يواري أو يداري بل هي رسالة الله عز وجل يحملها المخلصون الخالصون من عباده.(179/12)
الدعوة إلى الله تعالى ليست كلمات فحسب
إن الدعوة ليست كلمة فحسب، وإن كانت الكلمات من وسائلها، وأدواتها، نعم لقد نصر الله الإسلام بالكلمة الطيبة، ولكن كم هي الكلمات التي قالها خالد بن الوليد؟ وكم هي الأحاديث التي رواها؟ إنها قليل، ولكن خالداً كان يعبر عن نصرة الدين بالسيف والسهم والقوس.
وكم هي الكلمات المأثورة التي رواها أبو بكر الصديق؟ وراجع وفتش مسند أبي بكر الصديق، وقارنه بمسند أي صحابي آخر، ستجده في الغالب أقل، إنما يظل أبو بكر رضي الله عنه هو الرجل الثاني في قائمة الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
وبالمقابل هذا أبو هريرة رمز للكلمة الطيبة يروي ما يزيد على خمسة آلاف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبثوثةٌ في دواوين الإسلام، ويظل يحدث بها حتى تأتيه السهام بعد السهام، ويتكلم فيه المتكلمون، ويتقول عليه المتقولون، ويقولون: أكثر أبو هريرة، فيقول هو رضي الله عنه: [[إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، والله الموعد، إني رجل كنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، أما الناس فقد ألهاهم عن ذلك الصفق في الأسواق]] .
ويروي أبو هريرة رضي الله عنه في ضمن ما يروي أحاديث عن الصادق المصدوق عن الفتن التي تمر بهذه الأمة، وعن ولاة السوء التي ستبتلى بهم، فيتكلم عليه المتقولون، ويقولون: يا أبا هريرة! تثير الفتنة؟ فيظل أبو هريرة مصراً على أن يقول ذلك؛ لأن ذلك من جملة تبليغ الدين الذي لا يجوز أن يتأثر بالضغوط والأحداث والمجريات، وإن كان يستر بعض الأمور التي لا يتعلق بأمرها بلاغ، ولهذا يقول: [[حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر لو بثثته لقطع هذا الحلقوم]] .
إن نصرة الإسلام ليست محصورة بالكلمة، بل هي تتطلب جيوشاً من المختصين في كل ميدان من ميادين الحياة، فالإسلام جاء ليهيمن على الحياة كلها، وليس فقط ليتحدث من منبر.
إن من المؤسف -أيها الأحبة- أن يذهب أهل العلمانية أو النصرانية أو دعاة التغريب أو دعاة التهويد بأزمة الاقتصاد، ويسيطروا على بيوت المال، أو أن يهيمنوا على وسائل الإعلام، أو أن يسيطروا على قنوات التعليم ومناهجه، أو أن يديروا دفة السياسة، ويذهب أهل الإسلام بكلمة النقد فحسب لا يملكون غيرها، بل وحتى هذه الكلمة التي يقولونها لينصحوا بها هذا؛ ممن يقبل النصيحة، أو يفضح بها ذاك ممن عرف عنهم العداء للإسلام؛ حتى هذه الكلمة أصبحت تستكثر عليهم ويطلب منهم ألا يقولوها.
أفلا يحق لك أن تعجب ممن يمكنون للفساد كل الفساد في بلادٍ عزيزةٍ من بلاد الإسلام جاءها نصر الله، وفتحها جند الله عز وجل، وحكمها دين الله تعالى، ويعزز مواقع الفساد فيها، ثم ينتقد من يجترئ على مجرد وصف هذا الواقع، أو من يزيح عنه الستار؟!(179/13)
الدعوة ليست حبيسة بلد
إن دين الله عز وجل نزل للعالمين، ويوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وكان المؤمنون به يعدون على رءوس الأصابع، خاطبه الله عز وجل بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وقال سبحانه: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم:52] .
لقد أثبتت الأحداث أن كلمة الحق تتجاوز حدود الأقاليم والدول والمناطق والأجناس، وأنه ليس لها لون ولا جنس ولا بلد بل ولا لغة، والله تعالى يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56] إن حياً واحداً فقط في مصر وهو ما يسمى بحي أمبابه داهمته أجهزة الأمن، وانتقلت من بيت إلى بيت، ومن أسرة إلى أسرة يسكنه ما يقارب من مليون إنسان ينتظمون في أكثر من مائة ألف أسرة، ربما وجدوا في هذا الحي وحده ما يزيد على ثلاثة ملايين شريط، كلها ليست أشرطة غناء، وإنما هي أشرطة إسلامية، قال الله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إن مثل هذا الأمر يؤكد لك أن حجب كلمة الحق ليس حجباً عن فئة ولا عن مجموعة ولا عن بلد، بل هو حجبٌ لهذه الكلمة عن أمة طويلة عريضة، تنتظر كلمة الحق وتفرح بها، وتتطلع إليها في وسط ظلمات التضليل والتشكيك والتغيير، ثم إن هذه الكلمة إذا تخلى عنها أقوام تلقفها آخرون، فإن دين الله عز وجل ليس مقصوراً على فئةٍ بعينها.(179/14)
وصايا
وأوصيك بوصايا تسع فاحفظها عني: الأولى: الصبر وعدم الانجرار إلى استفزازات الذين لا يوقنون، فليس هناك أكثر حمقاً ممن يضيع الفرصة بعد ما سنحت، إلا ذلك الذي يستعجل الفرصة قبل أوانها، وهو خلاف الصبر، والله تعالى يقول: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] .
كثيرون يقولون: دَعَونا فلم يستجب الناس لنا، ولم يقبلوا دعوتنا، ادع وادع وادع، فإنهم إن لم يستجيبوا اليوم قد يستجيبون لك غداً.
ثانياً: فكر جيداً كيف تحول المشاعر والعواطف والانفعالات والأحزان إلى برامج عملية: علم، أو عمل أو دعوة أو جهاد، أو تجارة، أو أي عمل تخدم من خلاله دينك وأمتك.
ثالثاً: الدعوة إلى المزيد من العلم الشرعي، سواء في المدارس الشرعية، أو في المساجد وحلق العلم، ولا بد من أن يتعود الإنسان على أن يثني ركبتيه للدراسة: دراسة القرآن والسنة، فإن ذلك أمرٌ لا بد منه، وبه تميزت الأمة وأصبحت أمة إسلامية.
رابعاً: الاستمرار في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بكلمة الحق في كل مكان، وهذا لا يفتقر إلى إذن آذن، ولا يحتاج إلى قرار بعدما أمرك الله تعالى بذلك، فينبغي أن يبذل الإنسان وسعه في هذا، في كل مكان يحل فيه.
خامساً: نشر الكلمة الصادقة مسموعة كانت أو مقروءة وبكل وسيلة.
سادساً: توسيع دائرة الاهتمام بالعالم الإسلامي بأكمله، لا تكن أسير بلدٍ بعينه، ولا منطقةٍ بذاتها ولا قطرٍ؛ بل اجعل همك هم المسلمين في كل مكان، وإذا لم تنجح أو لم تفلح في الدعوة إلى الله تعالى في بلد، فهناك بلدان أخرى تنتظرك، وسوف تكون فيها أنت الداعية الذي يرجع إليه، ويحتاج إليه.
سابعاً: المشاركة في القنوات المتاحة التي تخدم المجتمع في الجامعات، والمدارس، والمؤسسات التعليمية والتربوية والإعلامية وغيرها، لتكون واحداً من الجنود المجهولين الذين يبذلون في سبيل الله تعالى ما يستطيعون، بل حتى لو كنت جندياً ينظر الناس إليك شزراً، حتى لو كنت وراء مكتب في بريد، أو كنت تلبس بزة عسكري، أو كنت أي شيء آخر، سواء كنت في منصب رفيع، أم وضيع في نظر الناس، فالمهم أن تحمل قلب داعية وهم داعية وتطلُّع داعية، وأن تبذل للإسلام من خلال موقعك الذي بوأك الله تعالى، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] .
إن الجنود المجهولين بحمد الله تعالى كثير، ولا يهمنا أن نعرفهم، فإن الله تعالى يعلمهم ويثيبهم، ووالله إنا لندعو الله تعالى لهم أياً كانوا وأينما كانوا، لأنهم يدافعون عن الإسلام ولو لم يعرفوا، ويعملون على إصلاح الأحوال بقدر ما يستطيعون، وربما يستطيعون مالا يستطيعه غيرهم.
ثامناً: الالتفاف حول العلماء والمشايخ المخلصين الصادقين المجربين، ودعوتهم إلى اتخاذ المواقف الصادقة التي ينصرون الله تعالى بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، تلك المواقف المنتظرة منهم ومن أمثالهم.
تاسعاً: الدروس الخاصة في البيوت وغيرها، والمحدودة في تلك المنازل فإنها ذات تأثيرٍ كبير في تعميق التربية وتأصيل العلم وهي ذات أثر بالغ في حفظ الأمة ودينها.
نعم لقد زال الاتحاد السوفيتي بعد سبعين سنة من الحصار على الإسلام، فما أن زال حتى تبين أن تلك الحجرات كانت تشهد حلقات العلم والتعليم وقراءة القرآن ومدارسته، وعادت دولة كطاجكستان التي ظلت سبعين سنة تحت تسلط الشيوعية؛ عادت خلال أقل من سنة دولةً تطالب بتحكيم الشريعة، ويخرج فيها أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان في الساحة العامة، ويظلون شهرين كاملين تحت أشعة الشمس يطالبون بحكم الشريعة.(179/15)
كلمة أخيرة
إنه واجب على الجميع تقديم المصلحة الإسلامية العليا؛ مصلحة الأمة على جميع المصالح الذاتية وعلى جميع المآرب الشخصية، ولا يجوز أبداً أن تكون مصلحة حزب أو شخص أو قبيلة مقدمة على مصلحة الأمة بأكملها، ويجب أن نتفكر فيما يصلح للأمة ويصلحها، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] .
إن استقرار بلاد الإسلام هو من مصلحة الجميع، وهذه البلاد بلاد الإسلام ستظل هي بلاد الإسلام، فلن ينتقل الإسلام ليكون ديناً في الدول الغربية مثلاً، لا! هذه بلاد الإسلام، منها خرج، وإليها يعود كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} .
وبلاد الإسلام كلها علماء ومفكرون ودعاة يصلحون أن يكونوا فيصلاً في الأمور كلها، وإنه من العجب أن يرفع البعض راية المصالحة، ثم ترفضها جهات ما تعلن أنها سوف تستخدم الأسلوب الحاسم في مواجهة الإسلام والمسلمين.
إنه قضاءٌ على البلاد وجرٌّ لها إلى مهالك لا يعلم مداها إلا الله عز وجل.
هذه بعض الأوراق تتحدث عن مجموعة من الهندوس الذين جاءوا إلى هذه البلاد، وعلم الله أنه قد آذانا وأزعجنا أن تستقدم وزارة الصحة منذ شهر رمضان، بل وقبله وفي الوقت الذي كان المسلمون يذبحون على أيديهم في الهند، أن تستقدم عشرات بل مئات الأطباء والطبيبات من الهندوس وتزرعهم في جميع الوحدات الصحية والمديريات، وكان نصيب منطقة القصيم ما يزيد على اثني عشر هندوسياً بعضهم متخصصون في قضايا النساء والولادة.
من يأمن الهندوس على نسائنا وعلى أطفالنا؟! أفهذه الجائزة التي قدمناها لهم على تذبيح إخواننا هناك وعلى تدمير المساجد وهتك الأعراض؟! أفهذا هو الموقف المنتظر مع إخواننا المسلمين الذين استنصرونا في الدين، والله تعالى أمرنا بأن ننصرهم على عدوهم، ثم نستقدم أعداءهم ونمكنهم، ونعطيهم الرواتب الضخمة، ونمكنهم من أعراض المسلمين ومن عوراتهم ومن أجسادهم؟! إن هذا أمرٌ لا يجوز، وقد تم إنكاره بكل الوسائل الممكنة فلم يزل، فبقي أن أدعوكم جميعاً إلى أن تقوموا بالإنكار والاحتساب، وتخاطبوا بذلك أهل العلم وتذكروهم بالله عز وجل، وتطلبوا منهم أن يكون لهم موقف صادق في إعادة الحق إلى نصابه وإبعاد هؤلاء وإقصائهم عن مثل هذه الأمور بقدر المستطاع.
ثم هذه أيضاً مجموعة أخرى من الأوراق التي وصلت إلي من إحدى المؤسسات الطبية في الرياض، وهي مؤسسة ضخمة، وهذه الأوراق مما يشيب له الوليد، ففيها حديث عن التنصير، والدعوة إلى النصرانية، وفيها دعوة إلى دعم اليهود، بل فيها دعوة إلى التمرد على الدين الرسمي في البلاد، وفيها دعوة إلى الإباحية، وفيها إهانةٌ للقرآن الكريم ورفع للإنجيل، وفيها ألوان من الجرائم والموبقات الكبار العظام , ويمارس في داخل هذه المؤسسة أمور كبيرة وعظيمة، ومثل هذا الموضوع أنا بصدد جمع الوثائق حوله، وسوف أتحدث عنها إن شاء الله تعالى في حينها.
فأنا آمل من الإخوة وممن وجد شيئاً من مثل هذه الأمور أن يوافيني به، مع أن من الواجب أن نناصح بقدر المستطاع، ونبذل متى وجدنا آذاناً صاغية، أما حين تعرض هذا الآذان عنا، وتتحول إلى البحث والتحري عمن يكون مصدراً لتلك الأخبار لتقوم بإبعاده أو إقصائه، أو الحيلولة بينه وبين معرفة الواقع، فإن هذا لا يسوغ ولا يليق، وليس هذا هو أسلوب الحوار، ولا أسلوب العمل والتصحيح.(179/16)
الأسئلة(179/17)
سؤال عن توقيف الشيخ
السؤال
يقول: سمعنا عن إيقافكم هل هذا صحيح؟ وإن كان صحيحاً فما الأسباب؟
الجواب
نعم هو صحيح، أما الأسباب فغير معلومة، والله تعالى أعلم بها، ولكن من المعروف أنه منذ زمن بعيد كان هناك عدم ارتياح لما نطرحه ونتحدث عنه، من الدعوة إلى قيام الناس بالدعوة إلى الله، وقيامهم بإنكار المنكرات، وتوعية الناس، ورفع مستوى إدراكهم للأمور، ومعالجتهم للأحداث، وضرورة إشراك الأمة الإسلامية كلها -ونحن لا نتحدث عن بلد بعينه- في قضاياها وشئونها وقراراتها ومسائلها، وبالتأكيد أن السبب يدور في هذا الإطار.(179/18)
المنشورات الهدامة
السؤال
يقول: ما رأيكم في المجلات والجرائد التي تقوم بنشر الأخبار الهدامة للخلق والحياء، وتقوم بنقل لوثات الحضارة الغربية إلى بلاد المسلمين؟
الجواب
هذا يذكرني ببعض الجرائد والمجلات التي وصلتني هذا الأسبوع، مجلات تباع في بعض الأسواق، لا أقول العامة بل الخاصة، أسواق لشركات ولمؤسسات، ولكنها متاحة لأبناء هذه البلاد كما هي متاحةٌ لغيرهم، فيها الرذيلة صراحةً، وفيها العري التام، وفيها رجل وامرأة على وضع سيئ، وفيها ألوان الكلمات البذيئة، بل وهناك بطاقات توزع وتباع، بطاقات جنسية، بطاقات تحريض على الشهوة، بطاقات إثارة للغريزة، وهي عندي موجودة كوثائق على ما أقول، فهذا يؤكد أن أمر الحرب على الإسلام من قبل أعدائه ليس أمراً سهلاً، وتصور أن هناك فئة حتى ولو كانت مخلصة رسميةً أو غير رسمية أنها سوف تقف في وجه هذه الحرب، هذا وهمٌ كبير، وما لم نشارك جميعاً، ونكون على مستوى الوعي، ويقوم كل واحدٍ منا بدوره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب، وقول كلمة الحق والصبر على ذلك وتحمل ما يلقى؛ ما لم نفعل فإنه يخشى أن ينزل علينا عقاب الله تعالى صباحاً أو مساء.(179/19)
قصيدة تصف الأوضاع
هذه قصيدة يصف بها بعض الأوضاع يقول: قلنا ومطرقة العذاب تدقنا سيجيء دورك أيها السندان وسيأكل السرحان لحم صغاره إن لم يجد ما يأكل السرحان فتمرت الضحكات في دمعاتنا وتكدرت من صحونا الكيزان حتى إذا ما سكرة راحت وجاءت فكرةٌ وتثاءب النعسان غفلت زوايا الحان عن ألحانها وانحطت الشرفات والحيطان وهوى الهوى متضرجاً بدمائه وانهد من ندمٍ بها الندمان أيها الإخوة أسأل الله تعالى أن يجمعني وإياكم على طاعته، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يعز الإسلام والمسلمين إنه على كل شيء قدير، اللهم اعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع قريب مجيب الدعاء، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام في هذه الليلة المباركة ألا تطلع شمس غدٍ إلا وقد أبرمت لدينك نصراً عزيزاً، وبيتَّ الكافرين والمنافقين والمشركين وسائر أعداء الدين يا أرحم الراحمين، اللهم فرج عن إخواننا المنكوبين في كل مكان، اللهم فرج عنهم، اللهم فرج عنهم إنك على كل شيء قدير، اللهم انصر الإسلام في كل مكان، اللهم انصر الإسلام، اللهم وفقنا جميعاً للعمل بشريعتك، وتحكيم كتابك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك أن تجمع المسلمين على الحق إنك على كل شيء قدير، اللهم اجمع كلمتهم على الحق، اللهم وحد صفوفهم على الهدى، اللهم أصلح ذات بينهم، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم قهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن إنك على كل شيء قدير، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين.(179/20)
قرار الحرب على الدعوة بين النساء
السؤال
يتساءل عن القرار الذي قرأته بالمجلس السابق؟
الجواب
نعم نعم لقد قرأت في المجلس السابق قراراً من إحدى المناطق عن محاربة الدعوة في مجال النساء والتضييق عليهن، ومنع أية حلقة لتحفيظ القرآن الكريم أو طلب العلم الشرعي، أو دراسة السنة في ذلك البلد، والمطالبة حتى من قبل جهات تعليم البنات في ذلك البلد بكتابة التقارير وإعدادها والتجسس على كل فتاة مؤمنة يظن بها ذلك، وقد تعدى الأمر من القول إلى الفعل، فأصبح مجموعة من الإخوة في تلك المنطقة رهن الاعتقال، وما لهم من سبب إلا أن زوجاتهم كن يقمن دروساً لتحفيظ القرآن الكريم في بيوتهم.(179/21)
تعميم من مسئول
وهذا أيضاً خبرٌ يقول: إن مسئول إحدى الدوائر الأمنية أصدر تعميماً إلى من تحت يده يطالبهم إذا وجدوا أحداً يكتب عبارات (سبحان الله، والحمد لله، أو لا إله إلا الله، أو صلوا على النبي) أن يقوموا بالقبض عليه؛ وذلك خشية أن يتطور الأمر إلى كتابة ما هو أعظم من ذلك.
تعقيب: يا سبحان الله! طول عهدنا منذ طفولتنا ونحن نجد الجسور والبيوت والجدران والشوارع مليئة بألوان الكتابات البذيئة والكلمات غير الأخلاقية والعبارات المذمومة، بل ويتعدى الأمر أحياناً إلى النيل من أشخاص وغير ذلك، ولم يسبق أن حصل مثل هذا، أما اليوم فإن القضية لا تعدو ملاحقة الذين يكتبون (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ويسجن الواحد، ما هي الجريمة التي سجن بسببها؟! ولماذا يحقق معه؟! يحقق معه لأنه كتب في الجسر مثلاً أو كتب على جدار، أو كتب في لوحة (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ، وبمقتضى ذلك القرار فلو وجدوا شخصاً يكتب ألفاظاً بذيئة، أو كلمات سيئة، فإنهم لا يقبضون عليه، إنما يقبض عليه -وهذا هو النقص- إذا وجد يكتب عبارات تسبيح أو نحوها.
إن مثل هؤلاء الأشخاص هم فعلاً حرب على الإسلام، ويجب أن يوقفوا عند حدهم، ولا يجوز أبداً أن تكون الحرب على الأخيار، فهذا يبعد، وهذا ينفى، وهذا ينقل عن عمله، وهذا يبعد عن منطقته، وهذا يحال بينه وبين الدعوة والخير، وما أشبه ذلك من ألوان المضايقات، ثم هؤلاء يسرحون ويمرحون كيف شاءوا! إنه يُخشى من عقوبة إلهية تنزل علينا جميعاً إذا لم نقم بإنكار هذا المنكر، ولم نحتسب عليه، وقد علمنا أن الكفاية لم تقم أبداً الكفاية لم تقم بل ربما لم يقم أحد بالإنكار أصلاً.
ونحن نعلم أن هناك من تخاطبه فيقول لك: الله المستعان! الأمور أعظم من ذلك، ثم لا ينكر لا سراً ولا علانية، ولا يكلف نفسه بالاتصال الهاتفي -مثلاً- على هذا الإنسان ليوبخه أو ينكر عليه، أو يدعوه إلى أن يصدر قراراً ينقض به ما أبرم.(179/22)
اقتراح ونصيحة
هلا بثثت مشاعري لإخواني، يقول: نصيحة لإخواني ومن يستمعوا إلى هذا الكلام عبر الشريط: إن كلاً منا على ثغرةٍ من ثغرات الإسلام فلنحذر أن يؤتى الإسلام أو يحارب من قبلنا، فلننصر ديننا، ودعوتنا، وصحوتنا الكبرى، علينا أن ننصرها بكل ما لدينا من قوة معنوية وحسية، فلا نبخل بالدعاء لإخواننا في صلواتنا، وخاصة في سجودنا، وأن ننصر ديننا حسياً بالمادة والمال، وبالحرص كل الحرص على نشر كلمة الحق التي يحملها الشريط والكتاب الإسلامي، وعلى سبيل المثال: ماذا لو نسخ كل منا خمسة أشرطة فقط لهذه المحاضرة؟ إننا والله سننشر خيراً كثيراً، فلو كان الحضور في هذه الليلة المباركة خمسة آلاف لنشرنا خمسةً وعشرين ألف شريط، ففكروا بهذا العمل جدياً، فالكل بحاجة إلى ما تهدونهم إليه من خير، فكم من غافل عن مثل هذه المجالس والمحاضرات سندله عليها، والدال على الخير كفاعله.
تعقيب: وأقول لأخي الكريم أنا معه فيما قال، وهذا ما كنا وما زلنا نطالبكم به، وهو أن تكون الدعوة هماً للجميع وليست هماً لأفراد، وأقول: إذا أردت أن تنسخ شريطاً فلتختر الشريط المناسب لمن تنسخه له؛ ليس بالضرورة أن تنسخ هذا الدرس، فقد يكونُ القوم الذين ستبعث إليهم يحتاجون إلى وعظ مثلاً، أو إلى إرشاد، أو توجيه، أو تعليم، امرأة تحتاج إلى أمور تتعلق بالنساء، المهم أن تقوم بمجهود الدعوة، ونحن لا يجوز أبداً أن ندور حول أفراد، أو أشخاص، أو قضايا ذاتية.(179/23)
تعليق على ضرائب البترول
السؤال يقول: ما هو تعليقكم على ما فرض على البترول من الضرائب من قبل الدول الغربية؟
الجواب
هذا نموذج وبداية للحرب، فالحرب اليوم ليست بالسلاح ضرورة، من ألوان الحرب بل من أهمها: الحرب الاقتصادية، والغرب يعاني من الاقتصاد كثيراً، ولذلك فرض ضريبة النفط، أو ضريبة الطاقة التي يزعم أنها من أجل معالجة الآثار التي تحدث على البيئة، وهذه الضريبة تتطور مع الزمن، وهي بلا شك ضريبة باهضة، والدول الإسلامية -مع الأسف- لا تملك أكثر من الاستنكار، أما أن تتخذ موقفاً صارماً صريحاً، وتفرض ضرائب على البضائع التي تأتي من الدول الأخرى؛ فهذا غير وارد في الاعتبار في كثير من الأحيان، بل لا تقوم تلك الدول الإسلامية بمقاطعة بضائع الدول الغربية، فما الذي يمنع أن نقاطع البضائع الأمريكية، وأن نقوم بحجبها، والحيلولة بين المسلمين وبينها، وأن نرفع شعاراً لمقاطعتها بقدر المستطاع؟ لو فعل المسلمون ذلك لأثروا تأثيراً كبيراً في اقتصاد الغرب، ولكن المسلمين في نظري ما زالوا دون مستوى هذه الخطوة.(179/24)
السماح للرافضة والتضييق على السنة
السؤال يقول: لماذا نرى الرافضة يصولون ويجولون دون حسيب أو رقيب هنا في بلادنا وفي كل مكان، والنصارى والمنافقون والفساق -لا كثرهم الله- كل هؤلاء يرموننا عن قوسٍ واحدة، ونحن لا نملك إلا أن نسلم لهم، فما أن يقوم داعيةٌ يصدح بكلمة الحق، أو يصدع ويدافع عن حرمات الله إلا ويوقف في وجهه؟
الجواب
أقول: هذا من أعجب العجب، إن الرافضة اليوم قد نشطوا وأصبحت أزمة الاقتصاد في أيديهم في أكثر من منطقة في أسواق الذهب وفي غيرها، واستطاعوا أن يهيمنوا على بعض الأقسام في مستشفيات في المنطقة الشرقية وغيرها، ولهم ونفوذ كبير في شركة أرامكو، بل بعض الأقسام ربما لا يجد فيها إلا رافضة أو على أقل التقدير يكون رئيس القسم من الرافضة ويدني ويقرب أولاد ملته ودينه، وهم على نشاط قوي، وهم يترددون على أبواب المسئولين هنا، ويحظون بحفاوة كبيرة، ويقيمون الاجتماعات الضخمة والأعراس الجماعية التي قد تصل إلى مائة، ويقيمون معارض الكتب التي تبيع الكتب التي تسب الله وتشتم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويعقدون الاجتماعات، بل أقول لكم: وينظمون الدروس والمحاضرات في جداول يوزعونها على أهل الطائفة في الحسينيات وغيرها، ويعقدون المسابقات العلمية للأولاد والبنات، ويفعلون أشياء كثيرة، بل ويتميزون عن المسلمين هنا حتى في الإمساك، فهم ما أمسكوا إلا بعد المسلمين عن أهل السنة بيوم في رمضان، ومع ذلك يجاملون.
ما هي عقيدة الرافضة في أهل هذه البلاد؟ إن من الحقائق التي لا تقبل الجدل أن من دين الرافضة أنهم يعتقدون أن أهل السنة كفار، حاكمين ومحكومين علماء وجهالاً، والرافضة يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
إذاً: فما هي نظرتهم إلى حكام هذا الزمان؟ ومع ذلك هل وجد من سألهم ما هي عقيدتكم؟ أو ما هو مذهبكم؟ أو ما رضوتكم؟ أو أين بيعتكم؟ أو لماذا لا تقدمون الولاء؟ ومن المعلوم أن الرافضة يدينون بمذهب التقية أيضاً، فهم يقولون ما لا يعتقدون، ويبطنون ما لا يظهرون، وكتبهم تطفح بذلك، وهذه كتب العقائد اشتريناها من هنا من معارض كتبهم وهي تدينهم وتثبت هذه الأشياء كلها عنهم.
وأهل السنة ماذا يصنعون؟ أهل السنة الجيد منهم هو من يعد خطبة يفضح فيها خطط الرافضة، ويكشف عن ألاعيبهم وأعمالهم، ثم يأتيه بعد ذلك السؤال تلو السؤال والتضييق حتى من بعض الناس يقولون: لا داعي لهذا الأمر، أي فائدة من ذلك؟ على أقل تقدير إذا لم يستطع أهل السنة أن يقوموا بعمل حقيقي جاد في كل المجالات من تعليم وجهاد واقتصاد وعناية ومنافسة وسبق لغيرهم وإذا لم يستطيعوا ذلك كله فعلى أقل تقدير أن يكونوا كما قال الأول: أوسعته شتماً وأودى بالإبل!(179/25)
الأمة الغائبة
تنوع خطاب الشيخ في هذا الدرس، وإن كان كثير منه مركزاً على عوامل نهوض الأمة المسلمة المغيبة عن أحداث العالم، وضارباً المثل بمجتمع الصحابة الجيل الأول للإسلام، مؤكداً أنه لا حل سوى النهوض بالفرد المسلم، وتغلغل الدعوة في كل طبقات المجتمع وإخراجها من دائرة تجمعات المساجد والمحاضرات، مؤكداً أن معظم الجماهير المسلمة غير مقتنعة بكثير من مظاهر الظلم والفساد التي تحصل في بلاد المسلمين وخاصة من حكامها؛ وأن بمقدور الأمة الإسلامية صنع الشيء الكثير إن هي اجتمعت.(180/1)
عموم الخطاب الشرعي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
هذه ليلة الإثنين الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة من سنة (1412هـ) ينعقد فيها هذا الدرس [61] من سلسلة الدروس العلمية العامة التي تلقى في الجامع الكبير ببريدة.
نعم أيها الإخوة: كنت قلت لكم أن موضوع هذا الدرس وعنوانه سيكون العوائق النفسية، وفعلاً: هذا هو موضوع الحديث، ولكني وجدت أن المقدمة التي لا بد من عرضها طويلة، وهي تعالج موضوعاً يصح أن يعبر عنه بالأمة الغائبة، وهو كالمقدمة لموضوع: العوائق النفسية، وبناءً عليه أقول: حديثي إليكم في هذه الليلة: الأمة الغائبة، أما الاستطراد في موضوع العوائق النفسية، فسيكون له حديثه الخاص المفصل إن شاء الله تعالى.
حين تقرأ القرآن الكريم، تجد أن الله تعالى خاطب الناس في أكثر من عشرين موضعاً في القرآن بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وخاطب الإنسان بلفظ الإنسان: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] {يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] أما لفظ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فقد ورد في القرآن الكريم نحواً من تسعين مرة، ولفظ الناس أو الإنسان يشمل كل إنسان على ظهر هذه الأرض، سواء كان عربياً أم عجمياً، ذكراً أم أنثى، كبيراً أم صغيراً، من الذين كانوا موجودين في زمن البعثة، أو ممن خلقوا ووجدوا بعد ذلك.
كما أن لفظ الذين آمنوا يشمل كل مؤمن أياً كان لونه وجنسه وبلده، وأياًَ كانت مرتبته في الإيمان أيضا، قوةً أو ضعفاً أو غير ذلك، ويقول الله عز وجل في محكم تنزيله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] فهذه الآية تؤكد أن المسئولية على كل إنسان، وأن الحساب فردي يوم القيامة، وهو المعنى الذي يؤكده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان عن ابن عمر: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} .
حتى ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الإمام وهو الحاكم الإمام الأعظم الخليفة وذكر في الجانب الآخر الخادم ورعايته في مال سيده، وكلكهم راعٍ وكلكهم مسئول عن رعيته.
أيها الإخوة: إن قضايا الأمة الإسلامية كلها لن تنجح إلا إذا صارت هذه القضايا هماً للجميع، يشتغل بها كل إنسان ويتعاطاها، حديثاً، ومناقشة، ومراجعة، ودراسة، ومشاركة، ولذلك لابد أن يكون هناك خطاب لجمهور الأمة كلها على كافة المستويات، خطاب يرفع مستوى التفكير عند الأمة، ويرفع مستوى الاهتمام عند الأمة، بحيث نكسر احتكار هموم الأمة لفئات خاصة.
فلا تعود مشاكل المسلمين أو قضاياهم أو أمورهم حكراً على فئات الدعاة يعالجونها ويخاطبونها، ولا حكراً على فئة العلماء، ولا حكراًً على أهل الرئاسة، ولا حكراً على أهل الإعلام والصحافة، لا، بل تصبح الأمة تعالج قضاياها بنفسها، ولا يشعر فرد من هذه الأمة أن هذا الهم لا يعنيه إنما يعني غيره، أو أن هذا هَمّ فلان وفلان من العلماء أو الدعاة أو الرؤساء أو الإعلاميين أو سواهم.
النص القرآني خطاب للجميع كما سمعتم، خطاب للعموم، وكذلك النص النبوي، والأصل في التشريعات القرآنية والنبوية أنها موجهة لكل الناس دون استثناء، فالقرآن لم ينزل للأذكياء فقط، بل نزل للذكي ومتوسط الذكاء وللغبي أيضاً، وكل إنسان عنده عقل يعقل به أمر الله فهو مكلف بشرعية الله عز وجل، بغض النظر عن كون عبقرياً أو كونه إنساناً بسيط التفكير سطحي النظرة.
والقرآن والسنة أيضاً لم يكونا للسادة فقط، بل نزل القرآن وصدر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخاطب السادة وعِلْيَةَ القوم كما يخاطب السوقة والعامة والدهماء من الناس، والقرآن والحديث لم يوجه خطابهما إلى الأغنياء والأثرياء وأصحاب الأموال، بل وجه إلى الأثرياء والفقراء والمتوسطين والمعدمين على حد سواء.
بل إنك تجد أن التخصيص لا يكون إلا في أمور معينة لا يدركها إلا الخاصة من الناس، فمثلاً يقول الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] .
إذاً: أنت الآن أمام قضية لها أبعاد، ولها أطراف، ولها خفايا، ولها أحكام، ولها نصوص، لا يدركها كل إنسان، فهذه نعم يردها العامة، ويردها جمهور الناس إلى الذين يستنبطونها من العلماء والخبراء بشئونها، أما ما سوى ذلك فالخطاب للجميع، بل لعلك تعجب! حتى الآيات القرآنية التي جاء فيها الخطاب للنبي صلى الله عليه سلم، فحقيقة الحكم لا تخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تشمله وتشمل غيره من الناس {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] .
وهذه الآية وإن كان الخطاب فيها موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو خطاب للأمة كلها من ورائه، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] مع أن صدر الآية يبدأ بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الطلاق:1] إلا أنه يبدأ بعد ذلك يخاطب الأمة كلها {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] وبإجماع العلماء فالخطاب، والحكم في هذه الآية عام لجميع الناس.
الأحكام التي يختص بها الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن محدودة جداً، مثل قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب:52] ومثل قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] إلى غير ذلك، فهي أحكام قليلة.
أما الأصل في الخطاب الإسلامي والقرآن والحديث أنه خطاب لكل إنسان، والخطاب الإيماني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هو خطاب لكل مؤمن.(180/2)
ضرورة المساهمة الجماعية لرقي الأمة
نحن الآن أيها الأحبة: في مرحلة انتقال الأمة من وضع إلى وضع، في مرحلة معاناة الأمة مشاكلها، وهمومها، وآلامها، وجراحها، في مرحلة صحوة الأمة، وينبغي أن نعلم جيداً أن هذه الصحوة، وهذه اليقظة، وهذه المعاناة، لا يمكن أن تثمر أبداً إلا إذا أفلحنا في جعل قضايا الأمة هماً للجميع، يتعاطاها كل إنسان، ويتحدث عنها الأطفال في مدارسهم، وتتحدث عنها العجائز في عقر دورهن، ويتحدث عنها الرجل العامي، كما يتحدث عنها العالم أو الداعية أو المثقف سواءً بسواء.
بحيث نفلح في جر الجميع إلى ساحة العمل والمشاركة، إن أمكن جرهم باللين فبها، وإلا نجرهم بالقوة إذا لزم الأمر، ليتعاطوا قضايا أمتهم بحثاً ومشاركة ومساهمة، مشاركة بالرأي وبالعطاء وبالمال وبالكلمة وبالهمّ وبالدعوة، وبكل وسيلة ممكنة.(180/3)
سبب نجاح قضية أفغانستان
ولكن أيضاً مما ينبغي أن يوضع في الاعتبار أن قضية أفغانستان كانت هماً للعالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، المرأة المسنة كانت تعنيها أوضاع أفغانستان، وأنا أعرف امرأة قريبة لي إذا أتيتها أزورها حدثتني عن آخر أخبار المجاهدين الأفغان، وقالت: اليوم انتصروا، ومرة أخرى قالت: اليوم انهزموا، ومرة قالت: قتل منهم كذا، ومرة قالت: أصيبوا بمصيبة، فإن رأتهم على خير بكت فرحاً، وإن رأتهم على حزن بكت ألماً، وهي امرأة مسنة، هذه نموذج.
وبالمقابل كتبت لي امرأة عن طفل لها صغير يدرس في الرابعة الابتدائية في أحد مدارس تحفيظ القرآن الكريم، فتقول: إنه معني أشد العناية بأمر المجاهدين الأفغان، فهو يتتبع أخبارهم، وقد يبكي لهم أحياناً، وربما أخذ شيئاً من المال الذي يعطيه أبوه ليشتري به طعاماً أو شراباً في المدرسة، فأعطانيه، وقال: هذه للمجاهدين الأفغان.
أمة بأكملها كانت تتفاعل مع وضع المجاهدين الأفغان، إذاً كان هذا هم الجميع، ولذلك انظر قدرة الله تعالى وحكمته، تخلت الحكومات كلها عن المجاهدين الأفغان في الفترة الأخيرة، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وزواله، وبداية طرح ما يسمى بالحلول السلمية من قبل الأمم المتحدة وغيرها، فتخلت الدول العربية والإسلامية عن الجهاد الأفغاني، وأسلمت المجاهدين وطالبت باكستان المجاهدين بالرحيل عن أراضيها، وأغلقت المضافات التي كانت تقام في بيشاور، ومع ذلك أبى الله إلا أن يستمر الجهاد الأفغاني، بل أبى الله إلا أن يحقق الجهاد الأفغاني أعظم انتصاراته، وأرقى مكاسبه، وأنجح أعماله في تلك الفترة التي تخلت عنه فيها الحكومات.
وفي هذا درس أن العبرة هو بتفاعل المسلم العادي، حتى ولو كان فقيراً أو شخصاً عادياً، أو ضعيفاً، أو رجلاً كبيراً مسناً، أو امرأة في بيتها، أو طفلاً صغيراً، المهم أن تكون مشاعر المسلمين وقلوبهم مع هذه القضية أو تلك من قضايا المسلمين.(180/4)
قضية البوسنة
مثلٌ آخر ولعلنا نعيشه الآن، أحداث يوغسلافيا، وما يلقاه المسلمون في البوسنة والهرسك على أيدي الصرب النصارى من قتل وتشريد، وذبح وتطريد، لا زالت تتحدث عنه وكالات الأنباء، هذا الوضع من جهة أنت تجد تفاعل المسلمين على أشده مع هذه القضية، والأموال التي جمعت في هذا البلد وفي بلاد أخرى كثيرة أموال بحمد الله طيبة جداً، يعلم بذلك كل من ساهم في جمع شيء لأولئك المسلمين المنكوبين المطرودين المسفوكة دماؤهم على مرأى ومسمع من العالم.
القضية الآن في طريقها إلى أن تتحول إلى هم شعبي، يعانيه كل مسلم في أي بلد، فوق كل أرض وتحت كل سماء، ولو حدث هذا، لما أمكن أن ينهزم المسلمون بإذن الله، لا في أفغانستان، ولا في يوغسلافيا.
ولذلك أنت تلحظ أمراً إن كنت أدركته وإلا فلتتأمله الآن: العالم الغربي الآن، -العالم النصراني- يحاول أن يلتف على قضية يوغسلافيا، يلتف عليها بالدعاية الإعلامية، مثلاً: صرح وزير الخارجية الأمريكي بتصريح شديد اللهجة ضد الصرب، وقال: إنني أطالب العالم أن يتخذ موقفاً صارماً وقوياً ضد هذه المذابح الرهيبة التي لم يشهد لها مثيلاً منذ قرون.
وزير الخارجية الأمريكي يصرخ بالعالم ويستنجد لصالح المسلمين في يوغسلافيا سبحان الله! ما الذي تغير؟ الأمر بسيط يا أخي، إن أمريكا لا تستنجد بالعالم، بل العالم هو الذي يستنجد بها في العادة، وأمريكا لما أرادت أن تتدخل في أكثر من بلد ما احتاجت إلى تصريحات حماسية، ولا احتاجت إلى خطب رنانة، بل كل ما في الأمر أنها دعت مجلس الأمن إلى الاجتماع واتفقت على اتخاذ إجراءات حاسمة، التدخل هنا، والضغط هناك، والحصار الاقتصادي ضد هذا البلد، والحصار العسكري ضد ذاك البلد، وغير ذلك حتى أفلحت في تحقيق ما تريد، وما أحداثها في العراق -مثلاً- ثم في ليبيا، ثم في غيرها من البلاد إلا خير شاهد على ذلك.
إذاً: لم تكن أمريكا بحاجة إلى أن تصرخ وترغي وتزبد، وتقول: أين العالم المتفرج؟! يجب أن تتدخلوا يا عالم، لأن العالم يعتبر أن أمريكا الآن هي الزعيم المتوج لهم، ولكن هذه التصريحات هي للاستهلاك المحلي فقط، ولتخدير مشاعر الناس، ولئلا يقول الناس: أين دور الغرب؟ أين دور أمريكا؟ أمريكا تتحالف مع النصارى، من أجل ألا يقال هذا، رأوا أن المسلمين تكفيهم التصريحات فصرخوا حتى يهدأ الناس، وصرخوا أيضا لأنهم لا يريدون أن تثور المشاعر الإسلامية، لا يريدون أن تكون قضية يوغسلافيا قضية كل مسلم، لأنهم يعلمون جيداً أن المسلمين لو شعروا كلهم أن هناك حرباً صليبية تدبر ضدهم لم يقف أمامهم أحد.
حتى وإن كانوا عزلاً من السلاح، حتى ولو سلط عليهم، حتى ولو وقف في وجوههم من وقف، والله لو شعرت الأمة الإسلامية وأقول: حتى الذي لا تربطهم بالإسلام إلا رابطة الانتماء الوراثي، حتى الذين لا يؤدون الصلوات، لو شعروا أن هناك حرباً توجه إليهم؛ لأنهم أولاد مسلمين، أو لأنهم يعيشون في رقعة إسلامية، أو أن اسم الواحد منهم أحمد ومحمد علي وصالح، لو شعروا بهذا لرجعوا إلى دينهم واستقاموا على أمرهم، وحاربوا وقاوموا.
وما بالك بألف مليون إنسان لو غضبوا؟! لا يقوم لغضبهم شيء، فلهذا يداري العالم الغربي، يداري غضبهم، فيحاول أن يشعرهم، أو يعطيهم في كل وقت إبراً مخدرة تلهيهم وتجعلهم لا يدركون هذه الحرب النصرانية الصليبية التي تدبر ضدهم.
إذاً: فالغرب يدرك القضية التي نتحدث عنها الآن، إن أي قضية لكي تنجح يجب أن تكون هماً للجميع: الكبير والصغير، الرجل والمرأة، المثقف والعامي، العالم وغير العالم، وإذا أفلحنا في جعل قضايا الإسلام هماً للجميع فمعنى ذلك أنها قضايا ناجحة بلا شك، ونقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
فهذه قضايا اهتم بها الناس فصارت في طريقها إلى النجاح والفلاح، لكن في مقابل ذلك، تجد هناك أنواعاً أو جهادات أخرى في بلاد مختلفة لم تحض بكسب الاهتمام بما فيه الكفاية، فظلت تراوح في مكانها منذ زمان بعيد، فكثيرون كانوا يسمعون أخبار الجهاد في هذا البلد أو ذاك، وكثيرون سمعوا بالمدينة التي دمرت على أهلها، وهدمت مساجدها على رءوس المصلين، وقتل فيها في ضحوة واحدة ما يزيد على عشرة آلاف أو عشرين ألف مسلم.
وكثيرون يتحدثون عن مذابح رهيبة حصلت لأحد الشعوب المسلمة من عدد من الدول التي تتقاسم حكمهم، وقتلتهم بطريقة وحشية، وسكت الإعلام الغربي عن تلك المذابح، وسكت الإعلام العربي تبعاً لذلك، حتى مجرد العلم بهذه المذابح لم يعلم بهم أحد، فضلاً عن أن يحزن لهم أو يتحرك من أجلهم.
ولما احتاج الإعلام العربي أن يتكلم عن تلك المذابح نكاية بأحد الأنظمة، تكلم ولكن بعد فوات الأوان، وبعد خراب البصرة! إذاً قضايا المسلمين الواقعية، وجهاد المسلمين، ومواجهة المسلمين لخصومهم وأعدائهم، لا تنجح نجاحاً حقيقياً إلا إذا أفلحت أن تصل إلى عقول كل المسلمين، وإلى قلوب كل المسلمين، أو على الأقل جمهور المسلمين فلا يكون ثمة حواجز بينها وبينهم، لا تخاطب النخبة المثقفة أو علية القوم أو العلماء أو الساسة والسادة والرؤساء لا، بل تخاطب المسلم أياً كان، وتناديه، وتصل إلى قلبه وعقله، هذا مثال.(180/5)
جيل الصحابة
انظر إلى الجيل الأول الذي قام على يديه الإسلام أول مرة، هل قام الإسلام أول مرة على يد أفراد محدودين من الناس؟ كلا، بل قام على يد جيل كله كان يتحرك للإسلام، وكله كان يشتغل بقضية الإسلام، وكله كان يراقب سير الدعوة، فيصحح إن احتاج الأمر إلى تصحيح، ويؤيد إن احتاج الأمر إلى تأييد، ويعارض إن احتاج إلى معارضة، كلهم كان معنياً بأمر الإسلام.
ترجم ابن الأثير -مثلاً- في أسد الغابة لما يزيد على سبعة آلاف وسبعمائة صحابي ما بين رجل وامرأة، لا تجد في ترجمتهم أحداً منهم مغموراً، لا بد أن تجد للواحد منهم مشاركة في بناء صرح الإسلام، ومساهمة في دفع عجلة الإسلام إلى الأمام، وأنت تجد في الأحاديث ذكراً لأشخاص رجالاً ونساءً ربما يجهل الواحد منا أسماءهم الآن.
فمثلاً: من هو الذي لم يسمع بحديث ذي اليدين؟ {لما سلم الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشيء الظهر أو العصر، سلم من ركعتين، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام رجل يقال له: ذو اليدين -في يديه طول- فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما نسيت ولم تقصر، قال: بل نسيت، فقال عليه الصلاة والسلام: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فاستقبل القبلة وأكمل ما عليه ثم سجد السجدتين} .
ما اسم ذي اليدين؟ يقولون اسمه الخرباق بن عمرو، وقيل غير ذلك، ليس المهم اسمه، المهم أن الرجل قام بدور في عملية بناء الإسلام، وهذا الرجل قد يكون مغموراً عند الكثيرين.
وفي مجال النساء مثلاً، المرأة التي كانت تقمّ المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضاً، كانت تقيم المسجد فماتت فدفنوها، ففقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسأل عنها، فقالوا: ماتت يا رسول الله! قال: {هلَّا آذنتموني، قالوا: إنها ماتت في الليل فكرهنا أن نوقظك، فقال: دلوني على قبرها، فذهب إلى قبرها صلى الله عليه وسلم وكبر عليه أربعاً} .
هذه المرأة قامت بعمل كبير في بناء الإسلام، في بناء صرح الإسلام، وتعزيز مكانته، كانت تقمُّ المسجد وهذا عمل عظيم، ولذلك عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رضاه عن العمل التي كانت تقوم به بأن سأل عن قبرها وكبر عليها أربعاً بعدما دفنت، واستغفر لها النبي عليه الصلاة والسلام.
فالجيل الأول كله كان جيلاً فعالاً، ولا أدل من ذلك من قول ربنا عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] .
فوصف الله تعالى الذين آمنوا مع رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف، التي تشمل كل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، على تفاوت في درجاتهم وطبقاتهم، فبالتأكيد ليست منزلة أبي بكر مثلاً أو عمر، كمنزلة رجل من مسلمة الفتح، لكن كلهم يدخلون تحت عموم قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] كلهم يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
وهذه امرأة اسمها أم هانئ أجارت رجلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ} {المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عنهم أحدهم، وهم يدٌ على من سواهم} .
ولذلك حتى فَقْدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليمنع بقاء الإسلام وانتصاره، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تولَّى بعده أبو بكر رضي الله عنه، وحمل الراية من بعده، ومع أنه لا مقارنة فرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيدٌ بالوحي من السماء، ومع ذلك فإن أبا بكر قد قام بالأمر من بعده خير قيام، ورضيه الناس لدينهم ودنياهم، كما رضيه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح في عقيدة المسلم أن خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر.
إذاً هناك سر في انتصار الإسلام أول مرة، ورسوخ دعائمه واستمراريته، هو أن الإسلام لم يكن همَّ شخص واحد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هم أربعة هم الخلفاء الراشدون، ولم يكن هم عشرة هم المبشرون بالجنة، ولم يكن هم ألف وأربعمائة أيضاً هم الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، كلا، بل كان هَمَّ جيل بأكمله.
ولن يفلح وينجح ويصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، أي بأن يكون أمر الإسلام هماً يشغل كل مسلم، قد يقول قائل: كيف ذلك؟ فأعطيك بعض الأمثلة الموجودة على الساحة اليوم، التي تدلك على نجاح الأمر حينما تعانيه الأمة كلها، وفشل الأمر حينما يكون هماً لفئة خاصة، خذ مثلاً قضية أفغانستان، نعتبر أنها قضية نجحت إلى حد كبير، وبغض النظر عما يمكن أن يتم الآن أو بعد حين، لكن الأمر الذي حصل يعتبر نجاحاً، فقد نجح المسلمون في تحطيم الحكم الشيوعي في أفغانستان، وزحزحته، وإقامة حكومة للمجاهدين، إلى هذا الحد يعتبر نجاحاً، ولا شك أن الأمر الأكبر والمؤثر في ذلك هو عون الله عز وجل، وكما قيل: إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده(180/6)
نشر المعرفة بالعلم الشرعي
المثال الثاني يتعلق بالعلم الشرعي: أنت تعرف أن المهمة التي تنتظر المسلم ليست مجرد أن يتعاطف مع قضايا المسلمين، أو يدري ماذا أصاب المسلمين هنا أو هناك هذا جانب، ولكن هناك جانب آخر وهو جانب العلم الشرعي، فالمسلم مطالب بأن يعرف دين الله عز وجل الذي ينتسب إليه، فلا يكون انتسابه إليه مجرد ميراث، أو تراث، أو اسم بلا مسمى، بل ينبغي أن يكون له من هذا الاسم نصيب.
وأنت تجد أن هناك من أفلح ونجح في تسهيل العلم الشرعي بحيث يصبح في متناول الجميع، فهذا كتاب مبسط وسهل، في صفحات، يشرح قضية علمية يحتاجها جمهور الناس، رسالة درس، أعداد غفيرة من الناس تتمكن من المشاركة في معرفة شيء عن الدين على كافة المستويات، بل لو ذهبت إلى أمر آخر، خطبة الجمعة مثلاً عدد الذي يحضرون هذه الخطبة لا يحصيهم إلا الله عز وجل، ولا يكاد إنسان ينتسب إلى الإسلام إلا ويحضر خطبة الجمعة، إما باستمرار أو على الأقل بين الفينة والأخرى.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم: {من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه} خطبة الجمعة إذا أمكن أن تعرض من خلالها القضايا التي تخاطب المسلم العادي، تبصره بأمور دينه، تسهل له معرفة الأحكام الشرعية، ليس من المصلحة أن يوجد العلم بطريقة -كما يعبرون في لغة العصر الحاضر- طريقة أكاديمية، لا يصل إليها إلا المختصون، وأسلوب علمي متين لا يستطيع أن يفك رموزه إلا كبار الطلبة، أو كتب قديمة فيها متانة، وفيها قوة، وفيها حجة، وفيها استدلال، لكن لم يعد المسلم العادي البسيط يستطيع أن يفهمه، فمن المصلحة أن يسهل له العلم، ويوصل إليه من أقرب طريق.
الشريط مثلاً وسيلة ناجحة جداً، وأفلحت في جعل العلم الشرعي، بل جعل كثير من الأمور التي تتناول، سواءً العلوم الشرعية، أو أوضاع المسلمين وأحوالهم، أو المفاهيم التي ينبغي أن تصحح، أفلحت في أن توصلها إلى عقول وقلوب الكثير من الناس.
البرامج الإعلامية: سواء كانت فتاوى، أم دروساً، أم لقاءات، أم غير ذلك، هذه أيضاً أوصلت العلم الشرعي إلى طبقات عريضة من الناس قد يكون الواحد منهم في الصحراء، في البادية، أو في بلد ناءٍ، أو قد يكون غير قارئ أصلاً ولا كاتب، أو قد يكون غير مهتم، ولكنه سمع الكثير وفهم الكثير من خلال هذه الوسائل والبرامج.
وبناءً عليه أصبحت تجد أن رجل الشارع يفهم الكثير، ويقول على أقل تقدير: سمعت الشيخ الفلاني يفتي بكذا، وسمعت الشيخ الفلاني يقول كذا، وسمعت الخطيب الفلاني يقول كذا، والشريط الفلاني جيد وفيه كيت وكيت، وهناك كتاب مهم يتحدث عن الموضوع الفلاني.
هنا نستطيع أن نقول: إن العلم أصبح هماً للجميع، يخاطبون به، ويحدثون عنه، ويجرون إليه، لكنك تجد مثلاً أن هناك أماكن أخرى لا يزال العلم الشرعي فيها محصوراً ومقصوراً على فئة معينة، في دوائر مغلقة، أو كما يسمى في أكاديميات، وفي جامعات، من الممكن أن يحصل على العلم طالب جاء إلى المسجد، لكن لو حسبت عدد الطلاب الذين وصلوا إلى المسجد، لوجدت أنهم عشرة أو خمسة أو عشرين أو قل مائة، ولكنهم بالقياس إلى عدد أفراد الأمة يعدون أقل من القليل.
فهل من المعقول أن نقصر العلم على هذه الفئة المحصورة، التي جاءت للدرس أو للجامعة، ونحجب العلم عن أعداد غفيرة من الطلبة أو من كبار السن أو الصغار، بحجة أن العلم هنا، ومن أحبه أتاه ووجده! لا، بل ينبغي أن نفكر جيداً في كل وسيلة نستطيع من خلالها أن نوصل العلم لكل إنسان، لكل مسلم، وعلى الأقل نوصل العلم الضروري الذي لا بد من معرفته.
وعلى كل حال فنحن نعلم أنه ليس هناك أحد يهمه أن يبقى العلم حكراً على فئة معينة، حتى العالم يفرح أن توجد بضاعته عند كل أحد، لأنه لا يستفيد من علمه دنياً أو جاهاً، حتى يقول: ماذا يبقى دوري إذا تعلم الناس، بل كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله: والله لوددت أن هذا الخلق تعلموا هذا العلم، وأنه لم ينسب إلي منه حرفٌ واحد، فكان همه أن يعلم الناس هم الدين، أما كون العلم ينسب إلى فلان أو علان، أو يحتاج فيه إلى هذا، أو يستفتى فيه ذاك، فهذا أمر ليس مهماً، المهم هو أن يوصل العلم إلى الخلق.
إذاً: سينجح العلم حينما نفلح في إيصاله أو في إيصال الضروري منه إلى أفراد الناس وآحادهم، وأن نخاطبهم به من خلال المنابر والوسائل الممكنة التي قد يتعاطونها.(180/7)
كثير من الأنظمة العربية ممقوتة لدى شعوبها
مثال ثالث: هناك دول قامت، ولكنها قامت على أساس أحزاب أو طوائف أو طبقات، أو حتى أحياناً مجموعة من اللصوص الذين لا هم لهم إلا سرقة أقوات الناس، وإن أمسكت بهم هذه الأحزاب -مثلاً- وخاصة الأحزاب العلمانية، أمسكت بهم بقوة الحديد والنار، وبطشت بهم فطأطئوا رءوسهم وسكتوا، ولكنهم ينتظرون أدنى موقف أو أدنى ارتباك، حتى ينقضوا عليها ويحاربوها ويتبرءوا منها، وأقرب مثال الاتحاد السوفيتي أكثر من سبعين سنة وهو قوة ضاربة، العسكريون فقط بمئات الألوف يعدون، والتابعون لجهاز الاستخبارات مئات الألوف أيضاً، كل همهم إخافة الناس، مع ذلك في سنوات معدودة تهاوى هذا الصرح الشامخ وسط شماتة الناس، وأكثر الشامتين به هم الذين عانوا من آلامه ومتاعبه ومصائبه.
وذلك لأن تلك الدولة الشيوعية لم تقم على عروش القلوب، قامت بالقوة والتسلط والبطش والإرهاب فأخافت الناس، ولأنهم ضعفاء سكتوا فعلاً، ولكن لما شعروا بأن هذا الكابوس بدأ يتزعزع قاوموه وحاربوه، ولو كانوا يملكون القوة من قبل لقاوموه وحاربوه قبل ذلك.
ولا شك أنك تعلم أن عدداً كبيراً من الأنظمة العربية التي تحكم المسلمين اليوم، لم تحض بأي لون من ألوان التأييد الشعبي من جماهير الأمة، ولم يتعاطف معها المسلمون بقلوبهم، ولم يقتنعوا بها بقلوبهم أيضاً، ولكنهم رضوا بها لأنهم لا يملكون أسلوباً لتغييرها، وعلى رغم أنهم ضعفاء إلا أنهم يعبرون على الأقل تعبيراً سلبياً، فلا يعنيهم أمر الحاكم مثلاً عاش أو مات، ارتفع أو انخفض، لأنهم لا يعتبرون أنه معبر عن مشاعرهم، عن طموحاتهم، عن آمالهم، عن آلامهم، أو ممثل لهم في دينهم، كما هي الحال بالنسبة للحاكم المسلم.
الحاكم المسلم الذي يقودكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث أم الحصين الذي هو في صحيح مسلم أيضاً، هذا الحاكم تجد كل فرد يفديه بروحه، ولو استطاع أن يصل عمره ببعض عمره لفعل، ويقول: نفسي دون نفسه، وروحي دون روحه.
أصبحت الأمة الآن تقبل على همومها الخاصة، تحتج على فساد الأوضاع بما يسمى المقاطعة الشعورية، تقاطع هذه الأمور، ولا أدل على ذلك مما يسمى بالانتخابات التي تقام الآن في أكثر من بلد من البلاد العربية والإسلامية -وهي قليلة على كل حال- لكن تجد أن نسبة المشاركين في هذه الانتخابات نسبة قليلة جداً؛ لأنهم غير واثقين بهذه الأمور، ولا مصدقين لها، ولا متعاطفين معها، ويعرفون أن النسبة المقررة سلفا ًهي فوز الحاكم الفلاني بنسبة (99.
9%) أيضاً.
ولذلك لا يرون ثمة داعياً للمشاركة، ويكتفون بالمقاطعة الشعورية لمثل هذه الأوضاع، فالشعوب الإسلامية تعيش في وادٍ، وحكامها يعيشون في وادٍ آخر، لأنهم لا يعبرون عن حقيقة مشاعرها التي في قلبها، ولا يمثلون حقيقة الدين التي تنتسب إليه، وهذا لا شك يجعل أنهم في حالة ضعفهم مستسلمون، لكن لو جدوا أن أي خطر يهدد هذا الحزب الذي يبطش بهم، أو هذه الطبقة التي تحكمهم لما تعاطفوا معها، ولا وقفوا إلى جنبها، بل كانوا يفرحون بذلك، بل كانوا هم أول المؤيدين لذلك.
يؤسفني جداً أن أقول في مقابل ذلك: هناك دول قامت على أساس قناعة الناس بها، فكانت راسخة عميقة ممكنة، أما دولة الإسلام التي تحكم المسلمين منذ عهد الخلافة الراشدة، فهذا أمر واضح لا يحتاج إلى بيان، فقد ظلت دولة الخلافة قائمة قروناً طويلة تزيد على ثلاثة عشر قرناً من الزمان، تحميها القلوب قبل الأيدي، وتحميها الدعوات قبل المعارك والضربات.
أما في واقعنا اليوم فالمؤسف أن الأمثلة التي تتجه إليها الأنظار غالباً هي أمثلة غير إسلامية، فمثلاً الدول الغربية كلها، كيف استطاعت أن تمكن لنفسها في الأرض؟ استطاعت من خلال إشعار جمهور الناس بأنهم شركاء في إدارتها وفي تدبير شئونها، وفي أخذ رأيهم في الدقيق والجلي.
فالمواطن منهم يشعر أنه يستشار في كل شيء، وأنه يستطيع أن يقدم رأيه في أي أمر، ويستطيع أن يحتج، ويستطيع أن يعترض، ويستطيع أن يقول ما يراه مناسباً دون أن يخاف من بطش، وهذا ما يعبرون عنه لغتهم بالديمقراطية، الليبرالية الغربية، لا شك هي ديمقراطية نظام غير إسلامي، ولكنهم أفلحوا في كسب ثقة شعوبهم وقناعتها، ولهذا يعشون أوضاعاً من الاستقرار لا تعيشها البلاد الأخرى على الإطلاق.
مثل آخر دولة إسرائيل، يحدثني أحد الإخوة الفلسطينيين -وقد زارني قبل أسبوعين- يقول: لا يكاد يوجد في إسرائيل يهودي واحد يعتبر مدنياً بالمعنى الصحيح، كلهم عسكريون أو كانوا في يوم من الأيام عسكريين، أو جندوا للخدمة وقتاً من الأوقات، أو يعملون في بعض الأجهزة الأمنية السرية أو العلنية، بمعنى أن الشعب كله مجاهد، الشعب اليهودي مقاتل، يقاتل عن عقيدته الفاسدة، يقاتل عن دينه، يقاتل عن حدوده، يقاتل عن عرقيته وعنصريته، وأفلحت دولته الفاسدة الكاسدة في إقناع كل مواطن يهودي بأن الدفاع عن إسرائيل -أو ما يسمى بإسرائيل- واجبه هو، وليس واجب حكومة معينة، أو وزراء معينين، أو تكتل، أو تحالف، لا، واجب كل فرد، ولهذا ما من إنسان إلا وقد خدم أو يخدم الآن؛ أو سوف يخدم مستقبلاً إما سراً أو علانية، إما عسكرياً أو أمنياً أو غير ذلك، فهو بناء يتضافر الجميع على دعمه وترسيخه وتأييده، ويشد بعضه بعضاً.
ولو أردنا أن نضرب بعض الأمثلة الإسلامية لما أعجزنا أن نضرب المثال -أيضاً- بما حصل في الجزائر، فإن الانتصار الذي حققته جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر يعتبر انتصاراً كبيراً للإسلام، فقد أفلحت هذه الجبهة في جعل الإسلام هماً سياسياً للمواطن العادي، فكل مواطن عبر عن اختياره للإسلام، حتى عبر أكثر من (82%) منهم عن أنهم يريدون الإسلام ولا يريدون سواه، وهذا بحد ذاته مكسب كبير، لأنه كشف لنا أن الجبهة هناك نجحت في مخاطبة الشارع الإسلامي، مخاطبة الفرد الإسلامي أن لا يعتبر أن مهمة الحكم بالإسلام مهمة مجموعة من العلماء يجب أن يفعلوا، ولا مهمة مجموعة من الدعاة ينتظر منهم أن يقولوا، لا، إنها مهمة كل إنسان مسلم في الجزائر أن يسعى بما يستطيع إلى التصويت للإسلام ولصالح الإسلام، والعمل على تحكيم شريعة الله تعالى في الأرض.(180/8)
ضرورة الاهتمام بالفرد وكيفية استمراره
من خلال هذه الأمثلة المتفرقة نستطيع أن نقول: كل قضية نريد لها أن تنجح علينا أن نحشد لها جماهير الأمة بقلوبهم وعقولهم ومشاركاتهم، وهذا إذا حصل فهو مكسب كبير جداً للصحوة في كل مجال، الصحوة الإسلامية ليست منجزاتها محصورة فقط في الجانب السياسي، وإن كان الجانب السياسي جزءاً من الدين ومن الإسلام، ولا أحد من المسلمين يستطيع أن يخرج السياسة من الإسلام، لكن كل إنسان تكسبه لصالح الإسلام فهو خير.
المصلي الجديد الذي بدأ يتردد على المسجد هذا مكسب، والصائم الجديد الذي صام رمضان لأول مرة هذا مكسب، والتائب الذي انضم إلى مواكب الراجعين إلى الله تعالى هذا مكسب، حتى لو لم يأتِ منه إلا أن يصلي أو يصوم أو يذكر الله عز وجل، ولهذا تعرف في صحيح البخاري قصة الغلام اليهودي الذي كان بجوار النبي صلى الله عليه وسلم: {فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وبه الموت، فقال له: يا غلام قل لا إله إلا الله، فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ثم مات، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده، وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار} .
ماذا كسب الإسلام من هذا الغلام اليهودي الذي أسلم؟! أسلم ثم مات، ما قدم للإسلام شيئاً، لا مالاً، لا قتالاً، وجاهاً، ولا ولداً، بل ولا صلى ولا صام ولا حج ولا شيئاً من ذلك، لأنه تشهد ثم مات في ساعته، فدخل الجنة ولم يسجد لله تعالى سجدة، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم فرحاً مسروراً بإدخال هذا الإنسان إلى الإسلام، وإنقاذه من النار.
فكل شخص أو فرد تكسبه إلى صالح الدعوة هو خير وبر، حتى لو وقف الأمر عند هذا الحد، ولكننا نجد الآن أن العنصر البشري الإسلامي كبير، والإحصائيات الرسمية تقول: ألف مليون، بغض النظر عن حقيقة هذا الرقم، هذا العدد أكبر من الدول، وأكبر من الدول الإسلامية، وأكبر من الجماعات الإسلامية أيضاً، وأكبر من الأشخاص، وأكبر من المصالح الذاتية هو رصيد عظيم للدعوة الإسلامية بكل حال، ولا زال هذا الرصيد غير مستثمر بشكل صحيح.
وهذه أمثلة لكيفية استثمار هذا الرصيد:(180/9)
في مجال الغضب
الغضب: الغضب -كما أسلفت قبل قليل- من يقوم لغضب ألف مليون لو غضبوا؟ لو كان غضبهم لله عز وجل، لو تنادت المشارق والمغارب، ليس على أصوات التعصب لفلان أو لفلان من الزعماء المصنوعين الذين كانوا يخاطبون الجماهير من المحيط الثائر إلى الخليج الهادر، وليس على الدعوات والنعرات الجاهلية، وإنما غضبوا لله عز وجل، غضباً إيمانياً، غضباً ربانياً، من كان يستطيع أن يقف في وجوههم، ولذلك يداري الغرب كما ذكرت غضب هؤلاء.
ونحن يجب أن نعمل على إثارة غضبهم، غضبهم ضد الكافر، ضد اليهودي، ضد النصراني، ضد المنافق، من خلال الحقائق والوثائق والأرقام التي تتكلم عن مؤامرات أعداء الدين على هذه الشعوب، لا بد أن تصحو هذه الشعوب من سباتها، وتعرف عدوها من صديقها، وتغضب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فإنها ما لم تغضب لا تستطيع أن تصنع شيئاً.
وهذه الأمثلة كلها تبرز أهمية انغماس الدعاة في الناس، ومشاركتهم، وإشراكهم في هموم الدعوة والأمة، والقدرة على الوصول إلى قلوبهم وأخذها بما تيسر منهم، نحن كثيراً ما نتحدث -أيها الإخوة- عن الصحوة كجزء متميز من المجتمع، وكأنهم فئة ونقول: الصحوة بخير، وننسى أن هذه الصحوة ينبغي أن تمتد لتشمل الأمة كلها، وأنه يجب أن نكسر هذا الخط الأحمر ونمتد إلى طبقات المجتمع بلا استثناء.
قد يكون منا من نجح في مخاطبة جمهور الصلوات الخمس، ربما خاطبهم بعضنا، ولكننا لم نخاطب جمهور الجمعة وهو جمهور واسع عريق، وقد يكون منا من نجح في مخاطبة جمهور الجمعة، ولكن لم ينجح في مخاطبة جمهور المدرجات مثلاً، وهي أعداد غفيرة كبيرة تحضر للكرة، أو جمهور الشاطئ، أو الشارع والسوق، أو حتى جمهور الجريدة، ولا يجوز أبداً أن نغالط أنفسنا ونظن: أن الناس كلهم ملتزمون.(180/10)
في مجال الدعاء
الدعاء: لا يوجد أحد إلا ويملك الدعاء، حتى الكسيح الذي يحمل في المستشفى على نقالة، يملك أن يدعو الله عز وجل بالنصر والتمكين للمسلمين، ويدعو الله على أعداء الإسلام، أو يدعو الله بالحفظ لأهل الدين، أو يدعو الله بالتنكيل بالكافرين والمغرضين والمنافقين، الدعاء نرجع إلى الرقم ألف مليون ألا يوجد من بين هؤلاء رجلٌ واحد لو أقسم على الله تعالى لأبره؟ الله أعلم أنه يوجد، هذه الأمة لا تخلو من أخيار، وأبرار، وأطهار، أصحاب أسحار، وأصحاب أذكار، وأصحاب نيات صادقة.
لو أن هذا العدد الكبير الغفير حشد بتجنيد من الدعاة والعلماء والمخلصين والمتحدثين، حشد ليدعو الله تعالى في قضايا الإسلام والمسلمين، أو يدعو على الأعداء والكافرين، لربما دعوة صادقة ولو من أحدهم أو من بعضهم كان بها الخير والنجاة، وما يدريك أن النصرة الذي حققه المسلمون هنا أو هناك، أو الشر الذي اندفع عنهم هنا أو هناك كان ببركة دعوة صادقة من رجل صالح، حتى هو ربما لم يدرِ أن دعوته قد أجيبت، لكنه سهم أصاب.(180/11)
في مجال الصلاة
مثل آخر: الصلاة: لو أفلحنا في جر المسلمين إلى الصلاة مع الجماعة في المساجد، ألف مليون مصلٍ إذا أبعدنا منهم النساء ممن لا تجب عليهن الجماعة والأطفال أيضاً، لنفرض أنه بقي لدينا ثلاثمائة مليون مصلٍ هل تتسع لهم المساجد المعمورة في الدنيا، أجزم أن المساجد المعمورة في الدنيا كلها لا تتسع لهذا الرقم.(180/12)
في مجال الحج
الحج: ألف مليون مسلم لو حجوا، لنفترض أن منهم خمسمائة مليون عاجزون عن الحج، والحج معروف أنه لا يجب إلا على المستطيع {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] بقي عندنا خمسمائة مليون مسلم، وإذا كان عمر الواحد منهم ما بين الستين إلى السبعين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين} فلننظر كم النسبة لو حجوا كلهم خمسمائة مليون على مدى سبعين سنة، نأخذ الأكثر، سبعين سنة لكانت نسبة الحجيج في كل سنة، عدد الحجيج سبعة ملايين ومائة وثلاثة وأربعين ألف تقريباً.(180/13)
في مجال التبرع
لو أن هؤلاء الألف مليون تبرع كل فرد منهم بريال واحد لقضية الإسلام لجمعنا في يوم واحد ألف مليون ريال نستطيع أن نفعل بها الكثير الكثير، وفي صحيح مسلم من حديث جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ولو بشق تمرة لا تحقرن من المعروف شيئاً} .
قام رجلٌ بين أظهر الناس في مسجد من هذه المساجد يدعوهم إلى التبرع، وكان فصيحاً لسناً جيد العبارة، فحرك مشاعر الناس، وألهب أحاسيسهم، فتبرعوا بما يملكون، فهذا أخرج ما في جيبه وألقى به، وهذا أخرج محفظته وألقاها، وثالث لم يجد إلا ساعته فأخذها من يده ووضعها في صندوق التبرعات، وكان من بين هؤلاء الناس رجل يتململ يدخل يده بلا شعور في جيبه فلا يجد شيئاً، يدخلها في جيبه الآخر فلا يجد شيئاً، فقام بحركة عصبية شديدة، وأخذ غترته التي كانت على رأسه، وألقى بها في ظل التبرعات، ولسان حاله يقول: ربي إني لا أملك إلا هذا، ثم أشاح بوجهه وهو يداري دمعة يوشك أن تخرج من عينه، رآه كثيرون، فتحركت أريحيتهم، فمن كان أخفى في جيبه شيئاً من المال مصروفاً للأولاد أخرجه، ومن كان تبرع ببعض ما يملك أخرج كل ما يملك معه، ومن كان تردد عزم على الإنفاق، فكان لهذا الإنسان أجر ما تصدق به، وأجر من عمل بما عمل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة} .
أمر آخر رآه أحد التجار فأخذ هذه الغتره وقال: من يسوم؟ فسامها رجل بعشرة ريالات، من يزيد عشرين، ثلاثين، مائة، ألف، خمسة آلاف، عشرة آلاف، حتى وصلت إلى عشرين ألفاً، وبيعت هذه الغتره التاريخية العتيدة بعشرين ألف ريال، على أن لا بسها يقول: لو بعتني أنا والغتره ما كنا نساوي عشرين ألف ريال، بيعت بعشرين ألف ريال صرفت لصالح المجاهدين في أفغانستان، وهكذا يقول المثل: الحاجة أم الاختراع.
هذا الرجل دخل المسجد مثقلاً بالديون، لم يكن يخطر في باله أنه لن يخرج حتى يتبرع بعشرين ألف ريال، بل يكون له أجر من تبرعوا إعجاباً بعمله وتأثراً به ممن لا يحصيهم ولا يعلمهم إلا الله عز وجل.(180/14)
نزلنا الكوفة بليل فنزل الأخيار على الأخيار، ونزل الأشرار على الأشرار
يذهب رجل صالح إلى بلد ليلقي فيه محاضرة، فيستقبله الخيرون في المطار، ويذهبون به إلى بيوتهم، ويطعم عندهم، ثم يذهبون به إلى المسجد فلا يرى إلا الأخيار، فإذا رجع أعطى صورة أن هذا البلد كله من الأخيار ويقول: لم أر منذ دخلت المطار إلى أن رجعت إلا الأخيار، لكنه لو ذهب إلى مدرجات الكرة، أو ذهب إلى أسواق البيع والشراء، أو ذهب إلى الشاطئ، أو ذهب إلى التجمعات العامة لرأى أمراً آخر، ولرأى الصورة الثانية التي ينبغي أن نضعها في الاعتبار ونحن نتحدث عن مجتمعات المسلمين.
إذاً: نحن نطالب بأن تكون الدعوة لجميع الناس، أنت خطيب مثلاً خاطب الناس من خلال المنبر، قد تقول: أنا لست بخطيب ولا أجيد فن الخطابة، شارك واقترح على الخطيب موضوعاً، قدم للخطيب ملاحظة، إن لم تكن هذا ولا ذاك فلتكن مستمعاً جيداً، تستمع الخطبة وتنقل مضمونها إلى الناس، تتأثر بها، تشارك في فهم معناها، في التفاعل معها.
إن لم تكن هذا ولا ذاك فقد تكون أديباً أو شاعراً أو كاتباً أو قاصاً أو إعلامياً أو خبيراً أكاديمياً أو قارئاً أو حتى خطاطاً أو رساماً، رُبّ إنسان يمكن أن يلتفت إلى الخير من خلال أنه دخل في معرض مثلاً، فرأى ما فيه من اللوحات الجميلة، لوحات تعبر عن تاريخ المسلمين وما فيه من المجد والعظمة، لوحات أخرى تتحدث عن جوانب في الكون مما ينبئ عن قدرة الله تعالى، من حفيف الأشجار، أو خرير الأنهار، أو جميل المناظر والأزهار، أو سواها، أو أخرى تعبر بصورة شرعية مباحة غير محرمة عن بعض المآسي والآلام التي يعيشها المسلمون، أو قرأ آية فتعجب منها ووقعت في قلبه.
المهم أن نحشد كل الطاقات لدعوة الناس إلى الإسلام، وألاَّ نقبل أن يكون الإسلام هماً لفئة خاصة من الناس، هذا الكلام لا يعني أبداً التقليل من دور الأفراد، فنحن نؤمن أن هناك أفراداً لهم دور خاص الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، المصلحون من بعدهم، لكن حتى هؤلاء لم يربط الدين بهم بدءاً وانتهاءً {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] .
ولهذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، انتهت دولة الخلفاء جاءت دولة بني أمية، ثم بني العباس، ثم دولة العثمانيين، فليس من المصلحة تضخيم دور الأشخاص وجعل الدولة محصورة بهم، حتى كأنهم رموز لا قيام للدين إلا بهم، لأن الأشخاص يذهبون ويجيئون، ويمرضون ويموتون، ويوقفون ويسجنون، ويستقيمون وينحرفون، لكن لو جعلنا الهمَّ همَّ الجميع؛ لكنا أفلحنا في تكسير كل الحواجز والحيلولة دون أن يفلح أحد في إيقاف مسير الدعوة.(180/15)
طائفة من العوائق النفسية
إذاً: لماذا لا نعمل؟ هذا هو السؤال الكبير، وهنا تأتي العوائق النفسية التي أرى الوقت يسارع، ولكنني أذكرها الآن ولو بإيجاز، على أني وعدتكم أن أتكلم عنها إن شاء الله بشكل مفصل في جلسة قادمة.(180/16)
دعوى الحرص على الكمال
ويحتج سابع بالحرص على كمال العمل وعدم السعي في أسباب ذلك، فهو -مثلاً- إذا قلت له: لماذا لا تدرس؟ قال يا أخي: التدريس يتطلب مثلما كان السلف الصالح علماء حفاظ لديهم من العلم والفقه والصواب والصلاح والاستقامة كيت وكيت.
لماذا لا تكون إماماًً؟ قال: الإمامة تتطلب حفظ القرآن، والمحافظة على الصلوات في أوقاتها وضبط المواعيد، وأنا لا أستطيع ذلك.
لماذا لا تخطب؟ قال: الخطبة تتطلب جهورية الصوت، وجودة القراءة وحسن الإلقاء.
وهكذا يفترض المثالية دائماً في كل شيء ثم لا يسعى هو إلى تحصيل الأسباب بأي وسيلة.(180/17)
التمسك بخطط عملية قديمة
ثامن: يتمسك بخطة عفا عليها الدهر وأثبتت الأيام ضعف جدواها، ولكن ليس لديه التخطيط والقدرة على تخطي هذه الفكرة وتجاوزها، فهو يتمسك بأشياء وأساليب وطرائق قديمة وسابقة، ولا يريد أن يغيرها.(180/18)
اليأس
وتاسع: يلوذ باليأس، ويستطيل الطريق، ويستبعد النصر.(180/19)
التعلل باختلاف الأساليب
وعاشر: يمضغ الحديث عن اختلاف الأساليب، فهو -مثلاً- يتحدث ويناقش حول سبل إنجاء سفينة تغرق الآن، سبل نجاتها، ويدير الحديث عن الطريقة المناسبة، ويظل النقاش محتدماً على أن السفينة قد انكسرت وغرق ما فيها وتلفت البضائع، وهؤلاء القوم لا يزالون يتناقشون في أفضل الطرق لإنقاذ هذه السفينة الغارقة، ولو أن كل واحد منهم نزل في إنقاذها بطريقته الخاصة، وأسلوبه الخاص، لربما كان في ذلك بإذن الله تعالى نجاتها.(180/20)
الخوف من الفشل
أما الشخص الرابع: فهو يتعلل دائماً بالخوف من الفشل، والإخفاق من العمل، فالخوف من السقوط يقعده دائماً عن أي عمل، حتى لو هم أن يقوم ليلقي كلمة في مسجد أو يخطب أو يتحدث؛ راوده الخوف أن يقع في كلمة فيخطئ، أو يخطئ في تلاوة آية أو في حديث أو في غير ذلك.(180/21)
الانشغال بنقد الآخرين
أما الشخص الخامس: فقد اكتفى بأنه يتسلى بنقد الآخرين ويخطؤهم، فهذا أخطأ هنا، وهذا أخطأ هناك، وهذا لو فعل كذا لكان كذا، وهذا في الواقع يذكرنا بباب ما جاء في {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] الذي لا يعمل لا يخطئ، ويستطيع أن يقول: لو ما فعلت كذا ما صار كذا، لكن الذي يعمل قد يجتهد فيخطئ أحياناً، لكن خطأ العامل خير من ذلك القاعد الذي لم يعمل شيئاً، ولئن يجتهد الإنسان فيعمل عملاً فيه نسبة من الخطأ خيرٌ من أن يقعد فلا يعمل شيئاً لا خطأً ولا صواباً.(180/22)
الحفاظ على المكاسب
أما السادس: فعنده بعض المكاسب البسيطة، التي حصل عليها لنفسه أو لعلمه أو لدعوته، فهو يخاف عليها أن تزول، ويوهم نفسه بأن هذه المكاسب كبيرة وضخمة، وما أشبه هذا إلا بإنسان يشتغل ببيع الأشياء التافهة في السوق، ولكنه يظن أنه لو ترك هذه الأشياء التافهة وذهب ليبيع أو يعمل في أي مجال آخر لمات هو ومات أولاده جوعاً، وكأنه يظن أن الرزق لا يأتي إلا من خلال بيع هذه الأمور اليسيرة التي يشتغل هو ببيعها.(180/23)
عقدة المؤامرة
شخص ثالث: تسيطر عليه عقدة المؤامرة فهو يتخيل المؤامرة وأصابع العدو في كل شيء يواجهه، وفي كل حركة وفي كل سكنة؛ حتى يظن والعياذ بالله أن أعداءه وخصومه يُسّيِّرون كل شيء ويصنعون كل شيء، ويتحول هذا من مجرد تحليل أو بعد نظر بصورة معتدلة معقولة، إلى وسوسة تقعد الإنسان عن العمل كثيراً.
كثيرون يعتقدون الآن أن اليهود يدبرون أمر العالم، وأن هناك لجنة ثلاثية أو رباعية أو أربعينية أو خمسينية مكونة من رءوس اليهود هي التي تدير كل الأمور في العالم، وهذا في الواقع تصور خطير حتى من الناحية الاعتقادية، فنحن نعلم أن الله تعالى وحده هو الذي على كل شيء قدير، وهو الذي بكل شيء عليم، وهو الذي لا يقع في الكون إلا ما يريد، أما البشر فهم ليسوا كذلك ولا قريباً منه، بل كثيرٌ من الأشياء تقع بغير اختيارهم، ربما يفلحون فقط في استغلال الأحداث، في صناعتها، في تجييرها لصالحهم، أما أن يصنعوا هم الأحداث من أصلها وفصلها فهذا ليس بصحيح.
على سبيل المثال: الغرب الآن في فترة تمكين وقوة وبأس شديد، أليس الغرب أعلن بنفسه أنه يسعى إلى إسقاط النظام البعثي في العراق ومع ذلك لم يفعل حتى الآن، بغض النظر عن جديته في مثل هذا الأمر ومصداقيته، قد يقول قائل: إن الغرب مستفيد من بقاء حكم البعث في العراق.
مثلٌ آخر: أليس الغرب أعلن منذ سنوات أنه ضد الحكومة القائمة في السودان، وأنه يحاربها، وكان يراهن على سقوطها خلال ستة أشهر، ومع ذلك ظلت وبقيت وربما قويت أيضاً، مع أنها دولة من الناحية الاقتصادية ليست بالوضع الذي يمكنها من مواجهة مثل هذه المواقف الصعبة، لكن ينبغي أن نعلم أيضاً أن هؤلاء قد يريدون الشيء ولا يقع، وقد يقع الشيء ولا يريدونه، وأن هناك أشياء كثيرة تقع على خلاف ما يتوقعون، وخلاف ما يريدون وما يتمنون، لكنهم أذكياء فهم يستفيدون من الأحداث ويحاولون أن يطوعوها لمصلحتهم.(180/24)
التعذر بالمخاوف
ومرة أخرى يتعلل شخص آخر بالمخاوف التي تمنعه، فهو لا يتكلم، ولا يكتب، وإن كتب فإنه لا يذكر اسمه، وإن طلب منه مشاركة في شيء، فقد يفكر ملياً ثم يعتذر، بحجة أنه سوف يكتب خطاباً بمفرده -مثلاً- أو أن هذه العبارة أو تلك فيها خطأ نحوي، أو فيها خطأ إملائي، أو فيها خطأ أسلوبي، أو أنها حارة وهو يريد البرودة، أو هي باردة وهو يريد الحرارة!! المهم النتيجة أن هذا الإنسان بخل علينا حتى بتوقيعه في إنكار منكر، وقد يرتب على هذا العمل البسيط لخوفه، نتائج بعيدة المدى، فهو يفترض دائماً أسوأ الاحتمالات، يفترض مثلاً أن العمل الذي عمله كان بمرأى من خصم شديد الخصومة، هذا الخصم له صلات وصداقات مع فئات شتى استطاع أن يفعل ويفعل، وعلى كل حال فهو يقول: السلامة لا يعدلها شيء، وأنا فرد واحد، وجودي لا ينفع وعدمي لا يضر.(180/25)
العجز
فمن العوائق، بل لعله من أكبر العوائق ما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بالعجز، العجز الذي وجد عند بعض الناس، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {المسلم القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز} العجز الذي جعل الكثيرين يفقدون الذات، يفقد الإنسان ذاته، يخسر جزءاً كبيراً من نفسه، فهو يحس أنه نقطة في بحر ليس لها تأثير، أو ريشة في مهب الريح، فهو مشلول التفكير، مشلول الإرادة، مشلول القدرة، يحاول أن يوهم نفسه ويوهم الآخرين، بأنه دائماً تابع وليس متبوعاً، مسير وليس مخيراً، فمرة يحتج بالقضاء والقدر، وكأن القدر جبرية ليس للإنسان فيها يد، والله تعالى يقول: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29] .
وهو حيناً يلقي بلائمة على سواه، فإن كان يتحدث عن الفساد السياسي والعسكري جعل سببه الحكام، وللحكام من ذلك نصيب، ولكن للشعوب أيضاً نصيب آخر، وإن كان يتحدث عن الفساد الديني والأخلاقي جعله مسئولية العلماء والدعاة، وإن كان يتحدث عن الانتكاسات التي منيت بها الأمة، جعلها مسئولية كيد الأعداء ومكرهم الذي لا يفتر ليلاً ولا نهاراً، وينسى قول الله عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] ثم هو يفتعل كافة الأسباب لتسويغ هذا القعود.
حالة الضعف: واحد من الناس -رقم واحد- من أجل ألا يعمل ولأنه عاجز يزعم أن الأمور جيدة، وأن الدعوة قائمة تماماً وأنه ليس له مكان، فهو يقول: ماذا أصنع؟ المساجد لا تحتاج إلى خطباء أو أئمة، النشاط المدرسي هناك من يقوم عليه، والدروس العلمية كثيرة بل هي أكثر من الحاجة، ولذلك ليس لي مجال.
وهذا كما يقول هذا في الدنيا، يقول مثله في الآخرة أو قريباً منه، وفي الصحيح ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصة الرجل الذي قال الله تعالى له: {اذهب ادخل الجنة، فذهب فلما اقترب منها خيل إليه أنها ملئا فرجع، وقال: يا رب وجدتها ملئا، قال الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة، حتى قال الله تعالى له: اذهب فادخل الجنة فإن لك الدنيا وعشرة أمثال الدنيا، فقال: أتهزأ بي وأنت الملك؟! قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} .
إذاً: يتعلل أحياناً بأن الميدان ملئا، وأن الساحة لا تحتاج إلى جهده ولا إلى جهاده.(180/26)
مسابقة كرة القدم للناشئين
لدينا في الواقع مجموع من الموضوعات والقضايا الكثيرة، وأيضاً مجموعة كبيرة من الأسئلة التي وردت في هذا الموضوع وفي غيره، فمن الموضوعات التي يدور الحديث عنها هناك قضية تتعلق بالكرة وما يسمى بمسابقة (البيبسي كولا) ، وهذا القضية لا بد أنه قد سمع عنها الجميع كثيراً، ونشرت عنها في الصحف نشرات متعددة، وهي تتحدث عن خروج آلاف من الشباب الناشئين من هذه البلاد، ليتدربوا على يد مدرب نصراني ثم يذهب مجموعة منتقاة منهم إلى بريطانيا.
وفي جريدة رياضية يوم الخميس (19/11/ 1412هـ) يقول أحد المسئولين في الرياضة كلاماً خطيراً ينم عن أن القضية ليست مجرد رياضة كما أجلبت لها الصحف، يقول: إن الوفد سيلتقي اليوم مع اللجنة المشتركة الذي تضم مسئولين من الخارجية ومن المجلس البريطاني للرياضة والثقافة، إضافة إلى اجتماع آخر مع اتحاد كرة القدم يشارك فيه مجموعة من المسئولين، أننا سنبحث معهم اليوم البرامج المشتركة بين الاتحاد السعودي والاتحاد الإنجليزي، ومن ضمنها موضوع الخبراء الذين سنحتاجهم في الاتحاد السعودي.
ثم قال: إن الأمر ليس مقصوراً على الرياضة فقط، وإنما يأخذ جانباً آخر وهو المراكز الخاصة بالأسر والمجتمع ككل، وأنه سيكون هناك لقاء آخر لموضوع الثقافة بعد أن يتم تبادل مذكرات بين البلدين، والذي ربما يقود إلى توقيع مذكرة تفاهم أخرى، وأعرب عن أمله أن يتم هذا البرنامج مع البريطانيين لسنوات قادمة، مشيراً إلى أن كلا الطرفين متحمس لمذكرة التفاهم هذه وتطبيقها، وقال: نعمل على تطويرها لتشمل إلى جانب النشاطات الرياضية تبادل زيارات الشباب من الجامعات والمدارس الثانوية، مثل ما تم مع الولايات المتحدة وعدد من الدول الأخرى.
إذاً: القضية ستشمل نشاطات المجتمع والأسر، وستشمل تبادل الزيارات بين الشباب وغيرهم، وفي العدد نفسه يوم الخميس، تكلم عن سبعة آلاف ناشئ اختبروا في نادي الاتحاد الذي تنظمه أكاديمية الاتحاد العربي لكرة القدم، وقد حضر الاختبارات أكبر من سبعة آلاف ناشئ اكتظ بهم ملعب النادي طوال الفترتين الصباحية والمسائية، ولم يتمكن عدد كبير آخر من الناشئين من حضور هذه الاختبارات، نظراً لعدم إمكانية استيعاب هذا العدد الهائل من الناشئين.
الخبير العالمي بوب شارلتون أعرب عن سعادته ودهشته في نفس الوقت لحضور هذه المجموعة الكبيرة من الناشئين لنادي الاتحاد لتلقي اختبارات البرامج.(180/27)
التعليقات على فكرة المسابقة
هنا أعلق أيضاً بعدة تعليقات: التعليق الأول: أن الصحف السعودية نفسها نشرت قبل سنتين خبراً يقول: الفاتيكان يخطط للتنصير في كأس العالم.
وأنا أقرأ الآن من أحد الجرائد السعودية يقول: بعض التقارير الصحفية نشرت أن نشاطات خاصة، وخططاً مكثفة تنفذ في أقسام النشاط الخارجي المختلفة في الفاتيكان لاستغلال مسابقة كأس العالم التي ستشهدها إيطاليا وتحقيق الأهداف الاستراتيجية، وسيقوم القساوسة ضمن الخطط إلى آخر الكلام، المهم أن القساوسة سوف يستغلون كأس العالم للقيام بحملة تنصيرية يقف وراءها الفاتيكان.
إذاً: ما الذي يجعلنا نستبعد أن بوب شارلتون هذا الذي ترك النادي الذي ينتسب إليه منذ حوالي أكثر من خمس عشرة سنة، ما الذي يجعلنا نطمئن أن الرجل ليس قسيساً؟! وقد سمعت أخباراً أنه قضى جزءاً من هذه المدة في أفريقيا، وهي كما هو معروف بلد النشاط التنصيري منقطع النظير، وهو يقوم أيضاً على معهد لتدريب الناشئين في العالم فهذا جانب.
أمرٌ آخر: هؤلاء الشباب سينتخب منهم مجموعة لتذهب إلى بريطانيا، وتقيم في معسكرات هناك، معسكرات مختلطة من الأولاد والبنات، والسن أقل سن اثنا عشر وأكثر سن ستة عشر وما بينهما، سن المراهقة المبكرة، سن إمكانية التأثر والانجراف، فكيف نفرط في فلذات أكبادنا وندعهم في مثل تلك الأجواء الفاسدة الملوثة؟! الفساد الأخلاقي، الأغراض التنصيرية، تدمير عقول الشباب، نزع ثقتهم بدينهم، وغرس الثقة بالنصراني، الآن الذين يتدربون في الرياض وفي الحجاز، جاءتني أوراق كثيرة لا أحصيها وهي موجودة عندي بخطوط بعضهم يقولون يدربهم نصارى، الصلبان تلمع على صدورهم، بل وعلى سراويلهم القصيرة التي لا تواري أفخاذهم، أوقات الصلوات تضيع دون أن يصلوا، التعظيم لهذا المدرب النصراني، يضع يده على كتف الطفل المسلم، يلطف معه، يحادثه.
أين أولياء الأمور؟! أين الآباء؟! كيف يرضى أب أن يذهب ولده إلى مثل تلك البيئات الفاسدة المنحرفة المحاربة لله تعالى ورسوله؟! وكيف يرضى المسلمون أن تكون مدارسهم التي إنما بنيت أصلاً لتعليم الدين، وتربية الناس على الإسلام والخير، أن تكون مجالاً لاختيار مثل هذه البذرات الغضة الطرية البريئة ليدربها بوب شارلتون، ثم يذهب بها إلى بريطانيا حيث تعيش هناك في معسكرات مع الأولاد والبنات من النصارى واليهود وكل شعوب الدنيا؟! أمر آخر: ماذا يريد بوب شارلتون وغيره من هذه الدعايات الإعلامية؟! الاقتصاد والتجارة والمال، ولا تستبعد أبداً أن هذا الرجل يذهب بعد شهر أو شهرين إلى بريطانيا فتجري معه الصحف البريطانية مقابلات كما حصل هذا فعلاً مع غيره ممن جاءوا قبل سنوات، فيقولون: ماذا استفدت من زيارتك للسعودية؟ فيقول: والله ما استفدت شيئاً إلا المال، وقد قال أحدهم مثل هذا الكلام، وكان قد جاء إلى المملكة قبل سنتين.
فالهدف له جانب تخريبي، وله جانب اقتصادي مادي، وفي بعض الصحف إشارة إلى أن هذه الحملة لها هدف اقتصادي واضح وبارز.(180/28)
تأثير المتطرفين اليهود على شركة بيبسي كولا
أمر ثالث: اليهود أفلحوا في إقناع الشركة نفسها "بيبسي كولا" بتغيير دعايتها، فقد دخلت هذه الشركة مجدداً إلى إسرائيل بعد إلغاء المقاطعة العربية، وأعلنت عن نفسها في وسائل الإعلام من خلال صورة قرد يتطور إلى إنسان إشارة إلى نظرية داروين، فغضب لذلك ما يسمون برجال الدين اليهود، وشنوا حملة على هذه الشركة، اضطرت على إثرها أن تعلن أن مثل هذه الصورة لن تشاهد بعد اليوم، وأنها سوف تغير هذا الإعلان فوراً، وقد نشرت الصحف يوم الخميس هذا العنوان: بيبسي كولا تلغي حملة إعلانية بضغط من المتشددين اليهود.
ونحن نسأل ما دور المسلمين في هذا البلد؟ ما دور العلماء والدعاة والخطباء، وكل رجالات الأمة؟ فنحن قبل قليل نتكلم عن أن القضية لا يجوز أبداً أن تكون مهمة فئة خاصة من الناس، بل يجب أن تكون مهمة الجميع، فولي الأمر يخاطب ويعاتب على أن يرسل ابنه، والطالب ينصح زميله، والمدرس ينصح طلابه، والمدير ينصح أيضاً، وينبغي أن يكتب كل إنسان وتخاطب كل جهة، وبكل وسيلة في إيقاف مثل هذا العمل، وأنه لا يجوز أبداً أن يمر على ظهور المسلمين، لا يجوز أن يذهب شاب مسلم من هذا البلد إلى بريطانيا؛ ليتدرب في تلك المعسكرات المختلطة، ولا يجوز أن تتخذ المجالات العلمية والتعليمية بل ولا الرياضية، التي إنما أقيمت وبنيت بأموال المسلمين وجهودهم وميزانياتهم أن تكون لهدم أخلاقيات الشباب وتدميرهم.
وإذا كان هذا اليوم بالنسبة للأولاد، فما الذي يؤمننا أن يكون الدور على الفتاة غداً أو بعد غد، خاصة ونحن نعلم أن عدداً من العلمانيين أصحاب المراكز الاستشارية يتكلمون سراً في كثير من الأحيان، وجهراً -إن استطاعوا- عن تمنياتهم أن تكون الحصة الرياضية مقرراً دراسياً في رئاسة تعليم البنات.(180/29)
فتوى الشيخ ابن عثيمين حول المسابقة
أيها الإخوة: هذه فتوى أكلل بها هذا الكلام لسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين وأنا أدعو الإخوة إلى نشرها وتوزيعها في جميع المدارس والبيوت والمساجد والتجمعات.
بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى، أعلنت شركة بيبسي كولا عن عزمها على إقامة دورة في كرة القدم أكاديمية للناشئين من سن الثانية عشرة إلى السادسة عشرة، أي من طلاب الابتدائي والمتوسط تحت إشراف فريق من البريطانيين، وهي تطلب من الجميع المشاركة لتنتخب منهم بعد إجراء اختبارات مجموعة، فما رأي فضيلتكم هل يشجع الإنسان أبناءه على الالتحاق بها ليسافر بهم إلى بريطانيا؟ أجاب فضيلة الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، لقد سمعت هذا الخبر وقرأته، وفيه أنهم سوف ينتخبون من النشء الصغار ثلاث فرق، فرقة إلى حد السنة الثانية عشرة، وفرقة إلى حد السنة الرابعة عشرة، وفرقة إلى حد السنة السادسة عشرة، ليختاروا منهم من يرونه صالحاً للمشاركة في هذه الأكاديمية التي سيجري التمرين عليها في بريطانيا، وأنا لا أظن أن أحداً من الناس يسمح لولده فلذة كبده وثمرة فؤاده أن يذهب بهذه السن إلى بريطانيا أو غيرها من بلاد الكفر، لما في ذلك من الخطورة العظيمة على دين الولد وأخلاقه وعبادته، ويحرم على الإنسان أن يُمكِّن لهذه الشركة من السفر بهؤلاء النشء إلى بريطانيا أو غيرها من دول الكفر، لأنه مؤتمن على أهله وأولاده، وسوف يسأل عنهم يوم القيامة، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: {الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} .
أسأل الله تعالى أن يحمي بلادنا وشبابنا من كيد أعدائنا، وأن يحفظ حكومتنا بالإسلام ويحفظ الإسلام بها، وأن يجعلها خير راع لأبناء شعبها وفلذات أكبادهم أن تجترفهم مثل هذه الأفكار السيئة إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا الجواب عن سفر الناشئين إلى بريطانيا للتدريب على كرة القدم من إملائي، قاله كاتبه محمد الصالح العثيمين في (21/11/1411هـ) .
وسأترك بقية الحديث عن هذا الموضوع ليتمه فضيلة شيخي الشيخ محمد صالح المنصور بعد قليل، لإكمال بعض النقاط الأخرى التي لا بد من المرور بها.(180/30)
الدعوة إلى مقاطعة بعض الصحف
وهذه أيضاً قضية كنت أود أن أقولها في الأسبوعين الماضيين ولكني نسيت، لقد سمع الجميع أن جريدة الصباحية التي كانت تصدر عن الشركة السعودية للإنتاج والتوزيع أنها قد توقفت، أي: فشلت، وأنا أنتهز الفرصة لأجزي الشكر والثناء للإخوة الغيورين والمخلصين الذين كانوا هم بعد الله تعالى السبب في فشلها؛ في مقاطعة هذه الجريدة، والدعوة إلى مقاطعتها، وتوجيه الناس إلى عدم شرائها، حتى كسدت سوقها، واضطر ناشروها أن يعلنوا كتابة أنها قد فشلت، ثم تتوقف الجريدة عن الصدور.
وهذا يدل فعلاً على أن الأخيار كثيرون، ولو أنهم قاموا بدورهم في مقاطعة أي عمل جريدة أو مجلة أو كتاب، أو أي عمل آخر فاسد، لما كتب له البقاء وأن يقوم على قدميه، فهم لا يستطيعون إلا بقوة يأخذونها من أفراد المجتمع الذين غالبهم خيرون وغيورون على دينهم، ولذلك أنا أقول: انتهت الصباحية، فإلى أين نتجه؟! قضينا من تهامة كل وتر وخيبر ثم أجممنا السيوف نخيرها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوساً أو ثقيفا فأنا أقول: انتهت الصباحية وجاء دور الشرق الأوسط، إن جريدة الشرق الأوسط تمارس دوراً سيئاً جداً في تشويه أخبار المسلمين، والتكتم على قضاياهم، وتشويه صورة الإسلام، والنيل من قضايا الإسلام، ومعالجتها بطريقة لا تخدم المصلحة الإسلامية بحال من الأحوال، فهي لا تسمي المسلمين إلا بالأصوليين، وتتهمهم بأنهم مجموعة من الناس المتوحشين الذين لا هم لهم إلا السلب والنهب والقتل والتدمير والإحراق.
وقد تكلمت قبل أسبوعين عما تقوم به هذه الجريدة، فهل يحق لنا أيها الإخوة أن ندعو جميع المؤمنين والمسلمين والغيورين والمتحمسين إلى مقاطعة هذه الجريدة، وعدم شرائها، خاصة أنها لا تحمل مادة إعلامية مهمة، ولا أخباراً ذات بال، وهناك جرائد أخرى كثيرة قد تغني عنها، ليعلم هؤلاء الناس أنهم قد أساءوا إلى مشاعرنا، فأنا أدعو الجميع إلى مقاطعة هذه الجريدة وعدم تعاطيها أو شرائها أو بيعها أو المشاركة فيها بأي أسلوب.
وقد تحدث الأستاذ عبد الرحمن العشماوي في قصيدة بعنوان "خضراء الدمن" عن هذه الجريدة فقال: تجيء إليك فاقدة الصواب مهتكة العباءة والحجاب مصبغة الملابس باخضرار ملونة المبادئ باغتراب رأينا في الجزائر راحتيها وقد حملت شعارات اضطراب وفي أرض الجهاد لها حديث مريب في الحضور وفي الغياب تروح على تنكرها وتغدو خداعاً في الذهاب وفي الإياب تشوه وجه صحوتنا جهاراً وتطعنها بآلاف الحراب وتغلق باب إنصاف وعدل وتفتح للتحامل كل باب تقول عن الأصوليين قولاً تميز بالتحامل والسباب لها كف مخضبة ولكن بأسوأ ما تراه من الخضاب جريدة شرق أوسطهم مقرٌ لأصناف الزواحف والذئاب فكم وصفت بإرهاب دعاة إلى نهج الشريعة والكتاب بَرِئْتُ إلى إله العرش منها كما برئ المشيب من الشباب أقول لمن يدير الأمر فيها أما لك بعد هذا من متاب؟! أما لك رجعة للحق تبدي بها للناس أحكام الصواب؟! تذكر أيها المخدوع أنا سنلقى بعضنا يوم الحساب(180/31)
تجرؤ بعض الكتاب على الثوابت الشرعية
وهذه ورقة في غاية الخطورة وصلتني منسوبة إلى كاتب في إحدى المطبوعات المنسوبة إلى معهد عتيد شهير، طالما تكلم الناس عنه، كلام في غاية الخطورة تستغرب أن يصدر من إنسان يتكلم بكامل وعيه، يقول بعنوان النافذة الضبابية: بعض الملتحين تذكرك أشكالهم بالصحابة، وبعضهم يذكرونك بكفار قريش، اللحية رمز عربي وليست من الإسلام في شيء؛ لأن العرب كانوا يلتحون منذ أيام الجاهلية -كل العرب بما فيهم أبو جهل وأبو لهب - وكانوا يعتبرونها منظراً مهيباً يخيفون بها الأعداء، وكان كفار قريش يبالغون في إطلاق لحاهم وكثافتها لتعبر عن الفروسية والشجاعة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم له لحية شأنه شأن العرب، ولم يطلقها بعد الإسلام، ولا تعني في الإسلام شيئاً مميزاً للمسلم، كل ما في الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره رؤية اللحية الكثة -انظر كيف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم! لم يتكلم على أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام، تكلم عن مشاعر قلبية في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم- كان يكره رؤية اللحية الكثة ويتضايق منها، فقال: {حفوا الشوارب وأكرموا اللحى} أكرموها بمعنى: هذبوها، رتبوها، امشطوها، وليست بمعنى: أطلقوها لأنها مطلقة أصلاً.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاح -لا حظ الكلام مرة أخرى عن مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم لم تقف الجرأة عند الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بالقول وكفى به أثماً مبينا، {ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} بل تطور الأمر إلى الكذب في التعبير عن مشاعر في قلب النبي صلى الله عليه وسلم- كان يرتاح للوجوه النضرة، واللحية المهذبة، ويرعبه شكل الإنسان المشوه، ولا أبلغ من قول الله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:18] .
شكلهم المخيف بسبب لحاهم التي غطت وجوههم، وأظفارهم التي وصلت إلى الأرض، وليس لسبب آخر فهم بشر وطولهم متوسط، لذا بقيت صورة الرعب هذه في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومرة ثالثة يتكلم عن ذهن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الصورة بقيت في ذهنه عليه الصلاة والسلام، فكان كلما رأى من هو كث اللحية، تذكر شكل أهل الكهف، حتى التذكر يفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً على ذلك وقال ذلك الحديث المشهور.
يقول: في هذه الأيام برز جيل من الملتحين، لا يعرفون أن الدين المعاملة، ويجهلون أن الدين النصيحة، ويتناسون أن الإسلام جملة من المحبة والمودة والفضائل، لا يعرفون أن المسلم هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، نسوا محاسن الإسلام وسلوك الإسلام، وتمسكوا باللحية وكأن الإسلام لحية، لا يعرفون أن اللحية تعبر عن الأمة العربية أحسن تعبير، ونسوا أن أحبار اليهود ورهبان النصارى وكفار قريش والهندوس والشيوعيين يلتحون، وكذلك البدائيون من الخلق.
النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ما يفيد أن اللحية من الإسلام في شيء، وإنما قال حديثاً يزجر به الذين شوهوا مناظرهم بلحاهم الكثة، الذين كانوا ينتفونها بأيديهم، ويقضمون شواربهم بأسنانهم، ويشوهون منظرهم الإنساني الجميل.
فقال عليه الصلاة والسلام ما معناه -الآن انتقل من الكذب على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشاعر، وعلى عقله بالتذكر والتصور إلى الكذب على لسانه صلى الله عليه وسلم- فقال ما معناه: يا جماعة هذبوا لحاكم وحفوا شواربكم بالمقص وليس بأسنانكم.
الجهلة اعتقدوا أن هذا هو الحديث الوحيد الذي يرمز إلى إسلام المرء، ومن حقك إذا أطلت لحيتك أن تشتم الناس وتكفرهم وتفرق بينهم، وتحلل دماءهم ونساءهم.
ا.
هـ هذا الكلام ليس كلاماً علمياً حتى نرد عليه بالمنطق العلمي والحجة والبيان، وإنما هو كلام سفه، وكلام افتراء، وكلام تهويش وتشويش، وكلام إنسان في حالة انفعال لا يفرق فيها بين الحق والباطل، والخطأ والصواب، والنور والظلام، فهو يتقول على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا الكلام ينبغي أن يعرف بالضبط من قاله، وينبغي أن يعرف بالضبط أين نشر، وينبغي أن يعرف بالضبط من الذي سمح بنشره، وينبغي أن يخضع ذلك كله لمحاكمة من قبل الغيورين على أمر الإسلام.
هناك كلام أيضاً عن آخر أخبار المجاهدين الأفغان، وهناك كلام عن آخر أخبار المسلمين في يوغسلافيا والموقف الغربي، وهناك كلام عن بعض الموضوعات المتعلقة بأمور أخرى.(180/32)
خبر الإفراج عن أحد المشايخ
أخيراً: أزف للإخوة خبراً ساراً بإذن الله تعالى، وهو أن الشيخ سمير المالكي قد أخرج من السجن البارحة، وإنني أشكر الله سبحانه وتعالى ثم أشكر سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز الذي كان له في ذلك دور مشكور، وقد اتصل البارحة مكتبه لإخباري وإشعاري بهذا الأمر؛ ومن ثم نبشر به المسلمين.
وبقدر ما فرحنا بهذا الأمر وسُرِرْنا، إلا أنه ترامى إلى عقلي وذهني قصة يوسف عليه الصلاة والسلام {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50] فنعم أخرج لكن بعد أن مكث في السجن شهراً وأياماً، فلا أدري حتى الآن لم يكن هناك أي إدانة تدل على السبب الذي سجن فيه، لذلك فهذا الفرح أمرٌ عادي، لكن الأصل ألا يسجن بلا معنى، ثم يفرح بخروجه، فالأصل أن أعراض الناس ودماءهم وأموالهم حرام كما نص على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الأمر الذي نصت عليه الأنظمة التي أعلنت، فهو لم يكن له ذنب إلا الأمر بالمعروف، فكان غريباً أن ينال من الإنسان في نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه بشيء، وإن كنا لا نملك إلا الفرح بخروجه.
لكننا نقول أيضاً: ينبغي أن تكون أموال الناس وأعراضهم مصونة فلا يسمح لرجل الأمن أن ينال منها، ونتمنى بإذن الله تعالى ألا نسمع مثل هذه الأخبار المزعجة في المستقبل في شأن أحد من الأخيار والصالحين.
فإذا حصل من أحد ما يدعو إلى مناقشته فالحمد لله البلد مرجعه أهل العلم، وسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز ومن معه من العلماء هم مرجع للجميع، ولا أحد من أهل هذا البلد كبيراً أو صغيراً عالماً أو جاهلاً إلا ويرضى بهم، ويقبل بالانصياع إلى ما يقولون ويرشدون.
فنسأل الله تعالى أن يرزق الشيخ سمير وغيره من الدعاة والمؤمنين الصبر والاحتساب وأن يجازيهم على ما لقوا خير الجزاء، وأن يجعلنا جميعاً هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأسأله جل وعلا أن يعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، ويذل الشرك والمشركين ويدمر أعداء الدين، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(180/33)
الإغراق في الجزئيات
إن الاهتمام بالجزئيات عن الكليات وبالفروع عن الأصول، ظاهرة سلبية يعيشها المسلمون اليوم جميعاً، على كافة المستويات ولا شك أن هذا يعتبر خطأ كبيراً جداً، فلابد من التوسط في ذلك، فلا يهتم بالجزئيات اهتماماً كبيراً مع التقصير في جانب الأصول والكليات، وكذلك لا تهمل هذه الجزئيات بالكلية، بل يعطى كل شيءٍ قدره، لذلك فقد تكلم الشيخ حفظه الله عن هذا الموضوع، وذكر أمثلة على الاشتغال بالجزئيات، وأنه لابد أن يُهتم بأصول الدين، وفصل في هذه المشكلة، ثم بعد ذلك خلص إلى الحلول المناسبة لهذه المشكلة.(181/1)
الإغراق في الجزئيات ظاهرة سلبية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الأحبة: لا أشبه نفسي بين أيديكم في هذه الأمسية المباركة، في ليلة الخميس السابع عشر من شهر ربيع الثاني لسنة (1412هـ) إلا كما يكون الطالب إذا وقف في صالة الامتحان, وأراد أن يكتب ما في ذهنه من الجواب, فرأى أن أمامه سؤالاً طويلاً عريضاً يستغرق الجواب عنه ساعات وساعات.
فقد تجشمت على إعلان هذا الموضوع، أو الموافقة عليه، ألا وهو: الإغراق في الجزئيات، وكنت أحسبه موضوعاً محدوداً يمكن أن يمر به الإنسان في ساعة أو بعض ساعة، فلما فكرت في هذا الموضوع وتأملت وقلبت وجوهه، وناقشته مع جمع من الدعاة والعلماء والمفكرين، وراجعت فيه ما راجعت، تبين لي أن هذا الموضوع أكبر من أن تحيط به جلسة، أو يحده حديث عابر، إذ أن الإغراق في الجزئيات كظاهرة سلبية في حياة المسلمين اليوم، بل ومنذ عشرات السنين، ليست ظاهرة محصورة في جانب فحسب، ليست خطأ يعيشه الدعاة مثلاً فقط، وإنما هي خطأ يعيشه المسلمون في كل مجالات حياتهم بدون استثناء، فهم مغرقون في الجزئيات في أدق أمورهم وفي أعظمها، واشتغالهم بالجزئيات شغلهم عن العناية بالكليات، والاهتمام بمعالي الأمور.(181/2)
إعطاء كل مسألة حقها في الإسلام
إذاًً: البحث والدليل رائد الجميع، ونحن لا ننتقد أحداً أن يتكلم في قضية من قضايا الدين، لكن ينبغي أن يتكلم بتعقل وموضوعية، واتباع للدليل، من كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله عليه السلام، أو إجماع الأمة، وكذلك ينبغي أن يكون الحديث عن الموضوعات بحسب أهميتها وثقلها في ميزان الإسلام.
وإزاء هذين الطرفين المتقابلين: طرف المهتمين بالجزئيات، وطرف الذين يهونون من شأنها؛ كان لابد من طرح هذا الموضوع؛ ولذلك أحببت طرحها، مع أنني أقول: إن هذه القضية ليست قضية الدعاة فحسب، بل هي قضية المسلمين.
لو أتيت إلى الرجل في بيته، وجدته يهتم بالجزئيات وينسى الكليات، ولو أتيت إلى المسئول في إدارته؛ لوجدت أنه يهتم بالجزئيات وينسى الكليات، ولو أتيت إلى المدرس لوجدته كذلك، ولو أتيت إلى الداعية لوجدته كذلك، هكذا الخبير الاقتصادي أو السياسي لوجدته كذلك! إذاً: العناية بالجزئيات وإهمال الأصول والكليات هو داء مستحكم في حياة المسلمين، وقبل أن يكون مستحكماً في حياتهم، هو داء مستحكم في عقولهم.(181/3)
الدين كله لب
مع أننا نقول في حقيقة الأمر: هذا كله دين، الكبير والصغير، والأصل والفرع، والجزء والكل، فكل ما يتعلق بقضية الإسلام فهو دين، وفي الحديث المعروف حديث عمر وأبي هريرة، لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإحسان والإيمان والإسلام كان من ضمن ما سأله -في بعض الروايات- عن قضايا تفصيلية عديدة مثل قضايا الغسل من الجنابة وغيرها، ومع ذلك لما انتهى قال: {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم} فكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو دين ينبغي الاهتمام والعناية به، وألاّ يكون محط سخرية أو استهزاء أو نقد من أحد، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه، ويوضع كل شي في نصابه.(181/4)
إثارة بعض الدعاة للجزئيات
إن من العجيب أيها الأحبة: أن بعض هؤلاء الدعاة الذين يزعمون أو يعتقدون، أنهم يحاولون الإصلاح والتغيير، هم الذين يتسببون في كثير من الأحيان في إثارة بعض الجزئيات، وإشغال الناس بها، وصرفهم عما عداها من معالي الأمور، هم الذين يتسببون في ذلك؛ لأنهم يطرحون وجهات نظرهم بطريقة غريبة، وطريقة استفزازية، وغير موضوعية وغير صحيحة أيضاً.
ولعل أقرب مثال: أن أحد كبار المفكرين، كتب قبل يومين في جريدة سيارة في هذه البلاد وكُتب بخط عريض: لا يوجد دليل من القرآن والسنة -أو كلمة نحو هذا- على تغطية المرأة وجهها!! فإذا أثار هذه القضية فمن الطبيعي أن يكون هناك نقد ورد وأخذ وعطاء في هذه المسألة، وليس صحيحاً أن يطرح إنسان وجهة نظره في قضية معينة ثم إذا طرحت وجهة نظر معارضة قال: يا أخي! وجزئيات، وقشور، هذه توافه.
حسناً إذا كان الأمر كذلك فلماذا تشتغل بها أنت؟ ولماذا تتحدث عنها؟ ولماذا لا تنصرف إلى ما تعتقد أنه أهم منها وأجدى وأنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم؟؟!(181/5)
الناس وجزئيات المسائل
لقد بُلينا بطائفة من المسلمين، بل وأحياناً من الدعاة إلى الله تعالى الذين هم على الافتراض من خيار المسلمين، همهم تحول إلى العناية بفروع المسائل وجزئياتها، فأسهروا ليلهم وأمضوا نهارهم في قتل هذه المسائل والجدال حولها، حتى لكأنها الدين كله، أو أنها من أهم مسائل الدين، مع أنها يمكن أن تكون سنة من السنن، حتى أنَّ من تركها متعمداً لن يكون عليه في ذلك حرج ولا تثريب، وإن كان الأولى بالمسلم أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دقيق الأمور وجليلها.
وفي مقابل ذلك بُلينا بطائفة أخرى، أرادت فيما تزعم أن تعالج هذا الداء؛ فتحول الأمر عندها إلى إهمال كامل للجزئيات، واعتبار أن هذه الجزئيات عبارة عن قشور، أو كما يقول بعضهم: عبارة عن توافه لا قيمة لها ولا ينبغي الاشتغال بها، بل أصبحت موضعاً للسخرية والنقد والتندر، من طائفة -مع الأسف- من الدعاة والوعاظ والعلماء والمفكرين.(181/6)
جهود مبعثرة في الدعوة إلى الله
أيها الأحبة: ومن ذلك قضية الدعوة إلى الله تعالى، فإن الدعوة إلى الله والتعليم ونشر العلم لا تزال جهوداً مبعثرة، يقوم بها أفراد محتسبون لوجه الله تعالى، يتحرك كل منهم بحسب اهتماماته، وبحسب طاقته، وبحسب مستواه ومداركه العقلية، ولا يكاد يوجد إطار عام يتحرك فيه الدعاة والعلماء، أو على أقل تقدير أن يوجد خطوط عريضة تستطيع أن توجه المسلمين إلى الاهتمام بالأمور بحسب أهميتها، فيعطي كل ذي حق حقه، ولا يجار على شيء على حساب شيء آخر.
إننا في أمس الحاجة إلى من يقول لنا: هذا أمر كبير وهذا أمر صغير، وهذا أصل وهذا فرع، وهذا مهم وهذا أهم، وهذا يبدأ به اليوم وهذا يؤخر إلى الغد.
ولكن هذه الكلمة نستطيع أن نقول: إننا لا نكاد نسمعها الآن على أي مستوى، فكل واحد منا لديه اهتمامات، اهتمام بقضايا سواء من أمور الفقه، أو من أمور الأحكام العملية التفصيلية الأخرى، أو من أمور بعض القضايا العلمية، أو من أمور الاقتصاد، أو من أمور السياسة، أو من أمور الإدارة، وتجد أنه يدور حول هذه القضايا التي تشغله دون أن يفكر، هل اهتمامه بهذا الأمر صحيح، أم أنه يجب أن يصرف الاهتمام إلى ما هو أجدى وأهم؟(181/7)
الأصول والفروع
لا شك أن هذا مما يُحتاج إليه في تقسيم مسائل الدين، أن يُقال: إن مسائل الدين تنقسم إلى أصول وفروع، وإن شئت فقل: إلى كليات وجزئيات، أو أي تعبير آخر، وليس المقصود بالأصول والفروع، أن نقول: الأصول -مثلاً- هي أبواب العقائد والأمور النظرية العلمية، والفروع هي الأشياء العملية، كلا.
ولكننا نقول المسائل الجليلة الكبيرة سواءً كانت علمية عقائدية أو كانت عملية، فهي من الأصول، والمسائل الدقيقة سواء كانت مسائل في الأمور العملية، أو كانت في الأمور العلمية فإنها تعتبر فروعاً، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى [6/56] .(181/8)
الأصول والفروع في أمور الحياة الدنيا
كلنا ندرك ببديهة عقولنا، أن هناك أموراً كلية وجزئية أو هناك أصول وفروع، وأن هناك مهم وهناك أهم، وهذا أمر ليس مخصوصاً فقط بما ذَكَرتُ، بل حتى في أمور الحياة الدنيا.
فمثلاً لو نظرنا إلى جسم الإنسان: جسم الإنسان فيه القلب، والمخ، والأجهزة الرئيسية في الجسم، كالجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، هذه أشياء أصلية أساسية في الجسم، لا غنى له عنها بأي حال من الأحوال.
لكن هناك أشياء أخرى كالأطراف مثل أصابع اليدين وأصابع الرجلين، قد يُقطع من الإنسان أصبع أو أصابع ويبقى الإنسان حياً سليماً معافى, فليس الاهتمام بالقلب والمخ والجهاز الهضمي، والجهاز العصبي، والجهاز التنفسي -مثلاً- كالاهتمام بالظفر إذا انقطع أو انقلع، أو الاهتمام بالبنان وطرف الإصبع، هذا أمر يدركه الجميع.
وكما أنه معروف من الناحية العقلية والطبية والواقعية، فكذلك هو من الناحية الشرعية، فلو أن إنساناً اعتدى على آخر بقطع إصبعه، أو أنملة من أنامله، لم يكن عقابه أو قصاصه أو جرمه في ذلك كجرم إنسان اعتدى على روح الإنسان، أو اعتدى على جهاز حسَّاس، أو تسبب في تعطيل بعض حواسه، التي يحتاج إليها في حياته.
وهذا أيضاً لا يعني التفريط في شيء، لا يعني أن الإصبع ليس لها قيمة ولا أهمية، ولكن لا يعني أن تضع الإصبع مكان القلب، أو مكان المخ، أو مكان الجهاز العصبي، أو الجهاز الهضمي، أو الجهاز التنفسي! تعطي كل شيء بحسبه، ولا تفرط في شيء أو تهمل شيئاً، ولكن هذا كبير وهذا صغير، وهذا مهم وهذا أهم، وهذا أصل وهذا فرع، وهذا كل وهذا جزء.
مثال آخر: لو تصورت مدينة من المدن كالرياض -مثلاً- أو غيرها، هذه المدينة لسكانها حاجات ضرورية، فمن الحاجات الضرورية مثلاً: الماء، حاجتهم إلى أن يتوفر الماء للشرب، وإلى أن يكون ماءً نقياً صافياً صحياً، قضية الهواء الذي يتنفسونه، أن يكون هواءً نقياً بعيداً عن التلوث، قضية الطعام وتوفير السلع والمواد الاستهلاكية التي يحتاجونها في يومهم وليلتهم.
هذه قضايا لا غنى للإنسان عنها؛ لأنه لا يمكن أن يعيش الإنسان بدون هواء أو ماء أو طعام، فهي حاجات ضرورية لا غنى عنها ولا بد للإنسان منها.
وهناك في مقابل هذا أمور ثانوية، كالأمور الجمالية -مثلاً- والحدائق والمنتزهات وغيرها، وهذه الأشياء ليس بالضرورة أن يفرط الإنسان فيها، لكن ليس صحيحاً أن يهتم الإنسان بالقضايا التجميلية، والقضايا الشكلية والقضايا التحسينية على حساب القضايا الكلية، فإذا أمكن أن يجمع الإنسان بين هذا وذاك فيُوفر للإنسان الهواء والمناخ والماء والطعام الملائم، وقبل ذلك كله يوفر له حاجاته المعنوية، حاجات الدين والخُلق والتقوى، وحاجات الحماية، ومع ذلك إذا استطاع أن يضيف إلى هذا العناية بالقضايا التجميلية والتحسينية ونظافة الشوارع وتحسين الحدائق، هذا أمر جيد ونور على نور.
لكن إذا كان لا يمكن الجمع بين هذه الأمور، فينبغي أن يبدأ بالأهم: توفير الضروريات التي لا بد للإنسان منها، وتلك الأمور الأخرى إن تيسرت فبها، وإذا لم تتيسر اليوم فقد تتيسر غداً أو بعد غد.
وإذا كان هذا على مستوى مدينة، فتصور ذلك على مستوى دولة بأكملها، فإن المدن الكبرى في أي دولة بما في ذلك العواصم والقصبات الرئيسية، هذه هي شريان الحياة في أي دولة من الدول، ولذلك إذا أراد عدو أن يعرب عن نهاية التحدي لدولة، فإنه يحاول أن يعتدي على عاصمتها؛ لأنه يعتبر هذا ضرباً في الصميم، كأنك أصبت إنساناً أو حاولت أن تصيبه في قلبه وفي صميم فؤاده، على أن هناك في مقابل هذا قرى صغيرة في الأطراف، وبوادي وهجر ومدن صغيرة، وأشياء لا شك أن العناية بها ضرورية، وفواتها يعتبر خطراً مهدداً؛ لأنه قد يتطور إلى ما بعده، لكنه لا يمكن أن يقاس بحال من الأحوال، بضياع المدن والقصبات الرئيسية.
ولذلك كان الفرسان والقواد على مدار التاريخ، يعتنون بتحصين المدن الكبرى والعواصم عناية خاصة، ويولونها اهتماماً من نوع خاص؛ لأنهم يدركون أنها هي القلب النابض، وإذا توقف القلب عن دفع الدم -توقف عن النبض- معنى ذلك الحكم على الجسم كله بالزوال والفناء.(181/9)
المسائل العلمية الاعتقادية فروع وأصول
إذاً: في المسائل العملية فروع وأصول وكذلك في المسائل العلمية الاعتقادية كليات وجزئيات، أو فروع وأصول، فمثلاً: أركان الإيمان الستة، التي يقرؤها صغار الطلاب في المدارس، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هذه أصول وكليات وقضايا عامة لا شك فيها، فإنكارها كفر، والحديث عنها من أَوْلى الأولويات وأهم الضروريات، ولكنك تجد في مقابل ذلك في مسائل الأمور العلمية والاعتقادية جزئيات، من المؤكد أن العبد لا يُسأل عنها في قبره، وليست من شروط دخول الجنة.
فمثلاً
السؤال
هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لم يره؟ مثل آخر: قضية النزاع في معاني بعض الآيات القرآنية، أو بعض الأحاديث النبوية، بل حتى النزاع في ثبوت بعض الأحاديث أو عدم ثبوتها.
كذلك قضية الكلام وما يتكلم به أهل المنطق فيما يسمونه بالجوهر والعرض، أو بقاء الأعراض، وكذلك قضية فناء النار: هل تفنى النار أو لا تفنى؟ هذه من القضايا التي ليست من القضايا الكلية، التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم ببيانها بياناً واضحاً لا إشكال فيه، بحيث أن يكون المخالف فيها كافراً أو فاسقاً أو مبتدعاً، بل هي من القضايا التي يمكن أن تعتبر من أمور الفروع والجزئيات في المسائل العلمية.
وليست هذه كتلك، فالمؤكد -أيضاً- أن العبد لن يُسأل في القبر: هل تؤمن بفناء النار أم لا تؤمن به؟ وليس هذا من شروط دخول الجنة -مثلاً- أن يقول هذا أو ذاك.
ولكنه ينبغي للعبد أن يؤمن بأركان الإيمان الستة والتي منها الإيمان باليوم الآخر وما فيه، مثل الإيمان بالجنة وبالنار، وليس مجرد الإيمان اللفظي، وإنما الإيمان الذي يتحول إلى عقيدة في القلب، ويتحول إلى سلوك وعمل، ويتحول إلى تحريض للمؤمن على مواجهة متاعب الطريق، والصبر في سبيل الله والجهاد، وإيثار ما يبقى على ما يفنى، وإيثار الآخرة على الأولى.
فهذه أمور كلية في باب الاعتقاد، وتلك أمور جزئية والأمر في ذلك -إن شاء الله تعالى- واضح لا إشكال فيه.(181/10)
المسائل العملية فروع وأصول
فمثلاً: العلم بوجوب الواجبات -كأركان الإسلام الخمسة- هو من قضايا الأصول الظاهرة، مع أنه أمر عملي، الصلاة والزكاة والصوم والحج، وقبلها أيضاً الشهادتان، وبالذات الأركان الأربعة الأخرى، فإنها ظاهرٌ جداً أنها أمور عملية؛ ومع ذلك فالعلم بوجوبها هو من قضايا الأصول الظاهرة، ولذلك كان من جحدها كافر، مثله في ذلك مثل من جحد مسائل الاعتقاد الثابتة المشهورة المتواترة التي لا تخفى أدلتها، كمن جحد -مثلاً- قدرة الله تعالى أو علمه وأنه بكل شي عليم، أو أنه سميع أو بصير، أو سائر أركان الإيمان الستة، التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
كما أننا نجد في المسائل العملية فروعاً وجزئيات.
فمثلاً قضية الصلاة: الصلاة أصل، لكن تفاصيل سنن الصلاة وما يستحب أن يقال فيها، هذا ليس أصلاً، بل هو من الأمور الدقيقة، فهو يصح أن يسمى فرعاً أو أن يسمى أمراً جزئياً.
فهل ترى يا أخي -مثلاً- أن من العدل أن نستغرق وقتاً في الحديث عن جزئية، من هذه السنن الواردة في الصلاة -كما سيأتي الإشارة إلى شيء منها- كالحديث عن جلسة الاستراحة، أو الحديث عن التورك، أو الحديث عن صفة الهوي إلى السجود، هل يسجد على يديه أولاً، أو على ركبتيه أولاً؟ هل ترى أن من الحكمة أن نستغرق في هذه المسألة ونقتلها بحثاً، ونؤلف فيها عدداً من الكتب، وتكون هي حديثنا في مجالسنا، وهي مجال للمنافرة والمنافسة بين الأقران وبين الطلاب، ويتلقاها صغار طلاب العلم قبل كبارهم؟ على حين أنك لا تكاد تجد من يتكلم مع الناس في قضية الصلاة، وأهميتها ومنزلتها من الدين، كلاماً يصل إلى قلوبهم ويخاطبهم ويخالط شغافهم، ويدعوهم إلى ارتياد المسجد في كل وقت! ولا تجد -مثلاً- من يتكلم عن قضية الخشوع في الصلاة، الذي هو روحها ولبها، بل إنك تجد من الفقهاء من يقول: إن الخشوع في الصلاة مستحب وليس واجباً! مع أن الصلاة التي لا يكون فيها خشوع وحضور قلب وإقبال، لا تؤثر في صاحبها تقوىً لله عز وجل، ولا خوفًا منه، ولا إقبالاً على الطاعة والعبادة، وإن كانت بكل حال، هي صلاة شرعية ما لم يرتكب فيها ما يبطلها.(181/11)
العدل مع الأصول والفروع
إذاًً: هذه القضية معروفة عند الإنسان في أموره الدينية والدنيوية والمدنية، وسائر أموره على حد سواء، ولا يعني تقسيم هذه الأشياء، إلى أن هناك أشياء مهمة وأشياء أهم منها، وأشياء كلية وأشياء جزئية، وأشياء أصلية وأشياء فرعية أن نقول لك: إن تفرط في الأشياء الفرعية!! أرجوك يا أخي لا تفهم مني هذا، وإياك إياك أن تحمل كلامي ما لم أقل، فإن الله تعالى يحب العدل، وأنت تفهم الكلام على ما قيل دون أن تشتط بالكلام إلى كلام لم يقل، دعني ولا تحكم على ما في قلبي، ولكن احكم على الذي تسمعه مني.
نحن نقول: هناك أصول وفروع، هذه الأصول ينبغي أن تُعطى من العناية حقها وقدرها، وكذلك الفروع تعطى من العناية حقها وقدرها، لكن من المؤكد أنه ليس حق الأصول كالفروع، ولا حق الكليات كالجزئيات، ولا حق الضروريات كالمسائل التحسينية أو التكميلية أو الحاجية.
نحن نتفق جميعاً لو أن إنساناً كان يهتم بعلاج شيء في إصبعه، أو علاج ظفر له، وهو يعاني من مرض مزمن في قلبه، أو يعاني من جلطة في المخ -مثلاً- أو أنه يهتم بعلاج زكام، على حين أن عنده مشكلة قد تؤدي به إلى الوفاة!! إننا نعتبر هذا نوعاً مما يخالف العقل والحكمة، فليس من العقل والحكمة أن تهتم بهذه القضية الجزئية وتهمل الأصل، ليس العقل والحكمة فقط، بل حتى يخالف الشرع، فالشرع لا يأذن للإنسان أن يشتغل بعلاج قضية جزئية في جسمه، بما يترتب عليه فوات الأصل، وإذا كان ولابد فالمحافظة على الأصل أولى، وإذا كان من الممكن أن تجمع بينهما فهذا أمر جيد.
لو أن إنساناً اهتم بتسمية المدن أو ترقيم شوارعها، أو تنظيفها أو وضع الحدائق؛ ولكنه غفل عن توفير الحاجات الضرورية، لم يكن هذا الأمر محموداً بحال من الأحوال، فلابد من تأمين ضرورات الدين والدنيا قبل أي شيء آخر.
إذاً هناك ضرورات وهناك كماليات وهناك تحسينات، وهي درجات بعضها فوق بعض.
نحن لا ندعو إلى إهمال شيء منها، لكننا ندعو إلى أمرين: الأول: العناية بالجميع؛ لأنه من الدين، فالأصل من الدين، والفرع من الدين، والكل من الدين، والجزء من الدين، نحن ندعو إلى الاهتمام بالجميع لأنه من الدين.
ولكننا ندعو ثانياً: إلى أن يعطى كل شيء ما يستحقه فلا يوضع الأصل مكان الفرع، ولا يوضع الفرع مكان الأصل.(181/12)
ظاهرة الاهتمام بالفروع دون الأصول
والغريب أيها الأحبة أن هذا الأمر ظاهر من وجوه عديدة: أولاً: أنت حين تقرأ القرآن الكريم، أنا أتعجب ونحن نسمع جميعاً قراءة إمامنا جزاه الله خيراً، فهذه الآيات المزلزلة التي تهز القلوب، وتجر الدموع حتى من الغلاظ القساة، هذه المعاني الكبيرة العظيمة التي تردد في آيات القرآن الكريم، لا تكاد تجد وجهاً من القرآن الكريم، إلا وفيه الحديث عن الدار الآخرة والبعث والحساب، كم أخذت من اهتمام الدعاة والعلماء والمصلحين والخطباء والمربين؟! أقول بدون تحفظ: إنها لم تأخذ مقدار ما أخذته قضية جزئية فرعية من أحوال كثير من الدعاة، ولا أبالغ إذا قلت: إن من الدعاة من قد يهتم بقضية التسبيح باليد اليمنى أو باليدين كلتيهما، ربما يهتم بهذه القضية، أكثر مما يهتم بتلك القضايا الكبرى، التي أبدأ القرآن فيها وأعاد، والتي هي موضوع القرآن الكريم في معظمه، قضايا الاعتقاد الكبرى التي تُسَيِّر دفة الحياة، وتحكم العقول، وتصلح القلوب، وتبني الأمة، وتحدد الاتجاه.
أصبحت قضايا لا نحتاج إليها إلا في حالة واحدة، وانظر كيف انتكست المسألة مع الأسف الشديد؟ إذا أردنا أن نؤكد للناس، على أهمية قضية جزئية، حاولنا أن نتحايل بربطها بالأصل حتى تصبح قضية مهمة بدليل أنها قضية ترتبط بالعقيدة، وقد يكون ربطها بالعقيدة صحيحاً فتكون مهمة فعلاً، ولكن أحياناً قد نتكلف ربطها بالعقيدة؛ لنؤكد للناس أن هذه قضية مهمة، مع أننا نسينا العقيدة نفسها في بعض الأحيان، التي نستخدمها أو نحاول أن نستفيد منها في ذكر بعض القضايا الجزئية وتضخيمها وتكبيرها.(181/13)
الولاء والبراء في الإسلام
أضرب لك مثالاً: قضية اليهود والنصارى، أو مسألة الولاء والبراء بشكل عام، وبغض أعداء الإسلام، واتخاذ طريق آخر مناوئ لهم، وإعلان الحرب عليهم بكل صوره وأشكاله، والبراءة منهم، والكفر بهم وبما يعبدون من دون الله، واعتقاد عداوتهم للمسلمين، وأنهم لا يريدون للأمة خيراً في حاضرها ولا مستقبلها في دينها ولا في دنياها، قال تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وقال: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] إلى آخر حشد هائل جداً من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، يبدئ ويعيد في قضية البراءة من المشركين، وإعلان هذه البراءة والبعد عنهم، ومجافاة طريقهم، ومجانبة خطهم ومنهجهم، قال تعالى: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] .(181/14)
المسلمون والولاء والبراء
هذا المعنى الكبير ما نصيبه من عقولنا؟ وقلوبنا؟ ومجالسنا؟ وصحافتنا؟ ما نصيبه من إعلامنا؟ ومجتمعاتنا؟ ومؤسساتنا؟ سواء كانت مؤسسات رسمية أو غير رسمية، ما نصيب هذا الموضوع وإبرازه وتربية الناس عليه؛ بحيث يصبح جزءاً من حياتهم لا يتجزأ، ويأخذ حجمه الطبيعي وهو حجم كبير أو قليل! لكننا في الوقت الذي نتناسى فيه خطر النصارى أو خطر اليهود، ونتناسى تحالفهم الخطير اليوم على أمة الإسلام، وتناديهم للقضاء على هذه الأمة، وصراخهم المسلمون قادمون, ونسي هذا الحلف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية بالذات وإسرائيل، وإصرار أمريكا على حماية إسرائيل وحفظ أمنها، وتوفير كافة الضمانات الممكنة لها، وتحقيق كل مطالبها، بل ومساهمتها أصلاً في وجود هذه الدولة، ثم في بقائها، ثم في حمايتها، ثم في توسعها، ننسى خطر اليهود، وننسى خطر النصارى؛ لكننا قد نستخدم هذه القضية حينما نريد أن نلفت نظر الناس إلى أمر مهم، تقول: كيف؟! أنا أوضح لك: يقع بيني وبينك خلاف في مسألة من المسائل الفرعية، وهو خلاف جائز؛ لأن المسألة ليس فيها نص من الكتاب والسنة، والمؤكد أنك لن تسأل عنها في القبر، وأنك لا يشترط لكي تدخل الجنة أن تقول فيها؛ لأن المسألة ما بيَّنها القرآن بياناً لا يلتبس على أحد، وقد لا تكون وردت في القرآن أصلاً، أو لا تكون وردت في السنة، لكني اختلفت وإياك في هذه المسألة، فأنت قد تجد في هذا الأمر فرصة لأن تقول: إن هذا الكلام خطير، وهذا الكلام لا يجوز، وهذا فيه وفيه وفيه، ولكي تقنع الناس بأن هذا الكلام فعلاً خطير وضار وينبغي ألا يصدق؛ فإنك تلجأ إلى أن تقول القول في هذه الفئة والطائفة أنها أخطر على الإسلام مِن اليهود والنصارى!!! الآن احتجنا إلى قضية الكلام عن خطورة اليهود والنصارى؛ حتى نؤكد للناس أن المسألة هذه خطيرة، وقد لا تكون كذلك، وقد تكون كذلك -الله أعلم- فالمسائل تتفاوت، لكن العناية بالقضية الأصلية ابتداءً وتربية الناس عليها، وبناء النفوس بها، وشحن القلوب، هذا غير موجود، ولماذا نضحك على أنفسنا؟ لماذا لا نتقي الله سبحانه وتعالى، وننظر إلى واقعنا وإلى أحوالنا نظرة فاحصة، نظرة الذي يبحث عن الخطأ ليتجنبه، ويبحث عما يرضي الله سبحانه وتعالى ليفعله، فالعبد يتعامل مع ربه عز وجل، خاصة إذا كان في مجال الدعوة، وفي مجال التعليم، وفي مجال طلب العلم.(181/15)
قضية العقيدة وأهميتها
مَثَل آخر -ليس ببعيد عن السابق-: قضية العقيدة، كل إنسان يدرك أهمية العقيدة، وأن هذه العقيدة هي المحرك الذي يدعو الإنسان إلى فعل أي شيء، فالإنسان -أصلاً- لا يمكن أن يتحرك إلى فعل أي شيء، إلا بناءً على معتقد راسخ لديه، أنه ينبغي أن يفعل كذا أو أن يترك كذا، وهذه قضية مسلمة حتى عند الكفار، يدركون أنه لابد أن يكون لديهم فكر أو تفكير في هذه المسألة قبل أن يقدم عليها.
إذاً يسبق الفعل دائماً فكرة، أو عقيدة مستقرة في قلب هذا الإنسان تدعوه إلى فعل هذا الشيء أو ترك ذلك الشيء، وإذا كانت العقيدة عقيدةً صحيحةً صافية، دعت الإنسان إلى فعل صحيح صافٍ، وإذا كانت العقيدة عقيدة منحرفة، فقد تدعو الإنسان إلى فعلٍ منحرف.
فالعقيدة أولاً هي الأساس، وكلنا نتكلم عن هذا وقد نقوله في بعض مجالسنا.(181/16)
فساد العقيدة وانتشار الشرك
لا غرابة إذا فسدت العقيدة أو ضاعت أو انحرفت أن ينتشر بين المسلمين شرك الطاعة، أو كما يسمي بعض المعاصرين: الشرك السياسي، الذي يعطي حق التشريع لغير الله سبحانه وتعالى، ويمنح بشراً من البشر أن يحلل ويحرم، ويأمر وينهى، ويحق ويبطل، إلى غير ذلك من الأشياء التي استأثر الله سبحانه وتعالى واختص نفسه بها، فهي من خصائص الألوهية، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] وقال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] وقال سبحانه: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [الكهف:27] إلى قوله سبحانه: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] وفي قراءة: {ولا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] .
فالله تعالى هو الحكم، وهو الحاكم، وهو الحكيم والحكم إليه، هو الذي يحلل ويحرم، فكلمة: هذا حرام وهذا حلال، وهذا مستحب وهذا مكروه، وهذا جائز وهذا غير جائز، وهذا حق وهذا باطل، وهذا خطأ وهذا صواب هذا كله لله سبحانه وتعالى، وليس من حق أي إنسان حاكماً كان، أو قانونياً، أو سياسياً، أو أستاذاً جامعياً، أو كبيراً أو صغيراً، أو خبيراً أن يدَّعي أنه يملك أن يتصرف في مسألة واحدة من ذلك، ولو ادعى؛ لكان معنى ذلك أنه ادعى مشاركة الله سبحانه وتعالى في ألوهيته.
قال الإمام الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: "فمن حكم بغير ما أنزل الله من الشرائع الإلهية المنسوخة كاليهودية وغيرها فقد كفر، فكيف بمن حكم بغير ذلك مما صنعه البشر؟ لا شك أن هذا كافر بإجماع المسلمين".(181/17)
البدء بتصحيح عقائد الناس
إذاً: ليست البداية بأن تبدأ بمسألة أو قضية شكلية، إنما المهم أن نبدأ بقضية تصحيح عقائد الناس، من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذه الطريقة يمكن أن تتحول العقيدة إلى هم كبير مؤثر في حياة الناس، وإلى روح تسيطر على قلوب الناس، وتسير حياتهم، وتضبط أمورهم صغيرها وكبيرها، بحيث ترجع إلى هذا الأصل الكبير.
لكن ما دام الأصل فيه نقص، أو فيه ضلال، فلا غرابة أن يترتب على ذلك آلاف الآثار السلبية، فيما يتعلق بالفروع، فإذا فسدت العقائد؛ فلا تستغرب أن تجد من يطوف حول القبور مثلاً، ولا تستغرب أن تجد من يدعو الأولياء ويناديهم، ولا تستغرب أن تجد من يوالي الكفار والمشركين، ويعطيهم الطاعة ويسير في ركابهم وفي هواهم، ويسارع في ذلك، كما قال الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]-نخشى أن تصيبنا دائرة-.
هذا هو الكلام الذي يردده الصحفيون اليوم، عما يسمى بالنظام الدولي الجديد.
عندنا الآن نظام دولي جديد! الغرب يحكم قبضته على العالم -خاصة بعد انهيار المعسكر الشيوعي- ولذلك كأنهم يريدون أن يقولوا، أو إنهم يقولون فعلاً: ليس أمام المسلمين إلا أن يسايروا هذا الركب ويسيروا في ظله ويسلموا أمرهم كما سلم غيرهم أمرهم؛ ليكونوا جزءاً من هذا النظام الدولي الجديد، هذا هو ما ذكره الله تعالى عن المنافقين: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة:52] أي: في طاعة المنافقين وموالاتهم يَقُولُونَ هذا العذر: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] نخشى من مصيبة، أو مشكلة، نخشى أن يلتف علينا الشرق والغرب، أو يتبرأ منا، أو يخطط ضدنا, أو يتآمر علينا، أو يحاربنا، وهذه -مع الأسف- مشاعر كثير من المسلمين، في طول العالم الإسلامي وعرضه، في مشارق البلاد ومغاربها.(181/18)
استخدام العقيدة بشكل صحيح
لكن يأتي
السؤال
هل نحن نتكلم عن العقيدة بشكل صحيح؟ هل نحن نربي الناس عليها بشكل جيد؟ هل نحن نربطها ونربط الأحداث بها ربطاً صحيحاً؟ أم أننا نستخدمها أحياناً للإعراب عن خطورة أمر، كما ذكرت قبل قليل.
فإذا أردنا أن نتكلم عن هذا الموضوع أنه لا يصلح، قلنا: إن هذا خطير وكذا وكذا، وحاولنا أن نربطه بالعقيدة، وقد يكون ربطنا به بالعقيدة أمراً صحيحاً وقد يكون أمراً خاطئاً، لكننا تكلفنا ذلك حتى نُحذِّر الناس من القول بهذا القول أو من فعل هذا الفعل؛ لأنه أمر يخل بالعقيدة، والإنسان إذا شعر أن هناك شيء يتعلق بالعقيدة يحجم عنه.
إذاً الأصل أن يهتم الإنسان بعقيدته، بتربية الناس على العقيدة، وببنائها في النفوس، وبشحن القلوب بها، وبدعوة الناس إلى تصحيح عقائدهم، وإلى تصحيح التوحيد، وتصحيح العبادة، والإيمان الحق بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله، والإيمان الحق باليوم الآخر.(181/19)
العقيدة تؤخذ من الكتاب والسنة
لكن كم هو مؤسف أن أقول أيها الأحبة: إننا في الوقت الذي نتكلم فيه عن قضية العقيدة، كثيراً ما نجور على هذه العقيدة من حيث لا نشعر، كيف ندرس العقيدة؟ لأن الذي نعرف أن السلف الصالح رضي الله عنهم حين تقرأ كتبهم؛ فإنك تجد أن طريقتهم في تقرير العقيدة -كما في كتب الإيمان لجماعة من أهل العلم والتوحيد، وغيرها من كتب السنة- آية محكمة من كتاب الله، وحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودور العالم ينحصر غالباً في وضع عناوين مناسبة لهذا الحشد من الآيات والأحاديث التي ساقها، فكان الناس يأخذون العقيدة واضحة سهلة قريبة من النفوس، بدون تكلف ولا تعقيد ولا أخذ ولا رد.
العقيدة من كتاب الله تعالى ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واضحة صافية نقية كما أخذها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، بل كما كان يأخذها الأعرابي الذي يأتي من أطراف البادية، ويجلس عند الرسول صلى الله عليه وسلم ساعة أو ساعتين، فيعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أصول الإيمان، وأصول الاعتقاد، وأصول الأشياء العملية، ثم ينصرف إلى قومه مؤمناً مسلماً، بل ينصرف إلى قومه داعياً إلى الله عز وجل.
تسهيل أمر الدين: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] أحياناً تجد الطالب الذي يتخصص في العقيدة، وقد يقضي سنوات طويلة في دراسة العقيدة يدرس قضايا منطقية وفلسفية، وقضايا الجوهر، والعرض، وقضايا وأمور، ربما يحتاج وقتاً طويلاً لكي يفهمها، ثم يحتاج وقتاً طويلاً لكي يناقشها، ثم يحتاج وقتاً طويلاً لكي يفهم الرد، ثم يحتاج وقتاً أطول لكي يفهم أو يقتنع بأن هذا الرد صحيح، وقد يبقى في قلبه شبهة.
ومما يروى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، جاءه الإمام ابن القيم، فكان يسأله عن مسائل، فقال له ابن تيمية رحمه الله: لا تجعل قلبك مثل الإسفنجة يتلقى هذه الأشياء ويتشربها، فإنه حينئذٍ قد لا تخرج منه، وإن خرجت يبقى أثرها.
بمعنى: أنه ليس الأصل أن يفترض الإنسان شبهات، وانحرافات، ويفترض مذاهب باطلة، ويبقى يرد عليها، ونُعلِّم الطالب الصغير والمسلم الجديد منذ أن يدخل في الإسلام أن هذا ضال، وهذا منحرف، وهذا خطأ وهذا باطل!! يا أخي، علِّمه الحق أولاً، علِّمه الحق نقياً صافياً من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا خشيت أن يواجهه مثل هذه الأشياء، بحكم واقعه العملي، تعطيه إياه بطريقة سليمة مناسبة؛ لأنه من المؤكد أن الإنسان لو عرف العقيدة الصحيحة، عرف العقيدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقيةً صافيةً لا غموض فيها ولا غبش، كما تلَّقاها الجيل الأول والصدر الأول، وأشرب قلبه بها وأحبها، هذا الإنسان لو مات على ذلك، وهو لم يدرِ أن هناك طائفة من الطوائف -مثلاً- اسمها الأشاعرة، وما درى أن هناك طائفة اسمها المعتزلة، ولا علم أن هناك طائفة اسمها الجبرية، والقدرية، والجهمية، والمعطلة، كل هؤلاء ما عرفهم، ولا يدري من أي شاربة يشربون، ولا من أي واردة يردون، لكنه عرف العقيدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى عليه وسلم، ألم تتحقق له النجاة بإذن الله تعالى؟ بلى، ومن المؤكد أن أبا بكر وعمر وسائر الصحابة، ما عرفوا هذه المذاهب الباطلة؛ لأنها لم تكن موجودة في وقتهم.(181/20)
العقيدة ليست مربوطة بالأشخاص
مثال آخر: العقيدة من كتاب الله وسنة رسوله ليست مربوطة بشخص وإنما الأشخاص دعاة يفتخرون بالانتساب إليها، فأنت حين تجد علماً من الأعلام خذ مثلاً: 1- شيخ الإسلام ابن تيمية: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، إنما اشتهر وذاع صيته وصار له القِدْح المُعَلَّى، وصارت له المكانة؛ لأنه لم يدعُ الناسَ إلى مذهب خاص، ولا إلى رأي شخصي، ولا إلى اجتهادات ذاتية، وإنما دعا الناس إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه كل بضاعته، فهو لا يأتي بشيء من كيسه أو من عنده، إنما يُحِيل الناس إلى الكتاب والسنة؛ ولذلك صار شيخ الإسلام.
إذاً ليست القضية عندنا قضية شيخ الإسلام ابن تيمية، القضية عندنا قضية العقيدة الصحيحة، وشيخ الإسلام ابن تيمية كل من عرفه أحبه، وكل من قرأ كتبه عظمه، ولكن لماذا أجعل المشكلة بيني وبينك هي قضية شيخ الإسلام؟ شيخ الإسلام إمام فحل، وقد اعترف بفضله العدو قبل الصديق، لكن دعني من هذه المسالة، أنا أناقشك في أصل قضية المعتقد.
2- الدعوة الوهابية: خذ مثالاً آخر: قضية الدعوة الوهابية.
فقد أفلح الاستعمار في إعطاء صورة قاتمة عن الدعوة الوهابية في العالم الإسلامي في كل مكان، وأنها مذهب خامس وأنها وأنها حتى أني قرأت في كتاب لأحد علماء إحدى البلاد يقول: إن محمد بن عبد الوهاب ادعى النبوة والعياذ بالله أو قال: إنه أراد أن يدعي النبوة، ولكنه لم يتجرأ على ذلك، فبدأ يوري ويلبس على الناس!!.
لا نحتاج لأن نرد على هذا الهراء، لكننا نحتاج أن نقول لهذا الإنسان: اقرأ كتاب التوحيد، والمسألة ليست مسألة مهاترات، الحق أبلج والباطل لجلج، ما فيها دعوى نبوة أو دعوى ولاية أو دعوى اجتهاد، فيها أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، يقول: باب (يذكر الترجمة) ثم يقول: قال الله تعالى يذكر آية، ثم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر حديثاً رواه البخاري، فيه مسائل، والحمد لله وعلى هذا المنوال، ما جاء بشيء من عنده، إنما أتى بشيء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك صار مجدداً في عصره، وصار له تأثيراً في حياة المسلمين في هذه البلاد خاصة وفي بلاد أخرى تأثيراً كبيراً.
فالمقصود أن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما دعا إلى نفسه، ولا دعا إلى مذهب، وإنما دعا إلى الكتاب والسنة.
إذاً: فالقضية والخصومة بيني وبين أي إنسان في الدنيا، ليست الخصومة في قضية أنت وهابي أو لست بوهابي.
في إحدى المرات لقينا رجلاً من الشباب المتدين في مظهره -أحسبه كذلك والله حسيبه- في بلد إسلامي، فحادثناه وسألناه، ومن ضمن ما سألناه قلنا له: هل أنت تنتسب إلى شيء من الطرق الصوفية؟ فقال: نعم، أنا أنتسب إلى الطريقة النقشبندية.
فتحدثنا معه في قضية الطريقة وأنه ما حاجتك إلى الطريقة النقشبندية؟ قال: إن الشيخ يوصل إلى علم الرسول صلى الله عليه وسلم، فاقترحنا عليه أنه لماذا لا يختصر الشيخ النقشبندي، ويرجع مباشرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون أفضل له بدلاً من تطويل السلسلة والسند، ويذهب إلى المصدر والنبع مباشرة بدون واسطة، هل يعتقد أن هذا فيه مانع؟ ففاجأنا بسؤال قال: أنتم من أي طريقة؟ قلنا: نحن من الطريقة المحمدية، من طريقة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: لا، أنتم من الطريقة الوهابية.
إذاً ليست القضية بيني وبينك، نحن وهابية أو لسنا بوهابية، نحن لا نسمي أنفسنا بهذا الاسم، وإذا أنت عيرتنا بها فنحن نقول كما قال الشاعر: وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها لكننا نقول: حين تقوم بالدعوة إلى الله، وبالدعوة إلى الدين الصحيح في أي بلد ليس شرطاً أن ترفع راية الوهابية، ارفع راية الكتاب والسنة، وليس شرطاً أن أبدأ بتصحيح مفهوم الناس عن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، هذا يأتي تبعاً ويأتي بعد، إذا عرف التوحيد الصحيح افترض أنه مات وهو لا يزال سيئ الظن بالشيخ محمد بن عبد الوهاب، بحسب الكلام الباطل الذي وصل إليه، هنا إذا كان توحيده صحيحاً، وإذا كان عرف التوحيد الصحيح فهو -إن شاء الله- ناجٍ، وإن أخطأ في هذه المسألة، لكن المصيبة لو مات وهو على عقيدة منحرفة أو على ضلال بحيث يخشى عليه من الهلاك، وقد يكون على عقيدة كفرية في بعض الأحيان، فهذه هي الخطورة.(181/21)
أمثلة ونماذج على الانشغال بالجزئيات عن الكليات
سوف أضرب لكم أمثلة، وهذه الأمثلة بصراحة ليست على سبيل الاستقصاء ولا على سبيل الدقة، ولكني سوف أتحدث عما سجلته من هذه الأمثلة، مما يدل على أننا -فعلاً- نشتغل كثيراً بالجزئيات عن الكليات، ونحن بحاجة إلى مراجعة ذلك.(181/22)
الاشتغال الدائم بالفرعيات
الاشتغال الدائم بالفرعيات؛ قد يكون عندنا عشرون مسألة وإن شئت فقل: ثلاثون، هي كل ما نتحدث عنه -خاصة نحن طلبة العلم- في مجالسنا الخاصة، لا يكاد يخلو مجلس من مجالسنا -طلبة العلم مثلاً- عن الكلام عن جلسة الاستراحة، هل هي مستحبة، أم مكروهة، أم جائزة، وفي بعض الأقوال بأنها واجبة، وتحريك الإصبع في التشهد، ربما أكثر من عشرين كتاب ألف في هذه المسألة، وتفنن الناس في تحريك الإصبع في التشهد بشكل لم يسبق له نظير.
قضية وضع اليد في الصلاة، أين يضعها؟ على صدره، أم تحت السرة، أم فوق السرة، قضية الهوي إلى السجود، هل يسجد على ركبتيه، أم على يديه أولاً؟ كما أسلفنا.
مع أن ابن تيمية لما تكلم عن هذه المسألة -مسألة الهوي على اليدين أو على الركبتين- قال: هذه من المسائل العويصة المشكلة المختلفة التي الأدلة فيها غير واضحة، وتجد طالب العلم الصغير، أول ما يبدأ يبدأ بهذه المسألة، وليت المسألة تقف عند هذا الحد! قد يؤلف فيها مصنفات أحياناً! وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل قد تجد أن هذا الإنسان أصبح يعتبر هذه المسألة ميزاناً وفيصلاً بين الذي يتبع السنة والذي لا يتبع السنة، فالذي يقدم يديه هذا يتبع السنة، والذي لا يقدم يديه هذا لا يتبع السنة.
الصلاة بالنعال مثلاً، قضية النقاب بالنسبة للمرأة، التسبيح باليمين أم بكلتا اليدين، صلاة التراويح خمس أو عشر أم أكثر أم أقل، هل يجهر بالذكر بعد الصلاة أم لا يجهر؟ قضية دخول الأطفال إلى المساجد وما أشبه ذلك، من المسائل المحدودة التي أصبحت جل همنا وحديثنا وكلامنا، وكل طالب علم أراد أن يجرب خبرته وإمكانيته؛ فإنه يختار بعض هذه المسائل، ويرجع إلى بعض الكتب، ويجمع بعض ما قيل فيها، ويكتب في ذلك مصنفاً أو جزءاً حديثياً أو فقهياً!! وأنا أشير -حتى يكون الكلام واضحاً- إلى أن الاهتمام بهذه المسائل لا حرج فيه، وإعطاءها حقها مطلوب، وأستغفر الله وأتوب إليه أن أقول: إني كغيري من طلبة العلم، إذا مرت هذه المسائل علينا في الدرس، درسناها وبحثناها ونظرنا في الأدلة، ورجعنا إلى كلام أهل العلم، وهناك كتب ألفت في بعض ما ذكرت من المسائل، كتبها طلبة علم كبار ومجتهدون وأخيار وفضلاء، ويشكرون، والعبد الفقير ممن استفاد مما كتبوه، فجزاهم الله خيراً.
نحن لا نعترض على هذه الكتب، الشيء الذي نعترض عليه هو أن تصبح هذه القضايا جل همنا، بل كل همنا، ومدار حديثنا، وملء مجالسنا، بل ملء قلوبنا وعقولنا، إلى متى نظل ندور ثم ندور ثم ندور في مثل هذه القضايا، ونترك القضايا الكبرى، وقضايا الاعتقاد، وقضايا الواقع، وقضايا التخلف العلمي، والتخلف التقني، والتخلف الاقتصادي، قضايا البحث عن موطئ قدم لهذه الأمة الإسلامية؟ إلى متى تظل هذه القضايا مهدرة ونحن نشتغل بغيرها من هذه القضايا الجزئية الفرعية؟! 1- غفلة عن فقه المعاملات: إن هناك غفلة مطلقة في مقابل ذلك عن فقه المعاملات، فتجد عموم بحث الطلاب عن فقه العبادات، والعبادات أمرها واضح؛ لأن فيها نصوص صريحة ولا مجال فيها للاجتهاد، وأمرها واضح وسهل، ولذلك يهتم الإنسان بها لأنها كالجدار القصير، كل إنسان يستطيع أن يقفزه.
لكن فقه المعاملات ليس كذلك، إذا دخل الإنسان إلى فقه البيوع -مثلاً- فلا يستطيع أن يتكلم عن هذه الأمور في قليل ولا كثير.(181/23)
الاشتغال ببعض القضايا الممنوعة
إن قضية الاشتغال ببعض القضايا الممنوعة، أو التي هي غير سائغة أصلاً.
فمثلاً: في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ الأمة، وحفظ أخلاقياتها، وأمنها ودينها واستقرارها، هذا مطلب جاء الدين بتحقيقه بالوسائل المشروعة.
1- التجسس على الآخرين: فلماذا تلجأ يا أخي إلى استخدام التنصت الهاتفي، أو موجات الراديو -أحياناً- للتنصت على فلان وعلان من الناس؟ وتطلع على أسرارهم وخصوصياتهم ودخائل بيوتهم وعلاقاتهم؟ افترض أن عنده خطأ، لم يأمرك الله سبحانه وتعالى أن تطلع عليه، البيوت مغلقة على ما فيها، ولا يوجد في الإسلام مثل هذه الأشياء، بل هذه نوع من إهدار كرامة الإنسان وحقه، وإهدار منزلته وإنسانيته، ما أذن لك الشرع بهذا، وما على هذا ولاك المسلمون القيام بأمورهم، من أمرٍ بالمعروف ونهي عن المنكر، وإصلاح وحماية أعراضهم وأموالهم وأبدانهم، فإذا أردت أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر، وظهر لك أمر فخذ به، فإذا وجدت خطأً مثلاً عالجه، أما ما استتر ولم يتبين لك وتحتاج فيه إلى تنصت، وتحتاج فيه إلى بحث، أو إلى اطلاع أو إلى تسجيل، أو تحتاج أسرار وخصوصيات، فلست بملزم بذلك؛ بل ليس بمأذون لك شرعاً بمثل هذا.
2- الحرص على نقد الناس: من القضايا الممنوعة التي لا ينبغي الاشتغال بها وكثيراً ما نشتغل بها: قضية الحرص على نقد الناس، وهذا داء خطير في الإنسان؛ لأن الواحد حين ينتقد الناس ويكون هذا هو دأبه وديدنه، هو يريد أن يحتجز لنفسه الكمال، فهو إذا قال: إن هذا فيه كذا، وهذا فيه كذا وهذا فيه كذا، فمعنى هذا ضمناً: أن الكمال الذي تفرد به هو محدثكم!! هذا هو المقصود من حيث لا يقول هذا الكلام، لكن هذا المضمون.
تجد من الناس من إذا قيل له: فلان -ما شاء الله- رجل طيب، وإنسان صالح وطالب علم! قال: نعم، لكن المهم العمل، يحاول أن يلفت نظرك إلى ما يعتقد هو أنه عيب موجود فيه، المهم العمل، يعني لا تهتم بأن يكون هو طالب علم، المهم العمل هل هو موجود أم لا؟ مثل أبي سفيان، لما سأله هرقل: هل يغدر محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها، يعني بالإيحاءة، فإذا قلت له: فلان رجل تقي عابد عامل صالح زاهد ورع داعية، قال: نعم، لكن المهم الإخلاص.
حسناً، ما اطلعنا على قلوب الناس! ولو قلت: والله يا أخي ظاهره الإخلاص، وهو كأنه لا يريد إلا وجه الله تعالى، ونحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً.
قال: نعم، ولكن ينقصه العلم الصحيح، ولا شك أن العمل بلا علم يضر أكثر مما ينفع!.
فالمهم أن هذا الإنسان من حيث تريد أن تحجره يريد أن ينفلت، لا يريد أن يعترف لأحد بفضل، ولا يعترف بالفضل لأهله إلا ذو الفضل.
أما من فيه نقص في ذاته، فهو يكون مبتلى بعيب الآخرين وثلبهم ونقصهم، ويجد في ذلك من السرور والأنس واللذة الشيء العظيم مثلما يجد المنصفون إذا مدحوا وأثنوا على من يستحق المدح والثناء، ممن مدحه الله تعالى وأثنى عليه، فإن المدح والثناء وكذلك الذم والعيب، لا يكون بمزاجي ومزاجك وهواي وهواك، لا يكون إلا بالألفاظ الشرعية التي مدح الله بها من مدح، مثل لفظ: الإيمان، والإحسان، والإسلام، والتقوى، والبر، والطاعة، والجهاد، والنصرة، أهل هذه الأوصاف يمدحون، والذم يكون بألفاظ الفسق، والنفاق، والكفر، والضلال، والظلم، والبغي، والعدوان، والفحش، أهل هذه الألفاظ يذمون.
فليس المدح والذم مسألة أمزجة أو مواقف شخصية، المدح والذم قضية شرعية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(181/24)
تضخيم بعض القضايا بصورة غير مقبولة
هذه قضية أساسية قد تكون من أواخر القضايا، وهي: قضية تضخيم بعض القضايا بصورة غير مقبولة.
وأضرب لك أمثلة عابرة: 1- قضية التحليل السياسي: بعض الناس يشتغل بتحليل الأحداث السياسية، ليس فقط تحليل الأحداث السياسية! فتحليل الأحداث السياسية مطلب شرعي، ولا أحد يستطيع أن ينكر هذا أبداً؛ فهذا جزء من فهم المسلم لواقعه الذي يتحرك فيه، بل إنني أقول: إنه جزء من فهم المسلم لهذا الواقع الذي يريد أن يحكم عليه.
نحن نعرف أن من كلام علماء الأصول ما يسمونه بالأحكام الوضعية التي هي: الحكم على أفعال الناس بأنها صحيحة أو فاسدة، خطأ أو صواب، حق أو باطل، كيف تحكم أن هذا الشيء صحيح أو خطأ، حق أو باطل، وأنت لا تدري ما هو هذا الشيء؟ فلكي تكون مصيباً شرعاً يجب أن تكون عالماً بالواقعة التي تتحدث عنها، سواءً أكانت واقعة فردية أو جماعية، على مستوى فرد أو مستوى دولة أو مستوى أمة، قريب أم بعيد، هذا أمر بديهي لا يحتاج إلى كلام، وبالتالي معرفة الأحوال والأحداث السياسية والتقلبات، وربط بعضها ببعض بصورة صحيحة هذا لا غبار عليه.
لكن أحياناً يتطور هذا الأمر إلى نوع من المرض عند بعض الناس، فيصبح عنده لو عثرت بغلة في أقصى بلاد الدنيا، لابد أن يربط هذه بالقضية الكبرى، ويأتي لها بالأدلة والتحليلات وضروب الأشياء، حتى أصبح مرض، وأصبح -مثلاً- يتعاطى هذا الشيء أناس ليس لديهم بعد فكري عميق، وليس لديهم قدرة القضية صارت تخوف قلبي يجعل الإنسان يربط أي شيء بأي شيء، وعنده فكرة أن أي حدث لازم تحلله وتربطه بغيره دون أن تكون عنده الوسيلة أو الإمكانية لذلك؛ فيبالغ في قضية التحليل السياسي مبالغة مذمومة، ربما تعوقه أحياناً عن كثير من الأعمال الصالحة.
2- قضية المكر الصهيوني: أصبح الكثيرون يعتقدون أن اليهودية العالمية تهيمن على الكون، وهي التي توزع على الناس الهواء الذي يتنفسون، والماء الذي يشربون، والطعام الذي يقتاتون، وهي التي تطبع لهم الكتب، وهي التي تفعل لهم كل شيء.
صارت شبحاً! وهذا في الواقع من الأشياء التي نجح فيها اليهود، أنهم نجحوا في جعل أنفسهم شبحاً وخوفاً وخطراً في عقول الشعوب؛ فصارت الشعوب مهزومة معنوياً، وصار المسلم يحس بأن اليهود يلاحقونه في كل مكان، وأن اليهود دولة لا تقهر، وأنهم خطر جاثم لا فكاك له ولا مرد له من الله، ليس فقط في دولتهم إسرائيل بل في كل مكان، حتى ولو وجدت أي قضية، تذرع بأن يربط هذا الأمر بأنه من كيد اليهود ومن مكرهم.
يا أحبابي! صراحة أقولها: حتى المشاكل الحقيقية بين المسلمين، لا أعتقد أن أعداءنا بحاجة إلى أن يتدخلوا بيننا فيها، أعداؤنا قد كُفوا بنا، بعيوبنا، وبسلبياتنا، وأصبحنا نحن نخرب بيوتنا بأيدينا، ونحقق أهداف عدونا بسلبياتنا وبغبائنا وبجهلنا، وبعدم تصحيح نياتنا، وبعدم إخلاصنا لله عز وجل فيما نأخذ وما ندع، وباشتغالنا ببعض الأمور وإهمالنا أموراً أعظم منها، وبتناحرنا، وتفرقنا وتشتتنا، وباشتغال بعضنا ببعض، أصبحنا نخدم عدونا دون أن يحتاج هو إلى التدخل، ليس بحاجة أن يحرض بعضنا على بعض، ولا أن ينصر بعضنا على بعض، ولا أن يعين بعضنا على بعض، بلاؤنا فينا وكما يقول المثل الشامي الشعبي: (سوس الخل منه وفيه) فالداء منا وفينا، الداء جاثم في أعماق قلوبنا بل وفي عقولنا أيضاً.
3- قضية الحركات الباطنية: قضية الحركات الباطنية -أيضاً- وكثرة الكلام عنها، وأنها خطر، وهي لا شك خطر جاثم وخاصة في الظروف الحاضرة، فإننا نجد -مثلاً- دولة كإيران، أصبحت تستغل صمتنا -صمت القبور، بل ما هو أكثر من الصمت! خطوات العرب والمسلمين إلى الصلح عبر مؤامرة السلام أو ما يسمى مؤتمر السلام- أصبحت تستغله لتحقيق مزيد من المكاسب، فتستقطب المعارضين للسلام من كافة الطوائف والأحزاب والجهات والبلاد، وتعقد لهم المؤتمرات، وتذيع التوصيات، وتحرض، وتبدو كما لو كانت عدواً للسلام، وكأنها هي المعارض الوحيد الذي يقف في وجه أمريكا والغرب، وفي وجه إسرائيل وفي وجه النظام الدولي الجديد.
وهذا ينذر فعلاً بوجود خطر للباطنية، مع نشاطهم القوي في الدعوة له، لكن ينبغي مع ذلك -أيضاً- أن نضع خطر الباطنية في حجمه الطبيعي، ولا نبالغ في ذلك؛ لأن المبالغة في تقدير حجم العدو أحياناً تقعد الإنسان عن العمل، وأحياناً تنجح -من حيث لا تشعر- في إعطاء العدو شيئاً لا يستحقه، وتحقيق بعض المكاسب له مثل إنسان ظن أن العدو سيهجم على البلد فانسحب؛ فجاء العدو، فوجد الأرض حرة باردة لا يحتاج فيها إلى نزال ولا إلى قتال! 4- قضية الأسماء: من القضايا التي نكبرها أيضاً: قضية الأسماء.
وأنا أتعجب أننا نعتني بالأسماء عناية فاخرة! حتى أنك تجد اسم محل البنشر "بنشر الإخلاص" وتجد "ملحمة التقوى"، أو مغسلة ابن تيمية!! يولد لواحد منا ولد فتجده في الأسبوع الأول -بل قبل الولادة بأسبوع أو أسبوعين- معني جداً بمسألة البحث عن اسم، يدور على المكتبات ويشتري الكتب التي فيها الأسماء، ويستشير، ويعقد جلسات ومؤتمرات ومشاكل وأخذ ورد، وأحياناً تصير مشاكل بين الزوجة والزوج وتنتهي بالطلاق، ربما يحدث هذا!! بعض الناس كل همه قضية الاسم؛ فيبحث لولده عن اسم، وبالتالي هذا الاسم قد يكون جميلاً عنده لكن الناس يستسمجونه ويستهجنونه، وبالتالي الولد حين يكبر يكون مضطراً لتغيير هذا الاسم بعد الإعلان عنه في الجريدة.
فهذه العناية الشديدة بالاسم، هل يقابلها عناية بتربية الولد؟ عناية بإعداده وتنشئته؟ هل نعده كما لو كنا نعده لخوض معركة الإسلام الكبرى، المعركة الفاصلة مع بني إسرائيل، أو مع النصارى أو مع غيرهم؟ هل يقابله اهتمام في المدرسة التي سوف يُدَّرس فيها الولد؟ واهتمام بالبيئة التي سوف يتربى فيها؟ واهتمام بالمواد الإعلامية التي يتلقاها؟ أم أنك بعد ما اخترت له هذا الاسم الجميل أصبح كل همك منحصراً -أيضاً- في الشكليات، وفي الثياب وفي اللعب الجميلة، لكنك بعد ذلك تدعه لأفلام الكرتون، أو بعض الأشياء الإعلامية الفاسدة الكاسدة التي تقوم بإكمال مهمة التربية وتولي الجانب الخطير، جانب العقل من هذا الطفل، وجانب النفس والروح! وأحياناً إلى مدرسة، قد تكون مدرسة نصرانية، وفي بعض البلاد تكون مدارس علمانية، وفي بلاد أخرى مدارس منحرفة، وفي بعض الأماكن مدارس تربي الأطفال والصغار والكبار على الموسيقى، وعلى الغناء، والرقص والتبرج والسفور والاختلاط وعلى المعاني المنحرفة.
تأتي -أيضاً- قضية الأسماء: تجد عندنا -كما أسلفت- عناية بأسماء المدن والشوارع والجامعات وبأسماء المدارس، هذا نحن لا نعترض عليه إذا كان الاسم حسناً ومناسباً ومعبراً، ويحكي ارتباط هذه الأمة، بتاريخها، وانتمائها.
لكن المصيبة إذا تحولت القضية إلى اهتمام مجرد بالشكل، ولكن إذا أتيت إلى منهج المدرسة أو الجامعة؛ لا تجد أي اهتمام، الأستاذ المربي الموجه لا تجد عنده اهتمام، الطالب لا تجد عنده اهتمام، كذلك السكن لا تجد الاهتمام الكافي بالنواحي الأخلاقية والتربوية والعلمية له، هنا تقع المشكلة.
نحن لا نعترض على أن يكون الاهتمام بهذا وذاك، تهتم بالاسم الجميل، وتهتم أيضاً بالمضمون الجميل، وبالمنهج الحسن، وبالتربية الجيدة، وبالأستاذ الناجح، وبإعداد الإنسان والطالب إعداداً صحيحاً يضمن له النجاح في دنياه وفي آخرته.
أما أن تحصر همك في القضية الشكلية، فهذا يعبر عن خواء ويعبر عن فراغ.(181/25)
الاشتغال بقضية مع وجود ما هو خير منها أو مثلها
الاشتغال بقضية مع وجود ما هو خير منها أو مثلها، فمثلاً إذا كان عندك خمس قضايا متماثلة، فلا بد أن تعطي كل قضيه قدراً مماثلاً من الاهتمام أو مقارباً للأخرى، وإذا كان شيء أهم تعطيه أكثر مثلما ذكرنا.
أحياناً تجد الإنسان قد يشتغل بقضية، ويغفل عن قضايا أخرى لا تقل عنها أهمية، قد تكون مثلها أو قد تكون أهم منها: 1- أخذ الأجرة على تعليم القرآن: فمثلاً: تجد جزئيات أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم أو لا يجوز؟ ونجلس في جدل طويل كبير عريض: هل يجوز أخذ الأجرة أو لا يجوز أخذ الأجرة؟ كان بدلاً من هذا الجدل من الممكن -مثلاً- أن يكون هناك مؤسسات ودور وجمعيات، وجهود كبيرة لإيجاد حلقات تحفيظ القرآن الكريم، وإيجاد دورات لطلاب القرآن، وإيجاد دورات للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ولو مقابل رسوم مادية، وهذا على قول من يقول بالجواز، والذي يرى أن هذا العمل لا يجوز؛ يسعه ألاَّ يشارك فيه، فلماذا نظل ندور في هذه القضية الجزئية، ونترك القضايا الأخرى التي هي أمور عملية ونتائج إيجابية أهم منها؟! 2- قضية قبول إعانة المشرك: مثل ذلك أو قريباً منه: قضية قبول إعانة المشرك، قد تجد المسلمين في بعض البلاد يكادون أن يموتوا جوعاً، وربما لا يجدون مسجداً يصلون فيه، أو لا يجدون مدرسة يُعلِّمون فيها أولادهم، فتأتي إعانة أو هبة من جهة معينة من الجهات الرسمية عندهم -وهي جهة كافرة- فتجد أن هناك جدل: هل يجوز قبول الإعانة والهدية من مشرك، أو لا يجوز؟ وبالتالي نرد هذا ولا نقبله؛ باعتبار الأخذ بالأحوط أو تغليب جانب الحضر، وبالتالي نفوت على المسلمين مصالح عظيمة في مثل ذلك.
3- مصارف الزكاة: أيضاً من الاشتغال بقضية مع وجود ما هو أهم منها: مصارف الزكاة.
الله عز وجل ذكر الزكاة لثمانية أصناف من الناس، فقد تجد كثيراً من المسلمين في وقت من الأوقات، انصرف همهم إلى صنف واحد مثلاً وهو: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60] وصار كأن الزكاة تصرف لهذا النوع فقط، وتجد المسلم قد عطل كثيراً من مصارف الزكاة الأخرى، وحجب الزكاة عن مستحقيها، وربما أعطى أحداً وغيره أولى بالعطاء منه، وربما حرم أحداً من أمر يستحقه وهو أحق به من غيره؛ بسبب أنه سيطر ذهنه وهمه على جانب من الجوانب، أو أمر من الأمور ونسي غيره.(181/26)
الاشتغال بالماضي عن الحاضر
مثال آخر يدل على اشتغال البعض بالجزئيات: قضية الاشتغال بالماضي عن الحاضر.
ربما كثر الجدل حول ثبوت واقعة تاريخية، أي واقعة أو قصة أو معركة أو حادثة معينة، خذ على سبيل المثال: حادثة التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وما جرى فيها، ربما يكثر الجدل حول هذه القضية، وتؤلف فيها الكتب، وتكون فيها محاورات ومناورات ومناظرات وأخذ ورد، مع أنها قضية تاريخية انتهت، وأطراف هذه القضية قدموا إلى ما عملوا، وأفضوا إلى رب يعلم السر وأخفى، ولا يُظلم عنده أحد، فانتهت هذه المسألة؛ ولكنك تجد أننا لا زلنا نتشبث بها، ونبعثها يوماً بعد يوم، ليست القضية قضية مجرد التحقيق العلمي في حدود معقولة؟ لا.
بل قد تتحول إلى قضية مهمة، ويدور حولها صراع ربما لا يكاد يهدأ، وهناك مبالغة في التحقيق العلمي في بعض المسائل، وفي مقابل ذلك قد تجد عندنا جهلاً بواقعنا القريب الذي نعيشه، وجهلاً بما يعانيه المسلمون اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، من ألوان البطش والتنكيل، والتجهيل والتضليل، والتكفير والتفسيق، والتبديع، وتحويلهم عن دينهم الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أديان أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، فتجد جهلاً مطبقاً بهذا الواقع.
ربما إنسان قد يبدي عناية فائقة بأحد الأحداث التاريخية، والتحقيق حولها، ومعرفة ما إذا كانت واقعة أم ليست واقعة، بل ربما ننقل بعض الخصومات التاريخية إلى واقعنا الذي نعيشه، وتصبح تؤثر فينا، وتحدد مواقفنا، وتسيرنا وتبسط رواقها علينا، مع أنها قضايا ليست قضايا اعتقادية، كقضايا الاعتقاد لا يمكن أن نقول عنها: إنها قضايا تاريخية، والخلاف حول قضايا الاعتقاد ليس خلافاً تاريخياً، بل هو خلاف أصولي اعتقادي، لكن هناك قضايا تاريخية ليس لها أي امتداد عقائدي، ومع ذلك تظل تعيش معنا، وربما سببت فيما بيننا من الخصومات الشيء الكثير.(181/27)
الاشتغال بقضايا لا وجود لها
من الاشتغال بالجزئيات، الاشتغال بقضايا لا وجود لها، فكم من إنسان يأتي يتكلم عن قضية الرق، وأحكام الرق والرقيق، وما يتعلق به، ومسائل الأَمة، وعورة الأَمة -مثلاً- ويطول ويعرض الكلام فيها! أين الأمة يا أخي؟ وأين الرق، وأين الرقيق؟! هذه قضايا أصبحت في حكم المعدوم، وإن وجدت فعلى نطاق ضيق جداً لا يكاد أن يكون له اعتبار حقيقي، فلا معنى للاشتغال بذلك.(181/28)
الاشتغال بقضيايا خيالية
الاشتغال بقضايا فرضية، قضايا خيالية، مرة اطلعت على كتاب ضخم لأحد الكتاب، فكان يتكلم عن مسائل فقهية، ومن ضمن المسائل التي تكلم فيها وأطال النفس فيها: مسألة احتمال وجود إنسان على كواكب أخرى غير كوكب الأرض، وقال: احتمال وجود إنسان، وبدأ يبحث عن مسائل أحكام هذا الإنسان، حكمه من حيث التيمم، حكمه من حيث الصلاة، حكمه من حيث استقبال القبلة، كيف يصلي؟ حكمه مثلاً من حيث الحمل، إذا افترضنا أن الحمل على ذلك الكوكب في يوم، فحملت المرأة وأنجبت؛ لأن الوقت يمكن أن يكون عندهم طويلاً، فماذا يكون حكمها؟ وقضية النفاس، وقضية الحيض!! وصارت مضحكة يا أحباب.
هل نريد أن نظل مضحكة للأمم والشعوب إلى يوم يبعثون؟! نشغل أنفسنا بهذه الجزئيات، وبهذه الأمور، وبهذه القضايا الخيالية كأننا عجزنا عن مواجهة الواقع!! وعجزنا عن معالجة الواقع، وعجزنا عن صياغة الواقع، وعجزنا عن النزول إلى الواقع؛ فرضينا من الغنيمة بالإياب، وصار همنا أن ندندن حول القضايا التي نتشاطر فيها على الآخرين، ونستعرض فيها عضلاتنا الفكرية، ولكننا كمن يطحن في الهواء، أو كمن يحرث في البحر!!(181/29)
الاشتغال بتطبيق حرفية نظام من الأنظمة
من الاشتغال بالوسائل عن الغايات: الاشتغال بتطبيق حرفية نظام من الأنظمة عن هدف النظام وفحواه ومقصده الأساسي، فمثلاً -على مستوى الأنظمة البشرية- المقصود مصلحة الناس.
فالنظام وضع حتى يحقق مصلحة الناس، ومصلحة المواطن في كل مكان، ومصلحة المسلم في بلده، وهذا هو الهدف الذي من أجله وضعت الأمور، ورتبت وسيرت بشكل جيد.
إذاً القضية الأساسية هي قضية المصلحة، لكنك قد تجد إنساناً حرفياً، أو رديء الفهم، أو مشغولاً بالجزئيات والفرعيات عن الكليات، يأتيك ويقوم بهدم أصل هذا النظام -الذي وضع في الأصل لمصلحة المسلم- اعتماداً على تعميم معين، أو على ورقة خاصة، أو على أمر عنده، ويتمسك بحرفيته، ويضعه نصب عينيه، وكأنه ليس عنده نظام إلا هذا الشيء، ويهمل الأصل المقصود، وهو فحوى النظام وسره وهدفه الذي هو تحقيق المصلحة للإنسان.
المقصود: أن هذه الورقة جزء من النظام الكلي الذي يستهدف مصلحة المسلم في دينه ودنياه، فلماذا تهتم بفرع أوبجزئية وتنسى وتغفل عن الأصل الكلي والهدف الأساسي الذي هو تحقيق المصلحة؟! أضرب لك مثالاً: يأتيك إنسان له مستحق في مكان ما، ربما يصل إلى عشرات الملايين أحياناً، أو أكثر من ذلك، وتجد أنه أصبح يستحق هذا الشيء ولكنه لم يأتِ بكل الأوراق المعتمدة والمستندات التي لابد منها، بقي عليه ما يقارب عشرة آلاف ريال، يجب أن يقوم بتكميلها نقص أو قصر -مثلاً- فتجده قد يعوق عن هذا الأمر الذي هو حق له ويمنع منه، اعتماداً على هذا الشيء.
فهذا عناية بفرع هو في حقيقته إبطال للأصل؛ لأنه إذا كثرت هذه الاستثناءات، صارت القضية كأنها لعبة في يد فلان وفلان.
إنسان عنده غرض أو عنده هوى، أو بينك وبينه عداوة أو خصومة أو مشكلة معينة، فهو يستخدم هذه الأشياء؛ للإضرار بك ومواجهتك إلى غير ذلك.
مثال آخر: الاشتغال بوسائل الدعوة إلى الله تعالى، والكلام حولها، وعن حقيقة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى: فمثلاً كم من الخصومة ثارت حول مسألة التمثيل!! وقع في يدي سبعة كتب تقريباً حول التمثيل، وربما أن هناك أشياء كثيرة لم أطلع عليها، وخصومة حامية الوطيس بين حكم التمثيل، أحلال هو أم حرام؟ ومثل ذلك أيضاً خصومة حامية الوطيس حول الأناشيد، وتجد أننا اشتغلنا ببعض الرسوم الدعوية عن حقيقة الدعوة، نجد أن المسألة عندنا ليست إخراج ممثلين أو منشدين، المسألة عندنا مسألة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والاشتغال بهذه الرسوم والقضايا، تأييداً أو سلباً أو إيجاباً أو شجباً، والمبالغة والإغراق فيها هو غالباً ما يعود على الأصل بالضرر.
فالمقصود هو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأي أسلوب تتحقق فيه الدعوة إلى الله، وليس فيه معارضة صريحة واضحة لكتاب الله، أو لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأصل جوازه، وعلى هذا الأصل يمشي الإنسان، إلا إذا تبين له أن هناك ما يعكر على هذا الأصل أو يشكل عليه، فالمهم أني لا أشتغل بالفرع أو بالوسيلة عن الهدف والغاية التي أعمل من أجلها.(181/30)
الاشتغال بالوسائل
أولاً الاشتغال بالوسائل -أحياناً- على حساب الغايات، أو الغفلة عن الغايات، اشتغالاً بالوسائل، خذ على سبيل المثال: 1- في علم مصطلح الحديث: في المجال العلمي: تجد أن طالب علم الحديث، يهتم بالمصطلح وقراءة المصطلح، ودراسته وحفظ المتون فيه، ويتكلم عن دقائقه، ويتكلم عن الرجال وحفظ الرجال والكلام فيهم، هذا ثقة وهذا ضعيف، وربما يحفظ ذلك ويعتني به أشد العناية، ويسرف في ذلك؛ حتى أنك لو جئت لهذا الإنسان تسأله عن حديث، أصحيح أم ضعيف؟ قال: والله ما أدري، أراجع لك، أو أسأل أهل العلم، مع أنه قضى ليله ونهاره في معرفة أمور المصطلح، وهي أمور فيها قضايا لا بد من معرفتها بكل تأكيد، وهي ضرورية وأساسية لمن يدرس علم الحديث، لكن هذه قضايا ثانوية.
فمثلاً: مسألة رواية الآباء عن الأبناء، أو رواية الأصاغر عن الأكابر، وقضايا المسلسلات، أو بعض تفاصيل علم الإسناد، كلها أمور ليست من القضايا التي لا بد منها، هي قضايا أقرب أحياناً إلى أن الاشتغال بها لا يكون مفيداً لطالب العلم، أو تكون فائدتها قليلة، ويكون من اشتغل بها عن غيرها مغبوناً.
2- مسألة أخرى: الاشتغال بأصول الفقه عن الفقه: تجد إنساناً مشغولاً بعلم أصول الفقه، وبالمقدمات المنطقية، والأحكام الوضعية، والأحكام التكليفية، وقضايا الكلام واللغة، وما شابه ذلك، وعنده فيها جودة وبراعة، ومعرفة بالمخطوط والمطبوع، وهذا جيد ولا بأس به؛ لكن تجد كثيراً من هؤلاء لو سألته -مثلاً- عن مسألة فقهية، ما حكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام في مسألة كذا أو كذا، هز رأسه، وقال: الله أعلم، اسأل أهل العلم، اسأل المفتين، فما قيمة عنايتك بأصول الفقه باعتباره وسيلة إلى تحصيل الفقه واستخراج الأحكام من الأدلة وأنت لم تستخدم هذه الأصول؟! 3- مثال آخر: قضية التجويد: كثير من الشباب ومن الطلاب ومن المحبين، يهتمون بالتجويد وإخراج الحروف من مخارجها الطبيعية، وربما أحياناً يتقعر في ذلك؛ حتى أني سمعت بعضهم يقول: يا أخي! إن مخرج الضاد مخرج دقيق عسير وكذا وكذا، حتى إنه لا يكاد يتقنه إلا أفراد من الناس، وبعد ذلك يبدءون يذكرون لك أنه على مدار التاريخ، كان -مثلاً- عمر بن الخطاب يخرج الضاد من مخرجها الطبيعي، أو فلان أو فلان، يذكر لك ثلاثة أو أربعة، سبحان الله!! حرف من حروف الهجاء، وموجود في سورة الفاتحة التي يقرؤها المسلم في الصلاة في كل ركعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وتأتي تقول: لا يتقنه إلا عمر بن الخطاب، أو ثلاثة أو أربعة من الناس كيف يكون هذا؟!! دين الله يسر ليس فيه تكلف، ولا تنطع، ولا فيه داعي للتشقيق والتعميق والمبالغة، وتعسير الأمور بما يحول بين الناس وبين الإقبال على قراءة القرآن الكريم.
أحياناً تجد المبالغة في بعض صفات الحروف حتى تخرج عن حدها المعتاد، وتصل إلى درجة قد تكون على حساب فهم معاني القرآن، وعلى حساب التفسير، أو العمل بالقرآن، أو الدعوة إلى القرآن، أو على حساب الصبر على ما يلقاه الإنسان في سبيل القرآن؛ حتى أنك تجد -أحياناً- بعض الأخوات من النساء، وهي تهتم بالتجويد حسناً أنتِ لن تكوني إماماً في المسجد، فالمساجد والحمد لله ملأى، والحرم مكتفٍ، فلماذا أنت تقرئين هذه الأشياء، وتبالغين في مخارج الحروف في أمور لا تحتاجين إليها؟! لن تقرئي أمام الناس، لن تسجلي قراءتك في شريط، لا بأس أن تقرئي ما يجود قراءتك، ويضبط إخراج الحرف من مخرجه، بحيث لا يتحول إلى حرف آخر، تتحول الصاد إلى سين مثلاً أو العكس، أو يكون فيه تغيير لكلام الله عز وجل.
هذا كله صحيح، والقدر المعقول من ذلك مطلوب، وقد تستطيع أن تأخذه من خلال كتاب في عشرين ورقة؛ لكن المبالغة والتطويل والتهويل هذا تعقيد في الواقع.
ما بالك في المسلم الجديد الذي أسلم أمس! ليس عنده وقت لكي يقرأ التجويد، ثم القرآن، ثم الأصول، ثم الفروع، ثم المصطلح، إلى غير ذلك، بل حتى إغراق الشباب في مثل هذه المسائل هو على حساب مسائل أهم منها في الأعم الأغلب.(181/31)
تهويل بعض الأمور
إذاً: هناك تهويل في طرح بعض الأمور ومبالغة، وهناك إسراف في تضخيم بعض القضايا، حتى أنني أذكر أن هناك بعض أهل العلم إذا أراد أن يحذر من قضية -وهذه القضية ليست محرمة- لا يستطيع أن يقول إنها حرام، ولذلك قد يلجأ إلى حشد السلبيات المترتبة عليها، أو حشد المحاذير المترتبة عليها، وربما أوصلها إلى عشرين أو ثلاثين محذوراً؛ حتى يقول للناس: دعوها! العالم مصيب؛ لأنه يعتبر أن هذا أسلوب تربوي، فبدل من أن يقول للناس: حرام.
وهو ليس عنده دليل صريح على التحريم، يلجأ إلى نهي الناس عنها دون أن يقطع بتحريمها.
لكن المشكلة تقع حينئذٍ عند طالب العلم، فإنه إذا سمع هذا الكلام؛ أورث في نفسه أن هذه قضية خطيرة وكبيرة، ويترتب عليها مفاسد، وأنها تحدث في المجتمع آثاراً، وتؤثر في عمل الإنسان وحياته وعبادته، فتصبح قضية خطيرة كبيرة؛ لأنه حُشِدَتَ عنده محاذير أكثر من اللازم لهذه القضية، وكان من المفروض أن يقال: الأولى تركها أو الأولى فعلها أو فيها نظر أو أي أسلوب آخر يكون فيه نهي للناس عنها دون أن يتعدى الأمر إلى أكثر من هذا.
ولذلك يقول بعض الأصوليين -وهو الشيرازي -: إني رأيت كثيراً من العوام أكثر حماساً للمسائل الفقهية من العلماء، فالعالم المجتهد -مثلاً- عنده مسألة فيها أقوال، ويعرف كل قول بدليله، وأنه قال به من الصحابة فلان وفلان ومن التابعين ومن الأئمة؛ ولذلك هو رجح أحد الأقوال ترجيحاً يسيراً، وهو يقول: أستغفر الله قد أكون مخطئاً؛ فلا يجزم ولا يتحمس ولا يتعصب ولا ينفعل.
لكن الطالب أو العامي الذي أُفتي له بهذه المسألة، دون أن تذكر له الأدلة، ودون أن تذكر له الأقوال الأخرى، ودون أن توضع في إطار مقبول وموضوعي، تجد أنها ملأت قلبه وصار الدين عنده هو هذا الأمر، والدين عنده هو هذه الفتوى التي أفتاه به فلان؛ لأن فلاناً ليس عنده الوقت لكي يعطيه الأقوال والأدلة، والراجح والمرجوح، فأعطاه خلاصة ما توصل إليه أنه: لا يجوز مثلاً، فصار هذا الإنسان يعتقد أن هذا لا يجوز، وصارت قضية دين يبدئ بها ويعيد، ويهتم بها، ومن رآه يخالفها أجلب عليه، وربما عاداه وأبغضه، وقد يكون مجتهداً في هذه المسألة، وقد يكون الحق معه في أن هذا الأمر ليس بمحرم أيضاً.
كما أن هذا الأمر يورث عند جمهور من الناس، أن هؤلاء الدعاة وطلبة العلم أناس سطحيون، أصحاب قُصر نظر، محصورون في مثل هذه القضايا التي لا هم لهم إلا الحديث عنها.(181/32)
الاهتمام بالأصول أولاً
أيها الأحبة: إن من السهل أن نصحح كثيراً من القضايا الجزئية، والقضايا الفرعية بجرة قلم -كما يقال- لكن من الصعب جداً أن نغير القضايا الأصولية والقضايا الكلية، والمفترض أن يكون اهتمامنا بتغيير وتصحيح القضايا الكلية والقضايا الأصلية هو الأهم؛ لأنه إذا صلحت الأصول، وصلحت الكليات، وصلحت القواعد، صلحت تبعاً لذلك الفروع، وهذا لا يعارض أبداً العناية بإصلاح الفروع، فالأنبياء كان أحدهم يبعث لقوم ويأمرهم بالتوحيد، قال تعالى: {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود:85] يأمرهم بهذا وذلك في نفس الوقت، لكن العناية بالأصل كانت الأعظم بلا شك، وهي المنطلق، ومن هذا المنطلق دعا إلى تصحيح الفرع، فهو ما جاءهم ليقول لهم -مثلاً-: أريد أن أحدث عندكم إصلاحاً اقتصادياً، لا إنما جاء يدعوهم إلى التوحيد، وبناءً على دعوة التوحيد، يبين لهم أن ما هم فيه يخالف هذه العقيدة ويخالف المبدأ الذي جاءهم به.
ومن ذلك قضية الأمور الاقتصادية، أي بناء الاقتصاد على غير الإسلام، أو بناء الأمور الاجتماعية على غير الإسلام، أو بناء الأمور السياسية، أو الإدارية على غير الإسلام، أو بناء الأمور العلمية على غير الإسلام، أو بناء الأمور الفنية أو الإعلامية على غير الإسلام، فالأصل هو الدعوة إلى القضايا الكلية الأصولية، والقواعد التي بصلاحها تصلح الفروع، وهذا أيضاً لا يمنع من بذل الوسع والاجتهاد في إصلاح الفروع بقدر المستطاع، على أن لا يلهينا ذلك ولا ينسينا العناية بإصلاح الأصول.(181/33)
بعض الحلول لمشكلة الاشتغال بالجزئيات
هناك بعض الحلول أختم بها، من الحلول:(181/34)
وجود عمل إعلامي إسلامي ناضج
خامساً: ضرورة وجود عمل إعلامي إسلامي ناضج، يضع عقول الناس في وضعها الصحيح، ويصنع العقليات الناضجة التي نبحث عنها، ويزيل ما عند الناس من غبش أو سوء في التصور مما صنعه عندهم الإعلام المزيف، مثل: حصر الدين في بعض جوانب الحياة دون بعض، مثل: تشويه صورة المتدينين، وتشويه صورة الدعاة، وأشياء كثيرة جداً.
فمن الضروري أن يكون هناك عمل إعلامي متكامل ناضج، أليس من المؤسف -أيها الأحبة- أن تقوم مجموعة كبيرة من الصحف الكويتية في هذه الأيام، بحملة شرسة شعواء على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وتصفهم بأقذع ما في قاموسها من ألفاظ السب والشتم، كلمات لم نسمعها حتى من أبي جهل حين كان يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه!! كلام جارح بلا نهاية، ولا نجد صوتاً واحداً يستطيع -على الأقل- أن ينصف هؤلاء المظلومين أو يرد اعتبارهم.
{لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع} .
{وإذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها} هل تستطيع أن تقول الأمة الآن: لا للحاكم أو للصحفي: يا ظالم؟ الواقع يقول: لا، ممكن نقول أنا وإياكم في هذا المجلس، لكن لا نستطيع أن نملك الوسيلة التي يملكها هو، بحيث نصل إلى العقول التي وصل إليها، ونصلح العقول التي خربها.
هذا لا زال المسلمون دونه بمراحل، ولا يملكون وسيلة إعلامية ٍواحدة حرة، تستطيع أن تعبر عن الرأي الإسلامي الصحيح، دون ضغط أو مجاملة.(181/35)
طرح الأسئلة على العلماء والدعاة
ثالثاً: طرح الأسئلة على العلماء والدعاة، وإقامة اللقاءات والاجتماعات والبرامج التي تجعل الناس يطرحون ما لديهم من الأمور والإشكالات، وتجعل العلماء والدعاة يتولون الإجابة عليها.
وهنا أثير قضية مهمة: أن جماهير المسلمين في كل مكان، ربما أن (90%) من أسئلتهم التي نقرؤها أو نسمعها تتعلق بقضية أحكام فقهية فرعية تفصيلية.
لا بأس بذلك ومن حق الإنسان، بل من واجب الإنسان أن يسأل عن أسئلة تهمه في أمر دينه، لكن أين الأسئلة -مثلاً- عن البراءة من الأحزاب الكافرة العلمانية التي حكمت المسلمين في كل مكان زماناً طويلاً؟! أين تلك الأسئلة؟! أين الأسئلة التي تتكلم عن تصحيح العقيدة؟! أين الأسئلة التي تتكلم عن أحوال المسلمين، وكيفية الخلاص من المآسي التي يعانونها؟! أين الأسئلة التي تستهدف تنوير المسلمين بما يعانيه إخوانهم في كل مكان؟! أين الأسئلة التي تبحث عن مخرج لهذه الأزمات المتكاثرة التي يعيشها المسلمون؟ أين الأسئلة التي تستهدف إحياء منهج إسلامي في الاقتصاد، والإعلام، والسياسة، والإدارة، والصحافة، والأدب، وفي كل مجال؟! هذه الأسئلة غائبة، من المسئول عن غيابها؟! المسئول أطراف الذي هو أنا وأنت، قد لا نسأل، لماذا؟ لأننا مستغرقون في الجزئيات -كما دل عليه عنوان المحاضرة إن وافقتم عليه- تجدنا نسأل عن هذه الجزئيات التي تشغلنا، لا حرج أن نسأل عما يهمنا حتى في أحلك الظروف، ينبغي أن تسأل عما يهمك من أمر دينك ولو كان جزئياً أو تفصيلياً، ولكن ينبغي أن تسأل عما هو أهم منه وأخطر، وألاّ تكون كمن يعالج الجرح والرأس مقطوع، كما يقال! فأنت مسئول وأنا مسئول.
ولكن أيضاً، المعلم، أو المفتي، أو الموجه، أو الداعية، أو العالم مسئول أيضاً؛ لأنه إذا لم ترد هذه الأسئلة لسبب أو لآخر، إما لأنك أنت لم تطرحها، أو لأنه حيل بينها وبين الوصول إليه، فينبغي أن يتولى هو بنفسه الإجابة على هذه الأسئلة التي من المفترض أن تطرح، ويُسأل عنها، ويعرف الناس حكمها وجوابها في شريعة الله تعالى، لأن الله تعالى يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] .(181/36)
وضع سياسة عامة للطبع والنشر والتأليف
رابعاً: ضرورة وضع سياسة عامة للطباعة والنشر والتأليف، سواء في مجال الكتاب أو الشريط الإسلامي، الآن المكتبات الإسلامية ودور النشر، حدث ولا حرج، محلات الأشرطة الإسلامية حدث ولا حرج، لكن ما هو نوع الكتاب الذي يطبع؟ وما نوع الكتاب الذي ينشر؟ وما نوع الشريط الذي يطبع وينشر ويوزع؟ هذه مأساة!! قد تجد عشرات الأشرطة في قضايا جزئية، والله بعض الأشرطة التي أسمعها وأحلف بالله أني أستحي وأتمنى ألا يسمعها من خصومنا أحد؛ لأنهم سوف يجدون فيها ورقة رابحة يشهرونها ضدنا، فهي تتدخل في جزئيات الناس، وتتدخل في تفاصيلهم، وفي أمور ليس فيها نص من كتاب الله ولا من سنة رسول الله ولا من كلام أهل العلم، ولا فيها دليل!! تأتي تقول: يا أخي! افعل كذا وكذا واترك كذا، أنت تتحكم في أمور ليس لك مستند شرعي فيها! يا أخي نحن نعبد الله وحده، وليس من حقك أن تعطينا أنت رأيك الخاص، أو قناعتك الخاصة، بل تعطينا حكم الله ورسوله.
كونك تقول: يجب أن يكون حذاء المرأة أسوداً أو أشهباً، وينبغي ألاّ يكون برتقالياً ولا أصفراً، هل تعرفون فيها نصاً من كتاب الله أو حديثاً عن رسول الله روي بالإسناد الصحيح؟ لا يوجد.
كم سنتيمتراً يجب أن يكون طول كعب حذاء المرأة، واحد سنتيمتر، أو اثنين سنتيمتر، أو ثلاثة سنتيمتر؟! هذه ليس فيها نص من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صحيح أننا نقول كما قال علماؤنا، فيما يتعلق بالكعوب الطويلة العالية التي هي خارجة عن المعتاد والمألوف، وفيها مفاسد وفيها مضار إلخ، لكن نقول: إن بعض الناس يدخل في تفاصيل دقيقة لا حاجة إلى الدخول فيها، فيحدد بالسنتيمتر والشرع لم يحدد بالسنتيمتر.
فنقول إذاً: مسألة الكتاب والشريط، وكثرة المطبوعات وكثرة الأشرطة، ينبغي أن تكون مضبوطة بضوابط معينة، لا مانع من نشر أي شريط نافع ما دام أنه تتوفر فيه شروط مضبوطة واضحة وصحيحة، ويسر الدعاة أن ينتشر.
لكن أيضاً يجب أن يكون هناك عناية بترويج كتب معينة، وترويج مواد إعلامية يعتقد أنها تخدم المصلحة العامة، وأنها تحقق هدفاً ودوراً في ظرف من الظروف الآن أو غداً أو بعد غد.(181/37)
اهتمام العلماء والدعاة بالتأصيل
أولاً: ضرورة اهتمام العلماء والدعاة بالتأصيل، فلا يجوز أن ينطلق كل عالم وكل داعية على وجهه دون أن يكون هناك عناية بوضع أصول وضوابط ومنطلقات ومنهج واضح للدعوة إلى الله تعالى وطلب العلم والتعليم؛ لأن هؤلاء الشباب أمانة في أعناقنا وفي أيدينا، يجب أن نرتاد لهم الطريق الصحيح، والرائد لا يكذب أهله.(181/38)
نشر الوعي الصحيح للدين بين المسلمين
ثانياً: ضرورة نشر الوعي الصحيح لهذا الدين بين المسلمين، وأن الدين جاء ليهيمن على كل شئون الحياة، ما جاء الدين ليكون عقيدة مستترة في قلبك بينك وبين الله فقط، ولا جاء الدين ليكون عبادة تؤديها في المسجد، ثم بعد ذلك تدع ما لقيصر لقصير وما لله لله، ولا جاء الدين ليهيمن على جزء ويترك أجزاء للطاغوت أو للشيطان، لا، بل جاء الدين مهيمناً على كل شئون الحياة، وجاء الدين ليحكم الدقيق والجليل، ويستلم الإنسان من يوم أن يولد فيسميه الإسلام -فيبين له أسماء تجوز وأسماء لا تجوز، وأسماء مستحبة، وأسماء مكروهة، وأحكام ما يتعلق بالمولود- فيستلمه من ذلك الوقت إلى أن يودعه في قبره، فيذكر كيفية الدفن، وأحكامه وآدابه، وما يتعلق بذلك هذا على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة بأكملها.
فهذا الشعور يجب أن يصفو لدى الناس؛ ليعرفوا أن الدين يجب أن يهيمن على الدقيق والجليل من الأمور، والكبير والصغير، ولا يشذ عن هذه القاعدة شيء؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] ويقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58] .(181/39)
التفاؤل بأن الله تعالى سوف يغير حال هذه الأمة
أختم هذا الموضوع بأن أقول: مع كل هذا ومع أنني -يعلم الله- أشعر في كثير من الأحيان بالأسف والأسى والحزن يعصر قلبي وأنا أقلب طرفي حول رحلي، فلا أرى إلا إغراقاً في الاشتغال بالجزئيات على حساب الأصول والكليات، مني ومن غيري، إلا أنني مع ذلك على ثقة كبرى، بأن الله يصنع لهذه الأمة ما عجزت وسائلنا عن صناعته، يصنع هذه الأمة بالأحداث التي سوف تنضج على أَتُّونها هذه الأمة، وتصفو عقولها، وتصح قلوبها، وتتعدل اهتماماتها؛ وذلك أن الإنسان عندما يكون مستغرقاً في قضية جزئية غارقاً فيها، لا يستطيع أن يتصور العالم إلا من خلال هذه القضية الجزئية، ولو قال له أحد: يا أخي! أنت بالغت في المسألة قليلاً؛ رأى أن هذا الإنسان على ضلال، وأنه مخطئ، وأنه يجب أن يعود إلى رشده وإلى صوابه، لماذا؟ لأن هذا همه، تربى وتكون ونبت لحمه وعظمه وعصبه وكله على هذه القضية، فصار من الصعب أن تنتزعه منها للهواء الطلق، للاهتمامات الأكبر والأوسع.
هناك شيء ممكن ينتزع، وهى الأحداث التي تضطر الإنسان إضراراً إلى أنه يفكر فيها، ويتأمل ويدرك وينظر، ومن هذه الأحداث: الأحداث التي تواجه المسلمين من عدوهم، تحديات تاريخية وقعت في الماضي وتقع الآن وفي المستقبل، في تثير مشاعر الناس، وتستفزهم، وتحركهم، هذا الإحساس لا بد أن يتجاوب مع هذه الأحداث، فترفعه هذه الأحداث عن واقعه الذي كان يعيشه، وهذا يذكرني بقصة أختم بها.
يحكى أن رجلاً كان عنده زوجة عاقة وسيئة الخلق، فكانت تطعمه شتماً وسباً له ولوالديه ولأولاده ولأسرته ولأقاربه، وربما اعتدت عليه بالضرب أحياناً، والرجل صابر محتسب؛ لأنه يظن أن الناس كلهم هكذا، وأن هذا أمر طبيعي في البيوت، أن كل امرأة لا بد أن تضرب زوجها وتوبخه في الصباح والمساء، فلذلك فهو صابر؛ لأنه لا يتصور الحياة إلا هكذا، وبعد فترة توفيت هذه المرأة، وفرَّج الله تعالى عن هذا المسكين، فتزوج من امرأة أخرى فذاق طعم الحياة، ووجد البسمة الحلوة، ووجد الكلمة الطيبة، ووجد الحديث العذب، ووجد حسن الاستقبال، مع أنه ربما في أول مرة دخل وقد جهز نفسه لتحمل ما قد يلقى من اللكمات أو الضربات، لكنه فوجئ بأن الأمر قد تغير، فما ملك هذا الرجل وقد اكتشف أن الوضع الذي كان فيه في السابق وضع خطأ، ووفاء لزوجته السابقة، إلا أن ذهب وأحرق قبرها؛ تعبيراً عن سخطه لحياته السابقة التي قضاها، وهذا المثل وإن كان أسطورة، ولكنه واقع يمكن أن يعيشه فئة كثيرة من الناس.
نسأل الله تعالى أن يبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، وأن يهدينا للرشد من أمرنا، وأن يجعلنا مخلصين له.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(181/40)
أسئلة وأجوبة
المفترض في المسلم أن يكون حريصاً على معرفة أحكام الشرع في سائر ما يعمله وما يواجهه في الحياة، كما أنه يهتم بما يجري في العالم من الأحداث وبخاصة ما يتعلق بالمسلمين، وفي هذه المحاضرة تجد أسئلة كثيرة مختلفة ومتنوعة قد أجاب عليها الشيخ، ولعلها تنفعك في دينك.(182/1)
انتصار الجبهة الإسلامية في الجزائر
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: هاهنا أسئلة قد حرصت على ألا أجيب عليها في أثناء المحاضرة، لأن كون المحاضرة دائماً وأبداً محصورة بوقت؛ يسهل سماع الناس وحضورهم إليها، كما يسهل تداولها في أماكن بعيدة من خلال التسجيل، وإلا فليس هذا تهويناً من الأسئلة.
هاهنا مجموعة أسئلة، كلها تدور حول ما حصل في الجزائر.
السؤال الأول: يقول: انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ، في انتخابات الجزائر أمر مفرح ومبهج لكل مسلم، ودليل على أن الشعوب الإسلامية لن ترضى بديلاً عن الإسلام، ما رأيكم في هذا الفوز، وما دلالاته؟ وهل ستتمكن الجبهة من تشكيل حكومة؟ أم أن ديمقراطية العسكر سوف تحول دون ذلك؟ وهذا سؤال آخر يقول: سمعنا الأخبار السارة عن جبهة الإنقاذ في الجزائر، وما حصل لها من الأصوات، فهل هذا يعتبر بداية لتحرير الأرض؟ ولكن ماذا بعد ذلك؟ وهذا سؤال ثالث يقول: ما هو توجه الإسلاميين في الجزائر وتدعو لهم؟
الجواب
كان في ذهني مقارنة، لكن سرعة الوقت حالت دون أن أطرحها، الجزائر قبل فترة كانت مستعمرة فرنسية كما هو معروف، وكانت فرنسا بعسكرها وقواتها مسيطرة على الجزائر، وتطارد المسلمين من مكان إلى آخر، ودفع الجزائر مليون إنسان، سفحت دماؤهم على جبالها وفي وديانها وهضابها، لمقاومة الاستعمار الفرنسي، ورحل الاستعمار بعد هذا الجهد الكبير.
ولكن ماذا بعد هذا؟ بعد هذا انتهت وصاية الكفار، وجاءت وصاية المنافقين كما تكلمت عنها في المحاضرة، وتبين أنهم كانوا أخطر، لأنهم استطاعوا أن يفعلوا في الجزائر ما لم يفعله الفرنسيون، وغيروا عقول الناس وأخلاقياتهم، ولأن أسماءهم أسماءً عربية وإسلامية؛ ولأن السحنات في وجوههم كانت عربية أيضاً فقد استطاعوا أن يفعلوا في الناس، ما لم يستطع أن يفعله المستعمر الغريب البعيد، وظلت الجزائر -منذ أن تحررت من الاستعمار الأجنبي- ظلت إلى يوم الناس هذا محكومة بغير الإسلام، محكومة بقانون هو القانون الفرنسي، وبأخلاقيات هي أخلاقيات فرنسية وتقاليد فرنسية، محكومة بروح فرنسية، وإن كانت بأسماء عربية.
وهذا يؤكد لك القضية التي تكلمنا عنها في المحاضرة، ويا ليتنا نعيها، وهي: قضية تحرير الإنسان قبل تحرير الأرض، فالأرض تحررت، لكن تحررت من كفر فرنسي، لتقع في براثن كفر عربي.
ولذلك يسأل الأخ هل ما يقع في الجزائر بداية لتحرير الأرض؟ أقول: لعله بداية لتحرير الإنسان، لأن تحرير الإنسان قبل تحرير الأرض، وليست المشكلة عندنا في السلاح، ثقوا بهذا، ولا في عدد وعدة ولا في مال، القضية الأساسية عندنا غياب الإنسان، لأن الإنسان إذا وجد استطاع أن يحصل على المال وعلى السلاح، وعلى أسرار التصنيع وعلى أشياء كثيرة.
لكن في غياب الإنسان، قد تتاح له ملايين الفرص ويضيعها؛ لأنه لا يهمه أن تتقدم البلاد، ولا يهمه أن تكون البلاد تحتوي على أسلحة تقاوم العدو، ولا يهمه التصنيع، إلا مصالحه الذاتية أو الشخصية، فهو عبد لذاته أو شخصه، أو عبد للطاغوت أو ما أشبه ذلك، فهو لا يبالي بشيء.
فأقول: لعل ما يحدث في الجزائر، هو بداية لتحرير الإنسان ومن ثم تحرير الأرض، وهذا يؤكد أيضاً جانباً آخر، وهو: أن تحرير الإنسان هو المهم، فإذا نجحنا فتحرير الإنسان، خابت كل جهود الأعداء في تغيير عقلية الأمة نؤكد أيضاً قضية ثالثة، وهي: أن تحرير الإنسان أقل تكلفة من تحرير الأرض، في تحرير الأرض كان الضحايا مليون، ومع ذلك تحررت لتقع في كفر عربي، لكن تحرير الإنسان قد تكون تضحياته أقل بكثير، ولهذا الاتجاه لتغيير عقول الناس، وتغيير قلوبهم تغيير ولآئتهم، وقناعاتهم، وربطهم بالدين، ولاءً وحباً وبغضاً، وفعلاً وتركاً وأخذاً وعطاءً.
إذاً ربطهم بالدين قضية أساسية، ولذلك إذا أتينا نلاحظ أن المجتمع يتغير، وأصبح يعي ويدرك، وأحاديث الناس في مجالسهم تغيرت، وعقول الناس تغيرت، وتحليلهم للأحداث تغير، معناه: أننا نسير في الطريق الصحيح، لكن إذا كان الإنسان تجره إلى الأمام فيتراجع إلى الوراء، فيجب أن تثق أنه ينبغي أن نظل ندور حول قضية وهي قضية تحرير الإنسان من العبودية لغير الله.
الذي حصل في الجزائر بلا شك له عدة مؤشرات وعدة دلالات، أهمها: أن هذه الأمة كما قال السائل: لا ترضى بالإسلام بديلاً، وأن هذه نتائج تجارب طويلة مع الشيوعية ومع الديمقراطية ومع الرأسمالية، ومع شعارات كثيرة جداً، وفي النهاية فإن الأمة قالت كلمتها، بأن أعطت الجبهة الإسلامية أصواتاً ساحقة، وتخلت عن الجبهة الحاكمة، التي لم تحصل إلا على ستة عشر صوتاً أو أقل من ذلك.
الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، ما هو تاريخها؟ ما هي عطاءاتها للأمة الجزائرية؟ نكاد أن نقول: إن تاريخها جديد وعطاءها جديد، وأسماؤهم، كـ عباس مدني، وعلي بلحاج وبقية الأسماء -ربما نحن لأول مرة نسمعهم منذ سنة أو سنتين، إذاً على رغم أنها حديثة عهد، وتاريخها جديد، وربما ما لم تقم على أقدامها بعد، مع ذلك الأمة أعطتها هذه الثقة الكبيرة.
هذا في الواقع ليس سهلاً، هذا يؤكد لك، أن الأمة متعطشة إلى صوت الحق، متعطشة إلى كلمة الإسلام، تريد راية الدين، وتريد راية الإسلام، ويحال بينها وبين هذه الراية بوسائل شتى، ليس فقط بوسيلة القوة والسلاح والعسكر، لا، هذه إحدى الوسائل، لكن يحال بينهم وبينها، أحياناً بالتضليل، أي: بتصوير الدعاة وطلبة العلم والعلماء، وأهل الدين وأهل الإسلام بصورة تحول بينهم، وتوجد حاجزاً نفسياً بينهم وبين الأمة، ولو عرفت الأمة الدعاة والعلماء على حقيقتهم؛ لأعطتهم أكبر من ذلك، ومنحتهم ولاءً أعظم.
ولذلك يجب أن ينزل الدعاة إلى الميدان والساحة، ويتعرفوا على الناس ويعرفوا الناس بأنفسهم، ويحلوا مشاكل الناس ويساعدوهم؛ لأن هذا جزء من الدين، ولا يجوز أبداً أن نسمح لعلماني أو زنديق أو كافر أن يصورنا للناس بصورة أخرى، فيكون المسلم المصلي القائم الراكع الساجد ربما يكره أحد الدعاة؛ لأنه لا يعرف حقيقة ما يدعو إليه، أو صور إليه بصورة غير حقيقية، فالأمة إذا عرفت الدعاة، لا يمكن أن ترضى بهم بديلاً، ولا يمكن أن تعطي صوتها لغيرهم.
لكن في المقابل أيضاً: هل نعتبر أن ما حصل للجزائر نصر مطلق؟ هذا السؤال كبير، لأني لاحظت أن الكثير من أحكامنا متسرعة، فمثلاً: لما سجن مدني وبلحاج، قال الكثيرون: هذا النتيجة، انظر كيف آل الأمر وبدءوا يحللون.
ولكن هل السجن هزيمة؟ هل تعتبر هذه نهاية المطاف؟ معلوم أنه يجب أن تدرس الأعمال، وهل هي خطأ أم صواب؟ هذا لا إشكال فيه، لكن تدرس الأعمال بروح بعيدة وبنظرة بعيدة، ولا ندرسها من خلال تصرف أو عمل جزئي بسيط، فمثلاً أنا أقول: مجرد سجن بلحاج أو عباس مدني ليس هزيمة، بل العكس قد يكون نصراً، وانتصارهم في الانتخابات نستطيع أن نقول: إنه ليس نصراً مطلقاً، بل قد يكون هزيمة لماذا؟ لأنه إذا استطاع أهل جبهة الإنقاذ في الجزائر، أن يكونوا عند ظن الأمة، وأن يكونوا أهلاً للثقة، ويتحملوا المسؤولية بجد، ويضحوا في سبيل رفاهية الناس فلا تنس هذا الجانب، فهو جانب ترفيه الناس حتى في أمور دنياهم، لأن الإنسان لا يتوصل إلى الحق أحياناً، إلا بكثير من أمور الدنيا المباحة، فالناس بحاجة إلى من يثبت، أنه حتى في أمور دنياهم، فالإسلام في أمور دنياهم هو خير لهم من الآخرين، فإذا كانوا على مستوى الثقة، وكسبوا ثقة الأمة، ونجحوا ليس في الانتخابات فقط بل في إدارة ما يوكل إليهم من أعمال، وكسب مزيد من ثقة الناس، فهذا نجاح أما إذا كانت الأخرى، فهذه هي القاصمة، لأن الناس بعد ذلك إذا انصرفوا عن شيء، قد لا يكادون يقبلون عليه، وكما قيل: إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل ونحن نعرف أن الأمة في يوم من الأيام منحت ثقتها لأحزاب أرضية بعثية، وشخصيات معينة، وطالما صوَّت الناس لـ جمال عبد الناصر من الخليج الثائر إلى المحيط الهادئ، وكلام طويل عريض لبيك عبد الناصر، وانتهى الأمر أن الأمة اكتشفت الأمر، وتخلت عنه وعن قياداته وزعاماته، وماتت بموته الناصرية.
وهكذا البعثية والاشتراكية، والشعارات والدعاوى الأخرى والقوميات التي يوم من الأيام صوتت لها الأمة وصفقت لها، لماذا تخلت عنها الأمة؟ لأنها جربتها وفشلت؟ ونحن نقول: الإسلام ليس تجربة، الإسلام دين الله، لكن المسلمين الذين يرفعون راية الإسلام سواء في السودان، أو في الجزائر، أو في مصر، أو في باكستان، أو في أفغانستان، ليس بالضرورة أنهم هم الإسلام، هم فئة تدعو إلى الإسلام، وقد تخطئ في اجتهاداتها وقد تصيب، وبقدر قربها من حقيقة الدين يكون نجاحها، وبقدر بعدها يكون فشلها.
ولذلك، فنحن ينبغي أن نملك قوة في التصور، بحيث لا نحكم على الأمور حكماً قصيراً مقتصراً، فإذا رأينا السجن، قلنا: هذا دليل على أنهم تعجلوا -هذا الحكم متعجل-.
وبالمقابل إذا رأينا الانتصارات، ورأينا الانتخابات، والمسلم لا يملك نفسه من الفرحة، ونحن والله تمتلئ قلوبنا فرحاً، ويكفيك أنه -كما أفاد الأخ قبل قليل- يقول: تعرب إسرائيل عن قلقها من انتصار الإسلاميين في الجزائر وهذا أمر يؤذي أعداء الله من اليهود والنصارى ويزعجهم، ويزعج فرنسا ويزعج غيرها، فكيف لا يسرنا؟ لو قال إنسان: أخرج بهذه الانتصارات فما عليه إلا أن يتخلى عن حقيقة ولائه للإسلام أما نحن فكلنا نعلن فرحنا.
لكن مع الفرح يجب أن يكون هناك دعاء حار كما أشار إليه أحد الإخوة، دعاء حار أن الله تعالى يوفقهم لأرشد أمرهم، ويأخذ بأيديهم إلى ما يكون فيه مصلحة الأمة، بحيث يكونون نموذجاً حياً للإسلام الصحيح، الذي ندعو إليه ونتطلع إليه، وأن يكونوا قدوة للشعوب الأخرى المجاورة، بحيث يرون فعلاً أن الإسلام حل أزماتهم الاقتصادية، وحل أزماتهم السياسية، وحل أزماتهم الاجتماعية، وساهم مساهمة كبيرة، في تحقيق الرفاهية لهم في دنياهم، وفي تحقيق دينهم على ما يحبون وعلى ما يصبون إليه.
هذا تعليق خفيف، ولذلك نقول: الدعاة أقل ما يجب لهم، ليس في الجزائر فقط(182/2)
بيان الشيخ ابن باز دفاع عن الدعاة
السؤال
سمعنا أن بعض الناس انتقد بكثرة، بأن كلام الشيخ ابن باز رد على الشيخ العبيكان، فنريد توضيح ذلك ليكون الناس على علم بالرد؟
الجواب
يا أخي! الخطاب الذي قرأته عليكم نحن اقترحنا على الشيخ عبد العزيز إخراجه منذ ثلاثة أشهر، وكان مقتنعاً بإخراجه، لكن كثرة مشاغل الشيخ حالت دون ذلك، وكلمناه في هذا مرة أخرى، واقتنع الشيخ قبل أسبوع في تاريخ (17) ونشره.
ولهجة الخطاب واضحة، ولذلك أنا تعمدت قراءته في المحاضرة، وأنا أحمل كل واحد منكم مسئولية ذلك، سواءً كان خطيباً أو مدرساً أو حتى إنساناً عادياً، أن يقوم بدور التوعية؛ لأن الشيء الوحيد الذي جعل الناس يظنون هذا الظن هو أن أجهزة الإعلام نشرت الخطاب والناس يسيئون الظن بها، فقالوا: ما أعلنته أجهزة الإعلام وتحمست له، إلا أن فيه شيء.
والواقع أني على علم به، منذ أن كان هذا الخطاب فكرة ومشروع، وكيفية صياغته، وتوقيع الشيخ عليه، وما يتعلق به وأبعاده والخطاب واضح أنه يتكلم عن أناس ينالون من الدعاة، في أشرطة وفي مجالس خاصة وفي بعض الأمور، فالمقصود بهذا الخطاب بعض المرجفين في المدينة، ممن يتكلمون في أعراض الدعاة وينالون منهم، وقد سميت لكم في المحاضرة بعضهم فالقضية هكذا، الشيء الوحيد الذي أوجب الشبهة عند الناس هو توقيت الخطاب أولاً، وتصدي أجهزة الإعلام وحفاوتها به.
والحل هو: إذا اهتمت به أجهزة الإعلام يوماً أو يومين، فأنتم اهتموا به اهتماماً متواصلاً، ولذلك أيضاً كنت متحمساً لأن ينشر الخطاب في المحاضرة، ويوزع على الناس، ونتحمس له أكثر مما يتحمسون هم له، وإذا كان حماسهم مؤقتاً فحماسنا دائم، ونتكلم عنه في الخطب ونوزعه، ويتكلم عنه الأساتذة في الفصول، ويتكلم عنه الدعاة في المجالس، ويتكلم عنه المحاضرون في محاضراتهم، بل هناك محاولات أن يطبع البيان بعشرات الألوف، ويوزع على نطاق واسع؛ ليعرف الناس أن هذا الخطاب دفاع عن أعراض الدعاة.(182/3)
الوضع في أفغانستان
السؤال
هل تتوقعون تغير مجرى الحياة في أفغانستان -بسبب تفكك اتجاه السوفيت- إلى الأحسن؟
الجواب
هذا السؤال محرج، وضع، ومستقبل أفغانستان، حقيقة هو مستقبل قاتم؛ لأنه في الماضي كنا نقول: الروس، الروس الآن انشغلوا بأنفسهم عن غيرهم، لم يقع في أفغانستان حتى الآن شيء جديد يذكر، والحقيقة نتمنى أن تكون الأوضاع جيدة وحسنة، لكن لعلي أشرت خلال المحاضرة، إلى بعض السلبيات التي تتميز بها أعمال المسلمين، ليس في أفغانستان فقط، بل في أماكن كثيرة.(182/4)
التثبت عند سماع الأخبار
السؤال
هلا علقتم -ولو يسيراً- على استغلال بعض المنافقين، لمثل خطاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، في ضبط الأعصاب والتريث من قبل الجميع عند سماع الأخبار حتى تتبين حقائقها؟
الجواب
نعم، ضبط الأعصاب واجب، والتثبت مطلوب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] وأجهزة الإعلام فاسقة، فإن جاءتكم بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، وكثيراً ما شوهت أجهزة الإعلام -العالمية والعربية- صور الدعاة، وعلى سبيل المثال في الجزائر، وهي موضوع حديث قبل قليل في الجزائر كانوا يتكلمون عن أنهم يريدون قلب نظام الحكم، والأشياء التي صوروها ليقلبوا نظام الحكم، هي عبارة عن سكاكين صغيرة، ومقصات أظافر، هذه يقلب بها نظام الحكم، في بلد يقال: إنه يسعى للحصول على التسليح النووي! هذه من العجائب، فالتثبت مطلوب خاصة فيما يتعلق بالعلماء.
وأقول كلمة حق أرجو بها القربى إلى الله: يعني بالنسبة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، فهو إمام الزمان من غير منازع، وله من الفضل والمكانة، والصدق والإخلاص، الشيء الكثير، ولا أبالغ إن قلت: لا يكاد يوجد أحد في عيار هذا الرجل، في عالمنا الإسلامي فيما أعلم -والله تعالى أعلم- على الأقل فيمن لقيت، فالرجل له جلالة ومهابة، وفضل وورع، وتقوى وإخلاص وصدق، وتقرب من الله، وعبادة وزهد ونسك، وتواضع وصبر وتحمل، ووالله إنك إذا قرنته بغيره، تعجب أشد العجب مما أعطاه الله هذا الرجل.
كم يأتيه من المشكلات والأسئلة والأمور، والناس يردون عليه من كل مكان، فلا ترتفع نبرة صوته ولا ينفعل، تأتيه أنت وكأنك أول من تأتيه، فتغلظ له في القول، وتشتد وتتكلم، وربما بعض الناس يوبخ توبيخاً، ويرفع صوته، والشيخ يطأطئ رأسه ويستمع، وإذا رفع رأسه توقعت أنه سوف يعاتب أو يلوم، فتجده يقول: لا تغفلوا عنا، اكتبوا لنا وبلغونا وأخبرونا، ولا تنسوا نحن ننسى وننشغل، وكذا وكذا، تجده دائماً وأبداً يطالب الناس بالمزيد.
والله هذا الرجل رباني، أقول: إن هذا الرجل رباني، ليس ملكاً، هو بشر من طبيعته أن يخطئ، لكنه مجتهد وعالم جليل، أسأل الله تعالى أن يمتع بعمره، والله محبة هذا الرجل قربى إلى الله، ومدحه قربى إلى الله، واكتحال العين برؤيته فضل.(182/5)
الجهاد في فلسطين
السؤال
ما حكم من معهم حق الإقامة في فلسطين، من المسلمين، الذين يستطيعون أن يؤدوا الجهاد؟ وما حكم أن أكون زائراً مقيماً في غير فلسطين للعمل في الدول المجاورة، هل أعتبر من المنافقين، أو من الذين يتقاعسون عن الجهاد؟
الجواب
هل في فلسطين جهاد الآن؟ جاهدوا لتحرير الإنسان، وتحرير الإنسان من رق العبودية للمال، والعبودية للدنيا والعبودية للطواغيت، والخوف من غير الله، والجبن والهلع الذي قتل قلوب الناس، والوهن الذي يسيطر على حياتهم، وتربيتهم تربية إسلامية، وتعليمهم رفع رءوسهم.(182/6)
فضح الذين يتكلمون في الدعاة
السؤال
لماذا لا يتم كشف وفضح الأشخاص الذين يتكلمون عن العلماء والدعاة، ما دام أنهم على باطل؟
الجواب
يكفيك ما سود الله به وجوههم، من خلال خطاب الشيخ عبد العزيز.(182/7)
أرض المسلمين وبلادهم واحدة
السؤال
ألا ترى أن تحرير هذا الإنسان ينطلق من هذا البلد، بلد العقيدة الصحيحة، بعد أن يتحرر المحرر مما يعيشه من تناقضات صارخة، حتى في صميم العقيدة، تحت مرأى ومسمع خير أمة أخرجت للناس؛ لنبدأ بأنفسنا قبل أن نتكلم عما يحدث حولنا؟
الجواب
نحن في الواقع إذا تكلمنا، لا نتكلم عما يحدث حولنا، ولا نعتبر أن ما يجري في بلاد الإسلام يحدث حولنا، لا، نحن نعتبر أننا جسد واحد، وأن ما يقع في أقصى بلاد الإسلام، فهو يقع فينا ولنا، وما يقع فينا فإنه يقع في أقصى بلاد الإسلام، وإذا تكلمنا، فإننا نتكلم هنا كما نتكلم هناك، بل ليس هنا وهناك، فأرض الإسلام واحدة: أنا عالمي ليس لي أرض أسميها بلادي وطني هنا أو قل هنالك حيث يبعثها المنادي فالقفر أحلى من رياض في رباها القلب صادي ولست أبغي سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيث ما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين ولالفسطاط جيراني ولي بطيبة أوطار مجنحة تسمو بروحي فوق العالم الفاني فليس هناك هنا وهنا، وما حولكم وأنتم، لا، نحن نعتبر بلاد الإسلام واحدة، وإذا تكلمنا نتكلم عن الجميع، وأنا أعتقد أن الداء واحد، قد يضطر الإنسان أن يضرب أمثلة بعيدة، لكن الحقيقة أن الداء واحد.(182/8)
خطر موالاة الكفار
السؤال
ما رأيك فيما يحدث عند بعض الناس، الذين يوالون ويحبون الكفار، وخاصة إذا كانوا يبغضون ويكرهون إخوانهم المسلمين بعد هذه الأزمة؟
الجواب
هذه من الإفرازات المطلوبة للنظام الدولي الجديد، ولعلنا نعتقد في أنفسنا -على سبيل حسن الظن والتفاؤل إن شاء الله- أن هذه الأشياء ستكون مؤقتة وأن المسلم سيعي ويدرك، أنه ليس له بعد الله تعالى إلا أخوه المسلم، فأخوك المسلم الذي هو على دينك، هو أقرب الناس إليك.
وتصورك أن الغربي الكافر أو اليهودي، أقرب إليك من الأردني أو من اليمني أو من الفلسطيني، هذه في الواقع جريمة لا تغتفر، ذنب عظيم، لأن معناه أنك ألغيت رابطة الإسلام التي تربطك بهؤلاء وألغيت علاقة العداء الذي هو مقتضى الكفر، الذي قام بها هؤلاء من النصارى واليهود وغيرهم.
فهذا في الواقع يدل على خلل عظيم في الاعتقاد، وخلل في القلب، وطبعاً أجهزة الإعلام أحياناً تساهم في هذا، بل مجالسنا تساهم في هذا، فنحن كثيراً ما نتكلم عن بعض التجاوزات وبعض الأخطاء ونبالغ فيها ونغرق، وكل واحد يأتي بقصة وكل واحد يأتي بمثال، وتجد أن من أسهل الأمور، أن بعض المسلمين يقولون: هؤلاء شر من اليهود، كما قلت لكم في المحاضرة، حتى -أحياناً- يقال هذا الكلام، كيف هذا؟ ما نخاف من الله تعالى، هل جربت اليهود؟ وكيف يكون حكمهم وظلمهم وبطشهم؟!(182/9)
قصيدة: لكل شيء إذا ما تم نقصان
السؤال
إني معجب بقصيدة: لكل شيء إذا ما تم نقصان، فأرجو أن تقرأ بعضها؛ لأن فيها معان ومشاعر حزينة؟
الجواب
سوف أقرأ بعض أبيات هذه القصيدة، أو ما أحفظ منها؛ يقول: لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان فاسأل بلنسية ما شأن مرسية أين شاطبة أم أين جيان وأين حمص وما تحويه من نزه نهرها العذب فياض وملآن وأين قرطبة دار العلوم فكم من عالم قد سما فيها له شان تبكي الحنيفية السمحاء من أسف ما بكى لفراق الإلف هيمان على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران حتى المآذن تبكي وهي جامدة حتى المنابر تبكي وهي عيدان حتى المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان يا راكبين جياد الخيل ضامرة كأنها في مجال السبق عقبان هل عندكم خبر من أرض أندلس فقد جرى بحديث القوم ركبان ولو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الوجد واستهوتك أحزان يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان إلى آخر القصيدة، أما قول الأخ: بأنها ذات معان ومشاعر حزينة فما أدري ماذا نستفيد من الحزن؟! يا أخي، نحن لسنا نحتاج إلى الحزن، فنحن نحتاج إلى مشاعر الأمل، ونحتاج إلى مشاعر الطموح، ونحتاج إلى مشاعر الثقة، وإلى قلوب مليئة بحب الله تعالى والإيمان به والتوكل عليه، مشاعر الحزن والإحباط واليأس، هذه لا تجرنا إلا إلى مصائب لا تنتهي.(182/10)
الثناء على الأعمال الصالحة
السؤال
لماذا لا تثني على بعض الأعمال الصالحة، هلَّا وضحت ذلك جزاك الله خيراً؟
الجواب
المسلم أعماله الصالحة ما تحتاج إلى الثناء، فالأصل عنده الصلاح، ثم إن الثناء ما أعتقد أن الإنسان يحتاجه، بقدر ما يحتاج إلى تنبيهه إلى الأمور العظام الخطيرة التي يقع فيها، أما اليوم فالثناء هو الأصل، وهناك أجهزة كبيرة مخصصة للثناء، ليست لها مهمة إلا المدح والإطراء، وهذه قد جعلت الكثيرين لا يتقبلون النقد ولا يفرحون به ولا يحتملونه؛ لأنهم تعودوا ألاَّ يسمعوا إلا المديح أو الثناء، فلا يجوز أن نشارك في هذا الإثم.(182/11)
حال المسلمين في السوفيت
السؤال
لماذا كانت إسرائيل ضد استقلال الجمهوريات السوفيتية؟ وهل المسلمون هناك على العقيدة الصحيحة؟
الجواب
أما لماذا كانت ضدها، فأعتقد أن هذا لا يحتاج إلى بيان.
أما: هل هم على العقيدة الصحيحة؟ فمنهم أهل السنة ومنهم شيعة، وأعتقد أن السنة يغلب عليهم طابع التصوف، وهي ما زالت جمهوريات خرجت من شدق الأسد، فمن المبكر أن تسأل: هل هي سليمة أم مريضة.
لكن السؤال الذي يجب أن يطرح نفسه: أنا وأنت من أصحاب العقيدة الصحيحة ونرجو أن نكون منهم ماذا فعلنا؟ فيا أخي من أين تأتيهم العقيدة الصحيحة؟ تنزل عليهم من السماء! دول عاشت التكفير والتهجير والتضليل والتبديع، بكل صوره وأشكاله، فأنا لا أتوقع إلا القليل النادر نجا من ذلك، لكن يبقى دورنا، وللأسف الشديد أن إيران الآن، أصبحت تقدم نفسها على أنها قيادة للعالم الإسلامي مع الأسف، وهي دولة الرفض.
الآن تفكر إيران في إقامة سكة حديد تربط إيران بالجمهوريات الإسلامية السوفيتية، وقد أخذت أذربيجان في التعاون معها، تعاوناً اقتصادياً وثقافياً وعلمياً وتعليمياً وصناعياً وغير ذلك، وأحضرتها إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وعندها خطط بعيدة المدى، وأعلنت أنها سوف تقف إلى صف المسلمين في الاتحاد السوفيتي، ليس هناك قوة أخرى قالت مثل هذا الكلام.
وهذا بالواقع يهدد بتحولهم إلى رافضة؛ لأنهم لا يعرفون التمييز بين السني والرافضي إلا في القليل النادر، أما الأغلبية فهم يفهمون أنه مسلم فقط.(182/12)
بعض الجرائد الفاسدة
السؤال
آمل إلقاء الضوء على جريدة صوت الكويت.
الجواب
يا أخي جريدة صوت الكويت، وبعض الجرائد، أصبحت في الحقيقة تحاربنا في ديننا، مثل جريدة السياسة، والصباحية، والرياضية، من الذي يشتري هذه الجرائد؟ والله لقد بلغني معلومات عن جريدة الرياضية مذهلة جداً، يقول: أحياناً بالحجز من البقالات، يحجز قبل أن تأتي لعدد الغد وبعد الغد، وعناية غريبة، من الذي يشتريها؟ أنا وأنت يا أخي!! هذا والله حرام أن نشتري أحياناً الكلام الذي أقل ما فيه، أنه بذاءة وقلة أدب، تغيير لعقول شبابنا وبناتنا، ومسخ لأخلاقنا، وحرب على ديننا، واستهزاء بدعاتنا وسخرية بهم.
كيف تشترون هذا بأموالكم؟! بل كيف تسمحون للمسلم أن يشتريها؟! أنا أنادي وأطالب، بأن يكون هناك حملة لا تهدأ أبداً على هذه الصحف، وبالذات التي ذكرت أسماءها، للمطالبة بالتوقف عن شرائها، حتى الشخص الطيب لا يشتريها ليطلع الناس عليها، يمكن يشترى عدداً واحداً ويصور، ويوصل إلى العلماء والمشايخ في كل مكان، أما يشترى عددين، لا، لندع هذه الجرائد تبقى في بقالاتها وفي أماكنها، وتكون رجيعاً لشركات التوزيع، ويبلغ القائمون عليها بأن يخفضوا نسبة المطبوع منها، حتى يعرفوا أنهم قد حاربوا المسلمين في أعز ما يملكون، وأنه لم يبق عند المسلمين شيء، بأن يشتروا الكفر أو النفاق أو الفسق بأموالهم، ليعطوها أولادهم وبناتهم.
أين مواقفنا يا إخوان؟ يا أخي! الهنود لما قاوموا وقاطعوا بعض البضائع الأجنبية، حققوا أشياء كثيرة، ونحن الآن أصحاب دين، وأصحاب عقيدة، وعندنا -ولله الحمد- مناسبات ومشايخ وعلماء، وإمكانيات كثيرة ووعي، ومع ذلك لمّا تمر بالبقالة تجد كثيراً من الناس، أصحاب خير كثير وظاهرهم الصلاح، ومع ذلك يشترون هذه المجلات يا أخي! لا يصلح هذا أبداً، ولا يكفينا منك أيضاً مقاطعتها، يجب مع مقاطعتها أن تطالب الناس بمقاطعتها، وتوعي الناس وتكون لبنة في هذا البناء، ولو أن هذه الصحف كسدت، بسبب أننا شنينا حملة وقاطعناها؛ لتأدب غيرها وعرف الجميع الكلام الذي ينبغي أن يقال.
لكن لما رأوا أن نسبة الشراء قد زادت، بسبب أنهم يعتبرون أن هذا نوع من الإثارة الصحفية والاستفزاز، فهذا يشتري ليرد، وهذا يشتري لينظر وهذا كذا، لما زادت النسبة أغراهم ذلك لمزيد من الهجوم على الإسلام والمسلمين والدعاة.(182/13)
تفرق العالم الإسلامي
السؤال
هل كان العالم الإسلامي في عهد الغزو الصليبي متفرقاً كما هو اليوم في عصرنا الحاضر؟
الجواب
نعم كان متفرقا، لكن ليس كما هو الحال بالنسبة للعصر الحاضر، كان هناك دول كبرى، تحكم رقعة واسعة من بلاد المسلمين.(182/14)
المسلمون لم يستفيدوا من سقوط الإتحاد السوفيتي
السؤال
هل سقوط الاتحاد السوفيتي وقيام روسيا، من صالح المسلمين أم لا؟
الجواب
أعتقدُ أن الإنسان الميت أو المريض، استفادته قليلة من الفرص -كما ذكرت في المحاضرة- فقد سقط الاتحاد السوفيتي وقامت دول الكومنولث، ومن ضمنها دول إسلامية، أو جمهوريات إسلامية غالبية سكانها مسلمين، وبعضها غالبية سكانها من أهل السنة أيضاً، ومع ذلك لم تجد دولة إسلامية استفادت بشكل صحيح.
وقد ذكرت لكم عن إسرائيل كيف استفادت، وذكرت عن إيران كيف استفادت، أما العالم الإسلامي فلا يزال يغط في نوم عميق.(182/15)
الشورى في الإسلام
السؤال
ما هو شكل الشورى في الإسلام؟
الجواب
الشورى في الإسلام مبدأ من مبادئ الحكم، لا يقوم الحكم إلا به، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] ولم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح.
فالمشاورة تكون لأصحاب العقول الناضجة، وممن يملكون تخصصاً، ويملكون وعياً وديناً، فيستشارون فيما يخصهم، أما النمط فلا أعلم أن الإسلام أمر أو ألزم بنمط أو صورة معينة، بل كل ما يضمن وجود الشورى، وأخذ رأي الناس فيما يخصهم ويتعلق بأمورهم، فإنه يمكن أن يؤدي إلى تحقيق المصالح المرجوة من وراء الشورى، وهناك كتب متخصصة فيما يسمى بالأحكام السلطانية، يمكن مراجعتها.(182/16)
تركيز الناس على الدعاة
السؤال
لماذا الدعاة بصفة خاصة، والملتزمون بصفة عامة، تحت المجهر من الناس؟
الجواب
هم تحت المجهر لأسباب: لعل هناك سبب إيجابي: وهو أن الناس لا يزالون يثقون بهم، فيعتبرونهم مثل الثوب الأبيض، كلما وقع فيه ولو شيئاً يسيراً، فإنه يغير جماله ويخدش حسنه، وهذا من جانب إيجابي.
لكن من جهة أخرى هناك أيدٍ خفية وأصوات مبحوحة، تحاول أن تزعزع ثقة الناس بالدعاة، فتشير هذه الأصابع إلى غلط يحدث هنا وخطأ يحدث هناك، في محاولة تعميم الخطأ على الدعاة في كل مكان والمفروض علينا أمور: الأمر الأول: أن ندافع عن أعراض الدعاة، بقدر ما نستطيع بالكلام، لكن هذا لا يكفي؛ لأن الكلام بضاعته مزجاة أحياناً، مجرد كلام.
الأمر الثاني: وهو الأهم، أن نكون نحن دائماً وأبداً وسيلة إيضاح، في مجالسنا وأحاديثنا وفصولنا، ومقار عملنا وبيوتنا وحاراتنا وسفرنا وإقامتنا، نحرص على أن نكون نموذجاً أعلى لأخلاقيات الإسلام، فالبسمة لا تغادر وجوهنا، ونعطف على الناس، ونحن عليهم ونلاطفهم، ونتحدث معهم بأدب، ونناقشهم، ونحاول قدر المستطاع، وأن نعطي صورة إيجابية ناضجة ونظيفة للداعية المسلم، بحيث أنه يوجد من الناس -بلا شك- من هجومه على بعض الدعاة من نتيجة جهل، أو نتيجة تضليل، فمثل هذا نستطيع أن ننقذه بأخلاقياتنا.
وكم من الناس من أصبح يحب الدعاة ويثني عليهم؛ لأنه وجد فلاناً أو عاشر علاناً فارتاح له وسُرَّ به، فأصبح يًغيِّر الصورة كلها عن الدعاة، بسبب فلان وفلان، كفى كلاماً أيها الإخوة، لا أقول كفى، نريد المزيد من الكلام في الدفاع عن الدعاة، لكن نريد قبله وبعده أن نكون نحن نماذج حية، للأخلاقيات التي ندعو نحن إليها.(182/17)
الدفاع عن أعراض المسلمين
السؤال
ما هو واجب الشاب إذا رأى من يأكل لحوم العلماء؟ هل يجامل ويسكت أو ينكر؟
الجواب
ينبغي أن ينكر بالكلمة الطيبة، ويدافع عن أعراض العلماء بقدر ما يستطيع، وفي الحديث الصحيح: {من ذب عن عرض أخيه المسلم ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة} .(182/18)
صحف مفيدة للقراءة
السؤال
ما هي الصحف الموثوقة للقراءة؟
الجواب
الآن صدرت مجلة المجتمع من جديد، ومجلة الإصلاح، ومجلة الفرقان، وهناك مجلة البيان هذه لا بأس بها، كلها مجلات إسلامية، وإن كان الإنسان ينبغي أن يقرأ بعقل، ليس المقصود أن هذه مجلة إسلامية، إذاً يلغي عقله ويسلم، لا، لابد أن يكون له رأيه واجتهاده.(182/19)
دخول المسلمين في الانتخابات
السؤال يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام، عندما كان في بدايته، رفض عروض الملك من المشركين، فلم يقبل، ويقول: إذا حكمت فسوف أصلح الناس.
ألا يقاس ذلك على دخول الأحزاب الإسلامية، في الانتخابات في الدول الإسلامية؟
الجواب
الناس في الدول الإسلامية غالبيتهم مسلمون إن شاء الله تعالى، فالقياس مع الفارق.(182/20)
إطلاق التكفير والتبديع
السؤال
ما رأيك فيمن يكفر بعض الجماعات الإسلامية ويتهمهم بقول: سمعنا وسمعنا، وقيل وقال؟
الجواب
أنصح بتجنب التكفير والتبديع، إلا على بينة ووضوح، وأن يكون هذا للعلماء فقط، وليس كل من تكلم واجتهد يقول: هذا كفر، وهذا شرك وهذا ضلال، اللهم إلا الأمور الواضحة المكشوفة، فهذه يعرفها كل أحد.
كما أن كثرة الكلام في المسلمين والدعاة وطلبة العلم، لا ينبغي، بل الأولى بالإنسان إذا رأى خطأً أن يُقِّومه ويوضحه ويدعو إلى تصحيحه، وإذا رأى صواباً أن يثني عليه، وأن يشتغل بالدعوة إلى الله، وإن رأيت على قوم خطأ فانصحهم، ولا مانع أن تذهب معهم وتعدل خطأهم إن أمكن.(182/21)
التبرع من أجل مستشفى
السؤال
سمعت أنه سوف يقام مستشفى خاص للنساء تحت يد بعض جمعيات البر، أرجو أن يحث على هذا العمل والتبرع له؟
الجواب
هذا العمل جليل وجليل، وينبغي أن نكون كلنا أيد تدعم هذا المشروع متى ما أُعْلِنَ عنه في أي مكان، ولا يكفي أن يكون دورنا مقصور على الشكوى وأنه حصل في المستشفى كذا وكذا، لا يكفي هذا! ينبغي أن ننتقل إلى العمل الإيجابي الجاد والمثمر.(182/22)
لغات الشعوب ولغة آدم
السؤال
سؤال يدور في فكري كثيراً وهو أن: الله سبحانه وتعالى منذ خلق آدم، كان يتحدث بلغة معينة، كان يتعامل مع حواء وأولاده بهذه اللغة طيلة حياته، ثم حدث أن تفرق الإخوة في أماكن شتى وانتشرت بعد ذلك اللغات، الآن نحن في عالم يتحدثون فيه البشر أكثر من سبعين لغة من أين أتت هذه اللغات، بالرغم من أن كل لغة تختلف عن الأخرى؟
الجواب
أما من أين أتت هذه اللغات؟ فهذه قضية تتعلق بدراسة تاريخ الشعوب وغيرها، أما أصل اللغة التي كان يتكلم فيها آدم، فقد ذكر أن آدم كان يتكلم اللغة العربية، وقد قرأت بحثاً لإحدى الأخوات بحث لطيف قرأته مخطوطاً ولم أره مطبوعاً، ذكرت فيه حشداً من الأدلة، على أن لغة آدم كانت اللغة العربية، وبعض هذه الأدلة لطيفة، وبعضها فيها تكلف.(182/23)
من هو الصحابي الجليل: الأرقم بن أبي الأرقم
السؤال
نحن نعلم جميعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بداية نشر الدعوة، كانوا يجتمعون سراً في بيت الأرقم، هذا كل ما نعلم عن الأرقم بن أبي الأرقم، نريد أن نعرف مزيداً عن هذه الشخصية وإذا كانت شخصيته حقيقية لماذا لم يتحدث عنه الإسلام؟ مثلاً عن إسلامه وحياته الإسلامية، ومن أي عائلة ينسب، وخصوصاً أنها تعتبر شخصية من أقوى الشخصيات؟
الجواب
أنا أريد أن أسألك سؤالاً في المقابل، هل رجعت إلى كتاب الإصابة لـ ابن حجر، أو الاستيعاب، أو أسد الغابة؟ المؤكد أنك لم ترجع، لأنك لو رجعت إلى حرف الهمزة؛ لوجدت اسم الأرقم من أول ما يواجهك في هذا الحرف، وقد ذكروا بلاده ووفاته وتاريخه، وله بعض المرويات عن الرسول صلى الله عليه وسلم.(182/24)
ضعف المسلمين هو انتصار للأعداء
السؤال
لا يوجد تحرك إسلامي صحيح لاستغلال الأوضاع الراهنة المستجدة، على مستوى الدول، فما هي رؤيتكم للتحرك في مجابهة الباطل على مستوى الأفراد؟
الجواب
الأعداء والخصوم والمنافقون، دائماً يحاولون أن يستغلوا كل فرصة، فهم جاهزون لكل شيء، وبقدر قوة أهل الحق أو ضعفهم يكون انتصار أولئك، فأولئك انتصارهم ليس لذاتهم، بل لضعف المقابل، ولعل أقرب مثال: مسألة تحريف الكلم عن مواضعه، فإذا صدر بيان ونجح أهل الحق في الإشادة به والثناء عليه وشرحه ونشره، سكت الآخرون؛ لأنهم عرفوا أن الحق وجد أهله، فتبنوه ودعوا إليه، وعرفوا أنهم لو نشروا أو ساهموا في نشره، معنى ذلك أنهم ساهموا في نشر الحق، والعكس بالعكس.(182/25)
استحباب الطيب
السؤال
سمعنا أنك تقول: لا مانع لو أنفق الإنسان نصف ماله للطيب، فهل هذا صحيح أم لا؟ وهل أنت قلت هذا أم لا؟
الجواب
نسأل الله أن يرزقنا التقوى، أما الطيب فهو شيء جيد وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {حبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة} فكان يحب الطيب، قالت عائشة: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطيب الطيب} أما قوله: إني قلت: لو أنفق نصف ماله في الطيب، فهذا لعلي ما قلته، ولا أذكر أنني قلت هذا.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد.(182/26)
أدب الحوار
ذكر الشيخ أن الخلاف أمر طبيعي بين الناس، وبيَّن مسالك الناس في حل الخلاف، وبين أهداف الحوار والمناظرات.
كما أن الدرس يحتوي على ذكر قواعد الحوار، وصفات المحاور الجيد.(183/1)
الكلام لا يكفي في صناعة الحياة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا الدرس الأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، التي أسأل الله تعالى أن ينفع بها، وهو ينعقد في ليلة الإثنين السابع من ربيع الثاني لعام (1412هـ) .
أحبتي الكرام: عنوان هذه الحلقة: (أدب الحوار) وبين يدي أدب الحوار ثمة أوراق متبقية من درس المجلس السابق، يسألني عنها بعض الإخوة، فقد رأوا أنني تركت في آخر الموضوع أشياء أحبوا أن يعرفوها ويطلعوا عليها، وكل ما أود أن أضيفه في الموضوع الكبير السابق -صناعة الحياة- هو أن الإعلام شرقيه وغربيه في كل بلاد الدنيا يسعى إلى تشويه صورة الدعاة إلى الله تعالى بكافة الوسائل والأسباب.
وفي مقابل ذلك فإن الدعاة إلى الله تعالى لم يقوموا بجهد يذكر في تعديل هذه الصورة التي رسمها الإعلام، إن مجرد كلامنا -أيها الأحبة- عن الدعاة إلى الله تعالى، أو عن شباب الصحوة لا يكفي، لأننا سنجد من ألد أعداء الأمة ومن ألد أعداء الإسلام، وسنجد من اللصوص الشطار من يتكلمون عن أنفسهم، أو يتكلمون عمن يحبون وعمن يوالون؛ حديثاً ربما يكون أفصح عبارة وأقوى إشارة، من حديثنا نحن عن العلماء، أو عن الدعاة إلى الله تعالى، أو عن شباب الصحوة.
إذاً: فمجرد الكلام عن الشباب والدعوة والصحوة لا يكفي، وإن كان هذا مطلوباً، كما أن مجرد انكفائنا على التاريخ، والحديث عن بطولات المسلمين السابقين، وعن عدلهم وعن إنصافهم هو -أيضاً- لا يكفي، وإن كان لا بد منه، فإن الذي ليس له تاريخ ليس له مستقبل، والذي ليس له ماضي ليس له حاضر: مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عيَّ في الناس انتساباً فالأمة تحتاج إلى أن ترجع دائماً إلى تاريخها، وتستلهم منه الدروس والعبر؛ لكن لا يجوز أبداً أن يكون كل ما نملكه هو الحديث عن التاريخ، والإسراف والمبالغة في ذلك هي من عوامل الاتكاء والاتكال والبعد عن الفاعلية في الواقع، وكما قال أحد الشعراء منتقداً كثرة الحديث عن السابقين، على أننا نخالف أفعالهم وأحوالهم صباح مساء: وغاية الخشونة أن تندبوا قم يا صلاح الدين قم حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة كم مرة في العام توقظونه كم مرة على جدار الحبن تجلدونه أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة دعو صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه لأنه لو قام حقاً بينكم فسوف تقتلونه إذاً: لا يجوز أن يكون كل ارتباطنا بديننا، وكل عملنا لصناعة الحياة، هو أن نتكلم عن التاريخ ونقلب أوراق الماضي، بل لابد من إثبات عملي -بقدر المستطاع- على أن الدعاة إلى الله تعالى هم الجهة التي تفلح في إنقاذ الأمة مما هي فيه، وتصدق في وعدها مع الله عز وجل، وإذا كان أعداء الإسلام قد منوا الناس الأماني، فلما استطاعوا أن يفعلوا ما فعلوا عجزوا عن ذلك؛ فإن الدعاة إلى الله تعالى يجب أن يثبتوا للأمة -حتى وهم لا يملكون شيئاً- أن الواحد منهم يقتطع من قوته ومن قوت زوجه وأولاده ليطعم الجائع، ويكسو العاري، ويسد حاجة المحتاج.(183/2)
زعماء الغرب يساوون وزنهم ذهباً في الكويت
أما فيما يتعلق بصناعة الحياة؛ فقد وقفت في هذا الأسبوع على قصاصة في إحدى صحفنا المحلية، وهي جريدة الرياض، وقد تستغربون ما علاقة هذا الموضوع بصناعة الحياة، وسوف أقرأ عليكم الخبر أولاً، ثم لابد أن سوف يظهر لكم ما علاقته بصناعة الحياة.
والخبر قد نشرته جريدة الرياض وليس بين يدي رقم العدد، وإن كنت أقرأ من مصورة الجريدة، يقول العنوان: زعماء الغرب يساوون وزنهم ذهباً في الكويت، فبعد عبد الله جورج وشناشيل بوش الأكثر رواجاً، وتاتشر نجمة سوق الصاغة، يقول الخبر: لا يزال القادة الغربيون يساوون وزنهم ذهباً في الكويت بعد سبعة أشهر من انتصار قوات التحالف الدولي لتحريرها من الاحتلال العراقي.
ففي سوق الصاغة بوسط العاصمة أطلق هؤلاء أسماء بوش وبيكر وتاتشر على نماذجهم المفضلة من العقود والأساور دليلاً على الشعبية في بلد ليس فيه استطلاعات رأي، وفي حين غاب الرئيس ميتران عن الواجهات فإن رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تاتشر هي النجمة، ويسعى التجار بذلك إلى رد الجميل للتي يعتبرونها أكثر القادة الغربيين صلابة، ويشرح أحدهم: فيقول: لقد وقفت إلى جانبنا فور الغزو العراقي.
ورسم تاتشر مزين بخطوط منحنية تتقاطع فوق خلفية من الذهب المفرغ، ويزين رسم الرئيس الأمريكي جورج بوش طوق زواج ضخم من الذهب الخالص، مثقل بالسنشيل يتصدر سائر الواجهات، ويوضح أحد الصاغة أن ثمن العقد ألفان وخمسمائة دينار، أي نحو ثمانية آلاف وخمسمائة دولار.
بينما تساوي أحزمة ثقيلة مخصصة لمهور العرائس نحو ثلاثة أضعاف هذا السعر، والبدو -خصوصاً- يطلبون نموذج بوش لأ المفضل لديهم، وعلى باب المحل ملصق كبير للرئيس الأمريكي مبتسماً، أما جون ميجر خليفة المرأة الحديدية، وكذلك المتحدثة باسم البيت الأبيض، ووزير الخارجية الأمريكي لقد كرموا بجواهر أكثر تواضعاً إلى جانب نماذج أسكود -صواريخ أطلقها العراقيون خلال الحرب- وعاصفة الصحراء.
وقال صائغ: إن الموضة بدأت بعد تحرير البلاد، والنماذج ستستمر على الأرجح عاماً أو عامين، وداخل المحل تتفحص نسبة من المحجبات المجوهرات، وهن يرقبن الرسوم بعين خبيرة ويجربنها برشاقة، ويباع الذهب في الكويت حالياً، إلى أن يقول: ولا يقتصر هذا التمجيد للقادة الغربيين -وعلى الأخص الرئيس الأمريكي- على سوق الذهب وحده؛ بل هي ظاهرة واسعة الانتشار عمت المجتمع منذ اللحظات الأولى لتحرير الكويت!! بل إن أحد المواطنين الكويتيين لم يتردد في تسمية المولود بعبد الله جورج بوش! وقالت أم الطفل عبد الله جورج بوش وذكر اسم أمه تعليقاً على هذا الاسم لمولودها: سمينا الطفل على اسم الرئيس الأمريكي كبادرة عرفان لتحرير بلادنا.
ولقد ضحكتم ولا بد أنكم بكيتم في نفس الوقت: وشر البلية ما يضحك، وكم يؤسفنا ويحزننا أن نقول: إن أعداءنا الكبار عرفوا كيف يصنعون الحياة! عرفوا كيف يصنعونها لأديانهم، ولمذاهبهم، ولمعتقداتهم، ولمصالح بلادهم، فأصبح المسلمون مدينين في أعماق قلوبهم لهؤلاء الكبار؛ وما رسم صورهم أو إطلاق أسمائهم على محلات أو شوارع أو أشخاص؛ إلا تعبير عن هزيمة قلبية داخلية، بحيث أصبحت النماذج المفضلة في نفوس المسلمين، أو طائفة من المسلمين، هي تلك الرموز الوثنية التي لم تكن عملت ما عملت من أجل سواد عيوننا؛ إنما كانت تعتبر هذا جزءاً من صناعة الحياة.
لقد صنعوا الحياة حيناً باسم الولايات المتحدة الأمريكية وصنعوها حيناً آخر باسم هيئة الأمم المتحدة، وصنعوها حيناً ثالثاً باسم النظام الدولي الجديد، وهو الستار الجديد المعلن الذي يخفي مطامع الغرب في بلاد الدنيا وخاصة في بلاد المسلمين، وقد صنعوا الحياة حيناً باسم الدفاع عن مصالح الشعوب المستضعفة، وصنعوها أحياناً كثيرة باسم الديمقراطية التي تخفي وراءها دكتاتورية تتدجج بالحديد والنار، لإجبار العالم كله على الخضوع والتسليم والانقياد لمصالح الغرب، وصنعوا الحياة مرة سادسة؛ باسم حماية مصالح اليهود في العالم، وفي الشرق العربي والإسلامي بصفة خاصة.
فهذا نموذج من صناعة الحياة، وصحيح أن الصانع كافر، وصحيح أنه متعصب لدينه وملته، وهو يتردد على الكنيسة كلما ألمت به أزمة؛ ولكنه يصنع الحياة، واستطاع أن يغرر بالكثيرين باسم الديمقراطية وباسم النظام الدولي الجديد، وباسم مصالح الشعوب، وباسم تحرير الإنسانية، وباسم نزع السلاح؛ وبكافة الأسماء، فهم قد صنعوا نموذجاً لحياتهم، ومع ذلك -ومع أن هذا يؤذي الكثير من النفوس- إلا أننا نملك نصاً نبوياً يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه} .
فإذا كان هؤلاء الغربيون الذين ذكر الخبر -في جريدة الرياض السعودية- أسماءهم، قد أصبح لهم من الثقل ما لهم، وأصبحت الصحف تزين بذكر أخبارهم أو صورهم، وأصبح تمجيدهم كما عبرت الجريدة هماً للكثيرين، فإننا نعلم أن هذا نهاية المجد الذي يطلبون ويؤملون، وأنه حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه، والذي أسقط الشيوعية بالأمس سيسقط الرأسمالية اليوم أو غداً أو بعد غد.
فأين المسلمون! الذين يمكن أن يقوموا بعمارة الدنيا وخلافتها، بديلاً عن الشرق أو الغرب؟(183/3)
صناعة الحياة في المنزل
أيها الأحبة: لقد وجه إليّ الإخوة كثيراً من الأسئلة في المجلس السابق، ورأيت -أيضاً- أن أعرج عليها في موضوع صناعة الحياة، فأحد الأحبة أعجبتني صياغة سؤاله، فهو يقول: في صناعة الحياة قمت بصناعة البيت بمشيئة الله تعالى، وهو جعل درس للنساء لحفظ القرآن على قسمين: 1- النساء الكبيرات، وأول شيء يحفظنه هو آية الكرسي مع تفسيرها.
2- الأخوات وزوجات إخوتي، والمقرر هو حفظ بعض سورة (ق) ، ثم درس في السيرة، فما رأيكم في ذلك؟ فأقول: هذا الجهد وإن كان في نظر بعض الناس جهد المقل، إلا أنه مساهمة فعالة في صناعة الحياة، وحين نقول: صناعة الحياة أو صياغتها فإننا نطلب من كل إنسان أن يشارك في ذلك ولو بأقل جهد.
وليس بالضرورة أن يكون كل واحد منا صانعاً للحياة على مستوى العالم، بل من الممكن أن تبدأ صناعة الحياة على مستوى البيت، أو الفصل الذي تدرس فيه، أو الحي الذي تسكن فيه، أو المسجد الذي تصلي فيه.(183/4)
المدرس يصنع الحياة كثيراً
وكذلك هذا الأخ يقول: لاحظت في معظم تلك المحاضرة عدم المرور على المربين والمدرسين وما يهمهم من صناعة الحياة، فأرجو منك أن تتعرض لهذا الموضوع.
وأقول: إن المدرس يصنع الحياة كثيراً، وليس غريباً أن الطبيب تتلمذ على يد المدرس، والمهندس تتلمذ على يد المدرس، والداعية والخبير وكل أصناف المختصين تلقوا من المدرس، ولهذا لا غرابة أن يتكلم أحد الشعراء -وهو الشاعر محمود غنيم - راثياً لحال المدرس، ومعبراً عن واقعه ومشاعره، فيقول: حنانيك إني قد بليت بصبيةٍ أروح وأغدو كل يوم عليهمُ صغار نربيهم بملء عقولهم ونبنيهم لكننا نتهدمُ فمن كان يرثي قلبه لمعذب فأجدر شخص بالرثاء المعلمُ على كتفيه يبلغ المجد غيره فما هو إلا للتسلق سُلَّمُ فالمدرس هو الجندي المجهول، وهو المناضل الكبير، والمدرس متى ما كان مخلصاً فهو وريث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام -فهم يعلمون الحكمة ويعلمون الناس ويأمرون بها، والمدرس يستحق أكثر من مرور عابر- كما اقترح الأخ في محاضرة فهو يستحق حديثاً خاصاً، وسيكون ذلك -إن شاء الله- في أحد الدروس بعنوان: رسالة إلى مدرس.(183/5)
أين مؤسساتنا الخيرية؟
وهنا نسأل أنفسنا: أين محاضن الأطفال المسلمين والأيتام؟! أين دور العجزة والفقراء؟! أين المدارس الخيرية؟! أين المستشفيات؟! أين المؤسسات الخيرية؟! أين المؤسسات الاقتصادية؟! أين الخدمات المجانية -أو شبه المجانية- التي يمكن أن تقدم للمسلمين، والتي تنقذهم من براثن الجهل والمرض والفقر، ذلك الثالوث الخطير الذي يفتك بالمسلمين؟ قد يقول قائل: المسلمون لا يملكون شيئاً، أو يقول: الدعاة إلى الله تعالى في أكثر بقاع الأرض هم أفقر الناس! فأقول: هذا صحيح من جانب، لكن لا يجوز أبداً أن نعتبر هذا كافياً في تعليل ما يجرى، فإننا نجد أن هذا نوعٌ من الهروب من المسئولية، وكم من الدعاة إلى الله تعالى لم يفكروا أصلاً في هذا الموضوع! ولو أن الإنسان اعتبر هذا أحد الاهتمامات التي يجب أن يهتم بها، وينبغي أن يفكر فيها، فإنه لا بد أن يتفتق ذهنه عن وسائل ناجحة، وكما يقال: الحاجة أم الاختراع، ومع الصبر والوقت والتفكير والمحاولة يمكن أن يفعل الدعاة الكثير والكثير مما ينفع في هذا، بشرط أن تصبح إقامة الجسور مع الأمة هماً يسيطر على قلوب الدعاة إلى الله تعالى.
وما زال الكثير من أثرياء الأمة وتجارها وأغنيائها ووجهائها لديهم ثقة بالدعاة إلى الله عز وجل، وإمكانية أن يتعاونوا معهم، بحيث تنتقل رءوس الأموال التي توجد في بلد من بلاد المسلمين؛ لينتفع بها المسلمون في كل مكان عن طريق الدعاة الصادقين، وليس عن طريق الصليب الأحمر الدولي -مثلاً- أو عن طريق المؤسسات التنصيرية التي ربما وزعت على المسلمين أموال المسلمين وابتزتهم بها، ودعتهم بها إلى النصرانية!! إذاً: يجب أن يكون الدعاة إلى الله تعالى والمخلصون هم الجسر الذي تعبر عليه أموال المسلمين وإمكانياتهم إلى إخوانهم المحتاجين في كل مكان من الأرض.
فالداعية لا يحتاج كثيراً إلى أن ينفق من جيبه، بل يكفي أن يكون لديه الاستعداد لأن يكون وسيطاً، وإذا علم تجار المسلمين -وهم كثير، وفيهم خير كثير، وفيهم ثقة بالدعاة إلى الله تعالى- أن دعاة موثوقين صادقين يمكن أن يقوموا بمثل هذه المهمات؛ فإنهم لن يترددوا أبداً في إعانتهم ومساعدتهم.
وأيضاً: لا بد -أيها الأحبة- أن نقنع أنفسنا بأهمية الموضوع من جهة أخرى، ثم أن نقنع أنفسنا بإمكانية أن نفعل شيئاً، فالإنسان اليائس لا يمكن أن ينتج، والذي يقول: ليس في يدي حيلة، هذا محكوم عليه أنه كالميت لا يمكن أن يقدم لأمته شيئاً؛ لكن إذا كان لديه همة عالية، فالهمم العالية تزيل الجبال.(183/6)
بيان من العلماء حول ما جرى في أفغانستان
وبعد هذا وذاك فإنني أيضاً أستسميحكم في اقتطاع جزء من الوقت على أهمية موضوع هذه الليلة في قراءة هذا البيان الصادر من جماعة من العلماء والدعاة في هذا البلد، حول ما جرى وما يجري في أفغانستان.
يقول هذا البيان الذي وقعه جماعة من العلماء على رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فغير خاف على أحد ما يجري في أفغانستان من الخلاف، وما ترتب على ذلك من تفاقم الأمر في صفوف الأمة من الدعاة، والخطباء، وطلبة العلم، وعموم الشباب وسائر الناس، من جراء الخوض في هذه المسألة دون تثبت ولا علم ولا بصيرة، نصرة لطرف على طرف، أو هجوماً على طرف، أو دفاعاً عن طرف من أطراف النزاع، وإننا نناشد جميع المسلمين وخاصة الشباب الغيور على قضايا الأمة؛ بالكف عن الخوض في هذه المسألة بأي صورة، تأييداً أو تنديداً لما ينجم عن ذلك من تفرق كلمة أهل الخير في كل مكان، وتشتت آرائهم واختلاف قلوبهم، وربما أدى ذلك إلى التشاحن والتطاحن والتباغض! وأوصل بعضهم إلى الولاء والبراء! والحب والبغض، والاشتغال بتصنيف الناس على حسب مواقفهم من هذه القضية! وإن أخشى ما يخشاه العقلاء أن تكون ثمة أصابع خفية تهدف إلى زعزعة وحدة الأمة لصالح أعداء الإسلام من الشرق والغرب! فأفضل وسيلة لتفويت الفرصة على العدو هي ترك الخوض في هذه المسألة نهائياً، والإعراض عنها بالكلية، والاشتغال بما هو أجدى وأهم؛ من طلب العلم، والدعوة إليه، والإقبال على العبادة، وتهذيب السلوك، وتصفية القلوب من لوثات الحقد والحسد والبغضاء التي يبذرها الشيطان في نفوس الناس، علماً أن ثمة جهوداً طيبة من جهات عديدة تتدخل بهدف الإصلاح بين الأطراف المتنازعة، وقد قطعت في هذا المجال شوطاً كبيراً، ولعل ترك الخوض في هذه المسألة مما يساعد هذه اللجان على أداء مهمتها، وستعلن نتيجة ذلك قريباً إن شاء الله.
كما أن على الجميع السعي لنشر العقيدة الصحيحة في نفوس المسلمين في سائر الأقطار، بالأسلوب الحكيم المناسب البعيد عن التنفير، وبكافة الوسائل المتاحة، كالدعوة، والتعليم، وطباعة الكتب، ونشر الأشرطة المفيدة، وغير ذلك، وإننا إذ نعتبر هذه مسئولية الجميع؛ فإنها منوطة بصفة خاصة بمن أعطاهم الله تعالى مزيداً من العلم والبصيرة في الدعوة أو الجاه أو المال.
فنأمل من إخواننا المسلمين مراعاة ذلك والسعي لتنفيذه بقدر الإمكان، كما نناشد إخواننا المجاهدين الأفغان وقادتهم خاصة السعي لجمع كلمة المجاهدين ولم صفوفهم تحت راية عقيدة أهل السنة والجماعة، والحرص على حقن الدماء ووحدة الصف، امتثالاً لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103] وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] .
نسأل الله للجميع التوفيق لصالح القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ولا أرى حرجاً أن أقرأ عليكم أسماء المشايخ الموقعين؛ لأن هذا مما يزيد من توثيق هذا البيان: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود، العبد الفقير المتحدث إليكم، الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي، الشيخ محمد بن سعيد القحطاني، الشيخ سعيد بن زعير، الشيخ عائض القرني، الشيخ ناصر العمر، الشيخ سعيد بن ناصر الغامدي، الشيخ سعيد بن عبد الله الحميد، الشيخ عبد الوهاب بن الناصر الطريري، الشيخ عوض بن محمد القرني، الشيخ حمود بن عبد الله التويجري، الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، الشيخ عبد المحسن بن ناصر العبيكان، الشيخ عبد الله بن حمود التويجري، الشيخ سعود بن عبد الله آل فنيسان، الشيخ ناصر بن عبد الكريم العقل، الشيخ سلطان بن عبد المحسن الخميس، الشيخ أحمد بن صالح السناني.(183/7)
الخلاف بين الناس ومسالك علاجه
أما بعد: فالآن مع: أدب الحوار.
أيها الأحبة: الموضوع كبير وخطير، ولعلي جُرت عليه بعض الجور حينما اقتطعت كثيراً منه لهذه المقدمات التي رأيت أنه لا بد منها، وأن التعليق في مناسبتها أرجح وأولى.
إن الخلاف بين الناس أمر طبعي وذلك لأسباب كثيرة؛ فقد يكون الخلاف في أمور الدين والشرع بسبب أن جزءاً كبيراً من النصوص الشرعية دلالته ظنية وليس قطعي الدلالة على المقصود، وقد يكون الخلاف بسبب اختلاف العقول والأفهام وتباين المدارك، وقد يكون الخلاف بسبب العلم، فهذا عالم، وهذا أعلم، وهذا أقل، قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] وقد ينسى العالم نصاً من النصوص فيقول بغير ما يدل عليه، وقد يكون من أسباب الخلاف -أحياناً- الهوى والتعصب لقول أو مذهب أو رأي أو شيخ.
وحينما يختلف الناس سواء كانت اختلافات كلية أو اختلافات جزئية، يسلكون في معالجة هذا الخلاف مسالك شتى.(183/8)
الحرب كمسلك لحل الخلاف
المسلك الأول: الحرب، فالحرب أحياناً وسيلة لحل الخلاف، وإنهاء الخصومات، وإثبات الحجة، والواقع أن الحرب لا تصلح أن تكون هي الحل الأول في ذلك؛ إذ أننا نجد أن كثيراً من المبادئ والنظريات التي قامت على القوة، وعلى الحديد والنار، سرعان ما تهاوت وسقطت! وهذه الشيوعية اليوم هي خير شاهد، فقد دعمت بالحديد والنار، وكانت أجهزة (K.
B.
G) -المخابرات السوفيتية- تلاحق المنشقين، والمعارضين والمحاربين بكافة الوسائل، وتجند مئات الألوف من العملاء؛ فضلاً عن الكثافة العديدة في القوات العسكرية لالاتحاد السوفيتي التي تعتبر أكثر من ثلاثة أضعاف القوات في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومع ذلك كله، ومع البطش والإرهاب سقطت الشيوعية خلال أقل من ثمانين عاماً، على حين أن الوجه الآخر للحضارة المادية المنحرفة، وهو وجه الرأسمالية، ما زال حتى الآن يصارع الموج، وما زال حياً باقياً، وربما أقول قوياً ممكناً في الأرض، وليس ذلك لأنه مؤمن بالله عز وجل، ولكن لأنه سلك الأسلوب الذي يمكن التعبير عنه بأنه أسلوب ديمقراطي، على الأقل في بعض أساليبه وطرائقه ومعاملاته لشعوبه، فكان أبقى وأرسخ من النمط الشيوعي الشرقي المتعسف.
ولذلك قال الله تعالى في القرآن الكريم: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256] نعم قد شن المسلمون حروباً، لكن هذه الحروب لم تكن بهدف إكراه أحد على الدخول في الإسلام، بل كانت بهدف إزالة الطواغيت التي تحول بين الناس وبين الدخول في الدين وتضغط عليهم وتكرههم على ترك الدين والدينونة بالكفر وبما يريد الطواغيت.
ولم يحفظ التاريخ أن المسلمين أكرهوا شخصاً واحداً على الدخول في الإسلام، بل كان المسلمون إذا هاجموا أهل قرية أو حصن أو بلد خيروهم بين ثلاثة أمور: إما الإسلام؛ فإذا أسلموا قبلوا منهم وكفوا عنهم، فإن لم يسلموا طلبوا منهم الجزية، وأن يدينوا لحكم المسلمين، فإذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كفَّ المسلمون عنهم، وأقروهم على ما كانوا عليه، فإن أبوا؛ استعانوا بالله تعالى وقاتلوهم.
فعلى كل حال الطريقة الأولى لحل الخلافات هي طريقة الحرب.(183/9)
طريقة الحوار
الطريقة الثانية هي: طريقة الحوار، وهو أسلوب حديثنا اليوم، ولا أريد بحديثي عن الحوار أن أجحف بحق الجهاد في سبيل الله تعالى، فللجهاد أحاديثه، وللجهاد مجالاته، وقد سبق أن تحدثت في درس بعنوان: حي على الجهاد، وتكلمت فيه عن موضوع الجهاد في سبيل الله، وإنما حديثي اليوم عن وجه آخر، سواء كان الحوار مع كافر بهدف دعوته إلى الإسلام، أو كان مع مسلم.
والحوار أحياناً -أيها الأحبة- كما يقال: أقوى من الكلاشنكوف، وأقوى من القنابل، والصواريخ، والدبابات والمدفعيات؛ لأنه يعتمد على القناعات الداخلية، وعلى القناعات الذاتية، وربما أفلح الحوار فيما لم تفلح فيها الحروب الطاحنة! وأنا أذكر لكم حادثتين تاريخيتين قديمتين: وكلا الحادثتين تتعلق بطائفة الخوارج، الخوارج من المعروف في تاريخ الإسلام أنهم من أكثر الناس ضراوة في الحروب، وشجاعة وبسالة، حتى إن الناس كانوا يرهبون منهم، حتى النساء اللاتي التحقن بالخوارج كنَّ يبدين من ضروب البسالة والشجاعة في الحروب ما تندهش منه العقول! حتى إن الحجاج هرب من بعض النساء، فسخر منه الساخرون وقالوا له: هلاّ برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائرِ وهرب منها بعض القواد فعيروه بذلك.
فالخوارج كانوا شجعاناً، بسلاء، أقوياء، على ما كانوا عليه من الباطل والضلال المبين! فلننظر كيف فعل فيهم الحوار.
كما ذكر الباقلاني والسكوني والشاطبي وغيرهم أن علي بن أبي طالب بعث ابن عباس إلى الخوارج، المسمين بالحرورية، فذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنه وعليه حلية جميلة، فلما أقبل قالوا له: يا ابن عباس! ما الذي جاء بك؟ وما هذه الثياب عليك؟ فقال: أما الثياب التي علي فما تنقمون مني، فوالله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه حلة ليس أحد أحسن منه، ثم تلا عليهم قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] .
فقالوا: وما الذي جاء بك يا ابن عباس؟ قال: جئتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم أنتم يا معشر الخوارج واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجئتكم من عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني علي بن أبي طالب - وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، فأنا رسول بينكم وبينهم، ووسيط بينكم وبينهم.
فقال بعضهم: لا تحاوروا ابن عباس ولا تخاصموه! فإن الله تعالى يقول عن قريش: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]-خافوا من الهزيمة- فقالوا: اتركوا مجادلته لأنه جَدِل خَصِم، وقال بعضهم: لا بل نكلمه ولننظر ماذا يقول؟ قال ابن عباس رضي الله عنه: فكلمني منهم اثنان أو ثلاثة، فقال لهم: ماذا تنقمون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ قالوا: ننقم عليه ثلاثة أمور، قال: هاتوا؟ قالوا: الأول أن علي بن أبي طالب حكم الرجال في كتاب الله -يعني بعث حكماً منه وحكماً من معاوية رضي الله عنه، وقصة التحكيم معروفة- والله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] .
قال: هذه واحدة فما هي الثانية؟ قالوا: الثانية أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل ولم يَسْبِ -قاتلهم وما سبى نسائهم- فلئن كانوا مسلمين فقتالهم حرام، ولئن كانوا كفاراً فلماذا لم يَسْبِ؟ قال: وهذه أخرى، فما هي الثالثة؟ قالوا: الثالثة أنه نزع نفسه من إمرة المؤمنين لما كتب الكتاب، فلم يكتب أمير المؤمنين وكتب علي بن أبي طالب! قال: أو قد فرغتم؟ قالوا: نعم.
قال: أما الأولى، وهي قولكم حكم الرجال في كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى يقول في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] فذكر الله تعالى حكم ذوي عدل فيما قتله الإنسان من الصيد، سألتكم بالله تعالى، ألتحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أعظم أم التحكيم في ما قتله الإنسان من الصيد؟ قالوا: لا، بل التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم.
قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ناشدتكم الله تعالى ألتحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أهم أو التحكيم في بضع امرأة؟ قالوا: لا التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم، قال: انتهت الأولى؟ قالوا: نعم، فالثانية.
قال: أما الثانية: فهي قولكم قاتل ولم يَسْبِ -لم يأخذ نساء من قاتلهم- فهل تسبون أمكم عائشة رضي الله عنها -لأنها كانت في الطرف الآخر- وتستحلون منها ما يستحل الرجال من النساء؟! إن قلتم ذلك كفرتم! وإن قلتم ليست بأمنا أيضاً كفرتم، لأنها أم المؤمنين!! فاستحوا من ذلك وخجلوا، قالوا: فالثالثة قال: أما قولكم خلع نفسه من إمرة المؤمنين، وإذا لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد كتاب الصلح مع أبي سفيان وسهيل بن عمرو في صلح الحديبية قال: اكتب، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، قالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ولا منعناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فمحى النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة، وكتب هو أو علي هذه مسألة يطول الكلام فيها من محمد بن عبد الله، فرجع منهم عن مذهب الخوارج ألفان، وبقيت بقيتهم فقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فانظر كيف أثر الحوار الهادئ القوي العميق في مثل هذه الرءوس اليابسة الناشفة، حتى رجع منهم في مجلس واحد لم يستغرق ربع ساعة ألفان إلى مذهب أهل السنة والجماعة.
المثال الآخر: وهو أيضاً يتعلق بهذه الطائفة العنيدة -طائفة الخوارج- أنهم حيث بقيت منهم في الموصل بقية؛ فكتب إليهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة الأموي العادل ينكر عليهم خروجهم، ويقول لهم: أنتم قليل أذلة!! فردوا عليه وقالوا: أما قولك: إنا قليل وأذلة، فإن الله تعالى يقول لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26] فردوا عليه بذلك، فوجه إليهم عمر بن عبد العزيز فقيهاً اسمه عون بن عبد الله، وهو أخو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين.
فقال لهم عون بن عبد الله: أنتم كنتم تطلبون حاكماً في مثل عدالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما جاءكم هذا الحاكم كنتم أنتم أول من نفر عنه وحاربه! قالوا: صدقت، ولكنه لم يتبرأ من الذين من قبله ولم يلعنهم -لم يلعن علي بن أبي طالب ولا معاوية ولا بني أمية- فنحن نحاربه لأنه لم يتبرأ من صنيع هؤلاء ولم يلعنهم! وهذا مذهب الخوارج.
قال لهم: أنتم كم مرة تلعنون هامان في اليوم؟ قالوا: ما لعناه قط، قال: أيسعكم أن تتركوا لعن وزير فرعون الطاغية، والمنفذ لأوامره، والذي بنى صرحه بأمره، ولا يسع هؤلاء أن يتركوا لعن أهل قبلتهم، إن كانوا أخطأوا في شيء أو عملوا بغير الحق؟ فسكتوا ورجع منهم طائفة كبيرة، فسر بذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وقال لهذا الرجل: لماذا لم تحتج عليهم بعدم لعن فرعون، لماذا قلت لهم لم تلعنوا هامان، ولم تقل: لم تلعنوا فرعون؟ قال: لو قلت لهم: لماذا لا تلعنون فرعون، ربما قالوا: إننا نلعنه، أما هامان فقل من يلعنه في ألسنة الناس، فلذلك اخترته! فسكت هؤلاء، ثم خرجوا في ولاية يزيد بن عبد الملك فقاتلهم.
والمهم يقول السكوني في عيون المناظرات: فكانت حجة عمر أبلغ من قتالهم بالسيف.
وهكذا يتبين لك أن الحجة القوية، والحوار الهادئ الرزين من صاحب عقل وفهم وعلم في كثير من الأحيان يفعل ما لا تفعله السيوف، وما لا يفعله الكلاشينكوف.(183/10)
أهداف الحوار والمناظرة
فالحوار مهم -أيها الأحبة- من جانبين:(183/11)
الدعوة إلى الإسلام واتباع السنة
الأول: من جانب دعوة الناس إلى الإسلام وإلى السنة، فتعقد حوارات مع كفار لتقنعهم بأن دين الله حق لا شك فيه، أو مع مبتدعين منحرفين عن السنة لتدعوهم إلى السنة وتأمرهم بالتزامها، والقرآن الكريم حافل بنماذج من مثل هذه الحوارات التي جرت بين أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم، حتى إن قوم نوح قالوا لنوح: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32] فأكثر جدالهم حتى تبرموا من كثرة جداله لهم، والجدال نوع من الحوار على أي حال.
أيها الأحبة: إننا بحاجة إلى أن نحاور أصحاب المذاهب، والنظريات، والأديان الأخرى بهدف دعوتهم إلى الله تعالى، فالحوار وسيلة من وسائل الدعوة، ولا يجوز أبداً أن تعتقدوا -كما يعتقد الكثيرون- أن العالم اليوم يعيش حالة إفلاس من النظريات، والعقائد، والمبادئ، والمثل!! بل العالم اليوم يعيش حالة تخمة في كثرة النظريات، والمبادئ، والعقائد، والمثل، والفلسفات، وصحيح أنها باطلة، ولكن هذا الركام الهائل من الباطل مدجج بأقوى أسلحة الدعوة والدعاية، ومدجج بالدعاة الذين تدربوا وتعلموا كيف يدافعون عن الباطل، حتى يصبح في نظر الناس حقاً! أما أهل الحق فبئس ما عودوا أقرانهم! فإذا اجتمع من أهل الحق خمسة وتناقشوا في مسألة خرجوا فيها بتسعة آراء، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ثم لا يحسن هؤلاء أن يناقش بعضهم بعضاً، ولا أن يحاور بعضهم بعضاً، إلا من خلال فوهات المدافع والبنادق، أو إذا لم يملكوها فمن خلال الأفواه التي تطلق من الكلمات الحارة الجارحة ما هو أشد فتكاً من الرصاص ومن القذائف!(183/12)
الوصول إلى اليقين الصحيح في مسائل الخلاف
الهدف الأول هو دعوة الكفار إلى الإسلام، أو دعوة الضالين من المبتدعة إلى السنة.
أما الهدف الثاني: فهو الوصول إلى اليقين الصحيح أو الحق في مسألة اجتهادية اختلفت فيها وجهات النظر مما ليس فيه نص ولا إجماع، أي: مسألة اجتهادية اختلفت فيها أقوال العلماء أو أقوال المجتهدين وأقوال المتحدثين، فتكلم اثنان في محاورة ومناظرة للوصول إلى الحق، والمسألة ليس فيها نص صريح، وليس فيها إجماع لا يجوز تعديه، ولكنها من المسائل الاجتهادية، وليس من الضروري أيها الأخ الكريم! أن تعتقد أن نتيجة الحوار لا بد أن تكون إقناع الطرف الآخر بأن ما عندك حق وما عنده باطل، فليس هذا بلازم، وقد تقنع الإنسان بذلك، وأقل شيء تكسبه من طريقة الحوار إذا التزمت بالشروط الموضوعية للحوار؛ وأقل شيء تكسبه أن يعلم خصمك أن لديك حجة قوية، وأنك محاور جيد، وأن يأخذ انطباعاً بأنك إنسان موضوعي متعقل بعيد عن التشنج والهيجان والانفعال.
وكثير من الناس يظنون أن الآخرين لا يملكون الحق، وليس عندهم شيء، وأنهم مجرد مقلدين، فإذا حاوروهم علموا أن لديهم حججاً قوية، فأقل ما تكسبه هو أن تجعل أمام مناظرك علامة استفهام! وأقل شيء تكسبه أنه صار عنده تردد في مذهبه، ففتر حماسه لدينه، وقد تلتقي بنصراني -مثلاً- داعية إلى النصرانية فتناقشه، فمحتمل أنه يسلم -وهو خير كثير، وهو أرقى وأعلى ما تتمناه- لكن هناك احتمال ألا يسلم! فهل تعتبر أنك قد خسرت؟ لا، إذا لم يُسلم فربما صار عنده تفكير في الإسلام يدعوه إلى أن يبحث ويسلم ولو بعد حين، وإذا لم يفكر بذلك فعلى الأقل صار عنده شكوك في دينه، وإذا لم يحصل هذا فعلى أقل تقدير فتر شيء من الحماس الذي كان يحمله لدينه.
ونحن نجد أن المسلمين الذين يكثرون من الاحتكاك بأهل الكتاب، أو بالمنحرفين عن الإسلام، ويسمعون منهم الكثير؛ وإن لم يتركوا دينهم إلا أن حماسهم يقل ويفتر لدينهم من كثرة ما سمعوا من الأعداء حتى وهم على الحق، فما بالك بأهل الباطل إذا سمعوا نقد باطلهم! لا بد أن يفتر حماسهم له، أو يشكوا فيه أو يتراجعوا عنه.(183/13)
ألفاظ الحوار ومواضعها
والحوار والجدال والمناظرة كلها ألفاظ متقاربة لمعنى واحد، وإن كان أكثر ما جاء لفظ الجدال في القرآن الكريم على الجدال المذموم كما في قوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر:5] ولكن جاء لفظ الجدال في القرآن أيضاً في مواضع محمودة، وهي -فيما أعلم- أربعة مواضع، الموضع الأول منها قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فهذا جدال بالتي هي أحسن، وهو لدعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام.
الموضع الثاني: قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] الموضع الثالث: قول الله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74] فإبراهيم عليه السلام يجادل الملائكة! فماذا قال لهم؟ سألهم: بعثتم إليهم لإهلاكهم؟ قالوا: نعم، قال: أفيهم مائة مسلم؟ قالوا: لا، قال: أفيهم خمسون مسلماً؟ قالوا: لا، قال: عشرة مسلمين؟ قالوا: لا، قال: خمسة مسلمين؟ قالوا: لا، قال: فقوم ليس فيهم هؤلاء جديرون بالإهلاك، فهذا كما ذكر بعض المفسرين الجدل الذي حصل من إبراهيم عليه السلام.
الموضع الرابع: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] .(183/14)
الاهتمام بفن الحوار
أيها الأخ الكريم: إن من الضروري أن يتلقى المسلم -وخاصة الداعية إلى الله- أسس الحوار وأصوله في عالم يموج اليوم بالنظريات الكافرة، والاتجاهات المنحرفة، ولقد أصبح الحوار فناً يدرس! وأحياناً يسمونه فن الجدل، وأحياناً يسمونه فن المناظرة، إضافة إلى فن آخر له علاقة بالموضوع وهو ما يسمى بفن العلاقات العامة الذي تقام فيه دورات لكثير من الموظفين والمتخصصين في العلاقات، والدعاة، وسواهم، والعلاقات العامة تعني حسن الاتصال بالآخرين، لإقناعهم برأي أو ترويج سلعة من السلع، أو تصحيح فكرة، أو التمهيد لقضية من القضايا من خلال الاتصال بالناس، فهو فن يدرس ولا بد للداعية أن يتعلمه نظرياً وعملياً.(183/15)
قواعد الحوار
إن للحوار قواعد كثيرة؛ لم يسعفني فكري منها إلا بثلاث قواعد أذكرها على عجل.(183/16)
تحديد مجال الحوار
القاعدة الأولى: أن يكون الحوار حول مسألة محددة؛ فإن كثيراً من الحوارات تكون جدلاً عقيماً سائباً ليس له نقطة محددة ينتهي إليها، فينبغي أن يكون الحوار -أو الجدال بالتي هي أحسن- حول نقطة معينة بحيث يتم التركيز عليها، والحديث يدور عنها لا يتعداها حتى ينتهي منها.(183/17)
عدم مناقشة الفرع قبل الاتفاق على الأصل
القاعدة الثانية: عدم مناقشة الفرع قبل الاتفاق على الأصل، إذ أن مناقشة الفرع مع أن الأصل غير متفق عليه تعتبر نوعاً من الجدل العقيم إلا في حالات معينة، وأضرب لذلك مثلاً على حالات يمكن فيها مناقشة الفرع دون مناقشة الأصل.
مثلاً: لو جاءك كافر لا يؤمن بيوم الحساب، ولا يؤمن بدين الإسلام، وبدأ يناقشك في قضية حجاب المرأة المسلمة، ولماذا تتحجب المرأة؟! أو يناقشك في قضية تعدد الزوجات، ولماذا أباح الإسلام تعدد الزوجات.
فهو الآن كافر لا يؤمن بالإسلام، فهل تناقشه في مسألة تعدد الزوجات؟ أو في مسألة الحجاب؟ أو في مسألة الجهاد؟ وهذه النقاط الثلاثة -الجهاد، تعدد الزوجات، الحجاب- هي أكثر ما يثيره الغربيون عن الإسلام، ويضايقون به المسلمين والدعاة والطلاب هناك.
إذاً كيف تحاوره؟ بإمكانك هنا أن تحاوره بإحدى طريقتين: الطريقة الأولى: أن تحيله إلى الأصل، فتقول له: إن الجهاد وتعدد الزوجات والحجاب جزء من دين الإسلام، وبدلاً من أن نناقش هذه النقاط ينبغي أن نرجع للأصل وهو الإسلام فنتجادل فيه، فأجادلك في الإسلام، فإذا اقتنعت بالإسلام فحينئذٍ من باب الأولى أن تقتنع بهذه الأمور، ولا حاجة أن تجادلني فيها، وإذا لم تقتنع بالإسلام فنقاشي معك في هذه الجزئية يعتبر نوعاً من العبث الذي لا طائل تحته، فهذه طريقة.
الطريقة الثانية: أنك يمكن أن تناقشه بالحجج المنطقية في نفس الجزئيات التي يجادل حولها، فمثلاً إذا تكلم عن تعدد الزوجات، وجادلك فيها -حتى ولو كان لا يؤمن بالإسلام، فربما يؤمن بالإسلام من خلال قناعته بهذه النقطة- فتقول له مثلاً: من الثابت علمياً أن عدد النساء أكثر من عدد الرجال، وفي أمريكا نفسها أحياناً تصل نسبة النساء إلى الرجال 119:100 وأحياناً 160: 100، فستون امرأة زيادة فمن تكون؟! فإذا لم نأذن لهؤلاء الرجال بتعدد الزوجات فإن هؤلاء النساء يبقين ضائعات بلا أزواج، أو اضطررن إلى ممارسة البغاء والرذيلة! فتعدد الزوجات ضرورة لا بد منه، لأن نسبة الإناث في أكثر المجتمعات أكثر من نسبة الرجال.
ونفترض أنه لم يقتنع فعليك أن تثبت له حالات وأوضاع يكون تعدد الزوجات فيها أمراً سائغاً، وهذا قد تكلم عنه الأستاذ محمد قطب في كتابه: شبهات حول الإسلام بما لا حاجة إلى أن نطيل فيه الآن.
لكن من الطريف أن رجلاً كان يناقش مجموعة من النساء عن تعدد الزوجات، وطبعاً رفضن الاقتناع -وهن غير مسلمات- وأصررن على هذه القضية، فقال هذا الرجل للنساء لما ملَّ من طول النقاش: إن المسئول عن تعدد الزوجات النساء وليس الرجال، فدهشت النساء، وقلن لماذا؟ قال: لأنه لو أن كل امرأة رفضت أن تكون امرأة ثانية ما وجد تعدد الزوجات، -وطبعاً هذا من باب الإلزام بالحجة- وإنما المرأة وافقت أن تكون زوجة ثانية، أو ثالثة، أو رابعة، فوجد تعدد الزوجات.
ونحن المسلمون مقتنعون بأن قضية تعدد الزوجات شريعة إلهية في محكم القرآن الكريم، ولا حاجة أن نقنع أنفسنا أو غيرنا بهذا، لكن كيف تقنع الآخرين! فهذا إشارة إلى الموضوع.(183/18)
الاتفاق على أصلٍ يرجع الحوار إليه
القاعدة الثالثة: من قواعد الحوار هي: الاتفاق على أصل يرجع الحوار إليه إذا وجد اختلاف، واحتدم النقاش، فتتفق مع أي إنسان تناقشه بأن ترجعا عند الاختلاف إلى القرآن الكريم، وإلى صحيح السنة مثلاً، وإلى القواعد الثابتة المستقرة، أو إلى ما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم -المهم أن تتفق معه على نقاط تكون مرجعاً عند الاختلاف-.
وأذكر بهذه المناسبة قصة، وقد حدثني بها جماعة من العلماء منهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ومنهم الشيخ عبد الله بن قعود ونقلها لي ثقة ثبت عن الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله؛ فهي حادثة ثابتة بأسانيد جياد صحيحة إن شاء الله؛ وهو أن جماعة من الشيعة كتبوا إلى مفتي الديار في السابق: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ أن يعقد معهم مجلساً للحوار، فهمَّ الشيخ محمد بن إبراهيم ألا يرد عليهم وأن يهمل هذا الطلب، فأشار عليه الشيخ عبد الرزاق عفيفي بأن هذا الأمر ما دام أنه جاء منهم فينبغي ألا يهمل، لأنهم قد يعتبرون عدم إجابتنا على طلبهم نوعاً من النكول عن المناظرة أو ضعف الحجة، فالأولى أن نكتب لهم بالموافقة على المناظرة شريطة أن يكون هناك أصل نرجع إليه، وأن يكون هذا الأصل هو القرآن الكريم وصحيح البخاري، صحيح مسلم، فكتب لهم الشيخ رحمه الله بهذا المضمون، من أنه لا مانع من إجراء الحوار والمناقشة معكم شريطة أن نرجع عند الاختلاف إلى القرآن الكريم وصحيح البخاري وصحيح مسلم فلم يردوا عليه، ولم يجيبوه إلى ما سأل.
فلا بد من شيء يُرجع إليه.(183/19)
صفات المحاور الجيد
صفات المحاور الجيد هي، باختصار:(183/20)
الإلقاء الجيد
الصفة الأولى: جودة الإلقاء وحسن العرض وسلاسة العبارة، وقد كان من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري عن عائشة قالت: {لم يكن يسرد الحديث كسردكم، ولكن كان يقول كلاماً لو شاء العادُّ أن يحصيه لأحصاه} فيكون المحاور هادئاً سلسلاً جيد الإلقاء، ومما يذكر أن أمير الشعراء أحمد شوقي على جلالة قدره في الشعر كان ضعيفاً في الإلقاء، فكان يدع غيره ليلقي عنه القصائد، لأنه إذا ألقى القصيدة ضاع ثلاثة أرباع جمالها لعدم جودته في الإلقاء!(183/21)
صحة الفكرة المعطاة
الصفة الثانية: حسن التصور لدى المتحدث، بحيث لا تكون الأفكار عنده مشوشة أو متداخلة أو متضاربة، وبعض الناس لضعف تصوره ربما يطرح فكرة أثناء النقاش، وبعدما ينتصف في شرحها يتبين أنها لا تصلح ولا تخدم الغرض، فينتبه في منتصف الطريق بعد ما يكون قد تورط في ذلك.(183/22)
الترتيب الجيد للأفكار
الصفة الثالثة: القدرة على ترتيب الأفكار، وعدم تداخل الأفكار أو اضطرابها أو تشويشها.(183/23)
قوة العلم للمحاور
الصفة الرابعة: العلم، فإن بعض المتحاورين قد يخذل الحق بضعف علمه، فهو يحاور إنساناً والحق معه، ولكنه لم يدعم هذا الحق بالعلم القوي، فوضع نفسه في غير موضعها، ولذلك ليس لكل إنسان أن يحاور، إنما يحاور إنسان عنده علم، وعنده قوة، وعنده القدرة، فربما أن إنساناً حاور بهدف نصر الحق فخذل الحق لضعف علمه وضعف بصيرته، وربما يحاور إنسان بجهل فيقتنع بالباطل الذي مع خصمه، وربما احتج بحجج باطلة، كما سمعت في بعض المناظرات والمحاورات التي تعقد من أن الإنسان قد يحتج بحجج باطلة لضعف علمه.(183/24)
قوة الفهم
الصفة الخامسة: الفهم مع العلم، فلا بد من قوة العقل، ليدرك المتحدث حجج الخصم ويستطيع أن يفهمها، ويعرف نقاط الضعف فيها ونقاط القوة، ويقبل ما فيها من الحق، ويرد ما فيها من الباطل.(183/25)
الإخلاص وطلب الحق
الصفة السادسة: الإخلاص والتجرد في طلب الحق وتوصيله إلى الآخرين؛ بحيث لا يكون همه الانتصار، إنما همه الإخلاص، والتجرد في طلب الحق وفي إيصال الحق للآخرين.(183/26)
التواضع
الصفة السابعة: التواضع أثناء المناقشة، أو بعد الانتصار على خصمه، وهذه الصفات قد يمر بعضها أثناء ذكر آداب الحوار.(183/27)
أحوال الحوار عند المسلمين اليوم
إن الحوار -ولا تؤاخذوني إذا قسوت- القائم بيننا نحن المسلمين، بين المسلمين والمسلمين، والحوار بين أهل السنة وأهل السنة تجد أنه في هذا الجزء من العالم المبتلى بالأمراض والعلل، والمبتلى بالمصائب التي أثقلت كاهله، يعتمد على أمور تضحك منها الثكلى، ويسخر منها الأعداء:(183/28)
وصف المخالف بما لا يليق
والصفة الرابعة من أوصاف الحوار عندنا هي: وصف الطرف الآخر بما لا يليق، فبعد أن وصفت القول بأنه قول حادث ومبتدع، وأنه كفر وفسوق وضلال وعصيان! تنتقل بعد ذلك -بارك الله فيك- إلى المتكلم نفسه بهذا القول، فتصفه بما لا يليق من الأوصاف؛ تأديباً له وردعاً لأمثاله! فتقول: هذا جاهل وسخيف وحقير ومتسرع وأضعف الإيمان بأن تصفه بأنه ليس أهلاً لهذا الشيء أو ذاك، ولا يكفي هذا أيضاً، بل لا بد من كشف نية هذا الإنسان: فساد نيته، وسوء طويته، وخبث مقصده، فهذا مغرض سيئ الطوية، رديء القصد، عدو الإسلام، عدو للسنة وأهلها، محارب لها، له أهداف بعيدة.
وأيضاً أضعف الإيمان أن تصفه بأنه عميل للشرق أو للغرب، أو لقوة خارجية أو داخلية، ونحن لا ننكر أيضاً أن من الناس من يكون سيئ النية في الحوار، وخبيث المقصد، ومنهم من هو عدو للإسلام، ومنهم من هو عدو للسنة، بل ومنهم من هو عميل للشرق أو للغرب، أو لقوى بعيدة أو قريبة، لكنك حين تطلق هذه الأشياء لا بد أن تكون بالدليل الواضح، ولا يجوز أن تصادر عقولنا، وتطلب منا أن نقتنع بشيء لم تسق عليه أي دليل.
كما إنه ليس هذا من الحوار، فالحوار ليس حول شخص إلا إن كان موضوع الحوار -أو نقطة الحوار- أصلاً في الكلام عن فلان، فهذا باب ثانٍ.(183/29)
الإحتجاج بـ (ولو)
فلا يكفي هذا أيضاً؛ بل إذا أعيت الحجة ولم يجد الإنسان سبيلاً؛ فيمكن الاستنجاد بكلمة (ولو) فلو هذه تحل المشكلات وتصنع المعجزات في نظر بعض الناس، فهي دواء لكل داء إلا الموت، فإذا أعيت الإنسان الحجة بدأ يقطع، فقال: (ولو) ولو هذه تنهي كل ما قاله الخصم، وإذا لزم الأمر أيضاً فلا بأس من لطمه على الوجه، أو لكمة في الصدر! أو كما يقول أخونا الشيخ عائض القرني: نتعاون فيما اتفقنا فيه، ويكسر بعضنا رأس بعض فيما اختلفنا فيه! والواقع أن هذا تعبير مازح عن واقع لا شك فيه في أوضاع المسلمين.
والكلام السابق كله مزاح، فلا تأت غداً وتضرب به واحداً، وتقول: هذه نصيحة سمعتها في المحاضرة، بل الكلام السابق كله تصوير ساخر لأحوال الحوار بين المسلمين والمسلمين، وبين أهل السنة وأهل السنة، بل بين طلاب العلم وطلاب العلم أحياناً!(183/30)
التهويل وتحميل الكلام مالا يحتمل
والصفة الثالثة: من صفات الحوار عندنا: التهويل وتحميل الكلام أشياء لا تخطر إلا في نفوس مرضى القلوب والنفوس، فلماذا يهول بعض الناس أقوال الآخرين؟ لئلا يتجرأ أحد على القول بمثل ما قالوا! أو نصرة ما ذهبوا إليه! فيحاول المحاور أحياناً أن يحيط القول المردود بهالة رهيبة، فيقول: هذا القول كفر، وهذا فسق، وهذا بدعة، وهذا خرق للإجماع، وهذا مصادمة للنصوص الشرعية، وهذا اتهام للعلماء، وهذا قول باطل لم يسبق إليه ولم ولم! ويظل يهول ويطول ويضخم العبارات، بحيث أن الذي يسمع هذا يشعر أنه قول خطير يجب أن تكون بعيداً عنه، ولا تتورط في قبوله أو الاقتناع بحجة ذلك المتكلم! وقد لا يكون القول كذلك، ولا ننكر أن من الأقوال ما يكون كفراً، ومن الأقوال ما يكون فسقاً، ومن الأقوال ما يكون بدعة، ومنها ما يكون مصادمة للنص، ومنها ما يكون قولاً حادثاً لم يسبق إليه صاحبه، لكن هذه الأشياء كلها لا بد حين يقولها الإنسان أن يثبتها بالدليل الواضح، أما مجرد إطلاق دعاوى فارغة في الهواء فهذا لا يسمن ولا يغني من جوع.(183/31)
الصراخ ورفع الصوت
الصفة الأولى من صفات الحوار في عالمنا الإسلامي بين المسلمين والمسلمين، بل بين أهل السنة وأهل السنة هو: رفع الصوت والصراخ، فكأن الإنسان في غابة الذئاب، ومن لم يكن ذئباً أكلته الذئاب! كأنه في غابة تتهارش فيها الذئاب، فيرى أن انتصاره بالحوار هو بالمبالغة في رفع الصوت على خصمه، والله تعالى يقول: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] .(183/32)
أخذ زمام الحديث بالقوة
والصفة الثانية الموجودة عندنا هي: أخذ زمام الحديث بالقوة، لئلا تدع للخصم فرصة يتحدث فيها فيهدم بنائك الهش، أو يحطم حججك الزجاجية، أو يثير البلبلة في نفوس الناس، وكأننا نأخذ بمبدأ الجدل بالكلمة التي قالها دانيل كارنيجي في كتابه: كيف تؤثر في الناس وتكسب الأصدقاء قال: إذا خِفْت أن ينفض الناس من حولك، ويسخروا منك عندما توليهم ظهرك وتتركهم، فهاك الوصفة: لا تعط أحداً فرصة للحديث، تكلم بدون انقطاع، وإذا خطرت لك فكرة بينما غيرك يتحدث فلا تنتظر حتى يتم حديثه فهو ليس ذكياً مثلك، فلماذا تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه السخيف! اقتحم عليه الحديث، واعترض عليه في منتصف كلامه، واطرح ما لديك!(183/33)
آداب الحوار
أما آداب الحوار الصحيح؛ فسأذكر منها عشرة آداب، واعذروني إذا أسرعت ولم ألتزم بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرته عن عائشة قبل قليل: {أنه يتكلم بكلام فصل لو شاء العاد أن يعده لأحصاه} فمن طبيعتنا العجلة، ونسأل الله تعالى أن يعفو ويسامح.(183/34)
اعتدال الصوت
العاشر: اعتدال الصوت؛ فلا تبالغ في رفع الصوت، وليس من قوة الحجة المبالغة في رفع الصوت بالنقاش والحوار، بل كلما كان الإنسان أهدأ كان أعمق، ولهذا تجد ضجيج البحر وصخبه على الشاطئ والمياه الضحلة، حيث لا جواهر ولا درر، فإذا مشيت إلى عمق البحر ولجته وجدت الهدوء، حيث الماء العميق، ونفائس البحر وكنوزه، ولهذا يقول المثل الغربي: الماء العميق أهدأ، فلا حاجة إلى اللجوء إلى تبكيت الإنسان الذي تخاصمه، وإحراجه والسخرية به، إلا إذا تبين لك أنه سفيه أو لجوج أو عنيد، فحينئذٍ لا بأس أن تسقط عليه كلمة أو نكتة تجعله مجالاً للسخرية، أو تجعله يقف ولا يتكلم، مثلما ينقل: [[أن يهودياً قال لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما نفضتم أيديكم من تراب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قلتم منا أمير ومنكم أمير، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وأنتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر بعد أن جمده الله تعالى الله لموسى حتى قلتم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] فبهت اليهودي وسكت]] لأن كلام بني إسرائيل هنا كفر ينقض الدين، أما كلام الصحابة: منا أمير ومنكم أمير فهو مسألة اجتهادية.
وكذلك لما ذهب حاطب للمقوقس قال له المقوقس: يا حاطب! كيف الحرب بين محمد وبين المشركين؟ قال: سجال، يدال عليهم ويدالون عليه، قال: أنبي الله يغلب؟! فقال له حاطب: وابن الله يصلب! ألستم أيها النصارى تزعمون أن عيسى ابن الله، وأنه قد صلب! فسكت ولم يحر جواباً، لأنه ألقمه حجراً! وكذلك يذكر أن الإمام الباقلاني ذهب إلى ملك الروم فدخل عليه وعنده القساوسة جالسون، فسلم عليهم الباقلاني وقال: كيف الحال، وكيف الأهل، وكيف الأولاد؟ فقال له الملك: عجيب! أنت الآن مبعوث من أمير المسلمين، وأنت أعلمهم ولا تدري أن هؤلاء لا يتزوجون، وليس لهم أولاد؟! فقال: سبحان الله! ترضون الأولاد لرب العالمين ولا ترضونها لأنفسكم! فبهتوا أيضاً ولم يجدوا جواباً.(183/35)
عدم الإلزام بما لا يلزم
الأدب التاسع: عدم الإلزام بما لا يلزم، أو المؤاخذة باللازم، فمثلاً؛ إنسان خالف أحد العلماء في قوله، أي أنه قال قولاً خالف فيه عالماً بعينه، فيقال لهذا الإنسان: يا أخي! أنت خالفت فلاناً العالم، وهذا يلزم منه أنك ترى أنك أعلم منه!! لا يا أخي! لا يلزم أني أعلم منه، وقد أكون خالفته في هذه المسألة باجتهادي وأنا أعرف أنه أعلم مني في كل المسائل؛ لكن هذه المسألة لا يسعني أن أقلده فيها مثلاً، أو يقال له: أنت تخطئ فلاناً، أو تضلله!! فأنا لا أضلله، وإنما قلت بهذا القول باجتهادي، وقد يكون اجتهادي خطأً، لكنه في نظري صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري -كما قال الشافعي - خطأ يحتمل الصواب.
وكذلك قد يأتي إنسان فيقول: فلان قال قولاً ما سبق إليه، وهذا يلزم منه أنه يحكم بأن الحق قد غاب عن الأمة طيلة القرون الماضية، وهذا في الحقيقة لا يلزم.
أولاً: كون هذا القول لم يسبق إليه فقد أقول لك: لا، بل قد سبق إليه، وقاله فلان وفلان من الناس، وعلى فرض أنه ما سبق إليه، ولا قال به أحد قبله، فقد يكون قيل هذا القول ولكنه لم ينقل، وحتى لو فرض أنه لم يسبق إليه فهو لا يرى أن هذا من الحق الذي يجب أن تعلمه الأمة في كل زمان ومكان، بل يرى أن هذا من الأشياء الاجتهادية التي قد يقول بها إنسان، وربما تحتاجه أمة أو لا تحتاجه، فليس فرضاً أن تعلمه الأمة في كل حين، وفي كل زمن، وفي كل مكان، أو أن يقول به من قال به، وقد يرى أن المسألة ما نقل فيها قول أصلاً.
والإلزام من المشكلات، وكونك تلزم إنساناً بمقتضى كلامه فهذا خطأ، فاللازم يصلح في كلام الله تعالى، فتقول الآية يلزم منها كذا، واللازم يعتبر دليلاً من أنواع الدلالات، وكما يقول علماء الأصول: الدلالات ثلاث؛ دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام.
يعني يلزم على هذا النص كذا وكذا، وهذا في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما كلام الناس فلا تلزم فيه بشيء، ولا تقول: يلزم من كلامه كذا، ويلزم كذا، فلعله ما خطر بباله هذا اللازم، ولا فكر به في يوم من الأيام، وقد لا يوافقك على أنه لازم، ولو وافقك على أنه لازم فقد لا يقر به، فلماذا تلزم الناس بشيء لم يلتزموا به؟ ومن بطلان اللوازم أن أبا نواس الشاعر الماجن المشهور حاول أن يستخدم هذا الإلزام بطريقة معينة، فكان أهل العراق الأحناف يقولون بجواز حل النبيذ، وأهل الحجاز يقولون بتحريمه وأنه مثل الخمر، فهذا الشاعر الماجن الخبيث يقول: أباح العراقي النبيذ وشربه وقال الحرامان المدامة والسكرُ وقال الحجازي الشرابان واحد فحل لنا من بين قوليهما الخمر سآخذ من قوليهما طرفيهما وأشربها لا فارق الوازر الوزر ولا شك أن من قال بحل الخمر فهو كافر، لأن تحريمها ثابت بنص القرآن الكريم: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] لكني أردت أن أبين لك فساد الألزامات التي يختلقها بعض، ويحاول أن يحاصر بها الآخرين.(183/36)
الموضوعية في الحوار والمناقشات
الأدب الثامن: الموضوعية، والموضوعية تعني رعاية الموضوع وعدم الخروج عنه، فمن الموضوعية مثلاً عدم إدخال الأحاديث بعضها في بعض، فبعض الناس إذا أحرجته في موضوع هرب منه إلى موضوع آخر، فهو ينتقل من موضوع إلى موضوع، وكل ما أحرج في نقطة انسحب منها إلى غيرها، ونقل الحديث نقلة بعيدة أو قريبة، ولعل هذا أعظم أدواء المناظرة التي تجعل الإنسان يخرج منها ربما بعد ساعات بلا طائل لأنه يتنقل مثل الطائر من غصن إلى غصن، فالموضوعية تقتضي ألا تخرج من نقطة إلا إذا انتهيت منها، ثم تنتقل إلى غيرها.
وكذلك من الموضوعية عدم إدخال موضوع في آخر، فقد تتكلم مع إنسان في الحجاب -حجاب المرأة المسلمة- وضرورة تحجبها والتزامها بالستر، وبعدها عن السفور، وبعدها عن مكان اختلاط الرجال بالنساء، أو أماكن اللهو، أو أماكن الفساد، أو غير ذلك، فتجد أنه يناقشك في هذا الموضوع، وبعد قليل يقول لك: يا أخي! الناس وصلت القمر وأنت ما زلت تجادل في هذا الموضوع!! لكن ما علاقة وصول الناس بالقمر أو عدم وصولهم بقضية مطالبتنا بحجاب المرأة المسلمة مثلاً، أليس هذا إدخال لموضوع في قضية لا يتعلق بها؟ أو تكلم إنساناً في قضية الغناء -الغناء الفاحش البذيء- الذي أصبح يصك الأسماع، ويهيج الغرائز، ويدعو إلى الرذيلة، فتتكلم مع إنسان في هذه القضية فيقول لك: يا أخي! المسلمون يقتلون في مشارق الأرض ومغاربها، وتسفك دماؤهم وتنتهك أعراضهم، وأنت ما زلت تتكلم في هذه الجزئيات! لكن نحن اتفقنا أن موضوع الغناء هو الذي سيناقش، فما دخل قضية قتل المسلمين؟ وهل إذا تركنا الحديث عن الغناء، أو الحديث عن حجاب المرأة المسلمة حلَّت مشاكل المسلمين ورفع الظلم عن المظلومين؟! وكذلك من الموضوعية: عدم النيل من المتحدث، أو اتهامه في نيته، أو الكلام على شخصه، وبعض الناس يقول: مَنْ هذا الإنسان؟ وما هدفه؟ وما تاريخه؟ ومن وراءه؟ وما درجته من العلم؟ وما قدره؟ يا أخي! ما علاقتك بهذا الشخص المتكلم وليكن [س] نكرة من الناس، المهم أن أمامك دعوى وكلاماً قيل، ومطلوب منك مناقشته بالحجة والبرهان، ودع المتكلم جانباً وانظر في نوعية الكلام الذي قيل، وما قدره من الخطأ أو من الصواب: خذ من كلامي ولا تنظر إلى عملي ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري وكذلك ليس من الموضوعية: الاشتغال بالأيمان المغلظة، والله سبحانه وتعالى قد ذم الذين يكثرون من اليمين، فقال تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:10-13] دَعِيٌّ ملصق في أهل العلم وليس منهم، فهوملصق في قوم وهو ليس منهم، ومع ذلك يكثر من الأيمان الكاذبة، أو قد لا تكون كاذبة؛ لكن اليمين ليس بحجة، وكونك تحلف بالله العظيم الذي لا إله إلا هو الغالب الطالب أن هذا هو الحق؛ هذا لا يقدم ولا يؤخر، فقد تكون أنت مقتنع أن هذا هو الحق؛ لكن قناعتك هنا ليس لأنك درسته وعرفت حججه وعرفت أدلته؛ ولكن لأنك تلقيته عن شيخ تعظمه فوقر في قلبك، أو لأنك درسته منذ صغرك فاستقر قراره في نفسك، وليس لأن لديك دليلاً على أنه هو الحق، فقد تكون أنت مقتنعاً قناعة مطلقة بأنه هو الحق فتحلف على ذلك، وأنا أعرف بأنك إذا حلفت تعتقد أنه هو الحق -إذا كان حلفك باراً- ولكن لا يلزم أن يكون هو الحق؛ فقد تكون تراه الحق وتحلف عليه، والواقع أن الحق بخلافه.
وكذلك من الموضوعية: تجنب الكذب في الحديث؛ فأحياناً المناظر يكذب! وقد سمعت مرة اثنين يتناظران في قضية، وأحدهما شيعي، فالشيعي قام وقال: روى الإمام أحمد في مسنده أن: وذكر حديثاً موضوعاً مختلفاً، هذا الحديث لما ترجع إلى الجزء والصفحة لا تجد الحديث- لكن لأنه يعرف أن الخصم ليس عنده وقت حتى يرجع إلى المسند ويتأكد من صحة الحديث، ومن البعيد جداً أن يكون قد أحاط بمسند الإمام أحمد حتى يعرف ما فيه مما ليس فيه، فيستغل الحديث، ويضر الخصم بحديث يختلقه، وينسبه إلى كتاب من هذه الكتب وربما ينطلي عليه، فهذا ليس من الموضوعية في شيء، وإذا لم يكتشف الخصم حال المناقشة فربما يكتشف فيما بعد، ويبين أنك كنت كاذباً فيما ادعيت.
وأخو الكذب -هذا اسمه الكذب لكن هناك شيء اسمه أخو الكذب- هو بتر النصوص كأن تنقل نصاً طويلاً، فتنقل منه الكلام الذي يصلح لك ويدل على ما تريد وتترك الباقي! فهذا ليس من الأمانة، لكن انقل الكلام كاملاً حتى يشاركك الناس فيما استنتجته، فإما أن يقروك أو يقولوا: الكلام لا يفهم، وليس من الضروري أن يكون الكلام يفهم حرفياً، فإن كلامي وكلام فلان وعلان ليس كلام رب العالمين حتى تقول: هذا كلام حروفه وألفاظه كلها مقصودة، وله وله بل هذا كلام بشر يخطئ ويصيب، فهذا أولاً.
الأمر الثاني: أن هذا الكلام مع أنه كلام بشر قد يقوله الإنسان ولا يدرك كل ما وراءه، والكلام يفهم من حال المتكلم ومن سياقه ومن نصوصه الأخرى ومن سيرته، كما ذكر الإمام ابن القيم في مواضع من كتبه، من إن كلام الناس يفهم على ضوء الشخص المتكلم، وظروف المتكلم، وما يعلم عن المتكلم وأحواله، فإذا صدر كلام من شخص عرفنا أنه يحتمل أكثر من معنى، وأن الذي يليق بفلان من المعاني كيت وكيت وكيت وإن كان الكلام يحتمل غيره، لأن كلام الناس يحتمل وجوها.
فمن الموضوعية ألا تبتر النص، وتستخرج فهماً أنت فهمته من الكلام وتقدمه للناس.
كما أن من الموضوعية أنك إذا لم تعرف شيئاً فإنك تقول: لا أدري، وإذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله -كما يقولون- ويجب على العالم أن يعلم تلاميذه وطلابه لا أدري، حتى يلجئوا إليها إذا عجزوا.
ومن الموضوعية: التوثيق العلمي، فإذا استدللت بكلام فلا تستدل بشائعات، أو ظنون، أو أوهام ربما استقلّت في عقلك أو عقل فلان أو علان من الناس!! بل استدل بالإحصائيات، وبالنصوص، وبالأدلة الواضحة -بكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم- وإذا وجدت أقوالاً للعلماء تنقلها بنصوصها أو ما يشبه النصوص فالمهم أنك تستدل بحقائق علمية وتوثق ما تقول، أما مجرد الظنون والأوهام والشائعات فإنها لا تصلح أدلة.(183/37)
احترام الطرف الآخر
الأدب السابع: احترام الطرف الآخر -وهذا سؤال جاء من ضمن الأسئلة- فنحن مأمورون أن ننزل الناس منازلهم، وألا نبخس الناس أشياءهم، فليس نجاح الحوار والمناظرة مرهوناً بإسقاط شخصية الطرف الآخر الذي تناظره، ولا إسقاطك لشخصيته يعني أنك نجحت في المناظرة، بل ربما يرتد الأمر عليك، ويكون هذا دليلاً على عجزك وإفلاسك، وأنك لا تملك الحجة فاشتغلت بالمتكلم عن الكلام.
والناس اليوم تعي وتعرف وتعقل، ولو أنك أسندت قولاً من الأقوال الباطلة الزائفة حيناً من الزمن بالتهويش والتشويش واللجاج والترويج؛ فإن هذا القول الذي لا يسنده الحق سرعان ما ينهار ويتهاوى بمجرد غفلة الساعين به، أو انشغالهم عنه فيموت وينساه الناس.
ولهذا كان من صفة النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي في كتاب البر والصلة، ورواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان وابن أبي شيبة والحاكم وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليس المؤمن باللعان، ولا بالطعان، ولا بالفاحش، ولا بالبذيء} فليس المؤمن باللعان، ولا بالطعان في الناس وأعراضهم ونياتهم ومقاصدهم، وأحوالهم، ولا بالفاحش ولا بالبذيء.
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: {لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً} فهذا حال النبي صلى الله عليه وسلم في صفته، وهذا كلامه في وصف المؤمن أنه لا يحب الفحش ولا التفحش.
ومن بديع احترام رأي الآخرين ما ينقل عن الإمام مالك أنه لما ألف الموطأ ومكث أربعين سنة يؤلفه، وقرئ عليه آلاف المرات، وعرضه على سبعين من العلماء فأقروه عليه وتعب عليه أيما تعب، ومع ذلك لما بلغ الخليفة المنصور كتاب مالك أعجبه، وقال: إنا نريد أن نعممه على الأمصار ونأمرهم باتباعه، فقال له مالك: لا تفعل رحمك الله، فإن الناس سبقت منهم أقاويل وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم -يعني قد يسبق إليهم شيء ليس هو الحق فيأخذون به، ويصعب تغييرهم عنه، وهي أمور اجتهادية ليس فيها نصوص قطعية- قال: فدع الناس وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم.(183/38)
ترك التعصب لغير الحق
الأدب السادس: هو ترك التعصب لغير الحق، فلو حاورت إنساناً فتناول معهداً تعمل فيه، أو مقالة كتبتها، أو كتاباً ألفته، أو محاضرة ألقيتها، أو تناول جهة تحسب أنت عليها بالانتقاص والسب وتتبع الأخطاء، فإياك أن تتعصب لهذا الشيء الذي تنتمي إليه، وتنتسب إليه، أو ترتبط به، وتبادر بالرد، أو أن تقوم بتقديم كشف بالإيجابيات والحسنات في مقابل الكشف الذي قدمه هو بالأخطاء والسلبيات.
ولكن عليك أولاً أن تدع زمام الحديث بيده حتى ينتهي كما اتفقنا قبل قليل.
ثانياً: اعترف بصوابه فيما أصاب فيه، والحق ضالة المؤمن كما سبق.
ثالثاً: إذا انتهى فانقد الخطأ بطريقة علمية بعيدة عن العواطف.
وما أعز وأصعب وأندر أن يتخلص الإنسان من التعصب! أي لون من ألوان التعصب؛ فإن الحزبيات قد أثرت في المسلمين تأثيراً كبيراً جداً، فمثلاً يتعصب الإنسان أحياناً لمذهب من المذاهب مالكياً، أو شافعياً، أو حنبلياً، أو حنفياً أو غير ذلك، أو يتعصب لمذهب سياسي، أو يتعصب لوطن أو بلد معين، أو يتعصب لدعوة أو جماعة من جماعات الدعوة، وهذا ما يسمى بالحزبية، بحيث يحيط الشيء بعقله، فلا يملك عقلاً متحرراً من القيود والأوهام، بل تجده في فلك معين، ولا يستطيع أن يتقبل الحق إلا في إطار محدود!(183/39)
البدء بمواضع الاتفاق والإجتماع
الأدب الخامس: البدء بمواضع الاتفاق والإجماع، والبدء بالمسلمات والبدهيات، فمن المصلحة ألا تهجم على قضية مختلف عليها، بل ابدأ بموضوع متفق عليه: بقاعدة كلية، بمسلمة أو بدهية، وتدرج منها إلى ما يشبهها أو ما يقاربها، ثم إلى مواضع الخلاف، ومما يذكر عن سقراط وهو أحد حكماء اليونان أنه كان يبدأ الآخرين بنقاط الاتفاق بينهما، ويسأله أسئلة لا يملك الخصم إلا أن يجيب عليها: بنعم، فكلما ما سأله قال: نعم، ويظل ينقله إلى الجواب تلو الجواب، حتى يرى المناظر أنه أصبح يقر بفكرة كان يرفضها من قبل.
وأضرب لك مثالاً على قضية الانتقال من الكليات إلى الجزئيات، ومن المسلمات إلى غير المسلمات: مثلاً يخاصمك إنسان في قضية أساليب الدعوة إلى الله تعالى، وهل هذه الأساليب أساليب توقيفية -أي: أنه لا بد أن يكون هناك نص على أسلوب الدعوة- أم أنها أساليب اجتهادية متجددة يمكن الأخذ بأي أسلوب ولو لم يكن منصوصاً عليه إذا لم يكن هذا الأسلوب حراماً.
ومثاله الأناشيد: فقد يقول قائل: الأناشيد أسلوب من أساليب الدعوة، ويقول آخر: لا، أساليب الدعوة توقيفية، والأناشيد لم ترد في الكتاب ولا في السنة، فلا يجوز استخدام الأناشيد كأسلوب من أساليب الدعوة، وهذا يختلف فيه بعض العلماء وبعض الدعاة في هذا العصر، ويتحاورون فيه وفي رأيي أنه يمكن أن تبدأ بهذا السؤال في نقاش حول موضوع الأناشيد -موضوع جزئي شكلي ليس هناك مانع لكن للإيضاح فقط- تبدأ بهذا
السؤال
لو أن إنساناً أنشد نشيداً ليس في معصية، ولا في باطل محرم، وليس فيه دف ولا مزمار ولا غيره، وهذا الكلام أنشده على سبيل الترويح عن النفس، أو قطع عناء الطريق في سفر؛ فهل يحرم هذا أو لا يحرم؟ فسيقول لك الطرف الآخر: لا يحرم هذا، ثم تنتقل وتسأله سؤالاً آخر: هل يوجد شيء في الشريعة يكون مباحاً غير حرام بشرط عدم إصلاح النية فيه؟ فإذا صلحت النية كان هذا الشيء حراماً؟ سيقول لك: لا.
إذاً: أنت ناقشته في موضوع الأناشيد، فبدأت معه بنشيد ليس فيه إثم ولا كلام باطل ولا دف ولا غيره، وهل يجوز أم لا يجوز للمؤانسة أو للترويح عن النفس؟ قال: نعم يجوز، ثم تنتقل إلى سؤال آخر: هل يوجد في الشرع شيء يمكن أن يكون مباحاً بشرط عدم إصلاح النية، فإذا صلحت النية كان حراماً؟ سيقول لك: لا، لأن صلاح النية إذا لم يجعل الحرام حلالاً فمن باب الأولى أنه لا يجعل الحلال حراماً.
إذاً: فمن أين لك أن قراءة بعض الأناشيد بنية صالحة بهدف إشغال الناس عن الغناء المحرم، أو رفع معنوياتهم، أو تلقينهم الحكم والمعاني الرفيعة أن هذا العلم يكون حراماً؟ وقد يقول بعض الناس: إن هذه عبادة، والعبادة توقيفية، فيقول: من أين لك أن هذا داخل في باب العبادة التي هي القربى؟! فالعبادة أنواع: فقد تطلق العبادة على العبادات التوقيفية التي هي القرب: كالصلاة والحج فصفة الصلاة أو صفة الحج أو إحداث صلاة جديدة؛ هذا لا يجوز، لأن الصلاة توقيفية وقربة محضة إلى الله تعالى، لكن هناك أعمال أخرى يمكن أن يكون الإنسان مأجوراً عليها ولا يطلق عليها أنها قربة محضة إلى الله تعالى، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {وفي بضع أحدكم صدقة} وليس معنى ذلك أن جماع الإنسان لزوجته يكون عبادة بذاته، لكن يؤجر عليه الإنسان، وليس قربة محضة إلى الله عز وجل.
وبالمناسبة لا بد من ضوابط الأناشيد بطبيعة الحال؛ مثل عدم الإكثار منه، ومثل كونه ليس فيه معانٍ سيئة، وألا يكون مصحوباً بآلات محرمة مثلاً، إلى غير ذلك.(183/40)
أدب الإنصاف
الأدب الرابع الإنصاف: فعليك أن تكون الحقيقة ضالتك المنشودة، فتبحث عنها في كل مكان، وفي كل منعطف، وفي كل زاوية، وفي كل ناحية، وفي كل عقل، تبحث عن الحقيقة، وجرب نفسك ولا تبال بالناس رضوا أم سخطوا.
فكن باحثاً عن الحقيقة، وليعلم ربك من قلبك أنه ليس في قلبك إلا محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب الحق الذي يحبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلتستخلص الحق من خصمك، ولو من بين ركام الباطل الكثير الذي ربما جاء به، وربما أجرى الله تعالى كلمة الحق على لسان الفاسق، أو على لسان الكافر أحياناً، ويمكن أن تستفيد من المحاور حينما يكون فاسقاً أو كافراً، عيباً موجوداً عندك، أو موجوداً عند المسلمين، أو تستفيد منه مصلحة دنيوية للمسلمين، أو تستفيد منه أسلوباً من أساليب الدعوة إلى الله تعالى ربما فطن له وغفلت عنه! ويقول الشيخ عبد الرزاق عفيفي حفظه الله كلمة حكيمة جميلة: إن الذين -يعبر عن رد الحق عند كثيرين من المحاورين- لديهم ذكاء حاد لا يقبلون الصواب إلا إذا كان من عند أنفسهم، وذلك أن الله تعالى أعطاهم قدرات وطاقات عالية وفقوا بسببها إلى كثير من الحق الذي أخطأ فيه الناس، ولذلك لديهم من الثقة بآرائهم وعدم الثقة بآراء الآخرين ما يصعب معه على الناس إقناعهم بغير الآراء التي يرونها هم.
إن الاعتراف بالحق وإعلانه أيضاً لا ينقص من قيمة الإنسان؛ فكونك تقول ولو في مناظرة، أو محاورة، أو محاضرة: أنا أخطأت في كذا، هذا لا يعيبك، بل بالعكس هذا يرفع منزلتك عند الناس، ويدل على شجاعتك وقوتك، وثقتك بنفسك.(183/41)
حسن الإصغاء
الأدب الثالث من آداب الحوار: حسن الاستماع والإصغاء: أيها الحبيب: فن الإصغاء إلى الآخرين قلَّ من يجيده، وأكثرنا نجيد الحديث أكثر مما نجيد الاستماع، والله تعالى جعل لك لساناً واحداً وجعل لك أذنين، حتى يكون ما تسمعه أكثر مما تتكلم فيه، فلا بد أن تسمع جيداً، ولا بد أن تستوعب جيداً ما يقوله الآخرون وبين قوسين أذكر نكتة ذكرناها في دروس بلوغ المرام أكثر من مرة، لكن لا مانع أن نُطرف بها الحضور، وهي عن علي بن أبي طالب، فهو يحث تلميذه على الاستماع إليه والإنصات إليه، فيقول له كلمة فيها غرابة لغوية: [[ألصق روانفك بالجبوب، وخذ المزبر بأباخسك، واجعل جحمتيك إلى أثعباني حتى لا أنبس بنبسة إلا أودعتها بحماطة جنجنانك]] فهذه كلمة غريبة سألوا عنها الفيروز أبادي وهو بالروم قالوا: ماذا قصد علي رضي الله عنه بكلمته تلك؟ قال: يقصد رضي الله عنه أنه يقول: ألزق عضرتك بالصلة، وخذ المسطر بشناترك، واجعل حندرتيك إلى قيهلي، حتى لا أنغي نغية إلا أودعتها في لمظة رباطك.
والمعنى انتبه إلي، واجعل عيونك في فمي، وأنصت إليَّ، فلا أتكلم بكلمة إلا فهمتها ووعيتها بقلبك.
من لي بإنسان إذا أغضبته وجهلت كان الحلم رد جوابه وإذا صبوت إلى المدام شربت من أخلاقه فسكرت من آدابه وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به ويقول أحد الشعراء: إن بعض القول فن فاجعل الإصغاء فنا فضع أذنك للمحدث، وحملقة عينيك بوجهه، وتأملك لما قال يمكن أن يكون دليلاً على قوتك وقدرتك على الحوار، وإذا وجدت ملاحظات فيمكن أن تسجلها في ورقة لتتحدث بها بعدما ينتهي من حديثه.
وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فربما تحدث معه بعض المشركين بكلام لا يستحق أن يسمع، فأصغى النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يده حتى إذا انتهى هذا الرجل وفرغ ما عنده، قال له صلى الله عليه وسلم: {أو قد فرغت يا أبا الوليد؟ -كما في سيرة ابن إسحاق وغيره- قال: نعم، فقل: فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من القرآن} فعليك أن تصغي، ولو كان لك ملاحظات تسجلها ثم تقولها بعد.(183/42)
حسن المقصد
الأدب الأول: حسن المقصد، وليس المقصد في الحوار العلو في الأرض ولا الفساد ولا الانتصار للنفس، ولكن المقصود -كما سبق- الوصول إلى الحق، أو الدعوة إلى الله عز وجل، فيعلم الله تعالى من قلب المحاور أنه لا يهدف إلا إلى ذلك، فلا يهدف إلى الانتصار، ولا إلى أن يتحدث في المجالس أنه أفحم خصمه بالحجة، فيحتمل أن يكون الخطأ عندك والصواب عند غيرك، فالله تعالى لم يحابك ويختصك دون بقية خلقه بالعلم والفهم والإدراك والعقل: جاء شقيقٌ عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح فإذا كان عندك حق فعند غيرك حق، وقد يكون عندك حق كثير وعنده حق قليل، وقد يكون العكس، فيكون الإنسان طالباً للحق حسن النية، وليس هدف المحاور وهو يسمع كلام خصمه أنه متى يسكت حتى يرد عليه، بل عليه أن يكون هدفه الحقيقة والوصول إليها، ولهذا كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: ما ناظرت أحداً إلا وددت أن الله تعالى أجرى الحق على لسانه، وهذه هي أخلاق أتباع الأنبياء: ما ناظرت أحداً إلا وددت أن الله تعالى أجرى الحق على لسانه، وبعد ذلك أنصرف.
وأقول: سلَّمتُ ووافقت ولا داعي للحوار والمناقشة، وما قلته هو الصحيح وأنا أُسلِّمُ لك وأبصم على ما ذكرت.
وهذا هو الإخلاص، وهذا هو التجرد، وليست القضية أكثر من هذا.(183/43)
التواضع بالقول والفعل
الخلق الثاني: التواضع بالقول والفعل، وتجنب ما يدل على الغرور والعجب والكبرياء، فبعض الناس إذا حاور شخصاً أو حادثه تجد أنه أعرض ونأى بجانبه وازور، فلا يلتفت إلى خصمه ولا ينظر إليه، بل هو قد أعطاه جنبه إشارةً إلى سخرية أو عدم اكتراثه به، وربما بان على قسمات وجه الإنسان، أو حركة حاجبيه أو عينيه أو شفتيه أو وجهه ما يدل على السخرية والاستكبار، والاستهتار بقول الطرف الآخر، بل ربما يزم شفتيه، أو لوى عنقه، أو ما أشبه ذلك، أو أشار بطرف عينه إشارات تعبر عن السخرية والازدراء.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في الصحيح من حديث ابن مسعود -: {الكبر بطر الحق، وغمط الناس} فهذا كله من الكبر، فمن التواضع أن تقبل الحق ممن جاء به، حتى ولو كان أعدى أعدائك وأعدى أعداء مذهبك.
وأنت عليك أن تقبل الحق إذا جاء به، وتعتبر ذلك ضالتك المنشودة، فأنت باحث عن الحقيقة أنى وجدتها فأنت أحق بها.
ومن التواضع أيضاً ترك الألفاظ الدالة على الأستاذية والتعالم والكبرياء، والشعور بالنفس وازدراء ما عند الآخرين، وبعض الناس إذا تكلم أو حاور تجده كثيراً ما يقول: أنا، عندي، قلت، أرى، والذي يخطر ببالي، تجربتي تثبت كذا! وقد ذكر الإمام ابن القيم وغيره من أهل العلم أن إبليس هو الذي قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} [الأعراف:12] فأنا هذه المتعاظمة الرادة للحق هي من إبليس، وقارون هو الذي قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] فالذي يقول عندي وهو ليس أهلاً لذلك فهو شبيه بـ قارون، وهكذا فرعون وسائر المستكبرين الذين تعاظموا أنفسكم وردوا الحق.(183/44)
أمثلة للحوار الهادف
وهذه أخيراً أمثلة للحوار أذكرها باختصار.(183/45)
حوار إسحاق مع الشافعي وأحمد
فهناك حوار بين إسحاق بن راهويه رحمه الله إمام من أئمة أهل الحديث والشافعي وأحمد، يقول إسحاق: إن الإمام أحمد كان في مكة، وقال لي لماذا لا تذهب للشافعي وتستفيد منه؟ قلت له: كيف أترك ابن عيينة والمشايخ وأذهب إلى الإمام الشافعي!! قال: إنه يفوت وهم لا يفوتون، قال: فذهبنا إليه وتناظرنا في كراء بيوت مكة وهل تملك أو لا تملك، وهل تكرى أو لا تكرى؟ قال: فتكلمت مع الشافعي وتحمست ولكن الشافعي كان متساهلاً، فتكلمت بالفارسية مع رجل بجنبي، ذكر كلمة بالفارسية معناها هذا ليس له كمال، قال: فعلم الشافعي أني أسبه وإن كان لا يجيد اللغة الفارسية، فقال: هل تريد أن تناظرني؟ قال: من أجل المناظرة جئت، قال: أرأيت قول الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر:8] أليس الله نسب الديار إلى أربابها أو إلى غير أربابها؟ قال: قلت بل إلى أربابها، قال: عمر لما اشترى دار السجن بمكة اشتراها من إنسان يملكها أو لا يملكها؟ قال: ممن يملكها، قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: {وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور} الدور لهم أو ليست لهم؟ قال: لهم، قال إسحاق: فقلت: الدليل على صحة قولي أنه قال به من التابعين فلان وفلان، قال: فالتفت الشافعي إلى رجل بجنبه وقال: من هذا؟ قال له: هذا إسحاق بن راهويه قال: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم؟ قلت: هكذا يزعمون! قال: ما أحوج أن يكون غيرك في مكانك! فآمر بعرك أذنك -هذا أدب يؤدب به الطالب الصغير- أقول لك: قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: قال: عطاء وطاوس والحسن وإبراهيم وهل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟ والقصة في طبقات الشافعية.
ومثلها قصة أخرى طريفة بحضرة الإمام أحمد وهو أن الشافعي وإسحاق تناظرا أيضاً في جلود الميتة إذا دبغت، هل تطهر أو لا تطهر؟ فقال الشافعي: دباغ جلود الميتة طهورها -أي: إذا دبغ جلد الميتة طهر- قال إسحاق: ما الدليل؟ قال: الشافعي: حديث ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم: {مر بشاة يجرونها، فقال: هلا انتفعتم بجلدها} وهي ميتة، قال إسحاق: دليلي على أن جلود الميتة لا تطهر حديث عبد الله بن عكيم {أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قبل أن يموت بشهر: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب -يعني جلد- ولا عصب} وهذا يمكن أن يكون ناسخاً، لأنه قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهر، قال الشافعي: هذا كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم وذاك سماع، والسماع مقدم، فقال له إسحاق: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم، وكان ذلك حجة عليهم أمام الله تعالى، فسكت الشافعي.
والغريب في الأمر أن أحمد بن حنبل ذهب بعد تلك المناظرة إلى حديث عبد الله بن عكيم وقال به ثم رجع عنه فيما بعد، وكذلك إسحاق رجع إلى حديث الشافعي أن جلود الميتة تطهر وقال به، وهذا دليل على تجردهم وسعيهم إلى الوصول إلى الحق.(183/46)
حوار ابن شاذان مع رجل شيعي
من طرائف المناظرات؛ أن أبا علي بن شاذان وهو فقيه وعالم، ولكنه ضعيف في اللغة العربية -ضعيف في النحو- ناظر أحد الشيعة حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: {نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة} فقال أبو علي بن شاذان: هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث، فقال ذلك الشيعي: إن الحديث: {ما تركنا صدقة} فصدقة مفعول به منصوب، والمعنى أن ما تركناه نحن الأنبياء من الصدقات فإنه لا يورث.
أما بقية مالنا مما لم يخصص للصدقة فإنه يورث، فقال أبو علي بن شاذان: أنا والله لا أعرف النحو، ولا أعرف اللغة، ولا أعرف المرفوع والمنصوب، والفاعل والمفعول، لكني أعرف شيئاً، هو أن هذا الحديث قاله أبو بكر رضي الله عنه واحتج به، وهو عربي فصيح، يعرف اللغة العربية، واحتج به على علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين، وكلهم أقروا أبا بكر على ذلك وسكتوا ولم يطالبوا، ولم يقولوا الكلام الذي قلته أنت، فدل على أنهم وهم عرب فصحاء فهموا من الكلام مثلما فهم أبو بكر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بهذا الحديث أن الأنبياء لا يورثون.(183/47)
الأسئلة(183/48)
حكم الإكثار من المناقشة والجدل
السؤال
هل نكثر من المناقشة والجدل؟
الجواب
لا، الجدل كثيراً لا يأتي بخير، اللهم إلا أن يكون مجادلة بالتي هي أحسن، وبقدر الحاجة، وبهدف الوصول إلى الحق، أما كثرة الجدل فإنها ضرر على الإنسان، وربما صارت سجية وطبيعة له بالإكثار والاسترسال في الحديث، وإنما يكون الكلام أنه إذا حصل عند الإنسان مجال حوار أو مناظرة مع منحرف، أو ضال، أو جاهل، أو عدو للإسلام أو حتى مع طالب علم في مسألة علمية؛ أن يلتزم الإنسان بهذه الشروط وهذه الضوابط، وإنما تحدثت عنها لكثرة الإخلال بها لدى كثير من المسلمين، بل من أهل السنة بل من طلبة العلم، أو من ينسبون إلى طلبة العلم.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(183/49)
من يحمل هم الإسلام
الإسلام قضية عادلة، ودين حق وما سواه باطل، ولكن كأن هذه القضية العادلة بيد محام فاشل، ولذا فلابد من الوعي، ومحاسبة النفس والمجتمع والأمة عن قضية الإسلام، وهنا تجد مناقشة واضحة ودعوة واضحة لتبني قضية الإسلام.(184/1)
حالة المسلمين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أحبتي الكرام هذا هو الدرس السادس والثلاثون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه هي ليلة الإثنين التاسع من شهر صفر لعام (1412هـ) .
أين من يحمل هم الإسلام؟(184/2)
كثرة الداخلين إلى الإسلام
كثيراً ما تطالعنا الصحف والجرائد والنشرات بذكر أخبار أو أرقام لأولئك الذين دخلوا حديثاً في الإسلام من كافة الجنسيات والديانات والبلدان، وهذا لا شك من المظاهر التي تدل على قوة هذا الإسلام وثباته ونمائه، فعلى رغم تأخر أهله وتخلفهم في كثير من المجالات، وعلى الرغم من الكيد المنظم والمدبر من قبل أعدائه، إلا أن الذين يقبلون على هذا الدين ويدخلون فيه جمع غفير.
وقد كُتب لي أن أَمرَّ ببعض المراكز؛ فكانوا يتحدثون أن الذي يُسْلِم في مركز واحد خلال أسبوع، أحياناً ما يزيد على ثلاثين ما بين رجل وامرأة، ممن اجتذبهم الإسلام إليه بنقائه وصفائه ونوره، فهو دين الله عز وجل في الأرض، السالم من كل تغيير أو تحريف أو تبديل.(184/3)
تأخر المسلمين أنفسهم
أيها الأحبة: إننا لا نجد أبداً أخباراً تتحدث عن أعداد قلت أو كثُرت من المسلمين الذين هم مسلمون أصلاً ولكنهم تقدموا في إسلامهم من كونهم مسلمين بالوراثة والتقليد إلى كونهم مسلمين عن حقيقة واقتناع، ومن كونهم مجرد أرقام إلى كونهم شخصيات تعمل للإسلام وتحمل هم الإسلام، وهذه مفارقة مهمة.(184/4)
المسلم ثروة مهدرة
أيها الأحبة إننا كثيراً ما نسمع أو نقرأ، عمن يتحدث عن الثروات المهدرة من الأموال الطائلة في بلاد المسلمين، ولكننا لا نكاد نسمع أو نقرأ من يتحدث عن أغلى ثروة مهدرةٍ على الإطلاق، ألا وهي ثروة الإنسان، فالإنسان هو الذي يستطيع الحصول على المال، ويبني الحضارات، ويشيد المباني الفخمة، ويُعبِّد الطرق، ويبني الجسور، وهو الذي يحمل المبدأ، ويدافع عنه، ومع ذلك تجد الحديثَ عن الإنسان كثروة مهدرة تجده قليلاً، بل أقل من القليل، خاصة في عالم الإسلام وفى وسط أمة المسلمين.(184/5)
أصناف طوائف المسلمين
أيها الأحبة إن المسلمين القُدامى -وأعنى بهم أمة الإسلام التي هي مسلمة أصلاً وليسو داخلين في الإسلام حديثاً فقط- إن المسلمين القدامى فيهم أدواء تحتاج إلى مبضع الجراح، وفيهم مصائب وآلام ونكبات، يعجز عنها الحصر، وقد تأملت في أحوالهم فرأيت أننا يمكن أن نصنف هؤلاء المسلمين إلى أربع طوائف تقريباً:(184/6)
طائفة الأمل لهذه الأمة
أما الفئة الرابعة، وهم الأمل المرجو بعد الله عز وجل في إنقاذ هذه الأمة مما تعيشه، فهم أولئك الذين حققوا جزءاً كبيراً من انتسابهم لهذا الدين، من أهل العلم والفقه والإصلاح والدعوة إلى الله عز وجل، وهم بحمد الله كثير، وفيهم خيرٌ كثير لهذه الأمة، هؤلاء هم الذين يرجى أن يكتب الله تعالى على أيديهم إنقاذ هذه الأمة مما تعيش فيه، وهم الذين يرجى أن يكتب الله على أيديهم أن يُحيوا تلك الطوائف من المسلمين الذين لم يحققوا انتسابهم لهذا الدين، وهم الذين بإذن الله تعالى ينفخون روح الإيمان والأمل والعمل في هذه الأمة، وقد تحدث عنهم واحد منهم، فقال يصف الصورة المثالية لهم: قُلوبهم طهرٌ يفيضُ على الورى وأيديهم تأسو جِراحَ الخوافقِ هُم السلسل الصافى على كل مؤمنٍ وفى حومة الهيجاءِ نار الصواعقِ هُم الحلمُ الريان في وقدة الظما وليس على الآفاقِ طيفُُ لبارقِ هُم الأملُ المرجو إن خاب مأمل وأوهنَ بعد الشوط صبر السوابقِ كأني أراهم والدُنا ليست الدنا صلاحاً ونور الله ملء المشارقِ أقاموا عمود الدين من بعد صدعه وأعلوا لواء الحقِ فوق الخلائقِ(184/7)
طائفة الانسلاخ والاغترار بالحضارة
وممن ينتسبون إلى هذه الأمة، ويعدون على الأقل في الإحصائيات الرسمية جزءاً منها، أولئك الذين انسلخوا عن حقيقة انتسابهم لهذا الدين، وتخلوا عن ولائهم لهذه الأمة، وأعجبهم ما فتح الله تعالى على العدو الكافر من زينة الحياة الدنيا وزهرتها، فتعلقت قلوبهم بأعداء الدين، وتخلوا عن حقيقة انتسابهم لهذه الأمة، فهم وإن كانت ثيابهم ثياب العرب، وألفاظهم ألفاظ العرب، إلا أن قلوبهم قلوب الأعاجم، وفى مثل هؤلاء يقول القائل: رُسل الفسادِ وما حلوا وما رحلوا إلا وكانوا به أعدى من الجربِ ألفاظهم عرب والفعل مختلف وكم حوى اللفظ من زورٍ ومن كذبِ إن العروبة ثوبٌ يخدعون به وهُم يرومون طعن الدين والعربِ واحسرتاه لقومي غرهم غرم سعى إليهم بِجلدِ المنقذ الحَدِبِ حتى إذا أمكنته فُرصةٌ برزت حُمرُ المخالبِ بين الشكِ والعجبِ والمدعون هوى الإسلامِ سيفهمُ مع الأعادي على أبنائه النُجُبِ يُخادِعون به أو يتقون به وما له منهم رِفد سِوى الخُطَبِ فهؤلاء رُبما تكلم الواحد منهم باسم الإسلام، وربما وضع اسم الله في ضمن كلامه، وربما تكلم عن الدين، ولكن حقيقته أنه يبث سموم الغرب في بلاد المسلمين، ويحمل أفكاراً غريبة عن هذه البلاد، فهؤلاء لا شك أنهم منسلخون عن هذه الأمة وعن روحها وجسمها وتاريخها، ولكنهم لا يستطيعون أن يجاهروا بمذهبهم هذا، ولا بموقفهم، بل يتمسحون بالإسلام تقيةً أو مداراةً أو مداهنة، وربما يجدون من يصدقهم في ذلك.(184/8)
طائفة اليأس والقنوط
فمن هؤلاء المسلمين من يكون يائساً قد انقطعت حباله، فهو لا يفتأ يردد ليل نهار الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان غربة هذا الدين، وأنه بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، أو تلك الأحاديث التي تتكلم عن العزلة واعتزال الناس والبعد عنهم، وربما قال أحدهم: هذا أوان قوله صلى الله عليه وسلم: {أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك} فإذا سمع هذا المسلم اليائس القانط أخباراً عن المنكرات التي تقع هنا أو هناك، أو المصائب التي تنزل بالمسلمين؛ فإنه يكتفي بأن يحوقل أو يحسبل أو يسترجع، ولا يتعدى أمره ذاك.
ولاشك أن ذكر الله تعالى مشروع في كل حال، فـ (لا حول ولا قوه إلا بالله) هي من أعظم الأسلحة التي يستعصم بها المسلم في وجه اليأس والقنوط، فإنه حين يقول: (لا حول ولا قوه إلا بالله) لا يردد كلاماً فحسب، بل هو يتلو دعاءً من كنز تحت العرش، يدله على أنه ينبغي أن يعتصم بالله عز وجل، ويستمد القوة من الله تعالى في مواجهة الواقع وتغييره إلى الأحسن، كما أنه ينبغي أن يدرك أن التحول من واقع سيء كالمعصية والفجور والإثم، إلى واقع حسن بالطاعة والبر والإيمان، لا يكون إلا بعون الله تعالى ونصره وتأييده.
فهذه طائفة من المسلمين تعيش اليأس والقنوط.(184/9)
طائفة الارتباط بالدنيا وضعف الارتباط بالله
وإلى جوار الطائفة الأولى هناك طائفة أخرى ممن انصرف الواحد منهم إلى دنياه، وأغرق في همومه الشخصية، فكل ما يحلم به هذا الإنسان وما يعنيه، هو أن تنفق تجارته، أو أن ترتفع رتبته، أو أن يزيد مرتبه، أما أن يكون همه أن ينفع المسلمين بجاهٍ أو مالٍ أو غير ذلك فهذا بعيد، وكل ما قد يردده على أحسن الأحوال أن يقول: أنا ربُ الإبل وللبيت ربٌ يحميه، إذاً لم يعد من همّ هذا الإنسان قضية الإسلام والمسلمين، أو تقديم نفعٍ لهم، وإنما كل همّه لا يتعدى مصالحه الشخصية، وهمومه الذاتية.
وهؤلاء قد يكون الواحد منهم مُصلياً، وقد يكون صَائماً، وقد يسمى بالحاج فلان كما نرى في كثير من البلدان، وربما كان الدين عند أحدهم لا يعدو أن يكون حرزاً يعلقه على رقبته، أو يضعه في وسادته، أو حضور مأتمٍ، أو حضور مولدٍ، كما هو موجود في كثير من البلاد، ويعتقد أن الدين يتوقف ويقتصر عند هذا الحد، ولا شك أن هؤلاء يشكلون الأغلبية الساحقة من المسلمين، ممن هم مسلمون بالانتساب والانتماء، وربما كان أحدهم مصلياً، لكن لا تعتمل في قلوبهم هموم الإسلام، ولا تتحرق نفوسهم لقضايا المسلمين، بل أحدهم يكتفي بأقل قدر يضمن له اسم الإسلام، وربما قصّر في أقل هذا القدر أيضاً، فربما لم يصل الصلوات الخمس، أو لم يصلها في المسجد، ولو كان يقول إنه محب لله عز وجل.
حدثني أحد الإخوة الأحباب، وقد اتصل بي فكان من ضمن حديثه أن قال: إن علاقتي بالله عز وجل علاقة قوية جداً، فقلتُ له: الحمد لله رب العالمين وهذه بشارة، وخلال حديثه قال: إنه قد يصلي بعض الصلوات، وقد تفوته فروض أخرى، فقلت: تفوتك في المسجد أو تفوتك بالكلية؟ قال: لا قد أُفوِّتُ الوقت بالكلية فلا أصلي، فقلت: كيف تكون علاقتك بالله تعالى جيدة، ويفوتك وقت أو أوقات!! يا أخي خُذ مقاييس البشر الدنيوية، فعندما يكون هناك علاقة حب بين إنسان وإنسان آخر، فيطلب هذا المحبوب من حبيبه أن يكون في وقتٍ معين في مكان معين، فإنه يتحمل في سبيل طاعة محبوبه آلام الحر والبرد، وبعد المسافات والهجير، وغير ذلك، فكيف بمن يحب الله تعالى كيف لا يتحمل في سبيله؟! أليس الله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] ؟ فهذه هي آية المحنة التي يمتحن الله تعالى ويبتلى بها من يدَّعون محبته؛ ليتحقق لهم هذا الحب من خلال الأعمال التي يقومون بها لتصديق هذا الحب.
ومما يذكر في الأقاصيص: أن رجلاً من أهل مصر في زمن غابر كان يجلس في المجالس، ويقف في المساجد، ويعلن ليل نهار، أنه يفنى في حب ملك مصر، يموت في حبه ويهلك في سبيله، وكانت هذه الدعوة قد ملأت فمه، فهو يرددها صباح ومساء، فترامى خبر هذا الإنسان إلى ملك مصر فدعاه، وقال له: أنت الذي تدعي أنك تحبني؟ قال له: نعم، قال: هل حبك حقيقة أم ادعاء؟ قال لا، هذا الحب حقيقة، قال: إذاً أنا سأخيرك بين أمرين إن كنت تحبني، إما أن تُغادر هذا البلد الذي أسكن فيه وهو مصر، وإما أن أقتلك، فاختر أحدهما؟ فقال: لا، بل أغادر هذا البلد.
قال: فاخرج من عندي فلما خرج أمر السلطان الحارس أن يقتله بسيفه، وهنا قام الحارس وثار، وقال: لماذا أقتل رجلاً في غير جرم؟ فقال: لا، بل أجرم في حقي، لأنه يدعي حبي وهو كاذب؟ قال كيف عرفت أنه كاذب؟ قال: إنه لو كان محباً صادقاً لي، لرضي أن يُقتل على أن يفارقني، ويغادر بلدي، ولاستحلى واستلذ الصعب من أجلي، ولو وافق على أن أقتله لنزلت عن عرشي ووضعته مكاني، وسلمت له مقاليد الأمور!! فهكذا مقاييس البشر، فما بالك بمن يدَّعي محبة الله تعالى، فلابد أن يحقق هذا الحب بالعمل الصالح الذي يقوم به.
إذاً هذه طائفة أخرى من المسلمين، ممن يلتزمون بقدر من الدين ويفرحون بالانتساب إليه، وقد يؤذيهم أن ينال أحدٌ دينهم بسوء؛ لكنهم لا يقدمون لدينهم عملاً يذكر.(184/10)
مظاهر برودة الإحساس عند المسلمين
أحبتي الكرام إن الواقع الغالب على أمة الإسلام بكل طوائفها وأشكالها، وأقول -بكل أسف- حتى تلك الفئة المختارة التي هي الصفوة، تشترك إلى حد كبيرٍ في هذا الواقع؛ إن الواقع الغالب على أمة الإسلام؛ أنها تعيش قدراً كبيراً من جمود القلب، وبرودة الإحساس، فأنت قد تُجالس عالماً، أو طالب علم، أو فقيهاً، أو داعيةً، ولكنك لا تشعر بحرارة القلب، لا تشعر بالتوتر لهذا الدين، لا تشعر بقلب يحترق للإسلام والمسلمين، تجد كثيراً من البرود والجمود وخمول الإحساس عند هؤلاء، الحرقة التي تغلي في القلوب، إن لم تكُن قليلة فهي أقل من القليل، قال الشاعر: وقد كانوا إذا عُدوا قليلاً فقد صاروا أقلَّ من القليل هذا الخمود في أحاسيس المسلمين، يتجلى في مظاهر كثيرة، لو تأملها واحد منكم لوجدها فيمن حوله لا تكاد تخطئها عين، فمثلاً:(184/11)
نتائج برودة الإحساس عند المسلمين
برودة الإحساس لا يجوز ولا يليق، وهو يدل على ضعف التعاطف الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء} أين التراحم؟ أين التواد؟ أين التعاطف؟ أين الجسد الواحد؟ أين البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً؟ هذه أصبحت -مع الأسف الشديد- أشبه ما تكون بالأحلام، وأصبح -والله- الأمر كما قال أحدهم: على بعضهم بعضاً أسوداً أشدةً وحولكِ أقصاهم نعامةُ فدفد فأما على إخوانه المسلمين فهو شجاع، يمتطي صهوات المنابر أو الكتب أو المجالس ولا يبالي، أما على الكفار فهو أذل من الأَمَةِ.
حضر رجل عند عبد الله بن المبارك فتكلم في أحد إخوانه المسلمين، فقال له عبد الله بن المبارك: هل غزوت الفرس؟ قال: لا، قال: هل غزوت الروم؟ قال: لا، قال: هل غزوت الهند والسند؟ قال: لا، قال: أفسلمت منك فارس والروم والهند والسند، وما سلم منك أخوك المسلم! هذه مصيبة، أننا إذا عجزنا عن مواجهة الواقع المرير، فإننا قد نشتغل بأخطاء المسلمين، ونجسمها ونضخمها، أو نفتعل أخطاءً غير واقعة لندندن حولها.
والحصيلة من خلال هذه المظاهر كلها، أننا نستطيع أن نقول: إن المسلم اليوم أمام قوم يعيشون لذواتهم أكثر مما يعيشون لدينهم، بل إن كثيراً منهم يعيش لذاته فحسب، ولا يتحرك للإسلام، ولا يعيش هَمَّ الإسلام في قلبه، إذاً هم الإسلام في قلوب المسلمين ضعيف، هذه فائدة أو خلاصة نستطيع أن نخرج بها من خلال تلك الأمثلة والنماذج.(184/12)
مرض الكيل بمكيالين مختلفين
أما المظهر الرابع، وهو من أعاجيب أمراضنا التي نعيشها: فهو أنني لاحظت أن كثيراً من الناس، بل حتى -أحياناً- من إخواننا من الدعاة وطلبة العلم، من يكيلون بمكيالين مختلفين، وأضرب لك مثلاً على ذلك: قد تسمع إنساناً يتكلم عن طائفة من المسلمين في بلد ما، وما أصابهم وما نزل بهم، فيقوم وينسب إليهم أخطاءً وأنهم فعلوا وفعلوا، وأنهم ارتكبوا جنايات، وحملوا السلاح، وأنهم استخدموا العنف، ويبدأ يتكلم عن أخطاء هؤلاء المسلمين فيما يعتقد أو يزعم هو أنها أخطاء وقعوا فيها، فتجد عند هذا الإنسان الذي هو داعية أو طالب علم، تجد عنده ميلاً إلى تصديق ما ينسب إلى هؤلاء الدعاة، أو هؤلاء العلماء من الأخطاء، تصديق ما ينسب إليهم، فيحاول أن يصدق هذه الأخطاء، لماذا؟ لأنه إذا صدق الأخطاء المنسوبة إليهم، أصبح معذوراً إذا لم ينصرهم، ولم يدافع عنهم، لأن لسان حاله يقول: يستحقون، ما دام أنهم فعلوا كذا، فيميل إلى تصديق ما يقال عنهم حتى يخرج بعذر عن أن يقوم بنصرتهم، ونسي أن من خذل أخاه المسلم خذله الله تعالى في موقفٍ يحتاج فيه إلى نصرته.
هذا مكيال مع إخواننا المسلمين، لكن هذا المكيال نفسه لا يكون مستمراً مع أعدائنا، فإذا سمع الواحد منا -مثلاً- خبراً عن فسادٍ قام به الأعداء، عن منكرٍ فعلوه، عن جريمة ارتكبوها، فإنه لا يسارع إلى التصديق كما سارع في المرة الأولى، وإنما يلجأ إلى الكذب والاحتمالات، ويقول: يتثبت من هذا الأمر، ويُتأكد منه، ويُنظر في صحته، لأنه يحتمل أن يكون مزوراً، ويحتمل أن يكون ملفقاً ويحتمل ويحتمل لماذا؟ لأن هذا العمل -أيضاً- الذي هو التشكيك فيما عمله الأعداء، يعفيه من المقاومة، ما دام أنه في شك مما حصل من العدو؛ إذاً لا داعي لأن تقاوم كيد العدو، أنت -مثلاً- لم تتأكد من حصول المنكر، فلست مطالباً بتغييره، لأنه يحتمل أنه لم يحصل، ويمكن أن الذي أخبرك غير صادق، ويمكن ويمكن فيلجأ الإنسان إلى التشكيك في الخبر، لأن هذا التشكيك يجعله معذوراً إذا لم ينكر، ولم يقاوم، ولماذا لم تقاوم؟ لأن الخبر غير أكيد، نحن نحتاج إلى أن نتثبت منه، أجل، لماذا لم يكن هذا التثبت حين سمعت عن إخوانك المسلمين ما سمعت، حين سمعت عن طلبة العلم ما سمعت حين سمعت عن الدعاة ما سمعت لماذا لم تتثبت هنا وهناك؟!! وإذا كنت سوف تصدق الأقاويل والشائعات، فلماذا لا تصدقها هنا وهناك أيضاً؟ لماذا تكيل بمكيالين؟ مكيال مع إخوانك المسلمين يميل إلى تصديق كل ما ينسب إليهم، ومكيال مع الأعداء يميل إلى تكذيب ما يفعلون من أعمال ومنكرات وجرائم، حتى تكون معذوراً في الحالين.(184/13)
عدم الاكتراث لما يجري بالمسلمين
فقد تتحدث مع إنسان وربما كان فاضلاً، مصلياً صائماً، تتحدث معه عن واقع يتعلق بالمسلمين، عن منكر قائم، عن مصيبة تنزل بالأمة، عن كارثة، فتجد أن هذا الإنسان يسمع ما تُلقي إليه -وقد يشاهده بعينه أحياناً- وكأنه يسمع كلاماً يتعلق بعالم آخر!! أو كلاماً تاريخياً دُوِّن في الكتب، وهو يروى له وقد حدث في القرن السادس أو السابع!! يسمع هذا الإنسان قصةً وقعت في بلد الإسلام، أن النصارى أو الوثنيين دخلوا على المسلمين وهم يصلون الجمعة، فأطلقوا عليهم الرصاص وأردوهم قتلى، قتلوا منهم في غداةٍ واحدة ما يزيد على ألفي مسلم، وفى أي مكان؟ في المسجد!! وقد رأى كثيرٌ منا هذا بعينه، رأيناه في الصور التي نُقلت وتداولها الكثيرون، فهل يتحرك في إنسان منا إحساس أو شعور؟ هل تخرج من عينه ولو دمعه صادقة؟ هل برق في قلبه ولو ألم ممض لهذا الواقع؟ كثير من المسلمين حتى من صالحيهم، يسمعون مثل هذه الأخبار، وقد ألفوها واعتادوا سماعها، فصار الواحد منهم كأنما يسمع خبراً عن عالم آخر، أو عن أمة أخرى، أو كأنما يتحدث معه المتحدث عن قضية حدثت في القرن السادس أو السابع.
هذا نموذج من نماذج برودة الإحساس وجفاف المشاعر عند كثير من المسلمين، بل إنني رأيت بعض هؤلاء، ربما يشهد هذا المشهد فلا يكتفي بأن يواجهه بقلبٍ بارد، بل ربما أطلق نكتة عابرة تجعل هذا الموضع أو هذا المشهد بدلاً من كونه مشهداً للبكاء، تنطلق الضحكات من أفواه المشاهدين على نكتة أطلقها على هؤلاء الصرعى المجندلين، على هذه الأكوام من القتلى، على هذه الأشلاء المتطايرة.
وهذا الواقع المُر ليس جديداً، بل في كل عصور الانهيار والإحباط التي عاشتها الأمة المسلمة كان يحصل مثل هذا، فيوم أن كانت البلاد الإسلامية في القرن الثامن والتاسع تعيش أصعب أيامها، وخاصة في أيام سقوط الأندلس، شكا أبو البقاء الرندي وهو يرثي بلاد الأندلس التي أخذت من عالم الإسلام وضمت إلى عالم النصارى، شكا واقعاً مشابهاً لهذا الواقع، وكان يتعجب من عدم تجاوب المسلمين مع هذه المصيبة!! فكان يقول: يا راكبين عناق الخيلِ ضامرةً كأنها في مجال السبقِ عُقبانُ وحامِلينَ سيوف الهند مُشرعةً كأنها في ظلامِ النقعِ نِيرانُ وراتعين وراء البحر في دعةٍ لهم بأوطانهم عِزٌ وسُلطانُ هل عِندكم خَبرٌ من أهل أندلسٍ فقد جرى بحديث القومِ رُكبانُ كم يستغيثُ بِنا المستضعفون وهم صرعى وقتلى فما يهتزُ إنسانُ ماذا التقاطعُ في الإسلامُ بينكمُ وأنتمُ يا عباد الله إخوانُ ألا نفوسٌ أبيَّاتٌ لها هِممُ أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ لمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍ إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ وكذلك لما جاء الصليبيون إلى بلاد المسلمين، واحتلوا المسجد الأقصى، واحتلوا بلاد الشام، وفعلوا الأفاعيل بالمسلمين والمسلمات، كان أحد شعراء المسلمين يعبر عن هذا الواقع السيء، ويتكلم عن المساجد التي جعلوها أديرة، وعن المحاريب التي جعلوا فيها الصلبان، ويقول: أما لله والإسلام حقٌ يُدافعُ عنه شُبانُُ وشِيِبُ فقُل لِذوي الكرامةِ حيثُ كانوا أجيبوا الله ويحكمُ أجيبوا(184/14)
القياس بالمصالح الشخصية
مظهر آخر من مظاهر جمود الإحساس عند كثيرٍ من المسلمين: وهو القياس بالمصالح الشخصية، تجد المسلم مثلاً يقيس كل ما يرى ويسمع على مصالحه الذاتية والشخصية، حتى إنك ربما رأيت مسلماً يحضر مشهداً أو مجمعاً تُجمع فيه تبرعات لمشروع إسلامي، أو مؤسسة خيرية، أو جهادٍ هنا أو هناك، فإذا رأى أكوام المال لا يُسر ويغتبط ويبتهج، بل ربما افتر ثغره عن ابتسامة وقال: "والله لو كانوا يعرفون؛ لأعطوني هذا المال حتى أكمل به بناء بيتي، أو حتى أتزوج به، أو حتى أسدد به ديني".
إذاً صارت القضية قضية مصالحنا الشخصية، وهمومنا الذاتية، فالواحد لا تتعدى همومه ومطامحه أن يكون له بيتٌ يسكنه، أو زوجة يأوي إليها، أو أن يسدد ديناً عليه، أو ما أشبه ذلك من القضايا الذاتية الخاصة التي لا تتعلق بمصالح المسلمين الكبرى.(184/15)
الهروب من مواجهة الواقع
مظهر ثالث من مظاهر جمود الإحساس، وعدم المشاركة مع المسلمين في مشاعرهم: وهو الهروب من مواجهة الواقع المر بشتى الحيل، فنحن كثيراً ما نتحايل لنهرب من واقع نعتقد أنه غير جيد، فأحياناً تجد بعض الناس يتكلم عن الواقع على أنه واقع جيد ومتفائل، وأنه لا داعي للاهتمام، وكثير من الناس يقولون: لماذا تهولون من الأمور؟ ولماذا تضخمون الأمور؟ المسلمون بخير، والأمور بخير، والناس لا يزالون بخير، ويبدأ يتكلم عن بعض الجوانب الإيجابية، المساجد ممتلئة بالمصلين الجوامع تمتلئ طلبة العلم موجودون.
يتكلم عن الجانب الذي نستطيع أن نقول: إنه جانب مشرق، وقد يبالغ في الكلام عن هذا الجانب ليقول لنا: ناموا ملء جفونكم وارتاحوا، فالإسلام بخير، ولا داعي للقلق الذي تشعرون به، لماذا يحدث هذا؟ من أجل أنه لا داعي أن نهتم أو نكترث، فالأمور بخير، إذاً ناموا ولا تستيقظوا.
وعلى النقيض من ذلك: تجد هذا الإنسان نفسه أحياناً عندما تأتي لتحدثه عن أوضاع المسلمين، والصعوبات التي يواجهونها، وقضايا الفقر والجوع والمرض، وقضايا التخلف، وقضايا سيطرة أعدائهم، وغير ذلك من المشاكل، يأتي ليقول لك: يا أخي، هذه أمور أكبر من إمكانياتنا، وأكبر من طاقاتنا، وأكبر من حجمنا، فلا داعي للتفكير فيها، هذه لا يمكن أن أقوم بها أنا أو أنت، هذه تحتاج أحد ثلاثة أمور: إما المسيح عيسى بن مريم ينزل من السماء، وإما المهدي الموعود الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أو المجدد الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبعث على رأس كل مائه سنة، فيجدد لهذه الأمة أمر دينهم، أما أنا وأنت فأين نقع مما يريد المسلمون؟ لا حول لنا ولا قوة ولا طول.
وهكذا يبدأ يضرب على الوتر الآخر، أن مصائب المسلمين أكبر من أن نستطيع حلها.
إذاً هو يهرب من هذا الواقع، إما أن يهون الواقع، بحيث لا يحتاج إلى أن نصلحه، أو يضخمه بحيث لا نستطيع أن نصلحه، ومقصوده من هذا وذاك، أن يهرب بشتى الحيل من هذا الواقع.(184/16)
وجود من يحمل هم الإسلام
إن ذلك الذي يتقلب على فراشه، حسرة وقلقاً، أو توتراً وأرقاً، أو حزناً لمصيبة نزلت بالمسلمين، أو ليس فقط لمصيبة نزلت بالمسلمين، بل حتى لعمل يمكن أن يخدم من خلاله المسلمين، هذا النموذج من الناس هو أقل من القليل، ولاشك أن هذه صورة إيجابية ممن يعيشون هم الإسلام، وممن جعلوا هدفهم تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب للإسلام وللدعوة الإسلامية، ممن قرروا أن يشاركوا في تحمل مسئولية الإسلام بأيديهم، ولو كانت أيدياً واهنة ضعيفة، لكنها قوية بقوة الله عز وجل، سواء في ذلك المسلمون المعاصرون من شباب الإسلام ذكوراً وإناثاً؛ ممن اتخذوا قراراً بحمل رسالة الإسلام والدعوة إليه، أو حتى من المسلمين السابقين الذين كانوا عبر العصور السابقة كلها، لم يكن المسلم منفصلاً يعيش الإسلام في جزءٍ من واقعه، وفي بقية أجزاءه للدنيا، كلا، بل كان المسلم يعيش هم الإسلام ظاهراً وباطناً، وفي كل مجالات حياته.(184/17)
تقديم المستطاع للإسلام
ليس شرطاً أن الأمر الذي سوف أتحدث عنه الآن، هو ما نريده من كل إنسان، فنحن لسنا مثاليين أو مغرقين في الخيال، نتوقع أن يستيقظ الناس ذات يوم فإذا بالأمة كلها قد تحولت إلى دعاة، وعلماء، ومخلصين، وصادقين، ومجاهدين، ليس هذا شرطاً.
بل نحن نقول -كما قلنا سابقاً ومراراً-: إن المطلوب من كل إنسان أن يقدم للإسلام ما يستطيع، وإن كان شيئاً يسيراً، وإن كان قضيباً من أراك، تُقدم ما تستطيع، ولكن مع ذلك نحن على يقين كالشمس، أن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة منذُ سنين طويلة، لا يمكن أن يتغير، إلا من خلال فئة على الأقل يكون هَمُّ الإسلام هو الهم الذي يقعدها ويقيمها، هو الهم الذي يقلقها ويملأ عليها حياتها، ويسد عليها منافذها، فبه تحيا وتموت، وعليه تنام وتستيقظ، ومن أجله تحزن وتفرح، وترضى وتسخط، وتُسر وتبتئس.
فهو همها الأول والأكبر والأخير، وهذا لا يعني أنهم نسوا هموم الدنيا، فهم بشرٌ كالبشر، حتى رسل الله وأنبياؤه عليهم السلام، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويستمتعون بما أحل الله تعالى لهم من الأكل والشرب والنكاح، وغيره من أطايب الحياة الدنيا، ولكن لم يشغلهم هذا عن الهم الأكبر، الذي هو هم الإسلام والمسلمين.
هذه الفئة لابد منها، وما لم توجد فمعناه أن المسلمين يدورون في حلقة مفرغة، ولا يمكن أن يخرجوا من هذه القوقعة التي يعيشون فيها.(184/18)
مواصفات من يحمل هم الإسلام
أيها الأحبة: هذا الإنسان الذي تحدثت عنه قبل قليل، هو قوام الحضارات المادية، والحضارات الدينية، لا قيام للحضارات كلها إلا بهذا الإنسان، ولابد من العناية به، والسعي للبلوغ به إلى أسمى مراتبه ومراقيه، فكثير من الناس يضعون خططاً نظرية ويرسمون المناهج، ويضعون المشاريع الطويلة العريضة، ويتكلمون عنها، ولكن هذه الأشياء تقع حبراً على ورق، لماذا؟ لأن الإنسان الذي يمكن أن يُنفذ هذه الخطط، والمشاريع، ويقوم بهذه الأعمال، ويحقق هذه الإنجازات، هذا الإنسان غائب، وبالتالي إذا كان غائباً بقي الكلام حبراً على ورق، لأن الذي يمكن أن يُعلق جرساً كما يقال وهو الإنسان مفقود، فتبوء هذه المشاريع بالفشل.
إذاً نحن نحتاج إلى الإنسان الذي يحمل هَمَّ الإسلام، وهذا الذي يحمل هم الإسلام -أيها الأحبة- له مواصفات أو له شروط، سأتحدث عن شيءٍ أو جانبٍ يسير منها:(184/19)
قضية الأخوة
الإنسان العربي مرتبط بالقبيلة، ولا أدل على ذلك من أنه على رغم مضي هذه السنين الطويلة، إلا أننا نجد كثيراً من الناس -حتى من المسلمين أنفسهم- لم يتحرروا من قضية التعصب القبلي أبداً، ولا زالت تعيش في نفوسهم عقلية الرجل العربي في كثير من الأحيان، مرتبطة بقضية الولاء للقبيلة والتعصب لها، حتى أحياناً في قبائل عربية عريقة لا يزوج بعضهم بعضاً، لماذا؟ لأن هذا من قبيلة كذا، وهذا من قبيلة كذا، مع أنه أولاً: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
ثانياً: حتى بمقياسهم هُم كلهم عرب، ومع ذلك لا يزوج بعضهم بعضاً، وليس قصدي أن أتكلم عن هذا الموضوع، هذا الموضوع له مجال خاص في الحديث عنه، إنما قصدي أن أقول: إن الإنسان العربي في كثير من الأحيان، كانت القضية مرتبطة عنده بالقبيلة، ومع ذلك لما جاء الإسلام، وصدقوا في تدينهم وولائهم، لم يعد لقضية القبيلة عندهم وزن أو اعتبار أمام الأخوة الإسلامية.
فالذين هاجروا تركوا قبائلهم إلى بلد آخر، وآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، فكان يؤاخي بين كل مهاجرٍ وأنصاري، فما نزل مهاجر على أنصاري إلا بقرعة، وهم كانوا قبائل بالأمس كادت أن تثور الحروب بينهم، بل ربما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين عربيٍ أصيل قُحْ، وبين مولى من الموالي، وربما كان هذا المولى أفقه من العربي وأعلم فكان يرجع إليه، كما هو الحال بالنسبة لـ بلال رضي الله عنه، أو صهيب، أو سلمان أو غيرهم، فتخلوا عن هذا الأمر الذي هو في أصل تركيبهم، وعقليتهم، وتربيتهم، وأصبحت قضية الأخوة الإسلامية هي المبدأ الذي يسيرون عليه، لماذا؟ لأن هَمَّ الإسلام صار هو الهم الذي يشغلهم، ولذلك كيَّفوا حياتهم كلها، أخذاً وعطاءً، قبولاً ورداً، ولاءً وبراءً، قرباً وبعداً، كيفوها مع الإسلام، ومع مصلحة الإسلام، ومصلحة الدعوة إلى الإسلام.(184/20)
أمثلة على محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم
ومن الأمثلة على ذلك محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم- الذي حل منهم محل الروح، فـ عبيدة بن الحارث رضي الله عنه قام في معركة أحد وبارز بعض المشركين، وضُرب بالسيف وطعن وجرح ومات متأثراً بجراح، ومع ذلك كان يقول: [[يا رسول الله! لو رآني أبو طالب لعلم أنى أحق بما يقول]] ماذا كان يقول أبو طالب؟ كان يخاطب قريشاً في قصيدته اللامية المعروفة، التي يمدح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول فيها: كذبتم وبيت الله نبز محمدٍ ولما نُطاعن دونه ونُناضل ونُسلِمهُ حتى نُصرع دونهُ ونذهل عن أبنائنِا والحلائلِ فـ عبيدة يقول: أنا أحق بهذا الكلام من أبي طالب، لأنه رضي الله عنه قتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مدافعاً عنه، حامياً لجنابه عليه الصلاة والسلام.
وكذلك خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، لما قبض عليهم وأرادت قريش أن تقتلهم، كانوا يقولون له: هل تحب أن محمداً مكانك، وأنك سالم في أهلك؟ قال: والله ما أحب أني سالم في أهلي وأن محمداً صلى الله عليه وسلم، تصيبه شوكة في رجله.
ولستُ أُبالي حين أقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يُبارك على أوصال شلو مُمزع ولستُ بمبدي للعدوٍ تخشُعاً ولا جَزعاً إني إلى الله مَرجعيْ فقد تحولت وتوحدت الهموم عندهم في همٍ واحد، هو هَمُّ الإسلام، وكل ما يرتبط بالإسلام؛ رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم كتاب الإسلام، علماء الإسلام، دين الإسلام، مصلحة الإسلام، أصبح هذا هو الذي يشغل بالهم ويؤرق خواطرهم.(184/21)
سقوط الامبراطورية الشيوعية
من ذلك أيضاً أو ما يشبه ذلك: ما يسمع به المسلمون كثيراً وعبر عصور طويلة، من انهيار الامبراطوريات الضخمة، أحياناً توجد دول وامبراطوريات ضخمة تهيمن على معظم أنحاء المعمورة، أو عليها كلها أحياناً، فكان المسلمون يفرحون بذلك، لأن تلك الامبراطوريات الضخمة تأخذ بخناق الأمم، فيفرحون لما في ذلك من إزاحة العقبات من سبيل الإسلام، ولعل من ذلك فرح المسلمين الصادقين في هذا العصر، بسقوط امبراطورية روسيا الشيوعية، والدول التي تدور في فلكها في العالم كله، فإن سقوطها أزاح عن المسلمين كلكلاً رهيباً، ونفس للمسلمين حتى داخل روسيا نفسها، فتنفسوا الصعداء، وحققوا بعض التقدم في مجال الإسلام، وكذلك في الدول الأخرى التي سقطت فيها الشيوعية، وإن كان العالم كله يتآمر على المسلمين، ففي ألبانيا حيث كثرة المسلمين، يقف العالم ضدهم بكافة الوسائل.
أيها الأحبة إن سقوط الشيوعية بشير خير للمسلمين بكل تأكيد، لأن العالم كانت تتقاسمه حضارتان: الشرقية والغربية، وهي في الواقع حضارة واحدة مادية بشقيها الشيوعي والرأسمالي، والشق الرأسمالي المتمثل في دول الغرب، شق لا يعتمد على مبدأ، ولا يقوم على عقيدة، ولذلك فهو أضعف، أما الشق الشرقي المتمثل في الشيوعية، فكان يقوم على أساس عقيدة، أو ما يسمى بأيديولوجية ودين، أو مذهب أو مبدأ، ولذلك كان أخطر لأنه يتحمس في سبيل نشر مبدئه وعقيدته، فانهيار ذلك الشق القائم على أساس المبدأ، هو مؤذنُُ بانهيار غيره، وهو مؤذن أيضاً بأن الفكرة التي قام على أساسها فكرة خاطئة، فهو يصدق ما قاله دعاة الإسلام من قبل عن فشل الشيوعية نظرياً وعملياً.(184/22)
بناء العلاقات على أساس الإسلام
إنَّ من يحمل هم الإسلام، لابد أن يبني علاقاته، أخذاً وعطاءً، قرباً وبعداً، قبولاً ورفضاً، ولاءً وبراءً، لابد أن يربط هذه الأشياء كلها بمصلحة الإسلام كما أسلفت، فإذا كانت تعنيه مصلحة الإسلام -حتى في أمور لا تتعلق به- فكيف بأشياء يملكها في ذاته؟! لابد أن يقدم فيها مصلحة الإسلام على مصلحته الشخصية، إذا تعارضت في أي حال من الأحوال، وكل المجتمع الإسلامي الأول وفي كل عصر، هو نموذج حي لهذا التقديم، فمثلاً:(184/23)
قضية الهجرة
إنَّ المسلم الذي كان يهاجر من بلده، بلد الكفر إلى بلد الإسلام، إلى المدينة المنورة مثلاً، أليس مرتبطاً عاطفياً ببلده؟ الإنسان بطبيعته يحب البلد الذي ولد فيه ونشأ فيه، له فيه ذكرياته كما يقول ابن الرومي: وحبب أوطان الشباب إليهمُ مآرب قضَّاها الشباب هُناِلكا إذا ذكروا أوطانهم ذكَّرتهم عُهود الصِبا فيها فحنوا لِذلكا ولذلك بلال رضي الله عنه مثلاً، هاجر فيمن هاجر من مكة إلى المدينة فأصابته الحمى، فكان إذا أصابته الحمى، يقول وهو لا يعي ما يقول من شدة الحمى، كان يتغنى بأبيات يذكر فيها مواقع، ومواضع، وجبالاً، وأودية قريبة من مكة، فكان يقول: ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً بوادٍ وحولي إذ خِر وجليلُ وهل أردنْ يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل فيذكر أسماء مواضع ارتبطت في ذهنه وعقله، حتى ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: {اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً، كما أخرجونا من ديارنا إلى ديار الوباء} وبكل تأكيد كان - صلى الله عليه وسلم- يحب مكة.
وفي حديث عبد الله بن عدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة ووقف بالحزورة، وهو مكان يقع تقريباً إلى الشمال الشرقي من مكة، التفت إليها وقال: {والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت} ودمعت عيناه صلى الله عليه وآله وسلم، فمع أنه مرتبط بالحب لهذا البلد الأمين الذي فيه الكعبة؛ إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يتردد في الهجرة إلى المدينة عندما كانت مصلحة الإسلام تقتضي ذلك، وهكذا بقية أصحابه، هاجروا من بلادٍ شتى إلى المدينة المنورة، فمع أن الإنسان مرتبط بحب بلده، إلا أنه قدم حب الدين على حب البلد، الذي هو أمر فطرى في الإنسان، فهذا فيما يتعلق بقضية الهجرة.(184/24)
مثال حاضر
قرأتُ في بعض الكتب أن مؤذناً أعمى في هذا الزمان، كان جميل الصوت بالأذان، فكان في مجلس، فسمع أن برجاً في لندن عاصمة بريطانيا، الموجود فيه الساعة المعروفة (بيج بن) سمع أن هذا البرج قد مال بعض الشيء أو سقط أو أصابه شيء، فحزن وتأثر لذلك وظهر على وجهه الحزن، فتعجب بعض الحاضرين وقال: مالك يا فلان؟ قال: والله كنت أطمع أن أؤذن عليه يوماً من الأيام.
صراحةً هذا حُلُمٌ قد ينظر إليه البعض على أن فيه سذاجة وبساطة وقرباً، لكن بغض النظر عن بساطة هذا الحلم أو سذاجته، إلا أنه يدلنا على قلب متوتر لقضية الإسلام والمسلمين، قلب -على الأقل- كل همومه وأحلامه تتعلق بقضية الإسلام، وأن يُرفع نداء الإسلام وشعار الإسلام من أعلى المنابر، وأعلى المواقع، وأعلى الأبنية في بلاد الشرك وبلاد الجاهلية وبلاد النصارى.
إذاً الشرط الثاني فيمن يحمل هم الإسلام هو: أن يكون الإسلام حياً في ذهنه، حاضراً في قلبه، فيربط ما يرى أو يسمع أو يحس، بالهم الأكبر الذي يقلقه ويزعجه وهو هم الإسلام.(184/25)
بناء الحياة والأفكار على مصلحة الإسلام
يجب على المسلم أن يبني آراءه ونظرياته وتحليلاته للأحداث والأشياء على أساس مصلحة الإسلام، لا على أساس مصالحه الشخصية، فهو من خلال ما يسمع من أحداث وأخبار وحرب وسلم، واضطرابات وقلق هنا أو هناك، أو مشاكل، أو معارك، أو أزمات اقتصادية، أو غيرها، يبحث عن النفق الذي يستطيع المسلمون أن يخرجوا من خلاله إلى الهواء الطلق، إلى بر الأمان، وإلى النور، بعيداً عن تسلط عدوهم، وبعيداً عن قبضته الآسرة الشديدة، فهو يبحث عن مخرج، وعن مصلحة للإسلام من خلال كل ما يحس أو يسمع أو يقرأ من أخبار أو أحداث أو تحليلات.(184/26)
المعركة بين الفرس والروم
خذ مثالاً تاريخياً يقول الله عز وجل: {آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:1-5] .
هذه الآية نزلت في مكة، وحصل فيها قصة رواها الترمذي وحسَّن إسنادها، وكذلك رواها الإمام أحمد، ورواها النسائي ورواها الحاكم وصححها، وكذلك الضياء المقدسي في أحاديثه المختارة، التي هي صحيحةُُ عنده وعلى شرطه، عن ابن عباس رضي الله عنه: [[أنه لما حصلت المعركة بين الفرس والروم، كان المسلمون في مكة، يتمنون انتصار الروم]] لأن الروم كانوا نصارى "أهل كتاب" فهم أقرب للمسلمين، وكان العرب الوثنيون يتمنون انتصار الفرس؛ لأن الفرس أيضاً وثنيون، فعندما نزلت هذه الآية، صار بين أبي بكر رضي الله عنه، وبين العرب المشركين مقاولة وكلاماً، فقال لهم أبو بكر: [[سوف ينتصر الروم على الفرس]] فجعلوا له لذلك أمداً، فقال: [[أمدكم خمس سنين]] فمرت خمس سنين وما حصل أن انتصر الروم على الفرس، فجاءوا وقالوا: يا أبا بكر، ما حصل ما وعد به صاحبك، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: {هلا جعلتها دون العشر} لأن الله تعالى قال: (( {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4] والبضع هو ما بين الثلاث إلى التسع، فكانت في دون العشر، وهكذا كان، فإن الله تعالى نصر الروم بعد ذلك على الفرس، فغلبت الروم، ثم غلبوا كما وعد الله عز وجل وكان غلبهم في بضع سنين {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:4] أي: يوم يغلب الروم الفرس {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:4-5] .
أين نصر الله؟ نصر الله في معركة بدر، فكان انتصار الروم على الفرس، في اليوم الذي نصر الله تعالى فيه محمداً صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم وأصحابه على قريش ففرح المؤمنون بنصر الله.
و
السؤال
لماذا كان فرح المسلمين بنصر الروم، أو تمنيهم لنصر الروم، على الفرس؟
الجواب
لم يكن هذا لقضية اقتصادية، أو مصالح مادية، أو لأن أرصدتهم -مثلاً- سوف تزيد، كلا، كانت قضيتهم قضية الدين، فهم ينظرون إلى أن انتصار النصارى وهم أهل كتاب، يعتبر إرهاصاً بانتصار المسلمين، فهو مربوط به، فإذا انتصر الروم دل هذا على قرب انتصار المسلمين على عدوهم القريب الوثني (قريش) ومن ظاهرها وأيدَّها.
فهذه قضية تدل على مدى تفكير المسلم، وكيف ينظر إلى ما يقع حوله من الأحداث والأمور.(184/27)
أمثلة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم
إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو النموذج الأكمل لكل مسلم، الذي قال الله فيه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] انظر كيف كان هديه وسيرته.
في صحيح البخاري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على سبىٍ فرأى امرأة في السبي تمشي إذ رأت صبياً فأخذته، وألزقته ببطنها وأرضعته، وضمته إليها، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المشهد -واستفاد منه في التربية، في ربط ذلك بقضية شرعية- قال لأصحابه رضي الله عنهم: هل ترون هذه طارحة ولدها في النار؟، قالوا: لا -والله- يا رسول الله، وهي تقدر ألا تطرحه، قال: والله لله أرحم بعباده من هذه بولدها} .
وفي الحديث الصحيح أنَّ سعد بن معاذ رضي الله عنه قال: {يا رسول الله أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً، أكنت أتركه حتى آتي بأربعة شهود، قال: نعم، قال: والله يا رسول الله ما كنت أفعل، كنت أضربه بالسيف غير مصفح، لا أبالي، أي: أقتله مباشرة- فضحك النبي صلى الله عليه وسلم -ولكنه استفاد من هذا الموقف في تنبيه الصحابة على أمرٍ آخر- فقال: أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله تعالى أغير مني} إذاً حكم الله تعالى نافذ، وغيرة الإنسان إذا تعدت فإنها ينبغي أن تكون مربوطة بالشرع.
مثل ثالث: جيء بمناديل جميلة من حرير بعد إحدى المعارك لا عهد للمسلمين بها، فصار المسلمون يطوفون بها ويتعجبون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من هذه المناديل؟ والله لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذا وأطيب} مناديله في الجنة أحسن من هذا، ربط كل قضية تعجب الناس في الدنيا بقضية الدين أو بقضية الآخرة، وصدق الشاعر حيث قال: يا طيبَ عهدٍ كنت فيه منارنا فبعثت نور الحقِ من فاران وأسرت فيه العاشقين بلمحةٍ وسقيتهم كأساً بغير دنان أحرقتَ فيه قلوبهم بتوقد الـ إيمان لا بتلهب النيرانِ لم نبق نحن ولا القلوب كأنها لم تحظ من نار الهوى بِدُخانِ(184/28)
الفكر الإسلامي ووجوده
أيها الأحبة يتحدث كثير من الناس عن الفكر، حتى إني سمعت أحد المفكرين يقول: "إن الفكر هو أساس العمل" ويقول: وإنما الأممُ الأفكارُ ما بقيت فإن هُم صلحت أفكارُهم صَلحوا ونحن مع إيماننا العميق بأن الفكر ضروري جداً لبناء أمة صحيحة السلوك، وصحيحة العمل، وهذا لا شك فيه، إلاَّ أنني أعتقد أن مشاعر الإنسان وأحاسيسه الداخلية، هي ذات دورٍ كبير في صياغة فكر الإنسان وصناعة تفكيره، ولذلك يُبدى الشاعر المسلم المعروف محمد إقبال حزنه وانزعاجه من الجمود الذي أصاب التفكير، وأصاب الشعور لدى المسلمين، في قصيدته المعروفة فيقول: أرى التفكير أدركه خمول ولم تَعدُ العزائم في اشتعالِ وأصبح وعظكم من غير سحر ولا نورٍ يُطل من المقالِ وعند الناس فلسفةُُ وفكرٌ ولكن أين تلقين الغزالِي وجلجلة الآذان بكل صوتٍ ولكن أين صوتٌ من بلال ِ منائركم علت في كل حيٍ ومسجدكم من العُبَّادِ خالِي إذاً: الصورة موجودة لكن الحقيقة غائبة، المنائر موجودة والعباد غائبون، جلجلة الآذان موجود لكن صوت بلال وترنيمته وصدقه وإخلاصه وروحانيته غائبة، الفكر موجود؛ لكن حقيقة هذا الفكر وروحه وسره غائبة.
إذاً هذه هي النقطة الأولى، وإن شئت فسمها الشرط الأول فيمن يحمل هم الإسلام، وهو أنه لابد أن تتكيف مشاعره وعواطفه وأحاسيسه: فرحه ورضاه وحزنه وسروره وغضبه مع قضية الإسلام الكبرى، فهي التي تعيش معه، تنام معه إن نام وتستيقظ إن استيقظ، بل أقول: تستيقظ معه حتى وهو في منامه، فتجد أحلامه ومرائيه في منامه تدور حولها.(184/29)
تذكر هموم الإسلام في كل حال
إن من يحمل هم الإسلام، فإن كل شيء يذكَّره بقضية الإسلام الكبرى، فما يشاهده، وما يسمعه، وما يحسه، دائماً يذكره بقضية الإسلام، ومرة أخرى انظر في المشاعر البشرية، مشاعر البشر مع البشر، هذه الخنساء توفي أخوها صخر، وقصتها معروفة وشعرها فيه، لكن كانت تقول: يُذكرُني طلوع الشمسِ صخراً وأذكره لكل غروب شمسِ فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلتُ نفسي هذه امرأة في الجاهلية وقد زينها الله تعالى في الإسلام، فأقلعت عن مثل هذا، لكنها كانت تتذكر أخاها مع طلوع الشمس ومع غروبها، ومثله أيضاً حارثة أبو زيد، لما غاب عنه زيد وفقده في صغره، كان يتغنى ويبحث عنه ويقول: بكيت على زيد ٍ ولم أدر ما فعل أحيٌ فيرجى أم أتى دونه الأجل فوالله ما أدري وإني لسائل أغالك سهلُ الأرض أم غالك الجبلْ تُذكرُنيه الشمس عند طلوعِها وتَعرض ذكراه إذا غربها أفلْ وإن هبت الأرياح هَيَّجنَ ذِكرهُ فيا طول ما حُزني عليه وما وجلْ سأعملُ نصَّ العيش في الأرض جاهداً ولا أسأم التطوافُ أو تسأم الإبلْ حياتي أو تأتى عليَّ منيتي فكل امرئٍ فانٍ وإن غره الأملْ فيظل يتذكر ولده الذي فقده من سنين مع الشمس، في طلوعها وغروبها، مع الرياح، ومع الذهاب والإياب! كلما نزل في منزل تذكر زيداً، هذه مشاعر البشر مع البشر، فما بالك بمشاعر الإنسان مع قضية كبرى هي قضية الدين، لابد أن تكون أرقى وأسمى وأعظم وأعمق من ذلك، ولذلك انظر في هذه النماذج.(184/30)
أمثلة من حياة الصحابة الكرام
المسلم -مثلاً- حين يسافر إلى بلد معين، يشاهد مشاهد ومرائي ويرى مباني ومنشآت ومساكن، ويرى جسوراً وقصوراً وأموراً كثيرة، ما الذي يلفت نظره؟! خذ نموذجاً، أم سلمة وأم حبيبة والحديث في البخاري ومسلم، ذهبتا فيمن ذهب إلى الحبشة وبعد ذلك رجعوا إلى المدينة المنورة، فماذا حدَّثت أم سلمة وأم حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رأيا؟ حدثتاه عن كنيسة رأينها بأرض الحبشة، يقال لها: ماريه، وما في هذه الكنيسة من التصاوير.
إذاً الذي لفت نظر أمهات المؤمنين معبد للنصارى توضع فيه التصاوير، كيف يصورون مريم، ويصورون عيسى، ويعلقونها في معبدهم؟ هذا أمر غريب!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل} .
كذلك حديث جابر، وقد ذكره الذهبي في مختصر العلو للعلي الغفار، وهو عند ابن حبان، وابن ماجة وغيرهم، أن بعض المسلمين لما جاءوا من الحبشة أيضاً سألهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما الذي أعجبكم بالحبشة؟} هم الآن لم يذهبوا سواحاً، ولكنهم ذهبوا مهاجرين، لكن ما هي مشاعرهم؟ ما الذي يلفت انتباههم؟ ما هي اهتماماتهم؟ فواحد منهم قال: [[الأمر الذي لفت نظري وأعجبني، أنى رأيت عجوزاً تحمل قربةً على ظهرها، فجاءها شابٌ مراهق طائش فدفعها، فسقطت هذه القربة، فالتفتت إليه هذه العجوز وقالت: سوف تعلم يا غُدر إذا نزل الله تعالى يوم القيامة لفصل القضاء، وعرف كل إنسانٍ ما له، ووفيت النفوس ما كسبت، كيف يكون جزاؤك]] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {صدقت صدقت، لا قُدست أمةٌ لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع} .
إذاً القضية التي لفتت نظرهم، مشهد من مشاهد الاعتداء على كرامة الإنسان من جهة، والظلم والتعدي، ولو لامرأة عجوزٍ ضعيفة، ومن جهة أخرى: العجب من معتقد هذه العجوز، فإنها تعتقد عقيدة صحيحة أن الله تعالى سوف يبعث الأولين والآخرين، وسوف ينزل يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، وسوف يجزي الظالمين بما كسبوا، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم وصدقها بما قالت، وقال: {لا قدست -أي: لا بوركت، لا بقيت- أمة لا يأخذ الضعيف فيها من القوي حقه غير متعتع} أي: لا يتلجلج ولا يتردد، ولا يعيَ بالكلام، بل يتكلم بلغةٍ قوية فصيحة، لأن الحق أنطقه.
لكن لو نظرنا إلى مشاعر السواح من المسلمين اليوم، قد تجد مسلماً يسيح في بلاد الأرض، فماذا يلفت نظره؟ يلفت نظره المباني، وجمال الطبيعة، والجبال والأنهار والمشاهد والمظاهر والصور، هذه الأشياء كون الإنسان يعجب بها أو يستحسنها، هذا أمر فطري، لكن لماذا لا يكون شعور المسلم أعظم من ذلك؟ لماذا لا يتعجب المسلم -مثلاً- من فقدان الإنسانية التي عنده؟ أو يتعجب المسلم من التقدم الذي أدركوه في مجالات الصناعة والعلم ولم يدركه المسلمون، ويفكر كيف يصل المسلمون إلى ذلك ليحققوا لدينهم نصراً، يمنعهم من كيد عدوهم.
أو يفكر في المؤامرات وفي الخطط الصليبية التنصيرية، التي تسعى إلى تحويل المسلمين إلى نصارى في إفريقيا، وفى أندونيسيا، وفى غيرها.
المهم أن الإنسان عندما يكون مشغولاً بأمر فكلما رأى شيئاً فإنه يربطه بذلك الأمر الذي يشغل باله، فالإنسان الذي كل همه، سرور عينه، أو سرور أذنه، أو سرور قلبه، تجد أنه لا يلفت نظره إلا مظاهر الطبيعة وجمالها، أما سوى ذلك فكأنه لا يعنيه في قليل ولا في كثير.(184/31)
تحدي الأقليات
ألم تروا أحبتي الكرام إلى الأقليات في العالم كله، في كثير من الأحيان تكون هذه الأقليات منتجة فعالة، وقوية وغنية وذات نفوذ.
ماذا أعني بالأقليات؟ قد تجد -مثلاً- أقلية يهودية في بلد معين، عددهم قليل، فتجد هؤلاء اليهود يشعرون بأن المجتمع كله ضدهم، فيبدءون يخططون في تربية أولادهم، في تعليمهم، في إيصالهم إلى أرقى المستويات، وفي دعمهم، فيعملون على الوصول إلى الاقتصاد، ويعملون على الوصول إلى الأماكن المهمة، حتى تكون هذه الأقلية ذات نفوذ كبير، وقل مثل ذلك بالنسبة للأقليات المنحرفة، فقد تكون أقلية -مثلاً- شيعية في بلد سني، قد تكون أقلية نصرانية في بلد مسلم، تجد هؤلاء أو أي أقلية -بغض النظر عن نوعية هذه الأقلية- حتى لو كانت أقلية عرقية من جنس معين، أو لون معين، أو أسرة معينة، أو قبيلة معينة، تجد أن هناك شعوراً بالتحدي يدفعها إلى أن تكافح وتناضل، وتعمل على الوصول إلى مواقع مهمة، حتى تثبت وجودها، وتمنع نفسها من أن تظلم أو تهضم أو ينقص قدرها لماذا؟ لأنها تشعر بالتحدي.(184/32)
العدو يحاول ألا نشعر بالتحدي
أما المسلمون اليوم، فأكثر ما يركز عليه عدوهم، هو ألا يكون لدى المسلم شعور بالتحدي، أن يشعر المسلم بأن الأمور ليس فيها تحدٍ، وليس فيها مواجهة، ولذلك فإن من أغرب الدعوات الخطيرة التي أصبحت اليوم تُعرض في الإعلام العربي وغير العربي؛ أَنْ أنتم مخطئون، فلقد شغلتمونا بالكلام عن أعداء الإسلام، وأعداء الدين، وعن اليهود والنصارى والكفار.
وقد قرأت مقالات يشيب لها الرأس، هناك أناس يحملون -مع الأسف- أسماء عربية وإسلامية يقولون: انتهى هذا الكلام، لم يعد يصلح تقسيم العالم إلى مسلمين وكفار، ولا إلى أعداء للإسلام وأولياء للإسلام، القضية الآن قضية شرق وغرب، شرقٍ متخلف وغرب متحضر، والعلاقة بينهما علاقة مصالح متبادلة" حتى إن بعض الصحف المصرية كتبت مقالاً عنوانه: أسطورة اسمها: "أعداء الإسلام" إذاً أنتم ضائعون، ليس هناك أعداء للإسلام، ولا داعي أن تشعروا بالتحدي، أو أن هناك عدواً يتربص بكم، أو أن هناك أمماً تعد العدة لكم، لا داعي لذلك، وبالتالي لا داعي لأن تقاوموا أعداء الإسلام ولا أن تحاربوهم، ولا أن تقفوا في وجوههم، فلا داعي لشيء من هذا.
فالذي يهم الأعداء هو أن لا يشعر المسلمون بأن هناك تحدياً يواجههم ويتطلب منهم الرد، والمقاومة والاستجابة لهذا التحدي، ولا شك أن شعور المسلم بذلك وإحساسه هو النار التي يمكن أن تنضجه، فالمسلم حتى الصادق الآن هو مثل الحطب، إذا لم تشتعل فيه النيران فلن تحصل منه على الدفء، ولن تحصل منه على الحرارة، ولن تحصل منه على الإنضاج، ولن تحصل منه على الإضاءة، فلابد أن توقد هذه النيران؛ حتى تجد المسلم الفعال الذي يشعر بالهم تجاه قضية هذا الدين، وبالتالي هذا هو الذي يمكن أن يرشد آراء الإنسان، ويصحح تصوراته، يجعله صاحب مبدأ، العرب تقول: ويل للخلي من الشجي.
كثيراً ما تخوض نقاشاً مع إنسان لا يحمل هماً ولا فكرة، وكل ما في الأمر عنده قضية بعيدة كل البعد، ولذلك هو لا يفكر كيف يحقق نصراً للإسلام، وكيف يحقق مكسباً لهذا الدين، كيف يحبط مؤامرات هذا العدو، كيف ينتصر على عدوه، بل ينظر إلى قضايا قريبة جداً وبالتالي يفكر على ضوئها، فهو في وادٍ وأنت في وادٍ آخر.(184/33)
الحزن لقضايا المسلمين
لقد عزّى الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وسلاه عما يلقى من أذى المشركين، ونهاه عن أن يحزن قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] وفي مواضع كثيرة يقول الله عز وجل {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُون} [النمل:70] لماذا؟ لأن قلب الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحزن حين يرى إعراض المعرضين، وتكذيب المكذبين، ويرتبط بقضية القبول بهذا الدين أو الرفض له، فنهاه الله تعالى عن ذلك.
وليس المقصود النهي عن ذات الحزن، فالحزن أمر فطري، ولكن المقصود النهي عن الحزن الذي يقعد الإنسان عن العمل أو يضر به، وإلا فنحن نعلم جميعاً قصة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة قالت: {يا رسول الله! هل أتى عليك يوم هو أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت} وهذا في الطائف، سخروا منه عليه السلام واستهزءوا به، قال أحدهم: أليس في الدنيا رجل أحسن منك يرسله الله سبحانه وتعالى؟ وقال آخر: أنا أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ورد عليه الثالث رداً خبيثاً.
فحزن لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وقام من عندهم قال: {فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب} انظروا إلى المسافة بين الطائف وقرن الثعالب، مسافة كيلو مترات قطعها النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهمومٌ غير مستفيق، لم يدر بمسيره ذاك ولا باتجاهه إلا وهو بقرن الثعالب، مع أنه صاحب القلب الكبير، وصاحب القوة، وصاحب الجلد، وصاحب الصبر المؤيد بالوحي من السماء صلى الله عليه وسلم، لكن مشاعره تكيفت مع هذا الدين، فرحاً وغضباً ورضاً وسروراً وغير ذلك، فالمنهي عنه أن يكون هناك حزن يمنع الإنسان من الدعوة، أو يقعده عنها، أو يستبد به، أما كون الإنسان يحزن إذا رُدَّت دعوته، فهذا أمرٌ فطري لا يملك الإنسان دفعه، ولا يكلف الإنسان أن يدفعه عن نفسه شرعاً.
نحن نحتاج إلى الأرق، والقلق، ونحتاج إلى التأوهات والتوتر، والتنهدات والأحزان، وهذه وإن كانت أشياء سلبية إلا أنها هي البداية الضرورية التي لابد منها، نحتاج إلى أن يترفع المسلم عن أن يكون همه محصوراً في فوز الفريق الرياضي، أو فشل فريق آخر، أو اعتزال فنانٍ أو لاعب، أو ارتفاع سعر الشعير أو انخفاضه مثلاً، بل ينبغي أن ترتقي هموم المسلم عن أن تكون مثل هذه الهموم الصغيرة التي إنما يشتغل بها من لا هم له.(184/34)
التحدي والرد
هناك نظرية -أيها الأحبة- تتعلق بقضية الهم الذي يحمله المسلم، نظرية لأحد المؤرخين الغربيين، واسمه أرنولد تونبي وتسمى هذه النظرية "نظرية التحدي والاستجابة" أو "التحدي والرد" يقول: إن الحضارات تقوم على أساس وجود تحديات تواجه الإنسان، فيحتاج الإنسان إلى أن يستجمع قواه الفردية والجماعية من أجل مواجهة هذا التحدي والانتصار عليه، وبذلك يتحقق وجود الإنسان، ويستطيع الإنسان أن يتغلب على ما يواجهه من مشكلات ومصاعب.
نحتاج إلى هذه النظرية في هذا الحال، معلوم أن هذه النظرية ليست صحيحة من كل جوانبها، لكن المسلمين اليوم يواجهون تحديات كبيرة، تحديات من داخلهم وهي كثيرة، بل هي أصعب من التحديات التي يواجهونها من خارجهم، لأنه لو تنقى الصف الداخلي، لم يضرنا كيد عدونا شيئاً، لكن مشكلة المسلمين الأساسية في داخلهم، وكما يقول المثل: "سوس الخل منه وفيه".
فمشكلات المسلمين بالدرجة الأولى من داخلهم، ومع ذلك فهم يواجهون مشكلات صعبة جداً من خارجهم، ولمواجهة هذه التحديات الداخلية والخارجية، نحتاج إلى مسلم يشعر بهذا التحدي، ويعمل على مواجهته.(184/35)
الإحساس عند العشاق وعند الأمهات
من جانب آخر: أنت ولا شك تسمع كثيراً وتقرأ في كتب الأدب والشعر وغيرها، أخبار العشاق بعضهم مع بعض، وكيف أن مشاعر العشاق تتوحد حتى تُصبح كأنها شعور واحد، حتى كأنهما روحان حلاَّ في بدن واحد، بل دعنا من هذا الحديث وما يتعلق به، خذ ما يتعلق بالأم ومشاعرها تجاه ولدها، وكيف يكون شعور الأم مع ولدها إذا غاب عنها، أو كان في حالة مرض، أو كان يعمل له عملية جراحية، أو خاض معركة كيف يكون شعور الأم تجاهه؟ يمثل ويتحدث عن هذا الشعور أحد الشعراء المبرزين، الذين أودعوا في غيابة الجب، في غياهب السجون، لأنهم متمسكون بدينهم، حريصون على دعوتهم، فهو يتحدث عن مشاعر أمه تجاهه، ويقول مخاطباً أمه: ألقيت بين يديك السيف والقلما لولا الإله لكنُتِ البيتَ والحرما أنتِ الهنا والمنُى أنت العنا وأنا على ثراك وليدٌ قد نما وسما أماه أماه هذا اللحن يسحرُني وينثِرُ العِطرَ في جنبيَّ مُبتسما ما زال طيفك في دنياي يتبعُني أنى سريتُ وقلبي يَجحدُ النِعمَا حتى وقعتُ أسيرَ البغى فانصرفت عني القلوبُ سِوى قلبٍ يسيلُ دما أصحو عليه وأغفو وهو يلثمني قلبٌ ضعيفٌ ويغزو الصحو والحلمَا ويدخلُ السِجنَ مُنسلاً فيدهُشُني إذ يستبيحُ مِنْ الطغُيانِ شرَ حِمى فإن رآني في خيرٍ بكى فرحاً وإن رآني في سوءٍ بكى أَلَمَاً يقول: قلب أمي دائماً يلاحقني في كل مكان أصحو وأنام على قلب أمي.
انظر كيف توحدت مشاعر الأم مع مشاعر ولدها! حتى أصبح شعوراً واحداً وقلباً واحداً، إن رأته مسروراً بكت فرحاً، وإن رأته محزوناً بكت ألماً، إلى هذا الحد!(184/36)
الشعور المشابه تجاه قضايا المسلمين
أجل هذا الشعور -يا أخي الحبيب- تجاه أولادك غريزة لا تنكر، ولا أحد يلومك عليها، هذه عاطفة الأبوة، كذلك شعورك تجاه والديك لا نلومك عليه، لكن نريد شعوراً مشابهاً أيضاً تجاه الإسلام، تجاه قضايا الإسلام والمسلمين، نريد منك -على أقل تقدير- أحزاناً تعصف بقلبك إذا سمعت مصيبة أو منكراً.
وهذا أضعف الإيمان يا أخي هذا الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: {فإن لم يستطع فبقلبه} على أقل تقدير نريد منك يا أخي دموعاً من أجل الإسلام والمسلمين، ومن أجل مصائب الإسلام والمسلمين في كل مكان، الدموع قضاء العاجزين، لكن هذا أقل ما نريد منك! هذا أقل ما تستطيع، ونحن على ثقة أن هذه الدموع إذا كانت دموعاً صادقة، ليست دموع التماسيح والممثلين، فنحن على ثقة أن هذه الدموع سوف تصنع شيئاً ولو بعد حين.
إذاً لابد أن تكون المشاعر مرتبطة بالإسلام، وما يتعلق بالإسلام، حتى في الحال التي لا تستطيع أن تعمل فيها شيئاً لهذا الدين، فإنك يجب أن تكون ذا قلبٍ يحزن، كما قال القائل: يا راحلين إلى البيت العتيقِ لقد سِرتم جُسوماً وسِرنا نحن أرواحا إنَّا أقمنا على عذرٍ نُكابدهُ ومن أقام على عُذرٍ كمنْ رَاحَا يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن أنس، ومسلم عن جابر: {إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم} وفي رواية: {إلا شركوكم في الأجر حبسهم العذر} .
إذاً هم بمشاعرهم، بعواطفهم، بقلوبهم معكم، تقطعون الأودية والفيافي والقفار وهم معكم، تنزلون في الصحراء، في الهجير وهم معكم: {ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، وشركوكم في الأجر، حبسهم العذر} .(184/37)
أمثلة من حياته صلى الله عليه وسلم
أنا أضرب على ذلك مثلاً: يقول البخاري رحمه الله، في كتاب المناقب من صحيحه: (باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم) ثم ذكر أحاديث كثيرة، منها: حديث عائشة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسروراً، تبرق أسارير وجهه، فقال: يا عائشة! ألم تري أن مجززاً المدلجي، نظر إلى أسامة وزيد وعليهما قطيفة، نظر إلى أقدامهم فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض} .
لماذا فرح الرسول صلى الله عليه وسلم وسر؟ لأن أسامة بن زيد كان أسود، وأبوه زيد بن حارثة لم يكن كذلك، فكان بعض المغرضين والمنافقين وضعفاء الإيمان، يتكلمون في أسامة بن زيد وفي نسبه من أبيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤسفه ذلك ويزعجه، خاصة مع علاقتهم ببيت النبوة، فلما جاء مجزز المدلجي، وكان قائفاً يعرف الأشكال والصفات والهيئات، وكانوا قد غطوا بقطيفة، وهو لا يرى وجوههم، لكن رأى أقدامهم خارجة فقال: بعض هذه الأقدام من بعض، فَسُرَّ لذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر البخاري حديثاً آخر، وهو حديث كعب بن مالك في تخلفه عن غزوة تبوك، وكيف أنه كان يقول: [[لما سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور، وكان إذا سُرَّ صلى الله عليه وسلم تهلل وجهه حتى كأنه فلقة قمر، أو قطعة قمر، وفي رواية: دارة قمر]] .
هذا وجه النبي صلى الله عليه وسلم للإنجاز الذي حققه المسلمون، ولرؤيته لبعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم.
ثم بعد هذه الأحاديث ذكر حديثاً آخر، وهو حديث أبي هريرة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه} .
الآن أنا وأنت سرورنا لماذا؟ يمكن أن سرورنا للطعام أكثر من سرورنا لقضية الإسلام، فالواحد منا إذا قدم له طعامُُ جيد، جيد الطهي، والطبخ، سر لذلك وانتبسطت نفسه، لأن اهتماماتنا دون، وقضية الإسلام قد لا تعنينا بنفس القدر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان على النقيض من ذلك، فهو عليه الصلاة والسلام ما عاب طعاماً قط، قضية الطعام عنده ليست مشكلة، كيف طهي الطعام، ما نوع الطعام، لا يعيبه إذا أعجبه أكله، وإذا لم يعجبه تركه، والمقصود بلا شك الطعام المباح، أما لو كان طعاماً محرماً فإنه ينهى عنه صلى الله عليه وسلم ويعيبه، إنما المقصود الأطعمة المباحة، فانظر كيف كان حال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.(184/38)
الإحساس القلبي والألم الصادق على المسلمين
لابد لمن يحمل هم الإسلام أن يكون الإسلام في قلبه شعوراً فياضاً، يملك عليه لبَّه ومشاعَره، ويتحكم في أحاسيسه -كما أسلفت- في حزنه وسروره، واكتئابه وانبساطه، وغضبه ورضاه، ويكون كل ذلك مربوط بقضية الإسلام الكبرى.
على سبيل المثال محمد صلى الله عليه وسلم، اقرأ الأحاديث التي فيها عبرة؛ الحزن والرضا، والسرور والفرح، فيما يتعلق بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً: خرج صلى الله عليه وسلم فزعاً مذعوراً، رأيته صلى الله عليه وسلم مسروراً، رأيت البِشر في وجهه، رؤي في وجهه الغضب، خرج صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير وجهه، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه هي الكلمات المعبرة عن مشاعر من غيظ أو غضب أو سرور أو حزن أو ما أشبه ذلك.
ثم انظر إلى هذه الأشياء؛ فيم كان غضبه ورضاه صلى الله عليه وسلم؟ وفيم كان حزنه وسروره؟ وفيم كان هذا الشعور؟ لا تكاد تجد ذلك إلا في قضية مرتبطة بقضية الإسلام الكبرى، وبقضية الدعوة التي ملكت على الرسول صلى الله عليه وسلم كل مشاعره وأحاسيسه.(184/39)
الهم يدل عليه العمل
أخيراً فإن هذا التوتر لقضية الإسلام، وهذا الهمُّ، لا بد أن يتمثل في شيء تقدمه للإسلام بعطاء، أو مشاركة، أو عمل قلَّ أو كثر، صغر أو كبر، تستطيع أن تقدمه للدين وتنفع به الإسلام والمسلمين، عطاءً يبدأ بالوعي والانتساب لهذا الدين حقيقةً، ولا ينتهي إلا بآخر نفس يخرج من الإنسان، فما دامت روح الإنسان في بدنه، فهو حريصُُ على أن يقدم العطاء.
هذا العطاء الذي جعل عمر رضي الله عنه يقول فيما رواه البخاري تعليقاً، ورواه ابن حزم في المحلى وسنده صحيح يقول: [[والله إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة]] تزاحمت عنده الهموم والمشاعر، وكلها للدين، فيجهز الجيش وهو في الصلاة، ربما ضاق به الوقت، لم يتسع، والجيش على مشارف المدينة، فـ عمر يفكر في الجيش، لو ولينا فلاناً، لو أمَّرنا فلاناً، لو أخرجنا فلاناً، لو وجهت الجيش كذا، وهو في الصلاة.
هذا الهم هو الذي جعل الإمام الشافعي رضي الله عنه، يتقلب في فراشه حتى يبرق الفجر ما نام فيقول: [[إنه حل في تلك الليلة عشرين مسألة فقهية]] .
هذا الهم الذي جعل شاعراً من شعراء الإسلام، ورجلاً من رجالاته الكبار، يتكلم عن آلامه ومصائبه، وما يعانيه في عصرٍ كهذا العصر فيقول: قال الطبيب وقد أعيتهُ حالتنا ولم يُغادر لما يرجوه من سببِ كيف الشفاءُ بعيشٍ جد مُضطربِ والفكر في شغلٍ والقلبُ في تعبِ ما دُمت في بؤرة الأيامِ مُنتصباً للطعن والضرب لا رجوى لِمرتقبِ ولو ملكتُ خياري والدنا عرضت بِكل إغرائها في فنها العجبِ لما رأت غير إصراري على سنني وعادها اليأسُ بعد الهد والنصبِ قلبي خليٌ عن الدنيا ومُطَّلبي ربى فليس سرابُ العيشِ من أربِ هذا الشعور ربما أفلح واحد في التعبير عنه، لكنه شعور كثير من رجالات الإسلام ودعاته على مدار التاريخ، ويجب أن يكون هو شعوري وشعورك وشعورنا جميعاً.(184/40)
قصة سليمان عليه السلام
ويعجبني أن أستشهد لهذا العطاء بنموذج أو مثال قد يكون بعيداً بعض الشيء عما نتحدث عنه الآن، وهو ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، في قصة سليمان عليه الصلاة والسلام، يقول أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن سليمان قال: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة من نسائي تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله} هو نبي الله، ومع ذلك فهو بشر؛ لأن الله تعالى يبعث الرسل بشراً من الناس، فالطبيعة البشرية موجودة فيه، والميل إلى المرأة موجود فيه، وهو يستمتع بذلك، لا أقول كما يستمتع غيره، بل أكثر، لأن الله تعالى يعطي الأنبياء من القوة -حتى في أجسادهم- ما لا يعطي غيرهم، وقد أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم قوة ثلاثين أو أربعين رجلاً في الأكل والشرب والجماع، كما في حديث أنس: {كنا نحدث أنه أعطى قوة ثلاثين} وفي بعض الروايات والآثار أربعين وفي روايات أيضاً: {أربعين أو ثلاثين من أهل الجنة} .
المهم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عندهم من القوة ما ليس عند غيرهم، فهم يستمتعون بما أحل الله لهم من الطيبات، ومع ذلك انظر ماذا كانت مشاعر سليمان عليه الصلاة والسلام {تلد كل امرأة منهم غلاماً يقاتل في سبيل الله} فكان هذا أمل {ولم يقل: إن شاء الله، فقال له الملك: قل: إن شاء الله.
فنسي أن يقولها فلم تلد منهن إلا امرأة جاءت بشق غلام، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34] } .
قال بعض المفسرين: هذا لأنه لم يقل (إن شاء الله) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته} أي: أدرك ما أراد وولدت {لو قال إن شاء الله، ولدت كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله} .
إذاً هو لم يكن يقصد من هؤلاء الغلمان أن يتكثر بهم من قلة، ولا أن يستعز بهم من ذلة، ولا أن يبطش بهم، إنما كان يقصد من وراء ذلك أن يظل هؤلاء مجاهدين في سبيل الله، يرفعون راية الإسلام، ويخوضون المعارك، أو يقتلون شهداء.
وفي مقابل ذلك، هذا العمل نفسه قد يفعله الإنسان على مدار التاريخ، هولاكو أو جنكيز خان، وغيرهم من الأباطرة والأكاسرة والقياصرة، لا أقول: إنه يهدف إلى غلمان يجاهدون في سبيل الله، بل يهدف إلى غلمان يناوئون الإسلام، وإلى من يهدمون دولة الإسلام، وإلى من يقاومون زحوف المجاهدين في سبيل الله عز وجل، العمل واحد لكن النيات شتى.(184/41)
قصة ابن الزبير
وقل مثل ذلك في مثل آخر ربما يكون بعيداً، وهو أيضاً في صحيح البخاري عن وهب ٍ أن أهل الشام عيروا عبد الله بن الزبير، وقالوا له: (يا ابن ذات النطاقين) فقالت له أمه: يعيرونك يقولون: يا ابن ذات النطاقين؟ قال: نعم! قالت: وهل تدري ما النطاقان؟ قال: لا، قالت: لما ذهب أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة شققت نطاقي -نطاق المرأة الذي تضعه في وسطها- فجعلته نصفين: أحدهما: لقربة رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني: لسفرته، ولذلك كانت ذات النطاقين، فتمثل ابن الزبير أو تمثلت أسماء بقول أبي ذؤيب الهذلي: وعيرني الواشون أنى أُحِبها وتلك شكاةُُ ظاهرٌ عنك عارُها هناك عيب أني ذات النطاقين، بل هذه محمدة وحسنة، وهذا البيت إنما تمثل به ابن الزبير رضي الله عنه أو تمثلت به أسماء، وإلا فالواقع أنه لـ أبي ذؤيب الهذلي ضمن قصيدة يقول فيها: هل الدهر إلا ليلةُُ ونهارها وإلا طلوع الشمس ثم غيارها أبى القلبُ إلا أم عمرو فأصبحت تحرَّق ناري بالشكاة ونارها وعيرنى الواشون أني أحبها وتلك شكاةُُ ظاهرٌ عنك عارُها فنحب منك يا أخي -جزاك الله خيراً، ونفع الله بك الإسلام والمسلمين- أن تعطي عطاء من لا ينتظر من أحد في الدنيا جزاءً ولا مثوبة، ولا ينتظر ثناءً من الناس، ولا مدحاً، ولا جاهاً، وإنما ينتظر الجزاء عند الله تعالى في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، نريد العطاء الذي ينبعث من ذاتك، غير مرتبط بزمان ولا بمكان ولا بظرف، فأنت تعمل على أن تقدم لدينك ما تستطيع في كافة الظروف، حتى وأنت على سرير الموت.(184/42)
من موقعك تخدم الإسلام
هذا العطاء الذي نريده منك عطاء ينطلق من موقعك، ووظيفتك، ودراستك، وسكنك، وعلاقاتك الشخصية والاجتماعية، ومواهبك وطاقاتك، ذات العمل الذي تأخذ عليه راتباً أحياناً، والعمل الذي قد تطالب بمقتضى النظام أن تقوم به، هذا العمل نفسه يمكن أن تقدم من خلاله خدمات جليلة للإسلام إذا نصحت لله تعالى ولرسوله ولعباده المؤمنين، وحرصت على أن تكون مخلصاً لله بعيداً عن الرياء والسمعة، والغش، والتزوير، والظلم، وبعيداً عن القيام بأي عمل تعتقد أنه لا ينفع المسلمين، أو أنه لا يخدم الإسلام، أو أنه ضد دعوتك ودينك الذي تدين به.
ليس المجال الوحيد هو مجال الفتيا أو القضاء، أو التعليم الشرعي، أو إلقاء الدروس والمحاضرات أو الخطب مثلاً! أبداً وهذا مجال خصب، لكن هناك مجالات أخرى كثيرة في واقع المسلمين، يستطيع المختص سواءً في المجالات الطبية، أو في مجالات العلوم الطبيعية، أو في مجالات العلوم التطبيقية، أو العلوم الإنسانية، أو غيرها، والمسلمون يحتاجون إلى كوادر وإلى أعداد هائلة من أصحاب هذه التخصصات كلها؛ حتى يتحقق للمسلمين وجود المجتمع الإسلامي المتكامل، فلا تبخل على نفسك وعلى دينك بما تستطيع.
وأنت -يا أخي- حين تقدم هذا العطاء، لن تخسر شيئاً أبداً، سوف تستمتع بما أحل الله لك، وسوف تجد الفرح والسرور والطمأنينة في قلبك، وهي عاجل بشرى المؤمن، وسوف يهبك الله تعالى من السعادة والتوفيق -حتى في أمورك الدنيوية- ما لا تحتسب، ومع ذلك فإنك يجب أن تعلم أن الدنيا ليست هي دار العطاء والجزاء، إنما الدنيا هي دار الكد والكدح والعمل، وأما جزاؤك فتنتظره في الدار الآخرة، لن تخسر شيئاً وأنت تقدم.(184/43)
استشعار المسلم موقعه
هذا العطاء الذي نريده منك أخي المسلم، ومن المسلمة أيضاً، هو عطاء من يشعر بأنه يشكل جزءاً من الإسلام، وأنه رقم في ذلك العدد الذي يُحسب به المسلمون إذا حسبوا وعُدُّوا، فأنت واحد منهم شئت ذلك أم أبيت، هذا الرقم الخيالي، أنت معدودٌ فيه، محسوبٌ فيه، وإن كنت تقول: هؤلاء فيهم وفيهم، لكنك واحد منهم، وهذه الآلام، وهذه العيوب، والأمراض والأوجاع لك منها حظُُ ونصيب، قلَّ أو كثر.
فيبقى
السؤال
ما دام أنك تشكل رقماً، هل أنت تشعر بالشعور الذي كان يشعر به سعد بن أبي وقاص؟ في صحيح البخاري يقول سعد رضي الله عنه: [[والله لقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام]] هو لا يعرف إلا ثلاثة أسلموا، يقول: أنا واحد منهم، فكنت أشكل ثلث الإسلام مدة أسبوع، والواقع أنه ما كان ثلث الإسلام رضي الله عنه فهناك مسلمون مختفون ما كان يعرفهم، فكان يظن أنه ثلث الإسلام، ولكن الواقع أنه كان خمس أو سدس أو سبع الإسلام، المهم كان يشعر بأن هناك جزءً من الدين على ظهره وكاهله، وهو الآن ليس له من حين أسلم إلا أسبوع فقط، أنا وأنت شبنا في الإسلام، ومع ذلك ليس في قلوبنا تلك الحرقة، ولا فيها ذلك اللهيب الذي يدعونا إلى أن نفكر دائماً في كيف نعمل للإسلام، وكيف نقدم.
يعجبني -يا أخي- الإنسانُ الذي يقول: ماذا أفعل؟ ما هو دوري؟ هذا دليل على أنه يريد أن يعمل شيئاً.
المشكلة الإنسان الذي يصبح كالنبتة التي نبتت في الظل، هي دائماً منجعفة، ليس فيه قوة، ولا إشراق، ولا حرارة، ولا توقد، هذا الإنسان لا يصنع شيئاً.(184/44)
الأسئلة(184/45)
مصادر الإعلام
السؤال
ماذا عن مصادر الإعلام؟
الجواب
في الواقع إن هذه من المشاكل التي يعانيها المسلمون، لذلك لا توجد مصادر إعلامية معتمدة للمسلمين، والمسلم محتاج لأن يقرأ، ويسمع ما يقرأ، ويسمع غيره، لكن يمحص في هذه المرويات والمعلومات، ولا يقبل كل ما يسمع أو يقرأ.(184/46)
تسمية المدينة المنورة
السؤال
سميت مدينة الرسول -عليه الصلاة والسلام- باسم المدينة المنورة، وقد سمعت أحد المشايخ يقول: إن تسمية المدينة المنورة ليست صحيحة، أو أنها من البدع؟
الجواب
ما سمعنا بهذا، ولا نقول: أن اسم المدينة المنورة هو المشروع، اسمها المدينة وإن سميت المدينة النبوية، لوجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها، أو قلت: المدينة المنورة أو المدينة، فكل ذلك جائز وهذه أسماء لا يتعبد بها.(184/47)
تصور خاطئ لإقامة دولة الإسلام
السؤال يقول: إني أحبك في الله -جزاك الله خيراً- مشاعر وهموم، واهتمامات بالإسلام والمسلمين، أسأل الله أن يثيبنا وإياك ويقر عيوننا جميعاً بصلاح المسلمين، -اللهم آمين- يقول: إن هناك من يقول ويعتقد أنه ليس هناك من سبيل لرفع هذا الذل عن الأمة، وإقامة القرآن في الأرض من جديد، إلا أن يهبَّ أكثر الأمة الإسلامية إلى الجهاد في سبيل الله، على أرض يستطاع منها الجهاد -مثلاً- في أفغانستان، ومن هناك تقوم دولة الإسلام، ثم ينتشر جهاد الطلب لفتح البلاد وحكمها بالإسلام، ويقول: إن هذا هو الذي فعله صلاح الدين الأيوبي، أما غير ذلك كالتربية على الإسلام الصحيح بعد الدعوة إلى الله، فهذا أمرُُ لا يؤدي إلى شيء، بل قد يكون قعوداً عن دواعي النصر؟
الجواب
بصراحة هذا موضوع سوف أخصص له درساً، مشكلتنا أن تفكيرنا غلط في كثير من الأحيان، ومشاعرنا أيضاً غلط في كثير من الأحيان لابد أن نصححه، ولا بد أن نكون شجعاناً وصرحاء مع أنفسنا، رأيت كثيراً من أحبتي الشباب اختصروا كل مشاكل المسلمين، وقضاياهم، ومآسيهم، ومصاعبهم، في شيء واحد اسمه "أفغانستان"، يا أخي أفغانستان على العين والرأس، وأفغانستان تعيش في قلوبنا، واثنتي عشرة سنة ونحن نعيش هماً اسمه أفغانستان، طالما عاش لها المسلمون وحزنوا، ورووها بدموعهم ودمائهم وأموالهم.
لكن ليس صحيحاً أن ليس للمسلمين مشكلة سوى أفغانستان، وأن المسلمين يجب أن يهاجروا إلى أفغانستان، وأن الإسلام سوف ينطلق من أفغانستان.
هذا التصور تصور فيه قدر كبير من السذاجة، المسلمون الآن عندهم عيوب في داخلهم، مستوى الوعي عند المسلمين ضعيف، ومستوى التفكير عند المسلمين ضعيف، وتقدم المسلمين في المجالات العلمية ضعيف، والتزام المسلمين بدينهم ضعيف، وعقائد المسلمين تحتاج إلى إصلاح، كثير منهم لم يفهموا عقيدتهم فهماً صحيحاً، فالحقيقة أن العناية بالمسلمين في كل مكان هو الواجب، وإذا لم تحدث تلك العناية، فقد تتحول كثير من بلاد المسلمين إلى أفغانستان أخرى.
ثم نقول للإخوة: أفغانستان بلد أهله مسلمون، لكن في أفغانستان من السلبيات مثلما في البلاد الإسلامية الأخرى، الجهل، التعصب المذهبي، الضعف في العقائد، وجود خلل، وجود تناقض واختلافات، وجود مشاكل، هذا أمر موجود في أفغانستان كما هو موجود في أي بلد إسلامي آخر، فلماذا نتصور أن أفغانستان مجموعة من الصالحين، أو نصور هذا للناس؟ فإذا ذهب بعض الشباب بهذه النفسية وجدوا هناك بعض الانحرافات وبعض الأخطاء، وبعض الاختلافات، ووجدوا ووجدوا، أقول: ربما انصدم بعضهم، أو انكسروا، وربما رجعوا بغير الوجه الذي ذهبوا به، لماذا لا نكون صرحاء مع أنفسنا؟ لماذا لا نواجه واقعنا بوضوح؟ لماذا لا نكون واقعيين؟ لماذا لا نكون معتدلين في أحكامنا؟ كنت ولازلت مؤيداً لقضية أفغانستان، وأدعو إلى التبرع لأفغانستان، وأقول: إن قضية أفغانستان هي من أهم قضايا المسلمين، وهي دليل على مدى صدق الإنسان في تبني قضايا المسلمين، فلا بد أن يهتم المسلم بقضية أفغانستان.
لكن يهتم بها من كل وجه، يهتم بالإصلاح بين المجاهدين الأفغان، يهتم بتصحيح تصورات وعقائد وأفكار ونظرات المجاهدين، سواء كانوا من الأفغان، أم من العرب الذين يقيمون هناك، أما تصور بعض الشباب أنه بمجرد ما يحمل الإنسان السلاح، فقد زالت كل المشاكل، وانحلت كل الأمور، يا إخواني هذا تصور فيه كثير من السذاجة.
وأرجو أن لا يفهم هذا الكلام المختصر خطأً.
اللهم أصلحنا، وأصلح بنا يا حي يا قيوم، اللهم اهدنا سواء السبيل، رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(184/48)
من هنا وهناك
تكلم الشيخ في هذا الدرس عن شهر رمضان، وذكر أن رمضان فرصة للوحدة الصادقة بين المسلمين، وأنه لابد من صفاء القلوب للمسلمين جميعاً، ثم ذكر أن رمضان فرصة للإقبال على إصلاح الباطن، وتطهير القلوب، فهو فرصة لتجديد الحياة، وكسر روتينها الممل، وبيَّن أنه لابد من الاهتمام بتربية الناس في رمضان، رجالاً ونساءً، ثم ذكر الحكمة من مشروعية الخطبة يوم الجمعة، وكيف كانت خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أن رمضان فرصة للإنفاق في سبيل الله.
ثم تكلم الشيخ عن أحداث الجزائر، ودور الشيعة في هذه الأحداث، ثم ذكر إيجابيات هذه الأحداث، وبيَّن أن دعوة أهل السنة ليست دعوة إلى العنف، ولا إلى الحروب الأهلية.
ثم ذكر الشيخ مشاركات شعرية وهي عبارة عن قصيدتين تحدثتا عن أحوال المسلمين، ثم تحدث عن الرسائل البريدية التي تصل إليه من كثير من البلدان الإسلامية.(185/1)
السبب في اختيار موضوع: من هنا وهناك
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذا الدرس الخامس والخمسون من سلسلة الدروس العلمية العامة ينعقد في هذه الليلة، ليلة الإثنين الثامن والعشرين من شهر شعبان، لسنة ألف وأربعمائة واثنتي عشرة للهجرة.
أيها الأحبة، كنت قد أخبرتكم أن عنوان هذا الدرس سيكون: (من هنا وهناك) ولعل مضمون الدرس واضح من عنوانه، فإنه كان يمر بي خلال فترة طويلة مضت كثير من الأوراق والرسائل والأسئلة والقصاصات والاقتراحات وغيرها.
فكنت أود أن أجد لها فرصة في مثل هذه الدروس، لكن الوقت يمضي والأحداث تتوالى، فتكاثرت فرأيت أن أفرد لها مثل هذا المجلس بين الفينة والأخرى.
وبناءً عليه، فإن هذا المجلس سيكون عبارة عن أشياء موزعة ومتفرقة وأمور عديدة، مما يكون فيه تواصل بيني وبينكم، وتعاون على البر والتقوى، وتناقش فيما يكون فيه مصلحة للجميع.
وأرجو أن يكون في ذلك خير وبركة، وأن يكون مجلساً عامراً، فيه من المتعة والفائدة ما فيه.
ولعل أول نقطة لابد أن أبدأ بها الآن وقد قارب شهر رمضان على القدوم، هي: الحديث عن شهر رمضان.(185/2)
من فوائد شهر رمضان
ففي خلال هذا الأسبوع يستقبل المسلمون هذا الشهر الكريم، الذي خصه الله تعالى بالذكر في كتابه، وأنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، هذا الشهر الكريم أيها الأحبة هو:(185/3)
رمضان فرصة للإنفاق في سبيل الله
رابعاً: شهر رمضان فرصة للإنفاق في سبيل الله، ورعاية المستضعفين في كل مكان.
المستضعفون -أيها الأحبة- كثير، ولعل مما يدمي القلوب، أن تعلموا أنه في الوقت الذي يمتلك المسلمون فيه أكثر الثروات في العالم، فإن أكثر الفقراء في العالم، بل وأفقر الفقراء في العالم، هم في بلاد المسلمين.
وهناك بلاد لا يجد المسلم فيها قوت يومه، ولقد رأيت ورأى غيري -والله الذي لا إله غيره- أجساداً من الكبار والصغار، كأنهم هياكل بشرية، ولولا أن الإنسان رآهم ما كان يصدق أنه يوجد أناس بمثل هذه الصورة، وما يتسامع به المسلمون مما يجري للاجئين الإريتريين في السودان -مثلاً- أو في بنجلاديش أو في كشمير، أو في الجزائر أيضاً، أو غيرها من ذلك الكثير والكثير.
فأين المحسنون؟ أين المتصدقون؟ أين من أنعم الله عليهم بالأموال؟ {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} [محمد:38]-أي: بترك النفقة في سبيل الله- {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] .
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي كما في صحيح مسلم: {أنفق فسننفق عليك} و {ما من يوم تطلع شمسه، إلا وملكان يناديان: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً} .
فيا أيها التجار، ويا أيها الأثرياء، ويا أنصاف التجار وأنصاف الأثرياء، ويا من يجدون سعة فيما أعطاهم الله تبارك وتعالى، أين أنتم من الإنفاق؟! أين أنتم من العطاء الذي يدفع الله به عنكم ميتة السوء والبلاء، ويدخلكم به الله الجنة! ويرضى به عنكم! ويوفقكم، فتكسو عارياً، أو تعين محتاجاً، أو تشبع جائعاً، أو تروي عطشاناً، أو تعلم جاهلاً، أو تهدي ضالاً، إلى غير ذلك.
وأقول بهذه المناسبة: إنني وغيري من الإخوان وطلبة العلم، لدينا استعداد أن نتقبل كل من يرغب أن نكون وسطاء، في إيصال الزكاة والتبرعات وغيرها، ومكتبنا يقوم بصرفها لمستحقيها، سواء في داخل المملكة أو في غيرها من بلاد المسلمين.(185/4)
رمضان فرصة لتجديد الحياة
ثالثاً: رمضان فرصة لتجديد الحياة، وكسر روتينها الممل، فرمضان شهر له شخصيته الخاصة من بين شهور السنة، حتى الأطفال الصغار يعرفون لرمضان طعماً خاصاً، وحتى الفساق يعرفون كيف يكون رمضان.
بل حتى الشياطين يأخذون لرمضان هماً ثقيلاً لأنهم يسلسلون فيه ويصفدون، ولذلك تجد أن البلاد التي اندرست أو كادت أن تندرس فيها آثار الإسلام ومعالمه، وعبثت فيها العلمانية، تجد أن تلك البلاد إذا جاء رمضان تغيرت أشكالها -سبحان الله- وتغير الناس تغيراً كبيراً، فلا يزال رمضان يحتفظ بشخصيته المستقلة الخاصة المميزة من بين جميع الشهور.
ولذلك فإن من المناسب جداً أن تحشد كل المؤثرات، لتوجيه الناس إلى شرف هذا الشهر فضل العبادة فيه، والتوبة والإقبال على الله عز وجل، ووجوب الخروج من المظالم، وتربية الناس على التقوى والإيمان، وعلى كل معاني الدين التي جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام بتقريرها.
ويتم ذلك من خلال دروس المساجد -مثلاً- الموجهة للرجال والنساء على حد سواء، من خلال خطب الجمعة والمحاضرات، ومن خلال النشاطات والبرامج التي تقيمها مكاتب الدعوة والإفتاء وغيرها، بل من خلال الكتب والأشرطة التي ينبغي أن تغتنم فرصة اجتماع الناس في المساجد رجالاً ونساء لتوزيعها.
وأخص الحديث عن النساء، لأن النساء تجتمع في المساجد في رمضان ما لا تجتمع في غيره، فتوجيه الحديث لهن ونصحهن وإرشادهن، وبيان حدود ما أنزل الله للنساء، وتوزيع الكتب والأشرطة وغيرها، من أهم الأنشطة والأعمال التي ينبغي أن تلفت إليها الأنظار.
وحين نقول: إنه ينبغي حشد الجهود لتوجيه الناس إلى هذا الشهر الكريم، وما فيه من العبادة والقدسية، لا يعني هذا أبداً الغفلة عن أن الإسلام دين الشمول، وأننا نرفض بكل مناسبة، المفهوم الكنسي للإسلام، الذي يحاول البعض أن يلصقوه بهذا الدين.
المفهوم الذي يعتبر العمل في الدنيا -مثلاً- خطيئة، فتجد الواحد في رمضان يكف عن العمل، بل العمل جزء مما كلف الإنسان به في هذه الدنيا، ولو أن إنساناً ترك العمل حتى جاع أو جاع أولاده، لكان آثماً بذلك عند الله تعالى يوم القيامة.
أو المفهوم الذي يفصل بين الدين وبين الحياة، فيعتبر أن الدين لله -كما قال أحدهم، وقد نشر هذا المقال في مجلة اليمامة أو غيرها، وكان فيه كلمة تشير إلى أن (الدين لله والوطن للجميع) - وهذا مفهوم غريب، فإن الله تعالى له كل شيء، له الآخرة والأولى، وله السماوات والأرض، وله الحكم وإليه ترجعون، وبيده مقاليد كل شيء، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
فالدين لله والوطن لله، واجتماع الناس يجب أن يكون على أساس الأخوة الدينية، لا على أساس الأخوة الوطنية.
فالفصل بين الدين والحياة أمر مرفوض، والدين ما جاء إلا ليحكم حياة الناس من الألف إلى الياء -كما سبق أن بينا- فالدين يتحكم في المولود يوم يولد ماذا يسمى، وتحنيك المولود، وما يتعلق بالعقيقة إلى غير ذلك، ويتحكم في الميت حين يدفن في المقبرة كيف يدفن؟ وما هي الأشياء المشروعة عند دفنه؟ وعند الصلاة عليه وغسله، وغير ذلك.
وما بين ذلك من أحوال الفرد والجماعة والمجتمع والأمة والدولة، كلها لا يمكن أن يخرج منها شيء عن حكم الله تعالى ورسوله.
ليس في الدنيا شيء يقع إلا ولله ولرسوله فيه حكم، علمه من علمه وجهله من جهله.
ولذلك يكون من الأمور المستغربة، ما تسامع به الكثير من الناس في خطبة أذيعت في الإذاعة مرة أو أكثر، وتحدث ذلك الخطيب فيها عن الخطب، وانتقد تناول الموضوعات السياسية في الخطبة -مثلاً- وقال: إن الخطب تحولت إلى منتديات سياسية، وإن الخطيب يخطب حتى يحتشد الناس حوله، أو حتى يذكر، أو حتى تباع أشرطته في محلات التسجيلات.
ولكن فاته أن يقول: أو يخطب لتذاع خطبته في الإذاعة أو يخطب ليتزلف بذلك إلى سلطان أو غيره.
كما أنه قال إن الخطبة لم تشرع لذلك، ولكنها شرعت للتربية الإيمانية!! وأقول: إذا كانت الخطبة شرعت للتربية الإيمانية، فهل يمكن أن نعتبر هجومه على الخطباء الذين يتحرقون لآلام المسلمين، من التربية الإيمانية؟! وإذا لم تكن الخطبة شرعت لمعالجة أحوال المسلمين وأوضاعهم، ودراسة أمورهم، فهل شرعت للنيل من الدعاة وطلبة العلم والخطباء على رءوس المنابر؟! وإذا كان الناس يختارون الخطيب الذي يستمعون إليه، ويأتونه من مكان بعيد؛ لأنهم يجدون الكلمة الصادقة، والتوجيه السليم، والألم والحرقة، والكلام الذي يربطهم بواقعهم، ويشعرهم بالدور الذي يمكن أن يقوموا به، فهل على الخطباء من لوم أو تثريب إذا انفض الناس عن غيرهم وجاءوا إليهم؟! هل قال لهم الخطيب: تعالوا إليّ واتركوا فلاناً وفلاناً؟! كلا، والخطيب لا يستطيع أن يضع على أبواب المساجد شرطةً يمنعون الناس من الدخول، بل وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ونحن نعتبر من مظاهر يقظة الأمة وصحوتها؛ أن تقبل على الخطباء الذين تجد عندهم الكلمة الهادفة، وليس صحيحاً أن المسألة مجرد إثارة، كلا ثم كلا، بل القضية قضية أن هناك خطباء يلامسون الجرح الذي يعانيه المسلمون.
وما معنى -أيها الإخوة- أن يكون المسلمون يعيشون هموماً كبيرة في وقت، ثم يتحدث الخطيب في ميدان آخر؟ أرأيت خطيباً -وأضرب مثلاً يناسب حال ذلك الخطيب- أرأيت يوم حصل الاجتياح العراقي للكويت، واهتم الناس بهذا الأمر، وأقض مضاجعهم وأزعجهم وأقلقهم، هل كان من المناسب أن يأتي الخطيب إلى جمهور من الناس، يريد أن يسمع حكم الله ورسوله فيما جرى، ويريد أن يعرف ماذا يجب علينا أن نعمل، ويريد أن يسمع كلمة عزاء لمصاب، أو كلمة دعاء على ظالم، ثم يأتي الخطيب ويتجاهل هذا الواقع كله ويذهب ليتحدث عن قضية تاريخية حصلت في القرن الأول أو القرن الثاني؟! أو يتحدث عن قضية بعيدة كل البعد عن هذا الموضوع؟! أو يتحدث عن أحكام تتعلق بالطهارة يمكن أن يتحدث عنها في أي وقت آخر؟! لا شك أن من أهم أسباب نجاح الخطيب، بل من الأهداف المشروعة للخطبة، أن تعالج الخطبة ما يمس واقع الناس، وما يحتاجون إليه.
ولو تساءلنا: كيف خطب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته؟ ألم تكن خطب الرسول صلى الله عليه وسلم -وكثير منها محفوظ كله أو جله- ألم تكن رفضاً لشرك العرب في الجاهلية؟ ألم تكن دعوةً إلى التوحيد؟ بلى، ولما آمن الناس كانت الخطب تربية لهم على الإيمان، وبياناً للأحكام الشرعية، ولما توفى الرسول صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر فخطب فماذا قال؟ الآن الناس يعيشون حدثاً كبيراً، هو حدث وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقلوبهم مشدوهة، ونفوسهم مشحونة، وعيونهم دامعة، وأيديهم ضارعة، فماذا قال أبو بكر؟ لم يأتِ ليخطب عن قضية بعيدة، بل خطب في الموضوع نفسه، وقال كلمته المشهورة التي نفع الله بها نفعاً عظيماً فقال: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت]] .
ثم تلا قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] إذاً الخطبة ينبغي أن تكون مرتبطة بالواقع، حتى تربية الناس التربية الإيمانية، ينبغي أن تنبثق من الواقع ومن الأحداث.
وقد كان الله تعالى، يربي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن، من خلال الأحدث، فإذا وقع حدث ما، نزل القرآن بالكلام عن هذا الحدث وبيان أسبابه.
حصلت معركة أحد، فانهزم المسلمون، وبدءوا يتساءلون لماذا هزمنا، ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنا الحق؟ فنزل القرآن، يقول الله تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] .
والآية التي بعدها {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166] إلى غير ذلك، والقرآن كثير منه له أسباب نزول من هذا القبيل.
إذاً التربية الإيمانية ينبغي أن تكون مرتبطة بواقع الناس.
ثم إن شئون المسلمين وهمومهم وقضاياهم واحدة، ولم يحرم الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على أحد أن يقول كلمة الحق، بل أمر بها وأوجبها، ولو لم تقل الأمة كلمة الحق فقد تُودّع منها، ويحل عليها عقاب الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] .
إن الخطيب قد يقول كلمة حق يرفعه الله تعالى بها في الدنيا والآخرة، ويدخله بها الجنة، ويكون في هذه الدنيا محل حفاوة الناس وحبهم وتكريمهم، وقد يقول الخطيب كلمة متجنية، يحترق بها في الدنيا ويسقط من أعين الناس، أما الحساب في الدار الآخرة فلسنا ممن يتكلم عنه فإن الله تعالى هو ولي ذلك.(185/5)
رمضان فرصة لإصلاح القلوب
ثانياً: إن رمضان فرصة للإقبال على إصلاح الباطن وتطهير القلوب، فنحن نعلم جميعاً أن الصوم لم يشرع من أجل الجوع والعطش، وأن الصلاة لم تشرع من أجل السهر والتعب، وكذلك العمرة التي يؤديها الناس في رمضان وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم العلاء الأنصارية: {إذا كان في رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة} وفي رواية: {حجة معي} .
فهذه العمرة لم تشرع لضياع المال والجهد وتعب السفر ولأوائه! كلا.
ولكن ذلك كله شرع حتى يكون قلب الإنسان سليماً، لينجو يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولذلك فالعبرة بثمرة العمل ونتيجته، ورب ركعتين يركعهما الإنسان بإخلاص، وصدق مع الله عز وجل لا رياء فيها ولا سمعة يكتب الله بها نجاة العبد، ورب عمل طويل كثير، عمله الإنسان رياءً أو سمعة أو ما أشبه ذلك، يكب الله صاحبه على وجهه في النار.
قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] .
ما معنى -مثلاً- أن تجد من المسلمين من يصوم وهو لا يصلي، حتى لا يصلي الصلوات الخمس ولا في بيته، وما معنى أن يصوم الإنسان في النهار عن الطعام والشراب، وأن يفطر في الليل على ما حرم الله، فتجدهم يسكرون، وربما يجتمعون على لهو ولعب وباطل من القول والفعل والنظر والسماع.
وما معنى أن يصوم الإنسان عن الطعام والشراب، ويفطر على أعراض المسلمين، فيأتي وقد نهش هذا وطعن هذا، وشتم هذا، وتكلم في هذا واتهم هذا، وقال في هذا بغير حق، وهذا هو المفلس كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصوم وحج ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار} .(185/6)
رمضان فرصة لوحدة المسلمين
أولاً: فرصة للوحدة الصادقة بين المسلمين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم، الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة، إذ أنه يوحد بينهم في الصيام والفطر والصلاة، وغير ذلك من الأعمال.
فهل يعي المسلمون ذلك؟ وقد تشتت بهم السبل، وتفرقت بهم الأهواء، واختلفت قلوبهم فصاروا هكذا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أهواء شتى، وقلوب متفرقة، وآراء مختلفة، هذا بين من يلتزمون بالمنهج الصحيح، دعك من أهل البدع فلنا معهم حديث آخر، دعك من الضالين والمنحرفين، لكننا نوجه هذا الحديث إلى المسلمين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم.
إن الله تعالى إذا حرم قوماً بركة العمل سلط عليهم الجدل، ولهذا جاء في الحديث المروي: {ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل} فأنت تجد الفرص والمناسبات، التي إنما شرعت وأحدثت لتعميق الوحدة بين المسلمين الصادقين، وتأليف قلوبهم، وإزالة الوحشة والشحناء والبغضاء من نفوسهم، وتصفية ضمائرهم، تجد أنها في كثير من الأحيان تحولت عندهم إلى نوع من الجدل، الذي لا يزيد القلوب إلا تفرقاً، ولا يزيد الخلاف إلا اشتعالاً، فإذا قدم رمضان وجدت جدلاً عظيماً بين المسلمين في كل مسجد في أمور كثيرة، في صلاة التراويح، وكم تصلى؟! ثم في زكاة الحلي للنساء، وهل فيها زكاة أو ليس فيها زكاة؟ ثم في إثبات دخول الشهر وكيف يتم إثبات دخوله بالرؤية أم بالحساب؟ وهل يصوم المسلمون كلهم جميعاً؟ أم كل بلد له رؤيته الخاصة؟ إلى غير ذلك من المسائل والأمور! ونحن لا نعترض أبداً -وأقولها بوضوح؛ لئلا يفهم الكلام خطأ- على البحث العلمي الجاد في كل هذه المسائل.
فإنه لا يملك أحد أن يحجر على قلوب الناس، وألسنتهم، وعقولهم، ودراساتهم، كلا.
وما زال العلماء يبحثون في مثل هذه الأمور وفي غيرها منذ القديم، ولكنها لم تكن يوماً من الأيام مجالاً للاختلاف والتطاحن، وللقيل والقال، وللتخطئة على رءوس الأشهاد، وإيجاد أشياء كثيرة في نفوس العامة.
فإنهم لا يدرون ماذا يأخذون وماذا يدعون، أرأيت -مثلاً- في كل مسجد من المساجد يدور جدل كم نصلي التراويح؟ فيقول قوم نصليها خمساً، ويقول آخر نصليها عشراً، ويقول آخر: غير ذلك، ويحدث اختلاف، حتى إن بعضهم يترك المسجد ولا يصلي ويذهب إلى غيره ليصلي، إلى غير ذلك من الأمور! وأجزم أيها الأحبة، أن اجتماع المسلمين في مسجد من المساجد على صلاة التراويح -مثلاً- على الصورة المفضولة أولى من اختلافهم وتناحرهم، وكثرة القيل والقال، وارتفاع الأصوات في المساجد واللغط وغير ذلك، وأشد من ذلك كله اختلاف القلوب، ووجود البغضاء والشحناء على أمور لا يدعو الأمر إليها.
فقد اختلف الصحابة في هذا الأمر، واختلف التابعون فيه، وتجادلوا فيه بالحسنى، ولم ينقل أن أحداً منهم ضلل أو فسق أو بدع لأجل ذلك، ولا هجر أحداً لأجل ذلك، ولا ترك الصلاة خلفه لأجل ذلك، ولا أن هذا الأمر أدى إلى اختلاف في القلوب وتناحر وتطاحن.
فمتى يعي المسلمون ذلك؟ وتتحول هذه المناسبات إلى مجال لتقريب القلوب وتصفيتها! فإن من أعظم ما يعبد الله تعالى به صفاء القلوب على المسلمين.
والحديث الذي رواه أحمد والطبراني وغيرهم، وسنده حسن، في قصة عبد الله بن عمرو بن العاص معروف مشهور، وفيه {أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر رجلاً من الأنصار بالجنة، فلم يجد عبد الله بن عمرو بن العاص من عمل هذا الرجل، كبير صوم ولا صلاة، إلا أنه يبيت، وليس في قلبه غل على مسلم على فضل أعطاه الله تعالى إياه} .
فلنعبد الله تعالى بالقلوب النظيفة، والنفوس السليمة، التي لا تحمل لمسلم صادق غلاً، ولا غشاً، ولا حقداً، ولا حسداً، ولا كراهية، ولا بغضاء، وما أعز مثل هذا في نفوس الناس.
قد يلتبس هذا الأمر أحياناً بصورة الغيرة على الدين، أو بصورة الغضب لمسألة علمية، أو بصورة الغيرة على الوحدة الإسلامية، أو بصورة البحث عن المصلحة، يلبس أزياء شتى ولكن حقيقته واحدة.
فإذا جاء الحج، الذي هو فرصة لوحدة المسلمين الصادقين، الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة، تراهم يقفون في صعيد واحد، ويفيضون في وقت واحد، إلى غير ذلك من الأعمال، ويجتمعون في مكان واحد، ليتدارسوا أمورهم، وجدت أن كثيراً من المسلمين يأتيهم الداء مرة أخرى فيشتغلون بجدل عظيم حول أمور كثيرة، وآخر ما يشغلهم هو ما شرع الحج لأجله! وأعظم ذلك هو تعميق وحدانية الله تعالى في القلوب.
والذي يقرأ سورة الحج -مثلاً- يعرف أن من أعظم أهداف مشروعية الحج؛ تحقيق التوحيد في قلوب العباد.
قال تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] وقد أخذنا شعائر الحج عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وكانت كثير من هذه الشعائر يعمل بها أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو سيد الحنفاء والموحدين، فليتفطن لذلك، ولنعمل جميعاً على أن نجعل من مثل هذه المناسبات فرصة لتحقيق الوحدة بين المسلمين الصادقين، بين الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة.(185/7)
تعقيبات على أحداث الجزائر
الوقفة الثالثة في ضمن هذه الجلسة، فهي تعقيبات على أحداث الجزائر، وقد كنت تناولتها تفصيلاً في الجلسة الماضية، ولكن جاءتني أسئلة واستفسارات كثيرة، أحببت أن أقف منها على أمور يسيرة، بقدر ما يتسع له الوقت.(185/8)
إعطاء الدعاة فرصة لتكوين البرامج والخطط
رابعاً: من إيجابيات الحدث: إعطاء أولئك الدعاة من حملة الإسلام، فرصة أطول وأقوى، لتكوين البرامج والخطط الكافية التي يستطيعون أن يحكموا بها بلاد الجزائر، سواءً البرامج الاقتصادية بالدرجة الأولى وتدبير أمورهم والإعداد الكافي أو غيرها.
وربما -والعلم عند الله تعالى- لو انتصروا لاصطدموا بأشياء كثيرة، منها: المديونية الهائلة والوضع الاقتصادي الصعب في أرض الجزائر، وهو وضع صعب جداً، وهو من أخطر ما يواجه الحكومة.
فلعل من رحمة الله تعالى أن يتأجل هذا الأمر لفترة، لأن هذا سوف يعطي أولئك المسلمين فرصة أوسع وأطول، لمزيد من الدراسة والخطط التي يستطيعون بها -بإذن الله عز وجل- أن ينقذوا شعب الجزائر من أزماته التي يعانيها، وبالدرجة الأولى الأزمة العقائدية والأخلاقية والاقتصادية، وغير ذلك.
وعلى كل حال، فكما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم {الله أغير منا} فهذا دين الله عز وجل، والله تعالى أغير منا على دينه.
ولكنها مشاعر البشر الذين لا يملكون إلا الفرح بانتصار الدين، والحزن بخذلان أهله، وإن كان الأمر لله من قبل ومن بعد.(185/9)
دعوة أهل السنة ليست دعوة إلى العنف
أمر أود أن أؤكد عليه، وإن كنت أشرت إليه في الجلسة الماضية، وأقوله بعبارات واضحة صريحة، لأنني لا أحب أن يفهم مني أحد، أو يحاول أن يلبس على الناس ليفهمهم ما لم أقل.
أقول -أيها الإخوة-: نحن لا ندعو إلى العنف، ولم ندع إلى العنف يوماً من الأيام، ونحن لا نتحرق إلى استخدام القوة وإسالة الدماء، وقد تبين الآن من هم الذين يحاولون جر البلاد -كل البلاد- إلى الحروب الأهلية، وتبين من هم المستعدون للتضحية في سبيل حقن الدماء وحفظ أرواح المسلمين، لقد رمي المسلمون في هذا البلد، ورموا في الجزائر بأنهم يسعون إلى إشعال حرب أهلية، فتبين الآن لكل ذي عينين؛ من هو الذي يسعى إلى إشعال حرب أهلية هنا وهناك وفي كل مكان.
إن الذين يسعون إلى حرب أهلية، هم الذين قاموا بهذه الحركة، التي كان من الممكن أن تستفز الناس في الجزائر، وتدعوهم إلى الإصرار والنزول إلى الشوارع، ونزلوا بالجيش إلى الشوارع، وبناءً عليه فقد كان من الممكن أن يضرب المسلم الجزائري أخاه بالرصاص، وأن يتقاتلوا في الشوارع.
ولكن المسلمين هناك ضبطوا أنفسهم، وأشهد بالله أنهم كانوا على قدر كبير من الانضباط، وضبط النفس والأناة، بشكل ربما البعيدون عن الأحداث ما استطاعوا الصبر عليه، فكيف بالقريب الذي يواجه الأحداث ساعة ساعة ولحظة لحظة، ويواجه الضغوط من الناس، ومع ذلك كانوا في درجة عليا من الانضباط، والبعد عن الهيجان والغليان والاندفاع، وهذه شهادة أقولها لله تعالى، لا أرجو فيها جزاءً من أحد ولا شكوراً.(185/10)
ظهور الظلم الذي لحق بالإسلام والمسلمين في الجزائر
من إيجابيات الحدث أيضاً: ظهور الظلم الفادح الذي لحق بالإسلام ودعاته في الجزائر، وهذا يدعو إلى انتصار الباحثين عن الحقيقة لهم في كل مكان، فإنهم مظلومون بكل المقاييس، والمظلوم دائماً وأبداً ينتظر من الله تعالى الفرج، ويقيض الله تعالى له من ينصره ولو بعد حين، كما جاء في الحديث.
فظهور حملة الإسلام بمظهر الذين ظُلموا، وصودر اختيارهم، وأخذت حقوقهم بغير حق؛ هذا من أهم أسباب الانتصار- ولهذا ربنا تبارك وتعالى لما ذكر شرعية الجهاد والإذن به؛ ربطه بقضية الظلم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39-40] إلى آخر الآيات.
إذاً الظلم الذي يقع على دعاة الإسلام، وحملته وحماته، من أهم بوادر وبشائر النصر، الذي سوف يحققه الله تعالى لهم.
ومن ذلك أيضاً تمكين محبة هؤلاء، والإصرار على اختيارهم في ضمير الشعب الجزائري، إذ يحس الشعب الجزائري أن اختياره لهذه الجبهة قد صودر وقضي عليه، ولذلك سوف يثأر ولو بعد حين.
ولو فرض أنهم قضوا على الجبهة، سيظل كل جزائري اختار الجبهة يشعر بأنه في يوم من الأيام كانت هناك الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأنه صوّت لها فحيل بينه وبينها، هذا سوف يزيدهم استمساكاً بها وإصراراً على اختيارها، وسوف يصبح كل مسلم جزائري عضواً في الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
وبناءً عليه، يستحيل أن يقضوا عليها، إلا إذا قضوا على الشعب الجزائري، والقضاء على الأمة الجزائرية أمر لا يمكن ولا يكون بداً.
إذاً هذا الأمر زاد من تعلق الناس بهم، وقد صرح بهذا أحد زعماء الأحزاب الاشتراكية فقال: إن الذي حدث فعلاً هو لصالح جبهة الإنقاذ، فقد زاد من تشبث الناس بهم، ورغبتهم فيهم وشعورهم بأنهم أصحاب حق، وأنه يجب أن يعودوا، ويجب أن يكون الأمر إليهم، وهذا أيضاً مكسب.(185/11)
دور الشيعة في أحداث الجزائر
أولاً: دور الشيعة في أحداث الجزائر.
وأقول: إن إيران التي تتبنى المذهب الشيعي معتقداً -ولا بد أن نقول هذه الكلمة- قد نجحت في الدعوة إلى مذهبها، وتحمست له، واستطاعت أن تمد الجسور في كل مكان، فوزراؤها يوماً في اليمن، ويوماً آخر في الأردن، ويوماً ثالثاً في سوريا، ويوماً رابعاً في مصر، وخامساً في الجمهوريات الإسلامية التي تفرعت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ويوماً هنا ويوماً هناك، أخطبوط متواصل من الاتصالات التي لا تنقطع، وجهود مكثفة غريبة، ونشاطات ومؤسسات ومشاريع اقتصادية، وتسليح وإعداد يطول منه العجب.
وإضافة إلى هذا فإن إيران قد أعلنت نفسها كقيادة للعالم الإسلامي كله، وهذه كارثة عظمى، لا بد أن نعترف بالحقيقة، أن المد الشيعي يتقدم الآن بسرعة، لماذا يتقدم؟ لأنه لا منافس له.
المد الشيعي يتقدم، وينجح الشيعة حتى في احتواء الحركات الإسلامية السنية، وإظهارها كما لو كانت أثراً من نشاط الشيعة في إيران، أو امتداداً لحركة الخميني.
وعلى سبيل المثال أحداث الجزائر -مثلاً- قلت سابقاً: ليس في جبهة الإنقاذ شيعي واحد، بل أعتقد أن الجزائر كلها ليس فيها شيعة مطلقاً، وهي حركة سنية سلفية واضحة نقية، ومع ذلك أتساءل أين أهل السنة؟ أين هم عن نصرة إخوانهم ولو بالكلمة الطيبة؟ هم عن ذلك عاجزون، ومنهم من لا يعرف أصلاً؛ لأنه غير مهتم بالموضوع، والذي يعرف يقول: في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء؟ وهكذا خذلت القضية من قبل أهلها، لكن الشيعة ليس في أفواههم ماء فهم يتكلمون بملء أفواههم عن هذه القضية، ويتحدثون عنها تحليلاً، ويناصرون المسلمين في الجزائر، ويتكلمون عنهم، ويتهجمون على مناوئيهم، ويكشفونهم، ويقولون كلاماً لا يملك العاقل إذا سمعه إلا أن يقول هذا الكلام في ذاته حق، ولكنه حق أريد به باطل، فإلى الله المشتكى من جور المبتدعة وضعف المنتسبين إلى السنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كما أن الكثيرين يتساءلون عن أوجه التشابه بين الجزائر وإيران، وأقول: بينهما بُعد المشرقين، فالجزائر ليست إيران من وجوه كثيرة، منها: أن الجزائر أمة سنية سلفية، وإيران ليست كذلك.
ومنها: أن المسلمين في الجزائر لديهم وعي كبير، وارتباط بإخوانهم المسلمين في العالم الإسلامي بخلاف الإيرانيين فإن هناك عزلة رهيبة وكبيرة أحدثها انتماؤهم بل وتعصبهم للمذهب الشيعي الجعفري الإثنى عشري.
ومنها: أن الأوضاع في إيران أيام الثورة الخمينية، كانت تنذر بمثل هذا الحدث الذي جرى، أما الأوضاع في الجزائر، فإنه لا يتوقع أن يحدث فيها ما حدث، ولكننا مع ذلك كله نتوقع بل نجزم -إن شاء الله- أن الله تعالى ناصر دينه ومعلي كلمته، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر، في بلاد الجزائر أولاً، وفي كل بلاد الإسلام ثانياً.(185/12)
إيجابيات الأحداث في الجزائر
ثانياً: إيجابيات الحدث: الحدث الذي جرى في الجزائر، من إلغاء الانتخابات، والقضاء أو محاولة القضاء على الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والزج بما يزيد على ثلاثين ألف معتقل في السجون حتى امتلأت السجون ففتحت لهم المعتقلات في الصحراء وفي ظل الهجير الحار، حتى يخشى على بعضهم من الموت، وتقول تقارير موثقة إن عدد الموقوفين وصل إلى ما يزيد على خمسين ألفاً، ثم أطلق منهم قرابة خمسة عشر ألفاً، وبقي نحو خمسة وثلاثون ألفاً في غياهب السجون.
ولا زال العدد يتزايد باستمرار، فإذا كانت هذه الإحصائية التي أقولها الآن منذ أيام، مع أنه ربما زاد العدد كثيراً بعد ذلك، فهذا الحدث الذي جرى بما فيه من الحيلولة بين دعاة الإسلام، وبين تطبيق شريعة الله تعالى وحكمه، لا بد أن له إيجابيات، والخير فيما يختاره الله عز وجل، واختيار الله تعالى لنا خير من اختيارنا لأنفسنا.
فمن إيجابيات هذا الحدث: فضح دعاوى الديمقراطية العربية والغربية، التي طالما طنطنوا بها وتحدثوا عنها وقالوا إنه لا بد من فرض الديمقراطية، وأن النظام العالمي الجديد، جاء لفرض الديمقراطية على الشعوب العربية، وإخراجهم من حكم الفرد إلى الحكم الديمقراطي، والمقصود بالديمقراطية في النمط الغربي، أن يكون الحكم للشعب، فالشعب هو الذي يحلل ويحرم وهو مصدر السلطات كما يقولون.
فهذا هو المفهوم الديمقراطي في الأصل -أي: المفهوم الديمقراطي الغربي- وإن كان البعض يستخدمونها بمفهوم آخر.
المقصود أن الذي جرى في الجزائر، فضح للناس دعاوى الديمقراطية الغربية والعربية، وبين للناس أن هذه الديمقراطية ليست إلا ستاراً لتسلل هؤلاء إلى الحكم مستغلين في ذلك غفلة الناس، أو وجود الأهواء في نفوسهم، أو التغرير بهم من خلال وسائل الإعلام أو غير ذلك.
فلما كانت النتيجة خلاف ما يتوقعون؛ ذبحوا الديمقراطية بسكين الديمقراطية، وقضوا عليها.
على سبيل المثال: الغرب حجب المعونة عن السودان -وقد قرأت هذا في جريدة الشرق الأوسط- أن أمريكا حجبت المعونة عن جمهورية السودان، وعندما سألوهم لماذا حجبتم المعونة عن السودان؟ قالوا: لأن السودان بلد أصولي، أي: يعني يحكم فيه رجال أصوليون أو رجال الدين، وأن هذا البلد قامت فيه ثورة عسكرية ولم ترجع الديمقراطية على مدى ستة أشهر، وعندنا نظام وقانون أن أي بلد لا تعود الديمقراطية فيه بعد ستة أشهر من الحكم العسكري نقطع المعونة عنه.
قلنا لهم: فما بال تأييدكم للجزائر؟ وإعلان الدول الأوروبية أنها مع ما يجرى في الجزائر وتؤيد الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في الجزائر؟! وما معنى الدعم المباشر وغير المباشر للجزائر، مع أنها أعلنت أن قانون الطوارئ سوف يظل جارياً لمدة سنة، ومع ذلك ليست القضية فقط أنه عدم إعادة الديمقراطية، بل القضاء والانتهاك لحقوق الإنسان وخاصة الإنسان المسلم دون أن يكون هناك أحد يملك المساءلة والاعتراض؟! فما بالكم تكيلون بمكيالين، وتزنون بميزانين؟ وتعاملون هؤلاء بأسلوب وأولئك بأسلوب آخر؟! القضية افتضحت وبانت، ونحن يكفينا أن يعي المسلمون حقيقة الغرب، وأن الغرب صليبي حاقد متعصب للنصرانية، يحارب الإسلام والمسلمين سراً وعلانية، ولو تظاهر بأنه غرب علماني وأن الدين لا يعنيه، ولا فرق عنده بين المسجد والكنيسة.
نقول: لا أبداً، الغرب متعصب لمسيحيته، وكنيسته، ونصرانيته أشد التعصب، وحين يشعر بأن الإسلام هو الخصم، تثور عصبيته أكثر وأكثر، وهذا أمر معروف.
ولأضرب لكم مثلاً قريباً، قد يوجد إنسان منتسب إلى الإسلام، لا يصلي الصلوات الخمس، ولا يصوم رمضان، ولا يحج، بل ربما والعياذ بالله يسب الدين وأهله، ولكن هذا الإنسان لو رأى عدواً من الخارج يهجم على قومه وبني جنسه، أو يهددهم؛ فإنه يثور ويغضب ويدافع، لا ديناً، ولكن حمية لقومه وبني جنسه الذين يشترك معهم في الانتساب الأصلي إلى الدين، ولو كان في المقاييس الشرعية خارجاً عن الدين.
فهكذا كثير من الغربيين.
قد لا يكون لهم صلة بالكنيسة فعلاً، لا صلاة ولا عبادة ولا شيء مما يعمل قساوستهم، ولكن إذا شعروا بأن هناك خطراً يهدد الكنيسة أو يهدد النصرانية، فإنهم يغضبون لذلك ويتحمسون ويتأثرون.(185/13)
مشاركات شعرية
النقطة الرابعة في هذه الجلسة، هي عبارة عن مشاركات شعرية، وهذه المشاركة مشاركتان:(185/14)
المشاركة الأولى
هذه قصيدة بعث بها إليّ الشاعر عبد الله الحرقان وهي قصيدة جميلة أحببت أن أشرككم فيها.
يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبعد: أحببت أن أرسل إليكم هذه القصيدة التي تعبر عن مشاعر الكثير من المسلمين -وقد تحدث فيها عن قضايا ربما بعضها فات ولكن لا زالت قائمة- يقول: ألم يؤرق مهجتي وفؤادي ويزيد همي بالأسى الوقاد كم مهجة في أمتي مكلومة قد أثخنت ببراثن الإلحاد يا أمة بيعت بسوق نخاسة بيعت بسوق نخاسة ومزاد مدريد ما حال الأباة ودينهم يدعوهم لشريعة الأمجاد ما حال صقر قريش إذ رام العلى وأقام مجداً شامخ الأوتاد ما حال قرطبة وإشبيلية ما حال قصر كان كالأوراد كنا ندير الكون من جنباته ونعده في غاية الإعداد ما كان يقطع فيه أمر دوننا من برشلونة أو ربى بغداد يا قدس كم حيكت عليك دسائس بالبخس قد باعوك للأوغاد ما حال قصر كان في غرناطة بالله قولي لي عن العبَّاد كم شيدوا مجداً وعزاً باذخاً متسامياً يسمو على الأنداد ما حال أندية يطيب حديثها فيها يلذ السمع بالإنشاد كم مسجد قد حولوه كنيسة قدماً يغص بزمرة العباد يا قدس ليلك محتب بكآبة هذا الغثاء له أوان حصاد قد أسلموك وكلهم متخاذل يسعى على درب الخنى بتمادي لا تأملي خيراً بمؤتمراتهم ولتكتبي دمع الأسى بمداد سنحطم الأغلال رغم جراحنا لن نستكين لغفلة ورقاد لا لن يفك القدس من أغلاله إلا بظل عقيدة وجهاد(185/15)
المشاركة الثانية
أما القصيدة الثانية، فهي عبارة عن كلمات وحروف، كتبتها على عجل، وأعتذر إليكم لأنني في الواقع لم أكتبها للشعراء، ولا للمتذوقين، فهم سوف تشمئز منها آذانهم، وترفضها أذواقهم، ولكني كتبتها لجمهور المستمعين الذين قد لا يميزون كثيراً بين الجيد والرديء في الشعر، اللهم إلا بجودة المعاني، وأرجو أن تكون المعاني واضحة، وقد اخترت لها عنواناً " الفارس القادم".
وهذا العنوان أيضاً معبر، فإن المقصود بالفارس القادم، رمز إلى الإسلام الذي يحلم كل مسلم بانتصاره، وأن يكتب الله تعالى شرف هذا النصر على أيدي هذا الجيل الصاعد من أبناء المسلمين: سلام على قلب من الطهر أطهر وروح شفيف في ربى الخلد يخطر وأطياف جنات وأنسام رحمة وحب عنيف رائق الظل أخضر وساعات إسعاد يظل غمامها على كل ساحات المحبين يمطر ترفق بقلبي فالأعاصير تزأر وسود الرزايا في الظلام تزمجر ترفق بقلبي فالجراح كثيرة وذي أسهم شتى عليه تِكسَّر ففي أرض أفغان الشهيدة مأتم هل تسمع الدنيا الضجيج وتبصر؟ وفي مصر أنات ووطأة غاشم وليل وآهات ودمع وأقبر وفي دار هارون الرشيد زلازل وآثار مجد أحرقوه ودمروا حنانيك يا بغداد صبراً فربما يتاح لهذا الكفر سيل مطهر لماذا دموع الحزن لست وحيدة وأنت على الأيام عز ومفخر وكل بلاد المسلمين مقابر وهم صور الأحجار تنهى وتأمر تماثيل لكن ناطقات وإنما بلاء البلاد الناطق المتحجر أأرض الشهادات اسلمي المقصود بأرض الشهادات أرض الجزائر أأرض الشهادات اسلمي ما جموعهم وما كيدهم إلا هباء مبعثر وما أمرهم إلا شتيت وربما تبين الليالي بعض ما كان يستر أيختار شعب دينه فيسومه عليه الغريب المستبد المسيطر جراح بني الإسلام غاب أساتها وأناتهم في كل أرض تَضَوَّرُ تساقيهم الدنيا كئوس مذلة على أنهم عزل الأكف وحُسَّر وتجتمع الأحلاف تحت مظلة السلام لتردي فارساً لا يعفر ويحشد أرباب الصليب حشودهم ليستنجزوا الوعد الذي لا يؤخَّر فيا فارساً شهماً أظل زمانه تعال فما كلُّ على الصبر يصبر وعودك حق لم نزل في انتظارها وكل الرزايا في جوارك تصغر وجندك منصور وجيشك قادم ونورك في كل الدياجير يسفر تخطيت أسوار الولايات كلها لأنك من كل الولايات أكبر وترهبك الدنيا وما أنت لعنة ولكنك السيف الذي لا يكسَّر وما أنت إلا طيف حب ورحمة وغيث بألوان المسرات يمطر وأنت لكل الظالمين نهاية فلا غرو إن صالوا وجالوا وزمجروا ونصرك بالرعب اعتلت لافتاته لتعلن أن النصر بالرعب أَشْهُر وأعني بالنصر بالرعب، ما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: {نصرت بالرعب مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي} .
أما كلمة "لتعلن أن النصر بالرعب أشهر" فلمعرفة معناها، يمكن مراجعة شرح الحديث في فتح الباري.
والمقصود أن الغرب أصبح مذعوراً مرعوباً من الإسلام القادم، كما سبق أن بينت في مناسبات عدة مع أن المسلمين ما زالوا لا يملكون أي شيء، وإنما هم -كما ذكرت- عزل الأكف وحسر: فيا أيها المستكبرون توغلوا وعيثوا فساداً إن أردتم ودمروا وسوموا عذاب الهون كل شعوبكم وقولوا لهم غير الحقيقة واسخروا وظنوا بأن الأمر طوع يمينكم وأنكم الحتم الذي لا يغير فهذي ديار الظالمين تجيبكم وهذا غدُ الإسلام في الأفق يخطر(185/16)
رسائل عبر البريد
أما النقطة الخامسة، فهي رسائل عبر البريد.
وأود أن أقول للإخوة: إنه تأتيني رسائل كثيرة من عدد من الإخوة في بلاد شتى، من الجزائر، والسودان، ومصر ودول الخليج، وعدن، بل ومن يوغسلافيا، وفرنسا وغيرها، فضلاً عن رسائل كثيرة جداً من الإخوة في الداخل.
وأنا إذ أقول هذا الكلام فإني أعتذر إلى كل هؤلاء الذين يبعثون برسائلهم عبر هذه الكلمة، إذ أنه يصعب عليَّ كثيراً أن أكتب رداً مفصلاً لجميع الإخوة، خاصة وأن الكثير منهم يكتبون أسئلة طويلة، ويطلبون الإجابة بالتفصيل والدليل وأقوال أهل العلم وغير ذلك.
وبعضهم يذكر مسائل معضلة تحتاج إلى بحث، وإلى مراجعة وإلى دراسة، وهي من الأشياء التي يمكن أن يطلق عليها فقه النوازل، وتحتاج إلى اجتهاد جماعي لأهل العلم في كل مكان.
فمن الصعب جداً أن أجيب على مثل هذه الرسائل، فضلاً عن رسائل أخرى كثيرة تطلب مجموعة من الكتب، ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، أو الإمام محمد بن عبد الوهاب، أو ابن حجر أو غيرهم من أهل العلم.
وأقول: أيها الأحبة -بدون مواربة- إنني فخور وفرح بمثل هذه الرسائل؛ لما فيها من التعبير عن المشاعر والأخوة الإسلامية، ورب رسالة يزدريها صاحبها تأتي ليس فيها إلا جزاك الله خيراً، ولكن وقعها يكون في النفوس كبيراً؛ ولذلك أقول: لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو كلمة طيبة، وقد يكون في بعض هذه الرسائل توجيه، أو ملاحظة أو غير ذلك.
وإذا كنت أشرت إلى صعوبة الرد لكثرة هذه الرسائل، وكثرة الأسئلة الموجودة فيها، فإنني مع ذلك أحرص على الرد على كل هذه الرسائل، وإن طال الوقت ولو بشيء من الاختصار.
ولذلك أرجو ألاَّ يعتبر بعض الإخوة أن تأخر الرد شيء له معنى، فبعض الإخوة -مثلاً- يكتب رسالة ويعتبر أن ترك الرد مني إهمالاً أو عدم مبالاة.
وقد يقول في بعض المجالس: كتبت له رسالة وما رد عليَّ، يا أخي ليست رسالتك الوحيدة، قد يكون جاء غيرها والمشاغل تحول دونها، أو يكون الرد بعد وقت، وقد يكون ليس هناك مجال للرد في بعض الأحيان.
أمر آخر أود أن ألفت النظر إليه ألا يلقي الإخوة باللوم كله علي، فقد جاءتني رسائل كثيرة تلومني وأقول: لا تلمني فإن موزع البريد قد يتحمل أحياناً بعض اللوم، فبعض الرسائل لا تصلني، وبعض الرسائل قد أكتب الرد ولا يصل إلي من كتبت إليه، والسبب في ذلك قد يعود إلى ضياعها في البريد، وقد يعود إلى أسباب أخرى تخفى عليَّ، وقد لا تخفي عليكم أنتم.
ولذلك أقول: إن من الوسائل التي تحل هذه المشكلة، هي وسيلة إمكانية استخدام جهاز الفاكس، وأود أن أقول إن لدينا في مكتبنا جهاز فاكس، يحمل هذا الرقم يمكن المراسلة من خلاله؛ لأنه أسرع وأضمن، ونحن نرحب بأي شيء يأتينا عن طريقه، ونحرص على الرد عليه إذا كان يحتاج إلى رد.
هناك أيضا أمر أود أن أشير إليه فيما يتعلق بالرسائل: وهو أن لدينا مشروعاً ضمن مكتبنا لإرسال كميات من الكتب الإسلامية، التي تشرح العقيدة الصحيحة، وتبين الأحكام الشرعية الصحيحة بأدلتها إلى المسلمين في كل مكان، وقد يسر الله تعالى، فقمنا بإرسال مئات الطرود إلى أنحاء العالم الإسلامي، ممن يطلبون منا بعض الكتب، ومثل هذا البرنامج المفيد المهم فيه نشر للدعوة الصحيحة، وفيه تواصل بين المسلمين في كل مكان، وفيه مشاركة في الخير، ولذلك فإنني أيضاً أقول: إننا يمكن أن نقبل أي مشاركة يرغب فيها أحد في مثل هذا البرنامج، فمن يرغب مثلاً في القيام بتكاليف مثل هذا البرنامج، سواءً من خلال الفواتير أو غيرها، فنحن يمكن أن نتقبل منه مثل هذا العمل.
نقطة ثالثة هي عبارة عن بعض النماذج، من بعض الرسائل التي وصلتني، وإنما اخترت هذه النماذج لأنها من آخر ما وصل، ولأن لها ميزات معينة.(185/17)
رسالة من عدن
أما الرسالة الأخيرة ضمن الرسائل، فهي رسالة دامية جاءتني من مجموعة من الأخوات من اليمن، وبالذات من عدن، ولا أريد أن أذكر المكان الذي جاءت منه، لأنني أخشى عليهن من مزيد من الاضطهاد.
وقد قلن في آخرها: أننا بعثنا هذه الرسالة مع أحد المسافرين هنا إلى السعودية؛ لأننا لا نستطيع أن نرسل بالبريد وأنتم أعلم لماذا؟ وذكرن في الرسالة شيئاً مما يلقاه المسلمون منذ فترة في أيام الشيوعية في عدن، وعلى سبيل المثال، يقولون: إنهم منذ فترة قاموا بحملة تصفية على الدعاة إلى الله تعالى والداعيات، يزجون بهم في السجون، ويعتدون على أعراضهم وحرماتهم، يعذبونهم أشد العذاب، كل ذلك لماذا؟ لأنهم قالوا: ربنا الله ثم استقاموا، لأن لحاهم قد أعفيت، ولأنهم طبقوا السنة شكلاً ومضموناً؛ ولأنهم يعلمون الكتاب ويفسرونه، وحسبهم جناية في نظر هؤلاء.
لقد فعلوا أبشع الجرائم الخلقية مع الشباب الملتزم، منذ خمس سنوات في السجون حتى خرج كثير من الشباب وهم محطمون، وفي أنفسهم هزة عنيفة جداً من جراء ما ذاقوا من ويلات في السجون حتى انتحر منهم ثلاثة بعد خروجهم، وواحد منهم هرب إلى الجزء الآخر من اليمن، وذلك بسبب طعن الفضيلة في أعماق فؤاده، عندما اعتدوا عليه بفعل الفاحشة والعياذ بالله.
تقول: وإنهم سيكررون نفس المأساة، مع العلم أن الشعب اليمني استيقظ على صحوة إسلامية عظيمة، ثلاثة أرباع الشعب يطالبون بالدين والإسلام، ولا يبتغون به بديلاً، والمساجد أصبحت تعج بالدعاة إلى الله تعالى والداعيات، والحجاب الشرعي انتشر كثيراً والحمد لله، والأخوات الداعيات على قدم وساق في الدعوة إلى الله في كل مكان.
وإننا نرى الآن بشائر الحملة الجديدة في هذه السنة، تلوح لنا بيدها على الفتيات الداعيات خاصة، والشاب الملتزم عامة.
لقد جند لنا اثنا عشر ألف جاسوس وجاسوسة، يندسون بين صفوفنا في كل مكان، وإن هذا العدد الهائل ليس إلا في جزء من المدينة فحسب، والله يعلم كم في المناطق الأخرى، ولكن تركز الصحوة في هذه المنطقة بشكل كبير وملفت للنظر بين النساء المؤمنات.
إلى أن تقول في ضمن رسالتها -وأقتصر على هذا القدر، وهي رسالة في الواقع مهمة، ومؤثرة- تقول: إننا يا أصحاب الفضيلة نهدد في أعراضنا، نهدد في أهلينا، نهدد في ذوينا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، إذا كان ما يريدونه منا هو الموت فالأمر هين ومرحباً بالموت، فالموت في سبيل الله من أمانينا.
هذه امرأة تقول هذا الكلام فأين الرجال؟ وإن شعارنا الآن وفي هذه الأيام الحرجة بعنا واشترينا، بعنا أرواحنا لله واشترينا الجنة لا نقيل ولا نستقيل، ولكن الذي نخشى على أعراضنا من رجال أنجاس لا يخافون الله ولا يخشونه، نخشى أن نلحق عاراً بأهلينا إلى يوم الدين، ولكننا عندما أيقنا أنه سيلقى القبض علينا شئنا أم أبينا، فقد سجلوا أسماءنا في قوائمهم السوداء، قررنا أن نكثف المحاضرات والدروس والندوات في التزهيد في هذه الدنيا، والصبر على البلاء، والعيش عيش الغرباء، والجهاد والثبات حتى الممات، إلى أن يحين موعد الحملة فإننا جاهزون، إلى آخر ما قالت.
تقول: إننا الآن نحمل الأكفان، نستعد للموت، الذي نراه يرقص في كل وقت أمام ناظرينا: فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين ولكن هل ستستمر مآسينا أيها المسلمون؟ إلى متى ونحن نتجرع كأس الذل؟ أين أنتم يا دعاة الله؟ أين أنتم يا جند الإسلام؟ أين أنتم لترفعوا عنا الذل والمهانة والعبودية؟ دماؤكم في كل أرض تراق، أخواتكم وإخوانكم يجأرون إلى الله بالدعاء والأنين والألم!! يحتسبون الله في أعراضهم وأنفسهم!! أرضيتم بالعار يلطخ وجوههم، إن لم أقل يا مسلمون فأقول يا عرب!! هل ستظل صرخاتنا تدوي في جنبات هذا الكون، بلا سامع ولا مجيب إلا الصدى؟!! رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم أين علماء الحق الذين يخلصوننا من عملاء البعث والشيوعية؟ أين من ينادي بالجهاد الذي تقام فيه معارك النصر والبطولة والشرف.
كيف -بالله عليكم- تصوروا أن ثلاثة أرباع الشعب أو أكثره ينادي بالدين، يباد أو يسحق أو يخنق صوته فلا يستطيع البوح بشيء، وهو بين أمرين كلاهما مر؟! أليست هذه هي الذلة والمهانة والجراح التي مرغت في التراب؟ الخ ما ذكرت في رسالتها القيمة.
وعلى كل حال أقول: إن نصر الله آت فاصبروا، والله تعالى أعطانا في القرآن الكريم قاعدة لا تتأخر {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} [الأنعام:129] .
فالله تعالى يولي الظالمين بعضهم على بعض، ومفهوم المخالفة لهذه الآية: أن الله تعالى يولي بعض الصالحين بعضاً -أيضاً- فإذا كان الشعب صالحاً، فلا بد أن يقيض الله له حكاماً صالحين.
هذه سنة إلهية، نعم بجهد الناس واجتهادهم وبعملهم وبمثابرتهم؛ لكن الله تعالى لا يظلم أحداً، سلط فرعون على قوم طغاة لأنه استخفهم فأطاعوه، ولما كان الناس في مثل أحوال عمر، وعثمان، وعلي، قيض لهم أبا بكر، ولما اختلف الناس اختلف حكامها.
وكل قوم يسلط الله عليهم ويسخر بحسبهم وبمقدارهم، فلا ينبغي أن نتصور أبداً، أن هذا الأمر الذي يعيشه المسلمون ليل دامس وظلام دائم لا يزول، فإن هذا يأس لا يليق بالمسلم، بل ينبغي أن يكون المسلم دائماً وأبداً يملك قلباً ممتلئاً بالثقة بوعد الله، والأمل بنصره، والإيمان بأن النصر قادم لهذا الدين، ويردد مع الشاعر قوله: أحبائي إن النصر لا بد قادم وإني بنصر الله أول واثق سنصدع هذا الليل يوماً ونلتقي مع الفجر يمحو كل داج وغاسق ونمضي على الأيام عزماً مسدداً ونبلغ ما نرجوه رغم العوائق فيعلو بنا حق علونا بفضله على باطل رغم الظواهر زاهق ونصنع بالإسلام دنياً كريمة وننشر دين الله في كل شارع(185/18)
رسالة من اليمن
هذه رسالة أخرى من أخ من اليمن بعد كلام وسلام يقول: هناك خاطرة رأيت أن أعرضها، وهي أنها أصبحت لمشايخنا الأفاضل في هذه البلاد تقدير كبير، خارج المملكة في الدول المجاورة، كاليمن وغيرها، والدروس والتوجيهات والمحاضرات تلقى قبولاً هناك والحمد لله.
والشباب صاروا يثقون بعلماء هذا البلد ودعاته،
و
السؤال
ما هي الآثار الملموسة التي تبين أنكم لستم محصورين في إسهاماتكم في توجيه الصحوة، وإرشادها في نطاق هذا البلد؟ بمعنى آخر: نريد أن يكون لكم دور أكبر في توجيه الصحوة وإرشادها في كل مكان من العالم الإسلامي، وأن تتجاوزوا ما فرض على المسلمين من تقسيمات.
وهذا كلام حق وأنا أقول: ليسمعه إخواني من الدعاة وطلبة العلم، ولأخاطب المسلمين في كل مكان، فإن المسلمين اليوم من خلال الشريط يسمعون ما يقال، ويستفيدون منه، بل ويتلهفون لتلقي ما يصل، وقد لقيت في العام الماضي شباباً من بعض المغرب العربي كليبيا وغيرها، فقالوا إننا نهرب أشرطتكم وأشرطة طلبة العلم كما تهرب المخدرات، ونضطر أحياناً إلى أن نعطي عمال الجمارك وموظفيه رشوة، حتى تدخل هذه الأشرطة، ثم تنتشر هناك انتشار النار في الهشيم، على رغم وجود الحرب، والمقاومة لها من جهات شتى.
ولكن الناس تصل إليهم بحمد الله ويسمعونها، وقد سمعت أيضاً أن الأشرطة الإسلامية، من أشرطة العلماء في هذا البلد تصل إلى الاتحاد السوفيتي، والصين، وبلاد جنوب شرق آسيا وغيرها، وسمعت هذا من ثقات حدثوني بأنفسهم.
فأقول: فعلاً ما دام هذا الأمر؛ فإن من حق هؤلاء على مشايخنا وعلمائنا الكبار، وعلى طلبة العلم والدعاة، أن يخاطبوهم ببعض القول، فيما يكون توجيه لهم وإرشاد، ومشاركة لهم في همومهم وآلامهم.
كما أنني أدعو أولئك الإخوة إلى أن يراسلوا ويخاطبوا العلماء في هذه البلاد، حتى يكون علماؤنا هنا على اطلاع مما يجري هناك، وعلى معرفة المشكلات، ويساهموا في حلها، لأنه قد لا يستطيعون أن يعرفوا حقيقة ما يكون هناك، إلا من خلال هذه القناة التي هي قناة المراسلة والاتصال.(185/19)
رسالة من مصر
هذه أيضاً رسالة أخرى جميلة من أحد الإخوة من مصر، وهي رسالة طويلة أيضاً أترك ما فيها من المقدمات.
يقول: أنا لم أرك بعيني، ولكني أراك دائماً بروحي، وأراك بأذني وقلبي، حينما أستمع إلى شرائط الدروس والمحاضرات، فالعبد الفقير الذي يكتب إليك هو شاب من شباب الصحوة في مصر نسأل الله أن يعافيها من هذه الفئة العلمانية التي تسيطر عليها، وأن يعز بها الإسلام ويعز الإسلام بها.
ثانياً: أرجو الصبر على رسالتي؛ لأنها ليست رسالة من واحد من شباب مصر، ولكنها تعتبر نسخة مكررة من أكثر من ثلاثة عشر مليون شاب من شباب الصحوة في مصر تقريباً أو يزيد.
لقد كنت أستمع إليك، وقرأت كتابك حوار هادئ مع الغزالي.
يقول: سماعنا لبعض الأشرطة لم يشف غليلنا، ولم يشبع نهمنا، حيث إن كلامكم في ذلك الشريط، عن الدعوة إلى الإسلام، كان إكمالاً لشريط آخر، ومن ساعتها يعلم الله ما في قلبي وما في قلوب كثير من شباب الصحوة من حب في الله، والموضوع الذي أكتب إليكم عنه هو مصر، التي غاب عنها كثير من العلماء المخلصين، وعن مخاطبتهم لشبابها الذين تكاد تفتك الخلافات بهم.
فمصر فيها شباب غض مخلص يعمل ولا يكل، لكن الخلافات والشحناء تقتل كل بذرة قبل أن تنضج، وتجعل العمل هباءً منثوراً.
مصر فيها كثير من الرايات والجماعات، وكلها تنتمي إلى هذه الصحوة المباركة، التي نسأل الله لها التمكين، ومنها على سبيل المثال: السلفية، الإخوان المسلمون، أنصار السنة، جماعة الجهاد، جماعة التبليغ والدعوة، دعوة الحق، الجمعية الشرعية، بالإضافة إلى الفرق المنحرفة والضالة عن منهج سلف هذه الأمة، كالصوفية بشتى فرقها وتفرعاتها.
وكذلك هناك التيارات الهدامة كالعلمانية، والماسونية، والشيوعية، والناصرية، والأدهى وجود الأزهر برجاله وعلمائه.
جو رهيب ساخن -فشباب الصحوة المتمثل في شباب الجماعات السالفة الذكر- في حرب مع أصحاب الفكر العلماني الشيوعي الماسوني، وأصحاب البدع والضلالات والشركيات.
وهم في ذات الوقت في حرب مع أنفسهم -وهذا الكلام يجرح ويدمي- هذا يهاجم ذاك، هذا يهاجم فئة لأنهم دخلوا الانتخابات، وفئة ثانية تهاجم فئة أخرى؛ لأنهم يهتمون في نظرهم بالشكل ويبتعدون عن الحياة السياسية، وفئة ثالثة تهاجم الإثنين لتقصيرهم في تأديب العصاة ومناوئة الحكام، والجميع يهاجمون الجهاد؛ لأنهم لا يهتمون بشيء سوى العنف، وأنهم يخالفوا نهج السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجميع يهاجمون التبليغ؛ لأنه ليس لهم تفاعل مع الأحداث، ولا يهتمون سوى بإدخال الناس إلى المساجد وهكذا.(185/20)
رسالة أحد الإخوة
فهذا أحد الإخوة قد كتب لي رسالة جميلة جداً، وأنا أشكره عليها، وأعتذر عن قراءتها؛ لأن فيها أشياء من الإطراء الذي لا أوافقه عليه ولا أرضاه لنفسي، لكنه أعجبني أنه يقول في مطلع هذه الرسالة، يقول: إنني في الوقت الذي أمسك به القلم بيدي اليمنى، فإنني أغلق عيني بيدي اليسرى، وأصرف وجهي عن مشاهدة قلمي، وهو يهم بمراودة الورقة، لا لشيء إلا خجلاً عندما تجرأت على كتابة هذه النصيحة عفواً هذه الهدية، والتي أحسب أنك ستفرح بها، فلماذا نخاف من النقد؟ هذه عناوين محاضراتي -جزاه الله خيراً- وضعها في سياق هذه الرسالة، وهذا هو الذي أعجبني فيها.
يقول: فلماذا نخاف من النقد؟ ألسنا نسعى إلى صناعة الحياة، ولكن في إطار أدب المحاورة، ووسط نقع معركتنا الفاصلة مع بني إسرائيل والعلمانيين وأعداء الرسالة، ونحن على استعداد لأن نسأل أنفسنا: من يحمل هم الإسلام؟ ثم نجيبها: نحن نحمل هم الإسلام ولو كان ذلك على سرير الموت، فجاء هذا حديث الروح لعله يسري ولكن بدون تطبيع.
المهم النقطة التي ذكرها نقطة جميلة، يقول -بعد كلام-: أرجو ألا تغرك هذه الجموع مهما كثرت أشباحها، وتواصلت اتصالاتها وتوالت رسائلها، ولنا في حسن البنا وعباس مدني أقرب مثال وأوضحه.
أيها الشيخ: قبل أن تحرك قدمك أو تضعها تأكد من أنك تطأ على أرض متماسكة، واعلم أن هذه القدم تحرك خلفها أقدام، وكم يتملكني الخوف كلما تخيلت مصير هذه الصحوة، عندما تكون الخطوات غير محسوبة، نريد بطيئاً ولكن أكيد المفعول.
ثم قال: أخيراً هل هذه الرسالة خامة في مصنع الحياة، أم أنه ليس لها وجود الأخ/ أحمد محمد من الرياض.
وأشكره على هذه الرسالة الجميلة، وأقول له: لا تخف أبداً على مصير هذه الصحوة، فهذا دين الله تعالى يتولاه الله جل وعلا بنفسه، أما الناس فهم يذهبون ويأتون: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد ومع ذلك أقول: نحن -أيها الأخ الحبيب- ندعو الناس دائماً وأبداً إلى أن يتبصروا مواقع أقدامهم، وندعوهم دائماً وأبداً إلى أن ينظروا إلى المستقبل البعيد، وألا يغتروا بالفقاعات القريبة التي قد تطفح على سطح الماء.
كلا نحن ندعوهم إلى النظرة العميقة، التي تسعى إلى تحويل المجتمع كله إلى مجتمع متدين بطبيعته، وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد متدين، وتحويل الإدارة والسياسة والاجتماع وكل الأمور، إلى أشياء تصب في بحر الدعوة الإسلامية، وهذا لا شك طريق طويل، ولكنه طريق -بإذن الله كما أشرت- مضمون وأكيد المفعول.(185/21)
موضوعات ومقترحات
النقطة السادسة: في مثل هذا المجلس وهي تتعلق بالموضوعات والمقترحات.
هناك تساؤلات كثيرة عن موضوعات سبق أن أعلنت عنها، أجيب عليها باختصار.(185/22)
محاضرة وقفات في حياة الإمام مالك
موضوع محاضرة وقفات في حياة الإمام مالك، يسأل عنها مجموعة من الإخوة.
وأقول: إن هذه المحاضرة كنت أعلنت عنها في المدينة المنورة بموافقة مكتب الدعوة، ثم ألغيت ولعلها إن شاء الله أن تلقى في مناسبة أخرى.
أيضاً كثير من الإخوة يتحدثون عن أسئلة المستمعين، التي ترد كثيراً في مثل هذه الدروس والإجابة عليها، وأرجو -إن شاء الله- أن نتمكن من تخصيص وقت لها، وقد طلبت من الإخوة العاملين معي في المكتب، أن يقوموا بفرز هذه الأسئلة، وتخصيصها على حسب الموضوعات بحيث تكون أسئلة، وفي نفس الوقت تعالج موضوعات يكون هذا أكثر وأنفع لها؛ لأنني لاحظت أن الأسئلة المتفرقة قد لا يقبل الناس عليها كثيراً.(185/23)
محاضرة تحرير الإنسان
وهناك بعض الإخوة يبدو أنه من غير المتابعين، يسأل عن محاضرة تحرير الإنسان؟ وأقول له -أيضاً- إن هذه المحاضرة كنت قد أعلنت عنها في دبي، ثم ألغيت وألقيتها في عنيزة، ويبدو أن الأخ الذي سأل عنها لم يطلع على هذه المحاضرة.(185/24)
اقتراحات أخرى
أيضاً نقطة أخرى، هناك كثير من الإخوة وافوني بموضوعات يقترحون وأنا أيضاً أشكرهم وأقول لهم كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم {من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه؛ فادعوا له حتى تجدوا أنكم قد كافأتموه} .
فأقول لهم: جزاكم الله خيراً، وأحسن الله إليكم، ونفع الإسلام بكم.
كتب إليَّ كثير من الإخوة موضوعات بل أقول مئات، بعضهم يكتبون عناوين فقط، وبعضهم يكتب العنوان والعناصر، بل أقول: إن بعض الإخوة يكتب لي موضوعاً متكاملاً، يعالج قضية من القضايا المهمة التي يحس هو بها، أو يخاطب فئة أو طبقة من طبقات المجتمع، ولم أجد فرصة لعرض هذه الموضوعات؛ لأنها كثيرة جداً، وأيضاً هي كلها محفوظة في ملفات عندنا في المكتب، وسوف ألقيها واحداً بعد الآخر، وبعض الموضوعات التي سبقت هي من اقتراح بعض الإخوة.
فمثلاً: أول درس بعد دروس الاستئناف، الذي هو: هكذا علَّم الأنبياء، هو اقتراح من بعض الإخوة، وقد قمت بإعداده وإلقائه، وهكذا دروس كثيرة هي اقتراح من هؤلاء الإخوة جزاهم الله خيراً.
أحد الإخوة على سبيل المثال، وقد أعجبتني هذه الكلمة فأنقلها، من المدينة المنورة الأخ الفوزان.
يقول: أنا أتابع أشرطتك في المدينة حتى قبل أن تنزل أحياناً، حتى أني بدأت أحس بمسئولية المشاركة في هذه المحاضرات، وهذا هو الشعور الذي أود أن ينتقل إلى كل الإخوان وأنني عضو من أعضاء هذا المجلس الخيري، الذي تعم فيه الفائدة إلى معظم أقطار العالم الإسلامي.
السؤال مشاركة، والاقتراح مشاركة، واقتراح موضوع مشاركة، وكل موضوع تقدمه أيها الأخ الحبيب فهو مشاركة، ولا نريد أن يكون هذا المجلس هو فقط عبارة عن إنسان يحضر، يستمع ثم يخرج، وقد اقترح عليَّ الأخ الكريم من المدينة مجموعة من الموضوعات، منها: ضوابط الشورى في الإسلام، وكذلك: رسالة إلى مربي الأجيال، أي المدرسين، وكذلك: رسالة إلى عسكري، وقال: إنه لو تحدثت عن هذا الموضوع، وتحدث فيه المشايخ كالشيخ سفر الحوالي، والشيخ ناصر العمر، والشيخ عبد الوهاب الناصر الطريري، والشيخ عائض القرني، والشيخ سعد البريك والشيخ محمد الفراج، إلى غير ذلك من المشايخ، فأنا على ثقة أنه عندما يتكلم هؤلاء، فإن أكثر من (80%) من خطباء المساجد سوف يتكلمون عن مثل هذا الموضوع، أقصد موضوع الشورى وغيره.
وهذا -على كل حال- أحد الموضوعات، وقد بعث إلي بموضوعات أخرى عديدة، فله مني الشكر والدعاء وجزاه الله خيراً.
ذكرني الأخ الكريم بحادثة حصلت لبعض الإخوة هنا في نادي الرائد، بحصول انقلاب سيارة ووفاة أحدهم رحمه الله تعالى، وهو وإن كنت لا أعرفه، إلا أنه -كما ذكروا لي- من الشباب الصالحين، وأنتم شهود الله في أرضه، وقد سمعت الثناء عليه، فالحمد الله ونسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته، وأن يلهم أهله الصبر والسلوان.
وأقول لإخوانه وزملائه وأصدقائه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] فالموت حتم مكتوب في عنق ابن آدم، وعلينا أن نستعد له كما لو كان يأتينا اللحظة، والحادث لم يأت بجديد، فمن لم يمت بالحادث مات بغيره، تنوعت الأسباب والموت واحد.
أيضاً هناك موضوعات أخرى تأتيني بدون تفصيل، وهذه أود من الإخوة أن يفصلوا فيها فمجرد عنوان لا يكفي، لا بد أن تكتب عناصر أو نقاط، وأرجو من الإخوة ألا يحتقروا أي فكرة تمر في أذهانهم، أو يقول هذه معروفة، قد تكون معروفة وبديهية ولكن تغيب عني، فلا تحتقر شيئاً أبداً، ولا تقل هذا معروف، ويعجبني أحد الشباب كثيراً ما يأتيني برسائل وكتابات هي فعلاً بسيطة، لكن والله أستفيد منها فائدة كبيرة.(185/25)
قضية معالجة المشاكل
هناك فكرة كثر الاقتراح حولها، وهي أن مجموعة كبيرة من الإخوة خاطبوني أو كاتبوني، يطلبون أن يكون هناك درس على نمط اللقاءات التي يعقدها الشيخ الدكتور سفر الحوالي، وكذلك الشيخ عبد المحسن العبيكان في الرياض، تكون عبارة عن معالجات للمنكرات الموجودة، ومسح لبعض الأشياء التي توجد وتنبيه.
وهذا -إن شاء الله- أقول: لا أستطيع أن أقوم به؛ لأنني لا أستطيع أن أقوم بدرس آخر زيادة على هذا الدرس، ودرس بلوغ المرام ودروس بعد الفجر التي أقوم بها، لكن هذا سوف أجعله ضمن الدروس العامة أحياناً، كما أن من الممكن أن نقترح على بعض المشايخ في هذا البلد، وهم بحمد الله كثير، وفيهم هو من الكفاءة والقدرة الشيء الكثير، أن يقوم بمثل هذه المهمة.(185/26)
أنباء حول جريدة الأنباء
هذه جريدة الأنباء جريدة كويتية، وقد جاءت لها أنباء، ونبأنا الله تعالى من أخبارها في هذا الأسبوع شيئاً يندى له الجبين.
فأول ما وافتنا به جريدة الأنباء في الأحد 6 شعبان أنها كتبت تحقيق عنوانه: بنت الديرة ضابطة في الجيش الأمريكي، وتكلمت عن الملازم ثاني أماني أنها ضابطة في الجيش الكويتي، وتقول: أمنيتي إنقاذ أسرانا من العدو العراقي، ويتكلمون عنها وأنها أصرت على البقاء في الكويت، وشاركت في أعمال المقاومة، وسافرت مضطرة لوالدتها في لندن، ثم قررت مواصلة الطريق، على أن يكون لها دور، وانضمت إلى صفوف الجيش الأمريكي ضمن معسكره في الدوحة، وأصبحت الملازم ثاني أماني يوسف.
وتقول: إنها تتمنى الاشتراك في عملية كوماندوز ضد نظام بغداد، لتخليص الأسرى من براثنه، وهي تأمل في قرار جريء يعيد إلينا أهلنا، وتقول: بكل ثقة سأكون سعيدة لو استشهدت من أجلهم.
وتضيف الشابة الكويتية، التي تقدم المثل الحي على تطلعات الفتاة الجديدة: إن العمل في صفوف الجيش جاء استكمالاً لدورها مع رفاق المقاومة، ومن رأيها أن على الفتاة الكويتية أن تستثمر الأزمة، لاكتساب احترام الرجل.
وتضيف: أنها تعمل أكثر من اثنتي عشرة ساعة دون كلل، وأنها اعتادت ركوب الهيلوكبتر، وأن العمل العسكري ممتع ورائع.
ما أدري لماذا العمل العسكري ممتع ورائع؟ على كل حال ربما لأنها تعيش إلى جوار أصدقائها من الأمريكان، وأقول: إنها كارثة كبرى، أن مثل هذه النماذج الشاذة تقدَّم للأجيال على أنها نموذج للفتاة الجديدة، كما يعبرون وكما يقولون.
وهذا جزء من التضليل الإعلامي، فنحن نعلم أن شعب الكويت يرفض مثل هذه النماذج ويمقتها، ولكن مثل هؤلاء الذي يتسنمون على الصحف والمجلات، في الكويت وفي بلادنا وفي كل بلاد الإسلام، منهم -لا أقول كلهم- منهم طبقة تغالط في الحقائق، وتصور الأمر على غير ما هو عليه، وتظهر اهتمامات فئة شاذة من الناس، كما لو كانت اهتمامات المجتمع، على حين تتجاهل اهتمامات الناس كلهم.
وما جرى في الجزائر يبدو أنه يجري في كل مكان، فإذا كان الذي جرى في الجزائر تجاهل رغبة أكثر من (80%) ، فإننا نعلم أن كثيراً من هذه الصحف تمارس نفس الاستبداد، الذي جرى هنا، فتصادر رغبات الشعوب، وتصادر رغبة أكثر من (80%) من الناس، الذين يريدون الكلام عن الخير، وتربية الرجال والنساء على الإسلام، وعلى العفاف، وعلى البعد عن مواطن الرذيلة، وأماكن الفتنة والإثارة.
ونحن نقول: اتركوا النوم، شباب الكويت حتى الآن ما جرى لهم تجنيد إلى هذا الحد، بل شباب العالم الإسلامي كله ضائع يتسكع في الشوارع، فكيف يكون هذا بالنسبة للنساء؟! وما أرى هذا إلا كمثل جريدة أخرى أو مجلة أخرى تطالب بجعل شرطة نسائية.
وأقول: الآن الشباب لا يجدون أعمالاً لهم في كل مكان، وهم يطالبون أن المرأة التي هي نموذج للرقة، والليونة، والنعومة {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] وإنما خلقت لأغراض أخرى، مهمات جليلة وأعمال جليلة، لكن المرأة إذا وضعت في مقام الرجل سوف تفشل، وكذلك الرجل لو وضع في مقام المرأة سوف يفشل، والذين يطالبون أن تكون المرأة في مقام الرجل أو العكس، هم من الذين قال الله تعالى عنهم: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] .
شيء آخر قالته هذه الجريدة، وهو لا يعنيني في الواقع كثيراً، بالقياس إلى ما ذكرت لكم، ففي 16شعبان أيضاً كتب أحد كتابها مقالاً عنوانه: انحدار الجودة في شريط سلمان العودة.
ويقول عني: إنني أحد خطباء الأشرطة، الذين بدأت تفد علينا خطبهم على الكاسيت من دولة خليجية شقيقة، وبينما تقوم تلك الدولة العزيزة بنشر روح المحبة والوفاق، نرى سلمان العودة يعمل وسعه في بث السباب والشقاق إلى آخر ما قال.
ويقول: إنني من المتشددين الذين أطلق عليهم الدكتور/ القصيبي اسم الغلاة الجدد، ويتكلم عن شريطي أو الدرس الذي ألقيته في هذا المكان المبارك ونفع الله به، وهو شريط: حصاد الهشيم، هشيم الصحافة الكويتية.
وأقول: لعلكم تذكرون وأنتم من حضور هذا الدرس وكذلك الإخوة المستمعون، أنني حرصت في ذلك الدرس على البعد عن كل ألفاظ السباب والشتائم والحمد لله، بل غير هذا، حتى أن هناك كلاماً حقاً لم أقله، تجنباً لما قد يفهمونه هم، ودعوة لهم إلى التوبة إلى الله تعالى، ورغبة في إقلاعهم عن ما هم عليه.
ولكن مثل هؤلاء يبدو أنه لا حيلة فيهم، وأنهم يستغفلون الناس ويظنون أن الناس لا يقرءون ولا يسمعون، فإن كل من يسمع ذلك الشريط؛ يعرف أن هذا الرجل متجني حينما ينسب أنني أسب وأشتم، ويقول: إنه يستشيط غضباً ويسب الصحافة الكويتية وينعتها بأبخس النعوت، ولم يسلم من غضبه وزمجراته، حتى رؤساء التحرير حيث امتلأ الشريط الخ.
نحن لم نغضب ولم نزمجر، قلنا كلاماً هادئاً بحمد الله تعالى، ومع ذلك فإنني أدعو لهذا الأخ الذي كتب هذه المقالة أن الله تعالى يهدي قلبه للإيمان، ويشرح صدره للإسلام، ويجعله هادياً مهدياً، إن الله على كل شيء قدير.(185/27)
موضوع مصارع العشاق
موضوع مصارع العشاق، سبق أن أعلنت عنه ومادته عندي شبه جاهزة، وقد راجعت الكتب المتعلقة بهذا الموضوع، ولكنني أجلته لمناسبة، ثم شغلتني عنه الشواغل، ولعله يتاح له الفرصة، وإذا وجد ما هو أهم منه فلعلي أن أقدمه عليه نظراً لأهميته.(185/28)
موضوعات المراجعات
موضوع المراجعات، كنت وعدت قبل فترة أنني خلال شهرين سوف أقدم الجزء الثاني أو الشريط الثاني في موضوع المراجعات، وطلبت من الإخوة والأخوات جميعاً، أن يوافوني بكل ما لديهم من ملاحظات.
وأقول: جزاهم الله وجزاكم الله جميعاً خيراً، وأشكر لكم الله عز وجل، ثم أشكر كل من بعث إليَّ بملاحظة، وحقه علي أن أدعو له في هذا المجلس الطيب، وفي هذا المجلس المبارك، فأسأل الله تعالى لهم جميعاً أن يوفقهم لصالح القول والعمل، وأن يبارك لهم في أوقاتهم وأعمارهم وذرياتهم وأموالهم، إنه على كل شيء قدير.
هذا هو كل ما أملكه من شكر للإخوة والأخوات الذين وافوني بملاحظاتهم، ومع ذلك أقول إنها أقل مما كنت أتمنى وأريد، وسوف أخصص لها وقتاً آخر إن شاء الله.(185/29)
الأسئلة(185/30)
أداء حقوق العمال
السؤال
يناشد هذا الأخ أداء حقوق العمال، وخاصة أجورهم، فإنني قابلت أحد الإخوة العمال، وأخبرني بأنه لم يستلم من كفيله أجرته، وهو يبكي بشدة كالطفل؟
الجواب
في الواقع هذا الموضوع سوف أخصص -له درس- وعندي أيضاً اقتراحات من بعض الإخوة، وعندي أخبار مزعجة جداً، عن أوضاع العمال، والإساءة إليهم وظلمهم، وتأتيني أسئلة عجيبة.
بعض الناس والعياذ بالله لا يخافون الله تعالى، ولكن هذا السؤال توجيه للإخوة أن يخافوا الله تعالى، لا يبارك الله أبداً في قرش تأخذه من رجل دمعته على خده أبداً، تسرق جهده وتعبه.
والحمد لله رب العالمين.(185/31)
بعض الخرافات المنتشرة بين الناس
السؤال
هذا سائل يشير إلى قضية أو ورقة انتشرت عند كثير من النساء والبنات والرجال أيضاً، ويطالبون بتوزيعها، وتقول هذه الورقة: مرضت فتاة عمرها 13 عاماً مرضاً شديداً، عجز الطب عن علاجها، وفي ذات ليلة اشتد بها المرض، فبكت حتى غلبها النوم، فرأت في المنام زينب رضي الله عنها، ووضعت في فمها قطرات، فاستيقظت من نومها وقد شفيت من مرضها تماماً، وطلبت منها السيدة زينب أن تكتب هذه الورقة أو الرواية (13) مرة وتوزعها على المسلمين، للعبرة في قدرة الخالق جلت قدرته، يقول: فنفذت الفتاة ما طلبت وحصل ما يلي: النسخة الأولى: وقعت في يد فقير فوزعها، وبعد مرور 13 يوم شاء المولى الكريم أن يغتني هذا الفقير.
النسخة الثانية: وقعت في يد عامل فأهملها وبعد مضي 13 يوم فقد عمله.
النسخة الثالثة: وقعت في يد أحد الأغنياء فرفض كتابتها، وبعد مضي 13 يوم فقد كل ما يملك من ثروة.
بادر أخي المسلم وأختي المسلمة بالاطلاع على هذه الرواية وكتابتها (13 مرة) وتوزيعها على الناس، حتى تنال ما تتمنى من المولى الكريم.
الجواب
أقول: من العجب أن مثل هذه الخرافات والخزعبلات، تنطلي على نفوس قوم يؤمنون بالله واليوم الآخر، هذه ما جاء فيها نص من كتاب ولا سنة، وليست تفيد الإنسان، ليست تهديه إلى طريق الجنة، وليس فيها دليل من دلائل قدرة الله تعالى، وعدد (13) هذا عدد جاءنا من طريق ديانات أخرى أو مذاهب أخرى.
ومثل هذه الأشياء إنما ينشرها أصناف من الناس، منهم الملاحدة، والزنادقة، فهم ينشرون هذه الأشياء، حتى يُظهروا المسلمين بمظهر السذج والمغفلين والبله الذين يتصرفون بلا عقول.
حبة نوفلجين يأكلها المريض، خير له من أن يكتب هذه الورقة ألف مرة، بل هذه الورقة لا تقدم ولا تؤخر، بل تزيده تعباً وإعياءً، بل قد يلحقه ضرر بسببها، والضرر الديني متحقق لا محالة بمثل هذا.
وممن يساهم في نشرها بعض الصوفية، فإنهم يعرفون أن دين الصوفية لا ينتشر إلا في الأجواء والمجتمعات التي تنتشر فيها الخرافة، ويغيب فيها العقل، ويغيب فيها العلم، ولذلك ينشرون مثل هذه الأمور، كما ينشرون وصية السيد أحمد الذين يزعمون أنه خادم الحرم، وغير ذلك.
فينبغي تحذير الناس من مثل هذه الأمور، والتذكير بها مرة بعد أخرى، وأقول: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فأنا أول من سأمزق هذه الورقة، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.(185/32)
دور العلماء في توضيح العقيدة
السؤال
ما هو الدور الفعلي، الذي يقوم به علماء هذه البلاد، في الدول الإسلامية وغيرها لتوضيح العقيدة؟
الجواب
في الحقيقة هناك إقبال كبير على علماء هذه البلاد، والاستماع إليهم في بلاد العالم الإسلامي، من خلال الإذاعة وغيرها من الوسائل الممكنة، وبصراحة أقول الدور الذي يمكن أن يقوم به علماء هذه البلاد، هو أكبر بكثير من الدور الذي يقع الآن، فالدور الذي نعمله الآن هو دور محدود جداً، والذي يعمله العلماء دور محدود، بالقياس إلى الدور الواجب.
يمكن أن يكون هناك مؤسسات، ومكاتب تعمل على نشر الدعوة السلفية الصحيحة في كل مكان، وعلى ربط المسلمين بعضهم ببعض، وأرجو أن يكون شيء من ذلك يتم في المستقبل إن شاء الله تعالى.(185/33)
بعض الأخطاء الموجودة في المناهج الدراسية
السؤال
ما رأيك في ما ورد في المناهج الدراسية وأقصد طبعة سنة 1412هـ، وبالذات ما رأيت في كتاب المطالعة، في الصف الثاني الثانوي، فلقد تصفحته ووجدت فيه ما يلي: قصيدة لـ غازي القصيبي: درب من العشق لا درب من الحجر هذا الذي طار بالواحات للجزر بعنوان جسر الملك فهد، وقد ذيل بالسؤال، وهو: اكتب ما تعرفه عن الشاعر خمسة أسطر مستعيناً بأي مرجع مناسب أو أي مصدر من مصادر المعرفة، وسجل ذلك في كراستك؟.
وكذلك عنوان: زمان اللؤلؤ، لأبيات من ديوان سعاد الذي سمته أمنية، سعاد عبد الله الصباح، وفي مطلع الأبيات: في بلادي في مغاني أرض أجدادي الجميلة في العوادي بعد أجيال من الصفو طويلة ذات يوم شاء ما شاء القضاء فكسا بالذهب الأسود أرض الكرماء
الجواب
بالمناسبة هذه الشاعرة، جاءتني اليوم ورقة قديمة ألقتها هي في مهرجان المربد، الذي كان يقام في بغداد في العراق، قبل أن يحدث الغزو، وكانت تتغزل بالعراق وبالجندي العراقي، وددت أن الورقة كانت معي لأقرأها عليكم.
على كل حال الناس عرفوا الآن وأصبحوا الناس لا يأخذون معلوماتهم عن الشعراء وعن غيرهم، من خلال الوسائل الرسمية، بل أصبحوا يبحثو عن كلمة الحق أينما وجدت.(185/34)
بعض مشكلات المدرسين
السؤال
بعض الشباب إذا تخرجوا من الكلية، ثم عينوا في مدن بعيدة عن بلادهم، تجدهم يداومون لمدة سنة، ويعملون أعمالاً خيرية، ثم يطلبون النقل إلى بلادهم، وخاصة هذا البلد؟.
الجواب
هذا خطأ، أنا أعرف بعض الشباب ربما لم يأخذوا جامعة، ومع ذلك تعينوا في بعض المناطق، فنفع الله بهم نفعاً عظيماً، والله الذي لا إله غيره إنهم فعلوا ما لم يفعله ناس في أعمار آبائهم، ومن قبل أن يولد أولئك وهم يطلبون العلم ومع ذلك فعل هؤلاء الشباب ما لم يفعل هؤلاء، وكان لهم أثر كبير، ونفع عظيم في أوساط الجميع، وكتب الله محبتهم في النفوس، ووزعوا أشرطة وكتباً وأقاموا دروس، وأقاموا حلقات تحفيظ القرآن، وأقاموا نشاطات في المدارس، وخير كثير، وما قيمتك، ولماذا نفرح بك إلا من أجل أن تنفع؟ أنت لِمَ تأتي إلى بلد مثل هذا البلد؟ البلد مليء والحمد لله بالأخيار، ومليء بطلبة العلم، ومليء بالخطباء، فغايتك أن تصبح واحداً من المستمعين إلى بعض الدروس.
لكن حينما تكون في بلد محتاج فقير، الناس سوف يعتبرونك الإمام، وأنت الخطيب، وأنت عاقد الأنكحة، وأنت المرشد، وأنت الذي تحل مشكلاتهم، وأنت المرجع إليهم في الفتوى، وتنفع في كل الأمور.(185/35)
وضع الرواتب في البنوك
السؤال
انتشر بين الإدارات الحكومية وضع رواتب الموظفين في البنوك الربوية، ويشترط البنك بقاء المبلغ خمسة أيام، ما رأيكم؟
الجواب
لا شك أن هذا لا يجوز وهو من الربا، لأن البنك خلال خمسة أيام، سوف يستفيد من هذا المبلغ أشياء كبيرة وطائلة، وربط الناس بالبنوك وباقتصاد ربوي فكرة غير صحيحة، وخاطئة، ونتمنى أن يسعى الناس وسعهم، وهذه رواتب الناس كلهم، فلو كل الناس قالوا: لا نريد ذلك، لا أعتقد أن هنالك من سوف يلزمهم به، فلابد أن يبذل الناس وسعهم في التخلص من مثل هذا الأمر، فإن كان ولا بد فليكن ذلك -على الأقل- في بعض البنوك التي تكون أحسن من غيرها، كبنك الراجحي مثلاً.
أما بالنسبة للموظف إذا لم يكن لديه حل، فعليه أن يبذل وسعه، فإذا لم يكن له إلا هذا فلا شيء عليه.(185/36)
نحن المسئولون
للفرد قيمة عظيمة في الإسلام، فقد علق الجزاء الأخروي والمسئولية الدنيوية به كفرد فعليه تحمل مسئوليته، وهناك غفلة عند الفرد المسلم عن قيمته، وعدم اعتبار عند غيرهم بسبب عدم جعلهم تلك القيمة لأنفسهم فرخصت قيمتهم.
ثم تحدث الشيخ عن تحديات تواجه الأمة، وعلى الأمة أفراداً وشعوباً تحمل مسئوليتها أمام هذه التحديات ومنها: احتلال أراضيهم والمنكرات وغيرها.
فلا ينبغي تحميل مسئوليتنا غيرنا.
كما يجب علينا إشعار الفرد والجماعة بمسئوليتهم عن طريق الشورى والتربية والنقد والتصحيح والشعور الجماعي بالمسئولية.(186/1)
نبذة عن منطقة الأحساء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله تعالى به الغمة، فجزاه الله عنا وعن أمة الإسلام خير الجزاء.
في هذه الليلة، ليلة التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة، لعام ألف وأربعمائة وعشرة للهجرة، تنعقد هذه المحاضرة، وأود أن أنبه إلى لبس ربما كنت طرفاً وسبباً فيه، أو كان غيري كذلك لأنني لا أريد أن أتخلى عن المسئولية في هذا الأمر، وهو: أن هذا المحاضرة لها عنوان خاص أعددته منذ أشهر، وكنت جعلت عنوان هذه المحاضرة " نحن المسئولون " فهذا هو العنوان الذي سأتحدث فيه الليلة.
ولذلك لا أحب أن أتخلى عن المسئولية في هذا اللبس؛ لئلا أكون متناقضاً مع هذا العنوان الذي اخترته، وإلا فإنني قد بلغت هذا العنوان إلى الإخوة المسئولين في الإفتاء في الدمام، لكن ربما حصل شيء من اللبس في ذلك.
نحن الآن في هذا البلد الكريم المضياف في الأحساء، نحن في هجر التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أنبئت أن دار هجرتي أرض ذات نخل بين حرتين، فذهب وهلي إلى أنها هجر} لقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام أن تكون هذه البلاد هي دار هجرته، ومقامه ومنطلق رسالته وبعثته، وفي هذا من الدلالة والإشارة ما فيه، وهذه البلد بلد عبد القيس الذين كانوا من أول الناس إسلاماً، ومن أول القبائل إسلاماً ووفوداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخبرهم في الصحيحين {قالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإننا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأربع، ونهاهم عن أربع} وهذا البلد هو أشج عبد القيس الذي قال: عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح: {إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة.
قال: يا رسول الله، أخصلتان جبلت عليهما أو اكتسبتهما؟ قال: بل جبلت عليهما.
فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه ويرضاه} .
الموضوع الذي سأتحدث عنه، موضوع في غاية الخطورة بلا إشكال، وهو موضوع خطير بالنسبة لكل فرد منا، وبالنسبة لكل مسلم، سواء كان أباً أم ابناً، معلماً أم طالباً، كبيراً أو صغيراً، مسئولاً أم موظفاً عادياً أم مزارعاً أم تاجراً أم أي شيء آخر، فما دام مسلماً؛ فهذا الموضوع في الغاية العليا من الأهمية والخطورة بالنسبة له، ألا وهو: تحديد من المسئول، وهذا الموضوع مع أهميته فيه طرافة وفيه عجب، وفيه إثارة جيدة لمن عقل وتفهم وتدبر.(186/2)
قيمة الفرد في الإسلام
أول نقطة في هذا الموضوع كمقدمة إليه، هي: بيان قيمة الفرد في الإسلام.
ونحن نجد أن الإسلام جعل الفرد هو مناط التكليف ومركزه، لم يخلق الله عز وجل الإنسان ملكاً مجبولاً على الخير والطاعة والاستقامة، كما لم يخلقه شيطاناً رجيماً متمحضاً للشر والفساد، وإنما جعله إنساناً قابلاً للهدى والضلال، والخير والشر، والإيمان والفجور، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] .(186/3)
قل هو من عند أنفسكم
إذاً هل نستطيع أن نقول: إننا جميعاً مدركون وموقنون إيقاناً كاملاً تاماً لا ريب فيه، أن الإنسان -ونقصد به العاقل غير المجنون، فالمجنون شيء آخر {رفع القلم عن ثلاثة} - مسئول مسئولية كاملة عما يفعل في الدنيا وفي الآخرة، وأن كل ما يقع للإنسان، فرداً كان أو طائفة، أو أمة أو دولة، أو للبشرية كلها من المصائب الدنيوية، أو العقوبات الأخروية، فإنما هي بسبب ما عمل، هذه نتيجة بديهية مسلمة لا يلتبس الأمر فيها، ولا يختلف فيها اثنان، ولا ينتطح فيها عنزان، كما تقول العرب.(186/4)
السؤال الفردي الأخروي
الإسلام جعل الجزاء الأخروي فردياً، أنت تقف يوم القيامة للحساب بمفردك، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] المال والعبيد والأولاد والسلطان والجاه والمنزلة والمكانة كلها تركتموها وراء ظهوركم، وجئتمونا فرادى حفاة عراة، كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] إذاً هذه بديهية يجب أن تحيا في نفوسنا، الجزاء يوم القيامة جزاء أخروي، كل إنسان يقف بمفرده، لا أحد يتبرع لأحد، ولا أحد يستطيع أن يملي جواباً على أحد، هذا غير وارد وغير متصور، المسئولية فردية.(186/5)
تحمل المسئولية الفردية الدنيوية
وكذلك الحال بالنسبة للواقع الدنيوي، فإن القرآن الكريم صريح وظاهر، في أن كل ما يلاقي الناس في هذه الدنيا من خير أو شر؛ فهو بسبب أعمالهم، يقول الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] كل مصيبة، حتى المصيبة الدنيوية التي تنزل بك، فهي بما كسبت يداك، والمصيبة الأخورية من باب الأولى.
ويقول الله عز وجل لأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم حين انهزموا في معركة أحد، وتعجب! أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كيف يهزمون بزعامة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام؟ وأمام الطغمة الفاجرة الكافرة من عتاة قريش وفجارها، يهزمون ويقتل منهم من يقتل وتسيل الدماء، ويسقط الرسول صلى الله عليه وسلم في حفرة أبي عامر الفاسق، ويشج رأسه، وتكسر رباعيته، وتدخل حلقة المغفر في وجنته الكريمة بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، تعجبوا كيف يحدث هذا؟! قالوا: أنى هذا كيف حدث هذا؟! استغربوا لم يكونوا يتصورون أن المسلم يهزم أمام الكافر، فقال الله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] قل هو من عند أنفسكم.
إذاً أنتم المسئولون، وأنتم السبب دون غيركم في هذه الهزيمة النكراء التي لم تحسبوا لها حساباً، وكذلك يقول الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] فكل فساد يظهر في البر أو في البحر، فهو بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا، حتى حين ينظر الإنسان السطحي المغفل فلا يدرك، فإن العقلاء يدركون أن كل فساد يقع في البر أو البحر أو الجو فإنه بما كسبت أيدي الناس، وأنها ليست كل العقوبة، بل هو بعض الذي عملوا، هو مجرد إيماء وتحذير وتنبيه لعلهم يرجعون.
وفيما يتعلق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعرفون الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يا معشر المهاجرين، خمس خصال إن ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن} فذكر خمس خصال من المصائب والنكبات، وعقوباتها في الدنيا، ولا أريد أن أذكر الحديث فهو بطوله معروف، لكن مثلاً ذكر عقوبة الزنا وهي ظهور الطواعين والأمراض التي لم تكن في أسلافهم، كالهربس، والإيدز، وإلى غير ذلك من الأمراض الجنسية.
الربا وأنه هو سبب في ابتلاء الناس بانحباس المطر عنهم، أيضاً ظلم السلاطين، إلى غير ذلك من العقوبات التي رتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بعض المعاصي التي يفعلها الناس في هذه الدار.(186/6)
الجزاء منوط بالعمل
لقد جعل الله عز وجل الجزاء الأخروي منوطاً بالعمل الذي تعمله، والشيء الذي تختاره، فالله عز وجل يقول مثلاً فيما يتعلق بالجزاء الأخروي يقال لأهل الجنة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] ويقول عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] ويقول عز وجل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] .
إذاً كل إنسان مكلف، فهو يوم القيامة مسئول ومحاسب وموقوف، كما قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] الأب لا ينفع ابنه، والابن لا ينفع أباه، والزوج لا ينفع زوجه كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان:41] من هو المولى؟ هو القريب، وابن العم السيد، والزعيم الحبيب، فكل هؤلاء بعضهم مولى لبعض {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان:41] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إ ِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34-37] .(186/7)
من المسئول عن واقع المسلمين؟
أنتقل إلى نقطة ثانية وهي مهمة في الموضوع بعد هذه المقدمة، وهي: الحديث عن واقع المسلمين وواقعنا نحن تجاه هذه القضية، قضية المسئولية فمن المسئول عما يقع؟(186/8)
عدم اعتبار المسلمين وإرادتهم
صورة أخرى من صور الغيبوبة التي نعيشها نحن الآن كأفراد، ونعيشها أيضاً كأمة: قضية عدم اعتبار المسلمين، وعدم النظر إلى إرادتهم.
كم من موقف أو عقد أو تصرف يفعله إنسان واحد، بالنيابة عن الأمة كلها، أو بالنيابة عن قطاع كبير من الأمة.
جزء من الأمة لم يأخذ فيه رأياً، مع أنه أمر مصيري، يتحدد بناءً عليه أشياء كثيرة.
فعلى سبيل المثال: قضية الصلح مع اليهود، هذه القضية ليست قضية فرد بعينه، ليست قضية محمد أو صالح أو أحمد أو فلان، هذه قضية الأمة كلها، فمن هو الذي خول شخصاً من الأشخاص أن يتصرف بالنيابة عن المسلمين كلهم، ليبرم صلحاً، أو لا يبرم صلح، أو يتقدم أو يتأخر، أو يحارب أو يسالم أو ما إلى ذلك؟ هنا غيبة المسلمين أو غيبوبتهم جعلت إرادتهم معدومة، لا أحد ينظر إلى إرادتهم، لا أحد يأخذ رأيهم أو يستشيرهم، لأنهم فقدوا شعورهم بقيمتهم كأفراد، فقدوا شعورهم باعتبارهم مسلمين مكلفين محاسبين، ومسئولين حتى في الدنيا مسئولية تاريخية، فقدوا ذلك، وبالتالي الناس فقدوا شعورهم بهم -أيضاً- وصاروا يتصرفون دون الرجوع إليهم، فصار الأمر كما قال الأول: ويقضي الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود صورة ثالثة: تسمعون يوماً من الأيام، أن في روسيا قتل ستة من اليهود، قامت الدنيا وما قعدت، وأجهزة الإعلام تشتغل، ليس في إسرائيل فقط، بل في دول العالم الغربي كله، ليل نهار، لماذا حقوق الإنسان مهدورة؟ لماذا يقتل هؤلاء؟ بأي جرم؟ ما هي المحاكمة التي تعرضوا لها؟ أين مواثيق الأمم المتحدة؟ وهكذا نسمع جدلاً ستة من اليهود من إخوان القردة والخنازير، لا وزن لهم ولا قيمة ولا اعتبار قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44] لكنهم يشعرون بقيمتهم، وبالتالي قومهم يشعرون بقيمتهم، فيحركون العالم كله أمام هؤلاء الذين قتلوا.
لكن بالنسبة للمسلمين ليست المسألة ستة أو ستين أو ستمائة! المسألة بالألوف، أحياناً شعوب تباد بأكملها، ولا أحد يتحرك، دماؤنا رخيصة عند قومنا وعند الأعداء، أما الأعداء فلا يلامون، لكن المشكلة أن دماءنا رخيصة عند أقوامنا، وتأتي قضية إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض أو الأحمر أو الأسود، على اختلاف في الروايات، المهم أن المسلمين دماؤهم رخيصة تسفك.
ولعلكم يومياً تسمعون وجبات من دماء المسلمين، كما نجد الآن من آخر القضايا: قضية كشمير، عندما تقرأ الأخبار -والله الذي لا إله غيره- أننا عندما نقرأ الأخبار؛ نشك في صدقها، مع أنه -أحياناً- الإنسان مقتنع أنها صحيحة، لكن من شدة غرابة الخبر وسكوت أجهزة الإعلام عنه، يقول الإنسان: هل معقول يقتل هؤلاء الآلاف المؤلفة؟ هل معقول تباد قرى بأكملها، -أحياناً- بالقنابل وأحياناً بالأسلحة الكيماوية، ولا أحد يتحرك ولا يلتفت؟ نعم معقول؛ لأن هؤلاء المسلمين أو كثيراً منهم، فقدوا إحساسهم بقيمتهم، ففقد الآخرون الإحساس بهم، وفقدوا الترابط الذي هو نتيجة للشعور بأننا أصحاب هم واحد، كما كان يقول الشاعر أحمد شوقي: نصحت ونحن مختلفون داراً ولكن كلنا في الهم شرق نحن نقول: كلنا في الهم إسلام ومسلمون، فلو كان كل إنسان يحس بمسئوليته عن نفسه حقيقة؛ لأحس بمسؤليته عن إخوانه المسلمين في كل مكان، مصداقاً لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً} وقال أيضاً: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} .(186/9)
فقدان الشعور بالمسئولية
صورة -أيضاً- من صور تخلينا عن المسئولية، تخلي المسلمين عن مسئولية ما يحدث، لو سألت أي فرد منا دعونا ممن هم خارج المسجد، لنكن واقعيين لا نتكلم عن أحد غائب، من أجل أن يكون الكلام له قيمته، يعتبر كل فرد أن الخطاب يخصه هو دون غيره.
لو سألنا إخواننا الموجودين في المسجد: هل أحد منا يشعر أن له دوراً أو مشاركة في احتلال اليهود لفلسطين، أو احتلال الروس في أفغانستان، أو في انتشار المنكرات في المجتمع، أو في ضعف الأمة الإسلامية، أو في التخلف العلمي الذي نعيشه، أو في الوضع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه الأمة؟! قد تجد (90%) على الأقل يقول: أنا ليس لي دور! أنا قائم بعملي خير قيام، ليس لي تدخل بالناس: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ما دخلنا في اليهود أن يحتلوا فلسطين أو غير فلسطين، مالنا علاقة بالأشياء هذه!! الأكثر من الناس هذه تصوراتهم.
إذاً فقدنا شعورنا بالمسئولية عن الأحداث الكبار، دعك من الأحداث العالمية، مثل قضية سقوط الشيوعية، أو قضية التحالفات الجديدة العالمية، دعك منها، لكن لنبقى في الأحداث الإسلامية، بل دعنا من الأحداث الإسلامية البعيدة، دعنا مع الأحداث الإسلامية القريبة التي تقع في مجتمعنا، أكثرنا يقول: ليس لنا علاقة! من نحن؟ إنسان في آخر المشوار وفي آخر القائمة، نقطة لا وزن لها ولا اعتبار لها.
هذا تقديرنا لأنفسنا، وهكذا أصبحنا نعيش سلبية قاتلة تجاه كل ما يحدث قريباً كان أو بعيداً، حتى صح وصدق علينا قول القائل: ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم الله يعلم أني لم أقل فندا إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا وأذكر لكم قصة أم نكتة في الواقع، وهي أن أحد العلماء كان عنده خلق كثير من الطلاب، له حلقة يحضرها ألوف، فخشي منه الحاكم أو السلطان، قال: إن هذا العالم له جمهور وله رواد وخاف منه، فأحضره يوماً من الأيام في قصره وقال: أنا لست مطمئن لهذه الجموع الغفيرة التي تجلس عندك، أنا أخشى منهم.
قال: لا تخف من هؤلاء، ليس عندي أحد، قال: كم عندك في الحلقة؟ قال عندي واحد ونصف.
فضحك الأمير، أو الحاكم، وقال: أنا حضرت الحلقة ورأيت ألوفاً مؤلفة، قال: أبداً، أصدقك الحديث ليس عندي إلا واحد ونصف.
قال كيف؟ قال: سوف أريك الآن، وأخذ بيده وخرج به إلى الشرفة يطلون على الشارع، الناس جاءوا إلى المسجد يريدون الحلقة فما وجدوا الحلقة، سألوا: أين الشيخ؟ قالوا: قد ذهب إلى السلطان -دعاه السلطان-.
فكلٌ ذهب إلى حال سبيله، هذا في مكانه، وهذا في مزرعته، وهذا في مدرسته، وبعضهم يركض ركضاً، لا يدري أحد أنه يجلس في هذه الحلقة، والثالث والرابع، المهم لاذوا بالفرار.
جاء فلَّاح معه مكتل على كتفه آله الحراثة، فقال: أين الشيخ؟ فقالوا: ذهب إلى السلطان.
فلم يلو على شيء، وحالاً ذهب إلى السلطان، فلما وقف عند باب القصر؛ وجد الجنود والحرس والأعوان والشرط والسياط والسيوف، لم يلتفت إليهم بل صار يشق الصفوف شقاً، فقال العالم للحاكم: ترى هذا.
قال: نعم.
قال: هذا واحد، فقال: أين النصف؟ قال: يأتيك الآن، بعد قليل جاء إنسان فصار يتقدم خطوة، ويتأخر أخرى ويلتفت يمنه، ويلتفت يسره، ويريد أن يدخل ثم يرجع، ثم يريد أن يدخل ثم يرجع، فقال: هذا النصف، لو وجد آخر مثله أخذ بيده ودخل مثل الأول، لكنه لم يجد أحداً، فهو نصف رجل يحتاج إلى رجل ثان حتى يكمله.
إذاً فالأمر كما قال الآخر، وهو يصف مصائب المسلمين، ويتحدث عما نزل بهم، وهو أحد شعراء الشام، يذكر ما نزل بالأمة، يقول: ما لي أرى الصخرة الشماء من كمد تلوي وعهدي بها مرفوعة العنق ومنبر المسجد الأقصى يئن أسى قد كان يحدو الدنا من طهره الغدق واليوم دنسه فجر ألم به من غدر شعب اليهود الداعر الفسق وللعذارى العذارى المسلمات على أعواده رنة الموفى على الغرق لو استطاع لألقى نفسه حمماً صوناً لهن ودك الأرض في حنق وظلت الكعبة الغراء باكية وغم كل أذانٍ غم في الشنق هذه مصائبنا ثم يقول: كثرٌ ولكن عديد لا اعتداد به جمع ولكن بديد غير متسق إذاً المصائب كثيرة بعددنا، لكن نحن مع كثرتنا لا اعتداد بنا، وليس لنا مواقف صحيحة صريحة، ولا قوة ولا شجاعة، ولا شعور بقيمتنا ولا شعور بمسئوليتنا.
وأذكر بهذه المناسبة مثالاً موجوداً عند بعض الشعوب، يقول: إن المشاكل التي نعانيها صنعها من قبلنا، وسوف يحلها من بعدنا أما نحن فأبرياء إذاً فنحن ليس لنا من الأمر شيء، إن المشاكل التي نجدها الآن ونعانيها ونصطلي بنارها صنعتها أجيال سابقة، ولن نحلها نحن، إنما سوف يحلها الجيل اللاحق، أما نحن فأصبحنا بين القوسين ليس لنا من الأمر شيء، ما صنعنا هذه المشكلات، أي لم نعترف بخطئنا في المشاركة، وبالتالي ما اعترفنا بدورنا الملقى على عواتقنا في وجوب حل هذه المشكلات أو المساهمة في حلها.(186/10)
موقف المسلمين من المصائب
إننا نلاحظ أن المسلمين إذا نزلت بهم مصيبة يسرعون إلى نداء ومخاطبة الأموات، إما على سبيل الجد، وإما على سبيل التعبير والكناية والمجاز، فكم من مسلم إذا احترق بيته، بدلاً من أن يقوم هو بالإطفاء أو ينادي المطافي، تجده يصرخ يا فلان يا عبد القادر، يا علي، يا حسين، يا فلان، يا علان، يريد من هؤلاء الأموات الرفات الذين هم في قبورهم؛ أن يهبوا من نومهم ويسرعوا بليات المطافي؛ حتى يطفئوا هذا الحريق الذي اشتعل في بيته!! إذا نزلت به مصيبة من مرض، أو فقر، أو فقد ولد؛ تراه ينادي الأموات.
ومن جهة أخرى تجد بعض المسلمين يعبرون -لكنه تعبير له دلالته- عن شعورهم بالأسف من الواقع بنداء الأموات، مثلاً: امرأة تقول الشعر، لاحظت ما تعانيه الأمة الإسلامية من فقر ومرض وتخلف وجهل وذل إلى غير ذلك، فبدلاً من أن تنادي نفسها، وتنادي أخواتها ومثيلاتها، وتنادي المسلمين، كما قالت المسلمة الأولى لما أهينت واضطهدت قالت: وامعتصماه، تصرخ بـ المعتصم الحاكم في بغداد، فيقول المعتصم: قد أجبتك، ويجهز جيشاً قوامه مائة ألف، ويذهب إلى عمورية حتى يفتحها.
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حفلاً معسولة الحلب بدلاً من ذلك أصبحت تنادي من؟: تنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تخاطبه وتقول: يا مرسلاً جاء للدنيا فأنقذها من البلاء وعافاها من السقم اذكر لربك أنا أمة جهلت قادها الجهل للبأساء والعدم واحد آخر شعره بائس خبيث مخبث، وهو الشاعر المشهور قباني، له قصيدة في لحظة من لحظات يقظته وانتباهه وصحوته من السكر الدائم المزمن، قصيدة طويلة جميلة، يتكلم فيها عن واقع الأمة الإسلامية، وما حل بها من النكبات والمصائب، ويقول ضمن هذه القصية: وقبر خالد في حمص تلامسه فيرجف القبر من زواره غضباً يا رب حي رخام القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصب يا بن الوليد ألا سيف تؤجره فإن أسيافنا قد أصبحت خشباً يا بن الوليد - رجعنا ننادي الأموات عجزنا عن الأحياء، فصرنا ننادي الأموات، يريد من خالد أن يقوم يؤجره سيفه المسلول الذي انتصر به في المعارك الإسلامية؛ لأن أسيافنا قد أصبحت خشباً، وأذكر شاعراً آخر كان ينادي صلاح الدين ويقول: قم يا صلاح الدين قم، وآخر يقول: قم يا صلاح الدين طهر أرضنا من كل ومن ماسوني.
المهم: صلاح الدين وخالد وغير خالد، والأموات كلهم لا ينفعون الإنسان شيئاً، ولا يغنون عنه من الله شيئاً، ولا يجوز للإنسان أن يدعوهم أو يناديهم -ليس مقصودي الآن هو الكلام عن هذه النقطة- لكن مقصودي أن أقول: لماذا أصبحنا ننادي الأموات؟! لأن الأحياء فقدنا ثقتنا فيهم، فقدنا شعورنا بقيمة الأحياء في الوقت الذي نشغل فيه بقيمة الأموات، نعرف ماذا صنع خالد بن الوليد، ونعرف ماذا صنع صلاح الدين، ونور الدين، وعماد الدين، ولذلك نناديهم نريد أن يجددوا لنا الأعمال، لماذا لا ننادي محمد وصالح وعلي وأحمد وإبراهيم من الأحياء الذين يعيشون على أقدامهم، لماذا لا نناديهم لأنهم أموات؟! يا رب حي رخام القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصب فنحن نشعر بأنه لا قيمة لهم ولا تأثير، ولا يحسون بالمسئولية فننادي غيرهم، هذه صورة تدلك على عدم شعورنا بالمسئولية تجاه هذه الأعمال.(186/11)
غفلة الفرد عن قيمته
أخطر مشكلة تواجه الأمة: هي غفلة الفرد عن قيمته وعن مسئولياته، وظنه أنه شيء مهمل لا قيمة له ولا وزن ولا اعتبار، وهذه من أخطر الأمراض التي إذا وجدت فتكت بالناس، يأتي إنسان فتقول له: لماذا تفعل كذا؟ أو يفعل غيرك كذا؟ أو لماذا حدث كذا؟! يقول أنا مسكين ليس لي دور ليس بيدي شيء، وليس بيدي حل ولا ربط، ولا أمر ولا نهي، أنا وجودي كعدمي! أنا صفر على الشمال، ويظل الإنسان يوبخ نفسه بطريقة مهينة، حتى لكأنك تتصور أنك أمام لا شيء، أو أمام إنسان فقد شعوره بذاته وبإنسانيته وببشريته وبتكريم الله تعالى له، فضلاً عن شعوره بالمسئولية التي ألقاها الشرع على كاهله وعلى كتفه.
ولذلك تقول الإحصائيات: إن عدد المسلمين اليوم ألف مليون أي: مليار إنسان، وعدد المسلمين يعتبر من أعظم الطوائف أو المجموعات التي تدين بدين سماوي في هذه الدنيا، بل لعلهم يحتلون المركز الأول أو ينافسون عليه، لكن هذا العدد الكبير ما مدى انتمائهم لهذا الدين وارتباطهم به وشعورهم بهذا الانتساب؟ أم أنها مجرد أرقام لا رصيد لها من الواقع؟ المشكلة أن الاحتمال الثاني هو الراجح، وأن الواقع أن أكثر المسلمين هم بالصورة التي سوف أتحدث عنها، وأشير إلى جوانب منها.
في واقع الأمة الإسلامية ضاعت قيمة الفرد في نفسه، وبالتالي ضاعت قيمته فيمن يتعامل معهم، فمثلاً: إذا كان الإنسان لا يحس بقيمته فمن بابِ أولى أن الآخرين لا يحسون بقيمته أيضاً، الإنسان إذا كان لا يحس بقيمة نفسه؛ فزوجته -مثلاً- لا تحس بقيمته، وأولاده لا يحسون بقيمته، والمسئول عنه في الدائرة الحكومية لا يحس بقيمته، والمسئول عنه في البلد لا يحس بقيمته، والمسئول عنه في الدولة لا يحس بقيمته، والعدو من باب أولى لا يحس بقيمته ولا يحسب له أي حساب أيضاً.(186/12)
التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية
هناك تحديات كثيرة تواجه الأمة الإسلامية، وسوف أضرب بعض الأمثلة لهذه التحديات، والواقع أن الموضوع طويل، كما أسلفت.(186/13)
المستوى العلمي والحضاري والاقتصادي المتردي
من التحديات: المستوى العلمي والحضاري والاقتصادي المتردي للأمة الإسلامية، هذا أمر الكلام فيه واضح، الأمم الغربية سبقتنا بمراحل في هذا الباب، بل نحن لم ندخل حلبة السباق إلى الآن، عندما نتساءل عن سبب هذا التخلف ومن المسئول عنه؟ لا نجد أحداً منا يستطيع أن يقول: نحن مسئولون عن هذا الأمر، بل قد نحمل المسئولية جهات أخرى فنحملها -مثلاً- الحكام، أو نحملها جيلاً معيناً، أو نحملها الظروف، إلى غير ذلك من الأشياء التي نعلق عليها أخطاءنا، كما سأشير إليها في نهاية المحاضرة.(186/14)
احتلال اليهود لأراضي المسلمين
مثال آخر من التحديات التي تواجه المسلمين اليوم: قضية وجود اليهود واحتلالهم لأراضي المسلمين وتوسعهم يوماً بعد يوم، كم عدد المسلمين؟ ألف مليون مسلم، كما تقول الإحصائيات كما قال الأفغاني، أو غيره يقول: لو أن كل مسلم نفخ على اليهود نفخة لطاروا، ألف مليون! لو كل واحد نفخ جهة إسرائيل يمكن أن تطير إسرائيل من هذه العواصف.
ويقول آخر: لو أن كل مسلم بصق على اليهود بصقة لغرقوا، هذه حقيقة، لو أن كل إنسان قام بدور -ولو ضئيل جداً- لكانت النتيجة أننا استطعنا أن نطرد اليهود، نفس الكلام يقال بالنسبة للشيوعيين الذين يحتلون أفغانستان، أو النصارى الذين يحتلون بعض البلاد الإسلامية، الكلام واحد، لو أن كل مسلم أدى دوره لزالت هذه المشكلات.(186/15)
كثرة المنكرات
مثال ثالث: قضية المنكرات.
المجتمع -لا شك- مليء بمنكرات كثيرة ظاهرة ومستترة على كافة المستويات، منكرات إعلامية، منكرات اقتصادية، منكرات اجتماعية، إلى غير ذلك من ألوان المنكرات، فعندما نأتي ونتساءل: من المسئول عن إزالة هذه المنكرات؟ لا أحد يستطيع أن يقول: أنا مسئول إلا النادر من الناس إلا ممن رحمه الله.
يقول لي أحد الإخوة من طلاب العلم: عجبت لقد التقيت بأناس كثيرين، حتى من طلاب العلم، بل ربما من العلماء، فما تشتكي إلى أحد منهم منكراً إلا ويقول اذهب إلى فلان، انظر فلان، تكلم مع علان، قولوا كذا أو افعلوا كذا، ويكتفي فقط بالتوجيه، يقول: إلا شخص واحد من خلال تجربتي -هذا رأي الأخ المتحدث- يقول: وهو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ما ذكرت له يوماً من الأيام منكراً أو خطأً، فقال لي اذهب إلى فلان أو إلى علان أو ما أشبه ذلك، إنما قال: نفعل -إن شاء الله- نخاطب الولاة نتحدث، ننكر ونبلغ، رجل يشعر بمسئوليته، هكذا تستطيع أن تصفه.
أرأيتم لو أننا قاطعنا المنكرات، ما الذي يحدث؟ سوف تكسد أسواقها، مثلاً شريط سيئ أو أغنية أو مجلة أو كتاب، أي بضاعة محرمة لو قاطعناها فمن يشتريها؟! لا أقول سوف تنقطع عن هذه البلاد، بل سوف تتوقف عن الصدور، فإن كثيراً من المجلات والكتب وغيرها، تجد في أسواق هذه البلاد من الرواج والانتشار ما لا تجده في أي بلد آخر، فلو أن كل واحد منا قاطع هذه الأشياء -مجرد حل سلبي ومشاركة سلبية- لانتهت هذه المنكرات وزالت.
مثلاً بنوك الربا، لو أن كل واحد منا لا يتعاطى الربا ولا يودع أمواله، ولا يأخذ الفوائد لانتهت.
لكن أنا وأنت والثاني والثالث، نقول حرام ونأخذه، وبالتالي أصبحنا نأمر بأيدينا وبأموالنا وبجهودنا، هذه المنكرات التي نتحدث عنها، ونقول: إنها منكرات.
قضية ثانية: عندما ترى منكراً ما دورك فيه؟ تقول: ليس لي دور، ليس هناك أحد ليس له دور، أضرب مثلاً بسيطاً: قبل شهر فتحت صندوق البريد، فوجدت فيه رسالة، فتحت هذه الرسالة، فإذا فيها خطاب من شاب مجهول لا أعرفه، قد يكون شاباً أو شيخاً أو غير ذلك، المهم من رجل مجهول، يقول لي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، يصلك مع هذا الخطاب قصاصة من جريدة كذا، وفيها إعلان عن حفل غنائي سوف يقام في بلد كذا، في يوم كذا، وهو حفل مختلط كما يدل عليه الإعلان، أرجو أن تقوموا بما تستطيعون في هذا المجال، ووجدته أرفق مع الخطاب قصاصة من إحدى جرائدنا المحلية فيها إعلان -فعلاً- عن حفل غنائي يقام بعد عيد الفطر المبارك، وحفل مختلط للرجال والنساء، يحييه الفنان المحبوب فلان، والفنان الموهوب علان، وللحجز والاستفسار اتصلوا بوكالة كذا، تليفون كذا.
أتوقع أن هذا الشاب كتب عدة رسائل لعدة أشخاص، فقام بدوره، فلما وضع أمامي القضية وجدت أن الأمر سهل لا يتطلب مني أنا -أيضاً- إلا أن أتصل بالهاتف على هذه الوكالة من باب المناصحة والمحبة في الله، فاتصلت، فقالوا لي: إن هذا قد ألغي وكتبنا في الجريدة نفسها اعتذاراً، وكان خطأً وقعنا فيه، وبلغنا الجهات المختصة بطريقة الوقوع في الخطأ، حتى لا يقع فيه غيرنا، وكان ذلك بفضل الله ثم بفضل تدخل الطيبين والصالحين وطلاب العلم، وكذا وكذا وكذا، وإن شاء الله نعدكم أنه لن يتكرر، هذا جيد، هذا حسن، إذاً ألغي هذا المنكر بسبب خطوة كالتي حدثت.
مثال آخر: في يوم من الأيام أعلن في أحد الجمعيات، يسمونها جمعيات الثقافة، من باب تسميه الشيء بضده، فأُعلن في إحدى هذه الجمعيات؛ أنه سوف تقام دورة للتدريب على الموسيقى للصغار من سن 13 - 18 سنة، فأحد الصالحين صور الخبر الذي فيه هذا، وكتب رقم تليفون الجمعيةـ حتى يتصل بهم ويناصحهم من يحب أن يقول لهم الكلمة الطيبة، وأرسلها إلى فلان وعلان من الناس الذين يعتقد أنه سوف يكون لهم تأثيراً، وفعلاً كان لهذه القضية تأثير، حتى لو لم يترتب عليها إلغاء مثل هذه الدورة، سيترتب عليها في المرة الثانية أن يحسب الإنسان ألف حساب لمثل هذا العمل، الذي يواجه به المجتمع، ويقوم فيه بأمر لا ينفعنا في دنيا ولا في دين.
إذاً ممكن أن تغير منكراً ما، بالخطاب، بالهاتف، بالكلمة الطيبة، بالنصيحة، بالمراسلة بأي شيء، وأضعف الإيمان المقاطعة، فلا تفعل المنكرات، ولا تجلس في المكان الذي يفعل فيه المنكر، ولا تساهم فيه بشكل من الأشكال، هذا أضعف الإيمان.(186/16)
التبرعات
مثال رابع: قضية التبرعات؛ المسلمون يواجهون تحدياً اقتصادياً، أي مشروع في الدنيا لا بد له من مال، الجهاد في أفغانستان أو الفلبين أو إرتيريا أو في فلسطين يحتاج إلى المال، المشاريع الدعوية تحتاج إلى المال، المسلمون المنكوبون في أفغانستان أو في السودان أو في غيرها، يحتاجون إلى المال، إلى كسرة الخبز، إلى الغذاء، إلى الكساء الذي يسترون به عوراتهم.
هذا تحدٍ كبير، لكن من أين نجمع هذه الأموال؟ تجد كل إنسان يقول: ليس لي دور، المسئول فلان ويشير إلى ثري من الأثرياء، لماذا ليس لك دور؟! لو رجعنا إلى الرقم الذي رددناه مراراً ألف مليون، نريد من كل واحد أن يعطينا ريالاً واحداً فقط، هل أحد لا يستطيع؟ والله نعطي أطفالنا أحياناً عشرة ريالات، ومائة ريال، وألف ريال، ونشتري لهم ألعاب بأغلى الأثمان، إذاً نريد ريالاً واحداً، معناه أننا بحملة تبرعات واحدة سنجمع ألف مليون ريال، كل واحد لن يعطينا إلا ريالاً واحداً.
إذاً القضية الأساسية: هي فقدان كثير من المسلمين الشعور بذاتهم وبقيمتهم وبدورهم ومسئوليتهم، وبالتالي تعطلت كثير من الأعمال، وأصبح من الصعب تحديد المسئول عنها، ولذلك أقول: إن الخلاصة من هذه النقطة السابقة؛ أننا نعمل قدر المستطاع على سبيل الحيلة -حيلة نفسية- أن نتخلص من المسئولية؛ لنلقي بها على الآخرين.
قد ندرك -أحياناً- أننا مسئولون، لكن من باب الخداع -خداع النفس- نحاول أن نتخلص من المسئولية بأي شكل؛ لنلقي بها على فلان أو على علان.(186/17)
من الذي نحمله المسئولية
أنتقل إلى نقطة ثالثة في هذا الموضوع، وهي: قضية من المسئول إذاً؟ في نظرنا نحن المسلمين، الذين غاب عنا إحساسنا بشخصياتنا وقيمتنا وإنسانيتنا ودورنا المنتظر، نلقي المسئولية على جهات شتى.(186/18)
الكيد الخارجي
الأمر التاسع: من الأشياء التي نعلق عليها أخطاءنا: هو الكيد الخارجي.
وهذا أمر الكلام فيه يطول، لكنني لا أريد أن أطيل فيه، لأننا كثيراً ما نرتاح ونستأنس حين نتكلم عن الكيد الخارجي، لأننا أصبحنا أبرياء! لماذا؟! لأن اليهود هم الذين فعلوا وخططوا، حكماء صهيون، والماسونية، والشيوعية، والنصارى، والمشركون وإلخ، المهم أصبح أمامنا ألوف مؤلفة من الأمم والأديان والنظريات والمذاهب والجمعيات السرية والمخططات، أصبحنا نلقي عليها كل أخطائنا.
وهذا مهرب نفسي واضح، ولذلك تجد أن الناس يكثرون من الحديث عنه، ويرتاحون لذلك أشد الراحة، حتى أنك تجد الأمة على مستواها العام تلقي بالمسئولية على من ذكرت، لكن حين تنتقل إلى الخاصة من الأمة؛ وهم الدعاة إلى الله عز وجل، في كثير من البلاد تجد الدعاة يلقون بالمسئولية عن الأشياء التي وقعت لهم، لا يقولون نحن المسئولون، بل يقولون: المسئولون هم الحكام في تلك البلاد.
مثلاً: حاكم بطش بالدعوة في بلد ما، واضطهد وعذب وآذى وقتل وعلق على أعواد المشانق، وهذا حدث في بلاد عديدة قلما تجد داعية يقوم ليقول: نحن المسئولون ويحلل الموضوع؛ ليخرج بنتيجة أن هناك أخطاءً في طريقة الدعوة وفي سلوك الدعاة وفي أساليبهم؛ أثمرت هذا الاضطهاد.
بل يكتفي أن يقول: هذا هو فعل الحاكم، هو الذي اضطهد وآذى المسلمين، واعتدى عليهم، وانتهت القضية، وأن الحاكم هو المسئول، وخرج الدعاة أبرياء من كل مسئولية، ومعهم الأمة كذلك تقول: اليهود والنصارى هم الذين خططوا وفعلوا، وأوصلوا الأمة إلى ما وصلت إليه، أما الأمة فهي أمة بريئة لم تفعل شيئاً تعاب به.
وهنا نقول: -كما قلنا سابقاً- نرجع المسؤلية إلينا نحن، يقول الله عز وجل، بعد أن ذكر كيد المشركين قال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] لم يكن كيد الأعداء ليبلغ ما بلغ، لو كنا أهل صبر وتقوى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] فالله تبارك وتعالى يدافع عن الذين آمنوا، ويحميهم ويحفظهم من كيد أعدائهم.
وإنما الأمر كما قال أحد المفكرين الغربيين قال: إن الأسباب الحقيقية لكل انحطاط هي أسباب داخلية وليست خارجية، وليس علينا أن نلوم العواصف إذا أسقطت شجرة نخرة لكن علينا أن نلوم الشجرة نفسها.
هذه شجرة تتمايل وآيلة للسقوط، فجاءت عاصفة فأسقطتها وجثتها، ليس المسئول عن ذلك العاصفة، إنما الشجرة كانت مهيأة لهذا الأمر.(186/19)
إلقاء اللوم على الحكام
أما المسؤول الثامن في نظرنا بعد العالم: فهو الحاكم.
وكما ورد في الحديث السابق، حديث ابن عباس: {إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس العلماء والأمراء} وهو حديث ضعيف لا يصح، بل قال بعض أهل العلم: إنه ضعيف جداً، رواه أبو نعيم في الحلية، ولا يصح الحديث، لكن يحتج به الإنسان، لأنه يوافق هواه ورغبة في نفسه.
فالحديث برأنا من المسئولية، وجعلنا تبعاً، إذا صلح العالم والحاكم صلحنا، وإذا فسدا فسدنا والحمد لله رب العالمين، فالحديث لا يصح لا متناً ولا سنداً.
فنحن نقول: لا شك أن السلطان له دور كبير، ومن أهم أدوار السلاطين: اختيار المسئولين الأكفاء وتوليتهم الأعمال، الرجل المناسب في المكان المناسب وهذه أهمية كبيرة، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: {إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قالوا: وما أضاعتها؟ قال صلى الله عليه وسلم: إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة} .
فأعظم دور للسلاطين والحكام، هو اختيار المسئولين الأكفاء، ووضعهم في المكان المناسب أولاً، ثم محاسبتهم كما كان يفعل عمر، كان يرسل الرسل للناس ويقول: [[إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن بعثتهم إليكم ليعلموكم دينكم، وليقسموا فيكم فيئكم]] يقسموا بينكم الأموال ويعلمونكم الدين، ومن الملاحظ أن هناك تناسباً ظاهراً بين وضع الحكام والمسئولين وبين وضع الناس، يقول بعض أهل العلم وبعض المؤرخين: لما ولي أبو بكر رضي الله عنه، كان أبو بكر رجلاً متواضعاً خاشعاً ذليلاً لله تعالى، كان يلبس أبسط الثياب، ففعل الناس مثل فعله، وفد عليه الملوك من اليمن ومن أنحاء الدنيا، والأمراء -أمراء القبائل- وغيرها، وكانوا يلبسون التيجان والثياب الفاخرة، فلما رأوا أبا بكر رضي الله عنه خلعوا تيجانهم وثيابهم، حتى نقل أن " ذا الكلاع "، وهو ملك من ملوك حمير، لما رأى أبا بكر وتواضعه وزهده ولباسه؛ خلع ملابسه ولبس لباساً عادياً جداً، حتى إنه تواضع وتذلل وكان يوماً من الأيام يمشي في الشارع، " ذو الكل