ومضات مشرقة في زمن التراجع الإسلامي
ومع هذا كله -مع المقارنة بالدار الآخرة، ومع المقارنة بالملائكة عند الله عز وجل، ومع المقارنة بالماضي كله وبالمستقبل كله -فإنه حتى هذا البرزخ المظلم الذي عاش المسلمون فيه زماناً من التخلف في جميع مجالات الحياة: التخلف الديني عن دينهم وشريعة ربهم, وتبع ذلك التخلف العلمي، والتخلف الاقتصادي، والتخلف الصناعي، والتخلف العسكري، والتخلف الإعلامي، وكل صور التخلف التي هي أثر -أصلاً- عن تخلفهم عن الموقع الشرعي الذي أراد الله تعالى شرعاً أن يكونوا فيه؛ حتى هذا البرزخ المظلم لا يخلو من ومضات وإشراقات تصدق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله} .
فمثلاً: في هذا البرزخ المظلم منذ عشرات السنين الحركات الدعوية التي قامت في كل مكان تدعو إلى الله عز وجل, وتبصر الناس بأمر ربهم, وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام, وآتت ثماراً حسنة في كل قارة؛ بل في كل بلد إسلامي, في الدعوة إلى الله وتربية الشباب على الإسلام, وعلى الدين وعلى الهدى، وحماية الشباب من لوثات الإلحاد والمادية والتشكيك، وحمايتهم -أيضاً- من الشهوات التي حاول الغرب بحضارته المادية أن يغرقهم فيها, هذه الدعوات هي إشراقات وإضاءات.
لا يخلو الواقع من حركات جهادية، ترفع السلاح في وجه الباطل في أكثر من بلد إسلامي, ليس أفغانستان هي المثال الوحيد، وإن كانت من أبرز الأمثلة وأوضحها, وفيها حركة جهادية طالت، ونرجو أن تثمر -بإذن الله تعالى- ما يتمناه كل مسلم من نصر مبين للمجاهدين, ليست هي المثال الوحيد؛ بل هناك أمثلة كثيرة في إرتيريا وفي الفلبين وفي فلسطين وفي عدد من بقاع العالم الإسلامي؛ بل إن الحركات التي طردت المستعمر من بلاد المغرب والشام وغيرها هي حركات جهادية كان يقوم عليها علماء أفاضل كالشيخ عبد الحميد بن باديس -مثلاً- وعز الدين القسام، وأمثالهم من الأبطال العلماء المشايخ، الذين طاردوا فلول الاستعمار حتى أجلوه عن تلك الديار.(145/9)
صور اليأس في بعض القلوب
لا يخلو هذا الواقع من علماء مجاهدين يهدون بالحق وبه يعدلون، وهم كانوا ولا يزالون ولن يزالوا موجودين إلى أن يشاء الله عز وجل وإلى قيام الساعة, فإن هؤلاء هم الحجة على عباد الله تعالى, قال الله تبارك وتعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] .
ومع ذلك، فما أسرع أن تسلل اليأس إلى كثير من القلوب والنفوس, فأحبطها وأثر فيها, فوجدنا كثيراً من المسلمين -ومع الأسف من المسلمين الذين يتحرقون لواقعهم، ويتأسفون على واقع الأمة- أصبحوا يعيشون اليأس.
واليأس له صورتان يجب أن نقرن بينهما:(145/10)
التصرف غير المدروس
الصورة الثانية: ومن الناس من أوصله اليأس إلى شيء آخر، وهي تلك الحركات العشوائية الطائشة التي لا تفقه سنن الله تعالى في خلقه, فتريد أن تبذر الزرع وتسقيه لينبت ويستوي ويثمر ويحصد في ساعة واحدة, وهذا لا يكون في الدنيا إنما يكون في الجنة فقط!! كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع, فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون بذره واستواؤه واستحصاده في لحظة واحدة, فقال رجل من الأعراب عند الرسول صلى الله عليه وسلم والله يا رسول الله! لا تجد هذا الرجل الذي استأذن ربه أن يزرع في الجنة إلا قرشياً أو أنصارياً, لأنهم هم أهل الزرع، فأما نحن فأهل ماشية} .
فالله تعالى وضع في الدنيا سنناً لا بد أن تمشي وفق هذه السنن الإلهية, فالعمل لا بد أن يأخذ مجراه الطبيعي، تدرجه الطبيعي، ينتقل المسلمون تدريجياً وفق سنن مرسومةٍ وطريقة واضحة, أما تعجل الخطوات والارتباك والطيش والتعجل، فهذا لا يمكن أن ينفع إنما ينفع الأعداء فقط! فمثلاً: كثير من المسلمين يخيل إليهم أن المسلمين يجب أن يتجاوزا كل هذه الأمور، وأنه بين يوم وليلة سوف يتحقق لهم نصر للإسلام ساحق لا يخطر في بالهم! هذا لا يكون, وإن كان الله تعالى على كل شيء قدير، لكن السنن الإلهية ماضية والتدرج قائم, ومن الممكن جداً أن ينتقل المسلمون من الوضع السيئ الذي يعيشونه اليوم إلى وضع أحسن, وأن يتيح الله لهم أمماً ودولاً من الكفار يستطيعون أن يتعاملوا معها، ويستفيد المسلمون من التناقض الموجود بينها, بمعنى: أنه لو ظهر على مسرح الأحداث بعد حين مجموعة من الأمم الكافرة كالألمان والصين واليابان وغيرهم وأصبحوا يتنافسون على مراكز الصدارة في هذه الدنيا؛ لاستطاع المسلمون أن يستفيدوا من هذا التنافس في تحقيق نصر لهم, وبعد فترة أخرى الله أعلم بها يمكن أن يحقق المسلمون حضارة قوية وعلماً وتعليماً، ويكون لهم ريادة في هذه الحياة.
أما تصور أن الأمور تأتي ارتجالاً هكذا وبصورة عفوية وعشوائية؛ فهذا مناقض ومخالف للسنن التي ركبها الله تعالى في الكون, قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:114] يقولونه استبطاءً طال عليهم الأمر, حتى وهم الرسل الذين فقهوا سنة الله عز وجل استبطئوا النصر، وقالوا: متى نصر الله؟ فهنا يأتي نصر الله كما قال جل شأنه: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] .
حتى وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] .(145/11)
العزلة والانقطاع عن العمل الديني
الصورة الأولى: صورة العزلة والانقطاع عن العمل، وعن الدعوة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق بحجة أن هذا العمل غير مثمر, وأن الذي يقوم بهذا العمل هو كالذي يحرث في البحر -كما يقولون- حتى يتمثل أحدهم بقول الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادِ حتى سمعت بعض اليائسين يقول: هؤلاء الناس وهذا الجيل، لا أمل فيه إلا بطوفان يكتسحه ثم يأتي الله تعالى بجيل من عنده, هذا كلام غير صحيح بحال من الأحوال, هذا كلام النفوس الضعيفة, وكلام القلوب التي ما أشرق عليها نور الإيمان, وما أشرق عليها نور الوعد الإلهي بنصر المؤمنين.
معي الأمة خير كثير, وفي الأمة قوة وعزة وإيمان، تحتاج -فقط- إلى أن ينفخ هذا الغبار، حتى ينصقل قلب المؤمن وتظهر الأمة على حقيقتها.
في الواقع أن هذه الأمة أمة خير أمة جهاد، أمة بركة، أمة علم وتعليم, ألم تر إلى هذه الأمة وقد أصبحت لا ترضى بالعلماء بديلاً؟! هذا لا يدل إلا على أنها أمة الدعوة والعلم والجهاد, حتى البعثي اليوم أصبح لا يقول: أنا بعثي واشتراكي, ولا يقول: حزب البعث العربي الإشتراكي, إنما أصبح يرفع راية الإسلام ويلبس لبوسه ويتكلم بقضايا الجهاد, لماذا؟ لأنه رأى أن الإسلام هو العملة الرائجة -كما يقال- وأنه لا يحرك الشارع إلا الإسلام, ورأى أن الشعارات كلها تآكلت وانتهت, فأصبح العلماني الذي كان بالأمس لا يجيد إلا فن الغناء والطرب واللهو والكلام الفارغ, أصبح يتكلم قال الله قال رسول الله رواه البخاري رواه مسلم متفق عليه صححه الألباني!.
وأصبح الذي كان بالأمس بعثياً يحارب الله ورسوله، أصبح لا يقول: حزب البعث العربي الإشتراكي, إنما يعلن الجهاد المقدس والحرب بين المسلمين والكفار، ومثل ذلك, فعلى ماذا يدل هذا؟! يدل على أن الجميع عرفوا أن هذه الأمة هي أمة الدعوة وأمة الجهاد, أنها أمة الإسلام بدءاً وانتهاءً، ولهذا أصبحوا يخادعونها على هذا الدين, وكل واحد منهم يرفع الإسلام، يريد أن تعطيه الأمة شهادة حسن سيرة وسلوك.
إذاً: الأمة فيها خير كثير، وعندها استعداد كبير، ووعد الله تعالى بها، ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، لا يزال قائماً أبداً, ولا ينبغي للإنسان أن يغفل أو ينخدع عن هذا الأمر, فكثيراً ما نسمع التهويل من شأن الناس, وشأن الأمة, وأن هؤلاء دهماء وما أشبه ذلك! لا يا أخي! هؤلاء المسلمون الواحد منهم له عند الله تعالى أعظم المنزلة؛ لأنه من أهل لا إله إلا الله, إذا كان لم يأت بما ينقضها, فهو من الموعودين بالجنة, وكلمته لها ثقل, ودعوته تفتح لها أبواب السماء, وله ثقل في الدنيا وفي الآخرة، وفي السماء والأرض.
إذاً: من الناس من آثر العزلة عن هذا الواقع, وقال: هذا واقع لا خير فيه! مع أنه يرى بعينه ثمرة العمل, وأن الذين عملوا وجدوا واجتهدوا ودعوا، وجدوا، واستجاب الناس لهم بل حتى من الكفار، وجدنا من تقبل الدعوة إلى الله تعالى, فضلاً عن المسلمين، وما قام داعٍ إلى الله تعالى مهما كان أسلوبه غير مناسب, ومهما كان عنده من النقص ومهما كان عنده من الخطأ, ما قام داعٍ إلى الله تعالى في بلد إسلامي، ثم ظل وحده أبداً مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن الأمم السابقة فقال: {يأتي النبي ومعه الرجل والرجلان ويأتي النبي وليس معه أحد} الحديث.
إذاً: هذه الأمة أمة مُجرَبةٌ، أنها تملك الاستعداد، وأنها تملك قلوباً حية متى سمعت المنادي الصادق, متى سمعت الحق, قالت: لبيك لبيك هاأنا بين يديك.(145/12)
استبطاء النصر
في كثير من الأحيان حتى الرسل عليهم الصلاة والسلام يستبطئون النصر، فيقولون: متى نصر الله؟ وهنا يأتي نصر الله.
فعلى الإنسان ألا يتعجل، وأن يدرك أن العاقل ينبغي أن يعرف سنن الله تعالى في الكون، ويعمل وفق هذه السنن, حتى يصل إلى النتيجة التي يريد, فكل شيء له سبب, فما لم تفعل الأسباب، لا تطمع في حصول النتيجة، وإن كنا نعلم يقيناً أن الله تعالى قادر على كل شيء, وإذا فعلت ما تستطيع كفاك الله ما لا تستطيع, ولهذا قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] أما ما لا تستطيعون فالله تعالى يمدكم بجند من عنده، ويمددكم بروح من عنده.
ولهذا جاء في الصحيح؛ من حديث خباب رضي الله عنه قال: {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة} الصحابة رضي الله عنهم ضاقوا من الإيذاء والاضطهاد، ومن التكذيب والتعذيب, وقريش مهيمنة، وليست قريشاً فقط؛ بل الدنيا كلها من وراء قريش، فارس والروم والدول الكبرى كلهم مجمعون على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم وحفنة من المؤمنين معه, فضاقت عليهم السبل، فجاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع متوسداً بردة, قالوا: {يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقعد النبي صلى الله عليه وسلم واحمرّ وجهه} .
فلم يكن احمرار وجهه عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم طلبوا منه الدعاء فإنه كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً, فإذا طلبوا منه الدعاء أسرع إليه واستغفر لهم, كما قال الله عز وجل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] لم يكن احمرار وجهه عليه الصلاة والسلام ولا غضبه؛ لأنهم قالوا له: ادعُ لنا, إنما لأنه أحس عليه الصلاة والسلام من قولهم: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ بأن القوم قد استبطئوا الأمر, واستثقلوه, وضاقت عليهم السبل, وضاقت صدورهم, فقال: {إن من كان قبلكم كان يؤتى بالرجل منهم فينشر بالمنشار من دون عظمه ولحمه وعصبه, ويحفر للواحد منهم في الأرض فيجعل فيها ويشق إلى نصفين ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر} إذاً الكلام الأول أثبت النبي صلى الله عليه وسلم فيه قضية السنة الإلهية.
السنن الإلهية كائنة على الجميع, فالشمس تشرق على المسلمين والكفار, وتغرب عن المسلمين والكفار، ليست بلاد المسلمين خاصة لها شمس لا تغيب عنها أبداً! السنة الإلهية ماضية على الجميع, فبين النبي صلى الله عليه وسلم السنة، ثم قال مبيناً مستقبل هذا الدين وأن النصر في النهاية للمؤمنين الصابرين: {والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون} .
وزاد في رواية: {وهو صلى الله عليه وسلم متوسد بردة وقد لقينا من المشركين شدة} إذاً: هم ضاقوا من مضايقة، وضاقوا من بلاء نزل بهم, ضاقوا من إيذاء، ومن اضطهاد ومن تعذيب ومن تكذيب فجاءوا، وقالوا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال: على رِسلِكم.
فالمستقبل للإسلام, الإسلام منصور, أنا وأنت، والثاني والثالث، والأمم والدول، والأسماء والرايات، واللافتات تذهب وتجيء, كم مضى منذ وجد الإسلام؟ منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ كم مضى من أمة ومن اسم ومن شعار والإسلام باقٍ؟!! والذي يريد أن يواجه الإسلام -يحارب الإسلام- هذا مسكين! فهو كصبي صغير يريد أن يواجه السيل الجارف بيده, أو كإنسان يريد أن يحجب أشعة الشمس بيده الضعيفة! أتطفئ نور الله نفخة فاجر تعالى الذي بالكبرياء تفردا نور الله تعالى لا يمكن أن يطفئه أحد, قال تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] .
وهذا الدين هو روح هذه الأمة وهو حياتها وسر بقائها، ووجودها, وهي للإسلام مهما غضب الغاضبون, وأرغوا وزمجروا وأزبدوا! هذه الأمة أمة الإسلام! فالذي يريد أن يقضي على الإسلام عليه أن يقضي على هذه الأمة, وهل يستطيع أن يقضي على هذه الأمة؟! هيهات هيهات! لا يستطيع، ونقول: محال, لماذا؟ لأن هذه الأمة موعودة بالبقاء, وليس بالبقاء فقط؛ بل موعودة بالسناء والنصر والتمكين, ولا يزال الله تعالى يغرس لهذا الدين غرساً يستعمله في طاعته, والعزة لهذا الدين، لا يترك الله عز وجل بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله تعالى الإسلام, بعز عزيز أو بذل ذليل, عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر.
إذاً: أمة الإسلام باقية، والإسلام باقٍ, والقرون التي مضت؛ مضى من هو أشد منهم قوة, وأكثر منهم بطشاً وأشد منهم بأساً وأكثر طغياناً، ومع ذلك مضوا وبقي الإسلام.
كم دفن الناس من طاغية؟! كم دفنوا من محارب لله ورسوله؟! كم دفنوا من عدو للإسلام؟! كم دفنوا من ملحد؟ من زنديق؟ من محارب فـ هولاكو مضى! وجنكيز خان مضى! أولئك كلهم مضوا، وقرون بين ذلك كثيرة مضت وبقي الإسلام شامخاً, لأنه دين الله عز وجل؛ موصولة جذوره وضاربة في الأرض وفروعه في السماء قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24-25] هذا مثل الكلمة الطيبة، ولا إله إلا الله هي الكلمة الطيبة.
فالابتلاء وارد, قد يؤذى المؤمنون، وقد يضعفون في وقت من الأوقات، وهذه سنة الله عز وجل كما حصل وكما عرف، لكن في النهاية النصر مع الصبر, وكم من أمة عاشت ما عاشه المسلمون في هذا الوقت؟ اليهود الآن لهم تمكين في دولة إسرائيل، ولهم نفوذ في الغرب في أمريكا وغيرها وفي الشرق -أيضاً- وقد أصبح اليهود يأتون إلى إسرائيل من روسيا مئات الألوف من المهاجرين, ويتجمعون, ولا شك أنها دولة تملك من القوة ما تملك, لكن! تساءل يا أخي الكريم! كم مضى على اليهود وهم مشردون مطرودون في الدنيا؟ مضى عليهم قرون طويلة واليهود كانوا أقليات تطارد في كل بلد, ولعلكم تسمعون ما يشاع عن هتلر في ألمانيا وماذا صنع باليهود, وقد يكون بعض ما قيل مبالغة لكن له أصل.
اليهود عاشوا كما أخبر الله تعالى عنهم {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران:112] , عاشوا قروناً طويلة في غاية الذل، ومع ذلك -الآن- أعطوا بعض التمكين المؤقت، ومثلهم الرافضة الباطنية عاشوا أزمنة طويلة وهم أقليات مضطهدة مشردة, والآن قامت لهم دول تحميهم.
هذه هي القضية الأولى التي يجب أن تكون واضحة في أذهاننا، وهي: أن من أراد أن يقارن بين الإسلام والكفر, فعليه أن يستحضر كل هذه المقارنات، حتى يعتدل الميزان في نظره.(145/13)
سنة المداولة
أما النقطة الثانية التي أود التركيز عليها فهي: أن عندنا في كتاب ربنا عز وجل سنة عظيمة جداً من سنن الله تعالى اسمها "المداولة"، قال الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه في صحيح البخاري عندما ذهب أبو سفيان إلى هرقل وصار الكلام بينهما, سأله هرقل عن حالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم, فقال: الحرب بيننا وبينه سجال, يدال علينا وندال عليه, مرة لنا ومرة له, انتصر علينا في بدر وانتصرنا عليهم في أحد: فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر إذاً: مسألة المداولة: أمر طبيعي وكم مضى من الأمم والدول تتغير ويخلف بعضها بعضاً، ولذلك فإن المسلمين الذين شاهدوا أفول نجم الإسلام في بلد أو في أمة؛ يتكلمون عن هذه السنن؛ لأنهم لمسوها بأيديهم مثلما حصل في الأندلس, تسمعون وتعرفون القصيدة الشهيرة في رثاء الأندلس المنسوبة لـ أبي البقاء الرندي وفيها يتكلم عن سنة إلهية (سنة المداولة) {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] : لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان يمزق الدهر حتماً كل سابغة إذا نبت مشرفيات وفرسان وينتضي كل سيف للفناء ولو كان ابن ذي يزن والغمد غمدان حركة التاريخ -أيها الإخوة- لا تتوقف أبداً، التاريخ يمضي, وحركة التاريخ لا تتوقف, لم تتوقف هذه الحركة عند المسلمين, فالمسلمون أنفسهم لما أخلوا بالسنة الإلهية وقصروا في الواجب وأخلدوا إلى الراحة، أصابتهم وحقت عليهم السنة فتأخروا وتركوا المجال لغيرهم لم يتوقف التاريخ من أجل المسلمين، وهم أقرب الناس إلى الدين وإلى الله عز وجل وإلى الحق؛ فضلاً عن غيرهم من الأمم الأخرى.
من يملك القوة في كثير من الأحيان يغتر بها، ويفرح بما عنده، ويظن أن حصونه تمنعه من الله عز وجل, قال تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر:2] أمر ليس في حسبانه، وليس واضعاً هذا الشيء في الاعتبار، وهذا الشيء الذي غفل عنه يكون هو سر زواله وانحلاله.
يقول الله تعالى: {إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس:24] هنا تحققت السنة الإلهية {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس:24] .
خذ على سبيل المثال: الشيوعية، هل تدري -يا أخي الحبيب- أن الناس كانوا يقولون: الشيوعية الآن مبدأ يقوم على الإلحاد وإنكار وجود الله، ومع ذلك لها دول تحميها ودول قوية عظيمة ممكنة؟ وما علموا أن مدة هذه الدول هي عشرات السنين، أي: ما يقارب السبعين سنة أو تزيد قليلاً, ثم بعد ذلك بدأ العد التنازلي لـ الشيوعية وزوالها.
هل تعرف يا أخي الحبيب! أن الشيوعية نفسها كانت تقوم على مبدأ يسمونه "ديالكتيك" ولا أريد أن أشرحه لأنه لا يناسب شرحه في هذا المقام, لكنه مبدأ يقول: إن هناك تغيراً دائماً في الكون، وفي النهاية إذا وصلوا إلى الشيوعية يقول لك: وصلوا هنا إلى الفردوس المنتظر وبعد ذلك ينتهي.
أي: أنهم يرون أن التاريخ يمشي حتى إذا وصل إلى الشيوعية توقف, فتتولى الشيوعية إلى الأبد هذا تفسيرهم وهذا منطقهم، ومع أنه منطق أعوج، فقد اغتر به من اغتر, وإذا بالتاريخ لا يبالي بهؤلاء ولا بغيرهم، فتبدأ الشيوعية تتساقط كما تتساقط أوراق الخريف.(145/14)
خداع الغرب
الغرب الممثل في أمريكا وغيرها من الدول الغربية تقع في الفخ نفسه, فإنهم يتبجحون الآن بما كانت تتبجح به الشيوعية من قبل (بالفردوس المنتظر) فهم يتبجحون بما يسمونه بـ (السلام العالمي والنظام العالمي) ومع ذلك يردده مع الأسف بعض بني جلدتنا من الأغبياء والسذج والبله والمغفلين يرددون السلام العالمي والنظام العالمي, ولا يعلمون ما هو المقصود بالسلام العالمي؟!! إنه هراء!.
هل تدري يا أخي الحبيب! أن هؤلاء الذين ينادون بالسلام العالمي يعنون أن يستسلم العالم لهم!! وإلا فلماذا ميزانياتهم الضخمة في التسليح؟ ولماذا ميزانيتهم الضخمة في الدفاع؟ ولماذا هذه الجهود الجبارة في ابتكار أخطر وأحدث أنواع الأسلحة البرية والبحرية والجوية؟!! إذا كانت المسألة مسألة سلام، فلماذا سباق التسلح؟ ولماذا هذه الجهود الهائلة عند هؤلاء الغرب والشرق المنادين بالسلام العالمي؟ هذه الجهود لأنهم يقصدون السلام أن يظلوا هم سادة العالم وألا يوجد أحد ينافسهم على السؤدد، وعلى القوامة أو الوصاية على البشرية, ولذلك هم يرفعون بيد غصن السلام أو غصن الزيتون -كما يقال- وباليد الأخرى البندقية, بل إنهم يدخرون ويمتلكون أفتك ألوان الأسلحة بما في ذلك الأسلحة التي يقولون عنها: إنها محرمة دولياً -على حد تعبيرهم- مثل الأسلحة الجرثومية والكيماوية والبيولوجية والنووية، يتكلمون عن هذه الأسلحة أنها محرمة, وأنه لماذا تمتلك الباكستان منها مثلاً؟.
حتى أنهم منعوا المعونة عن باكستان! فخفضوها من خمسمائة مليون إلى مائتين وثمانين -تقريباً- وحتى المائتين والثمانين هذه لا تصل إليهم؛ بل تمنع حتى يثبت أن باكستان لا تحاول أن تمتلك السلاح النووي, لماذا؟ لأن المسلمين لا ينبغي أن يمتلكوه! أما هم فيمتلكون أفتك الأسلحة.
فهل المسلمون هم الذين ضربوا اليابان في هيروشيما ونجازاكي بالقنبلة الذرية؟! ليس المسلمون؛ بل ضربها الغرب, والتاريخ يشهد بأنهم ليسوا على مستوى أن يمتلكوا هذا السلاح؛ لأنهم يستخدمونه بغير محله, أما المسلمون فلا شك أن تاريخهم في هذا الأمر لا يزال لا يقاس بغيره.
إذاً هم ينادون بهذه الشعارات البراقة السلام العالمي والنظام العالمي! ويتلقفها بعض بني جلدتنا وينسون أن هذا الأمر حتى شرعاً مستحيل, فعندنا نص يقول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] , لم يقف التاريخ عند دولة الخلفاء الراشدين، ولم يقف التاريخ عند بني أمية، ولم يقف عند بني العباس، ولا عند بني عثمان، ولا عند أحد! فكيف يقف عند الغرب أو روسيا أو أمريكا أو فرنسا أو غيرها؟! التاريخ لن يتوقف وسنة الله جارية، يداول الأيام بين الناس, ولا يمنع ولو بعد خمسين أو أقل أو أكثر، أن الله يكتب للأمة الإسلامية نصراً وتمكيناً، وتصبح أمة ظافرة ممكنة متى قامت بالأسباب الشرعية الممكنة.
ونحن نجد أن هناك أمماً كاليابان والصين بدأت من الصفر وهي مسبوقة واستطاعت أن تستورد التقنية والتصنيع, وأن تبتكر وأن تنافس أرقى المنتجات العالمية, بل إن اليابان غزت حتى أمريكا في كثير من صناعاتها, مع أنهم سبقوا في البداية وضربوها، ولا زالت اليابان تعيش آثار وضع سابق.
إنما هذه شعارات ترفع ولا ينخدع بها إلا السذج، أما العاقل فيقول: اصنعوا ما أردتم من بنود وارفعوها على حراب الجنود واستروا من ورائها أنياب الذئب بزيوف المنى وبرق الوعود ثم سوقوا لنصرها زمر الأنعام من كل جاهل وحقود فالأباطيل للزوال وإن أمهلن والحق وحده للخلود إذاً: فالاغترار بالقوة هو أعدى أعداء القوة نفسها, فالمؤمنون أنفسهم عاتبهم الله بقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] .(145/15)
إرهاصات النصر
أمر ثالث وأختم به وهو موضوع (إرهاصات النصر وبشائر النصر) : إرهاصات النصر وبشائره كثيرة، هذه القلوب الحية التي تؤمن بالله عز وجل وتؤمن بوعده، وتنتظر موعود الله تعالى وموعود رسوله صلى الله عليه وسلم، وتعمل على تحقيقه بقدر ما تستطيع؛ هذه القلوب هي الأرضية الخصبة الصلبة لتحقق وعد الله تعالى, وصناعة المستقبل الإسلامي.
هذه الجموع من الشباب المؤمن المتطلع إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، والذي يتحرق إلى الشهادة، فإذا ذكر الجهاد وذكرت الشهادة ارتفعت روحه, وارتفعت من فمه الدعوات الصادقة بأن يرفع الله تعالى علم الجهاد.
هذه الدعوات الصادقة أيضاً من القلوب التي ترتفع في جوف الليل, تتحرى بصدق، وكل ما تدعو به هو أن يعز الله الإسلام والمسلمين ويذل الشرك والمشركين؛ وهذا لا شك أنه مبشر بوعد الله تعالى وتحقق الإجابة بإذنه عز وجل.
وكذلك هؤلاء الجنود المرابطون في كل مكان، وأعني بذلك: أولئك المرابطين على كل ثغر ثغر الجهاد باللسان، بالكلمة الطيبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثغر المال والجهاد بالمال في سبيل الله عز وجل على الفقراء والمساكين والمحتاجين والضعفاء والمجاهدين في كل مكان, ثغر الجهاد العسكري والذين يحملون السلاح في سبيل الله تعالى، لا يريدون إلا نصرة دين الله وإلا حماية شريعته وإلا الحفاظ على المؤمنين وحمايتهم من عدوهم.
الذين يجاهدون في ميدان الجهاد الاقتصادي، الذين يجاهدون ويرابطون في ميدان الجهاد الإعلامي, وكل ميادين الدعوة إلى الله عز وجل, هؤلاء الذين أصبحوا لا تخطئهم عينك في كل مكان, أي إدارة تدخلها أو مؤسسة أو مدينة أو بلد لا يمكن إلا أن تجد فيها نماذج حية من المؤمنين المتدينين الصادقين, وليس تديناً عادياً؛ بل تديناً على علم وبصيرة ووعي وإخلاص, وتجد الواحد منهم داعية إلى الله عز وجل فيمن حوله, من خلال نشر الكتب والأشرطة، والكلمة الطيبة، والدعوة، وإقامة حلقات تحفيظ القرآن والدروس العلمية إلى غير ذلك من الوسائل والأسباب.
بل إن من أكبر الأدلة والإرهاصات على مستقبل الإسلام هذا الرعب العالمي والخوف العالمي الذي قذفه الله تعالى في قلوب الكافرين من الإسلام, على رغم أن المسلمين في وضع معلوم، ومع ذلك الغرب والشرق يتنادون بخطر الإسلام القادم, حتى إنهم يطلقون على العالم الإسلامي اسم (العملاق النائم) الذي يخشون ويخافون أن يستيقظ في أي لحظة فيأتي على بنيانهم من القواعد, فيخر عليهم السقف من فوقهم ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، وهذا واقع بإذن الله تعالى كما قال جل شأنه: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة:51] وقال: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88] .
وكذلك هذا التقدم في المواقع التي يشهدها المسلمون -بإذن الله تعالى وعونه ونصره- يوماً بعد يوم.
إذاً: العالم يشهد الآن ميلاداً قوياً -إن شاء الله- لمستقبل مشرق لهذا الدين، ويجب على المؤمنين أن ينطلقوا بالعمل الصادق، وهم مؤمنون بأن هذا الوعد الإلهي سيتحقق -بإذن الله تعالى- وإن لم نشهد هذا نحن بأعيننا، فسيشهده أولادنا أو من يأتي بعدنا, وليس لأحد منا أن يقترح على الله تعالى تحقيق الوقت الذي يتحقق به, وإن كان الإنسان كما ذكر الله تعالى: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] .
فالعبد يتمنى أن يرى نصر الإسلام بعينه، وكلنا ذلك الرجل, ومع ذلك فقد يتحقق هذا لنا أو يتحقق لأولادنا، المهم أننا قد ضمنا وآمنا وقطعنا بمقتضى علمنا بشريعة ربنا وعلمنا بسنن الله تعالى في الحياة, ومعرفتنا بواقع البشرية اليوم -أيضاً- بأن المستقبل قادم لهذا الدين, وأن نصر الله قريب غير بعيد.(145/16)
الأسئلة(145/17)
تأييد كثير من المسلمين للنظام العراقي
السؤال
يلاحظ أن جمعاً كبيراً من المنتسبين لهذا الدين يؤيدون النظام العراقي, نرجو بيان أسباب ذلك ولا سيما أنه على باطل؟!
الجواب
نعم هذه ظاهرة ملفتة للنظر، وقد كان الذين يؤيدون العراق قليل, لكن الآن بعدما وقعت الحرب أصبحنا نسمع -وهذا كلام الإعلام- المظاهرات في عدد من بلاد العالم الإسلامي، تؤيد العراق فما هو السبب في ذلك؟! أعتقد أن الأسباب كثيرة: قد يكون جهل المسلمين سبب في ذلك.
ولكن هناك سبب آخر وهو: ما ذكرته أثناء المحاضرة أن العراق أصبح يجيد فن الكذب والخداع, والكذب والخداع له أصول, فالذي يضبط أصول الكذب يستطيع أن يخدع الناس ولو لفترة من الزمان, كما يقولون في المثل: (تستطيع أن تخدع الناس كلهم جزءاً من الوقت, وتستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت, لكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت) فالعراق الآن يمارس خداع بعض الناس بعض الوقت, لماذا؟ لأنه تاجر بقضية الدين رفع شعار الدين وقضية الجهاد المقدس -كما يعبرون- وما أشبه ذلك، فاغتر به كثير من الناس الذين لم يسمعوا هذا الكلام منذ زمان طويل, وهذه لعبة لا شك أنها تحتاج إلى من يجيدها, فمن أجادها استطاع أن يستفز كثيراً من المشاعر، ويلهب كثيراً من النفوس والقلوب التي طالما اشتاقت وتطلعت إلى القضاء على اليهود مثلاً وإلى نصرة الإسلام وإلى الدفاع عن حقوق المضطهدين والمشردين من الشرق والغرب كفلسطين أو غيرهم.
فالذي يستطيع أن يستخدم هذه الأمور بطريقة ذكية فقد يضلل الناس لفترة من الزمان, أعتقد أن هذه من أهم الأسباب وقد يكون هناك أسباب أخرى.(145/18)
ضرورة تثبيت عقيدة الولاء والبراء
السؤال
ماتعليقكم على هذه الأحداث التي تزعزعت فيها عقيدة الولاء والبراء عند كثير من الناس؟
الجواب
نعم هذه من أعظم المشكلات التي يجب أن يتكلم عنها الدعاة وطلبة العلم والخطباء، وأن يخافوا الله عز وجل, لأن قضية الولاء والبراء قضية جوهرية ولب في الإسلام, حتى إنه لم يرد من النصوص بعد الشهادتين في القرآن أكثر مما ورد في موضوع الولاء والبراء.
والقضية واضحة أن الكون منقسم إلى قسمين: "مسلمين" و"كفار", المسلمون بعضهم أولياء بعض, والكفار بعضهم أولياء بعض, قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] .
وحتى الكفار الكفر ملة واحدة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] وقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] لا توجد حيلة يا إخوان! هذا كلام رب العالمين ولن: بنفي التأبيد, {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] .
إذاً أمم الكفر -بعثيّها وشيوعيّها واشتراكيّها ونصرانيّها ويهوديّها- كلهم لن يرضوا عن المسلمين، حتى يتبع المسلمون ملتهم, وهذا لن يحدث إن شاء الله تعالى, فالمسلمون يثبتهم الله بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
المهم: توضيح هذه العقيدة، ورسم معالمها من خلال القرآن الكريم، والسنة النبوية والتاريخ من أهم المهمات التي ينبغي أن تطرق في مثل هذه الظروف.(145/19)
حكم دعاء القنوت
السؤال
يسأل عن دعاء القنوت وما يتعلق به؟
الجواب
مقصود السائل القنوت في الفريضة, قنت النبي صلى الله عليه وسلم في النوازل في الصلوات كلها ظهراً وعصراً ومغرباً وعشاءً وفجراً, ولا بأس أن يقنت الإنسان في النوازل التي تنزل بالمسلمين, ولا شك أن المسلمين الآن يعيشون نوازل وليست نازلة واحدة.
فالقنوت في مثل هذه النوازل في الفريضة لا بأس به, لكن ينبه في هذا على أمور: 1- الدعاء ليس مخصوصاً في القنوت بل يدعو في كل حال, وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد, وجوف الليل الآخر من أقرب أوقات الإجابة, والدعاء الخفي من أوقات الإجابة، قال تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:3] , فلا تنسى هذا.
2- أن الإنسان ينبغي أن يدعو بالجوامع من الدعاء, فبعض الناس يدعون ويتكلفون في الدعاء وقد يعتدي أحدهم في الدعاء ويطيل بما لا جدوى منه, وكان يمكن أن يختصر دعاءه بكلمات مختصرة يدعو للمؤمنين ويدعو على الكافرين.
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو بالجوامع من الدعاء, أي الكلمات المختصرة التي تجمع معنى عظيماً في لفظ موجز!! 3- أنه لا ينبغي المشقة على الناس؛ لأنه ما دام أنك تقنت في كل الأوقات أو أكثرها، يشق على الناس أن تقنت ربع أو ثلث ساعة, ولا ينبغي أن تبغض إلى الناس هذه العبادة؛ بل اقنت خمس دقائق أو أقل من ذلك -كما ذكرت- بجوامع من الدعاء, ولعل الله يجعل فيها البركة.(145/20)
من شروط الجهاد
السؤال
هذا يسأل عن الذهاب إلى أفغانستان؟
الجواب
لا شك أن الذهاب إلى أفغانستان للتدريب أمر طيب في كل وقت, وأما الذهاب للجهاد، فلا ينبغي أن يذهب الإنسان إلا بإذن والديه، فإن لم يأذنا له بذلك فلا يذهب.(145/21)
الجهاد للمذنب والمديون
السؤال
يريد الجهاد لكن يمنعه من ذلك كثرة المعاصي والدَّين، فماذا يفعل؟
الجواب
أما الدين فنعم, وأما كثرة المعاصي فيا أخي: الجهاد يذهب الله به المعاصي, {ألم تعلم بأن الشهيد يغفر له مع أول قطرة من دمه؟ إلا الدّين كما أخبرني بذلك جبريل آنفاً} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(145/22)
الخوف من المعارك والحروب
السؤال
بعض الناس لا ينام ولا يأكل إلا القليل لشدة خوفه من هذه الأحداث, فما نصيحتك لمثل هؤلاء؟
الجواب
نصيحتي بالنسبة للأكل لا بأس أن يقلل أحدهم من الأكل, ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه, وأما النوم إن كان قد قضى وقته بقيام وذكر وقراءة قرآن؛ فحبذا، قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] .
أما بالنسبة للأحداث، فأقول: إننا نحن في هذه البلاد بالذات منذ زمن طويل لم نتعود على الحروب, ولذلك وقعت على كثير من النفوس وقعاً شديداً, حتى اتصلت بي إحدى النسوة في أحد البلاد تقول: بسبب صفارات الإنذار أصبحت أخاف من كل شيء, فإذا سمعت صوت الطفل وهو يبكي؛ أصابني فزع, وإن سمعت صوت السخانة فزعت! وإذا سمعت أي صوت.
فزعت! بسبب شدة الخوف, وهذا باعتقادي أنه أمر طبيعي لأنه ما اعتاد الناس على ذلك، ومع الوقت يتحول الأمر إلى عادي ويتأقلمون مع هذا.
إضافة إلى هذا نقول: هذا بسبب ضعف الإيمان وشدة الخوف من غير الله تعالى.
فينبغي أن يحث الناس ويربوا على الخوف من الله والثقة بوعد الله والإيمان بالقضاء والقدر, وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك.(145/23)
دعم المجاهدين الأفغان
السؤال
المجاهدون الأفغان وحالهم ولا سيما في هذا البرد القارس, والصدقة تدفع البلاء, فهل تحث الحضور على الإنفاق لهم؛ لا سيما أنه سيجمع لهم في نهاية المحاضرة؟
الجواب
نعم, كما ذكرت في أثناء المحاضرة وسبق أني ذكرت في مناسبات كثيرة, من أهم أسباب دفع البلاء أن نلتفت إلى المستضعفين, والمستضعفون قد يكونون بيننا، وقد يكونون شعوباً إسلامية أخرى مسها البلاء, وصاحوا ونادوا وما التفتنا إليهم! فينبغي أن نستدرك ما حدث من تقصير بدعم إخواننا المجاهدين الذين يستغيثون بنا في كل مكان: كم يستغيث بنا المستضعفون وهم أسرى وقتلى فما يهتز إنسان ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان فينبغي أن ننصر إخواننا المجاهدين، ولا شك أن نصرهم بالمال خاصة في هذه الظروف من أهم أسباب دفع البلاء.
فأدعو إخواني إلى مساعدتهم بذلك دون أن نتبع ما أنفقنا مناً ولا أذى، وإنما هو مال الله استخلفكم فيه، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] وقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] .
اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك, اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعلِ بفضلك كلمة الحق والدين, اللهم أذل الشرك والمشركين, اللهم اخذل أعداء الدين, اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين, اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين, اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك, اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك, اللهم عليك بهم, اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف, اللهم اشدد على الكافرين وطأتك, اللهم اشدد عليهم وطأتك, اللهم ارفع عنهم يدك، اللهم من أراد الإسلام أو بلاد الإسلام أو المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره, اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه يا حي يا قيوم يا من قال في محكم تنزيله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:16-17] !! اللهم اخذلهم، اللهم أنزل عليهم بأسك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم آمنا في أوطاننا, اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضوانك يا حي يا قيوم.
اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وما فعل السفهاء منا، إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
اللهم اكتب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, اللهم استجب اللهم استجب.
اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
والحمد لله رب العالمين.(145/24)
دورنا نحن وماذا نصنع
السؤال
كلنا يحب نصر الدين وبوده أن يعمل شيئاً ينصر به دين الله تعالى.
ما دورنا وماذا نفعل؟!
الجواب
في الواقع!: إن الذي لا يحب نصرة الدين هذا ليس بمؤمن, ولذلك قال بعض أهل العلم عندما ذكروا الأدلة أو صفات المنافق نفاقاً اعتقادياً: أنه يفرح بانخفاض دين الرسول ويسر ويحزن لارتفاعه وانتصاره.
إذاً: قضية أصلية في الإسلام، في الإيمان، في العقيدة؛ أن تكون ممن يتمنى نصرة الدين.
أما ماذا تفعل؟ فأنا أريد أن أقف معك عند بعض الوقفات اليسيرة, يقول الله عز وجل في ذكر يوم القيامة: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:33-37] .
إذاً: يوم القيامة كل إنسان له شأن يغنيه عن غيره، يلهو الرجل عن أمه وعن أبيه وزوجته وأخيه وقريبه وعن حبيبه، له شأنه يغنيه.
وكذلك الحال في الدنيا! فكل إنسان عليه واجب لا يقوم به غيره, فالأب عليه واجب لا يقوم به الولد؛ واجب التربية والتعليم والرعاية, والولد عليه واجب لا يقوم به الأب، وهو واجب البر والصلة والإحسان, والزوج عليه واجب لا تقوم به الزوجة والعكس, والحاكم عليه واجب لا يقوم به المحكوم, والمحكوم عليه واجب لا يقوم به الحاكم, فكل إنسان عليه دور يجب أن يقوم به, هذا أولاً.
ثانياً: المسلمون الأوائل كان الواحد منهم يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وهو مستخفٍ تجرأ عليه قومه فلا يستطيع أن يصلي أحياناً إلا سراً, ومع ذلك يأتي الرجل من البادية فيجلس عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ربما ساعة أو نصف ساعة مجلساً أو مجلسين يسمع آيات معدودات قد لا تتجاوز الخمس أو العشر، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله, ويخرج من مكة مستخفياً إلى قبيلته، وهناك يتحول إلى داعية من طراز فريد, فلم يتحول من الكفر إلى الإسلام فقط، لا؛ بل تحول من كافر محارب إلى داعية مجاهد مناضل في سبيل الله تعالى.
الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه من قبيلة دوس، يأتي إلى قريش فلا يزالون به حتى وضع في أذنيه القطن, لئلا يسمع الرسول صلى الله عليه وسلم, قالوا له: هذا يفتنك عن دينك, فلما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله إني رجل لبيب عاقل, انتقد نفسه في هذا التصرف أتعير عقلك غيرك وتقلد في هذه القضية الخطيرة؟! لا, فأزال القطن، وقال: أسمع من محمد عليه الصلاة والسلام، فإن كان ما قال حقاً قبلت, وإن كان باطلاً رددت, وأنا رجل أعرف الشعر من غيره وأعرف الهجر والرجز والقصيد والنظم والنثر.
المهم: أنه استمع من الرسول صلى الله عليه وسلم فرأى حقاً لا يقبل الجدل في الوجه مباشرة, فآمن وأسلم ودخل الإيمان قلبه.
ماذا صنع الطفيل بن عمرو الدوسي؟! إنه ما جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ربما جلسة واحدة, فرجع إلى قومه، فأقبلت إليه زوجته، فقال: إليك عني! فلست منك ولست مني! فتقول: ولم بأبي أنت وأمي؟ قال: فرق الإسلام بيني وبينك أنا مسلم وأنت كافرة, قالت: ديني دينك! قال: إذاً اذهبي واغتسلي, فجاءه أبوه وجاءته أمه، فقال لهما مثل ما قال لزوجه، وجاءه قومه -وله عندهم مكان- فقال: اذهبوا لست منكم ولستم مني, قالوا: ولم؟ قال: أنا مسلم وأنتم كفار, قالوا: ديننا دينك , فأسلموا عن آخرهم!! فما كان هناك أحد أكثر بركة على قومه من هذا الرجل, تحول إلى داعية من طراز فريد خلال جلسة واحدة.
بل الأعجب من ذلك: الجن الذين حكى الله عنهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29] فلما منعوا من استراق الوحي من السماء، قالوا: هناك أمر قد حدث، فتفرقوا في البلاد ينظرون ماذا حدث؟ جاء مجموعة أو دورية من دورياتهم جاءت ووجدت الرسول عليه الصلاة والسلام في بطن نخلة يصلي الفجر ويقرأ القرآن, قالوا: أنصتوا, فلما سمعوا القرآن وجدوا شيئاً لذيذاً {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29] جلسة واحدة يا أخي الكريم! فقط وسمعوا من الآيات آيات محدودة, أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر ما بين الستين إلى المائة، ولنفترض أنهم أدركوا الصلاة من أولها وسمعوا مائة آية -هذا إن كانوا سمعوا مائة آية- بعد ذلك لما قضي، قال تعالى عنهم: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] لاحظ لم يقل: مسلمين، ولا قال: مؤمنين, أي: تحولوا من كفار إلى مسلمين بل إلى دعاة مباشرة بدون حواجز ولا واسطة {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] (ولوا) أي: مسرعين, يركضون, وليس في قلوبهم إلا الإنذار، نسوا كل شيء، حتى الموضوع الذي جاءوا من أجله نسوه، فكل همهم الآن هو قضية الدعوة: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:30-32] إلى آخر الآيات.
فهؤلاء القوم صاروا متحمسين صاروا غيورين تشتعل في قلوبهم نار الغيرة على الدين, والغيرة على قومهم أن يموتوا على الكفر, فينادونهم بهذا الشكل.
لكن أنا وأنت كم ختمنا القرآن من مرة؟! كم سمعناه في رمضان وغير رمضان؟! كم حضرنا من مجلس؟! كم سمعنا من خطبة؟! كم قرأنا من كتاب؟! كم سمعنا من شريط؟! ومع ذلك تجد أغلب المسلمين؛ بل كثيراً حتى من رواد المساجد تجده سلبياً يقول: لا شأن لي ولا دخل لي ولا علاقة, إنما نلقي المسئولية على الآخرين, ونوزع المسئوليات, هذه مسئولية العالم وهذه مسئولية الحاكم، وهذه مسئولية قاضي البلد وهذه مسئولية فلان!! إذاً أين أنا وأنت؟ أصرنا خارج الدائرة؟ أين قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] ؟ أين قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] ؟! يجب أن يكون كل واحد منا داعية وطالب علم, وألا نكتفي بإلقاء المسئولية على فلان, أو علان من الناس, وإن كان عالماً جليلاً, ولو كان في منزلة أبي بكر رضي الله عنه -ولا يكون أحد في منزلة أبي بكر من بعده رضي الله عنه؛ لأنه لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح بهم- ولكن مع ذلك في عهد أبي بكر ما كان واحد من الصحابة يقول: قد كفينا بـ أبي بكر ولا يصنع شيئاً, بل كان كل صحابي يقوم بدوره في الدعوة وفي الجهاد وفي الأمر بالمعروف في النهي عن المنكر، وفي الإصلاح بقدر ما يستطيع، وهذا هو الأمر الذي ننتظره منك يا أخي الكريم! أدِّ الدور الذي تستطيع في بيتك، أو في الفصل الذي تدرس أو تدرس, أو في المدرسة، أو المسجد, أو الحي أو الأسرة والعائلة, بأي وسيلة، ولا شك أن الإنسان الجاد يعرف كيف يخدم دينه، والعرب يقولون: الحاجة أم الاختراع.(145/25)
الدعوة في المناطق المحتاجة للدعوة
السؤال
منطقة شرقي الزلفي يوجد فيها مخيمات كثيرة جداً قدموا من جميع المناطق، ويوجد في بعضهم الجهل، ويحتاجون إلى أن يعرفوا كيفية الوضوء وكيفية الصلاة، وإلى التوعية والتوجيه، ويفرحون بمن يقدم عليهم لذلك! ويأمل الأخ حث طلبة العلم والدعاة أن يحتسبوا الأجر عند الله تعالى في زيارة هؤلاء وتوجيههم؟!
الجواب
في الواقع أن هذه من الفرص التي تتاح للعباد وقد لا تتاح لك في وقت آخر, فنقول: هذه المسئولية على أهل هذا البلد والبلد القريبة -بصفة خاصة- وطلبة العلم والمشايخ والقضاة وغيرهم، أن يخافوا الله عز وجل في هذه المسئولية التي قد نقول: إنها عليهم أوجب من غيرهم, فهؤلاء نزلوا بساحتكم وقريب منكم, فأصبح حقهم عليكم بالذات أن تقوموا وأن تعملوا على بذل الذي تستطيعون لهم, وقد عهدنا من أهل هذا البلد أنهم أهل الكرم والضيافة, وليس كرم الضيافة فقط بالأكل والشرب؛ بل إن أعظم كرم الضيافة: أن تقدم لهم العلم الذي يكون هادياً لهم إلى طريق الجنة! هذا كرم الضيافة أن تبذل من وقتك الثمين جزءاً تقتطعه، وأن تقدم لهم تعليماً كشرح آية أو حديث أو حكماً من أحكام الإسلام, فينبغي أن تكونوا كما عهد الناس عنكم في هذا, وأن ترتب هذه الأمور بشكل مستمر، وهي فرصة لا تعوض وينبغي أن يستثمرها الإخوة في هذا البلد خاصة, أو من يستطيعون أن يستدعوه ليشارك معهم في هذا المشروع الكبير.(145/26)
تتبع الأخبار والحذر من أجهزة إعلام الغرب
السؤال
الإذاعات الكافرة ووكالات الأنباء لها دور كبير في بث الإشاعات من خلال الكذب والتحليل للأحداث حسب ما يريدون, والناس الآن عاكفون على سماع الأخبار وتتبع الأحداث, أرجو توجيه المسلم كيف يكون واعياً لمكائدهم وألا يصدق كل ما يسمع، وأن يكثر من الدعاء والاستغفار؟
الجواب
في نظري أن مجرد المتابعة أو سماع الأخبار إذا كان في حدود الاعتدال، فهو أمر طبيعي؛ لأن المسلمين الآن جميعهم أمام قضية تتعلق بهم قبل أن تتعلق بغيرهم, فالمشكلة التي تعانى الآن ويتكلم البشر كلهم عنها ليست مشكلة في الشرق أو الغرب أو بنما أو جواتيمالا أو غيرها, إنما هذه مشكلة في عمق بلاد العالم الإسلامي, ومن حق المسلم؛ بل ينبغي عليه أن يهتم بهذه القضية بوصفها إحدى قضايا المسلمين الحساسة والكبيرة والخطيرة؛ وليس صحيحاً أن يصبح المسلم مغفلاً، في حين أنك تجد المواطن الغربي يدري من هذه الأحداث أكثر مما تدري أنت.
فالمتابعة متى كانت معقولة ومعتدلة فهي أمر طبيعي -المتابعة بحد ذاتها-؛ لكن المشكلة أن كثيراً من الناس يتابعون بدون وعي, فهو لا يميز بين الأخبار الصادقة والأخبار الكاذبة؛ بل إن بعض المسلمين صار عندهم -مع الأسف- إحساس بأن الغرب صادق, فكثير من المسلمين يتصورون -مثلاً- إذاعة لندن ومونتكارلو وصوت أمريكا هذه إذاعات موثوقة, وبعضهم يضيف إسرائيل!! ولا شك أن هذه الإذاعات قد تأتي بقدر كبير من الحقيقة, ولكن مع ذلك من المؤكد أنه حتى الغرب والشرق الآن أصبح يصنع الأخبار بطريقة ذكية خادعة يغتر بها كثير من الناس، ولذلك عليك بالتمحيص, وألاَّ تقبل كل ما تسمع على أنه حق, وأن تضرب الكلام بعضه ببعض, فقد يكون نصف الكلام صحيحاً أو ثلثه أو ربعه أو أقل أو أكثر.
فعليك أن تكون معتدلاً فيما تسمع، ولا تغتر بمجرد أن تسمع أن هذا نشر في إذاعة لندن أو نشر في صوت أمريكا أو نشر في مونتكارلو أو غيرها.
فبعضهم إذا قلت له: هذا غير صحيح! قال: يا أخي! أنا سمعته في إذاعة لندن!! وإذا سمعته في إذاعة لندن كان ماذا؟ هؤلاء كذبة في كثير من الأحيان، لكنهم يجيدون فن الكذب والخداع والتضليل, ويسوغون الكذب بطريقة ذكية تنطلي على السذج.
فعلى الإنسان حين يتابع الأخبار أن يتابعها بعقلية المؤمن.
كذلك هناك أمر في غاية الأهمية، وإن كان يحتاج إلى جهود وإلى كلام أكثر من هذا، وهو أن يتابع الإنسان هذه الأحداث، بروح المؤمن الذي يعرف سنة الله في عباده, فلو سألت كثيراً من الناس عما يجري وماذا يتوقعون أن تؤول إليه الأمور وما هي أفضل صورة يتحقق بها نصر الإسلام؟! لوجدت أنهم يقلبون أيديهم ولا يعرفون شيئاً.
بل إن عدوهم -في كثير من الأحيان- قد التبس عليهم بصديقهم، وأصبحوا لا يميزون النافع من الضار, وهذه مشكلة، فلا بد أن يستنير الإنسان بنور الله عز وجل, ويهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون عنده معرفة بالسنن ومعرفة بأفضل وضع يمكن أن يتحقق فيه مصلحة كبيرة للإسلام والمسلمين.
ثم مع ذلك على العبد أن لا يكون اهتمامه بالقضايا المادية الدنيوية والاعتماد على القوة, يا أخي أين الدعاء؟! هل تتصور هذه الأمة الطويلة العريضة التي يقولون عن إحصائياتها، لو صدقت أنها ألف مليون مسلم! ألا يوجد فيها شخص واحد صادق؟ ألا يوجد فيها صاحب قلب حي؟ أليس فيها صاحب سر مع رب العالمين يرفع دعوة صادقة تفتح لها أبواب السماء؟! سبحان الله! ما أظن هكذا إلا أن الناس أصيبوا بالذل، ورموا بشيء من الوهن, وأصبح كثير منهم يائساً.
حتى يقول لي أحد الإخوان: أكثرنا من الدعاء، ومنذ سنين ونحن نقول: اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ولا نرى المسلمين يزدادون إلا ذلاً, فقلت له: ومع ذلك -يا أخي- علينا أن ندعو وندعو وندعو ونصدق مع الله تعالى, ونبكي بين يديه, ونجرد قلوبنا من كل مطامع الدنيا, حتى يعلم الله عز وجل أنه ليس في قلوبنا إلا حب الإسلام, وإلا الغيرة على الإسلام, وإلا التطلع لنصر الإسلام, ولا يهم الواحد منا بعد ذلك أن يكون هو نفسه وقوداً لهذا الأمر, وأن يكون على حسابه، وعلى حساب غيره أن يموت شهيداً في سبيل الله عز وجل مقابل أن ترتفع راية لا إله إلا الله, فأنعم وأكرم ويا حبذا! فمتى وجد هؤلاء وجد أصحاب القلوب الحية, المتوكلون على الله تعالى الواثقون بنصره, الذين لا يعنيهم إلا مستقبل الإسلام, فلنثق بوعد الله تعالى.(145/27)
ضرورة ترك المعاصي لنهوض الأمة
السؤال
سؤال يحز في النفس رغم الأحداث المؤلمة والمصائب والنكبات التي حلت بنا، إلا أنه ما زال الكثير منا مصراً على معاصيه, من ترك الصلاة وأكل الربا والتبرج وسماع الغناء وسائر المعاصي, مع أنها سبب لحلول ما حلَّ بنا
الجواب
نعم بالنسبة للذنوب والمعاصي التي تحل بنا, والتي هي سبب ما نزل, كما يقول العباس رضي الله عنه: [[ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة]] .
فلا بد للمسلمين أن يعلنوا التوبة بصدق من جميع الذنوب والمعاصي, التوبة مما ذكره الأخ من المعاصي التي لا يكاد يخلو منها بيت؛ بل قد لا يخلو منها إنسان إلا من رحم الله, فيعلن العبد توبته إلى الله عز وجل, ولا بأس بل ينبغي أن يتصور العبد: من الذي ربما يكون سبباً فيما نزل بالمسلمين من عذاب؟ ربما السبب معصية وقعت مني!.
يا أخي! أصحاب القلوب الحية السلف الصالح كان الواحد منهم إذا رأى السماء قد احمرت، والرياح قد عصفت رجع إلى نفسه، وقال: ربما أن الله تعالى قد سخط عليّ, وربما عذب الناس كلهم بسببي.
ولعلكم تعرفون قصة عبد الرحمن الداخل لما قحط المطر، وأجدبت الأرض ولم يحصل للناس ما تمنوه وطلبوه وسألوه من الغيث, أرسل إلى القاضي يقول له: نريد أن نستسقي غداً الاثنين, فقال القاضي: مالنا ولـ عبد الرحمن كل يوم يقول: نستسقي نستسقي!! ثم يقول للرسول: اذهب وانظر ماذا يصنع عبد الرحمن يقول: تستسقون وهو جالس في لهوه ولعبه وفساده، هذا لا يصلح! فذهب الرسول، ولما جاء وجد أن عبد الرحمن -وهو الخليفة المظفر المنصور الكبير- وجد أنه ساجد على الأرض على التراب وهو يبكي ودموعه تتحادر وهو يقول: يارب أنا عبدك ناصيتي بيدك، هأنذا بين يديك أتراك تعذب الخلق كلهم لأجلي، فرجع الرسول إلى القاضي وقال له: رأيته على هذه الحال.
فقال له: احمل الممطرة وهلمّ إلى المسجد لنصلي نستسقي، فإذا خضع جبار الأرض رحم جبار السماء.
إذاً: كل إنسان منا ينبغي أن يخطر بباله احتمال أنه قد يكون ما أصاب المسلمين بسببه هو؛ هذا أمر.
الأمر الثاني: هناك ذنوب عامة، ومعاصي أمم, هناك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وترك الجهر بكلمة الحق, وترك الأخذ على يد السفيه, هناك ترك الأخذ بالأسباب من التقدم والتصنيع وبذل الوسع, هناك الظلم الذي يخيم في كثير من البلاد، وهو من أعظم أسباب أخذ الأمم والقرى, هناك الغفلة عن الضعفاء, الذين طلب النبي صلى الله عليه وسلم العناية بهم {أبغوني ضعفاءكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم -بدعائهم واستغفارهم} وهناك وهنا! فينبغي للأمة أفراداً وأمماً ودولاً وجماعات: أن تعلن التوبة إلى الله تعالى, وإعلان التوبة لا يكون باللسان؛ بل يكون مع إعلان التوبة باللسان بداية جادة لتصحيح كل وضع لا يرضي الله عز وجل.(145/28)
مسئوليتنا عن انحراف الشباب
فيه بيانٌ للعوامل الداخلية لانحراف الشباب، وبيان دور الأسرة في إصلاح الشباب، ودور الدعاة وطلاب العلم في إصلاح الجيل.
ويحتوي على تفصيل لأسباب انحراف الشباب، وطريقة علاجها.(146/1)
تعليق على الأحداث السابقة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً… أما بعد: موعدنا هذه الليلة مع عنوان أو موضوع وهو (مسئوليتنا عن انحراف الشباب) ، ولكنني أود قبل الدخول فيه أن أعلق تعليقاً خفيفاً على الأسلوب الذي تمت به معالجة الحدث الذي تكلمت عنه في الحلقتين الماضيتين، وذلك لأن الذي لا يستفيد من أخطاءه فإنه سوف يكرر أخطائه بنفسه، ولا شك أن المسلمين عاشوا مشاعر عصيبة في تلك الأيام الماضية، ومع هذا فإني أود أن ألفت النظر إلى عدد من الأمور وأهمها:(146/2)
قيادة المرأة للسيارة ليست مسألة وقت
الأمر الرابع: أننا قرأنا في الصحف، وسمعنا في الإذاعات، عدداً من المقالات والكتابات، والمقابلات الإذاعية، من أناس لهم وزنهم، وغالب ما قرأت وما سمعت يدور حول نقطة واحدة لها خطورتها، إنها مسألة قيادة المرأة للسيارات، وأنها مسألة آتية لا ريب فيها، وإنما هي كما يقولون: مسألة وقت، بسبب رفض رجال الدين، أو رفض المجتمع، وكما أن المجتمع بالأمس رفض اللاسلكي، أو المذياع، أو مدارس البنات، أو رفض التلفاز، فإنه يرفض هذه الأشياء اليوم، ويرفض تحرير المرأة اليوم، لكنه سوف يقبل ذلك ويوافق عليه غداً وهذا المنطق في الواقع سمعته وقرأته من كثيرين، وهو منطق خطير، لأن معنى ذلك أننا لا نميز بين الأمر الذي يرفضه المجتمع لأنه يخالف أصولاً شرعية أو أحكاماً شرعية، وبين الأمر الذي يرفضه المجتمع لأنه يخالف عادات وتقاليد، فنحن حين نتحدث عن القضية السابقة وخطورتها، ننطلق من منطلق الشرع، وننطلق من منطلق المخاطر التي تهدد واقع المرأة، وننطلق من منطلق ما وراء قيادة المرأة للسيارة، كما أسلفت في المحاضرة الأولى (قيادة المرأة للسيارة) إن القضية ليست أن تقود المرأة السيارة أو لا تقود فقط، بل الأمر أكبر من ذلك، إذاً فقضية تحرير المرأة واختلاط المرأة بالرجل، وعمل المرأة، وغير ذلك من الأشياء التي ينادي بها العلمانيون في مجتمعنا، لسنا نقول: إنها مسألة وقت، بل إننا نقول: إن الله سوف يحمي هذه البلاد من مثل هذه اللوثات، وسيظل أهلها أوفياء لهذا الدين.
بلاد أعزتها جيوش محمد فما عذرها ألا تعز محمداً فينبغي أن ننطلق من منطلق الثقة، وأن ندرك أن هؤلاء الذين يقولون: إن المسألة مسألة وقت، ونحن نؤيد قيادة المرأة للسيارة، وإن رفضها رجال الدين، أن هؤلاء يعبرون عن فساد في قلوبهم، ومرض في نفوسهم، وتمنيات ورجاء، (وكم دون ما يبغون لله من سر!) فإننا نسأل الله عز وجل -وهو الذي عودنا كل خير وحمى بلاده من شياطين الجن والإنس، حماها من أبرهة الذي غزاها بجيشه: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:3-5] ، وحماها من الاستعمار، الذي غطى على بلاد العالم الإسلامي كله، إلا هذه البلاد فإنها سلمت منه، وحماها من المسيح الدجال الذي لا يدخل المدينة ولا مكة، وحماها من جيوش الغزاة المحتلين، نسأل الله عز وجل أن يحميها من كيد أعدائها الداخليين والخارجيين، نسأل الله أن يحمها من كيدهم، وأن يجعلها قلعة حصينة للإسلام في كل وقت وفي كل حين أما بعد: فموضوع هذا اليوم: هو مسئوليتنا عن انحراف الشباب، وهو موضوع يطول، أتحدث عن هذا الموضوع في عدة نقاط: 1- العوامل الداخلية لانحراف الشباب.
2- أسباب انحراف الشباب.
3- دور الأسرة.
4- دور الدعاة وطلبة العلم.
5- دور الإعلام.(146/3)
وجوب الحذر من الشائعات
أولاً: وجوب الحذر من الشائعات، فإننا لاحظنا في الأيام الماضية كيف أن الشائعات تعمل بطريقة غريبة، ويتناقلها الناس على كافة المستويات، وقد ينسبونها لأشخاص معروفين مرموقين، وبعد التبيين، والتثبت، يظهر أن هذه الإشاعات ليس لها أي رصيد من الصحة، وهذا يعطينا درساً لوجوب التثبت من الأخبار بكل وسيلة، وألا ينشر الإنسان خبراً بمجرد أنه سمعه وقيل له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها: {كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع} وقد سبق أن تكلمت عن هذا الموضوع.(146/4)
جواز التشهير بأعداء الدين
الملاحظة الثانية: أن عدداً من الناس غير قليل يتناقلون هذه الأوراق التي فيها معلومات عن الحدث، ومن قام به، وتفاصيله، إلى أشياء أخرى في هذا الموضوع، ولاشك أن أسئلة كثيرة وردت إليّ، تسأل: هل يجوز التشهير بمثل هؤلاء؟ والجواب على هذا بأن أقول: إن التشهير مطلوب بمن نعتقد أنهم يسعون إلى خراب وفساد في المجتمع، وقد كان سلف هذه الأمة يشهرون بمن هم أقل خطراً على الإسلام من هؤلاء، كما تكلم علماء أهل السنة والجماعة -مثلاً- في أهل البدع والضلال، وسموهم بأسمائهم، وحذروا منهم، وكما تكلم علماء السنة، وعلماء الحديث، عن الرواة جرحاً وتعديلاً فيقولون: فلان كذاب، وفلان ضعيف، وفلان سيئ الحفظ، حتى يحذر الناس الرواية عنهم، لكن هذا كله يجب أن يكون بعد التثبت والتحري والدقة، يجب أن يكون بعد التتبع، فإنه ربما انتشر بين الناس معلومات، وأسماء وعلاقات، وأشياء ليست على وجه الدقة، بل فيها ما هو صحيح وفيها ما هو غير دقيق، ولاشك أننا الآن في معركة مع الباطل، ومع أعداء الله ورسله، ولذلك فهنالك من يتربص ويبحث عن أي خطأ يقع في هؤلاء، حتى يقول: إن هذا الكلام غير دقيق، ويعطي صورة سيئة، ربما كان سبباً لفقد الثقة في المستقبل، ولهذا فحري بنا وجدير أن نكون على غاية من التثبت والتحري، فيما نقول، وفيما ننقل، وفيما تنداول، من أسماء، أو معلومات، أو حقائق، أو أخبار، أو غيرها، ووسائل التثبت والحمد لله ممكنة، وليس بالضروري أن نوفر معلومات كافيه وواسعة ومفصلة عن كل شيء، فينبغي أن نتفطن لذلك ونتحرى.(146/5)
تحذير من التعليقات الضعيفة
الأمر الثالث: أن كثيراً من الإخوة من فرط غيرتهم وحماسهم، يعلقون تعليقات على بعض الأوراق تعليقات ليس لها لزوم، بل هي تعبر أحياناً عن ضعف المستوى العلمي، والعجلة، والحماس، وما أشبه ذلك، وقد وقفت في بعض الأوراق على تعليقات -على أشخاص أو على مؤسسات، أو معاهد، أو غيرها- في الواقع لا يسرنا أن تنقل عنا ولا عن الطيبين الصالحين الملتزمين، فعلى الإنسان أن يعلم أن ما تكلم به، أو كتبه، لا يتكلم به في مجلس فيه عشرة أو عشرين، قد ينتقده نصفهم، أو يوافقه نصفهم، لا، إنه حين يكتب ورقه، أو يتكلم بكلام يتناقله الناس في المشرق والمغرب فيكون سبباً في سوء الظن بهؤلاء، أو بهذا الذي كتب، أو يكون سبباً في سوء الظن بجملة من الناس الطيبين، فعلى الإنسان أن يدرك أنه مسئول عما يقول، أو يكتب، أو يفعل، أو يعلق.
وأضرب لذلك مثلاً: قد يكتب كاتب قصيدة، هذه القصيدة من حيث المعاني رديئة وسيئة، ومعانيها مذمومة، لكن القصيدة من حيث البيان والبلاغة والكلمات جميلة، فإذا قرأها إنسان قال: هذا شعر لفظه حسن، ومعناه قبيح! فإذا أتيت أنت وعلقت على هذا الشعر مثلاً، الذي يستجيد الناس لفظه، ويستقبحون معناه، علقت عليه بألفاظ بذيئة، أو كلمة سيئة، استهجن الناس مثل هذا الأمر وذموه وعابوه، وقالوا: هذا يدل على ضعف المستوى العلمي والثقافي لمن كتب مثل هذه الأشياء.(146/6)
العوامل الداخلية لانحراف الشباب
أما فيما يتعلق بالنقطة الأولى وهي: العوامل الداخلية، فإننا في كثير من الأحيان نحاول أن نلقي بمسئولية انحراف الشباب على العوامل الخارجية، فمثلاً نتكلم عن خطط اليهود، ودورهم في إفساد الشباب، وهذه الخطط لا شك أنها صحيحه، لكن لا يعني أن هذه هي الوسيلة الأولى، ولا أنها هي السبب الأكبر، أو نتحدث عن عصابات المخدرات والفساد مثلاً، التي أصبحت تغزو بلاد المسلمين، وتسعى سعياً حثيثاً إلى إيقاع الشباب في حبائلها وشراكها، أو نتحدث عن أوكار الرذيلة، وما يمكن أن نسميه الفساد بالمراسلة، وقد نشرت الصحف كثيراً من المؤسسات، والمدارس، والأوكار، التي تراسل الشباب في العالم الإسلامي، وتزودهم بالصور الخليعة، والأفلام المنحطة، والمعلومات الخاطئة، وتشككهم في دينهم، وتعطيهم عناوين للاتصال والمراسلة، وتحاول أن تسهل لهم الفساد بكل وسيلة.
نتحدث عن الصحف الخارجية، وما أكثر هذه الصحف التي تعد بالمئات! وقد دخلت في يوم من الأيام في إحدى المكتبات في الرياض، فوجدت فيها مكاناً ضخماً جداً، وفيه صُفّت ألوان المجلات من أنحاء الدنيا، كل هذه المجلات تدور حول أمر واحد وهو المتاجرة بصورة المرأة، قائمة وقاعدة وعلى جنب! وتحاول أن تغري الشباب بالصورة عن أي أمر آخر، وهذه لا شك لها دور كبير في الإفساد أيضاً، لكنها ليست هي السبب الأكبر أو الأول، قد نتحدث أحياناً عن العناصر المندسة في مجتمعنا من الجنسيات غير المسلمة، التي كثيراً ما يقبض عليها من قبل الهيئات -هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو غيرها- يقبض عليها متورطة في مخدرات وترويجها، أو في تصنيع الخمور وبيعها مثلاً، أو في تنظيم الدعارة، أو في بيع الأفلام الخليعة، إلى غير ذلك، وهذه الأشياء كلها لها دور في انحراف الشباب، لا أعتقد أننا نختلف عليه، لكنني أقول: لم تكن هذه الأشياء لتفعل فعلها، وتؤدي دورها في الشباب، لولا أن الجبهة الداخلية في مجتمعنا نفسه أصبحت مفككة وضعيفة، بمعنى أن الأسباب الداخلية تأثيرها أكبر وأعظم من الأسباب الخارجية، ولذلك لا بد أن نتساءل: ما هي الأسباب الداخلية لانحراف الشباب؟(146/7)
المؤسسات غير الملتزمة
السبب الرابع: المؤسسات التي لا تلتزم بشرع الله عز وجل، ولا شك أن هذه المؤسسات كثيرة، وهي آخذة في الازدياد، فكم من مؤسسة تظهر فيها صورة المرأة وهي كاسية عارية! قد لبست أحسن ثيابها، وقد وضعت المكياج على خديها وشفتيها، وسرحت شعرها وكشفته، وهي تحادث الرجال وتضاحكهم وتمازحهم، وضحكاتها تتعالى، تشق الفضاء، وهي تمزح مع الغادين والرائحين، والمراجعين لهذا الطبيب أو ذاك! وكم من مؤسسة تهتم بجانب واحد فقط من الشباب، بل تهتم بفئة واحدة فقط، ولو نظرنا على سبيل المثال الجهود المبذولة فيما يتعلق بالشباب، لوجدنا أن الذين يستفيدون من هذه الجهود عدد قليل، أعني يستفيدون منها في تنمية أجسامهم فقط، فكم الذين يلعبون الكرة؟ عدد محدود، أما الجماهير الغفيرة فإنها جالسة على هذه المدرجات على أعصابها، تشتغل بالتصفير وتوجه همها وعنايتها وتركيزها على من يفوز، هذا أو ذاك، مع الصراخ والتصفيق وغير ذلك، حتى في مجال تربية الأجسام، المستفيدون منه قليل، وليس المهم أن نربي أجساماً فقط، ما قيمة الأجسام إذا لم يكن هناك أخلاق، وإذا لم يكن هناك عقيدة صحيحة، وإذا لم يكن هناك دين قوي؟! يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ لو كان الإنسان كرمه وشرفه بجسمه، لكان الفيل والأسد أشرف وأكرم منه، ولو كان بجماله لكان الطاوس أجمل منه، ولو كان لقوته على الجنس، لكان العصفور -كما يقول بعضهم- أقوى منه، وهكذا.
إذا الإنسان كماله وقوته ورجولته، في خُلُقه ودينه وكرمه، وعقيدته، ليس في جسمه فقط.
نشرت جريدة الجزيرة قبل سنوات مقالاً عنوانه: "ضحايا الكرة"، وتحدثت فيه عن عدد ممن ماتوا في سبيل الكرة! منهم تاجر كبير، كان في نادٍ أو ملعب يقال له ملعب الزمالك في مصر، فلما جاء هدف لصالح الفريق الذي يشجعه قفز من شدة الفرح، وسقط جثة هامدة! وبعد قليل جاء هدف آخر على الفريق وانتهت المباراة بالتعادل، فذهبت حياة هذا الإنسان خسارة، نسأل الله العفو والعافية، وبعضهم من الطيش يسمى هؤلاء شهداء، فيقول: شهداء الكرة، ماتوا في الملاعب في سبيل هذه الكرة!(146/8)
فساد الإعلام
السبب الثالث: الإعلام لا شك أنه يمارس دوراً كبيراً في انحراف الشباب، وذلك لأنه يصور لهم مباهج الحياة المتحللة، حتى يرسخ في ذهن الشاب، أن الدنيا كلها تجارة وكأس وغانية، وهذا غاية ما يطمع إليه، أو ما يتطلع إليه! حتى الطفل الصغير، فيما يسمى بأفلام الكرتون، كثيراً ما تدور أحداثه حول هذا الأمر، ولعل أكثر الشباب شاهدوا الفلم الذي يسمى (عدنان ولينا) ، حيث كل الأطفال يحبون هذا الفلم، وهو عبارة عن بطل يتسلق المباني الشاهقة التي تتحرك كهربائياً، حتى يصل إلى معشوقته وحبيبته، وقد يسجن في سبيل ذلك ويضرب، ويقطع لها المحيطات الطويلة بسرعة، وتحت الماء، ويركب السفن، وكل ذلك من أجل هذه المرأة التي يحبها، حتى إذا وصل إليها، ولو في قاع البحر، فإنه يكون لباساً لها وتكون لباساً له، وقل مثل ذلك كثير، لكن هذا الفلم من أشهر الأفلام، حتى ربما تقرءون اسمه أحياناً في بعض الجدران، وبعض المدارس.
أما فيما يتعلق بالصحف والمجلات، وهي لا شك من الإعلام، وقد أشرت إلى جزء من دورها، وحتى الصحف الداخلية، تبث دعايات للعطر، أو دعايات للملابس النسائية أو غيرها، بصور نساء جميلات، وبصور ملونة، ولو قرأت جريدة الرياض مثلاً، أو جريدة عكاظ، أو غيرها من الجرائد، لوجدت أنها أصبحت تتجرأ شيئاً فشيئاً على نشر صور النساء بصور ملونة، دعاية لعطور، أو ملابس، أو حتى دعاية لسيارات، أو أي شيء، المهم أن تحضر صورة المرأة، بمناسبة وبغير مناسبة! وكذلك الحال في المجلات، ولعل من أسوأ المجلات التي ينبغي إعلان الحرب عليها المجلة التي يسمونها سيدتي، وقد عتب عليَّ بعض الإخوة لماذا أنطق اسمها كما هو مكتوب على غلافها، وأنا أقول لكم: العتبى، فإنها مجلة سيدتهم! هذه المجلة بصراحة تتاجر بصورة المرأة الجميلة، وقد دفع إلي اليوم بعد العصر أحد الإخوة الأكارم عددين من هذه المجلة تصفحتها على عجل، فوجدت أن هذه المجلة ليس فيها شيء إلا صور النساء الجميلات، امرأة على اليمين وامرأة على اليسار، هذه قائمة، وهذه مضطجعة، وهذه قد ظهرت ساقها، وهذه قد ظهر شعرها، وهذه فنانه، وهذه مطربة، وهذه ممثلة، وهذه وهذه! وأبشع من ذلك كله أن في أحد العددين صوراً عن اغتصاب النساء من قبل الجنود العراقيين، وقد رسم باليد صورة رجل قد جلس بين شعبها الأربع، إلى هذا الحد، وأعتقد أنه كما يقال: بلغ السيل الزبى، وإذا لم نستطع أن نقاطع هذه المجلة، ونعلن للمسلمين كلهم وجوب الحرب عليها، بل ومقاطعة من يبيعونها، فإننا لا شك ضعفاء.
أما الفيديو فحدث ولا حرج، ولن أتكلم عن الأفلام الممنوعة، فإن هذه الأفلام الممنوعة تعرض كل شيء، تعرض كيفية صناعة المخدرات، تعرض الجنس والرذيلة والشذوذ والفاحشة، ولكن حتى الأفلام غير الممنوعة فيها أشياء كثيرة مما يثير غرائز الشباب، ولا شك أن الشاب يجد فارقاً كبيراً بين المجتمع الذي يعيش فيه، والذي يجد المرأة محجبة من رأسها إلى قدميها، وبين ما يشاهد من صور النساء في هذه الأفلام الهابطة، التي أهم ما تغري به الشباب المرأة الجميلة، فهذه الأجهزة التي يعبر عنها بالإعلام هي من أهم وسائل إفساد الشباب.(146/9)
مصاحبة قرناء السوء
السبب الثاني: هو قرناء السوء، وقرناء السوء إذا ارتبطوا بالشباب فإنهم يجرونه إلى الجنس، والفاحشة، يجرونه إلى المغامرات التي لا يدري ما عواقبها، وإلى المخدرات، والوقوع في عصاباتها وتهريجها وترويجها، بل وتصنيعها أحياناً، يجرونه إلى السفر إلى الخارج، وأقل ما يميلونه إليه هو التدخين، فإنه لا بد أن يوافقهم على ذلك، حتى يثبت لهم أنه رجل، يدخن مثلهم، أو (التفحيط) أو تضييع الوقت فيما لا فائدة فيه.
وفيما يتعلق بقرناء السوء، قضية تلك التجمعات الفاسدة، تجمعات الشوارع، والأحياء، والمطاعم، وغيرها، فإنها تجمع من هب ودب من هؤلاء الشباب، وتربط بينهم، وتكون سبباً في إقامة العلاقات، وتبادل الخبرات في مجال الشر والفساد، ولعل من الطريف أنه وقعت في يدي وريقة صغيرة لأحد المطاعم، مكتوب في الوجه الأول من هذه الورقة "جدول الحصص الدراسية"، وتحته "من طلب العلا سهر الليالي" أما إذا قلبت الورقة فإنك تجد دعاية لهذا المطعم: (وجبات الكناري) (نعمل حتى أذان الفجر) إذاً من طلب العلى سهر الليالي، إذاً سهر الليالي أين يكون؟! يكون في المطاعم حتى أذان الفجر!(146/10)
إهمال الآباء للأبناء
السبب الأول: هو إهمال الآباء، فإن كثيراً من الآباء أصبحوا مشغولين بالعمل، سواء أكان في دكان، أم وظيفة، أم مزرعة، أم غير ذلك، أم مشغولاً بالزوجة الثانية، وهذه مشكلة أخرى، فإن بعض الآباء بعد أن يتزوج زوجة أخرى، تجد أنه ينغمس معها وينسى بيته الأول وأهله الأولين، وينسى أولاده، حتى ربما تمر به الأيام وهو لا يمر عليهم، وإن مر لا يلتفت إليهم، وأصبح الأبناء ليسوا له في حساب.
وقد يكون إهمال الأب أحياناً بسبب ضعف الشخصية، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن بعض الآباء أحياناً لا يستطيع أن يأمر أولاده بشيء، أو ينهاهم عن شيء، لأنه أضعف من ذلك، لأنه ليس له شخصية قوية أمام أولاده، وبعضهم يملك شخصية قوية لكن عنده شيء من عدم المبالاة، لا يبالي ولا يهتم، وكم هو مزعج ومحزن ومزرٍ أن نجد في مجتمعنا اليوم آباءً إذا أتيت إلى أحدهم وقلت له: إن ولدك مع شباب مراهقين وفساق، وقد حصل كذا وكذا، قد يصل الأمر أحياناً إلى الفاحشة والعياذ بالله فتظن حين تتحدث مع الأب - وأنت تتحدث معه بالتدريج وبهدوء لئلا ينصدم- تظن أن الأب سوف يغمى عليه إذا سمع مثل هذا الكلام، فإذا انتهيت من ما عندك فإذا بالأب بكل برودة، وبساطة ولا مبالاة، يقول: يكبر ويهتدي! أو هكذا الشباب! أو ما أشبه هذه العبارات التي تدل على عدم المبالاة، فهذا من أهم الأسباب وهو إهمال الآباء.(146/11)
دور الأسرة في إصلاح الشباب
النقطة الثالثة: دور الأسرة في إصلاح الشباب، الأب، الأم، الأخ، الأخت، الأقارب، أيها الأب! إنك أنت المسئول الأول عن صلاح الأولاد أو فسادهم، وأنت أكثر المستفيدين من صلاحهم، وأكثر المتضررين من فسادهم، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يلفت نظرك إلى أهمية صلاح ولدك، حتى يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له} ، وقد علمنا الله عز وجل أن ندعو: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] .
فالمؤمن يدعو، بأن يجعل الله من ذريته وأولاده قرة عين له، ذلك أن الولد قطعة من أبيه، ولذلك فإن الابن إذا مات، فإن موته يكون في قلب الأب جرحاً نازفاً لا يهدأ أبداً، وكم من الآباء يمضي على وفاة ولده عشرات السنين، كل ما ذكره هلت دموعه! لأنه قطعة منه، ولدك جزء منك، هذا إذا مات، فما بالك إذا كان الولد حياً ومع ذلك الأب يتقطع حسرات في الصباح والمساء على انحراف ولده، وفساده، وضلاله، ومخالفته له! عن قرة بن إياس رضي الله عنه {أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له: فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم مازحاً ومداعباً: أتحب هذا؟ قال: أجل يا رسول الله! أحبك الله كما أحببته -أحبه حباً شديداً لا يوصف- ففقده النبي صلى الله عليه وسلم ثم وجده بعد حين وليس معه ولده، فسأل، فقيل له: مات يا رسول الله! فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الرجل، وقال له: ألا يسرك أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة يوم القيامة إلا وجدته سبقك يفتح لك، فسري عن الرجل} والحديث رواه النسائي وسنده صحيح، على شرط الصحيح.
فالولد قطعة من أبيه، جزء من قلبه وروحه وحياته وبدنه، ولذلك الذين يقرؤون الشعر لا يجدون أصدق ولا أبلغ من شعر الآباء الذين يرثون أولادهم، وهو كثير، أذكر منهم قصيدة ابن الرومي لما مات ولده محمد، قال قصيدة طويلة مشهورة يقول: بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي فجودا فقد أودى نظيركما عندي محمد ما شيء توهم سلوةً لقلبي إلا زاد قلبي من الوجدِ أرى أخويك الباقيين كليهما يكونان للأحزان أورى من الزندِ وأولادنا مثل الجوارح أيها فقدناه كان الفاجع البين الفقدِ لكل مكان لا يسد اختلاله مكان أخيه من صبور ولا جلدِ يقول: الأولاد مثل الجوارح، اليد لا تكفي عن الرجل، واليمنى لا تكفي عن اليسرى، والعين لا تكفي عن الأذن، وكذلك الأولاد، لو كان الرجل عنده مائة ولد، وفقد واحداً منهم، لحزن لذلك أشد الحزن! حتى أن من الطرائف: يذكر أن امرأة أتت بسبعة أولاد توائم، فأخبر بذلك السلطان في بلدها، فطلب أن يؤخذ واحد منهم لينظر ما موقفها، فلما جاءت عدت الأولاد فوجدتهم ستة صرخت، وبكت، وصاحت! فضحك وأمر بإعادته إليها: وأولادنا مثل الجوارح أيها فقدناه كان الفاجع البين الفقد لكلٍ مكانٌ لا يسد اختلاله مكان أخيه من صبور ولا جلد أي مقارنة أيها الإخوة! وبصفة خاصة -أيها الأب- أي مقارنة بين رجلين، أب يفخر بابنه إذا ذكر في المجلس لأن ابنه خطيب جامع، يأتي إليه الناس ليسمعوا كلامه، ويسمعوا الحكمة من لسانه، أو مدرس في حلقة يتحلق حوله الطلاب، أو داعية إلى الله عز وجل، أو شيخ يتلقى عنه العلم، أو محسن كبير، أو عالم شهير، أي مقارنة بين هذا وبين إنسان آخر، إذا ذكر توارى أبوه خجلاً وحياءً، يتوارى من القوم من سوء صنيع ولده، لأنه إما قعيد السجن، وإما ضمن عصابة مفسدة، وإما صاحب تاريخ أسود، وإما وإما، فإن الفرق بين هؤلاء كالفرق بين الليل والنهار، وكالفرق بين الثرى والثريا، ولذلك فإني أوصيك -أيها الأب الحنون- بوصايا، فاحفظها عني:(146/12)
وصايا للأب الحنون(146/13)
الدعاء للأبناء بالصلاح والهداية
النصيحة السادسة: وهي نصيحة ذهبية، بعد الأسباب هذه كلها، وبعدما تضع الحب في الأرض، وتدفنه وتسقيه، تتجه إلى الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة:63-65] .
فبعد هذه الأسباب كلها تتجه إلى الله عز وجل وتدعو الله تعالى بصلاح ولدك، كما كان الصالحون يفعلون: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الاحقاف:15-16] .
ادع ربك جل وعلا بعد أن تعفر وجهك وتطيل السجود: (اللهم اصلح لي ذريتي) ، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] .
روى ابن أبي حاتم في تفسيره، عن مالك بن مغول: قال شكا أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، أنه لا يستقيم له على الحال الذي يحبها ويرضاها، فقال له طلحة: [[استعن عليه بهذه الآية وهي قوله عز وجل: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19] .
]](146/14)
الحذر من التدليل
الوصية الخامسة: هي الحذر من التدليل، وأهم مظهر من مظاهر التدليل الموجود في مجتمعنا هو شراء السيارة للولد، سواء كان شراء السيارة لسبب مناسب، لكونه نجح في الامتحان أو غير ذلك، أو لغير سبب، وأستطيع أن أقول بناءً على تقارير، ودراسات ومقابلات: إن شراء السيارة للولد من أهم عوامل الانحراف، والولد المقصود به الذكر أم الأنثى؟ (الذكر) بين قوسين في مجلة سيدتي في هذا العدد، مكتوب على الغلاف، هل حجزت سيارتك! قد يكون خطاباً للمذكر أو خطاباً للمؤنث، تمشياً مع الدعوة التي نعقت بها الفئة الباغية في منح المرأة قيادة السيارة، المهم أنك لا تشتري السيارة لا للولد ولا لغير الولد، لأن الولد إذا لم يكن معه سيارة فسيبقى في الحي، ولا يمكن أن يبعد، ولذلك تجد أن علاقاته معروفه مع والده ومن حوله، وإذا كان في الحي شباب منحرفون فإنه يستحي من مصادقتهم، لأنه لا يريد أن يراه الناس معهم، حفاظاً على سمعته، أو حياءً وخجلاً، أو خوفاً من والده أيضاً، وبناءً على ذلك تستطيع أن تضمن أن علاقات الولد علاقات -إلى حدٍ ما سليمة- لكن إذا اشتريت للولد سيارة، فإن علاقة الولد بأصدقائه تنتقل من الحي والحارة إلى مكان بعيد، فسيذهب ويقيم علاقات مع أصحاب السيارات الأخرى، وكثيراً ما ينحرف وذلك لأسباب: منها ما ذكرت من تشجيعه على التعرف على أصدقاء آخرين سيئين دون أن يعلم الأب بذلك، لأنه إذا كان الولد يركب السيارة في الصباح ولا يأتي إلا الظهر -في الإجازة مثلاً أو يركبها العصر ولا يأتي إلا وقت العشاء، لا تدري أين يذهب، ولا مع من يجلس، وقد يقيم علاقات مع أناس غير طيبين! السبب الثاني في تأثير السيارة: المراهق عادة يحب الظهور، فهو يهتم بمظهر السيارة، وتغسيلها وتلميعها، وتحسينها، وإجراء التعديلات عليها يوماً بعد يوم، هذه بداية، بعد ذلك ينتقل إلى الاهتمام بالمظهر الشخصي، مظهره الشخصي، ويكون هذا مدعاة إلى لفت أنظار الآخرين إليه، ويجره هذا إلى مفاسد كثيرة.
السبب الثالث: أن الولد إذا انحرف بسبب السيارة، قد يصعب سحب السيارة منه، فإذا رأيت أن السيارة بدأت تجني عليه جناية كبيرة، وأردت أخذ السيارة منه، فلن تستطيع؛ فهناك صعوبة، لأنك لو أخذتها فمعنا أنك حطمت آخر جسر من العلاقة بينك وبين ولدك، فأصبحت تداريه، وتخشى أن أخذ السيارة، قد يدعوه إلى مزيد من الانحراف، فتضطر إلى إبقائها معه على كره منك، لكن كما يقولون: الوقاية خير من العلاج.(146/15)
الإشراف على الأبناء
الوصية الرابعة: هي الإشراف على الولد ولو كان من الصالحين، بعض الآباء إذا رأى على ولده أو بنته الصلاح والاستقامة، فإنه يمنحه ثقة مطلقة، وأنا أحذر من ذلك، خاصة إذا كان الشاب أو البنت في مرحلة المراهقة، لكن إذا كان طيباً، ليس من الضروري أن تتدخل في كل شيء، إنما اجعل لك نوعاً من الإشراف من بعيد، إشراف غير مباشر، انتبه له جيداً، ولا يشعر أنك تلاحقه أو لا تثق فيه، لكنك في الحقيقة لا بد أن يكون لك نوع من الإشراف عليه، فإن الثقة العمياء بالمراهقين خطأ، وذلك لأن المراهقين يجيدون التمثيل، فقد يخادعك، ويظهر أمامك -مثلاً- بمظهر أنه حيي خجول، ولذلك لا يظهر أمامك منه شيء، سواء كان ذكراً أو أنثى، لكن إذا كان مع زملائه وأصدقائه قد يكون الأمر على خلاف ذلك.(146/16)
الاهتمام ببوادر الصلاح التي تظهر على الأبناء
الأمر الثالث: الاهتمام بأي بادرة صلاح تظهر عند الولد، وبعض الآباء قد يظهر على ولده شيء من الصلاح، يكون مع رفقة صالحين في حلقة للقرآن الكريم، أو مع زملاء في المدرسة، أو مع زملاء في الحي، فيهم خير وصلاح، فهنا يأتي دورك، وهو دور كبير جداً، تثني على الولد في وسط زملائه، وفي وسط الأهل، وأمام إخوانه أن فلاناً -ما شاء الله! - إنه مع رجال فيهم خير، فلان بن فلان، وفلان بن فلان، ما شاء الله تبارك الله! وتثني عليه، فترتفع معنوياته بمثل هذا الثناء.
كذلك عدم إثقال الولد بالأمور الشكلية التي لا لزوم لها، فإذا كنت -مثلاً- في دكان أو مزرعة، فإذا وجدت ولدك منصرفاً إلى أعمال طيبة، مثل حفظ القرآن، وطلب العلم، وصحبة الأخيار، فلا تمنعه -من منطلق أنه متدين يشعر بوجوب السمع والطاعة لوالده- وتقول له: لا أسمح لك بالخروج، لا أسمح لك بالذهاب في الليل، لا أسمح لك بالذهاب في هذه الرحلة، لا أسمح لك بالذهاب للحج أو العمرة، لا أسمح لك بشراء كتاب، وتصبح القضايا كلها عبارة عن لاءات متتالية أمام الولد، كلما قال لك شيئاً تقول: لا.
لا.
لا! فما هي النتيجة؟! أحدثكم عن تجارب رأيتها بعيني، صحيح أنه من الأولاد من يصبر، ويحتسب، ويرزقه الله عز وجل طمأنينة، ويحاول أن ينجح، لكن هناك كثيراً من الأولاد إذا وصل الأمر إلى هذا الحد، غضبوا وانفعلوا، ولم يطيقوا صبراً على مثل هذا الأمر، فانحرفوا وضلوا، وتركوا زملاءهم الطيبين، فما هي النتيجة؟ النتيجة أن الولد ما عاد يهتم بوالده، رضي أو سخط، فيصبح الود الذي بالأمس مفقوداً.
كان يمنعه أبوه أن يتأخر ساعة بعد العشاء مع زملاء طيبين، فأصبح يجلس أسبوعاً في البر، أوفي سفر، ووالده لا يدري أين هو، كل يوم يخشى أن يفاجأ بخبر مزعج عن ولده، والولد الذي منعه أبوه من السفر إلى حج أو عمرة، أصبح يسافر إلى بانكوك، وتايلاند، ومانلا وباريس وكازبلانكا وغيرها من بؤر الرذيلة والفساد، وكذلك الفتى الذي منعه أبوه من السفر إلى أفغانستان للتدرب أو للجهاد، أو لغير ذلك، أصبح يذهب مع قرناء السوء في مشارق الأرض ومغاربها، وهكذا يساهم الأب من حيث لا يشعر في جر ولده إلى الانحراف.
إذًا يجب عليك أن تشجع أي بادرة صلاح تلحظها في ولدك، ومن تشجيعك له ألا تشغله ببعض الأمور الجزئية أو الشكلية التي يمكن الاستغناء عنها، ويمكن أن تقوم بها أنت أو أحد إخوانه، أو حتى موظف آخر، حتى لا تكون هذا سبباً في انقطاعه عن زملائه الطيبين.
ومن التشجيع أيضاً تحسين صورة الولد عند أصدقائه، مثلاً أن تقول للولد: ادع أصدقاءك الطيبين إلى وليمة، وخذ هذه مائة أو مائتين أو ثلاثمائة ريال اشتر بها ما تحتاجون، وادعهم الليلة أو غداً إلى غداء أو عشاء أو ما أشبه ذلك، وإذا حضر هؤلاء الأصدقاء تأتي أنت وتسلم عليهم، وتدعو لهم وتشجعهم ثم تخرج، لأن الكلام الذي تقوله أنت قد لا يصلح لهم، خاصة إذا كنت كبير السن، والكلام الذي يريدون أن يقولوه هم لا يستطيعون أن يقولوه وأنت حاضر، فأنت من جيل وهم من جيل آخر، فلا مانع أن تدعهم يأخذون راحتهم بكلام طيب، ما داموا طيبين، لكن تأتي وتسلم وتطمئن على الوضع، وأنه وضع جيد، ثم تتركهم بعد ذلك، فهذه ترفع معنوية الولد عند زملائه، المهم أن تبذل كل وسيلة ممكنة لتعميق وتوطيد صلة ولدك بزملائه الطيبين، ولا تعترض على هذه الصلة وإن خسرت منها أشياء، قد لا يذهب معك في بعض الأحيان إلى الدكان، قد لا يشتغل معك في المزرعة، هذا كله صحيح، لكنَّ صلاح الولد أهم من كل هذا.(146/17)
أهمية بناء الرجولة في نفوس الأبناء
الوصية الثانية: هي أهمية بناء الرجولة في نفوس هؤلاء الأولاد، وغرس الثقة في أنفسهم، وغرس الثقة في نفوس الأولاد يكون بوسائل كثيرة، مثلاً: درب أولادك على شراء بعض الأشياء البسيطة للبيت، دربهم على دعوة الأقارب إلى وليمة أو مناسبة، دربهم على استقبال الضيوف والترحيب بهم، وإدخالهم إلى المنزل، وما أشبه ذلك، أشركهم في بعض الصفقات التجارية التي تقوم بها، ولا مانع أن تجعل لهم نصيباً في الربح ولو قليلاً، شاورهم في الأمر، شاورهم في صفقة تجارية ولو لم تأخذ بآرائهم، لكن شاورهم، ثم اعرض عليهم رأيك وما لديك ووجهة نظرك، شاورهم في بعض الأمور المنزلية، شاورهم في أي مشكلة تحصل، وليس المقصود بالمشاورة أن يعطوك رأياً ليس عندك، لكن حتى يتدربوا على استخدام عقولهم، لئلا يشعروا بالحقارة، ويتفرغوا للتفكير في الأشياء الهامشية، لأن الإنسان لا يترك شيئاً إلا بشيء، فإما أن تشغله بالأمور الحسنة الجميلة، وإما أنه سوف ينصرف بعد ذلك إلى الانشغال بالسيارة، والهندام، والشكل، والمظهر، وتسريحة الشعر، والثياب، إلى غير ذلك!(146/18)
لا تجعل صلتك بولدك رسميةً فحسب
الوصية الأولى: ألا تكون صلتك بولدك صلةً رسميةً فحسب، كأنك شرطي يوجه الأوامر إلى من تحته، أو مسئول عنده مجموعة من الموظفين، لا يكن همك أن يهابك الولد فقط، فإن هذا لا يصلح أبداً، بل احرص أن تبذل لولدك الوقت، وتمزح معه، وتجعل من نفسك صديقاً له، وتحادثه في أمورك، وأن تجعل العلاقة بينك وبينه علاقة ود وحنان، وعطف، ورحمة، وشفقة، ليست علاقة رسمية فقط، تأمره ويطيع، وتنهاه فينتهي، وتتكلم فيسكت، وتظهر فيختفي، هذا لا يصلح أبداً، وإني أقول لكم أيها الإخوة: لقد حدثني كثير من الشباب، ومن الفتيات أيضاً، من بيوت صالحة، وآباؤهم صالحون، وقد يكونون من أهل الخير المعروفين المرموقين، ومع ذلك يقع الولد -أو تقع البنت- بفساد عريض عظيم والأب لا يدري! ولعل من الأسباب: هذه العلاقة الرسمية، التي تجعل الولد يبحث عن العطف والحنان والمحبة خارج البيت إذا لم يجده من والده، فيقع في أيدي قرناء السوء، الذي يجد عندهم المزاح، ويجد عندهم الدعابة، ويجد عندهم الابتسامة، ولا يزالون به حتى يجرونه خارج المنزل، ويجرونه إلى الهاوية، فعليك أيها الأب أن يتعدى دورك مع ولدك توفير المال له، أو إصدار الأوامر والنواهي إليه، إلى توفير الرعاية الصحية له.
وقد نشر في أمريكا كتاب في الأيام الأخيرة وتكلمت عنه الصحف، هذا الكتاب عنوانه "النجدة من أبنائي المراهقين" وقد ألفه أبوان عندهما خمسة أطفال، دللوهم وأعطوهم المال، ووفروا لهم وسائل الترفيه كلها، فكانت النتيجة ضياع هؤلاء الخمسة الأبناء كلهم، وكونهم وبالاً على والديهم، فكتب الوالدان هذا الكتاب عبارة عن نصيحة مجرب للأبوين، ومن أهم ما قال هؤلاء الوالدان: إن التدليل للولد، وتوفير الأشياء المادية له فحسب، هو من أخطر ضياع الأبناء، وإن المال وحده لا يكفي لتنشئة أبناء أصحاء من الناحية النفسية، ومن الناحية البدنية والاجتماعية، بل على العكس من ذلك، بل قد يكون توفير المال سبباً رئيسياً في انحراف الأبناء، ويقول هذان الأبوان: إن أحسن ما تنفقه على ولدك ليس المال، وإنما الوقت، فالأبناء بحاجة إلى الرعاية الشخصية، ومن المؤسف أيها الإخوة أن كثيراً من الآباء لا يلتقون بأولادهم وبأزواجهم، إلا على مائدة الطعام، هذا إن لم يكن أحدهم مدعوّاً على الغداء أو العشاء، فقد يلتقي مع أولاده على مائدة الطعام، لمدة عشر دقائق، أو ربع ساعة، أما بقية الوقت فقد تركهم في لا شيء، ثم بعد ذلك ينزعج ويغضب ويفاجأ إذا وجد من أبنائه شيئاً من الانحراف!(146/19)
دور الأم في تربية الأبناء
ما دور الأم؟ ما دوركِ أيتها الأم؟! من لي بتربية النساء فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاقِ الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ لماذا التركيز على المرأة؟ لأن المرأة هي معلمة الأجيال، وكان دورها في التاريخ الإسلامي بارزاً، ذلك لأن الرجل جلس للجهاد، وربما كان يذهب للجهاد أشهراً طويلة، وكان يذهب في طلب العلم، وكان يسافر للتجارة كما ذكر الله عز وجل في كتابه، وكانت الأم قعيدة البيت، تربي الشباب وترعاهم وتراقبهم، وتحسن تربيتهم.
ماذا صنع الغرب اليوم؟ لقد أخرج الأم من البيت إلى العمل، بحجة ألا يكون نصف المجتمع معطلاً، فالغرب فعل هذا بالمرأة وأخرجها من البيت من أجل أن تعمل، لذلك بقي البيت فارغاً ليس فيه أحد، فماذا يصنع الغرب إذاً؟ أتى بما يسمى بالأم البديلة! (الحاضنة التي تربي الأطفال) ، والذين يريدون من الأمة الإسلامية أن تصنع هذا بالأمهات، يريدون أن يعيدوا لنا قصة أطفال المفاتيح، أتدري ما قصة أطفال المفاتيح؟! امرأة مدرسة في بلاد الغرب عندها ثمانية وعشرون طفلاً؛ أربعة وعشرون منهم لما سألتهم وجدتهم من أطفال المفاتيح، أعمارهم من ست إلى عشر سنوات، كل واحد في جيبه مفتاح، إذا جاء للبيت ليس في البيت أحد، يفتح ثم يغلق على نفسه، ويجلس أحياناً أربع أو خمس ساعات في البيت وحده خائفاً فزعاً، إذا جاءت الرياح وبدأت تصفر بالنوافذ، أو طرق الباب، أصابه الفزع والرعب! وقد يحصل حريق في المنزل، وقد يكون ضحية المخدرات إلى غير ذلك من الأعمال، فالذين يريدون من المرأة أن تخرج، يريدون كهذا المصير، لأولاد وبنات المسلمين!(146/20)
مراقبة سلوك الأولاد
دورك -أيتها الأم- مراقبة سلوك الأولاد، بحيث إذا وجدت عليهم ملاحظة لا تقولي: أخاف عليهم، لا أريد أن أخبر والدهم! بل أخبريه، حتى يعالج الموضوع بصورة صحيحة، واحذري من كتمان أي ملاحظة.
كثير من الأمهات قد تجد على الولد، ملاحظة -مثلاً يدخن- فلا تخبر الوالد، تخشى أن يضربه! فينبغي لها أن تخبره وتنصحه بألا يضرب الولد، ولا يستخدم معه الأسلوب القاسي، بل يبدأ معه باللين، عسى أن يكون أجدر وأنجح من القسوة.(146/21)
عدم الحديث عن الأخطاء بحضرة الولد
كذلك عدم الحديث بحضرة الولد، فبعض الأمهات على العكس إذا جاء الولد يجتمع مع أبيه، قالت الأم للأب: ابنك فلان هذا فعل وفعل وفعل، وآذاني، ورفض أن يصلي، وابنك يدخن، وابنك وابنك! وبدأت تقدم تقريراً كاملاً عن الولد، والولد يسمع، وتريد من الأب أيضاً أن يقوم في الحال بموقف، فإذا سكت الأب قالت: أنت غير مبالٍ وليس لديك اهتمام، وكأنهم أولاد الناس، فهذا ليس بصواب أن تنتقل إلى جبهة أخرى وهي الهجوم على الوالد! لا يصلح هذا، بل ينبغي أن يكون إخبار الأم الحنون للوالد، بأخطاء الولد، في مجلس خاص بينها وبينه، بل تعاهدي ولدك على الصلوات الخمس، حرضيه عليها، أيقظيه لصلاة الفجر، أخرجيه من البيت إذا جاء وقت الصلاة وحرضيه ومريه، وإذا جاء فاسأليه: هل صلى مع الجماعة أم لم يصلِّ؟ وإذا شعرت أنه قصر أو فرط، فمريه بأن يصلي ويتدارك ما فاته، يجب أن لا تكوني في صف الابن أحياناً على الأب.
ولعلي ذكرت ضربت قضية السيارة مثلاً: أحياناً الأب يشتري السيارة، ويقول: اشتريتها وأنا مكره، لأن أم الولد ضغطت عليّ، وأكثرت من الحديث، حتى وجدت أنني مضطر لشراء السيارة لأسلم من القيل والقال، كثيراً ما يقال لي: اشترِ لابنك سيارة، دعه يفرح مثل أولاد الجيران، لا تكدر خاطر فلان، كل الناس معهم! وتحاول الأم أن تضغط على الأب لشراء السيارة، ولا تدري أن شراء السيارة وبال عليها هي قبل أن تكون وبالاً على الأب، لأن المتضرر من عقوق الولد الأم أكثر من الأب، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- أوصى بالأم ثلاثاً، وبالأب واحدة، لأن حاجة الأم إلى الولد أكثر من حاجة الأب إليه.(146/22)
دور الإخوة والأخوات والأقرباء
ما دور الإخوة والأخوات في التربية؟(146/23)
دور الأخت في التربية
أما بالنسبة للأخت، فإنها تستطيع أن تملك قلب أخيها ببعض الخدمات التي تقدمها، وهو يحتاج إليها، لأن الشاب الصغير يحتاج إلى أخته، في غسيل الملابس في كي الملابس، في الشاي وصناعته لزملائه إن جاءوا، كذلك تستطيع أن تملك قلبه بمساعدته على بعض الواجبات المدرسية أو حل بعض المسائل أو ما أشبه ذلك، وتستطيع أن تؤثر عليه إذا تحدثت معه حديث المشفق الذي يبين له ضرر هذا الشيء ونفع هذا الشيء، ويأمره بالخير، وينهاه عن الشر، ويحرضه، ويذكر له القصص والأخبار والأحاديث وما أشبه ذلك، كذلك تجعل في متناوله الكتاب والشريط، في غرفته مثلاً تجعل كتابًا أو شريطاً أو قصة مفيدة، إذا جاء وأوى إلى فراشة يقرؤها، أو يستمع إليها، فيستفيد منها.(146/24)
دور الأقرباء في التربية
ما دوركم أيها الأقرباء من أبناء العم والخال وسائر الأقارب؟ الأقرباء لا شك صلتهم كثيرة، وهي صلة غير مستغربة، مثلاً: الأب قد يستغرب أن يجد ولده مع ناس لا يعرفهم إذا كانوا منحرفين، لكن إذا وجده مع ابن عمه ولو كان منحرفاً، فإن لا يستغرب أحياناً، ولو كان أكبر منه سناً، والمطلوب الحماية، لكن أقول: هذا هو الواقع عند الناس اليوم مع الأسف، فلذلك ينبغي للأب حضور المناسبات -مناسبات الزواج والعزائم وغيرها- حتى يستطيع أن يشرف على ولده وعلى الأولاد الآخرين أيضًا عن كثب، وعن قرب، كما يجب إحكام الروابط بين الأسر تحت إشراف جيد، بعض الأسر -بل الكثير من الأسر- أصبح بينها روابط (عزيمة) نصف شهرية، أو شهرية حتى إن بعض الأسر أصبحت تجعل هناك مخيماً سنوياً، تجتمع فيه الأسر من كافة المناطق، قد يجتمع ثلاثمائة أو أربعمائة فرد من أفراد الأسر، فإذا أمكن أن يكون هذا الاجتماع تحت إشراف، بأن يقوم مجموعة من الشباب الطيبين من الأسرة بتنظيم برنامج.
فالطلاب الذين يحفظون القرآن من الأسرة يقدمون بعض حفظهم، حتى يكونوا نموذجاً لغيرهم، وتكون هناك مسابقات، وتوزيع بعض الكتب وبعض الأشرطة، وتكون هناك كلمات مفيدة وأشعار وقصائد إلى غير ذلك، مثل هذا النمط يربط الأسرة، يمنع الشاب من الشذوذ، يجعله يحس بشيء من الانتماء، ويفيده فائدة عظيمة، ويجعل الروابط بين الأقارب روابط إيجابية وليست روابط سلبية، وبعض الأسر بدأت بطريقة أخرى، وهي أن تجعل الرابطة بين شباب الأسرة، يعني في البلد قد يكون هناك خمسة عشر شاباً من الأسرة الفلانية، تجد واحداً من الشباب الغيورين المتحمسين، يجعل بينهم رابطة لقاء شهري، في رحلة أو في جلسة وما أشبه ذلك، تكون فيها أمور مفيدة، وأمور مسلية ومرفهة عنهم، حتى يمنعهم من مجالس السوء، وهذه أيضاً فكرة جيدة.(146/25)
دور الأخ في التربية
الأخ أحياناً يقوم بدور الأب، إذا توفي الأب أو سافر، أو غاب، أو كان ضعيفاً، فإن هنا دور الأخ الأكبر يقوم مقام دور الأب في ذلك، ولذلك فيجب على الأخ أن يراعي عدم اختلاط إخوانه الصغار بزملائه هو، فأحياناً بعض الإخوة يكون له زملاء غير طيبين، أو عاديين، أو عندهم شيء من الانحراف، يزورونه في البيت، فيتساهل، في أن أخاه الصغير يجلس معهم في المجلس، ويتضاحك معهم، ويمزح معهم، وقد يخرج معهم، وقد يأتون أحياناً والأخ الأكبر غير موجود، فيدخلهم الصغير ويجلس معهم وهذا خطر كبير، قد يؤدي إلى أن يأخذ الصغير من أخلاق هؤلاء الزملاء المنحرفين، بل قد يؤدي إلى الوقوع في الرذيلة، والفاحشة، والانحراف، وهناك شواهد عديدة أحفظها على مثل هذا الأمر؛ على الأخ الأكبر أن ينتبه إلى ضرورة حماية إخوانه الصغار من زملائه إذا كانوا غير طيبين، أو كان عندهم شيء من الانحراف، مع أنه يجب أن يترك أو يصلح هؤلاء الزملاء المنحرفين، كما هو معروف.
كذلك ينبغي أن يكون الأخ صديقاً لأخيه الصغير، وليس مجرد شرطي يأمر وينهى.
بعض الإخوة الطيبين يريد من أخيه الصغير أن يكون طيباً، بمجرد أن يقول له: امشِ للصلاة، اترك فلاناً، افعل كذا، فإنه يتعوذ، هذا لا يكفي، المسألة مسألة تربية، ليست أوامر فقط، اذهب به معك، تعطيه أشياء، تهدي له أشياء، تمازحه، تضاحكه، ترفه عنه في أمور مباحة، ثم بعد ذلك تأمر وتنهى، هذا لا مانع منه، لكن ينبغي أن تكون مربياً وليس شرطياً، كذلك يجب مراعاة فارق السن، أضرب مثلاً صغيراً: هناك محاضرات للكبار، بعض الناس قد يأتي بأخيه الأصغر بالقوة، هو لو جاء راضياً مختاراً لا بأس، فحضور المجالس -إن شاء الله- لو لم يكن فيها إلا بركة المجلس، ونزول الرحمة بإذن الله جل وعلا، لكان هذا كافياً، لكن إذا كان لا يرغب في المجيء فلماذا تكرهه على المجيء؟! فقد يسمع كلاماً لا يفهمه، ولا يدري ما مضمونه، لا داعي لأن تلزمه بذلك.
وأذكر رجلاً كان أبوه يأتي به بالقوة والقسر إلى الدرس، ويجلسه حتى يتعالى النهار ويرتفع، فبعد ذلك استطاع الولد أن يتخلص من أبيه، فانحرف انحرافاً عظيماً، وفسد فساداً لا يوصف، ثم بعد ذلك مَنَّ الله عز وجل عليه وعاد، ولكنه مع عودته أصبح يكره والده، ولا يطيق رؤيته لزمن، حتى جاهد نفسه في ذلك وأصبح مثل غيره من الناس، فيحذر الإنسان ألا يراعي فارق السن للصغار.(146/26)
دور الدعاة وطلاب العلم في تربية الشباب
ما هو دور الدعاة في المجتمع، وطلبة العلم؟ والدعاة لا شك أنهم هم الشامة في وسط الناس، كما كان يقول عبد الله بن المبارك: يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد هم ملح البلد، هم ملح الطعام، ما قيمة الطعام إذا لم يكن فيه ملح؟! وهم المحاضن التي ينشأ فيها كثير من الشباب، خاصة الذين فقدوا حنان، الأبوين أو فقدوا رعاية الأب، وكم من قتيل لإبليس قد أحيوه! وكم من أسير بإذن الله قد فكوه! فهؤلاء ننتظر منهم ما لا ننتظر من غيرهم، لأن الآمال معقودة بعد الله عز وجل على هؤلاء الشباب المؤمن: كأني أراهم والدنا ليست الدنا صلاحاً ونور الله ملء المشارقِ أقاموا عمود الدين من بعد صدعه وأعلوا لواء الحق فوق الخلائقِ هم الأمل المرجو إن خاب مأمل وأوهن بعد الشوط صبر السوابقِ هم الحلم الريان في وقبة الظما وليس على الآفاق طيف لبارقِ(146/27)
دور الشباب وطلاب العلم نحو المنحرفين
أما الشباب الملتزمون فلهم دور كبير وواجب آخر يتمثل أولاً في ملاحظة حالات الانحراف على الشباب، ومعالجتها عن طريقهم بالاتصال والصداقة إن استطاعوا، وإلا فبتبليغ آبائهم بأن فلاناً عليه بوادر غير جيدة أو يمشي مع أناس غير طيبين، حتى يعالج الأب الحالة منذ أولها، وكذلك ينبغي أن يكون هناك نشاط دائم للشباب العاديين ومن دونهم في الحي، وأن يكون هناك صلات، وزيارات، ورحلات، وتبادل الحديث، ومفاتحة في أمور، لعل الله عز وجل أن يهديهم ويحفظهم من الانحراف، وكذلك الوقوف بحزم وقوة وصرامة، ضد بعض الشباب المنحرفين الذين يترددون على الحي، كثير من الأحياء أفسدها أناس من غيرها، شاب منحرف يأتي بسيارته ويدور، ويحمل بعض الشباب، كما نبهت إلى ذلك، فيجب على الشباب الذين في الحي أن يقفوا بقوة وصرامة وحزم ضد مثل هذا الشاب، ويمنعوه من المجيء إلى الحي، وإن استدعى الأمر الاتصال بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو نحوها، فهذا أمر حسن أيضاً، كذلك توسيع نشاط الحلقة، فإن كل حي فيه حلقة لتحفيظ القرآن الكريم، فينبغي أن يتوسع نشاط الحلقة، ولا يكون مقصوراً على الطلاب الذين فيها، بل ينبغي أن تكون مصدراً مشعاً لكل شباب الحي بقدر المستطاع.
خامساً: ينبغي مقاومة المنكر الموجود في الإعلام أو المكتبة أو البقالة أو المستشفى أو النادي أو أي مكان، وأضرب لكم بعض الأمثلة اليسيرة، مثلاً: أحد الشباب دخل البقالة، فوجد فيها مجلات أزياء وصوراً خليعة، فقال لصاحب البقالة: أريد أن أشتري منك هذه الأشياء، شريطة ألا تشتريها مرة أخرى، فقال له صاحب البقالة: تشتريها لماذا؟! قال: لأحرقها، قال: أنا سأعيدها إليهم وأعدك بأنني لا أشتريها مرة ثانية.
كذلك الاتصال بصاحب المكتبة بالهاتب بالكلمة الطيبة، وبالحسنى، نستطيع -بهذه الطريقة، وبالتضافر، وأن يشعر كل واحد منا أنه مسئول عن إنكار المنكر- نستطيع إن شاء الله القضاء على كثير من المنكرات.(146/28)
دور المدرس في تربية الأبناء
أيها الإخوة لا شك أن معظم الشباب -إن لم يكن كلهم- هم عبارة عن طلاب في المدارس وهذا يذكرني بدور المدرس في فصله ومدرسته: أولا: ً بإقناع الطلاب بقدرته العلمية، من المهم أن يدرك الطلاب أنك ذا قدرة علمية، وأنك ناجح في مادتك التي تدرسها لهم.
ثانياً: أن يقتنع الطلاب أنك -فعلاً- تسعى لمصلحتهم، لأن بعض المدرسين قد يكون حقيقة يسعى لمصلحة الطلاب، لكن انطباع الطلاب أن هذا المدرس حقود، أو حسود، إلخ! لا يدرون أنه يسعى للمصلحة، لماذا؟! لأنه لم يقنعهم بأنه يسعى للمصلحة، كيف تُشْعِرهم؟ الاعتدال مثلاً: الاعتدال في الشرح، الاعتدال في وضع الأسئلة، الاعتدال في التصحيح، الاعتدال في وضع الدرجات، الحرص على مطالب الطلاب، تقديم الخدمات لهم بما لا يضرهم في المادة، بحيث تكسب محبة الطلاب دون أن تخل بواجبك التعليمي، هذا مهم جداً.
الثالثة: التربية على الرجولة، فإن من المظاهر المحزنة جداً أن كثيراً من شبابنا الآن أصبحت تظهر عندهم مظاهر الترف، والميوعة، والتأنث! خاصة في المرحلة المتوسطة، وهذا يلقي على المدرسين مسئولية عظيمة جداً في ضرورة وجود جو رافض لمثل هذا السلوك، وتربية الطلاب على معاني الرجولة، سواء من خلال سرد القصص، أو تحريك المعاني العاطفية، أو ربطهم بمعالي الأمور، أو بيان آثار وسلبيات هذا الشيء، حتى يبتعدوا عنها، ويتدربوا على الرجولة منذ صغرهم، مثل ذلك معالجة الحالات الخاصة، وقد تكون في الفصل وعندك طالب ظهرت عليه مظاهر الانحراف، بدأ يغيب عن المدرسة، بدأ ينام في الفصل، بدأ لا يؤدي الواجبات، معنى ذلك أن عنده مشكلة، فتأتي به عندك في الغرفة، وتسأله: ماهي المشكلة؟ ما هي القضية؟ أذكر في يوم من الأيام طالباً كان هكذا، فلاحظت عليه أمراً فدعوته وسألته، فبعد قليل انفجر باكياً، وقال: إن والدي مبتلى بشرب الخمر، وأمرنا في البيت كذا وكذا وكذا، فأصبح من الممكن علاجه وتدارك الأحوال التي تواجهه.
إذاً إذا لاحظ المدرس مشكلة على الطالب فعليه أن يفاتحه بها، إن حلها فبها، وإلا يبلغ والده وأهله، حتى يكونوا في الصورة، ويستطيعوا أن يقوموا بواجبهم في رعاية الولد.
ومن المهم التجديد في أساليب الجمعيات الإسلامية الموجودة في المدارس، بكافة الوسائل، حتى تستطيع أن تحتوي عدداً كبيراً من الطلاب وبشكل عام، فدور المدرسة كبير، ونحمد الله عز وجل أنه يوجد في مدارسنا عدد غير قليل من المدرسين الصالحين الأخيار والمسئولين، وينبغي أن نحرص دائماً وأبداً على أن تكون المدرسة نظيفة، وأن يكون جوها نظيفاً، مكملاً لدور البيت، ومكملاً لدور المسجد.(146/29)
الآمال في التغيير معقودة على الشباب
هؤلاء المؤمنون الصادقون من الشباب هم الذين تعقد عليهم الآمال بعد الله عز وجل، ولذلك نقول لهؤلاء الإخوة الأحبة: إننا ننتظر منكم الشيء الذي لا ننتظره من الآخرين، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، لا بد أن تتحلوا بالأخلاق العالية مع من تريدون دعوتهم من هؤلاء الشباب، الابتسامة الحلوة صدقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} يقول جرير بن عبد الله: {ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم، ولا حجب لي منذ أسلمت} يقول لي بعض الشباب: والله إني ألتقي ببعض الناس، فإذا تبسم في وجهي فكأنه فتح قلبي ووضع هذه الابتسامة، فيه فلا أنساها أبداً، مع أنك ما خسرت شيئاً، لا درهماً، ولا ديناراً، ولا وقتاً، ولا شيئاً، فاجعل الابتسامة شعارك، واعلم -يا أخي الحبيب- أن الابتسامة جعل الله فيها من الأسرار الشيء العظيم، حتى أنها تغسل القلب غسلاً، وكم من إنسان يكون في نفسه شيء عليك، أو يكرهك، أو لا يحبك، أو قد يسوء ظنه بك، لكنه إذا التقى بك فتبسمت -خاصة إذا كنت من أصحاب القلوب التي نقاها الله سبحانه وتعالى من الحقد فلا تعرف الحقد- فإنه يزول كل ما في نفسه، قبل أن تتكلم بكلمة.
فاجعل الابتسامة شعارك، واجعلها ابتسامة صادقة، وليست ابتسامة متصنعة، كذلك رد السلام بحرارة، إذا سلم عليك إنسان وصافحك، فلا تمد طرف الإصبع أو طرف اليد، أو تسلم عليه وأنت معرض عنه، هذا لا يصلح، لأن السلام إنما شرع لتقوية الروابط، وأنت إذا سلمت على إنسان بطرف يدك، أو سلمت عليه وأنت صاد عنه، فإنه يحمل في نفسه عليك الشيء الكثير بل إذا سلم عليك إنسان فاتجه إليه بوجهك، وانظر إليه بعينك وصافحه بحرارة، واضغط على يده بما لا يضره -انتبه لهذه- المهم أنه يشعر أنك تسلم عليه سلام محب، سلام أخ مسلم، ثم تتكلم معه بالكلام الطيب.
كيف أصبحت كيف أمسيت مما يغرس الود في فؤاد الكريمِ فلا بد من هذه الأشياء كلها، وبعض الشباب المنحرفين ينتقدون بعض الصالحين بانتقاد يعبرون عنه بالكبر وعدم البشاشة وعدم التواضع، وهذا في الواقع ليس كبراً، ولكنهم يعتبرون عدم إقبالك عليهم نوعاً من الإعراض والكبر عليهم، وبعضهم قد ينتقد: الغلظة والقسوة والأسلوب الجاف في النصيحة من قبل بعض الصالحين، ومنهم من يعبر عنه بالاستخفاف بنا، والازدراء، هكذا يفهمون أو يتصورون، لأن الشاب المنحرف عنده شعور بالنقص أحياناً، فإذا نظرت إليه أنت شزراً، أو أعرضت عنه، أو قمت تجاهه بموقف معين، فَسَّره دائماً على أن هذا نوع من التكبر، وعدم الاهتمام به، أما الذين يحبون الشباب المتدينين من المنحرفين، وهم كثير، فإنهم يحبونهم لحسن خلقهم، كالتواضع والبساطة والكرم.
ومن المهم جداً بذل المعروف في أشياء كثيرة، مثل: تصوير الملخصات، فهناك زملاء في مدرسة عندهم ملخصات، مذكرات دراسية، صَوِّر وأهدِ له ملخصاً، فضلاً عن إهداء شيء مفيد كشريط، أو كتاب، أو أمر آخر.
كذلك تلخيص بعض المعاملات له، قد تكون موظفاً وله معاملة عندك، تستطيع أن تخلصها بما لا تضر بها الآخرين، ولا تخالف في أنظمة مطلوب مراعاتها، فهذا أيضاً يعتبر خدمة جليلة له.
أيضاً تدعوه إلى بعض المناسبات الخاصة بك، ليأكل عندك، ولهذا يقول بعض الذين كتبوا عن الأخوة: إن مما يقوي الأخوة ثلاثة: دخول المنزل، والأكل عندك، والنوم، فإذا دخل منزلك، وأكل ونام في منزلك، فقد اكتملت بعض خصال الأخوة كما يقول الغزالي وغيره.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان ثمامة بن أثال رضي الله عنه كان مشركاً عدواًًً لله ورسوله، أمسك به المسلمون وربطوه كما في الصحيحين في سارية المسجد، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم -مستحق للقتل أو له من يأخذ بثأره- وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسل تعطَ منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي اليوم الثاني والثالث مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة، فلما أطلقوه خرج إلى ماء قريب، فاغتسل منه عند النخل، ثم رجع وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والله يا محمد ما كان على ظهر الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، وقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله يا محمد ما كان على ظهر الأرض دين أبغض إليَّ من دينك، وقد أصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله يا محمد! ما كان على الأرض بلد أبغض إلي من بلدك فقد أصبح بلدك وإنه لأحب البلاد كلها إلي} انظر كيف يصنع الجميل بالإنسان! وهذا سيدٌ وزعيمٌ، مجرد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقال عثرته، وفك أسره، أسلم وأصبح لا يحب الإسلام فقط، بل يحب الإسلام، وأرض الإسلام، وبلاد الإسلام، لا يحب شيئاً أكثر مما يحب تلك البلاد، يقدمها على كل بلاد، أصبحت أحب كل البلاد إليه، ووجه النبي صلى الله عليه وسلم أحب الوجوه كلها إليه، والإسلام أحب الأديان كلها إليه.
إذاً: أوسع باب أو مدخل إلى دعوة الناس أن تدخل إلى قلوبهم وتكسب ودهم من خلال الكلمة الطيبة والبسمة والإحسان إليهم وبذل المعروف، ثم بعد ذلك تربطهم بالمجالات الخيرية، وليس من الضروري أن تفاتح هؤلاء الإخوة، لأول وهلة بأنهم منحرفون، أول ما تبدأ معه ضربة في الوجه بأنك فيك، وفيك، وفيك! فما دامت عندك فرصة، وعندك وقت، ابدأ معه، ثم انتقل خطوة بعد خطوة حتى تأتي البيوت من أبوابها، فإن الإنسان إذا قفز أحياناً فقد يسقط أحياناً وتتكسر أقدامه، كذلك ليس من الضروري أن تبدأ بتحطيم بعض الرموز التي يحبها، قد يكون هذا الشاب مشغوفاً بالرياضة، فلو بدأت أول جلسة معه قلت: اللاعب الفلاني فيه كذا، والنادي الفلاني فيه كذا، والكرة فيها كذا، وأكثرت عليه في هذا الأمر، فمعناه كأنك وضعت حاجزاً من البداية، لكن لا مانع أن تصبر معه، فابدأ معه بكلمة طيبة، وجره إلى المسجد بالكلمة وبالحسنى، وادعه إلى الله عز وجل، ثم بعد ذلك تبدأ معه بمعالجة الانحراف الذي عنده أولاً بأول، كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم معاذاً -في حديث ابن عباس - حين بعثه إلى اليمن: {فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك إلى ذلك فأخبرهم بالصلاة} ولذلك أوصي بتنظيم زيارات إلى مواقعهم.(146/30)
الأسئلة(146/31)
حكم السلام على العاصي
السؤال
إذا سلَّم عليَّ إنسان منحرف كثير الانحراف فماذا يجب علي؟ هل يجب أن أرد عليه؟ وهل يجب أن أسلم فإني علمت أنه يذهب إلى مجالات غير طيبة؟
الجواب
إذا كان مسلماً فإنك ترد عليه السلام، إلا في حالة واحدة، إذا كان ترك الرد سبباً في هدايته، فبعض الناس إذا عرف أنك لا ترد عليه السلام بدأ يقول: ماذا فعلتُ؟ ثم رجع إلى نفسه وتاب، وهذا قليل جداً اليوم، بل بالعكس كثير منهم إذا فعلت مثل هذا معه فإنه يزيد في عدوانه.(146/32)
رسالة إلى فتاة الجزيرة
هذه قصيدة جميلة لأخينا الدكتور/ عبد الرحمن بن صالح العشماوي بارك الله فيه، يقول في مطلعها: رسالة إلى فتاة الجزيرة: أختاه دونك حاجز وستارُ ولديك من صدق اليقين شعارُ عودي إلى الرحمن عوداًَ صادقاً فبه يزول الشر والأشرارُ وبه يعود إلى البلاد أمانها وبه يفك عن الخليج حصارُ أختاه دينك منبع يروى به قلب التقي وتشرق الأنوارُ ألفت النظر إلى هذه القصيدة والمساهمة في نشرها، وجزى الله الشاعر خيراًَ.
أسأل الله عز وجل أن يهدينا إلى سواء السبيل، اللهم اهدِ شباب المسلمين وفتياتهم، اللهم اهدِ شباب المسلمين وفتياتهم، الله اجعلهم دعاة إليك، مجاهدين في سبيلك، وأقر بهم عيون آبائهم وأمهاتهم يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.(146/33)
الجلوس مع الشباب من مهامنا الدعوية
السؤال يقول: ثلة من شبابنا يعدون من الشباب الملتزم نستطيع أن نسميهم عاديين، ليس عندهم شغف للعلم، بل يكثرون الجلسات والرحلات البرية والضحك، ومع ذلك لا يسمعون الغناء، بل يسمعون القرآن والمحاضرات وغيرها، فما موقفنا منهم إذا طلبوا أن نذهب معهم؟
الجواب
مثل هؤلاء ينبغي الجلوس معهم، وتبادل الصلات والود، كما قلت لكم قبل قليل، مهمتنا اليوم مهمة دعوية، بالدرجة الأولى نحن نريد أن نثبت للعالم أن المجتمع كله مجتمع مسلم، لا تريد غير الإسلام في أي شأن من شئون الحياة، وأرجو أن تعوا هذا الأمر جيداً.(146/34)
كيفية التعامل مع الابن المنحرف
السؤال
بعض الآباء يجتهدون في تربية أبنائهم بشتى الوسائل فلم يستطيعوا، حتى أن بعض الشباب قال لأبيه: إذا لم تتركني في حريتي فسأحرق نفسي، فما رأيكم في هذا؟ وما الطريق السديد الذي تحث به الآباء على تربية أبنائهم؟
الجواب
الطريقة السليمة لعلي ذكرت جوانب منها، يحتاج الأب إلى الحكمة، لأن الشباب يكون في كثير من الحالات في حالة طيش، ويكون له أصدقاء منحرفون، يحرفونه ويسخرون منه، فإذا تأخر يوماً من الأيام تضاحكوا، وقالوا: هاه منعك أبوك! فهذه تثير عند الشاب أن يقول: هل أنا طفل يمنعني أبي؟! بل سأحضر وليس له دخل، ولا علاقة له بي من قريب ولا بعيد؛ فهم يحرضونه على أن يتخذ مواقف شديدة من والده، فعلى الأب أن يكون حكيماً، ويضع الأمر في موضعه، وإذا وجد أنه لم يفلح في المعالجة، فلا مانع أن يجعل غيره يتولى معالجة مثل هذا الموضوع، مثل الأخ الأكبر، أو زميل، أو مدرس، أو ما شابه ذلك.(146/35)
الطريقة المناسبة لترك المعاصي
السؤال
أنا شاب لا يتجاوز عمري خمس عشرة سنة، أفعل المعصية ثم أندم، وأسأل الله أن يتوب علي، ثم أرجع إلى تلك المعصية، ما هي الأمور التي تجعلني أقلع عنها؟
الجواب
هي كثيرة، منها صحبة الطيبين والإقلاع عن الأشرار، وترك النظر إلى الحرام، وكثرة الاستغفار، وكثرة قراءة القرآن، وكثرة الذكر، والابتعاد عن الأفكار والهواجس، والوساوس السيئة، لا تخلُ بنفسك إلا مع قوم صالحين، ومع ذلك إذا وقعت فأحسن، إذا أسأت فأحسن، وإذا أذنبت فاستغفر، فإن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً، ولو كررت ذنبك مائة مرة، لا تقل: لا يغفر الله لي: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] .(146/36)
استهزاء الشباب بالملتزمين
السؤال
العديد من الشباب يأتي إليهم الشخص يلقي إليهم النصح، فيستهزئون به ويردون عليه؟
الجواب
قابل هذا بلطف، لا ترد عليهم، لا تغضب لنفسك، دعهم هذه المرة، وأعرض عنهم، وكرر هذا الأمر مرة أخرى، نحن بحاجة إلى سعة البال.(146/37)
توبة شاب من العقوق
السؤال
أنا شاب بالغ قد هجرت أبي، أعانده ولا أطيعه، ولكني أحب الآن أن أصالح أبي، فما هي نصيحتك لي، وقد هداني الله وأخاف أن يعاقبني على عملي هذا؟
الجواب
أنا أقول: هذا نموذج للآباء، انظر كيف الولد إذا هداه الله عز وجل يشعر بالعقوبة تجاه تقصيره أمام والده، فأعظم نفع يقدم للوالد هو هداية ولده، وأقول للأخ السائل ولغيره: دائماً الإنسان قد يستصعب بعض الأمور وهي سهلة هينة، تعودت في البيت مثلاً أن أسلوبك مع الوالد جاف، حتى لو أردت أن تقول له: صبحك الله بالخير، تحس أن الأمر صعب عليك، ولو أردت أن تقبل رأسه، تحس أنك تريد أن تفعل شيئاً ما تعودت عليه، والإنسان الذي لم يتعود على الشيء، يحس أنه يعمل شيئاً خارجاً عن طبيعته، لكن الأمر سهل، جرِّئ نفسك أول مرة، وستجد أن الأمر سهل جداً، إذا أتيت إليه: صبحك الله بالخير، مساك الله بالخير، قبل رأسه، قل له الكلام الطيب.
أعرف أناساً في غاية الشدة والحرارة والعنف في طباعهم، أناساً عصبيين، لكن لما ألجم الإنسان نفسه بلجام الخوف من الله عز وجل، كان مع والده ووالدته كالعسل، قد يقسو عليه والده، وقد يوبخه، وقد يكون هذا بحضرة الناس، فتجد الولد وإن تمعر وجهه، إلا أنه يكتفي بترديد: عفا الله عنك، جزاك الله خيراً، الله يعفو عنك، الله يسامحك، وما أشبه ذلك.
إن الإيمان -يا إخواني- يهذب الطبائع، فجرئ نفسك على استقبال الوالد، وقبل رأسه، وابكِ بين يديه، واعتذر منه، وعده بأنك لن تعود إلى مثل هذا الأمر، والوالد قريب الرضا.(146/38)
لا يلزم من التحذير المشاهدة
السؤال
عندما يسمع بعض الشباب كلامك عن (مجلة سيدتهم) وأنك قرأتها، يقولون: كيف يقرأها الشيخ؟! إذاً سنقرؤها، وأقل ما يقولون: سننظر للخطر ونحذر منه، فما رأيك؟
الجواب
لا.
أبداً، أنا الحقيقة لم أقرأها ولم أشترها، وأستغفر الله وأتوب إليه، أنَّ مثل هذه المجلة توجد في بيت امرئ مسلم، فتهرب الملائكة وتدخل الشياطين، لأنها مجلة تتاجر بصورة المرأة، وكل من يحترم نفسه، ويحترم دينه، يستحي أن ينظر إليها فضلاً أن يشتريها، وكفى تجريحاً لإنسان أن يقال: فلان يشتري مجلة كذا وكذا، وإنما ذكرت هذا لمناسبته، التي أرى أنه لا بأس بذكرها، لأنه مع الأسف هذا أمر موجود، وليس أمراً غائباً لا يعرفه الناس.(146/39)
حكم الذهاب إلى الملاعب لمشاهدة المباريات
السؤال
ما حكم الذهاب إلى الملاعب لمشاهدة المباريات إذا كان اللاعبون يلبسون (الشرت) القصير، ومع العلم أن الدفوف تستعمل؟
الجواب
سماع الدفوف لا يجوز، كذلك عورة الرجل ما بين السرة والركبة عند كثير من أهل العلم، وقد جاء في هذا أحاديث عند الدارقطني وغيره، وصححها جماعة من أهل العلم، وإضافة إلى هذا وذاك ففي الملاعب من اختلاط الكبار بالصغار، وغير ذلك ما هو معلوم لا يخفى.(146/40)
شابة ترفض الزواج من شاب متدين
السؤال
أنا شاب متدين، ولي أخت على أبواب الزواج، وقد تقدم إليها شاب ملتزم، فرفضته إدعاءً بأنه إمام مسجد، وأنه لا يجعل وقتاً لها إن تزوجته، فما نصيحتك لها لأن تغير فكرتها؟
الجواب
ينبغي أن تتحدث مع أختك بصراحة عن الزوج الصالح والزوج المنحرف، وأيهما أجدر وأنسب لها، كم من امرأة تزوجها شاب منحرف، فكان يسافر إلى الخارج في الإجازات، ويدخن، وقد يشرب الخمر، وقد يأتي بزملائه السيئين في البيت، ويتعاطى معهم الخمر، وتكون المرأة في حالة خطر، وأقول لكم: كثيراً ما يتصل بي نساء يشكين أزواجهن: أن الزوج قد يسمح أن ينام زملاؤه في المنزل، وقد يسمح أن يشربوا الخمر في المنزل! وقد يسافر ويرجع ومعه صور خليعة، ومعه ذكريات رديئة، بل قد يرجع ومعه جراثيم الأوبئة والأمراض الفتاكة كالهربس والإيدز وغيرها من الأمراض الجنسية! فالآن -الحمد لله- حتى الفتاة غير المتدينة أصبحت تريد متديناً، ولابد أنكم قرأتم مقابلات كثيرة في الصحف مع هؤلاء، تريد شاباً متديناً ملتزماً، لأنه حتى من الناحية الدنيوية البحتة المتدين أحسن وأفضل لها من غيره، فالمتدين إذا أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يهنها، ولا شك أنه خير لها على كل حال.(146/41)
كيفية القضاء على المنكرات
السؤال
كيفية القضاء على المنكرات كالمجلات والأشرطة وغيرها؟
الجواب
أما بالنسبة لأشرطة الفيديو فأنا أود أن أنبه الإخوة إلى أمر، نحن محتاجون إلى الدعوة اليوم، اليوم أهم شيء نحتاجه الدعوة في أوساط الرجال والنساء، المنحرفين وغير المنحرفين، ينبغي أن نقوم بحملة لا تهدأ، شعارها الدعوة إلى الله عز وجل، لماذا؟ لأنه حتى إذا فرض أنه قضي على بعض الصور، أو الفيديو أو غيرها، فهناك وسائل غيرها وأشد منها فساداً.
ذكرت لكم في المجلس السابق أن هناك إعلاناً رسمياً في مصر، أنه خلال شهر سوف ينقل البث المصري إلى أنحاء المملكة، ويرى في جميع أنحاء المملكة وتعرفون التلفزيون المصري ماذا يعرض فيه، الرقص الخليع هذا أقل ما يعرض فيه، البرامج التافهة، إلى آخره، الناس هناك ضجوا منه وتذمروا، وسوف يأتي إلى هنا، فضلاً عن البث الأجنبي، فنحن بحاجة إلى أن نبذل الجهد في تحصين قلوب الناس، لأن الإنسان المحصن أينما تلق به فهو محصن، الآن الشباب المبتعثون إلى أوروبا وأمريكا -زرتهم وذكرت هذا في أحد المرات- أكثر من (70%) أفضل من شبابنا في هذه البلاد، دين وحماس، وغيرة، وصبر وورع عجيب! حتى إنهم يتورعون -مع أنهم في بلاد كفر- عن أمور أتعجب منها غاية العجب، واستغرب كيف يتورعون عن أشياء مباحة لا شيء فيها، وهم يسألون عنها، فضلاً عن أمور مكروهة، فضلاً عن الحرام، فالمهم الآن أن نكون قائمين بواجب الدعوة إلى الله عز وجل بقدر ما نستطيع، في كافة المجالات، وعلى كافة المستويات، والاستفادة من كل وسيلة مباحة في الدعوة إلى الله تعالى.(146/42)
تحذير من جريدة (المسلمون)
السؤال
ما رأيكم في جريدة (المسلمون) لأن كثيراً من الناس يثقون بها ويدمنون قراءتها؟
الجواب
في الواقع لن أقدم رأيي في هذه الجريدة، لكني أريد أن أنبه إلى أمر كنت متردداً في التنبيه عليه، لكن لما سألني الأخ وجدتها فرصة سانحة، فقد جاءتني أسئلة من هذه الجريدة قبل ثلاثة أسابيع، وألحوا عليَّ كثيراً حتى زارني مسئول منهم في المنزل جزاه الله خيراً، وطلب التعاون مع طلبة العلم، والدعاة في هذا المجال، ونتيجة لذلك، كتبت إجابة على هذه الأسئلة وأرسلتها إليهم، وبعد ذلك نشر بعض هذه الأسئلة بصورة محرفة، ونسبوا إليَّ ما لم أقل، واتصلت بهم في الأسبوع قبل الماضي، رجاءَ أن يكتبوا تصحيحاً في العدد قبل الماضي، فلم يفعلوا، ثم اتصلت بهم في الأسبوع الماضي رجاء أن يكتبوا تصحيحاً فلم يفعلوا، وبناءً على ذلك أجد أني مضطر لأن أقول لكل من يستمع إليَّ الآن: إنهم نسبوا إليَّ أنني قلت: إننا يجب أن نربي الشاب تربية عسكرية، حتى يكون قوياً في الدفاع عن وطنه، فإن الدفاع عن الوطن -من معنى الكلام- من أهم الواجبات، وهذا في الواقع كلامٌ لم أقله، ولست ممن يقولون مثل هذه العبارات: الوطن والوطنية! لأننا نتحدث في مثل هذا المجال بالتفصيل، فأقول: إن كان المقصود الدفاع عن الوطن الدفاع عن دولة تحكم شريعة الله عز وجل، وبلاد تحكم بالكتاب والسنة، فهذا الدفاع واجب، لأنه دفاع عن الإسلام، ودفاع عن المسلمين، دفاع عن الركع السجود، ودفاع عن الأعراض، ودفاع عن الحرمات، ودفاع عن كبار السن، والشيوخ، ودفاع عن تراث الإسلام، أما مجرد تراب أو وطن، فهذا ليس هو الشعار الذي يدافع المسلم عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} ولذلك ألفت الأنظار، ولم يكن بودي أن أتحدث في هذا الموضوع، لكنني وجدت نفسي مضطراً لذلك.(146/43)
الحماس المؤقت
السؤال
ما رأيك في من يشعر بالحماس فترة ثم يزول، وهذه عادته دائماً، وهذه مشكلة أعاني منها؟
الجواب
الحماس ينبغي أن يكون مرتبطاً بمعانٍ مستقرة لا تزول، لأن بعض الناس حماسه مأخوذ من حادثة، بأنه حصلت مشكلة فتحمس، وانتهت المشكلة ففتر، فمن أهم الوسائل التي تجعل الإنسان يتحمس بصورة مستمرة: أن يعرف ماذا يجري في واقع الأمة الإسلامية، لأن الواقع الذي ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم يدعو بعض الناس أن يفجروا قلوبهم، وليس أن يتحمسوا فقط، لكن المؤمن لديه من الثقة بالله عز وجل، والثقة بالنصر، والثقة بمستقبل الإسلام ما يعطيه نوعاً من الطمأنينة، وإلا فوالله الذي لا إله غيره، أن الأوضاع التي يعيشها المسلمون الآن، أوضاع من السوء والتشابك والتعقيد والضعف والتخلف، مما يجعل الحليم حيراناً، ويجعل الكثير من العقلاء كأنهم ينتظرون آية إلهية تنزل من السماء، ولكننا واثقون بالله عز وجل، وهذه الثقة تجعلنا نتصرف بحكمة، وليس باندفاع، وتجعل الإنسان أيضاً من خلال معرفته بالواقع يتحمس حماساً موزوناً.(146/44)
الحكم على الآخرين يحتاج إلى بينة
السؤال
وزعت منشورات تحمل أسماء البنات المشاركات في المسيرة وأزواجهن، ووضع أمام اسم الزوج أنه شيوعي أو علماني، فهل يجوز أن أتهم المرء بدينه قبل التأكد من ذلك، حيث أن جميع الأزواج شيوعيون أو علمانيون؟
الجواب
هذه الورقة ساءتني لأسباب، أولها: أنها غير دقيقة في المعلومات المذكورة فيها، فيها نسبة وإن كانت قليلة من الخطأ.
الأمر الثاني: أننا -فيما يتعلق باتهام هؤلاء الأشخاص بأن هذا شيوعي وهذا علماني- نحن نريد أدلة، لأننا لا ننكر أنه يوجد في مجتمعنا الشيوعيون، ويوجد في مجتمعنا علمانيون، لكن ينبغي أن نتعلم ونعلم الناس على ألا نتكلم إلا من خلال وثائق، وأنا أنصح إخوتي -شباب الدعوة الإسلامية- أن يجعلوا هذا الأمر في غاية الأهمية بالنسبة لهم، لا تتكلم عن شخص أبداً مهما كان معروفاً ومستفيضاً فساده، لا تتكلم عنه إلا من خلال وثائق: كتاب، مقالة في صحيفة، قصيدة أو شريط، أو أي شيء، المهم إن كان أن عندك وثيقة فلا بأس، تكلم وافضح رموز الفساد والزندقة والإلحاد سراً وجهاراً، وبأسمائهم أيضاً، بشرط أن تكون لديك وثيقة، أما أن تقول: شيوعي، علماني، هذا شيوعي، هذا علماني، على هذه الصورة، فلا يصلح هذا، إلا أن تعطينا وثائق على ما ذكرت، ومن الخطأ انتشار مثل هذه الأشياء إلا بعد التوثق منها، وينبغي أن نتفطن لمثل هذه السلبيات التي ذكرتها في مقدمة هذه المحاضرة.(146/45)
شر البلية ما يضحك
السؤال
هذا السؤال طريف، يقول: أبي على وشك أن يشتري لي سيارة، وهو حاضر هنا، وأعتقد أن أبي دخله شيء من الشك، وأنت الآن تحسس أبي علي وأنا ملتزم.
الجواب
الصراحة أنني توقعت مثل هذه الحالة وأنا أتكلم، لكن أقول: إن تحسس أبوك عليك، فاجعل والدك يراجعني وإن شاء الله نقنعه بذلك.(146/46)
واجبنا تجاه المناهج الدراسية
السؤال
هذا يسأل عن موضوع الكتب المدرسية، وما يوجد فيها -أحياناً- وكيفية توجيه الشباب والطلاب والطالبات حيالها.
الجواب
أولاً: ينبغي أن نعمل جميعاً على تنظيم المقررات الدراسية، وفي الواقع أن الذي أعلمه أن الجهات المسئولة التي هي إدارات التعليم ووزارة المعارف وتعليم البنات، تتقبل الملاحظات بما يتعلق بالمناهج، ولي تجربة شخصية في هذا المجال، وأتكلم من معرفتي بهذا الأمر، وعدد من الإخوة كذلك، فينبغي أن نتفطن لذلك.
ثانياً: إذا وجد في المقرر شيء غير صحيح، أو مخالف، ينبغي إلغاؤه عن الطلاب، وبيان وجه الخطأ فيه، والأخ زودني هنا بصورة عنوانها: ممارسة الإنجليزية خارج الفصل، وفيها شاب سعودي يلبس الغتره والعقال، ومعه رجل خواجة كما يقول، ومعه زوجته أيضاً، وهي في صدرها صورة عليها قلب، مكتوبة باللغة الإنجليزية، والشاب هذا يضع يده على الرجل، بجوارهم طفل ينام، وهو يستمع إلى الإذاعة باللغة الإنجليزية، هذه الصورة زودنا بها أحد الإخوة ويسأل عنها، والجواب مثل ما ذكرت.(146/47)
وفق بين الأعمال الدعوية وطاعة الوالدين
السؤال يقول: والدي من العلماء، ولكني أخافه وأخشاه، لأنني لا أستأذن عند خروجه، وبالتالي فقد منعني من الرحلات البتة، وأنا طالب في حلقة، فماذا أفعل؟
الجواب
ينبغي إقناع الوالد بذلك، ومن الوسائل في إقناع الوالد أن تعرفه على أصدقائك، لأن الأب أحياناً لا يمنع الولد إلا خوفاً عليه، فإذا عرف الأصدقاء الذين تذهب معهم وتجيء معهم، فالغالب أنه يوافق على ذلك، كما أنني أنصح الإخوة أن يحرصوا على أن يقوموا بحقوق أهلهم، لأنه قد يمنعك لأنه محتاج إليك، فقد زارني يوماً من الأيام بعض الشباب في أحد المراكز، وقالوا: إننا لا نستطيع أن نقوم بحقوق البيت بسبب انشغالنا في المركز أو المدرسة أو غير ذلك، فقلت: إذاً أسألكم سؤالاً: إذا كنا نصلي الفجر وكان وقتها الساعة الرابعة، ماذا تصنعون بعد صلاة الفجر؟ قالوا كلهم: ننام.
فقلت: إلى متى؟! فقالوا: إلى الساعة الثامنة، أو التاسعة! إذاً عندك أربع أو خمس ساعات متواصلة، تنام ما يسمى بنوم الصفرة، هذا اليوم الذي يضيع عليك النوم كله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {بورك لأمتي في بكورها} وتخسر الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس وترتفع، وتصلي ركعتين كأجر حجة وعمرة، تامة، تامة، تامة، وتخسر بقية اليوم، فلا تنم هذا الوقت، اذهب في قضاء حقوق الوالدين والأهل، واخدمهم، حتى إذا خرجت تخرج بالصورة الطبيعية.(146/48)
لقاء مفتوح بجامعة الإمام بالقصيم
أمورٌ مؤسفة يعانيها أهل الفكر وطلاب الجامعات؛ وهو الشعور بالهزيمة والإحباط والتخلف العلمي، الذي يعاني منه المسلمون في قضايا التكنولوجيا وقصورٌ في الاستفادة من الغرب، هذا والمسلمون يملكون كثيراً من الإمكانيات التي يفتقدها الغرب ولكنها نظرة التشاؤم والشعور بالضعف، حتى تسربت إلى أن الغرب قوة لا تقهر وحضارة سرمدية، لكن عزاء أهل الحق أن السنن الإلهية تقف في وجه هذه النظرة، وأن موعود الله أصدق وأبلغ.(147/1)
نظرة سلبية ومصيبة كبرى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فنشكر لكلية العلوم الاجتماعية واللغة العربية هذه الجهود الطيبة في مجال النشاط الطلابي، ونسأل الله تعالى أن تحذو الكليات الأخرى حذوها في هذا المضمار الطيب الذي يحتاج إليه الطلاب.
أيها الأحبة دارت في رأسي وأنا أسير إلى الكلية عدة أمور أعتقد أن الحديث فيها مهم، وشعرت بأن الوقت قصير، فهو لا يكاد يتجاوز نصف ساعة فماذا على الإنسان أن يقول في نصف ساعة من خلال عامٍ دراسيٍ كامل؟ إن الهموم والقضايا التي تحتاج إلى محادثة بيننا، ومشاجاة ومناجاة كثيرةٌ جداً.
أحبتي الكرام: أليس مما يؤسف له أننا نجد الجامعات في العالم منطلقات للوعي الاجتماعي، والتربية والإصلاح وقيادة الأمة، من الناحية الفكرية، وغيرها، ومن الناحية العملية، وأن طلاب الجامعات في بلاد الدنيا يعتبرون من أهم الطبقات، التي يتنافس أصحاب الفكر إلى الوصول إلى عقولهم، في الوقت الذي نجد فيه طلاب الجامعات في عددٍ من البلاد الإسلامية، لا يعدون أن يكونوا مجرد قراء ثم يتخرجون من الجامعة مجرد كتبة، هذه النظرة تعتبر مصيبة كبرى في الواقع على الجميع، لأن المجتمع يبدو أنه يكوِّن لدى الطالب، بل لدى الإنسان سواء كان طالباً، أو متخرجاً، أو أستاذاً أو أي شيءٍ آخر، يكوِّن لديه شعوراً بعدم الثقة بالذات، وعدم القدرة على الإبداع، وعلى ممارسة الجهود والواجبات الملقاة عليه، ولذلك فنحن بشكلٍ مستمر لا أقول فقط كطلاب جامعة، بل نحن بوضعنا مسلمين، ونحن بوصفنا من البشر نمارس هروباً دائماً من مشكلاتنا، ونمارس تخلياً مستمراً عن مسئولياتنا، ولو أننا ونحن نتكلم في أوساطٍ علمية متخصصة لو أننا عملنا استبيانات لقراءة عقول الشباب، وماذا يحملون في رءوسهم، وكيف ينظرون إلى الأمور، وكيف يفكرون، وكيف يحللون الأحداث، لوجدنا أن كثيراً جداً من يعتبر نفسه خارج الدائرة، وأنه ليس له أي تأثيرٍ في وجود، الأحداث وليس له أي تأثيرٍ في دفعها، سواءً في ذلك الأحداث الكبرى العالمية، أو الإقليمية، أو الأحداث المحلية، أو حتى الأحداث البيتية، فلو تأتي إلى إنسانٍ تحدثه عن مشكلةٍ في داخل البيت، سيفاجئك ويقول لك: يا أخي أنا ليس لي دور في الموضوع مطلقاً، هذا القرار بيد والدي أو بيد والدتي، أو بيد أختي أو بيد أخي، وأنا في الواقع لا أملك أي شيء حتى وهو قرارٌ يخص بيته، أما إذا كان أمراً يتعلق بمجتمعه أو ببلده، أو بإقليمه أو بأمته فهو أبعد من أن يشعر بأنه مشاركٌ فيه.(147/2)
عجز المسلمين مع كثرة الإمكانيات المادية
إن المسلمين والعرب، لم يستطيعوا أن يستوردوا من هذه الأسرار المهمة في مجال التسليح والتصنيع، ولا يزالون قاعدين في مكانهم، على رغم كثرة إمكانياتهم المادية، فبلادهم تزخر بموارد لا توجد على الإطلاق في أي بلدٍ في الدنيا، وعلى رغم كثرتهم العددية التي لا تقارن بها أي دولةٍ في الدنيا أيضاً، ومع ذلك رضوا أن يكونوا مجرد أسواق لاستقبال بضائع الآخرين، حتى عقولهم أصبحت مستعمرات فكرية، فالطريقة التي نفكر فيها نحن مستوردة من الغرب، والتحليل الذي نحمله للأشياء هو تحليل غربي غير إسلامي في الغالب.
إن نظرتنا للأمور نظرة مقتبسة من أجهزة الإعلام التي تعتمد على وكالات الأنباء العالمية، وقلما تجد إنساناً يعرض الأمور التي يسمعها على ما يفهمه من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما تكون ثقة كثير منا بما يسمعونه من وسائل الإعلام الغربية والشرقية، أعظم مما يسمعونه ويقرءونه ويعلمونه من السنن الإلهية الاجتماعية والكونية الموجودة في القرآن الكريم، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(147/3)
تطور النظرة السلبية
هذه النظرة السلبية تطورت، وصرنا نقول أحياناً: لماذا نعالج قضايانا العامة؟ ما دمنا أصفاراً على الشمال كما يقال، ليس لنا تأثيرٌ في وجود الأحداث، كما أنه ليس لنا تأثيرٌ في إزالتها ودفعها، أو تقليلها على الأقل، فلماذا نعالج قضايانا؟! يسمعك إنسان مثلاً وأنت تتحدث عن قضية مزمنة، وهي قضية التخلف العلمي في العالم الإسلامي، بحيث أن العالم الإسلامي حتى الآن لم يستطع ولو أن يستورد -كما يقال- (التكنولوجيا) من الغرب، في الوقت الذي استطاع فيه اليهود وهم حفنةٌ لا يقاس عددهم بأصغر دولةٍ إسلامية أو عربية، استطاعوا أن يقطعوا في هذا المضمار شوطاً بعيداً.(147/4)
نظرة مهيمنة
هناك نظرةٌ هيمنت على كثيرٍ من الناس، وهي نظرة الشعور بأن الغرب باقٍ لا يزول، وأن حضارته حضارة خالدة، وأذكر أن مفكرين كباراً كانوا يفكرون بهذه الطريقة، ويعتقدون أن حركة التاريخ قد توقفت عند العالم الغربي الرأسمالي، وأنه لن تدور دورتها، وأن التاريخ لن يعيد نفسه، لكنه سوف يقر ويثبت عند هذا المستوى، والغريب أن هذه النظرة هي نفسها النظرة التي كانت موجودة عند الشيوعيين في روسيا، فكانوا يعتقدون أنهم هم المطاف والفردوس المنتظر وأن التاريخ ما زال يعمل فيه مبدأ النقيض، حتى وصل إلى الشيوعية، فاستقر قراره عند ذلك.
هذه النظرة الآن انتقلت إلى الغرب، فصار عندهم شعورٌ بالخلود والبقاء والأبدية، وكأن السنن الإلهية في نظرهم تعطلت، ليس غريباً أن يشغل الغرب هذا الشعور، أو ينظر هذه النظرة؛ لأنه مستكبرٌ قد عظم في عين نفسه، وتغطرس ورأى أنه قد ملك أزِمَّة الأمور، وانتهت إليه النوبة وأن الحال الذي يعيشه سرمدٌ لا يزول؛ لكن الغريب أن هذه النظرة انتقلت إلى عقول كثيرٍ من المسلمين، فصاروا ينظرون إلى هذا الواقع الذي يعيشونه الآن على أنه خالدٌ لا يزول.
وعلى أن هذا النظام الذي استقر الآن سيستمر ولا داعي لمقاومته، أو حتى للحديث عنه بأي شكلٍ أو بأي صورة، ونسوا في غمرة هذه النظرة التي أوحاها إليهم العالم الغربي ومن ورائه الإعلام في البلاد الإسلامية، الذي ظل يمجد ويتحدث حديث المبهور عن المنجزات الغربية، وعن العالم الرأسمالي، وعن ديمقراطيته وعن، وعن، من إنجازاته وحضارته، وظلوا يحشون عقولهم، ويتقبلون مثل هذه الأفكار، ونسوا في غمرة ذلك القوانين والسنن والنواميس الإلهية الصريحة في أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، فالله عز وجل يقول: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] .(147/5)
الكرامات لا تأتي هدية بدون جهد
هل نتوقع أن تأتينا الكرامات هدية هكذا، دون جهد ودون عمل؟ فهذا الإنسان لا يكون جديراً بذلك إذ لو منح نصراً رخيصاً لتخلى عنه بكل سهولة، فالنصر الرخيص لا يمكن أن يأتي، ولو فرض جدلاً أنه جاء، فلا يمكن أن يدوم، لأن النصر بحاجةٍ إلى السواعد التي تحافظ عليه، وأنا والله أستغرب أشد الاستغراب!! الآن نحن أمة مهزومة، من الناحية الفكرية والعقدية، بحيث أننا نجد أن أفكار الغرب تؤثر في عقولنا أبلغ التأثير، وفي عقول الناشئة، ولا تؤاخذوني إذا قلت على سبيل المثال: في جامعاتنا ماذا ندرس لطلابنا، خاصةً في العلوم التي لم يكن فيها تأصيلٌ إسلامي، كعلوم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم التربية، والإدارة، والاقتصاد…إلخ، صحيح أنا لا أنكر أن هناك محاولات وهناك جهود؛ لكنها ما زالت أقل من المستوى المطلوب، ولذلك تجد أننا قد ندرس لطلابنا آراء ونظريات، واجتهادات غربية مترجمة.(147/6)
سنة الله في التدرج
وينبغي أن نعلم أيها الأحبة أن هذه الأمة لا يمكن أن تبدأ بدايةً صحيحة إلا من خلال وجود حركة في قلوب أبنائها، فمن سنن الله تعالى، سنة التدرج، فليس صحيحاً أن هذه الأمة التي قضت الآن عشرات السنين في تخلف مرير، وهي تعتمد على عدوها في كل شيء، ليس صحيحاً أنها ستتحول بين عشية وضحاها إلى أمة قوية راسخة ممكَّنة تستطيع أن تستغني عن عدوها، بل وتهدد عدوها في عقر داره.
هذا خيالٌ ولا يجب أن يشطح بنا الخيال، فالتدرج سنةٌ إلهية يجب أن توضع بعين الاعتبار، لكن التدرج يبدأ بخطوة، فأنا أريد أن أسأل نفسي، وأسأل إخواني، ونحن الآن طلاب جامعة، أو أساتذة جامعة، والمجتمع بل الأمة كلها تنظر إلينا، هل بدأنا الخطوة الأولى المفروضة؟! أم أننا لا نزال نفكر حتى الآن في الخطوة الأولى نبدأ أو لا نبدأ؟! وهل هي مجدية أم غير مجدية؟ أعتقد أن الخطوة الأولى يجب أن تبدأ في قلوبنا نحن، في شعورنا بأننا نحن المسئولون عن واقع الأمة، ونحن المسئولون أيضاً عن إنقاذ الأمة من واقعها، أما فكرة أن هذه المصائب التي تعيشها الأمة هي من آثار الجيل السابق، وسوف يقوم بحلها الجيل اللاحق، فهذه الفكرة لا يمكن أن تصنع شيئاً، لأن معنى ذلك أن كل ما نحاوله الآن هو أن نتخلص من هذا العبء الثقيل، لنلقيه على ظهور غيرنا، هذا كل ما نحاوله، وهذه طريقةٌ في التفكير خاطئة، لن ننجح إلا إذا شعرنا نحن بأننا جزءٌ من المشكلة، ويجب أن نصحح أوضاعنا، حتى الأوضاع الفردية.
أرسل لي أحد الشباب مجموعة من الأوراق من إحدى المجلات، وإذا بها تتحدث عن لعبة البلوت، ومشاكل لعبة البلوت، والأوقات التي تقضى مع هذه اللعبة، والسهرات الطويلة حتى الفجر، بل ربما حتى ساعة متأخرة لا أقول من الليل بل من النهار…إلخ!! وربما يكون الذين يقضون أوقاتهم مع لعبة البلوت، ليسوا هم شر طبقات المجتمع، بل هناك دركات ودركات دون هذا المستوى.(147/7)
إذا سقط الغرب فأين البديل
لكن يبقى السؤال الذي يجب أن نكون صرحاء في الإجابة عليه، ثم ماذا إذا سقط الغرب -أيضاً- أين البديل؟! حسبما يظهر لي الآن أنه على فرض انهيار جزء من الغرب، فستبقى أجزاء أخرى هي التي تقوم مقامه، فإن هناك دولاً الآن في طور القوة، واستكمال العدة، من الناحية السياسية والاقتصادية والعسكرية، كأوروبا مثلاً الموحدة، أو بعض الأحلاف التي بدأت تظهر الآن على الساحة وتتضايق منها الولايات المتحدة؛ لأنها تعتبر أنها المستهدفة فيها.
والمسلمون هل سيظلون ينتقلون من سيدٍ إلى سيد، ومن مولى إلى مولى، يستدينون من فلانٍ، فإذا افتقر ذهبوا يستدينون من غيره، ولسان حالهم يقول كما كان يقول ذلك الرجل المغفل: اللهم اغنِ بني فلان حتى أستدين منهم، إذاً لماذا لم تطلب الغناء لك أنت؟.
هذه القضية الكبيرة -أيها الإخوة- ربما أقول المؤسف أن كثيراً من المسلمين، ودعك من عامة المسلمين المشغولين بلقمة العيش، لكن حتى من المثقفين، حتى من طلاب الجامعات، بل ربما حتى من الأساتذة والمختصين، في أعلى المستويات في المجامع العلمية، والمنتديات وغيرها، قد يحسون أن مثل هذه الأمور لا تعنيهم في كثيرٍ أو قليل، وغاية ما يكون أن الإنسان ربما يشعر بالحرقة حين يسمع مثل هذا الكلام أحياناً؛ لكن أن يكون هذا الكلام شيئاً مستقراً في قلبه، وشعوراً دائماً يحدوه ويحركه ويدعوه فهذا لا يزال أقل من المستوى المطلوب.(147/8)
واقع اليوم ليس إلى الأبد
إذاً: لا يجوز أبداً أن ننظر إلى هذا الواقع الذي نعيشه في هذه السنوات، وهذه الشهور، والأيام، واللحظات، من هيمنة الحكم الرأسمالي على العالم، ومحاولة إمساكه بأزمَّة الأمور، وإمساكه بخناق الشعوب الإسلامية على وجه الخصوص، ومصادرة خيراتها، بل مصادرة إنسانيتها، وعقولها، ومحاولة تحطيم أخلاقها، لا يجوز أن ننظر إلى هذا الواقع على أنه سرمد لا يزول، بل يجب أن ننظر إليه على أنه بداية انفراج، لأنك حين ترى هذه الغطرسة وهذا التسلط، والطغيان، وهذا الاستكبار تدرك أن سنة الله بدأت تتحقق على هؤلاء القوم الظالمين، وأن هذه نهاية الأمر بالنسبة لهم، وبعدها سيبدأ العد التنازلي.(147/9)
زوال الغرب ليس كزوال الشيوعية
صحيح أن زوال الغرب لن يكون كزوال الشيوعية بهذه الطريقة، لأن الشيوعية كانت تقوم على أساس الديكتاتورية، والتسلط، والحديد والنار، وهذا الأمر يثير في النفوس كثيراً من المقاومة، التي إذا لم تتحرك الآن تحركت فيما بعد.
لكن الغرب يقوم على أساس الديمقراطية، وإشعار الأفراد بأن لهم حقوقهم المحفوظة، وإنسانيتهم المحترمة، لكن هذا لا يعني أن الغرب يزول بسببٍ آخر، ليس من الضروري أن تكون نهاية الغرب هي كنهاية الشرق، قد تكون نهاية الغرب بصورة أخرى، لا تخطر لي ولك على بال، ولا داعي أن نفترض حروباً مدمرة، أو صراعات داخلية، أو أي شيءٍ آخر، لا داعي أن نترك المجال لعقولنا للتفكير في هذه الأمور، وإن كان المختصون فيها قد يرسمون عدة صور، وعدة احتمالات؛ لكن ينبغي أن نشعر في نفوسنا ببرد السكينة والإيمان، في أن السنة الإلهية التي عملت عملها في الشرق فجعلت هذه القوة الهائلة الشيوعية التي كانت تهدد الإسلام، جعلتها حطاماً خلال سنواتٍ يسيرة، فنؤمن أيضاً أن هذه السنة الإلهية تعمل عملها في الغرب الآن، وقد يظهر أثرها واضحاً اليوم، أو غداً أو بعد غد.(147/10)
الأيام دُول
إذاً الأيام مداولة: فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويوم نُساءُ ويومٌ نسر فلم تدم الدنيا للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فمن الأنبياء من كانت لهم حكومات، ودانت لهم البلاد وطبقوا شريعة الله عز وجل في الأرض وفي الناس، ولا شك أنه لا أحد يتصور أبداً أن هناك ما هو أحسن للبشر من شريعة ربهم، ومع ذلك دارت الدورة، وصار للجاهلية مكانٌ في بعض الوقت، ثم جاء الإسلام وهكذا: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] هذه السنة إلهية واضحة، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لما سُبِقَتْ العضباء وهي ناقته، سبقها أعرابي، فتأثر لذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: {حقٌ على الله ألا يرتفع شيٌ إلا وضعه} فالدنيا ليس فيها خلود، وحقٌ على الله ألا يرتفع شيٌ إلا وضعه.(147/11)
نحن أمة مهزومة فكرياً على كافة المستويات
إذاً نحن أمة مهزومة فكرياً على كافة المستويات.
ومن مظاهر انهزامنا:(147/12)
قناعة منبثقة من عقيدتنا وديننا
مع ذلك يجب أن أقول: إن عندنا قناعة ليست مجرد تفاؤل نهدئ به قلوبنا ونفوسنا، لا، وإنما هي قناعة منبثقة من ديننا وعقيدتنا وشريعتنا، ومعرفتنا بسنن الله تعالى في الكون والحياة، وثقةً بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، أن هذا الواقع الذي نعيشه سيتغير لا محالة.
وأقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً: إنَّ هذا حقٌ لا شك فيه، وقد وعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو وعدٌ من الله عز وجل، والله تعالى لا يخلف الميعاد، لكن هذا الوعد لن يأتي هدية على طبقٍ من ذهب للكسالى والقاعدين، إنما يأتي هديةً وثمناً للجهود والتضحيات، والصبر وطول النفس والاحتمال، ومعرفة الهدف ووجود الإنسان الذي يشعر بأنه مسئول، بل يشعر وكأن المسؤولية عليه وحده دون غيره، حتى يستطيع أن يستثمر كل طاقاته في هذا السبيل.
على كل حال هذا الموضوع موضوع طويل، وكما قلت لكم إني شعرت أن نصف ساعة غير كافية لمثل هذا الحديث، لكني قلت على أقل تقدير ولو إشارة عابرة، وأجيب على بعض الأسئلة في العشر الدقائق الباقية:-(147/13)
الخوف من الإسلام عقدة الضرب القوي
لكنني أعجب الآن وأقول كيف الأمم الغربية الممكَّنة بما في ذلك إسرائيل، تحس بالتحدي وتحس بالخطر منا نحن المسلمين، فتستنفد قواها، وتستفرغ جهودها، وتعد الدراسات والخطط، حتى أنه قبل أسبوع، وقع اجتماعٌ على أعلى المستويات، وكان من ضمن توصيات الاجتماع، ضرورة التنبه للخطر العسكري القادم من الشرق الأوسط.
والله يا إخواني نحن نقلب أيدينا، أين الخطر العسكري القادم من الشرق الأوسط؟! الله يرحم أحوالنا.
المسلمون الآن على حال مؤسف ومخيف وكلنا نستغرب لماذا يخاف الغرب من الإسلام والمسلمين والحال هذا؟! ومع ذلك الغرب يخاف وهو في أوج قوته وانتصاره ورسوخه، يخاف أن ينبعث المسلمون، فيظل يدعم قوته، ويعمل على توحيد جهوده، وعلى توحيد دوله، وعلى إيجاد أحلاف مشتركة، وعلى وعلى وبالمقابل يعمل على إنهاك المسلمين وإضعافهم، هذا وهو قوي، أما نحن ونحن ضعفاء فكأننا أخلدنا إلى الراحة، ورأينا أن هذا الواقع الذي نعيشه لا سبيل إلى إزالته، ولهذا ليس في الإمكان أبدع مما كان، وعلينا أن نظل حيث كنا!(147/14)
الانهزام الاقتصادي والعسكري
وحين تنتقل إلى الاقتصاد تجدنا مهزومين، وعندما تنتقل إلى المجال العسكري تجد الهزيمة أبرز وأوضح، ولا أدل عليها من أن إسرائيل، وهي بلا شك صنيعة الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، وهي تعتبر الحليف التاريخي للغرب، أصبحت تملك من وسائل القوة، وأسلحة الدمار الشامل، شيئاً لا أقول لا تملكه الدول العربية والإسلامية مجتمعة، لكنها لا تفكر بامتلاكه، بل ولا تسعى لامتلاكه، وقد هزم العرب أمام إسرائيل في عدة معارك، ولا شك أن تهالكهم على السلام، ولهاثهم وراء أحلام السلام، هو تعبيرٌ عن الفشل العسكري الذي عاشوه، وتعبيرٌ عن الهزيمة، وشعورٌ بالعجز عن المقاومة، هذه الأمة المهزومة على كافة المستويات.(147/15)
الشعور بالهزيمة يولد التحدي والمقاومة
إن شعورنا بالهزيمة والمرارة من الممكن أن يولد عندنا التحدي، والقوة وأنتم تعرفون أن شعب إسرائيل كان شعباً مطروداً في أنحاء العالم مضطهداً، يمارس كل إنسانٍ دوره بتعذيبه واضطهاده، وتعرفون بعض المآسي التي تعرضوا لها في ألمانيا وغيرها، ومن شدة الهزيمة والاضطهاد، تولد عندهم الشعور بالتحدي، وضرورة وجود كيان مستقل لحماية اليهود، حتى مكن لهم في هذه الفترة بحبلٍ من الله وبحبلٍ من الناس: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112] وهي على كل حال فترةً مؤقتة إلى زوال، لكن المقصود أن مجرد الشعور بالهزيمة، ما دامت الهزيمة واقعاً ملموساً مجرد الشعور بها، هو في الغالب السبيل إلى الخلاص والخروج منها.(147/16)
الانهزام الإعلامي
والإعلام الذي دخل كل بيت، ينقل لعقول الأمة، رجالاً ونساءً، وشباباً وشيوخاً وأطفالاً، ينقل إليهم أنماطاً من الحضارة الغربية، ويعطيهم تصوراً عن الغرب، فالذي يعرض في التلفاز ليس هو واقع المجتمع، ولا هو الواقع المطلوب إسلامياً، الذي يعرض في الغالب هو نمطٌ من الغرب، الحياة الغربية التي يتطلعون أن تصطبغ بها الحياة الإسلامية، حتى تكون الدنيا كلها نمطاً واحداً، لا يوجد حضارة أخرى، أو نمط آخر من الحياة يعارض ما عليه الغرب، نحن أمةٌ مهزومة فكرياً، لم نستطع أن ننقل ديننا حقيقةً إلى الغرب، وأن نقدمه لهم غضاً طرياً كما أنزل، بل إنني أقول: إن اليهود والنصارى، وأعداء الإسلام، هم الذين ينقلون الإسلام للغرب، فينقلونه مشوهاً، مزوراً، مغيراً محرفاً مبدلاً، وقد دخلت في عدد من مكتبات الجامعات في أمريكا وغيرها، فوجدت بأنها تزخر بالكتب عن الإسلام، وغالبها كتب كتبها يهود أو نصارى أو على أحسن الأحوال كتبها ناسٌ من الرافضة، لكن يندر أو يقل أن تجد كتاباً إسلامياً نظيفاً يعرض الإسلام بصورته الصحيحة، على حين أن الغرب نجح في عرض بضاعته الكاسدة علينا في مختلف الوسائل، حتى أصبحت تخلب الألباب، وتهز العقول وتبهر النفوس، هزمنا على أرقى المستويات، من الناحية الفكرية، ومن الناحية العقلية.(147/17)
الأسئلة(147/18)
تخفيف حدة التأثر بالغرب
السؤال
ما هو الحل لتخفيف حدة التأثر بالغرب، خصوصاً أن الأحداث الأخيرة عمقت من التأثير، وأصبح الكبار والصغار يتصورون أن الهواء الذي نستنشقه يأتينا من الغرب؟
الجواب
هذه مهمة رجال العلم والفكر والأدب، وأساتذة الجامعات، بل وأساتذة المدارس، والآباء في بيوتهم، عليهم أن يدركوا أن عقلية الإنسان مستهدفة، لتعبيده إلى الغرب، وعليه أن يضع الغرب في حجمه الطبيعي، ويبينوا أنهم بشر وأن فيهم من النقص والتناقض والسلبيات الكثير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،(147/19)
شخص ليس له قيمة
السؤال
بأي صورةٍ وصل الحكم بمن يمثلون العرب، حتى يكون لهم أن يتكلموا بلسان الأمة؟ هذا هو في نظري أصل القضية.
الجواب
نعم، وهذا السؤال من هذا الذي فوضهم أن يتكلموا باسم الأمة، وهذه من المعضلات، مصادرة إنسانية للإنسان، ومصادرة شخصيته، بحيث أصبح يشعر أن هناك من يتحرك بالنيابة عنه، ويتكلم بالنيابة عنه، ويفكر، وهو ليس له هم إلا أن يأكل ويشرب وينام، ويمارس غرائزه الفطرية بشكل عادي، فبذلك صودر من الإنسان أعز ما فيه دينه، وإيمانه، وإنسانيته، وكرامته وبقي شخصاً ليس له قيمة.(147/20)
المنكر المتعدي وغير المتعدي
السؤال
رجل يعمل المنكر، وضرره غير متعدٍ لغيره، وهو ساتر على نفسه غير مجاهر، وقد قمنا بمناصحته عدة مرات، ما رأيك في التصرف معه، هل نبلغ أمره إلى الجهات المختصة، أم نستر عليه من (منطلق كل أمتي معافى إلا المجاهرين) ؟
الجواب
في الواقع أنه ينبغي أن تستمروا في نصيحته، ولا تيأسوا، فإنني أعجب من بعض الإخوة يقول لك: نصحته ثم نصحته وما أفاد، يا أخي لا يكفي ما دام أن النَفس يتردد في صدره، فمعناه أن إمكانية القبول قائمة، وعليك أن تستمر معه في النصح، فإذا كان هذا المنكر يخشى أن يتعدى إلى غيره، فينبغي أن يُبحث عن الوسائل، مثل إخبار من حوله، أو أقاربه أو أحد يمكن أن يؤثر عليه، وإذا كان المنكر متعدياً فينبغي أن تبلغ الجهات المختصة.(147/21)
الفقه بالواقع
السؤال
هل يمكن أن تبين الطرق والأسباب التي تجعلنا فقهاء في واقعنا فقهاً سليماً، خالياً من المفهومات الخاطئة؟
الجواب
الفقه بالواقع جزءٌ من الفقه بالشرع، فإذا كان عند الإنسان معرفة ولو إجمالية بالشرع استطاع أن يفهم الواقع إلى حدٍ ما فهماً صحيحاً، وليس فهم الواقع يا أخي أنك تفهم تحليل الأحداث، على سبيل التفصيل، فهذا قد تخطئ أنت وغيرك فيه، وهذا واردٌ جداً؛ لكن المقصود أن تستطيع أن تفهم الأمور العامة.
على سبيل المثال: الآن هناك دعوة قوية حتى من أناس من هذه البلاد مع الأسف الشديد ومن رموز الأدب والشعر والوطنية في نظر البعض، يتحدثون عن الواقع الذي يعيشه العالم اليوم، وما يسمى بالنظام العالمي الجديد، على أنه نوعٌ من الأخلاقيات الجديدة، التي أصبحت تحكم العالم، ونوعٌ من الاعتدال الذي فرضته أمريكا على العالم، وأن أمريكا لها التزامات أخلاقية أمام الشعوب لابد أن تفي بها، ما هذا الكلام؟ إنك بوضعك مسلماً عادياً -دعنا من كونك طالب جامعة أو فقيهاً- تقرأ في القرآن الكريم قول الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وتقرأ قول الله عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] فتعلم أن نصارى الأمس، هم نصارى اليوم، وهم نصارى الغد، واليهود هم أيضاً كذلك.(147/22)
مساهمة فعالة
السؤال
لا شك أن في جامعة الإمام منهجاً علمياً فريداً قلما يوجد في جامعة أخرى، خاصةً في أقسام العلوم الاجتماعية، إلا أننا نطمح أن تساهم في التأصيل الإسلامي للعلوم المختلفة مساهمةً تليق بمكانتها، وسؤالي ما هي أفضل الوسائل لتحقيق ذلك؟
الجواب
أعتقد أن المساهمة مسؤولية الجميع، والجامعات مهما كانت إمكانياتها أعتقد أنها لا تستطيع أن تساهم مساهمة، فعالة إلا من خلال وجود أشخاص لديهم عدة صفات.
الصفة الأولى: الحماس في ما هم بصدده.
الصفة الثانية: القدرة على الإبداع، لأنه ليس كل إنسان قادراً على التأصيل، والتأصيل مهمة لفئةٍ من الناس.
الصفة الثالثة: القوة والنبوغ في التخصص، الذي هم فيه، وقد تجد إنساناً قد هضم العلم الذي هو فيه، لكن ليس عنده إبداع وليس عنده قدرة على تطويع هذا العلم للقضايا والأصول الشرعية، ونحتاج أيضاً أن يكون مع هذا وذاك لديه خلفية شرعية أو قاعدة شرعية تمكنه من التوفيق بين العلوم النظرية، أو المادية، وبين العلوم الشرعية.(147/23)
علم الإدارة بصورة إسلامية
السؤال
إن مصادر علم الإدارة من علماء غربيين مثل تايورو، وغيره من رواد الإدارة، ونجد هنا في هذه الكلية أن قسم الإدارة يأخذ العلوم من هذه المصادر، ولا ننسى أنه توجد مادة اسمها الإدارة في الإسلام، فما توجيهكم للتوجه إلى "الإدارة في الإسلام" بكثافة أكبر، وترك المصادر الغربية، لأن لدينا معاني عظيمة في ديننا الإسلامي للإدارة وغيرها؟
الجواب
هذا هو الموضوع الذي أشرت إليه باختصار أثناء الكلمة، أننا نجد من صور الهزيمة الفكرية أنه حتى في جامعات المسلمين -ليس هنا فقط، بل ربما في معظم الجامعات- تجد كثيراً من هذه العلوم تدرس بالصورة الغربية، دون أي تعديل، وأعتقد أنه على الأقل مهمة الأساتذة ولو لفترة مؤقتة تعديل بعض الأشياء، وتصحيح الصورة، والتعاون مع الطلاب أيضاً في بعض الأمور، فأنا أعرف بعض الأساتذة مثلاً يستفيد من طلابه في تصحيح بعض الأشياء، ويقدمون له بحوثاً، وقد اطَّلَعْتُ على هذه البحوث فوجدتها بحوثاً قيمة، قام بعض الطلاب بإعدادها؛ لأنهم يجدون من الوقت ما لا يجده الأستاذ، وقد يستطيعون أن يتصلوا ببعض العلماء، ويراجعوا بعض الكتب، ويعدوا بحثاً ولو صغيراً في خمس أو في عشر صفحات يتحدث عن قضية معينة، ويقدمون فيها بديلاً شرعياً وتصوراً إسلامياً.(147/24)
حاجتنا إلى التخصصات
السؤال
يذم بعض الناس التوجه إلى الأقسام غير الشرعية، ويقول: إن فيها مضيعة للوقت، وما أدري ما هي وجهة نظركم تجاه هذا؟
الجواب
هذا ليس بصحيح، نحن ندري أن المجتمع يحتاج إلى الفقيه الشرعي الذي يقول له: هذا حلال وهذا حرام، بل ندري أن المهندس والطبيب، والسياسي، والاقتصادي، وعالم النفس، وعالم الاجتماع، بل وعالم الذرة، وكل إنسانٍ يفتقر إلى العالم الشرعي ليقول له: هذا حلال وهذا حرام، هذه تهيمن على كل حياة المسلم، وليس صحيحاً أبداً أن أي مختصٍ بأي اختصاص، سيقول: أنا لا يعنيني كون الأمر حلالاً أو حراماً، أنا يعنيني أن أشرح لك مثلاً.
ليس هذا بصحيح، بل يجب أن يدرك كل إنسان أنه في الدين الإسلامي مظلة الإسلام تهيمن على الجميع.
ليس عندنا كهنوت كالنصارى، عبادة في أيام معينة، وبعد ذلك يعبد الدرهم والدينار والدولار في بقية أيام الأسبوع، لا، المسلم يعبد الله في كل أحواله، يعبد الله وهو في مصنعه، أو في مختبره، أو فصله أو مدرسته، ويعبد الله تعالى وهو في المسجد.
وكل أعمال المسلم ينوي بها وجه الله عز وجل، ويراعي فيها حدود الله فلا يرتكب ما حرم الله، ولا يخالف أمر الله عز وجل، وتجده وهو يتكلم في أدق التخصصات وأبعدها في نظر العلمانيين، عن الدين، فيتكلم فيبدأ كلامه ببسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وإذا تكلم ليس هذا فقط، وإنما إذا تكلم راعى في كلامه أن يكون منضبطاً بالضوابط الشرعية، وإذا جهل أمراً أسنده إلى المختصين، والعارفين ورجع إليهم، وهكذا.
ويربط القضايا كلها بمسألة الدين، فالدين عندنا ليس محصوراً في نطاقٍ من الحياة، الدين مهيمن على كل شيءٍ في حياة المسلم، فليس عندنا شيء اسمه: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) قيصر ليس عندنا، نحن عندنا كل شيء لله عز وجل، هذه يجب أن تكون قائمة في اعتبار الجميع.
ولذلك أقول: إننا كما نحتاج إلى الفقيه الشرعي الذي يرجع إليه الجميع فيما أشكل عليهم، كذلك نحتاج إلى عالم الاقتصاد الذي ينطلق من منطلق شرعي، وعالم الاجتماع الذي ينطلق من منطلق شرعي، وعالم النفس …إلخ، إذاً كل تخصصات الحياة نحتاجها.
وأيضاً يجب أن أقول: إن الفقيه نفسه الذي يرجع إليه هؤلاء، هو أيضاً يرجع إليهم في كثيرٍ من الأحيان، فربما احتاج الفقيه إلى تصور مسألةٍ طبية فالتقى بالطبيب، وقال له: اشرح لي هذه القضية (قضية طفل الأنابيب) مثلاً أعطني تفاصيل عنها، حتى أستطيع أن أطبق عليها ما أعلمه من أحكام الدين.
وربما احتاج إلى فهم قضية اقتصادية في معاملات البنوك، وغيرها فتحدث مع مختصٍ في مجال الاقتصاد ليشرح له.
وربما احتاج إلى فهم نظرية في علم الاجتماع، أو في علم النفس، أو في غيرها، فالمسألة مسألة تكامل، يكمل بعض المسلمين بعضاً، وبعض العلماء بعضاً، ويهيمن على الجميع روح السعي لخدمة الإسلام وأنهم يأتمرون بأوامر الله عز وجل وينتهون عن نواهيه ويعتبرون أنفسهم يحاولون أن يطوعوا كل العلوم للإسلام، وإذا كانت هذه الصورة واضحة في أذهان الجميع، فأنا أعتقد أننا نحتاج إلى التوكيد على أن الحاجة ماسة إلى كل التخصصات.(147/25)
قيام الحجة على العبد
السؤال
أحياناً أنصح أخي بأن يسمع شريطاً معيناً، أو يقرأ كتاباً، فيرد عليَّ بقوله: لماذا تريدني أن أسمع الشريط وأقرأ الكتاب؟ تريدني أن أفعل ذلك لكي تزداد عليَّ الحجج، دعني أجهل ببعض الأمور، لكي لا تقوم عليَّ حجة معرفتها، فما رأيكم في هذا؟
الجواب
الإنسان إذا استطاع أن يعلم فتجنب العلم حتى لا تقوم عليه الحجة، فقد قامت عليه الحجة مضاعفةً، فسوف يكون محاسباً على اثنين: أولاً: لماذا لم تتعلم وقد أتيحت لك أسباب التعلم؟ ثم لماذا لم تعمل؟ بخلاف ما إذا تعلم حتى ولو لم يعمل مثلاً، فإنه لا يقال له لماذا لم تتعلم؟ لأنه قد تعلم، ولكن سيقال له لماذا لم تعمل؟ ثم لماذا يسيء الإنسان الظن بنفسه إلى هذا الحد، لماذا تعتقد أن العلم الذي تحصل عليه هو حجةٌ عليك؟ لماذا لا تفترض أن يكون هذا العلم حجة لك؟ وأنك قد تسمع كلمة ينفعك الله بها، وقد رأى بعض الطلاب أحد علماء السلف الكبار، وقد شاب شعره وهو يحمل المحبرة في يده، ويحمل الدفتر في اليد الأخرى، فقال له: إلى أين يرحمك الله؟ قال: إلى مجالس العلم، فقال له: ما مللت؟ قال: لا.
لعل الكلمة التي سوف أنتفع بها لم أسمعها بعد.
أيضاً: لماذا تفقد الثقة بهذه العلوم الشرعية، وتظن أنها لن تؤثر في قلبك، ينبغي أن يكون عندك إقبال على العلم وحرصٌ على معرفته، وأن تعلم أن العلم بحد ذاته عبادة، وسماعك لشريط، أو قراءتك لكتاب، أو حضورك لجلسة علمية هو أمرٌ تؤجر وتثاب عليه عند الله عز وجل، هذا فضلاً عما يتفرع منه من آثار، مثل أن تعمل بهذا العلم، أو تدعو إليه، أو ما أشبه ذلك فتؤجر على هذا كله.(147/26)
مبشرات
السؤال
يحتاج الحاضرون إلى مبشرات ترفع من معنوياتهم، إن رأيتم الإشارة إلى بعض هذه المبشرات؟
الجواب
على أية حال يكفي أنني قلت في آخر الحديث إجمالاً، أننا على يقين من ربنا عز وجل على أن هذا الواقع سيتغير، والذي أتوقعه أن تغير هذا الواقع ليس بالبعيد أيضاً، وربما خلال سنوات يشهد الناس تحولاً كبيراً وليس من المستبعد أن يخرب الغربيون بيوتهم بأيديهم، وأن يكون بينهم صراعٌ مستمرٌ مميت، كما هي الحال في كل حقب التاريخ، ويظهر المسلمون كقوة، وليس غريباً أيضاً أن تظهر قوى عديدة متنافسة في العالم، فيستطيع المسلمون أن يستفيدوا من هذا التناقض الذي يحدث، لأن المسلمين يملكون المصادر الطبيعية، والثروات، كما يملكون الطاقة البشرية والأسواق، ويملكون حتى في الجو، والبحار ميزات لا توجد لشعب من الشعوب، وقد تحدثت عن هذا في محاضرة أو في كتاب المستقبل للإسلام كما تحدثت عن المبشرات في درس عن (المستقبل للإسلام) .(147/27)
أحلام وأطماعٌ لن تتحقق
السؤال
ذكرت -عفا الله عنك- في درس سابق، أن اليهود لن يمتدوا أكثر مما هم عليه الآن، وأن مخططهم لن يستطيعوا تنفيذه كما يريدون، أرجو التوضيح؟
الجواب
في الواقع لا أقول إنهم لن يمتدوا إلى أكثر مما هم عليه الآن يقيناً وقطعاً وجزماً، لكنني أقول: إن المعركة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ستدور رحاها في المنطقة التي يتواجد فيها اليهود اليوم، ويحيط بهم المسلمون في الأردن وما حولها، فكونهم قد يمتدون وينكمشون بعد ذلك هذا احتمالٌ قائم، وكون المعركة التي وعد بها النبي صلى الله عليه وسلم ليست هي المعركة القريبة، هي معركة بعيدة مثلاً هذا أيضاً احتمال قائم، لكن المقصود على كل حال أن أحلام اليهود التوسعية في إقامة إسرائيل الكبرى، ومن ثم الهيمنة على العالم كله، يبدو أن هذه الأحلام لن تتحقق بإذن الله تعالى.(147/28)
يا شباب
في هذا الدرس ذكر لكثير من مشاكل الشباب، وأسباب حلها، ووسائل علاجها.
وفيه صرخات إلى الشباب الغارق في اللهو والغفلة، وتحذير من وسائل الإعلام الساقطة، كما أنه يحتوي على القصص الواقعية التي توحي بأن شباب الأمة الإسلامية في خطر إضافةً إلى قصص للتائبين، وقصيدة تخاطب الوجدان لعبد الرحمن العشماوي.(148/1)
ابتهال وتضرع
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوة: هذا هو الدرس الثاني والتسعون لهذه الليلة ليلة الإثنين السابع من شهر صفر من سنة (1414هـ) وعنوان هذا الدرس: يا شباب! إلهي كيف أدعوك وأنا أسير الذنوب رهين المعاصي، وكيف لا أدعوك وأنت رب العالمين! إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني وما لي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضلٍ ومنِّ إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعفُ عني أجن بزهرة الدنيا جنوناً وأفني العمر فيها بالتمني وبين يدي محتبسٌ ثقيلٌ كأني قد دعيت له كأني اللهم إنا نخاطبك بألسنٍ أثقلتها الأوزار، وندعوك بقلوبٍ سودتها الذنوب، فيا من لا يعاجل بالعقوبة! ويا من شيمته الصفح! أنزل علينا من بركاتك، وفيض جودك، ما تمن به علينا بالهداية، وترفعنا به عندك درجات يا أرحم الراحمين! {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:53-61] .(148/2)
الأسى والحزن
يا شباب! لقد بت الليالي والأيام الماضية حزيناً مهموماً، لأنني سأخاطبكم بكلامٍ أحتاجه أكثر مما تحتاجونه، فلعمر الله إني لأحوج إلى الوعظ منكم، ولكن المودة في قلبي جعلتني أتجرع هذا الحديث إليكم، ولسان حالي يقول: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليمُ تصف الدواء لذي السقام وذي الظنا كيما يصح به وأنت سقيمُ ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليمُ لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ يا شباب! إنها كلمات ألقيها عليكم من غير ترقيم ولا تبويب، ولكنها -إن شاء الله- حديث الروح إلى الروح، وهتاف القلب إلى القلب، وأؤمل ألا تكون ثقيلة على مسامعكم، بل هي بستان أخضر ننتقل منه كالطائر من غصن إلى غصن، ومن زهرة إلى زهرة، وتسرح طرفك وعيونك في هذه الخضرة الكافية، والماء الجاري، والمنظر البديع.
ولقد حاولت جهدي -أيها الأحبة- أن أقدم لكم شيئاً جديداً مفيداً في هذه الكلمات واللحظات، فاعذرني أخي الشاب! إذا كان أسلوبي لا يلائمك، أو كانت بعض المعلومات غير مهمة، أو حتى غير مقبولة بالنسبة لك، فإني لا أخاطبك أنت بالذات، وإنما أخاطب شريحة من الشباب.(148/3)
احتجاج أمريكي على الفساد الإعلامي
نحن ساخطون! ولن نتحمل المزيد، هذه عريضة جماعية إلى أعضاء مجلس إدارة شركات الإنتاج: إنتاج الأفلام، وتوزيع الأغاني.
تقول هذه العريضة: ساعدونا للحصول على مليون توقيع فقط على هذه العريضة، وعنوانها: نحن ساخطون ولن نتحمل المزيد.
نعم.
نحن مجموعة من الأمهات والآباء والأجداد المواطنين، ساخطون من الأفلام وبرامج التلفاز التي تظهر في الفيديو وضررها بالنسبة لأبنائنا وعائلاتنا وبلدنا.
نحن مرعوبون! حيث إن أكثر من مليون فتاة بين الأعمار: خمس عشرة، وتسع عشرة، تحمل سنوياً من سفاحٍ لا من نكاح! نحن مذهولون! حيث نعلم أن ثلثي الولادة التي تتم للبنات بين خمس عشرة، وتسع عشرة سنة، تتم خارج قانون الزواج! نحن متخوفون! من طريقة انتشار العنف والجريمة في كل مكان، التي أصبحت تهدد عائلاتنا وبيوتنا، فعار على المسئولين في هوليود، هذه السلسلة الطويلة من الأفلام المملوءة بالكلام البذيء والعري والجنس والعنف والقتل.
فمثلاً: هناك فلم أنتج مؤخراً، ظهرت فيه لقطة لعملية قتل خلال عملية جنسية، وبذلك يضربون مقياساً جديداً للانحراف، حتى على المستوى الرديء في الأفلام الموجودة اليوم.
عار على مخرجي برامج التلفاز، لسماحهم للطفل أن ينظر من خلال التلفاز إلى ما معدله مائة ألف لقطة عنف، وثلاثة وثلاثين ألف جريمة قتل، وذلك منذ بدأ يشاهد إلى أن بلغ السادسة عشرة من عمره فقط، مع علم أولئك المخرجين أن العنف الذي يظهر في التلفاز هو المسئول عن (22%) من جرائم الأطفال، وعن نصف حالات الانتحار في أمريكا.
عار على مخرجي الأفلام الذين توقفوا منذ زمن بعيد عن إظهار القيم المثلى لأكثر العائلات، لسماحهم بإلغاء تصنيف الأفلام إلى أشياء يشاهدوها الأطفال، وأشياء يمنعون من مشاهداتها.
نحن نقول: إن الثمن المأساوي الذي يدفعه أبناؤنا، وعائلاتنا، وبلدنا، يدعو إلى فعل شيء لوقف ما يحدث، ولكن لا نستطيع أن نوقفها لوحدنا، إنما نعتقد أننا السبب لكل هذا الجنس، والعنف، والقذارة، أن ذلك هو بسبب المخرجين والمغنين والممثلين.
نستطيع أن نتحكم بهم وكل ما في الأمر أن يأمرهم مجلس إدارة شركات الإنتاج بالتوقف عن هذه الأشياء، وهذه نحن جميعاً نستطيع أن نفعلها، ونطلب من كل قارئ لهذا الإعلان أن يساعدنا في نشره في كل أمريكا، وإرسال هذه العريضة كل شهرين بالتكرار، لكل عضوٍ من أعضاء مجلس إدارة شركات إنتاج الأفلام والأغاني مع عدد الموقعين عليها لكي يعلموا أن العائلات الأمريكية ساخطة.
أيها العاملون في صناعة الأفلام! وفروا على أنفسكم خطب التحذير من المرأة، ونحن لا نطالبكم بالاحتشام، كل ما نريده منكم أن تجعلوا شركات الأفلام، والتلفاز، وإنتاج الأغاني، تتصرف بمسئولية.
إن أطفالنا وعائلاتنا وبلادنا تتضرر بسكوتنا، الآن أرسل العريضة الموجودة بأسفل هذا الإعلان، ونرجو أن ترسل تبرعاً مخصوماً من ضرائبك لمساعدتنا في دفع تكاليف إعلان مماثل، ونحن نقوم بالباقي.
وهذا الإعلان ينشر في أمريكا.
إنه تعبير من الآباء، والأمهات، والأجداد، والجيل السابق، عن خطورة مثل تلك الأفلام، وأشرطة الأغاني الهابطة، على مستقبل الأولاد والبنات في أمريكا، وإنه شعور جماعي بالمسئولية، والواجب في محاسبة المسئولين عن تلك الشركات ومخاطبتهم بصورة جماعية، ودعوتهم إلى احترام القيم والمثل والأخلاق المتوارثة في ذلك المجتمع.
أفيكون أولئك القوم أدرى بضرر هذه الأشياء وخطرها، أكثر من أولئك المؤمنين المسلمين الفاهمين، القارئين للقرآن!(148/4)
اعرف نعمة الله عليك
أخي الشاب! هلاَّ شكرت نعمة الله عليك، لقد أنعم عليك بالصحة، وأنت تعلم من أصيب بالجلطة أو السرطان أو الإيدز.
هلاَّ شكرت نعمته عليك بشبابك، وأنت تعرف شيوخاً هرموا وشابوا، وسقطت حواجبهم على أعينهم من الكبر، وهم ممددون على فرشهم، ينتظرون الموت صباحاً أو مساءً وقد غسلوا أيديهم من الدنيا، بل قل: غسلت الدنيا أيديها منهم.
هلاَّ شكرت نعمته عليك بغناك، وأنت تعرف وربما ترى بعينك من يقلبون صناديق القمامة، يبحثون عن كسرة خبزٍٍ، أو لقمة عيش.(148/5)
استمع إلى الزهاد
شرب ابن عمر رضي الله عنه يوماً ماءً بارداً فبكى، واشتد بكاؤه، فقيل له: [[يرحمك الله ما يبكيك؟ قال: ذكرت قوله عز وجل: ((وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)) [سبأ:54] ((أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)) [الأعراف:50]] ] .
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: [[أين الذين أملوا بعيداً، وجمعوا كثيراً، وبنوا مشيداً، فأصبح أملهم غروراً، وجمعهم بوراً، وبيوتهم قبوراً]] .
قال أبو حنيفة رحمه الله: كفى حزناً أن لا حياة هنيئة، ولا عمل صالح يرضى به الله، قال الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] .
شرب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر كأساً من الماء البارد، وأكلوا من التمر، وقعدوا في الظل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: {ماءٌ بارد، وظلٌ ظليلٌ، ورطبٌ طيب، والله لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة} {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] .(148/6)
زهد جاهلي
قال ابن حذاق، وكان رجلاً جاهلياً، وشاعراً حكيماً فاهماً واعياً، مات أبوه وجده وقريبه وجاره، وماتت حليلته، فعرف أن الموت آت لا محالة، فقلّب طرفه، ثم أنشأ يقول: هلل للفتى من بنات الدهر من راقِ أم هل له من حسام الموت من واقِ قد رجلوني وما بالشعر من شعث وألبسوني ثياباً غير أخلاقي فصوَّر نفسه وقد مات، ثم بدأت تعبث فيه الأيدي: ورفعوني وقالوا: أيما رجلٍ وأدرجوني كأني طي مخراقِ وأرسلوا فتية من خيرهم حسباً ليسندوا في ضريح القبر أطباقي وقسموا المال وارفضت عوائدهم وقال قائلهم: مات ابن حذاق هون عليك ولا تولع بإشفاق فإنما ما لنا للوارث الباقي(148/7)
صرخة إلى الشباب
أخي أيها الشاب! هل أنت ممن يسهر الليل على الهاتف؟ يعاكس هذه، ويسخر من تلك، ويتبادل ألفاظ الحب والغرام مع كل فتاة تطاوعه، أو تسكت له! أما خشيت دعوة من إنسان صالح أزعجته في هدأة الليل، أو أيقظته من هجعة الفراش، أو أفسدت عليه بنته، أو خربت عليه ولده وفلذة كبده! أما استحييت من الملك القاعد عن يمينك أو عن شمالك، لا يغادرك في يقظة، ولا يفارقك في منام؟ {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17-18] .
{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} * {كِرَاماً كَاتِبِينَ} * {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12] .(148/8)
احذروا التقليد والأغاني
يا شباب! لماذا يستطيع شباب الصين، واليابان، أن يتعلموا ويبتكروا ويخترعوا ويصنعوا، ويحققوا التقدم لبلادهم وهم وثنيون أو بوذيون أو لا دينيون، أو شيوعيون، ويبقى شباب الإسلام لا يحسنون إلا التقليد، حتى في قصات الشعر، وموضات الأزياء، وطرق الغواية، لا يحسنون إلا التقليد، لما يشاهدونه في الأفلام والإعلام؟! يا شباب! لماذا يفلح شباب الصرب في إقامة صربيا الكبرى، ويفعلون الأفاعيل، وينتصرون؟! ويعجز شباب المسلمين حتى عن متابعة ما يجري لإخوانهم، أو إرسال دعوة صادقة، أو تبرع سريع إليهم يكون عوناً لهم! يا شباب! شريط الغناء الذي تسمعه، عربياً كان أو أجنبياً، وقد رأيت من إخوانك من يستمع أشرطة غناء أجنبية هندية، أو إنجليزية، وهو لا يجيد لغتهم، وإنما حب التقليد، أو التعلق بمغنٍ معين، أو مغنيةٍ معينة.
مَن هؤلاء المغنون؟ أتدري ما هي سيرهم الذاتية؟ ما هي حياتهم الخاصة؟ ما هي أوضاعهم الشخصية؟ ما نوع علاقاتهم التي يديرونها؟ سوف أنبئك طرفاً من أخبارهم بعد قليل.
ماذا قدم هؤلاء لبلدهم؟ بل ماذا قدموا لأنفسهم؟ ماذا قدموا لأسرهم؟ ماذا قدموا لزوجاتهم أو أطفالهم؟ إن معظم الأغاني التي تحفظها وترددها تدور حول الحب والغرام، ولا شيء آخر بعد ذلك.
أتغضب مني لو قلت لك: إن بعض إخواننا، وأحبائنا من الشباب، جل ثقافتهم هي عبارة عن مقاطع من أغانٍ، يرددونها بعد ما سمعوها في شريط التسجيل، أو عبر الأثير؟! في مكان ما يخلطون الأغاني مع مجموعة أو كلمات ملتقطة من محاضرات، أو مقاطع من خطب إسلامية، فتسمع صوت الموسيقى والغناء، ثم تسمع بعد ذلك صوت الواعظ أو الخطيب، فأي سخريةٍ هذه! أغانٍ أجنبية فاجرة توجد عند الشباب، وبعضها أغاني عندي مكتوبةٌ على ورق، من قبل بعض الإخوة الشباب، وهي أغانٍ تتحدث عن لحظة الجنس الحيوانية البهيمية، وتطالب بالإباحية، وتتحدث عن المجتمع، والأخلاق، والقيم، وضرورة الثورة عليها وتحديها، وهي أغانٍ تتمرد على الفضيلة والعفاف ولا تتعدى ما بين السرة والركبة، وكلماتها ساقطةٌ بذيئةٌ تختصر الحياة كلها في خلوةٍ فاجرةٍ، والدنيا كلها في مضجع أو مخدعٍ، يفوح منه رائحة الحشيش والأفيون، وتختصر قوة الإنسان كلها وطاقاته في قدرته الجنسية فحسب!! إنها دعوة صارخة إلى البغاء والفساد للشباب والفتيات، ما هذا الشيء الذي تحويه -مثلاً- أغاني الراقصة الأمريكية المعروفة مادونا، والتي تباع في كل مكان بدون استثناء، وقد منعتها الصين الشيوعية من الزيارة، أتدري لماذا؟ لأنها تقوم بحركات خليعة وإباحية، مرفوضة في المجتمع الصيني، وإباحية، وكلماتها بذيئة، أما في بلاد الإسلام الحبيبة فإن أشرطتها تباع.(148/9)
إلى من كان له قلب
يا راكبين عتاق الخيل ضامرةً كأنها في مجال السبق عقبانُ وساكنين القصور البيض في دعةٍ لهم بأوطانهم عز وسلطان أعندكم خبرٌ من أهل بوسنة فقد جرى بحديث القوم ركبانُ تبكي الحنيفية البيضاء من أسفٍ كما بكى لفراق الإلف هيمان ُ حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصلبانُ حتى المآذن تبكي وهي جامدةٌ حتى المنابر ترثي وهي عيدانُ كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسانُ فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهمُ من ثياب الذل ألوانُ ولو رأيت بكاهم عند قتلهمُ لَهَاَلكَ الأمر واستهوتك أحزانُ رُبَّ أمٍ وطفلٍ حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدانُ وطفلةٍ مثل حسن الشمس قد برزت كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ يقودها الصرب للمكروه مرغمةً والعين باكيةٌ والقلب حيرانُ لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ(148/10)
أيها الشاب أمتك كلها جراح
أيطيب لك -أيها الأخ الشاب- أن تعيش في حياة لاهية، وأنت تسمع الحقائق التالية: نشرت صحيفة بريطانية اسمها "اند بندنت" أن محامياً كرواتياً يحتفظ بوثائق خطيرة عن تعذيب المسلمين في يوغسلافيا السابقة، وفي إحدى هذه الوثائق، أنه تم تجميع حوالي أربعة آلاف مسلم في ورش عمل، وتم قتل تسعين منهم، ليس بواسطة الرصاص، بل بواسطة وضع رقابهم تحت المناشير الكهربائية، التي تقطع بها الأخشاب السميكة، ثم ووروا تحت التراب! أتدري من هؤلاء؟ إنهم من أهل لا إله إلا الله، إخوانك الذين يستغيثون بك ويستصرخون.
وهناك آخرون قتلوا عن طريق صب محلول الأسيد على رءوسهم، وتحتوي هذه الوثائق على أساليب بشعة لقتل ما يزيد على عشرين ألف ضحية من المسلمين، وتدمير ما يزيد على مائة وسبعين قرية بالكامل، وهدم مئات المساجد والمدارس والمؤسسات!! مثلٌ آخر: بلغ عدد المسلمات المغتصبات الحوامل من الزنا بالقهر والإكراه، من قبل جنود الصرب، ما يقارب ستين ألف فتاة مسلمة، منهن مجموعة كبيرة ما بين سن السادسة عشرة إلى سن الثلاثين، وقد أنجبت بعض هؤلاء المسلمات أطفالاً سمينهم أطفال العار!! أتسبى المسلمات بكل ثغر وعيش المسلمين إذاً يطيبُ أما لله والإسلام حقُ يدافع عنه شبانٌ وشيبُ فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكمُ أجيبوا سبع مسلمات هجم عليهن جنود الصرب فلذن بالفرار، فحاصروهن إلى النهر، وأمسكوا باثنتين منهن لفعل الفاحشة، أما الخمس الباقيات فقد آثرن الموت غرقاً، وألقين بأنفسهن في وسط المياه، وابتلعهن الماء، وكان هذا أهون عليهن، وأرحم بهن من أن يقبضهن جنود الصرب، فيتبادلونهن ويتعاقبون عليهن في الليلة الواحدة مرات، لا لشيء إلا لأن الواحدة منهن مسلمة، تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله! أفيطيب لك عيش هنيء، حتى بالحلال فضلاً عن الحرام، وأنت ترى وتسمع ما تعانيه أخواتك المسلمات هنا أو هناك؟! صحيفة اسمها التايمز اللندنية تذكر مآسي مفزعة عن الاغتصاب، هذه أحدها: مسلمة في الثلاثين من عمرها، اسمها صفا، خرجت من محنة الاغتصاب بعدما تعاقب عليها جنود الصرب الكفرة بوحشية بالغة وقسوة لا حدود لها، لكنها خرجت من هذه المحنة إلى محنة أعظم منها وأطم، حيث تحمل بين أحشائها جنيناً تكرهه كل الكره، لأنه جاء سفاحاً من أعدائها الكفرة، الذين دنسوا شرفها وانتهكوا عرضها.
يقول المراسل: عندما تشعر صفا بحركة الطفل، الذي لم يولد بعد، وهو في رحمها، وهو يحرك أطرافه في بطنها، تعود إليها الذكريات المريرة، التي كابدتها في محنةٍ استمرت معها طيلة خمسة أشهر في سجون الصرب، تلاحقها الذكريات وتطاردها بلا رحمة، هذا الجنين تقول: ليس جزءاً مني، إنه أشبه بحجرٍ أحمله داخل جسمي، وبمجرد أن ألده يجب أن يأخذه الأطباء، لا أطيق رؤيته لحظةً واحدةً من نهار، هكذا تقول المسلمة صفا.
تشير آخر إحصائية وصلت إلىَّ اليوم من أجهزة الأمن في البوسنة أن سكان البوسنة عام (1991م) ، كانوا أربعة ملايين وأربعمائة ألف تقريباً، أما اليوم فبسبب القتل والإجلاء لم يبق منهم داخل بلادهم إلا حوالي مليون وستة آلاف إنسان فقط، أما البقية فهم ما بين قتيل وفار بدينه إلى هذا البلد أو ذاك.
قامت القوات الصربية بقصف مستشفى للمتخلفين عقلياً، يقطنه عشرات من الأطفال ذكوراً وإناثاً، ممن ليس لديهم عقول ولا تفكير ولا قدرة على أن يتصرفوا، إنما يقوم عليهم أطباء وحاضنات ومشرفون، ولما قصف ذلك المستشفى هرب الأطباء، وهرب المشرفون، وبقي هؤلاء الأطفال الصغار الأبرياء، يقلبون أعينهم ويديرون رءوسهم، ويخرجون إلى الشوارع عراة، ويأكلون التراب، ولا يملكون أن يصنعوا شيئاً، والعالم كله يشاهد ذلك ويتفرج عليه!! أتدري من هؤلاء؟! إنهم إخوانك المسلمون، وأولاد إخوانك المسلمين!(148/11)
إياك والغفلة
هل أنت ممن يسهر الليل على مشاهدة المسلسلات والأفلام، التي هي في الغالب مدارس لتعليم الانحلال، وغرس الرذيلة، وقتل الحياة، وتدمير العفاف؟ ألم يخطر في بالك يوماً ما إذ بليت بهذا، أن تشاهد على الأقل المآسي المفجعة التي يعيشها إخوانك المسلمون في البوسنة والهرسك، أو فلسطين، أو الصومال، أو في أي مكان آخر من الأرض؟! أم تراك ممن يسمع صرير (كفراتهم) وأصوات سياراتهم على بعد بضع كيلو مترات، وهم يستعرضون ويعتقدون أن هذه هي الفتوة والقوة، وهي المجال المناسب لكسب إعجاب الكثير وتصفيقهم أو ضحكاتهم، وربما صلى الناس الفجر وهم ساهرون سادرون، فلم يجيبوا داعي الله: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح.
هل هان الله تعالى في عينك إلى هذا الحد؟!! يا من أغراه قرناء السوء بتعاطي الدخان أولاً، ثم الخمر بعد ذلك، ثم المخدرات! إن باب التوبة مفتوح، فسارع قبل الفوات، قبل أن يختم لك بخاتمة السوء، فإن الطريق الذي تسلكه طريق النار، قال صلى الله عليه وسلم: {وحفت النار بالشهوات} .
لا أشرب الخمر والنيران تعقبها لا خير في لذةٍ من بعدها النارُ(148/12)
أيها الغافلون اعتبروا
قيل لـ إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟! قال: [[لأنكم عرفتم الله تعالى فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وعرفتم نعم الله تعالى فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه وتعادوه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم فلم تعتبروا بذلك، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس، فبهذه الأشياء العشرة ماتت قلوبكم، فلا ينفع فيها وعظٌ ولا تذكير!!]] قال مالك بن دينار: أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر وأين المدل بسلطانه وأين العزيز إذا ما افتخر تفانوا جميعاً فلا مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما ترى معتبر أيها الغافلون عن الموت اعتبروا! قال صلى الله عليه وسلم: {أكثروا من ذكر هاذم اللذات} أي: الموت، فكل لذة في الدنيا إلى انقطاع، ولو طالت فالموت غايتها، إلا لذة العبادة، والطاعة والتقوى والدعوة والجهاد والبر والقرب من الله تعالى، فهي لذات باقيات إلى يوم المعاد.
كم من فتاة مثل ليلى وفتى كـ ابن الملوح أنفقا الساعات في الشاطئ تشكو وهو يشرح كلما حدث أصغت وإذا قالت ترنح فإذا الموت ينقض سريعاً كالعقاب ولقد قلت لنفسي وأنا بين المقابر هل رأيت الأمن والراحة إلا في الحفائر فأشارت فإذا للدود عيث في المحاجر واختفى الحزن رهيناً بين أطباق الترابِ انظري كيف تساوى الكل في هذا المكان وتلاشى في بقايا العبد رب الصولجان والتقى العاشق والقالي فما يفترقان أدركوا أن اللذاذات سرابٌ في سراب أيها القبر تكلم أخبرينا يا رمام من هو الميت من عامٍ ومن مليون عام من هو الميت من عام ومن خمسين عام كلهم ينظر وعداً صادقاً يوم الحسابِ(148/13)
احذروا رسائل الغرام
يا شباب! إن كلمات الحب والغرام التي يوزعها الإنسان بالمجان، مرة عن طريق رسالة بالبريد، لفتاةٍ تعرف عليها عن طريق الإذاعة، أو الجريدة أو المجلة، ومرة أخرى عبر الهاتف، ومرة ثالثة يغامر ويلقيها على فتاة يبصرها في الشارع أو السوق أو الحديقة، أو خارجةً من بيتها أو مدرستها، هذه الكلمات قد ترضي رغبتها، أو توافق هواها، لولا أن فيها عيوباً ثلاثة: العيب الأول: أنها قلق في الدنيا، فإن حصلت على ما تريد فأنت تقلق للشعور بالخطيئة، وإن لم تحصل على ما تريد تقلق بسبب فوات شيء كنت ترغبه وتتمناه.
العيب الثاني: عذاب في القبر، وعذاب في الدار الآخرة، قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وقال: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4] .
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الرجل يدخل الجنة بكلمة، أو يدخل النار بكلمة} افترض أنك تكلم فتاة، وأنها تسجل عليك ما تقول، وأنها تريد فضيحتك، ونشر صوتك وهو معروف؛ لغرض أو لآخر، كم كان يزعجك أن ينشر خبرك بين الناس، وأن يتسامع القاصي والداني بأن فلاناً يغازل أو يعاكس أو يتكلم بالفحش والسوء! أفلا تخاف أن ينشر هذا الخزي؟! وهو مسجل يقيناً من قبل الملك: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] وربما نشر عارك أو خزيك بين الأشهاد يوم القيامة: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] .
ومن الممكن أن تكون هذه الكلمات وقوداً تعذب بها في جهنم وبئس المصير.
العيب الثالث: أنها تدمر مخزون الحب الحقيقي في قلبك الذي وزعته بالمجان على كل أحد، فكلمة: أحبك، أو كلمة: الغرام، أو كلمة: أنا ساهر أتقلب في فراشي، أو كلمة: صورتك في مخيلتي لا تفارقني، أو كلمة: أنا لا أهنأ بعيش ولا طعام ولا شراب، فهذه الكلمات التي تقولها صادقاً أحياناً وكاذباً أحياناً أخرى، إنها تدمر مخزونك من الحب الحقيقي، فإذا احتجته لتحب زوجتك التي أحل الله لك لم تجدْ، أو أن تحب ولدك لن تجد ذلك، وأصبح التعبير عن مشاعر الحب أثقل عليك من جبل أحد.(148/14)
صور من حياة التائبين(148/15)
توبة آدم بن عبد العزيز
وكان آدم بن عبد العزيز خليعاً منهمكاً في الشراب، ثم تنسك بعد وتاب، فأقبل على قومه ومعهم خمر، فلما رأوه رفعوا الخمر تكريماً له، وسألوه هل قلت فيها شيئاً بعد أن غادرتها، وتبت منها؟ قال: نعم ألا هل فتىً عن شربها اليوم صابرُ ليجزيه يوماً ما بذلك قادرُ شربت فلما قيل ليس بنافعٍ نزعت وثوبي من أذى اللوم طاهرُ أحضره المهدي الخليفة وضربة ثلاثمائة سوط، حيث اتهم بأنه زنديق، يبطن ما لا يظهر، فأصر على إيمانه وقال: والله الذي لا إله غيره ما أشركت بالله تعالى طرفة عين، ولكني كنت شاباً من قريش أشرب الخمر، وأقول المجون، ثم تاب الله علي، وبدلت سيئاتي حسنات.
تتجافى جنوبهم عن وطيئ المضاجع كلهم بين خائفٍ مستجيرٍ وطامع تركوا لذة الكرى للعيون الهواجع لو تراهم إذا همُ خطروا بالأصابعُ وإذا هم تعوذوا عند مر القوارع وإذا باشروا الثرى بالخدود الضوارع واستهلت عيونهم فائضات المدامع(148/16)
توبة الوراق
كان محمود الوراق لا هياً عابثاً ماجناً، يتردد على الحانات، ثم أذن الله له بالتوبة، فزهد وتنسك، وتاب إلى ربه وأخلص، وكان يبكي كلما تذكر الموت، وأحس بوهن القوى.
بكيت لقرب الأجل وبعد فوات الأمل وواكف شيب طرى بعيد شباب رحل شبابٌ كأن لم يكن وشيبٌ كأن لم يزل طواك بشير البقاء وجاء نذير الأجل وكان ينظر إلى العصاة فيحزن، ويخاطبهم ويعاتبهم، فيقول: يا ناظراً يرنو بعيني راقدِ ومشاهداً للأمر غير مشاهدِ تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان بها وفوز العابدِ ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ(148/17)
تحذير من الشذوذ
يا شباب! لقد عاقب الله تعالى قرى سدوم، وأمر الملك أن يرفعها إلى السماء، ثم يقلبها على أهلها: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82-83] .
إنها العقوبة الربانية التي تنتظر كل الشاذين والمنحرفين عن سواء السبيل، وكل المعاندين للفطرة والخارجين عن قانونها، والمخالفين لشريعة الله تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:165-166] .
وها نحن نرى بوادر التفكك والانهيار الاقتصادي والسياسي والعسكري في أمريكا، حيث انتشر فيها الشذوذ الجنسي وعقد لهم مؤتمر حضره أكثر من مليون، وكان قيصرهم الجديد ينادي بإباحة الشذوذ، وإدخال الشاذين في الجيش ولكنه تراجع عن ذلك، واكتفى بمجرد رد الاعتبار لهم.
إنها آيةٌ على انهيار تلك الامبراطورية القيصرية الباغية الطاغية، وكل مجتمع انتشرت فيه هذه الفاحشة والرذيلة الموبوءة فإن ذلك ينذر بانهياره وفساده.(148/18)
مرض أخطر من الإيدز
أما المرض الجديد والذي يعتبر الإيدز بالنسبة له موضة قديمة كما يقال، فهو مرض يسمى اليوم: مرض الحب، نعم.
مرض الحب، هكذا سماه الأطباء الذين اكتشفوه! إنه أشد افتراساً وأعظم وطأة من الإيدز.
يقول أحد الأطباء: إن الإيدز مقارنة بهذا المرض الجديد يبدو كما لو كان مجرد جولة في أحد المنتزهات العامة، لا تضر شيئاً! بعد ستة أشهر من استلام الجسم لهذا الفيروس العجيب -لمرض الحب- يمتلئ جسم المريض بأكمله بالبثور والقروح والجروح، ولا يبقى فيه رقعة، مهما كانت صغيرة إلا وفيها قروح وتقيحات، ويستمر المريض في النزيف إلى أن يموت أو هو يئن تحن وطأة آلام مبرحة، لا طاقة له بها ولا قبل.
إنها عقوبة الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وإذا تغلل هذا الجرثوم في جسم الإنسان فإن العلوم الطبية كلها تقف عاجزةً تماماً بإزائه، ومما يجعله خطيراً أكثر أنه يختفي ويكمن في الجسم طويلاً -ستة أشهر- وهذه تعتبر فترة حضانة لهذا الجرثوم، ثم أتدري متى ينقض؟ ومتى يغرس أنيابه في الجسد؟ ومتى يظهر قوته؟ ومتى يصرع ضحيته؟ فلاحظ حكمة الحكيم العليم، وانتقامه جل وعلا.
إن هذا الجرثوم لا يظهر ويقوى، إلا في لحظة التهيج الجنسي فإذا تهيج الجسم عند ممارسة الرذيلة والحرام، تهب الحياة في هذا الفيروس المختفي في الحضانة، ثم ينقض على الجسم، فهذه ناحية.
الناحية الأخرى: إذا كان مرض الإيدز ينتشر بسبب الممارسة الجنسية الخاطئة، أو الشذوذ الجنسي كاللواط، أو نحوه، فإن هذا المرض الجديد لا يحتاج إلى كل ذلك.
إن مجرد قبلة أو احتضان حرام، أو حتى تشبيك الأيدي، يمكن أن يؤدي إلى ثوران الهرمونات الجنسية، التي تنشط فيروس الحب، فينقض على فريسته.
نعم! بالأمس عاقب الله تعالى الذين يمارسون الشذوذ أو المعصية، واليوم يعاقب ربنا جل وعلا حتى أولئك الذين يهمون بالممارسة، أو يبدءون الخطوة الأولى بقبلة أو ضمة أو احتضان، أو حتى ما هو أقل من ذلك.
وعلى رغم حداثة هذا الاكتشاف، فقد استضافه ما يزيد على أحد عشر قطراً في العالم، أي: أن هذا المرض انتشر في أكثر من عشر دول في العالم، وضحاياه اليوم بالعشرات، والمتوقع أن ينتقل بسرعة هائلة إلى أماكن كثيرة.
إنها عقوبات الله تعالى تنتظر المصرين على المعصية، قال الله عز وجل: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:39-40] .
نعم! يتحدى الأطباء، ومراكز العلم، وأماكن الاختبار، وكل وسائل التطبيب والعلاج على رغم تقدمها يتحداها: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:39-40] .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، الذين مضوا من قبلهم} .
فلقد أعلن أولئك بالفواحش، وعن بيوت الدعارة وأماكن الرذيلة، وسموها أماكن ممارسة الحب، وفرضوا عليها الضرائب، وجعلوا لها وقايات طبية وصحية، وإشرافاً، ولكن ما ينفعهم هذا وقد نزل بهم عقاب الله تعالى.
أيها الأخ الكريم: أتدري أنني قرأت تقريراً سرياً عن بلد ما أن ضحايا الإيدز فيه يزيدون على خمسمائة ضحية؟! ومع الأسف أنه بلد من البلدان العربية الإسلامية.
أتدري أن كثيراً من أولئك الضحايا لا يظهر عددهم، ولا يتحدث عنهم لغرض أو لآخر؟! وأن هذا المرض لا يجامل أحداً قط أبداً، بل ينتشر بين العربي وغيره، والمسلم والكافر، وكل أحد يتعرض لأسبابه فإنه قد يقع ضحيته.(148/19)
الإيدز يحصد الشباب في أمريكا
يا شباب! جريدة الحياة بتأريخ: 23/7 تقول: توقعت دراسة نشرها مركز مراقبة الأمراض في اطلنطا في ولاية جورجيا الأمريكية، أن ثلاثمائة وثلاثين ألف أمريكي سيموتون بالإيدز في نهاية عام (95م) أي: بعد أقل من سنتين! ورأى المركز أنه من الآن وإلى ذلك العام، سيكون عدد الأمريكيين الذين تم تشخيصهم بأنهم حاملون لفيروس الإيدز أكثر من نصف مليون إنسان.
وفي جريدة اليوم في (27/12عام 1413هـ) أظهرت دراسة اتحادية أن مرض الإيدز أصبح الآن أكبر سبب للموت بين الشباب في خمس ولايات من الولايات الأمريكية، وفي عشرات المدن هناك، وكان هو السبب الثاني للوفاة في ثمان ولايات أخرى.
وقالت الدراسة: إن الإيدز أصبح هو السبب الرئيسي للوفاة بين الشباب في أربع وتسعين مدينة أمريكية، ووصلت نسبة الوفيات بين الشباب نتيجة لهذا المرض الجنسي الخطير إلى (61%) .
يا شباب! عندما ظهر الإيدز -وهو مرض فقدان المناعة الذي هو أخطر الأمراض على الإطلاق، ومصابه ميت لا محالة بحسب المقاييس البشرية- عندما ظهر صار الناس يترحمون على زمان الزهري والسيلان.
إنه مرض محير للأطباء، لم يكتشفوا له أي علاج، اللهم إلا بعض العقاقير التي تخفف شيئاً من المعاناة القاسية، ومن شراسة هذا الوباء، وتقلل من سرعة استشرائه في البدن.(148/20)
قصص فيها عبرة
يا شباب! رحلة الكفر والخروج النهائي من الدين تبدأ بخطوة بسيطة في نظري أو نظرك.
1- سافر للمعصية، وشرب الخمر، وثقلت عليه الصلاة، فصار يؤخرها، ثم يجمعها، ثم يتركها أحياناً ويصليها أحياناً وهو جنب، أو يصليها في غير وقتها، وأخيراً رأى أن لا فائدة من صلاة كهذه، فغادر الصلاة إلى غير رجعة وكان مصيره أن يُلقى جثةً ميتة في دورة مياه في إحدى المستشفيات! 2- مجاملةً لصديقته الكافرة علّق الصليب على عنقه، وكان صليباً من ذهب إنه يريد أن يثبت لها فعلاً أنه متحضر ومرن وفاهم وغير معقد، حتى يحصل منها على ما يريد! 3- استطاعت المجندة المنصرة -وقد قرأت بعيني رسائلها إليه، وكلمات الحب والغرام التي بعثت بها عبر البريد- أن تغير عقله ودينه، وعاهدته على الحب والزواج، ووشم كل واحد منهما اسمه على الآخر، ووافقها على اعتناق النصرانية، وذهب معها إلى كنيسة من كنائس قومها الأرمن، وهو من أهل هذه الجزيرة، ولكن الله تعالى يهدي من يشاء، وإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
4- أقل ما يخاطب به حبيبته أنتِ معشوقتي! أنتِ معبودتي! أموت من أجلك! 5- علق تمثال بوذا على رقبته، وأصبح يحلف به معظماً له، كما يحلف المؤمن بالله العظيم جلّ وتبارك وتعالى! 6- فهي فتاة ذهبت إلى كندا هاربةً، طالبةً الإقامة والجنسية هناك، لأنها تعتبر أن تدين المجتمع في بلد كهذا البلد يحرمها من تحصيل شهواتها.
إن رحلة الكفر والخروج المطلق من الدين تبدأ ربما بخطوة صغيرة، تبدأ بحجزٍ في فندق، أو تذكرةٍ في طائرة، أو في رحلةٍ ليست بعيدة، أو حتى ربما جلسة مع قرناء يتحدثون عن أفكار ومغامرات ومؤامرات وأحاديث وأخبار.(148/21)
إليك يا صديق القلب
عزيزي يا صديق القلب عندي سؤال لو تجيبون السؤال أخير أن أموت وفوق ظهري ذنوب لا أطيق لها احتمال لواطٌ أو زنا أو أغنيات أزلن الخير من قلبي فزال وعند القبر لا أدري مكاني إلى الجنات أم ألقى النكالا يقول السائلان: أكنت تلقي لذكر الموت والنيران بالا أضعت شبابك الغالي هباءً وملت مع المضيع حيث مالا ولم تنفعك موعظةٌ ينادي بها من تاب في زمن توالى وأبصرت الشباب اللاء ماتوا ولبوا هادم اللذات حالا ولما يبلغوا العشرين أو قد أتموها فجادتهم خيال وغرك أن ترى بشراً كثيراً من الفساق يبغون الضلالا وأنك إن تمت ستموت معهم وأنك لست أسوأهم فِعالا عصيت الله جهراً بافتخارٍ لتضرب في شجاعتك المثال عصيت الله جهراً لست تدري بأن الله جبار تعالى وألقيت الزمام لكل وغد خبيث القلب لا يسوى نعالا وخادعت الصغير بكل مكر تعال فلست أطلب منك مال فأجريت الدموع بهتك عرض يعز عليه حقاً أن يزال ودنست الشريف فليت شعري أما تخشى بإخوتك الوبال تذكَّر أمه لا بل أباهُ وقد تعبا لياليه الطوال تنادي أمه رباه ابني مطيع لي فبلغه المنال ووالده يرجِّي طول عمر لينظره وقد سامى الرجال فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ لمثلك هل ستنجو أنت لا لا ستلقى الله بعد الموت فاصبر وتلقى عنده الأمر العضال وتعلم عندها يا خل حقاً أجرماً كان فعلك أم حلالا(148/22)
فتنة الشاب الأمرد
يا شباب! التمتع بالنظر إلى الشاب الأمرد الجميل، واستحسان صورته؛ هذه خطوة.
محاولة افتعال أي مشاكسة أو معاكسة أو مزاح سخيف مع هذا الشاب؛ خطوة أخرى.
التخطيط للفاحشة الاتصال بالهاتف إركابه بالسيارة تعليمه القيادة ترغيبه بالمال توريطه بالمخدرات تهديده بالفضيحة كل هذه الأشياء خطوات في طريق يؤدي إلى الفاحشة وإلى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] .
تنتكس الفطرة ويفسد القلب وتصعب التوبة ويغضب الرب جل وعلا ويأذن بالعقاب وتحكم الشريعة بقتل هذا وذاك، جزاءً وفاقاً: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] .
كم هو محزن أن تمر بالشوارع التي يتجمع فيها الشباب، أو تمر بشواطئ البحار، أو في أسواق أو غيرها، فترى شاباً صغير السن وربما وسيماً حسن الصورة، متزيناً بأحسن ما يستطيع مسرحاً لشعره معتنياً بهندامه، وإذا بجواره آخر يكبره بسنوات، ربما عشراً! هل تظن أن الناس مغفلون أو أنهم لا يعرفون؟! إنهم يعرفون كل شيء، لكن دع الناس واتركهم، فما لك ولهم، ألا تخاف الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم ما توسوس به نفسك، وهو أقرب إليك من حبل الوريد!! ألا تخاف على أخيك الأصغر أن يقع فيما أوقعت فيه أولاد الناس؟ ألا تخاف على ابن أخيك؟ أو ابن أختك أو حتى ولدك؟! فأنت اليوم أو غداً متزوج ومنجب، ألا تخشى العار والنار؟! عزيزي أيها الشاب! هل تعتقد أن مكانك الطبيعي هو الأرصفة أو التفحيط؟! أو الأحياء ذات الأضواء الخافتة؟! أو صالونات الحلاقة؟! أو المطاعم التي تستقبل أعداد الشباب كل وقت؟! أو أماكن تعاطي الدخان أو الشيشة؟! هل تعتقد أن هذه أماكن طبيعية يجب أن تقضي وقتك فيها؟! كلا.(148/23)
وصايا نبوية
عن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، قال: {أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات:}(148/24)
خطورة شرب الخمر
رابعاً: {ولا تشربن خمراً فإنه رأس كل فاحشة} قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً فإن تاب تاب الله عليه، فإن شربها لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن شربها لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن شرب لم تقبل له صلاة، وكان حقاً على الله تعالى أن يسقيه من طينة الخبال، وإن تاب لم يتب الله تعالى عليه} وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل شارب الخمر في المرة الرابعة.
فإياك والخمر فإنها مفتاح كل إثم، فلا تشربها عند طبيب، ولا مجاملة، ولا في فندق، ولا لسبب، وإياك إياك أن تشربها في بيتك فتؤذي زوجتك، وتعود أطفالك، وتجر إلى بيتك العار، والنار وبئس القرار.
خامساً: قال صلى الله عليه وسلم: {وإياك والفرار من الزحف، وإن هلك الناس إلى آخر الحديث} .(148/25)
التحذير من الشرك
الأولى: {لا تشرك بالله شيئاً، وإن قتلت أو حرقت} .
إياك أن تستحسن دين النصارى أو المشركين، أو تستثقل الإسلام، أو تعجب بهؤلاء القوم الذين وجوههم وجوه أهل النار، بل عليك أن تجعل بينك وبينهم حاجزاً يفصلك عنهم، ويباعدك عن سيرتهم.(148/26)
وجوب طاعة الوالدين
ثانياً: {ولا تعصين والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك} .
وكم من فتى فرط في حق والده أو أمه: {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17] .
فهما لم يأمراه بمعصية، ولا جاهداه على أن يشرك بالله ما ليس له به علم، بل ولا أمراه أن يخرج من أهله وماله، وإنما أمراه بطاعة الله تعالى، فقالا له: لا تذهب إلى هذا المكان، وإياك وجلساء السوء، أو لا تسهر في الليل.
يا أخي الشاب! إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن بمعصية الوالدين حتى في الجهاد فما بالك بالفساد!(148/27)
خطورة ترك الصلاة
ثالثاً: {ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً} .
فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برأت منه ذمة الله تعالى: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] .
إن التباطؤ عن الصلاة هو من أسباب تركها، فالرجل قد تدركه الصلاة وهو على غير طهارة فيؤجلها، أو يفوتها فتكثر عليه، ثم يعجز عنها، وأخيراً يتركها في سمر، أو سهر، أو لهو، أو لعب، وربما تركها بعض الشباب في مدرجات الكرة لمشاهدة مباراة، أو وهو مسمر على شاشة التلفاز أو الفيديو، وربما صلى المسلمون وسلموا وذكروا الله تعالى، وصرير (الكفرات) يسمع عند الفجر!(148/28)
باب الزواج مفتوح
يا شباب! باب الزواج مفتوح، فابحث عن بنت الحلال، واسمع هتاف أمك الكبيرة التي تريد أن ترى أطفالك قبل أن تموت.
أبني إني قد غدوت عليلة لم يبق لي جلد على الأحزان فأذق فؤادي فرحة بالبحث عن بنت الحلال ودعك من عصياني كانت لها أمنيةً ريانةً يا حسنَ آمالٍ لها وأماني فعجل -أخي الشاب- بتحقيق أمنية أمك قبل أن تموت وفي قلبها حسرة، ولوعة ولهفة وعتاب! أفتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! إن الذي يفعله المتزوج مع فتاته وحليلته أضعاف أضعاف لذة الزاني مع فاجرته، وهذا يتزوج فيضع عقود الكهرباء في الشارع، ويطبع البطاقات، ويهنئه الناس في كل مكان، وذاك يتستر ويستخفي من كل أحد! إنه يعرف أنه يرتكب إثماً وحوباً كبيراً، ولكنه إن استخفى من الناس لا يمكن أن يستخفي من الله عز وجل: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود:5] حتى وأنت في فراشك، وفي مخدعك، حتى وأنت ملتف بثوبك إنه يعلم ما يسرون وما يعلنون.
يا شباب! إن كان لا بد من السفر فليكن إلى مباح، وإن كان لا بد من الرفقة فليكونوا أهل خير وصلاح وفلاح، وإياك أن تضيع قرشاً أو ريالاً جمعته بسبيل أو بآخر؛ في حضن فاجرةٍ تأخذ مالك وتعطيك بدلاً منه الإيدز والسيلان والزهري والقروح، أو تهديك مرضاً جديداً اسمه (مرض الحب) ويا قبح ذلك المرض! يا شباب! ربما تعلمون من المفاسد والمنكرات ما لا نعلم، وربما تدركون من طرق الغواية ما لا يدركه غيركم، وربما تعرفون من أسباب الانحراف في مجتمعنا ما لا يعرفه الغافلون، فلماذا لا تكفرون عن بعض تلك الذنوب بمواصلة أهل الدعوة والصلاح والإصلاح، ومراسلتهم ومحادثتهم، وبيان تلك المخاطر لهم! وكشف المنكرات التي لا يعرفون، فهذا مسلسل فاسد يجب أن يتحدث عنه، وهذا شريط ماجن يجب أن يفضح، وهذا بيت مشبوه! وهذا حي يكثر رواده المغرضون! وهذا إنسان تدور حوله الشبهات! وهذه الأشياء ربما تعرفها، أو تسمعها من زملائك أو جلسائك، فلماذا لا تقوم بإنكار المنكر، لعل الله تعالى أن يرحمك، أو يكفر بعض ذنوبك بأمر قمت به بمعروف، أو نهي قمت به عن منكر.(148/29)
أحسنوا الظن بالله
يا شباب! أحسنوا الظن بالله تعالى، ومن أحسن الظن بالله تعالى أحسن العمل، إن حسن الظن من حسن العمل، وأكثروا الاستغفار، فإن في سنن الترمذي، وأبي داود، بسند فيه ضعف، عن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما أصر من استغفر، ولو عاد في اليوم سبعين مرة} وفيهما أيضاً من حديث أبي بكر رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبد يذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر ويصلي، ويستغفر الله تعالى، إلا غفر الله له، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] } {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] ولا تقنطوا من رحمة الله، فإنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.(148/30)
مع موكب التائبين
يا شباب! موكب التائبين إلى الله يضم كل يوم عدداً جديداً، التحقوا به من الشاردين ممثلون بارزون وفنانات ومغنيات وضحايا مخدرات، عادوا إلى الله تعالى بعد الشهرة والتجربة، وبعدما عرفوا الطريق، وخبروه وسبروه فرجعوا منه بخفي حنين، وعرفوا أن الطريق الحق طريق الله تعالى، ففي كل يوم راكب وضيف جديد، على طريق الإيمان والعبادة، والتقوى، فعجل قبل أن يفوتك القطار، واعلم أن راحة الإيمان لا تعدلها راحة، ولذة العبادة لا تماثلها لذة، وإذا كان العبد قد يجد حباً في لحظة من اللحظات فإن أعظم الحب حب الله جل وعلا.
هذا أحد التائبين يخاطب ربه بعد ضياع وضلال: وكان فؤادي خالياً قبل حبكم وكان بذكر الخلق يلهو ويمرحُ فلما دعا قلبي هواك أجابه فلست أراه عن فنائك يبرحُ فهذا هو الحب الحقيقي، محبة الله تعالى، ومحبة دينه وأوليائه الصالحين، وجنده المفلحين.
أصبت ببينٍ منك إن كنت كاذباً وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرحُ وما كل شيء في البلاد بأسرها إذا غبت عن عيني بعيني يملحُ فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل فلست أرى قلبي بغيرك يصلحُ إن القلب لا يصلح إلا بالله وتعالى، فإذا أقبل على الله تعالى اجتمع، وانضم بعضه إلى بعض، ووجد نفسه، وسلمت فطرته، أما إذا ابتعد فإنه يتفرق في أودية الدنيا فيهلك فيها، ويصبح قلبه مثل الرجل الذي أخبر الله تعالى عنه: {فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر:29] .(148/31)
التدين ليس ملكاً للملتزمين
يا شباب! التدين ليس ملكاً للملتزمين، ولا حقاً خاصاً للمشايخ، ولا ميراثاً للآباء والأجداد، ولا شيئاً خاصاً بالمجتمع، ولا وقفاً على القضاة، ولا هو من شأن هيئات رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أخطأ عليك شخص من هؤلاء، أو ظننت أنه لا يمثل الدين، فلا يكن هذا سبباً في أن تبتعد عن الدين أو تجافيه، وتقول: هؤلاء أهله.
بل أنت من أهل الدين، وأنت من المخاطبين بالقرآن، ومن المدعوين إليه، وأنت من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن الذين أمروا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، فكن أنت المثل الحق الحي لهذا التدين الذي هو للجميع، لا يحتكره أحد عن أحد.
فالناس لا يملكون إلا أنفسهم، ولا يمثلون إلا أنفسهم، والدين دين الله عز وجل، فإذا وجدت -أيها الشاب- جفوة من رجل تعتبره أنه محسوب على المتدينين، فلا تقل: هؤلاء هم المتدينون، إذاً فلا حاجة إلى تدينٍ هذا شأن أهله! بل عليك أن تكون أنت نموذجاً حياً للتدين والإيمان والخلق الفاضل، والسلوك النبيل.
أخيراً: هذه بعض الكتيبات والأشرطة التي أنصحكم باقتنائها، لتكون مكملة لهذا الموضوع: أولاً: خطبة الجمعة في الأسبوع الماضي في المسجد الحرام، وعنوانها "فلسطين القضية والحل" لصاحب الفضيلة الشيخ/ صالح بن عبد الله بن حميد، وهي خطبة قوية مؤثرة.
ثانياً: "رسالة خاصة"، وهي عبارة عن كلمة في رمضان، ألقاها محدثكم في مسجد المحيسني، وهي توزع في شريط خاص.
ثالثاً: "شريط الإيمان والحياة" للشيخ/ علي عبد الخالق القرني.
رابعاً: "رسالة إلى مسافر" للشيخ/ محمد المختار الشنقيطي.
أما الكتب فهناك كتاب "إضاءات على طريق الشباب" للأستاذ/ يوسف بن عبد الله اللاحم، وهناك كتاب "رسالة إلى الشاب" للأخ/ عادل العبد العالي، وهناك كتابٌ جيد مفيد خاصة في علاج ما يتعلق بالشهوة اسمه "العفة ومنهج الاستعفاف".(148/32)
الأسئلة(148/33)
قصيدة شعرية للعشماوي
هذه قصيدة للشاعر عبد الرحمن العشماوي نشرت في المجتمع عدد (1650) بعنوان "رسالة شعرية مفتوحة إلى كل الذين يحرقون ثياب الصحوة الإسلامية، وهم يشعرون أو لا يشعرون: ما لكم أعطيتم الظلم المجالا وشددتم للخلافات الرحال ما لكم أسرجتم الغدر حصاناً قاتم الغر يقتاد الوبال ما لكم ألقمتم الرعب الضحايا وارتجلتم نغم الحكم ارتجالا أتريدون من الناس نكوصاً عن كتاب الله فسقاً وضلالا ما لكم أوقفتم النار وقلتم الأصوليون زادوها اشتعالا إنما أشعلها الظلم ولكن ما تزالون تثيرون الجدالا كلما قام على المنبر داعٍ يرشد الناس إلى الله تعالى صاح منكم صائح هذا خطير أوثقوا الشيخ وزيدوه نكالا ما لكم صيرتم الدين تكايا وزوايا وادعاءً وانتحالا ديننا دنيا وأخرى ضل عقلٌ يفهم الدين عن الدنيا انعزالا أيها الواهم قد جاوزت حداً حينما أكثرت في الحق الجدالا كيف تستصفي من الناس خليلاً حينما تضرب بالسوط الرجالا كيف ترجو عندما تلطم وجهاً أن ترى من صاحب الوجه امتثالا عندما تقتل حرية جيلٍ فستلقى منه في الأمر اختلالا من يلاقي النار بالنار يزدها لهباً إطفاؤه يغدو محالا أعطني حباً وخذ مني وفاءً أعطني عدلاً وخذ مني اعتدالا ما عهدنا أن نرى في الليل شمساً أو نرى في وهج القيظ هلالا ما عهدنا أن نرى في الشرق غربا أو نرى في راحة اليمنى شمالا ربما يحمد في الأرض مقالٌ ذكره في غيرها يغدو خبالا آه منا لم نزل نلبس زيداً ثوب عمرو ونرى القرد غزالا لم نزل نضرب بعضاً وكأنا ما سمعنا رجع آهات الثكالى وكأنا ما نرى الأقصى أسيراً يشرب الحسرة قهراً واحتلالا وكأنا ما نرى عرض الصبايا قد غدا في منطق الصرب حلالا وكأنا ما نرى كشمير تبكي أو نرى طاجاكستان قتالا ما لقومي كلما حطوا رحالاً في سراديب الهوى شدوا رحالا أغلقوا بوابة المجد وناموا عند باب الذل يبلون الرمالا وكأنا ما ملأنا الأرض عدلاً وانتشلناها من الظلم انتشالا وكأنا ما سمعنا في حراءٍ قارئا يتلو ولم نسمع بلالا ما لقومي استمرءوا الذل وصاروا لعبة الباغي الذي صالَ وجالا أيها الراضع من ثدي الدعاوى إنما ترضع وهماً واحتيالا عد إلى الروض فإن الغيث يهمي في روابيها ويكسوها جمالا قل لمن يصغيه جاهٌ ونعيمٌ إن طغيان الفتى يعني الزوالا لا تسلني عن مدى حزني فإني لا أرى في خاطري منه جبالا أخيال ما أرى من حال قومي في زمان ليته كان خيالا يا سؤالاً لم يزل يحرق قلبي ليتني لم أسمع اليوم السؤالا(148/34)
الفترة الحرجة في مرحلة الشباب
السؤال
ألا تعتقد أن سن البلوغ هي الفترة الحرجة لسن الشباب، بأن يفرغ فيه طاقته، وعلاجه هو الزواج المبكر؟
الجواب
في الواقع أن الشباب ينتقل من سن إلى أخرى، فمرحلة الصبا والطفولة المتأخرة، هي مرحلة حرجة، لأنها مرحلة انتقال، ثم مرحلة المراهقة فيها حرجة أيضاً، وما بعدها هو حرج، حتى يتجاوز الإنسان الأربعين، وربما إذا تجاوز الأربعين يكون قد اكتسب عادات، وأخلاقاً وطرائق وأموراً، وألف أشياءً من الصعب أن تُعدل أو تُزول.
ولهذا ينبغي لأولئك الإخوة الذين يقعون في المعاصي، ويقولون: إذا كبرنا تبنا؛ أن يراجعوا أنفسهم، فإن المعصية مثل الشجرة، هي اليوم صغيرة تستطيع أن تقلعها، لكن كل يوم يمر عليها تكبر، ويتضخم جذعها، وتضرب جذورها في التربة، ويصبح اقتلاعها أمراً صعباً، عسيراً عليك، وأنت أيضاً كلما كبرت ضعفت قوتك، ووهنت قواك، وأصبحت أكثر عجزاً، فعليك أن تبادر إلى قلع المعصية اليوم قبل الغد.(148/35)
احذر هذه الأفلام
السؤال
أنا شاب متزوج، ولكني أشاهد الفيديو والأفلام العربية، على أنني ملتزم وأحافظ على الصلاة!
الجواب
عليك أن تكف عن ذلك، فإن هذه الأفلام شرٌ كلها، لا تبني خلقاً، ولا علماً ولا ثقافةً، ولا معرفة دنيوية أو دينية، ولا ترشد إلى طريقة الحياة الزوجية السعيدة، ولا إلى طريقة العمل السعيد، كل ما في الأمر أنها تدرب الإنسان على أن يكون إنساناً ممثلاً، أقواله تمثيل لا حقيقة لها، وأفعاله تمثيل، وأفكاره خيالات وأحلام، وأشياء بعيدة عن الواقع، إنها لا تصنع الإنسان الواقعي الإنسان العملي الإيجابي المثمر، الذي إما أن يعمل لدنيا أو لدين، جاد في عمله، وفي دنياه، وجاد في علاقاته، إنما تصنع إنساناً وهمياً خيالياً، ولذلك فهي مدمرة، وأستطيع أن أقول بوضوح، ومن خلال دراسات وتقريرات موجودة عندي: إن الأفلام العربية أكثر تدميراً للإنسان من الأفلام الأجنبية في كثير من الأحيان.(148/36)
الشكر وأركانه
السؤال
أرجو التنبيه إلى أن الشكر يكون بالعمل لقول الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ:13] حيث إن كثيراً من الشباب حين تقول لهم: اذكروا الله يقولون بألسنتهم: الحمد لله والشكر؟
الجواب
الشكر يكون بالقول وباللسان، وكذلك الشكر بالعمل وبالقلب، ولا بد أن تتواضع هذه الأشياء القلب واللسان والعمل: أفادتكم النعماء مني ثلاثةً يدي ولساني والضمير المحجبا قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] .(148/37)
حكم النظر إلى المردان
السؤال يقول: شاب محافظ على دينه، ولكنه مع الأسف ابتلي بتقليب نظره في المردان، أرجو توضيح العلاج النافع في هذه البلوى، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
نعم إنها بلوى وأي بلوى فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر إن هذا النظر يورث في قلبك حزناً طويلاً، فأنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً، على الأقل أنت ملجمٌ بلجام الشريعة، ثم بعد ذلك لا تستطيع، حتى لو أردت معصية الله، أن تحصل على كل ما تريد، فيكون في ذلك حسرة في قلبك لا تنتهي أبداً، ويكون الإنسان إذا مرَّ من عنده شخص، حسن الصورة ذكر أو أنثى، فلم ينظر إليه أو لم يمعن النظر، ويطيله فيه؛ فإنه يعتقد أنه خسر بذلك شيئاً، وأنه فاته شيء كثير، لأنه لم ينظر إلى فلان! وكأن هذا الأمر أصبح حقاً مباحاً متاحاً له! وحينئذٍ تصبح العين تتحرك بصورة آلية، لا تحتاج إلى تفكير، ولا يجاهد الإنسان نفسه ولا يقاومها، ولا يستعيذ من الشيطان، بل كل ما في الأمر متى يتاح له أن ينظر إلى صورة حسنة جميلة صورة أمرد صورة امرأة، وهذا النظر يترتب عليه استحسان، وهذا الاستحسان يترتب عليه التمني، ويترتب عليه اشتياق ورغبة ولهفة، تتطور حتى تكون حباً، وربما تكون عشقاً، وربما يؤدي الأمر إلى ارتكاب الفاحشة، كما سبق وأن أسلفت، وعلى كل حال فمسألة العشق، وعشق المردان، هي إحدى المسائل التي سوف أعرض لها إن شاء الله الأسبوع القادم.(148/38)
نصيحة لشاب ترك الالتزام
السؤال
شاب عفيف كنت أسير معه في طريق الاستقامة، ثم تركه، وأعرض عنه، وأعرض عني، فما نصيحتك لي وله، وقد يكون من بين الحاضرين؟
الجواب
أما نصيحتي له فهي أن يعود أدراجه إلى حيث كان، ويعود إلى الطريق الذي كان فيه، ومكانه ينتظره ليعود إليه، وهناك مصعد عمل في السماء، وموضع عمل في الأرض لهذا الإنسان، يجب أن يعود إليه، حتى يبكي عليه موضع عمله في الأرض، ومصعد عمله في السماء، إذا مات هذا الإنسان، قال الله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:29] على هذا الإنسان أن يعود إلى الله تعالى، قبل أن يختم له بخاتمة سوء، فإن العبد لا يدري متى يهجم عليه الموت، والله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها.
أما نصيحتي لك أن تصادقه بإحسان، وترفق به اجلس معه تحدث إليه لا تكثر من تذكيره بالماضي يا فلان أنت كنت كذا وكنت كذا وعدت هذا الأسلوب المباشر ربما يؤذيه أو يجرحه أو يضايقه، وبالتالي يبتعد عنك، ولا يحب أن يراك، ولا أن يسمع منك هذا التقريع والتوبيخ تسلل إليه برفق هو يعرف كما تعرف، وعاش كما عشت، وجلس كما جلست، وصلى معك، وربما حضر حلقة، أو درساً، أو محاضرة، أو قرأ كتاباً، أو اشترك في مركز، أو غير ذلك.
إذاً: هو يعرف كما تعرف أو أكثر، إنما يحتاج إلى من يخاطب قلبه بكلمات مؤثرة هادئة، ولو على المدى الطويل، فعليك ألا تسلمه للشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تعينوا الشيطان على أخيكم} بل قف إلى جانبه في هذه المحنة والأزمة، وكن له صديقاً، وخلاً وفياً، وحاول أن تساعده في أموره الدينية والدنيوية، وفي حل مشكلاته ليبوح إليك بما في نفسه، وربما اكتشفت السبب فسارعت إلى علاجه.(148/39)
أساليب جماعة التبليغ
السؤال
بعض أفراد جماعة التبليغ يستخدمون أساليب في جذب الناس إلى جماعتهم، والخروج معهم، ما قولكم في ذلك؟
الجواب
على الداعية أن يستخدم الأساليب الشرعية المباحة في الدعوة، فيحرص على دعوة الناس بالخلق الفاضل، والسلوك الحسن، ويصبر عليهم، فهذا لا بد منه، ومعاجلة بعض الشباب ورفع الأصوات، والسخط والتلون، التي يفعلها البعض، هي من أسباب النفور ومباعدتهم عن الخير وأهله فمهاداة هؤلاء القوم، وتأليف قلوب الشباب الشاردين لا بد منها، ولا شك أن للإخوة في جماعة التبليغ أساليب مؤثرة في هذا المجال، ولا بأس أن يستفاد منها.
أما استخدام أساليب أخرى غير شرعية كأسلوب الكذب، كأن يكذب في حديث، أو حتى يكذب في الرؤيا، فإذا رأى شخصاً منحرفاً قال: رأيتك البارحة في المنام، وأنت خرجت من الظلمة إلى النور، وإذا قيل له لماذا كذبت؟ قال: حتى يهديه الله تعالى! يا أخي! الله تعالى غني عن هذا الكذب، وغني عن هذا الإنسان، والدعوة لا تكون بالحرام، بل يجب عليك أن تكون صادقاً واضحاً، وتبتعد عن مثل هذه الأساليب الملتوية، وإذا أراد الله تعالى بهذا الإنسان هداية فسوف يهديه، وإذا أراد له ضلالاً فمن يهديه من بعد الله، فلا داعي أن تحبط عملك بمثل هذه الأكاذيب.
كما أن على الإخوة جميعاً من جماعة التبليغ وغيرهم، أن يحرصوا على طلب العلم النافع وتحري الأساليب الشرعية، والحرص على مواصلة إخوانهم من الدعاة، وتبادل الخبرات معهم، يستفيد هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء.(148/40)
فيقوا يا شباب الصحوة
السؤال
اتقوا الله، ثم اتقوا الله يا شباب الصحوة! انتشرت الدشوش في القرى عندنا في القصيم، فيوجد عندنا الكثير والكثير وفي بيت واحد ثلاثة دشوش، والوعاظ نقوم الأشهر بعد الأشهر لا يأتي إلينا أحد منهم، لماذا؟ أما تستحون؟ أما تخجلون؟ فإن لم تفعلوا فاعلموا أن من صفات النفاق كثرة السماع وقلة العمل، فوالله يوجد خلق بالمئات هجروا الصلاة، وكثيراً من أمور الدين، أين أنتم يا حفظة القرآن؟! أين أنتم يا حفظة السنة؟! أين أنتم يا طلبة العلم؟! أين أنتم يا شباب الصحوة؟! بل هو الخمول والتكاسل! هذه الكلمة لأحد الإخوة.
الجواب
جزاك الله خيراً على هذا الشعور الحي والكلمات والسياط المؤثرة، وأرجو أن أسمعها أنا، ويسمعها إخواني من المقصرين، ليكون ذلك عوناً لهم على أن ينفضوا عنهم غبار النوم والكسل، وينطلقوا إلى الدعوة إلى الله تعالى.(148/41)
مشاركة هادفة
السؤال
سمعت من فضيلة الشيخ/ محمد المختار الشنقيطي أنه يقول: إن أحد الشباب -ويعرفه- من أهل التقى والصلاح وقيام الليل وقراءة القرآن, قد سافر إلى إحدى البلاد الغربية، وكان يغض بصره عما حرم الله، ولكن الشيطان قد أغراه فأطلق بصره نظرةً واحدة، فيقول للشيخ: والله إني لم أجد لذة قراءة القرآن منذ تلك النظرة! وقد ذكر ذلك في شريط "وصية إلى مسافر".
الجواب
نعم نظر نظرة فحرم بها لذة العبادة سنة.(148/42)
التأثر المؤقت
السؤال
كثير من الشباب، وكاتب هذا السؤال واحد منهم، حينما يسمع لمثل هذه المحاضرة يتحمس لها، ويحاول الالتزام، ولكن عند الخروج من المحاضرة كأن شيئاً لم يكن؟
الجواب
المواعظ سياط تلهب الظهر وتوجعه، ولكن إذا هدأت السياط ذهب الألم، فعلى الإنسان أن يتعرض للمواعظ باستمرار، وعليه أن يعمل على أن يكون الواعظ في قلبه، فالقرآن واعظ، فعليه أن يديم النظر في القرآن، والموت واعظ، فمن لم يعظه القرآن، والموت فلا حيلة فيه، فعليك بزيارة القبور لترى الموت، وأنت غداً واحد منهم، وعليك بزيارة المستشفيات لترى المرضى بألوان الأمراض والآفات، وأنت سليم معافى، وربما تكون غداً من بينهم، وعليك أن تقرأ القرآن لتعلم ماضيك، وحاضرك، ومستقبلك، ودنياك، وآخرتك.(148/43)
الحل الأمثل لمكافحة انحراف الشباب
السؤال
ما هو الحل الأمثل لمكافحة الشباب الذين يقفون في الطرق لأغراض مشينة، علماً أنهم قد يكون آباؤهم وإخوتهم الكبار ملتزمين؟
الجواب
هناك حلول كثيرة، منها: مناصحتهم مباشرة وبصورة فردية، ودعوتهم إلى أن يبتعدوا عن ذلك، وإلى أنهم مراقبون ومعروفون.
ومنها مخاطبة أهاليهم وآبائهم وإخوانهم وأقاربهم، ليضغطوا عليهم بالكف عن ذلك.
ومنها: أن يقوم إمام المسجد، والمؤذن، وطالب العلم في الحي؛ ويشكلوا لجنة تشرف على الحي، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتدعو هؤلاء إلى الله، وتحذرهم مرة وأخرى، وثالثة، فإذا لم يستجيبوا رفعت بهم إلى الجهات المختصة، وتلتفت إلى هؤلاء الشباب الصغار، فتبين لهم مخاطر صحبة أولئك، وكيف يمكن أن يجروهم، فتقوم بعملية التوعية، وتقوم بعملية الحماية للمجتمع والحي من جهة أخرى.(148/44)
شاب عرف طريق الاستقامة
السؤال
لقد كنت من مدمني معاكسة الهاتف، ولقد أدى بي ذلك إلى ارتكاب بعض المعاصي، وبعد سماعي لبعض الأشرطة الخاصة، فتح الله على قلبي وعنوان الشريط هو "أهوال القبر" أرجو الدعاء لي ولإخواني الشباب بالهداية والسير على طريق الله تعالى؟
الجواب
أسأل الله تعالى أن يثبتك على الهداية، وأن يهدي قلبك وقلوب إخوانك من الشباب، وأن يجعلكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، بل أسأله تعالى أن تكون من الدعاة إليه على بصيرة، وأن تكفر تاريخك الماضي بالدعوة إليه، ونشر الخير في أوساط أولاد جنسك.(148/45)
حكم من يتوب ثم يرجع إلى المعصية ثم يتوب وهكذا
السؤال
ما حكم من يفعل معصية، ثم يندم ويتوب، ثم يفعلها مرة أخرى، ثم يتوب، وهكذا، وما هو الحل والعلاج؟
الجواب
عليه أن يبادر بالتوبة مرة أخرى، فإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، حتى لو تكررت منه المعصية وتكررت منه التوبة، فإن الشيطان يأتيه أحياناً ويقول له: لا داعي للتوبة لأنك سوف تنقضها، كلا.
بل عليه أن يتوب، حتى لو وقع في المعصية مرة أخرى، وأن يسارع إلى التوبة، ويستغفر الله تعالى، لئلا يكون مصراً على المعصية، كما قال الله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وكذلك عليه أن يستغفر الله عز وجل فيقول: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" أو يقول: "ربِ إني ظلمت نفسي فاغفر لي"، أو ما أشبه ذلك من أدعية الاستغفار، والبراءة إلى الله عز وجل والتنصل من ذنبك وعيبك ومعصيتك، فإن الله تعالى قريب مجيب، وهو غفور رحيم، خاصة لمن أقلع، وتاب، وأناب إليه.
وعليك أن تبحث عن السبب الذي يجعلك تقلع ثم تعود، وتقلع ثم تعود، فإن هناك سبباً ولا بد يدعوك إلى ذلك، قد يكون السبب العادة، فقد يكون هذا الأمر أصبح إدماناً بالنسبة لك، فعليك أن تتعلم العادات الحسنة، ليكن من عادتك التبكير إلى المسجد، وسماع الأشرطة، وقراءة القرآن، وصلة الرحم، وحضور جلسات الذكر، واجعل عاداتك كلها عادات حسنة.
فالعادات مثل الأشجار التي يغرسها الإنسان في التربة، فتساهم في عدم انتقالها إلى مكان آخر، فتثبت وتبقى حيث هي، فتعلم العادات الحسنة، وحاول أن تتخلص من العادات السيئة.
وقد يكون من أسباب ذلك قرناء السوء، فحاول أن تستبدل بهم القرناء صالحين، وتتخلص من قرناء السوء شيئاً فشيئاً، بل أن تدعوهم إلى الله تبارك وتعالى، وتجرهم إلى الخير والصلاح، وتأتي ببعض الصالحين لدعوتهم ونصحهم.
وقد يكون من الأسباب أنك تعاني مشكلة في البيت مع زوجتك مثلاً، أو أبيك، أو قريبك، فحاول أن تحل هذه المشكلة، فإذا عجزت فحاول أن تبوح بها لبعض من تثق بعقله وعلمه ونصحه وخبرته، حتى يدلك على سبيل حلها وعلاجها.
وبالمناسبة فإن درس الأسبوع القادم سوف يكون عنوانه "حور مع الشباب" وسوف أخصصه لمجموعة كبيرة من المشكلات التي وصلت إليَّ منذ زمن بعيد، وإذا وصل إليَّ شيء خلال هذا الأسبوع سوف أضيفه، ويكون عنوانه كما أسلفت "حور مع الشباب".(148/46)
انتشار الموضة
السؤال
هذه رسالة من أحد الإخوة يقول فيها: ملاحظتان شاهدتهما بعيني بعد عصر يوم الخميس الفائت، في شارع الخبيب في بريدة، أرجو التعليق عليهما، وتوضيح كيفية تعامل الشباب في هذه الحالة.
الملاحظة الأولى: لقد شاهدت مجموعة من شباب منطقة شرق آسيا، والظاهر أنهم من النصارى، وهم يلاحقون مجموعة من الممرضات اللواتي خرجن للتسوق، وهن أيضاً من نفس المنطقة، وهذه ظاهرة جديدة هنا تستدعي الوقوف عندها ومناقشتها، وإلا زادت وانتشرت وأصبحنا نراها كل يوم كما هو الحال في مناطق أخرى في هذه البلاد.
التعليق: نعم! وهذا يوجب أن نقوم جميعاً بالمسئولية في هذا الباب، وألا يقتصر الواجب على جهاز رسمي خاص، فهو يقوم ببعض الواجب ويعجز عن بعض، فمسئولية إنكار المنكر والوقوف دونه مسئوليتنا جميعاً.
الملاحظة الثانية: انتشار موضة لبس الثياب القصيرة، والقصيرة جداً، للبنات الصغار، فقد شاهدت ثلاث بنات صغار وهن يلبسن الثياب القصيرة جداً، إلى ما فوق منتصف الفخذ، وعندما توجهت إلى أبيهن لأنصحه، إذا هو يبادرني بقوله: ما في مشكلة أنا هندو، يعني: هندوسي كافر، وكأن حال لسانه يقول: لكم دينكم ولي دين! فتذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أترك فيها إلا مسلماً} وتذكرت أيضاً كيف أن إخوة لنا مسلمين يتمنون استخدام زوجاتهم ليحصنوا بها أنفسهم، ولكن هيهات! التعليق: على كل حال مسألة موضة انتشار الثياب القصيرة، والقصيرة جداً، أيضاً ينبغي أن نعالجها، سواء فيما يتعلق بالأسر المسلمة، أو ما يتعلق بالأجانب أيضاً، إذ يجب أن يلتزموا بأنظمة البلد وقوانينه المرعية، كما يلتزم أي إنسان يأتي إلى بلادهم بأنظمتهم، أما ما يتعلق بالهندوس وأوضاعهم وأحوالهم، فلا شك أن عندي وثائق كثيرة تتجدد يوماً بعد يوم، عن أوضاعهم في الجزيرة العربية وغيرها، وقد سبق أن وعدت أن أخصص درساً لهم، أسأل الله تعالى أن يكون ذلك غير بعيد.(148/47)
حكم تزويج الشباب المنحرفين
السؤال
تقدم شاب لخطبة أختي وهو لا يصلي الفجر، ويتبادل الأفلام الهابطة مع أصحابه، ومشترك في محلات الفيديو، وأبي يرغبه لأنه قريبه فما العمل؟
الجواب
لا شك أن من كمال الأمانة أن يحرص الأب ألا يضع ابنته إلا عند الرجل الذي يطمئن إلى صلاحه وتقواه، فإنها أمانة في عنقه، ينبغي ألا ينتقل بها إلا إلى البيت الذي يطمئن أنها سوف تربى فيه على طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخاصة عندما تكون فتاة مؤمنة ملتزمة، فإن كثيراً من هؤلاء تعيش في بيت منحرف، فتضيق بذلك ذرعاً، فيأتي الأولاد فتشعر أن أباهم يؤثر فيهم أبلغ تأثير، ويسمع الزوج الغناء، فتضطر إلى السماع مثله، ويشاهد التلفاز والمسلسلات، فتشاهدها معه مضطرة، بل وربما تأثرت المرأة بخلق زوجها وسلوكه، فضاع كثير مما كانت تدعو إليه من قبل، وتعتز به، وإلى الله تعالى المشتكى، وهو وحده المستعان!(148/48)
كيف نربي أنفسنا؟
خلق الله تعالى الإنسان قابلاً للخير والشر، وخلقه مفطوراً على الفطرة السليمة المستقيمة، وجعل الله تعالى وسائل الخير أكبر من وسائل الشر، من إرسال الرسل وإنزال الكتب وغيرها، فلا بد على الإنسان أن يسعى إلى تزكية نفسه وتهذيبها بكل ما يستطيع، فكيف يزكي الإنسان نفسه؟ هذا ما تكلم عنه الشيخ حفظه الله، فقد ذكر أموراً يزكي بها الإنسان نفسه، منها: النية الصالحة، وطلب العلم النافع، والعمل بالعلم.
ثم تكلم الشيخ سليمان العطيس وذكر أهمية التزكية، ثم ذكر خطر الشيطان الرجيم، وبين السبل التي يسلكها الشيطان ضد الإنسان المسلم بشيء من التفصيل.(149/1)
خلق الله الإنسان قابلاً للخير والشر
قال الشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] , {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19] .
أيها الإخوة، إن كثيراً من الناس -وخاصة في هذه الأزمنة- يتذمرون من كثرة الوسائل والأسباب والعوامل التي تدفع الناس إلى الشر والفساد والرذيلة والانحلال, ويقولون: إن هذا الزمان هو زمن الفتن والانحرافات, ويعللون جميع ما يرون من مظاهر الشر بهذا التعليل, ولو سألت أحداً منهم، فقلت له: ما هي عوامل الشر التي طرأت في هذا العصر؟ لبدأ يعدد عليك مما يعرف, أو يسمع من هذه الوسائل, وينسى هؤلاء القوم -في مجال تبرير ما يرون من الفساد- ينسون أن الله تبارك وتعالى، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، خلقه قابلاً للخير والشر, قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] , وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] وقال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:1-10] .
والله سبحانه الذي خلق الإنسان بهذه الطبيعة، لم يخلقه ملكاً مجبولاً على فعل الخير, ولا شيطاناً وجهته فعل الشر، إنما خلقه إنساناً قابلاً للهداية وقابلاً للضلال, لم يترك هذا الإنسان سدى, يبحث عن الحق بنفسه, بل أوجد من الوسائل ما يعين هذا الإنسان ويرشده ويبين له الطريق.(149/2)
الإنسان مخلوق على الفطرة السليمة
فأولاً: خلق هذا الإنسان على الفطرة السليمة المستقيمة, كما في حديث أبي هريرة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مولود يولد إلا على الفطرة, حتى يبين عنه لسانه, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه} إذاً: الإنسان خلق أولاً على الفطرة, وعلى الخير , ثم إن الله عز وجل جعل لهذا الإنسان من الآيات والدلائل، ما يرشده إلى الله تبارك وتعالى, وإلى الحق؛ الآيات في النفس والآيات في الكون وفي كل شيء، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:21-23] .
وهذه الآيات المبثوثة في النفس الإنسانية وفي الكون, لا يتأملها إنسان إلا آمن بالله عز وجل، حتى إن المشرك أو الكافر الذي لم يبلغه دين سماوي ولم يعلم ببعثة الرسل، إذا تأمل في هذه الآيات آمن بوجود خالق مبدع حكيم سبحانه, فضلاً عن المسلم الذي علم ببعثة الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام, ومع أن الإنسان خلق على الفطرة, وبث الله حوله من الآيات ما يدل عليه, ومع هذا وذاك فإن الله عز وجل بعث الرسل مبشرين ومنذرين, ليقيموا الحجة على الناس, ومع هؤلاء الرسل من الوسائل التي تساعد الإنسان على الهداية الشيء الكثير.
معهم أنهم يدعوننا إلى الله الذي خلقنا ورزقنا, وهو الذي نرجع إليه في نهاية أمرنا, ومعهم أنهم يذكروننا بوجود الموت الذي لابد أن يلاقينا طال الزمن أم قصر, وأنهم يخبروننا بالجنة والنار، وما يتبعهما من جزاء وحساب وعقاب وثواب وغير ذلك, وهذه الأشياء هي وسائل قوية جداً في دعوة الإنسان إلى الخير, أقوى بكثير من وسائل الشر المبثوثة بين الناس اليوم, لو عمل الناس على تفهم هذه الأشياء ونشرها وإلقاء أسماعهم لها.(149/3)
وسائل الخير أكثر من الشر
إن وسائل الخير أكثر بكثير من وسائل الشر, وإن كان الله عز وجل ابتلى هذا الإنسان بخلق إبليس وجنوده وأتباعهم من شياطين الإنس, الذين ينشرون الشر والرذيلة، ويدعون إلى الفساد والانحلال.(149/4)
تزكية الإنسان لنفسه
ولذلك فإن الإنسان بحكم هذه الطبيعة القابلة للخير والشر, بحاجة إلى أن يبدأ بتزكية نفسه أولاً, بحاجة إلى أن يعلم أن الرسل كلهم -من أولهم إلى آخرهم- من لدن نوح عليه الصلاة السلام، إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنهم ما بعثوا إلا لدعوة الناس لتزكية النفوس قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} [البقرة:151] , {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129] .
إذاً الرسل بعثوا للتزكية ,بعثوا لتقوية عوامل الخير في نفسك أيها الإنسان, {روى ابن عباس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما بعث كان الناس يقولون عنه: "كاهن ساحر مجنون" فقدم رجل من العرب يقال له: ضماد، من قبيلة يقال لها: قبيلة أزد شنوءة, ودخل هذا الرجل مكة، فسمع الناس يقولون: محمد ساحر شاعر مجنون, وكان يتطبب ويستعمل الرقية، فيرقي من به جنون أو سحر أو غير ذلك, فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد، إني سمعت ما يقول الناس فيك, وإنني رجل أرقي, فهل لك؟ -أي: يعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرقيه, يقول لعل الله أن يشفيه على يدي- فلما فرغ من كلامه، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الحمد لله" وقرأ خطبة الحاجة التي تفتح بها الخطب والكلمات والمناسبات وهي التي قرأتها في بداية هذه الكلمة، ولكنني أظن أننا لكثرة ما نسمعها صرنا نعتقد أنها شيئاً روتينياً لا ينتبه إليه, إنما ينتظر ما يأتي بعد, مع أنها من أفضل الذكر وأعظمه.
قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم على ضماد خطبة الحاجة، وخطبة الحاجة هي: {إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إلى آخر الخطبة, فلما سمعها هذا الرجل، تأثر منها أشد التأثر, وقال: والله لقد سمعت الشعراء والسحرة والكهان فما سمعت مثل هذا الكلام, ولقد بلغنا قاموس البحر أو ناعوس البحر, ابسط يدك أبايعك فبسط الرسول صلى الله عليه وسلم يده فبايعه على الإسلام, وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: وعلى قومك -أي: وتبايعني عن قومك أن تدعوهم إلى الإسلام فيسلموا- قال: وعلى قومي، وبايعه عن قومه وذهب إلى قومه فأسلموا, قال ابن عباس رضي الله عنه: فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم سرية، فأصابوا هؤلاء القوم، فقال قائد السرية: إن هؤلاء قوم ضماد، وإنهم قد أسلموا، فهل أصبتم منهم شيئاً؟ قال رجل: أنا أصبت منهم مطهراً -أي إناءً يتطهر به- قال: ردوه، فردوه إليهم} .(149/5)
وسائل تزكية النفس
هذه الكلمة التي تفتتح بها المحاضرات والكلمات, هي أيضاً يجب أن نقف عندها قليلاً، وبالذات عند قوله صلى الله عليه وسلم: {ونعوذ بالله من شرور أنفسنا} ففي النفس شر, وقابلية للشر, وقابلية للوسواس والكيد, ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم} .
فشرور النفس هذه هي التي تقصد بالتزكية، أن يعمل الإنسان على دفع هذه الشرور ودرئها وإبعادها ما استطاع، عن طريق الوسائل الشرعية، من عبادة وطلب علم وغير ذلك.(149/6)
خلاصة ما سبق
إذاً تزكية النفس تكون بأمور ثلاثة: أولاً: النية الصالحة الصادقة.
ثانياً: العلم الصحيح، الموافق لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: العمل الموافق لهذا العلم.
أسأل الله عز وجل -في ختام هذه الكلمة- أن يوفقني وإياكم إلى العلم النافع والعمل الصالح وأترك الفرصة للشيخ سليمان جزاه الله خيراً.(149/7)
طلب العلم النافع
الوسيلة الثانية هي: طلب العلم النافع.
وقد ظن كثير من الناس اليوم، بل ومنذ أزمنة طويلة، أن طلب العلم يعني معرفة الإنسان بالأحكام والفروع, وأن هذا مباح وهذا مستحب, وهذا مكروه وهذا محرم وما أشبه ذلك, أو أن الإنسان يقرأ القرآن أو يقرأ الحديث, وهذا ليس هو العلم فقط, هذا جزء من العلم, والعلم أوسع من هذا كله.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوما جالساً في أصحابه، كما في حديث أبي الدرداء، الذي رواه الترمذي وقال حسن غريب، ورواه الدارمي عن عدد من الصحابة، في رواية أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع رأسه مرة إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم حتى لا يقدر منه على شيء.
وكان هناك رجل من الأنصار، اسمه زياد بن لبيب، فقال: كيف يا رسول الله وقد قرأنا القرآن وعلمنا السنة، فوالله لنقرأنه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم -بلهجة المستغرب بما سمع- قال له: "ثكلتك أمك يا زياد " -أي: فقدتك وهذه كلمة لا يراد بها حقيقة معناها, إنما تجرى على الألسنة- "ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة" -أي: كيف تقول هذا الكلام، وأنت تحسب من الفقهاء؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ زياد: "هذه التوراة والإنجيل في أيدي اليهود والنصارى، فما أغنت عنهم} أي: لم تغنِ عنهم شيئاً، وهي موجودة في أيديهم قال جبير أحد رواة الحديث: [[فانطلقت إلى عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فقلت له: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ قال ما يقول: فذكر له الحديث, فقال: صدق أبو الدرداء , لو شئت لأخبرتك بأول علم يرفع من الأرض -انظروا ما هو أول علم يرفع من الأرض؟ - إنه علم الخشوع]] .
فهل نحسب نحن هذا من العلم؟ لا نحسبه من العلم, إنما يحسبه الناس اليوم من العبادات, فيقال: فلان عابد إذا كان مصلياً خاشعاً قانتاً, والآخر عالم، إذا كان عالماً بالأحكام التفصيلية, ولو لم يكن عابداً, ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفهمون العلم هذا, ولا كانت في القرآن والسنة هكذا مفاهيم العلم.
بل كان مفهوم العلم عندهم أنه العلم الموصل إلى الله, أن تعرف شيئاً يقربك إلى الله, وأن تعلم مسألة فتعمل بها؛ لتدخل الجنة وتنجو من النار, هذا هو العلم عندهم.
ولذلك الله تبارك وتعالى تعبدنا في كل ركعة من صلاتنا نفلاً أو فرضاً, أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] ولكن هذه -أيضاً- من الأشياء التي كررناها, حتى صرنا نقولها دون أن نعي معناها, ما هو صراط الذين أنعم الله عليهم؟ إنه المخالف لصراط المغضوب عليهم، والمخالف لصراط الضالين.
الذي يتعلق بموضوعنا الآن، أن الله عز وجل حذرنا من طريقة اليهود, ومن كان على شاكلتهم, ممن يعلمون ولكنهم لا يعملون.
فمن كان من هذه الأمة المحمدية، عارفاً بالحق ثم لم يعمل به؛ ففيه شبه كبير من اليهود, وهم المغضوب عليهم, لا أقول: هم المغضوب عليهم، كل من ضل واتبع الهوى وهو يعلم؛ غضب الله عليه, ومن هؤلاء اليهود، والسلف حينما عرفوا المغضوب عليهم بأنهم اليهود، قصدوا المثال ولم يقصدوا حصر المغضوب عليهم في اليهود, وإنما بقصد التمثيل فقط: من أمثلة المغضوب عليهم اليهود, وكل من عرف الحق فأعرض عنه فهو مغضوب عليه, إلا من رحم الله وتاب وأقلع عن هذا الأمر.
وقد يقول قائل: نحن لا نعلم فأقول: نحن نعلم أشياء كثيرة، لم نستفد منها حق الاستفادة, نحن نعلم أننا سنموت ثم ننسى ذلك, ونعلم أن هناك بعثاً وحشراً، وجزاءً وحساباً، وجنةً وناراً وخلوداً, ومع ذلك ننسى كل هذه الأشياء، حينما يبرز لنا طمع من طمع الدنيا, أو حينما تتحرك في النفس شهوة من الشهوات, ونغفل عن هذه الأشياء كلها, وننشغل بما نحن بصدده, فهذا من العلم الذي يكون حجة على صاحبه.
فلنعلم أننا مطالبون بأن نعمل، وما شرف العلم إلا بشرف العمل الذي يقود ويدعو إليه هذا العلم.(149/8)
الحرص على إضمار النية الصالحة
وأول وأعظم وسيلة لتزكية النفس، وإبعاد هذه الشرور عنها, هي: أن يكون الإنسان حريصاً على إضمار النية الصالحة.
فالنية كما يقول بعض العلماء مثل الإكسير, والإكسير هو: مادة عند بعض الطبيعيين، يزعمون ويدعون أنهم إذا وضعوا هذه المادة على مادة أخرى، فإنها تحولها إلى ذهب, فلو وضعوها على حجر أو غيره, فإنها تحول هذا الحجر إلى ذهب.
أقول: إن النية هي في الحقيقة هذا الإكسير، الذي يوضع على الأشياء العادية، فيحولها إلى عبادات يؤجر عليها الإنسان, ويؤخذ من العبادات والأعمال الصالحة، فيحولها إلى أعمال مردودة يعاقب عليها الإنسان, عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الخيل لثلاث} يتكلم صلى الله عليه وسلم عن الخيل، وربط الخيل، ومن تكون الخيل له أجراً، ومن تكون له وزراً، فيبين أن مدار ذلك كله على النية: {الخيل لثلاث: الخيل لرجل أجره, ولرجل ستره, وعلى رجل وزره} فهي نوع من الدواب، بالنسبة لهذا وبالنسبة لهذا, الخيل هي الخيل لا تختلف، لكن هذا يربطها فيؤجر، وهذا يربطها فيأثم, ويربطها الثالث فلا يؤجر ولا يأثم.
{فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، ربطها من أجل الجهاد في سبيل الله -فأطال لها في مرج أو روضة- أي: أطال حبلها في مرج أو روضة, فلو أنها قطعت طيلها -أي: قطعت هذا الحبل الذي ربطت فيه- فاستنت شرفاً أو شرفين -أي: قطعت هذا الحبل، فعادت وتجاوزت شرفاً أو شرفين من الأرض -ثم جاءت إلى نهر فشربت منه، كانت خطواتها له حسنات، وكانت أرواثها وأبوالها له حسنات، وكان ما شربت من هذا الماء له حسنات} هو لم يرد أن تشرب, ولم يرد أن تنطلق من هذا الحبل, ولكنها فعلت ذلك بغير إرادته، ومع ذلك فكل ما ترتب على هذا الفعل وهو ربط الخيل في سبيل الله، عده الرسول صلى الله عليه وسلم عملاً يؤجر عليه صاحبه، كما ذكر في هذا الحديث.
حتى الأعمال التي لم يردها، ويمكن أن نقيس على ذلك فنقول: إن الإنسان لو خرج للصلاة، خرج من بيته لا ينهزه ولا يدفعه إلى الخروج إلا الصلاة, هنا كانت نيته صالحة وفي سبيل الله عز وجل, فلو كتب الله على يده في مسعاه هذا عملاً لم يرده, فإن من رحمة الله عز وجل أن يثيبه الله على هذا العمل، فلو خرج إنسان يريد شراً، إما سرقة أو إساءة أو معاكسة لامرأة أو غير ذلك, فرأى هذا الإنسان فأقلع عن عمله, فإننا نطمع أن يكون الله عز وجل يثيب هذا الإنسان، حتى في هذه الأعمال التي لم يقصدها, بل ربما لم يدر ولم يشعر بها, لأن أصل العمل ومنطلقه كانت نية الخروج إلى الصلاة، فأصل النية صالحة.
هذا هو النوع الأول الذي ربط الخيل في سبيل الله عز وجل.
والنوع الثاني هو: الذي ربطها مناوأة لأهل الإسلام, ومحادة لله ورسوله فهذا الفرس عليه وزره.
وأما الثالث -الذي ليس له أجر ولا وزر- فرجل ربطها تغنياً وتعففاً، إما للتجارة وإما لغير ذلك من الأغراض العادية، التي لا تدخل في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله, ولا تدخل في مناوأة الإسلام وحرب أهل الدين, فهذا ليست الخيل له أجر ولا وزر، وإنما هي له ستره.
فأنتم ترون أن العمل الواحد يثاب عليه شخص ويعاقب عليه آخر، ويكون بالنسبة للثالث لا خير ولا شر، لا ثواب ولا عقاب, وأعمال العبادات والشعائر من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها, يجري فيها هذا الأمر أو قريباً منه, فقد توعد الله تعالى المصلين في كتابه الكريم، والصلاة عبادة في أصلها، فلماذا توعدهم؟ توعدهم لأنه وصفهم بقوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:5-7] هذا المصلي، الذي قام بهذه العبادة من أجل الناس رياء وسمعة, يتمنى يوم القيامة أنه لم يصل, لأن الصلاة لم تزده من الله إلا بعداً ولم تزده في جهنم إلا سفلاً وتوغلاً.
ولذلك توعد الله تبارك وتعالى المنافقين بأنهم في الدرك الأسفل من النار, تحت الكفار، مع أن المنافقين كانوا يصلون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصومون معه في الظاهر، بل كانوا يجاهدون, بل منهم من يقتل في المعركة, ويظهر للناس الذين حوله أنه قتل شهيداً في سبيل الله, وهو لا يزداد بهذه الأعمال من الله إلا بعداً, ولا يزداد في جهنم ودرجاتها إلا سفلاً وانحطاطاً والعياذ بالله، مع أن أصل العمل عبادة، لكن افتقد الشرط الأساس وهو النية، الذي هو (إكسير) يحول الأعمال العادية إلى عبادات يؤجر عليها صاحبها.
وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفقهون هذا المعنى فقد بعث الرسول عليه الصلاة والسلام أبا موسى الأشعري رضي الله عنه إلى اليمن، معلماً وقاضياً، ثم بعث صلى الله عليه وسلم في إثره معاذ بن جبل , فلما جاء معاذ رضي الله عنه، سلّم على أبي موسى، فوجد رجلاً مربوطاً عنده, وقبل أن ينزل عن راحلته قال: ما هذا؟ قال: هذا يهودي راجع دينه القديم, أسلم ثم ارتد إلى اليهودية والعياذ بالله، قال معاذ: لا أنزل عن راحلتي حتى يقتل، حكم الله ورسوله قال أبو موسى: نعم انزل، قال: لا أنزل حتى يقتل كأن أبا موسى قال له: إننا سنقتله فانزل وإننا لم نأتِ به إلا لنقتله، قال: لا أنزل عن راحلتي حتى يقتل فقتلوه ثم نزل معاذ رضي الله عنه, فتحدث مع أبي موسى رضي الله عنه، ما تفعل في صلاتك؟ ما تفعل في بيتك؟ فذكر معاذ رضي الله عنه وأرضاه من عبادته وقيامه في الليل شيئاً، ثم قال: [[وإني لأحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي]] وهذا الحديث فيالصحيح، أي: أنه يحتسب وهو نائم، من الأجر مثل ما يحتسب وهو يقظ يصلي, لأنه وهو نائم يشعر أنه في عبادة.
ومعاذ من كبار فقهاء الصحابة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {معاذ إمام العلماء برتوة} والرتوة هي: مسافة من الأرض، وهذا فقهه وعلمه رضي الله عنه, أنه يحتسب في نومته كما يحتسب في قومته من العبادة, وهذا جزء من معنى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] .
فالنوم أخو الموت, فالإنسان وهو نائم يتقلب في فراشه، ويؤجر إذا كان نومه بنية صالحة؛ نام ليتقوى على عبادة الله, نام وهو يذكر الله, ونام على جنبه الأيمن متطهراً مستقبل القبلة, كلما تعار من الليل قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير", ثم إن استيقظ قام وتوضأ وصلى ركعتين، وعاد إلى فراشه وهكذا يتقلب في نومه، والملك يكتب له حسنات, وفضل الله أوسع وأعظم.
هذه صورة من صور أثر النية في العمل، وكثير من الناس تجد عندهم صلاح النية والقصد، فتجد أنهم يبلغون بهذا العمل الطيب، الذي هو من أعمال القلب, يبلغون به ما لم يبلغ الآخرون المكثرون من العبادة والصيام والصلاة والذكر والدعاء وغير ذلك, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
إذاً الأمر الأول والمهم في موضوع تزكية النفس وصلاحها، هو: إصلاح النية، وأن يكون الإنسان في كل ما يأخذ وما يدع, لا ينظر إلا إلى هم واحد وإلى أمر واحد, وهو أن يكون هذا الأمر في مرضاة الله تبارك وتعالى.(149/9)
كل إنسان يسعى لأن يزكي نفسه
قال الشيخ سليمان حفظه الله.
أحمد الله، وأصلي وأسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه, ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة في الله: دائماً يسعى الإنسان بجهده إلى إصلاح نفسه وتزكيتها, ودائماً يتساءل: لماذا لا أستفيد كثيرا ًمن علمي؟ ولا أستفيد كثيراً من أعمالي التي أعملها وأكدح فيها ليلاً ونهاراً؟ ومقصودي في ذلك أولاً وآخراً هو رضا الله سبحانه وتعالى؟ والقدوم على الله على أحسن حال, وهذه أمنية وحال يتمناها كل إنسان, يتمنى أن يغادر هذه الدنيا, ويخرج منها بعمل صالح مقبول عند الله سبحانه وتعالى، يوافي به هذا الصندوق وهذا المكان الذي سينزل فيه ألا وهو القبر.
وقد قدم أخي فضيلة الشيخ سلمان بعض الجوانب، التي كل مسلم بحاجة إلى معرفتها وإلى تفهمها, وتطبيقها، عملاً وقولاً، حسب وفق شريعة الله سبحانه وتعالى.
قد يسأل كل واحد منا متى تكون النية خالصة لوجه الله الكريم؟ ومتى يكون العلم نافعاً؟ ومتى يكون العمل صالحاً؟ هل كل إنسان يمارس هذه الأشياء الثلاثة، يتساوى فيها إنسان وإنسان أم أن الحالة تختلف من إنسان لآخر؟
الجواب
لاشك أن الإنسان إذا كان يريد نية خالصة يعمل بها الأعمال, تكون مقبولة عند الله سبحانه وتعالى, ويتقدم بهذا العلم الذي عمله، سواء أكان في المدرسة أم كان عند شيخ أم في أي مكان, متى يكون العلم نافعاً؟ والعمل الصالح الذي كل إنسان في هذه الحياة الدنيا -إلا من حجب عن رحمة الله سبحانه وتعالى- كل إنسان ينشد هذا العمل الصالح؛ ليواجه به ربه سبحانه وتعالى.(149/10)
المقصود بالتطهير والتزكية
ما معنى التطهير والتزكية؟ التطهير والتزكية كما يقول ابن القيم رحمه الله: إن أفضل الأعمال وأرفعها هو مقام الصدقة؛ وذلك لأن الصدقة فيها أسرار، تختلف بين الناس من حال إلى حال، فالله سبحانه وتعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منهم صدقة ليطهرهم ويزكيهم بها, ولينظف قلوبهم من الأشياء التي اختلطت بها فأفسدتها.
والله سبحانه وتعالى يرشد عباده المؤمنين إلى وسيلة من الوسائل، التي بها تزكو نفوسهم، وتزكو قلوبهم, فيقول سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] والله سبحانه وتعالى يقول أيضاً: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] إذا جاء إنسان وطرق عليك الباب, وكان لك شغل, وأرجعت هذا الإنسان، فهل الخير في رجوع هذا الإنسان، أو الخير في غضب هذا الإنسان؟ فالله سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] فالذي يرجع ويعيد هذه الخطوات التي مشاها، لاشك أن هذا العمل هو أزكى له, والرجل الآخر، الذي إذا قيل له: ارجع، أصبح عنده ردة فعل وتغير وجهه, لا يكون هذا الرجوع هو زكاة له، لماذا؟ لأن قلب هذا يختلف عن قلب هذا.
إذاً، فلنبحث عن قلوبنا، ونطهرها من الأخلاط التي حلت فيها, حتى تكون قابلة للخير.
والحديث الذي ألم به فضيلة الشيخ، وهذه المعاني الجليلة التي ذكرها, تدعو كل واحد منا أن يتساءل: ما هي الوسائل التي أنظف قلبي بها وأزكي قلبي بها؟ والشيطان دائماً ينصب الشراك للإنسان, والشيطان دائماً هو الذي يجاهد الإنسان, ويحاول أن يطمس هذا القلب ويلوثه, ليصبح أسوداً، هذا هو حرص الشيطان، وهو دائماً في معركة مع الإنسان ليخرب هذا القلب ويصده، ويجعله مغلفاً، ويجعله مصفحاً، بل ويجعله منكوساً, كما هو قلب الكافر والمنافق والعياذ بالله.
والشيطان دائماً يحرص على أن يصد هذا الإنسان عن الخير، فيشوه هذا القلب ويجعله أسوداً, ويجعل المعاصي تتراكم على هذا القلب ذنباً بعد ذنب, حتى يصبح الران وهو الغلاف الذي على القلب فيصبح القلب مغلفاً لا يقبل الخير، وإنما يقع فيه الشر قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:14-15] .
والأمر المهم في التزكية هو أن ينتبه الإنسان دائماً إلى العداء الذي يبثه أصحاب العداء, ولا تظنوا أن هذا الأمر بسيط, لا والله.
إن الذي يريد الخير لنفسه، ويريد أن يسلك صراطاً مستقيماً, وأن تكون نيته حسنة وعلمه نافعاً وعمله صالحاً, لا يستمر على الحال التي هو عليها.
نحن بحاجة إلى أن ننظف قلوبنا عما حل فيها، يدعو الإنسان دائماً ربه سبحانه وتعالى ويصلي، لكن يشاهد أنه يدخل في هذه الصلاة، ويخرج من الباب، والصلاة لا تغير فيه شيئاً, لماذا؟ لأن قلبه غير متحرك وغير نظيف.
يدعو الإنسان وربما أنه يستبطئ الإجابة، ويقول: دعوت دعوت فلم يستجب لي، وربما -والعياذ بالله- أن الإنسان ييأس من الدعاء ولا يدعو الله سبحانه وتعالى, لماذا؟ فتش عن قلبك يا أخي، تجد قلبك غير نظيف.(149/11)
أهمية تزكية النفس وتطهيرها
الحديث عن تزكية النفس, وعن تطهير النفس, وإجلاء النفس من المعاصي والخبائث الدغل الذي حل فيها وموطن العلم والعمل وجميع الأمور، موطنها هو هذا اللب وهذا القلب, الذي تتكون فيه جميع الأعمال، التي تنطلق من هذا الملك وهذا القلب.
هل يعمل الإنسان العمل أو يطلب العلم وقلبه غير نظيف؟
الجواب
كلا.
هل يفعل الإنسان ويتعب نفسه ويعمل أعمالاً صالحة، ويقضي ليلاً ونهاراً في طلب العلم، والقلب أسود؟ لا يجتمع هذا.
بل لابد أن ينظف الإنسان قلبه من الأشياء التي حلت فيه, ولابد أن يزكي نفسه من الأشياء التي حلت فيها, إن الله سبحانه وتعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] فأصبح أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم للصدقة من هؤلاء, أصبح فيها تطهير وتزكية.(149/12)
السبل التي يسلكها الشيطان لإضلال الإنسان
الشيطان دائماً يعطي الإنسان الضوء الأحمر, ويريد إضلاله، وأن يصد هذا القلب، إن الشيطان ليغضب غضباً شديداً عندما يشاهد الإنسان يفعل أفعال الخير, ويحاول أن يطهر قلبه مما حل فيه, فيغضب وتشتد ناره إذا رأى الإنسان ولج هذه العبادة أو عمل العمل الصالح.
يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: {قد أفلح من هُدي إلى الإسلام، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما أتاه} .(149/13)
كثرة المباحات
إن الشيطان إذا سول لك هذه المعاصي، وجعلك تتساهل في هذه الصغائر، ومع ذلك لا يتركك في المعركة لوحدك ولا ييأس، بل يسلك معك معركة سادسة، هذه المعركة هي: الإيغال في المباحات، التي ابتلي بها المسلمون اليوم، المباحات التي توغل فيها الإنسان فصدته عن كثير من الأمور المشروعة التي تطلب من الإنسان, يتصور الإنسان أنه إذا عمل مباحاً أنه طائع لله سبحانه وتعالى, وهذه حقيقة، ولكن الشيطان له حظ ونصيب من هذه المباحات, وذلك بأن يسول الشيطان للإنسان بأن يكثر من هذه المباحات، ويصده عن الأمور المشروعة الأخرى, بذلك يتساهل الإنسان ويصعد من درجة المباحات إلى درجة المكروهات, ثم ينتقل من درجة المكروهات إلى درجة المحرمات, ثم بعد ذلك يقع في الكبائر, يقع في المعركة الخامسة التي سنها له شيطانه، وبذلك يقع في الحرج ما لم يتب ويستغفر الله سبحانه وتعالى.(149/14)
تسليط الجنود والأعداء
أما المعركة السابعة -وما أدراك ما المعركة السابعة! - التي لم يسلم منها أحد من المخلوقين أبداً، حتى الأنبياء والصالحون لم يسلموا من معركة الشيطان هذه، ألا وهي معركة تسليط الجنود والأعداء ذرية إبليس الذي إذا جلس على عرشه في البحر أرسل جنوده, فتسلط على عباد الله وعلى أوليائه, ومن ضمنهم الأنبياء والصالحون, فالأنبياء والصالحون لا يسلمون من تسلط جنود الشيطان, وإغوائه.
ولكن الأنبياء والصالحين، لهم معهم جهاد وعراك فيما بينهم, فالذي يعمل الأعمال الصالحة، ويرى أن شيطانه يصده عن الأعمال الصالحة, لِيَعْلمْ أن له أسوة بالأنبياء, فالأنبياء لم يسلموا من هذا، بل جاهدهم الشيطان وذريته حتى يصدهم عن هذا العمل, ولكنهم وقفوا ورفعوا سيوفهم تجاه الشيطان وذريته, فأبطلوا كيده.
يقول: الله سبحانه وتعالى في معرض التمدح للذين يخرجون يجاهدون في سبيل الله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] المراغمة من أين تكون؟ المراغمة تكون من الشيطان الذي أرغمه بهذا العمل, ودائماً الله سبحانه وتعالى يذكر أن الأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان ويجاهد فيها الشيطان, أنها تغيظ الشيطان والكفار.
الكفار تابعون للشيطان، وهم من أعوان الشيطان, فهذه ساحات ومعركة، ربما أني لم أوفها حقها من الكلام، ولكنكم تصورتم ما أقوله وما أنشده في هذا، وأقول: إن الشيطان دائماً يجاهد الإنسان، ودائما يريد أن يضله.
فعلى الإنسان أنه يجاهد عدوه (شيطانه) في هذا، وأختم هذه الكلمة التي أرجو من الله سبحانه وتعالى أن ينفعني وإخواني بها كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأن يجعلنا هداة مهتدين, وأن يجنبنا كيد الشيطان وضلاله, إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(149/15)
صغائر الذنوب
هذه أربع ساحات في الحرب، ثم هل يتركه الشيطان؟ لا بل ينتقل معه إلى ساحة خامسة, ألا وهي الصغائر التي يعملها الإنسان ولا يبالي بها، وهذه الصغائر التي يعملها الإنسان هي ما لم تصل إلى حد الكبيرة, وقد مثل لها العلماء: أن الصغيرة هي مثل النظرة التي ينظر بها الإنسان إلى محرم, أو الخطوة التي يخطو بها, أو البطشة التي يبطش بيده, أو بأذنه التي يستمع بها إلى محرم, قال العلماء: إن هذه صغيرة، ولكن إذا توغل الإنسان وباشر المعصية واستمر فيها، تحولت الصغيرة إلى كبيرة, وكما يقال: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار.
وبعض العلماء قال: إن الإنسان ربما يتهاون بهذا العمل؛ فتكون الصغيرة أقبح من الكبيرة، ولا شك أن الصغيرة هي أقل درجة من الكبيرة, ولكن متى تكون الصغيرة أقبح من الكبيرة؟ قال العلماء: إذا استجاب الإنسان لنداء الشيطان، وتساهل بالمعصية ولذلك يقول بعض العلماء -وهذا مثل أصبح راجحاً عندهم-: "إن الإنسان ليعمل الحسنة يدخل بها النار, ويعمل السيئة يدخل بها الجنة"، فهل هذا الكلام صحيح أو غير صحيح؟ يعني هل الإنسان إذا عمل حسنة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى يدخل بها الجنة أو يدخل بها النار؟ قال العلماء: إن هذا المعنى صحيح حيث إن الإنسان دائماً يعمل المعصية ويأخذه التهاون بهذه المعصية, فتصبح المعاصي عنده حقيرة كما جاء في الأثر الذي فيه تشبيه حالة الكافر أو المنافق إذا عمل المعصية كأنه ذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار، فلا يبالي الكافر بالمعصية, فالمسلم إذا تهاون بالمعصية سواء كانت صغيرة أم كبيرة, فإن هذا الأمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.
وربما أن الإنسان يكون طوال عمره مواظباً على الأعمال الصالحة، ولكن يعمل سيئة واحدة, قال العلماء: يدخل بها الجنة.
فكيف أن هذا المؤمن الذي يعمل عملاً صالحاً ويعصي هذه المعصية يدخل بها الجنة؟ إن المعصية لا يدخل بها الجنة, بل تقرب من النار, لكن هذا المؤمن لما عمل هذه المعصية، أصبحت بين حاجبيه وبين عينيه, وأصبح يرى هذه المعصية -ولو كانت صغيرة- أصبح يراها ويتصورها كأنها جبل عظيم، يكاد أن يسقط على رأسه.
فما تزال هذه المعصية بين عينيه، فدائماً يلح ويستغفر الله سبحانه وتعالى، فيعفو الله سبحانه وتعالى عن هذا الإنسان.
فيجب على الإنسان ألا يتساهل في المعصية أياً كانت، ولا يفتح المجال لنفسه بالتساهل في المعاصي, فما أهلكنا وأبعدنا وما أمرض قلوبنا، بل أماتها التساهل بالمعاصي, وهذا الجانب جانب عظيم لابد أن ينتبه له كل إنسان منا.(149/16)
المعاصي والكبائر التي يعملها الإنسان
ثم إذا نجى الله سبحانه وتعالى الإنسان، وعصمه باتباع السنة من البدعة, هل يترك الشيطان الإنسان في المعركة، أم يسلك معه معركة ثالثة؟ ينتقل الشيطان من هذه المعركة الثانية إلى المعركة الثالثة، وهي معركة المعاصي والكبائر التي يعملها الإنسان, ومن منا يا إخواني اليوم لم يعمل المعاصي والكبائر؟ المعاصي والكبائر هي التي تلوث القلب، والتي تفسده, وهي التي تحبط الأعمال, والتي تزيد في ظلمة القلب, ويصبح القلب بعيداً عن الخير قريباً من الشر, وكل معصية يعصيها الإنسان مثل هذه (اللمبة) الكبيرة المكونة من أربعين (لمبة) هذه اللمبة الكبيرة هي مثل القلب, كل لمبة تُطفأ يزيد الظلام، إلى أن تنطفئ هذه اللمبة الكبيرة فيصبح هذا الضوء أسود.
فكذلك القلب كل معصية وكل كبيرة يعملها الإنسان تنكت نكتة سوداء، وتجعل بعدها نكتة سوداء, حتى يصبح القلب أسود من أثر هذه المعاصي والكبائر.
والشيطان له غرض من الإنسان بإدخال هذه المعاصي وهذه الكبائر.
ومن ضمن هذه المعاصي التي يعملها الإنسان، والتي ابتلى بها كثير من المسلمين -هداهم الله- والمعاصي والكبائر كثيرة، وليس هذا المجال مجال طرح لهذه الأشياء.
إنما من المعاصي التي تهاون بها المسلمون اليوم، هي التهاون بالصلاة, فالتهاون بالصلاة كبيرة من كبائر الذنوب, والشيطان له أربع حالات مع الإنسان في التهاون بالصلاة وترك الصلاة: الحالة الأولى: أن يصلي الإنسان في بيته -كما يحصل لبعض الناس- فيصلي الإنسان في بيته، وبذلك يخرج عن الأوامر التي أمر الله سبحانه وتعالى عباده أنهم يصلون في جماعة المسجد, والذي يصلي في بيته قد خرج عن الأوامر, ولكن هل يطلق على الإنسان الذي يصلي في بيته أنه كافر؟
الجواب
نقول: لا, لا يطلق عليه أنه كافر, ولكن يطلق عليه أنه مرتكب لهذه الكبيرة من كبائر الذنوب.
الحالة الثانية: أن يصلي الإنسان أحياناً ويتركها أحياناً، سواء كان تهاوناً وكسلاً, أم كان جحوداً.
فالإنسان إذا تركها أحياناً وفعلها أحياناً -كما يحصل لبعض الناس- فإن هذه كبيرة أعظم من الكبيرة الأولى, ولكن الإنسان لا يوصف بالكفر ما لم يتركها بالكلية.
الحالة الثالثة: إذا ترك الإنسان الصلاة ولم يصلها, فهل هذا الإنسان يحكم عليه بالكفر أم لا؟ هو لا شك أنه أشد من المرحلتين السابقتين, ولكن لماذا يحكم على هذا الإنسان بأنه كافر؟ هل لأنه ترك الصلاة؟ نقول: يحكم عليه بأنه كافر؛ لأن أصل الإيمان الذي في قلبه مفقود، فإذا فقد أصل الإيمان حل بدله الكفر, ولذلك إذا ترك الإنسان الصلاة يحكم عليه بالكفر.
الحالة الرابعة: أن يترك الإنسان الصلاة، ويقول لا أصلي أبداً, وأعجب من هذه الحال أن يدعى الإنسان إلى الصلاة، بل تعصب عينا الإنسان، ويرفع السيف فوق رأسه، ويقال له: تصلي وإلا قتلناك! فيقول: لا أصلي أبداً! فهل هذا الإنسان يحكم عليه بأنه ارتكب معصية، كما في الحالة الأولى, أو أنه كافر بالله سبحانه وتعالى؟ لا شك أنه أشد هذه المراحل، وأنه يكون كافراً بالله سبحانه وتعالى, وهذا من عمل الشيطان ومن وسوسته.
ثم هل الإنسان إذا عمل هذا الشيء يتركه الشيطان؟ لا.
بل يزيد الشيطان من إغوائه، ولكن إذا تاب واستغفر الله سبحانه وتعالى من هذا تاب الله عليه.(149/17)
إخراج الإنسان من الإسلام
أول عقبة يسلكها الشيطان، وأول ساحة حرب يسلكها الشيطان مع الإنسان، هي: أن يخرجه من دائرة الإسلام, التي نحن -ولله الحمد- الآن يحسدنا أعداؤنا عليها.
هذه الدائرة التي نحن في وسطها ولله الحمد -دائرة الإسلام ودائرة الإيمان- هي والله لا تفرح الشيطان، بل تغضبه, ونحن في جهاد معه, والشيطان إذا رأى الإنسان كافراً بالله سبحانه وتعالى استراح من متابعه، وإذا كان الإنسان كافراً خلى الشيطان بين الإنسان وبين أتباعه وجنوده, وقال: دعوكم من هذا الإنسان فقد استرحنا منه, لماذا؟ لأنه أصبح كافراً في هذه الحياة الدنيا, ويوم القيامة سيكون حطباً لنار جهنم, فليس للشيطان غرض في هذا الإنسان, ولكن إذا عصم الله سبحانه وتعالى الإنسان بالهداية إلى دين الإسلام, التي رتب عليها الفوز والفلاح، وهذه نعمة -والله يا إخواني- ما يحسدنا عليها إلا صنف واحد, وهو الكافر الذي لم يهتدِ إلى هذا الإسلام, ولم يهده الله سبحانه وتعالى إلى هذا الإيمان.(149/18)
البدع التي يعملها الإنسان
ثم بعد ذلك إذا رأى الشيطان الإنسان مؤمناً بالله ولم يكفر، هل يتركه في المعركة؟ لا, بل يسلك معه معركة غير هذه المعركة, وهي معركة البدع التي يعملها الإنسان.
والبدع التي يعملها الإنسان للشيطان غرض ونصيب منها، سواء كانت بدعاً في الأقوال, أم بدعاً في الأعمال, والعالم الإسلامي اليوم مصاب بهذا الداء، وهو داء البدع، سواء ما يتعلق بتغيير حكم الله سبحانه وتعالى, أو ما يتعلق بالاعتقاد وهذا من الأقوال, أو ما يتعلق بالرسوم والعبادات والمظاهر التي يتعبد الإنسان بها ربه سبحانه وتعالى, وتسمى هذه بدعة الأفعال.
أيها الأحبة: الشيطان يفرح ويستبشر إذا رأى الإنسان يعمل البدعة, بل يزداد فرحه إذا رأى الإنسان يعمل ويدعو لهذه البدعة, كما يحصل لأناس جعلوا أنفسهم في هذا المضمار، يقول ابن القيم رحمه الله: إن بدع الأعمال وبدع الأقوال حصل بينهما عرس، فلم يفاجأ العريسان -أي: بدعة الأفعال وبدعة الأقوال- إلا وولد الزنى بينهما، فرجعت الخليقة المسلمة تجأر إلى الله سبحانه وتعالى بالبعد عن ولد الزنى المولود.
أتدرون ما هو ولد الزنى؟ الذي تولد من بدعة الأقوال وبدعة الأعمال؟ ولد الزنا هي هذه الأعمال التي يستحسنها الإنسان, ويجعلها صالحة وهي غير صالحة، لماذا؟ لأنها كانت تخالف الأعمال الصالحة, وتخالف النهج الذي شرعه الله سبحانه وتعالى.(149/19)
الأسئلة(149/20)
أفضل العلوم
أجاب على هذا السؤال الشيخ سلمان بن فهد العودة.
السؤال
فضيلة الشيخ: ما هي أفضل العلوم التي يحتاجها الإنسان؟
الجواب
إن أفضل العلوم هي ما يحتاجه الإنسان كل بحسبه, فطالب العلم غير المتمكن في الطلب غير طالب العلم المبتدئ, وغير العامي, وكل إنسان من هؤلاء يحتاج إلى نوع من العلم هو الذي يقوده إلى العمل, ففيما يتعلق بالعامي -مثلاً- يجب عليه أن يتعلم العلوم التي يحتاجها في عباداته, يتعلم الصلاة, كيف يصلي كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يصلي, ليس كما عهد الناس يصلون, بل كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يصلي, وماذا يقرأ من الأدعية والأذكار, وما معنى كل ذكر أو دعاء منها.
وإنني أذكر مجلساً من المجالس, كان فيه عدد من إخواننا الصالحين, ولكن ممن لم يوفقوا في طلب العلم, فتساءلنا عن معنى الأدعية والأذكار التي يقولها الإمام, أنت تردد في صلاتك في الصلاة الواحدة مرات كثيرة, تردد أدعية ربما لو سئلت؛ لوجدت أنك لم تفقه معناها, فما معنى ترديد؟ يضرب بعض العلماء مثلاً لمن يردد الشيء دون أن يفقهه برجل ذهب إلى طبيب, فشكا إليه صداعاً في رأسه, فقال له الطبيب: إن علاجك هو كذا وكذا وذكر له نوعاً من العلاج, كالإسبرين مثلاً, فهذا الرجل بدلاً من أن يذهب ويشتري هذا العلاج ويتناوله, بدأ يردد هذه الكلمة، فيقول: إسبرين إسبرين، وظن أنه بذلك سيشفى قد تضحكون من هذا المثال، ولكن واقعنا في كثير من الأحيان هو هذا المثال, ومع ذلك لا نضحك من واقعنا.
فكثير من المسلمين لو سألته عن معنى (السبحان) لما عرف معنى السبحان: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي العظيم, لوجدته لا يعرف.
ولو سألته عن معنى التحيات لله, ما معنى التحيات, ما هي التحيات لله؟ لما عرف, ولو سألته وهو يقول: أهل الثناء والمجد, بعدما يرفع رأسه من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد أهل الثناء والمجد, أحق ما قال عبد, وكلنا لك عبد, اللهم لا مانع لما أعطيت, ولا معطي لما منعت, ولا ينفع ذا الجد منك الجد, لو سألته عنها, قال لك: والله لا أدري هذا إن كان علم بأنها مسنونة ومشروعة وكان يقرءوها, فضلاً عن أن يفقه معاني الآيات القرآنية التي يقرءوها.
فأقول: تعلم الصلاة وأحكام الصلاة وما يتعلق بها فرض عين على كل مسلم، ويجب أن يبدأ بها ثم إن كان عنده أمر آخر كالزكاة, فيجب عليه أيضاً أن يتعلم ما يتعلق به من أحكام, وكذلك إذا جاء الصيام، يتعلم أحكام الصيام, ثم الحج إلى آخر ما يتعلق به من أمور الدين.
وقبل هذا كله، من الطبيعي أنه مسلم ومعناه: أنه لابد أن يعرف عقيدته, أن يعرف معنى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر, وأن يعرف الأمور المهمة فيما يتعلق بأمور الإسلام, وأعتقد أن المجال لا يتسع لذكر أكثر من ذلك, وهذا كمثال كما ذكرت للعامي.
أما طالب العلم، فبإمكانه أن يستزيد من العلوم في كل مجال, ويعرف الأصول والفروع، والأدلة وصحة الأدلة، والمراجع في ذلك كثيرة معلومة.(149/21)
مجاهدة الشيطان
أجاب على هذا السؤال الشيخ سليمان حفظه الله
السؤال
فضيلة الشيخ سليمان قد يكون الشخص في نيته قاصداً كل خير, لكن يرد عليه طرق من طرائق الشيطان فيصرف نيته في تلك الحالة, هل يعمل على مدار نيته والقصد منها أم يترك العمل في نفس الوقت، وإذا أعادها وسوس له وجعله ينشغل عن قصده فما هو السبيل؟
الجواب
أرشد هذا السائل إلى ما حدثنا به الصادق المصدوق، فدائماً يحدث هذا الشيء, والشيطان -كما أشير في الحديث السابق- له المعارك الكثيرة, التي يريد أن يصرف الإنسان عن أي عمل يعمله وقد أخبر صلى الله عليه وسلم، عن حالة أناس استقرت النية في قلوبهم, وأصبحوا وهم جالسون في مجالسهم، يبلغون في جلوسهم مثل الذين يعملون ويكدحون ويسيرون, وقد أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث طويل: {إن قوماً بالمدينة، ما سرتم مسيرة ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر} وهؤلاء فيمن حبسهم العذر لا شك أن هذا العذر عذر شرعي، يعذرون فيه, والله سبحانه وتعالى عالم لو أنهم انطلقوا من هذا العذر أو انفكوا من هذا العذر لصاروا وعملوا مثل ما عمل إخوانهم.
ولكن إذا كان الإنسان يعمل العمل, ويتجه بهذا العمل لله سبحانه وتعالى، ويسير ثلثي الطريق في هذا العمل, ثم في بقية الطريق يأتي الشيطان ويصده ويخالفه في هذا العمل, لا شك أن الإنسان من أول وهلة عليه أنه يجاهد ويراغم ويكيد عدوه، ولا يستسلم لعدوه من أول مرة, وينهزم في أول معركة مع عدوه, بل عليه أن يجاهد العدو, فهو بجهاده لهذا العدو الذي يريد أن يحبط هذا العمل هو مأجور من هذه الناحية، مأجور لمجاهدته لهذا العدو, فإن أكمل عمله، وتغلَّب على هذا العدو, فالحمد لله هذا خير على خير, وإن لم يكمل عمله ولكنه جاهد العدو وبذل جهده في مجاهدة العدو فالله سبحانه وتعالى يؤتيه ويجازيه على قدر هذا النصيب الذي بذله.
والقلب هو الملك، والأعمال هي التي تكون صورة طبيعية لما في القلب، فمدار الأعمال كلها على ما في القلب، والإنسان لا يتساهل أبداً في الأعمال الصالحة التي يعملها, ولا يقول: أخشى أن يصلني في هذا العمل خطر من الشيطان, أو مكيدة من الشيطان، يجب على الإنسان ألا يستسلم للعدو, فلو أن الإنسان أراد أن يتصدق بصدقة، فأدخل يده في جيبه وأراد أن يخرج الدراهم, بدا له في هذا الأمر أنه لا يتصدق على هذا الرجل, يقول له الشيطان: هذا الرجل غني، هذا الرجل فيه كذا وكذا, هذا الرجل لا يستحق، إلى آخر هذه الأشياء, فيترك الصدقة، هذا الإنسان استسلم لعدوه من أول معركة, لكن الإنسان إذا جاء الشيطان، وسول له بهذا الأمر، ثم جاهد الشيطان وأخرج هذه الدراهم, فهو يؤتى أجراً على هذه الصدقة, وعلى هذه المجاهدة المطلوبة, لذلك، والله سبحانه وتعالى يوفقني وإياكم في أن نرغم أنف الشيطان في هذا العمل، ونستمر في عملنا, ولا يتغلب علينا.
كيد الشيطان لأبينا آدم وأمنا حواء معروف، والله سبحانه وتعالى قد شرع التوبة بعد هذا الكيد, وشرع أن الإنسان يجاهد عدوه بعد هذا الكيد, وأعطانا الصورة والطريق، وما بقي علينا إلا أن نعمل وألاَّ نستسلم لعدونا, فهو والله لا يريد الخير لنا.
إلا أن الشيطان أحياناً يكون مثل الكلب -أعزكم الله- علاجه في هجرانه، وعدم الالتفات إليه، ولذلك فإن الإنسان إذا وسوس إليه الشيطان، فهجر هذه الوساوس واستمر في عمله, فإن الشيطان حينئذٍ يرجع مدحوراً ولا يعيد المحاولة, لكن إذا لاحظ أن الإنسان بعدما وضع الشيطان عنده هذا الشك في النية، ضعف حماسه للعمل أو ترك العمل؛ فإن الشيطان سيكرر المحاولة معه.
فأنصح الأخ السائل وغيره من الناس، أنه -كما أشار الشيخ- إذا أقدم على عمل وأصل النية عنده لله, فجاء الشيطان يحاول أن يشككه في هذه النية, ألاَّ يلتفت للشيطان أصلاً, وألاَّ يستقر في قلبه أصلاً إلا نية العمل الصالح, لا نية الرياء أو السمعة أو غير ذلك.
فإن الشيطان يكون رابحاً في الحالين, وإن استقرت نية الشر والرياء, فهذه مصيبة، وإن ترك الإنسان العمل الصالح, فهذا ما كان الشيطان يتمناه ويطلبه.
أستودعكم الله سبحانه وتعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله رب العالمين.(149/22)
أنواع تزكية النفس
أجاب على هذا السؤال الشيخ: سليمان حفظه الله.
السؤال
ذكرت أنه لابد من تزكية النفس، فماذا نقول في قوله تعالى "ولا تزكوا أنفسكم"؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم: ذكر العلماء رحمهم الله أن التزكية على نوعين: النوع الأول: التزكية بالعمل، وهو المطلوب للإنسان، أن يزكي نفسه بالعمل الصالح.
النوع الثاني: التزكية بالإخبار، وهذا هو المنهي عنه في قوله سبحانه وتعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32] وقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49] إن الإنسان عندما يطلق العنان لنفسه في ناحية العمل الصالح, فيكبر هذا العمل الصالح في عينه, ويكبر هذا العمل الذي يقدمه, ثم بعد ذلك إذا جاء أي أمر من الأمور، من ناحية المدح, بذل نفسه في هذا، وقال: أنا وأنا وأنا, فهذا هو التزكية المنهي عنها.
أما التزكية المطلوبة، وهي من ناحية العمل، فالإنسان لابد أن يزكي نفسه ويطهرها, ومعنى التزكية: الطهارة والنماء والزيادة قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] أي: أطهر لقلوبكم, فالإنسان عندما يسعى في هذا المجال ويصلح ويزكو قلبه, ويكون محلاً للتوسل, وللذكاء, وللفراسة, التي ذكرها العلماء.
قلوب الناس تختلف، بعض العلماء يصبح قلبه يدرك الأمور من بعد, كما حصل لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن يكن في أمتي محدثون فـ عمر} بمعنى: أن عمر فيه حداثة قوية, وفيه معرفة لبعض الأمور التي لم تقع وهي في علم الله سبحانه وتعالى, ولكنه يدرك ذلك, ولذلك يقول: وافقت ربي في ثلاث وذكر هذه الثلاث التي وافق الله سبحانه وتعالى بها، فيتحدث بها عمر، بناء على قوة الحدث الذي عنده.
هنا نسأل من أين أتاه هذا الحدث؟ ومن أين أتاه التخمين الذي يدرك الإنسان في هذا الأمر؟ يدركه من طهارة القلب, ولذلك في سورة الحجر، الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصة قوم لوط قال في آخر القصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] والمتوسمون -كما قال العلماء- هم النظار, وقال بعضهم: هم المتفرسون, وقال بعضهم: هم المعتبرون, والاعتبار والنظر وهذه الأشياء وما في معانيها لا تأتي من القلب الذي يزكَّي، بل تأتي من القلب النظيف, فمعنى تزكية النفس هو: طهارتها من ناحية العمل, لا من ناحية الإخبار, ففرق بين الأمرين، ومن أراد الاستزادة عليه أن يرجع إلى كتاب ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان، في الجزء الأول، في الباب السابع حول هذا الموضوع.(149/23)
من وسائل التزكية
أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله:
السؤال
ما هي وسائل التزكية؟
الجواب
إن من وسائل التزكية: مجاهدة النفس في الداخل, وحرص الإنسان على استحضار النية في كل عمل يعمله بقدر الإمكان.
ومن الوسائل: حرص الإنسان على الاستتار بالأعمال التي يمكن الاستتار بها، فيحرص على أن تكون أعماله خفية عن أعين الناس, وألا يحرص على إظهارها.
ومن الوسائل: الإكثار من الأعمال الظاهرة، كالصلاة والصيام والصدقة وغيرها, لأن هذه الأعمال الظاهرة -كما ذكرت- لها تعلق وتأثير في القلب.
ومن الوسائل المفيدة والمهمة: كثرة الدعاء فإن الإنسان إذا دعا؛ انكسر قلبه لله تبارك وتعالى, ولذلك من أعظم أحوال العابدين حال الدعاء, لأن الإنسان قد يصلي وهو يشعر أحياناً والعياذ بالله، أو يغويه الشيطان فيجعله يشعر بأنه يدلي على الله بهذه العبادة, بأنه قد أتى إلى الصلاة، في حين أن غيره من الناس لا يأتي, لكن بطبيعة الحال إذا كان يدعو يشعر بالانكسار, ويشعر بالفقر والحاجة والضعف, وأنه يدعو الملك القوي القادر, الذي بيده مقاليد كل شيء.
فمن أرقى وأعظم أحوال العابدين حال الدعاء, والدعاء قد جرب في شفاء كثير من أمراض القلوب, ويبقى بعد هذا وذاك، أن الإنسان يجب أن يعلم أنه لن يصل إلى حال يرضى عليها من النية حتى يلقى ربه, حتى يموت, وهو يجاهد الشيطان في هذا المجال, ويوم يلقي المؤمن السلاح، ويرى أنه قد انتهى وجاهد الشيطان -كما تفضل الشيخ- فإنه حينئذ يكون قد حكم على نفسه بالهزيمة في هذه المعركة.
ولعلكم سمعتم جميعاً قصة الإمام أحمد رحمه الله، وهو المجاهد الذي سطر صفحات من الصبر في سبيل الله عز وجل, ومن التقوى والورع, والعبادة, إذا قرأتم سيرة هذا الإمام، تذكرتم سير أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وأحيلكم فيما يتعلق بترجمته على ما كتبه الإمام الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام, ونقله الشيخ أحمد شاكر في مقدمته لمسند الإمام أحمد, فقد ذكر ترجمة وقصصاً وأخباراً عجيبة لهذا الإمام.
الشاهد: أنه في مرض موته أغمي عليه، فكان يقول: بعدُ بعدُ فلما صحا من إغمائه, قيل له: يا إمام، إننا سمعناك تقول: بعدُ بعدُ، قال: إن الشيطان قد عرض لي يقول لي: فُتَّني يا أحيمد، نجوت يا أحيمد نجوت يا أحيمد , الشيطان في المرحلة الأخيرة -مثلما تفضل الشيخ- في تصوير المراحل، يريد أن يظفر من الإمام أحمد -على الأقل- في لحظة بسيطة من لحظات الإعجاب بالنفس, شعوره بأنه قد فات الشيطان ونجا، لكن الإمام أحمد لقوة إيمانه ومجاهدته للشيطان في طول حياته, نجاه الله في هذا الموقف فكان يقول: بعدُ بعدُ، أي: لا، ما نجوت ما دامت الروح في الجسد, وهذا مصداق قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت:30-31] قال بعض المفسرين: تتنزل عليهم الملائكة حال الاحتضار، ألاَّ تخافوا مما أمامكم, ولا تحزنوا على ما خلفتم وراءكم, وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
والحمد لله رب العالمين.(149/24)
صلاح النية يؤثر في صلاح العمل
أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ: سليمان حفظه الله
السؤال
هل صلاح النية يؤثر في صلاح العمل؟
الجواب
أيها الأحبة، اعلموا أن صلاح النية يؤثر في صلاح العمل، وصلاح العمل يؤثر في صلاح النية, وقد ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} .
هذه بعضها أعمال ظاهرة, أو يترتب عليها أعمال ظاهرة, فالمحبة يترتب عليها إلفة وزيارة ومؤاخاة ومصاحبة ومساعدة وغير ذلك.
كما أن حب الاستمرار على الخير والصلاح والإسلام، وكراهية العودة إلى الكفر يترتب عليها محافظة على شرائع الدين وأوامره ونواهيه.
كما أن محبة الله ورسوله يترتب عليهما تكاليف كثيرة جداً.(149/25)
فضائل آخر الزمان
الأمر يختلف من زمان إلى آخر، وكما يكون الناس يولى عليهم، ولا ينبغي إلغاء اللوم على الزمان عند حصول مالا يحمد ولا سبه، علماً أن هناك مميزات لهذه الأمة في كل تاريخها، وأنها لا تخلو من الصالحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.(150/1)
التفاوت بين زمان وزمان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الأحبة عنوان هذه الكلمة هو: (فضائل آخر الزمان) ولعل الكثيرين منا لم يسمعوا عن آخر الزمان إلا الذم والعيب، حتى صارت هذه الكلمة عذراً كبيراً لتقبل وتسويغ كل الأخطاء والمخالفات، والقعود عن أداء الواجبات، فحسبنا أننا في آخر الزمان، ولعل سامعاً يسمع هذا العنوان، فيقلب رأسه يمنة ويسرة، ويقول: الله المستعان! هذه من موضوعات آخر الزمان.(150/2)
من أشراط الساعة (رفع العِلْم
نعم نحن نفرق -ولا شك- بين زمان وزمان، فالزمان مختلف، وكلما بعد العهد بالناس، وطال الأمد قست القلوب، ورفع العلم ووضع الجهل، وضعفت أنوار النبوة، ويكفيك حديث أنس المتفق عليه في صحيح البخاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن من أشراط الساعة: أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويفشو أو يظهر الزنا} وقوله عليه الصلاة والسلام: {أن يرفع العلم} تحتمل معنيين: المعنى الأول: أن يكون بمعنى: قبض أهل العلم، وموت العلماء، حتى لا يبقى في الأرض عالم، وحتى يقل بين الناس نشر العلم وتداوله وهذا هو المعنى الأقرب، بل لعله المعنى الصحيح، ولذلك جاء في رواية أخرى، في الحديث نفسه: {أن يقل العلم} بدل من قوله: {أن يرفع العلم} ويؤيده قوله -أيضاً-: ويظهر الجهل، فكلما رفع العلم وزال حل الجهل محله.
وهناك معنى آخر للحديث: أن يكون المقصود برفع العلم: (رفع مكانة أهله) ، وأن يعظم حملته، وأن يعلى قدرهم، وما ذلك -أيضاً- إلا لقلتهم وندرتهم بين الناس فإن الناس كلما قل العلم والعلماء، احتاجوا إلى من يكون في المرتبة الثانية أو الثالثة.
ولهذا جاء بعض الشباب إلى بعض السلف يسألونه، فقام فزعاً ينفض ثوبه، ويقول: احتيج إلي، احتيج إلي، إن زماناً يحتاج إلي فيه لزمان سوء.
وقال آخر يعاتب نفسه ويخاطبها: وما سدت فيهم أن فضلك عمهم ولكن الحظ في الناس يقسم يعني: ما كان سؤددك لفضلك، وإنما لقلة وندرة العلماء العاملين والدعاة والمصلحين فهذا -أيضاً- معنىً محتمل، وكلا المعنيين يعودان إلى الإشارة إلى قلة العلم وندرته في آخر الزمان، وقبل قيام الساعة.(150/3)
تفاوت مستوى التكاليف بحسب الزمان والمكان
إذاً: نحن لا نجادل أن الزمان يختلف، وأن الأمر يتفاوت بين عصرٍ وآخر، ولذلك فليس صحيحاً أن نطالب المسلم في هذا القرن بنفس مستوى المطالبة التي كانت في القرون المفضلة التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بخيريتها، ولا أن يطالب المسلم في جوار البيت العتيق، وفي عواصم العالم وحواضره بمثل ما يطالب به المسلم في جمهوريات الاتحاد السوفيتي -مثلاً- أو في يوغسلافيا، أو في مجاهل أفريقيا حيث يقل العلم، ويقل الكتاب، وتندر مجالس الذكر، ولا يكاد الناس يقفون من ذلك على جلية من الأمر أو بينة؛ فإن الحساب في الدار الآخرة يكون بقدر ما أعطاك الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق:7] .
وقال عز وجل في الآية الأخرى: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:48] .
فالغني الذي أعطاه الله تعالى مقاليد المال، ليس المطلوب منه في العطاء كالمطلوب من الفقير الذي لا يملك إلا قوت يومه وليلته وهكذا العلم في شأن العالم، فالعالم غزير العلم يطالب بما لا يطالب به طويلب العلم، وطويلب العلم يطالب بما لا يطالب به العاميون من الناس، وهكذا الأمر بالنسبة للمجتمع أو المجموعة أو الأمة، وإن شئت فقل: إن الأمر الذي يطالب به الناس في القرون التي كثر فيها العلم والعلماء، وذاع واشتهر وشاع، ليس كالزمان الذي تقلص فيه العلم وقل حملته ودعاته، لكن مع هذا، ومع اعترافنا بالتفاوت بين هذا العصر وغيره من العصور، وبين مكان ومكان، إلا أن ذم الزمان وعيبه، لا يجوز أن يكون تكئة للقعود وترك العمل، ونشر العلم والدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى، هذه مسألة.(150/4)
ذم آخر الزمان
والمسألة الثانية: ذم آخر الزمان لقد وردت أحاديث كثيرة في ذم آخر الزمان، وذم أهل ذلك الوقت، وهذه الأحاديث ليست موضوعنا الليلة، فهي تراجع في كتب الفتن والملاحم وأشراط الساعة وغيرها، وقد أكثر أهل العلم من ذكرها وتخريجها، ولعل من أبرز هذه الأحاديث -على سبيل المثال مما يناسب المقام- الحديث المشهور، الذي رواه مسلم وغيره {إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبا للغرباء} وهذا الحديث: أكد أن الأمر سيعود كما بدأ، غربة للإسلام مستحكمة، وقلة في الدعاة والعلماء، ولكن تلاحظ في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد متى يقع هذا، أو متى يكون زمان الغربة؟ هل هو في القرن الثالث أو الرابع أو الخامس أو العاشر أو العشرين، أو ما بعد ذلك؟! هذا أمر الله تعالى أعلم به، ولذلك فتطبيق هذا الحديث على واقعٍ بعينه زماناً أو مكاناً، مما هو موضع اجتهاد وتأمل، ولا يستطيع أحدٌ أن يجزم ويقطع بأن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، اللهم إلا ما يتعلق بالأزمنة التي تكون قبيل الساعة حينما يبعث الله تعالى الريح الطيبة، فتقبض أرواح المؤمنين، ولا يبقى إلا شرار الناس، وحين يتهارجون تهارج الحمر، وعليهم تقوم الساعة، فإنه لا شك أن ذاك الزمان من الأزمنة التي استحكمت فيها غربة الإسلام بكل وجه.
كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحدد في ذلك الحديث: هل يكون بعد الغربة الثانية تمكين للإسلام وعزٌ لأهله أم لا؟ وإن كان قوله: {وسيعود غريباً كما بدأ} يومئ ويوحي بأن الغربة الأخيرة التي تكلم عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، غربة لا عز بعدها للمسلمين.(150/5)
خيرية القرون الأولى
إن هذه النصوص وغيرها كثير، تقتضي -بلا شك- التسليم بخيرية القرون الأولى، وأفضليتها، وهذا محل إجماع، فقد جاء في الصحيحين من حديث عمران وابن مسعود وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم} الحديث، فليس من شكٍ في أن تلك القرون قد ذهبت بالخيرية والفضيلة، لقربها من عهد النبوة، وحملها للرسالة، وحفظها للقرآن والسنة، وجهادها في سبيل الله، وتثبيتها في أمر الإسلام، ولكن ليس في شئ من الأحاديث المذكورة، ولا فيما يشبهها حكم على جميع الناس، في جميع العصور وفي جميع الأزمنة، ولا في شئ منها تسويغ للقعود وترك العمل، أو وصم الأمة كلها بوصمة الانحلال من ربقة الدين، أو الانحراف عن شريعة سيد المرسلين عليه صلوات الله تعالى وسلامه.(150/6)
المروج والاختلاف في آخر الزمان
ومثله -أيضاً- الحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن وغيرهم، وذكره البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {كيف أنت يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا، -وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه- فقال: ما تأمرني يا رسول الله، قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر، وتقبل على أمر خاصتك وتدع عوامهم} فهذا الحديث فيه: أن الناس قد يصيرون إلى هذا الأمر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم حثالة من الناس، مثل الحثالة التي في آخر الإناء، قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا واضطربوا وتشابكوا، وكثر بهم القيل والقال، ولكن -أيضاً- نلاحظ في هذا الحديث أموراً: أولاً: أنه -مع ذلك- هناك بقية من أهل الخير والهدى يدعون إلى الأمر الأول وينهون عن الفساد في الأرض، ولمثل هؤلاء جاء التوجيه النبوي أن تقبل على خاصتك، وتذر العامة، وأن تأخذ ما تعرف، وتذر ما تنكر.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن هناك خاصة للمؤمنين وللدعاة، وهؤلاء الخاصة هم القريبون منهم الذين انتفعوا بعلمهم ودعوتهم وجهادهم، فهداهم الله تعالى وبصرهم وأرشدهم، فكانوا دعاة يقيمون الحجة على العالمين، وهؤلاء يجدون من الروح والسعادة والإيمان واليقين في قلوبهم، ما لا يجده حتى المجاهدون في ميادين المعارك -أحياناً- فإن الله تعالى ينزل عليهم من برد اليقين، ولذة العيش في الدنيا ما يعوضهم خيراً مما فقدوه من الناس، فهم وإن كانوا قلة في عددهم إلا أنهم كثرة في قوة إيمانهم وصبرهم ويقينهم وتعززهم بالإيمان، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] .(150/7)
لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه
ومن الأحاديث الواردة في ذم آخر الزمان، ما رواه البخاري، عن أنس رضي الله عنه، قال: {لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌ منه؛ حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم} فهذا الحديث صريح في أن الزمان كلما بَعُدَ العهد، قلت فيه الخيرية وكثر فيه الشر، فالذي بعده شرٌ منه، وهذه قاعدة عامة، وليس المعنى أنه عام أقل مطراً من عام أو أقل خصباً، أو أقل خيراً من حيث الدنيا، وإنما المقصود من الناحية الشرعية وهذه القاعدة يقابلها قواعد أخرى أثبتت أن للأمة -أيضاً- أزمنة يكثر فيها الخير، ويأذن الله تعالى بتجديد الدين وإحياء الشريعة، وإقامة الملة العوجاء، ودعوة الناس وجمعهم على الحق والخير والهدى.(150/8)
وجود المتمسكين بالدين وقت الغربة
وحتى في هذه الأحاديث (أحاديث الغربة) فيها معنى مهم؛ وهو أنه مع وجود الغربة، ومع كثرتها ومع استحكامها، إلا أن الحديث أشار إلى وجود المتمسكين بالدين، الرافعين لرايته، المنافحين عنه، وهؤلاء يقومون بالدعوة والإصلاح، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فطوبى للغرباء} وفي بعض الروايات أنه وصف الغرباء {بأنهم النزاع من القبائل} وفي رواية أخرى وصف الغرباء بأنهم: {الذين يصلحون إذا فسد الناس} وفي رواية: {الذين يصلحون ما أفسد الناس} وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {هم قوم صالحون قليل في أهل سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم} فقد ذكر عليه الصلاة والسلام أنه حتى في أزمنة الغربة، هناك دعاة مصلحون، يأمرون الناس بالبر، ويأمرون بالمعروف، فيطيعهم من يطيعهم، ويعصيهم من يعصيهم، وإن كان العصاة لهم أكثر من المطيعين.
والكثير من الناس لا يفقهون من معنى أحاديث الغربة إلا أن الإسلام سيعود غريباً، وأن هذا الأمر عذرٌ لهم في القعود، وعذر لهم في ترك العمل، وعذر لهم في ترك الجهاد، ولا يفقهون، ولا يطمعون؛ أن يكونوا من الغرباء من النزاع من القبائل من الذين يأمرون بالقسط من الناس، فيعصيهم من يعصيهم ويطيعهم من يطيعهم من الموعودين بطوبى: وهي الخير الكثير الطيب المبارك في الحياة الدنيا، بالتوفيق والتسديد والتصبير والتثبيت، وفي الآخرة بشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها.(150/9)
سب الزمان مسوغ للعجزعن العمل
إن كثيرين قد أساءوا فَهْم هذه النصوص، وأصبحوا يرددونها بغير وعي منهم، ويسلكون بها طرائق أهل الجاهلية.
وهي أن الكثيرين يسوغون ما هم عليه من قعودٍ عن الدعوة والجهاد، ويكثرون من عيب الزمان وذمه، وينحون باللائمة على الأيام والليالي، معتمدين على هذه النصوص وعلى ما أشبهها وقد أكثر الأدباء والشعراء، بل وبعض المحدثين، وبعض الفقهاء من ذم الزمان وعيبه، قال محمد بن الحسين اللخمي: دهرنا دهر افتراقٍ ليس ذا دهر تلاقي قَلَّ من يلقاك إلا بسلام واعتناق فإذا وليت عنه بِنْتَ منه بطلاق وهذه الأبيات نقلها الإمام الخطابي، مستحسناً لها مقراً، ومثله -أيضاً- الإمام ابن حبان في كتابه نزهة العقلاء، فإنه نقل أبياتاً منها قول بعضهم: كنا على ظهرها والعيش ذو مهل والدهر يجمعنا والدار والوطن ففرق الدهر بالتصريف ألفتنا فاليوم يجمعنا في بطنها الكفن كذلك الدهر لا يبقي على أحدٍ تأتي بأقداره الأيام والزمن(150/10)
كما تكونوا يولى عليكم
ولعل من أكثر ما يقصدون بفساد الزمان؛ فساد السلطان أو الحاكم وغير ذلك، يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] .
فبين الله عز وجل أن فساد السلطان من فساد الرعية، وأن الله تعالى بحكمته جعل الوالي منسجماً مع الرعية في قدر صلاحه أو فساده، أو عدله أو ظلمه، أو علمه أو جهله، وغير ذلك من الصفات والخلال.
فلما كان الناس في العصور الأولى أهل صلاح واستقامة وهداية، سخر الله تعالى لهم أمثال أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي، فلما اختلفوا اختلفت ولاتهم عليهم: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونََ} [الأنعام:129] .
وأما الحديث المشهور: {كما تكونوا يولى عليكم} ؛ فإن هذا الحديث ضعيف رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي اسحاق السبيعي مرسلاً، ولا يصح، لكن تغني عنه الآية، فإنها دليل صريح على أن هناك تناسباً بين وضع الحكام وبين وضع الشعوب.
فلو نظرنا إلى مستوى الشعوب؛ لوجدنا أنه منطبقٌ تماماً مع الحكام، نعم وهذا أمرٌ لا يشك فيه عاقل؛ لأن الشعب -أي شعب- لو كان قوياً فطناً فهماً عادلاً راسخاً، لكان يؤثر تأثيراً يقينياً في نوع الذين يحكمونه، ولم يكن يتمكن أحد -ممن هو مخالف لهذه الخصال- أن يصل إلى مستوى عالٍ في الإدارة والحكم في تلك الشعوب؛ لكن عندما تكون الشعوب شعوباً ضعيفة مستخذية ذليلة جاهلة، فإنها تستسلم لكل حاكم، وتقر له، وتذعن له، ولا تؤثر فيه، ولا تغير من قراراته؛ لأنها قد رضيت بالهوان والصغار؛ ولأنها رضيت بالحياة الدنيا من الآخرة.(150/11)
من عجيب ما نقل عن فساد آخر الزمان
والغريب أن الإمام الخطابي رحمه الله عقد باباً سماه (باب فساد الزمان وأهله) ، ثم ساق فيه نصوصاً في غاية العجب! أذكر نموذجاً منها قال: عن حذيفة رضي الله عنه، أنه قال: [[ما أبالي بعد سبعين سنة لو دهدهت حجراً فوق مسجدكم فقتلت منكم عشرة]] سبحان الله! حاش لصحابي من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول مثل هذا الكلام، وأن يتعمد أن يسقط حجراً على من؟! هل على أهل الغناء واللهو والطرب؟! كلا.
هل على أهل السوق الذين يبيعون ويشترون؟! كلا، بل على أهل المسجد فيقتل منهم عشرة بغير ذنبٍ، وهو الذي سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث} والحديث الآخر: {حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا عني دماءهم وأموالهم إلا بحقها} وهذا الأثر عن حذيفة لا شك أنه أثرٌ مكذوبٌ، يقطع العاقل بكذبه، ومع ذلك فإن في إسناده رجلٌ مجهول.
ومثله -أيضاً- أنه نقل عن جعفر بن محمد -وهو جعفر الصادق - أنه قال: [[إذا كانت السنة ثلاثين ومائة، فخير أولادكم البنات، وخير نسائكم العقر]] .
فأما البنات فيا حبذا ميلاد البنات! فلسنا من أهل الجاهلية الذين إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، بل نحن نفرح بميلاد البنات؛ لأن فيهن من العون والتوفيق والتسديد في الدار الآخرة لمن رباهن وقام عليهن الكثير، وهن ممن يتقرب الإنسان إلى الله تعالى بحفظهن ورعايتهن والقيام عليهن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم} وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرح ببنته فاطمة، ويقوم لها إذا أقبلت، ويقبلها بين عينيها ويجلسها في مكانه، وكانت من أشبه الناس به صلى الله عليه وسلم في حركاتها ومشيتها وكلامها وسلوكها وهديها وغير ذلك فيا حبذا أمر البنات!! ويا حبذا ميلاد البنات، والتشاؤم من البنات من شأن الجاهلية؛ لكن -أيضاً- المؤمن يفرح بالذكور، لأنهم المرابطون على الثغور، ولأنهم المجاهدون في سبيل الله، ولأنهم المنكَبُّون على حلق العلم؛ ولأن فيهم من الخير الشيء الكثير، وأيضاً المؤمن يفرح -عموماً- بالذرية، ويدعو الله عز وجل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] .
ولو لم يكن له ذرية لم يكن لهذا الدعاء معنى، وقد حبب وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة المرأة الولود الودود، وكان أفضل هذه الأمة أكثرها نساء، وكان عليه الصلاة والسلام يفرح بالأولاد، ويؤتى بهم إليه فيضعهم في حجره ويقبلهم، وربما مضغ شيئاً من التمر، فوضعه في أفواههم وحنكهم به ودعا لهم وبارك عليهم، وسماهم إلى غير ذلك من المظاهر التي تدل على فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بولادة أو ميلاد أحد من المسلمين ذكراً أو أنثى؛ وأن ذلك تكثير للأمة، وإرغام للكافرين، وهذا حكم باقٍ إلى قيام الساعة.
ومثله -أيضاً-: أن الإمام الخطابي، نقل عن ابن أبي ليلى، أنه قال: سيأتي على الناس زمان يقال له (زمن الذئاب) ، فمن لم يكن في هذا الزمان ذئباً أو كلباً؛ أكلوه.
وهذا الكلام هو من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولم يأتِ فيه نص من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الظن والتوقع الذي لا دليل عليه.
ومثل ذلك: أنه رحمه الله نقل عن علي بن خالد الضبي، أنه كان يقول لزوجته أو غيرها: أقلي علي اللوم يا أم مالكٍ وذمي زماناً ساد فيه الفلافس وساع مع السلطان ليس بناصحٍ ومحترس من مثله وهو حارس ويقصد بالفلافس هذا: رجلاً كان مديراً للشرطة في وقته، وكان رجلاً سكيراً عربيداً مشهوراً بالفساد، فيقول: كيف آل الأمر إلى أن يكون هذا الرجل سيداً يمشي مع الأمير ومع السلطان، ويظهر النصيحة، وفي الواقع أنه ليس بناصح.
فذكر الإمام الخطابي مثل هذه النصوص وغيرها كثير، مما يدل على فساد الزمان.(150/12)
ذم الزمان مخالفة للشريعة
إن ذم الزمان وعيبه وشتمه منهج مخالف للشريعة من وجوه عدة:(150/13)
عيب الزمان ليس حجة في التقصير
إذاً: عيب الزمان ينبغي أن لا يكون سبباً في التستر على العيوب والأخطاء، والسكوت على ألوان التقصير التي نقع فيها، سواء كان هذا التقصير -تقصيرنا كأفراد- في القيام بالمسئوليات الفردية التي حملنا الله تعالى مثلاً: المسئولية تجاه الزوجة، أو الولد أو في العمل الوظيفي، أو الحكومي المسند إلى الإنسان، أو في واجب الدعوة والجهاد، أو في واجب التعلم، أو في واجب المناصرة لقضايا المسلمين، أو في أي واجب من الواجبات الفردية أو كان هذا التقصير على مستوى الجماعات الإسلامية، التي حملت على عاتقها أمر الجهاد، وأمر الدعوة إلى الله عز وجل، فكان حرياً بها أن تعد للأمر عدته بحسن التربية للأفراد، وحسن الإدارة والتنظيم، والقدرة على إقامة المؤسسات الإسلامية في المجالات الاقتصادية، وفي المجالات الدعوية، وفي المجالات الإعلامية، وفي المجالات الإدارية، وفي غيرها من المؤسسات التي تستطيع أن تستثمر إمكانيات المسلمين استثماراً صحيحاً، وتصل إلى عقولهم وقلوبهم، وتقارع وتواجه كل قوى الكفر والشر والطغيان والعداوة للإسلام أو كانت هذه المسئولية مسئولية الدول، التي نيط بها بناء شعوبها وإعدادهم إعداداً صحيحاً، وإقامة الاقتصاد النظيف القوي، البعيد عن هيمنة القوى الشرقية أو الغربية، وإقامة الجيوش التي لا تكون مهمتها إهدار كرامة الشعوب ولا تخويفها، وإنما مهمتها حماية الحصون والثغور، وحماية البلاد، وحماية مكاسب الأمة من أعداء الأمة الخارجيين كاليهود والنصارى والمنافقين والشيوعيين والعلمانيين وغيرهم وهكذا هي المسئوليات الكبيرة المنوطة بالأمة وبالجماعة وبالفرد؛ فلا يجوز أبداً أن نتهرب من الاعتراف بتقصيرنا وبخللنا وبإهمالنا وبغفلتنا، ونتعلل من ذلك كله بكلمة واحدة نلقيها، دون أن نحسب لها حساباً (الله المستعان! هذا زمان الغربة) !.(150/14)
ذم الزمان فيه التنصل من المحاسبة والمعاتبة
ثانياً: إن في نسبة الشيء إلى غير فاعله تنصلاً من المحاسبة والمعاتبة وتحمل المسئولية، والكثيرون يرون أنه لا مسئولية عليهم، ولا عبء على كواهلهم، وأنه آن الأوان لهم ليعتزلوا الناس ويتركوهم حيث قد فسد الزمان، قال قائل: هذا الزمان الذي كنا نحاذره في قول عمر وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غيرٌ لم يُبك ميتٌ ولم يفرح بمولد والشرع صريح في مسئولية الإنسان، وعتابه وتكليفه بكل شيء من الأمور الاختيارية، والزمان ما هو إلا وعاءٌ وإناءٌ وظرفٌ لأعمال الناس؛ سواء كانوا أفراداً أم جماعات أم دولاً أم شعوباً أم غير ذلك، يقول الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] ويقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الانسان:2] ويقول: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق:6-7] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق:10] .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته الحديث} وفي حديث أبي الدرداء عند أهل السنن {لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة؛ حتى يسأل عن أربع} الحديث.(150/15)
الإنسان مسئول عن كل أعماله
أقول: كل أعمال الإنسان فرديها وجماعيها على مستوى الشعوب، وعلى مستوى الجماعات؛ الإنسان مسئول عنها كلها، بل حتى بعض الأشياء التي قد يبدو لأول وهلة أنها أمور قدرية ولا يد للإنسان فيها، فعند التأمل يبدو أن للإنسان دوراً كبيراً في حدوثها على سبيل المثال: الأمراض الوبائية التي تنتشر في كثير من الأحيان: لو تأملت؛ لوجدت أن سبب هذه الأمراض.
ربما كان الحروب المدمرة التي ألقت بكثير من الجثث على سطح الأرض، دون أن يمكن مواراتها في التراب، أو أن السبب في ذلك: تلوث البيئة بدخان المصانع، أو تلوث البحار بالمخلفات الصناعية وغيرها التي تلقى فيها، حتى ثقب الأوزون الذي يتكلم عنه العلماء، والذي يقولون: أنه يهدد الكرة الأرضية، وقد يكون سبباً في كثرة أو ارتفاع منسوب المياه، وفي تغيرات كثيرة، ويتحدثون عنه بشيء من المخاوف، حتى هذا الثقب -حين يتكلمون عنه- تشير كثير من الدراسات العلمية إلى مسئولية الدول الصناعية وغيرها، وإلى أن كثيراً من الأشياء التي يستخدمونها كانت سبباً لها.
إذاً: الشرع واضح وصريح في مسئولية الإنسان عن أفعاله، فردية كانت أو جماعية، على مستوى الشعوب أو على مستوى الحكومات.(150/16)
ذم الزمان فيه تزكية للنفس
ثالثاً: إن ذم الزمان وعيبه، فيه معنى تزكية النفس ومدحها، فإن ذمك أيها الإنسان للزمان، ربما يعني ذم أهل الزمان، وكأنك تخرج نفسك من دائرتهم، وتخص ذاتك بفضيلة ليست لهم نعم كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تتمثل بقول لبيد: ذهب الذين أعيش في أكنافهم وبقيت في جلد كجلد الأجرب يتحدثون مخافة وملاذةً ويعاب قائلهم وإن لم يشغب كانت تقول ذلك؛ لكن! من يكون في مثل عائشة، ومن يكون في عيار عائشة؛ فضلاً وتقوىً ونبلاً وعلماً وفصاحةً وعبادةً وإيماناً، وإخلاصاً لله عز وجل؟! فحين يقول الواحد منا مثل هذا؛ كأنه يزكي نفسه ويمدح نفسه، والله تعالى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32] ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49] .
كما أن كثيرين قد أصابهم داء التعاظم وداء العجب، فهم يزكون أنفسهم ويدَّعون صلاح قلوبهم ونياتهم ومقاصدهم، فيقول الواحد منهم: علم الله تعالى صدق نيتي، وسلامة مقصدي، وحسن ما في قلبي؛ فرزقني كذا، وأعطاني كذا، ووفقني بكذا ثم يزكون آراءهم، وأعمالهم، واجتهاداتهم، فيقولون: لما علم الله تعالى منا الصدق؛ بارك في علمنا وإن كان قليلاً، وبارك في عملنا وإن كان قليلاً، وينسون أنهم مدحوا أنفسهم بشيء قد لا يكونون تحققوا به وهكذا يظن الإنسان في نفسه خيراً كثيراً، ثم يلجأ -بعد ذلك- إلى اعتزال الناس ومباعدتهم وتركهم لا لأنه يرى في نفسه عيباً ونقصاً، ولا لأنه يقول: عجزت عن التأثير في الناس أو خفت على نفسي من الفساد، لا لهذا ولا ذاك؛ ولكن لأنه يرى أن الناس ليسوا أهلاً بأن يجالسهم، ولا أهلاً ليصحبهم، ولا أهلاً ليكون بينهم وهكذا ترى أنه أصابه نوع من التعاظم، وهذا الذي حذر منه الإمام ابن قتيبة رحمه الله، حين كان يقول: أحببت لك أن تجري على عادة السلف، في إرسال النفس على سجيتها، والرغبة بها عن لبس الرياء والتصنع، ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنزهت أنت، ولا أن القوم ثلموا وتورعت أنت، يعني: إياك إياك أن تظن أن الناس تلطخوا وأنت بريء، ووقعوا وأنت سالم، وارتكبوا بعض الموبقات والذنوب وأنت بعيدٌ عنها؛ فإن هذا داء العجب والكبر الذي ربما كان محبطاً للأعمال!!!(150/17)
ذم الزمان فيه اتهام للآخرين
الأمر الرابع: أن ذم الزمان وعيبه، فيه اتهام للآخرين، -بقدر ما فيه تزكية للنفس، ومدحٌ لها وثناء عليها- فهو يتهم الناس بالتردد والعيب والهلاك، ويهون من شأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو داء مهلك، ولهذا جاء في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال: هلك الناس فهو أهلكُهم} بالضم يعني: هو أكثرهم هلاكاً وانحرافاً وفساداً، وجاء في رواية: {فهو أهلكَهم} بالفتح، يعني: هو الذي تسبب في هلاكهم؛ لأنه قنطهم ويأسهم من رحمة الله تعالى، وجرهم إلى القعود وترك العمل.
وهذا محمولٌ على من قال: هلك الناس، على سبيل التيئيس والتقنيط، لا على سبيل الدعوة إلى العمل، والدعوة إلى العلم، والدعوة إلى الجهاد، والدعوة إلى الإصلاح.(150/18)
ذم الزمان فيه تبرير الفشل والإخفاق والعجز
العيب الخامس: أن عيب الزمان -وهذا من أخطر الأمور-: تبريرٌ للفشل والإخفاق والعجز فكلما عانى الواحد منا أمراً من أمور الدعوة أو الجهاد أو العلم، ففشل فيه بعض الفشل أو كله، كان أسرع ما يمر بخاطره، وأول ما يقول على طرف لسانه: (الله المستعان هذا زمان الغربة) ، نعم قد يكون الأمر كذلك، وقد تكون تعيش زمناً من أزمنة الغربة؛ لكن سلفك الصالح رضي الله عنهم لم يكونوا يقولون هذه الكلمة: (هذا زمان الغربة) ، وحاشاهم أن يقولوه فراراً من الاعتراف بالتقصير أو العجز، أو تهرباً عن المراجعة والتصحيح، بل كانوا يقولون ذلك؛ لتصبير النفس على دين الله عز وجل، وتعزيتها على ما فاتها من الخير، ولم يكونوا يتوقفون عن الدعوة لهذا السبب، أو لاقتناعهم بهذه الكلمة أما اليوم: فالكثيرون يكتفون بهذه الكلمات، يكتفون بها عن الرجوع إلى أنفسهم، أو عن معرفة أخطائهم، أو عن تفسير الفشل والإخفاق -الذي منوا به- تفسيراً علمياً موضوعياً صحيحاً.
هذا داعية يخطئ في أسلوب الدعوة، ولا يملك التسلل إلى قلوب الناس، ويتجاوز الصفات والأخلاق الشرعية، فإذا رُدَّتْ دعوته، هز رأسه يمنة ويسرة، وقال: (هذا زمان الغربة) ، وهذا آخر: ينكر المنكر بشدة وقسوة وتعسف، ويتعدى ما أمر الله تعالى وما نهى، فإذا وقع عليه لومٌ أو عتابٌ أو تقريعٌ، أو ذمه الناس أو عابوه، أظهر التصبر والتجلد، وقال: (هذا زمان الغربة) ، وهذا ثالث: يخوض معركةً جهادية مع أعداء الإسلام أياً كان لونهم، وأياً كانت مذاهبهم، ولم يعد لهذه المعركة عدتها ولم يحمل لها سلاحها، فإذا لم يتجاوب الناس معه أو لم يجرِ النصر سريعاً؛ قال: (هذا زمان الغربة) !.
بل ربما رأى الإنسان من ولده انحرافاً؛ لأنه قصر في تربيته، أو من زوجته سوء خلق؛ لأنه لم يعتنِ بها، ولم يؤدِ حقها؛ فحينئذٍ يعزي نفسه عن ذلك كله، بقوله: (هذا زمان الغربة) ، وقد نسي أنه قصر في حق الزوجة، أو قصر في تربية الولد، أو قصر في إعداد العدة للجهاد، أو قصر في القيام بأمر الدعوة، أو قصر في التزام الشريعة -بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- وستر ذلك التقصير كله بهذه الكلمة، بل ربما أخطأ في حق صديقه أو زميله، فإذا رأى منه إعراضاً أو جفوة، تعذر بأن (هذا زمان الغربة) ، وهكذا يظهر جلياً أننا نتذرع بهذه الكلمة، ونتترس بها -أحياناً- لنستر بها عيوبنا وأخطاءنا، ونفر من الاعتراف بذلك، وحاشا أن يكون سلفنا الصالح قصدوا هذا المعنى أو أشاروا إليه.(150/19)
ذم الزمان فيه نسبة الأشياء إلى غير فاعلها
أولها: أن ذلك نسبة للأشياء إلى غير فاعلها الحقيقي وهو الله تعالى بل فيه تشبه بالمشركين الذين كانوا يقولون: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] ولذلك نهى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن ذم الزمان وعيبه، ففي الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار} فبين الله عز وجل أن سب الدهر لا يجوز، وأنه أذية لله عز وجل، وأنه وضع للشيء في غير موضعه، فلا ذنب للدهر، وإنما الدهر مخلوق مدبر مسير بيد الله عز وجل الذي يقلب الليل والنهار، كما قال الله عز وجل: {يقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور:44] .
وفي رواية قال الله تعالى في الحديث القدسي: {لا تسبوا الدهر؛ فإني أنا الدهر} وليس المعنى: أن الدهر اسم من أسماء الله تعالى -كما فهم الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى! مخالفاً في ذلك رأي كافة أهل العلم- وإنما المقصود بقوله تعالى: {أنا الدهر} ما فسره قوله: {بيدي الأمر أقلب الليل والنهار} ، وإلا فالدهر ليس من أسماء الله تعالى.
ولهذا كان بعض الشعراء مفصحاً عن الحقيقة، منكراً على الذين يعيبون على الدهر؛ حين قال: يا لائم الدهر إذا ندى لا تلم الدهر على غدره الدهر مأمورٌ له آمرٌ ينصرف الدهر إلى أمره كم كافرٍ بالله أمواله تزداد أضعافاً على كفره ومؤمنٍ ليس له درهماً يزداد إيماناً على فقره لا خير في من لم يكن عاقلاً يبسط رجليه على قدره وقال آخر: ما الدهر إلا ليلة ويوم ما العيش إلا يقظة ونوم يعيش قوم ويموت قوم والدهر قاض ما عليه لوم أو: والدهر ماضٍ ما عليه لوم.
فإنما هو مسيرٌ بيد الله عز وجل الذي يقلب الليل والنهار.
إذاً: نسبة الأمور إلى الزمان، وعيب الدهر وذمه وسبه، هو خطأ شرعي من جهة أنه نسبة الشيء إلى غير فاعله الحقيقي وهو الله عز وجل.(150/20)
فضائل آخر هذه الأمة
النقطة الرابعة: من فضائل هذه الأمة: الأمة الباقية إلى قيام الساعة لها فضائل كثيرة، وسوف نذكر نماذج عامة، ونماذج مما يتعلق بفضائل آخر هذه الأمة؛ لندرك أنه ينبغي أن تفهم الصورة بجانبيهما كليهما.(150/21)
ألا نعذب عذاب استئصال
الأمر السادس: أن الله تعالى وعد نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يعذب هذه الأمة عذاباً يستأصلها به عن آخرها، كما في الحديث الذي رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص ورواه الترمذي عن خباب رضي الله عنه: {أن النبي سأل ربه ثلاثاً، فأعطاه اثنتين ومنها: ألا يعذب هذه الأمة أو ألا يهلك هذه الأمة بسنة بعامة} فهذه الأمة أمة محفوظة، أمة باقية، ختم الله عليها بخاتم البقاء إلى قيام الساعة، إلى آخر الزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهي موجودة: إذا مات فينا سيدٌ قام سيدٌ قؤول لما قال الكرام فعول إذا ما راية رفعت لحرب تلقاها عرابة باليمين فنحن أمة باقية، أمة ضاربة في مجاهل التاريخ، وباقية إلى آباد الزمان وأحقابه، وإلى أن يشاء الله عز وجل، وكلما فَرَط جيلٌ وذهب؛ خلفه جيلٌ آخر يحمل عنه الراية، ويجاهد عنه الجهاد ذاته، هذه الأمة: هي التي سوف تفتح بيت المقدس مرة أخرى -كما وعد الصادق المصدوق- وهي التي سوف تقاتل اليهود -كما في الصحيح أيضاً- وهي التي ستقتل الدجال، وهي التي ستفتح القسطنطينية مرة أخرى، كما فتحت أول مرة، بل هي التي سوف تفتح روما، كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي سوف تحقق الملاحم الكبرى وتقاتل الروم وتنتصر عليهم بإذن الله عز وجل.(150/22)
فضائل أخرى
ثم هناك فضائل أخرى تتعلق بآخر الزمان منها: قوله عليه الصلاة والسلام، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن أنس، وقال الترمذي: حديث حسن، ورواه -أيضاً- أحمد عن عمار بن ياسر، وجاء عن عبد الله بن عمر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أمتي كالغيث، أو مثل أمتي كمثل المطر لا يُدرى أوله خيرٌ أم آخره} إن هذا لا يعني أن آخر الأمة كأولها في الفضيلة سواء بسواء، فأول هذه الأمة أفضل -بلا شك- ولكنه إشارة إلى فضيلة آخر هذه الأمة، وأنها -أحياناً- تشبه أولها في الفضل فأول هذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، وآخر هذه الأمة المهدي عليه السلام، وعيسى بن مريم، وأولئك الرجال الأفاضل الأشاوس الذين يقتلون الدجال، وأولئك الأبطال الذين يفتحون بيت المقدس، وأولئك الفرسان الذين يقتحمون القسطنطينية، فمن رآهم ورأى فضائلهم، وإشادة النبي صلى الله عليه وسلم بهم تذكر قوله: {أمتي كالغيث لا يُدرى أوله خيرٌ أم آخره} فهو كقول الإنسان: هذا الثوب أفضله أعلاه أم أسفله مع أنه يدري أن أعلاه أفضل؛ لكنه يقصد الإشارة إلى أن أسفل هذا الثوب -أيضاً- نظيفٌ وجميل وحسن.
ومن ذلك -أيضاً- ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {من أشد أمتي لي حباً ناسٌ يكونون بعدي يودُ أحدهم لو رآني بأهله وماله} ، فهؤلاء الناس الذين أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ود الواحد منهم أن يكون رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى لو اقتضى ذلك أن يتخلى عن أهله وماله؛ لشدة محبتهم له، فهؤلاء: من أشد أمته حباً له، ومن أفضل أمته عليه الصلاة والسلام، فلو قارنت هؤلاء بأقوام عاشوا معه صلى الله عليه وسلم فما نشطوا بصحبته، وما ذهبوا إليه، وربما أسلموا وبقوا في قبائلهم، وبقوا في ديارهم، وربما جلسوا معه ثم غادروه بعد ذلك فلم يقتبسوا منه علماً، ولم يرووا من حديثه، ولم يهاجروا معه، ولم يجاهدوا معه، ولم يحجوا معه، ولم يشهدوا معه المشاهد؛ لأدركت أن في آخر هذه الأمة فضلاً كثيراً، كما هو في أولها.
ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: {السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنّا رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: أنتم أصحابي، وإخواني هم الذين لم يأتوا بعد، قالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك؟! قال عليه الصلاة والسلام: أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غرٌ محجلة بين ظهري خيل دُهْم بُهْم ألا يعرف خيله؟! قالوا: بلى، قال: فكذلك هم، يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، قال: وأنا فرطهم على الحوض وليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأقول: ألا هلم ألا هلم، أناديهم، فيقال: إنهم قد غيروا -أو قد بدلوا- بعدك، فأقول: سحقاً سحقا} فهذا دليلٌ على أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن يكون رأى من لم يأتِ من أمته من الأخيار والصالحين، وأهل الوضوء، وأهل الصلوات، وأهل الذكر، وأهل الأوراد، وأهل التسبيح، وأهل الجهاد، وأهل الصبر، وأهل الصدقة، حسبهم شرفاً وفخراً أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن يكون رآهم: {وددت أنّا رأينا إخواننا} وحسبهم شرفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وسمهم بوسم الأخوة، فهم إخوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإخوة أصحابه في الإسلام والتوحيد والاتباع، الذي جمعهم عليه جميعاً.
وفي حديث آخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم، وقال: {للصابر منهم أجر خمسين، قالوا: أمنا يا رسول الله، أم منهم؟ قال: بل منكم} فذكر أن الإنسان من آخر هذه الأمة إذا عمل عملاً أُجِرَ عليه أجر خمسين من الصحابة لو عملوا العمل ذاته فإذا تصدق بصدقه ضوعفت له خمسين ضعفاً عما يكتب للصحابي -مثلاً- لو تصدق بالصدقة ذاتها، وإن كان الصحابة يتميزون بفضل الصحبة، وأنهم قد اقتربوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبوا أنفاسه، ورأوا وجهه الشريف الطاهر المنور، وسمعوا الوحي من فمه، وجاهدوا معه وصبروا، كما قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] .
فلهم جميعاً فضل الصحبة، ولكن من جاء بعدهم فإنه يضاعف له الأجر، وإن قلت أعماله بالقياس إلى أعمال الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ومن ذلك حديث أبي عنبة الخولاني وهو ممن صلى إلى القبلتين، وشرب الدم في الجاهلية أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يزال الله تعالى يغرس في الدين غرساً يستعملهم في طاعته} وهذا الحديث رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وصححه، وقال الإمام البوصيري في زوائد ابن ماجة: إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات فهذا الحديث دليل على أن الله تعالى يغرس للدين والتوحيد والدعوة غرساً في كل زمان يستعملهم في طاعته، ويوفقهم في مرضاته، ويجعل همهم وديدنهم وسرورهم وقرة عيونهم في الجهاد في سبيل الله، والصبر على ما يلقون في ذات الله تعالى، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
الخاتمة: وأخيراً: فإن الأحاديث الواردة في الفتن فيها افتتاح القسطنطينية، وفيها قتال الدجال، وفيها قبض أرواح المؤمنين قبيل قيام الساعة، وفيها فتح بيت المقدس، وفيها قتال اليهود، وفيها قتال الروم، وفيها فتح روما، وكل هذه لن تتم إلا على أيدي الرجال الكبار الكرام الأشاوس الأبطال المخلصين، بل إنني أقول: إن الذين يقاتلون إلى جانب المهدي ويقاتلون إلى جانب المسيح بن مريم لم يكونوا إلا رجالاً أقوياء أشداء، ولم تكن إلا أمة تقوم بقادتها، وتقوم برجالها، وتقوم بأبطالها ولو أن قائداً عظيماً محنكاً وجد في أمة ذليلة مهزومة مقهورة محطمة؛ لم يستطع أن يقوم بشيء ولا يصنع شيئاً قال الشاعر: ولو أن قويماً أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت فكيف ترى في هذه الأمة؛ التي هذا أولها وهذا آخرها إنها ولا شك أمة خير.(150/23)
أكثر أهل الجنة
الصفة الخامسة: أنهم كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم {نصف أهل الجنة أو أكثر من ذلك} كما جاء في الصحيحين عن ابن مسعود ٍ رضي الله عنه، بل إن من هذه الأمة من يدخل الجنة بلا حساب، كما في حديث عمران بن حصين، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال؛ كما في حديث سهل بن سعد ٍ: {ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً، أو سبعمائة ألفٍ متماسكين آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة، ووجوههم على صورة القمر ليلة البدر} إن هذه الفضيلة العظيمة، وهذا المكان الكبير في الجنة، من المقطوع يقيناً أن الأمة لم تدخله إلا بفضل الله تعالى، ثم بعملها الصالح.
إن من المعلوم أن دخول الجنة يكون بفضل الله تعالى ورحمته، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: {لن يدخل أحدكم الجنة بعمله} الحديث، ثم يكون بعمل الإنسان الصالح الذي هيأه لرحمة الله تعالى، كما قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] .
هذا دليل على أن الأمة قد عملت الصالحات من الطاعات من الصلاة والصيام، والشهادتين، والحج، والعمرة، والنسك، والخير، والصدقة، والبر، والإحسان، والجود، والكرم، والعدل، إلى غير ذلك -ومع ذلك- فينبغي أن نعلم أن لفظ الصالحات ليس مقصوراً على هذه الأمور فحسب، بل لفظ الصالحات أوسع من ذلك وأشمل فمن الصالحات -مثلاً- نَفْعُ الناس في دينهم ودنياهم، ومن الصالحات: تحقيق المكاسب للمسلمين، ومن الصالحات: القيام بفروض الأعيان، كتعلم العلوم التي يحتاج إليها في هذا الزمان، كالطب -مثلاً- أو الهندسة، أو الصناعات التي يحتاج إليها المسلمون إلى غير ذلك مما يدخل في إطار الإعداد الذي أمر الله تبارك وتعالى به: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] .(150/24)
ظهور المجددين على رأس كل مائة سنة
فضيلة ثانية لهذه الأمة: ظهور المجددين على رأس كل مائة سنة وفي الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهم، وسنده حسنٌ، وأجمع العلماء على صحته، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تعالى يقيّض لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها} فكما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمر الغربة، وكما بين عليه الصلاة والسلام فقال: {إنه لا يأتيكم زمانٌ إلا والذي بعده شرٌ منه} فقد ذكر في المقابل: أنه على رأس كل مائة سنة، إما من الهجرة، وإما من موت النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها (منْ) ! المقصود الذين تقوم بهم الكفاية في تجديد الدين، فقد يمكن في عصرٍ من العصور أن يكون تجديد الدين لفردٍ واحد، كما كان في العصر الأول حين كان المجدد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، لكن ربما جاءت عصور استحكمت فيه غربة الدين وكثر الجهل، وكثرة المخالفات، فأصبح أمر تجديد الدين لا يقوم به إلا العصبة أولي القوة من الخلص المؤمنين الندباء الأقوياء الشجعان، فهؤلاء وعد النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى سوف يبعثهم وينتدبهم.
إذاً: وعد الله تعالى أن يبعث من تقوم بهم الكفاية في أمر كبيرٍ جليلٍ خطير وهو: تجديد أمر الدين لهذه الأمة لم يقل تجديد الدين لبلد معين، أو لفئة معينة، أو لمنطقة معينة، أو لقبيلة معينة، وإنما قال: لهذه الأمة كل الأمة من أقصاها إلى أقصاها الأمة التي رضيت بالله رباً، وبالإسلام دينا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيا.(150/25)
الآخرون السابقون يوم القيامة
الميزة الثالثة: أن هذه الأمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، وهذا هو اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له فهم لنا فيه تبع -يعني يوم الجمعة- اليهود غداً والنصارى بعد غد} نعم! نحن الآخرون وجوداً، فأمتنا ناسخة للأمم كلها، قاضية عليها ملغية لقيادتها وسيادتها، فقد انتزعت هذه الأمة الراية من النصارى، ومن اليهود، ومن أمم أهل الكتاب، وتفردت بها بأمر الله عز وجل الشرعي، حيث نزل هذا القرآن المهيمن على الكتب كلها، وبأمر الله تعالى القدري الكوني، حيث قضى الله تعالى وقدر أن تكون هذه الأمة هي آخر الأمم، وهي الأمة المهيمنة على الأمم كلها، والموعودة بالنصر والتمكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إن هذا يعني خيرية هذه الأمة، وهذه الخيرية لا تعني أن نتكل على مجرد الانتساب؛ بل الأمر كما قيل: كن ابن من شئت واكتسب أدباً يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من قال كان أبي(150/26)
الخيرية لا تكون بمجرد الانتساب
إن من أصول الشريعة المتفق عليها والمقررة: أن فضل الإنسان -فرداً كان أو جماعة أو أمة- لا يكون بمجرد الانتساب؛ إنما يكون بالعمل، قال الله تعالى في محكم التنزيل: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] وقال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94] وقال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وقال جل شأنه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] .
إذاً: فالخيرية لا تكون بمجرد الانتساب، ولسنا نحمل نظرية كنظرية بني إسرائيل، الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأن لهم فضيلة، بمجرد كونهم يهوداً، كلا! إن هذه الأمة إنما كانت أفضليتها وخيريتها بقيامها بأمر الله عز وجل، واتباعها للرسول صلى الله عليه وسلم، وأمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر، وشهادتها على الأمم كلها.(150/27)
شهداء الله في الأرض
الميزة الرابعة: أن هذه الأمة هم شهداء الله تعالى في الأرض، كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أنتم شهداء الله في الأرض} .
إن معنى الشهادة: هو أن نشهد على الناس بحسن القول والعمل إن أحسنوا، وبضد ذلك إن أساءوا أو فرطوا معناه: أن هذه الأمة أمة العدالة أمة الحق أمة الإنصاف لا تنساق وراء الهوى، ولا وراء العواطف، ولا وراء القرابات، ولا وراء المجاملات؛ وإنما تشهد للمحسن بأنه محسن، حتى ولو كان بعيداً، وتشهد على المسيء بأنه مسيء، ولو كان من أقرب الأقربين.
ولذلك: إذا رأيت هذه الأمة قد شهدت شهادة الزور، وغيرت وبدلت؛ فاعلم أن هذه الأمة قد انحرفت عن سواء السبيل، ولم تعد جديرة بالوعد الإلهي والتمكين الذي وعده الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات حين ترى هذه الأمة تضلل الصالحين، فتصفهم -أحياناً- بأنهم من المتطرفين، وأحياناً بأنهم من الأصوليين، وأحياناً بأنهم من الإرهابيين، أو أنهم من أهل الفساد والإفساد، كما نجده في الإعلام العربي في جميع بلاد الإسلام؛ فإن هذا آية على أن هذا الإعلام ومن يقف وراءه على الأقل؛ قد انسلخوا عن حقيقة الانتماء إلى هذه الأمة، وغيروا وبدلوا، وأتوا بمذاهب ونظريات، ونظم غريبة دخيلة على هذه الأمة وحين ترى هذه الأمة قد أصبحت تلهج صباح مساء بالثناء على من غيروا شريعة الله تعالى، وحكموا بغير هديه، واستنوا بغير سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وحكموا بالجبت والطاغوت، ووالوا أعداء الله تعالى، ومدوا أيديهم إلى الكفار من اليهود والنصارى؛ فإن ذلك آية ودليلٌ على أن الشهادة التي أؤتمنت عليها هذه الأمة، لم تعد جديرة بها؛ فقد وضعتها في غير محلها، وشهدت شهادة الزور على أولئك المغيرين المبدلين.
ومثله: حين ترى هذه الأمة قد أبرزت المشبوهين فكرياً من أهل الحداثة، وأرباب العلمانية وغير ذلك من المذاهب الأدبية، أو المذاهب الفكرية، وقدمتهم على أنهم نماذج للجيل، يحتذى بفكرهم، ويتبع علمهم، وتقرأ مؤلفاتهم، وتدرس نظرياتهم، وتحفظ نصوصهم، فإن ذلك دليل على تغيير هذه الأمة للشهادة الذي أؤتمنت عليها وحين ترى هذه الأمة قد مدحت أهل الدنيا، ومدحت أهل الانحراف وأهل الفن، وأهل الكرة، وأهل الرياضة، وغير ذلك، ومدحتهم بما لم يكونوا جديرين به، وقدمتهم للشعوب والأجيال على أنهم هم الأسوة والقدوة الذين ينبغي أن يتربى الجيل على نمطهم، فإن ذلك نوعٌ من الانحراف في الشهادة.
ومثله: حين تركض الأمة وراء رايات الجاهلية، الراية اليهودية: المتمثلة في السلام العالمي الذي ينادي به اليهود، ومن يدور في فلكهم؛ لجعل المنطقة الإسلامية -خاصة- منطقة نفوذ إسرائيلية، وتطويع الشعوب المسلمة، والثروات المسلمة، والعمالة المسلمة، للسيطرة اليهودية، والخبرة اليهودية، والإدارة اليهودية، أو تركض الأمة أحياناً وراء الرايات النصرانية: المتمثلة بما يسمى بالنظام الدولي الجديد الذي أصبح مفضوحاً -من يومه وليلته- في مواقفه السوداء من المسلمين المضطهدين، في البوسنة والهرسك، أو المضطهدين في أي بلدٍ في العالم، أو من مأساة المسلمين في الصومال، أو من موقفه من اليهود، أو من مواقفه الأخرى، التي أصبح مفضوحاً بها للقاصي والداني.
إذاً: حين تشهد الأمة شهادة الزور؛ يتبين أنها قد بدلت وغيرت، وانحرفت عن سواء السبيل ومثله -أيضاً-: حين تتأخر الأمة عن موقعها، وعن مركزها في القيادة والتوجيه والريادة، وتصبح في آخر القائمة، وفي ذيل الشعوب والأمم، لا تشهد أصلاً، ولا تستشهد بل أمرها كما قيل: ويقضى الأمر حين تغيبُ تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهودُ لأنه لا وزن لها، ولا قيمة لها، مع أنها أكثر الأمم عدداً وعدة فهم كعدد الرمل والحصى والتراب، وهم أكثر الشعوب إمكانيات اقتصادية وثروات طبيعية، وهم يحتلون أفضل المواقع الجغرافية والاستراتيجية، ويملكون من الإمكانيات التي منحت لهم من الله عز وجل، ما هو مصداقٌ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {بينا أنا نائم إذ أُتيت بمفاتيح الأرض أو مفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي} ولكنهم -مع ذلك- لم يكونوا جديرين بإنسانيتهم، وبعلمهم وبمواقفهم وبرجولتهم وبقدرتهم على اغتنام الفرص، وبتمسكهم بدين الله تعالى، وبطاعتهم لله عز وجل، وبالتزامهم بشريعته، وباتباعهم لسنة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكونوا جديرين بذلك كله حتى يجعل الله تعالى لهم قيادة الشعوب والأمم، كما جعلها للذين من قبلهم.(150/28)
بقاء الطائفة المنصورة
فمن فضائل هذه الأمة: بقاء الطائفة المنصورة فيها إلى قيام الساعة، كما تواتر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس} وهذا الحديث متواتر، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في أمر هذه الطائفة أموراً منها: أولاً: أنها جماعة مجتمعة على الحق داعية إليه، لم تجتمع على قبيلة، ولا على أسرة، ولا على وطن، ولا على دنيا، وإنما اجتمعت على الحق الذي تنادي به وتدعو إليه، وتنافح عنه وتجاهد في سبيله.
ثانياً: أنها قائمة على الحق، فهي تحمل الحق المجرد الذي يشاب بشائبة من باطل، ولا ينتمي إلى فكرٍ غربي أو شرقي مستورد، وإنما ينبع من صميم هذه الأمة وسر وجودها، وهو الإسلام (القرآن والسنة) .
وثالثاً: أنها ظاهرة على الناس فهي ليست مجموعة مستترة خفية لا يعلم بها إلا آحاد الناس أو أفرادهم، وليست -أيضاً- فئة قليلة نادرة توجد في بلد، ولا توجد في بلد آخر، وإنما هي ظاهرة معلنة معروفة منصورة مؤيدة من الله.
رابعاً: أنهم يدعون إلى الله تعالى، ويقاتلون في سبيل الله، وإذا كنا نعلم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث معاذ: {وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله} وهذه الطائفة تقوم بهذه الشعيرة العظيمة، وهذه الفريضة الكبيرة، وهي فريضة الجهاد في سبيل الله، فمعنى ذلك: أن غيرها من الفرائض والشعائر والشرائع قد قاموا بها من باب الأولى والأحرى والأجدر فمن قام بأمر الجهاد؛ فقد قام بما دونه من الدعوة والعلم والتعليم وغير ذلك من ألوان الفروض، سواء كانت فروضاً عينية، أم كانت فروضاً كفائية، قال الله عز وجل: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] .
إنه لا يخلو عصرٌ من قائمٍ لله تعالى بحجة، ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، كما جاء في بعض الأحاديث عن سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام: {إن الله تعالى يقيض لهذا الدين من كل خلفٍ عدوله} ففي ذلك توثيق وتعديل لأهل العلم، ولهذا أقول لنفسي ولغيري: ينبغي علينا مع استفراغنا للجهد في القيام بأمور الإسلام وتكاليفه وتبعاته، ينبغي مع ذلك كله أن نعمل ونحن قريرو الأعين، مطمئنو النفوس، واثقون أن الله تعالى لم يكل هذا الدين إلينا، وأن الله تعالى لا يزال يحفظ دينه بمن ينتدبهم لذلك ويخلقهم له، كما وعد عز وجل في محكم التنزيل، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] وقال عز وجل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] .(150/29)
الأسئلة(150/30)
المجتمع ميدان سباق بين الأخيار والأشرار
السؤال
لقد فرحنا فرحاً شديداً بما حصل في يوم الجمعة والخميس الماضيين من اجتماع العلماء والشباب، ولكن الذي نغص علينا ما حصل من شغبٍ في الرياضة أعني: (المباريات الرياضية) ثم يوم الثلاثاء الماضي عندما أكرمَ أولئك الكفرة؛ بل مصافحتهم وتعظيمهم والتبسم في وجوههم، فما هو واجبنا تجاه مثل هذه الأمور؟
الجواب
واجبنا أن نضاعف الأعمال الصالحة المجتمع -كما قلت لكم مراراً-: المجتمع ميدان منافسة، وميدان سباق بين الأخيار والأشرار كل مجتمع فيه قوتان: قوة مؤمنين تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كما قال سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] .
وقوة المنافقين تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67] والمجتمع هو لمن غلب عليه من هاتين القوتين، فإن غلبت عليه مادة الإيمان؛ كان مجتمعاً مؤمناً مسلماً ناضجاً سليماً، ونجا -بإذن الله تعالى- من عقاب الله في الدنيا والآخرة، وإن كانت الأخرى، فلا حول ولا قوة إلا بالله.(150/31)
فساد الزمان
السؤال
مع كثرة الجهود الفردية والجماعية؛ فهي مخفقة في كثير من الأحيان، أو في غالب الأحيان، أليس هذا دليلاً على أن الزمان قد فسد؟
الجواب
يا أخي ليس الزمان، بل الأمر: كما قال الشافعي: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان بنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا الزمان ليس إلا الأيام والليالي، والشمس التي أشرقت على الصحابة؛ هي نفسها التي تشرق علينا، والقمر نفسه، والنجوم والكواكب نفسها، والأرض هي ذاتها، وإنما الذين تغيروا هم الناس، هم البشر هي الأوضاع الدول الأمم الحكومات المؤسسات، هذا الذي تغير.
إذاً: نحن الذي تغيرنا وليس الزمان الزمان عنصر حيادي، إن استفدت منه في عمل صالح؛ كان معادك الجنة في الآخرة، وأدركت النجاح في الدنيا وإن كانت الأخرى؛ كان الإنسان إلى النار والعياذ بالله في الآخرة، وكان إلى البوار والشقاء في الدنيا، لكن علينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا، وشجعاناً مع أنفسنا، ولدينا استعداد أن ننتقد أنفسنا، ونصحح أوضاعنا، ونراجع أعمالنا، ونعرف ما هي الأسباب الموصلة إلى النجاح فنعملها، وما هي الأسباب الموصلة إلى الفشل، فنتجنبها.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(150/32)
تزكية النفس
السؤال
انتشرت ظاهرة قول بعض الناس: أنا فلان، من باب التزكية، فما قول الشرع؟
الجواب
-على كلٍ- أرى أن تزكية الإنسان نفسه لا تنبغي، وينبغي للإنسان أن يتواضع، وكلما كان الإنسان أكثر هضماً لنفسه، وأبعد عن مدحها، وأقرب إلى نقدها؛ كان ذلك أدعى إلى إخلاصه، وإلى قربه من الله عز وجل.(150/33)
أخذ الكروت المجانية
السؤال
أنا شاب أعمل بإحدى الدوائر، وتأتيني كروت تعبئة بنزين من أحد أقاربي العاملين بذلك القطاع، علماً أنني من عملي لا يحق لي أن آخذ هذه الكروت المجانية، هل هذا جائز؟
الجواب
لا أرى أن لك أن تأخذ هذه الكروت.(150/34)
حكم من لم يعقل في صلاته
السؤال
إذا صلى شخصٌ صلاة فرضٍ مع جماعة، ولم يعقل من صلاته شيئاً، هل يجوز له أن يعيد الصلاة، عن صلاته تلك؟
الجواب
إذا كان قام بصلاته بواجباتها وأركانها وشروطها، فلا أرى أن يعيد الصلاة، ولكن عليه أن يحرص على استحضار قلبه للصلاة، فإنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت، وإن العبد كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أهل السنن وهو صحيح: {إن العبد ما كتب له من صلاته إلا نصفها ثلثها ربعها خمسها سدسها} الحديث.(150/35)
مراجع الموضوع
السؤال
نرجو أن تدلنا على بعض الكتب التي تتكلم عن هذا الموضوع؟
الجواب
هناك كتب كثيرة منها كتاب: مشاكلة الناس في زمانهم، ومنها كتب الفتن، ومنها كتاب: عقد الدرر في أخبار المنتظر، ومنها كتاب: جامع الأصول في الجزء الثاني، إلى غير ذلك من الكتب.(150/36)
التخاذل حول قضية فلسطين
السؤال
من أهم القضايا التي أشغلتني ولم أجد لها حلاً، ما أراه من تخاذل كثير من المسلمين عن قضية ثالث المساجد وقبلتهم القدس الشريف، ما هو موقفنا نحن تجاههم؟ وهل هذا التخاذل والتغافل المصطنع له واقع في حياتنا؟
الجواب
أريد أن تنتبه -جزاك الله خيراً- إلى قضية، أن الأمة الإسلامية اليوم تعيش فترة غيبوبة ليس فقط عن قضية القدس، فقضية القدس إحدى القضايا، لكن الأمة المسلمة اليوم تغيب عن معظم قضاياها، ولذلك سميتها (الأمة الغائبة) في أحد المناسبات؛ لأنها أمة أصبحت تقبل قضايا كثيرة يعني قضية السلام -مثلاً- مع إسرائيل، مع ما يسمى بالكيان اليهودي، كنا نتصور أن هذا الأمر من أصعب الأمور، أن يتم، وأنه لا يتم إلا في وسط تيار من الصخب والضجيج، والغضب الذي تنادي له الأمة من مشرقها إلى مغربها، فإذا بنا نرى أن هذه الأمة تواجه مثل هذه الخطة الرهيبة العظيمة الخطيرة، التي تستهدف عقيدتها ووجودها وكيانها ودينها واقتصادها، تواجه ذلك كله بردود فعل ضعيفة، لا تعدو أن تكون محاضرة هنا، أو كلمة هناك أو مقالاً هنا أو كتيباً هناك! نحن بحاجة إلى أن نصرخ بهذه الأمة، ونخاطبها بكل ثقة، ونزيل الغبار عنها، وندعوها إلى أن تمارس وجودها الحقيقي، وأن تعود إلى دينها، فإن هذه الأمة لا خير فيها ما لم ترجع إلى دين ربها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.(150/37)
الحروب والفتن
السؤال
هل الحروب والمذابح التي يلاقيها المسلمون في هذا الزمان تعتبر من فضائل الزمان لإظهار الدين أنه الدين الصالح؟
الجواب
كلا، بل إن هذه من الفتنة التي يستعيذ منها المؤمنون: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:5] .
فإننا وجدنا أن من المسلمين من يكفرون، لأنهم رأوا أنهم في حال المجاعة؛ مد النصارى إليهم الأيدي، وتخلف عنهم المسلمون.
ورأينا من المسلمين من يكفرون؛ لأنهم يُقتلون على الإسلام، ولا ينتصر لهم إخوانهم المسلمون، فهذه من الفتن التي نسأل الله عز وجل أن يرفعها عن عباده بمنه وكرمه.(150/38)
التوفيق بين أخبار آخر الزمان
السؤال
كيف يمكن التوفيق بين وجود فئة قليلة في آخر الزمان متمسكين بالدين، مع وجود نصوص تخبر عن نزول عيسى، والمهدي عليهما السلام، وبلوغ الإسلام المشرق والمغرب؟
الجواب
هذا ظاهر! فإن الإسلام له إقبال وإدبار -كما جاء في حديث، وإن كان فيه ضعف- فمن إقباله أن تسلم القبيلة بأسرها، ومن إدباره أن تكفر القبيلة بأسرها.
فمن إقبال الإسلام: أن يكثر أهل الخير، وينتشر العلم، ويقوم الجهاد في كل بلد هذا من إقباله، ومن إدباره أن يضعف هذا الأمر ويقل القائمون به.(150/39)
توسيد الأمر إلى غير أهله
السؤال
هل يصح الحديث الوارد أنه في آخر الزمان يوسد الأمر إلى غير أهله؟
الجواب
نعم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة} والحديث في الصحيح.(150/40)
غربة الإسلام
السؤال
ذكرت قوله عليه الصلاة والسلام {بدأ الإسلام غريباً} ألا يدل هذا الحديث على عودة الإسلام، وتمسك الناس به، وعلى انتشاره مرة أخرى، كما تدل عليه عبارة (كما بدأ) ، ومعلومٌ أنه بدأ أول مرة قليلاً، قليلاً، حتى عم أصقاع المعمورة؟
الجواب
هذا ليس بلازم؛ لأنه قال: {وسيعود} والظاهرأن قوله: {وسيعود} يدل على أنها عودة لا قيام للإسلام بعدها؛ ولكن إذا كان ذلك هو معنى الحديث فيكون في الحديث، إشارة إلى الغربة الأخيرة التي تكون بعد قبض أرواح المؤمنين، وهناك ألوان أخرى من الغربة تقع قبل ذلك، ويكتب للإسلام بعدها عزٌ ونصرٌ وتمكين.
إذاً: نستطيع أن نقول: إن الغربة نوعان: النوع الأول: الغربة الأخيرة المستحكمة التي لا قيام للإسلام بعدها وهذه لا تكون إلا في آخر الزمان قبيل قيام الساعة، ومع الأشراط الكبرى، وبعد قبض أرواح المؤمنين.
أما النوع الثاني: الغربة النسبية: التي توجد في بلد دون بلد، فقد تكون غربة للإسلام في هذا البلد، وهو عزيز في بلد آخر -كما نراه اليوم واضحاً جلياً- وقد تكون في زمان دون زمان فتكون الأمة في زمن -مثلاً- قوية عزيزة منيعة ممكنة، ثم يمر عليها بعد ذلك زمان غربة، ثم زمان تمكين، ثم زمان غربة، وهكذا(150/41)
توجيه
السؤال
كما هو الملاحظ: التغطية الإعلامية تتجه نحو المناسبات الرياضية أو البرامج الغنائية وبصورة مبالغ فيها، مما هي مدعاة لضياع العقل؛ بينما النقل الإعلامي التلفزيوني للمحاضرات العلمية والأمسيات والندوات التي يرجى منها الفائدة عديم، ولا أثر لتلك البرامج ضمن الدورات، نريد توجيهاتكم في ذلك؟
الجواب
هذا أحد السلبيات، لكن مجرد قراءة هذا السؤال -مثلاً- أو الإقرار بمثل هذا الواقع لا يغير شيئاً، ولذلك أقول: أين المختصون؟! أين ذوو القدرات والإمكانيات، الذين يشعرون أنهم يستطيعون أن يقوموا بمثل هذا الواجب الكفائي، ويسدوا هذه الثغرة التي تحتاجها الأمة؟!(150/42)
الدليل على أخذ ما جاء به الرسول
السؤال
بعض الناس إذا أمرتهم بواجب، أو نهيتهم عن محرم، قالوا: ما الدليل من القرآن؟
الجواب
-على كل حال- القرآن أشار أو أحال إلى الأخذ من السنة قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] .
والرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن -أيضاً- أحال إلى الإجماع، كما في قوله تعالى: {فإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] .
دلت الآية بمفهومها على أن الإجماع حجة، وأما التنازع؛ فيتم الرد فيه إلى القرآن والسنة وكذلك وردت أحاديث كثيرة تدل على أن الأمة لا تتفق على ضلالة، وهي بعض أحاديث الليلة التي أعرضت عنها اختصاراً.
فبناء عليه نقول: ما جاء في القرآن، أو في السنة، أو بإجماع أهل العلم، أو كان الدليل الصحيح يعضده؛ فيجب على الإنسان أن يعمل به إن كان واجباً؛ فواجب، وإن كان مستحباً؛ فمستحب.(150/43)
الإنفاق
السؤال
إن هذه الأمة في هذا الزمن، وصلت إلى ذل لا يعلمه إلا الله، ومن ذلك أن أمتنا جرحها في كل أضلاع الأمة نازف، ومع ذلك يقوم بعض التجار بصرف مبالغ بمئات الدولارات، في مباراة واحدة لأحد الفريقين هل هذا جائز أم لا؟
الجواب
-لا شك- أن هذا هو أحد الأمور المشكلة، أولاً: أن الناس يراعون دائماً الشيء الذي قد يكون الإنفاق فيه يرضي بعض ذوي النفوذ؛ فينفقون فيه، وهذه مأساة! وكذلك: الأمر الذي يستحب العامة الإنفاق فيه؛ فينفقون فيه فنعود لنقول: {كما تكونوا يولى عليكم} وكما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] فإذا تكلمنا عن هذه الأمة، فهذه الأمة الكلام عنها بحكامها، بتجارها، بلاعبيها، بعلمائها، بدعاتها، بعامتها، برجالها، بنسائها، نحن لا نجزئ هذه الأمة، نتكلم عنها بكل أفرادها، بكل مستوياتها بكل طبقاتها وعلينا -معشر دعاة الإسلام- أن نحرص على أن نقيم الجسور مع كل الطوائف وكل الفئات، بدعوتهم إلى الله تعالى، وإصلاحهم، وإتاحة الفرصة لهم لأن ينفقوا في سبل الخير فقد رأينا الكثيرين ينفقون حتى في مجالات الخير إذا رأوا في الإنفاق نفعاً لهم دينياً أو دنيوياً، أو رأوا فيه مصلحة ظاهرة، أو رأوا أنه مشروع مناسب ومقنع فعلينا -معشر دعاة الإسلام- ألا نكتفي بمجرد النقد؛ بل أن نقدم للناس البديل الصالح من الأعمال المؤسسية، القائمة على الدراسة والتخطيط وبعد النظر، والأعمال الجماعية المدروسة، وأن نحرص على هذا وندرك أنه آن الأوان لأن نخوض في المجتمع كما خاض غيرنا.
وأقول لكم: من أسهل الأمور أن ننتقد الواقع، وقد رأيت كثيرين ممن يجيدون فن السب والعيب للواقع، فينتقدون -مثلاً- الاقتصاد؛ ولكنهم يعجزون عن إقامة مؤسسة إسلامية نظيفة، وينتقدون الإعلام؛ ولكنهم يعجزون عن أن يقدموا برنامجاً إعلامياً صالحاً مؤثراً، وينتقدون أوضاع المستشفيات؛ ولكنهم يعجزون عن أن يقوموا بعمل طبي نافع وهكذا والمثل الصيني يقول: (أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف لعنة) .
إذاً: نحن ينبغي أن ننتقل من مجرد النقد والعيب والذم والتجريح المجرد؛ إلى أن نقدم للناس للمجتمع للأمة عملاً مؤسسياً نافعاً ناجحاً مدروساً في كل المجالات: في المجال الإعلامي: إعلام إسلامي يقدم الشريط شريط الكاسيت، شريط الفيديو البرنامج المفيد المجلة الكتاب النشرة الدورية إلى غير ذلك.
وفي المجال الاقتصادي: يقيم الشركة المؤسسة، بل حتى البنك الإسلامي البعيد عن شبهة الربا، ويوظف المسلمين في هذه الأعمال.
وفي مجال العمل الطبي: إقامة المستشفيات النظيفة؛ مستشفيات نسائية -مثلاً- مستشفيات بعيدة عن الحرام، مستشفيات قوية، مستشفيات متخصصة، وتوظيف هذا الكم الهائل من الأطباء في ألوان من الأعمال التي تنفع المسلمين دنيا وآخرة.(150/44)
الريح التي تقبض أرواح المؤمنين
السؤال
الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين هل هي بعد العلامات الكبرى؟ أم لا؟ وهل هي قبل نزول عيسى، وحكمه في الأرض، أم بعد ذلك؟
الجواب
-لا شك- أنها بعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام، أما هل هي بعد العلامات الكبرى؟ فالله تعالى أعلم، قد يكون بعدها -أيضاً- علاماتٌ كبرى.(150/45)
ذم الزمان بالشعر
السؤال
لقد استشهدتَ على ذم الزمان بأشعارٍ تسب الدهر، وفي الحديث: {لا تسبوا الدهر} ؟
الجواب
لعلني أجبت على ذلك، فإن الأشعار التي استشهدت بها؛ إنما استشهدت بها منتقداً لها لا مقراً.(150/46)
أخبار المسلمين
السؤال
ما هي أخبار البوسنة والهرسك وأفغانستان والصومال؟ وما هي أخبار الشيخ عائض؟ ويقول أسألكم بالله العظيم: أن تقروا عيني وتشرحوا صدري بقراءة هذا السؤال.
الجواب
أما أخبار البوسنة فالأمر مداولة ومحاولة ومصاولة بين هؤلاء وأولئك، فهناك انتصارات للمسلمين في مواقع عدة، وسيطرت على بعض مناطق النفوذ والإمداد التي كان يحتلها الصرب، وهناك قتلى -في أوساط الصرب- كثيرون، وهناك تخوف غربي كبير من استقرار وقيام حكومة إسلامية في تلك البلاد، وبالمقابل هناك انتصارات للصرب، وهناك -أيضاً- خيانة من الكروات في أكثر من موقع ومناوشات بين المسلمين، وبين الكروات، وهذا من الأخبار الجديدة.
هناك من المبشرات قيام جبهة إسلامية اسمها (القوات المسلمة) وصل عددها إلى ما يزيد على خمسة آلاف مقاتل من العرب والترك والأفغان، ومن أهل تلك البلاد، وهي جبهة إسلامية يشترط أن يكون المنتمي إليها: من المقيمين للصلاة، ومن المحافظين على شعائر الإسلام، ومن المتجنبين للكبائر وللمنكرات وهذه الجبهة أصبحت تنمو وتزداد وتحقق انتصارات، وقد قرأت في بعض الصحف الغربية وصفاً لـ أبي عبد العزيز أحد القادة في تلك الجبهة؛ كأنه وصف لبعض أبطال الأساطير، وكيف أن رجال تلك البلاد ونساءها وأطفالها إذا ظهر أبو عبد العزيز بسيارته الجيب في الشوارع، ظهروا إليه من النوافذ والأبواب والسطوح؛ يصوتون له ويلوحون ويشيرون إليه، ويدعون له، ويحبونه، ويطوقون المنطقة المحيطة به فهناك انتصارات كبيرة، ولعل من أكبر الانتصارات -أيضاً- هي بوادر عودة صحوة إسلامية في وسط ذلك الشعب، الذي طالما عانى من الجهل والتضليل، ولأول مرة -منذ قرون- يبدأ هذا الشعب في اليقظة والوعي، والإقبال على العلم، فهناك رسائل كثيرة وصلتني تطالب بأحجبة للنساء، وتطالب بالوسائل والكتب التي تساعدهم على فهم الإسلام، والمصاحف التي تعينهم على القراءة، وهناك مدارس كثيرة قد أقيمت، والأولاد والبنات يتعلمون، وهناك ظاهرة كبيرة في إقبالهم والتزامهم وهذا -أيضاً- هو أحد الأشياء التي أصبحت تخيف الغرب، وتجعله يسعى حثيثاً إلى محاولة إنهاء تلك الحرب بأي وسيلة.
أما ما يتعلق بالصومال فليس في الأمر جديد، وأرجو أن يكون هناك بعض التحسن في أوضاع المسلمين.
وأما أفغانستان فهناك بعض التقدم -أيضاً- حيث التقى رئيس الدولة رباني برئيس الحزب الإسلامي حكمتيار، واتفقوا على بعض الأمور، وهناك مسودة -ما يسمى- بمجلس الشورى قد وضعت واتفق عليها، وقد يتم إجراء بعض الاتفاقيات خلال شهور، ونسأل الله تعالى أن يجمع كلمتهم، وأن يكفيهم شر أعدائهم.
أما فيما يتعلق بفضيلة الشيخ عائض: فقد كان في هذه المنطقة في الأسبوع الماضي، وودت أن الأخ التقى به وسأله -وعلى كل حال- فالشيخ بخيرٍ، وهو في الرياض وسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز يعد إن شاء الله أن الأمر سينتهي خلال فترة قصيرة.(150/47)
طبقات الفائزين
بدأ الشيخ بمقدمة لطيفة عن التفاوت الحاصل بين الخلق، وأن من شأن هذا التفاوت أن يوجد التنافس، ولكن لابد أن يكون هذا التنافس فيما يقرب إلى الله، وأن نلتزم بنصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، ثم قسم الشيخ طبقات الفائزين إلى ثلاث طبقات: المسلمون، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة وتحدث عن كل فرقة بما يميزها وختم بذكر آيات من القرآن الكريم تشتمل على هذا التقسيم.(151/1)
ميدان التنافس
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أفضل الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين: أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن ميدان هذه الحياة هو ميدان سباق بين الأفراد، وسباق بين الأمم والجماعات، وهو ميدان سباق في المجال الدنيوي، وميدان سباق في المجال الأخروي، يقول الله عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] .
وإن من حكمة الله عز وجل أنه أوجد بين خلقه من التفاوت الشيء الكثير، يقول عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32] فالناس متفاوتون في خَلقهم، وفي رزقهم، وفي خُلقهم، وعقولهم، وفي كل شيء.(151/2)
التنافس فيما يقرب إلى الله
وهذا التفاوت هو لحكم كثيرة ظاهرة، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم في سنته إلى هذا المعنى المهم الذي يجب أن نفهم هذا التفاوت على ضوئه، وهو أننا يجب أن ننظر في أمور الدنيا إلى من هو دوننا حتى لا نزدري نعمة الله عز وجل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: {إذا نظر أحدكم فلا ينظر إلى من فضل عليه في المال والخلق، بل لينظر إلى من هو دونه} وفي لفظ: {فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم} .
وفي مقابل ذلك فإننا يجب أن ننظر في أمر الدين والعلم والعبادة إلى من هو فوقنا، حتى يكون هذا حافزاً لنا على البلوغ إلى مرتبة أعلى.
ويقول الله عز وجل بعد أن ذكر ما فضل به بعض الناس وما أعطاهم من شأن الدنيا العاجلة: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:21] انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض -أي في الدنيا- فضل بعض الناس على بعض، فضلوا بالمال أو بالخلق أو بالدين، وهذا لا يظهر في الدنيا ظهوراً تاماً، وإنما يظهر في الآخرة، ولذلك عقب بقوله: (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) فالإنسان يجب ألا يقنع بواقعه الذي يعيشه في أمر الدين، بل يتطلع إلى الأعلى دائماً.(151/3)
التنافس على حظوظ الدنيا
ولو نظرنا إلى واقع المسلمين اليوم لوجدنا أن حالهم على نقيض ما يشير إليه الحديث النبوي، فهم في مجال الدنيا، ومجال المال، وفي مجال الخلق، ومجال الصحة، ينظرون إلى من هو فوقهم فيصيبهم الحسد، وقد يصيبهم التسخط وعدم الرضا بقضاء الله عز وجل.
أما في أمر الدين فتجد كثيراً منهم ينظرون إلى من هو دونهم، يقول الشاب المصلي إذا أمر بخير قصر فيه، أو نهي عن منكر وقع فيه، يقول: يا أخي! الحمد لله أنا محافظ على الصلوات الخمس في مواقيتها مع الجماعة، وزملائي من الشباب كثير منهم لا يصلون، لا في بيوتهم ولا مع الجماعة، فينظر إلى من هو دونه.
وتقول الفتاة المتحجبة إذا أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر: أنا والحمد لله ملتزمة بالحجاب الشرعي، في الوقت الذي أجد بنات جنسي وقد أزلن هذا الحجاب كله أو بعضه، وظهرن سافرات في الأسواق أو في المناسبات أو في المدارس أو في غيرها.
وتنسى أن المرأة المسلمة والرجل المسلم يجب أن يكون له مثل أعلى، يجب أن يكون مثله الأعلى في الدين أن ينظر إلى حال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وحال التابعين والعلماء العاملين، وأن يجعل همه أن يصل إلى ما وصلوا إليه، ليحافظ على مستواه الإيماني أولاً، وليرتقي بإيمانه ثانياً، أما حين ينظر إلى من هو دونه، فإنه في الغالب لن يحافظ على مستواه، بل سيظل يهبط درجةً بعد درجة، وهو يسوغ لنفسه في كل مرة ينزل فيها أنه لا يزال هناك من هو أقل منه وأنزل منه، فلا يزال يتردى حتى يصل إلى الحضيض، والعياذ بالله!(151/4)
طبقات المسلمين المتصفين بصفة الإسلام
أيها الإخوة إن موضوع هذه المحاضرة يمت بسبب كبير إلى هذه المقدمة، فإن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قد بينا لنا أتم بيان أن الفائزين هم على طبقات ودرجات، بعضها فوق بعض، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة: {إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى؛ فإنه أعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن} فهذه إشارة إلى أن المؤمنين والمسلمين والفائزين هم طبقات الله أعلم بها! طبقات كثيرة، وأن سلم الإيمان والترقي في هذه الدرجات لا ينتهي إلا بموت الإنسان، فلا يزال أمام المسلم مقامات ينبغي أن ينظر إليها، ويعمل على بلوغها حتى تخرج روحه من جسده، كما قال عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] .
ولكن هذه الطبقات أو المقامات الكثيرة يمكن تصنيفها في ثلاث طبقات رئيسية: الطبقة الأولى: هي طبقة المسلمين المتصفين بصفة الإسلام فحسب، وأعني بهذه الطبقة من اقتصروا على تحقيق شرط الإسلام بحيث قاموا بالأقوال والأعمال التي لا بد منها ليكون المرء مسلماً، والتي إذا أخل بها الإنسان، خرج من دائرة الإسلام، ودخل في دائرة الشرك والكفر، ونحن نعلم جميعاً أن هناك جوازاً لا يمكن لإنسان أن يدخل الجنة إلا به وهو الإسلام، فمن لم يكن معه هذا الجواز؛ فإن الله عز وجل قد حرم عليه الجنة، وأوجب له الخلود في النار.(151/5)
استحقاق الكفار للنار
وهذه الحقيقة هي من البدهيات المعلومات بالضرورة من دين الإسلام، والتي لا يختلف فيها المسلمون في قديم الدهر وحديثه، والنصوص القرآنية والنبوية فيها أكثر من أن أتذكر، وأشهر من أن تحصر، ولكن لعل من المناسب أن نقف عندها قليلاً لذكر بعض النصوص؛ لأننا نجد في هذا العصر أن بعض الكتاب يشككون في هذه الحقيقة، ويقولون: إن نظرة المسلم في هذا العصر إلى نفسه على أنه أفضل من كل الناس غير المسلمين نظرة فيها كثير من المبالغة والتعالي الذي لا يوجد ما يشهد له.
ولعل من المناسب أن أذكر أن هناك مجلة كويتية هي مجلة العربي دأبت في كثير من أعدادها على التشكيك في هذه الحقيقة، حقيقة أنه لا يدخل الجنة إلا مسلم، وأن الكافر مخلد في النار، فهي تتحدث كثيراً عما يسمى بالحوار الإسلامي المسيحي، أي: اللقاء بين المسلمين والنصارى في مؤتمرات عقدت في لبنان أو قرطبة أو ليبيا أو في الفاتيكان أو في غيرها للتقارب بين أعظم ديانتين في الأرض -كما يقولون- الإسلام والمسيحية -أي النصرانية.
وقد كتب أحد كتاب هذه المجلة مقالاً في أحد أعدادها بعنوان (المسلمون والآخرون) ولعل من المناسب أيضاً أن أقرأ عليكم قليلاً مما قال، لتدركوا خطورة هذه الدعوى.
يقول: هذا الكاتب في مقاله هذا: (ليس صحيحاً أن المسلمين في هذه الدنيا صنف متميز ومتفوق من البشر بمجرد كونهم مسلمين، وليس صحيحاً أن الإسلام يعطي أفضلية للمسلمين ويخص الآخرين بالدونية، وليس صحيحاً أن ما كتبه أكثر الفقهاء في هذا الصدد هو دين ملزم وحجج لا ترد، إنما هو اجتهاد يخطئ ويصيب) .
إن هذا الكاتب يجعل من النصوص القرآنية المحكمة والأحاديث النبوية الصحيحة الصريحة اجتهاداً لبعض الفقهاء يخطئ ويصيب، وهو يشكك في قضية ليست موضع خلاف، بل هي معلومة من الدين بالضرورة، ومن أنكرها فقد أنكر جزءاً لا يتجزأ من دين الإسلام، وقد يكون هذا الإنكار مؤدياً إلى الكفر بالله عز وجل.
ثم إن هذا الكاتب الآن يحدثنا عن سبب الشبهة الخطيرة التي وقعت في فكره، وهو أنه رأى المسلمين في هذا الزمان متخلفين في شئون الدنيا في الصناعة وفي العلوم الطبيعية، ورأى أن أعداءهم من اليهود والنصارى قد تفوقوا عليهم في هذا المجال فالتبس عليه هذا بذاك، ونسي أن العزة التي ينفخها الإسلام في أتباعه ليست بسبب تفوقهم الدنيوي، إنما هي بسبب تميزهم بالانتساب إلى الدين الوحيد المقبول عند الله عز وجل في يوم القيامة.
يقول: (لقد سمعت واحداً من خطباء الجمعة اعتلى المنبر ليحدثنا في أن المسلمين خير أمة أخرجت للناس، وذهب به الحماس إلى حد دفعه أن يسفه غير المسلمين جميعاً، ويتهمهم بمختلف النواقص والمثالب، ثم يدعو الله في الختام -وحوله مئات من المصلين يؤمنون- أن يدك بيوتهم، ويزلزل عروشهم، ويفرق شملهم، ويهلك نسلهم وحرثهم، ونحن جميعاً نؤمن مع هذا الخطيب على هؤلاء الكفار، مهما يكن في أيديهم من المال أو السلطان) .
ويقول الكاتب: (كنت جالساً في الصف الأول في مسجد فرش بسجاد مصنوع في ألمانيا الغربية، وترطب حرارته مكيفات أمريكية، وتضيئه لنبات هنغارية، بينما كلمات الخطيب تجلجل في المكان عبر مكبر للصوت هولندي الصنع، وعندما هبط شيخنا ليؤمنا في الصلاة، تفرست في طلعته جيداً؛ لأجد أن عباءته من القماش الإنجليزي، وجلبابه من الحرير الياباني، وساعته سويسرية، وقد وضع إلى جوار المنبر حذاءً إيطالياً لامع السواد.
وذهب يكتب خمس صفحات كلها تدور حول هذا الموضوع، وختم مقاله بالحديث عن الآيات والأحاديث التي فيها تفضيل جنس الإنسان من حيث هو إنسان، ونسي هذا الكاتب الآيات والأحاديث التي حكم الله عز وجل بها على الكفار بأنهم كالأنعام بل هم أضل) .(151/6)
الرد على المشككين في هذه الحقيقة
يقول سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ويقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] فقد حكم الله الذي ميز الإنسان بأن الذي كفر انحط إلى رتبة أقل وأحط من رتبة الأنعام، ولا أدري ما موقف هذا الكاتب من مثل هذه الآيات! إننا نجد النصوص القرآنية والنبوية صريحة في أن الجنة حرام على الكافرين، يقول الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] ويقول سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: {إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وإن الله ليعز هذا الدين بالرجل الفاجر} .
وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: {أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يلقى أباه يوم القيامة، فيرى إبراهيم في وجه أبيه القترة، فيقول: ألم آمرك فعصيتني؟! فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيذهب إبراهيم وقد أمسك أبوه به، فيقول: يا رب، لقد وعدتني ألا تخزيني يوم القيامة، وأي خزي أخزى وأعظم من خزي أبي الأبعد؟! فيقول الله عز وجل: يا إبراهيم، إني حرمت الجنة على الكافرين، ويأمر الله عز وجل إبراهيم أن ينظر، فيجد أباه وقد مسخ ضبعاً أو ذيخاً، فيراه متلطخاً بنتنه فتستقذره نفسه، ويطيب خاطره، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار} .
فهذا أب لنبي من أنبياء الله يأمر الله عز وجل به إلى النار، ولا ينفعه أن يكون ابنه نبياً، وذلك لاختلال الشرط عنده وهو أنه مات كافراً، وكذلك كان والد النبي صلى الله عليه وسلم ووالدته، ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم {استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي} .
وقد جاء رجل كما في كتاب الضياء المقدسي، وكما في الطبراني وغيرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم: {فقال: يا رسول الله! إن أبي كان يصل الرحم ويكرم الضيف ويفعل كذا وكذا، فأين هو؟ قال له صلى الله عليه وسلم: أبوك في النار، فكأن الرجل وجد في نفسه، فقال: وأبوك يا رسول الله؟ قال: وأبي! ثم قال صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار، فكان الرجل يقول: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً عسيراً، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار} .
ويجب أن نعلم أن قضية تحريم الجنة على غير المسلمين وأن خلود الكافرين في النار هي من القضايا الثابتة المستقرة لدى المسلمين عموماً، لدى أهل السنة والجماعة، بل ولدى غيرهم من سائر طوائف المسلمين، فهذه القضية ليست موضع خلاف.
هذه هي الدائرة الواسعة، دائرة من حكم لهم بدخول الجنة ولو عذبوا في النار بقدر ذنوبهم وخطاياهم ونقوا، ثم أخرجوا منها ليدخلوا الجنة، والفائزون بهذا هم من حققوا شرط الإسلام، من حققوا الشرط الذي من أخل به فهو غير مسلم، فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقاموا الصلاة، ولم يأتوا بأي ناقض من نواقض الإسلام الذي يكون من أتى به كافراً، كعبادة غير الله، كالطواف بالقبور، وكدعاء الأولياء والصالحين إلى غير ذلك من النواقض، وهذا الشرط نجد أن كثيراً ممن ينتسبون اليوم إلى الإسلام قد حققوه ظاهراً، وإن أخل بعضهم أو كثير منهم ببعض مقتضياته.(151/7)
طبقة الفرقة الناجية
ننتقل بعد ذلك إلى دائرة أضيق وإلى طبقة أخرى من طبقات الفائزين، وهي طبقة الفرقة الناجية، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث ثابتة عن أربعة عشر صحابياً: {أن اليهود افترقوا في دينهم على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين فرقة، وأن هذه الأمة ستفترق في دينها على ثلاث وسبعين فرقة، وهي الأهواء، وأنه سيكون في هذه الأمة أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه} الَكَلب: داء السعار الذي يصيب الإنسان من عضة كلب مصاب بهذا الداء، فلا يزال يسري في دمه وعروقه حتى يموت بعد ذلك.
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية بأنها الجماعة التي هي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن الظاهر جداً أن الكلام عن هذا الافتراق جاء في ميدان الأهواء والاختلاف والفرق، وهكذا كان، فإننا نجد أن هذه الأمة قد افترقت في دينها فرقاً كثيرة ما بين رافضة وخوارج ومعتزلة وغيرهم من ألوان الطوائف المنتسبة ظاهراً إلى الإسلام، والتي تفارق سائر المسلمين أهل السنة والجماعة في أصولهم الاعتقادية التي تلقوها عن الكتاب والسنة.
ولو نظرنا في الخصائص والصفات التي ميزت الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة عن سائر الفرق لأمكن أن نذكر لها ثلاث خصائص على سبيل الإجمال والاختصار:(151/8)
الخاصية الثانية: التأثر بالوحي
التأثر القلبي الوجداني بالوحي، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المروي من طرق كثيرة: {أنه نظر إلى السماء فقال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء، فقال له زياد بن لبيد: كيف يا رسول الله، وقد قرأنا القرآن وحفظناه؟! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا زياد! والله إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة! هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فما أغنت عنهم} أي: ليس المقصود أن يقرأ الإنسان القرآن فحسب، أو يقرأ السنة فحسب دون أن يتأثر تأثراً قلبياً حقيقياً بما يقرأ.
يقول جبير بن نفير أحد رواة الحديث -وهذا شاهد مهم- يقول: [[فلقيت عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فقلت له: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء، راوي الحديث؟ قال: وما يقول؟ فذكر له الحديث، قال عبادة: صدق أبو الدرداء! إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الأرض، قال: علم الخشوع! يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً]] .
وهاهنا أشار عبادة رضي الله عنه وأشار من قبله أبو الدرداء فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن المهم في العلم ليس هو العلم الذي يقال باللسان، وإنما هو العلم الذي يصل إلى القلب، فتكون ثمرته الخشوع والخوف من الله تبارك وتعالى، فالخاصية الثانية من خصائص الفرقة الناجية التأثر القلبي الوجداني بالوحي.(151/9)
الخاصية الثالثة: صياغة الحياة العملية الفردية والاجتماعية على وفق ما تقتضيه النصوص
بمعنى أن يكون الإنسان مسلماً لله عز وجل، مُسلِّماً عاملاً بأمر الله، تاركاً لنهيه فيما صغر أو كبر دون تردد أو اختيار، ممتثلاً لقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] وهذه الأشياء الثلاثة هي متلازمة فيما بينها، فمن يقرأ النص أو الوحي قراءة صحيحة، ويتلقى عنه فلا بد أن يتأثر به تأثراً وجدانياً عميقاً، ومن يتأثر بالوحي تأثراً عميقاً لا بد أن يجعل حياته تطبيقاً عملياً لما في قلبه.
ولكن لننظر -أيها الإخوة- في واقعنا وواقع المسلمين اليوم، انظر إلى مسلم نشأ في بيئة يوجد فيها انحرافات عقائدية كثيرة، يوجد فيها عبادة لغير الله، يوجد فيها تقديس للأولياء والصالحين، يوجد فيها سؤال لهؤلاء فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل وهم أموات في قبورهم، يوجد فيها الذبح والنذر لغير الله، والحلف بغير الله، يوجد فيها الانحراف في أسماء الله وصفاته، إلى آخر ما يمكن أن تتصوره من أخطاء عقائدية، فهذا المسلم الذي نشأ في هذه البيئة إلى أي حد تجد لديه الاستعداد الحقيقي للتخلي عن هذه الموروثات التي نشأ عليها منذ نعومة أظفاره حين يعلم أن النص الشرعي يصادم ما وجد عليه مجتمعه؟! الواقع أن كثيراً من هؤلاء بدلاًُ من أن يترك ما عهد عليه الآباء والأجداد، ويستجيب لما دلت عليه النصوص، أنه يلجأ إلى تأويل النصوص وتحريفها، والبحث عن أحاديث واهية أو مكذوبة أو تأويلات منحرفة خاطئة يُسوِّغ بها ما يجد عليه آباءه وأجداده ومجتمعه، ليقول: إن ما هو قائم في هذا المجتمع هو أمر حق ولا غبار عليه، وهذا محك حقيقي لمن يستسلم فعلاً للنصوص ويسلم لها ويتلقى عنها ولمن يطوع النصوص ويؤولها لما قام واستقر في ذهنه.
وخذ مثلاً آخر: انظر إلى واحد من بيننا يجد في مجتمعه عادات وتقاليد وموروثات في أمور اجتماعية، وهذه العادات يعلم أن النصوص الشرعية تناقضها وتصادمها، فلا تجد أن هذا الإنسان يحارب هذه العادات، ويعمل على إزالتها، وتوعية الناس بخطرها، بل يبحث عن تأويلات ونصوص لجعل هذه العادات أموراً يقرها الشرع، أو لا يخالفها.
من أبسط الأمثلة على ذلك: قد ينشأ الإنسان في بيئة المرأة فيها سافرة، تسلم على الرجل وتخلو به ولو كان أجنبياً، فبدلاً من أن يعلم الناس أن الشرع خلاف هذا، تجد أنه يبحث عن أقوال لأحد الفقهاء أو تأويلات تسوغ ما وجد عليه ذلك المجتمع، والأمثلة كثيرة جداً، وأنا أدعو نفسي وأدعو كل واحد منكم إلى أن ننظر في مألوفاتنا العقائدية والعملية وأن نعرضها على الكتاب والسنة؛ حتى يكون اعتقادنا وعملنا موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
والمتصفون بهذه الصفات هم الدائرة الثانية من دوائر النجاة، ولذلك سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفرقة بالفرقة الناجية، وحكم على غيرها أنها في النار، أي: تعذب في النار بقدر انحرافها، ثم تخرج منها ما دامت مسلمة متى شاء الله عز وجل.(151/10)
الخاصية الأولى: التلقي عن الوحي
أي: عن القرآن والسنة، في حين أن غيرهم لا يتلقى عن الوحي، أو يتلقى عنه وعن غيره من الفلسفات المنحرفة والآراء الضالة، ولا يأخذ من القرآن والسنة إلا ما يوافق هواه، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج وهم إحدى الطوائف المنحرفة ذكر أنهم: {يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم} ومن العجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف خروج الخوارج من الدين وصفاً بليغاً، فقال في وصفهم: {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية -والرمية يُقصد بها الصيد المرمي- ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، وينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، وينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء، وينظر إلى قِدحه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم} .
ومعنى هذا التشبيه باختصار: أن السهم الذي أصاب هذه الرمية قد دخل وخرج بسرعة فائقة، بحيث أنك تجد السهم بعد خروجه من الرمية ليس فيه أثر للدم، ولا أثر للفرث، وكأنه لم يدخل أصلاً في هذه الرمية؛ لسرعة خروجه منها، وهكذا أهل الأهواء لسرعة خروجهم من الدين، وعدم عملهم بالقرآن والسنة، تنظر فلا تجد أدنى أثر لنصوص القرآن والسنة في آرائهم ولا في حياتهم.
فالخاصية الأولى للفرقة الناجية هي التلقي عن الوحي.(151/11)
طبقة الطائفة المنصورة
الدائرة الثالثة: وهي أضيق الدوائر هي دائرة الطائفة المنصورة، التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة عنه نقلت وثبتت عن نحو تسعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم كثير من أهل العلم بأن أحاديث الطائفة المنصورة متواترة، حكم بذلك ابن تيمية والسيوطي والزبيدي والكتاني وغيرهم.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي، قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم على ذلك} .
هذا الحديث يشير إلى دائرة أضيق من دائرة الفرقة الناجية، يشير إلى طائفة من الفرقة الناجية قامت بفروض الكفايات التي لم يقم بها غيرهم، فهي طائفة على الحق، وهذا يعني أنها جزء من الفرقة الناجية ولا بد، ولكن ليست هي جميع الفرقة الناجية لزاماً وإنما هي طائفة منها.
ميزة هذه الطائفة عن بقية الفرقة الناجية أن هذه الطائفة قائمة بأمر الله، مجاهدة في سبيل الله، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، تعلم الناس علم الشرع، تدعو إلى الإسلام، تحارب البدع، تقاتل في سبيل الله بالسيف إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن ذلك جاهدت باللسان وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فميزتها القيام بأمر الدين، القيام بشأن الدين، ولذلك لم يصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة فقط كما وصف الفرقة الناجية، وإنما وصفها بوصف أعلى من النجاة، وهو النصر، أي أنهم يخوضون المعركة ضد الباطل، فهم الذين يمثلون الحق ويدعون إليه ويعلمونه، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وبالجملة هم الذين يقومون بالفروض الكفائية التي لم يقم بها غيرهم.
ولذلك وصفوا بالنصر، وأنهم قائمون بأمر الله، وأنهم صابرون لا يضرهم من خذلهم، فالذين يخذلونهم كثير، ولا يضرهم من خالفهم، فالذي يخالفهم كثير، وأنهم باقون حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم على ذلك.(151/12)
القرآن الكريم يتحدث عن هذه الطبقات
وقد ذكر الله عز وجل هذه الدوائر الثلاث: دائرة المسلمين، ثم دائرة الفرقة الناجية، ثم دائرة الطائفة المنصورة في القرآن الكريم، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] فهذه الآية إشارة إلى الدائرة الأولى وهي دائرة الإسلام التي يطالب بها كل إنسان، أن يكون مسلماً وأن يموت على الإسلام، ثم أشار إلى الدائرة الثانية، وهي لزوم الفرقة الناجية وترك الفرق المفترقة المخالفة لأهل السنة والجماعة، فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103] .
ثم أشار سبحانه إلى الدائرة الثالثة، وهي دائرة الطائفة المنصورة، فقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] .
وأنت لو تأملت سياق الآيات، وجدت أن الآيات الأولى والثانية أمر لجميع المسلمين: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ) منهج أهل السنة، لكن لما انتقل الحديث إلى الكلام عن الطائفة المنصورة القائمة بفروض الكفاية، صار مطالبة للجميع أن يكون منهم -أي: أن يكون بعضهم- فقال: (ولتكن منكم -أي من بينكم- أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) أي: هم الذين استولوا على جميع أنواع الفلاح، فهم المفلحون لأنهم مسلمون، وهم المفلحون لأنهم لزموا منهج الفرقة الناجية، وهم المفلحون لأنهم سلكوا سبيل الطائفة المنصورة.
أيها الإخوة إن وعي المسلم بهذه الدوائر يجعله يحرص دائماً على بلوغ الرتبة الأعلى، ويعلم أن المسلمين إذا قصروا في فروض الكفاية: من تعليم العلم الشرعي، من الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة البدع، أصبحوا جميعاً آثمين بهذا التقصير، وأصبحوا جميعاً مطالبين بهذه الفروض، وهذا يجعل كل مسلم حريصاً على تحقيق الإسلام، حريصاً على تحقيق معنى انتسابه للفرقة الناجية، حريصاً على أن يكون فرداً من أفراد هذه الطائفة المنصورة التي بشر النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تزال باقيةً إلى قيام الساعة.
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم منهم، وأن يختم لي ولكم بالسعادة والشهادة، وأستغفر الله لي ولكم وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(151/13)
الأسئلة(151/14)
كشف المرأة لأقارب زوجها
السؤال
ما حكم كشف المرأة وجهها أمام أعمام زوجها وأقارب زوجها من أبناء عمومته؟ وهل يعتبر عم الزوج بمثابة الأب؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال في الحديث الصحيح: {إياكم والدخول على النساء! قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت} إشارة إلى شدة خطره، والأحماء هم أقارب الزوج ممن ليسوا بمحارم للزوجة، كأخيه وعمه وابن عمه وسائر أقاربه، فخطرهم أشد، وشدة الخطر لكثرة ملابستهم وقربهم من المرأة وصعوبة التحرز منهم، وإمكانية وقوع الفتنة والفساد منهم أكثر من غيرهم، فالحذر منهم أوجب.(151/15)
التقصير في صلاة الفجر
السؤال
ليس لي ما أسأله إلا أن أقول: بماذا تنصحنا من ناحية تقصيرنا بصلاة الفجر وإهمالنا لأدائها مع الجماعة؟
الجواب
في حديث رواه ابن حبان عن أنس قال: {كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة الفجر أسأنا به الظن} وأثر ابن مسعود في صحيح مسلم في صلاة الجماعة: [[وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف]] وإذا كان الكلام قبل قليل جاء في تحديد الفرقة الناجية وأنها من كانت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهذا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: محافظتهم على صلاة الفجر في الجماعة حتى إنهم إذا فقدوا واحداً منهم أساءوا به الظن، وقالوا: لعله من المنافقين، فما بال كثير من المسلمين اليوم يسهرون إلى ساعات متأخرة من الليل سهراً في غير طائل، إما على كلام فارغ أو غيبة أو مشاهدة تلفاز أو غيره، أو لعب ورقة أو ما أشبه ذلك من الأمور التي يقولون نقتل بها الوقت؟! والله أعلم ما هي جريمة الوقت حتى يستحق أن يقتلوه! ثم إذا جاء وقت صلاة الفجر، وجدت الواحد منهم لا يستيقظ، ولا يرفع رأساً لها، وربما استمرأ بعضهم ذلك، فلم يعد يجاهد نفسه فيه، نسأل الله السلامة.
فأنصح نفسي وإخوتي بالحرص والمحافظة على صلاة الفجر، فهي دليل عملي على الإيمان، استيقاظ الإنسان من فراشه على رغم رغبته في النوم في مثل هذا الوقت، وذهابه للوضوء ثم للصلاة دليل عملي على أنه إن شاء الله مؤمن، يوجد في قلبه من الدافع ما يدعو إلى إيثار الآخرة على الدنيا.(151/16)
الحكم بالتكفير على غير أهل السنة وأحوال بعض العلماء
السؤال
هل يصح أن يحكم على الفرق غير أهل السنة والجماعة بأنها كافرة؟ نسمع أن بعض العلماء كالحافظ ابن حجر والنووي وغيرهم أشعري العقيدة فهل هذا صحيح؟
الجواب
أما فيما يتعلق في السؤال الأول فالرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي سبقت الإشارة إليه قال: وستفترق هذه الأمة، وقال في آخر الحديث: {كلها في النار إلا واحدة} فذهب بعض المصنفين إلى أن هذه الفرق كافرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حكم عليها بالنار، ولكن الصحيح أنه لا يحكم على هذه الفرق بالكفر، بل هي فرق داخلة في الجملة في المسلمين.
ولذلك جعلها واعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن من حكم على جميع الفرق الثنتين والسبعين بأنها كافرة فقد خالف إجماع الأئمة الأربعة، بل إجماع الصحابة والتابعين وغيرهم، ولكن لا يمنع هذا أن نتصور أن بعض الفرق الثنتين والسبعين غلت في انحرافها حتى كفرت في الجملة، ولا يعني هذا بالضرورة تكفير أفرادها بأعيانهم؟ فقد يكون فيهم من لا يفقه عقيدتهم ولا يعرف انحرافهم.
أما فيما يتعلق في الحديث عن الأشخاص كـ ابن حجر أو ابن تيمية أو غيرهم من العلماء، فهناك قضية مهمة جداً يجب أن ينتبه لها الدعاة إلى الله عز وجل وطلاب العلم، وهي أن الحكم بالبدعة أو بالكفر إنما هو على الجملة، ولسنا مطالبين بأن نحكم على الأفراد، فننزل الناس منازلهم في الجنة أو النار، في الهدى أو في الضلال، إلا أن يكون ثمة إنسان داعية إلى ضلال أو داعية إلى بدعة ومعروف بذلك، فيبين ما وقع في ذلك من بدعة أو ضلالة ليحذر منها الناس.
أما الاشتغال بتصنيف العلماء، وأن فلاناً أشعري، وفلان ليس بأشعري، فلا أرى له ضرورة إلا في الأمور الواضحة؛ وذلك لأن كثيراً من العلماء قد يكون لديه موقف واحد أو رأي واحد حكم العلماء بأنه قد خالف مذهب أهل السنة والجماعة، أو موقفان أو عشرة، لكن ليس هذا بناء على منهج يعتبر مخالفاً لمنهج أهل السنة والجماعة، فهل يستطيع أن يقول أحد: إن الحافظ ابن حجر رحمه الله المعروف تعظيمه للكتاب والسنة ووقوفه عند النصوص أنه ملتزم بمذهب الأشاعرة مثلاً.
الظاهر من تتبع أقواله في الفتح وغيرها أن الجواب بالنفي، وإن كان يوافق الأشاعرة في بعض جوانب الاعتقاد، لكنه يوافق أهل السنة في جوانب أخرى وفي أصول كثيرة كنبذ علم الكلام وتقديم النصوص وما أشبه ذلك، وهكذا الحال في كثير من أهل العلم، فينبغي أن ننتبه لذلك وألا نعتقد أننا ملزمون بأن نضع كل عالم من العلماء أن نحشره ضمن قائمة من القوائم، قد نقول: إن هذا العالم لا يمكن تصنيفه؛ لأنه في مجال الاعتقاد غالب ما لديه على مذهب أهل السنة، لكن لديه أشياء انتقدها عليه أهل العلم، وقد يكون دافعه فيها الاجتهاد، والله عز وجل يغفر لنا ولهم أجمعين.(151/17)
كتب لطالب العلم
السؤال
ما هي الكتب التي ينصح بها فضيلة الشيخ بعد كتاب الله تعالى، والتي يستطيع أن يستفيد منها طالب العلم المبتدئ؟
الجواب
الكتب كثيرة، وقد أصدر أحد المراكز في القصيم قائمة طيبة فيها مجموعة من الكتب المنتقاة في كل فن من الفنون، ومن هذه الكتب كتاب معارج القبول للـ حكمي، وكتب الشيخ الأشقر في العقيدة الإسلامية، وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب مع شرحه فتح المجيد، ومن هذه الكتب في مجال الحديث رياض الصالحين ومختصر صحيح البخاري، ومختصر صحيح مسلم، وكتاب الترغيب والترهيب وخاصة مع صحيح الترغيب والترهيب والذي صدر منه جزء واحد للشيخ الألباني، ومن هذه الكتب في مجال التفسير تفسير الحافظ ابن كثير، وهو من أنفع كتب التفسير وأوضحها وأكثرها قبولاً، ويتميز بترجيح الآراء بعضها على بعض، ومن الكتب المعاصرة المفيدة كتب أبي الحسن الندوي ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، وإلى الإسلام من جديد، وكتب الشيخ أبي الأعلى المودودي، وكتب سيد قطب ومحمد قطب وغيرها؛ مع أن هذه الكتب وغيرها لا تخلو من أخطاء، أبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه، فالإنسان يأخذ ما في هذه الكتب من النافع، وينتبه إلى بعض الملحوظات، خاصة ما يتعلق بجوانب التصورات الاعتقادية فيها.(151/18)
دخول الحائض إلى المسجد
السؤال
هل يجوز للمرأة دخول المسجد لا ستماع المحاضرة وهي حائض؟
الجواب
الأصل منع النساء من دخول المسجد إذا لم تكن طاهراً، فلا يجوز لها دخول المسجد في هذه الحال إلا لو كان هناك حالات اضطرارية كما ذكر بعض أهل العلم، أما دخول المسجد للمحاضرة فليس أمراً ضرورياً، وبإمكان المرأة أن تسمع المحاضرة في شريط ولو بعد حين من إلقائها، أو أن تسأل بعض من حضرنها عن مجمل ما ألقي فيها أو غير ذلك، وحتى لو لم يتيسر هذا ولا ذاك؛ فإنه لا يجوز للحائض دخول المسجد.(151/19)
جزاء الكفار على ما قدموه للبشرية
السؤال
ما دامت الجنة محرمة على الكفار والمشركين، ونحن نرى أن بعضهم قد أدى خدمات وأعمالاً نافعةً للبشر كصناعة الكهرباء والآلات الناجحة وغيرها، ونعلم أن الله يجزي كل من أحسن عملاً بالحسنى، فكيف يكون جزاء أولئك الكفار مع أن الجنة محرمة عليهم؟
الجواب
هذا السؤال يذكرني بكلمة للدكتور السابق في نفس الموضوع السابق، يقول هذا الكاتب نقلاً عن محمود أبي رية في كتاب له اسمه "دين الله الواحد" يقول: روى أنه شهد مجلساً لبعض المشايخ، وجرى الحديث في من سيدخلون الجنة ومن سيحرمون منها، فسألهم وما قولكم في أديسون مخترع النور الكهربائي؟ فقالوا: إنه سيدخل النار، فقال لهم أبو رية -وهو من مشاهير المبتدعة في هذا الزمان- قال لهم: بعد أن أضاء العالم كله حتى مساجدكم وبيوتكم باختراعه؟! قالوا: ولو! لأنه لم ينطق بالشهادتين، ونقول: لا شك أن الجنة حرام على الكافرين، أما من يقدم خدمات في هذه الدنيا فإن الله يجزيه بها عاجلاً.
ولذلك أديسون اسمه على كل لسان، والناس يلهجون بذكره؛ لأنه -كما يقولون- قدم خدمة للبشرية وللإنسانية، فجازاه الله جزاءً عاجلاً في هذه الدنيا كذلك الإنسان المسلم الذي ينفق المال رياءً وسمعةً يحبط عمله، فيجازيه الله عز وجل بأن يكتب اسمه في الصحف والجرائد بأنه تبرع بكذا وكذا، هذا جزاء عاجل؛ ذكرٌ حسنٌ للإنسان، وقد يجازى بأشياء أخرى في هذه الدنيا.(151/20)
من فضائل الشام
السؤال
نسمع عن الطائفة المنصورة وأنها توجد في الشام، هل يتفضل فضيلة الشيخ بتحديد الطائفة المنصورة، فمن يمثلها في هذا العصر؟
الجواب
أما أنهم بالشام فنعم، ثبتت أحاديث منها حديث عن معاذ في صحيح البخاري عن مالك بن يخامر قال سمعت معاذاً يقول: [[وهم بالشام]] ومنها أحاديث كثيرة صحيحة، لكن قوله: وهم بالشام يحمل على عدة محامل، منها -ومن أقواها فيما يظهر- أن هذا إشارة إلى وجودهم في الشام في آخر الزمان؛ لأن الأحاديث الكثيرة صرحت بأن المؤمنين المقاتلين في آخر الزمان الذين يكونون مع المهدي عليه السلام، والذين يكونون مع عيسى بن مريم عليه السلام، والذين يقاتلون الدجال، ويقاتلون الروم، أنهم بالشام، فيكون هذا الحديث إشارة إلى أن آخر أمرهم أن يجتمعوا بالشام، ومنها تقبض أرواحهم قبيل الساعة.
أما فيما عدا ذلك، فالطائفة المنصورة ليست محصورة في نوع معين من الناس، شجعان مقاتلون، ومنهم علماء، ومنهم دعاة، ومنهم أصناف مما يحتاج إليه المسلمون ممن يقومون بفروض الكفاية ويلتزمون بمنهج أهل السنة والجماعة، وكذلك فهم ليسوا محصورين في بلد واحد، بل هم في بلدان شتى، وقد يجتمعون في وقت من الأوقات في بلد واحد كما هي الحال فيما يتعلق بالشام.(151/21)
علاج الفتور
السؤال
ما هي نصيحتك لبعض الشباب الذين يجدون في أنفسهم أحياناً بعض الضعف من حيث التكاسل عن الدعوة والحماس لها، وما هي الوسائل التي تجعل الحماس دائماً في نفس الشخص لا يخمد ويتلاشى؟
الجواب
من الوسائل أن يحرص الإنسان على أن يستعين في هذا الباب بمن هو على شاكلته، فإن الإنسان يأخذ ممن حوله، فالنشاط يعدي، والكسل يعدي، فإذا جالس الإنسان قوماً نشطين في مجال الدعوة إلى الله عز وجل أخذ منهم هذا الأمر واستفاده، وإذا جالس قوماً قاعدين أو كسالى أو بطالين، أخذ هذا منهم واستفاده، كما أن على الإنسان أن يستحضر النية؛ لأن استحضار النية يجعل الداعي يشعر بأنه يعبد الله عز وجل، وكذلك الاستمرار يجعل الإنسان يرى بعض النتائج القريبة التي تشجعه على الاستمرار في طريق الدعوة إلى الله عز وجل، هذه بعض الوسائل.(151/22)
إنكار المنكر لمن يفعله
السؤال
أحياناً أرى منكراً وأريد أن أنكره، ولكن يوسوس لي الشيطان بألا أنكره؛ لأني أفعل هذا المنكر، والسؤال: هل أنكر المنكر مع أني أفعله؟ أم لا أنكر إلا بعد التخلص من هذا المنكر؟
الجواب
الواقع في المنكر يجب عليه أمران: الأمر الأول أن يترك المنكر، والأمر الثاني: أن ينهى عن المنكر، وهذا هو الواجب، وقد عير الله عز وجل بني إسرائيل حين أمروا بالمعروف ونسوا أنفسهم فقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] وبين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة في البخاري ومسلم قصة الرجل الذي يلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: مالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه.
لكن يجب أن يُعلم أن الإنسان -وإن قصر فوقع في المنكر- يجب أن ينهى عنه ولو كان واقعاً فيه، ولو قصر فترك المعروف الواجب يجب أن يأمر به ولو لم يفعله، وهذا القول الصحيح لجماهير السلف والخلف، وشواهده كثيرة جداً أكتفي منها بدليل واحد، وهو قول الله عز وجل: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79] .
فأسند التناهي إلى الفاعلين، فدل على أنه كان يجب عليهم وهم يفعلونه أن يتناهوا عنه، ولذلك ذكر المفسرون عند هذه الآية قول بعض الأصوليين: واجب على من يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضاً، أي أن القوم المجتمعون على شرب الخمر يجب أن ينهى بعضهم بعضاً عن هذا الفعل.
وقال الإمام مالك: لو لم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن المنكر إلا إذا سلم، لم يؤمر بمعروف ولم ينه عن منكر، من ذا الذي ليس فيه شيء؟! فهذه الواجبات منفصلة، كل مسلم عليه أربع واجبات: فعل المعروف، والأمر به، وترك المنكر، والنهي عنه، وإخلاله بواجب لا يعني أن الشرع يعذره في الإخلال بالواجب الثاني، افترض أن أباً في بيته يفعل المنكر؛ أنقول له: دع أولادك يفعلون المنكر؟! افترض أن أميراً أو مسئولاً في إدارة هو فاعل للمنكر، نقول له: اترك من تحت يدك يفعلون المنكر؛ لأنك واقع فيه؟! كلا! افترض أن شخصاً يفعل المنكر وهو يعلم، وآخر يفعله جاهلاً، نقول: دعه لأنك واقع فيه؟! كلا! نقول: علمه.(151/23)
تقسيم طبقات الفائزين
السؤال
هل يمكن ترتيب طبقات الفائزين إلى طبقات معلومة؟
الجواب
ظهر خلال المحاضرة أنه يمكن تقسيم الفائزين في الجملة إلى ثلاث طبقات أو ثلاث دوائر؛ لكن ربما يقصد السائل هل يمكن تقسيم كل طبقة من هذه الطبقات إلى دوائر أخرى.
فأقول: إن مما لا شك فيه أن الناس داخل هذه الطبقات متفاوتون، ولا أدل على ذلك من أننا نجد أن الطائفة المنصورة التي هي أعلى طبقات الفائزين في الجملة يوجد من بينها أفراد يمتن الله سبحانه وتعالى عليهم، ويختصهم بخصيصة ليست لغيرهم، وهي أنهم يقومون بتجديد الدين لهذه الأمة كما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة.
لكن من الصعب تحديد هذه الطبقات، إنما يلحظها المتأمل في تفاوت الناس وتفاضل بعضهم على بعض.(151/24)
الجمع بين الدعوة والعلم
السؤال
ما نصيحتك للشباب الذين يقولون: إن الجمع بين الدعوة والعلم شيء صعب؟
الجواب
نصيحتي أن يدرك المسلم والشاب خاصة أنه مطالب بواجبات كثيرة، وأن عليه أن يستفرغ أوقاته في أداء هذه الواجبات بصورة متوازنة، وألا يكون أداؤه لأحد الواجبات على حساب الواجب الآخر، وإن كان الإنسان قد يجد في نفسه ميلاً لبعض الأشياء أو يحس بأن شخصيته تتناسب مع بعض الأمور، إلا أنه مع ذلك ينبغي أن يحرص على التكامل في شخصيته.
فالداعية يمكن أن يطلب العلم، وطالب العلم يمكن أن يدعو إلى الله عز وجل، والعلم إنما كان طلبه مهماً حتى تكون دعوة الإنسان إلى الله على بصيرة، فمن دعا إلى الله عز وجل بلا علم فقد أخل بالوسيلة الأساسية للدعوة، ومن علم ولم يدع إلى الله فقد تمكن من الوسيلة، ولكنه لم يستخدمها فيما هي له، فلا بد من التوازن والتكامل في شخصية المسلم.(151/25)
المتساقطون على طريق الدعوة
السؤال
أشهد الله على حبك فيه، وأسأل الله أن يجمعني وإياك وسائر إخواني المسلمين في جنته، إن لي أحد الإخوة في الله، وقد ترك إخوانه بسبب تنفير بعضهم له، هل من نصيحة تتفضلون بها لكلا الفريقين، أعني الأخ المنفر والإخوة الآخرين؟ وما الطريقة المثلى لإعادته إلى الإخوة؟
الجواب
الحديث في هذا الموضوع يطول، ولكن إشارات عابرة.
الأولى: إن الله عز وجل قد أمرنا بحسن الخلق، وأن يحسن بعضنا إلى بعض في القول وفي العمل، حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة صحيحة: {أن العبد يبلغ بحسن الخلق درجة الصائم القائم} وأن حسن الخلق يرفع العبد درجات يوم القيامة ويقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث في الترمذي وغيره.
الإشارة الثانية: أنه مع ذلك فإن طبيعة التجمع البشري ألا يخلو من أخطاء، فهذا قد يخطئ على أخيه خطأً غير مقصود بسبب اختلاف الطبيعة فيما بينهما، فهذا شخص بطبيعته سريع الانفعال، وذاك شخص بطبيعته شديد الحساسية، فتجد أن هناك أشياء يشعر البعض أنها أخطاء، وقد لا تكون الأخطاء مقصودة، إضافة إلى أن هناك أخطاءً مقصودة لا بد أن تقع من البشر، ومجتمع البشر ليس مجتمع ملائكة، فالإنسان يجب أن يوطن نفسه على أنه يتحمل أخطاء الآخرين كما يتحمل الآخرون أخطاءه، ولا مانع من المناصحة -بل هي واجبة- والتنبيه على الخطأ برفق ولين وأدب.
أما الطريقة المثلى فهي أن يحادثه شخص يثق به ويحترمه في الموضوع، ويبحث عن السبب، فإن كان هناك أخطاء من أطراف أخرى، فإن الخطأ يبين وينبه صاحبه عليه، وإن كان هناك خطأ من الشخص نفسه، فإنه يبين له أن هذا الخطأ لم يقع موقعاً عظيماً، وأن الآخرين قد نسوا هذا الخطأ أو تناسوه، وبذلك يمكن -ومع استمرار المحاولة- إعادة هذا الإنسان إلى المجال الخيري.(151/26)
أولئك هم الصابرون
الصبر ضرورة من ضرورات الحياة، فإنه لابد من البلاء لكل إنسان، فمن رضي واحتسب كان على خير، ومن سخط مر عليه القدر وكُتب غير صابر، والصبر أنواع يجب معرفتها، وهو درجات، وأحوال الناس فيه مختلفة، وللناس فيه نماذج مشرقة في الأنبياء والصالحين، والجنة لا يلقاها إلا الصابرون.(152/1)
ضرورة الصبر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام الصابرين وقدوة الخلق أجمعين عليه صلوات الله تعالى وسلامه إلى يوم الدين، وعلى آله وأزواجه وأصحابه وأتباعه إنه تعالى جواد كريم بر رءوف رحيم.
ثم أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته:- أيها الإخوة والأخوات عامة! ويا أهل البكيرية خاصة! إني والله لأحبكم في الله، وأحب ذكركم وزيارتكم ومجالستكم ومحادثتكم، وأفرح بسماع أخباركم وأخبار بلدكم الطيب المبارك هذا، فالحمد لله تعالى الذي جمعنا في هذا المكان الذي هو أطيب وأحب البقاع إلى الله تعالى، في هذا المسجد العامر المبارك، العامر بذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره، ثم الحمد لله أيضا على أن جعل في بلاد الإسلام أمثال هذه البلاد المباركة، البلاد الودود الولود التي تأتي بالأكابر الأفاضل الكرام البررة الأخيار في كل ميدان وفي كل مجال.
فأسأل الله تعالى أن يجعلكم وسائر بلاد المسلمين جميعاً بلاداً عامرة بالإيمان والتقوى، وأسأل الله تعالى أن يجمع القلوب على طاعته، ثم إن حديثي إليكم هذه الليلة هو بعنوان: أولئك هم الصابرون وهو درس ضمن سلسلة الدروس العلمية العامة، رقمه سبع وتسعون، في هذه الليلة ليلة الإثنين الثالث عشر من شهر ربيع الأول من سنة (1414هـ) في هذا المسجد العامر الجامع الكبير بالبكيرية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] .
كيف يُحتاج التواصي بالصبر بعد هذا البيان الرباني العظيم، كيف يحتاج إلى تسويغ أو تدليل، وهل نفتقر بعد هذا إلى ذكر أسباب أو دوافع تدعو إلى طرق هذا الحديث، أو الكلام عنه، أو التفصيل فيه، كلا، إن الحياة كلها لا تقوم إلا على الصبر، وإن المشكلات كافة لا دواء لها إلا بالصبر.(152/2)
صبر أهل الكهف
هؤلاء فتية آمنوا بربهم وزادهم الله تعالى هدى، فرفعوا رءوسهم وقالوا: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّن} [الكهف:15] فسلطت عليهم ألوان العذاب والنكال، وأوذوا في سبيل الله تعالى وطردوا وشردوا فوق كل أرض وتحت كل سماء، فهذا قتيل يتشحط بدمه، وهذا جريح، وهذا شريد، وهذا طريد، وهذا كسير، وهذا أسير، وهذا فقير، وهذا وهذا، مالهم بعد الله تعالى إلا الصبر؛ به يعتصمون، وإليه يلجئون، ومنه ينطلقون.
وهؤلاء قوم ناضلوا في دنياهم وكابدوا وجاهدوا فاحتاجوا بعد ذلك إلى صبر يتمنطقون به ويعتصمون به حتى يستمروا على طريقهم الطويل.(152/3)
ضرورة صبر الداعية إلى الله
وهذا داعية إلى الله تعالى دعا قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، وسلك كل سبيل، وطرق كل جادة، واستخدم كل أسلوب فربما أبطأ عنه النصر، وربما تأخرت الإجابة؛ فهو محتاج إلى الصبر ليعلم أنه لا نجاح لدعوته ولا قبول لندائه إلا بصبر في هذا السبيل: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:4-5](152/4)
صبر المرأة في بيت زوجها
وهذه امرأة في عقر بيتها تجد زوجاً تقدم إليه الجميل فيقدم لها ضد ذلك، وتطلب منه اليسير فيعاملها بغير ما أمر الله تعالى وغير ما شرع، فتبحث عن علاج أو حل هنا أو هناك، وتمارس كل أسلوب وطريقة وسبيل، لكنها لا تجد إلا أبواباً مغلقة، فتشتكي إلى الله تعالى؛ والله تعالى يسمع تحاورهما إن الله سميع بصير، فما بقي لها بعد الله تعالى إلا الصبر تزين به حياتها، وتجمل به علاقتها بزوجها.(152/5)
صبر الرجل على زوجته
وهذا أيضاً رجل ابتلي بزوجة نغصت عليه عيشه، وكدرت عليه حياته.
وقلبتها إلى جحيم لا يطاق إلا بصبر يلين كل شديد، ويسهل كل عسير، ويقرب كل بعيد.
إن حياة الفرد في مجتمعه، وحياة الزوج مع زوجه رجلاً أو امرأة، وحياة الولد مع أبيه، وحياة الداعية، والعالم، والمجاهد، وحياة الإنسان، بل وحياة التاجر والمدير والأمير والكبير والصغير، إنه لا نجاح لهذه الحياة إلا بالصبر، وقديماً قال الإمام الكبير عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[وجدنا خير عيشنا بالصبر]] .(152/6)
جولة قرآنية في مدلولات الصبر
الوقفة الثانية: جولة قرآنية.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعاً"، قال ابن القيم في مدارج السالكين: "وهو مذكور في القرآن على ستة عشر نوعاً"، ثم أوصلها في عدة الصابرين إلى اثنين وعشرين نوعاً، ومن هذه الأوجه والأنواع التي جاء ذكر الصبر فيها في القرآن والسنة، منها على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل:- الأمر بالصبر: كما قال الله تعالى: (فَاصْبِرْ) في مواضع كثيرة والنهي عن ضده، وما هو ضد الصبر؟ الجزع ضد الصبر: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19-22] .
إن الاستعجال ضد الصبر، قال الله تعالى: {اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] فاستعجال الخطوات، والطريق، والعذاب الذي ينزل بالكافرين كل ذلك نقيض الصبر، والله تعالى أمر رسله الكرام بالصبر ونهاهم عن الاستعجال، ولهذا جاء في الصحيحين أن الصحابة رضي الله عنهم اشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقالوا: {ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال لهم عليه الصلاة والسلام إن من كان قبلكم كان يحفر له في الأرض فيوضع فيها، ثم يمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يثنيه ذلك عن دينه، ويشق نصفان لا يصده ذلك عنه دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون} فالاستعجال نقيض الصبر.
واليأس نقيض الصبر: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] أما المؤمن فصبور مؤمن بوعد الله تعالى لا يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً.
والاستخفاف نقيض الصبر، قال الله تعالى: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] .
وكذلك الاستفزاز قال الله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} [الإسراء:76] .
والفتنة عن المنهج والطريق قال الله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:73] .
أما الصبور فهو لا يراوح في مكانه، صابر يموت مثلما تموت الشجرة، بقوتها وقامتها وصبرها وثباتها تواجه الرياح والعواصف والأعاصير والرمال والنكبات، وهي ذات جذع غليظ ضارب في التربة راسخ لا يتزعزع ولا يتزلزل، ولا تنكفئ به الرياح ذات اليمين وذات الشمال.
فهو لا يجزع؛ إن مسه الخير صبر وشكر، وإن مسه الشر صبر وثبت، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {عجباً لأمرالمؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له} .
ولذلك جاء في الأثر [[إن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر]] فالصبر في الضراء والشكر في السراء، قال عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: [[لو أن الصبر والشكر كانا جملين ما أبالي أيهما ركبت]] إما أن يبتلى فيصبر أو أن ينعم عليه فيشكر.
فالمؤمن لا يجزع ولا يستعجل الخطوات، ولا يستبطئ النصر، ولا ييأس من روح الله، ولا يستخفه الذين لا يوقنون فيحملونه على أن يترك منهجه، أو ييأس من طريقه، أو يشكك في دعوته، أو تأتيه الظنون وتراوح به الخواطر في قلبه، فيشك فيما وعد الله، وما وعد الله تعالى حق وصدق: {ولَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] .
ولا يستفز المؤمن فيستعجل طريقه، أو يبطئ في خطواته، أو يترك منهجه، أو يفتن عن شيء منه.
ومن الصور الواردة في القرآن الكريم، أن الله تعالى علق الإمامة في الدين بالصبر واليقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قال سفيان: [[بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين]] وكذلك علق الله تعالى به الفلاح، وأخبر أنه يحب الصابرين، وأنه مع الصابرين، وأنه تعالى جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به في كل نازلة تنزل بالعبد، مصيبة دنيوية أو دينية، أو هم أو غم أو كرب أو حزن، كما قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45-46] .
وبين سبحانه أن الصبر مع التقوى سبب للنصر والثبات، كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيئَاً} [آل عمران:120] وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {واعلم أن النصر مع الصبر} وأخبر أن الصبر جنة عظيمة من كيد العدو، كما قال الله فيما سبق: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} [آل عمران:120] فلم يتوقف كيدهم ساعة من نهار.
اليهود والنصارى والمشركون والوثنيون، وسائر أعداء الدين ما فتئوا يكيدون لهذا الدين ويحاربون أهله، ويرسمون الخطط سراً وجهارا بالتكفير والتضليل والتجويع والتفريق بين المؤمنين، لكن الله تعالى جعل الجنة والعصمة للصابرين المتقين، وأخبر أن ما حصل للأمم السابقة من التمكين والنصر والتثبيت في الأرض إنما هو بصبرهم، كما قال سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137] .
فهؤلاء الطغاة الذين كادوا ودبروا وصنعوا وتآمروا دمر الله تعالى عليهم تدميراً، وللكافرين أمثالها: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} [الأعراف:137] وعلى غيرهم من الأمم المؤمنة بما صبروا، فنصرهم الله تعالى ومكن لهم في الأرض، وجعل الله تعالى ما حصل لنبيه يوسف عليه الصلاة والسلام من العز والتمكين في الأرض بعد البلاء والغربة وما جرى له في قصر العزيز إنما هو بصبره وتقواه: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فإن اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] .
وجمع للصابرين من الأمور ما لم يجمع لغيرهم، قال سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45-46] {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] ثم أخبر عن مضاعفة الأجور للصابرين وأنهم يجزون بأحسن أعمالهم: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:96] .
ورتب الأجر الكبير والمغفرة على الصبر والعمل الصالح: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود:11] وأخبر سبحانه أن الملائكة تدخل عليهم يوم القيامة من كل باب تسلم عليهم، وتهنيهم بالأجر العظيم والثواب الجزيل الذي حصل لهم بصبرهم: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23-24] .
وجعل الصبر على المصائب من عزائم الأمور الذي ينبغي على كل امرئ مسلم رجلاً أو امرأة كبيراً أو صغيراً أن يلجأ إليه ويسعى له: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] كما أخبر أن خصال الخير والحظوظ العالية لا يلقاها إلا الصابرون: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35] كما أخبر سبحانه أن خصال الخير كما ذكرت إنما ينالها الصابرون {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] .
وذكر أن الذين ينتفعون بالآيات ويعتبرون هم أهل الصبر والشكر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:31] ثم اثنى على بعض عباده بالصبر؛ كما اثنى على أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص:44] وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: {وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر} وقال عليه الصلاة والسلام: {ومن يتصبر يصبره الله} وقال في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري: {والصبر ضياء} ضياء ينير لك الظلام، ويمهد لك الطريق، ويفتح لك السدد والأبواب بإذن الحي القيوم الوهاب.(152/7)
أحوال الناس مع الصبر
ثالثاً: ((فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) [التغابن:2] .
قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:20] ولهذا تجد أن الكافر الذي كان في الدنيا منتهى قصده وغاية مراده ومطمح نظره، أن يعب من اللذات ما استطاع لأنها فرصته الوحيدة، فيسكر بخمر اللذة والشهوة، ثم يسكر وهو ينادي: سمعت صوتاً هاتفاً في السحر نادى من الغيب رفات البشر هبوا املئوا كأس الطلا قبل أن تملأ كأس العمر كف القدر أفق وهات الكأس أنعم بها واكسب خفايا النفس من حجبها وروي أوصالي بها قبل ما يصاغ دن الخمر من تربها ويفرق الكافر من البلاء والعناء، ويضيق بكل مصيبة تنزل به فتمتلئ نفسه كآبة وحسرة ويمتلئ قلبه هماً وغماً وندماً، وتنتهي حياته نهاية بائسة محطمة أليمة دون أن يدري لماذا ابتدأت؟ ولا لماذا تنتهي؟ فأنت تجد الكافر هلوعاً جزوعاً منوعاً، ربما غابت عنه صديقته أو حبيبته أو ذهبت إلى عشيق آخر فلا يجد مخلصاً إلا أن ينتحر أو ينهي حياته بشر حال؛ لأنه جعل الحياة كلها ملخصة مقتصرة بهذه العشيقة أو الكأس أو الصفقة أو هذا المنصب أو الكرسي، فهو يقول: أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور فحياة فخلود أم ثناء ودثور أكلام الناس صدق أم كلام الناس زور أصحيح أن بعض الناس يدري؟ لست أدري أما المؤمن فنظرته الصادقة الملتزمة المتزنة تؤكد له ألاَّ يجزع عند مصيبة، ولا ييأس عند ضائقة، ولا يبطر عند نعمة، وأن يقتصر من متاع الدنيا على المباح طلباً للمتعة الكاملة عند الله تعالى في الدار الآخرة.
قرب لـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو من أثرياء الصحابة وأغنيائهم، وأصحاب الملايين منهم، قرب له طعام فلما نظر إليه تذكر ماضي حياته، فبكى ثم بكى ثم بكى، وأمر بالخوان فرفع، قيل له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: [[كنت مع أخي مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وكان خيراً مني وأفضل، ومات ولم نجد ما نكفنه به إلا بردة إن غطينا رأسه ظهرت رجلاه، وإن غطينا رجليه ظهر رأسه، فأمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه الإذخر، ثم أصابنا من الدنيا ما أصابنا فأخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا في الحياة الدنيا]] .
إن التصور بين المؤمن والكافر كبير، والمنهج والطريق متباعد، ولهذا صارت الحياة صراعاً بين المؤمنين والكافرين بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، بين أهل الدنيا وأهل الآخرة، فيبتلي الله تعالى بعض الخلق ببعض، يبتلي المؤمن بالكافر، كما يبتلي الكافر بالمؤمن، وهذا النوع من الابتلاء هو قاسم مشترك بينهم جميعاً، قال الله تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4] وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] وقال سبحانه في الحديث القدسي الذي رواه مسلم، قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: {إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك} فالله تعالى يداول الأيام بين الناس، يديل للمؤمنين من الكفار تارة، ويديل للكفار من المؤمنين تارة، ويجعل الكفار تحت سلطة المؤمنين وقهرهم أحياناً، كما جرى ذلك عبر أكثر من عشرة قرون؛ حيث كان اليهود والنصارى تحت سلطة المسلمين، كأهل ذمة أو أهل عهد أو مقهورين مأسورين محاربين يشرد بهم المؤمنون من خلفهم في كل مكان.
وأحياناً يجعل الله المؤمنين تحت قهر الكفار أو المنافقين وتسلطهم، والدهر هكذا لا يدوم على حال له شأن، كما قال الشاعر: وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان وهذا البلاء الذي يلقاه المؤمن في سبيل الدين أثر من آثار الاستقامة على المنهج، فإذا أصابه في سبيل دينه ما أصابه من أذى سواء كان هذا الأذى من قريب، من والد أو زوج أو أخ أو صديق، أو من المجتمع كله، من أسرة، دولة، أمة، من جهة، فإن هذا البلاء يجعل المؤمن بين موقفين لا ثالث لهما: الموقف الأول: النكوص والتراجع عن هذا الطريق الذي سبب له الآلام وعرضه للمحن، وهذا حال صنف من الناس وصفهم الله تعالى في كتابه فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] أي: على طرف أو على حال معينة، يعبد الله على حال السراء فقط، أما إذا جاءت الضراء تغيرت عبادته {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فإن أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] .
جاء في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه: [[أن الرجل من الأعراب كان يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ولد له بعد الإسلام غلام، ونتجت خيله وكثر ماله، قال: هذا دين حسن، هذا دين جيد فآمن وثبت، أما إذا لم يولد له غلام، ولم تنتج خيله، ولم يكثر ماله، أو أصابه قحط، أو جدب، قال: هذا دين سيئ ثم خرج من دينه وتركه إلى كفره وعناده]] .
وبعض الناس يقول: لو كان هذا الدين خيراً ما تسبب في حرماني من وظيفتي -مثلاً- أو حرماني من الترفيع والعلاوة، أو مصادرة حريتي، أو كساد تجارتي، أو فراق زوجتي، أو إيذائي، أو قحط أرضي، فيفرق فيترك الطريق.
أما الموقف الثاني: فهو موقف الصبر والإصرار، والثبات مهما تطلب الصبر من الجهود والتضحيات، ومضاعفة الصبر كلما تضاعف الألم، والاستمرار على الصبر مهما طال الطريق، ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران:200] فأمر بالصبر، ثم قال: {وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] فهي أربعة أمور: الأول: (اصْبِرُوا) : وهذا أمر بالصبر، ثم ترقى بعد ذلك فقال: (وَصَابِرُوا) أي: إذا واجهتم قوماً صبروا كما صبرتم، لأن الكافر يصبر أيضاً في سبيل دينه.
إذاً المؤمن لا يكفي منه الصبر، بل لا بد أن يصابر حتى يتغلب على الكافر، ثم قال: (وَرَابِطُوا) أي: استمروا على المصابرة، فإن الكافر أيضاً قد يصابر ولكنه لا يرابط، فيصابر ساعة أو ساعتين أو يوماً أو يومين ثم يزول بعد ذلك، ولهذا قال الله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فإنهم يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] .
وأخيراً: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فإنه لا بد مع الصبر من تقوى، وبعض الناس قد يكون عنده صبر، ولكن ليس عنده تقوى كما سوف يأتي، وهذا هو موقف المؤمنين الصادقين في عقد الإيمان، الذين لا تزيدهم المحن إلا إيماناً بالله وتسليماً وتصديقاً بوعده ووعد رسوله عليه الصلاة والسلام، كما حصل للمؤمنين يوم الأحزاب، وذلك لتميز مدعي الإيمان من الصادقين في إيمانهم، كما سمى الله عز وجل الابتلاء فتنة، لأنه يمحص الصادق من الكاذب، ويبين للإنسان قوته من ضعفه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} وقال الله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1-3] .
ومن رحمة الله بعباده المؤمنين أن الله تعالى يسلط عليهم البلاء، ليربيهم به، ويرقيهم به شيئاً فشيئاً، ثم يرزقهم الثبات عليه لينالوا عنده عظيم الأجر وجزيل الثواب، فيربيهم بالمحن والشدائد، ويصفي قلوبهم من الدخل والدغل والغش والريبة والنفاق والضعف، وكلما خرجوا من محنة أو فتنة بالصبر والثبات والإصرار قيض لهم أخرى أشد منها وأقوى، بعد أن وعوا درس المحنة الأولى، وارتقى مستوى إيمانهم ويقينهم، ولهذا جاء في حديث سعد بن أبي وقاص، الذي رواه أهل السنن وهو صحيح أنه قال: {يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه؛ وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي في الأرض ما عليه خطيئة} .
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك تصيبه الحمى، ويشتد عليه الوعك والبلاء، قال: فوضعت يدي عليه فوجدت حره في يدي من فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله! ما أشدها عليك؟ قال: نعم إنا كذلك يضاعف لنا البلاء ويضاعف لنا الأجر قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً، قال: {الأنبياء} قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون، وإن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء} .
الحديث رواه ابن ماجة والحاكم والبيهقي وغيرهم وهو حديث صحيح، ومثله أيضاً حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إني أوعك كما يوعك رجلان منكم قال: ذلك يا رسول الله أن لك أجرين؟ قال: أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى؛ شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها} والحديث رواه الشيخان(152/8)
صور الفتنة
الرابعة: صور الفتنة.
إن الفتنة تأخذ صوراً شتى، منها: أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله، ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويساعده ولا القوة التي يواجه بها الأذى والطغيان من أعداء الله تعالى ورسله.
ومنها: فتنة الأهل والأحباب الذين يخشى عليهم الإنسان أن يصيبهم بسببه أذى وهو لا يملك لهم دفعاً، وقد يهتفون به ليسالم أو يستسلم أو يحفظهم في قرابتهم.
ومنها: فتنة إقبال الدنيا على أهل الباطل وأهل الكفر، وتعظيم الناس لهم وهم ملء سمع الدنيا وملء بصرها، وهو مهمل منكر لا يحس به أحد ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليل.
ومنها: فتنة الغربة، غربة الإنسان في بيته، استيحاشه في عقيدته حين ينظر المؤمن فيرى ما حوله غارقاً في الضلالة وهو وحده موحش غريب طريد.
ومنها: فتنة ظهور الأمم الكافرة المنحلة الغارقة في الرذيلة ورقيها في مجالات الحضارة المادية رقياً هائلاً، وهي مع ذلك محادة لله تعالى.
ومنها: فتنة إبطاء النصر عن المؤمنين وتعرضهم للأذى والضرب والتنكيل والقتل والتشريد على أيدي أعداء الله تعالى وأعداء رسله.
ومنها: فتنة فتح الدنيا على الإنسان بالمال، أو الجاه، أو الوظيفة، أو المنصب، كما قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فيما رواه أهل السنن وهو صحيح، قال: [[ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر]] .
إذاً: هي فتن عظيمة، منها فتن الدنيا، وفتن الدين، وفتنة السراء والضراء، وفتنة الأهل والمال والولد، والمجتمع، وفتنة موت الأقارب والأحبة، والأصحاب، وفوات المال والفقر والجوع، كما قال الله تعالى: {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:155] .
ومنها فتنة ضعف الإنسان وقلته وذلته وعدم وجود الناصر والمعين، ولا بد للعبد أن يصبر على هذا كما يصبر على ذاك.(152/9)
وما يلقاها إلا الصابرون
خامساً: وما يلقاها إلا الصابرون.(152/10)
الصبر على أعداء المؤمنين بجميع أصنافهم
وإذا كانت ضرورة للمسلم العادي فما بالك بالداعين إلى الله تعالى، أو المجاهدين الصابرين في سبيله، إنهم أحوج إلى الصبر، وكيف لا يحتاجون إلى الصبر وهم يواجهون ألواناً من الأعداء الظاهرين والمستترين.
فمن أعدائهم المحادون لله ورسله، النابذون شريعة الله تعالى وراءهم ظهرياً، من أهل التمكين والنفوذ الذين يحاربون السنة وأهلها، لعلمهم أن التمسك بالإسلام يهب المسلمين الاستعلاء والعزة والتحرر من العبودية للمخلوقين، أو الخوف منهم، وهذا يحملهم على رد الباطل على أهله، حتى ولو كان أهله هم السادة والقادة، وأن التمسك بالإيمان يجعلهم أمة واعية داعية متميزة، عارفة بحقوقها التي يجب أن توصل إليها، عارفة بواجباتها التي يجب أن تؤديها، فهي لا تجهل حقها فتقصر عن المطالبة به، ولا تجهل واجبها فيلبس عليها بجعل ما ليس بواجب واجباً.
لعلمهم أن التمسك بالإسلام يجعل المسلمين أمة عقيدة لا يقر لها قرار؛ إلا بتطبيق شريعة الله تعالى في أرضه، فالمسلمون ليس همهم -مثلاً- الرفاهية المادية فحسب، ولا همهم فقط التيسيرات الدنيوية فحسب، وإنما همهم الأول والأخير أن تطبق شريعة الله تعالى في عباده.
ولعلمهم أن التمسك بالإسلام الصحيح يحملهم على القيام بالقوامة على المجتمع ومراقبة سيره، ومعالجة انحرافه، ومقاومة القوى الخفية العلمانية التي تسعى إلى إضلال الناس وتخريب عقولهم وأديانهم، وإغراقهم في الشهوات، وهذه شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهر بكلمة الحق، والقيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى، وهؤلاء المتسلطون على المسلمين يعملون على إغراء العلماء والدعاة بالمال والمنصب والجاه، وسائر الحظوظ الدنيوية لصرفهم عمَّا هم عليه، وواجب العالم والداعية حينئذٍ الصبر ومقاومة الإغراء، كما يتعرض العالم إذا استعلى على المادة والإغراء يتعرض للتهديد والتخويف والتضييق، وربما أخرج من بلده، أو أوذي أو قتل أو أوذي في نفسه أو أهله أو ماله، ولا بد من احتمال ذلك كله في الضراء والسراء.
ومن ألد أعداء المؤمنين حملة المذاهب الأرضية، من الشيوعيين والاشتراكيين والقوميين والبعثيين والعلمانيين الذين يستخدمون كل سبيل لنشر مذهبهم، كالإذاعة والتلفاز والجريدة والمقالة والقصة والكتاب والديوان والشعر وكل سبيل، وقد أصبحت اليوم وسائل كثيرة مما يتمكنون بها أن يخاطبوا المسلمين، وغالب هؤلاء قد تشبعوا بالمبادئ الغربية أو الشرقية، وتربوا عليها خلال فترة دراستهم أو طلبهم؛ ومُنُّوا بالأماني الباطلة أن الدولة ستكون لهم، وأنهم سيتمكنون من قلب الأوضاع السياسية في العالم الإسلامي، والأوضاع الفكرية والاجتماعية وصياغتها وفق ما يريدون، وهم يعلمون أن الخطر الحقيقي على مخططاتهم من دعاة الإسلام وعلمائه الصادقين، الذين يستفرغون جهادهم وجهدهم وطاقتهم في تجديد أمر الدين والدعوة إليه.
فيسعى هؤلاء العلمانيون وغيرهم جاهدين إلى الحيلولة بين العلماء وبين الأمة، بتشويه سمعتهم، وإلصاق التهم بهم، فهم حيناً يصفونهم بالجمود والتخلف والرجعية، وحيناً يصفونهم بأنهم متطرفون إرهابيون، أصوليون، وحيناً يصفونهم بأنهم يسعون إلى قلب الأوضاع، والسيطرة على مقاليد الأمور والوصول إلى مقاليد الحكم، وأنهم لا يريدون ديناً ولا إصلاحاً ولا أمناً ولا إيماناً وإنما همهم الدنيا ووظائفها ورئاساتها.
وحيناً يتهمونهم بأنهم خطر على الأمن، وأنهم سوف يمزقون المجتمع إلى شيع وأحزاب وطوائف.
ويستغلون في ذلك سائر الوسائل التي يسيطرون عليها، من أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والصحافة والكتابة وترويج الإشاعات وغير ذلك مما قد أصبح معروفا ًمكشوفاً، ولعل هؤلاء الذين يحاربون الدعوة داخلون فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة الشهير: {دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال حذيفه: صفهم لنا يا رسول الله؟ قال: قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا} قال ابن حجر قال القابسي: "معناه أنهم في الظاهر على ملتنا؛ وفي الباطن مخالفون لنا".
ومن أعداءالمسلم أصحاب الفرق والأهواء من الفرق الضالة المخالفة للسنة، كالصوفية والباطنية بشتى فرقها وشيعها، والمعتزلة وغيرهم، فهؤلاء منهم، وهم على الباطل بلا خفاء وهم يلبسون الحق بالباطل، فيغتر الناس أحياناً بما معهم من الحق، ويقبلون كل ما عندهم من حق أو باطل بلا تمييز.
وكثيراً ما تقف هذه الطوائف الثلاث: الحكام المتسلطون، ودعاة المذاهب الأرضية من العلمانيين وغيرهم، وشيوخ البدعة والضلالة وأتباعهم، يقفون في خندق واحد ضد السنة وأهلها، ويتعاونون في تضييق الخناق على أهل الحق والاتباع حتى يصل الحال إلى ما قيل: وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكمُ وهناك الأعداء الخارجيون من اليهود والنصارى والمشركين، الذين هم أشد عداوة وكيداً ومكراً وخبثاً، وبيدهم اليوم مقاليد الإعلام والاقتصاد في العالم، وبواسطتها يؤثرون تأثيراً بالغاً في سياسات الدول الشرقية والغربية، ولهم جمعيات سرية، ومنظمات خفية يتحركون باسمها حتى في بعض البلاد التي تتظاهر بحرب اليهود والنصارى، تجد أن لهم الماسونية، ويهود يوه، ونوادي الروتاري، وبعض الجمعيات النسائية، والجمعيات الفنية، والجمعيات الرياضية، والنقابات وغيرها، ومثلهم النصارى أيضاً وهم حلفاء اليهود الذين يهيمنون على بلاد الغرب كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا بل وروسيا، يحاربون المسلمين علانية في كثير من البلاد، فيحملون السلاح في البوسنة والهرسك، وفي الصومال، وفي طاجكستان، وفي كثير من البلاد.
حتى إني قرأت خبراً قديماً أوصله إلي أحد الإخوة يذكر أن بعض الوسطاء الدوليين في قضية البوسنة والهرسك يجلس جلسات خاصة مع رادوفان كراديتش زعيم الصرب، ويتباسطون ويتبادلون الحديث، وأنه صار بينهم رهان على أن المسلمين يقبلون بتلك المؤامرة، وأن الأرض الذي أعطيت للصرب تشكل (28%) أو (30%) ، فقال: إن الفائز بالرهان له قارورة ويسكي! وقد قال وسيط من الوسطاء الدوليين إنه قد خسر الرهان واضطر إلى أن يدفع قيمة هذه القارورة! ونسي هذا المجرم الكبير أن المسلمين خسروا مئات الآلاف من الأرواح، وخسروا عشرات الآلاف من المسلمات المغتصبات، وخسروا آلافاً من الأطفال الأبرياء الذين قتلوا، وخسروا مسافات شاسعة من الأراضي، أما هو فكل خسارته أنه خسر زجاجة (وسكي) في مقامرة فعلها أو مراهنة مع صديقه الصربي الكافر! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] إن اليهود والنصارى الذين يملون سياسة غريبة علىالمسلمين، فيطالبونهم بموالاة أعداء الإسلام وبالمصالحة معهم، وبتطبيع العلاقة مع هؤلاء وأولئك، وبفرض لون من التغريب والتخريب على عقول المسلمين، وفرض التعاسة الأخلاقية على المجتمعات الإسلامية، وتضييق الخناق على الدعاة إلى الله تعالى، وتقليص مكانة العلماء المصلحين الصادقين، إن هؤلاء اليهود والنصارى حينما يملون مثل هذه السياسات إنما يريدون أن يضربواالمسلمين بعضهم ببعض.
وليس غريباً ما نرى من تصارع هو البغي لكن بالأسامي تجددا وأصبح أحزاباً تناحرُ بينها وتبدو بوجه الدين صفاً موحدا(152/11)
الصبر في اللغة والشرع
الصبر في اللغة هو الحبس، تقول: صبرت نفسي على ذلك، أي: حبستها عليه، ومعنى الصبر المشروع: هو صبر النفس عن الجزع، وصبر اللسان عن الشكوى، وصبر الجوارح عن شق الجيوب، أو خمش الوجوه، أو الدعاء بدعوى الجاهلية.(152/12)
أنواع الصبر
وهو على ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله تعالى، وصبر عن معصيته، وصبر على امتحانه وقضائه وقدره.
ومعنى النوعين الأولين: الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية: معناه الثبات على الدين فعلاً لما أمر الله تعالى وتركاً لما نهى، واستمراراً على ذلك فلا تصرفه عنه الصوارف، وهذا أكمل وأعظم من النوع الثالث الذي هو الصبر على المصيبة، إذ أن صبر الإنسان على المصيبة كصبر المضطر الذي لا يملك إلا الصبر، فالمصيبة واقعة كالموت مثلاً، أو المرض أو البلاء الذي ينزل بالإنسان بلا رغبة ولا اختيار، وبالمناسبة فإن من المصادفة أن تأتيني رسالة من إحدى الأخوات في بلد إسلامي منكوب -في الجزائر- لإحدى بنياتي تعزيها بوفاتي، وتقول: بلغنا وفاة فلان فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، وتدعوها إلى أن تصبر وتحتسب ما أصابها في ذات الله تعالى، فالحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور.
أقول: إن الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله تعالى، أعظم وأكمل من الصبر على القضاء والقدر لأن الصبر على القضاء والقدر صبر اضطراري لا بد منه، ولهذا كان صبر يوسف عليه السلام عن امرأة العزيز، ورفضه الاستجابة لإغرائها لما غلقت الأبواب وتزينت وتجملت وتعطرت وانفردت به، وقالت: هيت لك، تعالَ، هلم.
أعظم وأكمل من صبره على كيد إخوته وما صنعوا به من الأذى.
والمؤمن مطالب بأنواع الصبر الثلاثة كلها، خاصة وأنها قد تتداخل فتصبح لحمة واحدة، وذلك حين يلحق أعداء الإسلام الضرر بالمؤمن أو ببعض أفراده، بالقتل، أو التشريد، أو السجن والاعتقال، أو الإخافة، أو سلب المال، أو قتل الأولاد والأزواج وغير ذلك، فيحتاج المؤمن إلى صبر على قضاء الله، وعلى طاعته، وعن معصيته.
فهاهنا يكون الأمر القدري الواقع الذي لا حيلة للإنسان في دفعه ناتج عن الصبر على الطاعة والثبات عليها، والصبر عن المعصية والعزوف عنها، فهو صبر على القدر، وهو -أيضاً- صبر على الطاعة والإيمان والاتِّباع، إذ لو تخلَّى المؤمن عن دينه، ووافق هؤلاء الكفار ومن في حكمهم فيما هم عليه لسالموه وتركوه، بل ربما والوه وصاحبوه، ودافعوا عنه بما يملكون وما يستطيعون.
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكان يظنها لا تفرج(152/13)
أنواع الصبر الضروري
إن الصبر على الدين لا بد منه، ومن لم يكن عنده صبر لا يكون عنده إيمان، وكلما ترقى العبد في مدارج العبودية والجهاد، واشتدت عليها التكاليف وثقلت وطأتها زادت حاجته إلى الصبر، وكلما فسدت الحياة وأسن المشرب، واستحقرت غربة الدين، وقل الأنصار، وكثر الأعداء والمناوئون والكائدون، زادت الحاجة إلى الصبر، حتى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حديث أبي ثعلبة الخشني، قال لأصحابه: {فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن كقبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله قالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم.
قال: بل أجر خمسين منكم} وهو حديث رواه أهل السنن وهو حسن بشواهده، ومثله أيضاً حديث عتبة بن غزوان: {إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذٍ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم} وهو حديث حسن أيضاً.
الصبر على الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، والإنفاق، وسائر الأعمال التي تحتاجها الدعوة، من التضحية بالنفس أو بالمال، أو بالأهل والعشيرة، أو بالوقت أو بالراحة، والصبر على أذى المشركين والمنافقين والفاسقين والمناوئين، فلا يخرج الإنسان عن طوره، ولا يتسرع أو يتهور أو يستعجل، بل يظل على منهجه الذي آمن به، واطمأن إليه، ولا يستجيب لاستفزاز الذين لا يوقنون.
الصبر على ما يلقاه الإنسان داخل الصف المؤمن أحياناً من النقائص بين المؤمنين والتناقض والمآخذ والعيوب، حتى من إخوانه وأصحابه وأقرب الناس إليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} .
إن من الطبيعي أن يجد الإنسان تخلخلاً في الصفوف، أو ضعفاً في العزائم، أو قلة في الاتباع، أو إخلاداً إلى الراحة، أو تناقضاً في الجهود، فيكون دأب المؤمن الصابر العمل على الإصلاح وتلافي العيوب ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
والصبر عن المعاصي التي تنتشر وتفشو ويصبح التحرز منها أمراً صعباً، فمعصية في البيت، ومعصية في السوق، ومعصية في الطائرة، ومعصية في البر، ومعصية في البحر، ومعصية عبر الهاتف، وأخرى عبر المذياع، وثالثة على شاشة التلفاز، ورابعة في الجريدة، وخامسة في كتاب، وسادسة في المدرسة، وسابعة في العمل، وثامنة في الحي، وتاسعة ربما كانت على أبواب المساجد، فيحتاج الإنسان إلى أن يتمنطق بالصبر على هذه المعاصي لينال رضا الله سبحانه وتعالى.
وهذا الزمن الذي تفاقمت فيه الأمور، وكثرت الفتن، واشتدت فيه الكروب على المسلمين، وأصبح المسلم يخاف على دينه صباحاً أو مساء، وأصبح المؤمنون يشردون في مشارق الأرض ومغاربها، ويودعون غياهب السجون بغير ذنب اقترفوه، ولا جرم افتعلوه إلا أن يقولوا: ربنا الله، ولينكل بهم غيرهم، فلا يقوم إلى الله تعالى داع، ولا يتحرك إلى الله تعالى ناصح، ولا يأمر أحد بمعروف، ولا ينهى أحد عن منكر، ولا يطالب أحدٌ بتحكيم شريعة الله تعالى، فيشرد بهؤلاء، وينكل بهم، ويؤذون، ويضيق عليهم ويضطهدون، ويجد الإنسان من ذلك شيئاً كثيراً عظيماً في سائر بلاد الإسلام، ويجد هذه المعاصي المنتشرة الكثيرة الظاهرة، بينما تجد الطاعات قد أغلقت أبواب كثير منها، أو كادت، فيحتاج إلى الصبر على ذلك كله.
وهاهنا يأتي مصداق ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أنس بن مالك الذي رواه الترمذي وغيره: {يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر} .
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمر فتنجو من البلا وفي حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام: {ويل للعرب من شر قد اقترب، فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل} نعم فقد باع دينه بوظيفة، أو راتب، أو مقابل، أو جعل، أو عطاء، أو مرتبة، أو ما أشبه ذلك مما يتقرب به من الناس ويباعده عن رب العالمين.
وكثير من الناس يحاول الواحد منهم أن يثبت ولاءه، وإخلاصه لهذا بأن يطعن في هذا، ويشتم ذاك، ويسب هؤلاء، ويتهم أولئك، ولسان حاله يقول: أنا وحدي المخلص الصادق الوفي لك أو لفلان أو لزيد أو عبيد، فيشتري الدنيا ويبيع الآخرة -والعياذ بالله- ويبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، قال عليه السلام: {المتمسك يومئذٍ بدينه كالقابض على الجمر -أو قال- على الشوك} .
وفي مثل هذه الحال يتأكد الصبر ويتحتم ويصبح من أوجب الواجبات، لأنه ضرورة بالنسبة للمسلم العادي، ليحافظ على إسلامه ويحتمي من الردة التي تطل برأسها على صورة مبادئ ومذاهب إلحادية، أو موجات تشكيكية، أو انجراف في الحياة المادية، أو على صورة تخل بالشعائر من الصلاة والزكاة وغيرها، أو الغفلة عن المعتقدات التي بعث الله بها رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام أو على أي صورة أخرى.(152/14)
مواقف الناس تجاه الأقدار الجارية
سادساً: الناس أربعة.
إن الأقدار تجري على كل إنسان، ولكن الفرق في مواقف الناس، وأنت لو تأملت الناس كل الناس لوجدتهم لا يخلون من أحد أربعة أصناف:(152/15)
شر الأقسام
أما القسم الرابع: وهو شر الأقسام، فهم الذين لا صبر لديهم ولا تقوى، لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا، بل هم كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19-22] فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم وأكثرهم طغياناً وظلماً إذا ملكوا وقدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا وغلبوا:- ملكنا فكان الصفح مِنَّا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح ولا عجباً هذا التغاير بيننا فكل إناء بالذي فيه ينضح فهؤلاء القوم إذا قهرتهم ذلوا لك ونافقوك، وقدموا لك جميل الكلام ومعسول القول، أما إذا غلبوا فإنهم يكونون أظلم الناس وأقساهم قلباً وأبعدهم عن الرحمة واللين والعدل والإنصاف وأقلهم إحساناً وعفواً، كما جرب ذلك المسلمون على كل من كان أبعد من الإيمان، سواء من الكفار المعلنين كالتتر الذين قاتلهم المسلمون ووجدوا منهم الأذى العظيم، أو الصليبيين النصارى، أو اليهود، أو من بعض المنافقين المنتسبين إلى الدين المتظاهرين بلباس المسلمين وزهادهم، وحقائقهم خلاف ذلك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: {إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم} .(152/16)
أهل الصبر بلا تقوى
الثاني: الذين لهم نوع من الصبر بلا تقوى، مثل أولئك الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم من الأهوال، فاللصوص -مثلاً- وقطاع الطرق، ومدمنو المخدرات قد يسجن الواحد منهم ويضرب ويؤذى، وقد يتعرض للقتل أو الإعدام في عدد من البلاد، ومع ذلك فهم يصبرون ويصابرون ويستمرون في هذا الطريق، بل أقول بأسف شديد: أحياناً صبرهم وتجلدهم وإصرارهم يفوق حتى صبر بعض ضعفاء الإيمان على ما يلقونه في سبيل الله تعالى.
فهؤلاء يغتصبون، ويأخذون الحرام، وتحصل لهم أموالٌ بالخيانة وغيرها، ومثل هؤلاء أيضاً في الصبر بلا تقوى، طلاب الرئاسة والحكم والسلطة والعلو على غيرهم، فإنهم يصبرون على ذلك وعلى ألوان من الأذى لا يصبر عليها أكثر الناس.
ومثلهم أيضاً أهل المحبة -محبة الصور المحرمة- العشاق فإن العاشق يصبر على ما يلقى من معشوقه من الأذى والنكال والإعراض والإيذاء، كل ذلك من أجل الدنيا وهؤلاء هم كما قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:83] فهؤلاء إما أنهم يريدون علواً في الأرض -كما يكون حال الحكام- أو يريدون فساداً -كما هو حال أهل الشهوات- أما المؤمنون أهل الآخرة فهم عن هؤلاء وأولئك بمعزل.(152/17)
أهل التقوى بلا صبر
أما القسم الثالث: فهم الذين لهم نوعٌ من التقوى بلا صبر، وهم الذين يصلون، ويتركون المحرمات، ويصومون ويزكون، لكن إذا أصيب أحدهم بمرض في بدنه أو في ماله أو في عرضه أو ابتلي بعدو يخيفه، فإنه يعظم جزعه ويظهر هلعه، وهذا حال أكثر الناس اليوم، فإن الواحد منهم إذا ابتلي ولو بشيء يسير في دينه أو في دنياه، ظهر عليه الخوف والتوتر والقلق، حتى أن منهم من يترك الصلاة مع الجماعة، ومنهم من لا يتعاطى الكتب، ومنهم من يبتعد عن الأشرطة، ومنهم من يترك صحبة الأخيار، ومنهم من يتجنب السلام على بعض أصدقائه أو زملائه خشية أن يصيبه من ذلك سوء.(152/18)
أهل الصبر والتقوى
الصنف الأول: من أهل الصبر والتقوى، يقول تعالى: {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] وهؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة، ممن صبروا على أقدار الله، وعلى طاعته، وعن معصيته، واتقوا الله تعالى فكفاهم شر ما يخافون في الدنيا والآخرة، قال قائلهم: قد عشت في الدهر أطواراً على طرق شتى وقاسيت منها اللين والشبعا كلاً بلوت فلا النعمى تبطرني ولا تخشعت من لأوائها جزعا لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا(152/19)
أسباب تقوي القلب
سابعاً: أسباب تقوى القلوب.(152/20)
استشعار حسن الجزاء في الآخرة
الخامس: تذكر حسن الجزاء في الآخرة للصابرين، يوم يتمنى أهل العافية أن لو قرضت أجسادهم بالمقاريض -كما جاء ذلك في الأثر الصحيح- وحين يكون عظم الجزاء مع عظم البلاء يوم القيامة، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها من خطاياه} وفي حديث آخر: {ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا نصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه من خطاياه} .(152/21)
استشعار قرب الفرج
السادسة: أن يعلم قرب الفرج مهما طال البلاء: عسى فرج يأتي به الله إنه له كل يوم في خليقته أمر وقال آخر: عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] .
إن أراك الزمان وجهاً عبوساً سوف تلقاه بعد ذلك طلقا لا يهمنك حاله إن في طرفة عين يرتاح فيه ويشقى أي عز رأيت أو أي ذل بذوي الحالتين في الدهر يبقى سل نجوم السما إذا ما استنارت ما الذي وسط الظهيرة تلقى وتفكر وقل بغير ارتياب كل شيء يفنى وربك يبقى(152/22)
اليأس مما فات
السابع: اليأس مما فات الإنسان: فإن اليأس قوة وصبر لقلب الإنسان، وربما تمنى الإنسان شيئاً فطال شوقه وتلهفه إليه، زوجة -مثلاً- أو ولداً أو مالاً أو جاهاً أو وظيفة، فإذا يئس منه رزقه الله تعالى الغنى عنه وقوى قلبه، وأعزه بالغنى، ولذلك يروى أن رجلاً كان يحب ولده ويشتاق إليه في غيبته، فلما مات رُزِقَ صبراً، فكان يقول: عجبت لصبري بعده وهو ميت وقد كنت أبكيه دماً وهو غائب على أنها الأيام قد صرن كلها عجائب حتى ليس فيها عجائب ومن ذلك الاستعانة بالله تعالى، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولهذا كان المؤمن دائماً وأبداً يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فلا بد من أن يستعين بالله تعالى على تحمل المصائب الدينية والدنيوية، فالاستعانة بالله تعالى تهون على العبد المصيبة فلا يجد وقعها ولا يتبرم منها، بل ربما تحولت إلى نعمة وربما سر بها، واعتاد عليها وألفها، كما يألف الإنسان البلد الغريب إذا أقام فيه واختلط بأهله، وكما يألف السجن إذا طال مكثه فيه، وكما يألف الفقر فلا يحب الغنى، والمهم هو أن تحصل السعادة للإنسان في الحالين في قلبه، ومن ذلك أيضاً أن في الجزع شماتة العدو وحزن الصديق، وفي الصبر إبرار الصديق وغيض العدو فإن تسأليني كيف أنت فإنني صبور على ريب الزمان صليب يعز علي أن ترى بي كآبة فيشمت عاد أو يساء حبيب ومن ذلك تذكر الموت فإنه نهاية الحياة، وهو قمة الابتلاء، وآخر ما يلقاه الإنسان في هذه الدنيا، لا حزن ولا كرب على الإنسان بعد ذلك من المؤمنين بإذن الحي القيوم، قال عليه الصلاة والسلام: {ليس على أبيك كرب بعد اليوم} والموت حتم على الجميع، وأحسن الموت، الموت في سبيل الله تعالى، فإنه حياة {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران:169] .
عجباً لمن يلقى الحروب فلا يقاتل أو يجالد لا سيما إن كان يوقن أنه إن مات عائد خوفاً وإشفاقاً وإرصاد الحتوف له رواصد إن قال إن النفس واحدة فإن الموت واحد ومن ذلك التأمل فيمن أصيبوا بأعظم مما أصاب الإنسان، فإنه من أردأ المشاعر في النفس التطلع إلى ما عند الآخرين، والنظر إلى من فوقه، ومن أحسن المشاعر أن ينظر إلى من دونه، فمن مرض مرضاً يسيراً ينظر للمرض الخطير، ومن مرضه خطير ينظر للموت، ومن أصيب بقريب أو حبيب ينظر إلى من أبقى الله تعالى له من الأحياء والأحبة، ومن أصيب بدنياه ينظر إلى من أصيب بدينه، فله الضلال والعار والنار، ومن نقص ماله أو ثمرته، يقارن ذلك بمن ركبته الديون العظام.
ومن ذلك أن يعلم أن المصيبة اختبار واختيار من الله سبحانه وتعالى، فإنما يبتلى الأقوياء، والمجاهدون، والدعاة، والصادقون، والمغامرون، أما الذين يسايرون الأوضاع فقد لا يتعرضون لشيء، لكن حياتهم تختصر وتختزل في رفاهية العيش، وكثرة المال، ورفعة المنصب، ولحظة جنس، أو لحظة طعام أو شراب، وهي أيام قلائل وليال ثم ينتهي، ولذلك قال بعض المغامرين الدنيويين، قال: تَغَرّب، أي ابحث عن بلد آخر، ليس شرطاً أن تجلس في بلدك وتحيا وتموت فيها، ابحث عن العز والقوة ولو كانت في بلد غريب:- إني رأيت ركود الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطب تغرب فما الدار الحبيبة دار وفك المطايا فالمناخ أسار ولا تسأل الأقدار عما تجره مخافة هلك فالسلامة عار إذا لم يسعك الأمن في عقر دارها فخاطر بها إن العلاء خطار مقامي مع الزوراء وهي حبيبة مع الظلم غبن للعلا وخسار وكم حلة محفوفة ولها الهوى وأخرى لها البغضاء وهي تزار إذا حملت أرض التراب مذلةً فليس عليها للكرام قرار ولا عيب إن أهزلت وحدي وأسمنوا إذا أنا أنجدت العلا وأغاروا ولست أرى الأجسام وهي نواحل تضاءل إلا والنفوس كبار ومن ذلك أيضاً أن يعرف الإنسان ما وراء الصبر من الشرف في الدنيا، والعزة، والرفعة، والمقام، والمنزلة، وأنها لحظات وتنتهي، وما وراء الصبر من الجنة والثواب في الدار الآخرة: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ولهذا كان من منهج السلف سلوك مسلك الترغيب والترهيب، حتى يعرف الإنسان ما له من الصبر على الطاعة فيصبر عليها، وماله من الصبر على المعصية فيكف عنها، وماله من الصبر على ما قضى الله تعالى وقدر.
قال العبد الصالح لموسى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:68] .(152/23)
الاقتداء بسير الرسل الكرام
الثالث: الاقتداء بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فإنهم أصيبوا؛ بل هم أعظم الناس مصاباً، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] لقد أوذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشج رأسه، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنتيه عليه الصلاة والسلام، وجرح قدمه حتى سال منها الدم، وأوذي وضرب بالحجارة، وأخرج من بلده، وأوذي في زوجته، ونسبت إليها قالة السوء، وأوذي في ولده وقيل له: أبتر، وقيل له: فقير، وطرد وأوذي وحبس وهدد عليه الصلاة والسلام، وجرت عليه مؤامرات بقتله أو حرمانه من السفر والخروج من مكة، أو إخراجه منها وطرده في الأرض، ومع ذلك كله صبر وصابر، حتى جعل الله تعالى له العاقبة، وحتى حكمه الله تعالى في هؤلاء القوم الذين كانوا بالأمس سادة وقادة، فقال عليه الصلاة والسلام: {ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء} .
نعم، الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام لقوا من الأذى ما لم يلقه أحد قط، وهذا دليل على أن الدنيا ليست مقياساً ولا ميزاناً، فإن الرسل هم أفضل الخلق على الله، ولو كانت الدنيا هي المقياس، لجعلهم الله تعالى في الدنيا أهلها وسادتها، فقد خير النبي صلى الله عليه وسلم بين الخلد في الدنيا والجنة أو الموت، فاختار ما عند الله عز وجل.(152/24)
استشعار حسن العاقبة في الدنيا
الرابع: أن يتذكر حسن العاقبة في الدنيا، على الصبر على ما ابتلاه الله تعالى، قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] وقال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وقال: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137] ومن ذلك أن يعلم أن له مع الصبر الإمامة وحسن الذكر، كما قال عز وجل: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء:73] .(152/25)
استشعار عموم البلاء
الثانية: أن يعلم أن الأمر لا يخصه هو، بل ما من أحد في الدنيا إلا وهو أحد اثنين، إما مصاب أو ينتظر مصيبة، قال الله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فإنهم يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] إذا ما الدهر جر على أناس بكلكله أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا كل الناس وأهل الأديان كلها، وكل العقائد، والمذاهب، والأمم، وكل الرجال، والنساء، لا بد لهم من المصائب: المرض والفقر والموت والخوف والهلع والجزع، قاسم مشترك بين البشر كلهم، فالأمر لا يخصك وإنما الشيء الذي يمكن أن تختص به هو الصبر على قضاء الله تعالى والرضا والتسليم، لترتفع بذلك درجات عند الله الكريم.(152/26)
الإيمان بالقضاء والقدر
أول ذلك الإيمان بالقضاء والقدر قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:22-23] إنه ما أصاب من مصيبة للإنسان في نفسه ولا في أهله ولا في ماله ولا في زوجه ولا في ولده؛ إلا وقد كتبت في كتاب عند ربي لا يضل ولا ينسى.
والخوف والجزع لا يزيل هذه المصيبة، ولكنه يحرم الإنسان من أجرها وثوابها، قال علي رضي الله عنه: أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المحذور لا ينجو الحذر دفن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ولده عبد العزيز، فلما دفنه قام على قبره فقال: يا ولدي والله نعم الولد لي كنت، صبوراً، براً، قواماً، صواماً، عالماً، فاضلاً، أبياً، حيياً، والله يا ولدي ما كنت أسعد بك مني اللحظة وقد واريتك التراب، فلأجرك عند الله أعظم عندي من ثوابك في الدنيا.(152/27)
الأسئلة(152/28)
توزيع الأشرطة في الأماكن البعيدة
السؤال
نحن مجموعة من أهل الخير في المنطقة الشرقية، ولا توجد طريقة لوصول أشرطتكم إلينا بالشكل المطلوب، فهل عندكم خطة مقترحة لوصولها إلينا؟ علماً أن شباب الشرقية يحبون سماع الخير؟
الجواب
سبق أن ذكرت شيئاً من ذلك، وعلى كل حال لا يعدم المؤمن وسيلة أو ذريعة إلى تحصيل الخير وإيصاله إلى من أراد، وهذا الأشرطة بحمد لله ليست مخدرات تلاحق وتحارب، وليست أشرطة (إباحية) تتابع في محلات الفيديو، ويغرم من وجدها خمسمائة ريال أو يغلق محله يوماً أو أسبوعاً، وليست مواداً مدمرة، وليست تحمل أفكاراً معادية للدين، وليست تحمل عقائد مخالفة لما هو معلوم عند المسلمين وأهل السنة والجماعة، إنما فيها قال الله، وقال رسول الله.
ومن ذا الذي يعلن أنه يحارب قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يتابع ذلك، نعم قد تكون هناك ظروف خاصة جعلت أنها لا تباع الآن في محلات التسجيلات، بناءً على أوامر صريحة من وزارة الإعلام، ومن غير وزارة الإعلام، لكن يبقى أن المؤمنين والشباب الأخيار، لا أقول: أنهم ألوف، ولا أقول: أنهم عشرات الألوف، بل أقول: إنهم مئات الألوف، فلو أن كل واحد منهم طبع ثلاثة أشرطة، ووزعها على أحبته أو أقاربه، لكان ذلك الأمر كافياً ومغنياً بحول الله تعالى وقوته، حتى يأذن الله تعالى بالفرج ويفتح المجال أمام هذه الأشرطة، وأرجو الله تعالى أن يكون قريباً غير بعيد.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم أعِنَّا ولا تعن علينا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم انصرنا على من بغى علينا، اللهم إنا نسأل للمسلمين في كل مكان أن تفرج عنهم يا حي يا قيوم، اللهم فك أسر المأسورين، اللهم أطلق سراح المعتقلين، اللهم أخرج المساجين يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك من كان فقيراً فأغنه يا حي يا قيوم، ومن كان جائعاً فأطعمه، ومن كان عارياً فاكسه، ومن كان ذليلاً فأعزه، ومن كان ضالاً فاهده يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم اجمع كلمتهم يا حي يا قيوم، اللهم وحد صفوفهم، اللهم ارزقهم سعة البال، اللهم ارزقهم سعة القلب، اللهم ارزقهم عمق النظرة، اللهم ارزقهم بعد التفكير، اللهم ارزقهم الصواب في أقوالهم وأفعالهم يا حي يا قيوم يا قدوس يا سلام يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم أصلح ذات بينهم، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم وحدهم يا حي يا قيوم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة، اللهم اجعل رايتهم واحدة، اللهم اجعل طريقهم واحدة، اللهم أزل كل أسباب الفرقة والخلاف بينهم، اللهم من أراد أن يشتت شملهم أو يفرق صفهم يا حي يا قيوم فخذه أخذ عزيز مقتدر، وافضحه في عقر بيته يا ذا الجلال والأكرام.
اللهم إنا نسألك لإخواننا المضطهدين في كل مكان أن تنزل عليهم نصرك يا حي يا قيوم، اللهم أنزل عليهم السكينة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم فرج عنهم يا رب يا كريم، اللهم إنا نسألك للمسلمين في البوسنة والهرسك وفي الصومال وفي طاجكستان وفي أفغانستان وفوق كل أرض وتحت كل سماء، اللهم إنا نسألك للمسلمين في بلاد العرب وفي بلاد العجم وفي البلاد القريبة والبعيدة يا حي يا قيوم، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، وانصرهم على من اعتدى عليهم.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وعملاً صالحا ورزقاً حلالا واسعاً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم أصلح أزواجنا يا حي يا قيوم {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] اللهم إنا نسألك لإخواننا الحاضرين خاصة، وقد مشت أقدامهم إلى هذا المكان الطيب إلى بيت من بيوتك يا حي يا قيوم، اللهم إنا نسألك أن تحرم وجوههم على النار رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً يا حي يا قيوم، اللهم اكتب لهم الجنة والرضوان يا رحيم يا رحمان، اللهم اغفر لهم ذنوبهم، اللهم كفر عنهم سيئاتهم، اللهم ارفع درجاتهم، اللهم ثقل موازينهم، اللهم وفقهم لكل خير يا حي يا قيوم، اللهم أصلح ظاهرهم وباطنهم سرهم وعلانيتهم، اللهم ارزقهم المال الحلال الطيب المبارك يا حي يا قيوم، اللهم وفقهم للإنفاق في سبيلك.(152/29)
الصبر وإذلال النفس
السؤال
ما الفرق بين الصبر وإذلال النفس؟
الجواب
لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، إذلال النفس هو أن يتعرض المؤمن من البلاء لما لا يطيق، أما تعرضه لما يطيق من البلاء فهذا احتساب عند الله تعالى.(152/30)
خطورة العمالة الكافرة في بلاد المسلمين
السؤال
ما رأيكم في طبيبة هندوسية عملت عملية لزوجتي وبعد العملية طلبت مني إحضار علاج من السوق، ولما طلبته أفاد الصيدلي أن هذا العلاج مسحوب حيث أنه يحتوي على فيروس، فإلى متى وهؤلاء الخبثاء يعملون بيننا، وهم لا يريدون بنا ولا بالإسلام خيراً؟
الجواب
أولاً: أرجو من الأخ صاحب الحادثة أن يتصل بي حتى أتثبت منها، وثانياً: أزيدك من الشعر بيتاً، أنهم يتزايدون الآن خاصة في مستشفياتنا رجالاً ونساءً عشرات بل مئات، وأحياناً تكون لهم المسئولية ولهم الرئاسة على المسلمين أحياناً، وقد يوجد ممرضون وممرضات وأطباء مسلمون تحت تسلطهم، فيسومونهم سوء العذاب، ويكتبون عنهم التقارير السيئة، ويطالبونهم بأعمال شاقة، ولا يقدرون لهم شيئاً، ولا يهتمون بهم أدنى اهتمام.
فإلى الله تعالى المشتكى أن يوجد مثل هذا، ويُكتب ويُخطب ويُنصح ويُكلم، ولا يزيد الأمر إلا شدة، ومع ذلك فلا زال الأمر يتطلب منا الصبر، وأن نصبر ونصابر ونرابط ونتقي الله تعالى، فنكتب للمسئولين، ونخاطبهم، ونذكرهم بالله تعالى، ونطالبهم بإبعاد جميع الهندوس عن المسلمين، واستبدالهم بمسلمين من الأطباء والطبيبات، والممرضين والممرضات، سواء كانوا في مجال العلاج، أو في غيرها من الخدمات الطبية والعلاجية، علينا ألا نيأس ونخاطب المسئولين هنا أو في وزارة الصحة أو في غيرها، ونكاتب العلماء.
كما أن علينا أن نخاطب أصحاب الشركات والمؤسسات الذين يستقدمون هندوساً أو غيرهم إلى بلاد المسلمين، ومطالبتهم بمجرد انتهاء العقود ألا يجددوا لهم، بل أن يستقدموا مسلمين حنفاء.(152/31)
ذكرى المولد النبوي
السؤال
من يبشر غيره من إخوانه بذكر المولد النبوي، حيث يوافق هذا اليوم، وإذا حصل ماذا أرد عليه وهل يشرع شيء شرعي؟
الجواب
أبداً لا يشرع شيء البته، لا احتفال ولا تهنئة، ولا إقامة مساجد تفتح في هذه الأيام، ولا احتفالات، ولا تجمعات، ولا قراءات، ولا غير ذلك، بل هو يوم كسائر الأيام مر على أبي بكر وعمر، ومر في فترة الخلافة الراشدة، ومر في عصور بني أمية فما أحدث المسلمون فيه شيئاً، وحتى القول بأن هذا اليوم هو يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى إثبات من الناحية التاريخية، ولو ثبت لم يكن فيه شيء مشروع قط، وإنما المسلم يعيش النبي عليه السلام في ذهنه أبداً، وفي قلبه يحبه ويثني عليه، ويصلي عليه -عليه الصلاة والسلام- ويدعو له، ويدعو إلى دينه، ويحيي سنته وشريعته.(152/32)
الصبر على المنع من الدعوة
السؤال
من مُنع من الدعوة وكلمة الحق هل له أن يصبر ويسكت وهل ذلك محمود، وهل نفرق بين الصبر وعمل الواجب؟
الجواب
إذا كان يستطيع أن يصبر فعليه أن يدعو إلى الله تعالى، ولو أوذي فإني رأيت بعض الناس لا يصبرون، كثيرون يسمعون عن الصبر دروساً ومحاضرات، لكن إذا جاء المحك العملي لا يصبرون.
هذا إنسان طلب منه هل معك ترخيص؟ قال: ما أدعو، لماذا؟ قال: سئلت، وماذا إذا سئلت؟ وآخر سجن لأنه نصح بدون ترخيص، وماذا إذا سجنت؟ وفي سبيل الله ما لقيت، هذا أخ يقول: دعوت أخي، ودعوت ودعوت وما استجاب لي، فماذا تصنع؟ قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فإن اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35] .
يا أخي: ما معنى الصبر إذا كان الواحد منا إذا دعا ثم دعا ثم دعا ترك الدعوة.
المطلوب منك الاستمرار، فهذه زوجة تقول مثلاً: زوجي دعوته وقدمت له شريطاً وكتاباً ودعوت الله تعالى وهو لا يزيد إلا انحرافاً، ونقول: بقي شيء آخر، وهو الصبر والاستمرار حتى يأذن الله تعالى بالفرج، وما يدريك أن ما لا يتم اليوم يتم غداً، وما لا يتم هذا الشهر يتم في الثاني، ومالا يتم هذا العام يتم في العام القادم أو الذي بعده.(152/33)
من أخبار المسلمين
السؤال
هل لنا ببعض الأخبار السارة في البلقان والصومال وكشمير وطاجكستان؟
الجواب
الأخبار السارة هي أن المسلمين بدءوا، نعم بدأنا نمزق ثوب العدم ونلطم بالحق وجه السدم بدأنا كما بدأ التائهون بدأنا كما بدأ الميتون إذ الصور في جانبيهم ألم بدأنا وفينا الأسى والهوان وفينا الضياع وفينا السقم ولكننا بدأنا، بدأ المسلمون بداية لا مرد لها من الله بإذنه تعالى، إن النصر لهذه الأمة ولو طال الزمان، نعم توجد الأخطاء، ويوجد التسرع، ويوجد الطيش، وتوجد العجلة، ولكن المسلمين بدءوا وعلينا أن نوقن بنصر الله تعالى إن عاجلاً أو آجلا {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:4-5] .
إذا ما التقى الجمعان جمع يقوده غرور أبي جهل كهر تأسدا وجمع عليه من هداه مهابة وحاديه بالآيات فالصبر قد حدا وشمر خير الخلق عن ساعد الفدى وهز على رأس الطغاة المهندا وجبريل في الأفق القريب مكبرٌ يلقي الونا والرعب في أنفس العدا هنالك قد فر العداة بجمعهم وعافوا أبا جهل صريعاً ممددا(152/34)
الكيل الغربي للمسلمين
السؤال
هناك إخوة لنا في بعض البلاد يلقون أذى ومحناً ويشردون ويطردون ويشهر بهم في أجهزة الإعلام، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
نعم أصبح الإعلام العالمي كله، أصبح وتيرة واحدة للتشهير بالشباب المسلم المؤمن، وأصبحت ألقاب التطرف والأصولية والإرهاب تلصق بكل متدين، فمثلاً: بلدٌ يشرد فيه ملايين المسلمين كما يقع في البوسنة والهرسك، لم نسمع لفظ الإرهاب يلصق بالصرب، ورأينا أنهم يستقبلون زعماءهم بالأحضان، ويعقدون معهم الجلسات السرية الخاصة، ويتبادلون معهم زجاجة اليوسكي والخمر والليالي الحمراء، أما بلد كالسودان -مثلاً- إذا قاتل بعض النصارى الذين يدمرون أمنه ويحاربونه، فإنه سرعان ما يلصق بالدول التي تدعم الإرهاب كما سمعتم، من هذه الدولة الكافرة الفاجرة حامية النصرانية والصليب أمريكا، نسأل الله تعالى أن يسقطها عاجلاً غير آجل، وأن يجعل ولاياتها دولاً، وأن يلبسها شيعاً، ويذيق بأسها بأس بعض، ونسأله جل وعلا أن يدمر اقتصادها ويخرب اجتماعها وأن يجعلها عبرة للأمم كلها.
أقول: إن هذه الدولة ومن ورائها العالم كله أصبح يعلن الحرب على المسلمين وخاصة على المتحركين منهم، ويتهمهم بشتى التهم، وأصبح اليوم لا يقع حادث تفجير، ولا اغتيال، ولا تخريب ولا قتل، ولا مشكلة إلا وتلصق بالمتدينين، حتى ولو كان وراءها اليهود، أو كانت وراءها أجهزة المخابرات، أو كانت وراءها بعض الأجنحة المتصارعة في بعض الدول، أو كان وراءها أعداء داخليون، أو ما أشبه ذلك، حتى قال أحدهم متندراً: والله لولا خشية العذال لقلت أنتم سبب الزلزال(152/35)
غفلة الناس عن سبب البلاء
السؤال
ما يراه بعض الناس من أن محنة المسلمين في بلادهم بسبب ذنوبهم ولا يعلمون أنه ابتلاء؟
الجواب
نعم، هو ابتلاء، وهو أيضاً بسبب الذنوب، ولهذا كان من أعظم الأسباب التي ترفع بها المحن، عودة الناس إلى دينهم، وتوبتهم إلى الله عز وجل، وصدقهم معه، وتصحيح عقائدهم، وجمع كلمتهم، وإزالة الخلافات فيما بينهم، وتطهير قلوبهم من الأحقاد والضغائن، والإحن، والبغضاء، والاختلاف، والتناحر، فإن تأليف القلوب ووحدة الصفوف، من أعظم ما يستنزل به نصر الله تعالى من المؤمنين.
فعلى من أبطأ عليهم النصر في بلاد الإسلام -في كل بلد من بلاد الإسلام- عليهم أن يعلموا أن الداء فينا نحن، في اختلافنا وتفرقنا وأهوائنا، وشتاتنا، وفي عدم تجردنا لله عز وجل، وربما كان في جهلنا، أو في خطأٍ موجود عندنا، أو في تقصير في طاعة الله سبحانه وتعالى.(152/36)
ظاهرة الانتكاس
السؤال
ظاهرة كثرت في أوساط الشباب الذين يلتزمون فترة، ثم لا يلبثون أن ينحرفوا إلى حالتهم السابقة، فأرجو توجيه النصيحة إلى مثل هؤلاء، ونصيحة إلى من لديه القدرة من أصدقائهم وأقاربهم لردهم إلى الطريق المستقيم.
الجواب
هذا سبق أن تكلمت عنه، أولاً: في محاضرة "الثبات حتى الممات"، وثانياً: في مجموعة من الأشرطة في أول هذه الإجازة "يا شباب! "، و"حوار مع الشباب"، و"مصارع العشاق"، فأرجو من الأخ الكريم أن يستمع إليها، ويبعث بها إلى بعض من يلاحظ عليهم ذلك من الشباب.(152/37)
سبب البلاء
السؤال
كيف نجمع بين هذين القولين: [[ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة]] وأن الابتلاء سنة من سنن الله تعالى في عباده الصالحين.
الجواب
نعم ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، هذا قاله العباس رضي الله عنه لما طلب منه عمر رضي الله عنه أن يستسقي للمسلمين، والجمع بينهما من وجوه أحسنها في نظري أن يقال: إن المصائب العامة ما نزلت إلا بسبب الذنوب كالقحط والجدب والفقر وتسليط الحكام الظالمين، وتسليط الأعداء الخارجيين، وتفرق الكلمة، وما أشبه ذلك من المصائب العامة التي تنزل بالأمة هذه سببها الذنوب والمعاصي.
أما المصائب الخاصة الشخصية، فهذه قد تكون بسبب الذنوب، وقد تكون لرفعة الدرجات، كما هو الحال بالنسبة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام.(152/38)
التربية على الصبر
السؤال
ذكرت الصبر وأنه يُحتاج إليه في كل الأوقات، فهل هناك تربية معينة للنفس لأن الابتلاء يأتي فجأة أحياناً ولا يحسب الإنسان له حسباناً؟ فهل تذكر شيئاً من ذلك؟
الجواب
العبادات كلها تربية على الصبر، وترك المعاصي تربية على الصبر، وقراءة سيرة الأنبياء والصالحين تربية على الصبر، وصحبة الأخيار تربية على الصبر، وهذه المصائب والنوازل -حتى لو كانت مفاجئة- هي أيضاً تربية على الصبر، فإن الله تعالى يختار لعباده ويربيهم.(152/39)
أخبار البوسنة والهرسك
السؤال
ما هي آخر أخبار البوسنة والهرسك؟
الجواب
آخر الأخبار أن العالم الغربي الكافر النصراني قد قر قراره على أن يحفظ ماء الوجه بمثل هذا الاتفاق الذي هو ورقة توت يستر بها سوءته وعورته وعيبه وعجزه أمام العالم فيما يسمى بمؤتمر جنيف، الذي أقر العدوان الصربي والكرواتي على المسلمين، وقدّم البلاد التي تعرضت للتطهير العرقي -كما يسمونه- والتطهير الديني، وقتل المسلمين، قدمها هدية لأعداء الله تعالى الصرب ليقيموا فيها دولتهم، وقد أعلن الكروات أمس جمهورية مستقلة لهم هناك، وحاربوا المسلمين وقتلوهم.
وقد جرت البارحة في بعض الإذاعات مقابلة مع اثنين من النصارى العاملين في الإغاثة ثبت أنهم يدعمون المسلمين بالأسلحة، وقالوا: رأينا شيئاً لا صبر لنا عليه، ونحن مستعدون أن ندعم المسلمين حتى آخر لحظة، فإذا صح هذا الخبر فإنه تحدٍ لنا نحن المسلمين، في الوقت التي بلغت ضراوة وشراسة الحرب على المسلمين أن بعض النصارى غاضهم ما يرون، فقالوا: لا بد أن ندعم المسلمين ونساعدهم، في هذا الوقت يتخلى المسلمون عن إخوانهم، والجيد هو من يعطيهم طعاماً أو شراباً أو كساءً فقط، ثم يتركهم حتى يقتلوا ويذبحوا وتغتصب نساؤهم، ويقتل أطفالهم ويشردون وينصّرون، لا، نريد أن يكون هناك دعمٌ متواصلٌ للمسلمين، من خلال القنوات الخاصة التي توصل إلى المسلمين السلاح الذي يدافعون به عن أنفسهم ويقتلون به عدوهم ويقاتلون.
وقد أعلن برلمان المسلمين البارحة أيضاً رفضه للخطة التي قررها مؤتمر جنيف، وإن كان يوافق على استمرار المفاوضات، فعلينا ألا نمل من الدعاء لإخواننا، ودعمهم بما نستطيع من المال وغيره، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {والله تعالى في عون العبد مادام العبد في عون أخيه} .(152/40)
طريقة الدعوة
السؤال
نرى في الآونة الأخيرة كثرة الكتابة عن خطب الجمعة والخطباء، وأنهم متسرعون في التحريم والتكفير ويكثرون من إثارة الناس، وأنه لا بد من الإشادة بالمشاريع الإنشائية وحث الناس على الوحدة الوطنية، فما رأيكم؟
الجواب
ربما كان هؤلاء يريدون أن تتحول خطبة الجمعة، إلى نوع من نشرات الأخبار التي تذاع هنا أو هناك، وبعضهم يريدون أن تكون خطب الجمعة في مجالات معينة فحسب، في الترغيب في الجنة، والتخويف من النار وهذا صحيح، لكن إذا رغبنا الناس في الجنة لا بد أن نبين لهم طريق الجنة، وإذا رهبنا الناس من النار، لا بد أن نبين لهم طريق النار ليجتنبوه ويبتعدوا عنه.
والدين ما جاء ليكون في الزوايا، ولا ليحكم التكايا، وإنما جاء الدين ليهيمن على الحياة كلها، في اقتصادها، وسياستها، واجتماعها، وإعلامها، وتعليمها، شاء من شاء وأبى من أبى، وكلمة "لا إله إلا الله" منهج حياة تهمين على الدقيق والجليل، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] وقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] .
فليس صحيحاً أن خطيب الجمعة يجب أن يكون مقصوراً على شيء، ولا أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون محصورة، بل الدعوة والخطبة والكلمة ينبغي أن تنطلق هادية إلى كل مكان، نعم نقول بملء أفواهنا: حق على كل داعية أو خطيب أو كاتب، حق عليه أن يكون هادئاً في كلمته، متأملاً فيها، دارساً لأبعادها، متثبتاً مما يقول، مدللاً عليه، منطقياً، بعيداً عن التعميم، والمبالغة، والتهويل، وعن كل ما لا يتوافق مع المهمة الجليلة التي أسندت إليه.
لكننا نقول أيضاً: هذا حق ليس على الخطباء فقط، بل حق على الصحفيين، والإعلاميين، وكل متحدث ومتكلم، وكل إنسان، كبيراً أو صغيراً، رئيساً أو مرءوساً، حق علينا جميعاً أن نتحلى بذلك، فلم يقال هذا الكلام في حق الخطباء وكأنهم هم فقط الفئة التي تخطئ أو تزل؟(152/41)
أخبار الشيخ عائض القرني
السؤال
ما هي آخر أخبار الشيخ عائض بن عبد الله القرني؟
الجواب
لقينا الشيخ خلال هذا الأسبوع في اجتماعنا الشهري ليلة الخميس الماضي في الطائف عند الشيخ المفتي عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وهو طيب وبخير ويقرأ عليكم السلام، ولا يزال يستعذب أيامكم التي عاشها معكم وذكرياتكم ويرددها ويذكركم بخير ويدعو لكم ويثني عليكم، وهو إن شاء الله على ما عهدتم يقرأ ويذاكر ويراجع ويكمل فضائله ومحاسنه، وينتظر فرج الله تعالى له، بأن يطلق سراح كلمته لتنطلق صادحة مدوية في مشارق الأرض ومغاربها، أسأل الله تعالى أن يعجل فرح المؤمنين وفرجهم بإطلاق أسر الكلمة الحرة الصادقة من الشيخ عائض القرني ومن غيره، كما أسأله تعالى أن يفرج كرب المكروبين وأسر المأسورين من المسلمين في كل مكان.(152/42)
السماح ببيع أشرطة بعض الدعاة
السؤال
يقول: هل هناك بوادر انفراج للسماح لبيع أشرطتكم وأشرطة بعض المشايخ الممنوعة؟ وما توجيهكم في هذا الموضوع؟
الجواب
في الواقع أنه ليس هناك شيء جديد، والذي أعلمه أن اللجنة الخماسية التي يرأسها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز سبق أن أحيل إليها الموضوع وأصدرت توصيات أن يكون هناك لجنة من المشايخ والعلماء تتولى أمر الأشرطة والترخيص لها، لكن لم يحدث من ذلك شيء، أما ما يتعلق بموضوع الأشرطة فإنه لم يأتِ فيها جديد، إنما الذي أعلمه وأنتم تعلمونه أيضاً أن تسجيل المحاضرات ليس ممنوعاً، وأن سماعك هذا الشريط الذي سجلته في سيارتك ليس ممنوعاً، وأن إهداءك هذا الشريط الذي سجلته لجارك أو زميلك ليس ممنوعاً، وأن قيام هذا الإنسان بتسجيل نسخة له أو لن يعرف ليس ممنوعاً.
إنما الممنوع أن يتم بيع ذلك في المحلات العامة على الملأ والإعلان عن ذلك، وإصدار التراخيص، وهي أشرطة لا نستطيع أن نقول هي ممنوعة، لكن الصواب أنها غير مرخصة فقط، وهذا لو كنا أقوياء وقادرين وأهل همم عالية، لاستطعنا أن نصنع شيئاً كثيراً في هذا المجال فما دام أن التسجيل ممكن بحمد الله تعالى من خلال الدروس والمحاضرات فليس هناك منع للتسجيل، وأن الإهداء ممكن أيضاً، وأن كون الإنسان يتولى هذا الأمر مع أهل حيه أو زملائه أو جيرانه أو زملاء عمله، أن ذلك كله لا شيء فيه، فحينئذٍ نحن نود لإخواننا أصحاب التسجيلات كل خير، ونتمنى أن يكون هناك فسح ليتمكنوا من البيع، وذلك مفيد لهم في الدنيا بلا شك، ومفيد لهم في الدين، وإن شاء الله مطامحهم الدينية أعظم من المطامح الدنيوية.
لكن إذا لم يتيسر هذا فعلى كل إنسان أن يقوم بدوره في هذا السبيل، وهو دور مسموح ليس ممنوعاً، ولا محرماً، ولا حظر فيه، ولا حكر على أحد.
فآمل من الإخوة الشباب أن يقوموا بدورهم في هذا الميدان حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولعل بعض الجهود تفلح في إعادة بعض الأمور إلى مجاريها، والسماح ببيع الأشرطة على النطاق العام من خلال محلات التسجيلات الإسلامية وغيرها، كما أرجو من الإخوة الذين مكنهم الله تعالى من شيء، ممن يكون عندهم أجهزة تسجيل، أو عندهم مال، أو عندهم وقت، أو عندهم اتصالات واسعة، أن يستغلوا ما أعطاهم الله تعالى في التمكين لنشر الخير، شريطاً أو كتاباً أو فتوى أو نصيحة أو ما أشبه ذلك.(152/43)
أسئلة وأجوبة حول الإسلام
تحتوي هذه المادة على إجابات موجزة تقدم بها بعض المدعوين إلى الإسلام، وقد تناولت ذكر الفروقات الأساسية بين الإسلام والنصرانية، وتقرير أن الإسلام هو الدين الصحيح، وأن الله إله واحد.
وتناولت كذلك موضوع تعدد الزوجات والحكمة منه، والحجاب والحكمة منه، وتناولت كذلك تلخيصاً رائعاً لحياة النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته وإنجازاته ومنزلته بين الأنبياء، وتناولت موقف المسلم من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.(153/1)
الاختلاف بين الدين الإسلامي والدين المسيحي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فهذه أجوبة على بعض الأسئلة المقدمة من بعض المدعوين إلى الإسلام، نستعين الله تبارك وتعالى في الإجابة عليها بما تيسر.
السؤال
ما هو الاختلاف بين الدين الإسلامي والدين المسيحي؟
الجواب
إن الديانات السماوية التي نزلت من عند الله تعالى عقيدتها واحدة، فالعقيدة التي جاء بها موسى هي العقيدة التي جاء بها عيسى، وهي العقيدة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وهي العقيدة التي جاء بها جميع الأنبياء والمرسلين من عند الله تبارك وتعالى، لأنها حق، والحق لا يختلف بين وقتٍ وآخر وبين نبيٍ وآخر، فكلهم دعوا إلى عبادة الله تبارك وتعالى وتوحيده، ونهوا عن الشرك به، وكلهم دعوا إلى الإيمان به، وكلهم دعوا إلى الإيمان بالملائكة والكتب والرسل والجنة والنار والبعث والحساب وغير ذلك، فهذا الأمر وهو العقيدة لا يختلف بين نبيٍ وآخر، لكن الشريعة تختلف بين نبيٍ وآخر، فقد يحل في دين نبيٍ ما كان حراماً في دين غيره، وقد يحرم في دينه ما كان حلالاً في دين غيره، لأن الشرائع تختلف من نبيٍ إلى آخر؛ إذ أن القوم الذين تنزل إليهم الشريعة، والظروف التي تنزل لمعالجتها تختلف، حيث كانت الشرائع السابقة كلها مؤقتة، في وقتٍ معين ولبلادٍ أو قومٍ معينين، إلا الشريعة الإسلامية الخاتمة فإنها دائمة وهذه هي الميزة الأولى، فليست مؤقتة بوقتٍ محدد ويستحيل أن يأتي نبيٌ آخر ينسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
الميزة الثانية: هي أنها لكل البشر، فليست خاصةً بالعرب مثلاً، وإنما هي عامةٌ لجميع الشعوب والأجناس والألوان، منذ أن بُعِثَ صلى الله عليه وسلم وإلى أن تقوم الساعة، فشريعته ثابتة محكمة شاملةٌ عامة، وحين تنظر إلى الفرق بين الإسلام وبين الديانات السماوية في العصر الحاضر؛ تجد أن هناك فروقاً كثيرة، حتى في العقيدة، فإن اليهود والنصارى قد حرفوا دينهم وغيروه وبدلوه، حتى قبل ذلك بقرونٍ طويلة كان دينهم محرفاً حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك نزل القرآن الكريم يعيب على اليهود والنصارى ما أدخلوه في دينهم من تحريفات وتبديلات، سواء في ذلك جوانب العقيدة، كما ذكر الله عز وجل عن النصارى أنهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وإن الله هو المسيح ابن مريم، أو المسيح بن الله، وكما ذكر الله سبحانه عن اليهود أنهم قالوا: عزير ابن الله وقالوا: إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء، وغير ذلك من التحريفات التي كانت موجودة منذ عصر الرسالة الأولى، عصر النبي صلى الله عليه وسلم بل قبل ذلك.
فدين اليهود محرفٌ منسوخ، ودين النصارى محرفٌ منسوخ، ودين الإسلام محكمٌ باقٍ غير منسوخ، وهذه دعوى قد يقول قائل: ما هو الدليل عليها؟ فنقول: الدليل على هذا الدعوى أن هذه الديانات اليهودية والنصرانية يوجد بينها التناقض، فيوجد بين نصوص الإنجيل مثلاً من التناقض ما يعلمه كل أحدٍ له اطلاع على هذا الإنجيل، ويوجد بين نصوص التوراة أيضاً من التناقض، ما يعلمه كل أحدٍ له إطلاع على التوراة، ويوجد فيهما من مناقضة العقل، ويوجد فيهما من مناقضة الواقع والأحداث التاريخية ما يدل على أنهما ليس من عند الله؛ لأن الذي من عند الله يستحيل أن يكون متناقضاً، ويستحيل أن يكون مناقضاً للواقع، ويستحيل أن يكون مناقضاً للتاريخ، ويستحيل أن يكون مناقضاً للعقل.
أما دين الإسلام فليس فيه شئٌ من ذلك، ليس فيه شيء يناقض التاريخ، وليس فيه شيء يناقض العقل، وليس فيه شيء يناقض الواقع، وليس فيه شيء يناقض شيئاً آخر من نفس الدين، بل هو دينٌ متكامل يؤيد بعضه بعضاً.
وإن مما يجب أن يعلم؛ أن القرآن الكريم الذي هو كتاب هذا الدين، محفوظ مكتوب منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، تنتشر عشرات ملايين النسخ في العالم كله، ولا يوجد بين نسخةٍ وأخرى منها أي اختلاف لا في كلمة ولا في حرف ولا في ضمة أو فتحةٍ أو كسرة، بل هو متفق تمام الاتفاق يقرؤه المسلم في الشرق كما يقرؤه المسلم في الغرب؛ أما حين تنظر إلى كتب الديانات الأخرى، فانظر -مثلاً- إلى الإنجيل، بل إلى الأناجيل التي كانت كثيرة جداً، وأقر مجمع نيقية المنعقد سنة (325م) أربعة منها هي المعتبرة عند النصارى المقدسة لديهم، وهي: إنجيل متَّى وإنجيل مرقص وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا، وهذه الأناجيل الأربعة مختلفة فيما بينها، ليست وحياً منزلاً من عند الله، بل هي من كتابة البشر، ومعظمها عبارة عن تراجم وسير وأحداث، يتخللها بعض العقائد والتعاليم، ولا يعرف من كتب هذه الأناجيل ولا في أي زمن كتبت، ولا بأي لغةٍ كتبت ولا لمن كتبت، ولا يعرف إن كانت مترجمة، وأين ترجمت، وإن كانت ترجمت فمن الذين ترجمها، وفي أي سنة وما هي اللغة الأصلية التي كتبت بها؟ كل ذلك لا يكاد يعرفه أحد من الباحثين، لا من النصارى ولا من غيرهم، ثم إنها متناقضة فيما بينها، في عرض الأحداث التاريخية وفي عرض العقائد.
إن الإنجيل الوحيد الذي فيه التصريح بأن عيسى ابن الله -تعالى الله عما يقولون- هو إنجيل يوحنا، وقد نفى كثيرٌ من علماء النصارى نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الصياد، الذي هو حواري المسيح، وقالوا: إن هذا الذي كتبه أحد تلاميذ مدرسة الإسكندرية، ومن المصادر التي نفت نسبة الإنجيل إلى يوحنا الصياد دائرة المعارف البريطانية، التي ألفها أكثر من مائتين من علماء النصارى، وقد قطعوا بأنه لم يكتبه يوحنا وإنما كتب ونسب إليه.
ثم إن هناك إنجيل برنابا، وبرنابا اسمه يوسف وهو قسيس من القديسين الأوائل عند النصارى، أو حواري من الحواريين، وهذا الإنجيل له أهمية خاصة، حيث حرص النصارى على إخفائه وإحراقه، وحرم الباباوات تداوله بين رعاياهم، وشنت عليه الكنائس حملة ضارية، ولكن لا يزال هذا الإنجيل باقياً إلى اليوم، منتشراً مترجماً إلى لغاتٍ عديدة، ومنها اللغة العربية حيث ترجم إلى العربية وطبع.
هذا الإنجيل يبين الديانة النصرانية الحقيقية غير المزيفة، ومن الحقائق الموجودة فيه التي حاربه النصارى من أجلها: أنه يقر بأن عيسى بشر وليس إلهاً، يقول فيه عيسى -مثلاً- "إنني أشهد أمام السماء، وأشهد كل ساكن على الأرض، أني بريءٌ من كل ما قال الناس عني من أني أعظم من بشر، لأني بشرٌ مولود من امرأة عرضة لحكم الله، أعيش كسائر البشر عرضة للشقاء العام".
ثانياً: في إنجيل برنابا: أن من قال إن عيسى إله فهو كافر.
ثالثاً: يقرر إنجيل برنابا، أن الذبيح هو إسماعيل أبو العرب وليس إسحاق، وهذا ما يقرره الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في مواضع عديدة.
رابعاً: في إنجيل برنابا البشارة بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبعثته من نص صريح، في مواضع متعددة من هذا الإنجيل.
خامساً: لا يقول هذا الإنجيل بصلب المسيح، بل يعتبر من قال بذلك جاهلاً، إلى غير ذلك من المعلومات الموجودة في هذا الإنجيل.
إذاً: فالأناجيل متعارضة فيما بينها، والأولى أن نقبل ما في إنجيل برنابا بما يوافق القرآن الكريم، ونعتبر أن ما في الأناجيل الأخرى مزيفٌ محرف، وخاصة وقد جاءت الرسالة السماوية (الإسلام) لتقر ما في هذا الإنجيل، وتنفي ما في غيره.(153/2)
الفرق بين الإسلام والدين المسيحي
إذاً: خلاصة الجواب في الفرق بين الإسلام والدين المسيحي: أولاً: العقيدة التي جاء بها عيسى عليه الصلاة والسلام والعقيدة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم واحدة، ولكن العقيدة الموجودة اليوم عند النصارى مخالفة تماماً للعقيدة التي جاء بها عيسى، ولا يقر عيسى عليه الصلاة والسلام ما عليه النصارى اليوم، من التبديل والتحريف وادعاء الألوهية له أو لأمه، أو ادعاء أن الآلهة ثلاثة: الأب والابن وروح القدس: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [النساء:171] .
ثانياً: دين النصرانية فيما يتعلق بشريعته والأحكام التفصيلية التي تنظم حياة الناس منسوخ بدين الإسلام.
فهذان الفرقان يجب أن يعلمهما كل إنسان.(153/3)
الإسلام هو الدين الصحيح
السؤال
هل تعتقد أن الإسلام هو الدين الصحيح؟
الجواب
أما عن العقيدة، فلا شك أن كل مسلم إذا وجه إليه هذا السؤال يعتقد أن الإسلام هو الدين الصحيح، ولو شك في ذلك لما كان مسلماً أصلاً، أما إن كان السؤال: لماذا تعتقد أن الإسلام هو الدين الصحيح؟ فالجواب على هذا هو: أن الإسلام يحمل الأدلة على أنه الدين الحق، ولا يمكن لإنسان أن يبحث بصدق وإخلاص عن الدين الحق إلا ويصل إليه، والدليل على ذلك: هذه الأعداد الهائلة التي تدخل في الإسلام يوماً بعد يوم في هذه البلاد، بل وفي أنحاء العالم، والدليل على ذلك أن كثيراً من رجال الديانات الذين طافوا على الديانات كلها، فجربوا اليهودية والنصرانية والماركسية وغيرها، ثم انتهوا إلى الإسلام وآمنوا به، واقتنعوا اقتناعاً كاملاً بأنه الدين المنزل من عند الله.
أما الأدلة على صدق هذه العقيدة فهي كثيرة: أولاً: بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال إنه مرسل من عند الله، وجاء بكتاب هو كلام الله عز وجل ودعا الناس إلى ذلك، فحاربه الناس الذين في عصره، وآمن به منهم قليل، وما زال نجمه يرتفع شيئاً فشيئاً وسلطانه يقوى حتى حكم الجزيرة العربية، ثم حكم العالم كله أصحابه من بعده، وهم في ذلك يقولون: إنهم يدعون إلى دين الله وينشرون هذا القرآن، وما زال الله عز وجل ينصر نبيه وأتباعه يوماً بعد يوم، ويعلي شأنهم ويخذل أعداءهم، ويحقق لهم ما يريدون من نصرة الدين، بل ويجري على أيديهم المعجزات الكثيرة، التي لا عهد للناس بها في الماضي وفي الحاضر من المعجزات أو من الكرامات، فلو كان ما ادعاه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه من بعده باطلاً؛ لانتقم الله منهم، ولما مكن لهم في الأرض ونصر دينهم، ورفع رايتهم وخذل أعداءهم.
ثانياً: جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن باللغة العربية على قومٍ فصحاء، وتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعشر سور من مثله أو بسورة أو بآية وهي أقل مقدار من القرآن الكريم، فما استطاعوا مع شدة حرصهم على ذلك، ومحاولتهم الشديدة أن يتغلبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فعجزوا عن ذلك وبهتوا وحاروا، فدل ذلك على أن هذا القرآن ليس من كلام البشر، بل هو من كلام الله تبارك وتعالى.
ثالثاً: هذا القرآن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون من عنده هو عليه الصلاة والسلام؛ لأن في القرآن أشياء تقطع بأنه من عند الله، منها: أولاً: في القرآن إخبار عن أمور غيبية، لا يعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم، من أخبار الأمم السابقة، وقد وجد علماء اليهودية والنصرانية، أنها موافقة لما هو الصحيح والحق مما في كتبهم وأخبارهم، ولذلك آمن به كثيرٌ من أهل الكتاب في عصره صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك.
ثانياً: في القرآن الكريم كثير من الأخبار عن أمور من الغيب التي ستقع والتي لا يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لولا أن الله تبارك وتعالى أخبره بها وأطلعه عليها، من ذلك -مثلاً- ما يكتشفه العلماء يوماً بعد يوم من الإعجاز الموجود في القرآن الكريم، حيث يخبر القرآن عن قضايا علمية خفية لم يعلمها الناس إلا في هذا العصر، بل وربما أشياء لم يعلمها الناس حتى اليوم، وقد يعلمونها في العصر القادم أو في الذي بعده أو متى شاء الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان رجلاً أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فدل هذا على أنه ليس من عنده وإنما هو من عند الله.
ثالثاً: في القرآن الكريم نفسه عتاب للرسول صلى الله عليه وسلم، على بعض المواقف التي فعلها، وبيان أنه كان ينبغي أن يفعل كذا ولا يفعل كذا، وهذا لا يمكن أن يكون من عند الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعاتب نفسه ثم ينشر هذا على الناس، بل لم يكتم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا عن الناس، بل أعلنه؛ لأنه لابد أن يعلن جميع ما جاءه من عند الله ولو كان تنبيهاً له على أمرٍ حصل منه فعلى سبيل المثال: يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:1-10] فيعاتب الله رسوله عليه الصلاة والسلام على موقفه من هذا الرجل الأعمى، حين جاء إليه يقول له: علمني الإسلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مشغولاً بدعوة كبراء قريش لعل الله أن يهديهم، كأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعجب، ولم يرتح لدعوة هذا الرجل وقوله: علمني مما علمك الله؛ لأنه كان مشغولاً بما كان يرى أنه أهم منه، فنزلت آيات من عند الله، تعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الموقف.
مثال ثانٍ: لقد أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيتزوج زينب بنت جحش، وكانت في ذلك الوقت زوجةً لـ زيد بن حارثة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم، يعلم ما يجري من مشاكل زوجية بين زيد بن حارثة وبين زينب بنت جحش، فجاءه زيد يشكو إليه ما يلقى من زينب، فاستحى أن يقول له صلى الله عليه وسلم: طلقها، أو ما أشبه ذلك، بل قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37] أمره بأن يمسكها وأن يعمل على حل هذه المشكلات، مع أنه يعلم صلى الله عليه وسلم أن الأمر سيئول إلى الطلاق، وأنه سيتزوجها بعده، لكن لأن هذا مجال يتكلم فيه المنافقون واليهود، فقال له صلى الله عليه وسلم: {أمسك عليك زوجك واتق الله} "، فنزلت آيات من السماء تعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الموقف، يقول الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب:37] فعاتبه الله تبارك وتعالى على هذا الموقف.
مثالٌ ثالث: بعد معركة بدر، وقد قبض المسلمون على عددٍ كبيرٍ من الأسرى، استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، ما يصنع بهؤلاء الأسرى؟ فكان رأي عمر أن يقتلوا، وكان رأي أبي بكر ٍ ألا يقتلوا، بل يؤخذ منهم الفداء، لعل الله أن يهديهم إلى الإسلام، فمال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر، وأخذ من هؤلاء الأسرى فداءً، فنزلت آيات من القرآن الكريم، تعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين على هذا الأمر، يقول الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:67-68] فعاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المواضع وفي غيرها.
فلو كان هذا القرآن من عند الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما تصور أن يعاتب الشخص نفسه في شيءٍ مكتوبٍ يتلى إلى يوم القيامة، لكن هذه آيات وضعها الله عز وجل علامة على أن القرآن من عند الله منزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول مهمته البلاغ فقط، ولا يستطيع أن يكتم شيئاً من هذا القرآن، ولو حرفاً واحداً كما سبق.(153/4)
الحكمة من تعدد الزوجات
السؤال
لماذا يستطيع المسلم أن يتزوج واحدة أو أكثر إلى أربع؟
الجواب
الإسلام يبيح للمسلم أن يتزوج واحدةً واثنتين وثلاثاً وأربعاً، ولا يجوز للمسلم أن يزيد على أربع نسوة، وهذا صريح في القرآن الكريم: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ولكن بشرط العدل بينهن، ولذلك قال الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] فإذا خاف الإنسان من عدم العدل، وغلب على ظنه أنه لن يعدل، فحينئذٍ يلزمه الاقتصار على واحدة.
أما الأسباب فهي كثيرة جداً، ولننظر في حياة الناس ونجد من الأسباب ما يلي: أولاً: عدد الرجال في كل مجتمع أقل من عدد النساء، وهذا يوجب أن يسمح للرجل أن يتزوج أكثر من امرأة؛ لئلا يبقى نساء عوانس في المجتمع.
ثانياً: الرجال عرضة للموت في الحروب والحوادث أكثر من النساء، فإذا قامت حروب أو أشياء معينة، يموت فيها الرجال بشكلٍ جماعي، فحينئذٍ تجد أنك أمام عدد كبير من النساء، وعدد قليل من الرجال، ومن الرأفة بالمرأة في مثل هذه الحال؛ أن يبيح الإسلام للرجل أن يضم إليه امرأة واثنتين وثلاث إلى أربع نسوة، فيقوم عليهن ويكفلهن ويطعمهن ويؤويهن إليه، ويحقق لهن الرغبة الفطرية الجنسية الموجودة لدى كل إنسان.
ثالثاً: في كثير من الحالات يتزوج الرجل بامرأة، ثم يشعر بأنه يحتاج إلى أخرى؛ لأن هذه المرأة لا تكفيه؛ إما لأنها عقيم لا تلد، أو لأنها ليست جميلة بل دميمة، أو لوجود عيب فيها أو لأن فيها شيئاً من سوء الخلق، أو لأنها مشغولةٌ ببعض الأشياء التي لا يستطيع معها الرجل أن يحقق ما يريده من المرأة، ففي مثل هذه الحالات الرجل مخير بين أمرين؛ إما أن يطلق هذه المرأة، ويبعدها عنه ليتزوج بأخرى، وإما أن يبقيها في عصمته ويضم إليها أخرى، وفي الغالب فإن المرأة ترضى أن تبقى في عصمة الزوج ورعايته وكفالته، ويضم إليها أخرى أو حتى ثالثة، وتفضل ذلك على الطلاق.
ولذلك أباح الإسلام هذا الأمر، وقد يقول قائل: ولماذا الطلاق إذاً؟ فنقول: إن في حالات كثيرة جداً يعلمها المجربون، أن الزواج يصل إلى طريقٍ مسدود، وإذا كانت الشركات -مثلاً- التجارية تعقد اليوم، ثم تنقض غداً بسبب تشاكس بين الشركاء في أنحاء العالم، فإن الزواج عبارة عن شركة في الحياة، فإذا كان هناك عدم وئام وعدم انسجام بين الزوجين، وهذا كثيراً ما يحدث أو نشأت مشكلات ومشاجرات، فالذي يحصل أن الزوج يطلق المرأة، فإذا كان النظام يمنع من الطلاق، فماذا يفعل الزوج؟ إنه يلجأ إلى الحيلة حينئذٍ، فقد يحتال لقتل المرأة حتى يرتاح منها، وقد يضايقها ويضطهدها ويسيء إليها بألوان الإساءة، حتى يتحقق له الفراق، وربما ترفع هي إلى المحاكم مطالبةً بالفصل بينهما، إلى غير ذلك من الوسائل التي يتقنها الناس، إذا أرادوا أن يتخلصوا من زوجاتهم.
فالإسلام -مراعاةً للناحية الواقعية في الرجل وفي المرأة- أقام بناءً أسرياً متكاملاً، الزوج يتزوج بامرأة لها حقوق على الرجل، يكلمها ويحترمها، ولا يجوز له أن يهينها، والطلاق ممكن إذا احتاج إليه الرجل، لكنه أمرٌ غير محبوبٍ في الشرع، والله عز وجل يبغض هذا الطلاق إذا كان لغير حاجة، وفي الحديث الصحيح: {إن الطلاق إنما يأمر به الشيطان} هذا إذا كان لغير سببٍ وجيه، فإذا اضطر الرجل إلى الطلاق؛ فله الحق أن يطلق حينئذٍ، حفاظاً على حياته وعلى حياة المرأة نفسها، لأن من المصلحة أن تبتعد المرأة عن الرجل في أحيان كثيرة؛ لئلا يضايقها ويضطهدها، فإذا كان يستطيع أن يبقيها في عصمته ويحفظ لها حقوقها، ويضم إليها أخرى تسد الفراغ أو النقص الموجود لدى الأولى، فقد أباح له الإسلام ذلك.
ولو نظر الإنسان نظرة معتدلة؛ لوجد أن هذا أمر طبيعي، وهانحن نجد أن كثيراً من الدول، بل جميع الدول التي تمنع تعدد الزوجات، تسمح بتعدد الخليلات، فتجد أن للرجل زوجة واحدة وله عدد كبير من الصديقات، يعاشرهن معاشرة الزوجة، ولكنه لا يلتزم نحوهن بأي التزامٍ قانوني أو اقتصادي، فهذا إهانة للمرأة وحطٌ لكرامتها، وفي مثل تلك المجتمعات، تجد المرأة معها ولدٌ واحد من صديقٍ، أو أكثر من صديق لها، ليس بزوج، ولا يلتزم تجاه هذا الولد بأي التزام، وهذه تسبب مشكلة في المجتمعات الغربية.(153/5)
الله واحد
السؤال
هل الله واحدٌ فقط؟
الجواب
نعم، إنما الله إلهٌ واحد سبحانه لا شريك له في ربوبيته، ولا شريك له في ألوهيته، ولا شريك له في أسمائه وصفاته، ولا يمكن أن يكون في الكون أكثر من إله، فلو كان في الكون أكثر من إله؛ لفسد الكون واختلف واضطرب، لأن العمل-ولله المثل الأعلى- حين يكون فيه أكثر من شخص كلهم مسئولون عنه وبدرجة واحدة، فإن هذا العمل يضطرب ويختلف، فهذا المدير يأمر بأمر وهذا المدير ينقض الأمر والمدير الثاني ينهى عن شيء والمدير الأول يأمر به، وهذا مدير يرفع هذا الموظف رتبة، والمدير الثاني يقوم بفصله عن العمل نظراً لوجود التناقض الطبيعي في عقول البشر وشخصياتهم ونظرياتهم وميولهم، فما بالك بهذه المملكة الواسعة العريضة، بسمائها ونجومها وأرضها وأفلاكها وعوالمها المختلفة، وبرها وبحرها، وهذه البشر، وهذه المخلوقات العظيمة؟! إن المدبر لها واحد سبحانه هو الخالق لها والمدبر لجميع شئونها، وهذا الإله الواحد الذي أقرت جميع الرسالات السماوية، بل جميع الأديان حتى الأرضية، بأن الخالق في الأصل واحد هو المستحق للعبادة، لأننا إذا اعترفنا بأنه هو الذي خلق هذه الأكوان وأبدعها، وسخر ما فيها وأقامها على هذا النظام البديع، فإنه هو وحده الذي يستحق أن يتوجه إليه الإنسان، فيعبده ويصلي له ويدعوه ويطيعه فيما يأمر.(153/6)
الأدلة على وجود الله تعالى
السؤال
كيف تقنعني بوجود الله؟
الجواب
أولاً: قبل الخوض في الأدلة على وجود الله، الإنسان يدرك أن قضية الدين قضية خطيرة في حياته، وأنه إذا صدق ما يقوله أهل الأديان، فإن من الخطورة بمكان أن يبقى الإنسان بعيداً عن هذا الدين، ولذلك فعلى كل إنسان يهودياً أو نصرانياً أو بوذياً، أو من أي ديانة، أن يفكر تفكيراً جدياً صحيحاً في الدين، ويبحث عنه بحثاً جاداً، لا يكتفي بأن يوجه سؤالاً بمناسبة محاضرة مثلاً، لا، بل يحاول أن يبحث بجدية في هذا الأمر، أكثر من أن يبحث عن الشراب والطعام؛ لأن الدين يقول للإنسان: إن الإنسان بعد موته مقبل على جنة ونار، فإن كان مؤمناً فهو في الجنة له فيها كل ألوان النعيم، لا يخرج منها أبداً، وإن كان كافراً فله نار وعذاب، فيها ألوان النكال والخزي لا يخرج منها أبداً، فالأمر إذاً صعب وخطير، فعلى كل إنسان أن يبحث بصدق عن الدين، ويجتهد في الوصول إليه ومعرفة أدلته، حتى يقتنع به بوضوح، أو يرده إن كان لديه عدم قناعة، لكن عندنا نحن المسلمين قناعة بأن أي إنسان متجرد، فإنه لا يمكن -بحالٍ من الأحوال- أن يبحث بصدق عن الدين الحق إلا ويهتدي للإسلام، وهذا عهد قطعه الله سبحانه وتعالى على نفسه، قال الله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فمن جاهد، وبذل جهده في الوصول إلى الحق بتجرد وإخلاص، فإن الله عز وجل تكفل بأن يهديه إلى الحق، الذي تعب في البحث عنه، فلابد أن نعطي قضية الدين اهتماماً حقيقياً، أكثر من اهتمامنا بأمورنا الدنيوية العاجلة.
أما حول قضية الإيمان بوجود الله، فالأدلة كثيرة جداً، ومثل هذا الموضوع يتطلب محاضرات خاصة، وهناك كتب خاصة أيضاً مؤلفة في هذا الموضوع، لكن أضرب مثلاً واحداً وهو: هذا الإبداع الموجود في الكون، هذه النجوم والكواكب والقمر والشمس والكون بما فيه هذا الإنسان، لو نظرنا في الحياة كلها؛ لوجدنا فيها من دقة الصنع وبديع الخلق وإحكام التنسيق ما يبهر العقول، واسأل الأطباء -مثلاً- عما في جسم الإنسان من الإبداع، اسأل الفلكيين عما في الكون ونجومه وأقماره وعوالمه من الإبداع، واسأل كل أهل صنعة عما يجدونه من الدقة والحكمة والإبداع.
هذه الحكمة التي قام الكون عليها، ووجد الإنسان ووجدت الحياة، وهذه الدقة هل يتصور أن تكون حصلت بمحض الصدفة؟ هذا مستحيل! انظر -مثلاً- لو أنني سلمتك الآن كتاباً مطبوعاً من ستمائة صفحة بعنوان واسم المؤلف وعنوان الكتاب وعنوان الباب، وفصول ومعلومات منظمة وحقائق علمية وطباعة فاخرة، وفهارس ممتازة وكتاب مطبوع طباعة فاضلة جداً وراقية، سلمتك هذا الكتاب، هل يمكن أن يخطر في بالك أو أن تصدق يوماً من الأيام أن هذا الكتاب انطبع بنفسه؟! وضعت آلة كاتبة مثلاً، ووضع عندها ورق، ومتطلبات أخرى، ثم أُغلقَ باب الغرفة التي فيها الآلة، وبعد فترة وجيزة وجد أن هذا الكتاب قد طُبِعَ، لا يدرى من الذي جمع المعلومات التي فيه، ولا من الذي أبدع الأفكار الموجودة فيه، ولا من الذي قام بالطباعة، ولا من الذي قام بالصف، ولا من الذي قام بالتصوير، ولا من الذي قام بترتيب الصفحات، ولا من الذي قام بتجليد الكتاب، ولا يعرف شيئاً من ذلك إطلاقاً، بل لا أحد قام به! إن هذا ضربٌ من الخيال! والإنسان بطبيعته إذا ترك شيئاً من الأشياء، ثم رجع فوجده قد غير عما في عهده، يعلم بأن هناك أحداً تدخل فغير الأمر.
انظر في نفسك كموظف، لو أتيت إلى طاولتك من الغد، فوجدت أن الأوراق التي فيها، قد أخذت وعدلت وبدلت ووضع غيرها، وأن محتويات المكتب قد غيرت عما عهدت، فإنك حينئذٍ تقطع قطعاً؛ بأن هناك أحداً قد جاء بعدك، وغير هذه الأشياء.
فعند الإنسان فطرة، أن كل شيء يحدث في الكون لابد له من محدث، فالكون كله بما فيه الإنسان العاقل، الواعي الفاهم المدرك من الذي خلقه؟ لا يوجد أحد يدعي أنه خلق هذا الكون، أو أحد يتصور أنه خلق هذا الكون إلا الله عز وجل وحده لا شريك له، والأدلة على ذلك كثيرة جداً لا يتسع المجال لذكرها.(153/7)
أوصاف النبي محمد صلى الله عليه وسلم
السؤال
من هو النبي محمد؟
الجواب
النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، من قبيلة قريش العربية، التي كانت تسكن في مكة، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ولد النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وقد مات أبوه قبل أن يولد، ثم ماتت أمه وهو طفلٌ صغير فكفله جده، ثم مات جده فكفله عمه أبو طالب.
في مطلع حياة هذا النبي صلى الله عليه وسلم كان رجلاً فاضلاً محسناً إلى الناس، حريصاً على إيصال الخير إليهم، وكان لا يشارك أهل الجاهلية في الأعمال السيئة التي يقومون بها، من الرقص والغناء، وشرب الخمر والفساد وغير ذلك، فكان لا يشارك في هذه الأعمال ولا يقر بها، ثم بدأ هذا النبي صلى الله عليه وسلم، يخرج إلى جبلٍ قريب من مكة، فيقيم فيه يتعبد ويصلي ويذكر الله عز وجل فترةً طويلة، ثم نزل عليه الوحي وهو في هذا الجبل، في هذا الغار الذي هو غار حراء، فجاءه الملك من عند الله عز وجل، على غير انتظار منه صلى الله عليه وسلم، ففوجئ بنزول الملك عليه، فقال له الملك: اقرأ اقرأ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب لحكمةٍ يعلمها الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما أنا بقارئ -أي لا أحسن القراءة- فضغطه الملك، ثم أرسله وقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فضغطه الملك مرة ثانية، حتى بلغ منه الجهد، ثم قال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ -أي لا أحسن القراءة- في المرة الثالثة قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات إلى زوجته خديجة، وهو يرتجف من الخوف ويقول: دثروني دثروني -أي غطوني غطوني- فضمته خديجة إليها، وقالت له: أبشر يا ابن أخي، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتقرئ الضيف وتعين على نوائب الحق، وتحمل الكَلّ، ثم ذهبت به إلى رجلٍ نصراني في مكة، اسمه ورقة بن نوفل، فأخبره بما رأى، وقد أصاب النبي صلى الله عليه وسلم الخوف من ذلك، فقال له: ورقة بن نوفل: هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى عليه السلام، هذا جبريل وأنت نبي، ويا ليتني أكون حياً إذا يخرجك قومك، فإنني حينئذٍ أنصرك نصراً مؤزراً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وهل سيخرجني قومي من بلدي؟! قال: نعم، ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي وحورب، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً} .
وهكذا بدأ يتنزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً حتى مكث بمكة ثلاث عشرة سنة، وهو يدعو إلى الله، ويلقى منهم الأذى والصد والتكذيب والسخرية والعناد، حتى أن منهم من يأتي إليه وهو ساجد فيضع القذر على ظهره، ومنهم من يبصق في وجهه، ومنهم من يضع التراب على رأسه، ومنهم من يؤذيه بألوان الأذى، وهو يقابل ذلك كله بالصبر؛ حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة المنورة، فهاجر بعد ثلاث عشرة سنة من بعثته صلى الله عليه وسلم، واستقبله المؤمنون هناك، ومكث في المدينة عشر سنوات يدعو إلى الله عز وجل، فآمن به أهل المدينة إلا اليهود والمنافقون، وبدأ الإسلام ينتشر في أنحاء الجزيرة العربية، ثم بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يواجه الكفار والمشركين، الذين آذوه وحاربوه، بالقتال والحرب، حتى يتمكن الناس من معرفة الحق من الباطل، وقبول الدين بدون أن يكون هناك أحد يمنعهم من ذلك، أو يضغط عليهم بتركه، فقاتل المشركين في معارك كثيرة، منها: معركة بدر، ومنها: معركة أحد، ومنها: معركة الخندق أو الأحزاب، ومنها معركة فتح مكة وغير ذلك من المعارك، وكان النصر حليفه في معظم هذه المعارك، بل في جميع هذه المعارك إلا في معركة أحد، حيث خالف أصحابه أمره، فأصابهم الله عز وجل بالهزيمة، تربيةً لهم على طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولما مات أو قبل أن يموت صلى الله عليه وسلم دانت الجزيرة العربية كلها للإسلام، بل وبدأ الإسلام ينتشر خارج أصقاع الجزيرة العربية، وواصل أصحابه من بعده حركة الدعوة إلى الله والفتوح، حتى خضعت لهم معظم أنحاء المعمورة في ذلك العصر، والملاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يطلب في ذلك كله شيئاً لنفسه، بل كان رجلاً متواضعاً بعيداً عن التكلف والكبرياء، متواضعاً سهلاً قريباً من الإنسان، لمّا رآه عبد الله بن سلام -وهو يهودي- قال: لما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وجاءه يوماً أعرابي، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ارتعد من التوقير والإجلال للرسول صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة} .
وكان يمازح أصحابه ويحادثهم، ويكره كل مظاهر التكبر والغرور والغطرسة، وما ادعى لنفسه شيئاً ليس له، بل إننا نجد في القرآن الكريم، أن الله عز وجل يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] وإلى غير ذلك من الآيات قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110] فالرسول صلى الله عليه وسلم كان بشراً رسولاً، يدعو الناس إلى ربهم، وكان يعطي الناس ولا يأخذ منهم، وكان كثير الإحسان إلى الناس والصدقة، يتصدق على الواحد منهم بمائة بعير مثلاً، أو بوادٍ من الغنم، أو بمبلغ كبير من الذهب أو من الفضة، ولا يرى في ذلك شيئاً على الإطلاق، ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند رجلٍ يهودي، مرهونة بدين عند هذا اليهودي.
فهذا النبي الذي اختاره الله تبارك وتعالى نبياً ليس للعرب، بل للبشرية كلها منذ بعث، وإلى قيام الساعة، ولا يمكن أن يدخل الجنة أي إنسان لم يؤمن بهذا النبي بعد بعثته صلى الله عليه وسلم.(153/8)
الحج على من يستطيع
السؤال
إن الحج من أركان الإسلام، فكيف الوضع بالنسبة لمسلمي الفلبين الفقراء، الذين لا يستطيعون الذهاب إلى مكة، وهل هم ليسوا بمسلمين حقيقيين بعدم الحج؟
الجواب
الحج ركنٌ من أركان الإسلام، لكن بشروط، لا يجب الحج على المسلم إلا إذا استطاع، وذلك بأن يجد من المال ما يمكنه من السفر إلى مكة، ويمكنه من الحاجات الضرورية التي يحتاجها في هذا السفر، من الطعام والشراب ونحوها من الحاجات الضرورية، التي لا بد للإنسان منها، ومن الاستطاعة: أن يكون مستطيعاً ببدنه، فلو كان عاجزاً عن السفر لمرض مثلاً، أو لغير ذلك، فإن الحج يسقط عنه بنفسه، وينيب من يحج عنه.
إذاً: المسلم الذي يجب عليه الحج بنفسه، هو من كان مستطيعاً استطاعة بدنية واستطاعة مالية، أما من كان يستطيع استطاعة مالية، عنده مال، لكن لا يستطيع أن يحج ببدنه؛ لأنه مريض، فإنه ينيب ويوكل من يحج عنه، أما من كان عنده استطاعة بدنية، لكن ليس عنده مال فإنه لا يلزمه الحج حينئذٍ إلا إذا وجد المال.(153/9)
الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء والمرسلين
السؤال
لماذا محمد صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي يمجد من بين الرسل؟ وما هي إنجازاته؟
الجواب
هذا السؤال يفترض أن الرسول صلى الله عليه وسلم، هو الرسول الوحيد الذي يحبه المسلمون، والواقع أن المسلمين يختلفون عن غيرهم من أصحاب الديانات في هذه الناحية، فنحن -المسلمين- نعتبر أن من كفر بموسى صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يدخل الجنة أبداً، ونعتبر أن من كفر بعيسى صلى الله عليه وسلم فإنه لا يدخل الجنة أبداً، ومن كفر بداود أو سليمان أو بإدريس أو بإسماعيل أو بغيرهم من أنبياء الله ورسله، فإنه لا يدخل الجنة أبداً، وكذلك من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يدخل الجنة أبداً، لا يدخل الجنة إلا من آمن بجميع الرسل، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] فنحن نحب الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، ونحترمهم جميعاً، والرسول صلى الله عليه وسلم، جاء مجدداً للعقيدة والتوحيد الذي جاء به أولئك الرسل، ومجدداً للتشريعات والأحكام، ومغيراً لما أمر الله عز وجل بتغييره من تفاصيل الأحكام، وناسخاً لها، ولذلك فإن المسلمين يمدحون جميع الرسل، ويحبونهم ويمجدونهم ويعتبرونهم أفضل البشر على الإطلاق، ولكن هذا لا يمنع أن يقول المسلمون أيضاً: إن الرسول صلى الله عليه وسلم واحدٌ من هؤلاء الرسل بخلاف ما ينكره اليهود والنصارى، حيث ينكرون بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ويجحدونها، وأيضاً يقول المسلمون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل وأفضلهم، والدليل على ذلك أن جميع الرسل جاء بعدهم من ينسخ شرائعهم، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فشريعته باقية لم تنسخ، ولم يبعث نبيٌ بعده صلى الله عليه وسلم ينسخ شريعته، بل ولن يبعث نبيٌ إلى قيام الساعة.
من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم ومميزاته: أنه جاء بهذا القرآن، الذي هو معجزة باقية إلى أن يشاء الله، هذا القرآن الباقي، هو معجزة باقية للرسول صلى الله عليه وسلم، يتحدى الله سبحانه وتعالى البشر كلهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته، وفي إعجازه، وفيما فيه من الحق، وفيما فيه من التأثير، وفيما فيه من العلم، وهذه معجزة باقية للرسول صلى الله عليه وسلم.
أما إنجازات الرسول صلى الله عليه وسلم: فإن من أعظم إنجازاته صلى الله عليه وسلم أنه بلغ هذا الدين الذي أمره الله تعالى بتبليغه كاملاً، لم يُنقص منه شيئاً، وحفظ الله هذا الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم على يد أصحابه، فما زال المسلمون اليوم يعرفون أدق تفاصيل هذا الدين، وعن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حد أنهم يعرفون الأشياء الشكلية في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، يعرفون كم عدد الشعرات البيض في لحية الرسول صلى الله عليه وسلم، يعرفون شكل الرسول صلى الله عليه وسلم، يعرفون مقدار طوله ولون بشرته، وشكل ثيابه صلى الله عليه وسلم، وماذا كان يلبس على رأسه، وكيف كان يفعل في داخل بيته، حتى مع زوجاته صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يفعل في خارج البيت، وكيف كان يفعل في المسجد، وفي السوق وفي الحرب وفي السلم، وفي جميع التفاصيل لا تزال مضبوطة بوثائق ومستندات لا يرقى إليها شك، وهذا بخلاف ما هو حاصل بالنسبة للأنبياء الآخرين، فقد نسي الناس سيرتهم وتفاصيل حياتهم، ولا يذكرون منها إلا معلومات قليلة، وهي معلومات ظنية غير مؤكدة ولا مجزوم بها، بل بعضها أشياء مكذوبة لا تليق بهؤلاء الأنبياء، فهي تحط من قدرهم وتصورهم كما لو كانوا بشعين مثلاً، أو أصحاب شهوات أو شراب خمور، أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي يتنزه عنها الإنسان الفاضل فضلاً عن النبي المصطفى المختار المبعوث من عند الله تعالى، فهي أشياء اختلقها اليهود، ولفقوها وألصقوها في شخصيات الأنبياء حتى يشوهوا صورتهم أمام العالم، أما الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا تزال سيرته نقية واضحةً معروفة.
ومن إنجازاته: أنه بلغ هذا الدين بهذه الصورة الكافية المحفوظة، ومن إنجازاته صلى الله عليه وسلم: أنه جمع الأمة التي آمنت به على هذا الدين، وجعلهم أمةً واحدة، مهما تكن جنسياتهم وألوانهم من السود والبيض، من العرب والحبش والفرس وغيرهم، جميعهم إخوة متحابون متآخون، يساعد بعضهم ويعاون بعضهم بعضاً، يتصدق غنيهم على فقيرهم، ويتكافل هؤلاء فيما بينهم، ثم أقام بهم الإسلام نظاماً ودولة، وظلت دولة الإسلام قائمة ترفع شعار هذا الدين وتدعو إليه، وتحارب الدول التي تمنع الناس من الدخول في الإسلام، حتى يتمكن الناس بحرية من قبول الإسلام أو عدم قبوله، وفي حالة عدم قبولهم الإسلام، فإن الدولة الإسلامية تطلب من الناس أن يدفعوا مبلغاً بسيطاً من المال، مقابل أن تقوم الدولة الإسلامية بحفظهم وحمايتهم من الأعداء وكفالتهم في حالة كبرهم وعجزهم عن الكسب، وعدم وجود من يعولهم.
ومن إنجازاته صلى الله عليه وسلم: أنه قضى على سائر ألوان الانحراف الموجود في الحياة البشرية، الانحراف الاجتماعي، والاقتصادي والديني، وجعل للناس ميزاناً حقيقياً يرجعون إليه، ألا وهو هذا القرآن الذي أنزله الله تبارك وتعالى عليه، ونقله الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأحاديثه المنقولة عنه بدقة وضبط كما سبق بيانه.
وكفاه صلى الله عليه وسلم فخراً وشرفاً، أنه مع كل ما عمل لم يدّع لنفسه شيئاً ليس له، بل كان يعاتب الناس إذا مدحوه مدحاً مبالغاً فيه: {جاء رجل إليه وقال: يا رسول الله، ما شاء الله وشئت، فقال له: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله ثم شئت} وقال صلى الله عليه وسلم: {لا تطروني -أي لا تبالغوا في مدحي، وترفعوني فوق منزلتي- كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله} إلى غير ذلك من الأشياء التي تدل على تواضعه وزهده، وبعده عن التكبر والعلو في الأرض صلى الله عليه وسلم، وكان يعرف للأنبياء السابقين حقهم وقدرهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: {لا ينبغي لأحدٍ أن يقول إني خيرٌ من يونس بن متى} ، ويونس هو أحد أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فنهى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يفضل أحدٌ بين الأنبياء تفضيلاً يقصد منه الحط من قدر بعضهم، وإلا فالأنبياء -كما في القرآن الكريم- قد فضل الله بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، ولكن كلهم في منزلة سامية وتفضيل بعضهم على بعض، ليس لأن بعضهم عنده نقص أو انحطاط في منزلته، بل لأن الله عز وجل رفع بعضهم درجات، فكلهم فضلاء، وكلهم أنبياء، وكلهم مختارون من عند الله عز وجل، فالذي يفضل بين الأنبياء وقصده أن يحط من قدر نبي، أو ينسب إليه شيئاً من النقص، يخطئ في ذلك، وإنما الصواب أن الأنبياء كلهم فضلاء وأنبياء ومختارون، والرسول صلى الله عليه وسلم أفضلهم وهم بعضهم أفضل من بعض، لكن لا يعني ذلك انحطاطاً في رتبة أحدهم.(153/10)
من فوائد لبس العباءة والحجاب
السؤال يقول: نحن نعتقد أن لبس العباءة والطرحة مزعج وغير ملائم، عندما نذهب لشراء بعض ما نحتاجه، فلماذا نرتديها؟
الجواب
يجب أن نعلم أن المسلم إذا اقتنع بالإسلام، وأنه هو الدين الحق الذي أنزله الله عز وجل على رسوله، اقتنع بهذا الأمر قناعة عقلية صحيحة، فحينئذٍ العقل يقتضي أن يسلم هذا الإنسان بكل ما جاء به الإسلام؛ لأنه ما دام العقل دلك على أن الإسلام هو الدين الصحيح، فحينئذٍ عليك أن تأخذ هذا الدين الصحيح جملةً وتفصيلاً؛ لأنك مؤمن ومقتنع بأن الذي وضع هذا الدين -وهو الله عز وجل- أعلم من خلقه وأدرى منهم بمصالحهم، ولذلك وضع هذا النظام.
أما بالنسبة لغير المسلم أو غير المسلمة، فبشكلٍ عام الإنسان إذا أقام في بلد، فإن من المعلوم أنه يجب أن يلتزم بنظام هذا البلد، مهما يكن شاقاً عليه ومكلفاً، لسبب وهو: أنه باختياره رغب أن يقيم في هذا البلد؛ لمصلحةٍ معينة يراها، فحينئذٍ عليه أن يلتزم بجميع ما تقتضيه نظم هذا البلد وتعاليمه، ويلتزم مثلاً بنظام المرور، ويلتزم بالنظام العام الاجتماعي، وبالنظام الأخلاقي، ويلتزم بالنظام الاقتصادي، ويلتزم بنظام العمل، ويلتزم بكل شيء يقتضيه هذا البلد.
أرأيت لو أنك ذهبت إلى بريطانيا، هل يسعك أن تقول: يزعجني أن أسير في الشوارع بطريقة مخالفة عما هو موجود في بلاد العالم الأخرى، فيكون النظام معاكساً لذلك، فيكون الذاهب يأخذ جهة اليسار، هذا لا يمكن أن يقوله أحد؛ لأن هذا هو نظام البلد، ويجب على كل من دخل البلد أن يلتزم به، وهكذا الأمر فيما يتعلق بلبس العباءة والطرحة وغيرها، فإنها نظامٌ عام.
أما حين ننظر إلى فوائدها وإيجابياتها، فهي مفيدة للمرأة كما هي مفيدة للرجل، أما أنها مفيدة للمرأة: فهي تجعل المرأة مثل الدرة الثمينة، الصدفة المحفوظة، التي لا يمكن للناس أن يتبادلوها ويتلاعبوا بها، فهذه الدرة المحفوظة، تحفظ صيانةً لها وتكريماً لها من عبث العابثين، وكذلك الإسلام وضع للمرأة هذا الحجاب؛ ليحفظها عن أعين الفضوليين، والناس الذين ليس لهم هم إلا النظر في وجوه النساء.
ناحية ثانية: المرأة حين تكون زوجة تحب ألا ينظر زوجها إلى من هي أجمل منها، وحينئذٍ فإن في وجود هذا الحجاب وهذه العباءة، فرصة للمرأة ألا يرى زوجها وجوه النساء الجميلات، فيذهب إليهن ويرغب عنها إلى غيرها، وكذلك هي مفيدة للرجل؛ لأنها تحفظ عليه طاقته، وتجعله يصرف هذه الطاقة فيما هو منتج ومفيد، بدلاً من أن يضيعها في النظر إلى هذه المرأة وإلى تلك، ومفيدة للرجل؛ لأن الرجل قد ينظر إلى امرأة فيعجب بها ويتعلق بها ويحبها، وهذا الرجل له زوجة، وهذه المرأة لها زوج، وحينئذٍ قد تكون هذه النظرة سبب في هدم بيوت، وفي تعاسة عدد من النساء، وعدد من الرجال، ولذلك حسم الإسلام مادة هذا الأمر من أساسه، وأمر المرأة بأن تحتجب وأمر الرجل بأن يغض بصره.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(153/11)
لقاء مفتوح مع الشيخ سلمان العودة
فيه إشارة عابرة حول علم الاجتماع، وإجابة على أسئلة متفرقة للشباب، وعرض لبعض قضايا الشباب ومناقشتها، وحل لبعض مشاكلهم.(154/1)
إشارة عابرة حول علم الاجتماع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له هادياً.
أما بعد: تمخض قسم الاجتماع في فرع الجامعة بالقصيم عن إنتاج فذ من الثقافة الإسلامية، وهي إطلالة عن تلك الثقافة الإسلامية، وحاول أن يفتح بينها وبين الشباب من أجل الإفادة من هذه الثقافة، فالمسئولون في قسم الاجتماع أقاموا محاضرة بعنوان لقاء مفتوح مع فضيلة الشيخ: سلمان بن فهد العودة.
فليتفضل فضيلة الشيخ: سلمان وجزاه الله خيراً.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه الأمسية هي -كما قرأتم وسمعتم- لقاء مفتوح للمناقشة والمباحثة حول ما يدور في أذهان الشباب، ولذلك فإنني أقول: إذا كان عند أحد من الإخوة سؤال سواء كان شفهياً أو مكتوباً، فليتحفنا به في هذا الوقت، فإذا كانت الإجابة حاضرة أجبته، وإلا ففي العذر متسع وكما يقال: لا أدري نصف العلم.
أيها الإخوة: وقد خمرت في ذهني كلمة عابرة وسريعة، حول موضوع مهم في جامعاتنا الإسلامية اليوم، وهو الحديث عمَّا يسمى أو ما يدخل تحت مسمى العلوم الإنسانية، كعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرها من العلوم المتعلقة بدراسة الإنسان، فرداً كان أو جماعة، ومدى أهمية هذه العلوم.
فإنني أسمع من بعض المتحدثين والمفكرين من ينظرون إلى هذه العلوم نظرة فيها كثير من التشاؤم، ويصنفون هذه العلوم في عداد تلك العلوم التي نشأت ووظفت لهدم الإسلام، وأنها علوم طبيعتها منافية لهذا الدين، فينظرون إلى علم النفس مثلاً، أو علم الاجتماع، أو علم الاقتصاد، أو أي علم من هذه العلوم، ربما ينظرون إليه على أنه كالسحر، علم لا يمكن أن يستفاد منه بصفة إسلامية، أو ينظرون إليه كعلم الكلام الذي هدم جزءاً كبيراً من العقيدة الإسلامية في أذهان كثير من المفكرين المسلمين، ولذلك يسيئون الظن به وبحملته، ويحذرون من تعلمه وتعليمه، وقد سمعت هذا في بعض المحاضرات.
وفي نظري أن هذا المفهوم غير سليم؛ لأن هذه العلوم هي أشبه بالظروف القابلة لأن تعبأ بتصورات إسلامية أو بتصورات منحرفة، ويمكن أن يستفيد المسلم من دراسة هذه العلوم وبنائها على أسس إسلامية وأن يفيد المجتمعات الأخرى.
نجد -مثلاً- أن الإسلام قدم نظرة متكاملة عن الإنسان، وما أكثر ما تجد في القرآن الكريم من إشارات تتحدث عن طبيعة الإنسان وحالته ونفسيته في كل الظروف، وعن طبيعة المجتمعات وسننها ونواميسها التي ركبها الله تعالى فيها، كما تتحدث عن النواميس الكونية، من طلوع الشمس وغروبها، وعن غير ذلك من الأحداث والسنن القائمة المستمرة.
ونجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في حياته وسيرته ودعوته، يراعي هذه الأشياء في تربية أصحابه وبنائهم، ومعاملة الناس كأفراد ومجتمعات، ثم حين دونت العلوم الإسلامية نال علم الاجتماع حظاً من التدوين، حيث كان هناك ومضات متفرقة عند كثير من المؤرخين والكُتَّاب، ثم تبلور هذا العلم على يدي ابن خلدون في مقدمة كتابه: العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، فقد وضع لهذا الكتاب مقدمة فذة، تعرف اليوم بمقدمة ابن خلدون، وتكلم فيها عن أنظمة ونواميس العمران البشري، وتحدث عن قضايا متعددة في علم الاجتماع، بل صرح في تلك المقدمة بأن هذه الأمور تعتبر -في نظره- علماً مستقلاً، له أصوله وقواعده وأهدافه وغاياته وموضوعه، كسائر العلو م الأخرى.
وقال: إنني لم أجد من تكلم عليه من قبلي، ولا أدري هل هذا ذهول من الناس ولا أظنه، ولكن ربما قد تحدث غيري عن هذا الموضوع ولم يصل إليّ.
هذا مؤدى كلام ابن خلدون، فلم يكن وقوعه على علم الاجتماع صدفة، أو فلتة غير مقصودة، بل كان أمراً مقصوداً تحدث عنه بصراحة.
وحين ابتلي المسلمون في هذا العصر بإنتاج الحضارة الغربية، وما تحمله من نظريات ومذاهب وتحليلات بشأن الفرد والمجتمع، بلي المسلمون بنظريات عديدة فيما يتعلق بالإنسان وتفسير الإنسان، منها: نظرية داروين ونظريات فرويد ودور كايم وماركس، وغيرها من النظريات التي تنظر إلى الإنسان نظرة منحرفة من جهة، وهكذا الحضارة الغربية كلها تنظر إلى الإنسان من جهة على أنه حيوان، وتلغي الروح والخلق والتسامي في الإنسان، فإذا حللت الإنسان حللته على أنه حيوان.
وقد يهتمون -مثلاً- بتشريح الإنسان جثةً، وتحليل منطلقات الإنسان تحليلاً حيوانياً، وإشباع رغبات الإنسان إشباعاً حيوانياً، لكن أغفلوا جانب الروح وجانب الفكر وجانب السمو في الإنسان، هذا لا وجود له عندهم، وقد ينظرون إلى الإنسان من جهة أخرى على أنه مسير كالآلة.(154/2)
نظرة الإسلام إلى الإنسان
ولذلك تجدون الفارق الكبير بين نظرة الإسلام للإنسان وبين نظرة الحضارات المادية، فالإسلام ينظر للإنسان على أنه كائن له إرادته، وهذه الإرادة لا شك أنها ليست إرادة مستقلة، بل هي خاضعة لإرادة الله تعالى قال الله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ولكن له إرادة، أما تلك الحضارات الغربية والنظريات، فإنها تنظر للإنسان على أنه مجبر، يقع تحت حتميات معينة، قد تكون حتميات اقتصادية كما في نظرية ماركس، وقد تكون حتميات اجتماعية كما هي عند دور كايم، وقد تكون حتميات نفسية، المهم أن الإنسان يقع تحت طائلة حتميات معينة، وكأنه نزس في آلة مسير غير مخير عند هؤلاء القوم، وبذلك يفقد الإنسان قيمته وإنسانيته، وقدرته على الارتفاع والتسامي والإشراق، يفقد ذلك كله.
وينظر الإسلام إلى الإنسان على أنه خلق بصفة معينة، وله خصائص معينة لا يمكن أن يغادرها، وهي مقتضى إنسانيته، في مقابل أن أمامه مجالات رحبة للارتفاع، ولذلك -مثلاً- في الوقت الذي يذكر الله تبارك وتعالى فيه في القرآن الكريم صفات الإنسان وخصائصه، يبين الله عز وجل في القرآن، وكذلك يبين الرسول عليه الصلاة والسلام في السنة أن أمام الإنسان مجالات واسعة للارتفاع والإشراق، حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجة وأخرى كما بين السماء والأرض} هذه الدرجات بحسب إشراق الإنسان، وارتفاعه وإيمانه وأعماله الصالحة.
هذه هي نظرة الإسلام للإنسان، في حين أن تلك النظريات تخضع الإنسان لعوامل التطور بلا حدود، كما تخضع جميع الكائنات الأخرى، وهذه النظرية نظرية التطور التي يطبقونها على كل شيء، أصبحوا يطبقونها على الإنسان دون تمييز، إضافة إلى أنهم ينظرون إلى الإنسان باعتباره حيواناً ولا يميزونه عن غيره، وقد يجرون دراسات على القردة مثلاً، ويعتبرون أن هذه الدراسات قد تكون منطبقة على الإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى.
فنحن ننظر باعتبارنا مسلمين إلى الإسلام على أنه مميز على جميع المخلوقات الأخرى، من الحيوانات وما شاكلها، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] ولست أقصد الآن الدخول في التمييز بين الإنسان والملائكة، فهذا مبحث آخر.
لكن أقول: إن الإنسان في الإسلام كائن له قيمته وتميزه وسيادته في هذا الكون، الذي خلقة الله تعالى وسخره للإنسان، فالنظرة إلى الإنسان على أنه حيوان أو على أنه آلة مسيرة، نظرة تنحط بالإنسان عن وضعه الطبيعي الذي وضعه الله تعالى فيه.
وكثير من الجامعات الإسلامية تدرس الآن علم الاجتماع كما عرضه دور كايم الفرنسي، أو غيره من علماء الاجتماع الغربيين، وتغفل النظرة الإسلامية للإنسان وللمجتمع، ومهمة الباحث المسلم ليس أن يتلقى ما كتبه الغربيون بروح المهزوم، الذي يعتبر أنهم وصلوا إلى النهاية، وأنه مجرد مترجم لأفكارهم، بل مهمته أن يصوغ علم اجتماع إسلامي وعلم نفس إسلامي وعلم اقتصاد إسلامي من واقع القرآن والسنة، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتابات العلماء السابقين المتفرقة، الموجودة كما أسلفت في بعض الكتب التاريخية، وفي بعض الكتب الحديثية، وفي بعض الدراسات الدعوية، وهناك كتب مستقلة مصنفة في هذا الباب منذ القدم، وفي بعض الكتب الأدبية التي تحدثت عن جوانب معينة من الإنسان.
هذه إشارة عابرة حول موضوع علم الاجتماع، والواجب الذي يتحمله الدارس في هذا العلم، وأترك المجال للأسئلة، سواء كانت مكتوبة أم شفهية.(154/3)
الأسئلة
.(154/4)
حكم الكذب على الصغار
السؤال
ما حكم الكذب على الصغار؟
الجواب
الكذب كله لا يجوز، إلا ما ورد استثناؤه النصوص في الكذب لمصلحة ظاهرة، كالكذب لإنقاذ مسلم، والكذب لحل مشكلة قائمة، والكذب لإصلاح ذات البين، بحيث تكون معاريض وكلاماً عاماً، والكذب على الصغار لا يجوز، وهو ذو مردود سيئ في التربية، ولذلك في الحديث الصحيح الذي ورد من طرق {أن امرأة قالت لابنها: يا عبد الله تعال أعطيك.
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ما تعطينه؟ قالت: تمرة.
قال: أما أنكِ لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة} فالكذب على الصغار إضافة إلى أنه محرم، كذلك ذو تأثير سيئ على نفسية الطفل، يربيه على الكذب، ويربيه على عدم الثقة بالوالدين، وينشئه تنشئة سيئة.(154/5)
حكم الانتساب إلى المذاهب الفقهية
السؤال
ما حكم الانتساب إلى المذاهب الفقهية؟
الجواب
مسالة أن يقول الإنسان: أنا حنبلي، أو مالكي، أو شافعي، أو حنفي، هذه من حيث الاسم قضية عادية، لأنها مجرد انتساب، ولكن الشيء المهم هو فهم الإنسان عن هذه المذاهب، فإذا كان الإنسان وينتسب إلى مذهب، ويأخذ ما في هذا المذهب من غير نظر ولا استدلال، وقد يعلم أن الحق ليس في هذا المذهب ويصر على مذهبه؛ فهذا تعصب مذهبي لا شك أنه محرم، لأن الواجب اتباع ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما إذا كان الإنسان نشأ في بيئة حنبلية أو شافعية، وأخذ هذا المذهب من خلال البيئة ودرسه في المدارس، لكنه بعد أن أخذ شيئاً من العلم، وبدأ يستطيع أن يفهم؛ عود نفسه على أنه كلما عرف الدليل في مسألة من المسائل؛ أخذ بهذا الدليل وإن كان مخالفاً لمذهبه، هذا في نظري لا بأس به.
وأحياناً يكون اتباع هذه المذاهب ضرورة لأن الإنسان لا يمكن أن يجتهد في هذه الأمور، أمامه الآلاف بل عشرات الآلاف من المسائل المشكلة، ولا يستطيع أن يجتهد فيها في يوم وليلة، بل إنه ربما يمضي عمره كله وهو ما استطاع أن يجتهد في كثير منها.
فهناك مرحلة وسط بين من يتعصبون للمذاهب، ويأخذ بالمذهب بقضه وقضيضه، ولا يقبل الخروج عنه قيد أنملة، حتى مع المعرفة بالدليل، وبين من يتشددون في الجهة الأخرى، فيعلنون حرباً على اتباع المذاهب أو الانتساب إليها، بل يصل الحال إلى أنهم يكفرون كل من ينتسب إلى مذهب من هذه المذاهب!(154/6)
معنى حديث: "لا تجعلوا قبري عيداً "
السؤال
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: {لا تجعلوا قبري عيداً} .
الجواب
العيد هو ما يعتاد ويتكرر، وقد يكون العيد مكانياً كما في قوله {لا تجعلوا قبري عيداً} وقد يكون زمانياً كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {هذان اليومان عيدنا أهل الإسلام} وقد يكون عبارة عن الزمان والمكان والهيئة والحال، كما في قولهم: {في يوم عيد يلعب السودان فيه بالدرك والحرب} .
والمعنى: أن الإنسان لا يشرع له أن يشد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعتاد ذلك في أوقات معلومة، كما يزور الكعبة المشرفة، وكما يزور المسجد النبوي، بل لا يجوز شد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد} فكل بقعة لا يجوز التعبد بشد الرحال إليها إلا هذه المساجد الثلاثة، لاحظ التعبير: لا يجوز التعبد بشد الرحال إلى بقعة إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، لكن لو ارتحل الإنسان لطلب علم أو لتجارة، أو لزيارة مريض، فهذا باب آخر وكذلك قبر الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز شد الرحال إليه، ولا اتخاذه عيداً يزار في أوقات مخصوصة معلومة، بل إذا ذهب الإنسان إلى المدينة، وزار المسجد النبوي وصلى فيه فإنه لا بأس أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه، ويسلم ويقول: السلام عليك يا رسول الله، والسلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا عمر.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(154/7)
شخصيات منحرفة
السؤال
ما هو رأيك في كل من: إخوان الصفا وابن سينا والفارابي وابن خلدون؟
الجواب
هذه الشخصيات التي سأل عنها السائل هي من الشخصيات التي يكثر حولها الجدل، كما أسلفت في موضوع الغزالي، والكلام في إعطاء تصور كامل عنها يفتقر إلى دراسة واسعة، ولكن من خلال قراءات عامة في إخوان الصفا وابن سينا، والفارابي.
يبدو لي أن هؤلاء ينتسبون إلى الباطنية الزنادقة، وإن كانوا يطرحون ما لديهم -أحياناً- من وراء ستار، وقد يتقمصون شخصيات معينة، أو يطرحون بطريقة معينة، لكن حقيقة مذاهبهم الزندقة، ومن قرأ تراجمهم الموسعة في الكتب، كسير أعلام النبلاء وغيره، أدرك هذا الأمر جلياً، وأن هذه الطوائف تنتسب إلى المذهب الباطني، الذي خلاصته أن جميع الأديان والتكاليف لا حقيقة لها، فهو لا يؤمن بدين، ولا إله، ولا ببعث، ولا نشور! وإن كان يخادع العامة، بإقرار هذه الأشياء التي يعتبرها من الرسوم، أما ابن خلدون فهو أفضل من الجميع، وكتاباته تدل على أن الرجل له فضل وعلم ومكانه، وإن كان الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة، أشار إلى جوانب معينة في مسلك هذا الرجل.(154/8)
دراسة علم النفس مطلوبة
السؤال
يوجد بعض الشباب في قسم علم النفس، تركوا هذا القسم وانتقلوا إلى أقسام أخرى بسبب تثبيط بعض الشباب لهم، فهل يأثم الشباب المثبط لذلك أم لا؟
الجواب
مسألة التأثيم علمها عند الله، ومن الصعب أن نقول: إن فلاناً يصلح لعلم النفس، وفلاناً يصلح لعلم الاجتماع، والطالب حين يتخرج من المستوى الثانوي يكون على مفرق طرق، وأحياناً قد يكون اختياره غير مناسب، فيكتشف بعد فصل أو فصلين أن القسم الذي هو فيه غير مناسب له، ولا يستطيع أن ينجح فيه، ولا يستطيع أن ينجز، ولا يفهم، فمن الصعب أن نفرض على الناس أن يستمروا، لكن بصفة عامة أسلفت أن المطلوب من أهل الخير والصلاح وأهل الاستقامة؛ أن يكون لهم سهم في مثل هذه العلوم والتخصصات.(154/9)
علاقة الداعية بعلم الاجتماع
السؤال
فضيلة الشيخ: هل يحتاج الداعية المسلم إلى معرفة علم الاجتماع وعلم النفس، كوسيلة لتبليغ دعوته الإسلامية أم لا؟
الجواب
أولاً: هناك جزء فطري من هذه العلوم يكون موجوداً لدى كل إنسان يملك قدراً من الذكاء، فتجد أن الإنسان إذا تعود معايشة الناس والأخذ معهم والعطاء؛ تكونت لديه خبرة بنفوس الناس وأحوالهم وعوائدهم، وما يناسبهم كأفراد، وكذلك خبرة بالعوامل الاجتماعية المتشابكة فيما بينهم، وهذا القدر يستفيد منه الداعية، وقد لا يكون تلقاه من خلال دراسة أو قراءة، بل تلقاه بفطرته واكتشفه بذكائه، واستفاده من تجربته مع الناس، وقد يستفيد الإنسان أكثر وأكثر من خلال بعض القراءات، وهذا أمر مجرب، خاصة في تحليل بعض الظواهر وبعض المواقف، ومعرفة ما وراء الأحداث والتصرفات، فقد يحتاج الإنسان إلى دراسة بعض العلوم وقراءتها، أما أن نقول: إن كل داعية يحتاج إلى أن يكون دارساً لعلم الاجتماع وعلم النفس؛ فهذا مرتقى صعب لا أقول به، لكني أقول: إن هناك قدراً من هذه العلوم يوجد عند الإنسان الفطن، حتى لو لم يكن تلقاه عن شيخ أو قرأه في كتاب.(154/10)
كيف تدعو مجموعة من الشباب؟
السؤال
أنا شاب أرجو من الله أن يمن عليَّ، وأن أكون داعية مسلماً، وإنني -أحياناً- أذهب مع شباب غير ملتزمين، فإذا ركبت معهم سيارة أسمع أصوات المغنين والمغنيات، فأقوم بتبيان أن هذا الشيء محرم، وأكثر عليهم وألح عليهم في ذلك، فأحياناً يطفئون المسجل وأحياناً يعاندون، ولكن أنا أشغلهم عنه بالكلام، فهل أستمر مع هؤلاء الشباب لعل الله أن يهديهم، أم أتركهم وأدعو لهم بالهداية؟ أفتونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
أفتيك أن تدعو لهم بالهداية، فإن الدعاء بالهداية لا يحتاج إلى فتوى.
أما موقفك معهم فإنني أرى أن الشاب إذا أراد أن يدعو مجموعة، عليه أن يبدأ بهم فرداً فرداً، لأنني أخشى إن ألقى بنفسه بينهم وهم مجموعة؛ أن يؤثروا عليه بدلاً من يؤثر عليهم.
فأنصح الشاب أن يبدأ بهم واحداً واحداً، لأن هذأ أقوى في التأثير، وأسلم من مغبة الاختلاط بهم إذا كانوا مجموعة، ثم إذا حصل التأثير على بعضهم، انتقل بعد ذلك مع هذا الذي أثر عليه إلى بقية المجموعة للتأثير عليهم، وعلى الإنسان إذا ركب مع هؤلاء، ورأى أو سمع منكراً؛ أن يبادر إلى تغييره وإزالته، وبيان حكمه بقدر ما يستطيع، أما كونه يركب معهم ويسافر معهم، وقد يسمع أصوات الغناء أو الطبول، أو يشاهد منكرات، فهذا قد يضعف إيمانه ويضعف حماسه لتغيير هذا المنكر.(154/11)
من الكتب المختارة
السؤال
ماذا عن الكُتَّاب الذين يُنصح بأن تقرأ كتبهم والذين يُحذر منهم؟
الجواب
في مجال التفسير: هناك كتب لعل من أهمها تفسير ابن كثير.
وفي مجال الحديث: هناك كتب لعل منها كتاب جامع الأصول وهو كتاب موسع، وكتاب رياض الصالحين في الآداب، وكتاب بلوغ المرام في الأحكام.
وفي مجال العقيدة: هناك كتب كثيرة وعديدة، ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب ابن القيم، وكتب الأشقر العقيدة في الله، وكتاب معارج القبول للحكمي.
في مجال المرأة: كتاب حسن الأسوة لصديق حسن خان، وكتب أخرى كثيرة.
أما الكُتَّاب الذين يحذر منهم، فهم كالجراد لا يمكن حصرهم، ومع الأسف الشديد أن المكتبات تمتلئ بإنتاج هؤلاء الكتاب، من مفكرين إلى أدباء إلى شعراء إلى غير ذلك، فالساحة تضج بكتب أمثال هؤلاء، ومن المستحيل حصر أسمائهم.(154/12)
زيادة كلمة (تعالى) في: رحمة الله
السؤال
كلمة تعالى في قولنا: رحمة الله تعالى، هل هي واردة؟
الجواب
ليست واردة في نفس السلام، لكنها ثناء على الله تعالى، والثناء على الله تعالى مطلوب، إنما لا ينبغي أن يقولها إنسان في المواضع التي ورد فيها التوقيت، كأن يقولها في السلام من الصلاة، السلام عليكم ورحمة الله تعالى، فهذا لا يشرع.(154/13)
الفرق بين الزندقة والإلحاد
السؤال
ما الفرق بين الزندقة والإلحاد؟
الجواب
الإلحاد هو إنكار وجود الخالق جل وعلا، وهو مشتق من اللحد وهو الميل؛ وذلك لأن الملحد يميل عن الفطرة المستقيمة، ويميل عن الحق إلى الباطل، ويكابر الأمور.
أما الزندقة: فهي مذهب أشبه وأقرب ما يكون إلى النفاق، وهي تعبير عن طائفة من الناس في التاريخ الإسلامي، وفي واقع المسلمين اليوم يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر والعياذ بالله ويحاولون أن يدسوا في الإسلام أفكاراً منحرفة بقوالب إسلامية، هؤلاء هم الزنادقة، وللعلماء كلام طويل في أصل اشتقاق هذه الكلمة، وهل هي فارسية أو غير ذلك.
لا طائل تحته.(154/14)
من تتبع الرخص تزندق
السؤال
(من تتبع الرخص تزندق) هل هذا حديث؟
الجواب
هذا ليس بحديث، إنما هو كلام لبعض الفقهاء: من تتبع الرخص فقد تزندق، والمقصود بالكلمة هذه أن الزنادقة الذين أشرت إليهم، بحكم أنهم يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر، أحياناً يجدون في بعض الأقوال الشاذة مخرجاً لهم وهذه قضية ملحوظة حتى في أسلوبهم في الحياة، فيجدون في بعض الأقوال والآراء الشاذة التي قال بها أحد العلماء مخرجاً لهم، فيتمسكون بهذا القول الشاذ ويأخذون من كل عالم شذوذه، فيعكسون القضية، لأن الأصل في المنهج السليم أن الإنسان يأخذ من العالم كل شيء إلا ما شذ فيه.
ولذلك ورد في الأحاديث التحذير من زلة العالم، كما قال عمر: [[إنما يهدم الإسلام ثلاث: زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين]] فالإنسان ينبغي أن يأخذ من العالم كل شيء إلا ما زل فيه، أما هؤلاء فيعكسون فلا يأخذون من العالم أي: شيء إلا ما شذ فيه أو زل فيه، فيجتمع فيهم الشر كله، كما قال بعض السلف: [[من أخذ بزلات العلماء اجتمع فيه الشر كله]] .
لأن هذه زلة، وهي أصلاً زلة فإذا أخذت هذه الزلة، وهذه الزلة، أصبحت مجموعة من الزلات، وبعض الناس يأخذون هذا عن قصد، فتجد الواحد منهم يعمل عملاً منافياً للإسلام، فإذا قلت له في ذلك، قال: يا أخي! هذا أفتى به فلان.
فيعمل عملاً آخر منافياً، ويقول: هذا أفتى به فلان بل إن بعضهم قد يعمل عملاً منافياً لإجماع العلماء، فإذا قلت له في ذلك قال: يا أخي هذا الإجماع من قال إنه ملزم لنا؟! هو إجماع لهم في ظرف من الظروف وفي وقت من الأوقات، ولا يلزم أن يكون هذا الإجماع صحيحاً! فإن أجمعوا رفض الإجماع، وإن لم يجمعوا أخذ بالقول الشاذ، وهنا لا حيلة في مثل هذا الإنسان.(154/15)
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه
السؤال
لقد سمعت من بعض الزملاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الله سبحانه وتعالى، هل هذا صحيح؟
الجواب
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى رويت عن ابن عباس رضي الله عنه، ولكن الصحيح الذي عليه جماهير الصحابة وكافة العلماء؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعينه، أما هذا الكلام فإنه اعتمد على ما ورد في حادثة الإسراء، وسؤال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: {هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نوراً} وفي لفظ: {نورٌ أنَّى أراه} كما عند مسلم.
فالصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه تبارك وتعالى، وأن أحداً لا يرى الله في هذه الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث المسيح الدجال، حين ذكر أنه يدعي الألوهية قال: {واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا} .(154/16)
حكم تتبع الرخص في المذاهب الأربعة
السؤال
هل يجوز تتبع الرخص في المذاهب الأربعة أم لا يجوز؟
الجواب
تتبع الرخص في المذاهب الأربعة أو في غيرها لا يجوز، إذا كان قصد السائل في تتبع الرخص أن يأخذ الإنسان بالأسهل، لأنك أيها المسلم، إذا علمت أن الدين دين الله، وأن أحمد، والشافعي، وأبا حنيفة، ومالكاً، والأوزاعي، والثوري، وأبا ثور، والطبري، بل وأبا بكر، وعثمان، وعلياً، حين يقولون: هذا حلال وهذا حرام.
إنما يقولون ما يعتقدون أنه حكم الله ورسوله، فحينئذٍ تعلم أن الاختيار بالمزاج أمر ليس له موقع في الإسلام.
كونك تأتى بمجموعة آراء في مسألة.
وتقول: ذوقي ومزاجي أن هذا القول هو الصحيح.
فنقول لك: ما هو السبب؟ تقول: هذا ذوقي.
أو تقول: هذا القول هو الصحيح أو أنا أختاره لماذا؟ تقول: لأنه أيسر ولأنه رخصة، وفيه تيسير على الناس.
فلا شك أن هذا لا يجوز، لأن مجرد التشهي دون مسوغ لا يشرع أبداً إذا كنت تعبد الله عز وجل.
بل على الإنسان أن يختار من هذه الأقوال ما يعتقد أنه حكم الله، وكيف تعرف أنه حكم الله، أو تعتقد أنه حكم الله؟ يكون ذلك من خلال الدليل الشرعي.
ولذلك نقول: يجوز للإنسان أن يختار من المذاهب الأربعة وغيرها ما يعتقد أنه الصحيح، بمقتضى الدليل الشرعي من الكتاب والسنة، والقواعد التي يشهد النص بصحتها.
ولا يلزم الإنسان أن يلتزم مذهباً بعينه، أما اختياره بحسب الهوى، أو بحسب الترخص، فهذا غير جائز.
أما أصل الرخص في الشرع فهي: ما جاء الدليل فيه على خلاف العزيمة، بدليل استثنائي فمثلاً: الجمع في السفر رخصة، كون الإنسان المسافر يجمع بين الظهر والعصر، ويجمع بين المغرب والعشاء في وقت إحداهما، هذه رخصة للإنسان، لأن الأصل "العزيمة" أن يصلي الإنسان الصلاة في وقتها، فالجمع بينهما رخصة للحاجة، وإتيان هذه الرخصة جائز إذا احتاج إليها الإنسان، فهذا أصل معنى الرخصة.(154/17)
حفظ المتون دون الرجوع إلى الشروح
السؤال
فضيلة الشيخ: ما رأيك في حفظ الحديث دون الرجوع إلى شرحه، مع السؤال عما يشكل فيه، هل هذا أمر محمود أم لا؟
الجواب
حفظ القرآن والسنة، إن كان في الصغر، في وقت تحرك وإمكانية الاستفادة من الذاكرة، ولو بدون فهم، فهذا جيد، ومن المعروف في القديم وفي الحديث أن كثيراً من الصغار كانوا يحفظون، فيحفظ القرآن، ويحفظ صحيح البخاري وصحيح مسلم، وعدداً من المصنفات، وكذلك المتون والمختصرات، فيحفظها، فإذا كبر كانت الثروة عنده بعد أن فهمها، أما إذا كان هذا بعد كبر الإنسان وبعد أن استوى على ساقه، فإنني أرى أن يجمع الإنسان بين الحفظ والفهم، لأن الحفظ اليوم إذا فات الإنسان أو فاته بعضه يمكن أن يعوض شيئاً منه، من خلال المفاتيح والوسائل التي سهلت للإنسان الوصول إلى الحديث، فأنت الآن لو أحببت أن تعرف حديثاً، يمكن بالوسائل المعاصرة، ومن خلال المعاجم، والمفاتيح والفهارس وغيرها؛ أن تصل إلى الحديث في دقائق، بعد التدرب والخبرة، لكن يبقى موضوع الفهم والاستنباط هو الذي لا يمكن أن تقوم به هذه المفاتيح والفهارس والمعاجم بل لا بد أن يقوم به الإنسان بذاته، فإذا أمكن الجمع بين الأمرين فهو أولى، وإلا فعلى الإنسان أن يهتم بالفهم ولو لم يكن له من الحفظ الشيء الكبير.(154/18)
أهمية الأنشطة الطلابية والمخيمات التربوية
السؤال
فضيلة الشيخ: إننا نسمع من بعض الشباب، حين ندعوهم للاشتراك في المخيمات التربوية والرحلات والأنشطة الطلابية، نسمع منهم أن هذا مضيعة للوقت،،وأنه لا فائدة فيها، وأن الأفضل هو الجلوس واستغلال الوقت بالقراءة والدروس العلمية.
ما رأيكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا شك أن المخيمات والنشاطات الطلابية من الأشياء المفيدة، التي تساهم في بناء شخصية الإنسان، والشاب -أحياناً- قد يقبل على العلم الشرعي، وهذا لا شك أنه إقبال حميد، وإنما يغفل عن أن بناء الشخصية أمر مهم، والإنسان قد يكون عنده علم شرعي.
لكنه لم يتعود على أن يلقي هذا العلم في الناس، ولا أن يواجههم به، فتجد أن هذا العلم حبيساً في صدره لكن لو أنه اشترك في أنشطة وأعمال ومخيمات تربوية وسواها؛ لكانت فرصةً للتدرب على كثير من الأعمال التي تفيد في نشر علمه، كذلك التعرف على الناس، وآرائهم، واتجاهاتهم، ومشاكلهم وأساليب معاملتهم، هذه كلها لا تتحقق إلا من خلال معايشة الإنسان للآخرين.
ولذلك يا إخوة، علينا -دائماً- أن نرجع إلى هدي الرسول عليه الصلاة والسلام وهدي الصحابة رضي الله عنهم من بعده، هل كانوا يعتزلون في طلب العلم ويتركون شئون الناس، وشئون المجتمعات؟ كلا! بل كانوا يتلقون العلم من خلال معايشة الناس، والاحتكاك بالمجتمع، ومواجهة مشكلاته وإدارته، وهكذا ينبغي أن يكون طالب العلم داعية اليوم.
وعلى الإنسان أن لا يضع في نفسه صورة محددة، أنا كطالب علم قد أنظر -مثلاً- إلى فلان بن فلان من الأفذاذ المشهورين، وأرشح نفسي أنني سأقوم مقام فلان، وأضع لنفسي برنامجاً قوياً في تلقي العلم والحفظ، وهذا البرنامج يستغرق عليّ وقتي، بحيث لا يصبح لدي وقت -أحياناً- ربما ولا لبعض النوافل، ولا لزيارة الأقارب، ولا لزيارة الرحم، ولا للتعرف على زملائي، فيحصر الإنسان نفسه، وهو يظن أنه قد ينفتح على الناس يوماً من الأيام، والواقع أن الإنسان إاذ حضر نفسه في وقت معين قد يصعب عليه أن يقبل على الناس في وقت آخر، بل اجعل مثلك الأعلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وانظر كيف كان يربي أصحابه، وكيف كان يعلمهم، وكيف انتقل العلم من الصحابة إلى من بعدهم من التابعين اقرأ في الكتب وانظر، لم يكونوا يعتزلون الناس في مكتبات أو صوامع للحفظ والتلقي فحسب، بل كانوا يتعلمون ويعلمون ويوجهون ويحتكون بالناس ويدعونهم في وقت واحد.
وما أتصور كطالب العلم جاد يقرأ في الكتب، ثم يمشي إلى المسجد، أو إلى المكتب، أو إلى مكان الوظيفة، ويرى الناس وما هم عليه من أخطاء وانحرافات، ثم تطيب نفسه وتقر عينه أن يظل في عزلته ويترك شأن الناس للناس!(154/19)
واجبنا نحو أهل الغيبة
السؤال
أواجه الكثير من الإحراج في سماع الغيبة في شخص، فهل أنا مكلف أن أرد على كل مغتاب، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الغيبة وهي ذكرك أخاك بما يكره، هي معصية، وقد نهى الله عنها في كتابه حيث قال: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] ونهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، وعرفها بأنها: {ذكرك أخاك بما يكره.
قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته} أي: أتيت بالبهتان، لأنك قلت فيه ما ليس فيه في غيبته.
ولذلك فلا يجوز للإنسان أن يُمَكِّن أحداً أن يسمعه الغيبة، فإذا سمع الغيبة فعليه أن يبادر بإنكارها بالأسلوب المناسب، وإن لم يستطع فعليه أن يصد المتكلم عن الوقيعة في هذا الشخص، بأن يصرفه إلى موضوعات أخرى الكلام فيها مفيد ونافع، أما أن يجلس الإنسان ساكتاً يستمع الكلام، فإنه حينئذٍ شريك، لأن المغتاب ما كان ليتكلم في فلان وفلان وهو منعزل بين أربعة جدران، ما كان ليتكلم إلا عندما يجد من يستمع إليه.(154/20)
الجمع بين الكتب القديمة والحديثة
السؤال
هناك بعض الطلاب أو الشباب انصرفوا نحو الكتب الفكرية، ونبذوا كتب السلف وراءهم ظهرياً، وهذا منزلق خطير.
فما نصيحتكم لهؤلاء؟
الجواب
الحقيقة -أيها الإخوة- إن تصنيف الكتب إلى قديمة وحديثة، في نظري أنه تصنيف غير سليم، لأنه تصنيف لا يعتمد على أسس، بل الصواب أن نعلم أن الكتب القديمة فيها الغث والسمين، فكم من الكتب القديمة ما يكون محشواً بالأفكار المنحرفة، والمبادئ الضالة، والآراء الخاطئة، والأحكام الجائرة! وكم من الكتب القديمة ما يكون مليئاً بالعلم والتوجيه والفهم والنصح والحكمة! وقل مثل ذلك في الكتب الحديثة، فكم فيها من كتاب مليء بالعلوم والمعارف والآداب! وكم فيها من كتاب آخر مليء بالأخطاء والانحرافات! فعلى الإنسان أن ينتقي الكتاب الذي يقرؤه، سواءً كان قديماً أم حديثاً، وبعد الانتقاء على الإنسان أن يحرص على أن يكون متوازناً، وأعني بالتوازن ألا يخل بشيء على حساب شيء آخر، فمثلاً كون بعض الشباب في هذا العصر يركزون على الكتب الفكرية البحتة، مثل: كتب سيد قطب، أو كتب محمد قطب، أو أبي الأعلى المودودي، أو أبي الحسن الندوي، أو غيرهم من الكتاب الإسلاميين.
وقد تكون علاقة الإنسان بكتب التراث وكتب السلف علاقة ضعيفة أو معدومة أحياناً، في نظري أن هذا غير سليم، والعكس كذلك، فكون الإنسان يغمر نفسه في بطون الكتب القديمة، وينعزل تماماً عن الكتب الحديثة، التي تتحدث عن مشكلات العصر، وواقع العصر، في نظري أن هذا -أيضاً- غير سليم، لأن الإنسان ينبغي أن يعيش عصره، ويدرك مشكلات الواقع وحلولها، والرد على المذاهب المنحرفة، ومعرفة ما يدار حول الإسلام والدفاع عنه، وما أشبه ذلك.
فلابد من التوازن.
ثالثاً: لابد من مراعاة التخصص، لأننا حين نقول: لا بد من التوازن.
لا نعني أن الإنسان يحاول أن يقرأ هنا وهناك، فيضيع هذا الإنسان دون أن يحصل شيئاً، لا بد أن يكون عند الإنسان قدر من المعرفة في علوم شتى مما يحتاج إليه، ثم يكون عنده تخصص في مجال معين، سواء كان هذا التخصص في مجال علوم شرعية أو غيرها، أو كان تخصصاً داخل تخصص، فقد يتخصص في السنة النبوية، أو يتخصص في التفسير، أو يتخصص في الفقه، أو ما أشبه ذلك، والعلوم قد توسعت اليوم، وأصبح الإنسان لو أمضى عمره في تخصص جزئي لاستنفد عمره ووقته، وكان يستطيع أن يأتي بأشياء مفيدة للناس.(154/21)
أبو حامد الغزالي بين ذاميه ومادحيه
السؤال
فضيلة الشيخ: ما رأيك في كتب أبي حامد الغزالي، حيث وإني وقعت في ريب إذا قرأت بعض الكتب التي تمدح هذا الرجل وتثني عليه كثيراً، وتجعله من العلماء الأفذاذ، وبالمقابل رأيت كُتَّاباً ألفوا في هذا الرجل ذماً، حتى لقد أوصلوه إلى الزندقة والكفر، فتحمست وقرأت في هذا الكتاب ووقعت في حيرة كبيرة فأرشدونا أثابكم الله؟
الجواب
صحيح أن كتب أبي حامد الغزالي، بل شخصية أبي حامد الغزالي مثار لجدل كبير في القديم والحديث، والكلام فيها في القديم معروف، وفي الحديث أذكر مثلاً أنني قرأت كتاباً عن أبي حامد الغزالي والتصوف وهو كتاب ضخم، حط فيه الكاتب من قدر أبي حامد الغزالي، وبين مثالب عظيمة عليه، وبالمقابل اطلعت على بحث آخر للدكتور يوسف القرضاوي حول أبي حامد الغزالي وشخصيته، وقد حاول المؤلف أن ينصف أبا حامد الغزالي من وجهة نظره الخاصة بطبيعة الحال، أما رأيي الخاص في كتب أبي حامد الغزالي، فإن كتب أبي حامد الغزالي فيها الغث والسمين، فإنه قد قرأ الفلسفة وتأثر بها تأثراً كبيراً، وإن كان ألف كتاب تهافت الفلاسفة، لكنه كما يقول عنه أبو بكر بن العربي: إنه ابتلع الفلسفة ولم يستطع أن يتقيأها.
فهو في نظري كشأن محمد إقبال الذي درس في أوروبا ودرس العلوم الغربية ثم جاء وقال: إنني قد خرجت من تلك العلوم كما خرج إبراهيم من نار النمرود.
وهذا التشبيه غير صحيح، فإنك تجد في تراث محمد إقبال، وخاصة كتاب: تجديد الفكر الديني في الإسلام، الذي ترجمه عباس محمود العقاد؛ تجد فيه انحرافاً كثيراً في التصور العقدي عند محمد إقبال، وقل مثل ذلك في عدد من كتبه الأخرى.
وأبو حامد تأثر بالفلسفة، وهذا أمر ظاهر في تراثه.
هناك أمر آخر هو أن أبا حامد الغزالي التزم بالعقيدة الأشعرية وكتبها في كتبه، بما في ذلك إحياء علوم الدين.
أمر ثالث: أن أبا حامد الغزالي كان ضعيف البضاعة في السنة النبوية كما يقول عن نفسه، ولذلك كثيراً ما يستشهد بأحاديث ضعيفة وبل موضوعة، وخاصة في كتاب إحياء علوم الدين، وقد تعقبه الإمام الحافظ العراقي في كتاب خرج فيه الأحاديث التي استشهد بها أبو حامد الغزالي، وعنوان هذا الكتاب: المغني عن حمل الأسفار -أي: الكتب في الأسفار -في تخريج ما في الإحياء من الأحاديث والآثار، وهذا الكتاب طبع عدة طبعات.
وبقراءة المغني تدرك ضعف بضاعة الغزالي في الحديث النبوي، وكذلك بعض كلام الغزالي في الإحياء يتوجس الإنسان منه خيفة، وبالمقابل فـ للغزالي إشراقات وحكم، واستنباطات، وغوص في المعاني في هذا الكتاب لا يكاد يوجد في غيره من الكتب، خاصة في قضايا التربية والتصنيف والمفاضلة بين الأشياء وما شابه ذلك.
فإذا كان الباحث ذا قدرة على التمييز والنقد، فلا بأس أن يقرأ هذا الكتاب، وإلا فمن الممكن أن يقرأ بعض المختصرات التي اختصرت هذا الكتاب، منها مختصر منهاج القاصدين، أو كتاب القاسمي، أو غيره من المختصرات المعاصرة، وإن كان المختصر لا يقوم مقام الأصل.(154/22)
وصف المجتمع السعودي بأنه وهابي
النقطة الثانية: كيف نرد على من يقول: إن المجتمع السعودي مجتمع وهابي؟ من المعلوم أن المقصود بهذه الكلمة أنها تنسب إلى الإمام الداعية المجدد الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب، ولا شك أن آثار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه الجزيرة ظاهرة وباقية إلى اليوم في مجالات عديدة، في مجال تجريد الاعتقاد وتصحيحه، فإننا نعلم أن كثيراً من البلاد الإسلامية بل وهذه الجزيرة نفسها قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هذه الجزيرة كغيرها كانت تشيع فيها ألوان الوثنية إلى حد أنهم كانوا يطوفون بالقبور، ويصلون لها، ويسألون المقبورين كشف الضر وجلب النفع! وربما قد يبطئ عن المرأة الزواج فتذهب إلى قبر فتطلب منه زوجاً، وإذا مرض الإنسان فقد يتردد على هذه العتبات وهذه البقاع، إلى غير ذلك مما هو موجود اليوم في كثير من البلاد الإسلامية، إضافة إلى أنواع أخرى من الشرك، كشرك التصورات والشرك في الألفاظ.
فلما قامت دعوة الشيخ كانت تهدف إلى تجريد العقيدة وتصحيحها، وإبعاد ألوان الشرك عن المجتمع، وقد نجح الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في نشر دعوته، ليس في الجزيرة فحسب، بل كانت أصداء دعوته تنتقل إلى الهند والسودان ونيجيريا والعراق، وإلى كثير من بلاد العالم، والآثار التي تركها الشيخ في تلك البلاد معروفة، ولا زال أهل هذه البلاد يتمتعون بحساسية قوية -ولله الحمد- ضد كل ما يخدش العقيدة، سواءً مما كان يؤثر في صلب العقيدة وينافيها بالكلية، أو ما كان ينافي كمالها ويخدش صفاءها ونقاءها، وهذه خاصية لا شك إيجابية.
ومن الآثار التي لا زال المجتمع يتمتع بها بدعوة الشيخ: حماية البيئة والمجتمع من الانحرافات السلوكية، وتقويم أخلاق الناس على وفق أخلاق القرآن والسنة، ولا يعني هذا أن أخلاق الناس أخلاق صحابة، لكن أقول: كل من زار هذا المجتمع أو عاش فيه، ثم زار غيره من المجتمعات الأخرى، يحس أن هناك فرقاً واضحاً.
صحيح أن التأثيرات موجودة في كل مكان، والانحرافات موجودة في كل مجتمع، ولكن يبقى أن التميز موجود ولو بنسبه معينة، فأنت إذا كنت تقول: إن الانحراف موجود في مجتمع ما بنسبة (60%) ، فقد تقول: إنه موجود في المجتمع الآخر بنسبة (50%) أو (40%) ، وليس المقصود التفضيل المطلق، لكن المقصود أن هناك نوعاً من الأفضلية.
فهذه من آثار دعوة الشيخ.
فإذا كان هذا هو القصد من وصف هذا المجتمع بأنه وهابي فالمعنى صحيح، ولكن الاستعمال غير سليم، لأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يأتِ بدعوة من كسبه الخاص أو من جيبه، وإنما كان دوره هو دور أي عالم، أو مجدد، أو مصلح.
مجرد أنه نفض الغبار عن التعاليم الحقيقية للإسلام، اقرأ -مثلاً- كتاب التوحيد لـ محمد بن عبد الوهاب، انظر إلى أي حد تدخل الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذا الكتاب، فإنك تعجب فعلاً: كل ما جاء به الشيخ رحمه الله أنه يضع ترجمة عنوان الباب، ثم يسوق آيات وأحاديث ثم يقول: فيه مسائل، ويعطيك الفوائد المستخرجة من الآيات والأحاديث.
ولذلك يفهم هذا الكتاب العالم والعامي والمجتهد والمقلد، والناس على اختلاف طبقاتهم، وتحس أن الشيخ رحمه الله لم يكن له تعاليم خاصة يريد أن يحوز الناس إليها، كل ما كان يهدف إليه أن يربط الناس بتعاليم القرآن والسنة، ولذلك كان يدعو إلى الاجتهاد وترك التقليد الأعمى، وربط الناس بالنصوص الشرعية، وهذا مدار دعوته، وهو ظاهر تراثه وتراث أبنائه وأحفاده وتلاميذه، ومن جاء بعده من حملة هذه الدعوة.
فتسمية مجتمع بأنه مجتمع وهابي، غير سليم لأننا نقول: لماذا تنسبه إلى هذا الداعية أو هذا المصلح؟! فهو مجتمع يحاول أن يعود إلى الإسلام.
أما إن كان القصد من إطلاق هذه الكلمة على المجتمع الوهابي، أنه مجتمع متعصب لأشياء معينة فلا أحسب أنه كذلك، ولا يظهر هذا في هذا المجتمع، لا اليوم ولا قبل اليوم، بل إننا نجد أن هذا المجتمع يتقبل الأفكار الصحيحة، يتقبل أي إنتاج صحيح، ويتقبل العلم الصحيح، سواء في مجال الصناعة، أو في مجالات العلوم النظرية أو غيرها، ولكن ينبغي أن نكون واقعيين حين ننظر إلى إي مجتمع من المجتمعات.
فالمجتمع يوجد فيه أشخاص يمكن أن يحسبوا أنهم من عامة الناس، وقد لا تكون نظراتهم وتصوراتهم معبرةً عن حقيقة الدعوة، إلى الإسلام نفسه كم ينتسب إلى هذا الإسلام من أناس، وينسبون إليه من الآراء والأقوال ما ليس منه! فنحن يجب أن ننظر إلى حقيقة الدعوة، وإلى تراث الدعوة، وإلى رجال الدعوة الأصليين، الذين مثلوها حق التمثيل.(154/23)
الإقلال من قيمة علم الاجتماع
السؤال
نلاحظ أن بعض الزملاء في الأقسام الشرعية لديهم نوع من الإقلال بقيمة علم الاجتماع وخدمته الاجتماعية، وذلك بدعوى أن هذه العلوم تستند في بعض النظريات على الأفكار الغربية، وبالتالي تقلل من قيمة هذا العلم، والسؤال هو: ما رأيك في هذا الموضوع باعتبارك داعية إسلامي ومصلحاً اجتماعياً؟ وكيف نرد على من يقول: إن المجتمع السعودي مجتمع وهابي؟
الجواب
السؤال فيه أكثر من نقطة: النقطة الأولى: موقف بعض الدارسين في المجالات الشرعية من هذه العلوم، وقد أومأت في حديثي السابق إلى شيء من ذلك، فأنا أسمع من بعض الدعاة، وبعض الشيوخ، من قد ينتقد هذا العلم نقداً إجمالياً، حتى أن منهم من يصم من يَدْرُسون أو يُدَرِّسُون بوصمات لا يوافًق عليها، وينظر إلى هذا العلم على أنه علم يخدم أهداف اليهود، باعتبار أن جوسكوند ودور كايم وغيرهم ممن يحسبون على طائفة معينة، ولكن الذي أراه أنا أن هذه العلوم وإن كان واقعها الآن واقعاً مراً، وهذا يجب أن نعترف به، لأن كثيراً من كتبها ودراساتها حتى في الجامعات العربية مترجمة كأفكار، ولا زال الميدان فسيحاً واسعاً أمام الدراسات الإسلامية الأصلية، ولا شك أن الإنسان قد يكون عالماً في مجال وهو في نفس الوقت أمي في مجال آخر، وحتى نكون واقعيين وعمليين، قد تجد إنساناً متخصصاً في أي علم من العلوم أو في التاريخ أو في الاجتماع أو في الاقتصاد أو في السياسة أو في أي علم، ولو جئته في المجالات الشرعية وهي مجالات ينبغي أن يهتم بها كل إنسان، قد لا تجد لديه الكفاية في مجال العلوم الشرعية، على الأقل فيما يحتاجه هو ومن حوله في تقديم هذا العلم الذي يملكه؛ بحيث يقدمه بصورة إسلامية.
ونفس الوضع قد يوجد لدى بعض الدارسين في المجالات الشرعية، فقد تجده عالماً أو متخصصاً في الحديث أو الفقه، أو التفسير، لكن معلوماته عن هذه العلوم الأخرى ليست كما ينبغي، ولذلك قد يكون حكمه عليها ليس حكم الدارس الفاحص المدقق، بل حكماً ربما يكون حكماً مزاجياً أو حكماً عاطفياً، والناس بصفة عامة قد يعذرون في هذا، لأنهم يحكمون على الواقع.
وإذا كان واقع كثير من هذه العلوم كما هو معروف، فإن دورنا -في نظري- يتركز في أمرين: الأمر الأول: إرساء قواعد علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم التربية وعلم الاقتصاد وغيرها، على أسس إسلامية، بحيث نقدم للناس بديلاً صالحاً في هذه العلوم، يقوم على الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح، حتى نقنع الناس إقناعاً عملياً بأن كل هذه العلوم يمكن أن تصاغ بصورة إسلامية، وتخدم الإسلام وتخدم الدعوة إلى الله عز وجل.
الأمر الثاني: توعية الناس بأن هذه العلوم قابلة لأن تصاغ صياغة إسلامية، وأن هذه العلوم في أصلها يمكن أن نقول عنها: إنها علوم محايدة، لكن يكتب فيها -مثلاً- عالم يهودي، فيفرز وينقش فيها تعاليم التلمود، وأهداف اليهود، ويكتب فيها عالم مسلم فيستطيع أن يصوغها بصورة إسلامية، ويستدل لها من القرآن والسنة.(154/24)
دور الطالب والأستاذ في قسم الاجتماع
السؤال
ما هو الدور المتوقع من الطالب المسلم في قسم الاجتماع، وما هو الدور المتوقع من الأساتذة الذين يدرسون في قسم الاجتماع؟
الجواب
أقول في رأيي الخاص، إن علم الاجتماع والتربية وعلم النفس، من العلوم التي غزي المسلمون فيها اليوم، بسبب أنها علوم ترجمت ونقلت إلى المسلمين، وتشبع بها كثير ممن كتبوا في هذه العلوم في البداية، ولذلك فالحاجة ماسة إلى وجود الكاتب المسلم، الذي يصوغ هذه العلوم صياغةً إسلامية، ويبعد عنها لوثات الفلسفة والتصورات المنحرفة التي أدخلها إليها العلماء الغربيون.
لكن ينبغي أن نلاحظ -أيضاً- أن مستويات الناس تتفاوت، فهناك إنسان يحس بأن لديه إمكانية واهتماماً وجودةً، بحيث يستطيع أن يفهم جيداً، وينقد جيداً ويكتب أيضاً، فيثري المكتبة الإسلامية بالكتب النافعة في هذا الباب، ولا شك في أنَّ هناك كتباً موجودة الآن، لكن المكتبة الإسلامية تحتاج إلى المزيد.
هناك كتاب اسمه: المدخل إلى علم الاجتماع الإسلامي، وهناك كتاب آخر اسمه: علم الاجتماع الديني، وهناك عدد ليس كثيراً من الكتب في هذا الموضوع، فإذا كان الإنسان يجد في نفسه الكفاءة في النقد البَنَّاء والتأليف، فإن عمل الإنسان في مثل هذا الميدان يعتبر من الجهاد في رأيي، الذي ينبغي أن ينذر الإنسان فيه نفسه، سواءً كان طالباً أم أستاذاً أم غير ذلك.
أما إذا كان الطالب عادياً في كفاءته وجودته، فهو نافع في الميدان الذي يعمل فيه، في الوظائف والمجالات المحددة في مجال علم الاجتماع، يخدم الطلاب -مثلاً- من خلال التعرف على مشكلاتهم وحل ما يواجهونه، ومعرفة أسباب الانحراف ومعالجتها، إلى غير ذلك.(154/25)
سلسلة دروس رمضانية
فيه ذكر لفوائد العبادة الدنيوية والأخروية، وذكر لأحوال الناس في رمضان، وبيان أن شهر رمضان فرصة للقيام بالأمانات بكل صورها وأشكالها.
كما أنه يحتوي على ذكر بعض الأخطاء السلوكية للنساء في رمضان.(155/1)
فوائد العبادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ الله وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
شهر رمضان ما أجمل لياليه! وما أحلى أيامه! جعلنا الله وإياكم ممن صامه فأحسن صيامه, وقامه فأحسن قيامه, ورزقنا فيه التوبة والإنابة والاستقامة, ليكون لنا شهيداً مشفعاً يوم القيامة.
أما بعد: عباد الله: هذه وقفة مع بعض الأعمال والسلوكيات، والتصرفات الخاطئة, التي يعملها كثير من المسلمين في هذا الشهر الكريم، رجالاً كانوا أو نساءً.
أحبتي في الله: يجب أن نسأل أنفسنا، لماذا أوجب الله علينا الصيام والإمساك عن الشراب والطعام طيلة النهار؟ فالله تعالى لا يريد أن يعذبنا بهذا, وهو غني عنا، ورزقنا هذه النعم وأحلها لنا ثم قال لنا: أمسكوا عنها من طلوع الفجر إلى غروب الشمس, وبين لنا العلة في ذلك {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] .(155/2)
الفوائد الأخروية للعبادة
إخواني الكرام: كل العبادات، من صلاة وصيام وحج وزكاة وقيام ليل وذكر وتسبيح الخ لها فوائد دنيوية, وفوائد أخروية, أما الفوائد الأخروية فلا مجال للكلام عنها؛ ويكفيك من الفوائد الأخروية أن تعلم أن الله جل وعلا يدخل أصحاب العبادة الصالحة الجنة, ويدخل المعرضين عن العبادة النار {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] .
إذاً يكفي هذا ولذلك لا يحتاج أن نقول: الصيام يهذب النفس, أو يهذب الجسد, أو يصحح الإنسان, أو أنه حمية من الأمراض, يكفي في فوائد الصيام الأخروية، وغيره من العبادات، أنه سبب للنجاة من عذاب الله، والفوز بمرضاته, هذا كاف.(155/3)
الفوائد الدنيوية للعبادة
أما إذا انتقلت إلى الفوائد الدنيوية في العبادات فأنت تجد فوائد عظيمة منها: أولاً: تهذيب النفس: لأن العبد إذا صلى وصام وتعبد لله عز وجل يصبح عنده ورع, وخوف، ومراقبة, فيتق الله عز وجل في جميع أموره, ولذلك لا تجتمع العبادة الحقيقية الصادقة لا تجتمع مع الفجور أبداً، اسمع ماذا يقول الله تعالى عن الصلاة، يقول تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] .
فإذا رأيت إنساناً يصلي ويرتكب الفحشاء والمنكر, فاعلم أن صلاته فيها دخل وفيها دخن, وإنما هي صورة بلا حقيقة, صحيح أنها تُجزِئُه ولا يحسب كافراً ما دام يصلي, لكنه ما حقق الصلاة الشرعية الكاملة، التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
فالعبادة فيها تهذيب للنفس, فتجد العابد لله عبادة صحيحة نزيهاً ونظيفاً, ولا تجد -مثلاً- في قلبه غلاً, أو حقداً, أو حسداً, أو بغضاء, أو كبراً, أو عجباً, أو غروراً, أو غشاً للمسلمين؛ لأن قلبه نظيف وهو يقرأ القرآن، ويقرأ قول الله عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .
ولذلك كان العابدون الأولون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغيرهم, آية وأعجوبة في تهذيب نفوسهم وصلاحها, يتعاملون مع القرآن معاملة حقيقية, إمامهم وقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى أصبح بآية واحدة يكررها، وهي قول الله عز وجل: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] حتى الفجر وهو يرددها ويبكي! فقال له أبو ذر: يا رسول الله! مازلت تردد هذه الآية؟ قال: {إني سألت ربي الشفاعة لأمتي فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً} .
ثانياً: العبادة العبادة من صوم، وصلاة، وغيرها، فيها تهذيب للمجتمع, فالمجتمع العابد لا تنتشر فيه الجرائم والموبقات, وغير صحيح أنك تجد الناس الآن في المساجد، ثم ما إن يتفرقوا من المسجد حتى يذهب كل إلى حال سبيله, هذا يغش, وهذا يخدع, وهؤلاء يجتمعون على لهو ولعب, وهؤلاء يجتمعون على سكر, وهؤلاء يجتمعون على غيبة, وهؤلاء يجتمعون على حرام, وقبل قليل كانوا في المساجد! هذا تناقض عظيم في حياة المسلمين اليوم! ثالثاً: العبادة فيها جمع لكلمة المسلمين، لأن الأمة كلها تصوم في وقت واحد، وتفطر في يوم واحد، وتجتمع في المساجد للصلاة, وتجتمع في عرفات ومنى وغيرها للحج, فتجتمع كلمة الأمة, وتتوحد قلوبهم, ولا يكون عندهم أهواء، ولا اختلافات، ولا نزاع فيما بينهم.(155/4)
أحوال الناس في رمضان
انظر -يا أخي المسلم- إلى العبادات -اليوم- هل تؤدي هذا المفعول في واقعنا أم لا؟ وما دمنا بصدد الحديث عن الصيام فانظر إلى واقع المسلمين خلال شهر الصيام, كيف يكون واقعهم؟! يعني إذا كان الصيام صياماً حقيقياً شرعياً فلا بد أنه سوف يقلب حياة المسلمين, ويجعلها أفضل مما كانت في بقية العام، وهذا هو الطبيعي, خاصة وأن الشيطان يسلسل في شهر رمضان كما في الصحيح: {إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة -وفي لفظ- فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب النار وسلسلت الشياطين -يعني وضعت في السلاسل- وصفدت الشياطين -يعني وضعت في الأصفاد-} فلا يَخْلُصُون في رمضان إلى ما كانوا يخلصون في غيره, لكن انظر إلى مجموعة من السلبيات والأخطاء التي تقع في واقع حياة المسلمين اليوم، أفراداً وجماعات.(155/5)
اعتبار رمضان فترة مؤقتة
أول ما يلفت النظر أن كثيراً من الناس يعتبرون رمضان فترة مؤقتة، يؤجلون فيها أهواءهم وشهواتهم حتى ينتهي! فإذا دخل رمضان امتلأت المساجد وازدحمت بالمصلين، وما يزالون يتناقصون حتى ينتهوا! فأين هؤلاء في شعبان؟! أما يعلمون أن الصلاة هي العمود الذي يقوم عليه الإسلام؟! وأنها الفيصل بين الإسلام والكفر؟! وأن {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وأن {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة} بحيث نقول: إن التارك للصلاة بالكلية مرتد عن الإسلام، فإذا كان كذلك فما بال أقوام لا يُعرفون في المساجد! وربما يَشتكي الواحد منهم, ويُزار في بيته ويُناصح، ويُستخدم معه كافة الأساليب فلا ينقاد إلى المساجد, بل يهرب منها, كما يفرق الشيطان من الحق! فإذا جاء رمضان ازدحمت المساجد, أين أنتم؟! رب رمضان ورب شعبان واحد, والدين لا يتغير, والإسلام ليس ألعوبة مثل دين النصارى واليهود, فإن اليهود والنصارى الآن يزعمون أنهم يعبدون الله تعالى يومًا في الأسبوع، يوم السبت عند اليهود, ويوم الأحد عند النصارى, ففي هذا اليوم يذهبون للكنائس، خاصة كبار السن, ويتعبدون على طريقتهم, فإذا انتهى ذلك اليوم, رجعوا إلى ما كانوا عليه من فجور, وانحلال, وتفسخ, وأكل للربا, وغش, ومشاهدة الحرام, وسماعه, والانغماس في أنواع الموبقات والمحرمات! فهم كما قال أحد النصارى: إننا نعبد الله في يوم واحد ونعبد بنك إنجلترا في ستة أيام، أي يعبدون المادة في بقية أيام الأسبوع.
فهل حق على هذه الأمة أن سلكت وأخذت مأخذ الأمم قبلها, فأصبحت تعبد الله تعالى في المسجد، فإذا خرجت خلعت جلباب العبادة والخوف من الله وبدأت تعمل بمقتضى أهوائها وشهواتها؟! هذا هو الواقع عند كثير من المسلمين, وهو مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!} أي: هم اليهود والنصارى, أنتم تأخذون مأخذهم- قال الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] .(155/6)
حال القلوب في رمضان
يا أخي: التمس قلبك في رمضان عند قراءة القرآن، وذكر الله, وعند الصلاة، وعند ذكر الموت والجنة والنار, فإن وجدت قلبك يتحرك وينتعش, وإلا فاعلم أنه لا قلب لك! فاسأل الله أن يرزقك قلباً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37] فقد يوجد إنسان حي لكن ليس له قلب! لأن القلب في الشرع ليس فقط هذه المضغة التي تنبض الدم وتضخه إلى الجسم, القلب شيء آخر وراء ذلك, هو حياة الروح, والإشراق, والإقبال على الله, والخوف من الله, والرغبة فيما عند الله, هذا هو القلب السليم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] فهذه سلبية يجب أن تنتهي من قلوب المسلمين.
فيقال لكل إنسان: يجب أن تعرف طريقك، إما أن تكون عبداً لله, أو عبداً للشيطان, ليس هناك حل ثالث, يقول الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60-61] لا توجد أنصاف حلول, إما أن تكون عبداً لله، ملتزماً بأوامر الله, وحتى لو غلبك الهوى فأخطأت, تب سريعاً إلى الله, فتلقي بنفسك بين يديه, وتمرغ خدك ساجداً لله عز وجل وتقول: يا رب! اقبلني, فحينئذٍ تكون عبداً لله حقا, وإما أن تكون عبداً للشيطان, فتفعل ما تشاء والموعد أمامك!(155/7)
تذكر أنك عبد
يروى أن بشراً الحافي مر على بيت فسمع فيه صوت الدفوف, والمزامير, والغناء! فقرع الباب، فخرجت إليه امرأة, قال لها: من صاحب هذا البيت؟ قالت: ماذا تريد منه؟ قال: أريد أن أعلم أعبد هو أم حر؟ قالت: لا بل هو حر, قال لها: أخبريه بأن بشراً الحافي يقول لك: إن كنت حراً فاصنع ما شئت, وإن كنت عبداً فلا تتصرف إلا بإذن سيدك.
فضحكت المرأة وذهبت للرجل، وقالت: في الباب رجل مخبول! يقول: كذا وكذا, قال: كلا والله! هذا هو عين العقل، صدق, أنا عبد ولست حراً, أنا عبد لله عز وجل, وما عندي من مال ومتاع, لا يجوز لي أن أتصرف فيه إلا بإذن سيدي وهو الله تعالى, فتاب إلى الله تعالى، وكسر مزاميره, وطنابيره, وأقلع عما كان يفعله.
ينبغي أن نحدد موقفنا بوضوح إن كنا عبيداً لله, فالعبودية لله لا تقبل الشركة، أن تكون عبداً لله ولغير لله, يقول الله عز وجل: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك} , والله عز وجل هو أكرم الأكرمين.
فبالنسبة لعبيده الذين رضوا بعبوديته، فالله تعالى يجود عليهم, فإذا أخطئوا أو قصروا, أو فرطوا, ثم قالوا: يا رب! أخطأنا، وقصرنا، وفرطنا يفتح لهم أبوابه, ويقول لهم: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ويقول لهم: {يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني, فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي} قوله كلام، عطاؤه كلام، ومنعه كلام: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] كل شيء يكون بهذه الكلمة, ويقول: {يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا -يعني ملء الأرض- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً, -لاحظ الشرط لأتيتك بقرابها مغفرة} .
فهو جل وعلا واسع, كريم, جواد, وهاب, وكفى من سعة كرمه جل وعلا أن يعطي الجنة! هل يستحق أحد الجنة؟ لا والله، لا أحد يستحق الجنة, يعني: يستحق أن يكون مخلداً في الجنة آماداً وآباداً متطاولة لا نهاية لها، في نعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع, وحرير، وصحاف، ودر، ونعيم، ما تجلى لقلب بشر، أو دنا منه فكر! لا أحد يستحق هذا البتة, إلا بفضل الله تعالى.
فالله تعالى يعطي " {هَذَا عَطَاؤُنَا} [صّ:39] المهم أن تكون عند لله -فعلاً- في رمضان وفي غير رمضان، رمضان فرصة لنحدد أمورنا، فلا تبقى المسألة هكذا في المناسبات فقط، لابد أن نحدد الموقف جيداً إذا كنا عبيداً لله من الآن، نحدد طريقنا أننا عبيد لله, ونحرص على مرضاته, وحتى حين نخطئ نسرع بالتوبة إلى الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] .(155/8)
رمضان فرصة للقيام بالأمانات
أيها الإخوة: إن مقتضى صيام المسلم في رمضان, أن يجعل شهر رمضان فرصة للقيام بالأمانات التي كلفه الله تعالى بها, وما أكثر الأمانات!(155/9)
أمانة الدين
والمفروض -أيضاً- أن الصيام يقوي ويغذي الشعور بهذه الأمانة, لكن الذي يقع من كثير من الصائمين -هدانا الله وإياهم- أنهم في شهر الصيام يفرطون في واجبات الإسلام, فالصلاة -مثلاً- كثيراً ما يتركها البعض لأنه نائم, وقد يأتي عليه وقت أو وقتان أو أكثر فلا يصلي, وحتى صلاة الفجر بلغني أن من الناس من يتسحر قبل الفجر بساعة أو أقل، أو أكثر، ثم ينام حتى عن صلاة الفجر والعياذ بالله، وقل مثل ذلك في بقية الصلوات! وربما يفرطون في أمانات الدين الأخرى, وربما يرتكبون المحارم, وهذا يدل على أن صيامهم أصبح صياماً شكلياً لا حقيقياً, فهم أخذوا من العبادات أشكالها ومظاهرها، وغفلوا عن حقائقها ومعانيها.(155/10)
أمانة المال
خذ أمانة المال في هذا الشهر، حين يأتي رمضان تجد الأثرياء، والأغنياء، والمتوسطين، يذهبون إلى المحلات التجارية ليتزودوا لهذا الشهر الكريم بألوان الأطعمة, والمشروبات, والمكسرات, والحلويات, وينوعون ويتفننون بصورة غريبة وعجيبة فيما يأكلون في هذا الشهر! فإذا أتيت وجبة الإفطار وجدت عليها عشرات الأنواع من المطعومات والأغذية, ثم إذا أتيت إلى وجبة العشاء! بعد صلاة المغرب، وجدت ما شاء الله تبارك الله, فإذا أتيت بعد التراويح وجدت مثل ذلك, فإذا أتيت وجبة السحور وجدت مثل ذلك! حتى يصاب الواحد منهم بالتخمة من كثرة ما يتناول من الأطعمة والأشربة في هذا الشهر, وربما بعض الناس لا يتذكرون من رمضان إلا تلك الأغذية والأطعمة, حتى الصغار والصبيان تعودوا أنهم في هذا الشهر يجدون أطعمة وأغذية لا عهد لهم بها, فيفرحون برمضان لذلك! وهذا الإنسان الذي يبذخ ويسرف؛ تجد أنه لم ينفق في سبيل الله تعالى, ولم يتعاهد المساكين، والمعوزين، والمحتاجين, لم تحدثه نفسه أن يصل المجاهدين في سبيل الله في أفغانستان, أو فلسطين, أو إرتيريا, أو الفلبين, أو غيرها.
أولئك الذين يحمل الواحد منهم سيفه على عاتقه، أو يحمل بندقيته على عاتقه, وينام على الثرى، ويلتحف السماء، وربما لا يجد الواحد منهم كسرة خبز يسد بها جوعته, لا يلتفت إليهم, وهذا أيضا يؤكد أن الصيام لم يحقق غرضه وحكمته في مثل هؤلاء, لأن الصوم جوع، وبالجوع يتذكر الإنسان المحتاجين والجائعين، كما قال الأول: لعمري لقد عظني الجوع عظة فآليت ألا أمنع الدهر جائعاً فمن العادة أن الإنسان إذا مسه الجوع والعطش تذكر المساكين، والمحتاجين، والفقراء, فجادت نفسه بالبذل والعطاء, أما أن يوسع الإنسان على نفسه هذه التوسعة, ويبذخ هذا البذخ, ويسرف هذا الإسراف، في ألوان الطعام والشراب, ثم ينسى المساكين, والفقراء, والمحتاجين, والمجاهدين, فلا شك أن هذا يدل على أنه ما راعى الأمانة حق رعايتها.(155/11)
أمانة الأهل والولد
وأخيراً: خذ أمانة الأهل والولد، فهل نجد رعاية لأولادنا وأهلينا في رمضان أكثر مما نجد في غيره؟ أم أن الحال العكس من ذلك؟ الواقع يقول لنا: لا, الحال على ضد ذلك, فإن رمضان مجال لتسيب أولادنا، وبناتنا، وأزواجنا! فالأب في الليل مشغول بالسهر مع زملائه وأصدقائه, وفي النهار مشغول بالنوم بعض الوقت, والوقت الآخر يقضيه في أعماله إن كان موظفاً أو غير موظف, أما الأولاد وأهل البيت، فلا شأن له بهم ولا يدري! بل قد يكون بعض الطيبين والصالحين، ممن يبكرون إلى المسجد ويصلون التراويح, لا يدري ما شأن أولاده ولا بناته, فالأولاد الصغار يلعبون مع أمثالهم ونظرائهم, وربما يترتب على لعبهم هذا تورطهم في عصابات المخدرات, ووقوعهم في الجرائم الأخلاقية، من اللواط والسرقة وغيرها, وتعرضهم للاختطاف, وتعرضهم لحوادث السيارات والدهس وغيرها.
وكذلك البنات، قد يتعرضن لأمور كثيرة, باختيارهن أو بغير اختيارهن, والأب لا يدري من ذلك شيئاً, فهو إما في المسجد يصلي, أو مع شلته وأصحابه, أو نائم, أو في عمله! أين رعاية الأمانة في هذا الشهر الكريم؟ إذا فرطت في أغلى ثروة تعتز بها في أولادك وبناتك! فهذه من السلبيات التي يقع فيها الصائمون, ولا يجوز أن تحدث لا من الصائم ولا من غيره, لكن إن فُرِضَ جدلاً أنها حدثت من غير الصائم, فإنه لا يجوز بحال أن يتصور حدوثها من الصائم, الذي هو متلبس بعبادة, من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فهذه نقطة وهي قضية التفريط في الأمانات التي حملنا الله إياها في هذا الشهر الكريم.(155/12)
أمانة الوقت
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] .
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، ما تعاقب الليل والنهار, وما كرت الأدهار ومرت الأعصار.
أما بعد: عباد الله: إن هذه الجلسة التي هي بعنوان (سلوكيات خاطئة في شهر الصيام) أود أن أتحدث فيها عن ثلاث ملاحظات جوهرية في حياة الصائمين.
الملاحظة الأولى: أن الصيام شُرِعَ في ضمن ما شُرِعَ له لتدريب الإنسان على الأمانة, فالصوم أمانة بين العبد وبين الله, وإنما يصوم العبد ابتغاء مرضاة الله، وطلباً لثوابه، وخوفاً من عقابه.
ولذلك فإن من المتناقضات الغريبة أن يكون الصائمون الذين يفترض أنهم أكثر الناس رعاية للأمانة, وحرصاً عليها, وخوفاً من الإخلال بها, أن يقع من كثير منهم التفريط في الأمانات العظمى، التي ائتمنهم الله تعالى عليها! فأمانة الوقت مثلاً، الذي به يحاسب الإنسان، وينعَّم أو يعذب, هذا الوقت الذي هو أثمن ما مُنح الإنسان, من دخل الجنة فإنما دخلها لأنه حفظ وقته, واستثمره فيما يرضي الله، ومن دخل النار فإنما دخلها لأنه ضيع وقته فيما يسخط الله, يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:36-37] هكذا يزعمون، ويدعون ويتمنون، ويطلبون، فيأتيهم
الجواب
(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) أما أعطيناكم أعماراً, أما خلقتم, أما مُتّعْتُم حتى بلغتم سن الرجولة, وعقلتم, وفهمتم, وعرفتم, ثم أعرضتم وضللتم, ألم يحصل هذا؟ بلى حصل, {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] .
فالوقت: هو الذي يحاسب به الإنسان، فَيُنَعَّم أو يُعَذَّب, ومع ذلك فهذه الأمانة العظيمة يفرط فيها كثير من الصائمين, فيقضون ليلهم في السهر على مشاهدة المسلسلات التافهة, أو سماع الأغاني, أو لعب الورقة, أو الجلسات الضائعة, واسأل الأرصفة فإنها خير شاهد على ما يفعله الناس, وخاصة الشباب في شهر الصيام! فإذا جاء النهار كانوا نائمين، جثثاً هامدة, وهذا هو شأن من سهر ليله، فأحيا ليله -بل أماته- في عبث في غير طائل, وجعل نهاره وقتاً للنوم, وربما فرط فيه في كثير من الواجبات, فليس هذا من رعاية الأمانة، أمانة الوقت.(155/13)
أمانة القيام بالأعمال
من الأمانات التي كلفت بها أمانة العمل، وكثير من الناس، في نهار رمضان لأنه صائم ليس لديه استعداد أن يعمل, فقد يكون -مثلاً- موظفاً في إدارة معينة, فتجد أنه نائم وقت الدوام, لماذا؟ لأنه معذور, والمراجعون يأتون ويذهبون فلا يجدون من يستقبلهم! هذا ليس من رعاية الأمانة, ولا يتناسب مع كونك صائماً متلبساً بعبادة, وربما إن اشتغل واستقبل الناس يستقبلهم بأخلاق سيئة, ويشتد عليهم, وليس لديه استعداد أن يسمع من أحد شكاية, أو مناقشة, أو مراجعة, لأن نفسه وأخلاقه رديئة, وأعصابه مشدودة, فتجد أنه مستعد أن يتكلم على هذا, ويسب هذا, ويشتم هذا, وينال من هذا, والحجة أنه صائم!! إذاً أين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم} الرسول عليه الصلاة والسلام يأمرك ما دمت صائماً إذا تعرضت لأحد ينال منك, أو يتعرض لك, أو يؤذيك, ألا ترد عليه بالمثل, فلا ترد النار بمثلها, بل قابل ذلك بالإعراض, وقل له: إني صائم، حتى تبين له: أنك تستطيع أن ترد عليه، لكن عندك من الورع، والخوف، ما يمنعك من ذلك, فإنك صائم متلبس بعبادة، لا تريد أن تفسدها على نفسك, وتخاطبه بما لا يليق, فما بال كثير من الناس ربما يقابلون من لم يحدث منه إساءة, ولا سابهم, ولا شاتمهم, بأسلوب عنيف, وعبارة جارحة, وأخلاق لا تليق, هذا ليس من رعاية الأمانة التي ائتمنك الله تبارك وتعالى عليها!(155/14)
أمانة العمر
هذه النقطة تتعلق بأعظم أمانة على الإطلاق, وهي أمانة العمر التي أُعطيناها على أن نستغلها فيما يرضي الله, على أن نصرف هذا العمر في طاعة الله تعالى, ومع ذلك انظروا كيف نتلف هذه الأمانة في رمضان خاصة, ما لم نتلفها في غيره! ففي رمضان اعتدنا على أن الليل للسهر, والسهر على ماذا؟! لا أحتاج إلى أن أجيب, لأن بإمكان أي واحد أن يأخذ جولة على عدد من الشوارع والمناطق خارج البلد, وفي حدود البلد, ليرى أكواماً هائلة من المجموعات من الشباب قد اجتمعوا على أمور بعضها محرم, مثل مشاهدة التلفاز وما فيه من أغانٍ، وموسيقى، ومسلسلات أحياناً رديئة, وبعضها على غيبة ونميمة, وبعضها على لعب كرة, وبعضها على أمور لا جدوى منها, ويظلون هكذا طيلة الليل! وربما أسعد لحظة عندهم في رمضان هي تلك اللحظة! ولا يتذكرون من ذكريات رمضان إلا تلك الليالي، التي قضيناها في مكان كذا، أو في محل كذا, نلعب، أو نتحدث، أو ما أشبه ذلك! فإذا جاء النهار تحولوا إلى نيام, لا يعون ما حولهم, وربما ينام أحدهم حتى عن الصلوات, فأين رعاية الأمانة التي اؤتمن عليها الإنسان؟! - الرسول في رمضان: وحتى تدرك خطورة هذا الأمر انظر كيف كان الرسول عليه الصلاة والسلام في يومه في رمضان، حتى كأنني أتصور الرسول عليه الصلاة والسلام على مدى يوم كامل في رمضان, ماذا كان يفعل؟ قبل صلاة الفجر كان عليه الصلاة والسلام يتسحر، ولم يكن بين سحوره وبين صلاته إلا وقت يسير، قدر قراءة خمسين آية, ثم يصلي بالناس عليه الصلاة والسلام, ثم كان يجلس كالعادة في مصلاه بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس, ويصلي ركعتين, كما ثبت في صحيح مسلم، أنه كان يفعل ذلك عامة، وهو في رمضان خاصة, لكن رمضان كغيره في ذلك, ثم يصلي ركعتين، ثم كان عليه السلام يسافر في نهار رمضان للجهاد, كما سافر في غزوة بدر, وفتح مكة وغيرها, وكان يجلس للسائلين والمستفتين, وكان يعطي السائلين والفقراء, وكان يكثر من تلاوة القرآن؛ حتى إنه كان يأتيه جبريل فيدارسه القرآن في كل ليلة, معنى ذلك أنه عليه الصلاة السلام كان يسهر في الليل مع جبريل لمدارسة القرآن, فيختم القرآن مع جبريل -يعني في رمضان- وفي آخر رمضان صامه عليه الصلاة والسلام, عارضه جبريل بالقرآن مرتين, كما ورد في الصحيح من حديث فاطمة رضي الله عنها, وكان يكثر من تلاوة القرآن, والصدقة، ومناصحة أصحابه, وأمرهم ونهيهم, وقلما كان ينام عليه الصلاة والسلام, بل كان نومه، فإذا جاءت العشر الأواخر حدث ولا حرج, أي أنه في أول رمضان كان يقوم وينام، لكن إذا جاءت العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه عليه الصلاة والسلام، فلا ينام ليلا أبداً! كان إذا دخل العشر شد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله, عليه الصلاة والسلام, فكيف تجد أن أتباع هذا النبي عليه الصلاة والسلام أصبح أرخص شيء عليهم هو الوقت! نجلس ليلة كاملة من بعد التراويح إلى وقت السحور على لعب ورقة, أو مشاهدة البرامج التافهة, أو سماع الكلام الرديء, أو لعب، وأحسن ما يقال فيه: أنه مباح! وقد يتعدى ذلك إلى أمور ممنوعة, هذا غير لائق.
فأنصح الإخوة بأن يرعوا الله حق رعايته، وأن يخافوا الله فيه, ينبغي أن يكون لك في الليل قدر تنام فيه؛ لأن نوم الليل لا يعادله شيء من نوم النهار, فتنام ما تيسر لك من الليل, ولو ثلاث ساعات أو أربع, حتى تكون في النهار طبيعياً، يمكن أن تجلس بعد الفجر في المسجد, وتؤدي الصلوات في أوقاتها, وتقوم بالعمل، سواء كنت موظفاً أو طالباً أو مدرساً, وتقرأ القرآن, أما كون الإنسان طيلة الليل سهراناً، فإنه في النهار حتى لو نام قبل السحور بنصف ساعة عندما يُوقظ للسحور يتمنى ألا يوقظ! فإذا أوقظ للصلاة يتمنى ألا يوقظ, فإذا أوقظ للعمل يتمنى ألا يوقظ! ويذهب يؤدي عمله بسرعة، ثم يرجع وينام؛ لأن وضعه غير طبيعي, وهذا لا يليق أبداً, ينبغي أن ننظم وقتنا في رمضان بصورة صحيحة، تجعل الإنسان يستفيد من شهره.
وأهم قضية هي أن ينام الإنسان من ليله ولو قدراً يسيراً، بقدر ما يستطيع, ولا يسهر الليل كله, ومن المعروف أن السهر أصلاً لغير حاجة مكروه، حتى في غير رمضان {وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل صلاة العشاء, ويكره الحديث بعدها} ويقول عليه الصلاة والسلام: {لا سمر -يعني سهر- إلا لمصلٍ أو ذاكر أو مسافر} مثل طالب العلم, أو الذي يسهر مع ضيوفه, أو مع أهله، في أمور خاصة, فهذا لا حرج فيه, أما سهر لا طائل وراءه فالأصل أنه مكروه في غير رمضان، فما بالك في رمضان!.
إخواني الكرام: رمضان فرصة لا تعوض, لأن نجدد العهد مع الله جل وعلا, ونصحح أوضاعنا, ونصفي قلوبنا، وفرصة لأن نصلح ما فسد من أمورنا, والخائب كل الخيبة من خرج منه رمضان فعاد كما كان.
نسأل الله أن يقبل منا ومنكم الصيام والقيام, وأن يغفر لنا ولكم الزلل والإجرام, ويمحو عنا الذنوب والآثام, إنه هو الحي القيوم القيَّام.
اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة, اللهم اهدنا صراطك المستقيم, اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا, اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.(155/15)
أمانة تربية الأولاد
قد يكون الكثير منكم أيها الإخوة -والكثير منكن أيتها النساء- قد يأتي في رمضان إلى المسجد أحياناً ليعبد الله، لكن عنده أولاد كبار وصغار, ترك الحبل لهم على الغارب, يسرحون ويمرحون في الشوارع, ويتعرضون للمارة, ويلعبون فيما بينهم, ويختلطون بمن هم أكبر منهم سناً, وقد يتدربون على تعاطي المخدرات, وقد يتدربون على الفساد الأخلاقي, والانحلال واللواط, والجرائم وغيرها! وقد يتدربون على السرقة, وقد يتعرضون لحوادث اختطاف، أو إيذاء، أو اعتداء, أو غير ذلك! وهذا ليس من رعاية الأمانة, لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته} فيفترض أنك في رمضان تضاعف من اهتمامك بأولادك باعتبارهم أمانة! وحفظ الأبناء يتمثل في الآتي: - تعليمهم العبادة الحقيقية: ومن الاهتمام بهذه الأمانة أن تدربهم على العبادة الحقيقية, فتدربهم على الصيام مثلاً, لأن كثيراً من الأولاد والبنات يبلغون حوالي عشر أو إحدى عشرة سنة، وخاصة من الفتيات، تبلغ ولا تصوم, لماذا؟! لأنها تستحي أن تقول لأهلها إني قد حضت! وربما لا تعرف الأحكام, وبعض البنات قد تبلغ لتسع سنين, أو عشر سنين, أو إحدى عشرة سنة, أو اثنتا عشرة سنة, وأهلها ينظرون إليها على أن هذه طفلة, لا يراقبونها, ولا يراعونها, ولا يعرفون أحوالها, وكثير من هؤلاء الفتيات بعدما تبلغ سن العشرين والثلاثين, تتصل وتسأل، وتقول: أنا يوم كنت صغيرة بلغت وما صمت سنتين أو ثلاث سنوات, والأهل لا يدرون, وهي لا تعرف الحكم, أو ما أشبه ذلك, أو تكتم الأمر عن أهلها أحياناً! وحتى من لم يبلغوا الحلم ينبغي أن يعودوا على الصيام، سواءً أكان ابن عشر, أم إحدى عشرة, أم اثنتا عشرة, فإنه يعود على الصيام حتى إذا لم يبلغ الحلم، ولو بعض الأيام, وفي صحيح مسلم من حديث الرُّبيع بنت معوذ: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الناس بالصيام في يوم عاشوراء, قالت: فكنا نصوم ونُصَوِّمُ صبياننا} حتى إن الصبي إذا صاح محتاجاً إلى الطعام والشراب، يعطونه اللعبة من العهن وهي لعبة مصنوعة من صوف, أو من قطن, ويجعلونه يلعب بها ويتلهى بها، حتى يأتي موعد الإفطار, هذا في يوم عاشوراء, فما بالك بشهر رمضان؟! ويعود الصبي الصلاة، فتأخذه معك إلى المسجد, وتعلمه آداب دخول المسجد, وآداب الصلاة, وآداب الخروج, وآداب القراءة, أما أن تأتي وتترك أولادك وبناتك، لا تدري ماذا يحدث لهم، فهذا خطأ كبير.
- عدم تركهم لوحدهم: ومما يلتحق بهذا بل هو أشد منه خطورة أن كثيراً من الآباء يسافرون إلى العمرة، خاصة في العشر الأواخر من رمضان, والعمرة لا شك فيها فضل عظيم، ويكفي في فضلها أن الله تعالى أمر بها فقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصارية: {إذا كان رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة معي} والحديث في صحيح البخاري ومسلم , وهذا فضل عظيم أن تكون كأنك حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشهدت معه المشاهد, ووقفت معه بـ عرفة, وصليت وراءه، هذا فضل عظيم, لكن هل يصح أن يذهب الأب مثلاً بأسرته إلى مكة، وعنده بنات بالغات, مراهقات, ربما غير مؤدبات, ولا مُعلَّمات, ولا واعيات, ولا مدركات, فيذهب هو، وربما يعتكف في الحرم, ويترك الحبل على الغارب لهؤلاء البنات في الأسواق؟! في البيع والشراء, ومعاكسة الشباب, والتسكع حتى في داخل الحرم! كم تؤذي كثير من النساء الصالحين والمعتمرين بمظهرها، وشكلها وسفورها وتبرجها، وروائحها إلى غير ذلك! إنني أذكر أن بعض الشباب من الصالحين, بل ومن المتزوجين، رأيتهم وقد رجعوا من الحرم إلى بلادهم, وشفاههم يابسة, ووجوههم مكفهرة, ونفوسهم حزينة, وكأنني أعرف ماذا يريدون أن يقولوا! يريدون أن يقولوا: أتينا إلى هذا المكان, أتينا إلى بيت الله الحرام نريد سعادة النفس, والقرب من الله تعالى, والعبادة الصالحة, فإذا بنا نفاجأ أن بعض النساء اللاتي لا خوف عندهن من الخالق, ولا رقابة عليهن من المخلوق, قد لوثن هذا الجو، وهذه البيئة! فأصبح الإنسان يجد مناظر مثيرة ومؤثرة, فما بالك بالشباب غير المتزوجين؟! هل هذا من الأمانة التي كلفت برعايتها؟! وهل يتناسب مع كرامة شهر رمضان أن تتوجه أنت للعبادة وتترك من وراءك! هذا غير صحيح.(155/16)
الاهتمام بالشكليات والمظاهر
السلبية الثانية: هي أن كثيراً من الناس صاروا يهتمون بالشكليات والمظاهر ولا يهتمون بالحقائق, والدين حقائق ومظاهر, لسنا نقول: إن الدين حقيقة فقط, بل الدين حقيقة ومظهر, فالإسلام جاء لتربية القلوب والضمائر والنفوس، وإيجاد الحب والبغض في الله, وإيجاد محبة الله, والرجاء فيما عنده, والخوف من عقابه, كذلك الدين جاء لتربية المظهر, ولذلك تجد أن الإسلام أمر بإعفاء اللحية, وأمر بتقصير الثوب بالنسبة للرجل, وبالنسبة للمرأة أمرها بالتستر والتصون والعفاف.(155/17)
تدبر القرآن لا كثرة التلاوة
قل مثل ذلك في القرآن الكريم، فقد اعتاد الناس أن الإنسان يستحب أن يختم القرآن في رمضان, أقصد بمفرده، كل واحد منا حريصٌ على أن يختم في رمضان ثلاث أو أربع أو ست مرات، وهذا لا شك أنه حسن، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل, وكان يلقاه في كل ليلة فيدارسه القرآن, قال: ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} .
ومن هذا الحديث أخذ أهل العلم أنه يستحب للإنسان أن يختم القرآن في رمضان ما تيسر له, بقدر ما يطيق، وأن يكثر من تلاوة القرآن في رمضان؛ وذلك لأن رمضان هو شهر القرآن قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] فيه نزل القرآن، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا, وفيه ابتدأ نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيستحب للعبد أن يكثر من قراءة القرآن وتلاوته ومدارسته, إما بنفسه أو مع الصالحين من عباد الله, لكن يقرأ القرآن بخشوع كما أنزل, ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما قام ليلة كاملة بآية واحدة من كتاب الله يرددها حتى الصباح, وهكذا كان أصحابه من بعده.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع القرآن بكى! كما في الصحيح عن ابن مسعود أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: {اقرأ عليّ القرآن، قلت: يا رسول، أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري قال: فقرأت عليه من سورة النساء, حتى أتيت على قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك الآن قال: فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فإذا عيناه تذرفان} فكان عليه الصلاة والسلام يبكي ويخشع لقراءة القرآن, وكذلك الصالحون من بعده عليه الصلاة والسلام, فكان أبو بكر إذا صلى بالناس صلاة الفجر بكى حتى يسمع نشيجه من وراء الصفوف, وربما خنقته العبرة حتى لا يدري من وراءه ماذا يقرأ أبو بكر رضي الله تعالى عنه من القرآن! بل عمر رضي الله عنه القوي الشديد الأيّد, كان يخشع للقرآن أعظم الخشوع, حتى ربما قرأ آية من كتاب الله فاهتز لها واضطرب, وجلس في بيته مريضاً أياماً يعاد.
- حال الناس مع القرآن: أما أن يكون هم الواحد منا متى يصل إلى آخر السورة, أو آخر الجزء، أو آخر القرآن ومتى يختم! وربما هَذَّ القرآن هذّاً كهذّ الشعر, لا يقف عند وعده ووعيده, وحلاله وحرامه, ومعانيه, بل يهذّه هذا، لا يدري ما معنى القرآن, ولا يعتبر به ولا يتأثر! , فلا شك أنه ليس لهذا أنزل القرآن, والله عز وجل يقول: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ويجب أن نعلم -أيها الإخوة- علم اليقين أن القلب الذي يسمع آيات الله عز وجل, ثم تتلى عليه ولا يتأثر ولا ينكسر ولا يخشع, أنه قلب مريض إن لم يكن قلباً ميتاً، قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية:7-8] وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] أليس من العجب وكل العجب أن نبكي عند دعاء القنوت؟ -مثلاً- وتسكب العبرات، وربما ارتفعت الأصوات والصيحات! وقبل ذلك بدقائق كنا نسمع الآيات البينات المزلزلات، التي لو أنزلت على الجبال الراسيات؛ لتصدعت من خشية الله عز وجل، ثم لا ترق قلوبنا، ولا نتأثر ولا ندمع ولا نبكي! أين نحن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} هذا البكاء الذي نتصنعه أحياناً وربما نتأثر به بسبب حسن الصوت وجماله، أو خشوع الإمام, يجب أن نعلم أن هذا البكاء قد يدخل أحياناً في باب الرياء, لأن التكلف والتعمل من خلال الاجتماع، وارتفاع الأصوات له تأثير، والشيء الذين ينفعك عند الله هو الحقيقة التي ليس فيها بهرج ولا خداع ولا رياء ولا مجاملة, وإنما لله, ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعين التي يخرج منها، مثل رأس الذباب، من البكاء من خشية الله، لا تمسها النار, كما قال عليه الصلاة والسلام لكن ما يدريك أن بكاءك من خشية الله؟! إذاً: يجب ألا نغفل عن حقيقة العبادة، سواء حقيقة الصيام, أم حقيقة الصلاة, أم حقيقة قراءة القرآن, ولا شك أن أربع تسليمات، أو خمس تسليمات، تستغرق فيها ساعة كاملة في خشوع, وطمأنينة في القيام والركوع والسجود, أفضل من أربعين ركعة في نفس الساعة ليس فيها خشوع ولا طمأنينة ولا تسبيح ولا ذكر لله عز وجل.
ولا شك أن ساعة تقضيها في قراءة نصف جزء من القرآن بتدبر وتمعن وتعيد الآية التي تتأثر بها, وتحاول أن تعرض الآيات على قلبك، أفضل من نفس الساعة التي تقرأ فيها جزأين أو ثلاثة، هذّاً كهذِّ الشعر, إنما همك رأس السورة أو رأس الجزء, أو متى تختم القرآن!(155/18)
الدين مظهر ومخبر
إذاً: الدين مظهر ومخبر, لا يقتصر على شيء دون شيء, لكن بعض الناس مع الأسف أخذوا من الدين مظهره ونسوا منه مخبره, ويتجلى هذا في شهر الصيام, حينما ننظر في هذه العبادة التي يختص بها شهر رمضان، وهي الاجتماع على صلاة التراويح والقيام, تجد أن كثيراً من الناس لا يفهمون من هذه العبادة حقيقتها أنها إقبال على الله بالقلب والروح, وخشوع له, وتمسكن, وأن يضع الإنسان أعز وأشرف ما فيه (جبهته) في الأرض لله عز وجل، إنما يفهمون أنه وقت يقضونه في العبادة! ولذلك تجد كثيراً من الناس يسلكون مسلك الاستعجال في العبادة, في صلاة التراويح، فما بين قيام وركوع وسجود, المهم أيهم ينتهي أولاً! وكثيراً ما تجد في المساجد أناساً يتسابقون في صلاة التراويح، وربما يقرأ الإمام آية واحدة أو آيتين, فإذا قرأ نصف وجه اعتبر مطيلاً للصلاة! وحدثني بعض الشباب الثقات أنه في بعض البلاد، كان الإمام يقرأ في كل ركعة آية واحدة من قصار الآيات, فمثلاً يقرأ في الركعة الأولى (ألم) الله أكبر, ثم يقوم في الركعة الثانية فيقول: (ص) الله أكبر, وهكذا طيلة الشهر الكريم! يقرأ آية واحدة من قصار الآيات, بل ربما يقرأ من الحروف المقطعة في أوائل السور ثم يركع ويسجد, وكثير من الأئمة لا يتمكن الذين يصلون خلفه من قراءة الفاتحة, ولا من التسبيح في الركوع والسجود, ولا من قول "ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه" ولا من قراءة التشهد في جلسة التشهد, ولا من غير ذلك, فهو يسرع, المهم: أنه متى ينتهي من الصلاة! ولا شك أن هذا أَخْذٌ بشيء من مظهر العبادة، وغفل عن جوهرها, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان وغيره إحدى عشرة ركعة, يطيلهن ويتمهن، ويطيل القراءة فيهن, ومن بعده كان أصحابه لما جمعهم عمر رضي الله عنه على صلاة التراويح، كانوا يطيلون القيام حتى يتكئون على العصي من طول القيام! فالعبادة ليست عبثاً أو لعباً أو لهواً, العبادة خشوع ووقوف بين يدي الله تعالى, ولا بد أن يكون الإنسان محتسباً لهذه العبادة, أما أن تتحول العبادة إلى تسابق ومسارعة, فهذا لا شك أنه لا يجوز.(155/19)
من أخطاء النساء في رمضان
السلبية الثالثة التي أود أن أنبه عليها وهي: تتعلق بأوضاع الأخوات المسلمات في هذا الشهر الكريم, ولا شك أن شهر رمضان مميز بالنسبة للمرأة المسلمة, فإننا نعلم أنه فرصة لخروج النساء إلى المساجد لصلاة التراويح, والقيام والذكر وسماع القرآن والمواعظ, وهذه ناحية طيبة, وينبغي الاستفادة منها، وحبذا أن يقوم الأئمة والوعاظ، والمرشدون بالعناية بالمرأة, لأننا نعلم أن هناك كيداً عالمياً مدبراً لإخراج المرأة المسلمة من بيتها, وإخراجها من دينها, ومحاولة إخراجها من عفافها، وطهرها، وحيائها أيضاً, فهي فرصة لا تعوض أن يستثمر الأئمة والدعاة والخطباء والمرشدون فرصة خروج النساء إلى المساجد في رمضان، للوعظ والتوجيه, ولكنني أود أن أشير فيما يتعلق بموضوع النساء إلى بعض السلبيات والأخطاء التي تقع فيها بعض الأخوات.(155/20)
الخروج بالثياب المثيرة المعطرة
الناحية الثانية: أن بعض النساء تخرج بثياب جميلة مثيرة جذابة, وهذا لا شك أنه محرم أيضاً, فإن المرأة إذا خرجت يجب أن تخرج بعيدة عن الزينة، كما قال عليه الصلاة والسلام: {وليخرجن وهن تفلات} أي: بعيدات عن الزينة, والتبرج بها, ومن النساء من تخرج متطيبة أيضاً، وروائح عطرها تفوح على مسافة أمتار! وهذا لا يجوز, فإنها إن كانت خرجت فعلاً للصلاة فيجب أن تدرك أنها لا يجوز أن تكون كمن يبني قصراً ويهدم مصراً, تصلي خمس تسليمات أو أكثر, ولكنها ارتكبت عشرين منكراً في خروجها هذا! وبعض النساء تأتي بالطيب معها إلى المسجد, سواء كان من الطيب الذي يبخ, أو من البخور أو غيره, فتوزعه على زميلاتها وأخواتها في المسجد! وهذا أيضاً من الطيب الذي لا يجوز تعاطيه في المسجد، ولا يجوز تعاطيه لمن أرادت الخروج من بيتها, سواء خرجت للمسجد أو لغير المسجد.(155/21)
الخروج بالصبيان الصغار
بعض الأخوات تخرج ومعها صبيانها الصغار, دون أن تعتني بهم, أو تراعيهم, بل تأتي بهم وتتركهم في المسجد, فيحدث من جراء ذلك إزعاج، وأصوات، وإيذاء للمصلين والمصليات, وربما هي نفسها لا ترتاح في صلاتها، لأنها لا تدري أين ذهب أولادها, فتخاف عليهم, فربما تصلي وقلبها معهم, وربما قطعت الصلاة بحثاً عنهم, وربما حصلت مفاسد عديدة من جراء ذلك, فعلى الأخت المسلمة إما أن تضع أولادها في أيدٍ أمينة, لتطمئن إلى وجودهم عندها, وإما أن تجلس عندهم هي وتراقبهم في بيتها، وتصلي ما شاء الله لها, فإن صلاة المرأة في بيتها أفضل لها من صلاتها في المسجد, وهذه القضية يجب أن تعلن، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن} وأين قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قاله في المدينة, يعني صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد النبوي, مع أن صلاتها في المسجد النبوي أفضل من صلاتها في سائر المساجد بألف صلاة, فما بالك أيتها المسلمة بصلاتك في بيتكِ في غير المسجد النبوي.
والحمد لله رب العالمين.(155/22)
الخلوة بالسائق الأجنبي
فأولاً: فيما يتعلق بالخروج إلى المسجد, لا شك أن ما عند الله لا ينال بمعصيته, وبعض الأخوات كما بلغني وعلمت ذلك, تقدم من بيتها مع السائق الأجنبي ليوصلها إلى المسجد, دون أن يكون معهما شخص ثالث! وهذه خلوة , فإن السيارة خلوة إذا أغلقت النوافذ, أو حتى لم تغلق، فإن بإمكان المرأة أن تخاطب الرجل, ويخاطبها بما يشاء, وقد يترتب على ذلك مفاسد عديدة، كيف لا والشيطان ثالث! كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام, فإذا كنت أيتها المسلمة خرجت لابتغاء ما عند الله, فاعلمي أن ما عند الله لا ينال بمعصيته, فلا يجوز أن تخرجي مع السائق الأجنبي عنك, سواءً أكان أجنبياً، أم قريباًَ لكِ ولكنه أجنبي من الناحية الشرعية, كأن يكون ابن عم, أو ابن الخال, أو من الجيران, أو ما أشبه ذلك, لا يجوز أن تخرجي معه إلى المسجد.(155/23)
تلكم السكينة
إننا نعيش في هذه الأيام في عصر القلق والاضطراب، والأمراض النفسية التي لم تكن موجودة من قبل، وذلك دليل على أن الإيمان بالله تعالى إيماناً كاملاً لم يرسخ في النفوس والقلوب ولم يكتمل فيها الاكتمال المطلوب، لذلك لابد من الإيمان بالله تعالى، الإيمان الصحيح حتى تحصل السكينة والاطمئنان، لذلك فقد تكلم الشيخ سلمان -حفظه الله تعالى- عن هذا الموضوع، وأحاط به، فعرف السكينة، ثم ذكر أنواعها، وذكر حاجتنا إلى السكينة، وأنها حاجة ملحة في جميع أحوالنا وأعمالنا، ثم أجاب على الأسئلة.(156/1)
انتشار القلق والاضطراب في هذا العصر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه ليلة الخميس من هذا الشهر المبارك الكريم، نسأل الله أن يجعله شهر خير ورحمة لنا ولكم وللمسلمين أجمعين.
أيها الإخوة الكرام: هذا العصر الذي نعيش فيه يتميز بأنه عصر القلق والاضطراب والأمراض النفسية التي عبثت بالناس أيما عبث، فأصبحت تجد في كل مدينة وقرية ومستشفى قسماً خاصاً للأمراض النفسية، وعيادات مخصصة للأطباء النفسانيين، يتردد عليها مئات بل ألوف من الناس، لا أقول من الفقراء والمعدمين، بل منْ علية القوم، من أهل الجاه والثراء والنفوذ والقوة، ممن يملكون بأيديهم الدنيا ولكنهم لم يجدوا للسكينة والسعادة في قلوبهم موضعاً، فهو عصر القلق والاضطراب والحيرة والتردد.
وكان من ثمرات ذلك أن نسبة المنتحرين في العالم تزداد يوماً بعد يوم، وكلما تقدم الناس في المادة والثراء، وارتفع دخل الفرد، ازدادت نسبة المنتحرين، ففي أكثر دول العالم ومناطقه ثراءً يكون أكثر معدل للانتحار، هذا فضلاً عن غيره من مظاهر القلق الموجودة في العالم، فهو بحق عصر القلق.(156/2)
هذا العصر هو عصر السرعة
كما أن الميزة الأخرى المرادفة لهذه الميزة هي كما يقولون: بأنه عصر السرعة، فالناس فيه يركضون كأن وراءهم شيئاً يلاحقهم أو يطاردهم، وهم يبحثون عن لا شيء، أو يبحثون عن شيء لا يستطيعون أن يحددوه بالضبط.
فتجد كثيراً من الناس يركضون ويلهثون، ولكن الواقع أنهم لا يعرفون طريقهم، ولا يدرون إلى أين يتجهون، ولأجل علاج كل الأمراض التي يعانيها كل الناس؛ شرع الله تعالى العبادات، سواء كان ذلك في الصيام أو الصلاة أو الحج أو الذكر، أو غيرها من العبادات، من أجل أن تكون السكينة مستقرة في قلوب الناس، فيكون الإنسان ليس في حال الغنى والأمن والثرى والجاه والنفوذ سعيداً، لا، بل حتى في حال الفقر والمرض والخوف والقلق مطمئناً هادئ القلب؛ لأنه يتلمس السكينة في قلبه.(156/3)
ثمرة من ثمرات عدم الإيمان بالله تعالى
من المؤسف جداً أن هذا القلق الذي يعيشه الناس، إنما يعالجه أطباء هم في كثير من الأحيان في أمس الحاجة إلى من يعالجهم أيضاً، لماذا؟ لأن القلق هو ثمرة من ثمرات عدم الإيمان بالله عز وجل، والبعد عن طريقه وهدايته وأنوار الوحي التي أنزلها الله تعالى على رسله وأنبيائه، فمن قال أن طبيباً نصرانياً أو ملحداً أو كافراً يفلح في علاج حالات القلق هذه؟! بل إن المريض يخرج من عنده وقد ازداد قلقاً وحيرةً وتردداً.
وقد بلغني أن من يسمون بالأطباء النفسانيين يدخل عليهم المريض أو تدخل عليهم المريضة، فيبدءون يحادثونهم في قضايا الدين، ويشككونهم في دينهم وفي عقائدهم وفي أخلاقهم وفي سلوكهم، حتى يخرج المريض وهو مصاب بمرض -فضلاً عن مرضه الأول- الشك.
فهؤلاء المرضى الذين يسمون بالأطباء هم بحاجة إلى من يعالجهم وكما قيل: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم كما أننا نجد كثيراً من الناس يذهبون إلى من يعالجونهم بقراءة القرآن والأدعية والأذكار والرقية الشرعية، وهذا لا شك علاج حسن متى كان مقتبساً من نور النبوة والسنة الصحيحة، فضلاً عن أعداد كثيرة من المرضى الذين يذهبون إلى المشعوذين والدجالين والمرتزقة، الذين يمدون أيديهم بالباطل إلى جيوب الناس بحجة العلاج، ويذهب أعداد كبيرة من الناس إلى من يدَّعون أنهم كهان، أو إلى من يدَّعون أنهم عرافون، يزعمون علم شيء من الغيب، وهؤلاء وأولئك كلهم همهم أن يأخذوا أموال الناس بالباطل، فهذه ميزة من ميزات هذا العصر.(156/4)
تعريف السكينة وأنواعها
فيا ترى ما هي السكينة؟! السكينة هي: طمأنينة القلب واستقراره.
وأصلها في القلب ثم تفيض بعد ذلك على الجوارح، فترى على جوارح الإنسان المطمئن بذكر الله تعالى وعبادته أثر السكينة والهدوء والخشوع، وهي أنواع:(156/5)
السكينة التي تكون حال الحج
وكذلك تكون السكينة في حال الحج أيضاً، ولذلك أفاض النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة، وعليه السكينة، ومعه ما يزيد على مائة ألف حاج، فكان يقول: {أيها الناس عليكم بالسكينة، عليكم بالسكينة، عليكم بالسكينة} كما في الصحيحين.
فأفاض النبي عليه الصلاة والسلام وعليه السكينة وأمر أصحابه بالسكينة وبالهدوء الذي يتناسب مع حرمة الحج وحرمة العبادة.
إذاً: هذه السكينة مطلوبة من العبد في كل حال وينبغي للإنسان أن يحرص عليها في حال العبادة كما يحرص عليها في جميع الأحوال.(156/6)
السكينة التي تنزل حال الصلاة
وكذلك السكينة تنزل حال الصلاة، وينبغي للعبد أن يحرص عليها، ولهذا جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا} فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يركض الإنسان إلى الصلاة، وأمر أن يأتي للصلاة وعليه السكينة؛ لأن العبادة ينبغي أن يقبل عليها العبد بهدوء وبسكينة وبطمأنينة نفس، أما الإنسان الذي يلهث من شدة الركض والعناء؛ فإنه لا يقبل على صلاته كما ينبغي.
ولهذا جاء في البخاري، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: {أنه جاء والرسول صلى الله عليه وسلم راكع، فأسرع وقد حفزه النفس، ثم ركع ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم سأل من الذي أتى وهو راكع؟ فقال: أنا يا رسول الله، وذكر له الحال.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً ولا تعد} لا تعد لمثل هذا وائت إلى الصلاة وعليك السكينة والوقار، فما أدركت فصل وما فاتك فاقض.(156/7)
السكينة التي تنزل حال نزول القرآن
ومنها السكينة التي تنزل حال نزول القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي تغشته السكينة، ولهذا روى أبو داود عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: {بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم وكنت إلى جنبه فغشيته السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، قال: فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترض فخذي -كما في بعض الروايات- من شدة ثقلها} .
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغشاه من شدة الوحي شيء عظيم حتى يتفصد من جبهته عرقاً في اليوم الشاتي من ثقل الوحي عليه، فوقعت فخذه صلى الله عليه وسلم على فخذ زيد، قال: {فما رأيت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ثم سريَّ عنه فأملى عليَّ وقال: اكتب.
قال: فكتبت في كتف كان معه قول الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله} [النساء:95] قال: وكان في المجلس عبد الله بن أم مكتوم، وكان رجلاً أعمى، فلما سمع فضل الجهاد والمجاهدين قام وقال: يا رسول الله! فكيف بمن لا يستطيع الجهاد كالأعمى والأعرج والمريض وغيرهم، قال: فنزلت السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغشيته مرة أخرى، ووقعت فخذه على فخذي، فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ثم سريَّ عنه فقال: اكتب.
قال: فكتبت {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله} [النساء:95] فاستثنى الله تعالى أولي الضرر، كالأعمى والأعرج والمريض، كما قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح:17] } .
المهم: أن السكينة كانت تنزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، عند نزول الْمَلَك عليه بالقرآن، وكذلك كانت السكينة تنزل عند قراءة القرآن، كما في الصحيحين، في قصة أُسيد بن حضير رضي الله عنه -وهو من كبار الأنصار- أنه كان ذات ليلة يصلي صلاة الليل في مربد، فقرأ سورة البقرة -وفي رواية في الصحيحين أنه قرأ سورة الكهف- وكانت الخيل مربوطة قريباً منه، فقرأ ورفع صوته بالقرآن -وكان حسناً جميل الصوت- فجالت الفرس وبدأت تذهب وتقبل وتدبر، حتى خشي أن تفك رباطها، وكان ولده يحيى إلى جنبه -وهو طفل صغير- فخشي عليه من الخيل، فسكت عن قراءة القرآن فسكنت الخيل، فعاود القراءة بعد ذلك، فجالت الفرس وبدأت تقبل وتدبر، حتى خشي على ولده فسكنت، فرفع صوته بالقرآن مرة أخرى، فتحركت الخيل وجالت حتى خشي على ولده فسكت، ثم صلى فرفع رأسه إلى السماء، فإذا مثل الظلة فوق رأسه، وإذا فيها أمثال المصابيح.
فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله! إنه حصل البارحة كذا وكذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {اقرأ يـ ابن حضير اقرأ، قال: فقرأت يا رسول الله، فجالت الخيل حتى خشيت على ولدي يحيى فسكت، قال: اقرأ أبا يحيى قال: فقرأت يا رسول الله، حتى جالت الفرس، فخشيت على ولدي فسكت، قال: اقرأ أبا يحيى، قال: قرأت يا رسول الله حتى خشيت على ولدي فسكت، قال صلى الله عليه وسلم: تلك السكينة -وفي رواية: تلك الملائكة- تنزلت لقراءة القرآن ولو قرأت؛ لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى عنهم} فنزلت السكينة، ونزلت الملائكة لقراءة أسيد بن حضير رضي الله عنه القرآن الكريم.
1- أسباب نزول الملائكة: وإنما كان نزول الملائكة لأسباب: السبب الأول: هو عَظَمَةُ ما قرأه أسيد سواء كان قد قرأ سورة البقرة أم سورة الكهف، فأما سورة البقرة فهي الزهراء التي لا تستطيعها البَطَلَة ولا يدخل الشيطان بيتاً قرأت فيه، وأما سورة الكهف فهي السورة العظيمة، التي بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من قرأها في جمعة أضاءت له ما بينه وبين الجمعة الأخرى.
السبب الثاني: أن القارئ كان يفهم معنى ما يقرأ ويتأثر به ويخشع له، فكان هذا سبباً وجيهاً لنزول الملائكة ونزول السكينة.
السبب الثالث: أنه كان يرفع صوته بقراءة القرآن، وكأنه -والله أعلم- كان حسن الصوت بالقرآن، كما كان أبو موسى واستمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة إلى قراءته، فأنصت وأُعجب بقراءته أيما إعجاب وقال له: {يا أبا موسى، كيف لو رأيتني وأنا أستمع إلى قراءتك البارحة؟! لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود -صوتك بالقرآن جميل جدُّ جميل- فقال: يا رسول الله، والله لو علمت أنك تسمعني؛ لحبَّرته لك تحبيراً} أي: لزينته وحسنته أكثر مما زينته.(156/8)
السكينة التي تنزل عليهم عند القيام بالعبودية
ومن السكينة التي تنزل على أتباع الأنبياء، السكينة التي تنزل عليهم عند القيام بوظائف العبودية لله عز وجل، من ذكر وصلاة وصوم وحج وعبادة ونسك وغير ذلك.
وهذه السكينة تكون في حال أداء العبادات كالصلاة والصيام والحج، كما أنها تكون بعد ذلك أثراً من آثار العبادة في قلب المتعبد وجوارحه، ولذلك كانت العبادات تورث العابد الذل والخشوع لله عز وجل، وغض الطرف، واجتماع القلب على الله تبارك وتعالى، ومحبته والإخبات بين يديه، فمثلاً: السكينة حال الذكر جاء فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة، أنه عليه الصلاة والسلام قال: {وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله تعالى فيمن عنده} .
فإذا تجمع القوم على قراءة القرآن؛ نزلت السكينة من السماء على هؤلاء وغشيتهم رحمة الله عز وجل، ونزلت الملائكة فحفت بهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، تأنس بالقرآن وتستمع إليه من أفواه المؤمنين غضاً طرياً رطبا، كأنما أنزل الآن.(156/9)
السكينة التي تنزل عليهم في الجهاد في سبيل الله
منها أنه أنزلها عليهم في أصعب المواطن وأحرجها، وذلك في يوم الحديبية حينما رَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن دخول مكة وأصابهم من الهم والقلق ما أصابهم، حتى إن عمر رضي الله عنه وهو القوي المؤمن الصابر الجلد أصابه ما أصابه، ففزع وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يا رسول الله! أولسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى قال: أوليسوا بمشركين؟ قال: بلى.
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! قال: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني.
فلم يصبر فجاء إلى أبي بكر وقال: يا أبا بكر أولسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى قال: وأليسوا بالمشركين؟ قال: بلى.
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! قال يا رجل: الزم غرزه؛ فإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الله ناصره وحافظه} .
فحينئذٍ {جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح:26] {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] فأنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين أتباع رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مثل هذا الموقف القلق العصيب، ولهذا كانت السكينة تنزل على المؤمنين في مواقف الجهاد والقتال كما روى أبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه وأرضاه قال: {سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلنا في الجهاد خيل الله} لماذا؟ لأنها الخيل التي أوقفت في القتال في سبيل الله، وحملت المجاهدين الصابرين الذابين عن حوزة الإسلام، وأعراض المؤمنين، وبلاد الإسلام، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل الله {سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلنا خيل الله، وكان يأمرنا إذا فزعنا بالجماعة والصبر والسكينة} فإذا أصابهم الفزع والقلق والخوف، أوصاهم صلى الله عليه وسلم بالسكينة، وبالهدوء، وبالاطمئنان، وبالذكر الذي يحفظهم به الله تعالى، وكذلك إذا قاتلوا كان يأمرهم بالسكينة.
ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كانوا في حال المعارك وكانوا يرتجزون بالشعر، يسألون الله تعالى أن ينزل عليهم السكينة، فكان من حدائهم: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الذين قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا فيسألون الله تعالى أن ينزل السكينة في قلوبهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يردد وراءهم، يقول: {أبينا أبينا} والحديث في الصحيح.
فهذه السكينة التي تنزل عند أتباع الأنبياء في حال القتال والشدة والخوف من عدوهم، وهي لا تعارض القوة في الحق، فإن عمر رضي الله عنه -كان مشهوراً بالقوة والشدة- في يوم الحديبية كان يلحق ببعض المؤمنين، كـ أبي جندل -الذي خرج من المشركين- ويعطيه السيف ويقول له: يا أبا جندل، إنما هؤلاء مشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب! ويعطيه السيف، يعني: خذ السيف واقتل والدك؛ فإنه من المشركين، فكان عمر قد غضب غضباً شديداً في ذات الله عز وجل في ذلك الموقف، ومع ذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يرون أن السكينة تنطق على لسان عمر.
روى أحمد في مسنده، عن وهب السوائي قال: خطبنا علي رضي الله عنه، فقال لنا: [[من خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقيل له: أنت يا أمير المؤمنين قال: لا، خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنه، وإن كنا لنقول: إن السكينة تنطق على لسان عمر.
]] إذاً: عمر، القوي في الحق الذي يَفْرَق الشيطان من ظله، وإذا رآه قد سلك طريقاً سلك الشيطان طريقاً آخر، كانت السكينة تنطق على لسانه رضي الله عنه.
فليست السكينة ذلاً ولا تماوتاً ولا خضوعاً، وإنما السكينة طمأنينة في القلب، وإيمان بالرب جل وعلا، وثقة به وتوكل عليه مع القوة والجراءة في الحق.(156/10)
سكينة أتباع الأنبياء
سكينة الأنبياء يأتي دونها سكينة أتباع الأنبياء، التي يجعلها الله تعالى في قلوب الصديقين والمهتدين والمؤمنين، فيورثهم بدلاً من خوفهم أمنا، وبدلاً من فقرهم غنى، وبدلاً من ذلهم قوة وعزة، فهذه السكينة -سكينة أتباع الرسل- ينزلها الله عليهم في المواقف العصيبة، والشدة، والخوف، فيحفظهم بها من الشك والرَّيب، ولهذا أنزلها الله تعالى على صحاب نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة:(156/11)
سكينة الأنبياء
منها: سكينة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: 1- موسى عليه السلام: كالسكينة التي ألقاها الله على موسى عليه الصلاة والسلام في مواقف الشدّة، حينما لحق به فرعون وجنوده بغياً وعدواً، فقال بنو إسرائيل لموسى: يا موسى إنا لمدركون، البحر من أمامنا، والعدو من ورائنا، فإلى أين المفر؟ {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] وألقى الله تعالى في قلبه وفي قلوب المؤمنين معه السكينة، فازدادوا إيماناً مع إيمانهم.
ووجدها موسى عليه الصلاة السلام حينما خاطبه الله عز وجل، فلما أتى إلى تلك الشجرة التي وجد عندها النار، وقد تاه في الصحراء البعيدة، الظلماء المتسعة الأرجاء قال له الله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:11-16] فلما سمع كلام الرب عز وجل -وهو كلام عظيم، لا يقدر أحد قدره إلا الله عز وجل- ألقي الله في قلبه السكينة، مع أن الله إذا تكلم بالوحي أخذت السماوات رجفة لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، حتى إذا زال عن الملائكة ما وجدوا، وفُزِّعَ عن قلوبهم، قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، فسمع موسى كلام الله عز وجل بطمأنينة قلب، وثبات جأشٍ، وسكينة نفس، ألقاها الله عليه في مثل هذا الموضع.
كما ألقى الله عز وجل عليه السكينة حينما جاء إلى يوم الزينة وحشر السحرة، قال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:66-67] فألقى الله في قلبه السكينة حينئذٍ وقال له: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:68-69] .
2- إبراهيم عليه السلام: سكينة الأنبياء وجدها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حينما وُضع في فوهة المنجنيق، وقُذف به إلى تلك النار التي جلسوا يضرمونها أياماً وليالي، فوجد في قلبه السكينة والطمأنينة، وألقى الله في نفسه الهدوء والراحة حتى اكتفى بقوله: حسبنا الله ونعم الوكيل، قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين ((قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) [آل عمران:173]] ] فما عادوا يهتمون بأحد يجمع، أو يكيد، أو يحشد أو يستعد لهم، أو يحاربهم، حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] .
3- محمد صلى الله عليه وسلم: هذه السكينة سكينة الأنبياء وجدها محمد صلى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة مستخفياً فاراً بدينه إلى المدينة، ما معه إلا أبو بكر الصديق، فأووا إلى الغار هاربين مستخفين، فبحثت عنهم قريش حتى وصلوا إلى فم الغار، فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {والله يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى نعله لرآنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما} وقال الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40] فهذه السكينة التي وجدها النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وهما في الغار، وهما فريدان أعزلان مستخفيان، وجدا بردها في صدورهما، فرضيا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وآمنا أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه من حفظه الله فلا خوف عليه.
ووجدها صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وأحد والخندق، وفتح مكة وحنين، حينما كان الأعداء يكيدون له ويجمعون قوتهم، فكان صلى الله عليه وسلم يجد السكينة في قلبه، فيأتي إليه أصحابه وهم في حالة من القلق والفزع والخوف، فيطمئنهم ويصدرون عنه وهم في غاية السرور والرضا، فهذه سكينة الأنبياء.(156/12)
حاجتنا إلى السكينة
إن العبد -أيها الإخوة- محتاج إلى السكينة في كل ظروفه وكل أحواله.(156/13)
الحاجة إلى السكينة لدفع الشك في الإيمان بالله
فهو محتاج إلى السكينة في حال الوساوس التي تعترض الإيمان وتشككه بربه عز وجل، أو باليوم الآخر أو البعث والنشور، فإن هذه السكينة هي التي تحفظ قلب العبد بإذن الله تعالى من الزيغ والضلال، أما إذا ساق الشيطان العبد إلى هذه الوساوس والخواطر واستجره بها وأَجْلَب عليه بخيله ورَجِله، فإنه يُخشى على قلب العبد أن يزيغ ويفقد الإيمان بالله عز وجل، فيحتاج إلى السكينة في حال ورود الوساوس والخواطر، التي تداهم قلوب المؤمنين ولا يكاد يسلم منها أحد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وقد شكوا إليه ما يجدون: {أوجدتموه؟ قالوا: نعم.
قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة} وفي الرواية الأخرى قال عليه الصلاة والسلام: {ذاك محض الإيمان، ذاك صريح الإيمان} لأن الشيطان لا يوسوس في القلب الخرب، وإنما يوسوس في القلب العامر بالإيمان.(156/14)
الحاجة إلى السكينة لدفع الوساوس
قلب العبد محتاج إلى السكينة من الوساوس التي تعترضه في الأعمال الصالحة، من صلاة وصيام وحج وعمرة وغير ذلك، فيحتاج إلى السكينة؛ ليدفع الوساوس التي تعترضه في الأعمال، لئلا تتحول هذه الوساوس إلى هموم وغموم وأشياء تقلقه وتفسد عليه عبادته.
وكم من إنسان يشتكي من الوسوسة في الطهارة أو في النية، أو في الصلاة أو في الصيام -نية الصوم مثلاً- أو في خوف أن ينقطع صيامه، أو في أي عمل من الأعمال فضلاً عن الأعمال الأخرى، كأعمال البيع والشراء والنكاح والطلاق وغيرها، فكثيراً ما يشتكي الناس من ذلك؛ وما هذا إلا لفقد السكينة في قلوبهم.
ومن يكون في قلبه سكينة، وفي روحه إيمان، وفي نفسه إشراق، وله ورد من الذكر وورد من القرآن، وإقبال على الله عز وجل، وسكينة في قلبه؛ فإن الله تعالى يحفظ قلبه بهذه السكينة من وساوس الشيطان التي تهجم على أعماله الصالحة فتفسدها.(156/15)
الحاجة إلى السكينة حال الخوف
كما أن القلب والعبد محتاج إلى السكينة في حال الخوف؛ ليثبت قلبه ويسكن ويطمئن، فإن القلب قد يصيبه الخوف والهلع والفزع، فيفقد إيمانه بالله عز وجل وتوكله على الله، فيحتاج إلى السكينة حتى يزول هذا الخوف من قلبه، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله يقول: كان يصيبنا الخوف، فنأتي إلى الشيخ الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وإنه لغير مكترث، وكأن الأمر لا يهمه في قليل ولا كثير، فلا نخرج من عنده إلا وقد امتلأت قلوبنا طمأنينة وسكينة وثقة بالله عز وجل.
فيحتاج القلب إلى السكينة والطمأنينة في حال الخوف، سواء كان الخوف من غريب يطالبه بِدَين أم من عدو يخشى من بأسه وسطوته، أم من سلطان أو قريب أو بعيد، أو مرض أو غير ذلك، وما أكثر المخاوف التي تقلق قلوب الناس، بل إن الخوف هو من أعظم أسباب الأمراض النفسية التي أشرت إليها.
الخوف من المرض هو مرض بحد ذاته، ولهذا يحكى في الأساطير: أن رجلاً مر من عنده الوباء، فقال: إلى أين أنت ذاهب أيها الوباء؟ فقال: ذاهب إلى قرية كذا وكذا.
قال: ماذا أُمرت؟ قال: أُمرت أن أقتل منهم خمسة آلاف.
فلما رجع مر من عند الرجل فقال له: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من قرية كذا وكذا، قال: كم قتلت منهم؟ قال: خمسة آلاف، قال: لا، بل قتلت منهم خمسين ألفاً قال: لا، أنا قتلت خمسة آلاف أما خمسة وأربعون فإنما قتلهم الخوف والوهم!! فكثير من الناس يعيشون من خوف المرض في مرض، ومن خوف الداء في أعظم داء، حتى إن هذا المرض لا يكاد يوجد له علاج إلا الإيمان بالله عز وجل والثقة به والتوكل عليه.(156/16)
حاجة المؤمن إلى السكينة حال الفرح
كما أن العبد محتاج إلى السكينة في حال الفرح؛ لئلا يتجاوز هذا الفرح ما يحبه الله إلى ما لا يحبه الله، كما قال قوم قارون له {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] فالله عز وجل لا يحب الفرح الذي ينقلب إلى فسق وإلى فرح وإلى فساد وإلى اعتداء، وإنما الفرح المطلوب هو الفرح المعتدل الذي يكون بسبب صحيح، فحتى في حال الفرح، يحتاج الإنسان إلى السكينة؛ لئلا يتحول فرحه إلى فرح يبغضه الله عز وجل ولا يحبه ولا يحب أهله.(156/17)
حاجة المؤمن إلى السكينة في حال الألم
كما أن العبد محتاج إلى السكينة في حال الألم، فكم من إنسان يتلوى من شدة الألم والمرض الذي يعانيه، ومع ذلك يضع الله السكينة في قلبه؛ فيصبح وكأنه يتقلب على فرش الحرير والديباج، وفي أعظم نعمة؛ وذلك لأن الله تعالى متعه بنعمة الإيمان في قلبه، ونعمة السكينة في نفسه، ونعمة الثقة في ضميره؛ فأصبح مطمئناً إلى الله عز وجل واثقاً به راجياً ما عنده خائفاً من ذنبه، بخلاف أولئك الذين وهبهم الله تعالى وحباهم من العافية والصحة والمال والجاه والنفوذ والقوة، ومع هذا كله تجد في قلوبهم من القلق والفزع والهلع ما ذكرت لكم.(156/18)
حاجة المؤمن إلى السكينة عند أداء العبادة
كما أن العبد محتاج إلى السكينة عند أدائه للعبادة؛ لئلا تتحول عبادته إلى نوع من الاغترار والإعجاب بما وهبه الله عز وجل، فكم من إنسان تحولت عبادته إلى ذنب يعاقبه الله تعالى عليه في الدار الآخرة، وذلك لأنه أدل على الله تعالى بعمله، ورأى أنه قد عمل شيئاً يستحق به الجنة، ويستحق به رحمة الله عز وجل، فعاقبه الله عز وجل على ذلك.
وليس هناك باب يدخل منه العبد على الرب، أعظم من باب الذل والانكسار والاعتراف بالذنب، ولا باب يؤدي بالعبد إلى النار أعظم من باب العجب والغرور والإدلال بالعمل.
وفي الصحيح: {أن رجلاً من بني إسرائيل، كان عابداً، وكان يأتي إلى رجل مسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي، فيقول له: يا فلان، اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، فيقول له: خلّ بيني وبين ربي -أي: دعني وربي- فغضب منه العابد وقال: والله لا يغفر الله لفلان.
فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر له، فإني قد غفرت له وأحبطت عملك} .
فيا أيها العبد: إذا كان لسانك الذي تذكر به ربك، وجسدك الذي تستخدمه في طاعته، وعقلك الذي تفكر به، ومالك الذي تنفق منه، وكل ما بيدك، فإنما هو فضل امتنان من رب العالمين، فكيف تدل على الله تعالى بيسير شيء مما أعطاك الله؟! وكيف تدل على ربك، وإنما العبادة التي وفقك الله إليها هي نعمة منه عليك تستحق منك الشكر؟! فإن شكرتها بعبادة أخرى، كانت هذه العبادة الأخرى نعمة جديدة تستحق منك له الشكر وهكذا، فلا يزال العبد ينتقل من نعمة إلى نعمة، ومن شكر إلى شكر، ومن عبادة إلى عبادة.
اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، اللهم أنزل السكينة في قلوبنا، اللهم زدنا إيماناً على إيماننا، ووفقنا إلى ما تحب وترضى، واهدنا سواء السبيل، واهدنا ولا تضلنا، اللهم أصلح سرنا وعلانيتنا وظاهرنا وباطننا، وأصلح ذرياتنا ونياتنا وباطننا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم تقبل منا الصيام والقيام، اللهم تقبل منا القليل واغفر لنا الذنب الكثير يا حي يا قيوم يا قدير، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(156/19)
الأسئلة(156/20)
المقصود بانصراف الإمام الوارد في الحديث
السؤال
هل ننتظر الإمام حتى يقوم من مصلاه حتى يكتب لنا قيام ليلة، أو نخرج قبله؟
الجواب
الأولى أن تنتظر بعده وتستمع إلى الذكر والفائدة، لكن المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم {من قام مع الإمام حتى ينصرف كتبت له قيام ليلة} المقصود: حتى ينصرف من صلاته، أي: حتى ينتهي من صلاته.(156/21)
حكم بيع الدخان
السؤال
هل يجوز بيع الدخان في المحطات؟
الجواب
لا شك أن هذا لا يجوز، فإن الدخان محرم تعاطيه، وبيعه من التعاون على الإثم والعدوان، ولا يجوز لأصحاب المحلات بيع الدخان، سواء أصحاب المحطات أم غيرهم.(156/22)
أخذ إجازة اضطرارية لأداء العمرة
السؤال
هل يجوز أن آخذ إجازة خمسة أيام اضطرارية؛ لأداء العمرة؟
الجواب
لا يجوز لأحد أن يأخذ إجازة اضطرارية لأداء العمرة، وذلك لأن الإجازة الاضطرارية إنما تكون للضرورة، مثل إنسان عنده مريض أو ميت، أو حالة تستدعي أن يأخذ إجازة ولا بد له من ذلك والضرورة معروفه، أما أخذ إجازة للعمرة أو لسفر لا يلزم، فإنه لا يجوز، وكذلك السفر لإعداد العدة، من يسافر إلى أفغانستان مثلاً من أجل التدرب لإعداد العدة للجهاد، والتدرب على مقاومة أعداء الله تعالى، فإن هذا يمكن أن يأخذه الإنسان بغير إجازة اضطرارية، كأن يذهب إلى هناك في أوقات الإجازات العادية التي يتمتع بها الموظف، أو الإجازات العامة التي تكون للجميع.
هذا وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحب ويرضى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(156/23)
إسبال الثوب تحت الكعبين
السؤال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أسفل من الكعبين من الإزار، ففي النار} المشاهد على كثير من الناس، أنهم يصلون التراويح وهم مسبلو الأُزُر أرجو أن تقدم لهم النصيحة؟
الجواب
لقد قدمت يا أخي الكريم فما بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قول.
دعوا كل قول عند قول محمد {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} فهذا دليل على تحريم الإسبال إسبال الإزار أو السراويل، سواء كان هذا لخيلاء أم غيره، فعلى الإخوة أن يتقوا الله عز وجل ويرفعوا أزُرهم، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، رجلاً يمشي مسبلاً إزاره فقال له: {يا عمرو، إزارك فالتفت وقال: يا رسول الله، إني رجل حمش الساقين -أي في سيقانه تشويه- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمرو إن الله أحسن كل شيء خلقه} .(156/24)
نصيحة للكويتيين
السؤال
ما نصيحتك لنا نحن معشر الكويتيين بعد العودة -إن شاء الله- إلى الكويت من رجال ونساء؟
الجواب
النصيحة بعد العودة هي النصيحة قبل الخروج من الكويت، وهي ضرورة مراجعة المسيرة والعودة إلى الله تعالى من جميع الذنوب والمعاصي، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل بحسب ما يستطيع، وأن تجمعوا كلمتكم وتوحدوا صفكم، وتكونوا يداً واحدة على من ناوأكم وخالف أمركم، من دعاة الضلالة والعلمانية والشيوعية وغيرها.(156/25)
حقيقة المعارضين العراقيين
السؤال يقول: ما رأيك في الأكراد المعارضين في العراق، هل هم من أهل السنة والجماعة، خاصة وقد كثر الكلام عن قادتهم؟
الجواب
بالنسبة للأكراد المعارضين في العراق، والموجودين في العراق، وغيرها، فإن منهم من أهل السنة والجماعة ومنهم غير ذلك، وكثيراً ما تحرص وسائل الإعلام الغربية على أن تبرز أسماء بعض القادة من الذين لا يعتبرون حقيقة من أهل السنة والجماعة، أما المعارضون من أصحاب الاتجاهات الإسلامية والمشايخ والعلماء فكثيراً ما يطوي الإعلام خبرهم.(156/26)
أفضل وقت للورد والدعاء المأثور
السؤال
ما هو أفضل وقت للورد والدعاء المأثور في ذلك؟
الجواب
الورد له وقتان في الصباح والمساء، في الغدو والعشي، فوقته في الصباح من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وما بعد ذلك أيضاً، وفي المساء بعد الزوال إلى غروب الشمس وما بعد ذلك، وقد اختلف العلماء في تحديد وقت لهذا، ولعل الإنسان لو قرأ الورد بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب لكان ذلك حسناً، أما الدعاء المأثور في ذلك فهو يطول لكن بإمكان الأخ القارئ أو السائل مراجعة صحيح الكلم الطيب أو الكلم الطيب نفسه لشيخ الإسلام ابن تيمية، وصحيح الكلم الطيب للشيخ الألباني، أو غيره من أوراد الصباح والمساء.(156/27)
دعاء ختم القرآن
السؤال
ما حكم دعاء الختمة التي يفعلها الأئمة في صلاة التراويح؟
الجواب
سبق أن بينت باختصار ما يتعلق بالختمة تفصيلاً، وخلاصة الكلام المتعلق بذلك: أن الختمة إن قرأها الإمام في صلاة ثنائية من صلاة التراويح، ثم أوتر بعد ذلك، فإن هذا يعتبر لا أصل له، وينبغي أن لا يفعله الأئمة، أما لو جعل الختمة في الوتر قبل الركوع أو بعده، وأطال في الدعاء، وأتى ببعض الأدعية المناسبة لختم القرآن، مثل اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم، اللهم اجعل القرآن لنا شفيعاً، إلى غير ذلك، فإنَّ هذا لا حرج فيه.(156/28)
خروج المذي في نهار رمضان
السؤال
ما حكم المذي في نهار رمضان؟
الجواب
اختلف العلماء في المذي في نهار رمضان، فمنهم من قال يفطر به، ومنهم من قال لا يفطر، والصحيح أنه لا يفطر بذلك، لكن على العبد أن يتجنب أسبابه لأنه يخشى أن يؤدي إلى الإنزال.(156/29)
حكم الذهاب إلى من يستخدمون الجن في معالجة المرضى
السؤال
بمناسبة ذكرك للرقية الشرعية؛ فهناك سؤال حيرني وهو: أن رجلاً يرقي المرضى، ولكنه يسأل المريض عن اسمه واسم أبيه، فيعد المريض بعد يوم أو يومين بإخباره عن مرضه، فلما سأله الناس هل أنت مشعوذ؟ قال: لا، وإنما أنا أسأل بعض الجن الذين أسلموا وخرجوا من بعض المرضى، فهل يعتبر هذا من الشعوذة؟ وهل يجوز هذا العمل، وما حكم الذهاب إليه؟
الجواب
في الواقع أن كثيراً ممن يرتادهم الناس وينتابونهم للقراءة والرقية يحصل منهم تصرفات شائنة لا تليق بمثلهم، فمنهم من يخلو بالمريضة، ومنهم من يمس بعض أعضائها، ومنهم من يتكلم معها بكلام لا يليق، ومنهم من يدعي أن المريض فيه مجموعة من الجن يتكلمون على لسانه في وقت واحد، ومنهم من يزعم أنه يسأل الجن ويخبرونه عن أخبار المريض إلى غير ذلك، وهذا كله مما يورث كثيراً من الشكوك والتساؤلات، حول هؤلاء الذين يرتادهم الناس، وأنا أحذر المسلمين منهم، وأدعو إلى تجنبهم وعدم الذهاب إليهم، وألا يذهب الإنسان إلا لمن عنده معرفة وعلم في الشرع، ومعروف بالتقوى والورع والبعد عما يثير الشكوك والشبهات حوله.(156/30)
استخدام البخاخ في نهار رمضان
السؤال
هناك امرأة يصعب عليها أحياناً الصوم؛ لما تجده من الحساسية في صدرها، فتضطر إلى استخدام بخاخ ليوسع مجال التنفس عن طريق الفم؟
الجواب
إذا كان هذا البخاخ الذي تستخدمه المريضة للربو، هو مجرد هواء أو غاز فقط، فإنه قد أفتى كثير من علمائنا المعاصرين أنه لا تفطر به، فإذا احتاجت إلى استخدامه فإنها تستخدمه، أما إذا كان في هذا البخاخ شيء من المواد التي هي غير الهواء وغير الغاز الذي يوجد في بعض البخاخات فإنها تفطر به، فإذا احتاجت إلى استخدامه أفطرت وتقضي يوماً مكانه.(156/31)
حكم المريض الذي لا يستطيع الصوم
السؤال
أجريت لي عملية في استبدال شرايين في القلب، كما أن عندي حالة ارتفاع السكر والضغط، وقد اعترض على صيامي ثلاثة أطباء أخصائيين منهم واحد مسلم، وأخبرتهم أني لا أحس بشيء، فأفادوا أن هناك خلفيات ومضاعفات تحدث، فهل يجوز لي الإفطار؟ وهل عليَّ قضاء أو إطعام مساكين؟ أرشدونا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
في الواقع إذا تبين لك من خلال نصيحة الأطباء الموثوقين، أن الصوم يضر بصحتك ولو مستقبلاً، لكن لا تجد مضاعفاتها الآن، إنما يمكن أن يكون لها آثار مستقبلية فإن عليك الإفطار.
أما بالنسبة للقضاء أو الإطعام، فإن كنت تستطيع أن تقضي في وقت آخر، كوقت البرد مثلاً أو بعد العملية بفترة، فإن عليك الانتظار حتى يأتي الوقت والقضاء.
أما إن قالوا لك: إن هذه الحالة التي معك سوف تكون مستمرة بشكل دائم؛ فإن عليك الإطعام.(156/32)
حكم من أفطر قبل الغروب دون أن يعلم
السؤال
في اليوم الثاني من شهر رمضان المبارك قدمنا إلى هذه المدينة من حائل، وأذن المؤذن في حي من أحياء المدينة لصلاة المغرب عند الساعة السادسة، وأفطر الكثير من أهل الحي، وأفطرنا بالطبع معهم دون أن ننظر للساعة؛ لأننا لا نعرف توقيت الأذان لبريدة، علماً أن الجو غائم وتحجب الغيوم رؤية الشمس فما حكم صومنا لذلك اليوم، بعد أن عرفنا أن غياب الشمس عند الساعة السادسة والربع؟
الجواب
إذا عرفتم أنكم أفطرتم قبل الغروب وكان فطركم جهلاً بسبب هذا المؤذن الذي غركم؛ فإنه لا شيء عليكم إن شاء الله تعالى، ومن أهل العلم من يقول: عليكم القضاء، فالمسألة فيها خلاف، لكن الأظهر أنه لا قضاء -إن شاء الله تعالى- أما إن كنتم علمتم قبل الغروب، ولم تمسكوا فإن عليكم القضاء بلا شك.(156/33)
الفرق بين الزهد والورع
السؤال
ما الفرق بين الزهد والورع وكيف يكون الإنسان زاهداً في هذه الدنيا؟ أرجو بأن تدعو لي أن يرزقني الله زوجة من الحلال، وأن يبعدني من الحرام؟
الجواب
نسأل الله أن يرزقك الزوجة الصالحة، التي تعينك على أمر دينك ودنياك، وأن يجمع بينك وبينها في خير، ويرزقكم الذرية الصالحة، وكذلك سائر الحاضرين من العزاب خاصة، ثم المتزوجين عامة.
أما الفرق بين الزهد والورع: فإن الزهد هو الإعراض عن فضول المباح التي لا تنفع الإنسان ولا تقربه إلى الدار الآخرة، كالزهد فيما لا يحتاجه الإنسان من الملابس والمراكب والسكن وغيرها.
أما الورع فهو إعراض الإنسان عما قد يضره في الدار الآخرة، مثل الأشياء التي يخشى أن يكون فيها ضرر على الإنسان في دنياه، أو يكون حكمها غير ظاهر يحتمل أن تكون مشتبهة أو مكروهة أو محرمة.(156/34)
حكم قراءة المأموم مع الإمام في التراويح
السؤال
هل يصح أن يقرأ الإنسان عن ظهر قلب مع الإمام في التراويح، من أجل مراجعة الحفظ؟
الجواب
كلا، لا ينبغي للإنسان أن يقرأ مع قراءة الإمام، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] .(156/35)
توزيع الأشرطة النافعة
السؤال
ما رأيك لو أن بعض الأشخاص قاموا بنقل الأشرطة معهم عند قضاء العمرة؛ لتوزيعها على الحجاج والعمار، حتى ترسخ العقيدة عندهم؛ لما يرى من بعض البدع والمنكرات، أرجو تقديم النصيحة لهؤلاء الشباب وإخبارهم بأشرطة تصلح لهذا الغرض؟
الجواب
أما فكرة نقل الأشرطة وتوزيع الأشرطة الطيبة المفيدة في كل مكان، فهو من أنفع الأعمال التي يستفيد منها الخاص والعام والمتعلم والجاهل، أما الأشرطة التي تنفع لهذا العرض، فهي كثيرة وربما لا يحضرني الآن قائمة مناسبة بأسماء هذه الأشرطة، لكن يمكن تحديدها عن طريق بعض الإخوة.(156/36)
الأكل من المكسب الحرام
السؤال
هل يجوز لأصحاب محلات التسجيل الغنائية، ومحلات الفيديو والتلفاز، أن يفطروا أولادهم في رمضان من مكسب هذه المحلات؟
الجواب
إذا عرف الإنسان أن الطعام الذي يأكله -سواء كان إفطاراً أم غير إفطار- قد جاء من مال حرام، فإنه لا يجوز له أن يأكله حينئذ، أما إن كان مكسب الرجل مختلطاً فيه الحلال والحرام، فإنه يجوز للإنسان أن يأكل منه.(156/37)
معركة الإسلام والعلمانية
فيه بيانٌ لحتمية الصراع بين الإسلام والعلمانية، وبيان أنها تناقض الإسلام جملةً وتفصيلاً، كما أنه يحتوي على ذكر أوجه الخلاف بين العلمانية والإسلام، ويبين كيف تسللت العلمانية إلى بلاد المسلمين، وفيه تعريفٌ بوسائل العلمانية وأهدافها.(157/1)
جئت صحبك يا أغلى الرجال
تقديم الشيخ/ عائض القرني الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وأسعد الله مساءكم بالمسرات وقد فعل، يوم زارنا شيخ من شيوخ الصحوة، وعالم من علماء البلاد، فمرحباً وأهلاً وسهلا، مرحباً باسم رئيس محاكم منطقة عسير وباسم نائبه، مرحباً باسم العلماء والدعاة، مرحباً باسم القبائل التي أعلنت توحيدها وصمودها في وجه الزندقة، مرحباً باسم الجبال الشامخة شموخ أبنائها في هممهم، والراسية رسوَّ مبادئهم الخالدة، مرحباً يا أبا معاذ، ومرحباً يا مشايخ الرياض، ومرحباً يا مشايخ القصيم، حياك الله يا شيخ سلمان بن فهد العودة، الذي طالما سمعناك وأحببناك وعرفناك، وإذا لم يعبر شعري هذه الليلة مرحباً بشيخنا وأستاذنا، فمتى أدخره؟! أتاني رسولك مستعجلاً فلباه شعري الذي أذخرُ ولو كان يوم وغىً قاتم للباه سيفي والأشقرُ أصرِّف نفسي كما أشتهي وأملكها والقنا أحمرُ هنا قصيدة بعنوان (وجئت صحبك يا أغلى الرجال) : هذا اللقاء الذي قد كنت أنتظرُ وهذه ليلة في متنها عبر وهذه أعين الأحباب قد نظرت إليك يا من به يستمتع النظر وجئت صحبك يا أغلى الرجال فيا أبا معاذ رعاك السمع والبصر نظمت فيك مُنَاي اليوم أجمعها يزهو مع ذكرك الياقوت والدرر بك الجنوب تباهت في مطارفها والأقحوان على الأغصان يفتخر والجيل حياك يا سلمان منتشياً هم الشباب إلى رؤياك قد عبروا يا أقرب الناس من قلبي مودته مكتوبة في دمي تجري وتنتشر محبة رسمت والله سطرها في موكب أهله سلمان أو عمر أكارم غرباء أنت تعرفهم وأنت في ركبهم يا صاحبي قمر هادي الحوار به الأرواح قد علقت إذ كان في مقلتيه السحر والحور أوردتها يا أبا العلياء هادئة لكنها ثَمَّ لا تبقي ولا تذر صَلَّت على شفتيك الضاد وارتسمت على محياك آيُ الذكر والسور ورافقتك براهين مسددة أمضى من السيف في هام الأُلى كفروا ماذا عن القوم يا سلمان ما فعلوا أعني القصيم لهم في مجدنا خبر أعني الأباة حماة الدين هل بقيت أرواحهم في سبيل الله تبتدر أعني الأشاوس كل الناس تعرفهم تروي مكارمهم قحطان أو مُضَرُ هم القوادم والأذناب غيرهم هم الأبوة والتاريخ والظفر يا شيخ هذي رجال الأزد قد سعدت بكم وفي حبكم يا شيخ قد حضروا الأوس والخزرج الأبطال سالفهم وهؤلاء بنوهم للسلام سروا يا شيخ بشر عيون المجد إن نظرت بفتية في علاها ينسج الخطر قامت على كعبة التوحيد قبلتها وفي فم العلمنات الطين والحجر يا شيخ أول ما نهدي جماجمنا لا ذاقت العيش والإسلام يعتصر قل للفروخ دعوا الميدان ويحكُمُ من قبل أن تكسر العيدان والعشر يوم يعز به الرحمن ملته ويدحر الناكث المأفون والأشِرُ هناك يا شيخ طعم الموت غايتنا وما لنا عن حياض الموت مقتصر أولى لمن حارب الإسلام إن عقلوا من قبل أن تلتقي في رأسه السَّمُرُ أيها الأحباب! أنا أعرف أن آذانكم تستأذن لتسمع من فضيلة الشيخ، فليتفضل على بركات الله وباسم الله، ليتبوأ مكانه الطبيعي، وليتحدث للقلوب، فأهلاً وسهلاً، واسمعوا لـ أبي معاذ.
يقول الشيخ سلمان: الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله، بعثه الله تعالى على حين فترةٍ من الرسل، وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وجمع به من الفرقة، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، ما تعاقب الليل والنهار.
مشايخي وأساتذتي الكرام! إخواني! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن المشاعر لتتداخل في نفسي وأنا أقف بين يديكم الآن، فما أدري عم أتحدث، هل أتحدث عن هذه المشاعر الفياضة التي غمرتمونا بها وهذا الكرم الكبير، وهذه الابتسامات الصادقة، وهذه البشاشة المعبرة، أم أتحدث عن هذا الحرص على المشاركة في مثل هذا المجلس الطيب المبارك، خاصة من آبائنا المشايخ والقضاة، الذين يعتبر وجودهم بين أظهرنا الآن إعلاناً عملياً على أن هذه الصحوة الإسلامية صحوة راشدة مباركة موفقة، إن صحوة يكون العلماء في مقدمتها وفي طليعة ركبها لصحوة مضمونة معصومة بإذن الله عز وجل أن تطيش بها السهام أو تتفرق بها السبل.
إخوتي الكرام! وأدع هذا الحديث جانباً، فإنه حديث يطول، وهو حديث ذو شجون، وأنتم أرباب صناعة الكلمة والحرف والشعر، ولذلك فإنني لا أستطيع أن أتقدم بين أيديكم بأكثر من أن أدعو لكم دعوة صادقة حاضرة، فأقول لكم: جزاكم الله خيراً، ثم دعوة أدخرها بظهر الغيب.
أما بعد: فإن موضوع حديثنا هذه الليلة معركة الإسلام والعلمانية.(157/2)
معركة الإسلام مع العلمانية هي معركة مع الجاهلية
إن المعركة بين الإسلام والعلمانية هي نفسها المعركة بين الإسلام والجاهلية، فإن الجاهلية تتزين بأزياء شتى، وتتصور بصور مختلفة، تتنوع في لافتاتها وأسمائها وعناوينها ورموزها، ولكنها تتفق في حقيقتها، وحقيقتها الشرك بالله عز وجل، فمعركة الإسلام مع العلمانية هي معركة الإسلام مع الشرك والمشركين، وأعداء الأنبياء والمرسلين، منذ بعث الله تعالى أول نبي على ظهر الأرض وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إنها معركة الإسلام مع الجاهلية، تلك الجاهلية التي إن قاتلت فإنما تقاتل بعصبيتها وحميتها الجاهلية، لا تقاتل من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح:26] فهي تدعو إلى حمية الجاهلية، وترفع دعوى الجاهلية، التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة} .(157/3)
العلمانية تحلل الأحداث
هذه الجاهلية التي إن حللت الأحداث والأخبار فإنما تحللها وفق ظن الجاهلية {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] كما أخبر الله تعالى عنهم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52] ، فظنوا أن الإسلام لا تقوم له قائمة، وظنوا أن شوكة الإسلام سوف تكسر، وأن راية التوحيد سوف تنكس، وأن كلمة التوحيد لن ترفع من المنابر والمنائر والمآذن، فإذا بالله عز وجل يخيب ظنهم، فكلما تقدم الزمن ازدادت رقعة الإسلام اتساعاً، ودخل فيه قوم آخرون، وارتفعت أصوات المؤذنين حتى في قلب أوروبا وأمريكا، تنادي في اليوم والليلة خمس مرات: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله! ظنت أن لا مستقبل للإسلام، وتجاهلت هذا المد الإسلامي الذي يتسع، حتى إننا نجد اليوم تلك الجاهلية المعاصرة تتكلم عن كل القوى وكل الاحتمالات، ولكنها لا تضرب للإسلام حساباً، تحاول أن ترفع شرذمة قليلة من الذين خرجوا عن هذه الأمة، وانسلخوا عنها، وخالفوا حقيقتها وروحها، وخرجوا على دينها وأخلاقها، فتحاول أن تجعلهم في طليعة الركب، وأن تجعلهم أنموذجاً للجيل الجديد المثقف -كما تعبر- وتتجاهل هذه الجموع الهائلة الهادرة المائجة، التي تعلن صبحاً ومساءً أنها لا ترضى إلا الإسلام، ولا تعيش إلا للإسلام وبالإسلام.
إذاً: معركة الإسلام مع العلمانية هي معركة الإسلام مع الجاهلية بكافة صورها وألوانها.(157/4)
كل راية غير راية الإسلام راية جاهلية
إن كل راية ترفع غير راية الإسلام هي راية جاهلية، فراية الوطنية التي تقول: تموتون في سبيل التراب وفي سبيل الوطن فقط، هذه ليست راية إسلامية، لأنها ليست مما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال كما في حديث أبي موسى: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} ذلك أن الوطن أصبح في نفوس كثير من علمانيي هذا الزمان وثناً يعبد، حتى قال قائلهم: وطني لو صوروه لي وثنا لهممت ألثم ذلك الوثنا وقال آخر: ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا أُدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا فأي راية ترفع غير راية الإسلام فهي راية جاهلية، فراية الإقليمية، وراية العصبية، وراية القومية، التي تؤمن بالعروبة ديناً ماله ثاني، كلها رايات مرغت بالتراب منذ أن بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فجعله فرقاً بين الناس، والتقى على دعوته الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، والقريب والبعيد، والوضيع والشريف، كلهم يقولون: لا إله إلا الله، فيصطفون إخوة لا يفرق بينهم مفرق، على حين نصب الرسول صلى الله عليه وسلم العداوة الصراح البواح لـ أبي جهل، وأبي لهب، وأمثالهما من صناديد قريش وزعمائها، على أنهم في الذروة من النسب والمكانة.(157/5)
العلمانية تريد حكم الجاهلية
هذه العلمانية التي إن حكمت فبحكم الجاهلية قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فهي تعتقد أن أمر الناس لا يجتمع ولا يصلح وينضبط إلا بحكم الجاهلية المستورد من شرق البلاد أو غربها، حيث أصبح دعاة العلمانية متسولين على موائد الشرق والغرب، لا يحسنون إلا التقليد، شأن إخوانهم من القرود، فينقلون لهذه الأمة تعاسة الغربيين أو الشرقيين، بحجة التقدم والتطور والمدنية، هذه الجاهلية التي إن دعت إلى التحديث والتطوير، فإنما تدعو إلى التغريب والتخريب والانحلال، باسم حرية الفرد، أو باسم حرية المرأة التي لو أنصفوا لسموها فوضى.
حرية زعموها واسمها لغة فوضى وسيان جاءوا الحق أم جاروا إن هذه الحرية لو سموا الأشياء بأسمائها الحقيقية لسموها تبرج الجاهلية الأولى {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] ولو أنصفوا لسموها نعرة الجاهلية التي لم يكن يحكمها دين ولا خلق ولا نصح.
هذه الجاهلية التي إن درست الاقتصاد درسته على ضوء أنظمة ومفاهيم الجاهلية الأولى، التي أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته الشهيرة في حجة الوداع، حين كان يستمع إليه ما يربو على مائة وعشرة آلاف من المؤمنين، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: {إن ربا الجاهلية كله موضوع، وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب} فأصبحت هذه الجاهلية أو العلمانية تحيي ما اندرس من أمر الجاهلية الأولى، وتدرس شئون الاقتصاد على ضوء أنظمة الجاهلية العربية الأولى، وعلى ضوء أنظمة الجاهلية العالمية المعاصرة، فتجعل الربا أساساً لا بد منه في الاقتصاد، وكأن الاقتصاد لا يقوم إلا على الربا!(157/6)
الخلاف مع العلمانية خلافٌ جوهري
إخوتي الكرام: الخلاف بين الإسلام وبين العلمانية خلاف جوهري، لأنه خلاف بين التوحيد والشرك كما ذكرت لكم، ولذلك فإن الكلمة التي رددها المشركون والنصارى وغيرهم حين كانوا يقولون: (ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) هي التي فعلها المشركون الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم حين كانوا يقولون كما أخبر الله تعالى عنهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام:136] وقال: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} [الزخرف:15] وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} [النحل:62] .
إن هذه الجاهلية المعاصرة هي نفسها الجاهلية الأولى، فهي تنادي أن يكون المسجد لله، والمحراب لله، وما عدا ذلك يكون لقيصر، تنادي أن تكون المدرسة لقيصر، وأن يكون المنبر الإعلامي لقيصر، وأن يكون المصرف لقيصر، وأن يكون السوق لقيصر، وأن تكون الراية، وكل شيء لغير الله عز وجل، فهي تنادي بحصر الإسلام في زاوية، أو مسجد، أو معبد، أما ما سوى ذلك، فهي تطالب أن يحكم ويدار بغير شريعة الله عز وجل وهذا هو الشرك بعينه.
إذاً: فالتناقض بين هذا المعنى وبين المعنى الحقيقي للإسلام، لكلمة التوحيد التي نرددها صباح مساء، هو تناقض صارخ وصريح.
كيف يمكن أن نوفق بين هذا المعنى الجاهلي الصريح، وبين قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] كيف نوفق بين هذا وهذا؟! كيف نوفق بينها وبين كلمة لا إله إلا الله، التي تعني أن العبادة بجميع صورها وأشكالها وأنواعها لا تصرف إلا لله عز وجل، وأن كل عبادة تصرف لغيره هي عبادة باطلة، مردودة على صاحبها!! وهي شرك بالله عز وجل.(157/7)
لا للعلمانية في بلاد الإسلام
أيها الإخوة: لا مكان للعلمانية في بلاد الإسلام، ولا مكان للعلمانية في هذه البلاد خاصة، وذلك لسببين: أولهما: أن الإسلام دين شرعه الله عز وجل، وأنزله مهيمناً على الحياة كلها، مهيمناً على الأديان السابقة، ومهيمناً على جميع شئون الحياة، فإن المسلم العادي البسيط المغفل يدرك أن الإسلام فيه تفصيل لكل شيء، وبيان لكل شيء، وأنه يستحيل في حس المسلم أن الدين الذي نظم العلاقة بين الرجل وزوجته، والذي نظم للإنسان كيف ينام، ونظم للإنسان كيف يكون في حال قضاء الحاجة، لا يمكن أن يترك إدارة الأمور الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، وغيرها لغير الله عز وجل {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] {وَنزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] فهذه القضية غير قابلة للمناقشة، أن الدين الخاتم هو الدين المهيمن على الأديان كلها وعلى الحياة كلها، ومن ثم ففي بلاد الإسلام وبين المسلمين لا مكان للعلمانية.(157/8)
لم يعرف الإسلام تعاسة أوروبا
وثمة أمر آخر ناتج عن الأمر الأول وتبع له، وهو أن التاريخ الإسلامي كله لم يعرف تلك التعاسة التي عاشتها أوروبا، لقد عاشت أوروبا بسبب دينها المحرف المبدل، انفصاماً رهيباً بين العلم والدين، فكان الدين يحارب العلم، حتى إن كثيراً من علماء أوروبا قد أحرقوا بالأفران، وسملت أعينهم، وعلقوا على أعواد المشانق، بحجة أنهم خالفوا كلمة الله، وكذلك لم يعرف التاريخ الإسلامي مثل هذا، فإن الإسلام فتح للعلم أبوابه وذراعيه، حتى وجدنا العلماء يترددون على بلاط الخلفاء، ويحضرون مجالسهم، ويحظون بهباتهم وأعطياتهم.
لم يجد المسلمون في تاريخهم الطويل اضطهاداً للعلم ولا تضييقاً عليه بأي حال من الأحوال، لم يعرف المسلمون محاكم التفتيش التي عاشتها أوروبا، ولم يعرف المسلمون طغيان الكنيسة التي كانت تأخذ الأموال الهائلة الطائلة من الناس باسم الدين، ولم يعرفوا استبدادها وطغيانها المادي ولا السياسي ولا غيره، فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ التلاحم بين الدين الذي كان أول ما نزل منه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] وبين العلم الذي هو ثمرة من ثمرات التمسك بهذا الدين، واستجابة لأمر الله عز وجل بالعلم والتعلم والقراءة، لذلك فإن الذين يريدون نقل العلمانية إلى بلاد المسلمين يتجاهلون هذا الفرق الكبير بين تاريخ الإسلام ودين الإسلام وبين تاريخ أوروبا ودين أوروبا.(157/9)
العلمانية هي الشرك بالله
إذاً: العلمانية الحقيقية هي الشرك بالله تعالى، الشرك الذي يريد أن يكون المسجد لله، والمسجد للعبادة فقط، للصلاة فقط، أما ما سوى ذلك فهي تنادي أن يكون لغير الله، أن يكون للشيطان، أو كما تقول الكلمة النصرانية: أن يكون لقيصر.
كيف يستطيع مسلم -يتردد على المسجد ويصلي في المسجد- أن يفهم ذلك؟! والمسجد في حسه ليس كنيسة تقع فيها بعض الطقوس ثم يخرج منها، بل المسجد في حسه منبر إعلامي، يجلس المسلمون في كل جمعة، وفي أوقات أخرى، ليستمعوا من خطيب المسجد، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خلفاؤه من بعده يخطبون على هذا المنبر، فيستمع الناس إلى توجيهات الإسلام وحكمه، وما يتعلق به في جميع شئون الحياة.
كيف يستطيع المسلم الذي يتردد على المسجد أن يقبل بالعلمانية وهو يعلم أن المسجد مؤسسة تعليمية تلقى فيها الدروس، ويسمع فيها كلام الله عز وجل وتلقى فيها السنة، ويتحدث فيها عن الحلال والحرام؟! كيف يستطيع أن يفهم ذلك وهو يدرك أن المسجد مجلس للشورى يلتقي فيه المسلمون، كما كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإلى يوم الناس هذا، فيتبادلون أطراف الحديث، ويتشاورون في كل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم؟! كيف يستطيع أن يفهم ذلك والمسجد في حسه ليس معبداً للطقوس فقط، بل هو مؤسسة أمنية، ومؤسسة اجتماعية، ومؤسسة صحية، ومنطلق للحياة كلها؟!(157/10)
كيف تسللت العلمانية إلى بلاد المسلمين
سؤال يطرح نفسه: كيف تسللت العلمانية إلى بلاد المسلمين؟ وأتبع هذا السؤال بسؤال آخر: كم من بلد إسلامي سقط في أيدي الكفار؟ لقد سقطت ولا شك قلاع كبيرة من قلاع المسلمين بأيدي الكفرة من النصارى أو اليهود أو المشركين، سقطت الأندلس وقد كانت جنة للمسلمين، وسقطت فلسطين، وسقطت أفغانستان، سقطت بلاد كثيرة، وسقطت بلاد أخرى في أيدي الشيوعيين، لكن هذه البلاد تبقى محدودة معلومة، لكن حين نسأل: كم من بلد إسلامي سقط في أيدي المنافقين وفي أيدي العلمانيين؟ فإن هذا مما لا يأتي عليه الحصر، بل إن كثيراً من البلاد الإسلامية هي التي سقطت في أيدي المنافقين، وليس في أيدي الكفار، وذلك لأن المنافقين يعرفون كيف يحكمون القبضة، ويعرفون كيف يتسللون في الظلام، حيث يعمدون إلى مواقع التأثير حتى يؤثروا في البلاد الإسلامية، ويمسخوا تلك البلاد، وهذا يؤكد خطورة النفاق والمنافقين، حيث يجيدون السباحة في كل بحر، يجيدون العوم في كل بحر، ويلبسون أكثر من ثوب، ويتكلمون بأكثر من لغة، ويمثلون أكثر من دور، ويتقمصون أكثر من شخصية! له ألف وجهٍ بعد ما ضاع وجهه فلم تدر فيها أي وجه تصدِّقُ هذا شأن العلماني، قلب متقلب، ومن ثم فإنه يجب كشفهم وتعريتهم، قال الله عز وجل: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] .(157/11)
صناعة الأبطال وتلميعهم
لقد صنع اليهود الأبطال كما فعلوا بـ كمال أتاتورك، الذي صنعوا بطلاً منه أجوف منفوخاً، وجعلوه يخوض معركة مع اليونان يخرج منها ظافراً منتصراً، حتى يلمعوه ليقوم بالدور المطلوب منه، في تقويض بناء الإسلام وإحلال العلمانية بدلاً منه.
ثم خطوا خطوة أخرى حين نصبوه، وأعلنوا إلغاء ما يسموه بالخلافة يومئذٍ، فأفلحوا بذلك في عزل تركيا عن العالم الإسلامي، وأصبح العالم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه لا يبالي ماذا يجري في تركيا، بالأمس كان الحدث الذي يقع في اسطنبول يقلق كل مسلم في أقصى الأرض، لأنه يحس أنه حدث يتعلق بجزء من الأمة، وكان كثير من المسلمين مرتبطين مع هذه الخلافة، على رغم ما كان فيها من انحرافات عقدية، وسياسية، واقتصادية، وغير ذلك مما هذا ليس مجال بيانه، لكن المقصود أن جماهير غفيرة من المسلمين كانت حقيقة مرتبطة ارتباطاً عاطفياً بذلك الرمز، فلما أسقطوها انفض المسلمون من حولها، وأصبح الأمر الذي يجري في تلك البلاد، إنما يهم أهل تلك البلاد ولا يهم المسلمين في قليل ولا كثير، وهكذا يصنعون دائماً وأبداً، يحاولون أن يعزلوا بلاد الإسلام بعضها عن بعض، حتى إذا أصيب هذا البلد لم يحزن له أحد، ولم يتأثر لمصيبته أحد، ولم يقم له أحد لأنهم قد أفلحوا في إلهاء كل واحد بنفسه، وإشعار المسلمين بأنه ليس ثمة رابطة، ضاع من المسلمين ذلك المعنى الذي يقول: ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطاط جيراني ولي بطيبة أوطار مجنحة تسمو بروحي فوق العالم الفاني دنيا بناها لنا الهادي فأحكمها أكرم بأحمد من هادٍ ومن باني ضاع هذا المعنى، وأصبح المسلم يبغض أخاه المسلم، ويحقد عليه، بل ويتمنى أن تنزل به النوازل، كل بلد لا يعبأ ولا يأبه بما يصيب بلاد المسلمين الأخرى، بل أكثر من ذلك أنهم استغلوا هذا لتأجيج العداوات وتعميقها، وتوسيع هوتها بين المسلمين، فربما عملوا على نشر كل أمر من شأنه أن يجعل المسلم في تركيا يبغض المسلم في أي مكان، ويحس أنه عدو له، ويكيد له، وهكذا المسلم في هذه البلاد، قد يجد الشعور نفسه نحو المسلم في تلك البلاد، وما ذلك إلا تمهيداً لعزل المسلمين، لأن مواجهة المسلمين كأمة كاملة من الأمور الصعبة عليهم، ولكن كما قيل: تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحاداً لقد كان من أعظم الأعمال التي قام بها مصطفى أتاتورك أنه اضطهد العلماء وقتلهم، وزج بهم في غياهب السجون، بل وعلق جثثهم على الأشجار في الشوارع، وطمس معالم الدين كلها، حتى منع الأذان، ومنع التعليم باللغة العربية، ومنع أي لباس يدل على الانتماء والانتساب للإسلام، وفرض على الناس اللباس الأوروبي الغربي، وفرض عليهم لغة مختلفة، وحاول أن يمسخ الناس، وأن يصبغهم بصبغة قومية جديدة.(157/12)
تأثير الصراع بين الإسلام والنصارى
لعل من أوائل الدول التي سقطت في أيدي العلمانيين تركيا، التي كانت في يوم من الأيام مركزاً للحكم، وكان المسلمون يذعنون لحكمها في بلاد الأرض، فسقطت تركيا في أيدي العلمانيين، كيف سقطت؟ سقطت نتيجة الكفاح كما يقال أولاً بين الهلال والصليب، وهذا تعبير من النصارى يعبرون به عن الصراع بين الإسلام والنصرانية، يقول رئيس الإرساليات التنصيرية الألمانية: إن ثمار الكفاح بين الصليب والهلال لا تؤتي أكلها في البلاد البعيدة ولا في مستعمراتنا في آسيا وأفريقيا، بل ستكون في المراكز التي يستمد الإسلام منها قوته، وينتشر وينبثق منها، سواء كانت في أفريقيا أو في آسيا، وبما أن الشعوب الإسلامية التي نواجهها تولي وجهها نحو الأستانة وهي يومئذٍ عاصمة تركيا وعاصمة الخلافة- فإن المجهودات التي نأتي بها لا تأتي بفائدة إذا لم نتوصل إلى قضاء رغباتنا في مركز الخلافة وعاصمة المسلمين، هكذا يقول، ولذلك عمل النصارى بالتعاون مع إخوانهم اليهود على إسقاط الخلافة العثمانية، فاندس فيها أمثال مدحت باشا وهو يهودي، كان له دور كبير في الخلافة العثمانية، حتى إنه ساهم أحياناً في إسقاط خليفة ونصب خليفة آخر والمصادقية على الدستور، وكان ينادي بإتاحة الحريات وتبين فيما بعد كما قال السلطان عبد الحميد قال: تبين أنه كان ينادي بالحريات له ولقومه من اليهود ولحزبه وطائفته، ولا ينادي بالحريات الحقيقية للناس كلهم أجمعين، ولذلك كان اليهود يتربصون سقوط الخلافة حتى ينفذوا مخططاتهم في فلسطين، حتى أنهم أعلنوا الإسلام كما هو معروف في يهود الدونمة، وتغلغلوا في الخلافة بالطريقة التي سوف أتحدث عنها الآن.
مدحت باشا هذا هو يهودي، كان الغربيون يسمونه في أوروبا أبا الحرية، لماذا؟ لأنه كان ينادي بالحرية، ويطالب بالمصادقة على ما يسمونه بالدستور، الذي يضمن حقوق الأقليات، يضمن حقوق اليهود في التمتع بحرياتهم كما يشاءون، داخل ستار وراية الدولة العثمانية.(157/13)
خطط العلمانيين في تركيا
نقطة مهمة جداً: ما هي خطط العلمانيين في تركيا وغيرها؟ كيف توصل العلمانيون إلى هذا المستوى في تركيا منذ أن بدأت حركة العلمنة وإلى أن أعلن مصطفى أتاتورك دولته وجمهوريته العلمانية؟ أولاً: مما ينبغي أن يعلم أن العلمانيين -في تركيا وفي كل بلد- غالباً ما يحاول أعداء الإسلام من اليهود والنصارى الذين يتحالفون معهم حلفاً تاريخياً ظاهراً وباطناً أن ينتقوا وينتخبوا من رموز العلمانية طوائف، ويرسلوهم إلى بلاد الغرب ليتعلموا هناك، فيرجعوا بالخبرة، ويرجعوا بالعلم المادي، ويرجعوا ببعض التقدم، -بعض المهارات الإدارية أو العلمية أو الصناعية التي تميزهم عن باقي المجتمع- بحيث يصبحون طبقة متميزة، قد يسمونهم المثقفين أو المتنورين، وقد يطلقون عليهم أي لفظ براق، لكن المهم أن الغرب عمل على أن يكون لهؤلاء تميز بخبرات ومهارات إدارية وعلمية وتقنية وغير ذلك، تمهيداً لقيامهم بالدور الذي يوكل إليهم.
إذاً فالغرب اختارهم أولاً، ثم حاول أن يزودهم بالمهارات، في مقابل محاولة تجهيل غيرهم، وفرض الغيبوبة عليهم، بعد ذلك يتركهم ليمارسوا الدور الذي يريد، هذا الدور الذي يتلخص في أمور: منها أنهم أول ما بدءوا يتحركون في تركيا، وفي غيرها من البلاد التي تغلغلوا فيها، ودخلوا فيها، وحاولوا الإفساد، دخلوا مع ما كان يسمى بالخلافة ضد العلماء، وبذلك كسبوا أموراً كثيرة:(157/14)
بسط النفوذ ونشر الفكر
الأمر الأول: أنهم استغلوا الفرصة التي مكنوا منها بواسطة ثقة الحكومة التركية بهم، استغلوا ذلك في بسط النفوذ، ونشر الرذيلة، ونشر الفكر المنحل بين المسلمين، تحت ستار وجودهم ضمن إطار الحكومة، ولذلك ضعفت، حال الحكومة التركية حينئذ وغيرها من الحكومات التي تواطأت معهم، كحال أبي سفيان حين كان يقول: [[ما أمرت بها ولم تسؤني]] يرون نشر الرذيلة والانحلال ولا يمانعون في ذلك في حدود معينة على حد قول أبي سفيان: [[ما أمرت بها ولم تسؤني]] ليس بالضرورة أنه أمر مخطط أساساً، لكنه موافق عليه ضمناً.
الأمر الثاني: من الأمور التي كسبوها أيضاً كونهم كانوا في بداية الأمر مع الحكومة العثمانية، ضد العلماء وضد الأمة، فقد أفلحوا في تشويه صورة تلك الحكومة، وملء نفوس الناس عليها، وتمهيد نفوسهم للقضاء عليها، فإن الناس ضجوا، وبعد أن تغلغل العلمانيون في دولة بني عثمان أبغضها كثير من الناس، بل ربما أكثر الناس حتى المتدينون أبغضوها، لأنها أصبحت تحاربهم، والمفسدون أبغضوها لأنها لا تحقق لهم مآربهم، وهكذا تهيأت الظروف والفرص لإحداث نوع من التغيير الذي كان ينشده العلمانيون آنذاك.(157/15)
تضييع الفرصة على علماء الإسلام
كما أن من أهدافهم تضييع الفرصة على العلماء، فإنهم يدركون أن المجتمع دائماً -كل مجتمع- فيه قوتان: قوة المؤمنين العلماء، وطلبة العلم، والدعاة المخلصين، والغيورين، هذه قوة المؤمنين والمؤمنات: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} [التوبة:71] وهناك قوة أخرى في المقابل هي قوة المنافقين، وقوة العلمانيين والعلمانيات: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67] إذاً فهم يحاولون أن يسبقوا ويقطعوا الطريق على غيرهم، من خلال قيامهم بحركة الفساد والإفساد، تحت ستار ولائهم لتلك الدولة التي كانوا في الظاهر جزءاً منها، وقد عملوا على مراحل، بدءوا أولاً بما يسمى بالتنظيمات، وانتهوا أخيراً بجمهورية أتاتورك العلمانية.(157/16)
مراحل قيام نظام أتاتورك(157/17)
استغلال الأحداث والأزمات
المرحلة الرابعة: هي أنهم يستغلون -والغريب أن هذا الكلام مكتوب في عدد من الدراسات والتقارير- يستغلون الأحداث الجدية التي مرت، والأزمات الخانقة التي مرت بالدولة العثمانية، خاصة الأزمات الدفاعية، والسياسية، والاقتصادية، التي مرت بها في آخر فتراتها، قبيل عهد السلطان عبد الحميد، وفي عهده وما بعد ذلك، فيتخلون عن حلفهم السابق، وولائهم المعلن، ويتحركون في أوساط القوى المعارضة والمعادية، تمهيداً للهيمنة الكاملة التي حصلت فيما بعد لهم، حيث تمكنوا من إعلان الدولة العلمانية، وفي سبيل ذلك كونوا الجمعيات، كما هي معروفة لدارسي التاريخ، ونظموا المسيرات، وأصدروا المجلات، وعقدوا المؤتمرات، وتحالفوا مع الأعداء الخارجيين، كاليهود والنصارى كما هو معروف من وثائق تلك المرحلة.(157/18)
العمل على نشر الانحلال والفساد
المرحلة الثانية: بعد ما تمكنوا وتغلغلوا وتأصلوا وتجذروا، بدءوا يضغطون للسير بسرعة أكبر في طريق الانحلال وطريق الفساد، وما عاد يكفيهم الجرعات التي كانت بالأمس يأخذونها برضى، أصبحوا يريدون سرعة أكثر، فإذا كانوا يسيرون بسرعة ستين ميلاً مثلاً، فالآن يريدون أن يسيروا بسرعة مائة وعشرين ميلاً، يريدون أن يضاعفوا السرعة، ويريدون من ذلك إحداث شيء من التخريب والتغريب الذي لم يألفه الناس، وهنا يسير معهم الحكام أيضاً مع وجود شيء من المخاوف.
في المرحلة الأولى كان حكام بني عثمان وغيرهم من الحكام هم الذين يقودون، والعلمانيون في ركابهم، أما في المرحلة الثانية فقد انعكست الآية، وأصبح العلمانيون هم الذين يقودون ويجرون إلى الفساد، وأصبح بنو عثمان وغيرهم من الحكام ممن مالئوهم وواطئوهم، يسيرون في ركابهم على شيء من التخوف، خاصة حين ننتقل إلى المرحلة الثالثة التي يبدءونها.(157/19)
التعدي على القيم الحساسة
المرحلة الثالثة: وهي أنهم يبدءون بعد ذلك بالتعرض والتعدي على ما يسميه بعض المؤلفين والمصنفين الذين كتبوا في تاريخ الدولة العثمانية بالقيم الحساسة، سواء كان المقصود بهذه القيم، القيم السياسية للدولة، كأسس النظام السياسي، والصلاحيات، أو القيم الشرعية، مثل القواعد الشرعية، والثقافية، للسلطة أو للمجتمع.
فيتعرضون للدين مثلاً، ويتعرضون للعلماء، ويتعرضون للقضايا الكبيرة الخطيرة، في هذه المرحلة الثالثة، رغبة في إحداث شيء من التوتر الجِدِّي، والإنشداد للمجتمع، وهذا أيضاً تمهيد عندهم لما بعده، وفي هذه المرحلة لا شك يملكون جراءة على الشرع، في وسائلهم وخطبهم وأحاديثهم وكلماتهم، ولو قرأت الصحف التركية التي كانت تصدر في تلك المرحلة؛ لوجدتها قريبة الشبة جداً بالصحف التي تصدر في هذا الوقت في عدد من البلاد الإسلامية، وأصبحت تحاول أن تنال في كل عدد من بعض القيم الدينية، وتشكك المسلمين في عبادة من العبادات، أو في جانب من جوانب الإسلام، أو تنال من عالم من العلماء، أو تحط من قدره، أو تحاول أن تكرس العلمانية "أن الدين لله والوطن للجميع"، أو " ما لقيصر لقيصر وما لله لله ".
ومما يجعل مواجهتهم صعبة في هذه المرحلة، أنهم لا يظهرون لتلك الدول على أنهم قوة واحدة متآلفة تخيف، بل تحالفهم خفي، يصعب إدراكه أو كشفه، ولذلك ينظر إليهم على أنهم أفراد، قد يكون لديهم نوع من الانحلال، قد يكون لديهم نوع من رقة الدين، قد يكون عندهم أفكار غريبة، لكن ليس هناك بينهم أي روابط تربط بينهم، فقد أفلحوا في إخفاء الروابط التي تربطهم، حتى لا يثيروا مخاوف الآخرين، وفي بعض تلك الفترات كانت الدول تعتمد عليهم في تحقيق قدر من الفساد الذي تريد، فتسند إليهم مهمة معينة، وتعطيهم الضوء الأخضر أن يفعلوا بعض الفساد، افعلوا، جربوا جرعة هنا، فإذا هضمها المجتمع يعطى جرعة أكبر منها، أما إذا عجز عنها فإنه من السهل التراجع عنها، على أن هذا العمل ليس عملاً رسمياً قامت به السلطة الرسمية، إنما هو عمل قامت به جهة معينة، ويمكن أن تردع وتوقف عند حدها، حتى قال أحدهم: إن حالهم في تلك المرحلة سواء في الدولة العثمانية أم في غيرها، كحال ذلك الرجل الذي كان يسرق الحجيج؟ فقد كان معه عصى، في نهايته محجن، فكان يمشي فيمر بالحجاج، فيجعل المحجن يتعلق ببعض المتاع ثم يجره إليه ويمشى، فإذا تفطن الحجاج لذلك التفت وقال: سبحان الله! ما علمت، إنما تعلق بمحجني من غير قصد، فرد إليهم مالهم، وإن لم يتفطنوا له أخذ المتاع وهرب به، أي أنها سرقة بطريقة ذكية مغلفة، يسهل التراجع عنها، هذه هي طريقة العلمانيين، يسرقون على طريقة صاحب المحجن، إن فُطِن قال: تعلق بمحجني وما علمت به، وإن لم يُفطن له مضى وحاول أن يسرق شيئاً آخر.(157/20)
وضع الخبرات لخدمة الإصلاحات الإدارية
المرحلة الأولى: أنهم وضعوا خبراتهم في خدمة الإصلاحات الإدارية، وما يسمى بالتحديث والتطوير، وذلك ضمن حكم آل عثمان أو الدول الأخرى التي عملوا فيها كما عملوا في تركيا أيضاً، فوضعوا تلك الخبرات التي أخذوها عن الغرب في خدمة الدولة التي يعملون ضمنها، بحيث أنهم ظهر لهم جدوى، وقيمة، وأن عندهم خبرة وعلماً وتميزاً، وأنه لا أحد يمكن أن يسد مسدهم، أو يقوم مقامهم.
هذه هي الخطوة الأولى، أو الحركة الأولى وقد لا يتفطن لها كثير من الناس، لأن الدور الذي يقومون به غالباً لا يستطيع أن يقوم به العلماء ولا طلبة العلم ولا الدعاة، لأسباب: منها انشغالهم عنه، ومنها أنهم لم يمكنوا من الخبرات والدراسات التي مكن منها هؤلاء، فأصبح لديهم تميز، جعل كثيراً من الناس لا يكترثون بهذه الخطوة الأولى ولا يهتمون لها، بل بعض الناس كان يقول: (إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما!) إذا تركتم لنا المسجد والمدرسة، فاصنعوا ما شئتم، هكذا كان منطق كثير من المسلمين في تلك المرحلة.(157/21)
أساليب العلمانيين
أساليب العلمانيين كثيرة لكن منها:(157/22)
استغلال الأقليات العرقية
من أساليبهم أيضاً استغلال الأقليات العرقية أو الدينية -كما يقال- اليهود أو النصارى أو النصيرية، أو الإباضية أو الشيعة أو غيرهم من الأقليات العرقية أو الدينية، وذلك لأن هذه الأقليات غالباً ما تكون أكثر إخلاصاً، وأكثر ولاءً لهم، وأكثر صبراً على تحقيق أهدافهم ومآربهم، بخلاف من ينتسبون إلى أصول إسلامية صحيحة، فهم قد يسيرون معهم شوطاً بعيداً، ثم يخذلونهم في نهاية المطاف، فلذلك لا يثقون بهم مهما قدموا لهم من قرابين الولاء والطاعة.(157/23)
تحطيم الشعائر الدينية والمظاهر الإسلامية
أولاً: تحطيم الشعائر الدينية والمظاهر الإسلامية، واستبدال قيم الإسلام وأخلاقياته بقيم غربية، حتى المظاهر دعك من الإعلام، والتعليم، والاقتصاد، والسياسة، فهذه الأشياء أول ما يبدءون بها، ولكنهم لا يرضون بشيء دون المسخ الكامل، ولذلك حتى المظاهر حاولوا مسخها، اللباس -كما أشرت- واللغة، والأذان إلى غير ذلك من الأشياء المعروفة، التي كان مصطفى أتاتورك يصدرها في قرارات، ويلزم ويحارب الناس عليها، ويمنع أرزاقهم بسببها!(157/24)
تحريك الوضع الاجتماعي
من أساليبهم تحريك الوضع الاجتماعي، من خلال اللعب بورقة اسمها المرأة، بوصف المرأة مؤثراً قوياً في هز المجتمع من وجهين: الوجه الأول: جر المجتمع إلى الخراب، ومسخ هويته، فإن المجتمع الذي فسدت فيه المرأة قُلْ: عليه السلام، أي مجتمع يستطيع أن يحافظ على استقامته وصلاحه، والمرأة تبدو سافرة كاشفة تذهب وتجيء بالروائح الجميلة النفاذة، وقد كشفت عن حسنها وجمالها، وتعرضت للغادين والرائحين، وحاولت أن تفتن الرجال؟! كم من العزائم الصلبة تستطيع أن تقف أمام هذا الإغراء؟! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء} .
إذاً: إفساد المرأة هو إفساد للمجتمع، ومن جهة أخرى فإنهم يعرفون أن البدء بموضوع المرأة يعتبر تمزيقاً لوحدة المجتمع، وذلك أن قضايا المرأة والأمور الاجتماعية من الأشياء الحساسة، التي تستثير في كثير من الأحيان ليس المتدينين فحسب، بل أصحاب النخوة والغيرة والشهامة والمروءة، حتى من غير المتدينين، فرب إنسان يغضب غضبة الأسد الهصور لو رأى امرأته -مثلاً- أو بنته أو أخته أو قريبته سافرة، أو رآها مع رجل أجنبي، أو رآها تمارس بعض ما لا يليق بالمروءة وبخصال المروءة وخصال الفطرة، فهم بذلك يعملون على تمزيق المجتمع وتفتيت وحدته، وتحويل الأمة إلى أمتين، وهم وإن فعلوا ذلك بقصد الإفساد إلا أنهم يسعون إلى حتفهم بظلفهم، فإن هذه البلاد وغيرها من بلاد الإسلام لا تزال تعلن صباح مساء أنها لا تريد إلا الإسلام، وأن كل صوت يرتفع بغير الإسلام في هذه البلاد وفي غيرها، فهو صوت آيل إلى الزوال والفناء، وأن كل راية ترفع غير راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهي راية منكسة، هذه البلاد قالتها: إنها لا تريد إلا الإسلام، والله عز وجل قاله، ورسوله صلى الله عليه وسلم بين لنا أن هذه البلاد للإسلام، منها بدأ الإسلام وإليها يعود.
فكم حاولوا إطفاء نور كتابه لكنه أبقى على الأزمان كم حاولوا وكم مكروا، فكان كيدهم في نحورهم، استجابة لدعاء المؤمنين الذين يقولون صباح مساء: (اللهم إنّا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم) .(157/25)
من هو العلماني؟
ليس العلماني ملحداً بالضرورة كما يتصور بعضهم، بل قد يكون العلماني ممن يصلي أحياناً، ولكنه يعتقد أن الدين في المسجد وفي الزاوية، وأن مهمة رجال الدين تقتصر على تغسيل الموتى وتخدير مشاعر الناس فحسب، ولا يتعدى ذلك بحال من الأحوال، أما السياسة فليست من الدين، ومن قبل كتب علي عبد الرزاق -كما هو معروف وهو من الأزهر- كتب كتابه المعروف الإسلام وأصول الحكم ينفي فيه أن يكون للإسلام علاقة بالسياسة، وأن تكون الخلافة الإسلامية نظاماً شرعياً إلهياً، وإنما هي عادة أو اجتهاد فردي من الممكن الاستغناء عنه، والإسلام ليس له علاقة بالساسة، ثم ضرب على نفس الوتر خالد محمد خالد في كتابه المشهور من هنا نبدأ، وإن كان الجميع يعرفون أن خالد محمد خالد قد أعلن رجوعه عن الأفكار الكفرية الموجودة ضمن هذا الكتاب.
وقد يكون العلماني أحياناً كافراً لا يدين بدين، لكن لا مانع عنده من مجاملة عواطف الناس، والتربيت على عواطفهم وركوب الموجة كما يقال، ويوم أن كانت الصحف الكويتية تصدر كنا نقرأ لكثير من رموز العلمانية ورءوسها من مصر وغيرها، كانوا يتكلمون، وبالأمس كانوا ضد الإسلام على طول الخط، أصبحوا بعد ذلك يتكلمون عن الإسلام الاشتراكي، والإسلام الديمقراطي، والإسلام العلماني، والإسلام الناصري، بل والإسلام الشيوعي، يقول الواحد منهم: ليس هناك مانع، إسلام شيوعي، هكذا موجود في قصاصات مضبوطة وموجودة، وبعضهم صرح وقال: إن القضية قضية ركوب الموجة، اليوم الأمة مقبلة على الإسلام، ليس هناك مانع، نحن نرفع راية الإسلام حتى نركب الموجة ونمشى مع التيار إلى أمد معين، ثم بعد ذلك نحقق مآربنا ومطالبنا.
إذاً لا مانع أن نستشهد بالآيات وبالأحاديث، ووفق ديننا الحنيف وشريعتنا السمحة.(157/26)
عزل الدين عن السياسة
العلماني ينادي بعزل الدين عن السياسة، فالدين في نظره أرقى وأنظف وأسمى من أن يدخل في السياسة، فليبق الدين على الرف! ولتبق الحياة تحكم بشريعة الطاغوت، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] والمتحدثون باسم الإسلام عند هؤلاء هم من أصحاب الأغراض الشخصية، أو المطامع، كما قال أحدهم في كتابه أزمة المثقفين العرب حين تكلم عن التيارات الدينية وقال: "عادة أصحاب هذه التيارات الدينية هم من أصحاب المطامع السياسية، والأغراض الشخصية، والمنطلقات العرقية، الذين يريدون تحقيق مآربهم ومقاصدهم باسم الدين وباسم استغلال المشاعر الدينية، والعواطف الدينية عند الدهماء" والكتاب مطبوع متداول بالأسواق، بإمكانكم مراجعة تلك الفقرة فيه.(157/27)
عزل الدين عن التعليم
العلماني ينادي بعزل الدين عن التعليم، حتى يقول أحدهم مثلاً: إن التعليم في أمريكا تعليم راقٍ، لماذا؟ قال: لأنه يعلم ويدرب الطفل على الشك في كل شيء منذ نعومة أظفاره، فينشأ الطفل علمياً لا يقبل شيئاً إلا بدليل، ينشأ ويتدرب على الشك، أما في بلادنا يقول: فإنما يتعلم الأطفال الاستنجاء والاستجمار، وأحضر إناءً من الماء، وقل: بسم الله، هذا الذي يتعلمونه، أما في أمريكا فهو تعليم راقٍ، لأنه يربي الطفل على الشك في كل شيء حتى في الدين، والغريب أنه منذ سنوات صدر كتاب خطير اسمه "أمة مهددة بالخطر" كتبه ثمانية عشر كاتباً كونوا لجنة اشتغلت ثمانية عشر شهراً من جهات شتى، وكان من أهم التوصيات التي خرجوا بها لدعم مسيرة الأمة الأمريكية وحمايتها من الانهيار؛ أنه لا بد من تعميق التعليم الديني، وتكثيف المعاني الدينية والعاطفية في نفوس الطلاب؛ لحمايتهم من ألوان الفساد والرذيلة والانحلال، الذي يجعلهم لا يستطيعون أن يخدموا أمتهم وبلادهم كما يراد لهم، ففي الوقت الذي يطالب الأمريكان فيه والروس أيضاً وغيرهم، بإعطاء جرعات من الدين والتدين للطلاب، وهؤلاء ينادون بعزل الدين عن التعليم وتكثيف المواد الرياضية أو العلمية البحتة مثلاً، وتقليل المواد الشرعية، كالحديث والثقافة الإسلامية وغيرها.
يطالبون بعزل الدين عن الإعلام مثلاً، يطالبون بعزل الدين عن الفن، يطالبون -بكل اختصار- بعزل الدين عن الحياة كلها.
إذاً: فالعلمانية هي: عزل الدين عن الحياة.(157/28)
حتمية المواجهة
أخيراً أيها الإخوة! لابد من المواجهة، فإننا حين نتكلم عن هؤلاء القوم لا نريد أن نعطيهم أكبر من حجمهم، فإننا نعلم بمقتضى شريعة الله عز وجل بأن الإسلام أقوى منهم، وأن الإسلام راسخ في هذه البلاد رسوخ الجبال الراسيات، وكم من موجة تحطمت على صخرة الإسلام وارتدت! موجات كاسحة، عسكرية وفكرية، وفتن كبرى، حتى فتنة الدجال -وهي أعظم فتنة- إنما تتحطم حين تصل إلى هذه الجزيرة، فهذه جزيرة الإسلام، والإسلام قَدَر هذه الجزيرة، لكن مع ذلك فإن هذا يتحقق من خلال جهودنا نحن في مواجهة العلمانيين في هذه البلاد ومحاربتهم بكل وسيلة.
وأقتصر في نهاية هذه المحاضرة على أسلوبين من أهم أساليب المواجهة:(157/29)
ضرورة العمل الجاد
الأمر الثاني: هو ضرورة العمل الجاد، فإن سنة الله عز وجل أنه لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، لا في الدنيا ولا في الآخرة، والله لا يضيع أجر المحسنين، كما أن الله عز وجل لا يصلح عمل المفسدين، فهؤلاء مفسدون، عملهم في ضياع وفي بوار، أما المؤمنون الصادقون الصالحون فليعلموا أن عملهم في الدنيا والآخرة محفوظ: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] .
إخوتي الكرام! إن هذا التاريخ الذي سمعناه عن تركيا وعن غيرها من البلاد الإسلامية التي سقطت في أيدي العلمانيين يعيد نفسه.
ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمرهِ فينبغي أن نتعظ بغيرنا، وأن ندرك جيداً الخطط التي يبرمها علمانيو هذه البلاد للهيمنة على المجتمع، وجره إلى التعاسة والشقاء، ومحاولة مسخ دين هذا البلد وعقائده وأخلاقه، بل وحتى عاداته الاجتماعية، وجعله قطعة من بلاد الغرب التي فيها درسوا، والتي من ألبانها رضعوا.
أسأل الله عز وجل أن يكفي المسلمين شرهم، وأسأله -جل وعلا- أن يفضحهم وأن يكشف عوارهم للمسلمين عامة حتى يحذروهم، ويدركوا خطرهم، كما إني أسأل الله تعالى وأتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يجعل في قلوب المؤمنين الحماس والرغبة الصادقة في العمل الجاد لما يرضيه، وفي الجهاد الصادق في سبيله، وفي قول كلمة الحق، وفي الدعوة إلى الله تعالى، وفي جمع الكلمة، وفي بذل النصيحة، وفي محاولة رد كيد الكائدين، سواء كانوا من العدو الداخلي المستتر، أم من العدو الخارجي المعلن، وأسأله تعالى أن يكلل العاملين بالنجاح، وأن يرزقنا جميعاً الإخلاص؛ إنه على كل شيء قدير، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين.(157/30)
ضرورة الكشف عن العلمانيين
الأول: ضرورة الكشف، فإن الله كشف المنافقين، وأنزل سوراً عديدة منها التوبة، حتى كانت تسمى "المقشقشة" ما تركت أحداً إلا ذكرته منهم، حتى بينتهم وفضحتهم، وكانت تسمى "الفاضحة" أيضاً، فنريد من أهل الإسلام -علماء الإسلام وطلبة العلم والدعاة- أن يترسموا ويستلهموا منهج هذه السورة في فضح العلمانيين، نريد أحداً يقول لنا في هذا الزمان: ومنهم ومنهم، فيذكر لنا علاماتهم التي يعرفون بها، خاصة وأنهم يتكلمون بكلام حسن جميل، شأنهم في ذلك شأن إخوانهم الأولين، كما حكى الله عنهم: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] لفصاحتهم وبلاغتهم، ويقول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] .
إذاً لا بد من فضحهم وكشفهم، وبيان عوراتهم، خاصة وأن كثيراً من العامة ينخدعون بهم، وهذه مصيبة، أن تسير الأمة خلف ركابهم مخدوعة، لأنهم يستخدمون ألفاظاً إسلامية، وقد يستشهد أحدهم بآية أو حديث، أو كتاب لأهل العلم، وقد ينقل قاعدة فقهية، وقد يتكلم، وقد يصلي أحياناً، وهذا الفضح لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون من خلال التشويش والتهويش والغضب والانفعال والصراخ أبداًَ، يجب أن يكون من خلال الوثائق والحقائق والمعلومات الدامغة التي تجعل حتى عدوك لا يملك إلا أن يوافقك على ما تقول.(157/31)
الأسئلة(157/32)
علاقة العلمانيين بالحداثيين
السؤال
ما علاقة العلمانيين في البلد بالحداثيين، والحداثيين بالأحداث القائمة بالخليج؟
الجواب
علاقتهم أنهم يصطادون في الماء العكر، ويستغلون كل فرصة للانقضاض والاستفادة من انشغال الأمة بالأحداث الكبرى، كما فعلوا حين وجدوا الأمة مشغولة بأحداثها الكبرى، ففاجئوا الأمة بهذا الحدث الذي أنسى ما قبله، وجعل أعصاب الناس كلها مشدودة تجاه هذا الحدث الجديد.(157/33)
كشف رءووس العلمانية
السؤال
الرجاء أن تذكر أسماء رءوس العلمانية في هذا البلد، وفي بعض البلاد الأخرى؟
الجواب
في الواقع أن ذكر رءوس العلمانية وأسمائها واجب شرعي، وكما أن علماء هذه الأمة في الماضي كشفوا أهل البدعة وتكلموا عنهم ولا كرامة، وفضحوهم بفسقهم، واعتدائهم على كلمة الله عز وجل بتعريتهم وحماية الأمة من شرهم وفسادهم، وكما أن علماء الأمة في الماضي تكلموا عن رجال الحديث جرحاً وتعديلا، فقالوا: فلان ضعيف، وفلان سيئ الحفظ، وفلان كذاب، وفلان متهم، وفلان يسرق، وفلان وفلان، كذلك واجب على علماء هذا الزمان فضح وتعرية رءوس العلمانية، ولكن من خلال الوثائق كما ذكرت لكم، وبناءً عليه فلو ذكرت لكم رموز العلمانية الآن، لما كنت موافقاً للمنهج الذي قلته، أن يكون الفضح من خلال الكلام والحقائق والوثائق، لا من خلال حكم أطلقه دون أن أقدم لكم دليلاً عليه.(157/34)
مراحل ظهور العلمانية
السؤال
متى ظهرت العلمانية هنا، وما مراحل ظهورها، ومن هم أشهر قادتها؟
الجواب
لقد سبقت الإجابة على بعض هذه الأسئلة، أما متى ظهرت؟ يعتبرون أن حركة مسيرتهم التي أعلنوها بداية لظهور العلمانية، والتغريب والتخريب، وتحرير المرأة بصورة واضحة مكشوفة، على أنهم كانوا قبل ذلك يعملون في السراديب المظلمة، كالخفافيش التي لا تعمل إلا في الظلام.(157/35)
زيارتي للولايات المتحدة الأمريكية
يقول: كنت في زيارة في شهر ثلاثة لعام 1411هـ للولايات المتحدة الأمريكية في مهمة لحضور مؤتمر إسلامي، وقد أقيمت محاضرة لقسٍ كبير في إحدى القاعات، وكان يتكلم عن أزمة الخليج، وفي أثناء حديثه قال كلاماً نصه: إنه ليس الخوف من قبل أي قوة أخرى، إنما الخوف من نجد والجزيرة، وقد سأله الحاضرون، ما هي نجد والجزيرة؟ فقال لهم: إنها تقع في قلب الجزيرة، وهي منبع الأصولية، إذاً فالخطر من الأصولية، وهذا يؤيد ما ذكرت، فالأصولية التي يذكرونها هي هذه الديار حفظها الله من كيدهم ومكرهم.(157/36)
دور التغيير يقع على الجميع
السؤال
طرق العلمانيين كثيرة، وهم يشنونها بواسطة حملة شرسة قوية على الإسلام والمسلمين، فأين دور الهيئات العلمية في إيقافهم عند حدهم في هذا البلد الطيب، واستغلال الأجهزة نفسها؟
الجواب
لي رجاء للأخ الذي كتب السؤال، والإخوة جميعاً، أن ننهي كلمة: أين دور، أين دور هذه اجعلوها مؤقتاً على الرف، أين دور فلان؟! أين دور كبار العلماء؟! أين دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! أين دور المسئولين؟! هذه ينبغي ألا نقولها، ينبغي أن ننصح من نستطيع نصيحته، وهذا مطلوب، الشيء الثاني: أن نقوم بما نستطيع أن نقدمه، عندك شيء تستطيع أن تقدمه للإسلام أسرع به، فالنار تشتعل في بلاد الإسلام، غير هذا ليس هناك داعٍ؛ فعلى رغم أن العدو يدق الأبواب ما زلنا في مرحلة التلاوم، المسئولية على فلان، أين دور فلان؟ أين دور علان؟! بالأمس جاءني أحد الشباب مغضباً، والشرر يتطاير من عينيه! فقال أين دوركم؟ ماذا تصنعون؟ من لم يتحمس في الوقت فمتى يتحمس؟! وأصبح يرتجل عليَّ خطبة عصماء قوية، فلما انتهى قلت: بارك الله فيك، نحن نريد أن نعمل شيئاً لكن نريد أن تشارك معنا، نريد أن تقوم معنا بعمل، هل لديك استعداد؟ فبدأ ينسحب شيئاً فشيئاً، قال: والله إذا كان على الكتاب والسنة، وهل نحن سنأمرك بما في التوراة والإنجيل؟! نحن لا نأمرك إلا بما في الكتاب والسنة، وإن وجدت ما يخالف فاعترض.
فكثير من الناس يجيدون تحديد مسئوليات الآخرين، وتوزيع الصلاحيات، ويخرجون هم أبرياء، وكثيراً ما أذكر لبعض الإخوة، وربما سمعتموها مني في بعض المحاضرات، كلمة أو مثلاً يُضْحَكُ به، ويتندر على أمثالنا، أننا نقول: المشاكل التي نعيشها من صنع الجيل السابق، وسيحلها الجيل اللاحق، إذاً نحن خرجنا خارج الدائرة، ولا يرضى امرؤ عاقل -وهبه الله عز وجل نعمة الإسلام- لا يرضى لنفسه هذا الدور، أن يكون صفراً على الشمال، يجب أن يقوم كل امرئ منا بدوره ولو كان صغيراً.
في ختام هذه الجلسة الطيبة المباركة أكرر وأجدد شكري القلبي العميق لمشايخي وإخواني المشايخ، من رجالات هذا البلد، وفضلائه وعلمائه، ولإخواني المشايخ الذين قدموا من بلاد أخرى، وأسأل الله أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(157/37)
أفضل طريقة لمعرفة العلمانيين
السؤال
ما أفضل طريقة لمعرفة العلمانيين وإن كان هناك كتب؟
الجواب
هناك كتب للتعريف بالعلمانية لعل من أفضلها وأوسعها، خاصة من الناحية التاريخية وعرض كيف نشأت العلمانية في أوروبا، كتاب الدكتور الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي حفظه الله العلمانية وأثرها في الحياة الإسلامية المعاصرة وكذلك هناك كتاب مفيد جداً لـ إسماعيل الكيلاني، اسمه فصل الدين عن الدولة وهناك تهافت العلمانية لـ عماد الدين خليل، إلى غير ذلك من الكتب، أما أفضل طريقة لمعرفة العلمانيين فهم كما حكى الله عز وجل عن المنافقين {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] اجمع تراثهم وكتاباتهم ومقالاتهم الصحفية ودواوين شعرهم وتعليقاتهم ومشاركاتهم، واقرأها جميعاً، تستخرج منها معالم واضحة يدورون حولها.(157/38)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب دفع العذاب
السؤال يقول: ما هي نظرتكم إلى الأحداث مع العلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضئيل في هذه المنطقة وفي غيرها فما نصيحتكم؟
الجواب
في الواقع أن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يجب أن نتذكر أنه من أهم الأسباب التي يدفع الله تعالى العذاب عن الأمم، كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث زينب في الصحيحين: {لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم إذا كثر الخبث} متى يكثر الخبث؟ إذا تُرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجب أن يكون هذا هماً عند كل امرئ منكم، بدءاً بالعلماء وطلبة العلم وغيرهم، فإنهم قادة الناس في هذا الأمر، وقد حملهم الله عز وجل من المسئولية ما ليس على غيرهم، ومروراً بالشباب المتدين وسائر الأمة، تأمر نفسك وتأمر غيرك، وتأمر مَنْ في بيتك، وتأمر جيرانك، وتأمر زملاءك في العمل، وتأمر سائر الناس، ولو قمنا بهذا الدور لتغيرت أشياء كثيرة كما ذكرت في الجواب قبل قليل.(157/39)
أشد الناس عداوةً للذين آمنوا
السؤال
بماذا توحي هذه الآية {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] ولا سيما أن بعضهم قد يفهمها خلاف ما هدفت إليه؟
الجواب
الآية ذكر الله عز وجل فيها أن أشد الناس عداوة للمؤمنين هم اليهود والمشركون، وأن أقرب الناس مودةً للذين آمنوا هم الذين قالوا: إنا نصارى، وعلل الله عز وجل ذلك بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:82-84] إلى آخر الآيات، المهم إذا جاءنا شخص وكان نصرانياً قال: آمنت بالله، وبرسل الله، وبما جاء من الحق، ودمعت عيناه من قراءة القرآن، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهو أخونا وإن كان بالأمس نصرانياً، لكن اليوم أصبح مسلماً، له مالنا وعليه ما علينا، هذه واحدة، وإلا فإن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فاليهود والنصارى وإن كانوا أعداءً في مرحلة من مراحل التاريخ إلا أنهم حلفاء حين يكون العدو هو الإسلام، وما الحلف الذي نشهده اليوم بين إسرائيل والدول الغربية، وبين إسرائيل والدول الشرقية، بإمدادها بالأموال وبالصناعات وبالخبرات وبالرجال وبالمعلومات، إلا دليل صارخ على أن هذا الحلف لا ينفك أبداً، حتى والمسلمون في أضعف فترات تاريخهم، حلف كبير وعميق وراسخ، وثقوا بأن أوروبا لا تثق بالعرب وإن جاملتهم، وأمريكا وإن جاملتهم وسايرتهم، إلا أن حليفها التاريخي الذي تطمئن إليه هو إسرائيل، وتعتبر أنها هي الورقة الرابحة دائماً وأبداً بيدها في المنطقة، ومن خلالها تحاول أن تنفذ ما تريد من مخططاتها.(157/40)
دعوة إلى إنشاء مجلات إسلامية
السؤال
إلى متى توجد المجلات الفاسدة؟ وهذا سؤال مشابه، يقول: قلت: لا مكان للعلمانية، ونسأل الله ذلك، لكن الملاحظ أن البلاد تعج بكثير من المغريات على شكل مجلات هابطة خليعة، وكتب مملوءة بالأفكار العلمانية الصريحة، وغيرها كثير، وهذه الأشياء متوفرة في كل مكان، ويقرؤها كثير من الشباب غير الواعي، مما يكون له أثر سلبي، لماذا لا تصدر مجلات إسلامية من عندنا لترد على أي مخرب، وليعي الشباب المسلم ما يدور حوله؟
الجواب
إن الدعوة لإصدار مجلات إسلامية أو جرائد إسلامية أصبح مطلباً ملحاً، واجهني في عدد من البلاد التي زرتها، خاصة بعد الأحداث الأخيرة، أحداث الخليج، ثم بعد الأحداث الداخلية، أما وجود هذه المجلات الخليعة، فلا شك أن المسئولية عندنا على شقين: الشق الأول على ولاة الأمر، ولا شك أن دخول مثل هذه المجلات لا يجوز، لما فيه من تعريض المؤمنين للخطر والفتنة سواء الفتنة، في أديانهم بما فيها من الشبهات، أو الفتنة في أخلاقهم بما فيها من الشهوات، التي تدعو إلى الرذيلة، ولا شك أن مجرد النظر إلى تلك الصور فيه من الفتنة ما فيه، وكثير منها تتاجر بصورة المرأة، لا تملك أكثر من هذا، وكلما كانت المرأة، التي في الغلاف أجمل كانت المبيعات أكثر، هذا كل ما عندهم، أفلسوا من كل شيء، وأصبحوا يدغدغون عواطف الشباب ومشاعرهم، برسم صور الجميلات على أغلفة المجلات.
أما المسئولية الثانية وهي تعنينا الآن، لأنه ليس هناك داعٍ أن نقول: لماذا توجد؟ ثم نقف متفرجين! هو أن نكون نحن إيجابيين في التغيير، وأعلم أيها الإخوة عدداً من البلاد أغلقت محلات الغناء فيها أبوابها عن آخرها، أكثر من بلد، لماذا؟ لأن أهل البلد تضافروا وتعاونوا على إزالة هذه المحلات بالنصيحة، فأثرت النصيحة في جماعة من هؤلاء، وتركوا المحلات، بعضهم أراد أن يبيعها فاشتروا منه وأغلقوه، أو حولوه إلى محل لبيع المواد الطيبة المفيدة، وبذلك أصبح لا يوجد فيها محل للغناء، أماكن أخرى لا تجد فيها مجلات سيئة، حتى أصحاب المحلات مثلاً، صار أهل البلد نتيجة التوعية والدعوة، صاروا يشترون بضائعهم من عند صاحب البقالة الذي لا يبيع الدخان، لا يبيع المجلة السيئة، ولا يبيع الشريط السيئ المنحل، ولا يبيع مجلات الأزياء، حتى إن أحدهم يأتي إلى البقالة مثلاً فيشتري بضاعة بأربعمائة ريال، فإذا اشتراها رفع رأسه فقال: هاه سبحان الله! تبيع الدخان! لا نأخذ شيئاً، خذ بضاعتك، أبقها عندك، لا يشتري، يذهب ويتركها، فيصاب هذا بصدمة.
مرة من المرات قال أحدهم: نحن لا نحب أن نبيعها، لكن لأجل الزبائن، لكن قلت له: أنا لست من الزبائن؟ تجاملهم ولا تجاملني؟ أنا أترك بضاعتك، إذاً نستطيع إذا كان كل واحداً منا إيجابياً، فقط نريد منكم شيئاً واحداً هو أن نكون إيجابيين جميعاً، لا نلقي بالمسئولية على أحد، ثم نمشي ونقول انتهينا: لا، نريد من كل واحد أن يكون إيجابياً بقدر ما يستطيع.(157/41)
حكم الدعوة إلى الوطنية
السؤال يقول: انتشرت الدندنة بالموت من أجل الوطن، فما حكم من يدعو بهذه الشعارات؟
الجواب
على كل حال مسألة الدعوة إلى الوطنية أصبحت معروفة على أنها نعرة قومية جاهلية، باعتبار أن الذين تبنوا الدعوة الوطنية -كما ذكرت لكم بعض أقوالهم- أنهم ليسوا من أولياء الإسلام وأهله وحزبه، لكن إذا جردنا هذا الموضوع، ونظرنا إلى قضية الدفاع عن الأرض التي يقيم بها المسلمون: ما حكمها؟ فحينئذٍ لا شك أن الدفاع عن هذه الأرض ضد المعتدي مشروع، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، من قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد} لكن عليك أن تدرك أن القتال حينئذٍ ليس فقط من أجل التراب لأنه الوطن الذي نشأت فيه، وأقلتني أرضه وأظلتني سماؤه.
الشمس أجمل في بلادي حتى السماء هناك أجمل إنما من أجل أن تظل البلاد بلاد الإسلام، من أجل حماية القائمين والعاكفين والركع السجود، من أجل حماية أعراض المؤمنات، من أجل إقامة حكم الله عز وجل في جميع شئون الحياة، من أجل تطبيق شريعة الله تعالى، وليس من أجل ترابها كما يقولون!(157/42)
دور الشباب المستقيم تجاه الأحداث
السؤال
ما دور الشباب المستقيم في مثل هذه الظروف، ماذا تعني الأحداث الأخيرة التي حصلت ومن وراءها؟ وهل كان للشباب ردة فعل؟
الجواب
في الواقع أن المسلمين كلهم من الشباب والشيب والرجال والنساء، كان لهم ردة فعل، لا أبالغ إذا قلت: إنني لا أعلم أنني رأيت في قلوب الناس وفي نفوسهم وعلى سحناتهم من الغضب والتأثر ما رأيته في تلك الحادثة، وأحلف بالله الذي لا إله غيره، إنني لا أذكر أنني رأيت في الناس الإجماع على رفض أمره، والامتعاض منه والتذمر والإنكار بكل وسائل الإنكار مثلما رأيت في تلك الأيام، أمر غريب في الواقع! وهو ترمومتر كشف لنا فعلاً عن أصالة هذه الأمة، وأنها وفية للإسلام أبداً: بلاد أعزتها جيوش محمد فما عذرها ألا تعز محمدا هذه بلاد محمد صلى الله عليه وسلم، هذه وفية لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيها دينه، فيها القبلة، فيها المسجد الحرام، فيها مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فيها درج أتباعه، فيها قام بنيانه، وهي للإسلام إلى قيام الساعة، أما من وراءها، فلا شك أن وراءها كثيرين، منهم نحن، فإننا بتفريطنا في مقاومة المنكرات التي سرت في مجتمعنا، وفي كشف رموز الفساد في مجتمعنا، وفي القيام بواجب الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ساهمنا في صناعة هذا الحدث، لم يكن ما حدث ليحدث لو كنا يقظين واعين، لو كان كل امرئ منا يعلم أنه على ثغرة من ثغور الإسلام؛ فيجب أن يظل منتبهاً لا ينام يحرس هذه الثغرة لئلا نؤتى من قبلها.
ما الذي يدري الإنسان؟ ربما تحدث أحداث في المستقبل، قد يكون أقرب قريب لك مشاركاً فيها، لماذا؟ لأنك لم تقم بدورك، قد يكون الواحد منا في بيته لغزاً، مهمته أن يأكل ويشرب وينام، أما ما سوى ذلك فخارج البيت، إما في العمل، أو الوظيفة، أو المزرعة، أو المتجر، أو ما أشبه ذلك، لا يراه أطفاله إلا على وجبة الغداء أو العشاء، إذا لم يكن معزوماً على الغداء أو العشاء، فنحن ساهمنا بذلك.
العلمانيون في البلاد لا شك أنهم وراء الموضوع، الأعداء في الخارج دائماً وأبداً يتحالفون مع من يوافقهم في الداخل، ولذلك أجهزة الإعلام الغربي طبلت كثيراً وراء هذا الحدث، وتكلمت عنه وضخمته، وجعلت من الأربعين تسعين، واعتبرت هؤلاء النسوة نموذجاً للمرأة السعودية المثقفة نموذجاً للجيل الجديد، وتناست وتجاهلت هذه الحشود الهائلة الرافضة، وهي والله بعشرات الألوف الرسائل والبرقيات -كما بلغنا- للاستنكار من هذا العمل، تجاهلوا كل هذا، وأبرزوا ثمانين، امرأة، ثم قالوا: المرأة السعودية الجديدة المثقفة أصبحت تتمرد على القيود!(157/43)
كيفية التعامل مع المناهج العلمانية
السؤال يقول: ما هو الحل لتلك المناهج العلمانية، التي تدرس، ويتخرج منها الأجيال، سواء من البنين أو البنات؟
الجواب
أقول: الحل هو واجب الجميع، وليس واجب جهة واحدة فقط، فإن من السهل أن نجعل المسئولية على جهات مختصة، وندع ما سوى ذلك، لكن أليس أولادي وأولادك وبناتي وبناتك هم الذين يدرسون في هذه المدارس؟! فلماذا لا نسهر على تصحيح هذه المناهج؟! لماذا لا نسهر على تنقيتها؟! والواقع يقول: إن التنقية ما زالت ممكنة، الآن ما زالت التنقية ممكنة، وقد جربت وجرب غيري أن تدوين بعض الملاحظات على بعض المناهج الدراسية، أو حتى على أسس المناهج وإيصالها إلى الجهات المختصة، كوازرة المعارف مثلاً، أو رئاسة تعليم البنات، إنها تثمر بكل حال، فهذه مسئوليتنا جميعاً، كما أن على الإنسان ألا يعمد إلى أولاده، فيسلمهم لغيره ليربيهم، بل عليه أن يشارك هو في تربيتهم حتى لو فرض أن المناهج قاصرة، أو فيها أشياء يريد أن يمسحها من أذهان بنيه وبناته، فإن عليه أن يقوم بدوره هو في ذلك، في التربية، وفي تكميل المهمة.(157/44)
أقنعة العلمانيين
السؤال
هل من الممكن اعتبار أحداث مصر الأخيرة من الصراع بين الإسلام والعلمانية؟ هل من الممكن أن تذكر بعض رموز العلمانية في بعض البلدان الإسلامية، التي تقوم بدور في هتك أستار الإسلام والمسلمين؟ ما هي الأقنعة التي ترتديها العلمانية متمثلة في رموزها لكي تخدر الأمة بأسلوب الصحافة أو غيرها؟
الجواب
ترتدي كل قناع دون حياء كما ذكرت لكم، حتى الإسلام يمكنه أن تتاجر به في فترة من الفترات، وهم غالباً يظهرون على أنهم رموز وطنية، مخلصة، مع الوطن في أزماته وشدائده، وهم الذين أثبتت الأحداث ولاءهم، هذا الذي يحاولون أن يلقوه في قلوب الناس.(157/45)
لابد من ضبط النفس
السؤال
لماذا يطلب من الملتزمين وحدهم ضبط النفس في ظل الأحداث الأخيرة، بعكس ما يحدث مع غيرهم كالحداثيين والعلمانيين ومن سار على نهجهم؟
الجواب
نحن نطالب المؤمنين ونطالب الشباب المتدين دائماً بأن ينطلق من منطلقات إدراك المصلحة، وذلك أن الإنسان قد يتصرف بأحد سببين، وأود من أحبتي الشباب أن يدركوا ذلك جيداً؛ أحياناً قد يتصرف الإنسان من منطلق أني أريد أن أُنَفِّسَ عن نفسي، أنا أجد في نفسي شيئاً أريد أن أنفس عنه، فهنا عليه أن يدرك جيداً ما هو الدافع، ليس الدافع دافعاً شرعياً مصلحياً، إنما هو دافع غضب شخصي ذاتي، هذا لا كلام لنا فيه، ولا أعتقد أن مسلماً يرضى لنفسه أن يكون هذا منطلقه.
الأمر الآخر: أنك تجد الشاب يقول: أنا دافعي الغضب لله ورسوله، والغيرة على الحرمات، والحرص على مصلحة الإسلام، حينئذٍ نقول له: الحرص على مصلحة الإسلام يتطلب منك أن تدرس أي أمر قبل أن تقدم عليه، لأن نفسك قد تدعوك إلى أمر العاطفة القوية، أو الغضب لله ورسوله، أو الاستفزاز من قبل الأعداء، فتتصرف تصرفاً هو في الحقيقة ليس في المصلحة، وأود أن أقول: إن العلمانيين من خططهم -كما أشرت أثناء المحاضرة- في ضمن سياق تاريخهم، أقصد به التطبيق على الواقع- أن العلمانيين من ضمن وسائلهم في كثير من الأحيان، يحاولون أن يقوموا بحركات استفزاز، حركات استفزاز لمشاعر الأمة، لمشاعر المتدينين، لمشاعر العلماء، لأنهم يتمنون أن يحصل الخطأ، حتى يرقصوا على هذا الأمر، ويجعلوا من الحبة قبة، ويبنوا هناك جبالاً من المخاوف، مبنية على أمر واحد، أو تصرف واحد، والغريب أنني لا أعلم في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، أن هناك ثورة قامت في بلد باسم الإسلام، لكن كم من الانقلابات كشفت شيوعية، أو علمانية، أو لا دينية، أياً كان لونها! ومع ذلك تجد الخوف الشديد عند كثير من هؤلاء من الإسلام، ولعل من أهم الأسباب هؤلاء العلمانيون الذين يحاولون أن يدقوا طبول الخطر من الإسلام باستمرار.(157/46)
علمانية أم جاهلية
السؤال يقول: لا أدري لماذا يطلق على العلمانية هذا الاسم، ولا يطلق عليها جاهلية، حيث إن العلمانية مشتقة من العلم، وقد يكون محبباً إلى النفوس؟
الجواب
إن كانت العلمانية مشتقة من العلم كما ذهب إليه بعض الباحثين فنعم، هذا من باب تسمية الشيء باسم ضده، أو باسم لماع جذاب مؤثر في نفوس الآخرين، وأما إن كان مشتقاً من أمر آخر كما ذهبت إليه بعض الدراسات الدقيقة، فالأمر يختلف.(157/47)
طرق العلمانيين في نشر الأفكار
السؤال
ما هي طرق العلمانيين في الدخول إلى أفكار الشباب؟ وما هي طرق الحصانة منها؟
الجواب
من أهم وسائل العلمانيين أنهم يحاولون الهيمنة على وسائل التأثير، التي تدخل إلى كل بيت، بل إلى كل عقل، كالجريدة والصحيفة والمذياع والتلفزة والكتاب، فضلاً عن المؤتمرات، فضلاً عن الندوات وغيرها، ومن خلال ذلك يحاولون أن يؤثروا في عقول الشباب، كما أنهم يستغلون الأدب والشعر، لمحاولة إيصال هذه الأفكار التعيسة إلى عقول عاشقي الأدب والشعر.(157/48)
الأصولية والولاء للعراق
السؤال يقول: كاتب جمع بين متناقضين هما الأصولية والولاء للعراق، فما تعليقكم على ذلك؟
الجواب
في الواقع أن لفظ الأصولية ينبغي أن يعلم الجميع أنه مصطلح نصراني، ولم نعلم هذا المصطلح إلا في دوائر المخابرات الغربية، التي أطلقت هذا المصطلح على المسلمين، وتعني بالأصولية ما نسميه نحن في هذه البلاد بالسلفية، فالأصولية أصلاً تعني أن فئة من النصارى أنفسهم، وهم يسمون بالحرفيين، حسب ما ذكرت بعض الدراسات أنهم الذين يفهمون الكتاب المقدس عند النصارى فهماً حرفياً، ولا يقبلون أي تأويل فيه، فأطلقوا هذا الاسم على المسلمين الذين يعتبرون أنهم سلفيون، مثلاً الحركة الوهابية التي قادها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هذه تسمى أصولية عندهم، لأنها حركة جهاد وليست حركة سياسية، أي: ليست بحركة سياسية تؤمن بالوسائل الدبلوماسية والمداهنة والمجاملة على حساب الدين، لا.
بل هي حركة صريحة واضحة متميزة، من أهم أصولها الولاء والبراء وتمحيص ذلك، قضية تحقيق العبادة، قضية البراءة من الطاغوت إلى غير ذلك من المعاني والأسس التي قامت عليها.
فنقلها بعض بني قومنا إلى صحفهم، وبدءوا يتداولونها ويطلقون لفظ الأصولية، واستغل بعضهم الخطأ الذي وقعت فيه بعض الطوائف الإسلامية، في ضجيج المشاكل القائمة، حين أيدت العراق في مواقفه، وحاولوا أن يستغلوا ذلك بإلصاق شتى التهم بكل من ينتسب إلى الدعوة الإسلامية، وأطلقوا عليه لفظ الأصولية، مع أن المقصود بلفظ الأصولية في دوائر الإعلام الغربي بالدرجة الأولى هذه البلاد، فهم قد يقولون: الأصولية في مصر تتمثل في جماعات أو فئات، وكذلك في أفغانستان، لكن في السعودية كما يقولون: يعتبرون أن الأمة أمة أصولية.(157/49)
قضايا تربوية للشباب
إن مرحلة الشباب مرحلة مهمة وخطيرة، ذلك لأن الشباب هو مرحلة قوة الإنسان وفتوته، فإن استغله في الخير عاد عليه بالخير الكثير، وإن استغله في الشر خسر والعياذ بالله، فالشباب هم الذين ينصر الله بهم الدين.
لذلك كان لا بد من تربيتهم تربية إيمانية صحيحة حتى ينصر الله بهم الإسلام، فما هو السبيل إلى تربيتهم؟ وكيف تتم؟ هذا ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، فقد ذكر أهمية الحديث عن الشباب، ثم ذكر بعض القضايا التربوية التي تهم الشباب بشيء من التفصيل.(158/1)
أهمية الحديث عن الشباب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوة: إن الحديث عن موضوع الشباب حديث ضروري ومهم، وذلك لأسباب عديدة: أولاً: يعيش الشباب في هذه المرحلة، كثيراً من التغيرات الجسمية والنفسية والعقلية وغيرها، وهذه التغيرات تسبب للشباب كثيرا ًمن المشكلات التي يحتاج معها إلى من يأخذ بيده إلى جادة الصواب، وإلى طريق السلامة.
ثانياً: إن الشاب يتمتع في شبابه بطاقات هائلة جبارة، هذه الطاقات المتنوعة، من الطاقة الجسمية، والقدرة الفكرية، والاستعداد للتضحية؛ يمكن أن تكون طاقة بناءة مثمرة إذا وجدت من يوجهها التوجيه الصحيح، ويمكن أن تكون طاقة هدامة للفرد والمجتمع إذا لم تحض بالعناية والتوجيه.
إن الطاقة التي يمتلكها الشاب أشبه ما تكون بالسيل الجارف، فهذا السيل إذا وضعت له السدود والمعابر وصرف بطريقة صحيحة؛ فإنه يكون خيراً للإنسان ولما يمتلكه الإنسان من الحيوانات والزروع وغيرها، وإذا أُهْمِلَ؛ فإنه يكون تياراً جارفاً يكتسح الإنسان والحيوان والزروع وغيرها من المنشئآت، وهكذا طاقة الشباب.
ثالثاً: إن الشاب يمتلك قدراً كبيراً من الفراغ لا يمتلكه غيره، وقديماً قيل: إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة نعم! إن الفراغ إذا صاحبه إهمالٌ في التوجيه وغفلة؛ فإنه يصبح مفسدة أي مفسدة، لكن إذا وفق الشباب بمن يوجهه إلى تصريف فراغه بطريقة صحيحة؛ فإنه يكون مصلحة أي مصلحة ومنفعة أي منفعة، وليس المقصود بالفراغ هو وجود أوقات لا يعرف الشاب كيف يصرفها، بل إن الفراغ يشمل أمراً آخر: وهو أن الشاب قد تعدى مرحلة الطفولة، التي كان فيها مجرد كائن بسيط تابع للبيت الذي يعيش فيه، وهو مستعد لقبول التوجيهات التي يلقيها إليه أبواه، تعدى الشاب هذه المرحلة، ولم يدخل بعد إلى المرحلة التي يرتبط فيها ارتباطاً كبيراً ببيت وأسرة وزوج وأعمال كثيرة تأخذ عليه وقته، فهو في مرحلة وسيطة بين هذه وتلك، فلهذه الأسباب الثلاثة؛ يصبح الحديث عن الشباب حديثاً ضرورياً ومهماً.(158/2)
وقفات مع حديث: (لن تزول قدم ابن آدم)
وإن مما يلفت نظرك أيها الشاب، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال -في الحديث الذي رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- أنه عليه الصلاة والسلام قال: {لن تزول قدم ابن آدم من عند ربه يوم القيامة، حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم} .
وحين تتأمل هذا الحديث يلفت نظرك إلى أمور منها:(158/3)
السؤال عن العمر
أولاً: إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، ليس العلم ولا العمل ولا المال، وإنما يسأل أول ما يسأل عن العمر، والسر في ذلك واضح؛ لأن هذا العمر الذي أعطيته هو الذي من خلال عملك فيه تكسب العلم، وتكسب المال وتعمل وتكد وتكدح، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو مالك الأشعري: {كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها} فهذا العمر الذي أعطيته هو ورقة الامتحان، تكتب فيها الجواب الذي تراه، فقد تكتب جواباً صحيحاً فتكون النتيجة النجاح، وقد تكتب جواباً غير صحيح فتكون النتيجة الإخفاق.
العمر هو الوسيلة لكسب جميع الأشياء، وإنما سعد من سعد في الدنيا وفي الآخرة؛ باستغلال أوقاتهم فيما يرضي الله عز وجل، وشقي من شقي في استغلال أوقاتهم فيما يسخط الله عز وجل، ولهذا فإن من الطبيعي والمنطقي، أن يسأل الإنسان عن عمره قبل أن يسأل عن علمه، وقبل أن يسأل عن عمله، وقبل أن يسأل عن ماله.(158/4)
السؤال عن الشباب
الوقفة الثانية: هي أن الرسول عليه الصلاة والسلام، أخبرنا أن الإنسان يسأل عن عمره، ثم يسأل أيضاً سؤالاً آخر عن شبابه.
فالسؤال عن العمر يشمل السؤال عن الشباب وعن الكهولة والشيخوخة والهرم، أما الطفولة فمن المعروف أن الإنسان فيها غير مكلف، وقد رفع عنه قلم التكليف فلا يسأل عن تلك المرحلة، وإنما يسأل عن الوقت الذي بدأ فيه بدخول سن التكليف، يسأل عن عمره بما في ذلك الشباب، ثم يسأل مرة ثانية سؤالاً خاصاً عن مرحلة الشباب، وهذا يدل دلالة واضحة على أهمية الشباب، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بيَّن أن الإنسان يسأل عن شبابه مرتين، مرة باعتباره جزءاً من عمره، ومرة يسأل عنه سؤالاً خاصاً.(158/5)
حملة الدعوة وأعداء الدعوة هم من الشباب
ولهذه الأهمية لفترة الشباب؛ فإننا نجد أن حملة الدعوات، وأنصار الرسالات، وقادة الموكب هم دائماً من الشباب، فلو نظرت إلى أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لوجدتهم غالباً من الشباب، ونجد أن الله عز وجل حين ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام قال: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس:83] .
يقول مجاهد بن جبر رحمه الله -أحد أئمة التابعين في التفسير- في تفسير هذه الآية، أي في تفسير الذرية: [[إنهم أبناء الذين بعث إليهم موسى بعد طول الزمان وبعد موت آبائه]] وهذا القول يفهم منه أن غالب الذين آمنوا بموسى واتبعوه، كانوا من الشباب، من أبناء الجيل الذي بعث فيه موسى، أما الكبار الذين بعث فيهم، فلم يؤمن منهم معه إلا قليل.
وحين ننظر في دعوة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، نجد هذه القضية واضحة كل الوضوح، فأنت لو تأملت أسماء الذين عذبوا في الله بمكة، أو أسماء الذين هاجروا إلى الحبشة، أو إلى المدينة، أو الذين حضروا الغزوات، أو الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله عز وجل؛ لوجدت أن غالبهم من الشباب.
وأضرب لذلك مثلاً واحداً، وهو ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه، في بيعة العقبة، يقول رضي الله عنه وأرضاه: [[إن العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، أحب أن يستوثق لابن أخيه، أحب أن يعرف من هم هؤلاء القوم الذين جاءوا من المدينة؛ ليبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، ليبايعوه على الإسلام وعلى الهجرة، وعلى أن يمنعوه إذا قدم إليهم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فقال العباس: يا ابن أخي، إني ذوا بصر بأهل يثرب، فما أدري من هؤلاء النفر الذي جاءوك -قال جابر بن عبد الله -: فتوافدنا على النبي صلى الله عليه وسلم من بين رجل ورجلين حتى اجتمعنا إليه، فقال العباس: هؤلاء قوم لا نعرفهم، هؤلاء أحداث]] .
لقد أبدى العباس دهشته حين نظر في طلعات هؤلاء المبايعين، وربما كان يظن أنه سيجد مجموعة من كبار الشيوخ الذين خطهم الشيب، أو الشيوخ الذين عرفهم في المدينة، من خلال مجيئه إليها ومروره بها في أعمال التجارة وغيرها، وإذا به يفاجئ أن هذه الطليعة المؤمنة، التي تبايع النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي من الشباب، فلم يُخف هذه الدهشة وهذا الاستغراب، فقال أمامهم وهم يسمعون: [[هؤلاء قوم لا نعرفهم، هؤلاء أحداث]] والحديث رواه الإمام أحمد والحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي، ورواه ابن حبان في صحيحه، وله طرق يتقوى بها.
وحين ننتقل إلى الحركات التجديدية، التي جدد أصحابها ودعاتها ما اندرس من شأن الدين؛ نجد أيضاً أن أنصار هذه الدعوات والذين يمشون خلف هؤلاء القادة والزعماء، أنهم كانوا -أيضاً- من الشباب، ومالنا نذهب بعيداً في التاريخ، ونضرب الأمثلة من الماضي السحيق، ونحن نجد اليوم في هذه الأزمنة وفي مختلف أنحاء العالم الإسلامي، بل في مختلف أنحاء العالم، نجد الذين رفعوا راية الإسلام، وأقبلوا على العلم والتعليم، والدعوة إلى الله عز وجل، ومعرفة السنة والعمل بها، والدعوة إليها، نجد أن غالبيتهم من الشباب.
وكل متأمل في أوضاع المسلمين اليوم، يجد أنهم يعيشون توبة وأوبة إلى الله عز وجل، وصحوة لا عهد لهم بمثلها، ليس على مستوى الشباب فحسب ذكوراً وإناثاً، كلا، بل وحتى على مستوى الكبار، وعلى كافة المستويات، ولكن للشباب في هذه الصحوة دور بارز ليس لغيرهم، وما كان لهذا العلم أن ينتشر لولا إقبال الشباب عليه ورغبتهم فيه بتوفيق الله تعالى.
إذاً فالذين يحملون مشعل الهداية، ويقبلون على الخير، هم في الغالب من الشباب.
وحين نقلب الصفحة نجد في المقابل، أن أعداء الأنبياء والرسل الذين يجاهرون بالعداوة ويستميتون في سبيلها؛ نجد أن من بينهم شباباً ممن لم تستنر قلوبهم بنور الإيمان، ونجد لهؤلاء الشباب من القوة في مقاومة دعوة الأنبياء وأتباعهم ما ليس لغيرهم من الشيوخ الكبار، ونجد في واقع المسلمين اليوم، وفي ماضيهم القريب أيضاً.
إن كثيراً من حملة المبادئ المنحرفة، ومن دعاة الأفكار الهدامة، كالشيوعية والقومية والبعثية وغيرها من المذاهب التي عرفها المسلمون في ماضيهم القريب وفي حاضرهم، نجد أن كثيراً من الذين نعقوا بهذه الدعوات، وصرخوا بها بين أظهر المسلمين، أنهم كانوا من الشباب.
ولا غرو أن نجد أعداء الإسلام من المستعمرين، يحرصون على أن يكون دعاة المبادئ المنحرفة من شباب المسلمين؛ لأنهم يعرفون أن شجرة الإسلام لا تجتث إلا بغصن من غصونها.
أيها الشباب! لقد عرفتم الآن أن للشباب أهمية كبيرة، وأن الشباب هم قادة الموكب، وأن الخير التي تنتظره الأمة يكون بإذن الله على يد الشباب ذكورهم وإناثهم، وبناءً على ذلك: فإن من حق الشباب الحديث عن المشكلات والقضايا التي يحتاجون إلى التنوير بشأنها.
وسأتحدث في هذه الدقائق عن أربع قضايا تربوية مهمة، يحتاج كل شاب إلى تفهمها:(158/6)
قضية القدوة
من المعروف أن في فطرة كل إنسان الميل إلى التقليد والمحاكاة، وهذا يبرز أكثر ما يبرز في الطفل مثلاً، حيث تجده حريصاً على تقليد أبويه أو أستاذه أو غير ذلك، ويظل هذا الميل موجوداً عند الإنسان في جميع مراحل عمره، الميل إلى التقليد والمحاكاة، وهذا الميل إذا ارتقى وأصبح مبنياً على البصيرة والوعي، فإنه ينتقل عن كونه تقليداً إلى كونه اتباعاً، ولذلك يقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فسمى التأسي على بصيرة، سماه اتباعاً، ولم يسمه تقليداً، وهذا هو الفرق بين التقليد والاتباع، فإن التقليد هو: محاكاة الغير واتباعه بغير معرفة الدليل والحجة، بغير بصيرة ووعي.
أما الاتباع: فهو التأسي بالغير مع معرفة الدليل مع البصيرة، والإنسان لا بد له من هذا أو ذاك، فإما التقليد وإما الاتباع.(158/7)
مزلق خطير في باب القدوة
ولكن هاهنا مزلق يقع فيه الكثير، وهو أن الاقتداء مبناه على الإعجاب، فأنت حين تقتدي بالشخص إنما اقتديت به لإعجابك به، وهذا الإعجاب قد يتحول من حيث لا يشعر الإنسان، إلى نوع من التعظيم والتقديس الذي لا يجوز، حتى تجد كثيراً من الناس إذا أعجبوا بشخص واقتربوا منه، لا يقتصرون على الإقتداء به في الأمور الحميدة المعروف مشروعيتها بأصل الدين، وإنما يتعدون إلى الإقتداء به حتى في الأمور العادية البحتة.
فتجد الواحد منهم يقتدي بهذا الشخص -مثلاً- في طريقة تحريك اليدين، في طريقة النطق بالكلام، وفي ترديد عبارات معينة يكون هذا الإنسان قد درج على تكرارها، حتى في الخط، وفي طريقة المشي، وفي أشياء كثيرة عادية جداً، بل يتعدى الأمر إلى أن يقتدي به في الأمور غير الصحيحة، فيصبح من الصعب على التلميذ أن يخالف أستاذه حتى في أبسط الأشياء، فتذوب شخصية التلميذ في أستاذه، ويفنى فيه فناءً مطلقاً، وهذا خطأ، وبهذه الطريقة لا يمكن أن يبرز الشاب، ولا أن توجد الإمكانيات والقدرات القيادية لديه.
هذه هي القضية الأولى وهي قضية القدوة.(158/8)
الحرص على الاستفادة والقرب من القدوة
أما المستوى الثالث من مستويات القدوة: فهو أن تبحث عن شخص من الأشخاص الأحياء المحيطين بك، ممن استجمعوا قدراً كبيراً من الفضائل والصفات، فتحرص على القرب منه، والاستفادة مما عنده، ومحاكاته في أمور الخير، من العلم والعمل والدعوة وغير ذلك من الفضائل، كما تحرص على الاستفادة من عقله ورأيه ومشورته، فيما يلم بك من أحداث ومواقف وتغيرات.
وقد يسأل سائل: وهل نحن بحاجة إلى هذا النوع من القدوة، بعد أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا؟ فأقول: ارجع إلى الحديث السابق الذي رواه جرير بن عبد الله.
إننا نعلم جميعاً أن الصدقة مشروعة بنصوص كثيرة من القرآن والسنة، ومع ذلك لما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالصدقة، فجاء هذا بصرة كادت يده تعجز عنها، وجاء آخر بقليل، وجاء ثالث بما يقدر عليه من المال أو التمر أو غيره، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها} .
إذاً حتى الأمور المشروعة الثابت مشروعيتها في الكتاب والسنة، نحن بحاجة والناس جميعاً بحاجة، إلى أن يروا في واقع الحياة أشخاصاً أحياء يعملون هذه الأشياء المشروعة؛ فتثور أريحية الناس للقيام بهذه الأعمال وأدائها، ولذلك فإن الله عز وجل لما أراد إقامة الحجة على الناس، لم ينزل إليهم الكتب فحسب، بل أنزل إليهم الكتب وأرسل إليهم معها الرسل، فالكتاب منزل على رسول، وهذا الرسول لم يكن ملكاً، وإنما كان بشراً حتى يتحقق للناس كمال الاقتداء، أما لو كان الرسول ملكاً من الملائكة؛ لقال الناس: هذا ملك لا طاقة لنا بأن نعمل كما عمل.
الخلاصة: أنه لا بد لك أيها الشاب أن تنظر فيمن حولك، إلى إنسان تتحقق فيه الصفات الحميدة جملة، فتحرص على القرب منه، والأخذ عنه، والاستفادة مما عنده، ولقد كان سلفنا الصالح يعتبرون هذا شرطاً من شروط العلم والتحصيل والتربية، فيقولون -مثلاً- في الشروط التي لا بد منها لتحصيل العلم، بعد أن يذكروا -مثلاً- الذهن الثاقب، يذكرون المعلم الحاذق، وكلكم يحفظ قول الإمام الشافعي: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان فصحبة الأستاذ والمربي والموجه لا بد منها.(158/9)
السبيل إلى القدوة الحسنة
وإذا كان الأمر كذلك وكانت القدوة تكون في الخير وفي الشر، فإن هاهنا سؤالاً لا بد منه، وهو: كيف نستطيع أن نوجد للشاب قدوة في الخير سالمة من الشر، وسالمة من الخطأ ومن النفس، كيف السبيل إلى هذه القدوة؟ هذا سؤال أريد الإجابة عليه.
مرة أخرى: إذا كنا نعرف أن القدوة تكون في الخير كما تكون في الشر، فكيف السبيل إلى تحصيل القدوة السالمة من الخطأ، السالمة من النقص، السالمة من الشر؟ السبيل إلى ذلك هو أن يكون قدوتك الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنك إذا اقتديت بغيره اقتداءً مطلقاً، لا محيد لك عن الوقوع في الخطأ، أما الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فهو سالم من ذلك، ولذلك قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] .
هذا هو المستوى الأول والأعلى والأسمى من مستويات القدوة، ولكن هل هناك مستويات للقدوة تأتي بعد هذا المستوى؟ يمكن أن نجد مستويات أخرى، فمثلاً: يكون الشاب في كثيرٍ من الأحيان ذا ميل إلى نوع معين من أنواع النبوغ، كالعلم أو العمل أو الدعوة، أو التخصص أيضاً في علم من العلوم أو ما أشبه ذلك، فيحتاج إلى أن يكون أمامه شخص بارز بصفة خاصة في هذا المجال؛ ليسير على خطاه، ويجعله مثلاً أعلى له في هذا المجال، وهذا أمر طبيعي، فمثلاً الاقتداء بـ عمر بن عبد العزيز في العدل، أو بالإمام ابن تيمية في الجهاد والدعوة، أو بالإمام أحمد في الزهد أو في الصبر على العقيدة الصحيحة والثبات عليها، أو الاقتداء مثلاً بالإمام محمد بن عبد الوهاب في الدعوة إلى الله تعالى، وإقامة مجتمع صالح على أساس الكتاب والسنة، إلى غير ذلك من الشخصيات الكثيرة التي يمتلئ بها التاريخ الإسلامي.
هذا النوع من الاقتداء، يلبي رغبة وناحية جبلية وفطرية موجودة لدى الإنسان، وينبغي للإنسان أن يجعل له مثلاً أعلى من هؤلاء الأئمة ومن غيرهم، ولذلك روى أبو نعيم في الحلية، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه، أنه كان يقول: [[من كان متأسياً فليتأس بمن قد مات]] وكذلك تجد أن الفتاة المسلمة -مثلاً- هي بحاجة إلى أن تجعل من خديجة أو عائشة أو أسماء بنت أبي بكر، أو غيرهن من المسلمات مثلاً أعلى لها.(158/10)
القدوة تكون في الخير والشر
التقليد يكون في الخير كما يكون أيضاً في الشر، ويكون في الحسنة كما يكون في السيئة، وفي القصة التي رواها أبو عمرو جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، كما في صحيح مسلم: {أن قوماً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مجتابي النمار، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، وكان يظهر على هؤلاء القوم أثر الجهد والفقر والفاقة، فتأثر النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى ما عليهم من أثر الفاقة، فأمر بلالاً فأذن وأقام الصلاة، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام فخطب الناس، وحمد الله وأثنى عليه، ثم دعا الناس إلى الصدقة، فقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمره، فبدأ الناس يتصدقون حتى جاء رجل من الأنصار بصرة كادت يده تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها، وصار هذا يأتي بثوب، وهذا يأتي بصاع تمر، وهذا يأتي بصاع بر، حتى صار أمام النبي صلى الله عليه وسلم كومين من طعام وثياب، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه سلم حتى كأنه مُذهبة من شدة الفرح والسرور، ثم قال صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء} .
تأمل هذه السنة الحسنة الواردة في هذا الحديث وهي الصدقة، فإن الناس اقتدوا فيها بمن سبقهم فتصدقوا، وتجد في مقابل ذلك -أيضاً- من أعرض عن الصدقة، أو سخر من المتصدقين، فقال لمن أتى بمال كثير: إن هذا إنما أراد الرياء والسمعة.
وقال لمن أتى بصاع من تمر مثلاً: إن الله غني عن صاع هذا، كما حكى الله عز وجل عن المنافقين الذين يلمزون المطّوعين من المؤمنين في الصدقة، قال: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} [التوبة:79] .
فالقدوة تكون في الخير وتكون في الشر، ويقول صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه: {لا تقتل نفسٌ ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل} وهو عليه الصلاة والسلام يشير بهذا إلى قصة ابني آدم، التي حكاها الله عز وجل في كتابه، في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ الآية} [المائدة:27] وهي المشهورة بقصة قابيل وهابيل.(158/11)
قضية اختيار الجليس
فإن الشاب في مرحلة الشباب بصفة خاصة، يميل إلى تكوين الصداقات المستقرة الثابتة، وإلى الانتماء إلى مجموعات معينة يشعر بأنه فرد فيها وعضو منها، لا أقول: إن هذا الأمر خاص بفترة الشباب، بل حتى الطفل يميل إلى الخلطة، وحتى الكبير كذلك، ولذلك قال ابن خلدون -تبعاً لـ أرسطو -: الإنسان مدني بالطبع.
وهو يقصد أن الميل إلى المخالطة والاحتكاك بالناس، أمر فطري غريزي مركوز في الإنسان، ولكنه يبرز في الشاب أكثر من غيره، فالشاب يميل إلى تكوين صداقات من نوع معين، ومن الشباب الذين يكونون في مثل سنه.
وهذه الصداقات تتميز بالاستمرار والاستقرار، فالطفل مثلاً يكون مع زملائه في الحي، فإذا انتقل أهله إلى حي آخر بدأ يلعب مع الأطفال في الحي الثاني، ونسي أصدقاءه السابقين، يكون في فصل في المدرسة -مثلاً- ويلعب مع زملائه، فإذا انتقل إلى فصل آخر نسي زملاءه السابقين وكوَّن صداقات جديدة، فصداقاته غير مستقرة ولا ثابتة، أما الشاب فصداقته تميل إلى الاستقرار والثبات.
الأمر الآخر: أن الشاب يحرص على الشعور بالانتماء إلى هذه الجماعة، سواءً كانت المجموعة مكونة من زملاء في المدرسة، أو في الحي، أو في المكتبة، أو في الحلقة، أو في المسجد، أو في غير ذلك، ويشعر بالأمن والطمأنينة بينهم، ويبثهم شجونه وآلامه وأحزانه، ويتحدث معهم في المشكلات التي يواجهها، وفي الطموحات التي يطمح إليها، وهو ينتظر من هؤلاء الشباب، لا أن يكونوا زعماء متسلطين يفرضون رأيهم عليه بالقوة، فإنه يكره مثل هذا النوع من العلاقة، وإنما ينتظر مجموعة من الأصدقاء الذين هم نظراء له يبادلونه الود والمحبة والمشورة.
والشاب أيضاً يكره الصداقة المفروضة عليه، فمن الصعب أن يفرض عليه أبوه أصدقاءً معينين، بل هو يختار لنفسه صداقة بنفسه، وهنا تكمن الخطورة، فإن الشاب لم يتدرب على اختيار الأصدقاء، وكثيراً ما يختار أصدقاء ويحسن بهم الظن، فيفاجئ بأنهم برزوا بصورة غير ما توقع؛ ولذلك يُحكى أن أعرابياً بالكوفة.
اختار صديقاً له، وكان يحسن الظن به أي إحسان، ويتخذه من عدده في الشدائد، فنزلت بهذا الأعرابي نازلة، فجاء لصديقه يطمع منه أن يعينه فيها، فتنكر له هذا الصديق وقلب له ظهر المجن، وكأنه لم يعرفه يوماً من الأيام، فولى هذا الأعرابي وهو يقول عن صديقه: إذا كان ود المرء ليس بزائد على مرحباً أو كيف أنت وحالك أو القول إني وامق لك مشفق وأفعاله تبدي لنا غير ذلك ولم يك إلا كاشراً أو محدثاً فأف لود ليس إلا كذلك لسانك معسول ونفسك هشة وعند الثريا من صديقك مالك وأنت إذا همت يمينك مرة لتفعل خيراً قابلتها شمالك فكم من إنسان يختار الأصدقاء ويحسن الظن بهم؛ فيجدهم على خلاف ذلك.
والضابط في اختيار الجليس الصالح هو أن تختار الشاب المتدين، الذي تزيدك صداقته قرباً من الله عز وجل، وتقوى له وعلماً وعملاً، وكم من الشباب كانوا منحرفين، فكانت هدايتهم -بعد توفيق الله وإرادته- على يد قرناء صالحين، وكم من شاب كان صالحاً فكان انحرافه وفساده، ووقوعه في المخدرات والمسكرات، وفي السفر وغيرها من ألوان الانحراف، على يدي قرناء سيئين.(158/12)
الوساوس التي تواجه الشاب
القضية الثالثة -التي أحب أن أتحدث عنها- فهي: الحديث عن الوساوس التي تواجه الشاب.
فإن الشاب في هذه المرحلة له طاقات كثيرة، منها: الطاقة العقلية حيث تنمو طاقته، ويتسع تفكيره؛ فيصبح الشاب ميالاً إلى القراءة والاطلاع بشكل كبير، كما تبرز لديه بسبب هذه الحركة الفكرية، بعض الوساوس والمشكلات، التي يسميها العلماء والباحثون، أو يسميها بعضهم بالشك الديني.(158/13)
علاج الوساوس
أما فيما يتعلق بالشك الذي ينتاب الشاب في هذه المرحلة، فإن على الشاب أن يدرك أن هذا في الحقيقة ليس شكاً، وإنما هو نوع من الوسواس الذي يلقيه الشيطان في قلبه، وعلاجه يكون في الانتهاء وعدم الالتفات إلى هذا الكيد، ولذلك أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة، أنه عليه الصلاة والسلام قال: {يأتي الشيطان أحدكم فيقول له: من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق الله، فإذا وصل إلى ذلك فليستعذ بالله ولينته} .
فأرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الانتهاء، وبالتجربة ثبت أن أعظم علاج يواجه به الشاب هذه المشاعر أو الوساوس، هو ألَّا يعيرها اهتمام، ولا يكترث لها ولا يعظمها في نفسه، فإن الشيطان إذا رأى أنك قد تأثرت وانزعجت من هذه الوساوس؛ فإنه يحرص على الزيادة منها والتركيز عليها، أما إذا رأى أنك لم تكترث لها؛ فإنه يلتفت أو يتجه إلى نوع آخر من التأثير أو الوسوسة.
الأمر الثاني: هو كثرة الاستعاذة بالله من كيد الشيطان، ويتمثل ذلك في الأوراد الصباحية والمسائية، والاستعاذة بالله في كل حال، وبالذات إذا خطر الشيطان بينك وبين نفسك، فتستعيذ بالله منه في جميع الأحوال.
الأمر الثالث: قراءة الكتب التي تزيد في تثبيت العقيدة، فإذا كانت الوسوسة في ذات الله تبارك وتعالى؛ فاقرأ الكتب التي تتحدث عن إثبات وجود الله، وتذكر ذلك بالأدلة العقلية والنقلية، وتؤكده بسرد الآيات الكونية التي تزيد الإيمان وتركزه وتؤكده في القلب.
الأمر الرابع: هو أن تفضي بما لديك إلى ثقة من الثقات، فتبحث عن إنسان تثق إليه وتطمئن به، وليكن -مثلاً- هو أستاذك وقدوتك التي اخترتها؛ لتقتدي بها في الحياة، فتفضي إليه بما تجده في نفسك، حتى يكون عوناً لك على الخروج من هذه المشكلة التي تعانيها.
هذا هو الجانب الأول: وهو الجانب العقلي الذي يحتاج الشاب إلى الحديث عنه، وقد كان الحديث عنه من شقين: الشق الأول: الحديث عن إشباع رغبة حب الاستطلاع؛ لتوجيه الشاب إلى الكتب المفيدة التي تناسب هذه المرحلة.
الشق الثاني: هو الحديث عن المشكلات أو الوساوس التي تعتري الشاب في مثل هذا الوقت.(158/14)
الشك فيما يتعلق بالقراءة والاطلاع
فأما ما يتعلق بالقراءة والاطلاع، فإن الشاب يميل إلى قراءة القصص، وكثير من القصص اليوم، هي قصص منحرفة تهيج في الشاب الغرائز الجنسية، وتشحذ فيه الشهوة الحيوانية، ولذلك فإن على الشاب أو الموجه أن يحرص على اختيار القصص المفيدة، ومن القصص التي ينصح الشباب بقراءتها: كتب الكيلاني، وكتب المجذوب، وكتب الحمصي، وغيرها من القصص المفيدة، وكذلك قراءة قصص الأنبياء والعظماء والصالحين، ككتب السيرة النبوية، سيرة ابن هشام مثلاً، أو سيرة ابن كثير، أو تهذيب السيرة لـ عبد السلام هارون، ومثلها سير الصالحين، كسير أعلام النبلاء للذهبي.
وعلى الشاب أيضاً أن يكثر من قراءة قصص الرحلات الإسلامية، التي كتبها الرحالة المسلمون عن مشاهداتهم في رحلاتهم؛ لأن هذا يشبع لديه غريزة حب الاستطلاع.
كما أن عليه أن يختار في كل فن من الفنون أو علم من العلوم كتاباً أو أكثر، يكون موثقاً ويختاره بواسطة أستاذه أو معلمه، فتقرأ في العقيدة كتاب التوحيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، أو شرحه فتح المجيد، أو تيسير العزيز الحميد أو غيرهما من الشروح، وكذلك كتاب: معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي، وتقرأ في الحديث -مثلاً- كتاب رياض الصالحين، أو كتاب مختصر صحيح البخاري، أو مختصر صحيح مسلم، أو شرح خمسين حديث، المسمى بجامع العلوم والحكم لـ ابن رجب الحنبلي، أو غيرها من كتب ابن رجب رحمه الله، فهي كتب نفيسة مفيدة، وتقرأ في العلوم الأخرى أيضاً كتباً موثقة مختارة.(158/15)
الغريزة الجنسية
هي أن الشاب يعيش في فترة الشباب زمن فوران الغريزة الجنسية، كما لم يعشه من قبل، وكثيرٌ من الشباب يعانون من هذه الغريزة، ويعيشون على نار ملتهبة، بين هذه الغريزة المتأججة، وبين ما يواجههم من الصعوبات في إشباع هذه الغريزة بطريقة شرعية صحيحة، مع علمهم من جانب ثالث بأن الله عز وجل قد حرم عليهم إشباع هذه الغريزة عن طريق الحرام.
والحديث عن الغريزة الجنسية ذو شجون، وكثير من الشباب يكتبون مئات، بل آلاف الأسئلة حول هذا الموضوع، وإن التوجيه الذي يمكن أن يقال بهذه المناسبة يتلخص في النقاط التالية:(158/16)
دور الشيطان في إثارة الغريزة الجنسية
من جهة أخرى يقع بعض الشباب أيضاً في حرج آخر، فهو يعيش في وسط مجموعة طيبة من زملائه، وحين يخلو بنفسه قد يقع في مثل هذه القاذورات، فيقول له ضميره: أنت منافق! أنت قذر ملوث، لا يجوز أن تعيش في وسط ناس طيبين! كيف تجالس نأساً أبراراً أطهاراً أتقياء أنقياء، ثم إذا خلوت بنفسك وقعت في هذه الأشياء المحرمة الشيطان حين يقول للإنسان هذا وذاك، يريد أن يحصل منه على أمرين انتبه لهما: الأمر الأول: أن يغري الإنسان بترك التوبة، لأنك تتوب ثم تنقض التوبة، والجواب الصحيح أن نقول: كلا، بل يجب على الإنسان أن يتوب من كل ذنب، وحتى حين يذنب ثم يتوب، ثم يذنب عليه أن يتوب، حتى يموت، وهو مطالب بالتوبة في كل حال، ومطالب بأن يجدد التوبة ويصبر عليها.
الأمر الثاني الذي يريده الشيطان من الإنسان: هو أن يترك الجلساء الصالحين؛ لأنه يشعر بأنه متناقض إذا جلس معهم، فيغريه الشيطان بالبعد عن المجالس الطيبة، فإذا ابتعد عن هذه المجالس انفرد به الشيطان؛ لأنه إنما يأكل من الغنم القاصية، فأغراه بما هو أعظم وأطم من ذلك، فربما دعاه إلى الوقوع في الفواحش، وربما دعاه إلى السفر إلى بلاد الكفر والإباحية، وربما دعاه إلى ألوان ودروب أخرى من الرذيلة، فعلى الإنسان ألَّا يستجيب لهذه الوسوسة التي تدعوه إلى ترك التوبة، أو تدعوه إلى ترك مجالسة الناس الطيبين.(158/17)
مجاهدة النفس
الأمر الثالث: عليك أن تجاهد نفسك في ترك الحرام، وتعرف أن سبيل المجاهدة هو السبيل الوحيد الموصل إلى ما تحب، لماذا؟ لأن القضاء على هذه الغريزة قضاء مبرماً، غير مطلوب شرعاً ولا منطقاً، ليس مطلوب منك شرعاً أن تقضي على هذه الغريزة، وكثير من الشباب يقول حين تحاصره هذه الغريزة، وينزعج من ضغطها، يقول: إنني أتمنى أن أقضي عليها حتى أسلم منها وأرتاح وأنجو بديني.
لكن هذا تفكير غير صحيح؛ لأن القضاء على هذه الغريزة غير ممكن ولا مطلوب، وإذا كان ذلك كذلك، ولم تستطع تصريفها بالطريق الصحيح، فليس أمامك إلا طريق المجاهدة، مع فعل الأشياء المعينة التي سبقت، لكن لا بد من المجاهدة، وضبط النفس على العفاف والبعد عما حرم الله، وهذا ليس كبتاً -كما يسميه بعض المنحرفين- أبداً، لا يجد الإنسان السعادة إلا بذلك، وبالعكس إذا وقع الإنسان في المعصية، أصابه من توبيخ الضمير وتقريعه والشعور بالندم، ما لا يخطر له على بال.
أما إذا امتنع، فإنه كلما تذكر أنه منع نفسه من الحرام، شعر بلذة قلبية غامرة، فلا بد من المجاهدة وهي السبيل الوحيد أمام الشاب، ومع المجاهدة يقع الخطأ أيضاً، قد يقع من الإنسان نظرة محرمة غير دائمة ولا مستقرة، بل قد يتعدى الأمر إلى وقوع الشاب -أحياناً- في بعض الأشياء التي يكرهها، كثير من الشباب يشتكون -مثلاً وخاصة الشباب المنحرف أو العادي الذي لم يوفق بتوجيه سليم- يشتكون مما يسمونه بالعادة السرية، وأن الإنسان يقع فيها، ثم قد يتوب، ولكن ما إن يزول توبيخ الضمير وتقريعه، تبدأ المثيرات وتتحرك الغريزة من جديد، حتى يقع الشاب مرة أخرى وهكذا، فهو يشعر أنه بين شد وجذب، وبين توبة ونقض للتوبة.(158/18)
الزواج
أولاً: على الشاب أن يحرص على إشباع الغريزة بالطريقة الشرعية الصحيحة وهي الزواج، وهذا هو الأمر الذي أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج} .
وإذا كنت تعرف أن الإحصان هو الطريق الصحيح للسلامة من آثار هذه الغريزة المدمرة في كثير من الأحيان، فإن عليك أن تفكر تفكيراً جدياً في موضوع الزواج، وإذا فكرت في هذا الموضوع تفكيراً جدياً، فكرت أيضاً في إزالة وزحزحة العقبات التي تحول بينك وبينه.
كثير من الشباب يفترضون آلاف العقبات: لا أستطيع الزواج، أو لا أملك المال، أو لا أستطيع أن أتزوج وأبقى في البيت، أو أنا شابٌ صغير السن أمامي عدد من الإخوة يكبروني ولم يتزوجوا بعد، أو أريد أن أكمل الدراسة، إلى غير ذلك من العقبات التي يفترضونها بل ويضخمونها، ومثل ذلك عند الفتيات بل وأكثر منه أيضاً.
فيجب على الشاب الذي يشعر أن التفكير الجدي في الزواج أمر ضروري له، يجب أن يفكر فيه بصفة جدية ويفكر في إزالة العقبات التي تحول بينه وبينه.(158/19)
الصوم
الأمر الثاني: إذا لم تستطع الزواج فعليك بالصوم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: {ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} عليك بالصوم؛ لأن الصوم يضيق مجال الدم الذي يجري فيه الشيطان من ابن آدم، فيضعف تأثر الشيطان على الإنسان، والصوم أيضاً عبادة تقرب الإنسان إلى الله تبارك وتعالى، وتبعد الشيطان عنه، وعليك أيضاً بتصريف هذه الطاقة الجبارة التي تمتلكها، بالأمور المطلوبة وبالأمور المباحة، اصرف طاقتك بالرياضة مثلاً، أو بالقراءة، أو بالأعمال المفيدة، أو بمجالسة الصالحين، أو بطلب العلم، أو بالمشاركة في المجالات الخيرية، والنشاطات الطلابية، والمراكز الصيفية وفي غيرها بحيث تجد هذه الطاقة مصرفاً صحيحاً وتملئ وقت فراغك؛ فلا تجد فراغاً تفكر فيه بهذه الأمور التي يزعجك التفكير فيها.(158/20)
الخاتمة
أختم هذه المحاضرة بالإشارة إلى قضية أساسية جداً، يتعرض لها الشباب: وهي أن الشاب يحس بالاستقلالية عن بيته ومجتمعه، ويحس بعدم الارتباط بما حوله، ولذلك فهو مستعد للتخلي عن جميع الأشياء التي وجد عليها أهله وبيئته، ومستعد لتقبل جميع الأشياء التي يعرف أنها أشياء صحيحة، ولذلك نجد كما سبق أن أتباع الأنبياء كانوا شباباً؛ لأن الشاب غير متعصب لموروثات الآباء والأجداد، بخلاف كبير السن فهو في الغالب متمسك بالأشياء التي ورثها، ومتعصب لها، وهذه القضية سلاح ذو حدين، يمكن أن يستفيد منها الشاب وقرناؤه الطيبون وقدوته الحسنة، في توجيهه نحو المعلومات الصحيحة عن الدين.
ولذلك مثلاً إذا علم الشاب أن الطريقة الصحيحة في الصلاة هي كذا وكذا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بهذه الطريقة، فيضع -مثلاً- يده اليمنى على يده اليسرى على صدره أثناء القيام وبعد القيام من الركوع، فإن الشاب لا يجد أي صعوبة في تطبيق هذه السنة، لكن الشيخ الكبير السن، فمهما اقتنع بأن هذا صحيح، يصعب عليه أن يمتثل ذلك، في كثير من الأحيان، ويجد نفسه مقوداً إلى تطبيق الأشياء التي اعتادها والتي وجد عليها من حوله، وهذه مزية عند الشاب، تدعو إلى ضرورة حرص الشاب ومن حوله على تلقي المعلومات الصحيحة عن الدين.
ومن الجانب الآخر: فإن الشاب لو تلقى معلومات منحرفة عن الدين -مثلاً- فإنه يتمسك بها ويسهل عليه قبولها، ولو تلقى أفكاراً منحرفة ومبادئ وضعية، كالمبادئ التي يدعو إليها أهل الضلالة، من الشيوعيين أو الاشتراكيين أو القوميين، فأنه يتقبلها بسهولة أيضا.
فهذه القضية سلاح ذو حدين، فعلى الشاب أن ينتبه لهذا من نفسه، ويحرص على تلقي العلم الصحيح، وعلى الحرص على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى التأسي بالقدوة الصالحة.
وأرجو أن تسامحوني على هذه الإطالة؛ لأنني أحببت أن أعرض الموضوع بشكل متكامل، وأستغفر الله لي ولكم، وأشكركم على حسن إنصاتكم، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(158/21)
الأسئلة
.(158/22)
كتب في الأذكار والأدعية
السؤال
فضيلة الشيخ: أنا شاب في السادسة عشرة من عمري، وكنت في سابق عمري مع أناس ليسوا بصالحين، ولكن الله منَّ علي بالهداية وبمفارقتهم، والآن أنا وحدي أنام بكثرة وإذا خرجت للشارع لم ألق لي صديقاً، فأرجع إلى البيت فأحس بالخواء، فأشعر بهواجس في نفسي، فما الأذكار والآيات والأوراد التي تعين على الطاعة وتذهب الهواجيس؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
أما الأذكار فهي كثيرة، ويمكن للشاب أن يختار كتاباً في هذه الأذكار، فيقتنيه ويقرأ فيه ويحفظ الأذكار الموجودة، ومن الكتب المرشحة في هذا المجال، كتاب: الكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو محقق، وقد انتقى الشيخ ناصر الدين الألباني صحيحه في كتيب صغير سماه صحيح الكلم الطيب، فيمكن أن يقتنيه الشاب، ويحفظ الأذكار الواردة فيه، سواءً الأذكار التي تقال في الصباح أو في المساء، أو الأذكار التي تقال في تقلب الأحوال، عند دخول المنزل، وعند الخروج، وعند دخول الخلاء، وعند النوم، وعند الاستيقاظ إلى آخره.
لكن لا بد لهذا الشاب أن يبحث عن مجموعة من الناس الصالحين، يقضي وقت فراغه معهم؛ لأن الإنسان لا بد له من جليس كما سبق، ومن الصعب جداً أن يعيش الفرد في عزلة، فلينظر لمجموعة من الأصدقاء الصالحين في حيه مثلاً أو في مدرسته، وليطلب منهم أن يشاركهم في أنشطتهم وأعمالهم وذهابهم وإيابهم، حتى يستفيد من وقته معهم.
والحمد لله رب العالمين.(158/23)
القرب من القدوة الحسنة
السؤال
عندما يتلفت الإنسان إلى قدوته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحياء، ولكن يستحي أن يفشي له بعض الأمور؛ نظراً لبعده منه وعدم اتصاله به اتصالاً مباشراً، ماذا يفعل الإنسان إذا كانت حالته تلك؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
أن يقترب من هذا الشخص إن استطاع، ويستفيد منه بشكل أوسع، حتى تزول الموانع النفسية والحواجز، التي تحول بينه وبين محادثته بما قد يوجد لديه من هموم أو تساؤلات أو مشكلات، ولذلك فإننا نجد في السلف الصالح رضي الله عنهم حين تحدثوا عن طلب العلم، وضرورية التلقي عن أستاذ، تحدث أنه بقدر قربك من هذا الأستاذ، وملازمتك له يكون تحصيلك، ولذلك كان يزيد بن هارون رحمه الله يقول: [[من غاب خاب وأكل نصيبه الأصحاب]] ذكر هذا أبو هلال العسكري في كتاب الحث على طلب العلم، فحاول أن تقترب من هذا الشخص؛ لتستفيد منه أكثر من جهة، ولتتمكن من عرض ما لديك من مشكلات من جهة أخرى.(158/24)
مجاهدة النفس على ترك المعاصي
السؤال
أنا شاب أبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة، وأنا -ولله الحمد- محافظ على الصلوات، ملتحق بأحد حلق القرآن وأحب الخير وأهله، إلا أنني أعاني من مشكلة، وهي: أرغب في مشاهدة أفلام الفيديو، وأنا محتار وأجد صعوبة في مجاهدة النفس وفي ترك ذلك، فالرجاء من فضيلتكم مساعدتي في حل هذه المشكلة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لعل هذه المشكلة جزئية داخلة في عموم الكلام الذي ذكرتُه أثناء المحاضرة، ماذا يمكن أن يقال لمثل هذا الشاب، نرجع ونقول: لا بد من المجاهدة، هذا هو الطريق الذي ذكره الله عز وجل لنا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] لا بد من سلوك هذا الطريق، وفي خلال المجاهدة، حصلت سقطة، أتجنب هذه العثرة وأحرص على أن أنهض سريعاً وألحق بركب الإيمان والمؤمنين.
ينبغي للشاب أن يحرص على البعد عن الأماكن والأسباب التي تثير غريزته؛ لأن الإنسان إذا تسبب في إثارة الغريزة؛ فعليه ألَّا يأمن من الوقوع في المحرم، سواءً كانت إثارة الغريزة عن طريق مشاهدة صور النساء، أو صور الشباب، أي صور تثير غريزة الإنسان، أو مشاهدة الأفلام، أو مشاهدة المجلات، أو سماع الأغاني أو أي أمر يتسبب في إثارة الغريزة؛ فيجب أن تركز جهادك على تجنب هذا الأمر، فإذا أفلحت في تجنبه؛ فإنك ترتاح حينئذٍ راحة كبيرة، لكن إذا أرخيت لنفسك العنان في المرحلة الأولى، فأطلقت النظر إلى النساء، وإلى الصور، وسماع الأغاني، وغيرها من الأشياء التي تشحذ الغريزة، فحينئذٍ ستجد صعوبة كبيرة في الامتناع عن إشباع هذه الغريزة.
وليس هناك من حل سحري ينتظره هذا الشاب، ليس هناك وصفة طبية تذكر للشاب، فيذهب ليشتريها غداً أو بعد غد؛ ليتعاطاها ثم يصبح بحمد الله بارداً أبداً!! الله عز وجل أوجدنا في هذه، الدار وسلَّط علينا النفس الأمارة بالسوء، والشيطان والقرناء السيئين أيضاً، وبين لنا طريق الخير، وأرسل لنا الرسل، وأنزل الكتب، وجعل في نفوسنا دوافع للخير، وقيض لنا أيضاً قرناء صالحين، وأقام علينا الحجة، وعلى الإنسان أن يختار، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] هذا طريق الهداية وهذا طريق الضلال.(158/25)
كتب نجيب الكيلاني
السؤال
هناك أسئلة كثيرة، حول كتب نجيب الكيلاني؛ لأن الشيخ تعرض لها في عرضه لبعض الكتب القصصية التي يهتم بها الشباب، فما هو رد فضيلة الشيخ على ذلك؟
الجواب
الحقيقة أنا ذكرت عدداً من الكتب، وليس معنى ذكر كتاب ما أو النصيحة بقراءة كتاب ما، أن هذا الكتاب كتاب موثق من جميع الجوانب ومأمون من الأخطاء، فطالب الكمال في غير القرآن يطلب المحال، كل كتاب غير كتاب الله لا بد فيه من النقص، أبى الله أن يتم إلا كتابه، كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله، ما عدا ذلك فيه نقص، فيه خطأ ولابد، والخطأ يقل ويكثر، وما ذكري للكتب السابقة إلا لأنها مناسبة للشباب، مع الإشارة إلى أن في هذه الكتب أخطاء ينبغي للشاب أن يتجنبها، سواءً كتب الكيلاني، أو كتب غيره من المؤلفين القدماء والمعاصرين.
الكتب من الخطأ أن نصنفها إلى كتب قديمة وكتب معاصرة؛ لأن هذا التقسيم تقسيم زمني ليس له ثمرة كبيرة، بل الصواب أن نقسم الكتب إلى قسمين: كتب مفيدة وكتب غير مفيدة، لأننا نجد فيما يسمى بكتب التراث أو الكتب القديمة، نجد كتباً فلسفية، ونجد كتب الأدباء والمؤرخين، المشحونة بقصص الخلاعة والمجون والفساد، ونجد دواوين الشعراء المنحرفة، ونجد كتب الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم.
فالكتب قسمان: كتب مفيدة وكتب غير مفيدة، والكتاب إذا كان في جملته مفيداً ونافعاً يتغاظى عما فيه من الأخطاء، ليس معنى التغاظي عما فيه من الأخطاء، أنها تقبل أو يسكت عنها، كلا.
بل يقرأ ويستفاد منه وينبه على ما فيه من خطأ.(158/26)
احتقار النفس
السؤال يقول: فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، هناك بعض الشباب يحتقر نفسه ويتنقصها بأنه ليس أهلاً لفعل الخير والعمل الصالح، فنريد من الشيخ توضيح ذلك، وإرشاد مثل هؤلاء الشباب؟
الجواب
هذه المشكلة وهي قضية احتقار الإنسان لنفسه -فعلاً- مشكلة حقيقة، ويجب على من يشعر بها أن يحرص على التخلص منها، والواقع أن أكثر الناس ضعفاً، وأقل الناس مواهب، لو بحثت لوجدت لديه جانباً من الإبداع قد لا يوجد لدى غيره.
أضعف الناس لو فكر في نفسه، لوجد أنه يتمتع بمواهب وقدرات لا توجد عند غيره، ولكنه أهملها فضمرت وذبلت، ودفنت بركام من الغفلة عنها، ومن الشعور بالنقص واحتقار الذات، وعلى الإنسان أن يكون واثقاً بنفسه، وفرق بين الثقة بالنفس وبين الكبرياء أو الغرور، فثقة الإنسان بنفسه أن يحاول في كل مجال، إذا وجدت أن أمامك أمراً من الأمور، نشاطاً من الأنشطة، طموح من الطموحات تسعى إليه، فعليك أن تحاول بكل ما تستطيع من وسيلة، وتستعين بالله عز وجل، ثم بمن حولك من أهل الخبرة الذين سبقوك في هذا المجال، وستجد من النجاح بإذن الله ما يغريك بمواصلة الطريق.
والواقع أيها الإخوة، أن الإنسان إذا ابتلي باحتقار النفس، مهما يكن لديه من المواهب والطاقات؛ فإنه لا يمكن أن يستفيد منها، ولذلك أقول: فعلاً أن هذه مشكلة حقيقة، لأن الإنسان إذا لم يكن لديه ثقة بنفسه مهما يكن موهوباً؛ فإنه لا يستفيد من هذه المواهب، واعلم أيها الشاب! أن أي موهبة أعطاك الله إياها، فإن الله سيسألك عنها، وبهذه المناسبة أذكرك بقول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] .
إذا تأملت هذه الآية؛ وجدت أن الله عز وجل ذكر أنه رفع بعضنا فوق بعض درجات بكل شيء، سواءً بالعلم أو بالمنزلة أو بغير ذلك، ومن ذلك اختلاف الناس في القدرات والمواهب والإمكانيات، ثم قال: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] وأشار بعد ذلك إلى الحساب والعقاب والمغفرة والرحمة، إشارة إلى أن الإنسان سيحاسب على الطاقة التي أعطيها، والشخص الذي يستطيع أن يعمل شيئاً كثيراً، يحاسب على تقصيره بهذا الشيء الكثير الذي عمله، لكن الشخص الذي لا يستطيع أن يعمل إلا شيئاً قليلاً وعمل هذا الشيء القليل، لا يطالب بأكثر مما يستطيع، ولا يحاسب على ما لا يستطيع، فانتبه لهذا الأمر، فكل موهبة أو ملكة موجودة عندك؛ فأنت مطالب بتصريفها في خدمة الإسلام والدعوة إلى الله عز وجل ومحاسب على التقصير.(158/27)
ملازمة العلماء وطلب العلم
السؤال
الشيخ سلمان، حفظه الله وبارك له في عمله، دائماً نسمع منك ومن غيرك النصيحة في ملازمة العلماء والمشايخ وطلبة العلم، ولكننا نعجز عن تنفيذ ذلك؛ لأن العلماء والمشايخ في شغل دائم، وليسوا متفرغين لنا نحن الشباب، فما هو رأيكم في ذلك؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أولاً: يجب أن نوسع مفهوم طلب العلم الشرعي، والواقع أيها الإخوة، أنك إذا نظرت اليوم إلى الإمكانيات المتاحة للشاب في تحصيل العلم، وجدتها إمكانيات لم يسبق أن توفرت للشاب المسلم في زمن من الأزمنة، فطلبة العلم كثيرون، والفرص للدراسة مهيأة للشاب على كافة المستويات، والأشرطة التي تسجل فيها دروس العلماء، في الفقه أو في العقيدة أو في التفسير، أو في غيرها من ألوان وفنون العلم وضروبه متوفرة، فأنت تستطيع وأنت في هذا البلد -مثلاً- أن تسمع دروس الشيخ عبد العزيز بن باز، أو الشيخ عبد الله بن جبرين في الرياض، أو الشيخ محمد بن عثيمين في عنيزة، بل أن تسمع فيها دروس مشايخ وعلماء في شتى أنحاء الأرض، وأن تسمع فيها محاضرات وندوات ألقيت في أماكن مختلفة.
إذاً فالوسائل الممكنة للشاب لطلب العلم وتحصيله كثيرة، وعلى الإنسان أن يفكر بصورة معتدلة وواقعية، ما هو السبيل المناسب له هو شخصياً لتحصيل العلم، ويرسم لنفسه برنامجاً يتناسب مع ظروفه، ويسعى في تحقيق هذا البرنامج، وإزالة العقبات التي تحول بينه وبينه، ولا أعتقد أن ما يشير إليه السائل متحقق -فعلاً- من إنزواء العلماء أو بعدهم.(158/28)
علاج تخلي الشاب عن المسئوليات
السؤال يقول: فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: نجد بعض الشباب كثيراً ما يتخلون عن مسئوليات، ويظهر منهم الملل في أقرب وقت، مع أنه قادر على أن يوكل إليها، فسرعان ما ينزوي وينفرد بنفسه ويمشي وينفر يده من كل شيء، فما رأيك في هؤلاء وما نصيحتك لهم؟
الجواب
الحقيقة أن هذا المشكلة التي يتحدث عنها السائل قائمة، ولا بد من معرفة الأسباب التي تدعو إليها، قد يكون السبب -مثلاً- شعور الشاب -أحياناً- بأنه قد فاته شيء ما، فيستيقظ بشكل مفاجئ، ويحرص على تدارك الأمر الذي فاته.
مثلاً: يكون الشاب مشتغلاً بالدعوة إلى الله عز وجل صارفاً وقته لذلك، ثم تفاجأ يوماً من الأيام بأنه قد ترك الدعوة إلى الله، وقال: أنا أريد أن أطلب العلم الشرعي، الناس قد حصلوا العلم ووصلوا منه إلى كذا وكذا، وأنا ضاع عمري في الذهاب والإياب، ولم أحصل على شيء، وهذا مظهر من مظاهر فقدان التوازن.
فالإنسان مطالب -أصلاً- بأن يحرص على أن يكون متوازناً، وألا يلهيه القيام بالدعوة عن العبادة، ولا عن طلب العلم الشرعي، ولا عن القيام بحقوق الأهل، ولا غير ذلك، ثم على الإنسان حين ينتبه إلى أنه قصر في مجال من المجالات، أن يحرص على استدراكه بطريقة تدريجية، ولذلك قال بعض السلف: من ظن أنه سيحصل العلم كله في يوم وليلة فهو مجنون.
الإنسان الذي يعتقد أنه سوف يحصل على العلوم، ويصبح شخصاً مشاراً إليه مرموقاً في العلم، نافعاً للناس خلال فترة وجيزة مخطئ في حسابه، أما إن كان السبب الداعي إلى الإنزواء سبباً آخر غير هذا، فلا بد من معرفته حتى يمكن معالجته.
وعلى كل حال فكم من إنسان يندفع بدافع حماس الشباب، وطفرة الشباب، ثم إذا تقدمت به السن بعض الشيء، وارتبط ببيت وزوج وأهل ومسئوليات وعمل، أصابه فتور وملل وتأخر، والمنة على من وفقه الله للاستمرار، ورزقه العزيمة الصادقة، والصبر على المبدأ والاستمرار على الطريق.(158/29)
صراع الحق والباطل
الصراع بين الحق والباطل حقيقة ماثلة للعيان عبر العصور، وفي عصرنا الحاضر شاعت مقولة بأن عصر الأديان قد ولى، وأن الصراعات القائمة ستكون على الماديات والمصالح لكن الدلائل تشير إلى غير ذلك خصوصاً بعد سقوط الشيوعية حول هذه الدلائل وحول ما ينتظر الامة الإسلامية من العداء وواجبها تجاه ذلك يدور هذا الدرس.(159/1)
قدم الصراع بين الحق والباطل
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19] .
عباد الله! إن تاريخ الحياة البشرية منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى اليوم، هو تاريخ الصراع بين الحق والباطل، ولقد مضى اليوم من عمر البشرية كثير، كما دلت على ذلك النصوص، بل إن هذا العمر قد ذهب معظمه وبقي أقله، قال الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1-2] وقال سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] وقال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف:187] إلى غير ذلك من النصوص والآيات.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في الصحيح: {بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى} مشيراً إلى أن بعثته صلى الله عليه وآله وسلم، كانت من علامات قُرب الساعة، ودنو القيامة، وقرب نهاية هذا العالم الدنيوي.
وإذا أدركت ذلك، ثم التفت إلى الوراء لتقرأ في تاريخ الأمم والشعوب كلها، لوجدت أن معظم هذا التاريخ، لم يكن تاريخ الصراع على المرعى، ولا كان تاريخ الصراع بين القبائل، ولا كان تاريخ العُشاق الذين ذهب الواحد منهم يضرب البحار والفيافي والقفار بحثاً عن معشوقته كلاَّ!! وإنما كان تاريخ الصراع والحرب بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإيمان والكفر، والنبوة والشرك، هذا هو التاريخ.(159/2)
انتصار الحق واندحار الباطل
ولم يكن للباطل ظهور ولا انتفاش ولا انتشار ولا امتداد إلا في غيبة الحق؛ فإن أمامنا قاعدة ربانية راسخة، أنه كلما ظهر الحق خنس الباطل واختفى وهرب، قال الله عز وجل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] وقال تعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49] .
ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، كان في مكة، بل كان في الكعبة ثلاثمائة وستون نُصباً -صنماً- فكان عليه الصلاة والسلام يطعن هذه الأنصاب والأصنام بعودٍ في يده، فتتهاوى وتتساقط واحداً بعد الآخر، وهو يقول صلى الله عليه وسلم: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] وقال تعالى: {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49] .
إن تاريخاً طويلاً من الوثنية في جزيرة العرب ومن الشرك ومن عبادة الأوثان، حين كان العرب يعتبرون الصنم هو إلههم ومعبودهم ومرجعهم ومستشارهم، ومع ذلك هذا التاريخ الطويل العريض كله مسح في غداةٍ واحدة، حينما دخل النبي المصطفى المختار عليه صلوات الله وسلامه مكة فاتحاً، فكان يطعن الأصنام بعود، ما احتاجت إلى شيء آخر، ما احتاجت إلى فأس ولا إلى منجل، وإنما كان يطعنها بعود في يده، فتتهاوى وتتساقط، وكان ذلك إيذاناً بأن بنيان الباطل زائل مهما ضُربت حوله الطبول، ورفعت حوله الأعلام، وجندت له الجنود، فإن بناء الباطل مبنيٌ على شفا جرفٍ هار، فانهار به في نار جهنم فمتى ظهر الحق اختفى الباطل، ومتى علت كلمة التوحيد اندحر الشرك، إن كلمة الله تعالى لا يقف في وجهها أحد، وإن دين الله تعالى منصورٌ بقوة الحق الذي يحمله، ومنصورٌ بأن الله تعالى معه، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] وقال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] .(159/3)
رجوع البشرية إلى التدين
لقد خُيل للناس خلال فترة مضت، أن عصر (الإيديولوجيات) كما يقولون قد انتهى، وأن المرحلة الجديدة هي مرحلة تبادل المصالح، أو مرحلة الصراع على الماديات وعلى الدنيويات، وخدعنا العلمانيون كثيراً بمثل هذا الكلام، وكتبوه في الصحف، ونشروه في الكتب، وروجوا له في أجهزة الإعلام، في طول العالم الإسلامي وعرضه، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، وأن هذا الكلام سوف يدخل إلى عقول الناس، وما علموا أن أول مكذبٍ لدعاويهم هو العالم العلماني الذي درسوا فيه، وأخذوا عنه وتخرجوا من جامعاته، ورددوا في بلاد الإسلام أطروحاته وأفكاره، فإذا بالعالم العلماني الغربي يكون أول مكذبٍ لهذه الدعوى الباطلة، فبعد سقوط الشيوعية، التي كانت تواجه الغرب بدأ العالم كله غربيه وشرقيه يتمحور حول العقائد.(159/4)
ميدان الصراع بين الأديان
إنها معركة واضحة، ميدانها اليوم الإنسان الذي تتنافس عليه القوى المختلفة، فكل أصحاب الأديان رجعوا إلى أديانهم، وبدءوا يدعون إليها، ويسعون إلى تأليف الناس وتأليبهم حولها، وهذا يدل على أن هناك معركة حقيقية تدور في الخفاء، ميدانها العقل، وميدانها القلب، ولكن عقل مَنْ؟ وقلب مَنْ؟ إنه عقل الإنسان وقلبه، الذي هو مدير المعارك العسكرية، والقائم على الإعلام، والمسئول عن السياسة، والمتصرف في أجهزة الدول.
إذاً، وهي وإن كانت معركة خفية إلا أن شررها يتطاير وآثارها تظهر بين آونة وأخرى، بل في كل وقتٍ وفي كل حين.(159/5)
تقليص الإسلام وتوطيد النصرانية
إننا في الوقت الذي نجد فيه المطالبة على أشُدها في بلادٍ إسلامية كثيرة بتقليص الإسلام، وتحجيم دعوته، وإغلاق مجالات النشاط الشرعي بأوهى الحجج، بحجة أنها مكان لنفوذ الأصوليين، أو مكان لتغلغل المتطرفين، أو أنها تُعتبر منابع يتخرج منها المتدينون، ولا بُد من تجفيف المنابع، بتغيير التعليم، وتغيير الإعلام، وعلمنة أجهزة الدول كلها، والقضاء على كل الجمعيات والمؤسسات والمراكز والمساجد التي تكون منطلقاً للدعوة الإسلامية، إننا في الوقت نفسه نجد أن العالم الغربي يقطع خطوات كبيرة في تيسير عملية التعبد على الطريقة النصرانية للمواطن العادي.
فقد أصبح بإمكانه أن يتعبد زعماً وإلا فهي عبادة للشيطان حقيقةً، أن يتعبد وهو متكئ على أريكته في عقر بيته، من خلال متابعة برنامج تلفزيوني، أصبحت البرامج التلفزيونية بالمئات بل بالآلاف في دولة واحدة فقط مثل أمريكا!! فضلاً عن الجهود الأخرى المكثفة والكثيرة، التي تُنادي بالقضاء على العلمنة في التعليم وفي الإعلام وفي الحياة العامة، وقد أصبحت هناك مطالبات كثيرة بإتاحة فرص أوسع للطلاب، للتعليم الديني، ولأداء الطقوس في مدارسهم وأماكن عملهم.
إنها مفارقةٌ عجيبة ففي الوقت الذي ينكفئ العالم الغربيُّ إلى دينه الفاسد المحرَّف المبدَّل المنسوخ، فإننا نجد أن من المسلمين اليوم من لا يزال يغط في سُباتٍ عميق، ويستكثر على المسلمين عودتهم إلى دينهم، ويحاول أن ينفخ الحياة من جديد في جسدٍ ميت، إنه جسد العلمانية التي هي كما قال الله تعالى عنها وعن غيرها من الباطل: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] .
إن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى أن يتلمسوا مواقع أقدامهم، ويدركوا أي حالٍ هم قادمون عليها، وأية خطةٍ تدار بشأنهم، يتنادى إليها الغرب والشرق على رغم أن المسلمين لا يملكون الكثير، ولكن أعداء الله تعالى هم كما وصف الله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] وقال تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8] وقال تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20] .
خياران لا ثالث لهما {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف:20] .
فأسأل الله تعالى أن يرد كيد الكائدين في نحورهم، وأن يرزق المسلمين الوعي والبصيرة في دينهم، وأن يثبت أقدامنا وأقدام المسلمين في كل مكان، إنه ولي ذلك والقادر عليه أقول ما تسمعون، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروا الله يغفر لكم ويتُب عليكم؛ إنه هو التواب الرحيم.(159/6)
أسباب عودة العالم الغربي إلىالنصرانية
فالعالم الغربي أدرك أنه مهددٌ بالعقيدة الإسلامية، وهي عقيدة تحمل من القوة والصفاء والسلامة والتأثير والعمق، والكمال ما يجعلها محل إغراءٍ للكثيرين ممن سلمت فطرهم وعقولهم، وأقبلوا على الحق، وليس هذا بحاجةٍ إلى تدليل؛ لأنه يكفي المسلم أن يعرف أن الإسلام دين الله تعالى، وأن هذه العقيدة يتلقاها المسلم اليوم كما تلقاها المسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، غضةً طرية، من القرآن الكريم مباشرة، ومن الحديث الشريف مباشرة، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] .
فشعر العالم الغربي أن الإسلام يملك بذاته من وسائل القوة والتأثير والجاذبية الكثير، ولو كان الإسلام محجوباً بمساوئ أهله وعيوبهم، ولو كان الكثيرون يعزفون عن الإسلام لِأنهم يرون في المنتسبين إليه رداءة الأخلاق، أو التخلف العلمي، أو الغباء السياسي، أو التبعية للغرب أو الشرق، أو غير ذلك من الآفات والأمراض الكثيرة التي حاول الغرب أن يحجب بها مساوئ الإسلام، لكن رغم هذا كله، فإننا نجد عند العالم الغربي حركة في التوجه إلى الإسلام والالتزام بدين الله تعالى، ليس على مستوى العمال مثلاً، ولا على مستوى شعب من الشعوب، وإنما في قلب العالم الغربي وفي منطلق الحضارة، بل في مهد الحضارة في الجامعات الغربية وفي مراكز البحوث والدراسات!! وقد زرتُ أحد المراكز هناك، فأخبروني أنه يسلم عندهم أسبوعياً ما يزيد على عشرين، بعضهم من أساتذة الجامعات، وقد لقيت بعض هؤلاء، فرأيت فيهم الحماسة للدين والاغتباط بهداية الله تعالى والفرح برحمته: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] .
لقد بدأ العالم الغربي يشعر بخطورة الإسلام، ولهذا لم يجد أمامه إلا أن ينكفئ إلى الوراء، ليعود إلى العقيدة النصرانية بتحريفها وتبديلها وتغييرها، وما فيها من التناقض، وما فيها من المخالفة للعقل، وما فيها من المخالفة للدين، ولكنها هي الحل الوحيد أمامه.
يريد أن يعود إليها وينفخ فيها روح الحياة من جديد، وقد ظهرت في العالم جماعات ودعوات ومنظمات تدعو إلى تجديد النصرانية، ولعل من أحدثها وأشهرها (جماعة بورٍ أجن) التي تدعو إلى الدخول في النصرانية أو اكتشاف الدين النصراني من جديد.
إنهم يشعرون أن دينهم بحاجة إلى دماء جديدة، وإلى تغيير جديد ولأنه ليس ديناً حقيقياً، بل هو محرف، وهو منسوخ، فإنه لا مانع عندهم أن يجروا له عدداً من العمليات الجراحية؛ حتى يتلاءم مع الهدف المحدد الذي حركوه لأجله؛ لأنهم حركوه من أجل أن يوظف هذا الدين في مواجهة الإسلام وفي مقاومة المد الإسلامي، وليكون حصانةً فكرية وعقائدية ودينية، يغرون بها بسطاء العقول والسذج من بني قومهم لئلا يتأثروا بالإسلام.
إننا في الوقت الذي نجد فيه أن كثيراً من الناس في بلاد العالم الإسلامي، يستكثرون علينا صحوتنا الإسلامية، وعودتنا إلى دين الله تعالى، وتمسكنا به وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، على رغم أنه الدين الحق، وأن هذه الأمة بحمد الله مازالت راية الإسلام فيها مرفوعة هنا أو هناك لم تسقط أبداً: إذا مات فينا سيدٌ قام سيدٌ قئولٌ بما قال الكرام فعولُ فهذه الأمة في مجملها أثبتت أنها أمة الإسلام، وأنه إن تخلى منها قوم، خرج آخرون، كما وعد الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] وقال: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] .
هذا وعد قائم؛ قائم للجيل الأول، وقائم لي ولكم، وقال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] .
إننا نجد اليوم أن رؤساء الدول الغربية وأن كبار العلماء، وكبار المتخصصين، وأصحاب الفكر، وأصحاب النفوذ، وغيرهم أنهم أصبحوا يطالبون بأن تقوم الدول الغربية بإشباع الحاجات المعنوية والروحية للإنسان، وقد قال كبير من كبارهم، ورئيسٌ لحامية الصليب في العالم، رئيسٌ سابق، قال: إننا لا يجوز أن نقصر مهمتنا على دعم العالم بالمساعدات المادية التي أثقلت ميزانياتنا، ولم تُجد نفعاً، ولكننا ينبغي أن ننتقل إلى تقديم المساعدات الروحية للعالم، وإلى إشباع الحاجات العاطفية للناس، ويجب أن نقدم لهم الإنجيل بيد، ونقدم لهم المساعدات باليد الأخرى.
ولهذا أصبحوا اليوم، يبتزون الناس بأموالهم ومساعداتهم، لصرف الناس عن دينهم، مقابل أن يشبعوا جوعتهم، أو يرووا ظمأهم، أو يكسوهم من عُري، أو يعالجوهم من مرض، أو يمنحوهم مساعدة، أو جنسية، أو منصباً، أو علاوة، أو رتبة، أو أي شيء آخر.(159/7)
أصداء سقوط الشيوعية
الحمد لله رب العالمين، لقد كان سقوط الشيوعية انتصارا للإسلام حقاً، ولكن الكل يعرفون أن أكبر عدوٍ وقف في وجه الشيوعية هو الإسلام، ليس في أفغانستان فقط، بل في كل بلاد الإسلام، وليس سِراً أن عدد الذين دانوا بالشيوعية في العالم الِإسلامي كله لا يزيدون على (2%) فقط، وأن الأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي كانت منبوذةً مركولة، وكانت تميل إلى السرية والعمل تحت الظلام، وتسعى إلى هذه الأساليب الخفية، ولكن العالم الغربي اعتبر سقوط الشيوعية ضربةً على الإسلام، ووجه السهام التي كانت موجهةً إلى الشرق الشيوعي، إلى العالم الإسلامي، وبدأ يعتبر أن الإسلام هو العدو القادم الذي يهدده في كل النواحي وفي كل المجالات.
إننا نقول بحقٍ وصدق لقد صدقوا؛ فإن الإسلام عدوهم وخصمهم، وخاصةً ذلك المسلم الواعي الذي أصبح يُدرك ما معنى أن يكون الغرب كافراً؟! نصرانياً أو يهودياً أو علمانياً إن المسلم الذي بدأ يعي دينه، ويقرأ قرآنه، ويتلقى عن الله تعالى العقائد والشرائع والأحكام، أصبح يقرأ في القرآن قول الله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] ويقرأ قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] ويقرأ قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف:20] .(159/8)
اليقين بنصر الله لدينه
لا يجوز إلا أن نؤمن بأن الله تعالى سوف يدير لدينه فلك النصر والتمكين، شاء من شاء، وأبى من أبى، وأن ندرك أن الله تعالى يصنع لدينه وإن غفل الناس، قال الله عز وجل في كتابه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216] إن القتال تكرهونه ولكن الله تعالى كتبه عليكم، فعسى أن يكره الإنسان شيئاً -القتال أو غيره- ويكون فيه الخيرُ للناس، إن موازين البشر قصيرة وقريبة المدى وسريعة، أما الأمور في علم الله تعالى وفي قدره، فهي شيءٌ آخر مختلف تماماً عمّا يقدر الإنسان، وعما يظن الإنسان، وكم قدر الإنسان وظن وحسب، فجاءت النتائج مناقضةً لتقديره وظنه وحسابه، حتى لو لم يكن فرداً، حتى لو كان مركزاً دراسياً، أو منطلقاً لدراسة المستقبل، أو مجموعة من المتخصصين، بل حتى لو كان إجماعاً من المحللين والمراقبين: وأستار غيب الله دون العواقب أيها الأحبة: هل يجوز أن يكون دور المسلم هو مجرد انتظار المعركة الحاسمة التي ينتظرها النصارى، وينتظرها اليهود.(159/9)
توجه العداوة إلى الإسلام
لقد قرأتُ بنفسي مقالاً لرئيسٍ من أعظم رؤساء الدول الغربية، يقول: "ليس أمامنا بالنسبة للمسلمين إلا أحد حلين: الأول: هو تقتيلهم والقضاء عليهم.
الثاني: فهو تذويبهم في المجتمعات الأخرى المدنية العلمانية".
ومع أن هذا الرئيس المفكر الكاتب المستشار رجح الحل الثاني، إلا أن لهجة الحديث تدل على أن الاحتمال الأول عنده واردٌ وقائم، بل ويمكن استخدامه في حالات كثيرة، ونحن نرى اليوم بوادر التطبيق العملي لهذا الأمر في تدخلات غربية في بلاد عدة، وفي مواجهات ساخنة مباشرة بين الإسلام والكفر، فأحداث البوسنة والهرسك -مثلاً- هي نموذج للحقد الصليبي، الذي يتنامى ويشتد يوماً بعد يوم، ويعصف بما يسمى حقوق الإنسان، وما أشبه ذلك من العبارات التي طالما خدَّرنا بها الغرب، وطالما أقام لها الجمعيات، ووضع لها الإعلانات، وتحدث عنها، ولكنه كان أوَّل من يخرق هذه الاتفاقيات، ويهدم هذه الحقوق، ويقضي على هذه الإعلانات بفعله، وإن كان يرددها بلسانه.
ومع أحداث الصومال القريبة، التي تنم كما تعبر الصحف بحروفها عن وصاية غربية أو حماية، إنها عودة لعصور الاحتلال والاستعمار والمواجهة العسكرية المباشرة بين المسلمين والكفار.
وأعتقد أن ثمة بلاداً إسلامية أخرى يمكن أن تكون تحت طائلة هذه العداوات المتكررة في شرق البلاد وغربها، إن العالم الغربي ليس لديه مانع أن يضرب عرض الحائط بكل دعاوى الحرية والإنسانية والكرامة والمساواة، متى ما شعر أن هناك قوةً إسلامية يمكن أن تظهر.(159/10)
دور المسلمين تجاه الأحداث
ففي دين اليهود والنصارى، وكتبهم التي يسمونها مقدسة في دينهم، أن ثمة معركة فاصلة بين الحق والباطل، كما يسمونها بين قوى الخير وقوى الشر، وهذه المعركة هي معركة هرمجدون، وموطنها في العالم الإسلامي، وبالذات في أرض فلسطين التي لا يزال الغرب والشرق واليهود والنصارى، يتحالفون من أجل إحكام طوق الحماية الأمنية لها، ودعمها عسكرياً واقتصادياً وبشرياً، لتظل قوة تمثل الكفر في العالم الإسلامي.(159/11)
تحرك المراكز العلمية والجامعات
يجب أن ننتقل إلى الخطوة التالية: وهي أن يكون لنا مشاركات عملية في المعركة الخفية بين الحق والباطل، المعركة على العقول، والقلوب، والمجتمعات، سواء كانت المجتمعات الإسلامية، أم المجتمعات الغربية، إننا ننظر إلى الجامعات الإسلامية فنجدُ أنها أصبحت جامعات عريقة، وفيها دراسات وتخصصات كبيرة، وفيها خبراء وأساتذة على أرقى المستويات، وأن هذه الجامعات -سواء في هذه البلاد أم في غيرها- أصبحت تملك من الوسائل العلمية، والتقنية، والطاقات البشرية، شيئاً كثيراً، وأصبحت تستقطب أعداداً كبيرةً من الطلاب من كافة الطبقات، وهاهنا يبرز
السؤال
ما هو دور مثل هذه المراكز العلمية في الدعوة إلى الإسلام، وفي نشر الحق، وفي مقاومة الباطل، وفي تهيئة المجتمعات الإسلامية كلها للمواجهة التي هي آتية لا محالة، رغبنا أم كرهنا، بيننا وبين أعداء الإسلام، اليوم أو بعد سنة أو بعد خمسين سنة أو في أي زمن يعلمه الله تعالى فإن الجهاد قائم إلى قيام الساعة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونيَّة} .
فالجهاد قائم إلى قيام الساعة، ولا تزال طوائف من هذه الأمة تُقاتل الكفار، فيرزقها الله تعالى منهم، وينصرها عليهم، حتى يأتي أمر الله تعالى وهم ظاهرون على الناس.(159/12)
فعل الأسباب وعدم الانتظار
لا يجوز أن يكون دورنا مجرد انتظار هذه الأحداث!! بل ينبغي أن ننتقل إلى الخطوة العملية التي تعبدنا الله تعالى بها، وهي أن نفعل الأسباب، ونبذل ما في وسعنا، ثم ننام قريري العيون، مدركين أن النصر بيد الله تعالى؛ فالله يؤتي النصر من يشاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51-52] وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] .(159/13)
دور أستاذ الجامعة
يا أستاذ الجامعة! إنك تتبوأ منصباً رفيعاً، ومكانةً عالية، وقيمةً اجتماعية وعلمية، لا يكاد ينافسك فيها إلا من كان على مثل ما أنت عليه، والأمة تنتظر منك دوراً كبيراً.(159/14)
اقتران التقدم العلمي بالالتزام بالإسلام
أمرٌ آخر: إنه مما يُسعدنا كثيراً أن يكون التقدم العلمي قرين الالتزام بالإسلام، والتمسك به عقائد وأحكاماً، أصولاً وفروعاً، أخلاقاً وعبادة وسلوكاً؛ لأن الإسلام دينٌ مهيمن على كل مجالات الحياة.
فمن الواجب علينا جميعاًً وعلى الطلاب خاصة، أن يكون لديهم حرصٌ على التزام مكارم الأخلاق ومعاليها، وعلى التمسك بالدين كله، وعلى أن يُقدموا أنفسهم على أنهم في الوقت الذي يدرسون فيه التخصصات العلمية، إلا أنهم أيضاً يقدمون أنفسهم كطلبة علمٍ شرعي، أو يقدمون أنفسهم كدعاة إلى الإسلام بحسب ما يعرفون، أو يقدمون أنفسهم على أنهم ينتمون إلى هذا الدين انتماءً قلبياً عميقاً، وأن هَمَّ الإسلام يقوم معهم ويقعد، ويصحو معهم إذا صحوا، أما إذا ناموا فهو يخايلهم في أحلامهم! إن أمر الإسلام لا يتم ولا يستوثق، إلا إذا وجدت القلوب التي تتحرق له، والعقول التي تفكر له، والأجساد التي تجهد نفسها في خدمته، وحينئذٍ لا خوف على الإسلام؛ لأنه دينُ الله، ولو كان ديناً فاسداً وجد له أتباعاً يجاهدون في سبيله لرفعوه، فكيف وهو دين الحق الذي معه الله تعالى؟! إننا لا نشك طرفة عين في أن أهل الحق وأهل الإسلام لو جدوا واجتهدوا، لحققوا في سَنَةٍ ما حققه أعداؤهم في خمسين أو عشرين سنة.(159/15)
العناية بمعالي الأمور والابتعاد عن سفاسفها
إنه ليس بلائقٍ بإنسانٍ يخوض معركة مع الباطل، أن يشتغل ببنيات الطريق، ويثير معركةً خاصةً مع هذا، ومعركةً أخرى مع هذا، أو يتراشق مع فلان أو علان بالألقاب والكلمات، أو يجعل من الخلافات الجزئية التي هي محتملةٌ وممكنة ومحل اجتهاد، وليست مخالفةً لأصل من أصول الشرع ولا لقاعدة، ولا لنص شرعي، أن يجعل منها مجالاً للتنافس أو للقيل والقال.
فينبغي للإنسان أن يسلك أسلوب النصيحة، والكلمة الطيبة، والدعوة بالتي هي أحسن، وتأليف القلوب على الحق مهما أمكن، فإن المقصود هداية الناس وليس إبعادهم أو تنفيرهم عن الحق، فكلما رأيت إنساناً تعيب عليه بعض الشيء، فعليك أن تسلك معه أسلوب الدعوة والرفق والحلم والصبر، ومن لم يهتد اليوم فسوف يهتدي غداً أو بعد غد أو بعد سنة أو ما زاد عن ذلك {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] .
لماذا أنت في عجلة من أمرك؟ ولماذا تعيب فلاناً أو تنتقده لأنك نصحته فلم ينتصح؟ اصبر عليه لعل الكلمة التي فيها هدايته لم يسمعها بعد!(159/16)
المشاركة من الجميع
ثم لا بد من المشاركة البنّاءة أيضاً، لا بد للجميع من المشاركة؛ لأن قضية الإسلام ليست قضية العالم الفلاني، لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] .
وهذا الحِمْل الذي تحمله عليه السلام، وسهر له بالليل، وتعب له بالنهار، وجهد من أجله قد أُلقي على عواتقنا جميعاً، فنحن ورثته، وحملة شريعته، ونحن الذين طولبنا بتبليغ الرسالة للأجيال التي بعدنا، فضلاً عن الأجيال التي نعايشها اليوم، فواجبٌ على كل جيل أن يحمل أمر الإسلام إلى من بعده، وواجبٌ علينا جميعاً أن نشارك في الدعوة إلى الإسلام، وأن نشارك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا نقبل من أنفسنا عذراً مهما كان، فكل من قال: لا أستطيع، نقول له: حاول، وكل من قال: مستحيل، نقول له: جَرِّب، وعلينا أن ندرك أن الحاجة أم الاختراع.
جاء رجلٌ إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حينما دعا الناس إلى الجهاد، ومعه أخوه، فقال له: هذا أنا، وهذا أخي، {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة:25] وموسى عليه الصلاة والسلام قالها من قبل {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة:25] والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84] .
فعلينا جميعاً أن نُجند إمكانياتنا في الدعوة إلى الله، وأن نصدق الله تعالى في أن نقوم بالعمل الذي نستطيعه، فإن الحساب عسير.
يقول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] نعم إن الآية لها منطوق ومفهوم: أولاً المنطوق: فهو أن الإنسان لا يكلف مالا يستطيع.
ثانياً المفهوم: فهو أن الله تعالى قد كلَّف كُل إنسانٍ وسعه كله، وطاقته كلها، وجهده كله.
ونحن نقول لك: متى بذلت وسعك وطاقتك، فكثَّر الله خيرك! وجزاك الله خيراً! ولا تُطالب بأكثر من ذلك، لكن من مِنّا ولو كان من أقوانا، وأكثرنا دعوة، وجهاداً، وعملاً، وتضحية من هو الذي يستطيع أن يقول: إنني بذلت كل طاقتي؟! فأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يستعملني وإياكم في طاعته، وأن يجعلني وإياكم هُداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، ربّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لنا أجمعين، وهَبِ المسيئين منا للمحسنين برحمتك يا أرحم الرّاحمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(159/17)
القدوة للطلاب
ودورك يبدأ أولاً بالقدوة لهؤلاء الطلاب الذين هم مستقبل الأمة، وهم بين يديك، تعلمهم ما شئت، وتطبعهم من الأخلاق على ما شئت، وتلقي في عقولهم وقلوبهم من المعاني والأفكار والأخلاق ما وفقك الله تعالى إليه، فأي توفيقٍ أعظم من أن يمكنك الله تعالى من أذن خمسين أو مائة أو خمسمائة طالب، تستطيع أن تحدثهم، وتوجههم، وترشدهم، بل وتستطيع أن تبنيهم بناءً شرعياً تاماً، وبناءً علمياً في التخصص الذي يدرسون ليتخرجوا كوادر، يملئون الميدان، ويسدون الحاجات، ويكونون حماية لظهر الأمة، من أن تكون محتاجةً إلى عدوها، في صناعتها، في أسلحتها، في علومها، في اقتصادها، وفي غير ذلك.
فهذه المهمة العظيمة مهمة القدوة الحسنة لهؤلاء، ومهمة التأثير عليهم، ومهمة أن تحمل هَمَّ الدعوة إلى الله تعالى وتلقي به بين هؤلاء الشباب، وتبنيهم وتتعاهدهم وتربيهم، وتحتسب عند الله تعالى أن يخرج منهم ولو طائفة تحمل مشعل الهداية، وتحمل هَمَّ الدعوة إلى الله تعالى، وينفع الله تعالى بها الأمة، وكم يصيبك من الغبطة والسرور أن ترى بعض طلابك وقد تبوءوا مناصب كبيرة، ونفع الله تعالى بهم وأصلحوا، وتعلموا، وبرزوا، وأصبحت الأمة تردد أسماءهم وتلهج بذكرهم.(159/18)
التشجيع على الإبداع
أمرٌ آخر، أمر الإبداع إن العالم الإسلامي اليوم يعاني من ضمن ما يعاني من التخلف العلمي، ونحن نجد أن هناك الكثيرين من أصحاب العقول الجبارة، والمواهب الفذة، والذين مكنهم الله تعالى من ناصية العلم، ولديهم القدرة على الإبداع، ولكننا نجد أننا بأنفسنا كثيراً ما ندفن مواهبهم، ونحطم إبداعهم، وهاهنا يحتاج الأستاذ إلى أن يملك القوة، والإرادة، والصبر، والاستماتة، حتى يحقق في مجال عمله وتخصصه شيئاً ينفع المسلمين، إنه لأمرٌ كبير أن نثبت للناس، أن لا تناقض بين الدين والعلم، وأن لا خصومة بين الإسلام والكون، الذي هو ميدان البحوث العلمية، وكذلك الإنسان.
ولن نستطيع أن نفعل ذلك بمجرد الحديث والمحاضرات، وإنما من خلال تقديم النماذج الإنسانية البشرية، التي يراها الناس، فيرون العقيدة الحقة، ويرونها فيرون الخلق الفاضل، والعبادة الصالحة، والعلم، والإبداع، والدقة، والإنتاجية، والتقدم، والسبق، في ميادينها ومجالاتها.(159/19)
التأثير في المجتمع بالنزول إليه
الأمرالثالث: النزول للمجتمع، إن أساتذة الجامعات في العالم كله، هم في المجتمع أساتذة أيضاً ومنطلق للتعليم والإشعاع، يأتي الناس إليهم، ويأخذون منهم، ويتعلمون، ويستشيرونهم، وينظرون إليهم نظرةً خاصة، ويساهمون مساهمةً فعالة، في صناعة العقول البشرية، فهل يجوز أن يكون الانعزال عن المجتمع هو نصيب أساتذة الجامعات في العالم الإسلامي فحسب؟ إن هذا لشيءٌ عجاب!! إن من الواجب على أستاذ الجامعة أن ينزل للمجتمع ويحتك بالناس، ويختلط بكل الفئات، ويتعامل معهم جميعاً، ويأخذ منهم ويعطي، ويفيدهم ويستفيد منهم، ويعمل ليكون، لبنة قوية، وأداةً فعّالة، في كل عمل خيرٍ في المجتمع، وألا يتردد في دعم أي مشروعٍ يرى أن فيه مصلحةً للإسلام والمسلمين، هذا مع أن الدور الأكبر ولا شك لأستاذ الجامعة، داخل أروقة الجامعة حيث يستطيع أن يقوم بدور كبير في تصحيح الأوضاع، وتحسينها، وصياغة الطلاب والمناهج وغيرها، ولكن هذا لا يمكن أن يعفيه أبداً من المسئولية الكبيرة في النزول إلى ميدان المجتمع والتأثير فيه والاحتكاك بأفراده.(159/20)
أهمية وجود التخصصات العلمية
أما أولئك الطلاب الذين هم مستقبل الأمة الواعد، لا بد لهم من الجد في الطلب، وأن يقووا عزائمهم، ويشدوا عقولهم لتحصيل هذا العلم الذي يسعون إليه، ويبذلون في سبيله الأوقات، وهم يشعرون أنهم يتعبدون الله تعالى بتحصيل هذا العلم، فإن هذا العلم متى كان من العلوم المباحة التي يحتاج إليها المسلمون، فإن طلبه بنية خالصة هو من القربات إلى الله تعالى، والذي يجلس في مختبره، أو أمام جهاز من أجهزته، أو معتكفاً على بحثٍ من البحوث التي يحتاجه المسلمون، يجلس ونيته أن ينفع الأمة، لا أعتقد أن أحداً يشك أن الله يمنحه الأجر الكبير، كيف لا، والله تعالى يأجر الفلاح في مزرعته، ويأجر كل إنسان في ميدان عمله؟! بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرنا أن كل معروفٍ صدقة، ولو قلّ، فكيف بهذا المعروف الكبير الذي هو خدمة للأمة، وحماية لها! وتحصين من عدوها، وتقديم خدمات جليلة لها، وسير بالدعوة الإسلامية من الكلام النظري إلى الواقع العملي؟! فإن الناس لا يستغنون أبداً عن الطبيب الذي يُصدقُ قول العالم، والاقتصادي الذي يصدق قول الخطيب، فحينما يقول الخطيب لنا مثلاً: إن الربا هو سببُ الكساد والفساد في الاقتصاد، وهو سبب الأزمات، وهو سبب البلايا، فإن الكثير من الناس، وإن صدقوا بذلك إلا أنه لم يبلغ عندهم مبلغ اليقين، فإذا جاءنا المختص في الاقتصاد، وقدم لنا من خلال الوثائق والأدلة والإحصائيات، أن هذا الأمر حقيقةٌ قائمة في العالم اليوم، مبنية على مُقدمات وأسباب، وهذه هي النتائج؛ فإن الكثيرين يديرون رءوسهم ويتعجبون، ويقولون: سبحان الله العظيم!! وإذا حدثنا الواعظ عن الزنا وخطره، وأثره في انتشار الأمراض والآفات والعقوبات، فإن الكثيرين يصدقون، لكن لا يصل تصديقهم إلى درجة اليقين، فإذا جاءنا الطبيب المختص، ليثبت لنا من خلال الحقائق والأرقام، أن الأمراض الخطيرة اليوم التي تُهدد البشرية، وتجتاح مئات الملايين من البشر، كالهربز والإيدز وغيرها، هي نتيجة عقوبة إلهية للشذوذ الجنسي، أو للاتصال الجنسي المحرم أو غير ذلك، فإن الكثير من الناس يعتبرون هذا آية من آيات الله تعالى، ويقولون: سبحان الله العظيم! سبحان الله وبحمده! فنحنُ نحتاج إلى المختص الذي يصدق قول العالم وقول الفقيه، وأنت أيها الطالب تسير في هذا السبيل، وتنحو ذلك المنحى، فالجدَّ الجدَّ! والاجتهاد الاجتهاد! في الدأب والطلب والتحصيل، وإدراك أن هذا العمل الذي تقوم به هو تهيئة للقيام بدور كبيرٍ في الدعوة إلى الله تعالى.(159/21)
لماذا نخاف من النقد؟
إن النقد من مهمات مسيرة الحياة البشرية، ذلك لأن النقص هو صفة كل إنسان بدون استثناء، وكل إنسان يقر بالنقص ويعترف به، إذاً مادام أن النقص موجود، فلا بد من انتقاد هذا النقص حتى يستقيم ويكتمل، وقد تكلم الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن النقد، وبين معناه، وبين لماذا نخاف من النقد مع أن طبيعتنا طبيعة بشرية تحتاج إلى النقد البناء دائماً وأبداً، وإذا غاب النقد البناء، فإن الحياة بطبيعة الحال لن تستقيم ولن تسير على المنهج الصحيح لأن كل إنسان سيعمل ما يراه هو دون أن يرى أي خطأ أو عيب في عمله، وتحدث الشيخ عن مسألة التأصيل الشرعي للنقد، وذكر الأدلة على ذلك، وموقف الناس من النقد على اختلاف مراتبهم ومنازلهم، ثم تحدث عن أنواع النقد وأنه ينقسم إلىعام وخاص، ونقد الذات ونقد الغير، ثم تطرق إلى صور النقد المذموم منها: الذي يستهدف حياة الإنسان الخاصة وفقدان العدل والإنصاف وغيرها.(160/1)
أولاً: لماذا اختيار هذا الموضوع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] .
أما بعد: هذا هو الدرس الخامس والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين (12) جمادي الأولى لعام (1412هـ) .
أيها الأحبة الكرام، حديثي إليكم هذه الليلة عنوانه: (لماذا نخاف من النقد) ؟(160/2)
المسلمون والنقد
أمر ثالث: إننا -أيها الأحبة- نملك تراثاً إسلامياً عظيماً، بل نملك -قبل هذا التراث الإسلامي العظيم من تاريخ الأمة- تاريخ الرسول عليه الصلاة والسلام، وتاريخ الصحابة رضي الله عنهم، وتاريخ الخلفاء المؤمنين الصادقين، وتاريخ العلماء العاملين الداعين إلى الله على بصيرة.
قبل هذا نملك منهجاً إلهياً ربانياً، وضح لنا كيف نتعرف على الخطأ في أنفسنا وفي غيرنا، وكيف نقوم بتصحيح هذا الخطأ، سواء كان هذا خطأنا نحن أم كان خطأ الآخرين -كما سوف تأتي الإشارة إلى شيء من ذلك - والمؤسف جداً أن هذا المنهج الذي هو في أصله منهج إسلامي ينبثق من هذا القرآن الكريم، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أن الغرب أفاد من هذا المنهج على الأقل في الناحية الدنيوية، فأرسوا قواعد النقد بين الحاكم والمحكوم، ووضعوا أسسه وضوابطه، سواء في المجال الإعلامي، أم في المجال العلمي، أم في المجال السياسي أم غيرها، بحيث أصبح كل فرد منهم يعرف كيف ينتقد، وكيف يوجه، وكيف يشارك برأيه في كل قضية صغرت أم كبرت، جلت أم عظمت، فأصبح كل إنسان منهم يحس أنه يشارك مشاركة فعالة في إدارة دفة المجتمع، وفي تصحيح الأخطاء، وفي توجيه الناس، أفادوا من المنهج الإسلامي من الناحية الدنيوية، أما المسلمون، فإن كثيراً من المنتسبين إلى الإسلام أقرب ما يكونون -وأقولها مهما كانت ثقيلة على لساني- أقرب ما يكونون إلى سلوك المنهج الفرعوني، الذي يقول: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] ومن الصعب جداً على كثير من الناس اليوم، ممن ينتسبون إلى هذا الدين أياً كانوا، سواء كانوا من أصحاب النفوذ والسلطان، أم كانوا من العلماء، أم كانوا من الدعاة، أم كانوا من عامة الناس، فمن أصعب الأمور على الواحد منهم أن يصغي أذنه لتقبل نقداً أو ملاحظة، فضلاً عن أن يوافق على ذلك أو يسعى إلى تصحيحه.(160/3)
الاعتراف بالنقص والتقصير
وهناك نقطة أخرى، أننا نجد لدى بعض الناس على كافة المستويات بدون استثناء، اعترافاً مجملاً بالنقص أو التقصير، فليس غريباً أنك تجد إنساناً ما سواء أكان عالماً، أم حاكماً، أم داعية، أم تاجراً أم أي شيء آخر، قد تجد أن من السهل أن يقول هذا الإنسان: أنا بشر، أو نحن لسنا بمعصومين، أو قد يقول: نحن جميعاً عرضة للخطأ لكنه يقف عند حد هذا الاعتراف المجمل الغامض المبهم، فلا ينتقل من هذا الكلام العام إلى تشخيص الأخطاء، وتحديد هذه الأخطاء وما هي؟ والاعتراف بها، وهذه الأخطاء ونوعياتها وعيناتها، ومن ثم السعي إلى التصحيح، نعم، نحن نقول: لم يدَّعِ أحد لك - مثلاً - أنك ملك، حتى تقول: أنا بشر، ولم يدعِ لك أحد أنك نبي أو رسول حتى تقول: إنك لست بمعصوم، كل الناس يعرفون أنك بشر، وأنك إنسان، وأنك لست بمعصوم، وأنك عرضة للخطأ، وكل إنسان يعترف بهذا، بل ربما أقول: إن كثيراً من الناس -وهم بصدد تجاهل الأخطاء، والدفاع عنها، ومحاولة إظهارها، وإلباسها بثوب الصواب- تجد أنهم يبتدئون حديثهم بقولهم: لسنا معصومين، نحن بشر يخطئ ونصيب، نحن عرضة، نحن كذا، نحن كذا، ثم بعد ذلك ينتقل إلى محاولة فلسفة الأخطاء، وتحويلها إلى نوع من الصواب؟ وبناءً عليه نقول: هذا الاعتراف الغامض المبهم بأنك بشر، أو لست بمعصوم، أو عرضة للخطأ، هذا الاعتراف لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا ينفعنا في قليل ولا في كثير.(160/4)
اعتبار النقد جريمة عند بعض الناس
أولاً لماذا الحديث عن هذا الموضوع بالذات؟ لعله ليس بغريب على أسماعكم، الحديث عن التخلف المطبق في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، سواء من الناحية العلمية، أو من الناحية الدعوية، أو من الناحية الاجتماعية، أو من الناحية السياسية على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي فإننا نعلم جميعاً وهذا مما لا يحتاج إلى إعادة أو تكرار أن المسلمين يعيشون اليوم أحط عصورهم، وأردأ أيامهم، ولعله ليس من قبيل المبالغة أن نقول: إنه لم تمر بالأمة الإسلامية منذ بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقامت دولة الإسلام في المدينة، وعبر حقب التاريخ في عصوره، مثل هذه الأيام الكالحة المظلمة، التي استحكمت فيها غربة الدين، وأطبق الأعداء بفكيهم على المسلمين، فهم يعيشون في تخلف مريع لا يعلمه إلا الله.
ومع ذلك كله، ومع أن التخلف في عالم الإسلام شامل لكل مجالات الحياة دون استثناء، إلا أننا نجد من المسلمين عموماً، مقتاً وبغضاً وكراهية لأي لون من ألوان النقد، أو المراجعة أو التصحيح بل إنك تجد المسلمين اليوم أفراداً وجماعات وأمماً ودولاً، يعتبرون النقد في كثير من الأحيان جريمة، فيجرمون المنتقد ويعتبرونه -كما يعبر بعضهم- خارجاً عن القانون، أو أنه مشكك في المكتسبات التي حققتها هذه الأمة، أو هذه الفئة، أو تلك الجماعة، أو تلك الدولة، أو أنه يسعى إلى زعزعة أمن البلد والمجتمع واستقراره، أو أنه يحمل أهدافاً سياسية، وهو يعبر عنها من خلال النقد والتصحيح والمراجعة، ولذلك نجد أن الدول تصنف الذين ينتقدون أو يصححون أو يراجعون، أو- بأسلوب آخر- تصنف الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أنهم ضمن الخصوم.
وكذلك أقول: مع الأسف إن كثيراً من الجماعات الإسلامية قد تعتبر من ينتقدونها هم أعداء لها، بل ربما تعتبرهم أحياناً أعداءً للإسلام ذاته، أما الأفراد فغالبنا يعتبر من ينتقده، أو يستدرك عليه أو يصحح خطأ وقع فيه، يعتبره عدواً له، أو حاقداً عليه.
هذه نقطة.(160/5)
ما المقصود بالنقد، لماذا نخاف من النقد؟
ما هو النقد؟ النقد في لغة العرب يطلق على معنيين:(160/6)
بيان المعنى الأول للنقد
فالمعنى الأول في النقد، الذي هو: تمييز الطيب من الخبيث، والحسن من القبيح، والصالح من الطالح، والزيف من الحقيقي، هذا المعنى هو الذي ينطبق على المفهوم الشرعي للنقد، فالنقد في الشرع يعني: معرفة الخطأ والصواب، ويعني: الثناء على الخير ومدحه وذم الشر ونقده، سواءً كان هذا الخير أو الشر في شخص، أم في كتاب، أم في عمل، أم في هيئة، أم في دولة، أم في جماعة، أم في أمة، أم في غير ذلك، وهذا هو المعروف لدى أهل العلم والإيمان، أفراداً وجماعات، خاصة لدى أهل القرون الأولى المفضلة، فإن الغالب على نقدهم أنهم كانوا ينتقدون لبيان الحق والأمر به، وبيان المنكر والنهي عنه، وهذا هو المعروف من سيرتهم وأقوالهم رضي الله تعالى عنهم.(160/7)
بيان المعنى الثاني للنقد
أما المعني الثاني في النقد، الذي هو: الثلب والثلم والعيب والتجريح، فهذا هو الغالب على هذا الزمان، الذين يعتبرون النقد -كما أسلفتُ- صورة من صورة العداوة والحقد والبغضاء، والتشهير والتأليب على الشخص المنقود، أو على الجهة المنقودة، ولذلك لا يقبلون النقد؛ لأنهم يعتبرونه نوعاً من التنقص، وكذلك هم لا ينتقدون إنساناً إلا إذا أبغضوه وحاربوه ومقتوه فهم ينتقدونه؛ لأنهم يسعون إلى إسقاطه فهم لا يسعون إلى معرفة الحق من الباطل والخطأ من الصواب والخير من الشر، بل همهم جمع المثالب على فلان وعلان، أو على الجهة الفلانية وحشد المعايب.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي الدرداء: {اللاعنون لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة} فاللعان هو الذي لا يعرف الناس إلا موضع العيب، كل ما ذكر عنده شخص عابه فإن ذكر عنده شخص بعبادة، قال: نعم عابد، ولكنه ليس بعالم، والعبادة بلا علم تضر أكثر مما تنفع، فإن ذكر عنده شخص بعلم، قال: نعم هو عالم، ولكن المشكلة في النية، إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فإن ذكر عنده شخص بجهاد قال: ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته، فإن ذكر عنده شخص بالإنفاق في سبيل الله، قال: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36] وهكذا كلما ذكر عنده شخص بمحمدة أو مدح أو ثناء، بحث عن عيب ويلصقه به، وكأنه لا يسره إلا ذكر الناس عنده بالشر والسوء هذا الموجود على غالب الناس اليوم.
وهذا يشبه القصة التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما، في قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه وفيها عبرة، فإن أهل الكوفة شكوا سعداً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرسل عمر إليه فجاءه، فقال له: يا أبا إسحاق، لقد شكوك في كل شيء حتى قالوا: لا يحسن يصلي- حتى الصلاة قالوا: لا يعرف كيف يصلي- فقال سعد رضي الله عنه وأرضاه: أما والله يا أمير المؤمنين، إني لا آلو أن أصلي بهم، كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، أطيل في الأوليين، وأخف أو أحذف في الأخريين، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: هذا هو الظن بك يا أبا إسحاق -هذا ظني بك-، لكن عمر رضي الله عنه وأرضاه، لم يكتف بمجرد قناعته الشخصية بـ سعد بن أبي وقاص؛ لأنه أمام شكوى من الشعب، من المواطنين، فلا بد أن يتثبت من هذه الشكوى بروح المحايدة، والعدل، والإنصاف، ويعتبر أن سعداً طرف وخصم، وأن أهل الكوفة طرف وخصم آخر، فيرسل عمر رضي الله عنه لجنة لتقصي الحقائق، وتذهب هذه اللجنة لا لتسأل أعيان البلد أو خواصهم، الذين يفترض أن الأمير قد يدنيهم إليه، وقد يكسب رضاهم بأي وسيلة وبأي ثمن! لا بل تذهب هذه اللجنة، لتقف في المساجد والأسواق، ويقولون لأهل المساجد: ماذا تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؟ فكلما ذكروه في مسجد أثنوا عليه خيراً، حتى جاءوا إلى مسجد من مساجد بني عبس، فقالوا: ما تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص؟ فسكتوا وأثنوا خيراً فقال رجل، يقال له: أسامة بن قتادة: أما إذ سألتنا فوالله إن أميرنا سعد بن أبي وقاص لا يعدل في القضية، ولا يحكم بالسوية، ولا يسير بالسرية وصفه بالجبن، والظلم، والحيف، وعدم الإنصاف والعياذ بالله، فغضب سعد بن أبي وقاص من ذلك أشد الغضب؛ لأنه يعلم أن هذا الرجل كاذب، فقال: [[اللهم إن كان هذا قام رياءً وسمعة وكذباً، فإني أسألك ثلاثاً: اللهم أطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن]] يقول أحد رواة الحديث: فأنا والله قد رأيتُ هذا الرجل شيخاً كبيراً قد عمي، وهو يقف في الأسواق يتعرض للجواري يغازلهن ويغمزهن، وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وهو يقول: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد، فأنت تلاحظ هاهنا، كيف أن هذا الرجل لم يعرف لـ سعد بن أبي وقاص، أنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بلاءه وجهاده في الإسلام، ولا أنه من أهل الجنة، ولا شيئاً من ذلك، إنما ذكر مثالبه ومعايبه التي هي -في الواقع- كذب وافتراء، وإلا فإن سعداً بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولا شك أن النقد بهذا المعنى محرم، لأنه نوع من الغيبة، والله عز وجل يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] .
وفي صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ فقال: {ذكرك أخاك بما يكره.
قال: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته} .
وقد ذكر القرطبي رحمه الله، إجماع العلماء على أن الغيبة من كبائر الذنوب، فهي إما أن تكون غيبة بهذا الاعتبار، وذلك كالذين يبحثون عن عيوب الناس ومثالبهم، ويفترض أن هذه العيوب والمثالب موجودة فيهم، فيتكلمون بهم في المجالس ويغتابونهم، ويقعون في أعراضهم، ويبتغون للبرآءِ العيب، فهي غيبة حينئذٍ فإن كانوا أبرياء مما وصفوهم به فهو بهتان وظلم، والله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الظالمين، يقول عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: {يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا} لا يظلم بعضكم بعضاً، وليس دافع هؤلاء بكل حال الإصلاح، لا.
ولا تصحيح الأخطاء وإنما دافعهم الحسد والبغي والحقد والظلم، وما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى له العقوبة في الدنيا -مع ما يدخره لصاحبه في الدار الآخرة- من البغي وقطيعة الرحم، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صحيح أن هناك حالات قد يجوز للإنسان فيها أن يغتاب، والقاعدة العامة والضابط العام في مثل هذه الحالات، هي ما إذا كانت مصلحة الغيبة أعظم من مفسدتها، راجحة على مفسدتها، وذلك لأن الغيبة مفسدة ظاهرة في إيذاء الإنسان الذي اغتبته، إيذاءه وظلمه، والحط من قدره فهذه، مفسدة ظاهرة، ولذلك حرم الله تعالى الغيبة.
لكن إذا كان في الغيبة مصلحة أعظم من ذلك، فحينئذٍ تجوز الغيبة، وقد ذكر العلماء ست حالات، بل ذكر بعضهم تسع حالات، قالوا: إنه يجوز فيها أن ينال من الشخص بعينه وبذاته؛ لأن مصلحة الغيبة حينئذٍ راجحة ظاهرة، وذلك كالتحذير من الفساق والتحذير من المنافقين، والتحذير من أهل البدع وغير ذلك.(160/8)
معاني النقد
المعنى الأول: تمييز الجيد من الرديء من الدراهم والدنانير - يعني: من النقود-، فأنت تقول: نقدت الدراهم وانتقدتها، إذا ميزت جيدها من رديئها، وأخرجت زيفها، ولذلك قال الشاعر: الموت نقاد على كفه دراهم يختار منها الثمين فهذا معنى للنقد: اختيار الجيد وتمييز الزيف.
المعنى الثاني: هو العيب والتجريح فأنت تقول: نقدت فلاناً بإصبعي إذا ضربته به، ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[الناس إن نقدتهم نقدوك وإن تركتهم لم يتركوك]] أي: إن عبتهم عابوك، وإن سكت عنهم عابوك أيضا- فلا سلامة منهم (سلمتُ وهل حيٌ على الناس يسلمُ)(160/9)
مسألة التأصيل الشرعي لموضوع النقد
ما هو الأصل في موضوع النقد من الناحية الشرعية؟ مما يدخل في باب النقد من الناحية الشرعية، أمور:(160/10)
محاسبة النفس
كذلك مما يدخل في باب النقد: محاسبة النفس.
فإن الإنسان قد ينتقد نفسه دون أن يحتاج إلى غيره، وكذلك الجماعة قد تنتقد نفسها، بل الدولة من الدول، قد تنتقد نفسها، وتجعل هناك مؤسسات وأجهزة، مهمتها المتابعة، والمراقبة والمراجعة، والتصحيح والتعديل، على سبيل الحقيقة لا على سبيل التغطية أو التورية أو التسكيت.
كلا، فإننا قد نجد في كثير من الدول، أنها قد تضع مؤسسات للإشراف، أو التفتيش أو المراجعة، لكن تكون مهمة هذه الأشياء مهمةً شكلية، فإن الدولة في الإسلام تجعل هناك مؤسسات وأجهزة، مهمتها مهمة نزيهة نظيفة حرة مستقلة، تقوم بالمراجعة والتصحيح على الكبير والصغير والمأمور والأمير، دون أن تجد في ذلك حرجاً أو غرابةً، بل هذا هو عين الكمال وعين القوة وعين الصواب.
موقف السلف من محاسبة أنفسهم: إذاً الفرد والجماعة والدولة والأمة، كلها تراقب نفسها، ولذلك قال عمر رضي الله عنه -كما في سنن الترمذي- قال: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً عند الله عز وجل، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتهيئوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]] ] والحديث أيضاً رواه ابن أبي الدنيا في كتابه محاسبة النفس والإزراء عليها.
كذلك حنظلة بن الربيع الأسيدي كما في صحيح مسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه وهو حزين يبكي، وقال: يا أبا بكر نافق حنظلة -أنا منافق-.
قال: وما ذاك؟ قال: أكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال، فإذا ذهبنا منه عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات، ونسينا كثيراً.
إذاً: هو انتقد نفسه وحاسبها، حتى اتهم نفسه بالنفاق، وقال أبو بكر: والله إن كلنا كذلك، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {لو تكونون على كل حال كما تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة} .
إذن الإنسان أول ما ينتقد ينتقد نفسه، وكذلك الفئة والجماعة، والطائفة والأمة والدولة، تنتقد نفسها قبل أن تترك فرصة لينتقدها الآخرون، أو تترك فرصة لاستفحال الأخطاء والأمراض والآفات والمنكرات، بحيث يصعب بعد ذلك تصحيحها أو استدراكها.
ورضي الله عن سلف هذه الأمة الكرام، كيف كانوا في صدق عبوديتهم لله عز وجل، وخالص إيمانهم وحرارة تقواهم وصفاء قلوبهم، ومع ذلك كله لم يكن هناك أحدٌ أكثر منهم محاسبةً لأنفسهم، وإننا نجد اليوم من الناس من يكون والغاً في المعاصي والفسوق، ومع ذلك لو أُنكر عليه أو صُحح، لقال: أنا.
أما هم فمع صيام النهار، وقيام الليل، وصدق التعبد، وحرارة التقوى، مع ذلك، اسمع ماذا يقول مطرف بن عبد الله رضي الله عنه وهو من عباد السلف وزهادهم في يوم عرفة، يقول: [[اللهم لا ترد هذا الجمع كله من أجلي]]- رأى الحجاج وما هم فيه من البكاء والابتهال، فأنحى على نفسه، وخشي أن يُرد الحجاج بسببه هو- فقال: [[اللهم لا ترد هذا الجمع كله من أجلي]] ومثله بكر بن عبد الله المزني، يقول: [[لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أن الله غفر لهم لولا أني كنت فيهم]] .
يونس بن عبيد رحمه الله، يقول: [[والله إني لأعد مائة خصلةٍ من خصال الخير ما أعلم في نفسي واحدةً منها]] فليس عندهم كبرياء، ولا غطرسة، ولا غرور، وما فيهم أحد يقول: أنا أنا.
يقول ابن أبي مليكة: [[لقد أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما فيهم واحد إلا يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل وإسرافيل]] .
هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم التابعون لهم بإحسان.
هذا محمد بن واسع يقول - وقد مدحه الناس وأثنوا عليه وهو مريض- قال: [[وما يغني عني ما يقوله الناس، إذا أُخذ بيدي ورجلي وذهب بي إلى النار]] .
إذاً مدح الناس وثناؤهم والضجيج الإعلامي، حول فلان من العلماء أو فلان من المسئولين، أو مدح الناس لفلان؛ لأنه مشهور أو معروف، هذا لا يغني عنه شيئاً إذا كان ما بينه وبين الله غير مستقيم، وإذا كان ما بينه وبين الله حسن فلا يضره أن يكون الناس بخلاف ذلك.
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب فوائد محاسبة النفس سراً وعلانية: وقد يحاسب الإنسان نفسه سراً بينه وبين نفسه، فيعاتبها ويوبخها، وهذا لا شك أنه أبعد عن الرياء، وهو يدعو الإنسان إلى أن يتواضع ويعترف بالخطأ، ويراجع نفسه أولاً بأول، وقد يحاسبها علانية وعلى ملأ من الناس، وعلى مرأى ومسمع منهم، وهذا له إيجابية ومنافع كثيرة، منها: الفائدة الأولى: أنه يعترف بهذا الخطأ لئلا يُتابع عليه، وذلك إذا كان خطأ مشهوراً معروفاً متداولاً عند الناس، فيعلن أنه رجع عنه أو تاب منه؛ لئلا يتابعه الناس عليه، كأن يكون صاحب بدعة تاب منها، فيقول للناس: من كان يعرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا فلان بن فلان، كنت أقول كذا وكذا والآن تبت منه مثل ما قاله أبو الحسن الأشعري في خطبته المعروفة.
الفائدة الثانية: والاعتراف علانية أيضاً من فوائده: أنه يعود الآخرين على ذلك.
فإن الناس يحن بعضهم إلى بعض، ويقلد بعضهم بعضاً، فإذا كان العالم أو الحاكم أو الداعية، عود الناس أنه يعترف بالخطأ علانية وأمامهم، يقول: قلت كذا وهذا خطأ، وفعلت كذا وهذا خطأ وأنا أتوب، فإن الناس حينئذٍ يتعودون على أن يعترفوا هم أيضاً بأخطائهم، ويرجعوا عنها، ويحاولوا تصحيحها أولاً بأول.
الفائدة الثالثة: من الاعتراف العلني: أنه يقطع الطريق على خصومك؛ لأنهم قد يأخذوا هذه الأخطاء ويشنعون بها عليك، فإذا اعترفت بها علانية قطعت الطريق عليهم.
الفائدة الرابعة: أنه يضع الإنسان في مكانه الطبيعي، فلا يكون هناك تعصب لفلان من الناس، فإننا نجد -مثلاً- من الطلاب من يتعصب لعالم من العلماء، لماذا؟ لأنه لا يعرف إلا الصواب من أقواله.
لكن لو أن هذا العالم قال: أنا أخطأت في كذا وكذا.
عرف الناس حينئذٍ أنه ينبغي ألا يتعصبوا، وأن يأخذوا أقواله باعتدال ودراسة ومقارنة ولا يغلوا فيه أو يفرطوا.
وكذلك الحال بالنسبة لغيره، مثلاً: المتنفذ أو المسئول، إذا كان يعترف بخطئه ويتراجع عنه، فإنه بذلك يشجع الناس على أن يوافوه ويواصلوه بالخطأ ويناصحوه، كلما رأوا عليه شيئاً يحتاج إلى مناصحة.(160/11)
الأمر بالمعروف والنهي والمنكر
الأمر الثاني: موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهو شعيرة عظيمة، ألَّف فيها خلق من أهل العلم كتباً كثيرة، ونصوص هذا الباب أكثر من أن تذكر وأشهر من أن تحصر، منها قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] وذكر عن المؤمنين: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] إلى غير ذلك.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لا يعتبرون أن أحداً يُقصر في ذلك، لا أميراً ولا مأموراً، ولا كبيراً ولا صغيراً، ولا يجاملون فيها أحداً قط، وما قصص الصحابة رضي الله عنهم من ذلك بأمر قليل، فإنهم قد انتقدوا على بعضهم بعضاً أموراً كثيرة، كما انتقد علي رضي الله عنه على عثمان أنه نهى عن المتعة في الحج، ولما سمع أنه ينهى عنها، أهلَّ بها علي بأعلى صوته: لبيك عمرةً متمتعاً بها إلى الحجِ، ولم يقُل: هذا أجامله، أو أستحي منه أو أقره؛ لأنه لا يرى أن في هذا حطاً من قدره؛ لأن فيه إحياءً لسنةٍ من سنن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك لما رأى ابن عباس ٍ معاوية َ يستلم أركان البيت كلها، ويقول: ليس شيء من البيت مهجوراً انتقده ابن عباس علانيه، وهو كان له مكانة عالية وأمير، وقال له ابن عباس: [[لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يستلم إلا الركنين]] .
ولم ير معاوية َ أن في هذا حطاً من قدره ولا بخساً لمكانته، كما لم ير ابن عباس أن مكانة معاوية َ تمنع من أن يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، ويُقال له: هذا هو الطريق فالزمه.(160/12)
النصيحة
الأمر الأول: النصيحة فإن النقد هو نوع في حقيقة الأمر من النصيحة، وقد قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91] فذكر النصيحة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك النصيحة للمؤمنين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم عن أبي هريرة في حق المسلم على المسلم، قال: {وإذا استنصحك فانصحه} وفي الحديث الثالث، وهو صحيح أيضا: {إن الله يرضى لكم ثلاثاً وذكر منها: أن تناصحوا من ولاه الله أمركم} والحديث المشهور حديث تميم بن أوس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الدين النصيحة -ثلاثاً- قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم} بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال، في الحديث الذي رواه أبو داود بسند حسن، كما يقول الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، يقول: {المؤمن مرآة أخيه المؤمن} فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه المؤمن بالمرآة، إذا وقف أمامها الإنسان رأى صورته الحقيقية، بما فيها من حسنات وما فيها من عيوب؟! فإننا نعرف أن المرآة تعكس صورة الشخص بحسنها وقبيحها، وحلوها ومرها، وجيدها ورديئها؛ وذلك لأن الإنسان ربما لا يستطيع أن يعرف نفسه، ولا يرى نفسه جيداً، إلا من خلال رؤيته لنفسه في أخيه المسلم الذي هو مرآة له.
فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآةِ(160/13)
موقف الناس من النقد
الإنسان بطبيعته يحب المدح ويكره الذم، وقد قال أبو ذر رضي الله عنه: {يا رسول الله! الرجل يعمل العمل الصالح فيمدح به، فيعجبه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك عاجل بشرى المؤمن} فلا تثريب على الإنسان أن يكون بطبعه يحب أن يمدح، أو على أقل تقدير لا يحب أن يُذم؛ وذلك لأن في النقد نسبة الخطأ إلى الإنسان، وكذلك الذم فيها نسبة الخطأ إليه والخطأ مكروه فطرة.(160/14)
الاستعداد لقبول النقد
يا أخي: القضية قضية أن هؤلاء الناس لديهم استعداد لأن يقبلوا الخطأ من أي إنسان، كائناً من كان حتى ولو كان من عمر رضي الله عنه شخصياً، أن يقوموا منه الخطأ، ويراجعو فيه ويصححوه، ومن المعروف أن المسلمين في كل زمان ومكان، إذا كان الخطأ يستدعي أن يقوموه بالسيف قوموه بالسيف ولا حرج، وإذا كان الأمر لا يستدعي ذلك ولا يوجب منابذة الحاكم، فلا شك أن المسلم -فضلاً عن صحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يفكر بأنه سوف ينابذ الإمام في أمر لا يستحق ذلك، فهذه قضية معروفة.
وإنما أنبه على هذا؛ لأن بعض الإخوة يستدرك إيراد مثل هذه القصص دون بيان، وإن كان المعنى فيها واضحاً لا لبس فيه.
ومع ذلك كان عمر رضي الله عنه يراجع نفسه دائما وأبداً، حتى يتعود على قبول ما يلاحظه الناس عليه، فمرة من المرات كان عمر في بستان فنظر إلى نفسه وقال: بخ بخ عمر بن الخطاب أمير المؤمنين!! - كأنه يقول: انتبه لا تعجبك بنفسك، أو تغتر أو تتعاظم، أو تصيبك عظمة السلطان والرياسة، فتجحد الحق أو ترده-[[عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ! والله لتتقينَّ الله أو ليعذبنك الله]] إذاً انتبه يا عمر، واجعل عليك رقيباً من نفسك قبل أن يكون عليك رقيب من الآخرين، وقبل ذلك كله، فإن الله تعالى هو الرقيب على عباده، وعلى مدار التاريخ كان المسلمون يحرصون على التصحيح والتوجيه، والنقد الهادف البنّاء الرشيد، ويعتبرون هذا أساساً لبقاء الأمة وبقاء الإسلام، وعدم زواله.(160/15)
غياب النقد عند أناس ووجوده عند غيرهم
وإذا غاب هذا المعنى عن الحاكم في بعض الظروف وفي بعض الأحوال، وهيمنت النظم الاستبدادية والنظم الدكتاتورية المتسلطة، التي تكتم أنفاس المسلمين، وتمنعهم من أن يقولوا كلمة الحق، وتحول بينهم وبين النطق بها، وتمنعهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تمنعهم من النصيحة، أو تمنعهم من النقد الهادف البناء، لأنها لا تريد نبش التاريخ، ولا كشف الحقائق، ولا مصارحة الشعوب بالأمور وأبعادها وخلفياتها ومجرياتها، إذا غاب هذا عن الحكام في حقبة من حقب التاريخ، أو في رقعة من الواقع الموجود اليوم، فإن هذا لم يكن ليغيب عن العلماء والدعاة، بل كان العلماء والدعاة ينصحون بعضهم بعضاً، وينصحون عامة المسلمين، بل وينصحون حكام المسلمين، وإن لقوا في ذلك ما لقوا.
ولو ذهبت أذكر لكم مواقف من نصيحة العلماء بعضهم لبعض، أو للمسلمين من العامة، أو للحكام سراً وعلانية، سواءً من خلال المخاطبة، أو الخطبة، أو الكتاب؛ لطال بي المقام، وأحيلكم على كتاب واحد فقط، وهو كتاب: الإسلام بين العلماء والحكام للشيخ عبد العزيز البدري، ففيه من ذلك شيء كثير.
أما اليوم فنقول -وبكل أسف-: إن عيوب الأمة الإسلامية اليوم، ليست محصورة في طبقة معينة، لا نخدع أنفسنا، ليس العيب اليوم في الحاكم، وليس العيب في العالِم، أو في الداعية، لا.
العيب اليوم موجود في الجميع بدون استثناء، من القمة إلى الهرم عند الجميع، فداء التسلط والدكتاتورية -كما أسلفت- وكتم الأنفاس وسلب الحريات، ليس موجوداً في الحاكم فقط، وهو موجود في الحاكم، ولكنه أيضاً، موجود عند كثير من العلماء والدعاة والمجتهدين، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فتجد أن المعلم - مثلاً - يستثقل أن يصحح الطالب له خطأً، وقد يضطرب إذا صحح الطالب له خطأً في مجلس من مجالس درسه.
وتجد الداعية يستغرب ويستثقل أن يصحح أحد الأتباع عليه شيئاً وقع فيه، ولا يعطيه من الحرية إلا هامشاً صغيراً جداً، هو نفسه الهامش الذي تعطيه الحكومات لبعض الشعوب.
فمثلاً قد يُسمح في بعض البلاد للإنسان بأن ينتقد عمل البلدية، فيقول: الشارع الفلاني مائل والشارع الفلاني معتدل والشارع الفلاني نظيف والشارع الفلاني غير نظيف - مثلاً - والبيت الفلاني يحتاج إلى هدم، والبيت الفلاني لا يحتاج، والمكان الفلاني وقع في خطأ، وما أشبه ذلك- من الهامش الصغير الذي قد يرضي بعض السذج والبسطاء والمغفلين.
وكذلك قد يعطي الداعية أو العالم أحياناً، من حوله هامشاً صغيراً من الحرية يخدعهم به عن ضرورة النقد البناء العميق الصحيح، وضرورة المراجعة.(160/16)
الاشمئزاز من النقد
ولذلك أقول: إن الأمة اليوم ما زالت تعتبر النقد نوعاً من الاستفزاز، أو حط المكانة، أو مخالفة المألوف، لم يتعود الناس على هذا، لم تتعود آذانهم عليه، ولهذا صاروا يشمئزون منه، يستغربونه، يعتبرونه شيئاً عظيماً.
يا أخي! كل الدنيا هكذا، هل كتب على المسلمين فقط أن يظلوا في مثل هذه الأمور، ليس لديهم قدرة على تصحيح أخطائهم، ولا على اكتشافها؟! هل كتب علينا أن نظل نواجه هذه الأخطاء، وهي تتراكم وتزداد يوماً بعد يوم؟! ونحن إن نصحنا رأينا أن هذا فيه ما فيه، وتجد أن الواحد منا لا يفعل شيئاً، لكنه لو سمع إنساناً ينصح لقال: يا أخي، لماذا لم تفعل كذا؟ لماذا لم تأت النصيحة بالطريقة الفلانية؟ يا أخي! افعل أنت ما تقتنع أنه صحيح؛ لأن المسئولية مسئولية الجميع، وليست مسئولية فرد معين أو فئة معينة، وكأن الكثيرين ظنوا أن الدين لم يأت بهذه الأمور، أو أنهم غير مكلفين، أو غير محاسبين على مثل هذه الأشياء، وكأنهم نسوا أن الصحابة رضي الله عنهم كان بعضهم يستدرك على بعض، وبعضهم يصحح لبعض، علانيةً إذا كان الأمر يقتضي الإعلان، وسراً إذا كان الأمر يقتضي الإسرار.
لاشك أن النقد يحتاج أحياناً إلى سرية فإذا كان الإنسان مستتر بذنب فلا تفضحه على الملأ، بل بينك وبينه، لكن إذا كان الخطأ معلناً على رءوس الأشهاد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جيء بإنسان ميت، فأثنى الناس عليه شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وجبت وجبت، وسمعه الصحابة فقالوا: وما وجبت؟ فقال: وجبت له النار، أنتم شهود الله في أرضه} لم يمنعه عليه الصلاة والسلام، ما دام أن الأمر مشهور تداوله الناس وتناقلوه فيما بينهم، والمجتمع كله يتحدث عن هذه الأخطاء، فلا تقل: لا تتكلم فيها ولا تشهرها ولا تنشرها.
هي معروفة أصلاً وكل الناس يعرفونها.
خذ -مثلاً- أجهزة الإعلام التلفاز، قلما بيت إلا وفيه تلفاز، يقف أمام هذا الجهاز الكبير والصغير، والرجل والمرأة على حد سواء، ابتليت به كثير من البيوت مع الأسف الشديد، حتى إنك قد تدخل بيوت أناس صالحين، بل ربما يكون ممن يشار إليهم بالبنان، وفيها هذا البلاء، ومع ذلك لو أن إنساناً قام في خطبة أو مناسبة أو في محاضرة، وتكلم عن برنامج يذاع في التلفاز وانتقده، لقال بعض الحضور: يا أخي، ليس من الضرورة نشر هذا الكلام، ليس فيه مصلحة، يا سبحان الله! أين نحن؟! في أي عالم نعيش؟!! أليس هذا البرنامج الذي ينتقده فلان عُرض على ملايين المشاهدين، أقول: ملايين في حين أن الذين سمعوا هذه الخطبة ألوف أو مئات أحياناً، فلماذا نعتبر أن هذا الخطأ الذي شاهده ملايين، أو سمعه ملايين أو علم به ملايين، نعتبر أن الحديث عنه مع عشرات أو مئات أو ألوف، أنه نوع من التشهير؟! أو أنه غير مناسب؟! السبب في ذلك أن الأمة لم تتعود على النقد الصحيح، ولذلك صارت تعتبر أن النقد -كما قلت سابقاً- نوع من الاستفزاز، أو من التشهير، أو من إثارة الفتنة في بعض الأحيان وهذه كلها مفاهيم خاطئة.
وقبل قليل ذكرت لك أن الصحابة يصحح بعضهم لبعض علانية، دون حساسية ولا حرج، ومن بعدهم كلهم كانوا كذلك، وإذا كان الخطأ ظاهراً مشهوراً، فلا معنى لإنكاره سراً، فإن الناس يقولون: أين العلماء؟! أين الدعاة؟! أين الخطباء؟! أين المصلحون؟! والأخطاء تقع صباح مساء، وهم ساكتون عنها لا يحركون ساكناً، وما يدري الناس أنك قلت لفلان أو علان، أو كتبت أو رفعت سماعة الهاتف، وخاصةً إذا تكررت هذه الأمور، ولم تزل تفعل الطريقة التي تعجبك، لكن إذا ظل الأمر موجوداً، على أقل تقدير حتى يعذرك الناس، ويعرفوا أنك بذلت ما تستطيع، وأعذرت إلى الله، وحتى تحذر الناس من هذا الأمر وتبين لهم خطورته وعواقبه.(160/17)
الصحابة الكرام والاعتراف بالخطأ
أبو بكر رضي الله عنه، سمع الناس يثنون عليه، فكان يقول: [[اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي مالا يعلمون]] فلا يغتر بثنائهم، وإنما يسأل الله تعالى أن يغفر له ما لا يعلمون من عيوبه.
وفي صحيح البخاري، أن أبا بكر رضي الله عنه، وعمر اختلفا في مسألة، فجاء أبو بكر وقد رفع ثوبه وجلس عند النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه صار بيني وبين عمر بن الخطاب خصومة، وطلبت منه أن يسامحني فأبى، وإذا بـ عمر يجيء، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى أبو بكر التغير في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، والغضب لـ أبي بكر على عمر، لماذا ما سامحت أبا بكر؟ ولماذا وقفت منه هذا الموقف؟ فلما رأى أبو بكر ما برسول الله صلى الله عليه وسلم، أشفق عليه وأشفق على عمر، وقام وقال: والله يا رسول الله، أنا كنت أظلم.
-يعني أنا أخطأت من أجل أن لا ينال عمر رضي الله عنه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله بعثني فقلتم: كذبت.
وقال أبو بكر: صدقت.
فهل أنتم تاركو لي صاحبي} فما أوذي أبو بكر رضي الله عنه بعدها أبداَّ.
الشاهد أن أبا بكر رضي الله عنه، كان سريعاً إلى الرجوع إلى الحق والاعتراف به.
وقصته مع ولده أيضاً وهي في صحيح البخاري قصة طويلة، لا أطيل بذكرها وسرعان ما كان يعود إلى الحق، ويعتذر من الخطأ ممِن أخطأ عليه رضي الله عنه إن سراً فسراً وإن علانية فعلانية، ولا يزيد في هذا غضاضة ولا حرجاً.
أما عمر رضي الله عنه فكما كان شديداً في الحق كان شديداً على نفسه، ولذلك أعلنها صيحة مدوية [[رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا]] فاعتبر أجمل ما تهدي إليه، أن تهدي إليه عيباً، ولم يشترط عليك عمر أن تسر أو تعلن، وأي طريقة وأي كلام وأي أسلوب، المهم أنك تهدي له عيباً بأي شكل، وكان رضي الله عنه يتقبل النصيحة حتى وهو على المنبر، فربما صعد وقال [[أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا.
فقام رجل من الرعية من عامة الناس، وقال: لا سمع ولا طاعة.
فقال: لِمَ رحمك الله؟ قال: لأنك أعطيتنا ثوباً ثوباً.
ولبست ثوبين.
فقال: قم يا عبد الله بن عمر.
فيقوم ابن عمر، ويشرح القضية أنه قد أعطاه ثوبه، فلبس ثوبه ولبس ثوب ولده عبد الله]] ؛ لأنه رجل كبير جسيم.
ومرة أخرى يقول: [[لو رأيتم فيّ اعوجاجاً.
يقول له رجل: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا]] فخذ هذه القصة ولا تظل تنظر فيها وتحللها، وتقول: هل المعنى أنهم سوف يخرجون عليه؟ لا.
لا أبداً.(160/18)
الأنبياء نماذج للاعتراف بالخطأ
أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، كلهم كانوا نماذج للاعتراف بالخطأ إذا وقع والخروج منه، فموسى عليه الصلاة والسلام يقول، كما في قصته مع الخضر: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:73] ويقول: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:76] بل إنني أعجب حين أقرأ قصة عيسي عليه الصلاة والسلام، التي رواها البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {رأى عيسى بن مريم رجلاً يسرق -رآه بعينه- فقال له عيسى: أسرقت؟ قال: كلا والله الذي لا إله إلا هو ما سرقت قال له عيسى عليه السلام: آمنت بالله وكذبت عيني} كذبت نفسي فيما رأيته، يحتمل أن يكون وضع للقضية ألف احتمال، يمكن أن يكون أخذ هذا المال لأنه محتاج إليه، أو يكون له، أو يكون ظفر بماله فأخذه.
كلام كثير لأهل العلم المقصود أنه عليه الصلاة والسلام في شدة تواضعه واعترافه أنه يرى السارق، ثم يقول لما حلف بالله الذي لا إله إلا هو: آمنت بالله وكذبت عيني.
أما محمد صلى الله عليه وسلم، فهو صاحب القدح المعلى في ذلك، وكيف لا! وقد خاطبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه، يأمره بالاستغفار ويأمره بالتقوى، يقول الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] ويقول: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} [النساء:105-107] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:67] .
وهكذا عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره بالاستغفار، وأمره بالتقوى، ونهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين، ولهذا كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أمر عجيب من تواضعه، وقبوله للرأي الآخر، وإعراضه عن الجاهلين، وتحمله، ورجوعه إلى ما يرى أنه صواب إذا قاله أحد، من ذلك أن بعض الناس شككوا في قسمة النبي صلى الله عليه وسلم للمال -وهذا موجود في كل زمان- شككوا في قسمة المال، وأنها قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} والثابت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقبض على هذا الرجل الذي قال تلك الكلمة، وشكك في القيادة العليا -قيادة النبي صلى الله عليه وسلم-، لم يأمر بالقبض عليه قط، ولا أودعه في السجن، ولا فتح محاضر التحقيق معه، ولا حكم عليه بسجن مؤبد ولا بغير مؤبد، ولا شهَّر به، ولا فضحه أبداً، وإنما تركه حراً طليقاً لم يتعرض له بشيء سوى أنه صلى الله عليه وسلم قال: {رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} وهو صلى الله عليه وسلم رسول الله، الصادق المصدوق المبرأ المنزه.
وآخرون أيضاً شككوا وطعنوا فيما يتعلق بموضوع الولاة، واختيار العمال والأمراء، الذين كان يختارهم النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المغازي والبعوث والجيوش.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أسامة بن زيد في أحد البعوث -وذلك في آخر عمره قبل أن يموت صلى الله عليه وسلم بزمن يسير- فبعث بعثاً وأمرَّ عليهم أسامة بن زيد، فقام بعض الصحابة الفضلاء، ومنهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي وغيره، وشككوا في هذا الرجل لأنه مولى، وقالوا: كيف يتولى علينا مولى، ونحن من قريش وفيهم، وفيهم؟! إلى آخره.
قال الراوي: خطب النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الناس وقال: {إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل -يعني زيد بن حارثة لأنهم طعنوا فيه عندما عينه النبي صلى الله عليه وسلم أميراً في سرية مؤتة- "وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة" أي: أنه جديراً بها وما عينته لمحبتي له، وإنما عينته لجدارته وأنه أهل لذلك- "وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا - يعني: ولده أسامة بن زيد - لمن أحب الناس إلي بعده"} وأيضاً لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بفتح محاضر التحقيق مع هؤلاء الذين طعنوا في هذا الأمير الذي عينه وولاه، ولا سجنهم ولا عاتبهم ولا أخرجهم، بل لم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم إن فيكم وفيكم وفيكم، وإنما بيَّن الحقيقة وأن هذا الرجل جدير بالإمارة خليق بها، وأنتم طعنتم فيه بشيء لا يستحق الطعن؛ لأنه مولى، وأكرمكم عند الله أتقاكم.
هذا المنهج التربوي النبوي العظيم، ظل هو السنة المتبعة للمسلمين قروناً طويلة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، سواءً كان من الخلفاء والحكام، أم من العلماء والدعاة، أم من عامة الناس.(160/19)
الإصرار على الخطأ خلق إبليس
وفي مقابل ذلك إبليس عصى الله تعالى، ورفض السجود، لآدم وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فأصابه الكبرياء والغطرسة والغرور، فرفض السجود، ولذلك عاقبه الله عز وجل بقوله: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:77-78] وكما أن لآدم ذرية، فلإبليس أيضاً أتباع وذرية، فمن الناس من يفعل الخطأ فيندم ويستغفر، ويقول: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16] {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} ومنهم من يفعل الخطأ، ثم يستمرئه ويستحسنه ويعجبه، بل يتحول والعياذ بالله إلى إنسان يبحث عن مخرج أو تصحيح يفلسف هذا الخطأ، حتى يصبح هذا الخطأ صواباً، حتى إن بعض دول العالم اليوم أصبحت تبحث بحثاً جاداً -كما يقولون- عن إعادة تعريف الجريمة، فوجدوا -مثلاً- أن الجرائم كثرت واشتهرت، فقالوا: إذاً لابد أن نعيد النظر.
في تعريف ما هي الجرائم؟ نبحث -مثلاً- عن الزنى، هل هو جريمة؟ اللواط، هل هو جريمة؟ السرقة وهكذا؛ بل إنهم يبحثون الآن عن الاغتصاب - ويقصدون بالاغتصاب: الاعتداء على عرض امرأة بغير رضاها وكل هذه الأشياء، أصبحوا في دول الكفر الآن، يبحثون عن تعريف جديد للجريمة؛ لإخراج هذه الأشياء من كونها جرائم؛ لأن السجون عندهم امتلأت، ولم يعد في إمكانهم أكثر من ذلك كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] ومن المسلمين اليوم من يذهب ليلوي أعناق النصوص، أو يبحث عن فُتيا، أو رأي شاذ، أو قولٍ مُخرَّج لأحد الأئمة يدعم فيه خطأً وقع فيه، وما أجمل أن يقول الإنسان: أنا أخطأت، وأسأل الله أن يغفر لي ويتوب علي، وأن يعينني على الخروج من هذا الخطأ، ما أجمله وما أدله على كمال هذا الإنسان، وشجاعته ورجولته، لكن كون الإنسان يقع في الخطأ، ثم يأتي ليقول: لماذا أنتم تقولون كذا هذا خطأ؟ أنا لا أرى فيه شيئاً؛ لأن فلاناً في القرن السابع قال كذا، وفلاناً في القرن العاشر قال كذا، والعالم المعاصر قال كذا وكذا، فيبحثون عن الخطأ ليحولوه إلى صواب.(160/20)
الخطأ لابد منه
فكل إنسان بفطرته يكره أن يخطئ، ويحب أن يصيب دائماً وأبداً، ولكن ما دام أن الخطأ مكتوب على الإنسان لا محالة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند الترمذي من حديث أبي هريرة: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} فما دام أنك لا يمكن أن تنفك عن الخطأ، سواءً كنتَ فرداً أو جماعةً، أو دولةً أو أمةً، فإن المؤمن يفضل أن يُكاشف بالخطأ الآن ويبين له، وهذا أحب إليه من السكوت الذي تكون عاقبتة سوء عليه في الدنيا وفي الدار الآخرة.
إنه يدري أن ثمة اعترافاً في الدار الآخرة بالأخطاء كلها، فالمنافقون والمشركون والكفار كلهم يعترفون بأخطائهم يوم القيامة اضطراراً {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24] {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} [فصلت:22] فهو اعتراف مفضوح لابد لهم منه، ولذلك يقول الأشهاد يوم القيامة: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] فيعترفون بالخطأ، بل يُفضحون بالخطأ فضحاً على رءوس الأشهاد، بعدما كانوا ينكرونه، ويقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] ويقولون -كما قال الله عز وجل-: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:18] فيُفضحون على رءوس الأشهاد يوم القيامة، أما المؤمن فلأنه كان يعترف بخطئه في الدنيا، ويرجع عنه قريباً ويحب أن يبين له، فإن الله تعالى يستره في الدار الآخرة، ولهذا يُقرر الله تعالى -كما في حديث النجوى من حديث ابن عمر، وهو في الصحيح- {يقرر الله تعالى عبده المؤمن بذنوبه فيدنيه، ويقول: عملت كذا في يوم كذا وكذا وعملت كذا في يوم كذا وكذا، فيقول الله عز وجل: يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه} .
إذاً: ما دام أن الخطأ لابد منه عندي وعندك، وعند كل إنسان من البشر، فقبول النقد هو من الكمال البشري.
ونحن نعرف -مثلاً- أن النوم هو كمال، ولو أن إنساناً لا ينام؛ لكان هذا عيباً يعالج منه.
وكذلك الأكل والشرب هو كمال للإنسان، ولو فقد الإنسان الشهية؛ لكان هذا أيضاً يعاب به، ويعالج منه ويؤدي به إلى الموت.
ومثله البكاء من خشية الله تعالى كمال، بل حتى البكاء المعتدل في حال المصيبة هو من الكمال البشري.
ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام لما مات ابنه دمعت عينه من دون رفع صوتٍ أو شق جيب أو غير ذلك -مجرد دمعة عين- ولما قالوا له قال: {هذه رحمة يضعها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} فهذا القدر ليس نقصاً، بل هو من كمال الإنسان؛ لأن الإنسان بشر فكماله في وجود هذه الأشياء فيه.
وإذا كان النقص مركباً فيه وهو جزء من طبيعته، فمن الكمال أن يعرف هذا النقص ويعمل على تلافيه.
وأضرب لكم -مثلاً-: عندك شخصان كلاهما ناقص؛ لأن كلاً منهما إنسان، معناه: أن النقص موجود في الشخص الأول، وموجود في الشخص الثاني لابد، فالشخص الأول مُصر لا يعترف بالنقص، بل يجحده وينكره، أو يعرفه ولكنه لا يعترف به أمام الناس، ولا حتى أمام نفسه، فهو يغالط نفسه ودائماً يدَّعي أنه كامل، وطالما سمعنا أناساً يصفون أنفسهم بالكمال، يقول: ماذا عليهم من الملاحظات أنا كامل.
زار أحدهم مريضاً مسجى على سريره في المستشفى، فقالوا له: طهور إن شاء الله يا فلان، فقال: طهور! وهل أنا أذنبت حتى تقولوا طهور.
فهذا الشخص عنده نقص من جهتين: الجهة الأولى: النقص الفطري الموجود فيه.
والجهة الثانية: إصراره على الخطأ وعدم اعترافه به.
وأما الشخص الآخر فعنده النقص الفطري الذي هو موجود في البشر كلهم، ولكنه يعرف هذا النقص ويعترف به ويسعى إلى معالجته، ويقول: ليتني أتخلص منه عسى الله أن يعينني، فهذا لاشك أنه أكمل وأعظم.
إذاً الشخص الثاني نقصه واحد، وهو النقص الأصلي الفطري، وله في مقابل هذا النقص كمال، وهو الشجاعة والقدرة على الاعتراف، وكذلك العلم بهذا النقص والعمل على إزالته.
ربما تجد كثيراً من الناس - مثلاً - يخافون من النقد، لأنهم يعتبرون النقد نوعاً من التنقص والبحث عن العيوب، وأنه لا يصدر إلا من إنسان مبغض أو حاسد أو حاقد، وهذا المفهوم يجب تغييره، وأن يفهم الناس أن الذي ينتقدك هو من يحبك "صديقك من صدقك لا من صدَّقك".
ومنهم من يخاف من النقد -مثلاً- لأنه -كما يقال-: (بنيانه على شفا جرف هار) فبناؤه من زجاج، وهو يخاف من النقد البناء تجنباً للفضيحة، وستراً على الهفوات والجرائم التي ارتكبها، سواء كان في ذاته وفي جرائمه، أو على استغلاله لموقعه ومنصبه، أو في موقف من المواقف، أو في هزائم جر الأمة إليها، أو نكبات ورط الأمة فيها، أو أمور أو فضائح أخلاقية، أو مالية، أو اقتصادية، أو عسكرية، أو سياسية أو غير ذلك، فتجد أنه يتستر على هذه الأمور؛ لأنه يعرف أن بناءه من زجاج، وأنه عرضة للفضيحة في أي وقت وفي أي حال، ولذلك يعتبر النقد قضاءً على مصالحه، وأنه إن كان حاكماً اعتبر النقد تشكيكاً للشعوب في جدارته وصلاحيته، وإن كان عالماً اعتبر النقد تشكيكاً للطلاب في علمه وفضله، وإن كان داعيةً اعتبر النقد تشكيكاً للأتباع والمريدين في جدارته وصلاحيته، وهكذا.(160/21)
الاعتراف بالخطأ عند النبلاء والفضلاء
أما النبلاء والفضلاء والعلماء، فلم يزالوا يستدلون على جدارة الشخص، وعظمته ورجولته وكماله، بقدرته على الاعتراف بالخطأ والنقص، وقدرته أيضاً على التراجع عن ذلك بكل أريحية وسرور نفس، وبدون أي حساسية، كما يستدلون على سفاهة إنسان، وجهله وغباوته، بإصراره على الخطأ ورفضه الاعتراف به.
وإليك المثال: آدم وحواء عليهما السلام وقعا في الخطأ، وأكلا من هذه الشجرة وهذا خطأ، لكن بعد الخطأ {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ولذلك استحقا الرحمة فرحمهما الله عز وجل وجعل مآلهما إلى الجنة.(160/22)
أهمية النقد
النقد أيها الإخوة، مطلب إنساني لمواجهة الانحرافات والأخطاء، التي تتسلل إلى حياة الأمم والشعوب، والأفراد والجماعات، وغياب النقد معناه -بلا شك- تراكم الأخطاء وتماديها، حتى يستحيل التصحيح بعد ذلك.(160/23)
النقد يجلي صفة النقص والخلل
كما أن من جوانب أهمية النقد، أنه يجلي للإنسان وللأمة والجماعة والدولة صفة نفسها وصورتها، فهو مرآة حقيقية لا زيف فيها ولا زيادة ولا نقصان، وربما لا يستطيع الكثير من الناس أن يعرفوا عيوب أنفسهم، وذلك لأن الإنسان يمارس عيبه أحياناً بشكل طبيعي، وربما يعتقده أحياناً صواباً لا يري أنه خطأ، فكم من إنسان يقع في الخطأ وهو يظن أنه صواب، فيحتاج إلى من يبصره بهذا الخطأ، ويقول له: أخطأت، والصواب كذا وكذا.
وقل مثل ذلك بالنسبة للدول والجماعات والأمم، فهي تحتاج دائماً وأبداً إلى أفراد من غير صانعي القرار، يستدركون ويصححون وإلا غرقت السفينة، فالذي اتخذ القرار بهذا الأمر هو اتخذه باجتهاد، فيرى أنه صواب، وليس بالضرورة أن يكون اتخذه عن غدر أو فجور، أو سبق إصرار.
وبناءً على هذا فمن الصعب أن يصحح الإنسان لنفسه، لكن الآخرين قد يملكون التصحيح، وقد يكون لديهم وجهات نظر تستحق التقدير وتستحق الاحترام.(160/24)
كيل المديح عند غياب النقد
وإذا غاب النقد، فإن البديل عن النقد الصحيح هو كيل المديح، فما أمامنا إلا حلاَّّن: إما النقد الصحيح، أو كيل المديح، وكثيرون يكيلون المديح والثناء والإطراء بلا حساب، وهذا الإطراء والثناء يغر الإنسان، ويغريه بأن يصر على الخطأ، كما أنه يخدع الأمة ويزور الحقائق، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في المديح، ولما مدحوه وقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا.
قال عليه الصلاة والسلام: {قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان} والحديث رواه النسائي، وسنده جيد كما قال بعض أهل العلم.
وكما في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {احثوا في وجوه المداحين التراب} رواه مسلم عن المقداد بن الأسود.
ورأى رجلاً يمدح أخاه فقال: {قطعت ظهر أخيك، أو قصمت ظهر أخيك} والحديث صحيح.
إذاً الإسلام نهى عن المبالغة في المديح والإطراء؛ لأن الإطراء لا يزيد الإنسان إلا إصراراً على ما هو عليه.
وقد يمدح الإنسان بقدر، تشجيعاً له على صواب صدر منه، واعترافاً بفضل له، لكن لا ينبغي أن يكون هذا دأباً وديدناً كما هو الواقع اليوم في عالم الإسلام، فقد أصبح المديح فناً يُمارس، وأصبحت له أجهزته المتخصصة، التي لا هم لها إلا إزجاء المديح بالحق وبالباطل، ومهما كان الشخص الممدوح، فإنها لابد أن تمدحه بكل شيء، حتى لو أخطأ حولت الخطأ إلى صواب، وبالتالي مدحته بهذا الإنجاز العظيم الذي فعله.
مديح الأشخاص: والمديح أنواع منها: مديح الشخص لفلان العالم، أو المسئول، أو الحاكم، أو الأمير، أو الداعية، أو التاجر إلخ مديح هذا الشخص، سواء كان بشكل أو بحسن الخلق أو بالفصاحة أو بالكرم، أو بغير شيء.
وقد حفظ لنا التاريخ صوراً سيئة كالحة، عن هؤلاء المنافقين الذين لا همّ لهم إلا إزجاء المديح ولعل أسماعكم قد كرهت واستثقلت تلك الأبيات التي قالها ابن هاني، يمدح أحد الأمراء العبيديين، يقول له: ما شئت لاما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار إلى هذا الحد بلغ الذوبان في شخصية الحاكم، أنه أعطاه صفة الألوهية وصفة النبوة، وأعطى أتباعه صفات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الصنف من الناس من المرتزقة - لا كثرهم الله - هم موجودون في كل زمان ومكان، ليست القضية أو المشكلة أن يقوم شاعر نبطي - مثلاً - فيمدح؛ لأن هذا شأنه وهذا عمله، وليست القضية أو المشكلة أن يقوم صحفي مرتزق فيمدح؛ لأن هذا عمله وهذه وظيفته، لكن المشكلة أن يقع هذا من عالم، أو من رجل من رجال الفكر أو الأدب، الذين يُشار إليهم بالبنان، وتُعقد عليهم الخناصر، ويعتبرون نموذجاً حياً لما يجب أن تكون عليه الأمة، فإذا به يقع في زلات عظيمة، قد كثرت اليوم حتى لم يستطع أحد يحصيها.
ولعلكم أيضاً ربما سمعتم ذلك الإنسان، الذي يقول لأحد الطواغيت الهالكين لما انتقل من موقف من المواقف، قال: لو كان لي من الأمر شيء، لجعلت فلاناً في موقع الذي لا يُسأل عما يفعل.
فأغرى هذا الإنسان المتعالم أو المنسوب إلى العلم، أغرى ذلك الحاكم بمزيد من الطغيان والإصرار، والغطرسة والكبرياء والجبروت، فكان يتكلم ويخطب ويقول: لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد.
مديح المكاسب والمنجزات: وهناك مدح المنجزات والأعمال والانتصارات والمكاسب، سواء كانت مكاسب وهمية، بل هي خسائر حولناها إلى مكاسب، وظللنا نتغنى بها زماناً طويلاً، ونضخمها وننفخ فيها نفخاً مستمراً حتى لا ينساها الناس، ونحييها ونجعل لها المناسبات، ونجعل لها الأعياد التي يبتهج فيها الناس، وقد يوضع في بعض الدول العيد إجازة بمناسبة أو بأخرى، وندندن حولها في الإعلام وفي غيره، وكأننا بذلك نعوض عن العجز الموجود عندنا، العجز عن تحصيل مكاسب جديدة، أو نتستر على ألوان من الفشل القائم الدائم، الذي نحاول أن نصرف وجوه الناس عنه بالكلام عن مكاسب مضت وانتهت، قد تكون مكاسب حقيقية أحياناً، وقد تكون مكاسب وهمية في كثير من الأحيان.
ولعله من الأمثلة التي تعرفونها، أن الإعلام -هذا النوع من المكاسب- قد يتكلم عن دولة -مثلاً- فيتكلم عن العراق، وكيف أن العراق كان يتكلم عما يسميه أم المعارك، فلما فشل في تلك المعارك وانهزم، وصارت الأمور التي صارت وعرف الناس كلهم، صار يتكلم عن مكاسب أخرى، فيقول: إن مجرد صمود الحزب أمام هذا الطوفان الهائل يعتبر مكسباً، ليغري الناس بذلك، أو يعمل مباراة رياضية يسميها أم المباريات أو أم المعارك، وينتصر فيها العراق، أو يحاول أن ينتصر ليغري الشعب بهذه الألاعيب عن الهزائم الحقيقية التي مُني بها.
وهذا الأمر ليس محصوراً في بلد معين، بل إننا نقول: إن كل أمة الإسلام الآن تعيش ألواناً من الهزائم، التي تحاول أن تتستر عليها بالمديح وضروب الثناء، وتذكر بعض المكاسب السابقة وإطرائها، وإقامة المناسبات والأعياد والاحتفالات لها.
المديح لنشاط من الأنشطة: وقد يكون المدح أحياناً ليس مدحاً لشخص، ولا لمكاسب أو منجزات، بل قد يكون مدحاً لعمل، كنشاط دعوي -مثلاً-، أو نشاط جهادي قام في بلد من البلاد، أو نشاط علمي، بحيث تسري روح التزكية والثناء والإطراء، وتختفي روح النقد والتصحيح، ولا يملك الناس القدرة على اكتشاف الخطأ، وهذا -كما قلت قبل قليل- داء موجود في كل المسلمين، لا أعني في أفرادهم بالضرورة، كلا، فإن من المسلمين من لا يكون كذلك، لكنني أعني أنه موجود على كافة المستويات، فأنت حين تنتقل إلى عالم الدعوة، وعالم الجهاد، وعالم العلم، تجد هذا الداء موجوداً، تجد أن روح التزكية تسري، روح النقد ضعيفة، فالذي يمدح ويثني ويطري هذا محبوب، أما الذي ينتقد فإنه يعتبر مشاغباً وحوله علامات استفهام، وقد لا يكون مرغوباً فيه، لقد سرت عدوى التسلط والطغيان والاستبداد على الجميع، ولفَّتهم في عباءتها الرهيبة.(160/25)
النقد يعيد للإنسان اعتباره
إذاً النقد هو: الكشف الطبي المتواصل، الذي يكتشف الخطر أو المرض بسرعة، وبالتالي يبادر إلى العلاج قبل أن يتمادى المرض، ويصل إلى مرحلة الخطر أو فقدان الأمل في العلاج، ولذلك لابد من النقد.
والنقد أيضاً أيها الإخوة مشاركة حقيقية منك أنت في عملية الإصلاح، بحيث يصبح كل فرد في المجتمع له دوره وله مجاله، ولا يغدو الناس مجرد قطعان تساق إلى حتفها، وهي لا تشعر ولا تعي.
إن النقد احتفاظ بإنسانية الإنسان، حيث يُقال له: يا فلان، تأمل وانظر واعمل وأعمل عقلك، وراجع ما تعرفه أنت من نصوص الشرع، ونصوص الكتاب والسنة، وإذا وجدت أمراً لا يليق من الناحية الشرعية، أو العقلية، أو من ناحية المصلحة، فإياك أن تسكت على هذا الخطأ، وعليك أن تُبلغ، ولتعلم أنك إن سكت على هذا الخطأ، فأنت شريك في الإثم.
أو بمعنىً آخر: أنت شريك في جريمة السكوت على هذا الخطأ، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
لقد صنع الإسلام رجالاً كان أقلهم يرى أنه قوي في تغيير المنكر وإنكاره، وفي إقرار الحق والأمر به.
وأضرب لكم مثلاً متناقضاً يدلكم على الفرق البعيد بيننا الآن، وبين الأجيال الأولى: بلال بن رباح رضي الله عنه كان عبداً أسود حبشياً في مكة، ليس له قيمة، يباع بالدرهم والدينار، فلما أسلم نُفخت فيه روح العزة والكرامة، والقوة والرجولة، فشعر أنه هو شخصياً ممن يقومون بتثبيت دعائم الإسلام، والدعوة إليه، والصبر والمقاومة، ولذلك كان يُعذب بمكة، ويوضع في حرِّ الرمضاء، وهو يقول: [[أحد أحد، أحد أحد]] حتى في بعض كتب السيرة، أنه كان يقول: [[والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم من هذه لقلتها]] فوقف في وجه الطواغيت والظالمين والمتسلطين، والذين يفتتنون الناس عن دينهم، وصبر حتى فرج الله تعالى عنه، ولم يقل: أنا عبد مسكين، كيف أقف أمام أبي جهل وأبي لهب وعتبة وشيبة وفلان وفلان، من عليا القوم وزعمائهم ورؤسائهم.
وقف بصبره وإيمانه، وأن قلبه لا سبيل لهم إليه، فكان يقول: أحد أحد، حتى مر به ورقة بن نوفل، وكان يقول: "نعم يا بلال أحد أحد، والله لئن قتلتموه لأتخذن قبره حناناً" كما جاء في بعض الروايات إن صحت.
هذا بلال نموذج للمسلم الأول.
لكن خذ نموذجاً للمسلم المعاصر، هل تدري أن الاستعمار كان يستخدم المسلمين في احتلال بلاد المسلمين، ففرنسا -مثلاً- كانت تستخدم المسلمين في سوريا وفي الجزائر في مقاومة المسلمين، وضرب المسلمين، وفي تدعيم مكانتها في تلك البلاد مع الأسف الشديد، بل إنك تجد أن التعذيب والاضطهاد، والقتل، والابتزاز، وألوان وصنوف الأذى، التي لقيها الدعاة والعلماء والمجاهدون في العديد من بلاد الإسلام، أنها ما كانت تتم على أيدي يهود ولا نصارى، إنما كانت تتم على أيدي أناس يحملون أسماء محمد وأحمد وعلي وصالح، وفلان وفلان من الأسماء الإسلامية، وقد تجد أحياناً من بينهم من يكون مصلياً، أو صائماً، أو غير ذلك، وليس بغريب أن الأداة التي يستخدمها الطغاة في كل زمان ومكان، في ملاحقة المسلمين والدعاة وطلبة العلم، ومحاربتهم، وكتم أنفاسهم، والتجسس عليهم، وإيذائهم في أنفسهم وفي بيوتهم وفي أرزاقهم، وفي وظائفهم، وفي أعمالهم، ومتابعة ماذا يقولون، وماذا يفعلون، وبمن يجتمعون، وكيف يجتمعون، ومتى يفترقون إلخ.
إن هؤلاء أناس قد يكونون من رواد المساجد أحياناً، وقد يكونون من المصلين، أو ممن يحضرون الحلقات العلمية والدروس لهذا الغرض أو ذاك، ورُبما ترامى إلى مسامع بعضكم تلك القصيدة الشهيرة، قصيدة الشاعر: هاشم الرفاعي، التي كان يتحدث فيها عن صورة السجن والسجان، وما هي صفته، فكان يقول: والصمت يقطعه رنين سلاسلٍ عبثت بهن أصابع السجان ما بين آونة تمر وأختها يرنو إلي بمقلتي شيطان من كوة بالباب يرقب صيده ويعود في أمن إلى الدوران أنا لا أحس بأي حقد نحوه ماذا جنى فتمسه أضغاني ويخاطب أباه فيقول: هو طيب الأخلاق مثلك يا أبي لم يبد في ظمأ إلى العدوان فلربما وهو المروِّع سحنة لو كان مثلي شاعراً لرثاني أو عاد من يدري إلى أولاده يوماً تذكر صورتي فبكاني لكنه إن نام عني لحظةً ذاق العيالُ مرارة الحرمان إذاً هو من المرتزقة هذا المسلم المعاصر، فقد معنى انتماءه للإسلام، معنى إحساسه بالولاء للمسلمين، معنى حبه لله وللرسول وللمؤمنين، فصار مستعداً أن يذبح دينه على عتبة المصالح الدنيوية، أو الوظيفة، أو المال، أو الدنيا، أو على عتبة المرتبات والبدلات والإكراميات وغير ذلك، وقد يؤذي المسلمين أو يعذبهم، بل قد يصل الحال إلى قتلهم -كما قلت لكم- من أجل هذه المصالح الدنيوية، وكم هو مؤسف أن يلتقي المسلم مع أخيه المسلم في ميدان القتال، من أجل هذه الدنيا الفانية التي لا تستحق شيئاً، وربما قتل كل منهما على يدي الآخر.
إذاً تأتي أهمية النقد من جهة أنه يُعيد للإنسان اعتباره، يعيد للإنسان إشعاره بأنه مسلم مكلف، مطالب بأن يقوم بعملية التصحيح، والمشاركة في الإصلاح، والمصارحة والنقد والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال موقعه، بالأسلوب الذي يعجبه والطريقة التي تناسبه.
لكن لا يجوز أبداً أن يتخلى، ويقول المسئول غيري.
وما أصيب المسلمون بما أصيبوا به، إلا يوم تخلوا وصاروا على مثل الحالة التي وصفت لكم.(160/26)
وسائل الهروب من الأخطاء
نحن نمارس في كثيرٍ من الأحيان هروباً من الخطأ؛ لأننا لا نريد النقد ولا نحبه.
فمن أساليب الهروب من الخطأ:(160/27)
تجاهل السنن الكونية
أن تحيل الخطأ إلى الصدفة وتتجاهل السنن الكونية.
فإذا وقعت الأمة في خطأ، هزيمة عسكرية أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك، أحالت الأمة ذلك على أن هذا صدفة، أو ظروف الواقع، ونسينا دورنا نحن في هذا الخطأ، ونسينا قول الله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ونسينا قول الله عز وجل في الحديث القدسي: {إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً} ونسينا قول الله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] ونسينا قول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] .(160/28)
التقليل من شأن الخطأ
هي تجاهل الخطأ والتقليل من شأنه، أو حتى أن تعتبره صواباً، فلا تعترف بأن هذا خطأ، بل تقول: إن هذا صواب، وتصر عليه، وتقول كما قيل في المثل: "عنزة ولو طارت".(160/29)
الإحالة إلى القضاء والقدر
هي: الإحالة إلى القضاء والقدر.
فكثير منا آمن بالقضاء والقدر، ونحن نعرف جميعاً أن القضاء والقدر والاحتجاج به، لم يعف أبانا آدم عليه السلام من أنه اعترف بخطئه {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ومع ذلك آدم احتج على موسى عليه الصلاة والسلام في القضاء والقدر، وقال: {أتعيبني أو أتعاتبني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن يخلقني؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى؛} لكن هذه الحجة لا تعني أنه لم يعترف بالخطأ، ولم يتب منه، كلا.
لكن الشيء الذي مضى وتاب العبد منه فإن له أن يحتج بما قضاه الله عليه وقدره.(160/30)
إلقاء اللوم على الآخرين
هي: أن تُلقي باللوم على الآخرين، وتخرج أنت سليماً بريئاً معافى.
فمثلاً على مستوى الأمة يقولون: الأخطاء الموجودة الآن في الأمة، هي من صنع الجيل السابق ومن آثار الجيل السابق، وسوف يقوم بحلها الجيل اللاحق، أو أنك تحيل الخطأ على العدو، أو على المستعمر، أو على الصهيونية، أو على الحكام، فكثير من الناس يكتفي أن يقول: الحكام هم المسئولون.
وكأنه خرج من الدائرة بهذا الأسلوب.(160/31)
التفسير الهروبي للخطأ
هي: أنك تُفسر الخطأ تفسيراً هروبياً، وذلك كمن يفسر الفشل بأنه ابتلاء من الله تعالى، وأنه ضمن الابتلاء، ويسوق الآيات الواردة في الابتلاء والاختبار، ولا يرجع ليقول: ما سبب ما حصل؟ سببه خطأ مني، أو تقصير في اتخاذ الأسباب وكمن يُفسر العجز بأنه نوع من الصبر، وكمن يفسر الجبن بأنه نوع من الحكمة، وهكذا.(160/32)
الإحالة إلى المنهج
هي: الإحالة إلى المنهج.
فكثير من الناس لا يفرقون بين الإسلام، الذي هو دين منزل من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، والناس كلهم مطالبون به - أن يدينوا الله تعالى به- لا يفرقون بين الإسلام -مثلاً- وبين فئة تنتسب إلى الإسلام، أمة، أو دولة، أو جماعة، بل شخص، فيعطون العصمة التي للمنهج - وهو الإسلام - يعطونها أحياناً لدولة تنتسب إلى الإسلام، أو حتى تدعي أنها تحكم بالإسلام، ويمنحونها العصمة، أو يعطون العصمة لجماعة من الجماعات الدعوية التي تدعو إلى الله تعالى، وهي جماعة إسلامية لكنها غير معصومة، فمن الممكن أن تخطئ في فهمها للإسلام، فقد يكون فهمها خطأ، وقد يكون اجتهادها في غير محله، وكوننا نجد أنفسنا في النهاية وصلنا إلى طريق مسدود، والذئاب قد كثرت من حولنا، فنقول: هذا زمان الغربة، وهذا ما حدث للدين، وهذا كذا وكذا، فنحن نقول مع هذا كله: ربما يكون هذا بسبب فشلنا في معرفة الوسائل، التي يجيز لنا الإسلام أن نستخدمها ونتعامل معها وننتفع بها.(160/33)
أنواع النقد
.(160/34)
نقد الذات ونقد الآخرين
ومن تقسيمات النقد: نقد الذات ونقد الآخرين.
فهناك من ينتقد نفسه، وهذا ما يسمى بالنقد الذاتي، يكتشف خطأه بنفسه، ويحاسب نفسه بنفسه، كثرة المراجعة والتحري واكتشاف الخطأ، ومن ثم إشهار الرجوع عن هذا الخطأ، والاعتذار منه، خاصةً إذا كان خطأً معلناً -يعني فتوى -مثلاً- أو رأياً أو موقفاً أو اجتهاداً، أو منكراً معلن وقع فيه هذا الإنسان، أو وقعت فيه هذه الجهة، فرداً أو جماعةً أو دولة، فيكتشفون الخطأ بأنفسهم ويصححونه.
أما نقد الآخرين أي: أن يكون النقد من جهة أخرى، سواء كان النقد سراً أم علانية.
ويجب على الجميع تهيئة الفرص للنقد، وإتاحة السبل، وإقامة الجسور، وتأمين الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ليتمكنوا من النقد؛ لأن النقد شيء كبير جداً، في مصلحة الأمة والفرد والجماعة والدولة بكل حال، ولذلك ينبغي أن يحرص الجميع على تهيئة الفرص للنقد حتى لا يغيب النقد، أو يستحي منه الآخرون، أو يخافوا، أو يترددوا، أو يتراجعوا عنه، أو ينتقد إنسان فيسكت الباقون؛ لأن الكثير قد يعتبرون أن هذا تشهير، أو أنه لا يجوز، فيتوقفون عنه، فينبغي أن تتاح الفرصة للنقد البناء الصحيح الهادف، بالوسيلة الصحيحة أيضاً، وبالأسلوب المناسب، وبعيداً عن أساليب الجرح أو الشتم أو التنقص، أو سوء الظن أو غير ذلك.
ولو فرض أنه وجد أسلوب غير مناسب، فهذا لا يمنع أبداً من قبول النصيحة، فليس الجميع قادرين على إتقان قواعد النقد وأساليبه وطرائقه، وإذا كنا نعرف أن المسلم للمسلم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، فنحن نعرف أن اليد قد تكون فيها أحياناً نوع من الخشونة، فلا يمنع أن تغسلك اليد الأخرى وفيها نوع من الخشونة، وكذلك أخوك المسلم ينتقدك أو يصحح خطأ، ولو بشيء من الخشونة، فلا ينبغي أن تتردد في قبول هذا النقد.(160/35)
أهمية النقد الذاتي
ونقد الإنسان لنفسه وهو ما يسمى بالنقد الذاتي، أمر مهم جداً؛ لأنه دليل على شجاعة الإنسان وتحرره من عبوديته لنفسه، واستعداده للتغيير والإصلاح.
أما النقد من الآخرين فإنك قد تقبله أولا تقبله، لكن إن كان من نفسك، فمعناه أن لديك استعداداً أصلياً للقبول، وإذا قبلت نقد الآخرين فقد تقبله، وقد تصر على ما أنت عليه، وتقول: هذا لا يهمني هذا أمر سهل.
إذاً النقد الذاتي، أهميته أولاً: أنه دلالة على الشجاعة، وقدرة الإنسان على التصحيح.
ثانياً: أن الإنسان في بعض الأحيان أقدر على ملاحظة نفسه، وربما أمور لا يستطيع الآخرون أن يدركوها أنت تدركها، وعلى سبيل المثال مقاصدك الداخلية، ونياتك ومراميك وخلجاتك وأهدافك، وأسرارك وخواطرك، هذه لا يدركها الآخرون، ومعنى ذلك أن في النفس جوانباً ربما لا يملك الناس أن ينتقدونك فيها، ولكنك أنت تملك أن تكتشفها بنفسك وتصححها.
كما أن نقد الإنسان لذاته، أو نقد الأمة أو الجماعة أو الدولة لذاتها، يوجه طاقة الإنسان وجهة سليمة، بحيث يشغله عيبه عن عيوب الناس {وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس} أما أن يكون الإنسان يبغي للبرآء العيب، ويشتغل بعيب الناس وينسى عيبه، فهذا -لا شك- دليل على مرض مستتر موجود في ذاته.(160/36)
النقد العام
هو: نقد المظاهر المنحرفة دون تخصيص أي: دون أن تسمي أحداً، فتقول: من الناس من يفعل كذا، {ما بال أقوام يفعلون كذا} وفي القرآن كثير {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:8] وكذلك كثير في سورة التوبة وغيرها: ومنهم، ومنهم، والمنافقون والظالمون والفاسقون، جاء الحديث في القرآن الكريم مستفيض عن هؤلاء، فهذا نقد عام، نقد المظاهر المنحرفة أو الأخطاء دون تشخيصها.(160/37)
نقد الأشخاص
النوع الثاني هو: نقد الأشخاص.
ولست أعني بالأشخاص: الأفراد، فلان أو علان، لا، قد يكون الشخص عبارة عن شخص معنوي -كما يقال- دولة، أو جماعة، أو مؤسسة، وقد يكون فرداً بعينه.
فالكثير يهتمون بالأول - النقد العام - ولا يهتمون بالنقد الثاني، ويقولون: لا داعي لذلك.
والواقع أنه لابد من الاثنين معاً، لماذا؟ لأنك حين تتكلم عن المظاهر المنحرفة، فتقول: من الناس من يفعل كذا ومنهم، ومنهم.
قد يخرج الناس وكل واحد منهم لا يعتقد أنك قصدته، ولا يدري ولا يغير الخطأ؛ لأنه يظن أنه غير مقصود، يخرج الجميع، وكل واحد منهم يظن أن المقصود غيره، ولعلنا نحن الحضور نموذج في كثير من الأحيان لذلك، قد نخرج ونظن أن المخاطب غيرنا، ولذلك لابد في كثير من الأحيان من النقد التشخيصي المباشر، دون حاجة إلى ذكر أسماء، أو أمور معينة، إلا بقدر الحاجة إلى ذلك.
وهذا النقد أقول: إنه لابد منه؛ لأنه أقرب إلى تحصيل المصلحة، وإزالة الخطأ، وتحقيق الصواب.
بعض الناس يقول: لماذا ينتقدني فلان؟ لو سمع نقداً مجملاً، لكنه ظن أنه مقصود؛ لأنه يسمع بحساسية.
أولاً ما الذي جعلك تظن أن فلاناً يقصدك؟ إلا وجود الخطأ عندك.
إذاً تنبه لهذا الخطأ، الأمر الثاني: أنه كان يجب أن تقول لو لم ينتقدك لماذا لم ينتقدني؟ لأنه كرامة أن يهدي إليك أخوك المسلم عيباً، سواء أهداه بطريقة صحيحة أم غير صحيحة، فالمسلمون نصحة والمنافقون غَشَشَه.(160/38)
صور من النقد المذموم(160/39)
جمع المثالب والأخطاء والتشهير بها
ومن صور النقد المذموم -أيضاً- النقد الذي يستهدف جمع مثالب الإنسان وإحصاء أخطائه، ليشهر بها أو يروجها، فيكون بعض الناس والعياذ بالله مثل الذباب، لا يقع إلا على العقر وعلى الجرح، فيجمع عيوب الآخرين ويتكلم بهم في المجالس، وكأنه لا حسنة لهم قط.
هناك حالات يجوز فيها تناول الأوضاع الشخصية، كما أشرت إلى شيء من ذلك قبل قليل، وجاء سؤال عن هذا الموضوع فأقول منها: -فمثلاً-:شخص مجاهر بالفسق والمعصية، ويسعى إلى إفساد المجتمع، مثل العلمانيين، والمنافقين، والحداثيين، واليساريين، وبعض الصحفيين -أقول بعض الصحفيين- الذين لهم توجهات غير محمودة، وبعض الناس ذوي النفوذ الذين ثبت تواطؤهم، واشتراكهم في بعض المؤسسات، وبعض الأجهزة، وبعض المعاهد التي تحارب الله ورسوله، وتقوم بمهمة الضرار في هذا المجتمع، أو في ذاك، فهؤلاء ينبغي فضحهم ولو بصورة شخصية، والكلام عنهم بأعيانهم حتى يحذرهم الناس ويتجنبوهم، وقد جاء في ذلك أدلة سبق أن ذكرت شيئاً منها.
كذلك قد يوجد شخص يُخشى أن يغتر الناس به؛ لأنه يتظاهر بالخير والصلاح، وله أهداف ومآرب أخرى، مثل المبتدع الذي يتستر ببدعته يخدع بها العامة، وقد يوري ببعض العبادات، وبعض المواعظ، وبعض الأمور، فهذا لابد من ذكره.
أيضاً هناك شخص لا ينظر إليه باعتباره فلان، أو ابن فلان، بل ينظر إليه بالاعتبار العام، أي أنه صار -هذا الشخص- ملكاً للأمة، وللتاريخ، صاحب نفوذ، وصاحب شخصية علمية، واجتماعية، وتاريخية، فقراراته وآراؤه ومواقفه وشخصيته، أصبحت منطبعة على الأمة كلها، وذات تأثير قريب وبعيد في الحاضر والمستقبل، فهؤلاء لم يعودوا أشخاصاً لأنفسهم، بل عادوا ملوكاً للأمة وللتاريخ، فلابد من تناول هؤلاء الأشخاص.
وما زال العلماء يكتبون عن تراجم هؤلاء، بل عن غيرهم، يكتبون عن تراجمهم ويتحدثون عنهم، وقد يذكرون الحجاج بن يوسف -مثلاً- فيذكرون ما فعله من الجرائم والمنكرات والمظالم، وربما تكلموا فيه، وربما دعوا عليه، وربما سبوه.
وقد يذكرون رجلاً بعكس ذلك، كما يتكلمون عن الرجال الفضلاء الكبراء الأجلاء العادلين، كـ عمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز أو غيرهم، كذلك الأشخاص الذي يجاهرون بجرائمهم -لعلي أشرت إلى شيء من ذلك -مثلاً- ماذا عساك أن تتستر على أديب كبير، شعره يبين عنه، ويتكلم عن كل صور الفجور والفساد والانحلال، فماذا عساك أن تتستر على مثل هذا الإنسان أو غيره ممن يجاهرون بمعاصيهم، بل ينشرون ألوان فسقهم وخزيهم على الأمة.
والحمد لله رب العالمين.(160/40)
استهداف شخصية الإنسان
من صور النقد المذموم: النقد الذي يستهدف حياة الإنسان الخاصة، شخصيته، أموره الذاتية الخاصة، التي لا يطلع الناس على جوانبها وغوامضها، مثل: فضائح لفلان أو علان، هذا قد يتم أحياناً باسم الإثارة الصحفية.
فقد يتكلمون كثيراً عن الجوانب الشخصية في حياة البعض، أو يتعرضون لأمور خاصة مما لا يتعلق بحياة الأمة، ولا يؤثر في مصالحها وليسو أشخاصاً مشاهير، بل هم أشخاص مغمورون، أو في جانب معين.
وليس غريباً مع ذلك أننا نجد اليوم بعض الصحف تضع حلقات بعنوان " فضائح "، وهذه الفضائح تتعرض لحياة أشخاص بأسمائهم، وقد يكونون موجودين يعيشون على ظهر الأرض، فتنشر خزيهم وغسيلهم -كما يقال-، وربما يكون في ذلك أحياناً، إغراء للآخرين بالوقوع في مثل هذه الفضائح من حيث يشعرون، أو لا يشعرون.
فباسم الإثارة الصحفية أحياناً يتم كشف بعض الجوانب الشخصية من حياة الناس، التي لا تستفيد الأمة من ظهورها، وأحياناً يتم كشفها باسم التجسس والمخابرة التي حرمها الإسلام كما قال الله عز وجل: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح: {ولا تجسسوا} وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن تتبع الإنسان لعورة أخيه المسلم، {ومن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في قعر بيته} .
وكم رأينا ممن همه حفظ الزلات على بعض الشخصيات المرموقة، بواسطة أجهزة ووسائل، ثم نشرها وإشاعتها عند الحاجة؛ لغرض أو لآخر، بل رأينا أجهزة متخصصة في صناعة الأكاذيب وتلفيق التهم، وأحياناً دبلجة الصور والأصوات؛ لتشويه صورة عالم أو داعية، أو زعيم أو خصم، أياً كان، وهذا معروف في طول بلاد العالم الإسلامي وعرضها.
وهذا بلا شك ما لا يبيحه الإسلام بحال.(160/41)
فقدان العدل في النقد
تجد كثيراً من المسلمين في كثير من الأحيان فقدوا العدل في النقد، فصاروا إذا خالفوا شخصاً في موقف أو مواقف أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، وحولوه إلى شيطان رجيم كأنه لا حسنة له قط، ولو كان من أهل لا إله إلا الله، ولو كان من الدعاة المجاهدين في سبيل الله، وإذا جاملهم شخص أو خادعهم بموقف مصلحي أحبوه وتستروا على كل أخطائه، وحولوه إلى قديس وإلى بطل عظيم.
فقد الناس الثقة بالإعلام جملةً وتفصيلاً -والحمد لله رب العلمين-، صرنا نجد داعية مجاهداً -مثلاً- نخالفه في موقف أو رأي أو قضية، فنحول هذا الإنسان إلى شيطان، ونجلب عليه، ونعتبره عميلاً للمخابرات الأمريكية والشرقية والغربية، ومجرم وطالب حكم، هدفه السياسة، وأنه تسبب في ردة الناس عن دينهم، وأنه وأنه إلخ، وصرنا نكذب بلا حساب، ونأخذ بقاعدة: اكذب واكذب واكذب، عسى أن يصدقك الناس، ونسينا أن الناس مهما كانوا أغبياء في نظركم، فلهم عقول، ويعرفون هذه الأكاذيب الملفقة ولا يمكن أن تنطلي عليهم وإذا كذبت على الناس اليوم، فإنك لا تستطيع أن تكذب عليهم غداً، وإذا كان هناك شخص من المصلحة أن يثني عليه، وأن يعجب، فإنه يتحول إلى قديس لا يسمح بأن يُنال ولو بأقل شيء.
وهذا مسلك في غاية الخطورة أين العدل؟! العدل يتطلب أنه حتى خصمك وعدوك، ينبغي أن تعترف له بالحق الذي عندك، وحتى أقرب الناس إليك ينبغي أن تعترف بالخطأ الموجود لديه، وهذا هو المنهج العلمي الموضوعي الشرعي، الذي يحفظ للإنسان كرامته ومكانته وعقله، ويجعله يثق بهذه الأجهزة الإعلامية التي من المفروض أن يكون همها وهدفها هو بناء الإنسان، بناء عقله، تكوين شخصيته، بناء الإنسان المعتدل المستقيم المنضبط، لكن -مع الأسف- لم تفلح إلا في صناعة الإنسان المزدوج المتناقض، الذي ينتقل من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ومن أقصى الشمال إلى أقصى اليمين.
قد أصبح عندنا في كثير من الأحيان أن الناس أحد صنفين: إما عميل، فهذا نكيل له المدح بلا حساب، وإما رافض للعمالة، فهذا يُذم أيضاً بلا حساب، أما أن عندنا إنسان صديق أو متعاطف، أو حتى إنسان محايد، فهذه كأنه لا وجود لها في حياة كثير منا اليوم، فضلاً عن أن يوجد عدو تداريه، أو تقلل من عداوته بقدر ما تستطيع، فضلاً عن أن نتخذ مبدأ الإنصاف، وهو مبدأ شرعي يغير النظر إلى المصالح الذاتية، أو المصالح الشخصية.(160/42)
الأسئلة
.(160/43)
شروط النقد
السؤال
يقول: هل للنقد شروط؟ فبعض الناس قد يعرض عليك النقد بطريقة استفزازية، وربما يطرحه بطريقة جافة غليظة، مع إمكان أن يطرحه بطريقة حسنة تكون أدعى للقبول؟
الجواب
صحيح للنقد شروط، وسوف تكون شروط النقد وضوابطه -بإذن الله تعالى- موضوعاً لأحد الدروس، بعنوان ضوابط النقد وشروطه، ولذلك لا داعي لأن أذكر منها شيئا الآن.(160/44)
ممن يقبل النقد
السؤال
هل يعني كلامك، أن نقبل النقد من أي شخص وفي أي مكان، ولو كان الشخص الناقد كافراً أو عاصياً لله عز وجل، ولو كان النقد قد وجه إليه من باب عادات وتقاليد ومجتمع ذلك الناقد؟
الجواب
كلا؛ لأن النقد يعني تصحيح الخطأ، فإذا وجه الشخص إليك نقداً؛ لأنك تخالف عادة موجودة في مجتمعه هو، هنا لا يعتبر هذا خطأ؛ فقد يكون هو المخطئ.
لكن لو كان النقد الذي وجهه إليك صحيحاً، بالمقاييس الشرعية الصحيحة، فإنه ينبغي عليك أن تقبل النقد، مهما كان الشخص المنتقد، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.(160/45)
المتعة أو التمتع بالحج
السؤال
يقول: إنك قلت: عن عثمان وعلي عندما فعل المتعة.
ولعلها: زلة لسان والصواب التمتع؟
الجواب
هي المتعة وهي التمتع، تسمى هذا وتسمى ذاك، لكن المقصود متعة الحج أي لبيك عمرة متمتعاً بها- تسمى المتعة وتسمى التمتع، وهذا معروف في كتب أهل العلم، بل معروف في الحديث.(160/46)
كثرة النقد
السؤال
بعض الأشخاص عندهم صفات النبوغ وملامح الذكاء، ولا تكاد ترى الواحد منهم إلا نقاداً للناس في مسالكهم وطرقهم، بحيث أصبح هذا غالباً عليه لا يستطيع التخلص منه.
الجواب
هذا داءٌ -أيها الأحبة- والذي هذا شأنه لا يفلح أبداً إلا أن يتوب فعلى الإنسان أن ينظر دائماً إلى الجوانب المشرقة في حياة الناس وفي شخصياتهم، ينظر إلى الحسنات، لا يكون تركيزه على الجوانب السيئة، وجوانب النقص، كلما ذكر شخص بخير ضاق صدره، فبحث عن عيب، وعن ذنب، ومثلبة، هذا غير صحيح ينبغي أن تنظر بتوازن واعتدال، وتغلب جانب الخير وحسن الظن بالناس، وكلما ذكر شخص تثني عليه بالجوانب الإيجابية الموجودة فيه.
وهذا لا يمنع من النقد بشروطه وضوابطه الصحيحة، كما أسلفت.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(160/47)
فوائد جامع الأصول
فوائد متنوعة ومفيدة يظل طالب العلم بحاجةٍ لها، وجامع الأصول أصلٌ في الفوائد والأحكام، ودليلٌ إلى معرفة كلام سيد المرسلين في بطون كتب السنة والآثار، ومجمع الزوائد من الكتب الستة مصدره، فلله درُّ الحاملين لهذا العلم والناشرين له.(161/1)
الأسئلة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
هاهنا أسئلة منوعة؛ لكن أحببت أن أجيب عليها أو على بعضها، وإن كنت لا أفضل الإجابة على الأسئلة الفقهية، لأن الدرس نفسه يتعلق بالفقه:(161/2)
حكم استقبال القبلة أثناء النوم
السؤال
سمعتك في درسٍ مضى، قلت: بأنه لم يرد دليل على استحباب استقبال القبلة أثناء النوم، فهل يمكن الاستدلال على استحبابه بقياس الموتة الصغرى على الموتة الكبرى، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم إذا صح الحديث: {قبلتكم أحياءً وأمواتاً} وكذلك استحباب استقبال القبلة عند الذكر والدعاء وورد النوم، يتخلله ذلك؟
الجواب
الذي يظهر لي أنه كون الإنسان ينام على جنبه الأيمن مستقبل القبلة أمرٌ حسن؛ لكن القول بشرعية ذلك، لا يمكن أن يقال بالاستحباب اعتماداً على مثلما ذكر الأخ من قياس الموتة الصغرى على الكبرى مثلاً، وهذا قياسٌ مع الفارق، وكذلك قبلتكم أحياءً وأمواتاً إذا صح فالمقصود به قبلتكم أي تصلون إليه أحياءً، وليس المعنى أنكم تتجهون إليه في منامكم وفي مجالسكم، فالذي يظهر لي أنه لم يرد في استقبال القبلة حديثٌ صحيح، إلا أنه ورد عند أبي يعلى فيما أذكر حديثٌ فيه السري بن إسماعيل وهو متروك الحديث، وهذا الحديث ذكره ابن كثير في أول سورة الحديد فيما أذكر إن لم تخني الذاكرة.(161/3)
سجود السهو قبل السلام سهواً
السؤال
إنسانٌ صلى صلاة الظهر وكان عليه سجودٌ سهوٍ بعد السلام، ثم سجد للسهو قبل السلام، ثم بعد الانتهاء من الصلاة تذكر أن سجود السهو بعد السلام فماذا يفعل؟ فهل يسجد للسهو مرةً أخرى بعد السلام؟
الجواب
لا يسجد مرةً ثانيةً للسهو مادام أنه سجد للسهو قبل السلام، فإنه يكفيه ويجزئه، ولا يسجد للسهو بعد السلام: أولاً: لأنه سجد غافلاً أن محل السجود بعد السلام.
وثانياً: لأن جماهير أهل العلم على أن السجود الذي بعد السلام يجوز أن يسجده الإنسان قبل السلام، فلا يعيده إذاً بعد السلام.(161/4)
ثقل النوم وحكم تأخير الصلاة عن وقتها
السؤال
إن له أخاً ثقيل النوم جداً ولا يصلي الفجر إلا قليلاً -أي في الوقت- ووالديَّ يجدان صعوبةً بالغةً في إيقاظه، ولا فائدة، فهما يزجان عليه الماء، وهو يقوم ويتكلم ويروح ويجيء، ولكن عند يقظته ينكر أننا عملنا معه تلك الأعمال ويكذبنا، لأنه لم يشعر بذلك كله، فهل عليه ذنبٌ في تأخيره لصلاة الفجر حتى بعد طلوع الشمس أحياناً؟
الجواب
قضيةُ تأخير صلاة الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس، تحصل لكثيرٍ من الناس، ولها أسبابٌ عديدة: فبعضهم يؤخر صلاة الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس تكاسلاً وتهاوناً، وذلك لأن منهم من يسهر إلى الهزيع الأخير من الليل، وربما يكون سهره في جلسةِ لهوٍ ولعبٍ وضحكٍ مع زملائه، أو على لعبِ الورقة أو البلوت، أو على مشاهدة التلفاز، أو حتى على قراءة ثم يتأخر، فإذا نام كان جثةً هامدةً لا حراك به، فلا يستطيع أن يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، فهذا لا شكَّ أنه مقصر ومخطئ؛ لأنه لم يفعل السبب حيث خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، في التبكير في النوم، فكان صلى الله عليه وسلم: {يكره النوم قبلها والحديث بعدها} أي العشاء، ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا سمر إلا لمصَلٍ أو ذاكرٍ أو مسافر} وسيأتي تفصيل هذا.
فالتأخر في النوم إذا ترتب عليه تأخير صلاة الفجر عن وقتها، وترك الجماعة، وربما تأخيرها إلى ما بعد طلوع الشمس، يرتكب به الإنسان خطأ كبيراً، وبعض الناس قد يؤخر صلاة الفجر لأنه لا يحتاط لها، فلا يضع المنبه أو الساعة، أو التلفون، أو لا يطلب من أهله أو جيرانه أن يوقظوه، بل ينام، ومتى ما استيقظ صلىَّ وهذا أيضاً مفرِّطٌ وآثم بذلك، وبعضهم قد يجمع هذا وذاك فيتأخر ولا يضع منبهاً فلا يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس.
وآخرون من الناس وهم قلة، يكون تأخر أحدهم عن صلاة الفجر مع اتخاذ كافة الأسباب، وذلك لأنه ثقيل النوم، كما في الحالة التي وصفها السائل، ومثل هؤلاء ربما يصبُّ الماء على أحدهم ويجر ويضرب ويسحب، ويُصاح في وجهه فلا يشعر بشيءٍ مما حوله، فهذا استنفذ جميع الوسائل والأسباب الشرعية الممكنة، فلا إثم ولا حرج عليه، بل متى استيقظ صلَّى ولو لم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، وقد حدث هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما في سنن أبي داود {أن صفوان بن المعطل رضي الله عنه كان لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس، فشكته زوجته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم إنه يمنعها من القراءة في الصلاة بأكثر من سورة، ولا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك، فقال: يا رسول الله، أما منعي لها أن تصلي بأكثر من سورة فإن السورة كافية، وأنا شابٌ لا أصبر عن أهلي، وأما صلاتي بعد طلوع الشمس، فإنا أهل بيتٍ قد عرف فينا ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا استيقظت فصلِّ} والحديث إسناده حسن.
ومعنى الحديث أن صفوان بن المعطل رضي الله عنه، قد ورث عن أهله ثِقَل النوم، وهذا موجودٌ الآن، فبعض الأسر والعوائل يكون ثِقَل النوم متوارثاً بينهم، يأخذه الأحفاد عن الأجداد، والعكس بالعكس، فمن كان فيه ثقل نومٍ لا يستطيع معه أن يستيقظ، ولو صب عليه الماء، ولو نام مبكراً، ولو وضع المنبه، ولو أيقظه أهله، فإن هذا لا يكلف ما لا يستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، بل متى استيقظ صلى؛ لكن إذا كان منه تفريطٌ فإن الله تبارك وتعالى يحاسبه عليه، ولا ينبغي أن يكون هذا الكلام حجة للكسالى الذين يفرطون، ثم يقول أحدهم: أنا ثقيلُ النوم.
فإننا نجد أن بعض من يتعللون بثقل النوم إذا ركَّب أحدهم المنبه على الدوام المدرسي، أو دوام العمل، أو كان عنده موعد في الطائرة ويحتاج أن يستيقظ، فبمجرد أن يسمع جرس المنبه يفزع كأنه ملدوغٌ وهذا ملاحظ، فإن بعض الناس يكون استيقاظه بسبب الاهتمام، فقلة الهم من أسباب ثقل النوم، وشدة الهم تجعل أعصاب الإنسان منتبهة، والمثل الذي ضربته لكم يوضح القضية، فلو كان إنسانٌ عنده موعدٌ مهم جداً، وكان سفره في الطائرة الساعة الثامنة صباحاً -مثلاً- وهو موعدٌ أساسي يترتب عليه نتائج كبيرة، يحس الإنسان بقيمتها، فإنك تجد بعض الذين يعتذرون بثقل النوم، عندما يؤقت الساعة على السابعة حتى يدرك الطائرة، بمجرد أن يسمع جرس الساعة يفزع ويقوم بسرعة، فكذلك ما يتعلق بالاستيقاظ للصلاة ينبغي أن يكون عند الإنسان من الاهتمام والحرص على الصلاة ما يجعله هكذا، فينتبه الإنسان لذلك، وفرقٌ بين من يكون تأخره لثقل النوم حقيقة، وبين من يكون تأخره لتأخره في النوم، أو لعدم الاهتمام بالصلاة، أو لعدم وجود منبه، أو ما أشبه ذلك.(161/5)
الحفظ ووسائل تنميته
السؤال
هل الحفظ مهمٌ في التعلم؟ وما وسائل تنميته؟
الجواب
الحفظ لا شك في أهميته، بل إن الحفظ إذا أردنا أن نعرِّفه من حيث الأصل؛ فلا يمكن التعلم إلا بحفظ، ولا أعني بالضرورة حفظ المتونِ فقط، بل المهم أن يحتفظ الإنسان بالمعلومات، فالذي لا يحتفظ بالمعلومات لا يمكن أن يتعلم لأنه يسمع المعلومات ثم تطير منه، سواءً حفظها بحروفها وألفاظها، أو حفظ معانيها، فأصل الحفظ أساسي للتعلم، لكن الحفظ المتعارف عليه -وهو حفظ المتون والنصوص- هل له أهمية كبيرة؟ نعم الحفظ له أهميةً كبيرة، ومازال أهل العلم منذ القدم يوصون بتحفظ العلم وحفظه، ولذلك فإن على طالب العلم أن يحفظ بعض المتون المهمة في مجاله، وقبل ذلك ينبغي له أن يحفظ كتاب الله عز وجل، ثم يحفظ متناً مختصراً في السنة، ومتناً مختصراً في العلم الذي يبدأ به فقهاً كان، أو أصولاً، أو فرائض، أو نحواً، أو غير ذلك.
فالحفظُ مهم، لكن بعض الناس يقول: أنا ضعيف الحفظ، فهل يعني ذلك أنني لا أتعلم؟ فأقول: هذا من الأخطاء الشائعة، لأسباب: أولاً: مع اعترافي بأهمية الحفظ -كما ذكرت لكم قبل قيل- فإن أهمية الحفظ في هذا العصر قلَّتْ عنها في أي عصرٍ مضى، لأن وسائل الوصول إلى النصوص، أصبحت ميسورة، فكل واحدٍ لديه مكتبة عامرة بألوان الكتب، فهذه نقطة.
ثانياً: هناك فهارس دقيقة: فهارس في الأحاديث، وفي الأعلام، وفي الموضوعات دقيقة ومنوعة، ويستطيع الإنسان بواسطتها أن يصل إلى النص الذي يريد خلال مدةٍ وجيزةٍ جداً.
ثالثاً: الناس الآن ينتظرون الانتفاع بما يسمى بجهاز الكمبيوتر في العلوم الشرعية وعلى رأسها السنة النبوية، وهذا الجهاز إذا وجد واستخدم، يتيسر ويتسنى للإنسان من خلاله الحصول على ما يريد من أسماء الرواة أو تراجمهم، أو الأسانيد، أو الأحاديث، أو الشواهد، أو المتون أو غيرها خلال لحظاتٍ وجيزة، كلها مبسوطةٌ أمامه، فبذلك أصبح الحفظ على أهميته الكبيرة ليس بالدرجة التي كان عليها من قبل، والتي كانت الكتب فيه قليلة، والوصول إليها متعسر إن لم يكن متعذراً في بعض الأحوال، فهذه الأشياء تجعل الإنسان وإن كان ضعيف الحفظ إلا أنه ينبغي أن يهتم بالعلم، بشكلٍ عام.
وهناك أمرٌ آخر: وهو أنك قد تجد إنساناً لديه حافظة قوية، فيصرف هذه الحافظة في أمورٍ قد تكون أقلَّ جدوى، فهذا إنسان مثلاً يحفظ كتاب تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر وتقريب التهذيب -كما تعرفون- كتابٌ في تراجم الرواة، يذكر اسم الراوي مميزاً وطبقته، ودرجته من حيث الجرح والتعديل، ومن روى له من الأئمة الستة، فحفظ الإنسان كتاب تقريب التهذيب هذا جيد، وليس هناك إشكال في حفظ تقريب التهذيب لكن المشكلة إن كان حفظ تقريب التهذيب على حساب غيره، فلا يصلح أن يحفظ الإنسانُ تقريب التهذيب وهو لم يحفظ بعد كتاب الله تعالى، أو لم يحفظ أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وبلا شك أن حفظ مختصر صحيح البخاري أو مختصر صحيح مسلم أو بلوغ المرام أو عمدة الأحكام أو الأربعين النووية أو نحوها أفضل وأهم بكثيرٍ جداً من حفظ تقريب التهذيب لأن تقريب التهذيب مطبوعٌ وفي كل بيت، وبإمكان الإنسان أن يصل إلى ترجمة -في تقريب التهذيب- أيَّ راوي في دقيقة واحدة، أو أقل من ذلك، ويعرف ماذا قال فيه ابن حجر، مع أن الحافظ قد لا يعتمد على حفظه في تقريب التهذيب لأنه ربما يشك في حفظه أحياناً، فيحتاج إلى مراجعة المطبوع، إذاً ما استفدنا شيئاً في الحالة هذه.
ثم إن الأمة الإسلامية -أيها الإخوان- اليوم بحاجةٍ ماسة ماسة ماسة إلى فقهاء وعلماء يفقهون النصوص والقواعد والأصول، ويجيدون الاستنباط ليحلوا المشكلات الكبيرة التي تواجه الأمة.
وعامَّةُ الناس اليوم يحتاجون إلى الفقهاء، فلن تجد عامياً يسألك ماذا قال ابن حجر في فلان؟ وماذا قال ابن حجر في فلان؟ وفلانٌ من أي طبقة؟ وفلانٌ من أي مرتبة؟ لن تجد عامياً يسألك، بل لو سمعك تتكلم في هؤلاء قال: هؤلاء جالسون في المسجد يغتابون الناس، وربما تكلموا في أناسٍ قد حطوا رحالهم في الجنة منذ مئات السنين، لأنه لا يصدر هذه الأمور ولا يوردها، فعامة الناس لن يسألوا عن هذا الأمر، وخاصةُ الناس أيضاً لن يسألوا عنه، لأن الخاصة يسألون عن حكم الله ورسوله في الوقائع والنوازل التي ألمت بالمسلمين، فإذا التقيت بطبيبٍ سألك عن حكم -مثلاً- ما يسمى بطفل الأنبوب، وحكم بعض القضايا والمشاكل الطبية التي تقع، وعن أخطاء ومعاص توجد في كثيرٍ من المستشفيات كيف يتعامل معها الإنسان، كمسألة نقل الكلى، ومسألة نقل الأعضاء، والجنين المشوه، وحكم إسقاط الجنين، وحكم الإجهاض، وأحكامٌ كثيرة يسألك عنها، فإذا التقيت بمهندسٍ سألك عن مشاكل المهندسين، وإذا التقيت بتاجرٍ سألك عن القضايا التجارية والاقتصادية الحادثة، والمعاملات البنكية التي لم تكن موجودة في الماضي من حيثُ المصطلح، ومن حيث طبيعة المعاملة، وكثيراً ما يتساءل عنها الناس.
وإذا التقيت بشابٍ يعمل في الدعوة إلى الله سألك عن بعض القضايا الواقعة التي يواجهها في حياته، وما حكم الله ورسوله فيها، فالناس يسألون غالباً عن الحكم الشرعي، وهذا هو الذي يعنيهم، فاشتغال طالب العلم بمعرفة المتون والأحكام والقواعد والأصول أولى من اشتغاله بحفظ أشياء قد يحتاجها أو لا يحتاجها، ولو احتاجها لسهل عليه الوصول إليها في مصادرها بسهولة، فينتبه إلى هذا الأمر.
أما فيما يتعلق بالنقطة الأخيرة وهي مسألة وسائل تنمية الحفظ فكثيرة: أولاً: اختيار الوقت المناسب للحفظ، وقد ذكر أهل العلم أن أفضل أوقات للحفظ هي الأسحار.
ثانياً: صفاء الذهن أثناء الحفظ.
ثالثاً: تكرار ما يريد الإنسان حفظه مرات حتى نُقل عن أبي إسحاق الشيرازي وهو من فقهاء الشافعية: أنه كان إذا أراد أن يلقي الدرس كرره مائتي مرة، وهو إمامٌ عالم أصوليٍ فقيه مشهورٌ عند الشافعية.
رابعاً: أن يربط الإنسان حفظه بعضه ببعض، فإذا أشكل عليه أمرٌ أو تشابه عليه شيءٌ حاول أن يوجد علاقات يتذكرها، مثلاً إذا أراد أن يحفظ مجموعةَ أشياء، أخذ أوائل هذه الكلمات وكون منها جملةً حفظها، وهذا مثلٌ، أو ربطها بأي أمرِ يسهّل عليه حفظ هذه الأشياء واستذكارها.
خامساً: كذلك من وسائل الحفظ كثرة الحفظ، كما أن كثرة الأخذ والعطاء باليد تقوي العضو، كذلك كثرة حفظ الإنسان للأشياء تقوي الذاكرة عنده، والعكس بالعكس، إهمال الإنسان للذاكرة، وعدم اعتياده على الحفظ يقلل من قوة حافظته.
سادساً: كما أن استغلال الإنسان لأول عمره؛ طفولته ثم شبابه، من أهم الأمور التي ينبغي التنبيه إليها، فالإنسان إذا كبر شاخت الذاكرة وهرُمت، وبعد الزواج والمشاكل والوظيفة والعمل يصبح الإنسان مشتت الذهن، ويقل تركيزه، لذلك من توفيق الله للشاب، بل للطفل أن يوفق بمن يوجه لاستغلال الطفولة في الحفظ، وهذا أمرٌ إن فاتنا نحن -أيها الإخوة- فلا ينبغي أن يفوت أولادنا.
وأوصيكم أيها الإخوة أن تحرصوا على تحفيظ أولادكم الأشياء المهمة منذ الطفولة، فالطفل من السهل عليه أن يحفظ، وإذا حفظ شيئاً فإنه لا ينساه، وكلنا نعلم أن ما حفظناه في الطفولة حتى لو تركناه وقتاً طويلاً دون مراجعة إذا عدنا إليه وجدناه كأنما حفظناه الساعة، فإن فاتنا ذلك فينبغي ألا يفوت أطفالنا وصغارنا، فعلينا أن نحفظهم ما يحتاجون إليه في كبرهم، وأذكر أنني رأيت في الحرم المكي يوماً صبياً ربما عمره تسع سنوات أو دون ذلك وهو يحفظ القرآن الكريم ويحفظ بعض كتب السنة كموطأ مالك وغيره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(161/6)
السبيل لتحسين الخلق الجِبِلِّي
السؤال
علمنا من بعض محاضراتك أن الأخلاق منها جِبِلَّية، ومنها مُكَتَسبة، فما هو السبيل لتحسين الخلق المطبوع عليه أو الجبلي؟
الجواب
السبيل لتحسين الخلق الذي طبع عليه الإنسان كالتالي: أما إن كان الخلق الذي طبع عليه الإنسان حسناً، فهذا من توفيق الله للعبد أن طبعه على الخِلال التي يحبها الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة} وفي بعض الطرق أنه قال: {هل هما مما جبلت عليه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم، إنهما مما جبلت عليه، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله} فمن توفيق الله للعبد أن يجبله على الخلال التي يحب، فإذا وجدت في نفسك خصالاً حميدة -وكل إنسانٍ لا بد أن يكون قد جُبل على بعض الخصال الحميدة- فعليك أن تحرص على تنمية هذه الخصال الحميدة، وتعاهدها بالسقي والرعاية حتى تكبر ويزداد انتفاعك بها، فقد تجد في نفسك أن الله جبلك على الإحسان إلى الخلق، وحب الإحسان، فوسّع وعمّق هذا الخُلق بأن تكثر من الإحسان، وأكثر من قراءة الأحاديث والآثار الواردة في ذلك، واسْع في سبُل الإحسان إلى الخلق، حتى يتعاظم هذا الخُلق الحسن عندك ويكبر، ويكون فعله بنيةٍ واحتساب، وتؤجر عليه أشد الأجر، وحتى يغطي هذا الخلق الحسن على ما قد يوجد في نفسك من بعض الأخلاق الذميمة التي ربما تكون قد جبلت عليها.
ولذلك أنتقل إلى النقطة الثانية: وهي ما إذا جبل الإنسان على خِلالٍ مذمومة، كالبخل، أو الجبن وغير ذلك، فما هو السبيل إلى تحسين هذه الخلال المذمومة، أو إزالتها؟ نقول: أولاً: السبيل هو ما سبق، فعليك أن تنظر إلى الخلال الطيبة التي طبعت وجبلت عليها فاعمل على تنميتها، لأن الإنسان مثل الإناء إذا وضع فيه مادة طيبة، طردت المادة السيئة، ولو أن عندك أناءً فيه خمرٌ، فوضعت في هذا الإناء مادة أخرى، فإنها تزاحم هذا الخمر حتى تزيلَه إما إزالةً كلية أو إزالةً جزئية، وبقدر قوة المادة الطيبة تزول المادة السيئة، فكذلك الأخلاق في النفس؛ إذا ربى الإنسان في نفسه مكارم الأخلاق قضت وغطَّت على الأخلاق السيئة، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: [[إن الإنسان قد يوجد فيه خلقٌ واحدٌ سيئ، وتسعة أخلاقٍ حميدة، فيغلب الخلق السيئ الأخلاق الحميدة]] كما رواه مالك والبيهقي وغيرهما وسنده صحيح.
إذاً يغلبها إذا تهاون الإنسان في تنميتها؛ لكن إذا نمى الإنسان الأخلاق الحميدة غلبت على الأخلاق السيئة.
الوسيلة الثانية: هي المجاهدة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد المتفق عليه: {من يتصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله} إذاً الصبر خلقٌ حسن، وقد يكون الإنسان طبع على العجلة، وعدم الصبر، فبالتصبر وتكلف الصبر يعتاد الإنسان هذا الأمر حتى يصبح سجيةً وخلقاً وديدناً له، وكذلك العفَّة: فالتعفف عن المال الحرام وعن المال المشتبه، وعن المكاسب الرديئة، فقد يكون عند الإنسان رغبة في المال ونهم؛ لكن إذا عود نفسه على ألا يأكل إلا الحلال، وعلى الانكفاف عن هذه الأشياء والتعفف عنها رزقه الله تعالى العفة.
وكذلك الحِلْمُ: فالحِلَمُ بالتحلم، والعِلْمُ بالتعلم، فإذا عود الإنسان نفسه وجاهدها على الحِلْمُ، فإنه يرزق ذلك، فلا بد من مجاهدةِ النفس، وتكلف هذه الأخلاق حتى تصبح سجية.
ومن الوسائل المفيدة في ذلك: مراقبة النفس ومحاسبتها، وأعرف بعض الشباب جبلوا على أخلاقٍ ذميمة، واستطاعوا بعون الله وتوفيقه أن يتخلصوا من كثيرٍ منها ويهذبوها وإن لم تزل بالكلية، وذلك عن طريق كثرة المراقبة والمحاسبة، وإذا خلوت بنفسك تذَّكر المواقف السيئة التي حصلت لك، ثم تذكر الموقف السليم الذي كان يجب أن تفعله، وصبِّر نفسك على هذا الموقف، وبطبيعة الحال الخلق لا يزول في يومٍ وليلة، أو بمرةٍ أو مرتين، فالإنسان الذي عنده عجلة وجزع وعدم صبر لا يحظى من ذلك بشيءٍ كثير، حتى يعود نفسه على الصبر وطول النفس.
ومن الوسائل المفيدة في ذلك: أن تطلب من بعض جلسائك وخاصتك أن ينبهوك باستمرار على ما يلاحظون عليك من الأخلاق الذميمة، وعلى الأقل اجعل لك صفياً تشارطه على أن ينصح لك وتنصح له، فإذا وجدت عليه عيباً بيَّنته له، وإذا وجد عليك عيباً بينه لك، وهذا ينفعك كثيراً، حيث يكون لك كالمرآة، قال الشاعر: شاور سواك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة فأنت بحاجةٍ إلى مرآة، ترى فيها عيوبك، وهذه المرآة هي أخوك الذي تصافيه الود والمحبة في الله جل وعلا.
ومن الوسائل المفيدة: دعاء الله جل وعلا، فإن من دعا الله أن يرزقه حسن الخلق رزقه الله ذلك.(161/7)
العمل على الإخلاص ودفع الشك
السؤال
هناك بعض الناس يشك في نفسه، فإذا نَصَح أو أَمَر أو نَهى يخشى أنه يرائي، وكذلك إذا قرأ القرآن، فكيف يخلص نفسه ويمنعها من هذا الشك؟
الجواب
ينبغي للإنسان أن يعمل بإخلاص، وقصد لوجه الله جل وعلا فيما يأخذ وما يدع من أفعاله، ثم إذا حدث في نفسه شك أثناء العمل، بأنه قد يكون مرائياً؛ فإن عليه أن يدفع هذا الشك وهذا الريا، لئلا يستقر في قلبه، وينبغي للشاب وغير الشاب أن يحذر من ترك العمل خوف الرياء، فإن هذا من مزالق الشيطان، فكثيرٌ من الناس تركوا أعمالاً صالحة: من التبكير إلى المساجد، وقراءة القرآن، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، والوعظ، والأمر والنهي، بحجة الخوف من الرياء، فالشيطان يأتيهم، ويقول: أنتم ما أردتم إلا الرياء، فأقول: كونك تركت العمل خوف الرياء دليلٌ على أنك مخلصٌ إن شاء الله، وإلا فالمرائي لا يمنعه مانعٌ من الاستمرار في عمله، فادفع الرياء واستمر على العمل.
ومن أعظم مزالق ومداخل الشيطان على الإنسان لترك العمل الصالح؛ أن يوسوس له: أولاً: بأنك قد تكون مرائياً.
ثم يقول له ثانياً: اترك هذا العمل، لأنه يُخشى أن تكون مرائياً، وكم من إنسانِ ترك الإمامة في المسجد، بل أعرف شاباً ترك التقدم إلى المسجد، وترك قراءة القرآن وطلب العلم، ويقول: أخشى أن أكون مرائياً، فعليك أن تتقدم إلى المسجد ولا تلتفت إلى هذا الهاجس أو الخاطر أو الوسواس، وهذا يدل على ضعفٍ في نفس الإنسان، وخورٍ في قلبه وعزيمته، وإلا فالمؤمن لا ينصاع ولا يتأثر بهذه الوساوس التي يلقيها الشيطان وجنوده في قلبه، ثم كون الإنسان بعدما يشرع في العمل لوجه الله يخطر له ذلك ويدفعه، هذا لا يضره شيء، وكونه يفرح بثناء الناس عليه، فهذا أيضاً لا يضره شيء، فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر في صحيح مسلم عن الثناء الحسن يحصل للإنسان، قال عليه الصلاة والسلام: {تلك عاجلُ بشرى المؤمن} وكلنا نحب الثناء الحسن ونكره الثناء السيئ، وكل إنسانٍ جبل على ذلك، وما من أحدٍ إلا ويفرح بالثناء الحسن، ويكره الثناء السيئ؛ لكن لا يعمل من أجل الناس، ولا يترك من أجل الناس.(161/8)
جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(161/9)
طريقة ترتيبه لكتابه
كيف رتب ابن الأثير كتابه هذا؟ رتب ابن الأثير كتابه على حسب الموضوعات -كما أسلفت- وليس على حسب المسانيد، ولا على حسب الحروف، لكن الميزة له أنه قد رتب الموضوعات على حسب حروف الهجاء، فمثلاً يبدأ بحرف الهمزة، فيدخل فيه كتاب الإيمان، وكتاب الإيلاء، وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك، ثم ينتقل إلى حرف الباء، فيثبت فيه كتاب البيوع، والبيعة، والبر، ثم ينتقل إلى التاء؛ فيثبت فيه التفسير مثلاً، والتوبة، وهكذا إلى أن يصل إلى نهاية الحروف.
فالكتاب مرتبٌ على حسب الموضوعات، والموضوعات مرتبة على حسب حروف الهجاء (أ، ب، ت، ث) .
وإذا كان الموضوع شاملٌ فإنه يسوقه في حيزٍ واحد.
مثلاً: كتاب الجهاد في حرف الجيم، وفي الجهاد سيتحدث ابن الأثير عن الغنائم، فلو بحثت عن الغنائم فلن تجدها في حرف الغين؟ بل ستجدها في حرف الجيم تبع للجهاد، ومثلها الأسرى، ومثلها الشهادة- الشهداء في سبيل الله- وهكذا كل الأشياء المتعلقة بموضوع الجهاد، جمعها معه في حيزٍ واحد.
ثم إذا انتهى -مثلاً- من جميع الموضوعات المتعلقة بحرف الألف، قال: الأبواب التي أولها ألف ولم تورد في حرف الألف، ثم ذكر الأبواب التي لم يوردها في هذا الحرف، وعلى سبيل المثال يقول رحمه الله في صفحة [395] : ترجمة الأبواب التي أولها همزة ولم ترد في حرف الهمزة، الاحتكار في كتاب البيع من حرف الباء، الأمان في كتاب الجهاد حرف الجيم.
إذاً: هذه طريقته في ترتيب الأحاديث، فهو رتبها على حسب الموضوعات، ورتب الموضوعات على حسب حروف الهجاء.(161/10)
كيفية اختيار موضوع الحديث
أما كيف يسوق ابن الأثير الأحاديث؟ أي كيف يختار للحديث موضوعاً؟ فبعض الأحاديث تكون في موضوعٍ واحد، بحيث يكون ظاهر أن الحديث في الطهارة أو الصلاة أو الزكاة بحيث أنَّ أي إنسانٍ عندما يتأمل الحديث يجده في هذا الموضوع.
فمثلاً سبق معنا في دروس بلوغ المرام حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الماء طهورٌ لا ينجسه شيء} لو أردت أن تبحث عن هذا الحديث في جامع الأصول -وجامع الأصول ليس بكتاب أصلي، لكن تبحث فيه ليدلك على الكتب الأخرى- فإنك ستجده في باب الطهارة، ولا يحتمل أن يوجد هذا الحديث في بابٍ آخر لأنه يتعلق بالطهارة والمياه.
إذاً هذا الحديث يضعه في كتاب الطهارة، وكتاب الطهارة في حرف الطاء.
لكن أفترض أن الحديث الأول الذي قبله، في الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته} فهذا الحديث يحتملُ بابين، أولهما الطهارة، لقوله: {هو الطهور ماؤه} والثاني في باب الأطعمة لأنه تكلم عن الطعام، وهو أن ميتة البحر حلال، والأغلب أن يضع الحديث في باب الطهارة لأن الكلام عن الطعام إنما جاء تبعاً وليس استقلالاً.
وعليه فإذا كان الحديث يحتمل أكثر من موضوع، فإنه يلحقه بأقرب الموضوعات وألصقها بالحديث، وأحياناًَ قد يحتمل الحديث معاني كثيرة جداً لا يمكن إلحاقه بشيءٍ منها، وذلك مثل بعض خطب النبي صلى الله عليه وسلم التي يتحدث فيها عن موضوعات كثيرة، وأذكر منها -على سبيل المثال- الحديث الذي رواه عياض بن حمار المجاشعي في صحيح مسلم قال: {قال رسول الله صلى الله وسلم: قال الله تعالى: إني خلقت عبادي كلهم حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله تعالى أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزةً، فقال الله عز وجل: أغزهم نُغزِك، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وابعث جيشاً نبعث عشرةً مثله، وإن الله آتاني كتاباً لا يغسله الماء أقرأه نائماً ويقظان الحديث} .
فالحديث مشتملٌ على موضوعاتِ عديدة يصعب على المتأمل -على رغم كثرة فوائد الحديث- أن يصنفه في موضعٍ خاص، فهذا النوع جعل له ابن الأثير في آخر الكتاب حيزاً ضيقاً خاصاً باللواحق، وهي الأحاديث التي لا تندرج تحت موضوع معين، وهي موجودةٌ في آخر الجزء الحادي عشر من المطبوع.
أما بالنسبة للحديث الخاص كيف يورده، فإن ابن الأثير أولاً يورد رموز من أخرجوا الحديث، وقد رمز للبخاري بالخاء، ولـ مسلم بالميم، ولـ مالك في الموطأ بالطاء، ولـ أبي داود بالدال، وللنسائي بالسين، وللترمذي بالتاء، فيذكر هذه الرموز في صدر الحديث، ومع ذلك يصرح بها أثناء سياق الحديث، وهذا مبالغة في الدقة والتحري؛ فهو يذكرها على أنها رموزٌ في أول الحديث، ثم يصرح بها أثناء الحديث.
وهو يسوق صحابي الحديث فقط دون أن يُعنى بذكر الإسناد، ثم يسوق متن الحديث، ويُعنى عنايةً خاصة بألفاظ الصحيحين - البخاري ومسلم - ثم يسوق بعدها ألفاظ الكتب الأخرى , وفي روايةٍ، وفي روايةٍ، وفي روايةٍ حتى ينتهي منها، فإذا انتهى من الموضوع ذكر معاني الكلمات، لكن الذين طبعوا الكتاب أحسنوا فجعلوا معاني الكلمات لكلَّ حديثٍ بعده مباشرةً، وهذا أفضل، فبعد أن ينتهي من الحديث برواياته يذكر غريب الحديث، فيشير إلى المعاني التي تحتاج إلى شرحِ أو ينقلها من أئمة اللغة، فإذا لم يجد لأئمة اللغة فيها كلاماً قال باجتهاده بعد استشارة العلماء.
وأشير إلى أن ابن الأثير له كتابٌ في غريب الحديث مشهورٌ مطبوعٌ في خمسة مجلدات واسمه: النهاية في غريب الحديث والأثر وهو من أجمع كتب الغريب.
فهذه باختصار طريقة ابن الأثير.
والذين حققوا الكتاب قاموا بعمل جيد وخاصةً في الطبعة الأخيرة التي قام عليها الشيخ: عبد القادر الأرنؤوط حيث أنهم طبعوا الكتاب على نسختين خطيتين، وكذلك أرجعوا الأحاديث وعزوها إلى مصادرها بالرقم وبالجزء والصفحة، وتكلموا عن الأحاديث تصحيحاً أو تضعيفاً، وإن كانوا يتسامحون في تصحيح الأحاديث؛ لكنهم بذلوا في ذلك جهداً طيباً في تصحيح الأحاديث أو تحسينها أو تضعيفها والكلام عليها، فهذه أبرز الأشياء التي يمكن أن أقولها حول ابن الأثير في جامع الأصول وطريقة الاستفادة من هذا الكتاب.(161/11)
هل يُعْزَى إلى جامع الأصول
ومن البدهي الآن أنه أصبح واضحاً أن كتاب جامع الأصول لـ ابن الأثير ليس من الكتب الأصلية التي يُعزى إليها، فلا تقول رواه ابن الأثير في جامع الأصول وإنما تستفيد من جامع الأصول أحياناً في الدلالة على الحديث -فيمن خرجه- فهذه فائدة.
الفائدة الثانية: وهو إذا كنت لا تريد أن تستقصي في البحث، وتريد أن تعرف من خرجه على سبيل الاختصار، كأن تكون تريد أن تعد بحثاً أو خطبةً أو موضوعاً، فترجع إلى جامع الأصول حيث يجمع لك كل الأحاديث الواردة في الباب.
وافترض أنك تريد أن تعد بحثاً في التوبة مثلاً، فارجع إلى حرف التاء، فتجد أن ابن الأثير جمع لك كل ما يتعلق بالتوبة في حرف التاء من الكتب الستة هذه، وهذه الكتب قد جمعت كثيراً من الأحاديث.(161/12)
تنبيه هام
ويبقى أن أنبه إلى أن ابن الأثير أضاف إلى الكتب الستة، الزيادات التي زادها رزين بن معاوية العبدي فهو يذكرها في الأخير ويقول: خرجه رزين، وغالب هذه الأشياء التي خرجها رزين ضعيفة أو موضوعة أحياناً.
أذكر لكم نموذجاً واحداً منها، يقول: الكتاب الخامس في الاعتكاف -والذين طبعوا الكتاب رقموا الأحاديث فرقم الحديث (119) - ثم يقول لك: (خ/ م / ط/ د/ ت / س) أي أن الحديث في البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأبي داود والترمذي والنسائي.
عن عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه بعده} هذا اللفظ غالباً يكون أحد ألفاظ الصحيحين أو كليهما، ثم يقول لك وفي رواية: {كان يجاور العشر الأواخر من رمضان ويقول: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان} وفي روايةٍ، وفي أخرى، ورواية في الموطأ وله في أخرى عن عائشة وأخرجه أيضاً قال إلى أن ينتهي من الروايات، بعد ذلك يأتيك شرح غريب الحديث، يعتكف مثلاً، العكف هو الحبس، يجاور، تحروا إلى آخره.
وهكذا في آخر باب الاعتكاف لو فرض أنه وجد حديث عند رزين لم يخرجه أحد ذكره، لكن لم يوجد شيء لكن في الكتاب الذي بعده وهو إحياء الموات مثلاً، آخر حديث وهو في صفحة (351) الحديث رقم (136) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من أحيا أرضاً قد عجز صاحبها عنها وتركها بمهلكةٍ فهي له} يقول: هذا في كتاب رزين ولم أجده في الأصول، وهذه الزيادات التي أضاف رزين كما قلت الغالب عليها الضعف، ولا تعتمد إلا إذا كانت في شيءٍ من أصول الإسلام، أو تكلم العلماء عليها بالتصحيح.
سبحانك الله وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.(161/13)
المؤلف: مولده ووفاته
سأتحدث عن كتاب جامع الأصول من أحاديث الرسول، للإمام الزاهد العابد، الفقيه العالم الورع أبي السعادات مجد الدين المبارك بن محمد بن محمد بن الأثير الجزري الموصلي وهذا الإمام ولد سنة (540) للهجرة، وتوفي عام (606هـ) ؛ فهو من رجال القرن السادس الهجري.(161/14)
مواقف من سيرته
وقبل أن أذكر الكتاب أحب أن أشير إلى موقفين أعجباني في سيرة هذا الإمام العظيم، يقول بعض مترجميه: إن السلاطين كانوا يهتمون به، ويكرمون وفادته، ويزورونه في منزله، حتى آلت النوبة إلى رجلٍ منهم اسمه: نور الدين شاه، فكان حاكماً في تلك النواحي، فكان يأتي إلى الإمام مجد الدين في منزله ويزوره ويستشيره، فعرض عليه الوزارة وألح عليه أن يكون وزيراً يفوض إليه تنفيذ الأمور والأحكام والأقضية وغيرها، فاعتذر ابن الأثير، فألح عليه نور الدين حتى أنه غضب عليه، فقال له ابن الأثير: إني رجلٌ قد ضيعت وبذلت أكثر عمري في طلب العلم والحديث، ولو أنني اشتغلت بالوزارة وتولي الأمور التنفيذية لما استطعت أن أقوم بها على الوجه المطلوب، ولخشيتُ أن يداخلني في ذلك شيءٌ من الظلم والعسف الذي قد يتصور بعض الناس أن الوزارة لا تقوم إلا به، فاستعفاه وأصر عليه حتى أعفاه من ذلك.
الموقف الثاني: أنه لما كبُر سنه -رحمه الله- أصيب بنوع من الشلل في أطرافه، فجاءه طبيبٌ من المغرب، وصار يعالجه بعلاجاتٍ وأدهانٍ وأدوية حتى بدأت تنفع فيه هذه العلاجات، وظهر أثرها وبدأ يحرك أطرافه، وكان القائم على علاجه أخوه -هذا الطبيب يعالجه وأخوه كان قائماً على شئونه- فقال الإمام ابن الأثير لأخيه: أعط هذا الطبيب ما تيسر من المال وأجِزْه -يعني أعطه جائزةً واصرفه عنا- فتعجب أخوه من هذا، فقال: ما السر في ذلك الآن؛ وبوادر الشفاء قد ظهرت فيك؟ فلم تطلب أن أصرف الطبيب؟ قال: لأني رأيت في هذا المرض خيراً، حيث أني أصبحت معذوراً عن زيارة السلاطين -أي أنهم لا يتطلعون أن يزورهم لأنه مقعدٌ مشلول- وسلمت من القعود معهم، والذل بين أيديهم، وانقطعت للعلم والعبادة فوجدت لذلك لذةً عظيمة، ولست بحاجةٍ إلى أن أنغص عيشي معهم مرةً أخرى، فوافق أخوه على طلبه، وصرف هذا الطبيب عنه، رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.(161/15)
كيف جمع كتابه
أما كتابه جامع الأصول من أحاديث الرسول فقد جمع فيه الأحاديث التي حوتها ستةُ كتبٍ من دواوين الإسلام العظيمة، وهي البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك في الموطأ وليس ابن ماجة كما هو المتداول عند الناس من بعد ابن طاهر المقدسي بل مالك في الموطأ بدلاً من ابن ماجة.
وقد اعتمد في جمع أطراف وأحاديث هذه الكتب فيما يتعلق بالصحيحين، على كتاب اسمه الجمع بين الصحيحين للإمام الحميدي، الذي جمع أطراف الصحيحين جمعاً حسناً، فأخذ ابن الأثير أطراف الصحيحين من كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي.
أما الكتب الأربعة الباقية -وهي أبو داود والترمذي والنسائي والموطأ- فإنه أخذ أحاديثها من أصولها، أي من الكتب نفسها وضمنها كتابه، فهذا ما يتعلق بالكتب التي جمعها، ومن أين استقاها.(161/16)
الدافع إلى تأليفها هذا الكتاب
وهناك هدف دفع ابن الأثير إلى تأليف هذا الكتاب فما هو؟ أو أستطيع أن أقول: إن هناك من جمع هذه الكتب قبل ابن الأثير فما الذي حدا بـ ابن الأثير إلى أن يكرر الجهد مرةً أخرى؟ والذي جمع هذه الكتب قبل ابن الأثير هو رزين بن معاوية العبدي السرقسطي حيث جمع هذه الكتب الستة، وهي الصحيحان، وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك في الموطأ في كتاب سماه تجريد الصحاح، وبناءً عليه نستطيع أن نقول: إن تجريد الصحاح يشبه جامع الأصول من حيث الكتب التي جمعها؛ لكن بينه وبين جامع الأصول فررق عديدة: أولاً: أن ابن الأثير رحمه الله استقصى الأحاديث الموجودة في الكتب الستة بخلاف رزين بن معاوية فإنه قد ترك أحاديث كثيرةً منها، إما لم يطلع عليها، أو لم تكن في الرواية التي اعتمد عليها، أو ما أشبه ذلك، أو اختصاراً ظن أن غيرها يكفي عنها، والمهم أن رزين بن معاوية أسقط أحاديث كثيرة فاستدركها ابن الأثير، فهذا أول الفروق.
ثانياً: أن رزيناً أضاف إلى الكتب الستة التي جمعها زيادات لا يُدرى عنها شيئاً، لا يعلم من أين جاء بها رزين، وهذه مشكلة -غفر الله له- حيث أضاف إلى الأحاديث المنقولة من الكتب المعتمدة أحاديث بعضها موضوع، وبعضها ضعيف لا يدرى من أين جاء بها، وهذا يعتبر خطأً مع أن رزيناً نفسه كما قرأت في كتاب السيل الجرار أن العلماء يضعفونه، ولم أستطع مراجعة ترجمته بتوسع، ولذلك تجد هذه الزيادات التي ذكرها رزين مثبتة في جامع الأصول ويقول: ذكره رزين والمهم أن ابن الأثير استدرك على رزين أشياء كثيرة.
ثالثاً: وكذلك ابن الأثير أعاد ترتيب الأحاديث بطريقة جديدة جيدة غير الطريقة التي سلكها رزين، فإن رزيناً رتب الأحاديث على حسب أبواب البخاري، أما ابن الأثير فقد رتبها على حسب موضوعاتٍ شتى من جميع الكتب، غير مخصوصة بـ البخاري أو غيره.
رابعاً: وكذلك ابن الأثير يذكر الألفاظ المختلفة للحديث الواحد، فالحديث الواحد له ألفاظٌ عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي فـ ابن الأثير يسرد هذه الألفاظ كلها.
خامساً: هو أن ابن الأثير يذكر غريب الحديث -معاني الكلمات العربية في الحديث- ويشرحها فهذه مميزات لكتاب ابن الأثير وهو جامع الأصول على كتاب رزين بن معاوية العبدي السرقسطي وهو تجريد الصحاح.(161/17)
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:(161/18)
فوائد سريعة في الكتاب
في الجزء الأول صفحة (111) عد أصحاب العقبة من المنافقين الذين حاولوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، وسرد قائمةً بأسماء هؤلاء المنافقين، وفي صفحة (191) من نفس الجزء، حديثٌ يروى بالإسناد عن العبادلة الأربعة رضي الله عنهم، ولا بأس أن يساق يقول وعن العبادلة -كذا في أعلى الصفحة- وعن العبادلة ابن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {القاص ينتظر المقت -الواعظ أو المحدث- والمستمع ينتظر الرحمة، والتاجر ينتظر الرزق، والمحتكر ينتظر اللعنة، والنائحة ومن حولها من امرأةٍ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} رواه الطبراني في الكبير وفيه بشر بن عبد الرحمن الأنصاري، عن عبد الله بن مجاهد بن جبر ولم أر من ذكرهما.
والمهم هنا أن هذا الحديث يعتبر من الطرائف، لأنه من رواية العبادلة جميعاً، عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر وابن عباس وابن الزبير.
وفي (1/65) ذكر حديث ماشطة ابنة فرعون، وهو حديثٌ طريفٌ وله طرقٌ كثيرة وبعضها في السنن -في سنن ابن ماجة وغيره- ومن طريق جماعةٍ من الصحابة، وأذكر لكم طرف الحديث لأنه حديثٌ عجيبٌ وغريب وفيه عبر، عن ابن عباس رضي عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لما كان ليلة أسري بي أتيت على رائحةٍ طيبة، فقلت يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قلت: وما شأنها؟ قال: بينما هي تمشط لابنة فرعون ذات يومٍ، إذ سقط المدراء من يدها -والمدراء هو المشط- فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أبي؟ قالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك الله، قالت: أخبره بذاك؟ قالت: نعم، فأخبرته ودعاها، وقال: يا فلانة وإن لك رباً غيري؟ قالت: نعم ربي وربك الله، فأمر بنقرةٍ من نحاس -القدر- فأحميت، ثم أمر أن تلقى هي وأولادها فيه، قالت له: إن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام أولادي في ثوبٍ واحد فتدفننا جميعاً، قال: ذلك علينا من الحق، قال فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحداً واحداً، إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها مُرضَع كأنها تقاعست من أجله، قال: يا أمه اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت، قال ابن عباس: تكلم في المهد أربعة: عيسى بن مريم عليه السلام، وصاحب جريج وشاهد يوسف وابن ماشطة ابنة فرعون} رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة ولكنه اختلط، ولكن هذا الحديث وإن كان فيه ضعفٌ، فله شواهدٌ عن جماعةٍ من الصحابة.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(161/19)
طريقة ترتيبه للأحاديث وعده للزوائد
وقد رتب الهيثمي الأحاديث كما هو ظاهرٌ ومعروف على حسب الموضوعات الفقهية، فأذكر لكم بعض الفوائد التي اقتبستها من الكتاب وإن كانت غير منظمة كما أشرت أولاً: طريقته في عد الزوائد: فهو يعدُّ الحديث من الزوائد ولو كان فيه لفظٌ واحدٌ زائد، فمثلاً حديث أنس رضي الله عنه: {ثلاثٌ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما الحديث} فهذا الحديث يوجد في البخاري، ومسلم، وقد عده هو من الزوائد في الجزء الأول صفحة (56) .
وقد عده من الزوائد لأنه ذكره بزيادة: {أن يحب في الله ويبغض في الله} وزيادة: (يبغض في الله) ليست في الصحيحين.
ومثل ذلك حديث جابر: {أذن لي أن أحدث عن ملكٍ الحديث} وهو في الجزء الأول صفحة (80) ، وحديث ابن عمر: {مثل المؤمن كمثل النخلة الحديث} الجزء الأول صفحة (83) إلى غير ذلك.
ثانياً: كأن الهيثمي اعتمد في معرفة أطراف الستة على المزي، ويبدو لي أنه لم يراجع الكتب الستة، وإنما يعتمد على أطراف الكتب الستة للمزي، وأطراف الكتب الستة للمزي هي تحفة الأشراف وقد سبق شرحها، والذي يجعلني أقول ذلك، أنه في صفحة (1/171) قال: لما ذكر حديث جابر: {أفضل الكتاب كتاب الله الحديث} قال: رواه الطبراني في الأوسط، وعزا الشيخ جمال الدين المزي بعض هذا إلى النسائي، والظاهر أنه في الكبرى فكأنه كان يراجع تحفة الأشراف وهذا الأمر أيضاً يمكن أن تجده في صفحة (198) فإنه يقول في هذه الصفحة لما ذكر حديث فتح القسطنطينية قال: رواه الطبراني، وقد عزاه في الأطراف إلى أبي داود في الملاحم ولم أجده، وهو يعني بالأطراف أطراف المزي فيما يظهر لي.
وكذلك في (ص:289) من نفس الجزء وفي آخرها، لما ذكر حديث ضمام بن ثعلبة ووفادته على النبي صلى الله عليه وسلم قال: عزاه صاحب الأطراف إلى أبي داود ولم أجد في أبي داود إلا طرفاً من أوله.
وهذا يدل على أنه قد استفاد من أطراف المزي في معرفة الكتب الستة، وقد ذكرت لكم من الأحاديث التي عدها زوائد، وليست زوائد كحديث: {يسروا ولا تعسروا} فهذا قد عده من الزوائد في الجزء الأول صفحة (61) وأحياناً يكرر الأحاديث بنصها وفصها بصورةٍ حرفية، مثل حديث أبي سعيد الخدري: {المؤمنون على ثلاثة أجزاء} وهو في [1/52] وحديث أبي سعيد يقول: {المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء، الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، ثم الذي إذا أشرف له طمع تركه لله عز وجل} رواه أحمد وفيه دراج وقد وُثق وضعفه غير واحد.
فهذا الحديث انظر له أيضاً (ص:63-64) من نفس الجزء، تجد أن هذا الحديث بنصه وفصه في باب زيادة إيمان المؤمنين، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: {المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء إلى آخر الحديث} فكرر الحديث، ومثله حديث سلمان في (2/322) في قصة المحتضر يقول: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلاً من الأنصار فلما دخل عليه، وضع يده على جبينه فقال: كيف تجدك؟ فلم يجبه فقيل: يا رسول الله، إنه عنك مشغول، فقال: خلوا بيني وبينه، فخرج الناس من عنده وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع رسول الله صلى الله يده، فأشار المريض؛ أن أعد يدك حيث كانت، ثم ناداه: يا فلان، ما تجد؟ قال: أجدني بخيرٍ وقد حضر اثنان، أحدهما أسود والآخر أبيض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهما أقرب منك؟ قال: الأسود، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الخير قليلٌ وإن الشر كثير -كأنه خوفه- قال: فمتعني منك يا رسول الله بدعوة، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر الكثير وأتم القليل، ثم قال ما ترى؟ قال: خيراً بأبي أنت وأمي؛ أرى الخير ينمي وأرى الشر يضمحل، وقد استأخر عني الأسود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي عملك أملك بك؟ قال: كنت أسقي الماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمع يا سلمان هل تنكر مني شيئاً؟ قال: نعم بأبي أنت وأمي، قد رأيتك في مواطنٍ ما رأيتك على مثل حالك اليوم، قال: إني أعلم ما يلقى، ما منه عرق إلا وهو يألم الموت على حدته} لكن الإمام الهيثمي يقول: رواه البزار وفيه موسى بن عبيدة وهو الربذي المشهور وهو ضعيفٌ.
والمهم أن حديث أبي سعيد ٍ هذا، تجده أيضاً في (2/326) مكرراً.
فـ الهيثمي يكرر أحياناً بعض الأحاديث.
وأحياناً يجمع الهيثمي طرق الحديث الواحد، وهذا من فوائد الكتاب ومزاياه، فمثلاً حديث: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} ذكر له العلماء طرقاً تزيد عن أكثر من ثمانين صحابي، والهيثمي في [1/142-148] ذكر منها خمسة وأربعين حديثاً: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} .
وأحياناً يحيل الهيثمي من موضعٍ إلى موضعٍ آخر، فانظر -مثلاً- الجزء الثالث صفحة (52) والجزء الخامس صفحة (290) حيث أحال في موضعِ زيارة القبور، وإدخار الأضاحي، والانتباذ في الظروف والأوعية إلى موضعٍ آخر، أي إذا كان الموضوع مفرقٌ بين موضعين أحياناً قد يحيل إليهما.
وكذلك إذا كان عند الهيثمي حديث زائد اشتبه بحديثٍ آخر في الصحيح أو في السنن فيشير إليه ويذكر الحديث، ثم يقول: وهي الصحيحُ لفلانٍ غير هذا، أو نحو هذا بدون زيادة، أو طرفٍ منه، أو يسوق الحديث ثم يقول: في أبي داود طرفٌ منه، أو يقول: الحديث في أبي داود بدون هذه الزيادة، أو الحديث في الترمذي بنحوه أو ما أشبه ذلك.
ومما يتعلق بموضوع أطراف المزي حيث أشار إلى أطراف المزي في (3/30) وفي (4/217) .
وأحياناً قليلة جداً قد يخرِّج من كتب غير الكتب الستة التي ذكرت لكم وهي أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في معاجمه الثلاثة، فمثلاً في (4/322) عزا لكتاب أبي الشيخ الأصفهاني الأمثال، وفي الجزء الرابع أيضاً صفحة (329) خرّج من كتاب الأحاديث المختارة لـ الضياء المقدسي، وهذه نادرة, وأحياناً يخرج من الحاكم كما سبق، والغالب أنه يقتصر على الكتب الستة.
وأحياناً يكرر الباب بأكمله، وذلك كما في باب: الأرواح جنودٌ مجندة، فانظره في الجزء العاشر صفحة (273) وكذلك باب: إن لهذا الدين إقبالاً وإدباراً، فانظر الجزء السابع صفحة (271) وقلما يترك الحديث من دون كلام.
ومن الأشياء التي أعجبتني في هذا الكتاب أن الهيثمي في أحيانٍ قليلةٍ جداً ينقد متن الحديث بعد ما ينقد إسناده، وأعطيكم مثالين لنقد الحديث في الجزء السابع صفحة (318) حيث ذكر حديث: {أن علياً والعباس جاءا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يخرج من هذا -وأشار إلى العباس - رجلٌ يملأ الأرض جوراً وظلماً، ويخرج من هذا -وأشار إلى علي - رجلٌ يملأ الأرض قسطاً وعدلاً} ثم تكلم على الحديث، ثم قال: ولكن الحديث منكر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستقبل أحداً في وجهه بشيءٍ يكرهه، وخاصةً عمه العباس الذي قال فيه إنه صنو أبيه، وهذا حقيقة ملحظٌ جميلٌ في رد الحديث، والحديث ضعيف لكن يمكن رده من جهة المتن أيضاً، فمن غير المعقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للعباس: يخرج منك رجلٌ كذا وكذا، وهذا عمه له فضلٌ ومكانة، وكان يحامي دونه صلى الله عليه وسلم، وكذلك في الجزء السابع صفحة (347) رد حديثاً لـ شهر بن حوشب، وشهر بن حوشب فيه كلامٌ كثير، وقد كان من أهل الحديث، لكن يقولون: إنه دخل على السلطان، فأعطاه بعض دريهمات فسقط من عين أهل الحديث، فكانوا يقولون فيه:- لقد باع شهر دينه بخريطةٍ فمن يأمن القراء بعدك يا شهر وهو ليس بذاك الضعيف، والمهم أن الهيثمي ذكر حديث شهر بن حوشب: {أن الدجال يعمر أربعين سنة} وقال: وفيه شهر ولا يحتمل مخالفته للأحاديث الصحيحة، وهذا جيد.
لكنه أشار إلى أنه مخالفٌ لما ورد في الأحاديث الصحيحة من أن الدجال يمكث في الأرض أربعين يوماً، وفي هذا الحديث قال يمكث أربعين سنة، فرد الحديث أيضاً من جهة المتن حيث أنه ذكر مكث الدجال أربعين سنة، والواقع أن الدجال يمكث في الأرض أربعين يوماً كما في الأحاديث الصحاح.
وأما فيما يتعلق بكلام الهيثمي في الرجال، فأشير إلى شيءٍ من ذلك، منها أنه قد يجهل أحياناً عن مشاهير الرجال، ففي الجزء الأول صفحة (58) جِهلَ عن سليمان بن بلال وفي صفحة (29) ذهل عن أبي سلمة التبوذكي وفي صفحة (22) ذهل عن عمران القصير، وفي صفحة (17) ذهل عن محمد بن إسماعيل بن سمرة وعلي بن شعيب وكلُّ هؤلاء رجالٌ معروفون في التهذيب وغيره.
وكذلك كلامه في الرجال يختلف كثيراً رحمه الله، وكأنه لا يستحضر ما مضى، وذكرُ الأمثلة على ذلك يطول، لكن أعطيكم بعض الأمثلة: عبد الله بن لهيعة سبق معنا الكلام أنه اختلط في آخره، ورواية العبادلة عنه مقبولة، ور(161/20)
مؤلفه رحمه الله
فسوف نتكلم عن كتاب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للإمام الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المولود سنة 735 للهجرة، والمتوفى سنة 807هـ.
وفي الواقع -ولله الحمد- أن عندنا معلومات وافية عن هذا الكتاب، نظراً لأنني سبق أن مررت على الكتاب، وإن كان مرور الكرام؛ لكن من خلال مروري عليه كنت أكتب بعض الملاحظات على منهج الهيثمي وطريقته، فهي مفيدة إن شاء الله وإن كانت غير منظمة، ولم يتسن لي الوقت لتنظيم هذه المعلومات تنظيماً تاماً.(161/21)
فكرة الكتاب
أولاً: فكرة الكتاب، واسم الكتاب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.
وفكرة الكتاب تقوم على جمع زوائد كتب معينةٍ على كتبٍ أخرى، والزوائد ليس أول من جمعها الهيثمي بل جمعها جماعةٌ من أهل العلم، كمثل مغلطاي والبوصيري وغيرهم ممن يجمعون زوائد بعض الكتب، والهيثمي تابعهم في ذلك، فجمع الأحاديث الزائدة في الكتب التي اختارها على الكتب الستة فجاء إلى زوائد مسند الإمام أحمد وأبي يعلى والبزار، والطبراني في معجم الطبراني الكبير والأوسط والصغير -فهذه هي الكتب ستة- فجاء إلى زوائد هذه الكتب الستة -أي الأحاديث الزائدة التي لا توجد في الكتب الستة: البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة - فأخذ هذه الزوائد وجمعها في هذا الكتاب، وكان ذلك بإشارةٍ من شيخه ومربيه ومعلمه، وهو الإمام الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي الحافظ المشهور، وللعراقي في عنق الهيثمي مِننٌ عظيمة، فإن العراقي كان يصحبه في جميع أسفاره، حتى إن الهيثمي لم يترك العراقي في سفرٍ من أسفاره، وفي جميع حِجَجِه أيضاً كان يرافقه، وفي مجالسه، ولذلك شاركه في معظمِ شيوخه، وكان العراقي يحتفي به وينيبه عنه أحياناً، وإن كان في مجلس العراقي من هو أفضل منه من حيث العلم والحفظ والإتقان، ولكنه كان رجلاً محبباً فيما يبدو ديناً متعبداً، وكأن العراقي ارتاح إليه، وصار يقدمه في مجلسه.
فالذي أشار عليه بجمع الزوائد هو العراقي، فجمع زوائد مسند الإمام أحمد ثم أبي يعلى ثم البزار ثم الطبراني، ثم خلط هذه الزوائد في هذا الكتاب الواحد، فجاء كتاباً فذاً في بابه، بحيث لو وجد عندك مع الكتب الستة فكأن المسند والطبراني والبزار وأبا يعلى موجودةً في بيتك، وهذا بطبيعة الحال هو هدفه؛ لكن لا يعني هذا أن الرجل استوفى جميع الزوائد، بل قد يوجد زوائد غفل عنها، كما أنه لا يعني أن جميع ما ذكره من الزوائد كذلك فإنني قد استدركت عليه أحاديثَ كثيرة جداً، وإن كانت من حفظي أيضاً، ولم أراجع الكتب الأخرى، حيث يبدو لي أنه جعلها من الزوائد، وهي ليست من الزوائد بل هي موجودةٌ في الكتب الستة أو في أحدها.
والهيثمي كان يتجنب ذكر الأسانيد فلا يذكر إسناد الحديث بل يذكر صحابي الحديث ومتنه، ولا يذكر الإسناد إلا إذا وجدت حاجةٌ تدعو إلى ذكر الإسناد، فمثلاً قد يكون في الإسناد سقط فيذكرُ إسناداً معيناً ليبين السقط الموجود فيه.
وأذكر على سبيل المثال لهذا مثلاً، فإنه في الجزء العاشر صفحة (396) ذكر الإسناد لسقطٍ فيه؛ ولكن العادة أنه لا يذكر الأسانيد.
ثم بعد أن يذكر الحديث يذكر من خرجه، ثم يحاول أن يحكم على الحديث؛ لكن طريقته في الحكم على الحديث طريقة تحتاج إلى تنبه، فهو أولاً: قلما يعطي حكماً على الحديث نفسه، فلا تجده يقول: هذا حديثٌ صحيح، أو حسن، أو ضعيف، إنما يحاول أن يحكم على الإسناد، وهذه تعتبر ميزةٌ للكتاب، فيقول -مثلاً-: رواه أحمد بسندٍ جيد، أو بسندٍ حسن، أو: رواه أحمد بسندٍ رجاله ثقات، أو بسندٍ فيه فلانٌ وهو ضعيف، أو فيه جماعةٌ من الضعفاء، أو فيه رجالٌ قد وثقوا، أو ما أشبه ذلك من العبارات، أو يقول: رجاله رجال الصحيح، وإن كانت هذه العبارات ليست دقيقة، لأن الإمام الهيثمي رحمه الله لم يكن بالحافظ المستوفي خاصة في موضوع الرجال، ولذلك يقول أحياناً في الرجل: لم أقف عليه، وهو قد ترجم له في موضعٍ آخر من نفس الكتاب، ففي موضع يقول: وفيه فلان وهو ضعيف وفي موضع آخر يقول: وفيه فلانٌ لم أقف عليه وهو قد ضعفه قبل قليل، فهو ليس بذاك المستوفي للرجال، ولهذا فالعلماء لا يعتمدون على توثيق الهيثمي إلا على سبيل الاستئناس في الحكم، أي: لموافقته غيره أو ما أشبه ذلك، أما الاعتماد على توثيقه فليس حسناً.(161/22)
فقد آذنته بالحرب
تحدث الشيخ عن حقيقة الولاية لله، وصور العداوة لأوليائه وصور حرب الله على أعداء أولياء الله، وواجب المسلمين نحو أولياء الله.(162/1)
حقيقة الولاية لله
الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، وصلوات الله وسلامه على نبيه ومصطفاه، وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أيها المسلمون والمسلمات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جاء في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى، أنه قال: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} .(162/2)
الولاية جندية
الولاية أن الإنسان يصبح في طاعته لأوامر الله كأنه جندي في ميدان المعركة يده على الزناد، إن قيل له: ارمِ رمى، وإن قيل له: قف توقف، وإن قيل له: أقدم أقدم، وإن قيل له أحجم أحجم، فإذا الله عز وجل قال له: صم، وجدت أنه يصوم في حر الهجير، وفي الشمس، وفي الجوع، وفي العطش، حتى ربما لا تطيب نفسه أن يفطر ولو كان معذوراً مأذوناً له بالفطر وربما لا تسمح نفسه بذلك، وإذا قال الله تعالى له: لا تصم، فإنه لا يصوم بل يتعمد الفطر تعبداً كما يفعل المسلم -مثلاً- في مناسبات الأعياد وغيرها مما نهى الله تعالى عن صيامه، وإذا قيل له: تقدم تقدم، وإذا قيل له: تأخر تأخر، يأمره الله تبارك وتعالى أن يقف في الصلاة فيقف، ثم يأمره أن يركع فيركع، ثم يأمره أن يسجد فيسجد، ثم يأمره أن يقعد فيقعد، لو تسأله لماذا هنا وقوف، وهنا ركوع، وهنا سجود، وهنا قعود؟ قال لك: أنا لا أدري لماذا، لكن الذي أعلمه وأعقله أن الله تعالى يريد مني أن أفعل هكذا، وما أنا إلا عبدٌ منفذٌ لأوامر الرب الذي خلقني وأمرني، فله الخلق وله الأمر، كما قال عز وجل: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] هناك إلهٌ يأمر وعبدٌ يمتثل.
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] .
هذه الولاية إذاً ليست نسب ولا أسرة ولا بلد ولا ادعاء ولا ميراث، إنما الولاية عمل صالح بالقلب وبالجوارح، ثم إذا كان العبد من أولياء الله تفتحت له أبواب الخير كلها، حتى يقول الباري تبارك وتعالى: إن من عادى هذا الولي، فكأنما عادى الله تعالى، فيؤذنه الله تعالى ويعلمه بأنه محاربٌ له.(162/3)
الولاية ليست ادعاء
وليست الولاية دعوى أن الإنسان يدعي أنه وليٌّ، كما يدعي كثيرون ولاية الله تبارك وتعالى في مشارق الأرض ومغاربها ويخدعون الناس بذلك، بل وربما يتأكلون بذلك، ويستفيدون من أموال الناس، وقد رأينا وسمعنا كثيراً من هؤلاء تركوا العمل وتركوا الحرفة والتجارة والبيع والشراء وتفرغوا في غرفة أو زاوية في مسجدٍ وأصبحوا يأكلون أموال الناس بحجة أنهم من الأولياء.(162/4)
الولاية عمل صالح
الولاية عمل صالح، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] الولاية: قلب حي يعيش مع أوامر الله تعالى ونواهيه ساعةً بساعة، حتى لو يغفل وقتاً أو جزءاً، فإن الله تعالى يحاسبه ويؤاخذه ويعاقبه.
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هم خير الأصحاب، وأقرب الناس إلى الله تعالى زلفى بعد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ضحوا مع نبي الله عليه الصلاة السلام، وجاهدوا، وقاتلوا، وقتلوا، وأوذوا في سبيل الله، وأُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، وتركوا الأهل والمال والولد، وهجروا لذيذ الفراش، وطيب الطعام، كل ذلك ابتغاء ما عند الله، ومع هذا لما حصل منهم الخطأ في معركة أحد عاقبهم الله عقاباً حاضراً سريعاً مباشراً، فأصابتهم الهزيمة، وقتل منهم عدد كبير وجرح منهم مثله، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه ما أصابه فتعجبوا وقلبوا أيديهم، وقالوا: أنى هذا؟ نحن أصحاب محمد ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدبهم الله بالقرآن فقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165] يعني من أين هذا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] والآية التي بعدها {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:166-167] إلى آخر الآيات.(162/5)
الولاية ليست ميراثاً
الولاية -أيها الأحبة- لله تبارك وتعالى وليست ميراثاً يأخذه الأبناء عن الآباء، فإننا نجد حتى من أبناء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من حقت عليهم كلمة العذاب، فهذا نوحٌ عليه الصلاة والسلام يرى ولده قد أدركه الغرق مع القوم الكافرين فيقول {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45] قال الله تعالى {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وفي قراءة (إنه عمِلَ غير صالح) أي عمل عملاً ليس بصالح، فليست القضية قضية أبوةٍ أو بنوةٍ أو قربٍ أو نسبٍ أو ميراث، وهذا والد النبي صلى الله عليه وسلم {جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أبوك في النار، فلما ولى الرجل دعاه النبي عليه الصلاة والسلام، وقال له: إن أبي وأباك في النار} .
الولاية قضية واضحة صارمةٌ، لا التباس فيها {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أعطاه الله تعالى الإمامة قال كما أخبر الله: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] ليست الولاية أن فلاناً هو ابن فلان، حتى ولو كان ابن لنبيٍ مصطفى مختاراً، وليس الولاية لأن فلاناً ولد في البلد الفلاني، فإن البقاع لا تقدس أحداً أبداً، وإنما يقدس الإنسان عمله.(162/6)
صور العداوة لأولياء الله
وما أكثر صور عداوة الأولياء -أولياء الله تعالى وأولياء رسله- على سبيل المثال:(162/7)
إعانة عدوهم عليهم
من حرب أولياء الله تعالى ومعاداتهم: إعانة عدوهم عليهم بأي وسيلة من الوسائل، حتى ولو كانت هذه الإعانة بشطر كلمة، ولو كانت بأقل من ذلك، فما بالك وأن بعض المنسوبين إلى الإسلام اليوم أصبح الواحد منهم لا يتورع قط عن مساعدة كل ألوان أمم الكفر والإلحاد، وكل ملل الدنيا ضد من يرفعون شعار لا إله إلا الله محمد رسول الله، فيساعدونهم مساعدةً معنوية بالدعم والتشجيع، والتأييد والمناصرة، والاعتراف، وألوان الدعم المعنوي، ويساعدونهم مساعدة مادية بالمال وبالرجال وبالأقوال، وبتسخير كافة ما يستطيعون في تهيئة أمورهم ضد المسلمين.
هل يتصور -أيها الأحبة- أن مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله يفرح بهزيمة إخوانه المسلمين؟! أو يمد يد العون إلى الكفرة أو إلى اليهود أو إلى النصارى، أو إلى العلمانيين، أو إلى الاشتراكيين ضد إخوانه المسلمين؟! أما أنا فلا تصور أن شخصاً يخفق قلبه بحب الله ورسوله يفرح بهزيمة المسلمين، أو يساعد عدوهم عليهم، أو يناصر أعداء الإسلام بوجه من الوجوه، بل الواجب عليه إن استطاع أن ينصر الإسلام فعل، وإن لم يستطع تمنى بقلبه أن ينصر الله دينه ويعلي كلمته، ولو لم يفعل إلا ذلك، أما أن تجد أن المسلم ينصر الكافر على أخيه المسلم، أو ينصر العلماني أو الاشتراكي على المسلم، فهذا لا يمكن تصوره أو يصعب تصوره جداً.(162/8)
التندر بالعلماء والصالحين
من صور معاداة أولياء الله تبارك وتعالى: أن يتندر بعض الناس في مجالسهم ببعض الدعاة والصالحين، أو بعض المخلصين، أو بعض العلماء ويتكلمون فيهم، وربما يسمع أحدٌ من الناس قصة أو نكتة أو طرفة تتعلق بأحد المشايخ، أو العلماء أو الدعاة أو المعروفين بالخير في البلد، فلا يجد أحلى في فمه ولا أطيب في لسانه من أنه كلما كبر المجلس قام وتكلم بها وتحدث بها، دون أن يتثبت أو يتحرى من صدق هذا الكلام أو من كذبه.
أيها الإخوة والأخوات نحن لا نقول: إن الأخيار منزهون، لا، الأخيار هم أخيار على ما سموا ولكن يوجد فيهم الخطأ، ويوجد فيهم النقص، ويندس فيهم من ليس منهم، ويقع منهم ما لا يحمد، هذا أمر طبيعي ولسنا نقول: أنهم دائماً أبرياء متهمون، ولكننا ندعو إلى التثبت في كل ما ينسب إلى الأخيار، فإذا سمعت في مجلس من المجالس قصة منسوبة إلى أحد العلماء، أو خبراً منسوباً إلى أحد الدعاة، أو حادثة منسوبة إلى رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والهيئات أو غيرها مثلاً؟ من نقل هذا الكلام والحديث فيه والإفاضة دون أي تثبت، أقل ما يجب عليك من التثبت أن ترفع سماعة الهاتف على الشخص المقصود، أو الجهة المعنية، أو على إنسان تعتقد أن عنده خبر عن الموضوع، وتقول له: سمعت كذا وكذا، هل هذا الكلام صحيح أم غير صحيح؟ فإذا تبين لك أن الكلام صحيح بأدلة ووثائق، فهنا لا أحد يستطيع أن يضع على فمك حارساً يمنعك من الكلام، نكلم بما تعتقد أنه حق لا أحد يلومك ولا يعاتبك، لكن إذا وجدت أن الكلام مجرد افتراء وتزوير واختلاق من بعض مرضى النفوس وضعاف القلوب.
فنحن والله يا أخي وقفنا من ذلك على شيءٍ كثير، تبين أنه اختلاق، وأن هناك من الناس من عدمت ذممهم، وماتت ضمائرهم والعياذ بالله فأصبح الكذب عندهم عادة، بل أصبح الكذب عندهم حرفة ومهنة لا يستطيعون أن يعيشوا بدونها، ولسان حال أحدهم يقول: اكذب واكذب واكذب عسى أن يصدقك الناس، وكذباتهم ليست من الكذبات التي تموت في مهدها، أو يسمع بها خمسة أو عشرة، لا، كذبتهم من الكذبات التي تبلغ الآفاق، تبلغ المشرق والمغرب، فينشرون كذبتهم في جريدة، أو في إذاعة، أو حتى على شريط، أو في كتاب، فيتسامع بها الناس في مشرق الأرض ومغربها، فحق عليك ألا تتكلم بأي أمرٍ فيه نيلٌ من أحد، ربما يكون من أولياء الله تعالى إلا بعد أن تتثبت وتتحرى؛ حتى تطمئن أن ما تنقله صحيح ليس فيه دسٌ ولا تزوير.(162/9)
أجهزة الإعلام
كثير من أجهزة الإعلام العالمية وعلى أثرها الأجهزة العربية، من إذاعة وتلفزة وصحافة وغيرها قد سخّرت نفسها للنيل من العلماء والمشايخ والدعاة إلى الله عز وجل والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، حتى -وأحلف بالله غير مستثني- أنها اليوم تنال منهم أكثر مما تنال من اليهود، وأكثر مما تنال من الأعداء الصرحاء للإسلام وللأمة، بل ربما تعتبر أن الكلام في اليهود يعتبر نوعاً من التطرف والغلو الذي أصبحوا يحاربونه الآن.
فقد أصبحت أجهزة الإعلام مسخرة للنيل من الدعاة، والنيل من العلماء، والنيل من رجال الدعوة الإسلامية، وشخصيات الأمة الإسلامية التي تمثل رموزاً للدعوة في كل مكان، يتكلمون فيهم بلا موازنة ولا ورع ولا تقوى، فأحياناً يسمونهم بالأصوليين، ويقصدون بالأصولي الإنسان الذي يفهم الكتاب المقدس -لفظ عند النصارى بطبيعة الحال- يفهم الكتاب المقدس عندهم فهماً حرفياً، ولا يستخدم عقله في فهمه، هذا معنى أصولي، فهم يسمونهم -أحياناً- بالأصوليين، وأحياناً يلمزونهم بلفظ المتطرفين.
ونحن لسنا ننكر أنه قد يوجد في المسلمين من يكون عنده شيئاً من الغلو، كمن يكفر عامة المسلمين -مثلاً- أو من يزيد في الدين، وهذا موجود لا ننكره، لكن هؤلاء الذين يتكلمون في الصحافة والإعلام لا يخصصون فئةً معينة، ولا يقصدون أهل الغلو ولم يتكلموا في النيل من أولياء الله بكلام غيور يقصد تمييز الحق من الباطل، بل على النقيض من ذلك تكلموا في أولياء الله الحقيقيين كلام المنفر منهم، وكلام الذي يبغض الدين وأهله، ويحارب الإسلام وأهله ويعاديهم ليلاً ونهاراً، ويحاربهم سراً وجهاراً.
فكلما رأوا من إنسان عملاً لا يعجبهم ولو كان ثابتاً بنص القرآن لمزوه بأنه متطرف.
على سبيل المثال: الذي يحارب السلام مع اليهود، وينكر الصلح معهم، وبيع أراضي المسلمين إليهم علانيةً، من خلال موائد الشرق والغرب في موسكو أو واشنطن أو غيرها، الذي ينكر ذلك أصبحوا يسمونه متطرفاً ولم يعرفوا أنهم بذلك أصبحوا هم المتطرفون في نظر أنفسهم، لأنهم بالأمس وقبل سنوات ليست بالبعيدة كانوا كلهم يعلنون في أجهزة إعلامهم رفضهم لهذا الصلح، ويعتبرون أن الحاكم الذي بدأ ذلك خائنٌ للأمة، وعميلٌ الغرب، فهاهم الآن قد مشوا على خطواته، واستحقوا الوصف الذي وصفوا به غيرهم، وإذا رأوا إنساناً يلتزم بالسنة أو يدعو إليها، أو يبتعد عما حرم الله من المعاصي والمنكرات الظاهرة المشتهرة فسرعان ما يطلقون عليه لفظ المتطرف.
وإذا لم يجدوا فيه عيباً، فإنه لا يعجزهم أبداً أن يختلقوا عيباً ويلصقونه به؛ ولأنهم يملكون أجهزة إعلامية فقد ينطلي هذا الأمر على الناس، فإن كثيراً من الناس إذا رأوا أن الصحيفة قالت كذا، والإذاعة قالت كذا تصوروا أن هذا الأمر صحيح ولو لم يكن صحيحاً لما نشر في الصحيفة ولما قيل في الإذاعة، بل أشد من ذلك وأنكى أنهم يقلبون الحقائق ظهراً على عقب، وأضرب لكم مثلاً من قلبهم للحقائق في بلدٍ مجاور في اليمن، وقبل أسابيع: كان هناك رجلٌ يرأس حزباً من الأحزاب الاشتراكية المحاربة لله ولرسوله، وامرأته حمالة الحطب مثله على منهجه، وعلى طريقته، لكن الله تعالى أخرج من بين هذا الفرث والدم -أخرج من هذا الرجل وهذه المرأة- فتاةً صالحة متدينة مستقيمة، عرفت طريقها إلى الله تعالى، وآمنت بالله ورسله، وكانت من القانتين، فلم يطق أبوها وأمها صبراً عليها، وآذوها وضايقوها وأحرجوها حتى أصبحت حياتها جحيماً لا يكاد يطاق، فذهبت يوماً من الأيام إلى منزل إحدى صديقاتها من الفتيات المؤمنات، وهي بنت لأحد المشايخ الشيخ عبد المجيد الزنداني -وهو من علماء اليمن ودعاتها المعروفين- ذهبت عندها وباتت تلك الليلة عندها، وقالت لها: لم أعد أستطيع أن أعيش في مثل هذا الجو، لا أطيق أبداً أن أصبر على مثل هذه الحياة، فقالت لها: وماذا تصنعين؟ قالت: إني سوف أنتحر، سوف أقتل نفسي، لقد سدّ والدي الباب أمامي، ثم كتبت ورقة أنني قمت بعملية قتل نفسي طوعاً واختياراً، وأنا في كامل قواي العقلية، وفى كامل صحتي، وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه من هذا الفعل، وما فعلت ذلك؛ إلا لأن والدي ووالدتي قد ضيقوا الطريق أمامي، وسدوا سبل العيش، وحاربوني في ديني، ونغصوا عليَّ حياتي فعرفت أنهم يريدون مني أو يريدون لي مصيراً كهذا المصير، أو يريدون أن أنحرف عن الصراط المستقيم، ثم سلمت هذه الورقة إلى صديقتها، وصلت صلاة الفجر عندها، ثم خرجت وانتحرت ووجدت ميتة، فماذا قالت الصحف؟ -مع الأسف أحياناً- صحف تصدر من هذا البلد، أو محسوبة ومنسوبة إلى هذه البلدة الذي يفترض فيه أنه يرفع راية الإسلام، ويدافع عن المستضعفين في كل مكان، ويحفظ حرمات المسلمين وحقوقهم، ويقول كلمة الحق وينطق بها، ويكون شهيداً على الناس -بكل أسف- تخرج تلك الصحف، وتقول: إن المتطرفين في اليمن هم الذين قتلوا هذه الفتاه من أجل الإساءة إلى والديها، وبعد أيام تخرج تلك الوصية التي كتبتها البنت بخط يدها وتصور في كل وسائل الإعلام، ويراها الناس في الصحف مكتوبة بخط يدها، تعترف على والديها بأنهم هم السبب فيما جرى لها.
إذاً: من صور حرب الدعاة وحرب أولياء الله تعالى تسخير أجهزة الإعلام للكذب عليهم، والتزوير والافتراء، والدس الرخيص، وتشويه صورتهم، وإلصاق التهم بهم، وإذا وجد خطأٌ عند فئة، فإنها تسعى إلى تعميمه على الجميع مستغلة في ذلك بساطة الناس وغفلتهم، وحسن ظن الكثيرين منهم، فهذه الصورة من صور عداوة أولياء الله، وماذا ينتظر هؤلاء القوم من الإعلاميين وغير الإعلاميين إذا كان رب العالمين يحاربهم، فكيف تتناول طعامك؟! وكيف تشرب شرابك؟ وكيف تنام في مضجعك؟! وكيف يفر لك قرار أو يهدأ لك بال؟! والله قد آذنك بالحرب {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] أنت قد تعجل، وقد تقول: هذا فلان كذب ودس وافترى، ومع ذلك لا يزال حراً طليقاً آمناً سليماً معافى، اصبر، الأمر أطول من ذلك، انتظر فالله تعالى يمهل ويملي للظالم، ولكن إذا أخذه لم يفلته كما في الصحيح {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} ثم تلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] .(162/10)
صور حرب الله لمن يحارب أولياءه
ثم العقوبة {فقد آذنته بالحرب} حربٌ من الله، نعم الله تعالى يعلن الحرب على هؤلاء، كما أعلن الحرب على أكلة الربا، والربا من أكبر الكبائر، كما في القرآن الكريم: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] فهذه من الذنوب العظمى التي توعد الله تبارك وتعالى عليها بإعلان الحرب على من يفعلها.
كل من يعادي أولياء الله، كل من يعادي الطيبين والصالحين، كل من يعادي العلماء والدعاة، فإن الله تعالى يؤذنه بحرب، ما صورة هذه الحرب؟ حرب حقيقة قد تأخذ صورة الحرب الاقتصادية، فيسلط الله تعالى على هذا الإنسان، أو على هذه الأمة، أو على هذه الدولة من ألوان الضعف الاقتصادي ما يجعل اقتصادها ينهار إلى الحضيض، ويجعلها في قائمة الدول التي تستدين، ويقل دخل الفرد فيها يوماً بعد يوم، بعد أن كانت قبل ذلك من الدول الغنية الثرية، هذه صورة من صور الحرب.
ومن صور الحرب -أيضاً- أن الله تعالى يسلط على هذا الفرد المعادي لأوليائه، أو على هذه الجماعة، أو على هذه الأمة، أو الدولة التي تحارب أولياء الله بعض جنده في الدنيا، حتى قد يسلط عليها من هو من الكافرين، أو من هو من الضالين الفاسقين، أو قد يسلط عليها بعض جنده المؤمنين، فيضطهدونهم ويأخذون بعض ما في أيديهم، ويضيقون عليهم في أمورهم كلها.
وقد يسلط الله تبارك وتعالى عليهم من ألوان المصائب والآفات، وألوان الجرائم، وأنواع العصابات، كما نجد أن كثيراً من الدول مهددة مثلاً بحرب ما يسمى (حرب المخدرات) وكثيراً من الدول مهددة بألوان الجرائم التي أصبحت تهدد تلك المجتمعات، وكثيراً من الدول مهددة بالأمراض الفتاكة المهلكة التي عجز الطب عن علاجها وشفائها، كل هذه ألوان من حرب الله تعالى لمن يعادي أولياءه ويناصبهم العداء، فأي طاقة للإنسان في محاربة الله تعالى فيسلط عليه كل ما في الكون {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فكل ما في الكون هو جند من جند الله تبارك وتعالى، إذا أمره الله تعالى بشيء امتثل، فكيف تتصورون -أيها الأحبة- حرب الله تعالى لأعدائه ولمن يحارب رسله، أو يحارب أتباع رسله وأولياءه وأنصار دينه؟!(162/11)
واجب الولاء للمسلمين
أيها الأحبة يجب أن نكون صرحاء في موالاتنا للإسلام، وللدين، وكونك من رواد المسجد هذا يقتضي منك تبعات وتكاليف، والمسألة ليست مجرد كلام باللسان! وليست مجرد أعمال تؤديها في وقتٍ من الأوقات! لا، المسألة مسألة أنه يجب أن يكون قلبك مليئاً بمحبة الله ورسله ومحبة أوليائه، فإذا سمعت مثلاً بما لا يرضي الله تعالى من النيل من أولياء الله بالأقوال، أو سمعت ما لا يرضي لله تعالى من مساعدة الكفار وإعانتهم على المسلمين أو غير ذلك؛ فإن أقل ما يجب عليك أيها المسلم: هو أن تنزعج من ذلك وتضيق به ذرعاً ويسوءك هذا الأمر، أما أن تشعر أن الأمر لا يعنيك؛ فهذا دليل على خللٍ كبير في إيمانك، وليست القضية بالضرورة أن يكون شخص تعرفه أو جارك أو زميلك في العمل، ليس ضرورياً، المفروض أنك لو سمعت ظلم وقع على مسلم في الصين أو في السند أو في الهند أو في الشرق أو في الغرب؛ أنك تنزعج لذلك، وتشعر بالقلق، وتشعر بالخوف لمثل هذا الأمر، وتضيق منه كما لو كان الأمر وقع إلى جارك الذي في منزلك.
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلام وإيمان كيف تفرقت قلوبنا، فأصبحنا نسمع بمصائب المسلمين وكوارثهم في بلاد الله كلها، في مشرق الأرض ومغربها، ونهنأ بعيشنا وأكلنا وشربنا وحياتنا، وكأن الأمر لا يعنينا، بل نشارك أحياناً في مثل هذه الأمور ونساعد عليها، ونؤيد أقل ما نؤيد فيه بالكلام، فإذا تُكلم في مسلمين هنا أو هناك، وجدت أن بعضنا قد يتكلم في حقهم، وقد ينال منهم بغير حق، وقد يتهمهم بما هم منه أبرياء، هذا من الظلم الذي لا يحبه الله ولا رسوله، ولو كان هذا الظلم على كافر لكان مذموماً، فإنه حتى الكافر لا يجوز أن تنال منه بغير حق، فما بالك إذا كان على مسلم يشترك معك في الشهادتين، ويصلي معك إلى القبلة! بل ما بالك إذا كان هذا الظلم واقعاً على أناسٍ من صفوة المسلمين، ومن خيارهم من العلماء، أو الدعاة، أو طلبة العلم، أو غيرهم!(162/12)
الصدق مع الله
أدعوكم -مرةً أخرى، أيها الإخوة- في هذه الليلة المباركة: إلى أن تصدقوا الله تعالى في دعواتكم، وإذا كنا عجزنا بوسائلنا المادية المباشرة عن تحقيق ما نعتقد أنه خير للإسلام والمسلمين، فإن الله تعالى على كل شيءٍ قدير، ونحن إذ نسأله فإنما نسأل مليئاً يملك خزائن السماوات والأرض، ولا يتعاظم شيئاً أعطاه البتة، لكن نحتاج فقط إلى شيءٍ واحد، نحتاج إلى الصدق، وأن نجمع قلوبنا على دعائه وسؤاله، يقول عليه الصلاة والسلام: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة وأعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ} فاصدقوا الله ولا تحتقروا أنفسكم، لا كبيراً ولا صغيراً، ربما الشيخ الكبير يرحم الله تعالى شيبته، وربما شاب حديثاً السن لم تكتب عليه ذنوب كثيرة، وربما عاص مسرف على نفسه يقع في قلبه انكسار، فيقبل الله تعالى دعاءه، وربما قائم أو صائم أو عابد أو ذاكر أو متصدق، فلندعو الله تعالى بقلوب صادقة، منقطعة من كل الأسباب والوسائل المادية، معلنين عجزنا، لعل الله تعالى أن يرحمنا.
أسال الله تعالى بمنه وكرمه وأسمائه وصفاته ألا يردنا خائبين، أسأل الله تعالى ألا يردنا خائبين، اللهم لا تردنا خائبين ولا عن رحمتك مطرودين، وارحمنا يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك من كل خير ونعوذ بك من كل شر، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد والحمد لله رب العالمين.(162/13)
أهمية الدعاء
وكثيرٌ من الناس أحسن ما يملكون أن يقلبوا أيديهم، ويقولون: ماذا نصنع؟ ماذا بأيدينا؟ بأيدينا أن نصنع الكثير، أول ما بأيدينا أن نعمل توعية صحيحة للمجتمع، بحيث يعرف الناس الحقيقة على صورتها، بعيداً عن التضليل الإعلامي، فهل فعلنا ذلك؟! أم أننا نطأطئ رءوسنا ونسكت؟! العمل العظيم: الذي هو المساهمة المباشرة في نصر المسلمين نقول: هذا لا نستطيعه، والعمل البسيط الذي نقدر عليه نقول: هذا لا ينفع، يا أخي كل ذلك ينفع، الكلمة، والطيبة المشاركة، والدعم المادي، والدعاء، وأنت في هذا المسجد حينما تسمع الإمام يدعو فيضج هذا المسجد بالدعوات، ألا تعلم أن هناك رباً يسمع؟! ووعد بالإجابة، لو أن قلوب الحاضرين كلهم كانت مخلصة مخبتة مقبلة على الله، وانقطعت وشعرت بأن الأسباب المادية تفلتت من أيدينا، والحبال تقطعت، وما بقي عندنا إلا باب واحد، وهو باب الله تعالى، فضججنا إليه بدعاء صادق، وصرخنا إلى الله تعالى من أعماق قلوبنا، وصدقنا الله تبارك وتعالى، وقدمنا بين يدي نجوانا ودعائنا لله تبارك وتعالى توبةً صادقةً نصوحاً، وقدمنا صدقة وتخلصنا من المظالم، ثم استقبلنا القبلة، وصرخنا إلى الله تعالى بدعوات صادقة، ودعوات للمؤمنين المستضعفين في كل مكان، ودعوات للمساجين المأسورين في كل مكان، ودعوات للمستضعفين الذين قهرهم العدو، ودعوات لكل فقيرٍ أو مسكين أو جائع أو عار من هذه الأمة المنكوبة، دعوات على الظالمين والمبطلين وأهل الجور وأهل الظلم وأهل العدوان وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وأهل الكفر والإلحاد، وأهل الردة والنفاق، هل تظن أن الله تعالى لا يجيب؟! هذا من ظن السوء برب العالمين أن تظن أن الله لا يجيب لو صدقت القلوب وأخلصت وأقبلت على الرب جل وعلا.
فلننقطع -أيها الأحبة- إلى الله تعالى بقلوبنا، ولنرفع إليه أكفاً ضارعة وعيوناً دامعة، ولنصدق الله تعالى في دعاءٍ من أعماق قلوبنا، ونعتبر أنه نوع من الولاء لهؤلاء المؤمنين المنكوبين في مشارق الأرض ومغاربها، ونوعٌ من إعلان العداوة للكافرين أياً كانوا وأين كانواٌ سواءً كانوا عرباً أم عجماً، وأنه عربون نقدمه لأننا لا نملك غيره، كما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة:25] هذا الذي نملكه لا بد أن نفعله، فضلاً عن أن يقدم الإنسان لإخوانه المسلمين المنكوبين ما يستطيع، من المساعدات المالية التي تجد طريقها إليهم عبر وسائل كثيرة إلى غير ذلك من المساعدات، وكما يقال: الحاجة أم الاختراع، فحين تعلم أن هناك مسلمين محتاجين إليك؛ سوف تعرف كيف تنفعهم، وكيف توصل إليهم ما تستطيع.(162/14)
الأسئلة(162/15)
الفوائد الضرورية من البنوك الربوية
السؤال يقول: رجل عنده أموال طائلة وهو يودعها في بعض البنوك ويقول: أنه إذا ترك هذه الأموال، فإنها قد تأخذها بعض المؤسسات التنصيرية، وتنفقها على الأعمال التي فيها أضرار بالمسلمين، فهل يجوز له أن يأخذ هذه الفوائد، وينفقها على المسلمين المحتاجين في أفريقيا وغيرها؟
الجواب
فأقول: عليه -كما أسلفت- أن يحرص على أن يكون إيداعه للأموال في بنوك إسلامية، أو بنوك لا تعطي الربا أصلاً، فإن كان هذا الكلام في بنوك أجنبية في الخارج، وهو مضطر إلى الإيداع في بنوك تعطي فوائد، ولا يوجد إلا هذه البنوك، فحينئذٍ اختلف أهل العلم في جواز ذلك، فمنهم من يقول: لا يأخذ هذه الفوائد بل يدعها، والذي أراه هو القول الثاني الذي يفتي به أيضاً جماعة من الفقهاء أن عليه أن يأخذ هذه الفوائد لا من باب التملك، لكن يأخذها ليمنع استفادة اليهود والنصارى منها، ويصرفها في المجالات التي يحتاج إليها المسلمون، ولكن هذا يكون في حالة الضرورة، أي حين توجد بنوك ربوية فحسب، لأن بعض البلاد لا يوجد فيها إلا بنوك ربوية، ولابد له من الإيداع فيها.
وهو إما أن يأخذ هذه الفوائد أو يبقيها لهم، فأنه إذا أخذها وأعطيها للمسلمين خيرٌ له من أن يتركها لهم، ولو لم بكن من ذلك إلا قطع الطريق على استخدامها في تنصير المسلمين.
أسأل الله تعالى أن يبارك في جهودكم وأوقاتكم وان يتقبل منا ومنكم إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(162/16)
وضع الأحذية أمام المصلين
السؤال
هناك بعض النساء هداهن الله يضعن أحذيتهن أمام صفوف المصلين فبماذا تنصحونهن؟
الجواب
إذا كان هذا يؤذي الأخريات فعليها أن تحفظ حذاءها في مكان لا يؤذي أحداً.(162/17)
صرف الزكاة
السؤال
أيهما أفضل إخراج الزكاة للمحتاجين في البلد، أو صرفها إلى المجاهدين وغيرهم؟
الجواب
كل ذلك طيب وكلها مصارف نافعة، وهناك محتاجون في هذه البلدة يمكن أن تصرف لهم الزكاة، وهناك إخوان لكم في بلاد أخرى هم أيضاً بأمس الحاجة.(162/18)
الإمساكية الاحتياطية
السؤال يقول: إمساكية مكتوب عليها الإمساكية الاحتياطية، وهي قبل الإمساك الحقيقي بربع ساعة أرجو أن تعلق على هذه القضية؟
الجواب
الإمساك معروف، والاحتياط لا مجال له في مثل هذه فالأمور، الأمر واضح، ولا داعي للاحتياط بل ينبغي للإنسان أن يأكل حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، والإمساكية المتداولة عند الناس هي أيضاً فيها احتياط يمكن نحو دقيقه أو دقيقتين.(162/19)
القراءة مع الإمام ومتابعته في مصحف
السؤال يقول: ما رأيك في بعض المصلين الذين يتابعون مع الإمام، وهو يقرأ في مصحف، وبعضهم يقرأ مع الإمام بصوت رفيع؟
الجواب
لا ينبغي، بل ينبغي له أن يسكت.
كما قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا َ.(162/20)
اقتراح سيارات لبيع الأشرطة الدينية
السؤال
يقول هذا اقتراح لأصحاب التسجيلات، لعل الله أن يعم الإصلاح والخير قلب كل مسلم، نرى أصحاب المجلات وأصحاب بيع الدخان يجوبون المدن، والقرى على سيارات خاصة مخصصة لبيعها، فهذا اقتراح أن تنهج محلات التسجيلات الإسلامية النمط نفسه، فتجعل سيارات خاصة لبيع الأشرطة الدينية النافعة، لتوصلها إلى أماكن تواجد الشباب في المدن والقرى، علماً أن الغالب من الشباب لديه الرغبة في شراء مثل هذه الأشرطة؟
الجواب
اقتراح جيد ولعلهم قد سمعوه الآن.(162/21)
ذهاب الإمام للعمرة وترك مسجده
السؤال
بعض الأئمة يذهبون إلى العمرة ويتركون الجماعة ولا يترك من يصلي عنه، فهل هو مأجور في ذلك، أو يجلس عند جماعته؟
الجواب
لو ذهب يوم أو يومين لا حرج عليه، فيحصل على أجر العمرة وكذلك يهتم بجماعته.(162/22)
مخالفات لرواد المساجد
السؤال يقول: يوجد من رواد هذا المسجد وغيره بعض المخالفات، فنرجو التوجيه كالتدخين، وقصر ثياب المرأة، وطول ثوب الرجل، حتى إني رأيت امرأة ثوبها قصير مرتفع على الكعب أربع أصابع، وكذلك تخفيف الغدفة؟
الجواب
أولاً: أنصحك لا تنظر، لا تنظر هذه امرأة ثوبها قصير، وهذه ثوبها طويل، وهذه غدفتها خفيفة، وهذه ثقيلة نعم إن كانت النظرة الأولى فقد عفا الله عنك، لكن ليست لك الثانية.
وثانياً: ننصح الإخوة والأخوات بأن يراقبوا الله تعالى، فهم الآن أصبحوا في موضع القدوة، ومن رواد المساجد وينبغي على الرجال والنساء أن يلتزموا بأوامر الله تعالى، في الأمور الظاهرة كأمور الثياب والهدي الظاهر، وكذلك في الأمور الباطنة المتعلقة بأعمال القلوب.(162/23)
زكاة المال
السؤال يقول: أنا موظف في إحدى الدوائر منذ أربع سنوات ولم أزك على ما أخذته من الراتب، رغم عدم وجودها لدي، ولم أقرضها لأحد، فماذا أفعل؟
الجواب
عليك أن تزكي كل السنوات الماضية؛ إذا بلغ عندك النصاب.(162/24)
شاب مصاب بأوهام
السؤال
أنا شاب أبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً يحدث أحياناً لي أوهام، يخيل لي أنني مصاب بمرضٍ ما، أو أخاف من الموت، رغم أني -ولله الحمد- ملتزم أؤدي ما علي من فرائض فبماذا تنصحني؟
الجواب
أنصحك بكثرة ذكر الله والتوكل عليه، والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وأن تشغل نفسك بجلائل الأعمال، لئلا يبقى عندك وقت فراغ يشغله الشيطان بهذه الوساوس التي تشغلك، مع أن تذكر الموت إذا كان بحدود معتدلة فهو خير، لكن إذا بلغ وزاد وغلى وصار مخاوف وأوهام؛ فإنه يضر بالإنسان.(162/25)
التثاقل عن الصلاة
السؤال
لي أخ متزوج يتساهل بالصلاة حتى في رمضان، ويتثاقل حتى عن صلاة الفجر، ونحن في هذا الشهر الكريم الذي يصلي فيه أصحاب التخلف، بل الأدهى والأمر أنه ينام عن كثير من الصلوات آخرها صلاة العصر والمغرب فى هذا اليوم فنشكو إلى الله، وأطلب أن تدعو لأخي بالهداية؟
الجواب
أسأل الله تعالى أن يهدى أخاك إلى سواء السبيل، ويرزقه الإقبال على عبادته، وتعظيم حرمات الله تعالى وشعائره التي من أهمها الصلاة مع الجماعة، وعليك أن ترسل إليه بعض الأشرطة والكتب التي تتكلم عن موضوع الصلاة وأهميتها وخطر تركها.(162/26)
حكم الأكل أثناء الأذان وبعده
السؤال
أنا شاب أسأل عن صحة صيام هذا اليوم حيث أنني لم أستيقظ للسحور إلا مع أذان الفجر الآخر، وبدأت آكل حتى انتهى المؤذنون من الأذان، وقد تساهلت حتى أكلت بعد انتهائهم من الأذان، وما دعاني لهذا هو أنني منذ بدايتي بالأكل، وأنا على استعداد لقضاء الصيام؟
الجواب
لا يجوز هذا حتى لو كنت على استعداد، وعليك أن تقضي هذا اليوم.(162/27)
البحث عن القارئ الجيد
السؤال يقول: يتحدث بعض الناس عن موضوع متابعة دروس المشايخ، والبحث عن المساجد التي يكون فيها قارئ جيد، حتى أن بعض المتحدثين يزعم أن ذلك بدعة، ويزعم أن بعض المشايخ قال ذلك، أرجو الإفادة؟
الجواب
لا بأس أن يبحث الإنسان عن القارئ الجيد، ولا بأس أن يبحث الإنسان عن المجلس الذي يكون فيه خيرٌ وذكرٌ، فكل ذلك حسن، وللشيخ عبد العزيز حفظه الله فتوى في ذلك.(162/28)
معنى: اللهم إنا نعوذ بك منك لا نحصي ثناءً عليك
السؤال
ما معنى: اللهم إنا نعوذ بك منك، لا نحصي ثناءً عليك؟
الجواب
أي أن العبد لا يحصي ثناءً على الله تعالى، مهما أثنى على الله تعالى، فهو عاجزٌ عن الثناء عليه بما هو أهله، وهو يعلم أنه لا يحفظه إلا الله تعالى، فيستعيذ بالله تعالى منه، كما قال: أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وعلى هذا فقس، فيعوذ برحمة الله تعالى من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، وبرضاه من سخطه، وبعفوه من عقابه وهكذا.(162/29)
كثرة الحركة في الصلاة
السؤال يقول: ما رأي الدين في بعض الإخوة المصلين الذين يتحركون حركةً كثيرة مثل الذي يطلع منديل ويستعمله، وينظر للساعة، ويضبط الشماغ، وينظف الأظافر، وحركات أخرى كثيرة متعددة، وهو في الصلاة؟
الجواب
هذه الحركات الكثيرة تخل بالصلاة، وهي من العبث الذي لا ينبغي، والمصلي مشروع له أن يضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة فوق صدره، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، كما في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه.(162/30)
الدعاء لتحرير المسجد الأقصى
السؤال يقول: نعم أنا أعرفك أنك تتكلم بالحق، لكن لماذا لم يشمل دعاؤك أنت والشيخ المحيسني المسجد الأقصى، هذا السؤال موجه للشيخ محمد رغم أن هناك جهات، ومنظمات إسلامية كمنظمة حماس تحكم بالكتاب، وقائدها الشيخ ياسين وله مدة طويلة في الدعوة الإسلامية، حتى إذا كان الشعب الفلسطيني مذنب، فما هو ذنب المسجد أرجو أن تجاوب ولا تهمل الورقة؟
الجواب
في الحقيقة ليست القضية قضية إهمال نحن دعونا للمسلمين في فلسطين، وفي كل مكان، وأنت تعرف أنني سبق أن نظمت مجموعة من الدروس حول هذه القضية، ونحن نعتبر أن قضية فلسطين هي قضية كل مسلم، والمسجد الأقصى هو قضية كل مسلم أيضاً، ربما يكون غفلة وأحياناً نسياناً، ونغتنم هذه الفرصة للدعوة بأن الله تعالى ينقذ المسجد الأقصى من كيد اليهود في هذه الليلة المباركة، ويأذن بقيام الجهاد الإسلامي الذي يطهر تلك البلاد من رجس الكافرين، سواءً كانوا من اليهود الأصليين أم من المرتدين على أعقابهم، ونسأل الله أن يقر بذلك عيون المسلمين والمسلمات في كل مكان.(162/31)
إمامة النساء
السؤال
هل هناك شروط معينة لمن تؤم النساء؟
الجواب
لا، ليس هناك شروط معينة تخص الإمامة، ولكن عموماً يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، كما جاء في الحديث.(162/32)
طلب توجيه نصيحة
السؤال
أرجو توجيه نصيحة للأخوات بشأن رفع أصواتهن أثناء القراءة والبكاء؛ لأن ذلك يتسبب في صرف خشوع الأخريات وهذه النصيحة طلبناها بعد أن اشتكت الكثيرات من ذلك؟
الجواب
الخشوع بالقلب، وعلى الإنسان أن يحرص على عدم رفع صوته بالبكاء خاصة في الصلاة؛ لأن ذلك يؤذي من حوله، وكذلك يخشى أن يكون سبباً في الرياء وما أشبه هذا، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه يبكي، ولكنه يكتم بكاءه في صدره، وكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، حتى يسمع لأحدهم أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء؛ لأنه يكتم عباراته في صدره.(162/33)
الكذب
السؤال
هل يجوز أن أكذب عندما يسأل أحدٌ بالهاتف عن والدتي، وهذا بأمر منها بحجة أنها لا تريد أن تطلع أحد على أمورها الخاصة؟
الجواب
لا.
لا يجوز الكذب بحالٍ من الأحوال.(162/34)
الصبغ بالأسود
السؤال
هل يجوز الصبغ بالأسود، لإزالة صبغة أخرى للشعر، ليس لتجنب الشيب؟
الجواب
الرسول عليه السلام يقول: {اصبغوا هذا الشيب وجنبوه السواد} فالصبغ بالسواد منهي عنه سواء كان لإزالة الشيب أم لإزالة صبغةٍ أخرى.(162/35)
حكم من لم يحافظ على أداء الصلاة
السؤال
رجل يبلغ خمسة وتسعين عاماً، وهو في كامل قواه العقلية، لكن الصلاة لا يحافظ على أدائها، فوقت يؤديها ووقت لا يؤديها، ما حكم ذلك مع العلم أن أهله يذكرونه بذلك، ولكن بدون فائدة؟
الجواب
عليهم إذا جاء وقت الصلاة أن يخبروه بأن وقت الصلاة قد جاء، وإذا كان لا يغبط الصلاة فإنهم يتابعون معه حتى يصلي، وما دام أنه بكامل قواه العقلية فالصلاة عليه واجبة إن لم يستطع قائماً فقاعداً، وإن لم يستطع قاعداً فعلى جنب.(162/36)
حبوب منع العادة
السؤال
هل يجوز استخدام حبوب منع العادة خوفاً من ذهاب الأجر والصلاة؟
الجواب
أرى أن المرأة لا تستخدم هذه الحبوب، وإذا أتت العادة، فإنها تجلس حتى تذهب عنها العادة، لكن لو استخدمتها وكانت لا تضر بها فإنني أرجو أنه لا شيء في ذلك -إن شاء الله-.(162/37)
إيداع الأموال في البنك
السؤال
عندي أموال طائلة تصل إلى الملايين وليس لي سوى البنك أحفظها فيه دون أخذ فوائد، فما حكم هذا الإيداع؟
الجواب
أنصحك بأنه ما دامت الأموال طائلة بأن تودعها في البنك الأخروي، وتتصدق بما يمكن أن تتصدق به منها، فإن مالك ما قدمت، ومال وارثك ما أخرت، وما بقي من هذه الأموال، وكنت لا بد مودعه فلتودعه في بعض البنوك التي تكون أحسن حالاً من غيرها، كبنك الراجحي -مثلاً- فإنه أصلاً لا يعطي فوائد على الإيداع، وهذا لاشك ميزة لبنك الراجحي على كل البنوك الأخرى، فإن في نظام البنك أنه لا يعطي فوائد على الإيداع، ولذلك أقول: يمكن أن تودع في مثل هذا البنك.(162/38)
قول: (سبحانك) في الصلاة
السؤال
ما حكم قول المأموم: (سبحانك) عندما يثني الإمام على الله، وبعضهم يقول: أستغفر الله عندما يقول الإمام: نستغفرك ونتوب إليك، أو كما ورد؟
الجواب
قولك: (سبحانك) هذا من الذكر المناسب في الصلاة فلا شيء فيه.(162/39)
صوم المرأة الكبيرة في السن
السؤال يقول: عندنا في البيت امرأة كبيرة في السن، وتريد أن تصوم، وهي تستطيع أن تصوم فنتيح لها هذه الفرصة الثمينة، لكنها كلما صحت من النوم تريد أن تأكل طعام السحور سواء كان هذا النوم في الليل أم النهار فما هو الحل؟
الجواب
هذه المرأة إذا كانت كبيرة في السن بحيث أنها لا تعقل، ولا تعرف الأمور ولا تدري؛ فإنه ليس عليها شيء، ليس عليها شيء، لا صيام ولا طعام، أما إن كانت امرأة عاقلة بعقلها، وكمال عقلها، وتستطيع أن تصوم فعليهم أن يصوموها، وإذا طلبت أكلاً، فإنهم يخبرونها أنها لا زالت في النهار، ويطلبون منها الصبر إلى وقت الغروب، أما إن كانت امرأة عاقلة، ولكنها مريضة لا تستطيع الصيام، ومرضها مزمن كالجلطة مثلاً أو غيره، فإنها تفطر وعليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكيناً.(162/40)
الفرق بين الرشوة والهدية
السؤال
ما الفرق بين الرشوة والهدية؟
الجواب
الفرق واضح، الرشوة: هي أن تعطيها لإنسان طلباً لأن يقدم لك أمراً لا تستحقه، كموظف مثلاً تعطيه رشوة مقابل أن يخدمك في موضوع لا تستحقه، فيقدمك على غيرك، أو يعطيك حق غيرك، أو يظلم الناس من أجلك، فهذا لا يجوز، كالطالب الذي يعطي الأستاذ رشوة من أجل أن ينجحه في الاختبار، فهذا لا شك أنه لا يجوز دفع الرشوة، ولا أخذها، ولا الوساطة فيها، أما الهدية: فهو مال تعطيه لأحد من باب العرفان بالجميل أو من باب الإحسان عليه، أو من باب معرفة فضله أو ما أشبه ذلك، كأن تعطي أستاذاً سبق أن درسك، ولكنه الآن لا يدرسك فتعطيه هدية عرفاناً بفضله وجميله -مثلاً-.(162/41)
العدل بين الزوجات
السؤال
يقول: أنا امرأة زوجي لا يعدل، يعطي زوجته الأخرى حقها في اليوم، وإذا أراد أن يسافر أخذني وتركها، وهو يجبرني على الذهاب، وأنا أخاف أن أكسب إثماً بسبب الذهاب معه، أو أنه ترك ليلتها هل أكسب إثماً في ذلك، وماذا أفعل في المشاكل التي تحدثُ لي بسبب هذا؟
الجواب
نعم كونك امرأة منصفة وعادلة ولا ترضين بالظلم، هذا - إن شاء الله - دليلٌ على توفيق الله تعالى لك، ونسأل الله تعالى أن يبارك لك في زوجك وفي أولادك، ويرزقك السعادة في دنياك وأخراك، فهذا من العدل كون المرأة لا تقبل أن يظلم زوجها المرأة الأخرى لصالحها هي، فعليها أن تنصحه في ذلك وتبين له الحكم الشرعي، وتستفصل منه وتسأله ما هو السبب فيما جرى؟ وتطلب منه أن يكون عادلاً مع زوجته الأخرى، والزوج عليه أن يخاف الله تعالى ويعدل بين زوجاته، فإن كان لا يستطيع العدل فإنه يعوض زوجته الأخرى بما يمكن أن يعوضها به مما يرضيها عنه، ويجعله يتصرف وزوجته الأخرى راضيةٌ عنه غير غاضبة عليه.(162/42)
الشعور بالإحباط
السؤال يقول: سمعت تقريراً لبعض الغربيين يتحدث عن الأصوليين -كما عبّر عنهم- وعن الشريعة، وماذا سيكون مستقبلها، وكان تفصيله مقروناً بدلائل ملموسة فشعرت بإحباط، لأني لم أعرف ما هو المطلوب منا لحماية شريعتنا من العدوان الظاهر بأسرع ما يمكن؟
الجواب
لا يجوز أن تشعر بإحباط أبداً.
كيف تشعر بإحباط وأنت ترى آيات الله تعالى بعينيك؟ قبل سنوات بسيطة كان هناك دولة ضخمة جداً تنافس أقوى دولة في العالم -الاتحاد السوفيتي، وكنا- -وأنا واحد من هؤلاء- نتصور أن هذه الدولة راسخة وسوف يمر عليها سنين طويلة وهي بقوتها، ولكن الله تعالى هدَّم هذه الدولة وهدّ أركانها خلال مدة وجيزة، حتى أصبحنا الآن نقول: ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي وانتهى كل شيء، فأنت ترى هذه الأدلة ظاهرة أمام عينيك، فينبغي أن يكون عندك ثقة بالله، ومعرفة بأن كل شيء يقف في طريق الإسلام؛ سوف يرسل الله عليه سيلاً يجرفه ويزيله، لكن إذا وجد المسلمون الصادقون المخلصون.(162/43)
ترك الصيام
السؤال يقول: أنا بلغت سن الخامسة عشرة سنة (1392هـ) حسب السجل المدني، ولكن لم أصم الصيام الحقيقي إلا من بداية سنة (1400هـ) ، أي: عندما أصبحت سني ثلاثاً وعشرين، هل يترتب علي القضاء؟
الجواب
أولاً: البلوغ يكون بأحد أمور: أولها: الإنزال، إنزال المني سواء في اليقظة أم في المنام.
الثاني: إنبات شعر العانة على القبل.
الثالث: بلوغ خمس عشرة سنة، فإذا وجدت أحد هذه العلامات الثلاث بلغ الإنسان، وتزيد الأنثى خصلة رابعة وهي الحيض، فإذا حاضت بلغت، ولو كانت بنت تسع سنين، فمن بلغ وجب عليه الصيام، وإذا لم يصم وجب عليه القضاء.(162/44)
النية في الصيام
السؤال
إذا لم يعلم أن هذا اليوم رمضان إلا في الساعة التاسعة صباحاً ولكنه لم يتناول شيئاً منذ طلوع الفجر ثم أمسك؟
الجواب
هذا إذا كان لم ينوِ الصيام أيضاً -لم يبيت نية الصيام فعليه القضاء -أيضاً- لأن صوم الفرض لا بد من تبييت نيته من الليل، ولو من جزء قليل من الليل.(162/45)
الأكل والشرب وقت الأذان
السؤال
ما حكم تناول الأكل والشرب والمؤذن يؤذن لصلاة الفجر؟
الجواب
إذا كان المؤذن يؤذن على الوقت فعلى الإنسان أن يمسك عن الأكل والشرب بمجرد ما يسمع الأذان، إذ كان الأذان علامة على طلوع الفجر، والله تعالى يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] .(162/46)
قضاء صوم الفريضة في شعبان
السؤال يقول: عليَّ خمسة أيام من رمضان الماضي، وصمت في شهر شعبان الماضي آخر أربعة أيام، ولم أتمكن من اليوم الخامس هل علي شيء في ذلك؟ وهل الصيام في شعبان فيه شيء؟
الجواب
ما دام أن الصيام قضاء فلا شيء فيه، وكذلك اليوم الذي بقي عليك يجب عليك قضاؤه بعد أن تصوم شهر رمضان، ويرى كثير من الفقهاء أن عليك مع القضاء إطعام مسكين عن هذا اليوم.(162/47)
الكرم والمباشرة على الناس
السؤال يقول: هل الذي إذا كان مع الناس يشتري لهم ما يحتاجون، أي ما يسمى بالمباشرة يباشر عليهم هل هذا كرم أم أنه تبذير في الأموال؟
الجواب
هذا شيء حسن، وهو من الكرم المحمود والمحبوب، إكرامك لزميلك وأخيك وضيفك، وشراؤك له ما يحتاجه هذا من الكرم.(162/48)
إفطار أول يوم من رمضان ظناً أنه شعبان
السؤال يقول: بعض منا قد أفطر الساعة السابعة صباحاً، إذ لم يعلم إلا بعد أن أكل، ثم أمسك في أول يوم من رمضان؟
الجواب
هذا عليه أن يقضي ذلك اليوم، بعد أن يفطر في شوال إن شاء الله وبعده يقضي ذلك اليوم الذي هو اليوم الأول من رمضان.(162/49)
مصدر أخبار المسلمين
السؤال يقول: قد عرفنا وسائل الأعلام وحقيقتها وأهدافها، وأساليبها لإضلال الناس، وصدهم عن دينهم، وحال إعلامنا كما قال الشاعر: إعلام هذا العصر شرٌ ظاهر فعلى يديه تزور الأخبار وعلى يديه تباح كل رذيلةٍ وعلى يديه تشوه الأفكار وبه تُشبُّ النار يوقد جمرها وبه يثار من الشكوك غبار فما هو المصدر الذي يمكن أن نتلقى منه أخبار المسلمين؟
الجواب
في الواقع أنه ليس هناك إلا القليل من المصادر الموثوقة من الصحف الإسلامية كالإصلاح والمجتمع والبيان وبعض الصحف الإسلامية الموجودة هنا وهناك على أنها قليلة، لكن هناك بعض الشر أهون من بعض، فبعض المصادر يمكن الاستفادة منها سواء كانت مصادر إذاعية أم صحفية، وإن كان فيها ما فيها.(162/50)
صحة قطع المعونات عن الجبهة في الجزائر
السؤال
هل صحيح ما نشر في وسائل الإعلام حول المنظمات التي قطعت دولة الروافض معونتها عنها، ودست اسم جبهة الإنقاذ ضمن تلك المنظمات التي قطعت عنها الإعانة حيث يعتقد القارئ أن تلك الجبهة كانت تتلقى الدعم من الشيعة؟
الجواب
الصحيح أن الجبهة لم تكن تتلقى الدعم من أحد لا من الشيعة ولا من أهل السنة، ولا من إيران ولا من غير إيران، بل إن الجبهة الإسلامية للإنقاذ رفضت حتى إعانات الحكومة الجزائرية، فلما دفعت حكومة الجزائر إعانات تدفعها للأحزاب الأخرى، أعلنت الجبهة رفضها، وقالت: هذه أموال الشعب، ونحن لا نحتاجها، وكانت تعتمد على أموال الناس، على أموال المنتسبين إليها، مع أن كثيراً منهم لم يكونوا من الأغنياء الكبار، ولكنهم كان الواحد منهم يقتطع جزءاً من رغيفه ليبذله في سبيل الله تعالى، وفي الدعوة إلى الله.(162/51)
الجلوس بعد الفجر إلى طلوع الشمس
السؤال يقول: نرجو توضيح صحة الحديث القائل: {من جلس في مصلاه بعد صلاة الفجر يذكر الله تعالى، حتى تطلع الشمس قدر رمح، وصلى ركعتين؛ كان كأجر حجة وعمرة تامتين تامتين} .
الجواب
هذا حديث صحيح , وقد جاءت في ذلك أحاديث عدة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الحديث: أن يجلس الإنسان في المسجد بعد صلاة الفجر مع الجماعة حتى ترتفع الشمس قدر رمح أي: بعد طلوع الشمس بنحو عشر دقائق إلى ربع ساعة، ثم يصلي ركعتين.
هذا الحديث في الأصل: فيمن صلى الفجر في جماعة لكن يرجى أن المرأة إذا صلت الفجر في وقتها، ثم جلست في مصلاها تذكر الله تعالى وتدعوه، فإنه يرجى أن يكتب الله تعالى لها أجر ما نوت واحتسبت.(162/52)
التبرعات لصالح الجبهة الإسلامية في الجزائر
السؤال
هل جمع التبرعات للجبهة الإسلامية في الجزائر، يمكن أن يتم من هنا، وهل مكتبكم يستقبل ذلك؟
الجواب
دعم المسلمين في كل مكان أمرٌ ممكن ومطلوب، وعلى المسلمين أن يساعدوا إخوانهم ليس في الجزائر فحسب، بل في كل بلاد الدنيا، ويشرفني أنا وغيري من طلبة العلم أن نكون وسطاء بينكم وبين من تريدون إيصال أموالكم إليهم من المسلمين في هذا البلد، أو في أفغانستان أو في إرتيريا أو في أي مكان آخر من الأرض.(162/53)
أخذ مال خفية
السؤال يقول: كنت آخذ المال من جدي دون علمه؛ لأنه لا يبصر، وقد توفي، وأريد أن أرجع هذا المبلغ، فماذا أعمل، ولا أدري كم المبلغ؟
الجواب
عليك أن تقدر هذا المبلغ، ثم تدفعه إلى ورثة جدك.(162/54)
انتحار الفتاة اليمنية
السؤال
هذا تعليق على قصة الفتاة اليمنية التي ذكرت أمرها، وما يتعلق بموضوع الانتحار.
الجواب
الانتحار لا شك أنه لا يجوز، بل هو من كبائر الذنوب، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} [النساء:29-30] وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: {عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة} فالانتحار أي قتل النفس: من كبائر الذنوب، ولكنه ليس كفر، ولهذا فإن هذا العمل الذي قامت به تلك الفتاة -لا شك- أنه عمل محرم ولا يجوز، ولا يسوِّغ ذلك أو يبرره أن تكون تعيش في ظروف صعبة، فإن من توكل على الله كفاه، ومن استعان بالله أعانه، ومن استغاث بالله أغاثه، ومن عرف الله تعالى حق معرفته؛ هان عليه ما يلقاه في هذه الدنيا، ومع ذلك فإننا نسأل الله تعالى أن يكفر عنها ذنبها، ويغفر لها إنه على كل شيء قدير.(162/55)
العمالة التي تؤخذ مقابل الكفالة
السؤال يقول: ما رأي الدين في بعض الإخوة الذين يحضرون عمالاً من الدول العربية الإسلامية بفيزةٍ على كفالته، ويتركه يعمل في مكان آخر، ويأخذ منه كل شهر مبلغ مائتين أو ثلاثمائة ريال سعودي، وإذا تأخر العامل في الدفع له يهدده، ويقول له: سوف أشتكيك، وأجعلك تغادر البلاد؟
الجواب
قضية العمال، قضية خطيرة، وكثيرٌ من الناس يظلمون هؤلاء العمال، ويسرقون جهدهم، ولا يعطونهم مرتباتهم، أو يفرضون عليهم عطاءً شهرياً لا يتناسب مع حجم ما يحصلون عليه ولا يستطيعون دفعه، فقد يكون العامل -أصلاً- لا يحصل إلا على أجرٍ بسيط، ويطلب منه رب العمل مبلغاً ضخماً ثمانمائة ريال أو أكثر من ذلك مثلاً، وقد يطلب منه الكتابة في أشياء وأوراق غير صحيحة ليحاجه بها عند الجهات الحكومية، فعلى هؤلاء أن يتقوا الله تعالى، ولا يأخذوا مالاً من حرام، فإن الله تعالى لا يبارك في هذا، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {أيما لحم نبت على سحتٍ فالنار أولى به} .(162/56)
طبيعة المرأة بين السلب والإيجاب
الطباع البشرية التي جبلت وفطرت عليها النساء كثيرة جداً منها: الجمال وحب الاستطلاع والكلام وحب التميز، وغيرها.
ولكن هذه الطباع تدور بين المحمود والمذموم (السلب والإيجاب) .(163/1)
أهمية معرفة الإنسان بطبعه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: هذه الجلسة أيتها الأخوات هي للإجابة على بعض الأسئلة والاستفسارات الواردة من الطالبات في هذه الدار، ولكنني أقدم بين يدي الإجابة على تلك الأسئلة بحديثٍ عابر، أحببت أن يتناول قضية مهمة، ألا وهي (طبيعة المرأة بين السلب والإيجاب) .
ومن المهم جداً للإنسان أن يعرف طبيعته ما هي، سواء قصدنا بطبيعة المرأة ما فطرت وخلقت وجبلت عليه كل النساء من الطبائع الفطرية التي لا مخلص لها منها، فإن الإنسان مجبول على طبائع وخصائص، لا سبيل له إلى التخلص منها.
فمثلاً: غريزة حب الاطلاع أو حب المعرفة أو حب الاستطلاع هذه طبيعة موجودة في كل إنسان، ذكراً أو أنثى، كبيراً أو صغيراً، فهو يحب أن يستطلع ويعرف حقائق الأمور، ولكن هناك أيضاً طبائع خاصة ببعض الناس دون بعض، فتجدين بعض النساء -مثلاً- شديدة الغضب سريعة الانفعال، ما إن يحصل لها موقف، حتى تفور أعصابها وتنفعل، وتحطم ما أمامها، فإن من المهم أن تعرف المرأة طبيعتها تلك.
وتجدين امرأة أخرى حساسة، سريعة التأثر بكل شيء، حتى نسمة الهواء تجرحها، حتى الكلمة الهادئة قد تؤثر فيها، فتكون دائماً وأبداً تعيش في قلق وهم وتفكير، فلانة قالت، وفلانة قالت، ماذا أرادت هذه؟ وماذا أرادت هذه؟ فتظل تعاني الآلام الشديدة، وقد تشرك غيرها معها في هذه الآلام بسبب الحساسية الموجودة عندها والتي تجعلها تفسر أفعال الآخرين وأقولهم بخلاف الواقع، فعلى أي حال لابد أن تعرف المرأة طبيعتها، سواء أردنا الطبيعة العامة التي عند كل امرأة، أو الطبيعة الخاصة التي تميز بعض النساء عن بعض.(163/2)
الجمال بين السلب والإيجاب
وأضرب بعض الأمثلة لهذه الطبيعة: فمثلاً: من الأشياء التي جبلت عليها المرأة: قضية الجمال، بل هذه القضية موجودة عند الإنسان، فإن الإنسان بطبيعته يحب الجمال، فإذا رأى المشاهد الجميلة، مشاهد الطبيعة، الأشجار الخضراء، والأزهار، والبحار، والأنهار، وخرير المياه، ورأى هذه المظاهر والأشكال والطيور المغردة، فإنه يفرح ويسر بذلك، ولهذا جرت عادة الناس أن يذهبوا إلى الأماكن التي توجد فيها هذه المظاهر للاصطياف والتفرج والنظر إليها، فهذه طبيعة لا يلام عليها أحد فلا يلام الإنسان على حبه للجمال، بل إن الله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين في الدار الآخرة بألوان من الملذات في الجنة، منها: التلذذ بالنظر إلى الجمال، سواء جمال الجنة وما جعل الله تعالى فيها من الأنهار والأشجار وغيرها، أو التلذذ بالنظر إلى وجه الله الكريم سبحانه وتعالى في جنة عدن قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] .
فيتلذذ المؤمنون في الجنة بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم ذكورهم وإناثهم، فينظرون إلى وجه الله تعالى، فلا يجدون شيئاً من النعيم أحسن ولا ألذ من النظر إلى وجه الله الكريم، لأنه فيه الكمال والجمال والجلال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: {إن الله تعالى جميل يحب الجمال} .
فالشرع ما جاء يعارض الجمال، ويقول: لماذا يحب الإنسان الجمال؟ لا، الشرع لا يلوم الإنسان، لأن الذي خلق الإنسان هو الذي أنزله، ومن الطبيعي أن الله يعلم من خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فكون الإنسان رجلاً أو امرأة يحب الأشياء الجميلة، هذا أمر فطري لا يلام عليه الإنسان، لكن هذه الطبيعة يمكن أن تتحول إلى طبيعة إيجابية، ويمكن أن تتحول إلى طبيعة سلبية.(163/3)
الاهتمام الإيجابي بالجمال
الجانب الآخر: هو الجانب الإيجابي.
فأن الله عز وجل فطر المرأة على قدر من الاهتمام بالجمال لا تلام عليه، وكون الإنسان يهتم بمظهره، بشكله، بثيابه، بنظافته، في بدنه، في حذائه، في بيته، في دروسه، في أي شيء، يهتم بالنظافة فهذا مطلب شرعي، ولا يلام عليه العبد، وليس صحيحاً.
ما يقع في أذهان كثير من الفتيات أن الفتاة الملتزمة المتدينة يجب أن تكون بعيدة عن العناية بشكلها، وهذا خطأ، بالعكس كون الفتاة المتدينة تهتم بمظهرها بقدر معقول هذا هو الحل الشرعي، لأننا نريد أن نقول لكل البنات: إن الدين لا يمنع من العناية بالمظهر، ولا يمنع من الاهتمام بالجمال بالقدر المعقول، ولا يمنع من النظافة، بل هو يحث على ذلك.
فمن المهم أن تكون الفتاة الطيبة الداعية إلى الله أو المنتسبة إلى دار من ديار القرآن الكريم أو المنتسبة إلى جمعية من جمعيات التوعية الإسلامية في المدرسة، أو ما أشبه ذلك، أن تكون في مظهرها نموذجاً طيباً يدعو إلى الاعتدال، وليست العناية تلك التي جعلت وجهها كأنه لوحة زيتية، ملون بالأصباغ من هنا ومن هناك، حتى اختفت بشرتها الحقيقية، واختفى الجمال الحقيقي وراء هذه الأصباغ الوهمية المصنوعة المتكلفة، لا، ولكن فيها مع الجمال الفطري قدر من العناية بالجمال، وقدر من العناية بالنظافة، وقدر من العناية بالمظهر في الثياب، في الحذاء، في الكتب، في البدن، في كل شيء، يجعلها قدوة ونموذجاً للآخرين، بحيث إذا رآها الناس غير المستقيمين قالوا: إن الدين لا يمنع من الاهتمام بالجمال، وفي نفس الوقت الدين لا يأمر بالإفراط والمبالغة في هذا؛ بل الدين يدعو إلى التوسط والاعتدال؛ ومن الخطأ أن تجدي فتاة متدينة صالحة ترى أن من كمال تدينها والتزامها ألَّا تهتم بشعرها، وألَّا تهتم بثوبها، وألَّا تهتم بحذائها، وألَّا تهتم ببدنها، وألَّا تهتم بشيء من هذا الأمر، ترى أن الاهتمام بهذا الأمر كله من القشور، والواقع أن فيه قدراً لا يلام عليه.
الإنسان بفطرته يحب الجمال، والتي تتنكر لهذا الأمر في الواقع تتنكر للفطرة، لكن التي تبالغ فيه أيضاً تظلم نفسها وتصبح مثل الذي يهتم بالقشر وينسى اللباب.
فحب الجمال فطرة عند كل إنسان رجلاً أو امرأة، هذا الحب للجمال يمكن أن يتحول إلى صورة سلبية كما أسلفت، فتاة كل همها العناية بمظهرها، لا تهتم بثقافة، ولا بعلم، ولا بدعوة، ولا بخلق، ولا بشيء، فهذا خطأ، وبالمقابل تجدين فتاةً أخرى قد تهمل هذا الأمر، وتتنكر للفطرة بأية حجة من الحجج، فهذا أيضاً خطأ، والدين يدعو إلى التوسط والاعتدال: أن تهتم الفتاة بمظهرها بقدر معقول، وأن يكون اهتمامها ثانياً بهذا المظهر لزوجها وفي مجالاتها الخاصة، فأما إذا خرجت لمجالات الرجال، كما إذا اضطرت للخروج إلى السوق مثلاً أو غير ذلك مع العناية بالضوابط والقيود الشرعية إلا أنها لا تهتم بمظهرها الاهتمام الذي يلفت إليها أنظار الآخرين، لأنه لا يهمها أن تلفت أنظارهم، بل يهمها ألا تفتن الناس؛ لأنها إن فتنتهم سببت الإثم لهم ولها.(163/4)
الاهتمام السلبي بالجمال
نأخذ مثالاً في كون الجمال يمكن أن يتحول إلى شيء سلبي: تجدين أن بعض الفتيات يصبح هم الجمال عندها هو كل شيء، حتى لو حسبت الوقت التي تقضيه الفتاة في التجمل وصبغ وجهها بالأصباغ، وتسريح الشعر، وتغيير الثياب وتبديلها وتزيينها، لربما وجدت أنها تصرف نصف الوقت أو أكثر على العناية بالجمال، في مظهرها، في شكلها، في وجهها، في شعرها، في ثيابها، في كل شيء، وربما بسبب انشغالها بالجمال الشكلي هذا، أغفلت الجمال الحقيقي، جمال الروح، جمال الخلق، جمال العقل، جمال العلم، فإذا فتشت هذه الفتاة هل عندها علم وثقافة؟ ما وجدت شيئاً، وهل عندها معرفة بشئون النساء؟ ما وجدت شيئاً وهل عندها أخلاق فاضلة؟ لا، وهل عندها فصاحة وبلاغة وبيان؟ لا، إنما كل همها تركز على العناية بالجمال الظاهر، فأجحفت بسبب الانشغال به في الجمال الحقيقي المهم، فهي تكون مثلما لو جاءت امرأة أو جاء رجل بكوب مصنوع من ذهب، أو من برونز، أو من كريستال، أو أي معدن من المعادن، ثم وضع في هذا الكوب شيئاً من الخمر أو من الماء الكدر، يكون المضمون سيئاً، والصورة جيدة في الظاهر.
ماذا يفيدنا -إذا كان مضمون الكوب الذي بداخله ماء كدر أو خمر أو ما أشبه ذلك- أن يكون هذا الكوب جميلاً، وما في داخله خبيثاً؟ لا ينفع شيئاً، فكذلك المرأة إذا كان همها العناية بالجمال الظاهر مع إهمال الجمال الباطن صارت هكذا، أي كما يقال: ديكور في الظاهر، لكن في الحقيقة خواء لا شيء فيه، وهذه مشكلة.
فالإفراط في العناية بالجمال هو صورة سلبية بهذا الشكل.
من الإفراط في العناية بالجمال بصورة سلبية أيضاً: أنكِ قد تجدين بعض النساء تهتم بالعناية بجمالها لغير ما خلقه الله تعالى له، لأن الله تعالى خلق الجمال في المرأة حتى يتمتع به من أحلها الله له، ولذلك سميت حليلة زوجها، لكن قد تجدين كثيراً من النساء تهتم بالجمال والمظهر والشكل، ثم تخرج بعد ذلك إلى السوق حتى تلفت إليها نظر الرجال والغادين والرائحين والباعة والمشترين وغيرها، أو حتى تخرج إلى حفل زواج، فتلفت أنظار النساء الأخريات حتى يتحدثن ويتهامسن ويشرن إلى فلانة، فهذه مشكلة؛ لأن الجمال حينئذٍ في غير ما خلقه الله له، وربما تكون هذه المرأة نفسها حين تكون متزوجة إذا كانت في بيتها وعند زوجها لا تهتم بجمالها مثلما تهتم به إذا كانت خارجة للسوق أو إلبى حفل زواج أو إلى مناسبة، فهذا جانب سلبي في العناية بالجمال.(163/5)
حب الاستطلاع بين السلب والإيجاب
خذي مثالاً آخر على قضية الفطرة والطبيعة الموجودة: قضية حب الاستطلاع: كل إنسان يحب أن يطلع ما هو كذا وما هو كذا؟ وماذا فعلت فلانة؟ وماذا قالت علانة؟ وما هو الشيء الذي يحصل في المكان الفلاني؟ كل إنسان يحب هذا.
وحب الاستطلاع موجود عند المرأة بشكل أكبر، فمن الممكن أن يكون سلبياً وذلك أنك تجدين بعض النساء تدس أنفها فيما لا يعنيها، فتحاول أن تتدخل في أمور الناس وشئونهم وفي قضايا الأسر والعوائل، فلانة فعلت وفلانة لم تفعل، وفلانة فيها كذا، والبيت الفلاني حصل فيه كذا، والمناسبة الفلانية، والمدرسة الفلانية، وتظل تهتم بتتبع أخبار الناس وأحوال الناس وقصصهم وتذكرها في المجالس، حتى إنك تجدها كأنها وكالة أنباء داخل هذا المجتمع، تجمع الأخبار والمعلومات والإشاعات والصدق والكذب والحق والباطل، فإذا حضرت في مجلس أفاضت كل ما عندها وتكلمت به عند الناس، ولكن حب الاستطلاع هذا وُظِّفَ ووضع في غير موضعه.(163/6)
حب الاستطلاع المذموم
أما الأشياء التي لا تنفعها مثل أخبار الناس والغادين والرائحين، وفلانة تزوجت، وفلانة أنجبت، وفلانة توظفت، وفلانة فيها، وفلانة ما فيها، فهي لا تهتم بهذا، وإن كان هناك قدر معقول من الأخبار لا يلام أحد عليه، مثل: كون واحدة تقول: زميلتي تخرجت، وزميلتي أنجبت، هذا أمر عادي، لا أحد يقول: لماذا هذا؟ لكن أحياناً يزيد عند بعض النساء حتى يصبح كل همها هو متابعة أخبار النساء، وكأنها موكلة بما فعلت النساء وما فعل الناس رجالاً ونساء، ولذلك تجدين -مثلاً- قضية الإشاعات في المجتمع، عندما تقع أية قضية ولو كانت تافهة في المجتمع أو قضية شخصية أو بيتية يدور حولها مئات بل ألوف من الإشاعات، كلها باطلة وكاذبة؛ لأن بعض هؤلاء النساء عندهن حب الاستطلاع فتسأل وتسأل، وعندما لا تحصل على معلومات تختلق أشياء من عندها، وتقول: يمكن كذا، ويمكن كذا.
مثلاً: لو فرضنا أن مدرسة في إحدى المدارس استقالت من هذا التدريس في المدرسة، وهناك امرأة عندها حب استطلاع في غير محله فإنها سوف تسأل: لماذا استقالت فلانة من التدريس؟ لماذا؟ ولماذا؟ عندما تجلس مع أناس تسأل: لماذا استقالت وهي مدرّسة جيدة ومحبوبة عند الطالبات؟ ولماذا تستقيل؟ فما وجدت أحد يجيبها إلا بجواب عادي وهو أنها تعبت، وعندها أطفال، وربما زوجها ألح عليها، والمهم أنها استقالت، لكن ما أقنعها هذا الجواب؛ فبدأت تخلق إشاعات، وقالت: والله ما ارتاحت لمديرة المدرسة، يمكن الموجهة، يمكن عليها ملاحظات، يمكن يمكن، ثم تنشر هذه الإشاعات الباطلة بين الناس، فتتحول عند الناس إلى حقائق بعدما كانت ظنوناً وأوهاماً و (يمكن) صارت (أكيد) عند ناس آخرين، فهذا جانب من قضية حب الاستطلاع، إذا وظفتها المرأة في غير مصلحة.
لكن إذا كانت المرأة تعرف مصلحتها جعلت حب الاستطلاع اهتماماً بدينها وخلقها، بل وبأمورها الدنيوية من أمورها الشخصية أو البيتية أو العائلية أو ما أشبه ذلك.(163/7)
حب الاستطلاع المحمود
ويمكن أن يصرف حب الاستطلاع الموجود عند المرأة بطريقة صحيحة، يصرف عن طريق أن الفتاة تحب أن تعرف دينها، تحب أن تتطلع على العلوم النافعة، تحب أن تقرأ في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقرأ الكتب المفيدة، تتعلم عقيدتها، تعرف كيف تعبد ربها، بل تعرف حتى أمور دنياها، تعرف ما يتعلق بأمور الطبخ وبأمور المعيشة وبأمور الجمال الذي يخصها، بأمور البيت وتنظيمه، وبأمور الصحة، وبأمور تربية الأطفال، وبأمور العلاقات إلى غير ذلك من القضايا الضرورية التي تحتاج إليها المرأة في حياتها العملية، فتكون المرأة صرفت حب الاستطلاع الفطري الغريزي -الذي يجعلها دائماً تحب أن تطلع- وصرفته فيما ينفعها، فصار كل ما تقرأ أو تسمع أو تسأل إنما هو عن أشياء تستفيد منها.(163/8)
العاطفة بين السلب والإيحاب
المرأة عاطفية، وإذا كان الرجل يتميز بأنه أثقل عقلاً وأبطأ في اتخاذ القرار، وإذا أراد شيئاً فإن يفكر فيه ألف مرة قبل أن يفعله، فالمرأة عاطفية؛ من الممكن أن الإنسان يحرك عاطفتها فتتخذ قراراً بأسرع وقت بمجرد أن تسمع كلاماً طيباً حلواً معسولاً، تجدين أنها تستجيب لذلك، وتغير قناعتها بسرعة، وتوافق على هذا الأمر بكل سهولة، فالمرأة عاطفية.(163/9)
العاطفة السلبية
لكن لو تصورنا أن هذه العاطفة الموجودة عند المرأة صرفت في غير مصرفها الصحيح، فصارت مثلاً هذه الفتاة تشغل عواطفها مع زميلتها، فتجدين أنها تعيش ما يسمى بالتعلق أو الإعجاب الموجود مع الأسف في كثير من المدارس، وربما انتقل إلى بعض الدور والمؤسسات الخيرية بصورة آلية، فتجدين مثلاً فتاة تتعلق بأخرى، تمشي معها، وتجلس معها، وتقوم حيث قامت، وتقعد حيث قعدت، وتقلدها في حركاتها وسكناتها وطريقة الكلام، بل وفي ثيابها، بل وفي كل شيء، تمشي معها حذو القدة بالقدة، حتى تعتبر أنها مثلها الأعلى، وربما إذا ذهبت كل واحدة منهن إلى البيت شعرت بالوله عليها، فصارت تتصل بالهاتف، وربما تجلس معها في الهاتف ساعات تتحدث معها أحاديث عاطفية كثيرة، وربما تصل الأمور إلى نتائج سلبية وعواقب غير حميدة، ومن الممكن أن بعض النساء أو بعض الفتيات تستر هذا بشيء اسمه الحب في الله، وهذا فرق بينه وبين الحب في الله، هذه عواطف بشرية لكنها زادت، ما وجدت المصرف الصحيح، ولا وجدت التوجيه المناسب، ووجدت فتاة استجابت لهواها وأتبعت نفسها هواها، فلما شعرت بميلٍ إلى فتاة أخرى؛ لأنها ظريفة أو خفيفة أو حسنة الشكل، أصبحت تكثر من الجلوس معها وتمازحها، وتتحدث معها وتقترب منها وتقلدها، فزادت الطين بلة، وظلمت نفسها بهذه الطريقة، وربما ضرت نفسها، وضرت غيرها، يقول لها الشيطان: إن هذه المرأة الأخرى تبادلك نفس الشعور، انظري إلى نظرات عينيها، تدل على أنها تشعر نحوك بشعور مماثل، ولكنها قد لا تبوح به ولا تتكلم به، فتظل الفتاة مشدودة إلى فتاة أخرى بما يسمينه بالإعجاب أو التعلق، الذي يجعلها أحياناً تصلي وتسجد وتقول: ربي اغفر لي وتقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، وليس في قلبها إلا صورة الفتاة التي أعجبت بها.
هنا الخطورة في قضية تحويل العاطفة إلى طريق غير شرعي، فما بالكِ إذا كان هذا التعلق ليس بفتاة مثلها؟! قد يكون التعلق بشاب مثلاً، كم يكون له من الأضرار؟ وكم وقفت وعرفت كثيراً من الشباب يخادعون الفتيات مباشرة أو عن طريق الهاتف، يتصل بها بالهاتف فيخدعها، ويزين لها أنه سوف يتزوجها وأنه قد رآها وأعجب بها، ويظل يضحك بها، وهي في البداية تعتبر أنه مجرد عبث وتسلية وقضاء وقت فراغ وإن جرت معه، وهو يجرها شيئاً فشيئاً، ويسجل عليها هذه المكالمات حتى يوقعها، فإذا وجد يوماً من الأيام أنها تحاول أن تنفلت منه أو ترفض، هددها بأنها إذا لم تستجب ولم ترض بالمقابلة فإنه سوف يفضحها عند أهلها، فيظل يجرها من ورطة إلى ورطة أخرى، حتى يوقعها في الحرام والعياذ بالله، وكل ذلك حرام بحد ذاته، وكل ذلك قد تم بهذه الأساليب والوسائل والطرق التدريجية الخطيرة التي رسمها له الشيطان.
وكم من فتاة تكون قضية الاتصال بالهاتف عندها قضية عادية، كل من اتصل أجابت عليه، واسترسلت معه وتكلمت معه، قد يتصل فلان يسأل عن أخيها فتقول: غير موجود، من الذي يريده؟ فيبدأ يسألها متى يأتي فلان؟ ومتى يذهب؟ هكذا تكون فرصة للكلام والاسترسال والأمور التي لا حاجة إليها ولا فائدة منها، وبالتالي تظل الفتاة قلبها مشتت معلق، كل من اتصل همت أن تحدثه، وتمنت أن تسترسل معه في الحديث، فصار من جراء ذلك أضرار كبيرة، تمزق قلب هذه الفتاة، ما عادت تصلح لشيء، لأن عاطفتها توزعت هنا وهناك بدون ضابط، ومع الأسف الشديد أن كثيراً من الفتيات بسبب أنهن عاطفيات، من السهل أن يستدرجهن بعض الذئاب، وأنا أعرف قصصاً عديدة وقفت عليها، وربما تشتكي لي بعض النساء أن هناك نساء يستدرجهن بعض الشباب، ويضحكون عليهن حتى إنهم قد يأخذون منهن أموالهن ورواتبهن إن كان لهن رواتب، ويضحكون بعقولهن، ويمنونهن بالأماني الباطلة، وفي النهاية يذهب ويضحك، وربما صار يتكلم في المجالس، ويفتخر بأنه ضحك على فلانة وعلانة ويفضحهن.
بل إنني أعرف بعض الفتيات إذا مناها الرجل بالزواج، وأنه سوف يخطبها، أصبحت حريصة على ألاَّ تسخطه بأي حال من الأحوال، لأنه لو سخط عليها ما تقبل منها شيئاً، وربما رفض الخطبة التي وعدها بها، فإذا طلب منها شيئاً وافقت من أجل ألا يسخط، ولو غضب عليها فربما لا يتقدم.
فليرض حتى لو تطلب رضاه أن تتكلم معه بكلام بذيء مثلاً، أو تسترسل معه، أو تمازحه، أو تضاحكه، أو ربما تقابله، أو تكتب له رسائل، أو ما أشبه ذلك.
والواقع أن أي شاب خاصة بمجتمعاتنا يجد أن الفتاة تتصل به، ولا يقبل أن يتزوج بها؛ لأنه واضع في اعتباره أنه لو تزوج بها فسوف تتصل بغيره، وأن التي قبلت أن تحدثه -وهي لا تعرفه إلا من خلال أسلاك الهاتف- قد تقبل أن تتحدث مع غيره، وأن التي استطاع هو أن يخدعها قد يوجد من هو أذكى منه، فيخدعها بعد زواجه منها، ولذلك لن يقبل بها، ولو فرض جدلاً وأنه تزوج بها، فهذا الزواج سوف يكون تعيساً، وميصره إلى الفشل لماذا؟ لأنه سوف يظل يشك فيها وكلما رآها تكلم ولو كانت تكلم أمها، قال: يمكن أنها تكلم واحداً، ولما حضرت قلبت المكالمة أو ما أشبه ذلك، وإذا خرج ظن بها، حتى لو كانت تائبة نقية تقية صائمة فإنه يظل يعيرها ليل نهار: تذكرين يوم كذا، وتذكرين كذا وكذا، فتكون هذه مسماراً في نعش الحياة الزوجية، كل ذلك بسبب عواطف عند هذه الفتاة، ما عرفت كيف تصرفها.
اصرفي عاطفتك في محبة الله، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبة الخير وأهله، ومحبة الأعمال الصالحة، ومحبة الإحسان للناس، ولهذا انظري إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} فكل هذه الأشياء الثلاثة مربوطة بقضية العاطفة، محبة الله والرسول، محبة الإسلام، محبة الناس من أجل الدين، محبةً أخويةً دينيةً شرعيةً أخويةً، تحبين فلانة لأنها دينة صينة قائمة عابدة داعية، وليس محبتك لها لأنها امرأة جميلة الشكل أو خفيفة الدم أو ظريفة أو ما أشبه ذلك.
لا! إنما هي محبة دينية شرعية لله تعالى وفي الله، ومحبة بحدودة بحدود الشرع، فمحبة الناس لها خانة في القلب، يجب ألا تزيد عنها ولا تتعداها، فالمقصود أن هذه الأشياء الثلاثة التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم كلها تتعلق بالعواطف وبمحبة القلوب.(163/10)
العاطفة الإيحابية
هذه العاطفة عند المرأة ممكن أن تكون إيجابية، وذلك لأن المرأة -مثلاً- سترتبط في البيت مع والديها ومع إخوانها وأخواتها وهؤلاء يحتاجون إلى عاطفة، يحتاجون إلى امرأة سمحة متسامحة متعاونة لينة لطيفة سهلة معهم، بعد ذلك سوف تنتقل إلى بيت الزوجية وعش الزوجية، فالزوج ماذا ينتظر من المرأة؟ ينتظر عواطف، فهو عنده عقل، لكن يريد عاطفة تكمله، كذلك المرأة تكمل الرجل، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] الرجل أصلاً خلقت منه المرأة، خلقت من ضلعه، كما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال في الصحيحين: {إن المرأة خلقت من ضلع} أي: من ضلع آدم، فالمرأة مخلوقة من الرجل.
ولذلك فالرجل يحن إلى المرأة، والمرأة تحن إلى الرجل، فهي جزء منه تكمله وهو يكملها أيضاً، فلذلك الرجل عنده عقل يحن إلى عواطف، يريد عاطفة، يريد مثلاً من يملأ عليه حياته، وإذا أوى إلى البيت يخفف عنه الأعباء والمشاكل والهموم التي نزلت به، ووجد الراحة في المنزل مثلاً، فهذه المرأة إذا انتقلت إلى بيت زوجها، أمطرت هذه العواطف في بيتها، وأسعدت زوجها وآنسته، وجعلته ينسى كل همومه، وتجعل عواطفها لأولادها، فصارت تهتم بأولادها، وتعتني بهم وتضمهم وتقبلهم وتحرص عليهم وتضاحكهم وتدللهم، ولا أعني بالدلال الدلال غير المناسب تربوياً، المهم أن تعطيهم عواطف، بحيث ينشأ الطفل نشأة سليمة؛ لأنه وجد الجو والمحضن المناسب، فتكون مناسبة له حينئذٍ، وهكذا يظل المجتمع سليماً.(163/11)
حب الكلام بين السلب والإيجاب
خذي مثالاً آخر: على قضية الطبيعة، وكيف تعرف المرأة طبيعتها، وكيف تتعامل معها: قضية حب الكلام طبيعة ليس عند المرأة فقط، بل عند الإنسان، والإنسان يتميز عن الحيوان بأنه متكلم، ولذلك أهل المنطق يقولون: الإنسان حيوان ناطق، ويسمون الحيوان بالأعجم، لأنه لا يتكلم، فمن ميزة الإنسان أنه متكلم متحدث، له لسان، وامتن الله تعالىعليه بقوله: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1-4] والآية الأخرى يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8-9] .
إذاً: الكلام ميزة امتن الله بها على الإنسان، والمرأة يمكن أن تكون أكثر من الرجل محبةً للكلام، ربما يسميها البعض أحياناً: الثرثرة، لكن لا نوافق على كلمة الثرثرة؛ لأن مجرد حب الكلام ليس بعيب في الواقع، لأن الكلام بعضه حسن وجيد، وبعضه قبيح.(163/12)
الكلام المذموم
لكن إن كان حب الحديث وحب الكلام مصروفاً في أمور أخرى؛ في القيل والقال والنيل من أعراض الناس به في المجالس والتحدث والاسترسال والغيبة والنميمة وما أشبه ذلك، فلا شك أن هذا من الكلام المذموم الذي يكرهه الله تعالى ويبغضه، وبما لا تجد المرأة ما تشتغل به من الخير، لأن الإنسان كما يقال: لا يترك شيئاً إلا بشيء، فطبيعة الإنسان إذا لم تشغل نفسك بالخير شغلتك النفس بالشر، فاللسان مخلوق كي يتحرك، ما خلق للسكوت، مخلوق للكلام، والإنسان قد يسكت بذكر الله والتفكر فيؤجر، وقد يتكلم بذكر الله فيؤجر أيضاً، فاللسان يتحرك، فإذا لم يتحرك في الخير تحرك في الشر، وما أسهل أن تتكلم الفتاة بالخير حتى وهي ذاهبة أو آيبة أو تشتغل بعمل منزلها أو تركب أو تأتي أو تذهب، تقول: سبحان الله، ولا إله إلا الله، والحمد لله، والله أكبر، أستغفر الله وأتوب إليه، رب اغفر لي، وما أشبه ذلك.
فتؤجر أو تقرأ شيئاً من القرآن فتؤجر، مع أنه ما عاقها عن عمل، وربما إذا لم تشتغل بهذا شغلتها نفسها بالكلام فيما لا يفيد، لا أقول: بالكلام فيما لا يفيد فقط، بل ربما شغلتها نفسها بالكلام فيما يضر، وفيما يكون عليها، لأن الكلام ثلاثة أنواع هناك كلام يكتبه ملك الحسنات لكِ تؤجرين عليه، وهناك كلام يكتبه عليكِ مثل الغيبة والنميمة والسب والشتم ورفع الصوت والإيذاء والسخرية والكلام الذي يضر الإنسان، فهذا على الإنسان ويحاسب عليه، والنوع الثالث من الكلام: كلام ليس للإنسان وليس عليه، مثل قوله للإنسان: فعلت وأكلت وشربت وما أشبه ذلك من الكلام المباح الذي يكتبه الملك، ثم بعد ذلك يمسح وليس هناك شيء لا يكتب، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .
إذاً: من طبيعة المرأة حب الكلام، لكن حب الكلام ليس عيباً، لأنه قد يكون كلاماً مفيداً، فتؤجر عليه المرأة، وقد يكون كلاماً ضاراً، فتأثم عليه.(163/13)
الكلام المحمود الممدوح
فمثلاً من الكلام المحمود: لا إله إلا الله التي هي مفتاح الجنة، ولا يدخل العبد الجنة إلا إذا كان معه بطاقة مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذا من الكلام، ومن الكلام بل أفضل الكلام: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أفضل الكلام أربع، لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والجنة قيعان غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر} {سبحان الله وبحمده من قالها حين يصبح مائة مرة لم ياتي أحد يوم القيامة بما جاء به} .
هذا كله كلام، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلام، الدعوة إلى الله كلام، الإحسان إلى الناس كلام، كيف أصبحت يا فلانة؟ وكيف أمسيت وكيف الأحوال؟ وعساك مرتاحة؟ هذا كلام، ولكنه محمود يحبه الله ويرضاه، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الكلمة الطيبة صدقة} كونكِ تتكلمين بكلمة طيبة: إما أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو دعوة، أو إصلاح، أو تطييب خاطر مسلمة، أو سؤال عن حالها، أو أي أمر من الأمور التي فيها خير، أو حتى تعليم المرأة بشيء تحتاجه في دنياها، مثل كونك علمت امرأة كيف تقوم بأمور بيتها، وكيف تربي أولادها، وكيف تخدم زوجها، وكيف تستقبل زوجها، وكيف تعيش حياتها، وكيف تحل مشكلاتها، كيف تعلم، كيف تخيط، كيف تطبخ، كيف كيف، علمتها حتى الأمور الدنيوية، هذا كله صدقات، فإذا لم يكن عندك مال تتصدقين به فتصدقي بهذا الكلام تؤجرين عليه.
إذاً: الكلام في حد ذاته ليس مذموماً، وكوننا نقول: إن المرأة تحب الكلام وأنها كثيرة الكلام هو ليس عيباً، لأن الكلام محمود بعضه، فإذا كان كلامها في هذا المحمود فهذا شيء تشكر عليه، وتمدح عليه، وتثاب عليه في الآخرة.(163/14)
حب التميز بين السلب والإيجاب
أخيراً: من طبيعة المرأة حب التميز عن الأخريات تحب أن تتميز بشيء، وتنفرد عن النساء بشيء، فهذا هو حب التميز ويتبعه حب المدح وحب الثناء، وليس بعيب، حتى الرجل وكل إنسان يحب أن يمدح بالخير، لكن هناك فرق بين إنسان قد يعمل الخير، وقد يشتغل بالأعمال الصالحة من أجل أن يمدح، فهذا - والعياذ بالله - ليس له في الآخرة إلا المدح، يقال له في الآخرة: قد جاءك الجزاء في الدنيا، مدحك الناس، فهذا جزاؤك، وليس له في الآخرة من خلاق قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] وبين إنسان آخر قصده الخير، ويعمل لوجه الله وابتغاء مرضاته، ويريد الجنة، ويريد الهرب من الناس، لكن مع ذلك يأتيه المدح من الناس على أعماله الصالحة، فيفرح ويسر بذلك، وقد سأل أبو ذر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يعمل العمل فيمدح به فيفرح بذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم {يا أبا ذر تلك عاجل بشرى المؤمن} أي: أن هذه بشارة عاجلة، هذا خير مقدم، ولك عند الله خير وأعظم وأوفر.
إن الناس مدحوك في الدنيا على عمل ما عملته من أجلهم، إنما عملته لله، ولكن الناس عرفوه.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم عرفك الناس فمدحوك به، فهذا خير، ومن طبيعة الإنسان أن يفرح بذلك ويسر به، فالفتاة تحب التميز، وهذا التميز والتفرد منه ما يمكن أن يكون طيباً، ومنه يكون غير طيب، ومنه حسن، ومنه ما هو غير حسن.(163/15)
حب التميز السلبي
لكن كون الفتاة تحب أن تلفت النظر إليها بأي شكل، مثلاً بثيابها، تلفت النظر إليها بزينتها، تلفت النظر إليها بتسريحتها، بأي شئ ربما تقصد أنها تلبس ثوباً مثيراً للسخرية أو تعمل تسريحة للشعر أو قصة للشعر مثيرة للاشمئزاز أو تفعل ألواناً من المكياج والأصباغ مثيرة للضحك، وهي تعرف هذا، ولكن تقول: ما همي هذا، المهم أن ينظر الناس إليها ويذكرها الناس، فتكون والعياذ بالله مثل الشيطان يحب أن يذكر، ويهمه ذلك ولو باللعنة، فهذا نوع من التميز الذي تذم به المرأة كما يذم به الفتى، كما أن بعض الشباب -مثلاً- يحب أن يلفت أنظار الناس إليه بأن يقلد المرأة في ثيابه وفي وجهه وفي الأصباغ التي يعملها، حتى قد يعمل المكياج، ويعمل تسريحة للشعر، وقد يهتم بمشيته، وكأنه فتاة، ويعمل بما يسمى بالتفحيط بالسيارة مثلاً أو أي حركات يقصد من ورائها أن يلفت النظر ولو بسوء.
كذلك قد تجدين فتاة أحياناً تحب أن تلفت النظر إليها من خلال التشبه بالرجل، حتى قد تغير اسمها وتحرف اسمها، إذا كان قريباً من اسم رجل، حتى يكون كأنه اسم رجل، وحتى في كلامها تحاول أن تخشنه أحياناً، وتلك كلها ألوان من لعب الشيطان ببني آدم من الرجال والنساء لا تنتهي، نسأل الله لنا ولكن الوقاية من كيد الشيطان.
إذاً: فالتميز قد يكون طيباً كالتميز بالخير والبر، وبالأعمال الصالحة، وكونها متقدمة في دراستها، في علمها، في عقلها، في دعوتها.
ومن الممكن أن يكون الأمر بضد ذلك، فتكون متميزة بأنها لبست ثوباً مضحكاً، أو ما أشبه ذلك أو متميزة بتسريحة مثيرة، أو متميزة بأعمال أو بتصرفات تلفت نظر الآخرين إليها، وهذه تدل على عقدة نفسية أو شعور بالنقص عند هذه الفتاة أحبت أن تلفت النظر إليها بأي شكل من الأشكال.(163/16)
حب التميز الإيجابي
فإذا كان تميزها في الحرص على أن تكون متقدمة في دراستها، ومتقدمة في برها لوالديها، ومتقدمة في دعوتها إلى الله، ومتقدمة في حفظ القرآن، فتاة إذا تكلمت مع الناس تكلمت بعقل ووعي وثقافة ومعرفة، وعندها خبرة بأمورها، وعندها خبرة بأحوال المسلمين، وعندها خير، تحفظ القرآن، وتحفظ الحديث، وتحفظ الأشعار، وتحفظ القصص، وتحفظ أشياء مفيدة حتى تتميز هذا شيء جيد دل على أنها امرأة فيها عقل، وفيها خلق، وفيها معرفة، تميزت عن الناس بهذا، هذا محمود.
أو تميزت عنهم -أيضاً- مثلاً باهتمامها بأمورها التي تحتاج إليها في دنياها.(163/17)
الوسطية عند المرأة
نصل إلى أن المطلوب في النهاية من الفتاة هو الاعتدال في اهتماماتها بلا إفراط ولا تفريط.
فمثلاً الجمال: يجب أن يكون معتدلاً فلا تتبذل؛ لأن التبذل مذموم، فكون الثياب قديمة وغير نظيفة، ويمكن أن يمر شهر على الثوب مثلاً أو الشعر مشوش وكأنه شعر شيطان، والرسول صلى الله عليه وسلم {جاءه رجل -وما هو بامرأة كما في سنن أبي داود وغيره- وكان أشعث الرأس، فقال له: من أي المال آتاك الله؟ قال: من كل المال، من الإبل والبقر والغنم وغير ذلك، قال: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، -فإذا آتاك الله مالاً، فلير آثار نعمته عليك- فذهب الرجل ولبس أحسن الثياب وسرح شعره واهتم بمظهره وتطيب، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أحسن من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس كأنه شيطان} فالاهتمام مثلاً بالجمال يكون معتدلاً.
العاطفة موجودة، لكن تكملها المرأة بالعلم والمعرفة والثقافة، وتصرف العاطفة في مصرفها الطبيعي، حب الاستطلاع كذلك.
كثرة الحديث تكون في مرضاة الله تعالى.
التميز يكون في الأمور الخيرة المفيدة النافعة.(163/18)
الأسئلة
.(163/19)
قراءة القرآن للتسلية
السؤال
بعض النساء تحتج بعدم قراءة القرآن بأنها تقرأ فقط للتسلية، أي تكون متضايقة أو لتقضي وقت فراغها، وهي تقول: أنها لا تقرأ القرآن إلا لتنتفع به، ولذلك لا تحرص على قراءة القرآن حتى لا تقوم الحجة عليها؟
الجواب
الحجة قائمة عليها ما دامت عارفة أن هناك قرآن قد نزله رب العالمين، وأنها تستطيع قراءته، فلذلك قراءتها خيرٌ لها، ففي قراءة القرآن لأنه لها بكل حرف عشر حسنات، (الم) ليست حرفاً، وإنما ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، فمن يفرط في هذا الأجر؟! نسأل الله ألا يجعلنا وإياكم من المحرومين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(163/20)
لبس الكعب العالي
السؤال
ما حكم الكعب العالي؟
الجواب
لا ينبغي للمرأة أن تلبس كعباً عالياً أكثر من المعتاد؛ لأنه يظهرها طويلة أكبر من قامتها الطبيعية، وصحياً يضر بها، وهو من تشبه المرأة بما لم يعطها الله سبحانه وتعالى.(163/21)
ثياب البنت الصغيرة
السؤال
بعض الناس يقومون بتلبيس بناتهم الصغيرة ثياباً قصاراً، وعندما ننصحهم يقولون: عندما تكبر ستكون مثلنا تلبس ثوباً طويلاً؟
الجواب
تختلف الصغيرة؛ إذا كانت عمرها ثمان أو تسع سنوات، وشبابها قوي، فهذه امرأة أحياناً، وإلباسها القصير فتنة لها ولغيرها، أما إذا كانت صبية صغيرة عمرها ثلاث سنوات أو أربع، وشبابها عادي، فهذه إذا لبست الطويل فلا حرج، وإذا لبست القصير فلا يمكن أن ننكر على أهلها ذلك.(163/22)
المداومة على السنن
السؤال
هل يعاقب من كان قد داوم على صلاة الوتر وتركها؟
الجواب
لا يعاقب على ذلك لأنها سنة، لكنها سنة مؤكدة، فينبغي أن يحرص الإنسان على أدائها، وإن فاتته قضاها.(163/23)
العدسات اللاصقة
السؤال
ما حكم لبس العدسات اللاصقة التي تكون مخالفة للون العين الطبيعي؟
الجواب
بعض الفتيات تلبس العدسات بقصد التجميل، وهذا أرى ألا تفعله لأنه ضار، حتى العدسة اللاصقة التي تستخدم طبياً ضارة كما ذكره جمعٌ من المختصين، حتى إذا لبستها بقصد تحسين النظر، فكيف إذا كانت لبستها بقصد تغيير لون العين؟!(163/24)
تكحيل المرأة حاجبها
السؤال
ما حكم تكحيل الحاجب؟
الجواب
لا أرى مانعاً من وضع كحل على الحاجب بقصد الجمال خاصة إذا كان الجمال للزوج، فينبغي للزوجة أن تهتم بجمالها لزوجها.(163/25)
لبس الثوب الذي فيه صليب
السؤال
اشتريت ثوباً وبعد مدة اكتشف أن فيه خطوطاً كثيرة من بينها علامة الصليب، فهل يجوز خياطة الثوب ولبسه؟
الجواب
ما دام الصليب بحاله، فلا يجوز لبس هذا الثوب ولا الصلاة فيه.(163/26)
حكم التسمي بأسماء ورد ذكرها في القرآن الكريم
السؤال
هل هناك إثم في الأسماء التي ورد ذكرها في القرآن الكريم مثل أفنان ورغد وأبرار وتسنيم؟
الجواب
لا حرج في هذا.(163/27)
حكم الرقص
السؤال
ما حكم الرقص على الأناشيد الإسلامية؟
الجواب
الرقص إذا كان في الزواج وبطريقة معتدلة ليس فيها فتنة، وليس فيها مبالغة في التثني والتكسر وإظهار المفاتن والمحاسن، ومأمون أنه ليس هناك رجال ينظرون ولا هناك تصوير ولا شيء من ذلك، بل في مجتمع نسائي مصون محفوظ بهذه القيود، فهذا والله أعلم جائز، لكن متى تستطيع الفتاة أن تطمئن على هذا؟ في بعض الأحيان يصور دون علمها، وفي بعض الأحيان بعض الفتيات تبالغ في الرقص حتى تكون فتنة للنساء الأخريات.(163/28)
مقولة: ما صدقت على الله
السؤال
ما حكم قول: ما صدقت على الله؟
الجواب
ما فيها حرج، فمعناها: ما كدت أصدق أو أتوقع أن الأمر يقع.(163/29)
قول القائل: أنا حر
السؤال
بعض الناس يقولون: أنا حر، فما الحكم؟
الجواب
يقصد أنه حر فيما أحله الله، أما فيما حرمه الله فليس أحد حراً في ذلك.(163/30)
لبس القفازين في الصلاة
السؤال
ما حكم لبس القفازين في الصلاة؟
الجواب
لبس القفازين في الصلاة وغيرها جائز, ويستحب للمرأة أن تغطي كفيها وقدميها في الصلاة.(163/31)
استخدام الدف
السؤال
ما حكم استعمال الدف في المناسبات؟
الجواب
استعمال الدف في المناسبات جائز، تستعمله النساء فقط دون الرجال.(163/32)
السترة للمصلي
السؤال
ما حكم المرور أمام المصلين؟ وهل حد السجاد ستر وحاجز؟
الجواب
لا يجوز للمرأة المرور أمام المصلي، وينبغي أن تضع المرأة بين يديها إذا صلت شيئاً مرتفعاً يكون شبراً أو أكثر.(163/33)
لبس القفازين للمرأة
السؤال
بعض الناس يقولون: إن لبس القفازين يبين تقاسيم اليد والرجل، فما رأيكم؟
الجواب
إذا لبست المرأة قفازين فهو جيد، وقد جاء في الحديث: {لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين} فدل على أن لبس القفازين كان معروفاً عند المسلمين الأولين، فإن لبستها فهذا شيء طيب، وإن لم تلبسهما غطت يديها بثوبها أو بعباءتها، أو ما أشبه ذلك.(163/34)
كثرة القراءة
السؤال
والدتي تمنعني من القراءة، وهي هوايتي المفضلة، وتمنعني لأنها تضر بعيني كثيراً، ثم أنا أتركها، لكن لا أزال أقرأ، فيصيبني بعض التعب الكبير في عيني، فهل إذا أصاب عيني مكروه أكون معاقبة عليه؟
الجواب
لا! القراءة مفيدة، لكن تكون بقدر، وحاولي أن تقرئي قراءة صحية كما يقال، تكون الإضاءة معتدلة وقريبة، وتقرئين بقدر معقول، وإذا كانت القراءة تضر بعينيك، فيكن أن تضعي نوعاً من المرايا التي تستخدم في القراءة وتحمي العين بإذن الله تعالى.(163/35)
حكاية الطرائف
السؤال
ما حكم الطرائف إذا كانت كذباً، لكن من حولي يعلمون أنها كذب؟
الجواب
إذا لم يكن في الطرفة نيل من أحد أو سخرية من أحد، وليس فيها تعرض لأمور الدين فلا بأس بها، خاصة إذا لم تكن كثيرة، وقد تكلمت عن هذا في محاضرة النكت والطرائف.(163/36)
المخالطة من أجل الدعوة
السؤال
لديّ صديقات غير ملتزمات كيف أتعامل معهن، هل أنصرف عنهن، أم أخالطهن وأنا أخشى أن أتأثر بهن؟
الجواب
إذا كنتِ على مستوى التأثر فيهن، فأنصحكِ بالاستمرار معهن، ودعوتهن إلى الله، زوديهن بالكتب المفيدة، وخاصة الكتيبات الصغيرة المتعلقة بالمرأة، والأشرطة النافعة، وجريهن جراً إلى المجالات الخيرية، والدروس والمحاضرات والمجتمعات الطيبة، وحاولي أن يكون لكِ صديقات طيبات، حتى لا تتأثري بهؤلاء الصديقات غير الملتزمات.(163/37)
زكاة الحلي
السؤال
أنا أرغب أن أزكي على الذهب الخاص بي وزوجي يرفض محتجاً بفتوى بعض العلماء، فماذا يجب عليَّ تجاه هذا الاعتراض من قبله؟
الجواب
لا بأس أن تزكي ذهبكِ، ولا يشترط إذن زوجك بتزكية الذهب، زكيه بطريقتكِ الخاصة.(163/38)
حكم الأناشيدالإسلامية
السؤال
ما حكم استعمال الأناشيد الإسلامية؟
الجواب
لا بأس، ولكن بعض الأناشيد الإسلامية صراحةً فيها تغنٍ مفرط وأصوات جميلة جداً، وعلى ما يشبه الأوزان الموسيقية، وقد أسمعني بعض الشباب هذه الأناشيد، فخشيت منها على نفوس النساء، لأنها تكسر قلب المرأة وتؤثر فيها، ولذلك تسمع منها بقدر، وإذا شعرت المرأة أن هناك خطراً على قلبها فلا تستمع إلى هذه الأناشيد، وتكتفي بكلام الله سبحانه وتعالى، وبالأمور المفيدة النافعة.(163/39)
قص شعر المرأة من الأمام
السؤال
ما حكم قص الشعر من الأمام؟
الجواب
لا بأس، يجوز أن تقص المرأة شعرها، شريطة ألا يكون القص قصاً شديداً، بحيث يشبه شعر الرجل، فتبالغ في قصه وتنهكه، حتى لا يبقى منه إلا شيء يسير جداً، أما إذا قصته بغير هذه الطريقة، وخاصةً إذا كان تجملاً لزوجها، فلا حرج.
لكني أحذر من شيء بمناسبة قصة الشعر أو ما يسمى بالموضات، فعندنا طرفان ووسط، بعض الفتيات كل همها الموضة والتسريحة، كل يوم وهي في موضة جديدة وتسريحة جديدة، وعندها أكوام من مجلات الأزياء والبودرة والتسريحات، وكلما ظهرت تسريحة جديدة عملت بها، وكل يوم قد تصبغ شعرها اليوم بصفة وغداً ترغب في تغييرها وهكذا، بحيث -كما قلت أثناء الكلام باختصار- كل همها منصب على الموضات والتسريحات والشكل وكل جديد، وهذا لا شك ضياع للعمر في غير طائل واهتمام بالشكل على حساب المضمون وعلى حساب الأخلاق، والدين والوقت، ما أعطانا الله الوقت حتى نستغله بهذه الطريقة وبهذا الشكل، إنما أعطانا الله الوقت حتى نستخدمه فيما ينفع ويفيد ديناً ودنيا، والمطلوب من الجمال قدرٌ معتدل.
فأنا أحذر الفتيات من المبالغة والإسراف في متابعة الموضة والتسريحات والقصات وغير ذلك، وهذا طرف.
الطرف الآخر: هناك بعض الفتيات المتدينات صار كل همها محاربة الموضات والتسريحات والقصات، وكلما جاءت تسريحة جديدة أو موضة جديدة ركزن عليها، وقلن بتحريمها، وأن هذا تشبه بالغرب، وأن هذا لا يجوز، وصارت هي الهم الأكبر، وصار هم كل النساء الموضة أهي حلال أم حرام، والتسريحة أهي حلال أم حرام.
أين تعليم النساء أمور دينهن؟ وأين تصحيح عقائد النساء؟ وأين تربية النساء؟ وأين تثقيف النساء؟ وأين دعوتهن إلى قراءة الكتب المفيدة وسماع الأشرطة المفيدة، وطلب العلم، والاستفادة، وتربية الأولاد إلخ؟! صار كل الهم هو الموضة، هذه تفعل التسريحة، وهذه تحارب التسريحة، والمفروض أن ندعو الناس إلى أكبر من هذا، وفي نفس الوقت نحذر النساء من الاستغراق، أما أن نتصدى لكل جديد، ونقول: وهذا حرام، وهذا لا يجوز، ثم إذا انتشر بيننا سكتنا عنه، فهذه مشكلة، إنما نحن نحذر من استغراق النساء -وخاصة الفتيات- في التقليد وفي متابعة الموضات والأزياء والتسريحات والأنماط الجديدة، التي تأتي غالباً من دور الأزياء في الغرب بقصد شغل المسلمات وإغراقهن؛ على أنه ينبغي أن تعرفن أيتها الأخوات أن الأمم الغربية الكافرة لا يرضون لنسائهم بهذا، وإن كان هناك مجموعة كبيرة من نسائهم بهذا كذلك؛ لكن تجدين نساءهم في أرقى المستويات في التعليم، وفي العلم، وفي التقدم، وفي الصناعة، بل وكثير منهن من يكن في الجيش عاملات، وفي الشرطة، وفي غيرها.
أنا لا أدعو المسلمات إلى هذا نحن لا نسمح لفلذات أكبادنا، ولا نسمح لبناتنا، ولا نسمح لأخواتنا، ولا نسمح لقريباتنا، وهن عندنا درر مصونات محفوظات، لا نسمح للأعين النهمة، والذئاب الجائعة أن تنظر إليها، ولذلك لن نسمح لها أن تكون في مصنع تدمر أنوثتها، وتضيع في عمره الدخان مثلاً، ولا أن تكون في وسط جيش بزعم أنها تقاتل، وهي ترفه عن الجنود بما حرم الله، ولن يكون هذا بإذن الله تعالى في البلاد الإسلامية، ولكنني أقول: إن هؤلاء الغرب الذين يصدرون إلينا هذه الموضات والتسريحات ويشغلوننا بها، جعلوا نساءهم يخدمن أوطانهم ويخدمن أديانهم الكافرة في أرقى المجالات، ويريدون أن يشغلوا نساءنا عن وظيفتهن الأساسية من القيام على البيت والاشتغال بالتربية وإذا دمر نصفه ماذا بقي منه.(163/40)
مشكلة خيالية عند بعض النساء
السؤال
كثير من البنات تعتقد أن فيها نفساً (عيناً) ، تحول بينها وبين الخير والعمل الصالح، وهي مشكلة كبيرة؟
الجواب
من خلال أسئلة بعض النساء تبين لي أن أكثر النساء أمراضهن تتراوح بين ثلاثة أمور: إما فيها نفس.
وإما جن.
وإما سحر.
وهذا كلام فارغ ما الدليل أن عندكِ نفساً أو سحراً أو جناً؟ نحن نؤمن بأن الجن موجودون، وأن الجن يمكن أن تتدخل في ابن آدم، وأن السحر أيضاً يقع، وأن العين حق هذا حق لا شك فيه، لكن الذي لاحظته هو أن أكثر النساء لو صار بينها وبين زوجها مشكلة قالت نفس، أو سحر، أو معقود له شيء، ولو صار عندها أزمة نفسية قالت: نفس، ولو صارت عندها مشكلة في بيتها قالت: نفس، ولو مرض الولد قالت: نفس، ولا تعرف في الدنيا إلا نفس أو سحر أو جن! هذا دليل على تأخر مستوى الوعي عندنا، وأن كثيراً من النساء عقلياتهن ضعيفة، وأنا لا ألوم النساء الأميات غير المتعلمات، لأنهن في كثير من الأحيان هذه معلوماتهن، ولا يعرفن أصلاً غير هذا، ولكني ألوم الفتيات المتعلمات، وبعضهن قد تكون معلمة أو جامعية، ومع ذلك فالوحدة منهن تهرب من مواجهة المشكلة وتقول: نفس.
لابد أن تعرفي مشكلتك الحقيقية، قد يكون عندكِ ضعف إرادة، وهذا ما يمنعكِ من فعل الخير، قد يكون عندكِ معاصٍ وذنوب تثقلكِ، وقد قال بعض السلف عندما سأله سائل وقال له: ما لنا عجزنا عن قيام الليل؟ قال: قيدتكم خطاياكم! ذنب الواحد قد يحول بينه وبين الطاعة، قد يحول بينه وبين التوبة، قرينات السوء أحياناً تحول بين الفتاة وتقوى الله وطاعته، المهم أن تعرف الواحدة حقيقة المشكلة التي تعانيها، وأن حالات النفس وحالات العين وحالات الجن حالات محدودة، ودعوى فلانة أن فيها نفساً أو أن فيها عيناً أو أن فيها جناً أو أن فيها سحراً، وهذا لا يمكن أن يقال إلا من خلال أدلة، وقد تبين لي من خلال تجارب شخصية أن كثيراً من الحالات التي يقولون: إنها حالات جن وحالات سحر وحالات نفس وحالات عين ليست صحيحة، بعضها أوهام، وبعضها أمراض نفسية، وقليلٌ منها ما يكون كذلك، إما أن يكون سحراً، أو جناً، أو نفساً، لكنه قليل بالقياس إلى إدعاء النساء، خاصة مثل هذه.
وهذا يذكرني بمشكلة أخرى عند النساء أيضاً، أذكرها بالمناسبة، وهي كثرة الاهتمام بالرؤى والأحلام: (90%) من أسئلة النساء رأيت ورأيت، وتأتي بأضغاث أحلام ليس لها قيمة، ومع ذلك تكون منزعجة منها، لا تنام الليل ولا تأكل ولا تشرب، رأيت البارحة كذا وكذا، وفلان الذي مات جاء عندي، وتذكر رؤى وأحلاماً لا قيمة لها، ولو أن النساء يسألن عن أمور دينهن وعن أحكام الشرع، مثلما يسألن عن الرؤى، لأصبحن فقيهات عالمات، ولكن للأسف كثير منهن تسأل عن الرؤيا، وربما تكون عندها مجموعة من الأحلام تسأل عنها، ولم يحدث قط أنها سألت عن أمر يخصها ويتعلق بدينها، وما كل ما رآه الإنسان صحيحاً، قد يكون أضغاث أحلام، وربما يفكر في شيء فيراه في المنام، وربما يكون حديث النفس، وأمور لا يلتفت إليها، إذا استيقظ من نومه تفل عن يساره ثلاث مرات، وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا تضره.(163/41)
صيام ثلاثة أيام
السؤال
هل يجوز تفريق ثلاثة أيام في نفس الشهر؟
الجواب
نعم يجوز تفريق صيام صيام ثلاثة أيام، لأنه ورد صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فلو صامت من كل شهر في أوله وأوسطه وآخره ثلاثة أيام أدركت صيام ثلاثة أيام من كل شهر.(163/42)
كتمان العلم الذي يعلمه الإنسان
السؤال
هل كل علمٍ يعلمه الإنسان، ولم ينشره بين الناس، يلجم به بلجام من النار يوم القيامة، أم إذا سأله الإنسان عن حكم أو علم؟
الجواب
أولاً: إذا كان عند الإنسان علم وسئل عنه، وجب عليه أن يبينه، خاصةً إذا لم يكن هناك أحد حوله يستطيع أن يبين هذا العلم، والمقصود بلا شك العلم الذي يحتاج إليه من العلوم الشرعية.(163/43)
التدهور الديني لدى الشخص
السؤال
أنا في هذه السنة تدهور ديني على الرغم مني، وعندما أحاول مكافحة ذلك يمنعني مانع مثل مانع روحاني؟
الجواب
هذا ليس صحياً: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:19] والله سبحانه وتعالى أمر الإنسان ونهاه، فقال سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] وقال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وقال سبحانه أيضاً: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14-15] فيستطيع الإنسان أن يسلك طريق الخير أو طريق الشر: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] وليس هناك قوة تفرض على الإنسان هذا الطريق أو ذاك أبداً.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى الإنسان كائناً قابلاً للخير والشر وللهدى والضلال، فما حصل من تدهور ليس غصباً عنك، وإنما هو باختياركِ؛ وإنما الأمر كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:14] فكري! البداية من عندكِ، يمكن أن تكون بداية بسيطة لم تتوقعي أن تصل إلى هذا الحد، ولكنها تطورت وتطورت حتى صارت القضية تدهوراً مثلما تقولين أنتِ في السؤال.
فعليك أن تبدئي طريق الخير والصلاح بنفس الطريقة، وتحرصي على إنقاذ نفسكِ سريعاً، لأن الإنسان إذا لم يعجل بإنقاذ نفسه فإنه يمكن أن يصل إلى الحالة التي يسمونها أحياناً الإدمان، فيكون مدمناً على شيء يصعب منه الخلاص؛ مثل المدمن على المخدرات -والعياذ بالله- يعرف أنه خطأ وجريمة وموت وهلاك في الدنيا والآخرة، ومع ذلك لا يستطيع؛ لأن هناك دافعاً قوياً وهو الإدمان، (العادة الآسرة) حتى الجسم اعتاد، حتى الدم تعود على هذه الأشياء، فكذلك المكالمات الهاتفية قد تتحول إلى إدمان، الغيبة والنميمة قد تتحول إلى إدمان، النظر قد يتحول إلى إدمان، مشاهدة التلفاز قد يتحول إلى إدمان.
وقد تكون القضية بداية بسيطة.(163/44)
حضور ولائم العرس
السؤال
حكم حضور الولائم إذا كان يتوقع حصول منكر؟
الجواب
إذا كانت الوليمة لناس أقارب، مثل زواج الأخ وزواج الأخت أو زواج أخت الزوج أو ما أشبه ذلك مثلاً، فتحضر المرأة ما لم تعلم أن هناك منكراً، فإذا علمت أن هناك منكراً لا يمكن إزالته لا تحضر، أما إذا لم تعلم فإنها تحضر؛ فإن رأت منكراً، فإنها تعمل على تغييره بقدر المستطاع، فإن لم تستطع فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.(163/45)
الالتزام بالدين والاستمرار عليه
السؤال
أنا فتاة التزمت -والحمد لله- ولكنني أخشى ألا أستمر على ذلك، فبماذا تنصحونني؟
الجواب
المهم هو الاستمرار، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان من دعائه: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك} والله تعالى يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] .
فلذلك أنصح الأخت الذي هداها الله تعالى والتزمت بالخير في هذه الدار أن تحرص على أن تربط نفسها بمجموعة من الفتيات الطيبات، إن أمكن في المدرسة التي تدرس فيها فبها، فإن لم يكن في المدرسة نشاط كافٍ فعلى الأقل أن تتصل بصديقاتها في هذه الدار التي تعرفت عليهن من أخواتها في الله، تظل على صلة بهن؛ من خلال اتصالات هاتفية، ومن خلال زيارات، ومن خلال تبادل بعض الكتب وبعض الأشرطة، ومن خلال حضور المحاضرات والدروس التي تقام في هذا البلد، ومنها بعض المحاضرات الخاصة بالنساء، كالمحاضرة التي تقام في معهد الخياطة بشكل دوري؛ ومن خلال حضورها سوف تلتقي بالأخوات الطيبات فيكن قدوة حسنة لهن، كذلك تحرص على سماع الأشرطة وقراءة القرآن والكتب، ودوام الصلة بالله سبحانه وتعالى في الصلاة وقراءة القرآن والذكر والاستغفار.(163/46)
حقيقة الحب في الله
السؤال
حقيقة الحب في الله، وهل هو الإعجاب فقط أم لا بد أن يكون معه حب في القلب؟
الجواب
الحب مكانه في القلب، وليس الحب مجرد الإعجاب، وإن كان الإعجاب من مظاهر الحب؛ لأنه يدل على الارتياح إلى ما عليها هذه المرأة؛ فإذا وجدتِ امرأة دينة وأعجبتِ بها، كان هذا دليلاً على أنكِ تحبين الخير وأهله، ولذلك أعجبتِ بها، لكن لا يكفي هذا، بل لابد أنه يكون في القلب خفقٌ إليها وارتياح ونوع من الحب والود تكون بقدر المعقول كما أسلفت في الكلمة باختصار.(163/47)
كيفية مواجهة المستهزئين بالداعية
السؤال
عندما آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر أواجه الاستهزاء، فماذا أقول لمن استهزأ بي؟
الجواب
قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] هذا هو الذي يجب أن يقال، ولذلك من الخطأ -يا أخوات- أن الواحدة أحياناً تنتصر لنفسها، فإذا أمرت بمعروف أو نهت عن منكر فجاءها رد سيئ، غضبت وزمجرت وانتصرت لنفسها، وهذا خطأ فينبغي إذا جاءها رد سيء أو قاسٍ أن تتعلم الحلم لهؤلاء النسوة، وأن تتدرب على الحلم كيف تتعلمين الحلم والصبر؟ وإن والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من يتصبر يصبره الله} والحديث في البخاري، ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر وهو صحيح: {إنما الحلم بالتحلم} فقد يكون الإنسان سريع الغضب لكنه تعلم الحلم والصبر حتى زال عنه الغضب، كيف تتعلمين الحلم؟ مثلاً امرأة تخطئ عليكِ وتتكلم عليكِ فتعودين نفسك أن تمسكي عواطفكِ وألا تردي عليها، بل تتبسمين لها وتقولين: جزاك الله خيراً غفر الله لي ولكِ، وما أشبه ذلك من الكلمات الطيبة، فإذا عودت نفسك على ذلك، كان هذا من المقامات العظيمة التي يحبها الله سبحانه وتعالى ويأجر عليها.(163/48)
قاعدة في الأمر والنهي
السؤال
تقول السائلة: أنا أحب أن أكون داعية إلى الله، ولكني أحياناً أقصر في ذلك خوفاً أن أكون غير مطبقة لما أدعو إليه مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيام الليل؟
الجواب
الإنسان إذا أراد أن يدعو يحرص على أن يطبق ما يدعو إليه، لأن هذه طريقة الأنبياء كما قال شعيب عليه السلام {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] ؛ لأن الناس إذا رأوا الإنسان يعمل بما يدعو إليه، قالوا: صدق فلان، والدليل على صدقه: أنه هو أول المطبقين لما يدعو إليه، لكن إذا رأوه يدعو إلى شيء ويخالفه، ماذا يقولون؟ إما أن يقولوا: إنه غير صادق فيما دعا إليه، ولذلك لم يطبق، أو يقولوا: إن ما يدعو إليه ليس حقاً، ولو كان حقاً لكان هو أول الناس امتثالاً له، وبعضهم قد يحسن الظن بهذا الإنسان فيقول: ما دعانا إليه فلان غير واجب، بدليل أنه لو كان واجباً لطبقه على نفسه، فلذلك الإنسان ينبغي أن يدعو ويعمل، ويطبق؛ لكن لو أن هناك إنساناً لم يطبق، هل نقول: لا تدعُ؟ لا، فليس من شرط الداعي أن يكون مطبقاً لما يدعو إليه؛ بل قد يدعو إلى شيء هو مقصر فيه.
أرأيتِ لو أن فتاة وقعت في معصية أياً كانت هذه المعصية، فجاءت إلى زميلتها، وقالت: انظري يا فلانة! أنا أحذركِ من هذا الشيء! احذري لا تقتربي، فتقول: أنتِ فعلت ذلك؟ فتقول: نعم، أنا تورطت في هذا الأمر، وأنا أحاول أن أتخلص منه، وقد عجزت وأحاول وأدعو الله، لكن أنتِ ما دمت لم تقعي في هذا الأمر، فاحذري، فواجب عليها أن تحذرها مثلاً.
ولو لم يعظ الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمد فليس من شروط الداعي أن يكون مطبقاً لما يدعو إليه.
افرضي أنكِ ألقيت بحثاً عن قيام الليل وكان منك حث للنساء على قيام الليل، فقامت واحدة الليل، وأنتِ نائمة، أتاكِ أجر من قيامها، ولو كنتِ تتقلبين على فراشكِ، وليس شرطاً أن تكوني أنتِ قائمة لليل حتى تحثي النساء على قيام الليل، بل حثيهن واذكري لهن ما ورد في ذلك، وإن استطعت فافعلي، وإن لم تستطيعي فعلى الأقل حثي الناس على ذلك فربما يقوم الليل أحد، فيكتب لكِ مثل أجر فعله.(163/49)
غنى الخالق وفقر المخلوق
العبد فقير إلى ربه في كل طرفة عين، ومهما بلغ من القوة والنعيم فهو فقير، وفي هذا الدرس بيان لبعض جوانب الفقر في الإنسان.(164/1)
أسماء الله عز وجل
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد الذي حمل الرسالة وأداها، وجاهد في الله حق الجهاد، ولم يمت حتى أقر الله عز وجل عينه بنصرة هذا الدين، وبوجود الرجال الأكفاء الذين يحملون من بعده مشعل الحقيقة والإيمان.
أيها الإخوة! نحاول في هذه الكلمة التي أرجو أن تكون قصيرة ومفيدة، أن نلقى فيها الضوء على أنفسنا لنعرف بالضبط من نحن؟ ونلقى فيها الضوء على حقيقة العبودية التي يجب أن ندين فيها لله -جل وعلا-.
وسأحاول أثناء الإلقاء أن أوجه إليكم بعض الأسئلة رغبة في حضوركم وشد انتباهكم إلى موضوع هذه الكلمة.
وسيكون موضوع الحديث هو: (فقر الإنسان، وغنى الخالق سبحانه وتعالى) وإننا نجد الله عز وجل يخاطبنا باسم الفقراء، يسمينا الفقراء فيقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] إذاً فحتى حين يملك الإنسان الأموال الطائلة ويتقلب في النعيم، ويملك الزوجات والأولاد، بل حتى حين يتربع الإنسان على عرش الحكم فيكون ملكاً، أو امبراطوراً، أو رئيساً، أو غير ذلك، فإنه لا ينفك عنه هذا الوصف أنه من الفقراء، وقد تعلم الناس ودرسوا على أن الفقر يطلق على من لا يملك المال، وهذا معنى صحيح بلا شك كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] .
ولكن هذا المعنى هو جزء من المعنى العام لهذه الكلمة، أما الفقر الحقيقي الذي يطلق على كل إنسان ولا يمكن أن ينفك عنه، فهو فقر الإنسان وحاجته إلى الله عز وجل وبالطبع أنه لا يمكن أن ندرك نحن حقيقة الفقر الذي ركبه الله عز وجل في نفوسنا، إلا إذا قارنا بين ضعفنا وقوة خالقنا.(164/2)
معنى قوله: (من أحصاها)
وأريد أن أقف وقفة سريعة عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من أحصاها} ما المقصود: بإحصاء هذه الأسماء التسعة والتسعين؟ نقول: إن الإحصاء يشمل عدة أشياء: الأمر الأول: هو معرفتها وعدها، بأن يستطيع الإنسان أن يعرف هذه الأسماء التسعة والتسعين، فيقول مثلاً: هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، إلى أن يستغرق تسعة وتسعين اسماً، بشرط أن تكون هذه الأسماء التي عدها من الأسماء التي ثبتت بالكتاب والسنة، أما الأسماء التي يتداولها الناس أو توجد في بعض الكتب دون أن يوجد لها دليل صحيح فلا تعد.
وبالمناسبة قد يسأل البعض ما هي الكتب التي عدت وأحصت أسماء الله عز وجل وصفاته؟ فأقول: هي كثيرة جداً ولكن من أفضلها كتاب (الأسماء والصفات) للإمام البيهقي، وكتاب (التوحيد) للإمام الحافظ ابن مندة، وكتاب (شأن الدعاء) للإمام أبي سليمان الخطابي، وقد ألف عدد من العلماء مؤلفات خاصة في أسماء الله عز وجل وصفاته، كـ الزجاج، والرازي، وغيرهما.
فالأمر الأول هو أن تستطيع أن تعد الأسماء واحداً واحداً، وتحصيها إحصاء بالأسماء وبالعدد، لكن هذا بطبيعة الحال لا يكفي! فكم من إنسان يردد هذه الأسماء بكرة وعشياً، ولا نستطيع أن نقول: إنه ينال الوعد الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو دخول الجنة، فلابد أن يترتب على معرفة الأسماء معرفة معنى كل اسم منها.
الأمر الثاني: هو معرفة معنى كل اسم من هذه الأسماء.
فمثلاً: نحن قلنا: من أسماء الله: السلام، ربما لو سألنا معظم الإخوة الحاضرين ما معنى السلام؟ لم يعرف.
ما معنى المؤمن؟ أكثرنا لا يعرف، أيضاً المتكبر، ما معنى المتكبر؟ أكثرنا لا يعرف، وهكذا فالأمر الثاني: هو المراد أو مدلول كل اسم من هذه الأسماء الحسنى.
الأمر الثالث: هو الإيمان بهذه الأسماء، وعدم تأويلها أو تحريفها عن معانيها، أو تعطيل الله عز وجل عن الصفات التي تدل عليها.
الأمر الرابع: هو ثمرة هذه الأشياء كلها وهو: التأثر بهذه الأسماء، بحيث لا تكون هذه الأسماء مجرد كلمات في اللسان، أو حتى معاني في العقل، بل تتحول إلى مشاعر في القلب، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن} فمن آمن بالله وأسماء الله كان هذا الأمر خير رادع وزاجر له عن معصية الله، فكيف تعصي الله أيها الإنسان وأنت تعرف أن من أسمائه الرقيب المطلع على الأسرار والخفيات؟ وهكذا بقية الأسماء فمن آمن بهذه الأسماء وأحصاها حق إحصائها، كانت الأسماء خير رادع وزاجر له عن المعصية، والإيمان بهذه الأسماء يوجب لك معرفة عظمة الله، وكماله، واستغنائه عز وجل استغناءً كاملاً عن كل أحد، وعن كل شيء، وبالمقابل قارن نفسك، ستجد نفسك مخلوقاً ضعيفاً مفتقراً إلى الله عز وجل افتقاراً كلياً في كل لحظة، وفي كل شأن.(164/3)
أسماء الله ليست محصورة بعدد
انظروا أولاً إلى أسماء الله عز وجل وصفاته وقدروها حق قدرها، انظروا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة} ولو تأملنا هذه الأسماء التسعة والتسعين، لوجدنا أنها أسماء تدل على أن الله عز وجل متصف بكل صفات الكمال والجلال والجمال والعظمة والكبرياء والغنى، فالله عز وجل غير محتاج إلى أحد من خلقه أو إلى شيء من خلقه ألبتة.
والمقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعة وتسعين اسماً} ليس قصر أسماء الله على التسعة والتسعين، ولكن يبين صلى الله عليه وسلم أن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً ميزتها أن من أحصاها دخل الجنة، وإلا فإن لله عز وجل أسماء وصفات لا يعلمها خلقه.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك} إذاً هناك أسماء لله عز وجل استأثر الله عز وجل بها في علم الغيب عنده، فلا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فليست أسماء الله مقصورة على تسعة وتسعين اسماً، إنما هناك تسعٌ وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة.(164/4)
بيان افتقار المخلوق وضعفه
دعونا نسير مع الإنسان مرحلة مرحلة، وخطوة خطوة في مراحل حياته، ننظر إلى أنفسنا ونتأمل كل واحد منا، بل كل واحد من الخلق، حتى الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، كان الواحد منا يوماً من الأيام جنيناً في بطن أمه مفتقراً إلى كل شيء، إلى الطعام، وإلى الشراب الذي يأتيه عن طريق الأم، وإلى الهواء، إلى كل شيء، ثم يولد ضعيفاً صغيراً مفتقراً إذا هبت عليه الريح أزعجته، ومعرض للموت والفناء لأدنى سبب من الأسباب، ويظل غير قادر على أن يعيش بنفسه، ولا أن يشرب بنفسه، ولا أن يأكل بنفسه، ولا أن يقعد وهكذا.
وسبحان الله! يبدأ الإنسان يتدرج شيئاً فشيئاً، خطوات بعضها يتلو بعض، ثم يكبر، ويوماً بعد يوم حتى يصبح قادراً على القعود، ثم قادراً على الحبو، ثم على الوقوف، ثم على المشي، وما يزال يترعرع ويكبر، والذين من حوله يلاحظون تطوره شيئاً فشيئاً، ويستبشرون ويفرحون بكل مرحلة جديدة ينتقل إليها، حتى يكبر الإنسان ويبلغ مبلغ الشباب، -فيا سبحان الله! - حينئذٍ تجد هذا الإنسان قد نسي المراحل التي مر بها، وشعر بنوع من الاستغناء والكمال، وغفل عن الطفولة التي كانت مرحلة من مراحل الضعف التي مر بها، يشعر بكمال واستغناء، بل ربما يصل به الحال إلى الشعور بالكبرياء والغطرسة، ولو التفت الإنسان التفاتة سريعة إلى الوراء، وتذكر أنه كان في المهد يوماً من الأيام، وأنه كان بحالة معروفة من العجز في صغره، والحاجة الكاملة إلى غيره؛ لأدرك أنه لا يليق به وبمثله أن يتكبر، ويتغطرس، ويستعلي، بل يدرك أنه مخلوق ضعيف ومحتاج ومفتقر إلى غيره.(164/5)
الافتقار حتى في مرحلة الشباب والقوة
والإنسان في مرحلة الشباب، وهي: مرحلة القوة، كما قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54] حتى في هذه المرحلة، يجب على الإنسان أن يدرك أنه وإن كان في مرحلة قوة إلا أنه مفتقر ومحتاج إلى الله عز وجل، وذلك في عدة أشياء: الأمر الأول: الذي يجعله مفتقراً إلى الله: أن هذه المرحلة ليست دائمة، حتى لو استمرت وقطعها الإنسان ليصل إلى مرحلة الكبر والشيخوخة، ولذلك قال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم:54] .
الأمر الثاني: أن كثيراً من الناس حتى في مرحلة الشباب يقدر الله ألا يستكملوا هذه المرحلة، فيصيبهم الله عز وجل بالأمراض وغيرها من الأشياء التي تقعدهم عن العمل والحركة والنشاط؛ بل قد يتعدى ذلك إلى الوصول إلى مرحلة الموت.(164/6)
الإنسان أمام الموت ضعيف جداًًً
إذاً أيها الإنسان! مادمت مدركاً أن وراءك الموت إذا سلمت من الآفات والأمراض، والموت سر من أسرار الله عز وجل في هذا الكون لا يستطيع أحد أن يدركه أو يتخلص منه، فالصغير، والكبير، والملك، والمملوك، والذكر، والأنثى، والغني، والفقير، كلهم أمام هذا القدر يقفون مكتوفي الأيدي.
ومن حكمة الله عز وجل في إيجاد الموت في هذه الحياة، أن يتذكر الإنسان دائماً أنه ضعيف، وقد يتجبر الإنسان، ويبطر، ويستعلي، فإذا تذكر أنه يوماً من الأيام أنه على رغم كل هذا سوف يقع طريح الفراش مكبلاً عاجزاً عن النطق، عاجزاً عن الحركة، فإن هذا يطاطئ من غرور الإنسان وكبريائه، ولذلك ثبت عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه وأرضاه- أنه كان يقول: [[والله إني لأعجب من الناس العقلاء الذين يشاهدون الموت، أويعاينون الموت ويحتضرون، كيف لا يستطيعون أن يصفوا الموت!]] .
يتعجب هذا الصحابي الجليل من الناس الذين احتضروا وعاينوا الموت، كيف لا يستطيعون أن يصفوا الموت! ويخبرون ما حقيقة هذا الموت، فلما صار هذا الصحابي الجليل محتضراً، كانت له حالة من الأحوال رواها لنا مسلم في صحيحه، أنه لما حضره الموت بكى رضي الله عنه وأرضاه وحول وجهه إلى الجدار، وكان عنده ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقال: يا ابتي لم تبكي؟! ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا؟! وظل يذكره بالفضائل التي ذكرها له النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفت إليه أبوه عمرو بن العاص وقال له: والله إني كنت في حياتي على أطباق ثلاث -يقول: مررت في حياتي بثلاث مراحل-: أولاً: لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كنت من أشد أعدائه، حتى لو استطعت أن أقتله قتلته، ولم يكن أحد أبغض إلي منه في ذلك الوقت، فلو مت على تلك الحالة لكنت من أهل النار، قال: {ثم جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمددت يدي إليه، وقلت له: ابسط يدك أبايعك يا رسول الله! قال: فبسط يده فلما بسط يده إليّ قبضت يدي، فقال: "مالك يا عمرو؟ " قلت أريد أن أشترط، قال: " تشترط ماذا؟ " قلت: أشترط أن يغفر الله لي ما أسلفت، قال لي صلى الله عليه وسلم: يا عمرو بايع أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها، وأن الهجرة تهدم ما قبلها" قال: فبسطت يدي فبايعته، فلا والله لم يكن أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعظم في عيني منه، حتى أني لم أكن أستطيع أن أملأ عيني منه إجلالاً له} أي: لم يستطع أن يشد النظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إعظاماً وإجلالاً، فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
الحالة الثالثة هي: أنه تولى مناصب لا يدري ما حاله فيها.
يقول: بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم دخلنا في أمور من أمور طلب الإمارة وغيرها، لا أدري ما حالي فيها، يقول: فإذا مت ووضعتموني في قبري فشنوا عليّ التراب شناً، ثم انتظروا عند قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أنظر ماذا أراجع به رسل ربي.
وهذا الحديث كما ذكرت لكم رواه مسلم، فلما صار عمرو بن العاص -رضي الله عنه وأرضاه- في هذه الحالة وهي: حالة الاحتضار، سأله ابنه عبد الله، فقال: يا أبتاه! لقد كنت في حال حياتك تقول: إنني أعجب من العقلاء الذين يحتضرون كيف لا يستطيعون أن يصفوا لنا الموت، فهل تستطيع يا أبتاه! أن تصف لنا الموت الآن؟! فماذا قال هذا الرجل البليغ الفصيح: قال: يا بني! أمر الموت أعظم من أن يوصف، ولكني سأصف لك ما حالي، أحس أن جبل رضوى على عنقي، وجبل رضوى جبل ضخم بالمدينة.
فيقول: إنني في حالة الموت الآن أحس أن هذا الجبل الضخم موضوع على رأسي، وأحس أن جوفي يشاك بالسلاح، يحس كأن السلاح يختلف في بطنه وجوفه، وأحس كأن روحي تخرج من ثقب إبرة، ولكم أن تتصوروا حالة عمرو بن العاص رضي الله عنه وهي حالة كل إنسان، بل حالة المؤمنين إذا احتضروا، كأن جبل رضوى على رأسه، وكأن الأسلحة مسددة إلى جوفه وصدره، وكأن روحه تخرج من ثقب إبرة! فهذا المصير كيف يلذ لنا، ويطيب لنا أن ننساه ونتجاهله، وتتغافل عن هذا المصير؟! لأننا نريد أن نتمتع بحياتنا، لكن هذا النسيان، وهذه الغفلة، لا يمكن أن تحقق الهدف الذي نرجوه، فمهما نسيناه فهو لا يمكن أن ينسانا، ولذلك قال الله عز وجل لنا: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] .
وقال: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] أي: يفر ويهرب، فكل واحد منا يكره الموت ويفر منه، بل وربما يستاء من سماع الحديث عنه، ولكن هذا لن يغير من الأمر شيئاً، ولذلك أقول: إن من حكمة الله عز وجل في إيجاد الموت إشعار الإنسان بالفقر الكلي إلى الله عز وجل، والحاجة الدائمة إليه سبحانه وتعالى، لأن الإنسان لا يدري متى يفجأه الموت.
فالإنسان الذي يؤمن بالموت حق الإيمان هو الذي يكون في جميع الأحوال مستعداً له، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه-: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع وذكر منها الإيمان بالموت} ويعني ذلك الاستعداد له، وأن يكون الإنسان في كل أحواله كأنه ينتظر الموت، وهذا يجعل الإنسان شاعراً بفقره وحاجته وإعوازه إلى الله عز وجل.(164/7)
فقرنا إلى الله في أمور ديننا
وليس الشعور وتذكر مصير الإنسان هو الأمر الوحيد الذي يجعلني ويجعلكم ندرك أننا -فعلاً- فقراء، بل إننا فقراء محتاجون إلى الله عز وجل في كل أمر، حتى من أمور ديننا.
فالإنسان معرض في أمور دينه إلى أربعة أشياء: وأرجو أن تنتبهوا إلى هذه الأشياء ويمكن أن أسألكم عن أحدها!(164/8)
خاتمة السوء
والأمر الرابع بعد ذلك هو: أن الإنسان مُعرَّض أن يختم له بخاتمة السوء والعياذ بالله، فلا يدري الإنسان بماذا يختم له، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم عن أبي هريرة وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما {أن رجلاً كان يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في معركة خيبر، فلما اجتمع الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: والله يا رسول الله ما أغنى عنا أحد اليوم ما أغنى عنا فلان، أي -ما نفعنا أحد في القتال مثلما نفعنا فلان- قاتل الأعداء وحمى المسلمين، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {هو في النار!} فاستغرب الصحابة حتى كاد بعضهم أن يرتاب، فقال رجل من المسلمين: أنا صاحبه لكم، أي: أنا الذي سوف أتابعه خطوة خطوة حتى أنظر ما هو السر في حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالنار- فذهب هذا الصحابي يتابع ذلك الرجل خطوة خطوة في القتال، فبينما هم في القتال جرح هذا الرجل جرحاً شديداً وسقط، حتى ظن المسلمون أنه مقتول، وأنه قد لفظ الأنفاس، فقالوا يا رسول الله! قتل فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: "إلى النار".
فاستغربوا أيضاً وذهبوا إليه فلما جاءوه وجدوا به رمقاً، وجدوه لم يمت بعد، فجزع من الجرح الذي أصابه فوضع نصل السيف على الأرض ووضع ذباب السيف بين ثدييه ثم اتكأ على السيف حتى خرج السيف من ظهره، فجاء الرجل الذي تكفل بتتبع خبره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله! والرجل -أصلاً- كان مؤمناً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكرر الشهادة إلا لأمر حدث يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي قلت: إنه من أهل النار، فقالوا: إنه مات، وجدته لم يمت، ووجدت الجراح قد آذته فجزع جزعاً شديداً فوضع نصل السيف على الأرض وذبابه بين ثدييه واتكأ عليه حتى قتل نفسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي: إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وإن الله يعز هذا الدين بالرجل الفاجر} .
إذن الأمر الرابع الذي يمكن أن يُعرَّض له الإنسان المطيع السالم من العجب، الباذل الجهد والانقطاع في طاعة الله هو أن يختم له بخاتمة السوء.(164/9)
مصير الإنسان عند الله
الأمر الخامس: أنه حتى وإن لم يختم له بخاتمة السوء فإننا لا ندري ماذا يكون مصيره عند الله، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن امرأة من الأنصار اسمها أم العلاء الأنصارية، أن المهاجرين لما جاءوا إلى المدينة وزعهم النبي صلى الله عليه وسلم بين الأنصار في المدينة، فوضع عند كل أهل بيت من الأنصار رجلاً من المهاجرين ينضم إليهم في السكن والمعيشة، وغير ذلك -من باب المواساة بين المسلمين- قالت: فطار لنا سهم عثمان بن مظعون، أي: كان نصيبها ونصيب قومها من المهاجرين رجل اسمه عثمان بن مظعون -رضي الله عنه وأرضاه- قالت: فكان رجلاً زاهداً، عابداً، صائماً، قائماً، مصلياً، فمرض فمرضناه، ثم مات -رضي الله عنه وأرضاه- وكان النبي صلى الله عليه وسلم عنده حال موته، -فقلت- تقول هذه المرأة، قلت بعد موته، وقد بكت وحزنت لموته لما رأت عليه من علامات الطاعة والخير، فقالت: هنيئاً لك الجنة، أما والله إني أشهد لقد أكرمك الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع هذا الكلام فقال لها: أو غير ذلك يا أم العلاء، إني وأنا رسول الله، والله لا أدري ما يفعل بي ولا بكم، وانظروا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم هذا في قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9] فتأثرت هذه المرأة وحزنت وقالت: والله لا أزكي بعده أحداً أبداً، ثم نامت يوماً من الأيام وهي حزينة، فرأت عثمان بن مظعون -رضي الله عنه وأرضاه- في المنام في هيئة حسنة، ورأت له عيناً تجري، فلما استيقظت ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: {ذلك عمله} فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى البشارة لهذا العبد الصالح بالخير بالرؤية التي رأتها، وللعمل الصالح الذي قدمه، وظل يجري عليه بعد موته، ولكن لم يرض أن يشهد له، ولذلك كان من أصول أهل السنة والجماعة ألا يشهدوا لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإنما يرجون لمن مات على الخير والإحسان الرحمة والثواب، ويخافون على من مات على الشر والفسوق والإثم العقاب، أما أن يشهد لأحد بالجنة أو النار خلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم فلا.(164/10)
التقصير في حق الله تعالى
فيمكن أن يسلم الإنسان من المعاصي، ويسلم من العجب، ويعبد الله عز وجل حق عبادته، ولا أقول: حق عبادته كما يجب له، إنما كما يستطيع الإنسان أن يعبده، فهذا الإنسان حتى لو سلم من المعاصي ومن العجب، يقول الله عز وجل عنه: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس:23] أي: لو استفرغ الإنسان جهده في طاعة الله وبذل كل ما يستطيع، فإنه لا يمكن أن يؤدي حق شكر الله، ويعبد الله حق عبادته، أبداً.
ولا يمكن أن يؤدي ما عليه، إنما يؤدي ما يستطيع، ولذلك الله عز وجل قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فالأمر الثالث هو: أن الإنسان معرض أو مؤكد أنه واقع في التقصير في حق الله عز وجل مهما بذل من أنواع الطاعات والقربات.(164/11)
التعرض للمعصية
الأمر الأول الذي يعرض له الإنسان: هو أن يعصي الله عز وجل، ولولا أن الله يسدد الطائعين لما أطاعوه، ويوفقهم للطاعة ثم يثيبهم عليها، فمن رحمته تعالى أنه ساقهم إلى الطاعة سوقاً، وشاء وأراد أن يكونوا طائعين، ومع ذلك شكر لهم.
ومثل ذلك أن الله عز وجل هو الذي خلقهم وأوجدهم في هذه الدار، ثم اشترى منهم أنفسهم، فهو الخالق وهو المالك، ومع ذلك يشتري منك نفسك بأن لك الجنة شريطة أن تكون واقفاً عند حدوده، ملتزماً بأمره، منتهياً بنهيه.
فالأمر الأول: الذي يمكن أن يعرض له الإنسان في أمر دينه هو أن يعصي الله عز وجل، فتذكرك أنك يمكن أن تكون في عداد العصاة، يجعلك تلوذ بالله، وتلتجئ إلى كنفه، وترجوه أن يحميك من المعصية، ويحميك من الشيطان، ومن شياطين الإنس والجن، وبطبيعة الحال فإن لو عصى الإنسان ربه ومات على ذلك؛ فقد خسر الدنيا والآخرة -والعياذ بالله- إلا أن يتغمده الله بواسع رحمته.
ويمكن أن يوجد إنسان تخلص من المعصية المباشرة، فلا يقع في الفواحش والمنكرات المعروفة الظاهرة، فهذا الإنسان الذي تخلص من المعاصي والمنكرات، يمكن أن يقع في معصية أشد من المعاصي الظاهرة مثل شرب الخمر، والزنى والربا.(164/12)
العجب والغرور بالنفس
فالأمر الثاني الذي يمكن أن يقع فيه الإنسان إذا سلم من المعصية هو: العجب، وهو الغرور بالنفس، والإعجاب بها، وهذا الغرور كفيل بإحباط الأعمال الصالحة التي تَعِب الإنسان وكدَّ في تحصيلها، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم} .
ومن معاني هذا الحديث -والله أعلم-: أن الإنسان معرض للذنب بكل حال، ولا ينفك عنه الذنب، ولذلك ورد في حديث آخر إسناده، كما قال الهيثمي حسن، ورواه البزار عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك: العجب} .
النقطة الثانية التي يمكن أن يعرّض لها الإنسان لو أطاع الله هي: أن يعجب بعمله! ولا شك أن العجب معصية، ولكنها معصية ليست للفساق، فالفاسق لا يعجب بعمله، لكن المطيع العابد يمكن أن يعجب بعمله فيحبط عمله.
وفي صحيح مسلم أن رجلاً من بني إسرائيل كان مسرفاً على نفسه، غارقاً في المعاصي، وكان هناك رجل آخر طائع عابد لله عز وجل، فقال هذا الرجل الطائع للرجل العاصي: والله لا يغفر الله لك، أو أنى يغفر الله لك، فأحبط الله عمل هذا العابد وأدخل ذاك الجنة.
هذا معنى الحديث.(164/13)
التخلص من مصائب الفقر بالتقوى
إذاً كنت أيها الإنسان في أمر دنياك مفتقر إلى الله! فأنت في طفولتك ضعيف، ثم في شبابك معرض للمرض، ومعرض للموت، وإذا سلمت من المرض أو الموت فأنت صائر إلى مرحلة الكهولة ثم الشيخوخة ثم الهرم! وهي مرحلة ضعف يرجع فيها الإنسان إلى صورة ربما تكون في كثير من الأحيان أشد ضعفاً من الصورة التي كان يعانيها الإنسان في طفولته، فأنت في دنياك مفتقر إلى الله عز وجل وأنت في دينك أيضاً مفتقر إلى الله عز وجل، فأنت معرض للمعصية، فإن سلمت منها فأنت معرض للعجب، فإن سلمت منها فأنت معرض للتقصير أو لابد لك أصلاً من التقصير، ولا يمكن أن تقوم بكل الواجبات المنوطة بك وعبادة الله حق عبادته، ثم أنت معرض لأن يختم لك بسوء، ثم أنت بعد هذا كله لا يدرى ماذا يكون حالك بعد الموت، وما يدرى ما يفعل بك بين يدي الله عز وجل.
وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك، فإن سائلاً يسأل: كيف لٍلإنسان أن يتخلص من هذا الفقر؟ إذا كان الواحد منا فقيراً حتى وهو يتقلب في النعيم، ويملك الأموال الطائلة، ويتربع على العروش، فهو فقير شاء أم أبى، فما هو السبيل الذي يجعل الإنسان يفر من هذا الفقر؟ السبيل هو التقوى والقرب من الله عز وجل والفرار إليه، ولذلك قال الله عز وجل مخاطباً لنا: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] .
فكل شيء تخافه فأنت تفر منه إلا الله عز وجل فأنت تخافه فتفر إليه، فإذا كنت تعلم أن الله عز وجل متصف بصفات الكمال المطلق، والغنى المطلق، وأنت متصف بالفقر والحاجة، فلا انفكاك لك من هذا الفقر إلا بالفرار إلى الله عز وجل فهو الذي يملك الكمال المطلق، وهو الذي من لاذ به واقترب منه منحه عز وجل من الكمال والقوة مالا يكون له في حساب، ولا يخطر له على بال، لذلك تجدون الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ثم أتباع الأنبياء الصادقين، تجدونهم أقوى الناس في الصبر على ما يواجهونه من مصائب الدنيا، وأقوى الناس في الصبر على ما يواجهونه في أمور الدين ويتحملونه في سبيل الله.
فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت له: {يا رسول الله! ما أشد ما لقيت من قومك؟ أي: ما هو أشد موقف مر بك من قومك، فذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام فآذوه وردوه، وقالوا له قولاً سيئاً، فخرج صلى الله عليه وسلم على وجهه مهموماً فلم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب، وهو لعله موضع بمنى قرب العقبة، لم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب، قال صلى الله عليه وسلم: فإذا سحابة قد أظلتني، فنزل منها ملكان جبريل وملك آخر، فسلم علي جبريل، وقال: يا محمد! إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، فبعثني إليك وهذا ملك الجبال، فمره بما شئت، فسلم عليه ملك الجبال، وقال: يا محمد! إن الله سمع قول قومك لك، فمرني بما شئت، والله إن شئت لأطبق عليهم الأخشبين، وهما الجبلان المحيطان بمكة، فانظروا صلابة النبي صلى الله عليه وسلم وهو في هذا الموقف الذي خرج مهموماً على وجهه حتى لم يستفق إلا وهو في قرن الثعالب، قال صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً} .
وروى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن مسعود: كأني انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، نبي اختاره ملك الملوك من السماء لينزل الوحي عليه، فيصل الحال بالسفهاء إلى أن يضربوه ويخرجوا الدم منه، فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} ربما كان يخاف على قومه أن ينزل عليهم العذاب من السماء، فهو يسترحم الله عز وجل لقومه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
وهكذا كان أصحاب الأنبياء، وهكذا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أشد الناس صبراً على اللأواء والبلواء التي تصيبهم، سواء في أمر دنياهم أم في أمر دينهم، ولا يتسع المجال لذكر بعض النماذج التي مروا بها، وعانوها وصبروا عليها، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من القوة والصبر والكمال.
أسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم في الصالحين، وأن يثبتنا وإياكم بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأرجو ألا أكون قد أطلت عليكم، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(164/14)
الأسئلة(164/15)
خروج الدم من الأسنان أثناء الصيام
السؤال
كنت نائماً في نهار رمضان، وعندما استيقظت قمت لأتوضأ، وعند المضمضة لاحظت خروج دم من فمي، فهل علي قضاء أم لا؟
الجواب
لا قضاء عليك؛ لأن الذي يظهر لي أن الدم الذي خرج من الأسنان، ليس فيه قضاء على أي حال، لأنه لم يُرتكب مفطر، ولم يدخل إلى جوفه شيء يوجب له الفطر والله أعلم بالصواب.(164/16)
الفطر قبل الغروب وكيفية قضاء الشباب أوقاتهم
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم، جزاكم الله خيراً على هذه المحاضرة القيمة، وهناك سؤالين: ماذا تنصح الشباب في شغل أوقات الفراغ؟ والسؤال الثاني: إذا أفطر الصائم قبل الغروب وذلك عند سماع صوت يشبه الأذان، فما الحكم هل يلزمه إعادة صيامه؟
الجواب
أما السؤال الثاني بالنسبة لمن أفطر قبل الغروب، ظاناً أن الشمس قد غربت، فللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: وهو مذهب الإمام أحمد، أنه عليه أن يقضي ذلك اليوم، ويستدلون بحديث أسماء قالت: {أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في يوم غيم، ثم طلعت الشمس قيل لـ عروة: هل أمروا بالقضاء قال: لابد من قضاء} فاستدلوا بقول عروة "لابد من القضاء".
القول الثاني: وهو الذي يرجحه عدد من العلماء المحققين، أن من أفطر ظاناً غروب الشمس، ثم تبين أنها لم تغرب فلا قضاء عليه، ويستدلون بنفس الحديث يقولون لأن قوله: (لابد من قضاء) ليس من قول الصحابي ولو حصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء لنقل إلينا.
أما كيف يقضي الشباب وقت فراغهم؟ فلا شك أن هذا موضوع محاضرة في ذكر الوسائل والطرق التي يقضون فيها وقت الفراغ، لكن أوصي إخواني من الشباب باختيار الجلساء الصالحين، وأوصي إخواني من الشباب بقراءة الكتب النافعة، ولا بأس أن يختاروا الكتب القصصية والكتب التاريخية التي تحثهم على القراءة وتشجعهم عليها، ويبدءون بالأسهل فالأسهل، وأوصي إخواني بأن يشاركوا في النشاطات، كالمراكز الصيفية وغيرها من الأنشطة التي تصرف طاقاتهم إلى سبيل الخير، وتحفظها من التشتت أو من الانحراف والله أعلم.(164/17)
حكم من حكم على شخص بالنار
السؤال
ما حكم من قال: لن يدخل الله الجنة فلان، وماذا يفعل لأنه من الناس الفاسقين؟
الجواب
لا يجوز أبداً، لأن الجنة ليست ملكي أو ملكك حتى ندخل فيها من شئنا، ونحرمها من شئنا، وفي الصحيح أن عبداً وحاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه وأرضاه- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! -وكان حاطب قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم، وربما يكون هذا العبد يرى أنه قد ظلمه في شيء- فقال هذا العبد للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! والله ليدخلن حاطب ٌ النار -فحكم على حاطب أنه سيدخل النار- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {كذبت! والله لا يدخلها، إنه شهد بدراً} أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا يجوز لأحد أن يحكم بالجنة لأحد أو بالنار على أحد، إلا من حكم له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة أو بالنار، فمثل من حكم لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة العشرة المبشرين بها، وحاطب بن أبي بلتعة، وعبد الله بن سلام اليهودي الذي أسلم، وخديجة رضي الله عنها وسواها، وكذلك لا نشهد لأحد بالنار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالنار، كما في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: أبوك في النار؛ فكأن هذا الرجل وجد في نفسه شيئاً، فلما ولىّ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: {أبي وأبوك في النار} وهكذا الحال، أما غيرهم فلا نشهد لأحد بالجنة أو بالنار، أما من وقع في هذه الخطيئة، فعليه أن يتوب ويستغفر الله عز وجل، ويكثر من الأعمال الصالحة، لعل الله أن يتجاوز عنه، ولا يؤاخذه بجريرته، وإلا فلو آخذه بجريرته لهلك.(164/18)
العجب بالنفس
السؤال
فضيلة الشيخ: ما المقصود من العجب بالنفس؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
المقصود بالعجب هو أن يرى الإنسان عمله، ويشعر بحجم عمله، ويحس بأنه قدم شيئاً، ويتعاظم هذا الشيء الذي فعل، فالجدير بالإنسان أصلاً هو أن يعمل كل ما يستطيع، ويستصغر ويحتقر هذا العمل الذي عمله، أما أن يعمل الإنسان ثم يتعاظم هذا العمل؛ فكأنه يمنُّ به على الله عز وجل، ويعجبني أن أسوق لكم بهذه المناسبة رواية وإن كانت من الروايات الإسرائيلية ولست أستحب سوق الروايات الإسرائيلية، لأننا نجد في القرآن والسنة ما يغنينا عنها، إنما أحياناً يكون فيها طرافة وفيها شَدٌّ للناس.
يروى في الروايات والحكايات الإسرائيلية ولاشك أن معناها صحيح قطعاً: أن رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله عز وجل ستين سنة، ويسأل الله حاجة من الحاجات، فلم يجيب الله عز وجل دعوته خلال ستين سنة، وما لبىّ الله طلبه ولا أجاب إلى هذه الحاجة التي يدعو الله عز وجل أن يحققها له، فلما بلغ ستين سنة وصلى يوماً من الأيام نظر إلى نفسه نظرة المقت والازدراء، وقال وهو يخاطب نفسه: والله لو كان لك عند الله منزلة لأجاب حاجتك، فهذا دليل على احتقاره نفسه فسمع منادياً يناديه: إن احتقارك لنفسك في هذه اللحظة أعظم عند الله من عبادتك ستين سنة.
وكلكم تعرفون ما في الصحيحين من قصة أبي سعيد وأبي هريرة في قصة الإسرائيلي الذي لم يعمل خيراً قط، فلما قرب الموت جمع بنيه، وقال: يا أولادي كيف كنت لكم؟ قالوا: كنت لنا خيراً.
قال: فإني لم أعمل خيراً قط، فإذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم انظروا يوماً شديد الريح فذروني فيه، فوالله لإن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله عز وجل هذا المخلوق فاجتمع بين يديه، فقال: ما حملك على ذلك يا عبدي؟ قال: مخافتك يا رب، فغفر الله عز وجل له.
فأقول: الخوف الشديد في القلب، ومقت النفس، وازدراء العمل هي أعظم بضاعة يقدم بها الإنسان إلى الله عز وجل أما أن يعجب الإنسان ويرى أن ما يعمله عملاً طيباً، وكبيراً وكثيراً إلى جنب الله، فهذا كفيلٌ بإحباط هذا العمل وخسرانه له، أسأل الله لي ولكم السلامة.(164/19)
الوسواس في الصلاة
السؤال
سماحة الشيخ: أنا شاب أصلي جميع الصلوات الخمس والحمد لله، ولكن التقصير في الصلاة يلاحقني دائماً، فأرجو من سماحتكم أن تبينوا لنا الطريق الصحيح لكي يعي الإنسان ما يقوله في صلاته والله يحفظكم؟
الجواب
أريد أن أعلق تعليقاً بسيطاً.
أولاً: يسمى الإنسان شيخاً، ثم يتطور الأمر فيصبح فضيلة الشيخ، ثم يزداد الأمر عظمة فيصبح سماحة، وأقول رويداً على الشيء هذا.
أما الجواب على السؤال فأقول: بين الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح في البخاري وغيره، أن الشيطان إذا أقيمت الصلاة أدبر، فإذا انتهى التثويب أقبل، حتى يحول بين الإنسان وبين صلاته، يقول له: اذكر كذا اذكر كذا، لما لم يكن يذكر.
فعلى الإنسان أن يستعيذ بالله أيضاً من الشيطان الرجيم، وعليه أن يحرص على التفكير في معنى ما يقرأ من القرآن أو الأذكار، وعليه أن يحرص على ألا تكون صلاته وقراءته أمراً مألوفاً، أكثر الناس الآن يصلي ولو سألته بعدما ينتهي من الصلاة ما هي السور التي قرأتها لم يدرِ، لأنه تعود آلياً أن يقرأ سوراً معلومة بعدما ينتهي من الفاتحة، وهو نفسه ينتهي منها دون أن يشعر بأنه قد بدأ فيها، فيعود الإنسان نفسه أن يختار سوراً، يختارها ويغيرّ يوماً بعد يوم.
يقرأ -مثلاً- آخر القرآن، من أول جزء عمّ، ومن أوسطه، ومن آخره، ومن جزء تبارك، ومن غيرها مما يحفظ من السور الأخرى، فيغير ويحاول أن يفكر في معنى الأدعية والأذكار التي يقرأها، ويحاول أن يبعد الشواغل المادية.
فإذا كان أمامه في جهة القبلة أشياء، أو في جهة موضع سجوده تشغله وتشد تفكيره، فيحاول أن يتخلص منها، وأهم من هذا أن يحاول أن يبعد الشواغل القلبية، فإذا كان القلب مشغولاً مشتتاً موزع الهموم هنا وهناك؛ فمن الطبيعي ألا يكون فيه موضع للذكر والتأمل، ويشبه بعض العلماء القلب المشغول بالإناء المملوء، فيقول: أرأيت لو أتيت بإناء وملأته بالتراب، ثم أردت أن تضع في هذا الإناء عسلاً -مثلاً- تجد العسل لو وضعته فوق التراب ينسكب يمنة ويسرة في جانب الإناء ويبقى التراب في مكانه.
فلا بد من التخلية وهي أن نحاول أن نخلي قلوبنا من الشواغل قدر الإمكان، ولا أطلب صورة مثالية، لكن جاهد نفسك قدر ما تستطيع، المهم ألا تستسلم، وفرغ قلبك من الشواغل، ثم حاول أن تفكر -كما قلت- وحينئذٍ ستجد للعبادة لذة، وستجد للصلاة حضوراً ومعنى في حياتك، ولذلك وصف الله عز وجل المصلين بصفات عظيمة في القرآن الكريم، كما في سورة (سأل) وغيرها.(164/20)
ترك السنة خوف الرياء
السؤال
أنا لا أرتدي الثياب القصيرة، وأخاف حين ألبسها أن يتهمني الناس بالنفاق، فماذا عليّ أن أفعل أفيدوني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
كما أن الإنسان لا ينبغي ولا يجوز له أن يعمل عملاً من أجل الناس، كذلك لا يجوز أبداً أن يترك عملاً من أجل الناس، وكلا الأمرين يدل على عظم شأن الناس في قلبك، وضعف شأن الله عز وجل، فمن أدرك عظمة الله احتقر الناس أن يعمل من أجلهم، أو يترك من أجلهم، بل يعمل ويترك من أجل رب الناس، والذي أنصح به هذا السائل هو ما نصحت به أخي قبل ذلك! ألا يلتفت إلى هذه الأشياء في قلبه، فهذه الأمور التي تجول في قلبك لا تلتفت إليها، بل اعمل ما ترى أنه خير، واترك ما ترى أنه شر، ولا تصغ إلى الوازع أو الدافع في قلبك الذي يقول: انظر إلى فلان، أو انظر إلى فلان، أو تخشى أن يقول الناس: إنك منافق، أو مرائي، أو تخشى من الرياء أو ما أشبه ذلك، بل وادفع ذلك ما استطعت.(164/21)
السلام على قارئ القرآن
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، رجل سلم عليه آخر وهو يقرأ القرآن، هل يرد السلام أم يكمل القراءة؟
الجواب
يكمل الآية التي يقرؤها ثم يرد السلام.(164/22)
حديث (لا يؤمن المرء حتى يؤمن بأربع)
السؤال
فضيلة الشيخ، ذكرت في أول المحاضرة أنه لا يؤمن المرء حتى يؤمن بأربع، وذكرت منها الإيمان بالموت، فما هي الثلاثة الأخرى؟
الجواب
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: {لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر} وأذكر أنني تحدثت في المسجد عن هذا الحديث وبيّنت معنى الإيمان بالموت، وربما يكون من بينكم من كان حاضراً ويستطيع أن يذكرنا، ما معنى الإيمان بالموت؟ لأن الموت كل الناس يؤمنون به حتى الكفار يدركون أنهم ميتون لا محالة، فماذا يعني الإيمان بالموت إذن؟ نعم، إنه يعني الاستعداد للموت، ومن الإيمان بالموت معرفة أن الموت هو قضاء الله وقدره، وأن لكل أجل كتاب، ولا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، ومعرفة أن الموت ليس أمراً طبيعياً كما يدعيه الملاحدة، وليس من باب تناسخ الأرواح كما تدعيه بعض الفرق القديمة، وإنما هو خروج الروح من الإنسان ومفارقتها للجسد، ويدخل في ذلك الإيمان بالبرزخ، وترد الروح إلى الإنسان في قبره، والجزاء والنعيم أو العذاب الموعود في القبر.(164/23)
معنى كلمة مطوع
السؤال
فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد.
فإن هناك بعض الشباب هداهم الله يقول الشباب عنهم كلمة (مطوع) أو يقولوا (متشدد في الدين) فأرجو تبيين المدلول الصحيح لكلمة مطوع أثابكم الله؟
الجواب
التطوع هو: أن يفعل الإنسان أمراً ليس ملزماً به، أما الذي يؤدي الصلاة -مثلاً- فلا يسمى متطوعاً بهذا العمل إلا إن كانت نافلة، وإلا فهو يؤدي واجباً، ولو لم يصلّ لما كان مسلما أصلاً، وهكذا من يؤدي الزكاة، أو من يحج بيت الله الحرام ممن يجب عليه، لا يسمى متطوعاً بهذا، بل يعتبر قد أدى واجباً لا تبرأ ذمته إلا به، ومدلول السؤال هو أن هناك من الشباب من يسخرون بالمتدينين من الشباب.
وأحب أن أقول: إن التدين في الشباب وفي غير الشباب الآن أصبح ظاهرة تفرض نفسها على القريب والبعيد، والعدو والصديق، وأقول: بكل سرور هذا الكلام يقال؛ لأن الإنسان يجد أينما ذهب، وأينما توجه، وأينما دخل، يجد الناس قد أقبلوا على هذا الدين بحمد الله، كباراً وصغاراً، وحتى من الناس الذين كان لهم تاريخ أسود من الجرائم، والمنكرات، والانحرافات، قد عادوا إلى الله عز وجل عودة صحيحة قوية، وأصبحت تجد في كل مكان أناساً يتمسكون بالدين، ليس على سبيل التقليد والمحاكاة للآباء والأجداد، وليس على سبيل أنهم مجرد سذج، لا.
بل أناس يتجهون إلى الدين بوعي وإدراك، وتصميم ويقظة، وأصبحوا يفرضون احترامهم على الجميع والحمد لله، وهذه نعمة تدلنا على أن الله عز وجل قد أراد بهذه الأمة خيراً، وأراد بهذا الدين خيراً، وهي مصداق لما وعد الله عز وجل ولما وعد الرسول صلى الله عليه وسلم من رفعة شأن هذا الدين.
ولذلك أقول: لم يعد المجال مجال سخرية من المتدينين، إلا من بعض السفهاء، الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] أو وصفهم بقوله: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64] أو وصفهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة:65-66] .
فالإنسان -وأرجو أن تنتبهوا لهذا الحكم جيداً حتى لا نقع في الخطأ- أو كل من يسخر من متدين؛ لأنه متدين، يكون كافراً بهذا العمل، لأن هذا من نواقض الإسلام، فلو وجدت إنساناً مصلياً في المسجد فضحكت منه وسخرت منه، ليس لأنه فيه عيب خلقي، وليس؛ لأنه فقير، وليس لأن ثوبه ممزق، ولكن لأنه مصلي، ففي هذه الحالة من يفعل ذلك يكفر ويخرج من الملة، ويجب عليه أن يتوب ويتشهد ويدخل في الإسلام من جديد، أما لو سخر بالمتدين لأمر آخر ليس للتدين، وإنما سخر منه لقضية أخرى، نفترض أن المتدين رسب في الامتحان فسخرت منه لرسوبه في الامتحان مثلاً، أو لأنه عنده -مثلاً- عيب في لسانه وحبسة وعدم قدرة، أو أي أمر آخر، ففي هذه الحالة: لا نقول إن الساخر يكفر، ولكن نقول إنه قد عرض نفسه لغضب الله عز وجل، بل عرض نفسه لحرب الله تعالى، قال الله عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى-: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} فربما يكون هذا الذي سخرت منه وعاديته ولياً من أولياء الله، لأن أولياء الله ليس عليهم علامات أو سمات إلا الخير والتقوى والصلاح والإيمان {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] فيمكن أن يكون هذا سخرت منه وعاديته ولياً من أولياء الله، فعرضت نفسك لسخط الله وعقوبته.(164/24)
الشك في الدين
السؤال
ما حكم الشك في الدين إذا خالج الإنسان، ولكنه ليس شكاً ظاهراً؛ بل هو أقرب للوسواس؟
الجواب
الذي يبدو لي أن هذا الذي سأل عنه الأخ السائل هو نوع من الوسواس، ولاشك أن الإنسان لو شك في دينه شكاً حقيقياً فإنه يكفر، إنما يجب على الإنسان ألا يستعجل في إطلاق هذه الكلمة، فإنني أعلم كثيراً من الشباب وخاصة في مرحلة المراهقة، تدور في مخيلاتهم أفكار كثيرة يضيق منها الإنسان، ويتبرم بها، وربما تجد بعض هؤلاء الشباب قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، واسودت الدنيا وأظلمت في عينيه، ولا يهنأ بعيش، ولا بنوم، ولا يأكل، ولا يشرب، فلو سألته ما شأنك؟ قال: أنا عندي شكوك، ووساوس، وعندي كذا وكذا.
فنقول له: إذا كان عندك شكوك ووساوس فأنت مما تخاف؟ قال: أخاف أن أموت على هذا الحال، إذاً كونك تخاف أن تموت على هذه الحال، دليل على أنك مؤمن في الحقيقة، وإلا لو كنت غير مؤمن، لما كنت مبال أن تموت أو لا تموت على هذه الحال! فوجود خوف حقيقي مزعج للإنسان، دليل على أن عنده أصل الإيمان في الغالب، وإلا فإن الإنسان ربما يقول: أنا أخشى أن أموت، وهذا مثل ما يقول المعري: قال المنجم والطبيب كلاهما لا يُبعث الثقلان قلت: إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما فهذا المذهب لاشك أنه يحتمل، لكن الذي لاحظته من معايشتي ورؤيتي لعدد من هؤلاء الشباب، أن الأمر بالنسبة لهم ليس شكاً حقيقياً، وإنما هو نوع من الوسوسة يكيد بها الشيطان للإنسان! والدليل على ذلك أن هذه الوسوسة تأخذ صوراً شتى -فمثلاً- تجد الإنسان اليوم يشك في بعض الأمور المتعلقة بالألوهية، فيظل يعالج الأمر، ويقرأ في الكتب، ويراجع المشايخ وطلاب العلم والعلماء وغيرهم حتى يزول هذا الأمر، ثم تجد أمر الشك عنده تحول إلى وسوسة في شأن الوضوء، وأعرف أناساً بهذا الشكل، فصار يشك في الوضوء، ويطيل الوضوء، ويكرره، فظل يعالج هذا الأمر حتى انتهى، فأخذ الشك صورة ثالثة، أو الوسوسة بالأصح، وهي الشك في موضوع الصلاة، فصار يكرر الصلاة، ويعيدها، وهكذا.
فهذا دليل على وجود شيء من الضعف في القلب عند الإنسان يأخذ صوراً شتى، فمرة يأخذ صورة الوسوسة في شأن الإيمان، ومرة أخرى في شأن الوضوء والطهارة، ومرة ثالثة في شأن الصلاة! والذي أنصح به من وجد شيئاً من ذلك: أولاً: ألا يلتفت إليه، فإن أثمن وأعظم نصيحة هي ألا يلتفت إليه، والشيطان إذا أعرض عنه الإنسان وهجره ضعف كيده، وإذا أصغى إليه الإنسان وحاول أن يستمع منه تعاظم حتى يكون كالجبل العظيم.
إذن فأعظم وأثمن نصيحة هي ألا تلتفت إلى هذا الأمر، ولا تصغ إليه، وحاول أن تشغل نفسك بأمور أخرى! مثلاً بالقراءة! أو الرياضة! أو الصلاة، أو العبادة، أو الزيارة، أو المجالسة أو بغيرها من الأمور الخيرية أو الأمور العادية!! الأمر الثاني: إذا رأيت أن الأمر لم يندفع عنك، فعليك ألا تتردد في الاتصال بأحد العلماء، أو طلاب العلم الذين تجد عندهم الشفاء لما تعاني.
الأمر الثالث: أن تدرك أن هذه الحالة التي تعانيها ليست دائمة، والذي لاحظته عند كثير من المصابين بهذا الأمر أنهم يتصورون أن هذا الذي يعانونه ثابت، ومستمر، وسرمدي عليهم، حتى لا يخيل للواحد منهم أنه سينجو مما هو فيه.
فأقول: لا، بل يجب على الإنسان أن يدرك أن الحالة التي عاشها هي أيضاً عاشها أكثر الشباب المراهقين، ثم تخلصوا منها، فعليه أن يدرك أنها ستزول، وعليه أن يطمئن قلباً، ويحرص على الامتثال للنصائح التي ذكرت، والاعتصام بالله وكثرة الدعاء، وقد صح عن حذيفة رضي الله عنه في مستدرك الحاكم أنه قال: [[يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا دعاء الغريق]] فعلى الإنسان أن يفزع إلى الله عز وجل بكثرة الدعاء.(164/25)
عوامل تقوية الإيمان
فيه بيان مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان، وأنه قولٌ وعمل، وأن الإيمان يزيد وينقص.
وفيه ذكر لأهم عوامل تقوية الإيمان.(165/1)
الشعور بضعف الإيمان لدى الشباب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوة! الموضوع الذي سنتدارسه في هذه الجلسة هو: عوامل تقوية الإيمان، والملاحظ أن هناك تساؤلات كثيراً ما تطرح من الشاب، سواء في دواخل نفوسهم أو يبوحون بها لغيرهم، هذه التساؤلات منها تساؤل حول شكوى كثير من الشباب، عن تردي مستوى إيمانهم، وأن الواحد منهم يشعر على رغم قدم عهده في طريق الهداية، وأنه فتح عينيه في بيئة إسلامية، وتلقى الإسلام منذ نعومة أظفاره، وقد يكون عاش في وسط شباب صالحين، ومضى على هذا سنين عديدة قد تزيد على العشر أو العشرين، ثم يلحظ هذا الشاب أن إيمانه ما زال على ما كان إن لم يكن يتناقص، ويشعر الشاب حينئذٍ بالخوف من هذا الضعف الذي يحس به في مستوى إيمانه.
وقد يبرز التساؤل في صورة أخرى، وهي أن بعض الشباب قد يكون قضى ردحاً من عمره في فترة ضياع وانحراف، ثم هداه الله إلى الطريق المستقيم، فيريد هذا الشاب فيما بقي من عمره أن يستدرك ما مضى، وأن يعوض عما فات، وهو قد يشعر في فترة بنوع من الإقبال في بداية طريقه، ثم قد يشعر بقدر غير قليل من تحول شعوره الإيماني إلى شعور عادي في غالب الأحوال، ويحس بشيء من الفتور بعاطفته الإسلامية.
وأحياناً يبرز التساؤل في صورة شعور كثير -إن لم أقل: كل المؤمنين- بأن إيمانهم في حالة تذبذب بين ارتفاع وانخفاض، ويشعر المؤمن بأن إيمانه ليس في تصاعد مستمر، بل هو أحياناً ينتعش ويشرق ويسمو، وأحياناً أخرى يشعر بشيء من الضعف والفتور! إلى تساؤلات كثيرة يطرحها الشباب حول هذا الموضوع.
ولعل في هذه الإشارات العابرة في هذا الموضوع لفتاً لبعض الإخوة إلى الوسائل المعينة على تقوية الإيمان، وإن كان موضوع تقوية الإيمان موضوعاً عملياً، وليس موضوعاً نظرياً، فالإنسان الذي يملك الإرادة القوية، والصدق في رفع مستوى إيمانه، لا يعجزه أن يعرف الوسيلة التي يتوصل بها إلى هذا المطلوب.
لكننا كثيراً ما نحب التحدث في بعض الموضوعات حين نشعر بضعفنا فيها، وكأن هذا الحديث نوع من العلاج النفسي لهذا الشعور، دون أن يكون عند الإنسان صدقٌ في التوجه نحو تحقيق إيمانه ورفع مستواه.(165/2)
الإيمان يزيد وينقص
وهناك مقدمة لابد منها في بداية هذا الحديث، ألا وهي الإشارة إلى ما هو معلوم ومقرر لدى الجميع، من أن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان: أن الإيمان اعتقاد في القلب، يتبعه نطق باللسان الذي يترجم ويعبر عن حقيقة هذا الاعتقاد، يتبعهما عمل بالجوارح، فالقلب سائق يسوق البدن إلى الأعمال التي تناسبه، ولذلك أيضاً يقول أهل السنة والجماعة: إن الإيمان يزيد وينقص، سواء في ذلك إيمان القلب أو عمل الجوارح، فهو يزيد وينقص، وقد نطق القرآن الكريم والسنة النبوية بهذه الحقيقة.(165/3)
أدلة زيادة الإيمان
يقول الله عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] ويقول: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [المدثر:31] ويقول: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ففي هذه الآيات التصريح بزيادة الإيمان.(165/4)
أدلة نقص الإيمان
أما نقص الإيمان فإنه وإن لم يرد صراحة في القرآن الكريم إلا أنه معروف من هذه الأدلة، لأن الإنسان حين يؤمن بأن الإيمان يزيد، فإن هذه الزيادة إذا عدمت ولم توجد، فمعناه أن الإيمان في حالة نقص حينئذٍ، وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بنقصه كما في الحديث المتفق عليه من قوله صلى الله عليه وسلم مخاطباً النساء: {ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن} وفسر نقصان الدين بأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم.
إذاً: فهذه الحقيقة هي منطلق الحديث، وهي أن الإيمان يزيد وينقص.(165/5)
صور زيادة ونقص الإيمان
والزيادة في الإيمان تقع على صورتين: إما أن تكون زيادة في كيفية الإيمان، يعني في قوته أو ضعفه، وهذا ثابت، فأنت -مثلاً- لو سمعت ببعض البلدان لأول مرة، أو دولة من الدول، فإنك حين تسمعها لأول مرة، وكان من سمعتها منه رجلاً موثوقاً خبيراً تقبلت خبره وصدقته، لكن هذا التصديق قابل للنقض، فلو جاءك آخر وشكك فيه لداخلك الشك، فإذا جاء ثاني، وثالث، ورابع، وحدثوك عن هذا البلد نفسه، وسكانه، ومنتجاته وتفاصيله وغير ذلك، بدأ إيمانك بوجود هذا البلد واقتناعك يزداد يوماً بعد يوم، حتى يصبح في يوم من الأيام غير قابل للنقض، ولو جاء واحد بيننا الآن يشككنا بوجود دولة من الدول التي نسمع بها صباح مساء، لسخرنا منه جميعاً، مع أننا ربما لم نزر هذه الدول أو معظمها، لكن قناعتنا فيها صارت قناعة مطلقة غير قابلة للشك، فإذا حدث أن سافر هذا الإنسان وزار هذه الدولة، وتجول في ربوعها، فإن هذا الإيمان ينتقل حينئذٍ إلى مرتبة المشاهدة، واليقين المطلق.
إذاً التصديق بالقلب يتفاوت، هذا مع أن للقلب أعمالاً أخرى تتفاوت أيضاً، فمن المعلوم أنه يترتب على تصديق القلب أعمال أخرى، من الحب لله عز وجل، ورجائه، والتوكل عليه، والرغبة فيما عنده، وهذه الأعمال القلبية يتفاوت الناس فيها تفاوتاً أبعد مما بين المشرق والمغرب، هذا من حيث قوة الإيمان وضعفه.
ولكن أيضاً هناك زيادة ونقص في مقدار وكمية الشيء الذي يؤمن به الإنسان، فالإنسان حين يسمع آية من كتاب الله يؤمن بها، فإذا سمع آية أخرى يؤمن بها، وهكذا كلما سمع آية جديدة، أو حديثاً، أو حكماً يسمعه لأول مرة فآمن به وصدق ازداد عدد الأشياء من الآيات، والأحاديث، والأحكام التي يؤمن بها، ولذلك قال الله عز وجل في الآية السابقة: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} [التوبة:124] وقال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124] لأنها سورة جديدة أنزلت فآمنوا بها فزاد إيمانهم.
إذاً الإيمان يزيد وينقص كماً وكيفاً، وأهله يتفاوتون فيه قوة وضعفاً، ولذلك روى الحاكم في مستدركه، وصححه ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان عن ابن مسعود رضي الله تعالى أنه كان يقول: [[إن عماراً ملئ إيماناً إلى مشاشه]] وهكذا تكون قوة الإيمان بحيث يخالط الإيمان لحم الإنسان ودمه ويجري في عروقه حتى يصبح فرح الإنسان وحزنه وسعادته، وروح قلبه، وما يعتريه من أحوال نفسية مختلفة، مرتبطاً بهذا الإيمان، يفرح ويجزن من أجله، ويحب ويبغض فيه، ويوالي ويعادي على أساسه.(165/6)
الغرض من وسائل تقوية الإيمان
أما الوسائل والأسباب التي يتوصل بها الإنسان إلى تقوية الإيمان فهي كثيرة، ولا أعتقد أنني أستطيع أن أحيط بها، لكنني أشير إلى أن الإنسان مطالب بتحقيق هذه الوسائل لغرضين:(165/7)
تقوية الإيمان
أولاً: لتقوية إيمانه، لأننا نعلم أن الإيمان إن لم يزد فهو على خطر النقصان، فهو بمثابة الماء في الأنبوبة إن لم يوجد ما يدفعه فإنه في الغالب يهبط، بل إن الضعف أهون على الإنسان من الارتفاع، والهدم أهون عليه من البناء، فالمؤمن حين يريد أن يعالج مسألة رفع مستوى إيمانه سيجد في ذلك بعض المشقة والعناء، لأن هذا نوع من الجهاد، لكن حين يترك الأمر ويهمله، فإنه لا يحتاج إلى أكثر من أن يغفل عنه.(165/8)
العمل على تثبيت الإيمان
ثانياً: الإنسان أيضاً مطالب بأمر آخر، وهو أن يعمل على تثبيت إيمانه، وهذا ذو علاقة قوية بالموضوع، فأنت لا تظن أن القضية محصورة في رفع مستوى الإيمان أو بقائه على ما هو عليه أو ضعفه، بل يجب على الإنسان أن يدرك بأنه مهدد بأن يسلب منه هذا الإيمان، وقد صح عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: {يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقال له بعض الصحابة: يا رسول الله! أتخاف علينا وقد آمنا بك وصدقناك، وآمنا بما جئت به؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم.
إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء} رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه الإمام أحمد في مسنده، وابن أبي شيبة بسند على شرط مسلم وفي هذا الحديث دلالة صريحة على أن كل إنسان وإن كان مؤمناً الآن فهو معرض أن يسلب منه هذا الإيمان، والسلب قد لا يأتي بالكلية وبصفة مفاجئة، بل قد يكون تدريجياً، فيضعف هذا الإيمان حتى يموت في قلب الإنسان.
إذاً: فالإنسان مطالب بتثبيت الإيمان، ومن أجل تثبيت الإيمان هو أيضاً مطالب بتقوية الإيمان.(165/9)
وسائل تقوية الإيمان
والوسائل المستخدمة في ذلك كثيرة، أذكر بعضاً منها مما يناسب المقام:(165/10)
الصبر يقوي الإيمان
وأخيراً أقول: إن من أهم وأقوى وسائل تقوية الإيمان: الصبر، ولله در علي بن أبي طالب حين كان يقول: [[الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا فقد الصبر فقد معه الإيمان]] وهذه الكلمة صحيحة، فالصبر لا بد منه للإيمان، ولو تأملنا جميع الوسائل والأسباب السابقة، لوجدنا أنها مفتقرة إلى الصبر، فالإنسان قد يفكر في ملكوت السماوات والأرض مرة أو مرتين، لكن إذا لم يكن لديه صبر وجلد، وتوطين للنفس، فما أسرع أن يترك هذا التفكر وينشغل بالأمور العملية التي يعانيها في واقعه! والإنسان قد يذكر الله حيناً من الدهر، أو يحافظ على الصلاة، أو على الدعاء، أو على أي عمل من الأعمال الصالحة التي تقوي الإيمان، لكن إذا لم يكن لديه صبر، فما أسرع أن يدب إليه الكسل والملل! فيترك الذكر والدعاء والأعمال الصالحة، أو يفرط فيها! وقد يسعى في تحصيل العلم، فيجلس في حلقة من حلقات المشايخ الموجودة في طول هذه البلاد وعرضها، أو يقرأ شيئاً من الكتب، يبدأ في ذلك، وربما يبدأ بداية جادة، ولديه برنامج عريض طويل، وينتقل من حلقة إلى حلقة، ومن قراءة إلى سماع، وغير ذلك، لكن إذا لم يكن متحلياً بالصبر فسرعان ما يدب إليه الملل والضجر والضيق، ويترك هذه الأشياء جملة، وربما صار كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
وكذلك الدعوة إلى الله، قد يدعو إلى الله عز وجل، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن بمجرد ما يواجه معارضة أو عدم قبول، فإنه يترك هذا الأمر إذا لم يكن لديه صبر، وقد يجتمع مع بعض الطيبين والصالحين ويجالسهم، لكن إذا لم يكن لديه إمكانية الصبر على أذاهم، فسرعان ما يفارقهم، لأن الناس ما منهم إلا مؤذٍ ومُؤْذَى، يعني أن الإنسان مؤذٍ ومؤذى في نفس الوقت، فإذا لم يكن لديه صبر على تحمل ما يلقاه من عنت الناس فسرعان ما يفارقهم، بل إذا لم يكن لديه صبر على الصبر، فإنه قد يصبر مرة أو مرتين، ثم يترك هذه الأشياء.(165/11)
طلب العلم الشرعي
الوسيلة الثالثة من وسائل تقوية الإيمان هي: العلم، والعلم أنواع: منه العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته، وما يجب له، وهذا العلم من أقوى أسباب تقوية الإيمان إذا سلك الإنسان إليه الطريق الصحيح، فإن معرفة الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته تورث حبه ورجاءه وخوفه، ولا بد من ذلك، ولذلك قيل: من كان بالله أعرف كان منه أخوف، فإذا عرف العبد ربه من خلال القرآن الكريم، والحديث الصحيح، وجد في قلبه حب الله وخوفه وتعظيمه، ولهذا فإن أول مصدر يجب أن يتلقى عنه الشاب العقيدة في الله تعالى، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، هي النصوص الشرعية، لأنك تجد في القرآن الكريم من التعريف بالله تعالى ما هو مدعاة لإثارة الأعمال القلبية كالحب والخوف والرجاء والتوكل، وهذا قد لا تجده في كثير من المصنفات الأخرى التي وضعها الناس، وهذا أمر طبيعي، بل لا تجدها في شيء من المصنفات قط.
فعلى الشاب أن يتعرف على الله من خلال القرآن والسنة، ثم يحرص على معرفة الله، وأسمائه، وصفاته، والعقائد الصحيحة، من خلال كتب أهل السنة والجماعة، لكن هاهنا أمر يجب التنبه له، ألا وهو: أن المعرفة التي تورث قوة الإيمان ليست هي المعرفة العقلية المجردة، فكثير منا الآن يمكن أن يسرد مثلاً مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة، والرد على الطوائف المنحرفة، كالمعتزلة، والجهمية، والأشاعرة، والجبرية، والقدرية وغيرهم، في أبواب الأسماء والصفات، وأبواب الإيمان والقدر، والنبوات، وفي سواها، لكن هذا العلم لم يصل بعد إلى قلبه، فعليه أن يدرك أن من معه هذا العلم فإن الحجة عليه قائمة، فعليه أن ينقل هذا العلم من كونه علماً في الورق، أو في لسانه، أو عقله فقط، إلى كونه علماً يصل إلى قلبه، فيحدث عنده حب الله، وخوفه، ورجاءه، والإقبال على العبادة، والدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
والنوع الثاني من العلم الذي يزيد الإيمان أيضاً هو: العلم بتفاصيل أمور الشريعة، كمعرفة الحلال والحرام، وهذا أيضاً يزيد الإيمان، ويزيد الإيمان من حيث أن الإنسان كلما علم حكماً جديداً، فآمن به وسلم له؛ زادت كمية الأحكام التي يؤمن بها من جهة، ومن جهة ثانية فهو سيعمل بهذا الحكم، ويدعو إليه، ويؤيد من عمله، وبذلك يقوى إيمانه ويزداد.(165/12)
الاجتماع على الخير
الوسيلة الرابعة هي: الاجتماع على الخير، ونخن نعرف ونجد من ضرورات نفوسنا أن الإنسان قد ينشط للعبادة إذا كان في ملأ أكثر مما ينشط لها إذا كان بمفرده، ولذلك تجد من الإقبال على القيام في رمضان، في صلاة التراويح والقيام ما لا تجده في غيره، وتجد أن الله عز وجل شرع الجماعة في كثير من العبادات، في صلاة الجماعة، والعيدين، والكسوف، وغيرها، وكالحج، وتجد أن المسلمين يقومون بالعبادات في وقت واحد، فيصومون في وقت واحد، ويقفون بعرفة في وقت واحد، وهذا مدعاة لقوة فعل الإنسان للطاعة، وإقباله عليها، ولذلك تجد الإنسان حين يصوم في رمضان، يجد من القوة والإقبال على الصيام ما يجد، لكن حين يصوم نفلاً بعده يشعر بثقل هذا الصيام، أو بثقل الجوع والعطش، أكثر مما كان يشعر به من قبل.
فالاجتماع على الخير من أسباب الإقبال على العبادة، والنشاط فيها، ومن ثم زيادة الإيمان، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يقول بعضهم لبعض: [[تعال بنا نؤمن ساعة]] قالها عمر ومعاذ بن جبل وعبد الله بن رواحة وقالها غيرهم رضي الله عنهم أجمعين، وأخذها عنهم التابعون كـ علقمة وغيره، فكانوا يقولون: هلموا بنا نؤمن ساعة، وربما جلسوا فقرأ أحدهم على الآخر سورة (العصر) ثم انصرف، مع أنهم مؤمنون أصلاً، لكن المعنى أن نقوي إيماننا.
فعلى الإنسان أن يحرص أن يجد في المؤمنين من يحبه في الله عز وجل، ثم يحاول أن يحقق ثمرات هذه المحبة بالاجتماع على الخير، والتزاور، والتباذل والتناصح في ذات الله تعالى، وهذه الأشياء من أهم الوسائل في تثبيت قلب الإنسان.
مثلاً: لو افترضنا أن شخصاً من جمهور المسلمين عاش في وسط قوم غير مسلمين، ما أسهل أن ينتكس عن دينه، لأنه لا يجد من يعينه، بل كثير من العوام هذا شأنه، لكن لما يجتمع بعضهم مع بعض، ويجدون من يقوي إيمانهم، ويجدون من يقتدون به، حينئذٍ يستمسكون بدينهم، ويثقون بما هم عليه، فتسلم لهم عقيدتهم.
فالإنسان حين يوجد في جو طيب، ويجد من يعينه على الخير، فإن هذا من أقوى الوسائل لتثبيت إيمانه، وعدم ارتداده عنه، ثم هو من وسائل تقوية هذا الإيمان.(165/13)
الدعوة إلى الإيمان
ومن وسائل تقوية الإيمان: الدعوة إلى هذا الإيمان، لأن الإنسان إذا حصل على شيء بيسر وسهولة؛ أصبح هذا الشيء رخيصاً عنده، فالشاب الذي يرث من والده أموالاً طائلة لم يكدح في جمعها، ما أسهل أن يفرط فيها! لكن لو كان تعب في جمعها، من ريال وقرش، وسهر الأيام والليالي، أصبحت غالية عليه وعرف قيمتها، وقل مثل ذلك في جميع الأمور الأخرى، فالإنسان الذي يضحي من أجل شيء، فإنه يغلو عليه هذا الشيء، وترتفع قيمته عنده، وكذلك هذا الذي بذل من أجل الإيمان، وفي سبيله، ومن أجل تحصيله، وتقويته، وحمايته، يصبح هذا الإيمان عزيزاً عليه، ويعز عليه أن يفرط فيه، لكن الإنسان الذي ورث الإيمان عن الآباء والأجداد، ولم يتعب ولا تعلم من أجله، ولا حافظ عليه، ما أسهل أن يبذله عند أول خطر يمر به! فعلى الإنسان أن يدرك أنه حين يدعو إلى الله عز وجل، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويعلم الناس، فإن أول مستفيد من هذا الجهد هو نفسه، ثم الناس بعد ذلك، أما الإنسان الذي يزعم أنه مؤمن ثم يبقى هذا الإيمان كامناً في قلبه لا يؤثر، فهذا إيمانه لا شك أنه ضعيف، ثم هو على خطر أن يتضاءل هذا الإيمان حتى ينتهي.(165/14)
التفكر في الآفاق والأنفس
أول وسيلة في ذلك هي الفكر: فقد منح الله تعالى كل فرد منا عقلاً يفكر به، وجعل هذا العقل هو مناط التكليف، بحيث أن الإنسان المسلوب العقل غير مكلف بالأحكام الشرعية، ولا محاسب عليها، فالعقل هو مناط التكليف، وهذا العقل الذي منح الله الإنسان إياه من أقوى الوسائل الموصلة إلى تحقيق الإيمان، إذا استعمله الإنسان في هذا السبيل.
فالإنسان حين يتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، يصل إلى الإيمان بالله تعالى ولذلك جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه في قصة مبيته عند خالته ميمونة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم حين استيقظ من النوم خرج ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190]-وفي صحيح مسلم- أنه قرأها ثلاث مرات كل ذلك يقرؤها ثم يصلي ما شاء الله له ثم ينام، ثم يقوم فيقرؤها ثم يصلي ما شاء الله له ثم ينام، ثم يقوم ثم يقرؤها، ثم يصلي ما شاء الله له، ثم ينام} فقراءته لها ثلاث مرات، وهو ينظر في السماء صلى الله عليه وسلم إشعار بأهمية التفكر في ملكوت السماوات والأرض، ولذلك أيضاً روى بعض الأئمة كـ عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عساكر، وابن أبي الدنيا، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم عن عطاء أنه قال: {قلت لـ عائشة: أي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعجب إليه؟ قالت رضي الله عنها: وأي أمره لم يكن عجباً صلى الله عليه وسلم، إنني رأيته وقد جاء إلى فراشي فنام قليلاً ثم استيقظ وبكى، وقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، ثم قام عليه الصلاة والسلام، فقرأ هذه الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها} رواه ابن حبان في صحيحه كما سمعتم، ولم أتمكن من معرفة درجة هذا الحديث لما عرف عن ابن حبان رحمه الله من التساهل في إيراد الأحاديث في صحيحه، وعلى كل حال يشهد له الحديث السابق.
ومن عجيب أمر الناس، أن الناس يرون هذه الآيات العظام تمر بهم صباح مساء، ولا يلتفتون إليها! فهم ينظرون إلى هذه الأرض وعظمتها وما فيها، وإلى السماء، والشمس، والكواكب، وخلق الإنسان، وإلى غير ذلك من بديع صنع الله في البر والبحر، فلا يلفت ذلك أنظارهم! نظراً لأنهم ألفوه واعتادوه، لكنهم حين يرون أمراً بسيطاً مخالفاً لما ألفوه تجد أنهم يلتفتون إليه وقد مُلئت قلوبهم بالعجب.
قد يرى الناس هذه الأشجار المخضرة في كل مكان، فيمرون عليها وهم عنها معرضون! فإذا رأوا شجرة في الخريف قد اخضرت وأورقت، تجمعوا حولها، وهم يقولون: سبحان الله! انظر إلى قدرة الله، فلم يروا قدرة الله التي جعلت هذه الشجرة تورق في الخريف أنها هي التي جعلت هذه الأشجار الضخمة تورق وتخضر في أوقات أخرى في كل مكان؟ فلماذا نغفل عن بديع صنع الله، وبديع آثار هذه القدرة في أنفسنا وفيما حولنا؟! وليس التفكر مقصوراً في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، بل إن الإنسان حين يتفكر في أي أمر من الأمور، يكون قد وضع قدمه على الطريق الصحيح للوصول إلى النتيجة الصحيحة، أرأيتم لو تفكر الإنسان المنحرف في واقعه، وما هو مقبل عليه، ألا يكون هذا الوقت القصير الذي بذله في التفكر أثمن، وأكثر ثمرة، من عشرات الكتب التي قرأها، وعشرات المحاضرات التي سمعها؟! ولو استطعت أن تقنع شخصاً منحرفاً بأن يفرغ خمس دقائق ليراجع نفسه، ويتفكر في حقيقة ما هو فيه، ويعيد الحساب، لكانت ثمرة هذه الدقائق الخمس أثمن من عشرات الكتب والمحاضرات والمواعظ التي سمعها، لكن كيف لك أن تقنعه أن يفكر ولو لمدة خمس دقائق؟ هو لا يفكر، لأنه كما قال الله عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] قد أقفل قلبه دون التفكر في هذه الأشياء ورضي بما هو فيه.
وكذلك يكون التفكر في آيات الله الشرعية، كالقرآن الكريم، بحيث يكون ذلك موصلاً إلى قوة إيمان العبد وفهمه عن الله عز وجل، وأمره ونهيه، وحلاله وحرامه.
فالتفكر من أقوى الوسائل في تقوية الإيمان.(165/15)
الذكر والعمل
والوسيلة الثانية هي: وسيلة الذكر والعمل، ونحن نتوقع حين يسرح إنسان فكره في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، وينظر في هذه المعجزات الباهرة في كل مكان، أنه سينطق لسانه بذكر الله تعالى والثناء عليه، ولذلك ذكرت الذكر بعد الفكر، والمقصود بالذكر هو كل شيء يذكر العبد به ربه، من قراءة القرآن، أو الصلاة، أو الدعاء، أو التسبيح، أو التهليل، أو التحميد، أو غيرها.
1- القرآن أفضل الذكر على الإطلاق: وأفضل الذكر على الإطلاق هو القرآن، ولذلك روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الصلاة طول القنوت} والقنوت هو طول الوقوف كما فسره النووي وغيره، وإنما كان طول الوقوف في الصلاة فاضلاً لأنه محل قراءة القرآن، فكان أفضل ما في الصلاة طول القنوت، ولذلك ينبغي للعبد المسلم أن يحرص على أن يكون له ورد من القرآن، لا يخلفه حفظاً ونظراً.
وفيما يتعلق بالحفظ أثنى الله عز وجل على حفاظ القرآن، ووصفهم بأنهم هم الذين أوتوا العلم، قال سبحانه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] وكفى بهذا ثناءً على الحفاظ، ولهذا فجدير بكل شاب مسلم أن يحرص على أن يجعل من هدفه ودأبه حفظ القرآن الكريم، فيحفظ في كل يوم قدراً ولو قل، وإن أمكن أن يكون ذلك بعد ضبطه نظراً، حتى يكون الحفظ على أصوله فهو الأولى، أما ما يتعلق بقراءة النظر، فينبغي للإنسان أن يقرأ على الأقل جزءً في كل يوم، حتى يختم القرآن في شهر.
ومما يحسن أن يجعل الإنسان محل هذا بعد صلاة الفجر، لأن هذا الوقت وقت ضائع بالنسبة لأكثرنا، فإن أكثر الناس يقضون هذا الوقت المهم المثمر في النوم، ويضيعون على أنفسهم بذلك فضلاً عظيماً، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس كان كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة} فأنت حين تترك هذه الفضيلة، تفرط يومياً بأجر حجة وعمرة!.
ثم روى مسلم في صحيحه أيضاً: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يجلسون في المسجد بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس حسناء، فيتحدثون في أمورهم، ويذكرون الله، وربما ذكروا أمر الجاهلية فيضحكون، ويتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم} .
فينبغي للإنسان أن يجعل له علاقة بهذا القرآن، لا يسمح بالتفريط فيه، فإن شغله عن ذلك شاغل عوضه فيما بعد، وكان عكرمة بن أبي جهل يضع القرآن على صدره ثم يبكي! ويقول: [[قرآن ربي كلام ربي]] وذلك لما وجد في قلبه من اللذة بمناجاة الله تعالى بقراءة القرآن كما قيل: هو الكتاب الذي من قام يقرؤه كأنما خاطب الرحمن بالكلم 2- من أعظم الذكر الدعاء: ومن الذكر أيضاً الدعاء، بل هو من أعظم الذكر، ومن أعظم أبواب العبادة، وإذا كانت العبادة مأخوذة في اللغة العربية من التعبد، يقال: هذا طريق معبد يعني بكثرة السير عليه، فإن الدعاء من أعظم العبادات التي تتجلى فيها العبودية لله تعالى، لأن فيه شدة الانكسار بين يديه، فالعبد وهو يصلي ربما يداخله أحياناً نوع من العجب بعمله، ولكن العبد في حال الدعاء، إذا صدق فيه، فإنه يتحقق فيه كمال الانكسار والتذلل والخضوع لله عز وجل، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الترمذي وغيره أنه قال: {الدعاء هو العبادة} وكما في قول الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] .
3- العمل الصالح من أهم عوامل تقوية الإيمان: والعمل بصفة عامة من أهم عوامل تقوية الإيمان، بل هو جزء لا يتجزأ من الإيمان، سواء في ذلك عمل اللسان، أو عمل الجوارح، كالصيام والصدقة والزكاة والعمرة والحج، وزيارة الأقارب والزيارة في الله، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، فهي من أهم وسائل تقوية الإيمان، ونقيضها الأعمال السيئة التي هي من أهم وسائل تضعيف الإيمان، والقضاء عليه، ولذلك جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن} وزاد مسلم في صحيحه {فإياكم وإياكم} يعني: احذروا هذه الأعمال فإنها جديرة في سلب الإيمان من صاحبها، ولذلك كان ابن عباس يقول لعبيده: [[اسمعوا، من أراد منكم الباءة زوجناه، فإن العبد إذا زنى نزع الإيمان من قلبه حتى يكون فوق رأسه كالظلة كما أنزع قميصي هذا وقد يعود إليه وقد لا يعود]] فإذا خرج الإيمان من قلب الإنسان فالإنسان لا يضمن أن يعود الإيمان إلى قلبه، وهذا فيه وعيد شديد لكثير من أصحاب المعاصي.
أرأيت ما يقع فيه كثير من شبابنا من خروجهم في الإجازات وغيرها إلى كثير من البلاد، ومعاقرتهم الخمور، ومواقعتهم النساء بالحرام والعياذ بالله، وما يترتب على ذلك من انسلاخهم من الإيمان عند حال مواقعتهم لهذه المعاصي، هل يأمن الواحد منهم أن ينسلخ الإيمان من قلبه، ويسلب هذه النعمة فلا تعود إليه مرة أخرى؟! ألم يسمع ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة بن جندب -في رؤياه الطويلة- في صحيح البخاري: {أنه رأى قوماً في تنور وهم يعذبون، ولهم ارتفاع وانحدار، فإذا ارتفعوا ضوضوا وصوّتوا فقال: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني} فأي خطر يهدد الإنسان أعظم من ذلك!!(165/16)
لا حل لمشكلات الشباب إلا بالمجاهدة
أيها الإخوة: كثيراً ما يشتكي الشاب من ضعف إيمانه، أو من عوامل تعوقه عن طريق الإيمان أو من مشاكل يعانيها في بيته، أو في داخل نفسه، والشاب حين يشتكي يخيل لديه أن هناك دواء سحرياً، يصرف لهذا الشاب، ليكون علاجاً نافعاً ناجعاً بإذن الله.
ومن العجيب أن أحد الشباب الصغار جاءني بالأمس وهو يقول: أنا أجد صعوبة، وأعاني من الشهوة والغريزة في نفسي، وأريد أن أترك هذا الأمر بالكلية، لكن أين أذهب؟! يعني هو يتصور أن هناك حلاً نهائياً وأنه سيقال له: اذهب إلى مكان كذا، وسيذهب ما بك! وهذا من السذاجة، أو صغر السن، فهو يتصور أن يقال له: اذهب إلى مكان كذا، أو اذهب إلى فلان، أو استعمل كذا وحينئذٍ سوف يقطع دابر هذا الأمر من جذوره، حتى لا يشعر به يوماً من الأيام! وهذا وإن كان شعوراً عند هذا الشاب الصغير، فإنه بصورة أو بأخرى موجود عند معظم الشباب، فهم يجدون نوعاً من الصعوبة في المجاهدة، وليس هناك حل لمثل هذه المشكلات التي يعانيها الشاب أياً كانت إلا المجاهدة التي تنطلق من ذات الإنسان، ويتدرع ويتسلح الإنسان فيها بالصبر، والتقوى، والاعتصام بالله عز وجل، ومعرفة أن هذه الدار التي يعيش فيها هي دار ابتلاء وامتحان، ولابد فيها من تعب ونكد، لكن يفضل أن يتعب الإنسان في مرضاة الله وطاعته، وفيما يكون سبباً لسعادته في الدنيا والآخرة، خير من أن يتعب في غير ذلك، فعلى الشاب أنه يدرك أنه لا علاج لهذه المشكلات التي يعاني منها والأسئلة التي يطرحها إلا أن ينطلق في حركة مجاهدة، صادقة، مستمرة، صابرة حتى يقبضه الله تعالى وهو في هذا الجهاد، فهو جهاد يبدأ من فترة التكليف، أو التمييز، وينتهي بالموت، لا نهاية له قبل ذلك.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(165/17)
الأسئلة(165/18)
مدارج السالكين وأثره
السؤال
سؤال عن مدارج السالكين وأثره؟
الجواب
مدارج السالكين كتاب قيم وطيب بلا شك، شرح فيه الإمام ابن القيم كتاب منازل السائرين لشيخ الإسلام الهروي، لكن الكتاب الأصل الذي هو منازل السائرين فيه صوفيات؛ لأن شيخ الإسلام الهروي رحمه الله كان فيه تصوف، فالشيخ ابن القيم رحمه الله شرح هذه الأشياء، وربما حاول أن يلتمس مخرجاً صحيحاً لهذا الرجل في بعض ما قال، فالكتاب مفيد، ولكن فيه بعض الأشياء التي ينتبه لها، وقد قام بتهذيبه عدد من العلماء، فأولاً علق عليه محمد حامد الفقي وفي مواضع له تعليقات غالبها جيد، ثم هذبه عبد الله السبت في مختصر، وكذلك هذبه عبد المنعم صالح العلي في مختصر آخر، وكل هذه الكتب مفيدة، وأنصح طالب العلم بقراءة مدارج السالكين، والانتفاع بما فيه.(165/19)
المخرج من استعمال العادة السرية
السؤال
أنا شاب مبتلى بالعادة السرية، فما هو المخرج من هذا المرض؟
الجواب
مسألة الشهوة في نفوس الشباب هي من أهم الأخطار التي تواجههم، وهي ابتلاء وضعها الله في نفس كل إنسان، فالله قادر على أن يجعل الإنسان ملكاً، والله عنده ملائكة في السماء، لا يوجد في السماء موضع إلا وفيه ملك ساجد أو قائم لله عز وجل، وهؤلاء الملائكة لا تجيش في نفوسهم الشهوات، قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] لكنه سبحانه لحكمته خلق الإنسان في هذه الدنيا، وكلفه بهذه المهمة وهي عبادته، وخلقه بصفة معينة، فيه خير وشر، وقابل للخير والشر، وللهدى والضلال قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] وقال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] وهذا هو سر الابتلاء في هذه الحياة، ولو ذهب هذا الأمر لذهب معنى الابتلاء، فلو جبل الله الناس كلهم على أن يكونوا صالحين، ما كان هناك فرق بين الطيب والخبيث، والمهتدي والضال، فعلى الشاب أن يدرك أن هذا نوع من الابتلاء الذي ابتلاه الله تعالى به، وعليه أن يقاومه بالصورة الصحيحة أولاًَ، وأخيراً بالمجاهدة التي ذكرتها في نهاية الكلمة.
وكل ما يمكن أن يقال لك -أيها الشاب- هو: أنه ليس أمامك إلا المجاهدة، لكن يمكن أن توجد وسائل أو عوامل، تعينك على هذه المجاهدة.
فمثلاً: يمكن أن يقال للشاب المبتلى بمثل هذا الداء، أو بالشهوة بصفة عامة، أن على الشاب أن يتقي المواقع التي فيها إثارة للشهوة، مثل الخروج للأسواق والأماكن التي يكون فيها أشياء تثير، فيتقي تلك الوسائل، ويتقي سماع الغناء المحرم، ويتقي النظر إلى الصور المحرمة التي فيها الإثارة، وكل أمر يثير الشهوة يجب أن يتقيه، وهذا من شأنه أن يهدئ شهوة الإنسان، أما أن يؤجج الإنسان شهوته ويثيرها ولا يتقي هذه الأشياء، ثم يأتي ويقول: كيف أخرج؟! وأنقذوني! فهذا لا يكون، والأمر في هذا كما قيل: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فأول خطوة في العلاج هي الوقاية، وأن يكون لهذا الشاب قوة في الإرادة، بحيث يحجز نفسه عن كل وسيلة تثير غريزته وشهوته، فهذه وسيلة.
والوسيلة الثانية: هي أن يحرص الشاب على أن يشغل نفسه بأمور حميدة، أو مباحة على أقل تقدير، فيشغل نفسه بالطاعات، وبمجالسة الطيبين، وبالرياضة المباحة، وبالاشتغال بالأنشطة: كالمراكز، والنشاطات المدرسية، وسواها، بحيث يصرف هذه الطاقة المركوزة فيه في مصرفها الصحيح.
ثم على الشاب أن يحرص على كثرة الدعاء، لأن الله عز وجل لما ذكر مقولة الشيطان ذكر أنه قال: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] وما ذكر أنه سيأتي من فوقهم، لأنه علم أن الله فوقهم، فباب الله مفتوح لمن طرقه بجد وصدق وإلحاح، فعلى الشاب الذي يعاني من هذا أن ينطرح بين يدي الله بصدق، ويكثر من الدعاء، والرجاء، والله لا يخيب من دعاه.
وأخيراً فإن على الشاب أن يحرص على استعمال العلاجات الشرعية التي منها: أولاً: الزواج كما في الحديث: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج} ولماذا يضع كثير من الشباب عقبات طويلة عريضة أمام الزواج! عقبات مالية، وعقبات في البيت، وعقبات في المرأة، وعقبات في إكمال الدراسة، والسن وغيره، فيجب أن نعمل على تذليل مثل هذه العقبات أو ما أمكن منها أو غيرها، فإذا كان الزواج متعذراً فالبديل: {فمن لم يستطع فعليه بالصوم} فيكثر الشاب من الصيام، لما في الصيام من تضييق مجاري الدم وهي العروق التي يجري فيها الشيطان من ابن آدم، فيقل بذلك وسوسة الشيطان، وتأثيره على الإنسان، وأنصح هذا الشاب وغيره بأنه إذا وقع في المعصية فعليه أن يسارع في التوبة، وأقول: التوبة، لأنني علمت من الشباب أن هذا الأمر من الأمور التي لا يتوبون منها، لماذا؟ لأن الواحد منهم يقول: تبت ثم وقعت مرة ثانية، ثم تبت، ثم وقعت، فصرت لا أتوب، لأنني أقول: لا فائدة أن أتوب، أنا أعرف أني سأقع! أقول: لا.
بل يجب أن يتوب، والتوبة واجبة من كل ذنب، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] وأنتم تعرفون قصة الإسرائيلي التي رواها مسلم في صحيحه: {ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أذنب ثم استغفر قال: ربِّ! أذنبت فاغفر لي فغفر الله له، ثم أذنب مرة أخرى، فاستغفر، قال: ربِّ! إني أذنبت فاغفر لي، فغفر له، ثم أذنب ثالثة، فاستغفر، قال: ربِّ! إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله له وقال: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، افعل ما شئت فقد غفرت لك} فهذا دليل على أن الإنسان ولو تكرر منه الذنب يحب أن يتوب.
وحين تتوب لا تتوب وفي نيتك أن ترجع، بل تب وأنت في نيتك أن تبذل جهدك ألا ترجع، وقد لا تمكن أصلاً من فعل هذا الذنب بحيث تنتهي أيامك في هذه الدنيا، قبل أن تفعل هذا الذنب، فتكون مت على توبة، فينبغي ألا يخدعك الشيطان بترك التوبة.
ونصيحة أخرى -أيضاً- مهمة في هذا المجال، وهو أنه ينبغي لك ألا تقبل وسوسة الشيطان التي تقول لك: أنت الآن رجل مدنس ملوث، وعندك هذه القاذورات، وأنت تجلس بين قوم صالحين، ويظنون بك الظنون الحسنة، فخير لك أن تتجنبهم، وتظهر على حقيقتك! والشيطان يقول لك هذا الوسواس حتى ينفرد بك، ثم يذهب بك كل مذهب، بل اجلس مع الناس الطيبين والصالحين، وجالسهم، واعمل ما تستطيع من النشاطات، وشارك في الأعمال الخيرة، وإلقاء الكلمات -مثلاً- وفي أي عمل، واحرص على أن تتجاوز هذا الأمر، وألا يؤثر ذلك في حياتك الدعوية، ولا مانع إذا كان هذا الأمر وصل بك إلى حد مرضي أن تعرض حالتك على طبيب مختص، فقد يفيدك في هذا المجال.(165/20)
الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
السؤال
هذا سؤال عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وبعض الاكتشافات التي يحاول بعض أهل الإسلام أن يطبقوا عليها بعض ما ورد في القرآن والسنة، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
الإعجاز العلمي ينبغي التفصيل فيه، فالأشياء التي أصبحت حقائق علمية من جهة، والدلالة عليها من القرآن ظاهرة بلا تعسر، من المناسب أن نتحدث عنها، لأنها من الأشياء التي تزيد في إيمان الناس، وقد تسبب إيمان غير المؤمنين، وأقصد بذلك القضايا العلمية الثابتة، مثل بعض القضايا في علم الأجنة الثابتة علمياً وطبياً، والتي توجد عليها أدلة ظاهرة من القرآن الكريم بلا تكلف أو تعسف، أما إذا كانت الأشياء العلمية هي ظنون ونظريات، فلا ينبغي أن يشتغل بالبحث لها عن أدلة من القرآن الكريم، لأن النظريات قابلة للنقض.
وكذلك إذا كانت الحقيقة العلمية حقيقة، لكن الدلالة عليها من القرآن ليست ظاهرة، بل هي إشارات خفية وقد تكون بتكلف وتعسف، فلا ينبغي أن نحمل القرآن ما لا يحتمل.(165/21)
حكم الاستثناء في الإيمان
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وماذا يترتب على هذه الكلمة إذا قالها وهو يعتقد أن الإنسان لا يعرف، هل إيمانه كامل أم لا، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
الإيمان يطلق بعدة اعتبارات، فإذا أريد به الإيمان بالله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، فإنه لا يستثنى فيه، فلا يقول: أنا مؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر والقدر، إن شاء الله، بل يجزم بذلك.
أما إن قصد بالإيمان: قوة الإيمان، التي هي مرتبة فوق الإسلام كما في حديث جبريل وغيره، فإنه إن قال ذلك علقه بالمشيئة، وبهذا تجتمع الأقوال الواردة عن السلف في هذا، وإن كان الإنسان ينبغي ألا يزكي نفسه في ما يتعلق بموضوع دعوى الإيمان، فمن قوة إيمان العبد ألا يدعي أنه مؤمن، بمعنى أنه قوي الإيمان.(165/22)
سبب قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للعشر الآيات الأواخر من آل عمران
السؤال
لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ العشر الأواخر من سورة آل عمران؟
الجواب
الذي يظهر من الرواية أنه كان ينظر في السماء ويقرأ هذه الآيات، لما فيها من الأمر بالتفكر، والذكر، وما يترتب عليه، لأن فيها قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} [آل عمران:191] إلى آخر الآيات التي فيها التفكر في ملكوت السماوات والأرض، والنظر فيها.(165/23)
الذنوب لا تقيد بالأعمار
السؤال
من كان عمره أقل من عشرين أو خمسة عشر، هل إذا عمل شيئاً من الذنوب عليه إثم من جهة الإيمان، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
المسألة ليست مقيدة بخمس عشرة سنة، فبلوغ الإنسان -كما هو معروف- يكون بعدة أشياء منها: إنبات الشعر فوق العانة، ومنها الإنزال، ومنها الحيض بالنسبة للمرأة، ومنها بلوغ خمس عشرة سنة، وهي السن التي يكلف فيها الإنسان، لكن إذا عمل الإنسان شيئاً من الذنوب وهو مميز، دون أن يبلغ، فهل يأثم بذلك، وهو يعرف أن هذا إثم لا يرضي الله، أم لا يأثم؟ الله أعلم لست أدري.(165/24)
تأثير الصلاة على العبد في الحياة اليومية
السؤال
إنني أخشع في الصلاة وأبكي خاصة في الوتر، لكن لا أجد ثمرة ذلك في حياتي؟
الجواب
الناس يتفاوتون في درجة الخشوع، في سرعته أو بطئه، ولكن على كل حال، الخشوع ورقة القلب وذكر الله من علامات الخير عند العبد، وعلى الأخ السائل أن يستمر على ما هو من الحال، والأثر لا يبين بين يوم وليلة، ثم عليه ألا يعتبر أن وجود هذا الخشوع، يعني أن إيمانه قوي، بحيث يؤثر في حياته تأثيراً كاملاً، وربما أوجد عنده نوعاً من الارتياح لما هو فيه، وعدم المجاهدة في طلب الزيادة، بل يجب أن يعرف أن الإيمان يكون بقوة اليقين في القلب، وقوة الثقة بالله، وقوة التوكل عليه، وشدة الإيمان بالدار الآخرة وما فيها، وهذه الأشياء إذا وجد إيمان قوي بها في القلب لا بد أن تؤثر، أي أن الإنسان الذي ينظر للآخرة كأنه يراها رأي العين، لابد أن ينزجر عن المعاصي، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان: {أن تعبد الله كأنك تراه} وقال الصحابي الجليل حنظلة بن الربيع: {إننا إذا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا نراها رأي عين} يعني كأننا نراها بأعيننا، فهذه من أعظم الأدلة على مدى إيمان الإنسان، ومدى استحضاره لمعاني الإيمان في قلبه، ومدى خوفه من الله ورجائه فيه، ومحبته له، وعمله للدار الآخرة، والخشوع أثر من هذه الأشياء.(165/25)
لا تعارض بين العبادة والعلم والدعوة
السؤال
يعتقد كثير من الشباب أن التفرغ لطلب العلم، وللعبادات والنوافل، مقدماً على الاجتماع بالرفقة الصالحة، وذلك واضحٌ بالنسبة لمن تمضي عليه فترة ليست بالقصيرة، فما رأيكم بأسباب هذا، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه الأمور -أيها الإخوة- ليس بينها تعارض ولا تضارب، أي لا ينبغي أن نضرب أمور الشرع وأعمال الدين بعضها ببعض، أو نزيد ببعضها على حساب البعض الآخر، بل ينبغي للإنسان أن يكون متوازناً، وكما أن التوازن مطلوب في العقيدة، بين الحب، والخوف، والرجاء، فكذلك هو مطلوب في الأعمال والسلوك، بين العلم والدعوة، والعبادة، وغيرها من المشاق، والتوازن عزيز في الناس اليوم، فأنت تجد منهم من يقصر في شئون البيت بحجة الانشغال بالدعوة، ومنهم من يقصر في طلب العلم بحجة الانشغال بالدعوة، ومنهم من يقصر في العبادة بحجة الانشغال بالدعوة، ومنهم من يقصر في الدعوة بحجة الانشغال بهذه الأشياء.
ونقول: إن الذي فرض هذه الأمور وشرعها هو الله عز وجل، والمكلف بها هو كل مسلم، فيعمل منها بالمستطاع، ويوفق بينها، والتوفيق بين هذه الأمور ليس متعذراً لمن أوتي الحكمة، قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] لكن على الشاب أن يحذر من ردود الفعل، وهذه كلمة سبق أن حذرت منها، وأشرت إليها، وهي الحذر من ردود الفعل، لا يحملك التقصير السابق في جانب معين على أن تحاول أن تعوض على حساب جانب آخر، فإن كنت مقصراً -مثلاً- في الدعوة إلى الله مشتغلاً بالعلم، فليس العلاج هو أن تترك العلم جانباً وتتفرغ للدعوة، بل استمر على ما أنت عليه من طلب العلم وفي نفس الوقت حاول أن تبذل ما تستطيع من جهود في مجال الدعوة إلى الله، وهكذا في بقية الأعمال الأخرى.(165/26)
مقولة خاطئة نسبت إليَّ
السؤال
ينسب إليك -أحد الإخوان- أنك قلت أن أربعين حديثاً في صحيح البخاري ضعيفة، فهل تلك النسبة صحيحة؟
الجواب
هذا من عجيب ما ينسب، والحقيقة أن هذا ليس بصحيح، ولا أصل له، بل إن جميع ما في البخاري من الأحاديث الموصولة فهو صحيح، والشيء الذي أراه بهذه المناسبة أنه يجدر بطلاب العلم والمشتغلين بالسنة النبوية والحديث النبوي، ألا يزعزعوا ثقة الناس بالصحيحين، بل يعملوا على زرع الثقة ودعمها بهذين الكتابين الجليلين، الذين صنفهما إمامان مجتهدان ووافقهما على تصحيح ما فيهما غيرهما من الأئمة في عصرهما، فمثلاً الإمام مسلم ذكر أنه عرض صحيحه على أبي زرعة فوافقه على ما فيه، وبناءً عليه ندرك أنه ولو وجد من ضعَّف أحاديث في مسلم؛ يقابله أئمة آخرون صححوها.
أما من أين جاءت هذه الكلمة التي نسبها الأخ فلا أعلم لها أصلاً، إلا شيئاً واحداً، لعلكم تعلمون جميعاً أن في البخاري أحاديث معلقة، وهذه الأحاديث المعلقة والآثار أيضاً هي ما يرويه البخاري في تراجم الأبواب، من أقوال غير موصولة، وغير مسندة، أحياناً يقول: باب، ثم يقول قال فلان كذا، مثلاً -باب العلم الصالح قبل القتال، وقال أبو الدرداء: [[إنما تقاتلون بأعمالكم]] وهذا فيه ليس أربعين، بل فيه مئات الأحاديث، والآثار المعلقة في صحيح البخاري، هذه الآثار المعلقة لا يصلح أن تقول في واحد منها: رواه البخاري وتسكت، فهذا خطأ علمي، بل لا بد أن تقول: رواه البخاري تعليقاً، لأن البخاري لم يسقه مسنداً محتجاً به، إنما ذكره بغير إسناد، وقد يذكره أحياناً بصيغة التمريض، فيقول: روي، وحكي، كما قال: ويذكر عن جرهد الأسلمي {الفخذ عورة} وهذه صيغة تمريض تعني ضعف الحديث عند البخاري، ومع ذلك ذكره بهذه الصيغة، ومع هذا لا يقال: رواه البخاري، ولا يقال: إنه في صحيح البخاري، إلا بشرط أنه معلق.
فهذه المعلقات فيها الصحيح على شرط البخاري، وفيها صحيح يتقاعد عن شرط البخاري، وفيها الحسن لذاته ولغيره، وفيها الضعيف الذي وجد ما يجبره من جهة أخرى، وفيها الضعيف الذي لم يوجد ما يجبره، وقد قسم هذه الأقسام تقسيماً لا مزيد عليه الحافظ ابن حجر في كتابه النكت على علوم الحديث لابن الصلاح، فليراجعه من شاء.(165/27)
مصاحبة الصالحين تقوي الإيمان
السؤال
هل عدم مصاحبة الصالحين مما يضعف الإيمان؟ وهل الركون إلى الراحة وعدم الدعوة إلى الله مما يضعف الإيمان؟
الجواب
هذه الوسائل: الاجتماع على الخير، والدعوة إلى الله، بلا شك من وسائل تقوية الإيمان، وتركها هو من وسائل ضعف الإيمان، هذا هو الأمر الظاهر، لكن قد يكون الأمر مختلفاً في حال بعض الأفراد بأعيانهم، لأن لهم ظروفهم الخاصة، بحيث يكون -مثلاً- انعزال الواحد منهم خيراً له من الخلطة، لأنه إذا اختلط بالناس أفسد أكثر مما يصلح، فهو لا يتحمل أخطاء الناس، بل يقسو عليهم، ويغير المنكر بطريقة تضاعف منه، ويقلق وربما يصيبه أحياناً شيءٌ من التصخب، والجزع، والتبرم بهذه الأشياء فيؤثر نوعاً من العزلة، وليست عزلة مطلقة، ولكن قد يكون في حق أشخاص لهم مثل هذه الظروف، لكن مما لا شك فيه أن الوضع الطبيعي أن الاجتماع على الخير يقوي الإيمان، ولذلك كان الخطاب في القرآن الكريم لمجموعة (يا أيها الذين آمنوا) في مواضع كثيرة جداً.
والله عز وجل أمر بالتواصي بالحق وبالصبر، والتعاون على البر والتقوى، وغير ذلك من الأشياء التي لا تتم ولا تحصل إلا بالاجتماع، أرأيت إن لم تجتمع بأهل الخير والصلاح، فكيف تكون متعاوناً على البر والتقوى متواصياً بالصبر، متواصياً بالحق؟! وكيف تحقق الأخلاق الإسلامية المطلوبة، من الحلم، والصبر، والأناة، والإحسان، والإفضال على الناس إلخ! لا شك أن هذه الأشياء فعلها طاعة وإيمان، وتركها نقص في الإيمان -كما هو معروف- وهذه الأفعال والأعمال كلها طاعات وإيمان، ولذلك البخاري رحمه الله بوب، باب الصلاة من الإيمان، باب الزكاة من الإيمان، باب صيام رمضان من الإيمان، باب قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً من الإيمان إلخ، وهكذا قال الإمام الشافعي: الصلاة إيمان، والزكاة إيمان، وسائر الأعمال هي إيمان، وكما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس.(165/28)
أسباب سلب الإيمان
السؤال
كيف يسلب الإيمان؟ وما علاج العجب؟ وبالنسبة للحديث الذي ذكرت: {لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن الحديث} فقد سمعنا حديثاً مشابهاً لهذا، وهو فيما معناه {قيل: هل يسرق المؤمن؟ قال: نعم، قيل: هل يزني؟ قال: نعم.
قيل: هل يكذب؟ قال: لا.
} فما مدى صحته؟
الجواب
أما الحديث الذي ذكره السائل فهو ضعيف، ويقوم مقامه الحديث الصحيح: {يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب} وأيضاًَ يقوم مقامه حديث أبي ذر في الصحيح: {ما من عبد يقول: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه إلا دخل الجنة قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق، قال في الثالثة: وعلى رغم أنف أبي ذر} وبطبيعة الحال هذه الأحاديث لا تعارض ما سبق، لأننا لا نقول: إن من زنى فهو كافر، فهذا مذهب الخوارج، وإنما نقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الإنسان في حال مواقعة الزنا يسلب الإيمان منه، فإذا تاب تاب الله عليه، ولا يعني ذلك أنه كافر، وإنما لو كان الإنسان خلال وقوعه في هذه المعصية مستحضراً عظمة الله عز وجل، مدركاً باطلاعه عليه، وعدم رضاه بما هو عليه، لأقلع عن هذا الفعل، وكف عنه، فكونه يقدم على هذا الفعل دليل على أنه غاب عنه وازع الإيمان واختفى، وغلبت عليه هذه الشهوة.
أما أول السؤال وهو كيف يسلب الإيمان؟ وما علاج العجب؟ لعل بين هذين السؤالين ترابط كبير، فإنني أعتقد أن أهم سبب لسلب الإيمان من صاحبه، هو وقوع الكبر في قلبه، ولذلك صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر} لأن الإنسان إذا كان متكبراً مختالاً معجباً بنفسه فإن هذه الشهوة تكبر في قلبه، حتى يصبح عنده نوع من عدم الرضا بقضاء الله وقدره، والشعور بأن الأقدار قد ظلمته! وأنه لم يصل إلى ما يستحقه من المنزلة والمكانة! ولسان حاله يقول: تقدمتني أناس كان شوطهم وراء خطوي إذا أمشي على مهل فهو يعتقد أنه أفضل من غيره، وأنه يستحق أكثر مما أعطاه الله، وهذا يترتب عليه أمر ثالث، وهو أن يشك في حكمة الله تعالى وقدره، فتتحول الشهوة في قلبه إلى شبهة، فيقع في الردة، والعياذ بالله.
ولو نظرت في تاريخ المرتدين، لوجدت أن هذا الأمر ظاهر، وقد سبق أنني ذكرت مرات عديدة قصة القصيمي الذي كان يجالس العلماء، وطلاب العلم، وكتب كتابات كثيرة كالصراع بين الإسلام والوثنية والبروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية وأسباب تأخر المسلمين وغيرها ثم ارتد عن الإسلام، وكفر بالله، لو نظرت في هذا الرجل كنموذج للذين سلبوا الإيمان والعياذ بالله سلباً كلياً، ارجع إلى ما كتب قبل ذلك، يوم كان مسلماً في ظاهر أمره، وفيما يبدو للناس، تجد أن الجرثومة هذه -جرثومة العجب- موجودة بشكل ظاهر، حتى إن بعض مترجميه يقول أنه كان يقول في شعره: ولو أن ما عندي من العلم والفضلِ يوزع في الآفاق أغنى عن الرسلِ وله في ذلك قصائد طويلة، فهذه الجرثومة الموجودة أصلاً في قلبه، وهي جرثومة الكبرياء، حتى أنه عبر في قصائده بأنه متكبر، وقال أن في نفسه من الفضل والمواهب فوق ما أرى أنا، ولذلك يحق لي أن أتكبر، هذا معنى ما يقول، فآل به الأمر إلى ما آل! فلذلك على الإنسان أن يحرص على التواضع، ولذلك ذكرت موضوع الدعاء خلال المحاضرة، وأنه من أعظم العبادات؛ لأنه يتحقق فيه الانكسار والذل بين يدي الله عز وجل، وعلى الإنسان أن يبصر دائماً نعمة الله، وخطأه وتقصيره، ويعلم أنه لو قضى حياته كلها ساجداً لله عز وجل لما أدى شكر نعمة من نعم الله، ولكن الله ذو فضل على العالمين.(165/29)
قل هو من عند أنفسكم
خص الله تعالى الأمة الإسلامية بمزايا عظيمة فهي خير أمة أخرجت للناس والخير فيها إلى قيام الساعة وحول سر هذه الخيرية تحدث الشيخ، ثم أوضح أن هذا الأمر -الذي هو سر الخيرية- قد تراجع في الآونة الأخيرة وأن ذلك التراجع هو السبب في انحطاط الأمة فحتى تدرك هذا السير، وتعرف كيف يمكن أحياؤها في الأمة لتنهض من جديد اقرأ واسمع هذه المادة.(166/1)
خيرية الأمة الإسلامية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، نحمد الله تعالى الذي جعل الخيرية في هذه الأمة قائمة باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فجعل هذه الأمة آخر الأمم وخيرها وأكرمها على الله عز وجل، وأولها دخولاً الجنة، وذلك لما اختصها به من الإيمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام على البشرية كلها.
لقد كتب الله تعالى أن يكون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو خير الأنبياء وآخرهم، فقال عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] وكذلك جعل أمته هي خاتمة الأمم وآخرها وأفضلها وخيرها وأبرها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة} فهذه الأمة هي أول من يدخل الجنة، وأمر خزنة الجنة ألا يفتحوا لأحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا دخل محمد صلى الله عليه وسلم دخل المؤمنون من ورائه.(166/2)
عوامل الخيرية
أيها الإخوة إن خيرية هذه الأمة وفضلها ليس لأنها أمة عربية، ولا لأنها أمة تسكن في بلاد العرب، ولا لأنها تنتسب أو تمت بنسب أو سبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا نسب الإيمان به، وسبب طاعته واتباعه في أمره ونهيه؛ ولذلك فإننا نجد أن من أقرب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام من كانوا حطباً لجهنم كـ أبي لهب وغيره، بل كـ أبي طالب الذي كان حريصاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحوطه ويحميه ويمنعه، ومع ذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في ضحضاح من نار، وأن تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه، وإنه ليرى أنه أشد أهل النار عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً.
وفي مقابل ذلك تجد في بناة الإسلام الأولين أمثال سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي الذين كانوا من أمم أخرى، بل تجد في عباقرة الإسلام، وتجد في حملة رسالته، وتجد في قادة الفتوح رجالاً أبطالاً عظماء لم يكونوا ينتسبون إلى أصول عربية، ولا ينتهي نسبهم إلى نسب العرب، وإنما جمعهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اتبعوه وأطاعوه ورضوا به هادياً وإماماً.
لعمرك ما الإنسان إلا ابن سعيه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب(166/3)
التواضع والتخلي عن العجب
أيها الإخوة لم يعهد على هذه الأمة منذ أن أوجدها الله تعالى وحتى حين كانت أمة راشدة مهتدية، وحتى حين كانت أمة صالحة، بل حتى حين كان يقودها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، لم يعهد على هذه الأمة أنها كانت ترفع أنفها عالياً، وتقول: نحن المهتدون نحن السائرون على المنهج نحن الذين ما خالفنا ولا عصينا ولا غيَّرنا ولا بَدَّلنا، وتبالغ في مدح نفسها بما فيها وما ليس فيها أبداً.
كانت هذه الأمة يوم كان يقودها الرسول صلى الله عليه وسلم تحصل لها الهزائم كما صار في معركة أحد؛ فيتعجبون ويقولون: أنى هذا؟! فيأتيهم
الجواب
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:165-166] أي: السبب من عند أنفسكم.
وحين تهزم هذه الأمة هزيمة أخرى في بداية معركة حنين يتعجبون، فينزل الوحي: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً} [التوبة:25] إذاً إنما ذلك أتيتم من قبل أنفسكم؛ حين اغتررتم بعدتكم وعددكم وكثرتكم وبأسكم، فقلتم: لن نغلب اليوم من قلة، ونسيتم قوة الله عز وجل، والاعتماد عليه، وكمال التوكل عليه، فأدبكم الله بالهزيمة التي ردتكم إلى صوابكم {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26] .
لم تقل هذه الأمة في يوم من الأيام في تاريخها الطويل: نحن لا نستحق ما أصابنا؛ لأننا مستقيمون على شريعة الله، آخذون بهدى الله، ملتزمون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(166/4)
التوبة والمراجعة
أيها الإخوة إن من أسرار خيرية هذه الأمة أنها أمة التوبة والمراجعة، أمة كتب الله لها أن تكون على الطريق الصحيح، فكلما زاغت أو زلت أو انحرفت أو تلكأت أو نسيت منهجها؛ قيض الله تعالى لها ضربة على وجهها تردها إلى الطريق المستقيم، وتقول لها: الطريق من هاهنا! وهذه الضربة لا يمكن أن تكون مجرد مواعظ عابرة من متكلم، ولا خطباً رنانة من خطيب، لا، إنها عبارة عن أحداث وأزمات ومصائب تنزل بهذه الأمة ترشدها إلى الطريق المستقيم، وتبين لها خطأها، إنها أمة مستغفرة، توابة، كلما عثرت في طريقها أو انحرفت سلط الله عليها من عدوها من يوجهها إلى الطريق المستقيم، وهكذا يتسبب عدوها في دلالتها على الطريق المستقيم من حيث لا تريد، ومن حيث لا يريد.(166/5)
الاصطفاء لحمل الرسالة
هذه الأمة لا يمكن أن تأخذ لبوساً غير لبوسها، ولا أن تلبس ثوباً غير ثوبها، فكل تعاليم الشرق والغرب، وكل حضارات الدنيا، وكل أنظمة البشرية من القومية والاشتراكية والشيوعية والبعثية وغيرها لا يمكن أن تصلح لها ولا أن تصلحها؛ لأنها أمة خلقت للإسلام وكلفت به، وهي التي سوف تحمله، وهو الذي سوف ينهض بها، فإذا تخلت الأمة عن الإسلام، فغيرها أجدر وأحرى ألا يقوم به، كما قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: [[والله يا معشر العرب! إن لم تقوموا بهذا الدين فغيركم أحرى بألا يقوم به]] .
لا تنتظر أبداً أن أمم الأمريكان، أو أمم الروس، أو أمم الشرق، أو أمم الغرب هي التي سوف تحمل هذا الدين، وإن وجد من هذه الأمم من يدين بالإسلام، ووجد من يتحمس للإسلام، ووجد من يدافع عن الإسلام، والأمر كما قال الله جل وعلا: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] لكن أيضاً هذه بلاد الإسلام، وهذه أمم الإسلام، وهذا أمر معلوم ظاهر لا يشك فيه من له معرفة بالتاريخ، ولا من له معرفة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من له معرفة بسنن الله جل وعلا.
حتى حينما تقرأ ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم مما يقع في آخر الزمان من الفتن، والمحن، والشدائد، والملاحم الكبيرة، تجد أن موقع هذه الملاحم هي بلاد العرب، وهذه الجزيرة العربية بالذات، وما حولها كبلاد الشام وبلاد اليمن، وفلسطين، وما جاورها من بلاد الإسلام.
وتجد أن القبائل العربية هي التي تقف في وجه الزحوف الكافرة، حتى زحف المسيح الدجال الذي يقف وراءه النصارى واليهود والوثنيون والمرتدون، وهو فتنة عظيمة، فلا يقف في وجه هذا السيل الكاسح إلا أهل هذه البلاد بقيادتهم الراشدة المهدية التي يبعثها الله سبحانه وتعالى في ذلك الوقت.
إذاً لا تتصور أن يوماً من الأيام سوف يأتي تكون فيه الدول الشرقية أو الغربية تحمل هذا الدين أبداً.
هذا الدين نزل للبشرية كلها، ولكن اقتضت حكمة الله تعالى وعدله ورحمته أن تكون هذه الأمة هي الأمم التي استحفظت كتاب الله عز وجل، وشريعته ودينه، وكلفت به، وكلما انحرفت عنه يمنة أو يسرة سلط الله تعالى عليها ضربة في وجهها أو في رأسها تردها إلى الطريق المستقيم.(166/6)
أحوال الأمة الإسلامية في هذا العصر
والعجب كل العجب أن تقول الأمة في هذا الزمن الذي بلغ فيه الانحراف عن دين الله وشرعة مبلغه، وتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال في حديث ثوبان: {لن تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان} ولقد تحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
فلقد وجدنا في هذه الأمة فئاماً كثيرة من الناس قد ارتضوا ديناً غير دين الله عز وجل، فأصبح منهم الشيوعي الملحد الذي لا يدين بدين، وأصبح منهم العلماني الذي يطالب بفصل الدين عن الحياة، ويطالب أن يكون الدين محصوراً بين أربعة جدران في المسجد، لا علاقة له بالسياسة، فلا علاقة له بالإعلام، ولا علاقة له بالاقتصاد، ولا علاقة له بشئون المرأة، ولا علاقة له بالأمور الاجتماعية، ولا علاقة له بالتعليم، بل هي مجرد علاقة بين العبد وربه في المسجد أو المعبد.
أما بقية شئون الحياة فتكون للجاهلية، وتكون للشيطان يصرفها كيف شاء.(166/7)
استبدال دين الله
وجدنا في هذه الأمة من ارتضوا سنة وهدياً غير هدى الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع شئون حياتهم، حيث يقيمون اقتصادهم، وسياستهم، واجتماعهم، وعلاقتهم الداخلية والخارجية على قوانين الشرق والغرب.(166/8)
الإصرار على الذنوب والمعاصي
ووجدنا فوق هذا كله من يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون، خلافاً لما أخبر الله تعالى به من طريقة الصالحين المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] .
فاليوم المؤسف -كل الأسف أيها الإخوة- أن الأمة -سواء على النطاق الفردي أو على النطاق الدولي والجماعي- لا تزال مصرة على ذنوبها ومعاصيها، على رغم البلايا والأزمات التي تنزل بها، بل ربما تقول أحياناً: إن الأزمات لا تزيدها إلا إصراراً على ما هي عليه، أما على المستوى الفردي فكل امرئ خبير بنفسه، يكفيك أننا أصبحنا نسمع نغمة تتردد كثيراً في المجالس، وفي وسائل الإعلام، وفي غيرها تتنكر لسنة إلهية: وهي أن ما أصابنا بذنوبنا، ويقولون: "لا! هذا ليس صحيحاً"، منهم من يقول: كلا! إن ما أصابنا إنما هو كرامة من الله تعالى، إن ما أصاب الأمة تكريم من الله تعالى لها، إن ما أصاب الأمة هو لرفعة درجاتها، إن ما أصاب الأمة هو أمر عادي يحدث لكل أمة.
ومن الناس من يقول: إن هذا بسبب أمور مادية بحتة، وينكر السبب الشرعي وراء هذا كله، وبالتالي نحن نتساءل كم منا من غير من سلوكه بمناسبة الأزمات التي نزلت بالأمة؟ إن وجود خمسة أو عشرة اهتدوا بسبب الأزمة هذا ليس جواباً وليس حلاً، ماذا يقع خمسة أو عشرة مما يراد لهذه الأمة أن تستقيم عليه؟!(166/9)
ما ينبغي أن تكون عليه الأمة
الأصول المعروفة عن هذه الأمة أن مثل هذه الأزمات كانت تسبب استقامة جماعية للأمة، كانت تسبب توبة بالجملة لفئات وأمم من الناس، أما واحد أو اثنان أو خمسة أو عشرة فهؤلاء لا يعدون شيئاً!(166/10)
على مستوى الفرد
قليل منا جداً من عدل سلوكه على ضوء هذه الأحداث التي تعيشها الأمة، قليل منا من شعر بأن الأمة تبتلى وتمتحن، بل وربما يكون أكثرنا لا يدري ماذا يجري، ولا يدري ماذا يراد بهذه الأمة، ولا يدري ماذا يحمل الأعداء من مشاعر الغضب والكراهية لهذه الأمة، وهذه مدعاة إلى أن تقع هذه الأمة في مصائب مستمرة، ألم يحدث يوماً من الأيام أن أحسنا الظن بعدونا، وأحسنا إليه، وتجاهلنا خططه التي كانت مكتوبة في الكتب ومنشورة في الصحف؟ خطط البعث التي كانت تخطط لجمع كلمة الأمة العربية كما يقولون تحت راية القومية والاشتراكية والحرية والبعث، تجاهلنا هذا كله، ففوجئنا به في أخطر اللحظات وأحلك الأوقات، وسوف يتكرر الأمر مرةً بعد مرة ما دامت هذه الأمة غافلة عن خطط عدوها.(166/11)
على مستوى الأمة
أما على المستوى العام فإننا نتساءل جميعاً: أين التغيير الذي يجب أن تشهده الأمة؟! إذا كنا مؤمنين فعلاً بقول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] وفي مواضع كثيرة يذكر الله عز وجل أن ما أصاب الناس فهو بسبب ذنوبهم، إذا كنا مؤمنين بهذا حقاً فلنتساءل ما هي الذنوب التي أقلعت عنها الأمة؟ قد يقول قائل: من الصعب أن تقلع الأمة بين يوم وليلة عن ذنوب كثيرة وقعت فيها.
فنقول: نعم، لنفترض أن هذا الأمر صحيح، هل بدأت الأمة تضع قدمها في الطريق الصحيح؟ هل بدأ المسلمون الآن سواء مسئوليهم أو تجارهم أو خبراؤهم أو مختصوهم، هل بدءوا -مثلاً- بإنشاء المستشفى المتخصص للنساء؛ ليكون بديلاً عن الاختلاط الذي يملأ مستشفياتنا؟ ويكون هذا بداية لتوبة صادقة إلى الله عز وجل من معصيته مما يقع في مثل هذه المؤسسات، هل حدث هذا؟! هل بدأ المسلمون بإقامة المؤسسات المالية السالمة من شبهة الربا، ولو مجرد بداية لتكون بعد حين من الزمان بديلاً عن البنوك الربوية التي تحارب الله ورسوله؟ هل بدأ المسلمون بتأصيل مناهج الإعلام الصحيح القائم على تعبئة الناس تعبئة شرعية، ورفع معنويات الناس، ورفع أخلاق الناس، وربط الناس بالدين، ليكون ذلك ولو بعد حين بديلاً عن الإعلام الهابط الذي يهيمن على العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه؟ هل بدءوا بمواجهة ما يسمى بالبث المباشر الذي أصبح يهدد المسلمين من كل مكان، والذي يخشى معه أن تصبح سماء المسلمين تمطر عليهم من هذه البرامج التنصيرية، وبرامج الفساد، والإلحاد، والتخريب، وحتى الإخلال بالأمن يمكن أن يأتي من خلال هذه البرامج وغيرها؟ هل بدأ المسلمون فعلا تحركاً صادقاً جاداً في التوبة إلى الله تعالى؟ أليس بعض العلماء يقول: إن الذي يقول: "أستغفر الله" وهو مصر على ذنبه هو كالمستهزئ بالله عز وجل؟! فلماذا نقول أحياناً بألسنتنا: "نستغفر الله" ونحن مصرون على ذنوبنا، سواء كانت ذنوبنا ذنوباً فردية، أم كانت ذنوباً اجتماعية عامة؟(166/12)
بوارق الأمل
أيها الإخوة! ليس هذا الأمر مدعاة لليأس أبداً! وكيف ييئس من معه كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كيف تيئس أمة معها خبر ثابت صادق لاشك فيه من رسول الله عليه الصلاة والسلام أن هذه الأمة باقية إلى قيام الساعة؟ إنها ظاهرة منصورة إلى قيام الساعة! كيف تيئس أمة معها خبر أنها هي التي سوف تقاوم زحوف الكفر والإلحاد والتي يكون آخرها المسيح الدجال؟! كيف تيئس أمة قال فيها نبيها صلى الله عليه وسلم: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} ؟! كيف تيئس أمة ذكر لها نبيها الصادق المصدوق، الذي تؤمن به وتحبه صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة سوف تهيمن في آخر الدنيا، وتذل لها الرقاب، وتحكم الدنيا، ويضرب الحق بجذوره في الأرض، وسوف تملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت من قبل ظلماً وجوراً؟ كيف تيئس أمة معها هذه النصوص؟ كيف تيئس أمة تقرأ في قرآنها: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] ؟! كيف تيئس أمة تقرأ في قرآنها قوله عز وجل: {وَلَيُبدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوفِهِمْ أمناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] ؟! كيف تيئس أمة تقرأ في قرآنها {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40-41] ؟ كلا لن تيئس أبداً! لكن الأمر الذي يدعو إلى التساؤل: هل هذه المحن التي تعيشها الأمة الآن بداية لتوبة صادقة إلى الله عز وجل؟! فمعنى ذلك أن هذه الأمة سوف تدخل حياة وبداية صحيحة.
أما إذا ظلت الأمة على ما هي عليه على مستوى الأفراد والفئات والدول، فمعنى ذلك أن هذه الأمة بحاجة إلى دروس جديدة، وفي حاجة إلى صفعات جديدة، وضربات جديدة حتى تعي -وسوف تعي- وإن لم تع اليوم وعت غداً، وإن لم تع غداً وعت بعد غد؛ لكن من الخير لهذه الأمة أن تدرك أنه لا قيام لها إلا بالإسلام.
فلقد طرقنا كل الأبواب، ومددنا أيدينا إلى كل الأمم، فما رجعنا منهم إلا بالخيبة، والهزيمة، والفشل، وعرفنا ماذا يخبئ لنا العالم كله، إنه في الوقت الذي يرفع يده بالسلام يعد أسلحة الفتك والدمار.
ومع ذلك ما زالت هذه الأمة تتسول منهم، وتأخذ منهم الأفكار، وتأخذ منهم النظريات، وتأخذ منهم التصنيع، وتأخذ منهم كل شئ، وتفتقر إليهم في كل شيء هذا ما عند العالم لهذه الأمة.
وما بقي للأمة إلا باب واحد، وإذا طرقت هذا الباب فإنه سيفتح لا شك؛ لأنه باب مجرب، ألا وهو باب الله عز وجل! وهو باب التوبة إلى الله! وهو باب الصدق مع الله! باب الرجوع إلى الله! لابد من مراجعة الحسابات على كافة المستويات لنعرف مدى قربنا أو بعدنا مما يريد الله تعالى منا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لى ولكم، فاستغفروه من كل ذنب يغفر لكم ويتوب عليكم، إنه هو الغفور الرحيم.(166/13)
من أسباب التصحيح
الحمد لله مستحق الحمد وأهله، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد أفضل من صلى وصام، وحج البيت الحرام، وعلى آله وصحبه الكرام، وعلى من تبعه إلى يوم المقام.
أما بعد:(166/14)
اليقين بفضل الله
أيها الإخوة لن يدخل أحداً منا الجنة بعمله بصيامه، أو بقيامه، أو طاعته، أو عدله، أو بره، إنما يدخلها برحمة الله عز وجل.
فتقرب إلى رحمة الله تعالى بكثرة الاستغفار والتوبة، واعمل على أن تكون داعياً للاستغفار والتوبة في وسط أهلك وقرابتك ومعارفك ومجتمعك وأمتك أيضاً، وأن تكون يداً تصلح وتبني، وتدفع بقدر ما تستطيع من سوء ومنكر عن هذه الأمة.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم اخذل أعداء الدين، اللهم اخذل أعداء الدين، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم، اللهم إنا نعوذ بك من شر الأشرار، وكيد الفجار، وما اختلف به الليل والنهار، يا عزيز يا غفار.
اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(166/15)
ترك الغرور والجرأة على الله
أما الذي يقول: "أنا ما عصيت الله تعالى أبداً" فهذا متجرئ على الله تعالى مستكبر! حتى لو فرض أنه صدق فيما قال؛ بل كلامه هذا معصية لله عز وجل؛ لأن العبد لو قضى عمره كله راكعاً ساجداً صائماً لله عز وجل؛ ما أدى حق الله تعالى عليه، ولا بلغ شكر نعمة الله تعالى عليه، ولم يقض ما أمره الله تعالى به.
فالمؤمنون الصادقون: هم أصحاب قلوب حية، أصحاب نفوس قريبة من الله عز وجل، أصحاب تواضع لله، يجعل أحدهم جبهته في التراب، ويمرغ خده، ويسبل دموعه على وجهه، ويرفع أيدياًً مرتعشة إلى الله سبحانه وتعالى، يسأله غفران الذنوب، وستر العيوب، وإلا فإن العبد ضعيف ضعيف، وقد جبل على شئ من النقص والضعف، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: {كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون} فالإنسان مجبول على ضعف، ومجبول على تقصيره بنظرة، أو بسمع، أو بأخذ مال بغير حق، أو بكلمة خرجت من فمه على غير تدبير وتقدير، أو بتقصير في عبادة، أو بظلم للنفس، أو بظلم للغير، هذا على مستوى الفرد.
أما على مستوى الأمم فحدث ولا حرج من احتمالات الأخطاء على كافة المستويات المالية، سواء في توزيع الأموال، أم في الأخطاء الأخلاقية، أم الأخطاء في التقصير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم غير ذلك.(166/16)
الحذر من الاعتراف الشكلي بالخطأ
فبداية التوبة: هي أن يصدق العبد في الاعتراف بذنبه، وليس اعترافاً شكلياً كما يقول كثير من الناس اليوم إذا خاطبته يقول: الأخطاء موجودة، وكلنا مقصرون، وليس فينا أحد معصوم! فليس هذا هو المقصود، ليس هناك أحد ادعى لك أنك معصوم، ولا ادعى أنك نبي ينزل عليك الوحي من السماء.
والأصل مقرر ومتفق عليه أننا جميعاً خطاءون مقصرون، وعندنا من الأخطاء ما الله به عليم! هذا أمر مسلم، لكن الكلام في تحديد ما هي هذه الأخطاء؟ بحيث نعترف أنه عندنا من الأخطاء كذا وكذا، على سبيل التحديد والدقة، وليس على سبيل الإصرار عليها، وإنما على سبيل التواضع، والشعور بأن العبد متى استطاع سوف يخرج من الذنوب واحداً بعد آخر، أو يصحح الأمور الموجودة عنده بقدر ما يستطيع.
فلا بد من ترك الإصرار على الذنوب: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] .(166/17)
نماذج للاعتراف بالذنب
وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم من ألوان الاعتراف، بل والأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام ما ينقطع دونه العجب، فمن دعائه عليه الصلاة والسلام الذي كان يقوله في آخر صلاته، وكان يعلمه أبا بكر: {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم} وفي بعض الروايات: {ظلماً كبيراً} وفي دعائه عليه الصلاة والسلام الذي علمه لأمته -سيد الاستغفار- كان يقول فيه: {اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي أي أقر بذنبي وأعترف به بين يديك.
كذلك أبونا آدم عليه السلام وأمنا حواء قالا: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] وقال الله أيضاً عن يونس: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] ن وهكذا الأنبياء جميعهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وجميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، كانوا دائماً يعترفون بذنوبهم، ويستغفرون الله تعالى منها، وذلك لأن الاعتراف بالذنب هو أول خطوات التوبة.(166/18)
الاعتراف بالذنب
أيها الإخوة المؤمنون إن أول أسباب الإصلاح والتصحيح هو: الاعتراف بالذنب، ويوم أن تعترف الأمة بذنوبها تكون قد عرفت طريقها؛ لأن الله عز وجل قريب مجيب رحيم بعباده، إذا اعترفوا بذنوبهم ورفعوا له أكف الاستغفار فهو حري أن يغفر لهم! يكفيك أن تقول من قلب صادق: "أستغفر الله وأتوب إليه" وتجدد العزم على توبة نصوح ليقبلك الله في عباده الصالحين.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بذل في سبيل الله عز وجل ما بذل، وأوذي في الله ما لم يؤذ أحد، وصبر وصابر، وقام الليل وصام النهار، وطرد من بلده في سبيل الله عز وجل، وجرح وجهه، وكسرت سنه، وأوذي وسخر به، وشج وجهه، ومع ذلك كله عبد الله تعالى بكل ما يستطيع، وكان يقوم الليل حتى تورمت قدماه عليه الصلاة والسلام.
ومع هذا كله كان عليه الصلاة والسلام يعلمنا دائماً أن نكثر من الاستغفار، وألا يدل الإنسان منا بعمل، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله! قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا! إلا أن يتغمدني الله برحمته} .
هذا درس كبير ليس للأفراد فقط، بل للأفراد وللأمم كلها، إن الأمة وكذلك الفرد يجب أن لا يغتر بعمله، ولا يجوز له ذلك، مهما كان عمله؛ لأن الأمة والفرد إذا قال الواحد منهم: أنا كامل، ليس عندي أخطاء، ولا عندي عيوب، ولا عندي أغلاط، ولا عندي مخالفات، فمعنى ذلك أنه سوف يظل مصراً على ما هو عليه؛ لأنه قد أعجب وزين له سوء عمله فرآه حسناً، وهذه كبرى المصائب: يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن كبرى المصائب أن الأمة أو الفرد ينحرف، ومع ذلك يعتقد أنه على الطريق المستقيم؛ فيصر على أنه ليس لديه أخطاء ولا عيوب ولا ذنوب، كيف يتوب من أمر يراه صواباً؟! يتوب من حسنات يظن أنه يقدمها؟! لا يتوب أبداً.
فلذلك أول خطوات الإصلاح على مستوى الأفراد والأمم أول خطوات الإصلاح: الاعتراف بالذنب.(166/19)
صلوا كما رأيتموني أصلي
هناك صيغ للذكر بعد الصلاة، ويجوز رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة بشروط، ويدل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) على وجوب الإتيان بالصلاة كما كان يصليها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما أخرجه نص أو لم يداوم عليه صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر حديث عمران بن حصين في الصلاة قاعداً وأنه يكون للمريض أو للمتنفل وقد يكون لهما، ثم ذكر هيئات القعود فيه.(167/1)
الذكر بعد الصلاة
اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما تحب وترضى، نحمدك وأنت للحمد أهل، ونشكرك ونثني عليك الخير كله ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، ونصلي ونسلم على عبدك ورسولك وأفضل أنبيائك الذي حمل الرسالة، وأدى الأمانة وكشف الله به تعالى الغمة، فجزاه الله تعالى عنا خير ما جازى نبياً عن أمته، ثم رضوان الله تبارك وتعالى على أصحابه الكرام، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد سبق معنا في الدرس الماضي ما يتعلق بالذكر عقب الصلاة، وكان لي فيها أحاديث ومسائل نمر عليها مرور الكرام، رغبة في الإيجاز، وعدم الإطالة، فمن المسائل التي مرت معنا: مسألة الأذكار والأدعية التي تقال في أدبار الصلوات، وقد ذكرت مثلاً أن التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير في أدبار الصلوات جاء فيها نحو من ست صيغ:(167/2)
صيغ الأذكار
الأولى: يحمد ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين، ويكبر ثلاثاً وثلاثين، ثم يقول: لا إله إلا الله الخ تمام المائة.
الثانية: يسبح ثلاثاً وثلاثين، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويكبر أربعاً وثلاثين.
الثالثة: التسبيح إحدى عشرة، والتحميد إحدى عشرة، والتكبير إحدى عشرة، فيكون المجموع ثلاثاً وثلاثين، وهذا قلنا: إنه فهم أبي صالح السمان للحديث، وكأنه لم يثبت بهذه الصيغة عن النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث مستقل، والله تعالى أعلم.
الرابعة: يسبح خمساً وعشرين، ويحمد خمساً وعشرين، ويهلل خمساً وعشرين، ويكبر خمساً وعشرين فيكون المجموع مائة.
الخامسة: يسبح عشراً، ويحمد عشراً، ويكبر عشراً، فيكون المجموع ثلاثين.
السادسة: يسبح ثلاثاً وثلاثين، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويكبر ثلاثاً وثلاثين، فيكون المجموع تسعاً وتسعين ولا يضيف شيئاً لا تهليلاً ولا تكبيراً، وقد ذكرنا ما ثبت وهو استثناء إحدى عشرة، وإحدى عشرة، وإحدى عشرة، فإنه -والله تعالى أعلم- من فهم أبي صالح، كما استظهره جماعة من أهل العلم كالحافظ ابن حجر، وغيره، وبذلك تتم الصيغ ستاً أيضاً، ويزول ويندفع الإشكال الذي ذكرناه سابقاً، ولذلك فلا ضرورة للتنبيه على هذا الاعتذار الذي تقدم به أحد الإخوة، حيث إنه قال: إنما ذكرته سابقاً -يعني هو وليس أنا- نقلاً عن الاختيارات، وأن هناك صيغة أخرى من الأذكار، وهي أن يسبح تسعاً، ويحمد تسعاً، ويكبر تسعاً، ليس كذلك، وإني عندما رجعت وجدت أن يسبح ثلاثاً وثلاثين، والمجموع تسعاً وتسعين، وهذا جيد كون الإنسان يراجع، ويتأكد مما سبق، وينبه عليه، فهذا أيضاً مما يحمد وهو من تأديب طالب العلم المجد، نسأل الله أن يجزي أخانا وسائر الحضور خيراً، ويوفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح.(167/3)
مسألة الجهر بالذكر عقب الصلاة
قد ذكرت فيها أقوالاً والراجح منها: أنه يستحب الجهر بالذكر عقب الصلاة، ومن الأدلة على مشروعية الجهر بالذكر: حديث ابن عباس في صحيح البخاري: {أن رفع الصوت بالذكر كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم} .
ثانياً: من الأدلة أيضاً، حديث عبد الله بن الزبير وفي آخر الحديث قال: {كان يهل بهن دبر كل صلاته} ونبهنا في موضوع الجهر بالذكر إلى عدة ملاحظات منها: الملاحظة الأولى: ألا يبالغ في رفع الصوت، والدليل على هذا حديث أبي موسى {أيها الناس اربعوا على أنفسكم} .
الملاحظة الثانية: أن تكون الأصوات مختلطة يسمع لها دوي، ولا يتميز من بينها صوت يكون جهورياً، فيؤذي الآخرين، ويشغلهم عن الذكر، وقد يؤذي أيضاً من يقضي الصلاة، والدليل على هذه الملاحظة: {كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض} .(167/4)
الدعاء بعد الصلاة
مسألة: الدعاء بعد الصلاة المفروضة -أي بعد السلام- ذكرنا كلام شيخ الإسلام فيه، لكن خلاصة القول هل يشرع الدعاء عقب السلام أم لا يشرع؟ الأقرب أن الدعاء مشروع قبل السلام، وبعد السلام، ومن الأدلة على مشروعية الدعاء بعد السلام {اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} وأيضاً حديث ثوبان: {استغفر، ثلاثاً} ومثله حديث عائشة: {استغفر ثلاثاً} ومن الأدلة -أيضاً- حديث سعد بن أبي وقاص: {أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر الخ} أيضاً حديث المغيرة: {اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد} هذا هو تعريض بالدعاء، وتعرض للمسائل.
أيضاً حديث علي بن أبي طالب: {اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت} فإن في بعض رواياته أنه بعد السلام، ونقول: الدعاء مشروع بكل حال: عقب السلام، وقبل السلام، وفي كل حال، كما أن الذكر مشروع في كل حال {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] فالعبد لا يستغني عن الذكر بحال، وإن كان الذكر قبل السلام في أثناء الصلاة يكون أوقع، فهذا لا يمنع أن يكون الذكر مشروعاً بعد السلام، وكما أننا نجد في صلب الصلاة أن أفضل ما يكون الدعاء فيه هو في السجود، ولكن هل هذا يمنع من الدعاء بين السجدتين؟ كلا، فكذلك الدعاء وإن كان في الصلاة أوقع إلا أنه بعدها مشروع -أيضاً- كما جاءت به هذه النصوص والأحاديث.
وعندنا الآن الدرس الأخير نحمد الله تعالى، ونسأله التوفيق والقبول، مما يتعلق بصفة الصلاة وهي تتعلق بهذه الأحاديث الثلاثة التالية:(167/5)
حديث مالك بن الحويرث
الحديث الأول منها: حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {صلوا كما رأيتموني أصلي} يقول المصنف رواه البخاري، وقد سبق أن سرد المصنف أو ذكر جزءاً آخر من هذا الحديث في موضوع الجلوس في الوتر، وأيضاً ورد في موضع ثان في الأذان لقوله: {فليؤذن لكم أحدكم} وقد سرد المصنف -في ذلك الموضع- منه الجزء المتعلق بالأذان، وقال: أخرجه السبعة.
والغريب أنه هنا -رحمه الله- اقتصر على عزو الحديث للبخاري، وعلى كل حال، فالحديث رواه البخاري في صحيح البخاري في تسعة مواضع:(167/6)
تخريج حديث مالك بن الحويرث
منها: في كتاب الأذان، باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم، ومنها أيضاً في كتاب الأذان -نفسه أيضاً- باب المكث بين السجدتين، وأول موضع خرج البخاري فيه هذا الحديث: في كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، وقد روى مسلم في صحيحه، في كتاب المساجد، باب الأحق بالإمامة، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، ولهذا قال المصنف -كما سبق في باب الأذان- قال: أخرجه السبعة، وأيضاً رواه غير هؤلاء كثير، فالحديث من الأحاديث المشهورة المتداولة، ويشبهه في هذا حديث المسيء صلاته، فإنه يذكر بمناسبات كثيرة، وقل أحد من أهل العلم إلا ذكره أو استشهد به أو خرجه، -فعلى سبيل المثال- ممن خرج الحديث أيضاً البخاري نفسه في كتاب الأدب المفرد، والبيهقي في السنن، والطبراني في معجمه الكبير، والدارقطني، وابن خزيمة، وابن حبان، وأبو عوانة في مستخرجه، والحاكم، والداراني، والشافعي، والطحاوي، والبغوي، وابن أبي شيبة، وغيرهم.
وكل هؤلاء رووا الحديث عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: {أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده نحواً من عشرين ليلة وفي رواية وأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا وفي رواية: فظنا أنا قد اشتهينا أهلنا وسألنا عمن تركنا، فأخبرناه، فقال صلى الله عليه وسلم وكان رقيقاً رحيماً -وفي رواية- رفيقاً -بالفاء- ارجعوا إلى أهلكم فعلموهم ومروهم، وصلوا، وفي رواية: وصلوا كما رأيتموني أصلي} وهي المقصودة بحديث الباب، فإذا حضرت الصلاة {فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم} .
وهذا أحد المواضع التي ذكر المصنف فيها هذا الحديث، وإلا فقد سبق أنه ذكره مرتين، مع أن الحديث جدير -أيضاً- أن يعاد في باب قادم، في باب الإمامة من كتاب الصلاة لقوله: {وليؤمكم أكبركم} ولكن المصنف لم يذكره في باب الإمامة اكتفاءً بذكره هاهنا، وذكر الشاهد منه وذلك لم يعده رحمه الله.(167/7)
ألفاظ حديث مالك بن الحويرث
قوله هنا: {صلوا كما رأيتموني أصلي} ذكرت أنه ليس في جميع الروايات، ولكنه في بعض الروايات، أما في بعضها الآخر، كما في الصحيح نفسه، في مواضع قال: {فعلموهم، وصلوا} ولم يقل: {كما رأيتموني أصلي} لكنها ثابتة في روايات أخرى.
أيضاً قدوم مالك بن الحويرث رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه سلم، كان مع قومه، كما ذكر في روايات، وقال هاهنا: {ونحن شببة متقاربون} وقومه هم بني ليث بن بكر، وكان قدومهم على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن سعد في الطبقات بأسانيد عدة، أنهم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتجهز لغزوة تبوك.
وغزوة تبوك كانت في رجب سنة تسع، فقدموا عليه صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة، وقوله: (شببة) بفتح الشين والباء أي شباب.
وقوله: (متقاربون) أي: متقاربون في السن، وقوله: رفيقاً أو رقيقاً: بالوجهين فقد جاء في روايتان في البخاري وغيره، إما من الرفق، وإما أنه رقيق القلب، يحنوا عليهم ويتنبه لحاجاتهم، وقوله: رقيقاً، هذا ذكر الحافظ ابن حجر بالقافين أنها جاءت في رواية الأصيلي للبخاري، أنها بقافين (رقيقاً) وبقية ألفاظ الحديث واضحة وقد سبق شرح شيء منها.(167/8)
فوائد حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي)
وفي الحديث فوائد تتعلق بالأذان وصفته، ومن يؤذن وأحكامه، وهذه سبقت ونشير الآن إلى فوائد أخرى، فمن فوائد الحديث -أيضاً-:(167/9)
الفائدة الثالثة: فائدة تتعلق بصفة الصلاة
ومن أهم فوائد حديث الباب -حديث مالك بن الحويرث - ما يتعلق بصفة الصلاة، ولذلك ساقه المصنف هنا، في قوله: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وذلك إن قوله: {صلوا كما رأيتموني أصلي} دليلٌ لجماعة من أهل العلم على أن كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من صفة الصلاة، فالأصل فيه أنه واجب، مالم يوجد صارف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن نصلي كما رأيناه يصلي، ولأنه فعل والقول يتبعه {صلوا كما رأيتموني أصلي} .
وقد تكلم الإمام الحافظ الأصولي الكبير ابن دقيق العيد في إحكام الإحكام عن هذه المسألة بكلام محررٍ جزل، خلاصته أنه يقول: إن هذا الخطاب في الحديث إنما وقع لـ مالك بن الحويرث وأصحابه، بأن يوقع الصلاة على الوجه الذي رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يصليه، قال رحمه الله: نعم يشاركهم في الحكم جميع الأمة بشرط أن يثبت استمراره صلى الله عليه وسلم على فعل ذلك الشيء المستدل دائماً حتى يدخل تحت الأمر ويكون واجباً.
إذاً: ابن دقيق العيد أضاف شرطاً حتى نقول بوجوب الفعل، وهو ليس أن يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولو مرة واحدة، بل لا بد أن يكون نقل عنه استمراره صلى الله عليه وسلم على ذلك الفعل، ومن المعلوم أن مجرد الاستمرار بذاته لا يدل على الوجوب، لكن لما أضيف إليه حديث مالك بن الحويرث: {صلوا كما رأيتموني أصلي} دل هذا على أنه خطاب لجميع الأمة، دل على أن هذا الفعل الذي داوم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه واجب.
وبعض الأفعال مقطوع باستمرار النبي صلى الله عليه وسلم عليها، أما ما لم يدل دليل على وجوبه في تلك الصلاة التي رآها مالك بن الحويرث وأصحابه، وتعلق الأمر بإيقاع الصفة على ضوئها، فإنه لا يمكن الحكم بتناول الأمر له، أي: نحن لا ندري ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم من الصلوات فرآه مالك بن الحويرث؟ وماذا ترك؟ فنقول: إن الأمر متعلق بتلك الصلاة التي وقع الأمر بالصلاة على مثلها، فإذا رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في تلك الصلاة صفة ولم يتركها عرفنا أن هذا واجب، أما ما سوى ذلك، فنقول: إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الاستحباب ما لم يوجد دليل إضافي على الوجوب، ولا نقول: بأن كل فعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة واجب، إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليه واستمر.
هذا خلاصة ما قرره الإمام الحافظ ابن دقيق العيد، وهو وجيه.
يبقى هاهنا إشكال: فقد سبق معنا أن مالك بن الحويرث ذكر قعود النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان في وتر من صلاته، وهو ما يسمى عند الفقهاء بجلسة الاستراحة، فكيف نخرج جلسة الاستراحة من هذا التقرير الذي قرره ابن دقيق العيد، لأننا نعلم أن مالك بن الحويرث رضي الله عنه ومن معه رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يجلس جلسة الاستراحة.
إذاً نقول: هذا من الصلاة التي وقع الأمر بمشابهتها {صلوا كما رأيتموني أصلي} رأيناه يصلي فيجلس جلسة الاستراحة، هكذا نقل لنا مالك بن الحويرث، فما الذي أخرج جلسة الاستراحة عن الوجوب؟
الجواب
هو عدم الاستمرار عليها وكيف عرفنا عدم الاستمرار؟ على كل حال بدل من أن ندخل في التفاصيل فقد سبق معنا ثلاثة أحاديث: حديث أبي هريرة، وحديث مالك بن الحويرث، وحديث وائل بن حجر في جلسة الاستراحة، وذكرنا في التقرير آنذاك أن هذه الأحاديث وغيرها، جاء فيها ذكر الجلسة، وجاء فيها السكو