اختلاف الناس في الأصول والفروع
السؤال
لقد ذكرتم أن من الصعب جمع الأمة على كلمة واحدة في الفروع والأصول، أقول -بعد إذنكم-: إن الفروع ظاهر الخلاف فيه بين الأمة، ولكن الأصول الذي أعلمه أن الصحابة والتابعين أصولهم واحدة، لم يختلفوا في باب الألوهية والربوبية أوالأسماء والصفات، أو أمر الرسالة وغيرها من الأصول، أرجو أن أكون قد فهمت خطأً، أرشدونا بارك الله فيكم؟
الجواب
لست أقصد أن الناس يختلفون في الأصول وفي الفروع أي: أصول الدين وفروعه، لكنني أقول: إن اتفاقهم على الأصول والفروع كلها غير ممكن، بمعنى أنهم يمكن أن يتفقوا على الأصول، لكن لا يمكن أن يتفقوا على الجزئيات وتفاصيل الأحكام، فالخلاف في الأحكام موجود، أما في القضية الاعتقادية فإنني لا أعلم، بل أجزم أنه لم يقع أن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم، تلبس ببدعة في ذلك، بل حمى الله هذا الجيل الشريف المبارك المختار، عن أن يتلبس ببدعةٍ اعتقادية، وانقرضوا عن آخرهم وهم على النهج الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم أصبحوا مقياساً يعرف به الحق من الباطل، ولهذا لما قال صلى الله عليه وسلم، أو ذكر الفرقة الناجية قال: {من كان على ما أنا عليه وأصحابي} إذاً: الوضع الذي كان عليه الصحابة هو المقياس الذي يعرف به الحق من الباطل، وتحاكم عليه أوضاع الناس.
فموضوع أصول الاعتقاد لا يُختلف فيها قد يختلف أهل السنة أحياناً في بعض تفاصيل الاعتقاد، يختلفون في جزئية من جزئيات العقيدة، فقد اختلفوا -مثلاً- في إثبات الصورة وما أشبه ذلك، هذا قد يقع داخل أهل السنة، وإن كان الحق ظاهراً في كثير من هذه المسائل بقوة الدليل.
لكن أن يوجد بين أهل السنة من يسلك مسلك التأويل، فهذا لا يمكن أن يكون على الإطلاق.
يمكن أن يجتمع المسلمون على أصولٍ واحدة، لكن الاجتماع على الفروع هو الذي أقول: لا يمكن، كما أنني أريد أن أؤكد على أمرٍ آخر، وهو: لابد من الاختلاف في الأسلوب، الأساليب تتنوع من عصرٍ إلى عصر، والوسائل تختلف، وأحياناً يرى الحاضر ما لا يرى الغائب.
وفي أول عهود الصحابة رضي الله عنهم، اختلفوا في جواز كتابة الحديث، فكان منهم من يرى أنه لا يجوز أن يكتب الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال -كما في حديث أبي سعيد-: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه} ولكن هناك آخرون يرون جواز الكتابة، ويحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم: {اكتبوا لـ أبي شاه} وقوله في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: {اكتب، فوالله ما خرج منه إلا حق، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى فمه} فكانوا مختلفين في هذا الأمر وفي هذه الوسيلة، لكن بعدما وجدوا ونظروا بأعينهم، ورأوا الضرورة العملية الملحة لكتابة الحديث، انتهى هذا الخلاف، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على أهمية كتابة الحديث، بل زال وانقرض الخلاف في ذلك.
فالوسيلة تختلف من عصر إلى عصر، ولذلك لا يمكن أن نجمع الدعاة على أسلوب واحد، فهذا داعية يهتم ببناء المساجد، وآخر يهتم بنشر الدعوة، وثالث يهتم بنشر العلم، ورابع يهتم بدعوة العامة، وخامس يهتم بدعوة الخاصة، وسادس وسابع وثامن قد علم كل أناس مشربهم، وكل امرئٍ منهم له مقام معلوم، قد لا يستطيع أن يقومه غيره، فهذا من التنوع المحمود، من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد.(31/31)
مشاهدات في يوغسلافيا
يوغسلافيا جزء من الأمة الإسلامية، ولكن النصرانية الحاقدة المتمثلة بالصرب أرادت أن تستأصل المسلمين من هناك وبالتالي من أوروبا، وفي هذا الدرس شهادة شاهد عدل عاين الكارثة وعايشها وذكر المصائب هناك.(32/1)
أسباب البشارة بوجود الخير
قال الشيخ: سلمان بن فهد العودة حفظه الله: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: فالمفترض في هذه الليلة، أن المجلس هو من مجالس الأمالي شرح بلوغ المرام وهو المجلس التاسع عشر بعد المائة، ولكنني رأيت أن في الأخبار الجديدة والأحوال التي نقلها لنا فضيلة الدكتور صالح بن محمد السلطان الأستاذ بقسم الفقه بجامعة الإمام بكلية الشريعة فرع القصيم رأيت فيها ما يستوجب أن يسمعه الإخوان غضاً طرياً من فمه، فلذلك كان هذا المجلس ندوة في الحديث عن مشاهدات في يوغسلافيا.
وأريد أن أقدم -أيها الأحبة- برأي أراه وأعتقد أن فيه بشارة كبيرة، وتسرية عن القلوب والنفوس: ليس صحيحاً أن ما يعانيه المسلمون اليوم في يوغسلافيا أو غيرها أمر جديد غريب لم يمر حقبة من حقب التاريخ.
كلا بل أزعم أن المسلمين عاشوا منذ سنوات ليست بالبعيدة، عاشوا أوضاعاً أصعب وأشد من الأوضاع التي يعيشونها الآن، بل إن ما نسمعه اليوم من أخبار المسلمين في تلك البلاد أو غيرها ينبئ بخير كثير ينتظر المسلمين في القرون والعقود المقبلة، وأعز هذا الزعم بأمور:-(32/2)
المسلمون في حال دفاع لا إقامة خلافة
أيها الأحبة: وفيما يتعلق بيوغسلافيا فسوف يحدثكم شاهد عيان انتدبه الإخوان المشايخ في هذا البلد قبل أيام ليرى ويسمع ويطمئن، وجاء يحمل لكم الأخبار الجديدة، ولكنني أختم كلمتي بملاحظة واحدة فقط هي: أن المسلمين في يوغسلافيا الآن يدافعون عن أنفسهم، هذا هو تشخيص الوضع القائم هناك، ويجب أن يكون هذا واضحاً فالمسلم يدافع عن نفسه، وعن زوجته، وعن أطفاله، وعن بيته، وعن مزرعته، وعن ممتلكاته، فلم يقم المسلمون بيوغسلافيا بإعلان الجهاد المقدس، والزحف على البلاد المجاورة لضمها إلى دولة الإسلام، لا، وإنما هم يدافعون عن أنفسهم، والدفاع عن النفس مشروع بجميع المقاييس، وبكل الديانات، وبكل الأعراف، وبكل القوانين، فلا أحد يعتب عليهم، لماذا يدافعون عن أنفسهم؟ من حق كل مسلم في يوغسلافيا وهو يقتل أن ينتقم من قاتله وقاتل أولاده إن استطاع قبل أن يموت، هذه هي الصورة، وبناء عليه فالمطلوب مساعدة المسلم في يوغسلافيا حتى يستطيع أن يدافع عن نفسه، أو ينتقم من قاتله قبل أن يموت، فلا تتصور أنك إذا بذلت ما تبذل من المساعدة لإخوانك هناك، أنك ستسمع الأخبار غداً أو بعد غد عن قيام الإمبراطورية الإسلامية التي تضم بلاد البوسنة والهرسك والصرب والكروات والجبل الأسود وغيرها وإن كان هذا ممكناً وما هو على الله بعزيز؛ لكن ضع الأمور في نصابها، مسلم يقتل يريد أن يدافع عن نفسه، ومن حقه أن يدافع، ومن حقه على أخيه المسلم أن يساعده بما يستطيع، ونحن نعلم أن أخوة الإسلام جعلت المعتصم يثأر للمرأة المسلمة في عمورية وهي تقول (وامعتصماه) فيسيِّر الجيوش الجرارة حتى يفتح هذا البلد وينتصر لهذه المرأة الوحيدة التي ديست كرامتها، فكذلك من حق إخواننا وأخواتنا المسلمات في يوغسلافيا وغيرها أن نساعدهم؛ خاصة وقد تخلت عنهم السياسة في كل مكان، من منطلق التحالفات الدولية والإحراجات والتحفظات وغير ذلك، فلم يبق إلا القرش والريال التي يدفعها إخوانهم المسلمون، وهي مهما قلَّت يبارك فيها ربنا -جل وعلا- لأنها مساعدات صادقة غير مشروطة، والله تعالى يربي الصدقات ويبارك فيها.
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم أمتي هل لك بين الأمم منبرٌ للسيف أو للقلم أتلقاك وطرفي مطرق خَجَلاً من أمسك المنصرم ويكاد الدمع يهمي عابثا ببقايا كبرياء الألم أين دنياك التي أوحت إلى وترى كلِّ ينيم نغم أو ما كنت إذا البغي اعتدى موجة من لهب أو من دم فيمَ أقدمت وأحجمت ولم يشتف الثأر ولم تنتقم أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم اسمعي نوح الحزانى واطربي وانظري دمع اليتامى وابسمى واتركي الجرحى تداوي جرحها وامنعي عنها كريم البلسم ودعي القادة في أهوائها تتفانى في خسيس المغنم أيها الإخوة: أترككم مع مشاهدات أخينا فضيلة الدكتور صالح بن محمد السلطان، فإلى حديثه جزاه الله خيرا.(32/3)
تمسك المسلمين بدينهم
أولها: أن المسلمين ما لقوا من هذه الحرب الضروس التي يلقونها الآن إلا لأنهم قد تمردوا واستعصوا على التهجين والتدجين والتكفير الذي يحاوله الأعداء، ولو أن المسلمين أعطوا الدنية في دينهم ورضوا أن يتخلوا عن دينهم إلى غير رجعة، لما كان بينهم وبين الكافرين من النصارى واليهود والشيوعيين مشكلة تذكر، ولعاشوا إخواناً في وطنيتهم وفي مصالحهم المشتركة، وفي تربتهم التي توحدهم، ولكن المسلمين قد أصروا على التشبث بدينهم حتى آخر قطرة من دمهم وحتى آخر نفس، ولذلك لقوا ما لقوا من الحرب التي تقول: لو أن هؤلاء المسلمين رضوا بطريق المهادنة للكفار والرضا بما يطلب منهم؛ لما لقوا هذا الأمر، هذا أولا.(32/4)
الحرب بين النصرانية والإسلام
وثانيها: أن النصارى واليهود وسائر أعداء الدين لو لم يشعروا الآن بأن المسلمين الآن خطر داهم لما قاوموهم بهذه الطريقة الغريبة، فإنك لا تكاد تجد اليوم حرباً أو مشكلة ذات بال في الشرق أو في الغرب، إلا وتجدها مواجهة بين دين الإسلام ودين النصرانية.
الحرب في يوغسلافيا -وهي موضوع الحديث- هي حرب بين الإسلام والنصرانية والحرب التي تدور رحاها الآن في عدد من ولايات الاتحاد السوفيتي مثلاً بين الأرمن والأذاريين هي حرب بين الإسلام والنصرانية، والحرب في بورما والحرب في بلاد العرب هي بين الإسلام والنصرانية.
ولا أعتقد أن النصارى الآن يستطيعون أن يخفوا سمة هذه الحرب أو يلبسوها لبوساً آخر، فهي حرب صليبية ضد الإسلام، وإلا فأي معنى أن تكون تلك الدول التي تنادي بالديمقراطية هي أول من يرضى بذبح الديمقراطية في البلاد العربية والإسلامية؟ لأنهم يقولون: إن تلك الديمقراطية سوف تكون معبراً وجسراً للأصوليين، ولن تكون في صالحنا في يوم من الأيام، وأي معنى أن تكون الدول التي تنادي بحقوق الإنسان، وتتشدق بحفظ حقوق الإنسان أول من يبصم ويوقع على انتهاك حقوق الإنسان في الجزائر ومصر وتونس بل وإسرائيل وغيرها من البلاد؟! أي معنى في أن الجمعيات في فرنسا تنتقد تصرفات الحكومة الجزائرية تجاه شعبها، أما الحكومة الفرنسية فتوافق على وضع الديمقراطيةعلى الرف إلى أجل غير مسمى، وتعلن أنها تقر وتؤيد تصرفات المجلس الأعلى بدون تحفظ، ثم تتبعها أمريكا فتؤيد أيضا بدون أي تحفظ جميع التصرفات والقرارات التي اتخذها المجلس الأعلى! وأي معنى أن تكون المواجهة في بعض البلاد في مصر بين الأقباط وبين المسلمين تُصوَّر على أنها تصرفات من بعض الأصوليين؟؟ وتقوم الدول العلمانية لتقدم للدول الغربية عربوناً على أنها ضد كل ما هو إسلامي، فتقول: إن أجهزة أمنها تلاحق الأصوليين المتطرفين وتعمل على اجتثاث جذورهم، وأنها تسعى إلى حماية حقوق الأقباط والمسيحيين والنصارى، وكأنها تقول للغرب: نحن أكثر منكم إخلاصاً لما تريدون، وأكثر منكم حرباً على الإسلام، وأكثر منكم حماية للآليات، فاطمئنوا فلن تهدأ لنا عين، ولن ينعم لنا بال، ولن يقر لنا قرار إلا بعد أن نقلم أظفار كل من ينتسبون إلى الإسلام والدعوة الإسلامية.
الحرب -الآن- في كل بلاد العالم حرب -كما يعبرون هم- بين الهلال والصليب، ونحن نقول: حرب بين التوحيد والتثليث، حرب بين الإسلام وبين النصرانية ويعجبني أن عدداً من الكتاب الذين هم أبعد ما يكونون عن تمثل هذه المعاني وإدراكها، أصبحوا يدركون الآن بشكل واضح بل ويكتبون بصورة قوية عن حقيقة هذه الحرب، وألفت أنظاركم مثلاً إلى كتابات الدكتور فهمي هويدي والدكتور فهمي هويدي من الكتاب الذين لم نعهد منهم أي نظرة لتعميق مفهوم الولاء والبراء في الإسلام، أو مفهوم الحرب على النصارى، أو أي مفهوم من هذه المفاهيم التي كنا وكان غيرنا يتحدث عنها منذ زمن بعيد، ولكني رأيت كتاباته الأخيرة تنضح بالتركيز على هذا المعنى وإبراز هذه الحقيقة؛ لأنها لم تعد مجرد حقيقة دينية موجودة في النصوص السماوية، كلا، بل أصبحت حقيقة سياسية واقتصادية وعسكرية واجتماعية وإعلامية يدركها كل متابع للأحداث والأوضاع والتطورات في العالم، وليس فقط يدركها الذين يقرؤون النصوص القرآنية والنبوية بعمق وإدراك.(32/5)
ما لقيه المسلمون في الماضي أشد مما يلاقونه اليوم
الأمر الثالث: أن المسلمين واجهوا فيما مضى أشد مما واجهوا الآن على حسب ما تقوله التقارير والإحصائيات، فأنت مثلاً لو قرأت ما لقيه المسلمون تحت مطارق الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وماذا فعل استالين في المسلمين، لوجدت أنه أجرى الدماء أنهاراً من أهل لا إله إلا الله، بل أقرب مثال يوغسلافيا نفسها -وهي موضوع حديثنا الليلة- ألم تعلم أنه هجَّر من المسلمين اليوغسلاف بعد الحرب العالمية الأولى أكثر من ستة ملايين، أي أكثر من العدد الموجود الآن هجروا إلى تركيا وغيرها من البلاد، وأنه قتل منهم ما يزيد على مائتين وخمسين ألفاً، ولم يطلق طلقة واحدة من المسلمين أنفسهم، ولم يتكلم خطيب واحد آنذاك عن تلك المجازر، ولا عن هذه الهجرة الجماعية، ولا عما لقيه المسلمون تحت مطارق الشيوعية.
إذاً ليس الفارق أن المسلمين الآن يواجهون ما لم يواجهوا من قبل، ولكن أن المسلمين الآن أصبح لهم عيون يبصرون بها، وآذان يسمعون بها، وألسن يتحدثون بها.
صحيح أن هناك جهوداً كبيرة لسمل تلك العيون وقطع تلك الآذان، ولمحاولة تدمير تلك العيون، ولقطع تلك الألسن، والحيلولة بينها وبين كلمة الحق، نعم ولكن العيون تبصر والأذان تسمع، والألسن تتكلم، والمسلمون الآن الفارق بينهم وبين المسلمين قبل ثلاثين وأربعين وخمسين وستين سنة، أن المسلمين آنذاك لم يكونوا يكترثون لما يجري لإخوانهم في أي مكان، ولم يكن هناك من يتحدث عن أحوال المسلمين وما يلاقون، فكان يجري ما يجري في غيبة المسلمين، وفي ظل التجهيل الكامل والقطيعة الكاملة بينهم وبين إخوانهم.
أما اليوم فكل ما يجري إنما يقع على مرأى ومسمع من العالم كله، بما في ذلك المسلمون الذين أصبحوا الآن أكثر وعياً وإدراكاً وتعاطفاً وتحمساً وغيرة، فأصبح المتكلم يتحدث بحرقة، والسامع يستمع بلهفة، وأصبح المسلم الذي يضرب في يوغسلافيا ينادي ويستغيث بالله عز وجل، ثم بإخوانه المسلمين في كل مكان من الأرض، ويدري أنهم يسمعون ويرون، وأنهم يعملون على نصرة إخوانهم بقدر ما يستطيعون.
إذاً هذا هو الفارق، فلا يصيبنك -يا أخي الكريم- شيء من اليأس أو القنوط، وأنت تسمع مثل هذه الأحداث، واعلم أن ما يجري للمسلمين اليوم جرى قبله الكثير الكثير، بل إننا نلمح بوادر تقدم كبير في الواقع الإسلامي الآن، تقدم في التجاوب، وما اجتماعكم هذا إلا نموذج للتجاوب، فإن هذا المجلس لم يقرر إلا البارحة في مثل هذه الدقائق، ولم يكن ثمَّ وقت كافٍ للإعلان عنه، ولا لدعوتكم إليه، ولم نكن نتوقع أننا نجد ولا شيئاً يذكر بالنسبة إلى هذا الجمع الحاشد الحافل الذي احتشد لسماع هذا الحديث، هذا مع أنكم سمعتم قبل ذلك عن أوضاع يوغسلافيا الكثير، فسمعتم في الدروس العلمية على مدى ثلاثة أسابيع، وسمعتم في المحاضرات والدروس والندوات الذي خصصت لهذا الموضوع، ثم ها أنتم أولاء تقبلون في مثل هذا المجلس وتملئون هذه الساحة الواسعة في هذا المسجد المبارك لهفةً إلى سماع الجديد والمزيد والمفيد، فجزاكم الله خيراً.
وهذا دليل مادي قريب على أن المسلمين الآن أصبحوا أكثر تماسكا، وأكثر استعداداً للتضحية، وأكثر حرصاً على سماع أوضاع إخوانهم وبشكل عام أن المسلمين اليوم يعيشون واقعاً أكثر حيوية وتجاوباً مع إخوانهم مما كان من قبل، وتجاوب المسلمين مع أوضاع إخوانهم في أفغانستان هو نموذج آخر، فإن الحرب الأفغانية دامت أربع عشرة سنة، وهذه مدة طويلة كانت كفيلة بأن تزرع في النفوس اليأس والقنوط، وتجعل الذين يقبلون على الجهاد الأفغاني دعماً بالمادة أو بالسلاح أو ذهاباً إليهم للمشاركة أن يتخلوا عنه، ولكن الواقع يشهد أن المسلمين لم يتخلوا عن الجهاد في أفغانستان وما كانوا أكثر حماساً للجهاد في أفغانستان منهم في شهر رمضان من هذا العام وما بعده؛ حيث بشائر النصر المبين تزف إلى المسلمين في هذا البلد وفي كل بلد.
فأقول أيها الإخوة لننظر إلى هذا الواقع من هذا المنطلق، ولندرك أن هذا يشبه إلى حد كبير ما تسمعونه من المنكرات التي تقع اليوم في المجتمع، فكثيرون يقولون: والله أصبحنا اليوم نسمع منكرات ما كنا نسمعها من قبل.
أقول: نعم هذا صحيح وأنا واحد من هؤلاء، لكن هذا ليس لأن المنكرات لم تكن موجودة، كلا، بل كانت موجودة ويوجد أضعاف أضعافها في الماضي، ولكن لأن كثيراً من المنكرات في الماضي كانت تتم في الظلام، وفي غيبة الرقيب وفي غفلة الناس، ولم يكن الناس يعرفون لمن يشتكون، ومن يخبرون، ومن يبلغون، بل ربما تجد أحياناً مؤسسات كبيرة، يقع فيها المنكر فلا يوجد من ينكره، ولا من يبلغ به، ولا من يخبر أهل العلم عنه، فلذلك مضت أمور كثيرة طافت على المسلمين وتمت في غيبتهم.
أما اليوم فكل ما يفعل أو ينشر في الصحف، أو يقال في المجالس أو يتم؛ حتى ولو كان عليه من التحفظات والسرية الشيء الكثير، فإنه بعد ساعات قلائل يصل إلى أسماع من يعنيهم إنكار المنكر، وأحياناً كثيرة يصل موثقاً بالصوت أو بالصورة أو بالوثائق التي لا تقبل الجدل إذ هي وثائق دامغة، ولذلك أصبحت المنكرات تعرف، ويسهل مقاومتها ومحاربتها والقضاء عليها.
أما في الماضي فكانت تقع دون أن يعلم بها أحد، أقول هذا الكلام لأننا بحاجة إلى أن يكون عندنا قدر من الثقة بمستقبل الإسلام، ووالله إننا كلما رأينا مزيداً من الضغط على الإسلام والمسلمين، ومزيداً من الحرب وجدنا في ذلك آية من آيات الله تعالى في النصر المبين للمؤمنين، لأن الله عز وجل يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] يقولون ذلك وقد أبطأ النصر عليهم وتأخر، وأصابهم ما أصابهم، وتحرقت قلوبهم، وتلهفت نفوسهم، فسألوا متى نصر الله؟ وهاهنا يأتيهم الجواب من الله جل وعلا: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] .(32/6)
نظرات حول القضية
قال الشيخ: صالح بن محمد السلطان حفظه الله: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن هذه الأمة لا تكاد تفيق من صدمة موقف حل بها إلا والصدمة الأخرى تنتظرها، فبالأمس قضية المسلمين في بورما وقبلها في فلسطين وفي كشمير وفي أفغانستان وفي إريتريا وفي الصومال وفي الجزائر وفي تونس وفي يوغسلافيا وفي البوسنة والهرسك.
واليوم تعود محاولة تصفية المسلمين مرة أخرى، كما حدث في أثناء الحرب العالمية الثانية، حينما جرت الأنهار بدماء المسلمين في تلك الحقبة، لكنها اليوم تعود أكثر عنفاً وشراسة وقد تطورت وسائل الفتك والتدمير في ظل غيبة الأمة وتداعي الأمم عليها، وفي هذه الندوة، وفي هذه الدقائق ألقي نظرة سريعة على قضية المسلمين في تلك الديار من خلال الفقرات أو النقاط الآتية:- أولا: أطماع النصارى في هذه الجمهورية، ثم مشاهدات من تلك البلاد، ثم حديث عن الأحوال الاقتصادية، فالأحوال العسكرية، فالأحوال السياسية، فالنواحي الإعلامية، ثم أختم ذلك بما تعنيه البوسنة للمسلمين في رأي أهلها ونظرهم.(32/7)
أطماع النصارى
قبل الكلام على ما حصل من مشاهدات في تلك البلاد أبدأ الحديث: ببيان أطماع النصارى في هذه الجمهورية فأقول: دأب النصارى هناك على ذكر أن البوسنة جزء من أراضيهم، وأنه لا يمكن انفصالها، وأن من فيها من المسلمين إنما هم أخلاط وفدوا إليها وينبغي أن يرحلوا منها، أو يبقوا تحت ظل وهيمنة هذه الدولة الصربية النصرانية ولا شك أن هذه دعاوى باطلة لا رصيد لها من الواقع، بل إن عند المسلمين هناك من الوثائق ما يثبت أن هذه الدولة كانت مستقلة منذ أكثر من ثمان مائة وخمسين عاماً، ولكن مع ذلك فقد اقتطع الصرب وكذلك الكروات منذ الحرب العالمية الثانية أجزاء كبيرة واستراتيجية ومهمة من هذه الجمهورية، واضطروها وحصروها في وسط هذه الجمهورية، ولم يبق لها إلا منفذ صغير على البحر لا يوجد فيها ميناء بحري، كما يزعمون.
ولكن السبب الحقيقي في هذه الأطماع: هو ما تحويه هذه الجمهورية من المواد الخام التي توجد فيها، ولا توجد في غيرها من الجمهوريات، إضافة إلى السبب الرئيسي، وهو الحقد الشديد على الإسلام وعلى المسلمين، والذي ظهر جلياً أثره في أثناء هذه الحروب المتتابعة على هذه البلاد، بعد ذلك أذكر مشاهد من داخل تلك البلاد وهذه المشاهد التي وقفنا عليها، هي على قسمين:- قسم: رأيناه بأعيننا.
وقسم: رأيناه عن طريق التصوير وتارة كان ينقل التصوير حياً على الهواء، وتارة يعرض بعد أن ينقل.(32/8)
مأساة اللاجئين
فالمسلمون يعيشون في داخل البوسنة أوضاعاً مأساوية لا يعلمها إلا الله، وقد شاهدت أوضاعاً تصور حجم هذه المعاناة والأسى والألم الذي يكابده هذا الشعب الأعزل، وسأذكر بعض هذه المشاهد، وهي نماذج لمشاهد أخرى تتكرر في كل يوم، بل في كل ساعة، فمن هذه المشاهد: رأينا يوم الجمعة بعض اللاجئين الذين وفدوا من تلك البلاد، واستقبلهم المسلمون في المركز الإسلامي في زاغرد وعندما أرادوا ترحيلهم رأيت امرأة مسنة تبلغ السبعين وهي تبكي وحولها ثلاثة أطفال الأكبر منهم يبلغ أربع سنوات وثلاث وسنتين، وهي تبكي ثم تشيح بوجهها عن الناس، فسألنا عن حالها، فقالوا: إنها خرجت من هذه البلاد بعد أن هجم الصرب على منزل ابنها، فأراودوا امرأته عن نفسها فأبت، فقتلوها وبقروا بطنها وتركوا هؤلاء الأطفال، فما كان من أم أبيهم إلا أن هربت بهم بمساعدة بعض المسلمين، حتى وصلت إلى هذا المركز، وهي في حالة من الإرهاق والخوف والتعب والألم والفقر فليس معها شيء غير ثيابها، وعلبة واحدة من الحليب لا تدري لمن تكفي من هؤلاء الأطفال، وهي تناشد المسلمين في المركز أن يبقوها عندهم في المركز، ولا يتركوها تذهب إلى معسكر اللاجئين في سلوفينيا وهي دولة نصرانية كافرة؛ لأن سلوفينيا تستقبل اللاجئين المسلمين استقبالاً سيئاً.
فهذا نموذج من النماذج التي رأينا في تلك الديار، وبعد ذلك قمنا بزيارة لأحد المراكز هناك، جُمع اللاجئون في صالة رياضية واحدة وحشروا -وهي عبارة عن صالة رياضية كأنها غرفة رياضية- جمعوا فيها ما يزيد على مائة وخمسين من الأطفال والنساء والشيوخ، وحالهم لا يعلم بها إلا الله، رأيت امرأة تبلغ الستين وهي تبكي ولا تقف عن البكاء، فسألناها عن ذلك فقالت: إنها مصابة بمرض في القلب، وإنها تركت أولادها السبعة في سراييفو يدافعون عنها ولقد انقطعت أخبارهم ولا تعلم عنهم، ثم طلبت منا أن نلمس الفرش التي ينامون عليها فإذا هي كالحجارة، ثم رأيت والإخوان امرأة تبكي بجانبها وهي دونها في السن، فقالت: إنها تركت أبناءها يدافعون عن سراييفو ولا تعلم عنهم شيئاً، وقد انقطعت أخبارهم منذ أكثر من ثلاثة أيام، ثم رأينا أيضاً امرأة تبلغ الثمانين أو تزيد، وهي لا تتكلم فوقفنا عندها وسألناها عن حالها، فقالت إنها أتت مع ابنتها وأبناء ابنتها وهم أطفال وهم الآن مرضى وبحاجة إلى الحليب، وإنها قد تركت ابنها وزوج ابنتها يدافعون عن بلادها، وما يحزنها هو أن أخبارهم لا تصل إليها وتخاف على هؤلاء الأطفال الذين أنهكهم المرض.(32/9)
نقص السلاح
ومن المشاهد التي رأينا، أنّا كنا في المركز الإسلامي في زغراد فجاء أحد الجنود القواد والشجاعة ظاهرة في محياه، ولو هز سارية لهزها من شجاعته وقوته، لكنه عاجز عن الكلام ويفرك إحدى يديه بالأخرى، فاستوقفناه وسألناه فعجز أن يتكلم، ثم قال: -ومعنا المترجم- قدمت لتوي والناس في بلدنا يذبحون كما تذبح الأنعام، وهو يفرك يديه إحداهما بالأخرى ويقول: نريد السلاح نريد السلاح، إنهم جبناء لا يمكن أن يقفوا في وجوهنا، لكن ينقصنا السلاح، ثم يشيح بوجهه عنا وتذرف الدموع من عينيه، ورأيت بجانبه شاباً صغيراً يبلغ الثالثة أو الرابعة عشرة، وقد لبس بدلة عسكرية وظهر على عقله شيء من الخفة، فسألنا عن حاله، فقالوا: لقد أمسك به الصرب عند منزله مع أخيه الذي يبلغ الثامنة عشرة من عمره، فشنقوا أخاه وهو ينظر، فهرب هذا الصغير فأطلقوا عليه النار فأصابوه في قدمه، لكنه -بحمد الله- تمكن من الهرب، فتلقفه بعض المسلمين وحمله إلى كرواتيا ومكث أسابيع يعالج ومنذ شفائه وهو يلبس هذه البدلة، ويقول: لن أخلعها إلا في سراييفو.
هذه بعض المشاهد التي رأيتها بعيني أنا والإخوان الذين كانوا معي.
وهناك مشاهد رأيناها حية على الهواء، ومشاهد رأيناها وكلها حدثت بعد يوم الثلاثاء الماضي، فيوم السبت الماضي رأينا في التليفزيون في الصورة على الهواء جندياً صربيا يستوقف مسلماً، ثم يقول له: أنت تقاتل الصرب ثم يطلق النار على رأسه، فتمر امرأة فيطلق النار على وجهها، فيرديها قتيلة وتنزف الدماء من فمها.(32/10)
القتل والحرق والتخريب
أما عن القتلى والجرحى في شوارع المدن فقد رأينا العشرين والثلاثين بجانب بعضهم البعض لا يمكن أن يقترب منهم أحد، ولا يمكن أن يواريهم المسلمون، ورأينا امرأة أطلق عليها النار، فالتف الناس حولها وأسرعوا بها لكنها ماتت بين أيديهم، ورأينا الأطفال عند إلقاء القنابل يهربون، لكن لا يدرون إلى أين يذهبون، وقد قتل عدد كبير منهم، كما سنقرأ بعد قليل -إن شاء الله-.
كذلك شاهدنا الناس في مقبرة مدينة سراييفو العاصمة يحفرون القبور، ويدفنون الموتى ولا يصدق المنظر إلا من رآه، كأنك تشاهد من في هذا المسجد، من كثرة من يحفر القبور ومن يقوم بدفن الموتى، وهذا لا شك أنه يدل دلالة قاطعة على عظم المصيبة وكثرة القتلى.
أما عن الحرائق فلا تسل، فرأيت قبل ليلتين سراييفو وهي تحترق جميعها، في كل مكان تحترق هي والمدن الكبيرة، وتنقلها التليفزيونات الألمانية والنمساوية حية على الهواء، رجال المطافي يتركون النار؛ لأن القنابل تتساقط عليهم، وبدأ الصرب في الآونة الأخيرة بإلقاء القنابل الكبيرة التي لم تكن تُعرف إلا في الحروب الكبيرة، كحرب الخليج فبدءوا يلقون القنابل التي يبلغ زنة الواحدة منها مائتين كيلو، وقد رأيتها وهي تلقى على أحد المنازل فتدمره تدميراً عظيماً حتى خلصت إلى الملجأ الذي دخله النساء والأطفال فقتلتهم جميعاً وهم ست عشرة نفساً، وقد بلغ عدد من فر إلى كرواتيا أكثر من مائتين وخمسين ألف لاجئ، وإلى سلوفينيا أكثر من ثلاثين ألفاً، أما الذين يدورون في داخل البوسنة يتنقلون من مكان إلى مكان، فيزيدون على الثلاث مائة ألف.
ويتبع الصرب في طريقة دخولهم للمدن الإسلامية وضربها أسلوباً في غاية الخبث، فيحيطون بالمدينة -كما وصف لنا أحد من خرج من تلك المدن واسمه حارث رجيج وهو من مدينة جفنسا، وقد خرج منها قريبا ورأيناه هناك- فقال: إنهم يحيطون المدينة بالدبابات، ثم يطلبون من المسلمين أن يسلموا أسلحتهم، وسواء سَلَّمْ المسلمون أسلحتهم أم لم يسلموا فإنهم يبدءون بضرب المدينة بالدبابات والمدافع ثلاثة أيام، ثم بعد أن يضربوا المدينة يدخلونها، فيقتلون كل من قابلوه على السواء ذكوراً وإناثاً، ويطلبون من الرجال أن يكشفوا عن عوراتهم، فمن وجدوه مختتناً قتلوه، ثم بعد ذلك يطردون من بقي، ويحضرون الشاحنات الكبيرة ويحمِّلونها بما تحويه هذه المخازن والبيوت من المواد الغذائية ومن الأثاث، ثم بعد ذلك يطلبون من الناس العودة، فإذا بدأ الناس بالعودة صوروا عودتهم إلى منازلهم، ثم تبع ذلك عرض في تليفزيوناتهم للعالم كله بأنهم لا يتعرضون للمسلمين، وأن المسلمين هم الذين يقاتلون الصرب ويطردونهم، وبعد ذلك يقومون بإحراق ما يشاءون من المدن، ويركزون على المساجد والمنشآت الحيوية في هذه المدن.
هذا عرض موجز لبعض المشاهد ولطريقة دخول الصرب وهتكهم للحرمات والأعراض، وسفكهم للدماء، وضربهم للرقاب.(32/11)
الجانب الاقتصادي
قال الدكتور: صالح بن محمد السلطان حفظه الله: بعد ذلك أنتقل لأتحدث عن الناحية الاقتصادية وأحوال المسلمين هناك: فالمسلمون يمرون بحالة اقتصادية سيئة وتسوء الأحوال يوماً بعد يوم، والأغذية تكاد تنفد، وساعد على سوء هذه الأحوال ما تقدم ذكره من نهب الصرب للحوانيت والمنازل، ومما زاد في ذلك أن الصرب شددوا القبضة على الجمهورية، فلا يمكن أن تدخلها الأغذية إلا في عسر شديد وبمجازفة كثير من البوسنيين عبر طرق جبلية شاقة ووعرة وفي الليل، وحينما كنا هناك اتصل بعض الإخوان من اليوغسلاف الذين درسوا في جامعة الإمام بأقاربه في سراييفو فرد عليه طفل صغير -وذلك بعد أن عادت الاتصالات يوم الجمعة- فسأله عن الأحوال فقال يا عم إنني الآن آكل الحب اليابس لا أجد ما آكل شيئاً، ومع صعوبة إدخال المواد الغذائية إلى تلك البلاد فإنها قليلة جداً، وقد قمنا بزيارة للمستودعات التي تجمع فيها الأغذية عن طريق هيئة الإغاثة، وكذلك بنك التنمية الإسلامي، ولجنة المرحمة البوسنوية وهي لجنة تجمع التبرعات من العمال البسنوييين في ألمانيا فوجدنا أن الطعام -وهذا الطعام خاص بالمسلمين في داخل البوسنة- وجدنا أن هذا الطعام لا يزيد على حمولة عشر شاحنات، مع أن الناس هناك في الداخل في غاية الضيق والجوع.
أما الأدوية فلا تزيد على الثلاثين أو العشرين كرتوناً.
أما الحليب فقد لا أبالغ إذا قلت: إنه لا يزيد على أربعين كرتوناً، الحليب الذي سيدخل إلى أطفال اللاجئين هناك، الذين يزيدون على ثلاث مائة ألف، وأثناء تفقدنا لهذه المستودعات وصلت شاحنتان من ألمانيا تحملان الأغذية، وكان في انتظارهما بعض الشاحنات قدم بها المتطوعون من البوسنة فشحنوها مباشرة، وذهبوا بها إلى داخل البوسنة عبر هذه الطرق الوعرة وبعضها لا يمكن أن تصل، ثم توقف وتدخل في داخل الغابات، ثم يبدأ الرجال بنقلها على ظهورهم عبر هذه الطرق الجبلية الشاقة، والحق أن الإخوة من منسوبي هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية هناك يقومون بجهود كبيرة يشكرون عليها، ويشرف على ذلك الأخ الفاضل الدكتور عبد الله العبدان الذي حضر شخصياً لمتابعة الأعمال هناك والإشراف عليها.
أقول: وبحمد الله فرغم ما يحصل للمسلمين هناك من الجوع والفقر والمعاناة، إلا أن معنويات المسلمين هناك مرتفعة بحمد الله، وكل ما يحتاجونه هو المال الذي يشترون به السلاح.(32/12)
الناحية العسكرية
قال الدكتور: صالح بن محمد السلطان حفظه الله: أما الناحية العسكرية فقبل أن أتكلم عن أحوال المسلمين عسكريا، أقدم ذلك بنبذة مختصرة عن القوات في يوغسلافيا وكان توزيعها على النحو التالي:- القسم الأول: الجيش النظامي ويبلغ تعداده مائتين وخمسين ألفاً، وهذا الجيش خاضع للحكومة الفيدرالية في بلغراد عاصمة صربيا وجله من الصرب.
والقسم الثاني: قوات الدفاع الشعبي في كل جمهورية، وهذه القوات تخضع لحكومة هذه الجمهورية، ولما كان الصرب يسيطرون على الجيش، فقد استولوا على جميع أسلحة الجيش، وبعد أن استولوا على جميع الأسلحة، قاموا بتوزيع جزء كبير منها على المواطنين الصرب في المدن والقرى الصربية، حتى إنهم نقلوها إلى القرى التي طُرُقها وعرة بطائرات الهيلوكبتر، فسلحوا جميع الصرب وفي مقابل ذلك نجد أن المسلمين لا يملكون شيئاً، مما حدى بحكومة البوسنة أن تبيع عليهم الأسلحة، مما اضطر بعضهم أن يبيع ما يملكه من دواب وأثاث ويشتري به سلاحاً يدافع به عن نفسه وأهله.
أما قوات الدفاع الشعبي الخاصة بكل جمهورية، -فمع الأسف- خدع الصربُ المسلمين، فقبل فترة طلب الصرب أن يقوم الجيش بحراسة مخازن الأسلحة -أسلحة قوات الدفاع الشعبي- فوافقوا في البوسنة بحسن نية، فبدأت قوات الجيش -القوات الصربية- تحرس هذه المستودعات، يحرسونها من الأمام ويحفرون الأنفاق من الخلف حتى فرغوا جميع ما فيها من الأسلحة، ولما أعلنت البوسنة استقلالها، لم يكن في حوزتها أي شيء من السلاح، في مقابل ما تملكه الصرب من الأسلحة المتطورة، التي يبلغ عدد الدبابات فقط فيها أكثر من ألفين وخمسمائة دبابة، هذه المفارقة في السلاح مع الصرب أدت إلى انهيار معنويات المسلمين وضعفها، لاسيما بعد أن تأخر وصول الإمدادات إلى المسلمين، وهذا بالطبع أدى في أول الأمر إلى سقوط عدد كبير من المدن والقرى الإسلامية، بل وصل الحال إلى أن المسلم إذا رأى دبابة ألقى بسلاحه وهرب.
بعد ذلك قام بعض الإخوة العاملين هناك في المراكز الإسلامية بالاتصال بالحكومة وحثهم على الدفاع عن بلدهم وأخبرهم بأن الأسلحة والأغذية والأدوية في طريقها إليهم، وأن عليهم أن يخبروا أفرادهم بذلك، بعد ذلك مباشرة بمجرد هذا الخبر ارتفعت معنويات الحكومة والأفراد واستماتوا في الدفاع عن بلادهم، ووصلهم بعد ذلك بعض الأسلحة التي تم شراؤها بأموال بعض المحسنين من المسلمين، ولا يخفى عليكم ولا أخفيكم ولا أكتمكم أنهم في أمس الحاجة إلى تبرعاتكم وإلى مد يد العون.
فهم في حاجة ماسة إلى سلاح يشترونه ليدافعوا به عن أنفسهم، ولما حُمِلتْ التبرعات التي تبرعتم بها أنتم وإخوانكم من المسلمين في كثير من البلاد، لما وصلت اشُتُري السلاح بعد وصولها بسويعات، ورأيناه وهو يحمل إلى داخل الجمهورية، أنا بعيني رأيته يحمل إلى داخل البوسنة بعدها مباشرة وبعد أن حصل المقاتلون من المسلمين على الأسلحة في مدينة كننس على سبيل المثال لما حصلوا على هذه الأسلحة، مباشرة بعون الله استطاعوا تحرير هذه المدينة، وأسقطوا أربع طائرات وطائرة هيلوكبتر، واستولوا على عدد من الدبابات، مع أن الأسلحة التي قدمت إليهم أسلحة بسيطة وصغيرة لا تساوي شيئاً في مقابل ما يملكه الصرب، لكن بحمد الله وبتوفيقه أمكنهم من دحر الصرب وإخراجهم من هذه المدينة.
ويقول الإخوة هناك: لو كان عندنا (10%) من سلاح الصرب لاستطعنا تحرير البوسنة خلال أيام قليلة، لكن المشكلة التي نعاني منها هي مشكلة السلاح، ولما حصلوا على المال اشتروا به مضادات للدبابات، ودمروا بها أكثر من مائة دبابة بمجرد حصولهم على نوعية من الأسلحة هي R.
B.
G المضادة للدبابات، فيحتاجون إلى أموال.
وهناك من أقرضهم لكنه جعل هذا القرض مربوط بمدة معينة، إذا لم تسدد هذه الأموال فإنه لن يمنحهم سلاحاً آخر.
وأثناء مقامنا هناك حضر بعض الشباب من بعض المدن في شمال البوسنة يطلبون السلاح فلم يكن هناك شيء من السلاح لأنه حمل في الليل فوقفوا حائرين، وفي أثناء ذلك قدم بعض الإخوة المسلمين من ألمانيا وقد جمع منها التبرعات من بعض العمال المسلمين هناك، فأعطاهم عشرين ألف دولار فقط يعني ما يعادل اثنين وسبعين ألف ريال، فطاروا من الفرح وسارعوا واشتروا بها سلاحاً، وعادوا أدراجهم إلى بلادهم، مع أن المبلغ يسير جداً، لكنهم قالوا: بإذن الله سنحرر بلادنا بهذا السلاح وإن كان يسيراً.
ورأيت مع الإخوة بعض القواد وهو القائد الوحيد الذي يهاجم، أي أن جميع القواد في البوسنة من المسلمين يدافعون عن المدن البوسنوية، ورأيت هذا القائد الوحيد الذي يهاجم رأيته قد أتى لأخذ الأسلحة، وقد استطاع أن يستولي -بحمد الله- على خمسة عشر كيلو متراً في طريقه إلى سراييفو، ويقول: بقي علينا خمسة عشر فقط ونصل إلى المدينة، وإذا وصلنا إلى هذه المدينة فإن الطريق ينفتح إلى سراييفو لكن نريد الأسلحة، ونريد أن تكون الأسلحة مضاعفة، مع أن الذي حمل لهم من السلاح شاحنة واحدة وهي تفي ببعض حاجاتهم، لكن كما قال بعض الإخوان: إن ما نحصل عليه من السلاح يساوي (1.
5%) مما نحتاجه، وهم الآن يحاولون قطع الطريق الرئيسي بين صربيا وبين البوسنة والهرسك ومحاولاتهم جادة، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم لقطع هذا الطريق، ومتى قطع هذا الطريق فإن الإمدادات التي تصل إلى داخل البوسنة إلى الجنود الصرب ستنقطع ويصعب عليهم خط الرجعة، ويحاصرهم المسلمون من الجهتين، وطلبوا منا أن ننقل لكم شكرهم ودعائهم لكم على ما قدمتموه، وأن نبين لكم أنهم بأمس الحاجة إلى مساعداتكم، وأنهم قد مدوا أيديهم إلى الكثير والكثير، ولكنهم بحاجة إلى مساعدات المحسنين من المسلمين بعد أن تعذر عليهم وصول المساعدات من غير المحسنين.(32/13)
الجوانب الأخرى
قال الدكتور: صالح بن محمد السلطان حفظه الله:(32/14)
الجانب الإعلامي
أما الناحية الإعلامية: فالكلام عنها في غاية الأسى والأسف، فالذي يسمع ويشاهد الإعلام الإسلامي يظن أنه لا يوجد في البوسنة حرب إبادة وتصفية، بل يقطع أن الأمر لا يعدو كونه مجرد مناوشات بسيطة ومحدودة جداً، نعم هذا واقع الأمر وقد سمعت الإذاعة تقول: قتل اليوم اثنان فصار العدد ثمانية، أي سخف هذا السخف وأي هراء؟! المدن يُصَفُّ فيها الرجال ثم يكشف عن عوراتهم فمن وجد مختونا ذبح كما تذبح الأنعام، وفي مدينة واحدة وفي ليلة واحدة ذبح أكثر من أربعمائة وعشرين مسلماً، ثم تأتي الإذاعة وتقول اليوم قتل اثنان والأمس ستة فصار العدد ثمانية، أو ليرتفع العدد إلى ثمانية، وهذا قبل أيام قليلة جداً سراييفو والمدن الكبيرة -كما أسلفنا- تحترق وصارت خراباً، وكما أسلفنا أنهم بدءوا في الأيام الأخيرة بإسقاط القنابل الكبيرة التي تدمر أحياء بأسرها، ولكن ليس لمثل هذه الأخبار ذكر، ولا تعرف في وسائل إعلامنا الإسلامي.
قضية المسلمين في تلك البلاد لا يعرفها الكثير من المسلمين، ومن يعرفها فإنه يجهل الكثير مما يحدث بسبب نقص تغطية الإعلام لهذه الأحداث تغطية صحيحة، ولا شك أن الإعلام يتحمل قسطاً كبيراً من نتيجة ما حصل وما يحصل للمسلمين هناك، حيث لم يتفطن لهذه القضية إلا متأخراً فكان الدعم قليلاً ومتأخراً، ولو ألقيت نظرة عابرة على معظم الجرائد لوجدت أخبار المسلمين هناك قليلة إن لم تكن معدومة، وإن وجدت فإنها توجد في أماكن لا يتنبه لها، ومع الأسف فإن هذه القضية تتصدر الصحف الغربية في ألمانيا والنمسا وغيرها، مع أن الأمر لا يعنيهم في قليل ولا كثير.
أما في صحفنا الإسلامية التي من المفترض أن تكون قضية المسلمين هناك قضيتهم، فإنهم لا يعرفون عنها شيئاً.
فالإعلام الإسلامي مع الأسف في واد، وقضايا الأمة في وادٍ آخر، وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب ولا بعيد، فأين الولاء والبراء؟ وأين هذا من ترديد الشعارات الفارغة؟ إن الناس في هذه الأيام وفي هذا الزمان صاروا يعقلون ويفهمون، ولهم عقول يميزون، فعودوا أيها الإعلاميون إلى رشدكم، واهتموا بقضايا أمتكم، فقد نبذ إعلامكم وترك: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227] .(32/15)
ماذا تعني البوسنة للمسلمين
الفقرة الأخيرة: ماذا تعني البوسنة للمسلمين في رأي أهلها؟ يقول الدكتور عرفان سكرتير حزب العمل الذي يرأسه الرئيس علي عزت -قابلناه هناك- يقول: على المسلمين أن يعرفوا جيداً أهمية بقاء البوسنة وقيامها، وأثر ذلك على انتشار المسلمين في أوروبا فهي رأس الحربة في الإسلام في أوروبا مع مراعاة أن الأوروبي بطبيعته يمكن أن يتقبل الإسلام ويدخل فيه إذا كان من يدعوه أوروبياً أكثر ممن لو كان من غير الأوروبيين، انتهى كلامه.
وهذا الكلام جيد من حيث الجملة، وقد صرح الرئيس الفرنسي بأنه لن يسمح بقيام دولة أصولية في أوروبا وهذا ما يفسر عدم الضغط على صربيا كما حدث مع بعض الدول التي للغرب مصالح في بقائها، ومن هذا أقول: إن وجود دولة إسلامية في أوروبا سيكون فاتحة خير على المسلمين، وطريقاً قريباً لدعوة الناس هناك.
وأختم كلامي ببعض الأخبار التي وصلت من هناك، أقرأ الخبر الأول: وهو من أخبار يوم الجمعة، ثم أقرأ الخبر الذي وصل اليوم.
من الأخبار في مدينة فوجا والقرى المجاورة كما أفادت الأنباء التي وصلت إلى المركز: قتل عشرات المسلمين في المذابح الجديدة التي ارتكبها الصرب ضد المدنيين العزل، وفي مدينة أوجاك قصف الجيش اليوغسلافي المدينة الساعة السادسة والنصف مساءاً بالقنابل التي تزن كل قنبلة منها مائتي كيلو، ولا يعلم عدد القتلى والجرحى والخسائر المادية حتى الآن، في مدينة بنيلوكا أطلق العدو الصربي أمس صاروخا على مسجد فرحات باشا، وهو من المساجد القديمة فأصاب منارته، ويستمر هدم منازل المسلمين ونهب محلاتهم التجارية.
أيضاً من مدينة بنيلوكا المدينة محاصرة ويتعرض سكانها للقهر، والشعب على حافة المجاعة، والقوات الصربية تنهب وتهدم مباني وبيوت المسلمين وخاصة بالقنابل الحارقة، كما أن الحزب الإسلامي في هذه المدينة يطلب من رئاسة الجمهورية أن يوقفوا هذا القهر وهذا التجنيد الإجباري.
في مدينة سراييفو في إحدى القرى القريبة، قامت القوات الصربية بقتل جميع الأسرى من النساء والأطفال، وكذلك في مبنى مدرسة ابتدائية في مدينة دوربانيتيه قام الصرب بذبح جميع الأسرى المسلمين، وكان أغلبهم من النساء والأطفال.
وهذا الخبر وصلنا اليوم قبل صلاة المغرب، أعلن نائب رئيس الأركان في البوسنة بأنه إذا لم يتم إرسال أسلحة قريبة إلى الجيش، فلن يتمكن الجيش البوسنوي من الدفاع عن المنطقة التي تحت سيطرته، ولكن مع ذلك -بحمد الله- فكما أسلفت بالأموال التي قدمت لهم تم بها شراء بعض الأسلحة ووصلت قبل يومين إليهم وصلت البشائر: ففي مدينة يوسنكي بوردو تم تحرير أجزاء المدينة التي كانت تحتلها القوات الصربية، وتم تحطيم دبابتين وقتل مائة وعشرين جندياً من القوات الصربية، وفي مدينة شابلن قامت القوات الصربية بنسف الجسر الذي على نهر المدينة من أجل قطعه بين شطريها، وفي مدينة أوجاك التي ذكرت قبل قليل أنها تضرب بالقنابل التي تزن مائتي كيلو، في هذه المدينة تم تحرير ضواحي المدينة وما حولها من القوات الصربية، وأسر حوالي ألفين من القوات الصربية، والاستيلاء على عدد كبير من الأسلحة، وفي مدينة سيريرفستا تم تحرير المدينة جميعها من قوات العدو، وتم أسر ثلاثمائة واثنين وخمسين صربياً، والاستيلاء على كمية كبيرة من الأسلحة والذخيرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.(32/16)
الجانب السياسي
أما الناحية السياسية: فتحاول الحكومة البوسنوية الآن أن تستفيد من جميع القنوات السياسية المتاحة، وهي تعلم أن الغرب يريد أن يضعف هذه الجمهورية حتى تدوم حاجتها إليهم، وهذا ظاهر من قراراتهم التي لا تعدو أن تكون حبراً على ورق، ولم يوجد ضغط حقيقي من هذه الحكومات، وإن كانت تزعم كذباً أنها تضغط على حكومة صربيا من أجل أن تسحب قواتها، لكن الإخوة هناك يعلمون أن هذه الأخبار أخبار مزورة وغير صحيحة، والمجموعة الأوروبية وهي تجتمع لتعاقب صربيا -كما يزعمون- تخرج بقرارات كلها لا تعدو عن كونها لفت نظر بوجوب سحب هذه القوات.
لماذا؟ لأن هذه الدولة -صربيا- تسفك دماء المسلمين، وهي دولة نصرانية كافرة مثلهم، وليس لهم مصلحة في إضعافها كمصلحتهم في إضعاف الكثير من الدول الإسلامية كما شاهدناه في حرب الخليج، وهذا الشيء ليس بغريب عنهم، بل متوقع منهم، ومثله ما يصدر من قرارات هيئة الأمم المتحدة التي هي في الواقع لا تعدو أن تكون ألعوبة في يد الولايات المتحدة تصرفها كما شاءت، وتديرها كما يحلو لها، وكما يتمشى مع مصالحها، فهذا أمر متوقع حتى للمسلمين هناك في البوسنة كانوا يتوقعون ذلك، ويعلمون أن الغرب الكافر لا يريد دولة إسلامية في أوروبا كما صرح بذلك الرئيس الفرنسي، أقول: لكن الذي لم يتوقعوه ولم يخطر على بالهم، وحز في نفوسهم وآلمهم أشد الألم، هذا الموقف الهزيل من الدول الإسلامية، فدول لم تعترف بهذه الجمهورية المسلمة كالمغرب والجزائر، ودول لم تعترف بها إلا بعد أن اعترف بها الغرب -أوروبا والولايات المتحدة- وكان اعترافها اعترافاً هزيلا، بعكس إيران مع الأسف التي تستغل هذه المواقف وتجريها لمصلحتها، وتدافع في الظاهر عن المسلمين هناك، وتدافع عن حقوقهم، لكن بحمد الله أنهم يعرفون حقيقة الموقف الإيراني منهم، ويزداد ألمهم حينما يرون سكوت الحكومات الإسلامية على هذه المذابح الجماعية والمجازر، وكأن الأمر لا يعني هذه الحكومات الإسلامية من قريب ولا بعيد، فأي إسلام هذا الإسلام؟! وأي موالاة هذه الموالاة؟! بل وصل الحال بهم مع ما حل بهم أنهم قالوا: لو جاء مجرد شجب أو استنكار من الدول الإسلامية لكان لذلك أثره في نفوسنا، ولكان ذلك مؤثراً على الصرب لأن الصرب يهمهم مثل هذه الأمور، بل قالوا: لو جاء تهديد من الدول الإسلامية بقطع العلاقات والمعاملات لكان موقف الحكومة الصربية موقفاً مغايراً لما هي عليه الآن من مذابح ومجازر.
أقول: وهل وصل الضعف بنا أن نعجز حتى عن مثل هذه الأمور، أن نعجز عن مجرد شجب أو استنكار، مع أن مثل هذه الأمور -تعد ضعيفة وهزيلة- أمور لا تنقص منا شيئاً، وهي في نفس الوقت مثمرة للمسلمين هناك، ومن هذا المكان ومن هذا المنبر أذكر المسئولين في الدول الإسلامية عامة وفي هذه الدولة خاصة بمسئوليتهم تجاه ما يتعرض له المسلمون هناك من مجازر، وأشعرهم بتقصيرهم بسبب المواقف التي يقفونها من المسلمين هناك، كذلك أنادي طلبة العلم والدعاة وعلماءنا الأكابر بالوقوف مع إخوانهم، وحث المسئولين على كل ما يقدرون عليه في نصرة إخوانهم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلاميا، وإلا فإن العلماء والدعاة قد قصروا في واجب النصح الذي تحملوه، وهم مسئولون عنه عند الله تعالى، والجميع كذلك كلٌ بحسبه، فإن عضواً من الأمة يقطع ويراد استئصاله، فالله الله أيها المسلمون في إخوانكم ما دام في الأمر مهلة، وقبل أن تندموا حين لا ينفع الندم.(32/17)
دعوة للتعاون
قال الشيخ: سلمان بن فهد العودة حفظه الله: جزاك الله خيراً على هذا البيان المفيض المفيد، وهاهنا مجموعة من الأسئلة حول هذا الموضوع، قبل أن أعرضها أو أقرأ شيئاً منها أقول: أنتم الآن سمعتم، ولسنا نريد منكم مجرد السماع، بل نريد منكم -وقد تخلى الرسميون عن المسلمين- أن تصدقوا الله -تعالى- وتروا الله -تعالى- من أنفسكم قوة، وإذا كان لنا شيء من الحق عليكم فإننا نناشدكم به بحكم أخوة الإسلام، ألا يبخل أحد منكم على المسلمين بما يستطيع قلَّ أو كثر، بما تجود به نفسه، فنحن حين نرى هذه الحرب التي تديرها دول، وإمكانيات مذهلة، وطائرات، وقنابل، ودبابات بالآلاف، وإمكانيات هائلة، والعالم كله يتفرج، والأمم المتحدة، تقول: إن التدخل غير ممكن لأسباب مادية وتكاليف وغير ذلك، نعلم أن الأصل أنه كان يجب على القوة الإسلامية، التي مكن الله لها في الأرض أن تدعم إخوانها، ولكن إن تخلى عنهم الرسميون، فإنه يجب علينا أن نبذل نحن ما نستطيع.
ولا ننسى أبداً أن المجاهدين الأفغان، استطاعوا أن يقاوموا دولة روسيا التي كانت إمبراطورية هائلة تنافس أقوى أمم الأرض آنذاك، استطاعوا أن يتغلبوا عليها ويحاربوها هذه السنين الطويلة، ليس كما يدعي الصحفيون من خلال الدعم الأمريكي، لا، ولا من خلال دعم الحكومات العربية والإسلامية، كلا، وإنما من خلال الدعم الشعبي، بل أقول: من خلال جزء من الدعم الشعبي، لأن هناك أموالاً من دعم الشعوب الإسلامية حيل بينها وبين الوصول إلى المجاهدين، فالقدر الذي وصل إلى أيدي المجاهدين الأفغان جعل الله تعالى فيه البركة فقاوم به هزيمة أقوى إمبراطورية في العالم آنذاك، وبإذن الله فإن القرش والريال الذي تدفعه أنت سينتصر به أخوك المسلم البوسنوي على قوات الصرب، وعلى غيرها، فلا تقل أين يقع هذا المال مما أريد؟ الله -تعالى- يبارك ولا حد لبركته، والله -تعالى- ينزل نصره على من يشاء.
لكن بشرط أن تكون المعركة في البوسنة والهرسك هي معركة المسلمين جميعاً وليس معركة قلة لا يملكون من السلاح إلا (1.
5%) مما يحتاجون إليه ومما يتطلبونه، فلا نسامحكم والله أبداً إلا أن تشاركوا بقد ر ما تستطيعون، وحتى من دفع بالأمس يوم جمعنا التبرعات نطالبه أن يدفع اليوم ويدفع غداً، ومن لا يملك إلا ريالاً أو عشرة ريالات فليدفعها، ومن استطاع أن يتخلى عن شيء من حاجته فليتخل عنها، ليس هذا فقط، بل نطالبكم أن تنقلوا هذه القضية إلى الشيوخ والرجال والنساء والكبار والصغار، وأن تحدثوا بها الأطفال وأن تطلبوا من كل من تتحدثون معه أن يساهم بشيء من المال لدعم إخوانكم، ونطالبكم أن تتحدثوا إلى الخطباء وإلى العلماء وإلى طلبة العلم، وإلى الدعاة أن يثيروا هذه القضية على أعواد المنابر، وفي المجالس، وفي الميادين، وفي كل مكان، أن يجمعوا التبرعات للمسلمين هناك، وأن يعلموا أنها تبرعات المقصود منها سد جوعة الجائع.(32/18)
الأسئلة(32/19)
وقف الحرب
السؤال
يسأل الكثيرون عن سؤال محير وهو: من الذي -بعون الله تعالى- سوف يكون وقف الحرب على يديه؟
الجواب
أنا أخبرك الخبر اليقين بهذا، الذي سوف يكون وقف الحرب على يديه هو محمد بن عبد الله المهدي الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج في آخر الزمان، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، فبذلك تدين الأرض كلها للإسلام، وتخرج الأرض خيراتها وكنوزها، أما قبل فإن الحرب بين المسلمين وأعدائهم ستظل سجالاً، حتى وإن انتصر المسلمون في يوغسلافيا وإن قام للمسلمين دولة، وإن قام للإسلام خلافة، وإن اجتمع المسلمون، مع ذلك كل هذا لا يعني أن النصارى سوف يلقون السلاح، وينامون ملء جفونهم ويقولون لا حيلة في ذلك، لا، هذه سنة الله تعالى أن الحرب قائمة بين الإسلام وخصومه في كل مكان، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يوصل السلاح إلى المسلمين، المهم أنت أعطنا المال ودع الباقي لمن يستطيع أن يقوم به.(32/20)
النصارى العرب
السؤال
لماذا لا يقاطع المسلمون النصارى العرب الموجودين على الأقل في الصيدليات والورش هنا، وفي جميع بلاد المسلمين وهم من النصارى؟ ولماذا لا يتصل بأصحاب الصيدليات والمحلات ويخوفون بالله؟
الجواب
هذا طالبت به في درس الأحد، وأرجو الله تعالى أن يجد هذا الطلب آذاناً صاغية، فإذا كانت الحكومات الإسلامية عاجزة عن مقاطعة دولة الصرب والضغط عليها، فأقل شيء أن تفلح الشعوب الإسلامية في مقاطعة النصارى، واستقدام المسلمين سواء للخدمة أو للعمل أو للوظيفة أو لغير ذلك.(32/21)
التبرع بالزكاة
السؤال يقول: هل يصح تقديم الزكاة لهم؟
الجواب
يا أخي الزكاة تقدم لمن هو دون ذلك، الذي لا يملك الأمور الحاجية تُقدم له للسكن، وللغذاء، وللطعام، وللشراب، وللباس الذي يحفظه من أذى الحر والبرد، فما بالك بإنسان يُقتل أما تعطيه السلاح من الزكاة حتى يدافع عن نفسه؟! إن هؤلاء من أحوج الناس إلى الزكاة، وخاصة ونحن نعلم أنها تصل من طرق -إن شاء الله- موثوقة ومضمونة.(32/22)
بيع الكتاب للإنفاق
السؤال
لا أملك المال لكن أملك الكتب، فهل يستحب لي أن أبيعها لأنفق المال؟ الجواب أقول: إذا كانت كتباً لا يحتاج إليها فبإمكانه أن يبيع منها، وإلا يستطيع أن يبيع بعض الأشياء الأخرى غير الكتب، يا أخي الساعة التي في يدك بعها وأعطنا قيمتها، إذا كان عندك أشياء فائضة عن حاجتك، وفي الحديث: {سبق درهم ألف درهم} .
وهذا ينبه إلى أنه من الممكن أن من ليس معه شيء من المال، أن يرسل مالاً أو شيكاً في أي شيء آخر هذا أمر معلوم.(32/23)
تذكير بالدعاء للمسلمين في يوغسلافيا
السؤال
هذا أخ يقول: إن القلوب قد تهيجت والدموع قد ذرفت فهلا استغل هذا اللقاء للدعاء للأخوة هناك؟
الجواب
نعم، هذا كان في ذهني أن ندعو للإخوة هناك، فأنتم الآن جمع غفير لعل من بينكم من لو أقسم على الله تعالى لأبره، ولعل من بينكم صاحب قلب صادق، ولقمة حلال، وسر بينه وبين الله عز وجل يجيب الله تعالى به دعوته، أو يشعر بالضرورة الآن وهو يرى دماء المسلمين تنزف في كل مكان، وثمرات جهادهم يقطفها خصومهم، وبيوتهم تهدم عليهم، ورجالهم يقتلون، ونساؤهم تنتهك أعراضها، وأطفالهم يحرمون حتى من لبن الأم، بل حتى من الحليب الذي به قوام حياتهم، فلعل إنساناً يشعر بالضرورة فيدعو الله -تعالى- وهو مضطر والله تعالى يجيب المضطر إذا دعاه، وإن شاء الله لا تعدم هذه الأمة أن يكون من بينها من هو كذلك.
فاللهم، يا سامع الأصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا قاضي الحاجات: نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى واسمك الأعظم الذي إذا سُئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تنصر إخواننا في يوغسلافيا نصراً مؤزراً، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم انصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا حي يا قيوم، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، وعراةٌ فاحملهم، اللهم إنهم عاجزون فقوهم بقوتك يا قوي يا عزيز، اللهم إنهم فقراء فأغنهم، اللهم إنهم فقراء فأغنهم، اللهم افتح لهم أبواب الخير والنصر وطرقه بقدرتك يا حي يا قيوم، اللهم انصرهم، اللهم انصرهم، اللهم انصرهم، اللهم افتح لهم أبواب الخير، اللهم حرك لهم قلوب المسلمين في كل مكان، اللهم حرك لهم قلوب المسلمين في كل مكان، اللهم أدر الدائرة على محاربيهم من النصارى وأهل الكتاب، اللهم أدر الدائرة على عدوهم، اللهم أنزل على الصرب بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل عليهم بأسك، اللهم أنزل عليهم نقمتك.
اللهم يا حي يا قيوم، يا ناصر المستضعفين انصر المسلمين، ويا جابر المنكسرين اجبر كسرهم، اللهم اجبر كسرهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أسمعنا من أخبارهم ما تقرُّ به عيوننا، وتطمئن به قلوبنا، اللهم لا تكلهم إلى ضعفهم، ولا إلى فقرهم، ولا إلى مسكنتهم، ولا إلى الحكومات التي تخلت عنهم، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت، أنت القوي ونحن الضعفاء، أنت الغني ونحن الفقراء، إنا نسألك سؤال المستغيث الملهوف، سؤال من ذلت لك رقبته، وخضعت لك جوارحه، يا حي يا قيوم لا تدعهم لأنفسهم، اللهم لا تكلهم إلى أحد من خلقك أبداً، اللهم أنزل عليهم نصراً سريعاً مؤزرا يا حي يا قيوم.
اللهم ونسألك للمسلمين في أفغانستان ونسألك للمسلمين في بورما ونسألك للمسلمين في كشمير، ونسألك للمسلمين في فلسطين ونسألك للمسلمين في الجزائر ونسألك للمسلمين في تونس ونسألك للمسلمين في مصر ونسألك للمسلمين فوق كل أرض وتحت كل سماء، يا حي يا قيوم عجل لهم بالنصر والفرج، يا فارج الكربات يا قاضي الحاجات يا مجيب الدعوات، اللهم حرك قلوب المسلمين أن يرفعوا إليك الدعوات الصادقة يا حي يا قيوم، اللهم وافتح لدعواتهم أبواب السماء، اللهم لا تدعهم لأنفسهم، ولا تكلهم إلى عدوهم، يا حي يا قيوم، إن لم يكن بك عليهم غضب فهم لا يبالون؛ لكن عافيتك هي أوسع لهم، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بهم غضبك أو ينزل عليهم سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ونحن نطالب الإخوة أيضاً أن يقوموا بنشر هذا الشريط وما شابهه وتوزيعه على المسلمين.(32/24)
حاجة يوغسلافيا إلينا
السؤال
هل يحتاج المسلمون هناك إلى ذهابنا إليهم وكيف؟ كذلك السؤال للشيخ صالح.
الجواب
سألنا الإخوة هناك فقالوا: نحن لسنا بحاجة إلى أحد يقاتل معنا، يوجد عندنا من الجنود المدربين العاملين أصحاب الخبرات في القتال ما يمكن أن يدافعوا به عن بلادهم ويحرروها، ولكننا فقط بحاجة إلى السلاح.
وقال الشيخ سلمان: ولذلك يمكن أن نقول لهذا الأخ: أعطنا قيمة التذكرة التي سوف تسافر بها، واجلس هنا سوف تزودهم بالدعوات الصادقة قيمة التذكرة خمسة آلاف فقط.(32/25)
الجهاد الفعلي
السؤال يقول: لقد سمعنا هذه المشاهد عما يجري في بلاد المسلمين من التعذيب والقتل، وقد سمعنا من قبل مثل ذلك، وسوف نسمع الكثير، ولكن هل مجرد الكشف عن المرض سوف يشفيه؟ وهل سمعت أن المدن حررت باللسان المجرد؟ وهل سمعت أن السلاح ينزل من السماء على معوقين؟ كم نسمع هذه الأصوات المتدفقة بالحق في المحاضرات والدروس والمناسبات، ولكن من تخاطب؟ هل تخاطب من يزينون سياراتهم بأصواتكم، ومنازلهم بأسمائكم، أين العمل وأين السبيل إلى التطبيق؟ ثم قال: السيف أصدق إنباء من الكتب في حدِّه الحد بين الجد واللعب الجواب فأقول: إن كانت قصصاً نتسلى بها، فما قاله الأخ صحيح (100%) وإن كانت هذه الأحاديث حركت حميتكم، وربطتكم بإخوانكم، ودعتكم إلى مزيد من الدعم والبذل، فإنها -إن شاء الله- جزء من الحرب التي نديرها على أعداء الله من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى والمشركين، وبإذن الله تعالى نحن على ثقة من موعود ربنا عز وجل أنه تعالى سوف ينصرنا عليهم، وسوف تقوم للإسلام دولة في أوروبا على رغم أنوفهم، وسوف تقوم للمسلمين قائمة، ويجتمع المسلمون كلهم تحت دولة الخلافة التي توحد ما تشتت وتفرق من أمرهم.(32/26)
التبرعات وإمكانية الجهاد
السؤال
هل من الممكن أن يقوم في يوغسلافيا جهاد إسلامي، مثلما حصل في أفغانستان ونرجو التحدث عن التبرعات أين تذهب هل للجياع أم للجهاد؟
الجواب
تذهب للجياع وتذهب للجهاد كما شرح الشيخ صالح في كلمته، أما هل سوف يقوم في يوغسلافيا جهاد إسلامي، فنحن نقول الآن كما أسلفنا في مقدمة الحديث: المسألة الآن مسألة دفاع المسلم عن نفسه، ودعك من قضية الجهاد فهو أمر سابق لأوانه.
الشيخ صالح يريد أن يعقب على هذا الموضوع.
قال الشيخ صالح بن محمد السلطان: بسم الله الرحمن الرحيم، أقول فيما يتعلق بالأموال التي تصرف فقد بذلنا الكثير في محاولة معرفة الطرق التي يصرف فيها هذا المال، ورأينا أنه بحمد الله يصرف في قنواته الصحيحة، وأن الرئيس علي عزت قد كلف لجنة للطوارئ برئاسة مفتي المسلمين هناك، وبعضوية رئيس مجلس شورى المسلمين هناك ونائبه، ورأيناهم وهم يقومون بشراء ما يحتاجه المسلمون في الداخل من كل شيء، ويقومون بتوزيعه ويبذلون الجهد العظيم في ذلك، ولقد رأيناهم إلى الساعة الثانية من الليل وهم يتابعون هذه الأعمال، ثم يقومون لصلاة الفجر ويستمرون في أعمالهم، وقبل أن نفارق تلك البلاد بلحظات كنا في مكتب رئيس لجنة الطوارئ، في مكتب هيئة الإغاثة فدخل علينا رئيس لجنة الطوارئ وهو منفعل لا يدري كيف يتصرف، وهو يقول: وصلنا الآن خبر أن هناك تسعة وعشرين ألف لاجئ بلا طعام، ويحض الإخوة على سرعة حمل الأطعمة من هذه المستودعات، فثقوا -إن شاء الله تعالى- أن ما تتبرعون به يصل إلى إخوانكم، وقد بذلوا الكثير والكثير، وهناك من أقرضهم وينتظر سداد هذه الأموال حتى يتم تزويدهم بأسلحة وأغذية أخرى.(32/27)
فوائد من زاد المعاد
إن الذي يطالع الكتب ويقرؤها ويتمعن فيها يجد فيها فوائد جمة فقهية كانت أو أصولية أو عقدية، أو لغوية أو حديثية أو نحوها.
وقد تحدث الشيح حفظه الله عن بعض الفوائد البديعة من كتاب زاد المعاد، وهي فوائد متفرقة في عدة مواضع وأبواب اختارها الشيخ من الأجزاء الخمسة، ثم أتم الدرس ببعض الفوائد أيضاً من كتاب العزلة لأبي سليمان أحمد بن محمد الخطابي.(33/1)
فوائد المجلد الأول
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: في هذه الليلة سوف أبدأ في كتاب جديد نافع مفيد، بإذن الله العزيز الحميد، وهو كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام الحافظ المفسر الفقيه، المجاهد شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي، الشهير بـ ابن قيم الجوزية، المولود سنة [691/751هـ] والطبعة التي سوف أعتمد عليها، هي الطبعة التي حققها شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط , وطبعت في مؤسسة الرسالة، عام (1399هـ) ، وسوف نأخذ من كل جزء بعض الفوائد والشوارد التي تستحق أن تقيد ويحتفظ بها، ونبدأ بالجزء الأول.(33/2)
سكوت البخاري عن الراوي
وأخيراً: في صفحة [471] ذكر المصنف كلاماً في سكوت الإمام البخاري عن الراوي، فإن المصنف الذي هو ابن القيم ذكر عكرمة بن إبراهيم، وأن البيهقي ضعفه، ثم قال: " قال أبو البركات ابن تيمية -يعني الجد- ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه -وتاريخ البخاري هو التاريخ الكبير، في تراجم الرواة، وهو مطبوع، قال: فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين، فكأنه بهذا يشير إلى أن البخاري إذا ذكر الراوي في تاريخه، ولم يذكره بجرح ولا تعديل، فإنه ليس بمجروح عنده، وهذا كلام مشهور عند أهل العلم، لكن فيه نظر؛ فإن الساكت لا ينسب له قول، إذا سكت الإمام عن الرجل، فإنه لا يمكن أن ينسب إليه قول، فقد يكون بيض له لأن يعود إليه فيما بعد، أو لم يحضره شيء في حاله أو في شأنه أو لغير ذلك من العلل والأسباب، فهذه القاعدة: أن من سكت عنه البخاري في تاريخه، فهو ليس بمجروح عنده، فيها نظر، ولعلها لا تثبت على إطلاقها.
هذا ما تيسر من الفوائد في هذا الجزء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.(33/3)
أمثلة للحديث المقلوب
وفي صفحة [439] ذكر أمثلة للحديث المقلوب، فإنه قال في صفحة [438] في حديث عطية العوفي عن ابن عباس: " كان النبي صلى الله عليه وسلم: {يركع قبل الجمعة أربعاً، لا يفصل بينها في شيء منها} إلى أن قال: هذا الحديث فيه عدة بلايا " فذكر أن بقية بن الوليد إمام المدلسين وقد عنفه، ثم ذكر مبشر بن عبيد منكر الحديث، ثم ذكر أن الحجاج بن أرطأة ضعيف مدلس، ثم ذكر أن عطية العوفي، ضعيف، ثم قال: وقال البيهقي، عطية العوفي لا يحتج به ومبشر بن عبيد الحمصي منسوب إلى وضع الحديث، والحجاج بن أرطأة لا يحتج به، قال بعضهم: ولعل الحديث انقلب على بعض هؤلاء الثلاثة الضعفاء، لعدم ضبطهم وإتقانهم فقال: قبل الجمعة أربعاً، وإنما هو بعد الجمعة، فيكون موافقاً لما ثبت في الصحيح، ونظير هذا: قول الشافعي في رواية عبد الله بن عمر العُمري: {للفارس سهمان، وللراجل سهم} قال الشافعي: كأنه سمع نافعاً يقول: للفرس سهمان وللراجل سهم فقال للفارس سهمان، وللراجل سهم حتى يكون موافقاً لحديث أخيه عبيد الله، قال: وليس يشك أحد من أهل العلم، في تقديم عبيد الله بن عمر على أخيه عبد الله في الحفظ.
قلت - ابن القيم -: ونظير هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في حديث أبي هريرة: {لا تزال جهنم يلقى فيها، وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فيزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط: وأما الجنة فينشئ الله لها خلقاً} فانقلب على بعض الرواة فقال: {أما النار فينشئ الله لها خلقاً} فهذا أيضاً من المقلوب، قلت - أيضاً من كلامه- ونظير هذا حديث عائشة {إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم} وهو في الصحيحين فانقلب على بعض الرواة فقال: {إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل، فأكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال} وهذا للحافظ ابن حجر فيه كلام، في موضوع انقلاب هذا الحديث، وأن فيه نظر، قال: ابن القيم رحمه الله: "ونظيره أيضاً عندي حديث أبي هريرة: {إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه} وأظنه وهم -والله أعلم- فيما قاله رسوله الصادق المصدوق {وليضع ركبتيه قبل يديه} كما قال وائل بن حجر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه} وقال الخطابي وغيره حديث وائل بن حجر أصح من حديث أبي هريرة " فهذه أمثله للأحاديث المقلوبة في المتن.(33/4)
قاعدة في معرفة السنن والبدع
وفي صفحة [432] ذكر فائدة أصولية نفيسة أيضاً، وهي مرجع الإنسان في معرفة السنن والبدع فقال وهو يتكلم عن موضوع الجمعة، والسنة قبلها: " ولا يجوز إثبات السنن في مثل هذا بالقياس؛ لأن هذا مما انعقد سبب فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يفعله ولم يشرعه؛ كان تركه هو السنة، -هذه القاعدة- ويقول: ونظير هذا، أن يشرع لصلاة العيد سنة قبلها أو بعدها بالقياس؛ فلذلك كان الصحيح أنه لا يسن الغسل للمبيت بمزدلفة، ولا لرمي الجمار، ولا للطواف ولا للكسوف، ولا للاستسقاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يغتسلوا لذلك، مع فعلهم لهذه العبادات، انتهى كلام المصنف.
إذاً: يؤخذ من ذلك قاعدة، وهي: أن ما انعقد سبب فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، فالسنة تركه حينئذٍ.(33/5)
تحية المسجد
وفي صفحة [435] ذكر كلاماً لعلِّي ذكرته قبل بفي مناسبة، نقل عن أبي البركات ابن تيمية في قصة الرجل الذي جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له: {أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: فصل ركعتين وتجوز فيهما} جاء في سنن ابن ماجة، في هذا الحديث زيادة: {أصليت ركعتين قبل أن تجئ؟} قال: قال أبو البركات ابن تيمية قوله: [قبل أن تجئ] يدل على أن هاتين الركعتين سنة الجمعة، وليستا تحية المسجد " انتهى كلام أبي البركات، قال الشيخ ابن القيم قال شيخنا حفيده أبو العباس: وهذا غلط، أي أن الحفيد استدرك على جده رحمهما الله جميعاً- والحديث المعروف في الصحيحين عن جابر قال: {دخل رجل يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: فصلِّ ركعتين} وقال: {إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما} فهذا هو المحفوظ في هذا الحديث، وأفراد ابن ماجة في الغالب غير صحيحة، هذا معنى كلامه " هذا ما نقله ابن القيم عن ابن تيمية.
وبناءً عليه: فإن هاتين الركعتين هما تحية المسجد، قال ابن القيم رحمه الله: " وقال شيخنا أبو الحجاج الحافظ المزي: هذا تصحيف من الرواة، إنما هو: {أصليت قبل أن تجلس؟} فغلط فيه الناسخ، وقال: - المزي - وكتاب ابن ماجة، إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به، بخلاف صحيحي البخاري ومسلم، فإن الحفاظ تداولوهما، واعتنوا بضبطهما، وتصحيحهما، قال ولذلك وقع فيه أغلاط وتصحيف يعني: سنن ابن ماجة.(33/6)
انتقاء الإمام مسلم أحاديث الضعفاء
وفي صفحة [363] ذكر فائدة نافعة، لطالب الحديث، حول طريقة الإمام مسلم رحمه الله في الانتقاء من أحاديث الضعفاء، قال: " وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما {أن رسول الله صلى الله وعليه وسلم، لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة} رواه أبو داود فهو حديث ضعيف، في إسناده الحارث بن عبيد " ثم ذكر الأقوال فيه إلى أن قال: كان يشبهه في سوء الحفظ، محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعيب على مسلم إخراج حديثه " هذا الكلام نقله ابن القيم عن ابن القطان، ثم عقب عليه ابن القيم بقوله: ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطّرح من أحاديث الثقة، ما يعلم أنه غلط فيه، فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة، ومن ضعف جميع حديث سيئ الحفظ، فالأولى: طريقة الحاكم وأمثاله.
والثانية طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن، يعني كأنه قال: إن الناس ثلاثة أصناف: منهم: من يطرح حديث الراوي الضعيف مطلقاً، ومنهم: يقبل حديث الراوي الثقة مطلقاً، والإمام مسلم كأنه توسط، فكان يأخذ من حديث الراوي الذي فيه ضعف ما يعلم أنه ضبطه، ويترك من حديث الراوي الموثوق ما يعلم أنه غلط فيه، فكانت طريقته وسطاً في هذا.(33/7)
الحديث المرسل
وفي صفحة [379] ذكر فائدة تتعلق بالحديث المرسل، ومتى يصح قبوله، فإن المشهور عند كافة المحدثين، أن الحديث المرسل لا يقبل، ولكن من العلماء -كـ الشافعي - وغيره من قبل الحديث المرسل بشروط والمصنف رحمه الله هاهنا قال: " في صفحة [379] والمرسل إذا اتصل به عمل، وعضده قياس أو قول صحابي، أو كان مرسله معروفاً باختيار الشيوخ، ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين، ونحو ذلك مما يقتضي قوته، عُمل به، فبين أن المرسل لا يترك مطلقاً، وقد يقبل إذا وجد ما يعضده، أو يشهد له.(33/8)
ساعة الإجابة
في صفحة [394] ذكر ساعة الإجابة، وساعة الإجابة يوم الجمعة فيها أقوال، لعلها تزيد على اثنين وأربعين قولاً، كما ذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح، ولكن للحافظ ابن حجر والمصنف وسبقهما إلى ذلك بعض الأئمة، رأياً في ساعة الإجابة، بأنها قد تكون مفرقة في يوم الجمعة، فبعضها من دخول الإمام، إلى أن تقضى الصلاة -كما في صحيح مسلم- وبعضها في آخر ساعة من العصر، كما في السنن بسند صحيح.
يقول المصنف: "وعندي أن ساعة الصلاة، ساعة ترجى فيها الإجابة أيضاً، وكان قد ذكر موضوع ساعة العصر، فكلاهما ساعة إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر؛ فهي ساعة معينة من اليوم لا تتقدم ولا تتأخر.
وأما ساعة الصلاة فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت، لأن لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرعهم وابتهالهم إلى الله تعالى تأثيراً في الإجابة، فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة، وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حض أمته على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في هاتين الساعتين "والحقيقة أني وجدت كلاماً له علاقة بما ذكرت قبل قليل، حول مسجد قباء ومسجد المدينة، قال: " ونظير هذا، قوله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: {هو مسجدكم هذا، وأشار إلى مسجد المدينة} وهذا لا ينفي أن يكون مسجد قباء الذي نزلت فيه الآية مؤسساً على التقوى، بل كل منهما مؤسس على التقوى، وكذلك قوله في ساعة الجمعة: {هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة} لا ينافي قوله في الحديث الآخر: {فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر} .(33/9)
طريقة خطب النبي صلى الله عليه وسلم
في صفحة [424] ذكر المصنف كلاماً نفيساً عجيباً في نقد بعض طرائق الوعاظ، الذين يبالغون في تخويف الناس من موضوع الموت، ويغفلون عما هو أهم منه، وهو كلام ينبغي أن يكتب بماء الذهب! وأن يطلع عليه كل داعية وواعظ، حتى يعرف الأسلوب المناسب في الوعظ، والموضوعات المهمة.
وهذا الكلام أقرؤه وإن كان فيه طولاً، لأنه كلام لذيذ جداً، يقول: وكذلك كانت خطبته صلى الله عليه وسلم، إنما هي تقرير لأصول الإيمان، من الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه وذكر الجنة النار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيداً، ومعرفة بالله وأيامه؛ لا كخطب غيره التي إنما تفيد أموراً مشتركة بين الخلائق، وهي النوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيماناً بالله، ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيراًَ بأيامه، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون، ولم يستفيدوا فائدة غير أنهم يموتون، وتقسم أموالهم، ويبلي التراب أجسامهم، فيا ليت شعري أي أيمان حصل بهذا؟! وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟! ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله وذكر آلائه تعالى، التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره، الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته، وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره؛ ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، قال: ثم طال العهد وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسوماً تقام، من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها، وزينوها بما زينوها به، فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصعوا الخطب بالتسجيع والفِقَر وعلم البديع؛ فنقص بل عدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها انتهى كلامه.
وهذا صحيح، يعني أنه أصبحت خطب كثير من الناس فيها سجع وترتيب وتغنٍ بالقراءة، واعتقدوا أن هذه سنن لا يجوز الإخلال بها، وغفلوا عن المعنى الذي هو المقصود من الخطبة، باختيار الموضوعات المهمة، وتحريك قلوب الناس بها.(33/10)
النوم على الشق الأيمن
وفي صفحة [321] ذكر سر النوم على الشق الأيمن، فقال: " وفي اضطجاعه على شقه الأيمن سر، وهو أن القلب معلق في الجانب الأيسر، فإذا نام الرجل على الجنب الأيسر استثقل نوماً؛ لأنه يكون في دعة واستراحة، فيثقل نومه، فإذا نام على شقه الأيمن؛ فإنه يقلق، ولا يستغرق في النوم، لقلق القلب وطلبه مستقره وميله إليه، ولهذا استحب الأطباء النوم على الجانب الأيسر، لكمال الراحة وطيب المنام؛ وصاحب الشرع يستحب النوم على الجانب الأيمن؛ لئلا يثقل نومه، فينام عن قيام الليل، فالنوم على الجانب الأيمن أنفع للقلب، وعلى الجانب الأيسر أنفع للبدن والله أعلم.
وهنا أشير إلى فائدة ليست بعيدة عما ما ذكره المصنف وهي النوم جهة القبلة، فإن من المشهور عند الناس أنه يشرع للإنسان أن ينام مستقبل القبلة، وهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه شيء يرجع إليه سوى حديث واحد، عند أبي يعلى في مسنده، ذكره ابن كثير في تفسيره؛ في أول تفسير سورة الحديد، وهو حديث ضعيف جداً، فيه السري بن إسماعيل وهو متروك فلا يثبت في استقبال القبلة في النوم حديث صحيح.(33/11)
قضاء الوتر
في صفحة [324] ذكر المصنف رحمه الله عدم مشروعية قضاء الوتر فقال: " ولم يكن صلى الله عليه وسلم، يدع قيام الليل حضراً ولا سفراً، وكان إذا غلبه نوم أو وجع، صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة، قال: فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: في هذا دليل على أن الوتر لا يقضى، لفوات محله، فهو كتحية المسجد، وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحوها، لأن المقصود به أن يكون آخر صلاة الليل وتراً، كما أن المغرب أخر صلاة النهار، فإذا انقضى الليل، وصُلِّيتِ الصبح؛ لم يقع الوتر موقعه، هذا معنى كلامه إلى آخر ما قال " ولكن ذكر عدد من أهل العلم ونقل عن جمع من الصحابة، أن الإنسان له أن يوتر آخر الليل، قبيل الفجر ولو أدركه الفجر، أو مع الأذان، سواء أكان هذا الوتر أداءً أم قضاءً، فمن قام قبيل الأذان، أوتر ولو أذن وهو في أثناء الوتر، وكذلك من أراد أن يوتر مع الأذان، فلا بأس بذلك إذا لم يكن هذا من عادته، بل تأخر يوماً فاستيقظ مع الأذان.
فأوتر فلا بأس، وإن لم يوتر، فإنه يشرع له أن يصلي له من النهار ما شاء شفعاً، ركعتين أو أربع أو ست أو غير ذلك.(33/12)
أصناف الناس في القرآن
في صفحة [338] ذكر المصنف رحمه الله أصناف الناس في القرآن الكريم فقال: " الناس في هذا أربع طبقات: الأول: أهل القرآن والإيمان، وهم أفضل الناس.
والثانية: من عَدِمَ القرآن والإيمان.
والثالثة: من أوتي قرآنا، ولم يؤتَ إيماناً.
الرابعة: من أوتي إيماناً ولم يؤتَ قرآنا.
قالوا: فكما أن من أؤتي إيماناً بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآناً بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبراً وفهماً في التلاوة، أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر، قالوا: وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح " إلى آخر ما قال رحمه الله.(33/13)
إغماض العينين في الصلاة
في صفحة [294] ذكر المصنف رأيه في موضوع إغماض العينين في الصلاة، وإغماض العينين فيه كلام كثير، يقول المصنف: وقد اختلف الفقهاء في كراهته، فكرهه الإمام أحمد وغيره، وقالوا: هو فعل اليهود، وأباحه جماعة ولم يكرهوه، وقالوا: قد يكون أقرب إلى تحصيل الخشوع، الذي هو روح الصلاة وسرها ومقصودها -قال رحمه الله- والصواب أن يقال: إن كان تفتيح العينين لا يخل بالخشوع، فهو أفضل؛ وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه، فهنالك لا يكره التغميض قطعاً، والقول باستحبابه في هذا الحال، أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة.(33/14)
أكثر الناس تشدداً في الرجال
وفي صفحة [304] ذكر رحمه الله أن أشد الناس مقالة في الرجال يحيى بن معين، يعني أن أكثر علماء الجرح والتعديل تشدداً في تجريح الرجال هو يحيى بن معين، ولكن هذا ليس على إطلاق، فإن الظاهر -والله أعلم- من كلام أهل العلم، في كلام ابن معين في الرجال، أنه أقرب إلى الاعتدال، وأن أشدهم مقالة في الرجال هو أبو حاتم الرازي.(33/15)
تعدل ثلث القرآن
في صفحة [316] ذكر سبب كون سورة [قل هو الله أحد] تعدل ثلث القرآن، فقال: " فسورة [قل هو الله أحد] متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة إلى أن قال: فتضمنت إثبات كل كمال له، ونفي كل نقص عنه.
ثم قال: وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي، الاعتقادي" ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر، ونهي وإباحة، والخبر نوعان: الأول: خبر عن الخالق تعالى، وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة [قل هو الله أحد] الخبر عنه أو الخبر وعن أسمائه وصفاته فعدلت ثلث القرآن، وخلَّصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي؛ كما خلَّصت سورة [قل يا أيها الكافرون] من الشرك العملي الإرادي القصدي ولما كان العلم قبل العمل، وهو إمامه وقائده وسائقه والحاكم عليه ومنزله منازله؛ كانت سورة [قل هو الله أحد] تعدل ثلث القرآن، والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر.
وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك كتاباً -عظيم الفائدة نفيساً- اسمه: جواب أهل العلم والإيمان، في أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقد طبع مرات طبعات ناقصة، ثم حقق في جامعة الإمام، قسم العقيدة، حققه الشيخ سليمان الغفيص، تحقيقاً على نسح خطية، ولكنه لم يطبع بعد.(33/16)
القنوت في صلاة الفجر
وفي صفحة [274/275] ذكر رحمه الله، كلاماً جيداً، لم أره لغيره من أهل العلم، فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في صلاة الفجر، قال: " ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ثم تركه، فأحب أبو هريرة أن يعلمهم أن مثل هذا القنوت سنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا رد على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقاً عند النوازل وغيرها ويقولون: هو منسوخ، وفعله بدعة فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه عند النوازل وغيرها -يعني: كالشافعية- وهم أسعد بالحديث من الطائفتين؛ فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنة وتركه سنة، ومع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفاً للسنة " وإن كان في هذا نظر؛ لأنه صح عند النسائي وغيره من حديث سعد بن طارق {أنه سأل أباه عن القنوت وقال: إنك صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، فهل رأيتهم يقنتون؟ قال: أي بني محدث، وفي لفظ: بدعة} فدل على أن المداومة على القنوت في الفرائض ليس بمشروع، بل هو أقرب إلى أن يكون مكروهاً أو بدعة، ثم قال المصنف رحمه الله: " بل من قنت فقد أحسن، ومن ترك فقد أحسن، وركن الاعتدال -أي: من الركوع- محل الدعاء والثناء، وقد جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ودعاء القنوت؛ دعاء وثناء، فهو أولى بهذا المحل، وإذا جهر الإمام به أحيانا ليعلم المأمومين فلا بأس بذلك، فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين؛ وجهر ابن عباس بالفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة، ومن هذا أيضاً جهر الإمام بالتأمين وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله، ولا من تركه، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه، وكالخلاف في أنواع التشهدات وأنواع الأذان والإقامة النسك من الإفراد والقرآن والتمتع وليس مقصودنا إلا ذكر هديه صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله هو؛ فإنه قِبلةُ القصد، وإليه والتوجَّه في هذا الكتاب، وعليه مدار التفتيش والطلب.
وهذا شيء، والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شيء، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز، ولما لا يجوز؛ وإنما مقصودنا فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما قال " وأذكر أنه ضمن كلامه أشار إلى أن القنوت الذي ورد من حديث أنس وغيره: {أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا} ليس معناه القنوت عند الفقهاء -بمعنى رفع اليدين وإطالة الدعاء- وإنما مقصوده: إطالة الركن بعد الركوع، أي أنه يطيل القيام بعد الركوع؛ ولذلك جاء في الصحيحين من حديث أنس: {أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع؛ وقف حتى يقول القائل قد نسي} لأن الناس كانوا يخففون هذا الركن، فأحب أن يخبرهم أن السنة إطالته، فهذا هو المقصود بقنوته صلى الله عليه وسلم حتى فارق الدنيا.(33/17)
ركعتا النبي بعد الوتر
في صفحة [251] حيث ذكر فيها المصنف رحمه الله الركعتين اللتين كان يصليهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوتر تارة جالساً وتارة قائماً، وهذه من المواضع المشكلة عند كثير من أهل العلم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلى ركعتين بعد الوتر جالساً مع أنه قال: {اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً} قال رحمه الله: (وكذلك الركعتان اللتان كان يصليهما أحياناً بعد وتره، تارة جالساً، وتارة قائماً، مع قوله: {اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً} فإن هاتين الركعتين لا تنافيان هذا الأمر، كما أن المغرب وترٌ للنهار، وصلاة السنة شفعاً بعدها لا يخرجها عن كونها وتراً للنهار، وكذلك الوتر لما كان عبادة مستقلة، وهو وتر الليل، كانت الركعتان بعده جاريتين مجرى سنة المغرب من المغرب؛ ولما كان المغرب فرضاً، كانت محافظته عليه السلام على سنتها أكثر من محافظته على سنة الوتر، وهذا على أصل من يقول بوجوب الوتر ظاهر جداً، وسيأتي مزيد كلام في هاتين الركعتين -إن شاء الله- وهي مسألة شريفة لعلك لا تراها في مصنف) وفي هذا إشارة إلى أنه سوف يبحث المسألة في مواضع أخرى.(33/18)
قول المصنف: [حديث غريب]
وفي صفحة [249] ذكر المصنف رحمه الله معنى كلمة غريب، فأحياناً طالب العلم قد يجد أن الترمذي أو أبا نعيم أو غيرهما من أهل العلم، قولهم عن حديث ما: إنه حديث غريب؛ فلا يفهم من هذه الكلمة معناها وبعضهم قد يظن أن معنى غريب: أي ليس له إلا إسناد واحد، وهذا الفهم صحيح، لكن أيضاً كلمة غريب أشار المصنف إلى أنها تعني الضعف، فإذا قيل غريب فقط، فالغالب أن هذا يعني الضعف، ولذلك قال المصنف عن حديث: {أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً الحديث} قال: فهذا حديث لا يثبت، قال الترمذي فيه: حديث غريب ولم يزد، وهذا فيه إشارة، إلى أنه ضعيف وقد تكلم عن هذه المسألة أيضاً في صفحة [359] من نفس المجلد.
وقال: أما حديث {من صلى الضحى بنى الله له قصراً في الجنة من ذهب} فمن الأحاديث الغرائب، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وكذلك أعاد المسألة في صفحة [420] من نفس المجلد، فلتراجع.(33/19)
المواضع التي يشرع فيها الدعاء في الصلاة
في صفحة [256] ذكر المواضع التي يشرع فيها الدعاء في الصلاة، فقال: "وأما المواضع التي كان يدعو فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فسبعة مواطن.
أحدها: بعد تكبيرة الإحرام في محل الاستفتاح.
الثاني: قبل الركوع وبعد الفراغ من القراءة في الوتر، والقنوت العارض في الصبح قبل الركوع إن صح ذلك فإن فيه نظراً.
الثالث: بعد الاعتدال من الركوع كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن أبي أوفى {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ} .
الموضع الرابع: في ركوعه كان يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.
الخامس: في سجوده وكان فيه غالب دعائه.
السادس: بين السجدتين.
السابع: بعد التشهد وقبل السلام، وبذلك أمر في حديث أبي هريرة وحديث فضالة بن عبيد.
وأمر أيضاً بالدعاء في السجود: قال: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو مستقبل المأمومين، فلم يكن ذلك من هدية صلى الله عليه وسلم أصلاً، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، أما تخصيص ذلك بصلاة الفجر والعصر؛ فلم يفعل ذلك هو ولا أحدٌ من خلفائه، ولا أرشد إليه أمته؛ وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضاً من السنة بعدهما، والله أعلم".
ولذلك: علم أن رفع اليدين في الدعاء بعد الفريضة بدعة، لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك محافظة الناس على رفعهما بعد السنة والتزام ذلك على اعتقاد أنه وارد ومأثور، فإنه ليس بوارد، فإما أن يقال: إنه غير جائز، أو يقال: إن الأولى تركه لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء في صلب الصلاة أولى من الدعاء خارجها، وإن كان الدعاء بعد الصلاة، أعني الفريضة، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح: أنه كان يستغفر ثلاثاً بعد السلام، وفي حديث معاذ: أنه كان يقول: {اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البخاري والنسائي: {اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد} .(33/20)
الجهر بالنية في الصلاة
وفي صفحة [201] ذكر الصواب في مذهب الشافعي رحمه الله، في موضوع الجهر بالنية، وذلك لأن كثيراً من الجهال يظنون أن الإمام الشافعي من مذهبه أنه يجهر بالنية أو يشرع الجهر بالنية قال: "في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة ولم يقل شيئاً قبلها ولا تلفظ بالنية ألبتة، ولا قال أصلي لله صلاة كذا، مستقبل القبلة أربع ركعات، إماماً أو مأموماً، ولا قال أداءً ولا قضاءً ولا فرض الوقت، وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدةً منها البتة؛ بل ولا عن أحد من أصحابه، ولا استحسنه أحد من التابعين، ولا الأئمة الأربعة؛ وإنما غرَّ بعض المتأخرين قول الشافعي رضي الله عنه في الصلاة: إنها ليست كالصيام، ولا يدخل فيها أحد إلا بذكر، فظن بعض المتأخرين أن الذكر تلفظ المصلي بالنية، وإنما أراد الشافعي رحمه الله بالذكر: تكبيرة الإحرام ليس إلا، وكيف يستحب الشافعي أمراً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، في صلاة واحدة، ولا أحدٌ من خلفائه وأصحابه، وهذا هديهم وسيرتهم فإن أوجدنا أحدٌ حرفاً واحداً عنهم في ذلك، قبلناه، وقابلناه بالتسليم والقبول، ولا هدي أكمل من هديهم، ولا سنة إلا ما تلقوه عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم".(33/21)
أنواع البكاء
في صفحة [184] ذكر أنواع البكاء، فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم " وكان يبكي أحياناً في صلاة الليل، والبكاء أنواع: أحدها: بكاء الرحمة والرقة.
والثاني: بكاء الخوف والخشية.
والثالث: بكاء المحبة والشوق.
والرابع: بكاء الفرح والسرور.
والخامس: بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله.
والسادس: بكاء الحزن.
والسابع: بكاء الخور والضعف.
والثامن: بكاء النفاق، وهو أن تدمع العين، والقلب قاسٍ، فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلباً.
والتاسع: البكاء المستعار والمستأجر عليه، كبكاء النائحة بالأجرة، -يعني إذا مات لهم ميت ولم يوجد من يبكي عليه؛ يعطون امرأة أجرة مقابل أن تبكي عليه- يقول فإنها كما قال عمر رضي الله عنه: [[تبيع عبرتها وتبكي شَجْوَ غيرها]] والعاشر: بكاء الموافقة: وهو أن يرى الرجل، الناس يبكون لأمر ورد عليهم، فيبكي معهم، ولا يدري لأي شيء يبكون، ولكن يراهم يبكون فيبكي " وقد ذكر تفصيلاً في هذا يراجع في موضعه.(33/22)
هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ على السيف
في صفحة [190] ذكر رحمه الله فائدة، جيدة ومناسبة.
فإننا نسمع اليوم أن كثيراً من أعداء الإسلام يقولون: إن الإسلام إنما انتشر بالسيف وبالقوة فقط! ولذلك فإن الخطيب الإسلامي، يتكئ على سيفه إشارة إلى أن الإسلام، إنما انتشر وتغلب بالسيف، والقوة.
ونحن نقول: نعم الإسلام انتشر بالسيف والقوة، وانتشر أيضاً بالدعوة السلمية، كما هو معروف، وكلاهما له دوره في الفتح الإسلامي، والمصنف يقول: "ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف، وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف، وهذا جهل قبيح من وجهين: أحدهما: أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم، توكأ على العصا وعلى القوس.
الثاني: أن الدين إنما قام بالوحي، وأما السيف فلمحق أهل الضلال والشرك، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم، التي كان يخطب فيها، إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف " وقد أعاد هذا المعنى في صفحة [429] من نفس المجلد، قال: "ولم يكن يأخذ بيده سيفاً ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا ولم يحفظ عنه أنه أعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف، فمن فرط جهله.(33/23)
أصول الطب
في صفحة [164/165] ذكر فائدة طبية، وأنتم تعرفون أن ابن القيم خصص جزءاً من هذا الكتاب للطب النبوي، وهو الجزء الرابع، ولكن ذكر هاهنا فائدة وأعادها في ذلك الجزء، قال: وأصول الطب ثلاثة: الحمية، وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة، وقد جمعها الله تعالى له صلى الله عليه وسلم ولأمته في ثلاثة مواضع من كتابه، فحمى المريض من استعمال الماء خشية من الضرر، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43] فأباح التيمم للمريض حمية له، كما أباحه للعادم -والحمية: هي المنع من تناول أطعمة وأشربة لضررها على المريض، وهي ما نسميها نحن بالحجبة- وقال: في حفظ الصحة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فأباح للمسافر الفطر في رمضان، حفظاً لصحته، وقال: في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فأباح للمريض ومن به أدنى من رأسه، وهو محرم أن يحلق رأسه فيستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة التي تولد عليه القمل… إلى آخر ما ذكر رحمه الله.(33/24)
أنواع المشي
وفي الصفحة [168] ذكر أنواع المشي، وذكر في ذلك فصلاً مفيداً أذكره واقرؤه، لأننا بحاجة إلى أن نعرف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في المشي فكثير من الناس يرون أن من الاتباع: البطء في المشي والتماوت فيه، وأن الإسراع ينافي الوقار المطلوب لطالب العلم، قال رحمه الله: ((فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في مشيه وحده ومع أصحابه)) كان إذا مشى تكفأ تكفؤاً، وكان أسرع الناس مشية، وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: [[ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كأنما الأرض تطوى له، إننا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث]] وقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: [[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا مشى تكفأ تكفؤاً، كأنما ينحط من صبب، وقال مرة إذا مشى تقلع]] قلت -القائل ابن القيم - والتقلع: الارتفاع من الأرض بجملته، كحال المنحط من صبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت، فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه، ويمشي قطعة واحدة -كأنه خشبة محمولة، وهي مشية مذمومة قبيحة، وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج، وهي مشية مذمومة أيضاًَ، وهي دالة على خفة عقل صاحبها، ولا سيما إذا كان يكثر الالتفات في حال مشيه يميناً وشمالاً، وإما أن يمشي هوناً وهي مشية عباد الرحمان، كما وصفهم بها في كتاب فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] قال غير واحد من السلف: بسكينة ووقار، من غير تكبر ولا تماوت، وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مع هذه المشية، كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، حتى كان الماشي معه يجهد نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث، وهذا يدل على أمرين: أن مشيته لم تكن مشية بتماوت ولا بمهانة، بل مشية من أعدل المشيات.
ثم ذكر المصنف رحمه الله أنواع المشيات، وهي عشر، من شاء أن يراجعها فليراجعها، لكن نذكر عناوينها الرابع: السعي، والخامس: الرمل، ويسمى الخبب، والسادس: النسلان، والسابع: الخَوْزَلى، والثامن القهقري، والتاسع الجَمَزَى، والعاشر: التبختر.(33/25)
المواضع التي تكون فيها لمرأتان بمثابة رجل واحد
وفي صفحة [160] ذكر المصنف رحمه الله فائدة عزيزة في المواضع التي تكون فيها المرأتان بمثابة رجل واحد، قال: وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أبي أمامة وغيره، عن النبي صلى الله وعليه وسلم، أنه قال: {أيما امرئٍ أعتق امرأً مسلماً، كان فكاكه من النار، يجزئُ كل عضو منه عضواً منه، وأيما امرئ أعتق امرأتين مسلمتين، كانتا فكاكه من النار يجزئ كل عضوين منهما عضواً منه} وقال -أي: الترمذي - هذا حديث صحيح، قال الإمام ابن القيم: وهذا يدل على أن عتق العبد أفضل وأن عتق العبد يعدل عتق أمتين، فكان أكثر عتقائه صلى الله عليه وسلم من العبيد، وهذا أحد المواضع الخمسة، التي تكون فيها الأنثى على النصف من الذكر- أي أن بعض الناس يعتقدون أن الأنثى على النصف من الذكر في كل شيء، فإذا جاءت مناسبة قالوا للذكر مثل حظ الأنثيين، في كل شيء؛ فمثلاً: لو كان هناك مجموعة من الأقارب من المحارم يتحدثون فيما بينهم، لتكلم الرجال وقالوا للمرأة: للذكر مثل حظ الأنثيين، أي: أقلي الكلام مثلاً، وقل مثل ذلك في موضوعات كثيرة، فيقولون ذلك على سبيل المزاح، وعلى سبيل الجد أحياناً فالمصنف يشير إلى أن هناك مواضع مخصصة، تكون فيها المرأة بمثابة نصف الرجل، وهذا أحدها، قال المصنف: والثاني العقيقة، فإنه عن الأنثى شاة، وعن الذكر شاتان عند الجمهور، وفي عدة أحاديث، صحاح وحسان.
والثالث الشهادة، فإن شهادة امرأتين بشهادة رجل، وهذا أيضاً ليس على إطلاقه، فليس في كل شهادة، لأن النص ورد فيه في موضع البيوع التي يكون الرجال فيها أكثر معرفة من النساء.
قال: والرابع: الميراث، والخامس: الدية".(33/26)
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن
وذكر المؤلف رحمه الله في صفحة [117] في كتب النبي صلى الله عليه وسلم، في صفحة [118] قال: " ومنها كتابه إلى أهل اليمن وهو الكتاب الذي رواه أبو بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، ورواه الحاكم في مستدركه، والنسائي وغيرهما مسنداً متصلاً، ورواه أبو داود وغيره مرسلاً " وهذا الكتاب سبق أن تكلمت عليه، وبينت رواياته في موضع لمس المصحف، يقول المصنف: وهو كتاب عظيم، فيه أنواع كثيرة من الفقه: في الزكاة، والديات، والأحكام، وذكر الكبائر، والطلاق، والعتاق، وأحكام الصلاة في الثوب الواحد، والاحتباء فيه، ومس المصحف وغير ذلك، قال الإمام أحمد: لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه، واحتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات.(33/27)
زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبه
في صفحة [109] ذكر المصنف، تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ أم حبيبة، وهي رملة بنت أبي سفيان، القرشية، قال: تزوجها وهي ببلاد الحبشة، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وسيقت إليه من هناك وماتت أيام أخيها معاوية هذا هو المعروف المتواتر عند أهل السير والتواريخ، وهو عندهم بمنزلة نكاحه لـ خديجة بمكة، ولـ حفصة بالمدينة، ولصفية بعد خيبر -يعني: في الوضوح- قال وأما حديث عكرمة بن عمار، عن أبي زُميل عن ابن عباس أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {أسألك ثلاثاً، فأعطاه إياهن، منها: وعندي أجمل العرب أم حبيبة، أزوجك إياها} -والحديث في صحيح مسلم، وفيه بقية الثلاث، الأولى كما سبق تزوج أم حبيبة - والثانية: معاوية تجعله كاتباً بين يديك، والثالثة: تُأمرني فأقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، فيقول: "هذا الحديث غلط، لا خفاء به" هذا يقوله ابن القيم رحمه الله ويقول: "قال أبو محمد بن حزم وهو موضوع بلا شك، كذبه عكرمة بن عمار " تعرفون عكرمة بن عمار!! لكن ابن حزم -غفر الله له- رماه بهذه المسألة ورماه بالكذب، فقال: كذبه عكرمة بن عمار، ولا شك أن هذا غلط من ابن حزم، غفر الله لنا وله.
يقول ابن الجوزي في هذا الحديث: هو وهم من بعض الرواة، لا شك فيه ولا تردد، وقد اتهموا به عكرمة بن عمار إلى قول ابن القيم رحمه الله وقد أكثر الناس في هذا الحديث، وتعددت طرقهم في وجهه، فمنهم من قال الصحيح أنه تزوجها بعد الفتح -لهذا الحديث قال-: ولا يرد هذا بنقل المؤرخين، وهذه الطريقة باطلة عند من له أدنى علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان، قالت طائفة بل سأله أن يجدد له العقد تطييباً لقلبه، فإنه كان قد تزوجها بغير اختياره، وهذا باطل لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يليق بعقل أبي سفيان، ولم يكن من ذلك شيء.
وقالت طائفة ومنهم البيهقي والمنذري: يحتمل أن تكون هذه المسألة من أبي سفيان وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة وهو كافر، حين سمع نعي زوج أم حبيبة بالحبشة، فلما ورد على هؤلاء ما لا حيلة لهم في دفعه من سؤاله أن يأمره حتى يقاتل الكفار، وأن يتخذ ابنه كاتباً -لأن هذا كله ورد في الحديث- قالوا: لعل هاتين المسألتين وقعتا بعد الفتح، فجمع الرواي ذلك كله في حديث واحد.
ثم ذكر أجوبة كثيرة، وفي آخرها قال: وقالت طائفة: بل الحديث صحيح ولكن وقع الغلط والوهم من أحد الرواة في تسمية أم حبيبة، وإنما سأل أن يزوجه أختها رملة، ولا يبعد خفاء التحريم للجمع عليه، أي على أبي سفيان - فقد خفي ذلك على ابنته وهي أفقه منه وأعلم، حين قالت لرسول الله صلى الله وعليه وسلم: هل لك في أختي بنت أبي سفيان: {قال: أفعل ماذا؟ قالت تنكحها، قال: أوتحبين ذلك؟ قالت: لست لك بمخلية، وأحب من شركني في الخير أختي، قال: فإنها لا تحل لي} فهذه هي التي عرضها أبو سفيان، على النبي صلى الله عليه وسلم، فسماها الراوي من عنده أم حبيبة، وقيل: بل كانت كنيتها أيضاً أم حبيبة، وهذا الجواب حسن، لولا قوله في الحديث فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سأل، فيقال حينئذٍ: هذه اللفظة وهم من الراوي، فإنه أعطاه بعض ما سأل، فقال الراوي: أعطاه ما سأل أو أطلقها اتكالاً على فهم المخاطب، أنه أعطاه ما يجوز إعطائه مما سأل، والله أعلم.(33/28)
زواج أم سلمة
في صفحة [107/108] ذكر من الذي زوج أم سلمة، فذكر حديث الإمام أحمد عن ابن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أم سلمة أنها لما انقضت عدتها من أبي سلمة، بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: مرحباً برسول الله إلى قوله وفيه، فقالت لابنها عمر قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجه، يقول: وفي هذا نظر، فإن عمر هذا كان سنه لما توفي صلى الله عليه وسلم، تسع سنين، ذكره ابن سعد: وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة أربع، فيكون له من العمر حينئذٍ ثلاث سنين -يعني يوم تزوج رسول الله صلى الله وعليه وسلم أمه- ومثل هذا لا يزوج، قال ذلك ابن سعد وغيره، ولما قيل ذلك للإمام أحمد قال: من يقول إن عمر كان صغيراً؟! قال: أبو الفرج ابن الجوزي ولعل أحمد قال هذا قبل أن يقف على مقدار سنه، وقد ذكر مقدار سنه جماعة من المؤرخين كـ ابن سعد وغيره، وقد قيل: إن الذي زوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن عمها عمر بن الخطاب، والحديث: {قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم} ونسب عمر، ونسب أم سلمة يلتقيان في كعب فوافق اسم ابنها عمر اسمه، فقالت: {قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم} فظن بعض الرواة أنه ابنها، فرواه بالمعنى وقال فقالت لابنها وذهل عن تعذر ذلك عليه، لصغر سنه، ونظير هذا وهم بعض الفقهاء في هذا الحديث، وروايتهم له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قم يا غلام فزوج أمك} قال أبو الفرج ابن الجوزي: " وما عرفنا هذا في هذا الحديث " إلى آخر ما ذكر.(33/29)
حال أحاديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده
ففي [ص:45] ذكر المصنف رحمه الله أحاديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، حيث استشهد بحديث في المسند وغيره من طريق بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أنتم موفون سبعون أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله} ثم قال: قال علي بن المديني وأحمد: حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح.
ونقل ابن القيم هاهنا، يشم منه رائحة الموافقة على هذا النقل، وهو تصحيح رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.(33/30)
استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة
وفي صفحة [49] ذكر فائدة ليست بعيدة عن الموضوع الذي نتحدث فيه الآن، وهو يتحدث عن خواص القبلة، فقال: " ومن خواصها أيضاً أنه يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر بقاع الأرض وأصح المذاهب في هذه المسألة: أنه لا فرق في ذلك بين الفضاء والبنيان، لبضعة عشر دليلاً قد ذكرت في غير هذا الموضع، وليس مع المفرق -أي: بين الفضاء والبنيان- ما يقاومها البتة، مع تناقضهم في مقدار الفضاء والبنيان، وليس هذا موضع استيفاء الحجج من الطرفين".
فتلاحظون تركيز الإمام بن القيم هاهنا على عدم التفريق بين الفضاء والبنيان، وهو قوي ألا يفرق بينهما، لكن! هل نقول بالتحريم فيهما؟ ابن القيم وابن تيمية كما في الاختيارات وغيره، وابن حزم والشوكاني وغيرهم، يرون التحريم مطلقاً كما أسلفت، وقد ذكر المصنف أنه رد التفريق بينهما، ببضع عشر دليلاً ذكرت في غير هذا الموضع، وهو رحمه الله تكلم عن هذه المسألة، أي: مسألة استقبال القبلة واستدبارها في عدة مواضع، فتكلم عنها في الجزء الثاني من زاد المعاد وتكلم عنها في مدارج السالكين في الجزء الثاني أيضاً، وتكلم عنها في مواضع من كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين، وتكلم عنها أيضاً في تهذيب سنن أبي داود، وقد راجعت المواضع التي تمكنت من الرجوع إليها، فلم أجد هذه الأدلة التي ذكرها، وإن كان بسط الكلام بعض البسط، في الجزء الثاني من زاد المعاد وكذلك بسطه بعض البسط في تهذيب سنن أبي داود.(33/31)
من هو الذبيح
في صفحة [71] ذكر مبحثاً مفيداً حول الذبيح، من هو؟ قال: وهو يتكلم عن نسب الرسول صلى الله عليه وسلم " وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق عليه السلام؛ فباطل بأكثر من عشرين وجهاً، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، يقول هذا القول -أي أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام- متلقى عن أهل الكتاب؛ مع أنه باطل بنص كتابهم؛ فإن فيه " إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده إلى آخر ما ذكر.(33/32)
مراتب الوحي
وفي صفحة [78] ذكر مراتب الوحي السبع أو الثمان، يقول رحمه الله: " وكمل الله له -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- من مراتب الوحي مراتب عديدة.
إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد ذكر في غير هذا الموضع معنى قوله صلى الله عليه وسلم: {الرؤيا الصادقة جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} وفسره تفسيراً لطيفاً بديعاً فقال: " ذلك لأن مدة الرؤيا الصادقة كانت ستة أشهر، ومدة الوحي كله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاثة وعشرين عاماً، فإذا نسبنا ستة أشهر إلى ثلاثة وسبعين عاماً، ترتب على ذلك أن النسبة واحد إلى ستة وأربعين، يعني: نصف إلى ثلاثة وعشرين".
إذاً: المرتبة الأولى: الرؤيا الصادقة.
المرتبة الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن روح القدس نفث في روعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء طلب الرزق، على أن تطلبوه بمعصية الله، فإنما عند الله لا ينال إلا بطاعته} .
المرتبة الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم، كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً.
المرتبة الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، فيتلبس به الملك، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها.
المرتبة الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكره الله في سورة النجم.
فالمرة الأولى: كما في صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لم أره على صورته التي خلق عليها إلا هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض} والثانية: عند المعراج.
ولكن -والله أعلم- أن عدها من مراتب الوحي؛ لأن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وتنزل الملك على الرسول صلى الله عليه وسلم مع نبوته، كلما رآه كان في ذلك فائدة، ولذلك طلب الرسول عليه الصلاة والسلام، أن يراه على صورته التي خلق عليها.
المرتبة السادسة: ما أوحاه الله إليه وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلوات وغيرها.
المرتبة السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك؛ كما كلم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن، وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء.
وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة، وهي تكليم الله له كفاحاً من غير حجاب، وهذا على مذهب من يقول: إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه تبارك وتعالى، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف، وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة، كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعاً للصحابة.
يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يره.(33/33)
عمر المسيح عيسى
في صفحة [84] ذكر رحمه الله الشك في عمر المسيح عليه السلام حين رفع، قال: "وأما ما يذكر عن المسيح عليه السلام أنه رفع إلى السماء، وله ثلاثة وثلاثون، فهذا لا يعرف له أثر متصل، يجب المصير إليه".(33/34)
أهمية كتاب جلاء الأفهام
في صفحة [87] يثني المؤلف رحمه الله على كتابه جلاء الأفهام في فضل الصلاة على خير الأنام، يقول: في أسماء الرسول عليه الصلاة والسلام فمنها محمد وهو أشهرها، وبه سمي في التوراة صريحاً، كما بيناه بالبرهان الواضح في كتاب جلاء الأفهام في فضل الصلاة على خير الأنام، وهو كتاب فرد في معناه، لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها، بينا فيه الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم صحيحها من حسنها من معلولها، وبينا ما في معلولها من العلل بياناً شافياً، ثم أسرار هذا الدعاء وشرفه، وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد، ثم مواطن الصلاة عليه ومحالها.
ثم الكلام في مقدار الواجب منها، مع اختلاف أهل العلم فيه، وترجيح الراجح، وتزييف المزيف -ثم يقول رحمه الله- في أثناء هذا الثناء "ومخبر الكتاب فوق وصفه " ولذلك حري بنا جميعاً أن نقتني هذا الكتاب، ونقرؤه، مادام ثناء الشيخ عليه بهذه الدرجة، مع أنه يقتصد في الثناء عادة رحمه الله.(33/35)
الفوائد المنتقاة من الجزء الثاني
الحمد لله، لا زلنا في مختارات من كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام ابن قيم الجوزية، وقد أنهينا مختارات من الجزء الأول، ونبدأ في الجزء الثاني؛ وهذه المختارات في هذا الجزء ليست كثيرة، وقد رأيت حذف بعضها -أيضاً- حتى نستطيع أن نسير في بعض الكتب الأخرى المهمة، والموضوعات الأخرى أيضاً التي قد نحتاج إلى طرحها في مثل هذا الوقت القصير.(33/36)
فائدة العطاس
وفي صفحة [438] ذكر في هذه الصفحة فائدة العطاس، وقال: " ولما كان العاطس قد حصلت له بالعطاس نعمة ومنفعة بخروج الأبخرة المحتقنة في دماغه؛ التي لو بقيت فيه لأحدثت له أدواءً عسرةً، شُرِعَ له حمد الله على هذه النعمة، مع بقاء أعضائه على التئامها وهيئتها بعد هذه الزلزلة التي هي للبدن كزلزلة الأرض لها؛ ولهذا يقال: سمَّته وشمته، بالسين والشين… إلى أن أقال: فإن العطاس يحدث في الأعضاء حركة وانزعاجاً… إلى آخر ما قال".(33/37)
الألفاظ المكروهة
في صفحة [468] ذكر رحمه الله الألفاظ المكروهة -وهو فصل يحسن مراجعته- فذكر فيه ألفاظاً نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: ما شاء الله وشاء فلان، ومثل: لولا الله وفلان، ومثل أنا بالله وبفلان، وأعوذ بالله وبفلان، وأنا في حسب الله وحسب فلان، وأنا متكل على الله وعلى فلان فإنه إن قال ذلك؛ جعل فلاناً نداً لله عز وجل، وكذلك أن يقال: مطرنا بنوء كذا وكذا.
ومنها: الحلف بغير الله.
ومنها: أن يقول في حلفه: هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا.
ومنها: أن يقول لمسلم: يا كافر! ومنها: أن يقال للسلطان: ملك الملوك، وعلى قياسه قاضي القضاة هذا كله لا يجوز.
ومنها: أن يقول السيد لغلامه وجاريته: عبدي وأمتي، ويقول الغلام لسيده: ربي، وأن يقول السيد: فتاي وفتاتي، وأن يقول الغلام: سيدي وسيدتي.
ومنها: سب الريح إذا هبت؛ ومنها سب الحمى؛ ومنها: سب الديك، ومنها: الدعاء بدعوى الجاهلية، والتعزي بعزائهم؛ ومنها: تسمية العشاء بالعتمة؛ ومنها النهي عن سباب المسلم؛ ومنها: أن تخبر المرأة زوجها بمحاسن امرأة أخرى؛ ومنها: أن يقول في دعائه اللهم اغفر لي إن شئت، ومنها الإكثار من الحلف، ومنها: أن يسمي المدينة يثرب، ومنها: أن يسأل الرجل فيم ضرب امرأته، إلا إذا دعت الحاجة؛ ومنها: الإفصاح عن الأشياء التي ينبغي الكناية عنها؛ ومنها: أن يقول: أطال الله بقاءك وأدام أيامك -وطال عمرك- وعشت ألف سنة ونحو ذلك؛ ومنها: أن يقول الصائم: وحق الذي خاتمه على فم الكافر، ومنها: تسمية المكوس حقوقاً -ويقاس عليها الفوائد الربوية المحرمة بإجماع أهل العلم، فقد أصبحوا يسمونها في هذا العصر: فوائد؛ لتهوين شأنها وخطرها على المسلمين، ومنها: تسمية المشروبات الكحولية والخمر وغيره؛ مشروبات روحية؛ ومنها: تسمية الزنا والفجور والعلاقات المحرمة: تبادل الحب والعواطف والغرام وما أشبه ذلك من الألفاظ التي تهون من خطرها على المسلمين والمسلمات، ثم ذكر أن منها أن يقول المفتي: أحل الله كذا وحرم كذا، إلا فيما ورد النص بتحريمه، قال: -واختم بذلك وهي كلمة سبق أن سمعتموها مني أكثر من مرة- " فصل: وليحذر كل الحذر من طغيان " أنا " "ولي" و"عندي"؛ فإن هذه الألفاظ الثلاثة أُبتلي بها إبليس وفرعون وقارون؛ (فأنا خير منه) لإبليس؛ (لي ملك مصر لفرعون؛ و (إنما أوتيته على علم عندي) لقارون.
وأحسن ما وضعت "أنا" في قول العبد: أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر، المعترف، ونحوه، "ولي" في قوله: لي الذنب ولي الجرم، ولي المسكنة ولي الفقر، ولي الذل و"عندي" في قوله: اغفر لي جدي وهزلي وعمدي وكل ذلك عندي.(33/38)
النهي عن قول "عليك السلام"
وفي صفحة [420] ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: {فإن عليك السلام، تحية الموتى} فقال: " كان هدية في ابتداء السلام أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله، وكان يكره أن يقول المبتدئ: عليك السلام " أي عليك السلام هذا يقوله الذي يرد، أما المبتدئ فيقول: السلام عليك ثم قال: " قال أبو جري الهجيمي: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت عليك السلام يا رسول الله، فقال: {لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى} حديث صحيح، وقد أشكل هذا الحديث على طائفة، وظنوه معارضاً لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، في السلام على الأموات بلفظ السلام عليكم، بتقديم السلام " يعني: كأنهم فهموا من قوله: " عليك السلام " أن الميت يقال له: عليك السلام " فظنوا أن قوله: فإن عليك السلام تحية الموتى " إخبار عن المشروع، وغلطوا في ذلك غلطاً أوجب لهم ظن التعارض، وإنما معنى قوله: {فإن عليك السلام تحية الموتى} إخبار عن الواقع، لا عن المشروع، أي إن الشعراء وغيرهم يحيون الموتى بهذه اللفظة، كقول قائلهم: عليك سلام الله قيس بن عاصمٍ ورحمته ما شاء أن يترحما فما كان قيس هُلْكُهُ هُلْك واحدٍ ولكنه بنيانُ قوم تهدَّمَا فكره النبي صلى عليه وسلم أن يحيَّى بتحية الأموات، ومن كراهته لذلك؛ لم يرد على المسلم بها " ومثل ما ذكر المصنف هاهنا، قول الشاعر يرثي أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه.
عليك سلام من أمير وباركت يد الله في هذا الأديم الممزقِ فمن يسعَ أو يركب جناحي نعامة ليدرك ما أدركت في الأرض يسبق فخاطبه بقوله عليه السلام.(33/39)
الأقوال في السلام والرد على أهل الكتاب
وفي صفحة [425] ذكر المصنف رحمه الله المذاهب في السلام والرد على أهل الكتاب، فقال في صفحة [424] صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تبدؤوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق، فاضطروهم إلى أضيق الطريق} لكن قد قيل: إن هذا كان في قضية خاصة، لما ساروا إلى بني قريظة قال: {لا تبدؤوهم بالسلام} فهل هذا حكم عام لأهل الذمة مطلقاً، أو يختص بمن كانت حاله بمثل حال أولئك؟ هذا موضع نظر، ولكن قد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه} والظاهر أن هذا حكم عام.
وقد اختلف السلف والخلف في ذلك، فقال أكثرهم لا يبدؤون بالسلام، وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يرد عليهم، روي ذلك عن ابن عباس، وأبي أمامة وابن محيريز، وهو وجه في مذهب الشافعي رحمه الله، لكن صاحب هذا الوجه قال: يقال له السلام عليك فقط، بدون ذكر الرحمة وبلفظ الإفراد: وقالت طائفة: يجوز الابتداء لمصلحة راجحة، من حاجة تكون له إليه، أو خوف من أذاه، أو لقرابة بينهما، أو لسبب يقتضي ذلك، يروى ذلك عن إبراهيم النخعي، وعلقمة، وقال الأوزاعي: إن سلّمت، فقد سلَّم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون ".
ثم ذكر الخلاف في وجوب الرد عليهم وقال: " فالجمهور على وجوبه، وهو الصواب -أي أن ترد عليهم السلام- وقالت طائفة: لا يجب الرد عليهم، كما لا يجب على أهل البدع وأولى، والصواب الأول -أي الوجوب- والفرق أننا مأمورون بهجر أهل البدع، تعزيراً لهم وتحذيراً منهم، بخلاف أهل الذمة.
"(33/40)
صيغة التكبير في عشر ذي الحجة
وفي صفحة [395] جاء الكلام عن مسألة التكبير في عشر ذي الحجة، وهي مسألة من مسائل العلم، التي يختلف فيها بعض طلاب العلم -أحياناً- هل يشرع، وما الدليل على مشروعيته -سواءً أكان تكبيراً مطلقاً أم تكبيراً مقيداً-؟ قال رحمه الله: " وكان صلى الله عليه وسلم، يكثر الدعاء في عشر ذي الحجة، ويأمر فيه بالإكثار من التهليل والتكبير والتحميد ".
ويذكر عنه: أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، فيقول: {الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد} وهذا وإن كان لا يصح إسناده فالعمل عليه إلى آخر ما قال " والمحقق الله، فقد ذكر حديث البخاري، والترمذي، وأبي داود، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذا الأيام العشر} ثم ذكر حديث الدارقطني عن جابر وضعفه، قال: " وفي الباب عن علي وعن عمار عند الحاكم في المستدرك ضعفه الذهبي والبيهقي، قال الحاكم فأما من فعل عمر وعلي وابن عباس وعبد الله بن مسعود فصحيح عنهم التكبير من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق.
وأخرج ابن أبي شيبة عن علي {أنه كان يكبر بعد صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق} وإسناده صحيح، وصححه الحاكم، وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن أبي الأسود قال: " كان عبد الله بن مسعود يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، يقول: [[الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد]] وإسناده صحيح " انتهى كلام المحقق وما دام أنه ثبت عن علي وعمر وابن عباس وابن مسعود أنهم يكبرون، فهذا دليل على مشروعيته، واشتهاره عند الصحابة، ويبعد أن يخترعوا هذا الأمر من عند أنفسهم، وهم الوقافون عند حدود الله، وإنما رأوا هذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فتأسوا به، وبناءً عليه: نقول بمشروعية التكبير المقيد من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق.(33/41)
المبالغة والغلو في الأسماء
وفي صفحة [343/344] ذكر مضرة المبالغة والغلو، وهو يتكلم عن مسألة الأسماء، فإنه في هذا الفصل ذكر النهي عنه التسمي بيسار، وأفلح ونجيح ورباح وغيرها، وذكر أنه أحياناً قد يسمى الشخص باسم لا يليق به، فقد يسمى الشخص محيي الدين وهو عدو لله ولرسوله، وقد يسمى سراج الإسلام وهو يسعى في إطفاء نور الله في الليل والنهار، وقد يسمى بعبد الله عز وجل أو بعبد الرحمن أو بعبد الرحيم، وهو لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولكن التعبيد من حيث الأصل مشروع تسميته بذلك؛ وإنما الألقاب والكنى، مثل: سراج الملة، وركن الدين، ومحيي الإسلام، وما أشبه ذلك، هذه لا تنبغي.
فقال: " اقتضت حكمة الشارع، الرؤوف بأمته، الرحيم بهم؛ أن يمنعهم من أسباب توجب لهم سماع المكروه أو وقوعه، وأن يعدل عنها إلى أسماء تُحَصِِّل المقصود من غير مفسدة، هذا أولى، مع ما ينضاف إلى ذلك من تعليق ضد الاسم عليه، بأن يسمى يساراً من هو من أعسر الناس، ونجيحاً من لا نجاح عنده، ورباحاً من هو من الخاسرين، فيكون قد وقع في الكذب عليه وعلى الله، وأمر آخر أيضاً وهو أن يطالب المسمى بمقتضى اسمه؛ فلا يوجد عنده " أي: ينتظر الناس منه أن يكون على اسمه، وأن يكون اسماً وافق مسماه ولفظاً طابق معناه، فيجدون النقيض، قال: فيجعل ذلك سبباً لذمه وسبه كما قيل: سموك من جهلهم سديداً والله ما فيك من سداد أنت الذي كونه فساداً في عالم الكون والفساد فتوصل الشاعر بهذا الاسم إلى ذم المسمى به ولي من أبيات: وسميته صالحاً فاعتذى بضد اسمه في الورى سائرا وظن بأن اسمه ساتر لأوصافه فغدا شاهرا وهذا كما أن من المدح ما يكون ذماً موجباً لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس، فإنه يمدح بما ليس فيه، فتطالبه النفوس بما مدح به، وتظنه عنده؛ فلا تجده كذلك، فتنقلب ذماً! ولو ترك من غير مدح لم تحصل له هذه المفسدة، ويشبه حاله؛ حال من ولي ولاية سيئة ثم عزل عنها؛ فإنه تنقص مرتبته عما كان عليه قبل الولاية، وينقص في نفوس الناس، عما كان عليه قبلها، وفي هذا قال القائل: إذا ما وصفت امرءاً لامرئٍ فلا تغلُ في وصفه واقصِدِ فإنك إن تغلُ تغل الظنون فيه إلى الأمد الأبعد فينقص من حيث عظمته لفضل المغيب على المشهد وهذا معنىً لطيف، يعني أنه: إذا مُدِحَ لك إنسان -وقيل: والله لو رأيت فلاناً لرأيت العقل والخلق والدين والعبادة وكذا وكذا- لعظم في عينك، فإذا رأيته ربما نقص عما كان، لأن المبالغة في المدح أولاً: أورثت النقص عندك، ثانياً: نسبته إلى ما ذكر، ولذلك قال: " وعلى هذا فتكره التسمية بـ: التقي، والمتقي، والمطيع، والطائع، والراضي، والمحسن، والمخلص، والمنيب، والرشيد، والسديد.
وأما تسمية الكفار بذلك، فلا يجوز التمكين منه، ولا دعاؤهم بشيء من هذه الأسماء، ولا الإخبار عنهم بها، والله عز وجل يغضب من تسميتهم بذلك.(33/42)
الالتزام في الكعبة
وفي صفحة [298] ذكر مسألة الالتزام في الكعبة، وهي من المسائل التي ننكر نحن على من يفعلها، ومن يلصقون وجوههم وصدورهم ببعض أجزاء الكعبة، فكثيراً ما ننكر على من يفعل ذلك، يقول المصنف رحمه الله: " وأما المسألة الثانية: وهي وقوفه في الملتزم، فالذي روي عنه، أنه فعله يوم الفتح، ففي سنن أبي داود عن عبد الرحمن بن أبي صفوان قال: {لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، انطلقت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد خرج من الكعبة، هو وأصحابه، وقد استلموا الركن من الباب إلى الحطيم، ووضعوا خدودهم على البيت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم} والحديث فيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، لكن له شاهد.
وروى أبو داود أيضاً من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: {طفت مع عبد الله -لعله عبد الله بن عمرو بن العاص - فلما حاذى دبر الكعبة- قلت: ألا تتعوذ؟ قال: نعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر، فقام بين الركن والباب، فوضع صدره ووجهه وذراعيه هكذا، وبسطهما بسطاً وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله} والحديث في سنده المثنى بن الصباح وهو ضعيف، لكنه ينجبر بما قبله، يقول المصنف: " فهذا يحتمل أن يكون في وقت الوداع، وأن يكون في غيره، ولكن قال مجاهد والشافعي وغيرهما: إنه يستحب أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع، ويدعو وكان ابن عباس رضي الله عنهم يلتزم ما بين الركن والباب -فالملتزم ما بين الركن والباب- وكان يقول: لا يلتزم ما بينهما أحد يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، والله وأعلم.(33/43)
اختلاف الرواة في القصة على أوجه عديدة
وفي صفحة [296] ربما كنت قد ذكرت بعض هذه الأشياء سابقاً ذكر المصنف مسألة تعدد القصة، فأحياناً توجد رواية فيها قصة، اختلف الرواة فيها على أوجه عديدة، فمثلاً: هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة أو لم يصلِّ؟ قال بعضهم: صلى، وقال بعضهم: لم يصلِّ.
وقال بعضهم: يحمل هذا على تعدد القصة، بأن يكون دخل مرة وصلى، ودخل مرة ولم يصلِّ قال المصنف رحمه الله في صفحة [296] " فقيل: كان ذلك دخولين، صلى في أحدهما، ولم يصلِّ في الآخر، وهذه طريقة ضعفاء النقد؛ كلما رأوا اختلاف لفظ، جعلوه قصة أخرى، كما جعلوا الإسراء مراراً لاختلاف ألفاظه، وجعلوا اشتراءه من جابر بعيره مراراً، لاختلاف ألفاظه، وجعلوا طواف الوداع مرتين لاختلاف سياقه ونظائر ذلك.
وأما الجهابذة النقاد؛ فيرغبون عن هذه الطريقة، ولا يجبنون عن تغليط من ليس معصوماً من الغلط، ونسبته إلى الوهم.
قال البخاري وغيره من الأئمة والقول قول بلال، لأنه مثبت شاهد صلاته، بخلاف ابن عباس، والمقصود: أن دخوله صلى الله عليه وسلم البيت إنما كان في غزوة الفتح، لا في حجه ولا في عُمَرَهِ، وفي صحيح البخاري عن إسماعيل بن أبي خالد قال: [[قلت لـ عبد الله بن أبي أوفى: أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عمرته البيت؟ قال: لا]] وقالت عائشة: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين، طيب النفس، ثم رجع إليَّ وهو حزين القلب، فقلت: يا رسول الله! خرجت من عندي وأنت كذا وكذا، فقال: إني دخلت الكعبة، وودت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي} .
فهذا ليس فيه أنه كان في حجته، بل إذا تأملته حق التأمل، أطلعك التأمل على أنه كان في غزاة الفتح، والله أعلم، وسألته عائشة أن تدخل البيت، فأمرها أن تصلي في الحجر، ركعتين.(33/44)
حديث عائشة في رمي الجمار وأبي هريرة في التحصيب
وفي صفحة [248] ذكر حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل، بـ أم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت، فأفاضت، قال: الإمام ابن القيم رحمه الله: " هذا حديث منكر، أنكره الإمام أحمد وغيره " وهذا الحديث يحتج به بعضهم، والإمام رحمه الله ذكر أنه منكر.
وفي صفحة [294] ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما انتهى من حجه، نزل بالخَيف، خَيف بني كنانة، قال المصنف رحمه الله: " وقد اختلف السلف في التحصيب، هل هو سنة أو منزل اتفاق؟ -أي: من غير قصد- على قولين: فقالت طائفة هو من سنن الحج، فإن في الصحيحين عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حينما أراد أن ينفر من منى: {نحن نازلون غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر} يعني بذلك المحصَّب، وذلك أن قريشاً وبني كنانة تقاسموا على بني هاشم وبني المطلب ألاَّ يناكحوهم، ولا يكون بينهم وبينهم شيء حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصد النبي صلى الله عليه وسلم إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر والعداوة لله ولرسوله، وهذه كانت عادته صلوات الله وسلامه عليه، أن يقيم شعار التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى مسجد الطائف موضع اللات والعزى.
أي: الخيف هو المكان الذي اجتمعت فيه قريش، وكتبوا الصحيفة الجائرة الظالمة، التي بموجبها كان الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في شعب أبي طالب فترة، بل وبنو هاشم وبنو المطلب، حتى من غير المسلمين، ولا يبايعونهم ولا يبتاعون منهم، ولا يناكحونهم حتى كان يسمع صياح الأطفال من الجوع في هذا الخيف، أي نوع من الحصار الاقتصادي للمسلمين.
فالرسول عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة , ودانت له الجزيرة العربية بإذن الله تعالى، أراد أن يظهر شعار الإسلام وعزة الإسلام في المكان الذي ضويق فيه، فنزل في هذا الخَيف، حيث تقاسموا على الكفر.(33/45)
شروط النسخ
في صفحة [187] فائدة مهمة في شروط النسخ، ذكر الإمام ابن القيم أن النسخ يحتاج إلى أربعة أمور: يحتاج إلى نصوص أخر تكون تلك النصوص معارضة لهذه، ثم تكون مقاومة لها، أي: في قوتها، ثم يثبت تأخرها عنها.
فأولاً: لا بد في إدعاء النسخ من وجود نص يفهم منه أن هذا ناسخ، ثم هذا الناسخ: لا بد أن يكون في قوة المنسوخ أو المدعى نسخه، ثم لا بد أن يكون معارضاً له، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بحمل هذا على حال وهذا على حال؛ ثم لا بد أن يثبت تأخر الناسخ، وتقدم المنسوخ.(33/46)
متى يشرع الاحتياط في العبادة
وفي صفحة [212] ذكر متى يشرع الاحتياط في العبادة؟ فقال: " الاحتياط إنما يشرع إذا لم تتبين السنة، فإذا تبينت فالاحتياط هو اتباعها وترك ما خالفها، فإن كان تركها لأجل الاختلاف -يعني الاختلاف بين العلماء- احتياطاً، فترك ما خالفها واتباعها أحوط وأحوط، فالاحتياط نوعان: احتياط للخروج من خلاف العلماء.
واحتياط للخروج من خلاف السنة، ولا يخفى رجحان أحدهما على الآخر.(33/47)
ما حرم تحريم الوسائل يباح للحاجة
في صفحة [242] ذكر فائدة أراها مهمة جداً، قال وهو يتكلم عن المحرم الذي نهاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرب طيباً، قال: " وإذا كان النبي صلى الله وعليه وسلم، قد نهى أن يقرب طيباً أو يمس به، تناول ذلك الرأس والبدن والثياب، وأما شمه من غير مسَّ، فإنما حرمه من حرمه بالقياس، وإلا فلفظ النهي لا يتناوله بصريحة، ولا إجماع معلوم فيه يجب المصير إليه، ولكن تحريمه من باب تحريم الوسائل، فإن شمه يدعو إلى ملامسته في البدن والثياب، كما يحرم النظر إلى الأجنبية؛ لأنه وسيلة إلى غيره، وما حرم تحريم الوسائل؛ فإنه يباح للحاجة، أو المصلحة الراجحة " هذه يجب أن تحفظوها يا إخوان - قال: كما يباح النظر إلى الأمة المستامة والمخطوبة ومن شهد عليها، أو يعاملها أو يَطُبُها.
الشاهد أنه قال: " وما حرم تحريم الوسائل، فإنه يباح للحاجة، ويباح للمصلحة الراجحة " طبعاً ومن باب الأولى أنه يباح للضرورة، نقول ما حرم تحريم الوسائل، يباح للضرورة، والحاجة والمصلحة الراجحة، وعلى هذا تنحل إشكالات كثيرة، وهذه القاعدة ذكرها ابن القيم في عدة مواضع، ذكرها أيضاً في إعلام الموقعين، وذكرها في مواضع أخرى من زاد المعاد وبالقاعدة هذه تندفع إشكالات كثيرة على بعض الناس الذين تلتبس عليهم أمور اليوم، فمثلاً قضية التصوير عند من يقول بتحريمه هو محرم تحريم وسيلة، لا تحريم غاية، فهو حينئذٍ يباح للضرورة والحاجة والمصلحة الراجحة، فإذا اضطر الإنسان إلى ذلك، كما يصور الإنسان لاستخراج بطاقة، أو رخصة أو شهادة، أو لحاجة إلى ذلك، ولو لم تصل إلى حد الضرورة، أو لمصلحة راجحة فيها نفع ظاهر يربو ويزيد على المفسدة الموجودة، فمثل هذا الحال يفتي العلماء بجواز ذلك، ولذلك تجد أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز على رغم أنه يشدد في مسألة التصوير، حتى أنه يقول: إنه كبيرة من كبائر الذنوب.
بل صدرت بذلك فتوى من هيئة كبار العلماء، تقول: إن التصوير كبيرة من كبائر الذنوب، ومع ذلك فإن الشيخ رحمه الله يجيز التصوير للحاجة والمصلحة، فضلاً عن الضرورة، وقد سئل عن مسائل عديدة، يكون في التصوير فيها مصلحة، لنشر الخير أو تعميمه بين الناس، أو مدافعة الفساد، فقال بأن هذا حسن ولا بأس فيه، وقد سمعت هذا منه بأذني أكثر من مرة.(33/48)
نبذة موافقة الإمام أحمد للسنة
في صفحة [183] ذكر فائدة عن الإمام أحمد، تدل على عظيم موافقة الإمام أحمد للسنة، وحرصه عليها، فقال: " ولله در الإمام أحمد رحمه الله إذ يقول لـ سلمة بن شبيب، وقد قال له: يا أبا عبد الله: كل أمرك عندي حسن، إلا خلة واحدة.
وما هي؟ قال: تقول بفسخ الحج إلى العمرة، فقال يا سلمة، كنت أرى لك عقلاً، عندي في ذلك أحد عشر حديثاً صحاحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أأتركها لقولك؟!!(33/49)
حال الليث بن سليم
ِوفي صفحة [147] ذكر فائدة تتعلق بالجرح والتعديل، وهي كلامه عن الليث بن أبي سليم، بعد أن ذكر الأقوال فيه، فقال: " ومثل هذا حديثه حسن، وإن لم يبلغ رتبة الصحة " وذكر أقوال آخرين ضعفوه، لكن هذا رأي الإمام ابن القيم نفسه أن حديثه حسن.(33/50)
ترك الأوْلى لتأليف القلوب
وفي صفحة [143] ذكر رحمه الله مسألة مهمة لطالب العلم وللداعية، وسبق أن ذكرتها تفصيلاً في هذا الموضع؛ لكن أيضاً أقرأ ما ذكر وهي: أن الإنسان ينبغي له أحياناً أن يترك الأولى إلى ما هو أقل منه، رغبة في تأليف القلوب والموافقة، وعدم تفريق الناس.
فيقول رحمه الله لما ذكر إحرام النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أحرم قارناً، ومع ذلك فإنه تمنى أنه كان متمتعاً قال: " ولمن رجح القرآن مع السوق أن يقول: لم يقل هذا لأجل أن الذي فعله مفضول مرجوح؛ بل لأن الصحابة شق عليهم أن يحلوا من إحرامهم مع بقائه هو محرماً، وكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أُمروا به مع انشرح وقبول ومحبة، وقد ينتقل عن الأفضل إلى المفضول، لما فيه من الموافقة وتأليف القلوب، كما قال لـ عائشة: {لولا أن قومك حديثو عهدٍ بجاهلية؛ لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين} فهذا ترك ما هو الأولى لأجل الموافقة والتأليف، فصار هذا هو الأولى في هذه الحال " أي أن المفضول يصبح هو الفاضل إذا كان فيه جمع للكلمة وتأليف للقلوب والموافقة، وتحصيل مصالح أخرى.
ثم قال: " فكذلك اختياره للمتعة بلا هدي، وفي هذا جمع بين ما فعله وبين ما وده وتمناه ".(33/51)
فائدة لغوية
وفي صفحة [105] وهو يسرد حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر فائدة لغوية جانبية فقال: والعرب إذا اجتمعت الليالي والأيام في التاريخ، غلبت لفظ الليالي؛ لأنها أول الشهر، وهي أسبق من اليوم، فتذكر الليالي، ومرادها الأيام.(33/52)
حال حديث الحجاج بن أرطأة
وفي صفحة [111] ذكر كلاماً عن الحجاج بن أرطأة والمقالات فيه، ثم ذكر خلاصة رأيه في ذلك، أي حديث الحجاج بن أرطأة فقال: وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم ينفرد بشيء، أو يخالف الثقات.(33/53)
من غلطوا في حجه صلى الله عليه وسلم وإهلاله
في صفحة [122] ذكر رحمه الله! بعد أن ذكر من غلطوا في حج النبي صلى الله وعليه وسلم وعمرته، من الأئمة والرواة وغيرهم، فقال: غلط في عمر النبي صلى الله عليه وسلم خمس طوائف، ثم ذكرها.
إحداها: من قال: إنه اعتمر في رجب، والثانية: من قال إنه اعتمر في شوال، والثالثة: من قال: إنه اعتمر من التنعيم… والرابعة: من قال: لم يعتمر في حجته أصلاً، والخامسة: من قال إنه اعتمر عمرة حل منها، ثم أحرم بعدها بالحج " هؤلاء، خمسة أصناف من الناس غلطوا في عُمَر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: فصل: ووهم في حجه خمس طوائف الأولى: التي قالت حج حجاً مفرداً لم يعتمر معه.
والثانية: من قال: حج متمتعاً تمتعاً حل منه ثم أحرم بعده بالحج.
والثالثة: من قال: حج متمتعاً تمتعاً لم يحل منه لأجل سوق الهدي، ولم يكن قارناً.
والرابعة: من قال: حج قارناً قراناً طاف له طوافين، وسعى له سعيين.
والخامسة: من قال: حج حجاً مفرداً، واعتمر بعده من التنعيم.
ثم قال: غلط في إحرامه خمس طوائف… وذكرها.
الشاهد أنه بعدما ذكر هذا الغلط قال: " فصل في أعذار القائلين بهذه الأقوال، وبيان منشأ الوهم والغلط " وهذا يعطينا أيها الإخوة درساً مهماً من هذا الإمام الجهبذ الفحل في التماس الأعذار لأهل العلم فيما يخطئون فيه من الآراء والأقوال أو الأعمال أيضاً، وأن الإنسان ينبغي أن يكون عنده أيضاً جرأة وشجاعة على أنه إذا كان الخطأ واضح؛ يقول: هذا خطأ؛ ثم يكون عنده في مقابل ذلك إعذار والتماس ذلك العذر لهذا الإنسان في وقوعه في هذا الخطأ، بحيث لا يلقي عليه باللائمة، أو يضع من قدره وتصبح القضية في ميزاننا كما هي اليوم في ميزان كثير من الناس، إما (100%) أو صفر، إما أن يكون هذا الإنسان كاملاً لا يعرفون فيه عيباً، فإن وجدوا فيه عيباً أسقطوا قيمته بالكلية، ولم يروا له فضلاً، وهذا خطأ! بل يقال للمصيب: أصبت، ويقال للمخطئ -بعد أن يتبين خطؤه بالدليل الصحيح- أخطأت؛ ثم يلتمس العذر لهذا المخطئ في خطئه -فهو أي ابن القيم - بدأ في التماس الأعذار فقال: أما عذر من قال اعتمر في رجب -مثلاً- فحديث ابن عمر: {أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب} متفق عليه، إذاً هذا عذر قوي لهم.
قال: وأما من قال: " اعتمر في شوال فعذره ما رواه مالك في الموطأ …" إلى آخر ما ذكر من الأعذار.
ثم قال فصل في صفحة [127] " فصل: في أعذار الذين وهموا في صفة حجته " ثم قال في صفحة [150] " ذكر الذين غلطوا في إهلال النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عذرهم، إلى آخر ما ذكر، وليس المقصود من ذلك أن الإنسان يمكن أن يراجع هذه المسألة، لكن المقصود: الدرس التربوي في التماس العذر للإنسان إذا أخطأ.(33/54)
أسباب شرح الصدر
فمن المختارات في صفحة [23] من الجزء الثاني، ذكر المصنف رحمه الله! فصلاً طويلاً مفيداً، في أسباب شرح الصدور، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حصل على الكمال من شرح الصدر، وذكر من هذه الأسباب: التوحيد وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشرح صدر صاحبه، وذكر منها: النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر ويوسعه، ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد، ضاق وحرج وصار في أضيق سجن وأصعبه، ومنها: العلم فإنه يشرح الصدر ويوسعه، حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحسرة والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره، وليس هذا لكل علم! بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسنهم أخلاقاً، وأطيبهم عيشاً.
ومنها: الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه والتنعم بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك، حتى إنه ليقول أحياناً: إن كنت في الجنة في مثل هذه الحالة، فإني إذاً لفي عيش طيب! وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر، وطيب النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا من له حس به، وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدر أفسح وأشرح.
ثم قال: " ومن أسباب شرح الصدر: دوام ذكره على كل حال، وفي كل موطن".
ومنها: الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدراً، وأطيبهم نفساً وأنعمهم قلباً، ومنها الشجاعة: فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، منكسر القلب ".
ثم قال ضمن الشجاعة: فحال العبد في القبر، كحال القلب في الصدر، نعيماً وعذاباً وسجناً وانطلاقاً، ولا عبرة بانشراح صدر هذا لعارض، ولا بضيق صدر هذا لعارض، فإن العوارض تزول بزوال أسبابها.
ثم قال: ومنها بل من أعظمها: إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة، التي توجب ضيقه وعذابه، وتحول بينه وبين حصول البُرء.
ومنها: ترك فضول النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطة، والأكل، والنوم، فإن هذه الفضول تستحيل آلاماً وغموماً وهموماً في القلب، تحصره وتحبسه وتضيقه ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم.
وما أنكد عيشه، وما أسوأ حاله، وما أشد حصر قلبه! ولا إله إلا الله، ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهم، وكانت همته دائرة عليها، حائمة حولها! إلى آخر ما قال رحمه الله.(33/55)
فوائد الجزء الثالث
في صفحة [40] ذكر أن أرواح الأنبياء في السماء، وأجسادهم في قبورهم، وذلك في مجال سماعه صلى الله عليه وسلم لسلام المُسلِّم عليه.(33/56)
مجرد الاعتراف بالنبوة لا يكفي
وفي صفحة [638] الإشارة إلى فائدة، وهي: أن مجرد الاعتراف بالنبوة لا يكفي للإسلام، بل لا بد من قبول ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاعته فيما أمر به، واعتقاد وجوب طاعته.(33/57)
قصة صلب فروة بن عمرو الجذامي
وفي صفحة [646] ذكر قصة فروة بن عمرو الجذامي، وهو مسلم، أسلم وآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عاملاً للروم، فأحضروه وصلبوه، وأصر على الإسلام، وكان -وهو مصلوب على خشبة- يقول أبياتاً من الشعر: ألا هل أتى سلمى بأن حليلها على ماء عفرا فوق إحدى الرواحل على ناقة لم يطرق الفحل أمها مشذبة أطرافها بالمناجل يعني بذلك الخشبة التي صلب عليها، وسلمى: هي زوجته.(33/58)
أصغر القوم خادمهم
وفي صفحة [652] ذكر حديث {أصغر القوم خادمهم} .(33/59)
الإثابة على النية
وفي صفحة [658] ذكر حديثاً يدل على أن المرء يثاب على ما فعله بنية، ولو كان يرغبه فطرة ويميل إليه.
وفي صفحة [658] ذكر مراتب الضيافة، وأنه حق واجب، وتمام مستحب وصدقة.
وفي صفحة [659/661] ذكر السنة في الشاة الملتقطة، أنه يخير ملتقطها بين ثلاثة أمور: يخير بين أكلها وغرم ثمنها، أو بيعها وحفظ ثمنها، أو الإنفاق عليها.(33/60)
المواضع التي يتعين فيها الجهاد
وفي صفحة [558] ذكر المواضع التي يتعين فيها الجهاد، والمشهور أن هذه المواضع ثلاثة: إذا استنفره الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم {وإذا استنفرتم فانفروا} وإذا داهم العدو أهل البلد، وإذا التقى الصفان وتقابل الجيشان.
وفي صفحة [558] أيضاً ذكر حكم الجهاد بالمال والنفس.
وفي صفحة [571] ذكر الجهاد بالقلب وما يتعلق به.(33/61)
اغتنام فرص القربة والطاعة
وفي صفحة [574] ذكر معاقبة من وأتته الفرصة فأهملها، وهذا الموضع ينبغي أن يقرأ، لما فيه من الحث لنا، قال رحمه الله: ومنها -وهو يتكلم فيما أذكر عن قصة الثلاثة الذين خلفوا؛ وبالمناسبة: فقد ذكر فوائد بديعة -لا أظن أنها توجد في غير هذا الكتاب تستخرج من قصة الثلاثة الذين خلفوا؛ فارجعوا إليها في هذا الموضع- " فقال: ومنها: أن الرجل إذا حضرت له فرصة القربى والطاعة، فالحزم كل الحزم في انتهازها والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قَلَّما تثبت، والله سبحانه يعاقب من فتح له باباً من الخير، فلم ينتهزه؛ بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له، فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه، حال بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] فقد صرح الله بهذا في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] وقال الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115] .(33/62)
من كانت بدايته محرقة كانت نهايتة مشرقة
وفي صفحة [576] ذكر ضمن فوائد قصة الثلاثة الذين خلفوا أن مرارات المبادئ حلاوات العواقب، ومن كانت له بداية محرقة، كانت له نهاية مشرقة.(33/63)
التفنن في أساليب الدعوة
وفي صفحة [601] ذكر مسألة إظهار خلاف الواقع، فقال وهو يتكلم عن الوفود: " ومنها: حسن سياسة الوفد وتلطفهم، حتى تمكنوا من إبلاغ ثقيف ما قدموا به، فتصوروا لهم بصورة المنكر لما يكرهونه، والموافق لهم فيما يهوونه، حتى ركنوا إليهم واطمأنوا، فلما علموا أنه ليس لهم بُد من الدخول في دعوة الإسلام؛ أذعنوا فأعلمهم الوفد، أنهم بذلك قد جاءوهم " أي: أظهروا لهم أنهم جاءوا لغرض، والواقع أنهم جاءوا لغيره.(33/64)
فضائل أهل اليمن
في صفحة [619] ذكر مَنْ هم أهل اليمن، الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، في مواضع عديدة، منها قوله: {جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدة وأضعف قلوباً، الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية، والسكينة في أهل الغنم…} إلى آخر الحديث.
وذكر حديثاً عن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أتاكم أهل اليمن كأنهم السحاب، هم خيار من في الأرض، فقال رجل من الأنصار: إلا نحن يا رسول الله -أي ليسوا خيراً منا- فسكت، ثم قال: إلا نحن يا رسول الله فسكت، ثم قال: إلا أنتم} كلمة ضعيفة وفي ذلك إشارة إلى أن أهل اليمن هم الأشعريون.(33/65)
تكفير أهل البدع لمخالفيهم
في صفحة [423] ذكر أن أهل البدع يسرعون إلى تكفير مخالفيهم، فيقول: " فصل: وفيها: أن الرجل إذا نَسَبَ المسلم إلى النفاق والكفر متأولاً، وغضباً لله ورسوله ودينه لا لهواه وحظه، فإنه لا يكفر بذلك، بل لا يأثم به، بل يثاب على نيته وقصده، وهذا بخلاف أهل الأهواء، والبدع؛ فإنهم يكفرون ويبدعون لمخالفة أهوائهم ونحلهم، وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه ".
وفي صفحة [458] ذكر حكم إسناد عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده وقد سبق فائدة مشابهة لذلك.(33/66)
كراهة الصلاة في الحمام وأماكن الصور
وفي صفحة [458] أيضاً ذكر الكلام على الصلاة، في المكان الذي فيه صور، فقال: " وفي القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت، وصلى فيه، ولم يدخله حتى محيت الصور منه، ففيه دليل على كراهة الصلاة في المكان المصور، وهذا أحق بالكراهة من الصلاة في الحمام - ولا يقصد بالحمام مكان قضاء الحاجة، بل الحمام هو مكان الاغتسال- لأن كراهة الصلاة في الحمام؛ إما لكونه مظنة النحاسة، وإما لكونه بيت الشيطان، وهو الصحيح؛ وأما محل الصور فمظنة الشرك، وغالب شرك الأمم كان من شرك الصور والقبور.
"(33/67)
الوعد من الله لا ينافي فعل السبب
وفي صفحة [480] ذكر أن الوعد لا ينافي فعل السبب، وهذه فائدة مهمة أيضاً، ومعناها: أن الله عز وجل -مثلاً- لما وعد المؤمنين بالنصر، فلا يعني هذا أن يقعدوا عن فعل الأسباب، ولما وعد بعضهم بالجنة، لا يعني أنهم يتركون العمل الصالح المؤدي إلى الجنة.
قال المصنف رحمه الله: " ومنها أن من تمام التوكل استعمال الأسباب إلى قوله: وكثير مما لا تحقيق عنده، ولا رسوخ في العلم يستشكل هذا، ويتكايس في الجواب، تارة بأن هذا فعله تعليماً للأمة، وتارة بأن هذا كان قبل نزول الآية " أي قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] إلى آخر ما ذكر" ثم قال: " ولو تأمل هؤلاء! أن ضمان الله له العصمة، لا ينافي تعاطيه أسبابها، لأغناهم عن هذا التكلف؛ فإن هذا الضمان له من ربه تبارك وتعالى لا يناقض احتراسه من الناس ولا ينافيه، كما أن إخبار الله سبحانه له بأنه يظهر دينه على الدين كله ويعليه، لا يناقض أمره بالقتال وإعداد العدة والقوة ورباط الخيل، والأخذ بالجد والحذر والاحتراس من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب، والتورية " إلى آخر ما ذكر.(33/68)
الإيثار بالقرب
وفي صفحة [505] ذكر مسألة الإيثار بالقُرَبِ، وهي مسألة كثيراً ما يذكر الفقهاء فيها أنه: لا إيثار في القُرَبِ، فقال: المصنف رحمه الله ومنها: كمال محبة الصديق له -أي للرسول صلى الله عليه وسلم- وقصده التقرب إليه، والتحبب بكل ما يمكنه، ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم وفد الطائف، ليكون هو الذي بشره وفرحه بذلك، وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثره بقربة من القرب، وأنه يجوز للرجل أن يؤثر بها أخاه، وقول من قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقرب؛ لا يصح وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي صلى الله عليه وسلم، وسألها عمر ذلك، فلم تكره له السؤال، ولا لها البذل، وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول، لم يكره له السؤال، ولا لذلك البذل، ونظائره.
ومن تأمل سيرة الصحابة، وجدهم غير كارهين لذلك، ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرم وسخاء، وإيثار على النفس بما هو أعظم محبوباتها، تفريحاً لأخيه المسلم وتعظيماً لقدره، وإجابة له إلى ما سأله وترغيباً له في الخير، وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحاً على ثواب تلك القربة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر، فبذل قربة وأخذ أضعافها؛ وعلى هذا: فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يتوضأ به، ويتيمم هو إذا كان لابد من تيمم أحدهما، فآثر أخاه، وحاز فضيلة الإيثار، وفضيلة الطهر بالتراب؛ ولا يمنع هذا كتاب ولا سنة ولا مكارم أخلاق، وعلى هذا فإذا أشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف، ومع بعضهم ماء، فآثر على نفسه واستسلم للموت؛ كان ذلك جائزاً، ولم يُقل: إنه قاتلٌ لنفسه، ولا إنه فعل محرماً، بل هذا غاية الجود والسخاء، كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام، وعد ذلك من مناقبهم وفضائلهم، وهل إهداء القُرَب المجمع عليها والمتنازع فيها إلى الميت إلا إيثار بثوابها، وهو عين الإيثار بالقرب، فأي فرق بين أن يؤثره بفعلها ليحرز ثوابها، وبين أن يعمل ثم يؤثره بثوابها " وللشيخ كلام طويل في الإيثار بالقرب في غير هذا الموضع.(33/69)
جواز إعانة المشركين والظلمة على ما فيه مصلحة للمسلمين ما لم تقع مفسدة أكبر
في صفحة [303] ذكر فائدة مهمة أيضاً وهي، ما إذا طلب المشركون من المسلمين إعانتهم على تعظيم الحرمات، يقول: ومنها -أي فوائد صلح الحديبية- أن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة، إذا طلبوا أمراً يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى، أجيبوا إليه وأعطوه وأعينوا عليه ومنعوا غيره؛ فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وعلى بغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوبٍ لله تعالى مرضٍ له؛ أجيب إلى ذلك كائناً من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس" وهذه فائدة مهمة في واقعنا اليوم، لأن الإنسان أحياناً، قد يجد من إنسان صاحب بدعة أو انحراف أو بغي أو ظلم أو شرك؛ أنه يطلب منه أن يعينه على أمر فيه مصلحة وخير ونفع للإسلام والمسلمين، ورعاية لحق من حقوق الله، وحفظ لحرمة من حراماته، فيكره أن يعين هذا الإنسان وهو على ما هو عليه، من فسق وفجور وفساد، فكونه صلى الله عليه وسلم قال: {لا يسألوني أمراً يعظمون فيه حرمات الله تعالى إلا أجبتهم إليه} يفيد هذه الفائدة التي التقطها الإمام ابن القيم رحمه الله.(33/70)
تقديم المعارض للبراءة الأصلية وإنكار تكرار النسخ
وفي صفحة [374] ذكر فائدتين أصوليتين:- أولاهما: تقديم المعارض للبراءة الأصلية، أي: إذا وجد عندنا رأيان أو حديثان في مسألة، أحدهما موافق للبراءة الأصلية، أي لأصل الجواز، والآخر معارض للبراءة الأصلية، يقدم المعارض لأنه يدل على النسخ ولذلك قال: " وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب} ولو قُدِّر تعارض القول والفعل هاهنا؛ لوجب تقديم القول، لأن الفعل موافق للبراءة الأصلية والقول ناقل عنها، فيكون رافعاً لحكم البراءة الأصلية، وهذا موافق لقاعدة الأحكام؛ ولو قدم الفعل، لكان رافعاً لموجب القول، والقول رافع لموجب البراءة، ويلزم تغير الحكم مرتين وهو خلاف قاعدة الأحكام " وفي قوله: فيلزم تغير الحكم مرتين، إشارة إلى رأيه -وهو رأي قوي أيضاً- الذي ينكر فيه أن يكون النسخ حصل مرتين، كما يدعيه بعض أهل العلم، في مسائل، من أشهرها: مسألة نكاح المتعة أنه حرم ثم أبيح ثم حرم؛ وقيل مثل ذلك في مسائل غيرها فـ ابن القيم رحمه الله ينكر أن يكون النسخ يقع في مسألة واحدة مرتين، وما ذهب إليه في نظري قوي والله أعلم.(33/71)
صفوان بن المعطل
وفي صفحة [260] تكلم عن صفوان بن المعطل رضي الله عنه وأرضاه، وأن عائشة لم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم ذكر المصنف عن أبي حاتم أن صفوان كان كثير النوم، فكأنه كان ثقيل النوم؛ ولذلك لم يستيقظ إلا متأخراً، وقد جاء في السنن أن زوجته شكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.(33/72)
الفتنة التي أمرنا باعتزالها
في صفحتي [170،169] ذكر أن الفتنة التي أمرنا باعتزالها هي القتال الواقع بين الصحابة؛ فقال وهو يتكلم عن معاني الفتنة: والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام، كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية، وبين أهل الجمل وصفين، وبين المسلمين، حتى يتقاتلوا ويتهاجروا، لون آخر؛ وهي الفتنة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: {ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي} وأحاديث الفتنة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين، هي هذا الفتنة " يعني: هذا الفتنة بين المسلمين، وسواء كانوا الصحابة أو غيرهم.(33/73)
أخطاء المؤمنين بالنسبة إلى أخطاء الكفار
في صفحة [170] ذكر أن أخطاء المؤمنين قليلة إلى جنب أخطاء الكفار، فقال: " والمقصود أن الله سبحانه حكم بين أوليائه بالعدل والإنصاف، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام -كلامه الآن في سرية عبد الله بن جحش - بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم، من مجرد القتال في الشهر الحرام، فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة! لا سيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات، والهجرة مع رسوله، وإيثار ما عند الله، فهم كما قيل: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع فكيف يقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح، ولم يأتِ بشفيع واحد من المحاسن.
وفي صفحة [218] ذكر كلاماً طيباً في فوائد الهزيمة يرجع إليه.
وفي صفحة [225] ذكر معنى قول الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146] فليرجع إليه.(33/74)
أسماء الله كلها حسنى
وفي صفحة [236،235] ذكر أن أسماء الله عز وجل كلها حسنى، يقول في كلامه عن الله عز وجل: " أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته، وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك؛ وأفعاله كذلك، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى.
فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل ولا تظنن بنفسك قط خيراً وكيف بظالم جان جهول وقل يا نفس مأوى كل سوءٍ أيرجى الخير من ميت بخيل وظن بنفسك السوءى تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل وما بك من تقىً فيها وخيرٍ فتلك مواهب الرب الجليل وليس بها ولا منها ولكن من الرحمن فاشكر للدليل(33/75)
إذا علل الحكم بعلة عامة لم يكن للعلة الخاصة فائدة
في صفحة [114] ذكر قاعدة أصولية، وهي: أن الحكم إذا علل بالأعم كان الأخص عديم الفائدة.
عقد فصلاً في هديه صلى الله عليه وسلم، فيمن جس عليه، ثم قال: " ثبت عنه أنه قتل جاسوساً من المشركين، وثبت عنه أنه لم يقتل حاطباً، وقد جس عليه، واستأذنه عمر في قتله، -أي قتل حاطب - رضي الله عنه، فقال: {وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} فاستدل به من لا يرى قتل المسلم الجاسوس، كـ الشافعي وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله! واستدل به من يرى قتله، كـ مالك وابن عقيل من أصحاب أحمد رحمه الله وغيرهما، قالوا: لأنه علل بعلة مانعة من القتل -يعني: علل عدم قتله لـ حاطب، بعلة مانعة من القتل، وهي كونه شهد بدراً- منتفية في غيره، ولو كان الإسلام مانعاً من قتله -أي: قتل الجاسوس- لم يعلل بأخص منه؛ لأن الحكم إذا علل بالأعم، كان الأخص عديم التأثير، وهذا أقوى " يعني: أن الشيخ رحمه الله، يذهب كشيخه شيخ الإسلام إلى جواز قتل الجاسوس تعزيراً، لكن قتله إلى السلطان.(33/76)
خطأ قول من قال: " إن الإذن بالقتال نزل بمكة "
وفي صفحة [70] ذكر تخطئة من قال: إن الإذن بالقتال نزل بمكة، يقول: " وقد قالت طائفة: إن هذا الإذن كان بمكة والسورة مكية، وهذا غلط لوجوه: أحدها: أن الله لم يأذن لهم بمكة في القتال، ولا كان لهم فيها شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة.
الثاني: أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة، وإخراجهم من ديارهم، فإنه قال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} [الحج:40] .
الثالث: قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر من الفريقين.
الرابع: " أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله: [يا أيها الذين آمنوا] والخطاب بذلك كله مدني، فأما الخطاب [يا أيها الناس] فمشترك" يعني بين المكي والمدني.
الخامس: أنه أمر فيها بالجهاد، الذي يعم الجهاد باليد وغيره، ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة السادس: أن الحاكم روى في مستدركه من حديث الأعمش عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: [[أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن، فأنزل الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]] ] وإسناده على شرط الصحيحين.(33/77)
فوائد المجلد الرابع في الطب النبوي
والجزء الرابع قد خصصه الشيخ رحمه الله للطب النبوي.(33/78)
الحارث بن كلدة طبيب العرب
وفي صفحة [302] ذكر الحارث بن كَلَده وهو طبيب العرب كما هو معروف فقال: " يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بمكة فقال: {ادعو له طبيبا، ً فدعي الحارث بن كَلَده، فنظر إليه فقال: ليس عليه بأس، فاتخذوا له فريقةً -وهي الحلبة- مع تمر عجوة رطب يطبخان فيحساهما -يعني: يشربهما- ففعل ذلك فبرئ} .
قال في التعليق: الحارث بن كَلَده ثقفي من الطائف عاش في الجاهلية والإسلام، ورحل إلى بلاد فارس، وأخذ الطب من أهلها ترجمه الحافظ في الإصابة.
ونقل عن ابن أبي حاتم أنه لا يصح إسلامه، وأخرج أبو داود بسند صحيح عن سعد قال: {مرضت مرضاً أتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي، فقال: إنك رجل مفؤود، ائت الحارث بن كَلَده أخا ثقيف، فإنه رجل يتطبب} .(33/79)
احتباس المني من أسباب الوسواس
في صفحة [249] ذكر أن من أسباب الوسواس، احتباس المني في بدن الإنسان، وبناءً عليه: فقد يكون الزواج سبباً لدفع الوسوسة، وهذا أمر مشهود، فبعض الموسوسين إذا تزوجوا زال ما بهم.(33/80)
قتل اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم
في صفحة [123] ذكر قتل اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ولما احتجم النبي صلى الله عليه وسلم؛ احتجم في الكاهل وهو أقرب المواضع التي يمكن فيها الحجامة إلى القلب، فخرجت المادة السمية مع الدم، لا خروجاً كلياً، بل بقي أثرها مع ضعفه لما يريد الله سبحانه من تكميل مراتب الفضل كلها له، فلما أراد الله إكرامه بالشهادة ظهر تأثير ذلك الأثر الكامن من السم ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
وظهر سر قوله تعالى لأعدائه من اليهود: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة:87] فجاء بلفظ [كذبتم] بالماضي، الذي قد وقع منه وتحقق، وجاء بلفظ [تقتلون] بالمستقبل الذي يتوقعونه وينتظرونه " يعني: آخر نبي قتله اليهود وهو خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك فإن كل مسلم يعتبر أن عند اليهود ثأراً له لابد أن يأخذه به يوماً من الأيام، فإنهم هم الذين سموا الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يقول في مرض موته: {مازلت أجد أثر الأكلة التي أكلت بخيبر وهذا وجدت أوان انقطاع أبهري} .(33/81)
أول من استخدم كلمة [ما لا نفس له سائله]
في صفحة [112] ذكر المصنف رحمه الله أن أول من استعمل كلمة ما لا نفس له سائلة -بمعنى ما ليس له دماً يجري- هو إبراهيم النخعي، قال: " وأول من حُفظ عنه في الإسلام أنه تكلم بهذه اللفظة، فقال: ما لا نفس له سائلة، إبراهيم النخعي، وعنه تلقاها الفقهاء، والنفس في اللغة: يعبر بها عن الدم، ومنه نَفست المرأة -بفتح النون- إذا حاضت " هذا كلام شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله.
أقول: وقد وقفت على حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ذكر ما لا نفس له سائلة، حديث مرفوع ولعله في الدارقطني إن لم تخنّي الذاكرة، ولكن هذا الحديث ليس بقوي، فينازع في كون إبراهيم النخعي أول من استخدم هذا الاصطلاح.(33/82)
فوائد عيادة المريض
في صفحة [116] ذكر فوائد العيادة ومنها: تفريح نفس المريض، وتطييب قلبه، وإدخال ما يسره عليه… إلى غير ذلك من الفوائد.(33/83)
أضرار العسل
وفي صفحة [119،118] ذكر أن العسل قد يضر أحياناً يقول: " وأما العادة فلأنها كالطبيعة للإنسان، ولذلك يقال: العادة طبع ثانٍ، وهي قوة عظيمة في البدن؛ حتى إن أمراً واحداً إذا قيس إلى أبدان مختلفة العادات كان مختلف النسبة إليها، مثال ذلك: أبدان ثلاثة حارة المزاج في سن الشباب، أحدها: عُوَّد تناول الأشياء الحارة، والثاني: عود تناول الأشياء الباردة، والثالث: عود تناول الأشياء المتوسطة، فإن الأول -أي الذي عود تناول الأشياء الحارة- متى تناول عسلاً لم يضر به، والثاني: متى تناوله أضر به، والثالث: يضر به قليلاً " فأشار إلى أن العسل قد يضر بعض الأبدان، وإن كان الله عز وجل وصفه بأنه شفاء، فهو شفاء كما وصفه الله؛ لكن لا يلزم أن يكون شفاء لكل مرض على الإطلاق.
ولذلك فإن بعض أهل العلم سئل عمن به السكر، فإذا تناول العسل قد يضره ويزيد من مرضه، فهل يتناوله؟ فقال: نعم يتناوله واحتج بقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] .
وفي هذا -فيما يظهر لي والله تعالى أعلم- نظر! لأن كون العسل فيه شفاء للناس، هذا لا شك فيه، فهو شفاء؛ لكن لا يلزم أن يكون شفاء لكل دواء، ولكل شخص، وهذا من المعلوم بالضرورة، فإن الرسول ذكر أنواع أخرى من العلاجات غير العسل، ولو كان العسل علاجاً لكل شيء، لما احتاج إلى أن يذكر معه غيره.(33/84)
الأحاديث الواردة في الكي
في صفحة [66،65] أيضاً ذكر المصنف -قبل هذا الموضع- الأحاديث الواردة في الكي، وذكر أنها أربعة أنواع: أحدها: فعله -يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الكي- والثاني: عدم محبته له، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه؛ ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى.
فإن فعله يدل على جوازه.
وعدم محبته له لا يدل على المنع منه.
وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل.
وأما النهي عنه: فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه، بل يفعله خوفاً من حدوث الداء والله أعلم.(33/85)
ما حرم لسد الذريعة يجوز للمصلحة والحاجة
وفي الصفحة [78] ذكر قاعدة سبقت مراراً وهي: أن ما حرم لسد الذريعة، يجوز للحاجة وللمصلحة، قال: " وتحريم الحرير إنما كان سداً للذريعة، ولهذا أبيح للنساء وللحاجة والمصلحة الراجحة، وهذه قاعدة ما حرم لسد الذرائع، فإنه يباح عنه الحاجة والمصلحة الراجحة، كما حرم النظر سداً لذريعة الفعل -يعني الزنا- وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة الراجحة، وكما حرم التنفل بالصلاة في أوقات النهي، سداً لذريعة المشابهة الصورية بعباد الشمس، وأبيحت للمصلحة الراجحة.
وكما حرم ربا الفضل سداً لذريعة ربا النسيئة، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العرايا، وقد أشبعنا الكلام فيما يحل ويحرم من لباس الحرير، في كتاب التحبير لما يحل ويحرم من لباس الحرير ".
وهذا الكتاب لا أعرفه، ولا أدري أنه مطبوع أو لا.
وفي صفحة [85 - 87] ذكر أسباب الصداع، وأنها عشرون سبباً، يمكن الرجوع إليها.(33/86)
خاصية السبع
وفي صفحة [98] ذكر خاصية السبع، التي ترد ذكر السبع في عدد من المواضع، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها -أي المدينة- حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي} .
فذكر خاصية السبع، فقال: إنها قد وقعت قدراً وشرعاً، فخلق الله عز وجل السماوات سبعاً، والأرضين سبعاً، والأيام سبعاً، والإنسان كمل خلقه في سبعة أطوار، وشرع الله لعباده الطواف سبعاً، والسعي بين الصفا والمروة سبعاً، ورمي الجمار سبعاً، وتكبيرات العيدين سبعاً في الأولى وقال صلى الله عليه وسلم: {مروهم بالصلاة لسبع} وإذا صار الغلام سبع سنين خير بين أبويه إلى أن قال: وسخر الله الرياح على قوم عاد سبع ليال، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعينه الله على قومه بسبع، كسبع يوسف.
ومثل الله سبحانه ما يضاعف به صدقة المتصدق، بحبة أنبتت سبع سنابل إلى أن قال: والسنين التي زرعوها دأبا سبعاً، وتضاعف الصدقة إلى سبعمائة ضعف، ويدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب سبعون ألفاً، فلا ريب أن لهذا العدد خاصية ليست لغيره، والسبعة جمعت معاني العدد كله وخواصه، فإن العدد شفع ووتر إلى آخر ما قال مما يمكن أن يراجع في موضعه.(33/87)
أهمية الاعتقاد في الدواء
في صفحة [101،100] ذكر أهمية الاعتقاد في الدواء، فقال: ويجوز نفع التمر المذكور في بعض السموم، فيكون الحديث من العام المخصوص، ويجوز نفعه لخاصية تلك البلد، وتلك التربة الخاصة من كل سم، ولكن هاهنا أمر لابد من بيانه، وهو: أن من شرط انتفاع العليل بالدواء قبوله، واعتقاد النفع به، فتقبله الطبيعة، فتستعين به على دفع العلة، حتى إن كثيراً من المعالجات ينفع بالاعتقاد، وحسن القبول، وكمال التلقي، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب، وهذا لأن الطبيعة يشتد قبولها له وتفرح النفس به، فتنتعش القوة، ويقوى سلطان الطبيعة، وينبعث الحار الغريزي إلى آخره.
وهذا ما يسمونه بالعلاج النفسي في هذا العصر، فالإنسان إذا كان عنده قناعة بالعلاج وبالطب نفعه بإذن الله، وإذا لم يكن لديه قناعة فلا ينفع.
ولذلك تجد بعض الناس إذا ذهبوا إلى رجل يثقون فيه، ويطمئنون به، فقرأ عليهم فإنه بإذن الله ينتفعون بقراءته، ليس كله فقط لصلاح هذا الرجل أو لا، ولكن لذلك، ولكون هؤلاء اعتقدوا به فنفعهم هذا الاعتقاد.
ولذلك يحكى أن رجلاً كان في الشام في دمشق جالساً مع بعض تلاميذه، فجاءته امرأة كانت تعتقد به وتعظمه فقالت له: إن بيني وبين زوجي مشاكل وخصومات وأشياء كثيرة، فأريد أن تكتب لي ورقة لعل الله أن ينفعني بها، فكتب لها ورقة جعل فيها آية من القرآن الكريم {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّه} [آل عمران:154] أو نحو ذلك، ثم طواها وأعطاها إياها، على سبيل تطييب خاطرها، فبعد فترة جاءته وهي تدعو له، وقالت: جزاك الله خيراً قد انتفعت بهذه الورقة، وزال ما بيني وبين زوجي من المشكلات …إلى آخره، فكشف الورقة لتلاميذه وأخبرهم ما فيها.(33/88)
الفطر بالحجامة
وفي صفحة [61/62] ذكر مسألة الفطر بالحجامة، ورجح بقوله: الصواب أن الفطر بالحجامة لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير معارض، وأصح ما يعارض به حديث حجامته وهو صائم، ولكن لا يدل على عدم الفطر إلا بعد أربعة أمور: أحدها: أن الصوم كان فرضاً.
الثاني: أنه كان مقيماً.
الثالث: أنه لم يكن به مرض احتاج معه إلى الحجامة.
الرابع: أن هذا الحديث متأخر عن قوله: {أفطر الحاجم والمحجوم} فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع، أمكن الاستدلال بفعله صلى الله عليه وسلم على بقاء الصوم مع الحجامة، وإلا فما المانع أن يكون الصوم نفلاً يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها، أو من رمضان، لكنه في السفر، أو من رمضان في الحضر، لكن دعت الحاجة إليه، كما تدعو الحاجة من به مرض إلى الفطر، أو يكون فرضاً من رمضان من غير حاجة، لكنه مُبقَّي على الأصل، وقوله: {أفطر الحاجم والمحجوم} ناقل ومتأخر، فيتعين المصير إليه، ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذا المقدمات الأربع، فكيف بإثباتها كلها.
"(33/89)
الصرع وأنواعه
في صفحة [66] ذكر مسألة الصرع، وأنه نوعان: صرع من الأرواح الخبيثة، وصرع من الأخلاط الرديئة، وقال فيما يتعلق بصرع الأرواح: فأئمتهم -أي الأطباء- وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه؛ ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة فتدافع آثارها.
ثم قال: " وأما جهلة الأطباء وسِقْطهم وسفلتهم، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة الأخلاط هو صادق في بعض الأقسام لا في كلها " انتهى كلامه.
وفي هذا رد على ما قاله عدد من المفكرين والكتاب والصحفيين في هذا الوقت من إنكار صرع الجن والشياطين للإنسان! ولعلكم سمعتم ما ذكره الشيخ الطنطاوي في فتاويه وكلامه من إنكار ذلك؛ وما تكلمت عنه جريدة المسلمون في مجموعة من أعدادها، حين قابلت بعض الأطباء، وصرحوا بإنكار إمكانية صرع الجن للإنس.
ولذلك أحب أن أنبه إلى أن الناس في هذه المسألة كما يقال طرفان ووسط! فمن الناس من ينكر هذه القضية بالكلية، ومن ينكر فليس معه إلا الجهل كما ذكر الشيخ؛ لأنه لا يستطيع أن ينكر ذلك.
وكون العلم لا يستطيع أن يثبته، فالعلم لا يزال يحتاج إلى وقت حتى يصل إلى منتهاه بل لن يصل إلى منتهاه أبدا، وكما يقال: عدم العلم بالشيء لا يعني العلم بعدمه، فهذا طرف.
الطرف الآخر: وهم جمهور العوام الذين يبالغون في إثبات هذه الحقيقة، فتجد أن الواحد منهم كلما نزل به مرض قال هذا جن هذا سحر هذا عين، فيبالغون في ذلك وهذا لا ينبغي، فمن المعروف أن أسباب الأمراض كثيرة، والمبالغة في الحكايات والقصص والتهاويل التي يتناقلها الناس لا ينبغي الإفاضة بها، لكن نحن ينبغي أن نؤمن بأن دخول الجن في الإنس ممكنة شرعاً وثابتة واقعاً، وهي من الأمور الحقيقية التي لا يمكن أن يجادل فيها إلا من يجادل في البديهيات؛ لأنها من الأمور التي ترى بالعين وتسمع بالأذن وتحس بالواقع.
وكم من إنسان أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يقرأ القرآن؛ فيدخل فيه جني؛ فيقرأ القرآن عن ظهر قلب، وقد يقرأ القرآن كله! هذا يحصل! ومن الناس من يدخل فيه جني فيتكلم بلغات مختلفة وهو لا يعرف شيئاً منها.
وفي ذلك قصص معروفة في المجتمع، وفي أشخاص بأعيانهم، فلا داعي للإفاضة بها، فلابد من التوسط والاعتدال في ذلك.(33/90)
أثر الإيمان في العلاج والدواء
في صفحة [11] ذكر كلاماً طيباً عن أثر الإيمان في العلاج، والاستفادة من الدواء، فقال -بعد أن تكلم عن الأطباء وطبهم- قال " وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي، الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره؟! فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل هاهنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض، ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب واعتماده على الله، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له والصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته ولا قياسه.
وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرةً، ورأيناها تفعل ما لا تفعله الأدوية الحسية " إلى آخر ما قال، وهو كلام مفيد جداً.(33/91)
مراتب الغذاء
في صفحة [18] ذكر مراتب الغذاء، وهو كلام بدأ الاقتصاديون في هذا العصر يتكلمون فيه، ويخيل إليهم أنهم قد اكتشفوا كشفاً لم يصل إليه من قبلهم، فيما يعطى المواطن، وما يجب للدولة أن تحققه للمواطن، من نسبة العطاء والغذاء، والغريب أن كلامه منطبق مع كلامهم -يقول في صفحة [18] : ومراتب الغذاء ثلاثة، أحدها مرتبة الحاجة، والثانية: مرتبة الكفاية، والثالثة مرتبة الفضلة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه، فلا تسقط قوته ولا يضعف معها، فإن تجاوزها؛ فليأكل في ثلث بطنه، ويدع الثلث الآخر للماء والثالث للنفس، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب إلى آخر ما قال.(33/92)
التفاوت في خطابه صلى الله عليه وسلم
وفي صفحة [25] ذكر أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، يتفاوت، وهو يتكلم عما ثبت في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما الحمى، أو شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء} قال: وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء، ورأوه منافياً لدواء الحمى وعلاجها، ونحن نبين -بحول الله وقوته- وجهه وفقهه، فنقول: خطاب النبي صلى الله عليه وسلم نوعان: عام لأهل الأرض، وخاص ببعضهم.
فالأول: -أي العام- كعامة خطابه، والثاني: كقوله: {لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها؛ ولكن شرقوا أو غربوا} فهذا ليس بخطابٍ لأهل المشرق والمغرب، ولا العراق، ولكن لأهل المدينة وما على سمتها -كالشام وغيرها- وكذلك قوله: {ما بين المشرق والمغرب قبلة} .
وإذا عرف هذا، فخطابه في هذا الحديث، خاص بأهل الحجاز وما والاهم، إذا كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس، وهذه ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً.(33/93)
أنواع المرض
وفي صفحة [5] أن المرض نوعان: مرض القلوب، ومرض الأبدان، وهما مذكوران في القرآن قال: ومرض القلوب نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما في القرآن، قال تعالى في مرض الشبهة: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10] وقال: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] إلى قوله: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [النور:50] فهذا مرض الشبهات والشكوك.
وأما مرض الشهوات، فقال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] فهذا مرض شهوة الزنا.
"(33/94)
قواعد الطب
وفي صفحة [6] ذكر رحمه الله أن قواعد الطب ثلاثة، قال: " وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة -أي: إخراجها- فذكر الله سبحانه هذه الأصول الثلاثة، في هذه المواضع الثلاثة.
فقال في آية الصوم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، وللمسافر طلباً لحفظ صحته وقوته، لئلا يذهبها الصوم في السفر إلى أن قال: وقال في آية الحج: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فأباح للمريض، ومن به أذى من رأسه، من قمل أو حكة أو غيرهما، أن يحلق رأسه في الإحرام، استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة، التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، إلى أن قال: وأما الحمية فقال تعالى في آية الوضوء: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43] فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حميةً له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذٍ له من داخل أو خارج.
خلاصة كلامه رحمه الله أنه قال: إن قواعد الطب الثلاث- التي هي: حفظ الصحة، والحمية، واستفراغ المواد الفاسدة، كلها مذكورة في القرآن الكريم.(33/95)
فوائد المجلد الخامس
وأما الجزء الخامس من زاد المعاد فإن فيه مواضع يسيرة، نذكرها في هذا المجلس.(33/96)
تحريم بيع الماء
وفي صفحة [800] تكلم عن بيع الماء وأنه حرام، فقال: وما فضل منه عن حاجته وحاجة بهائمه وزرعه واحتاج إليه آدمي مثله أو بهائمه، بذله بغير عوض، ولكل واحد أن يتقدم إلى الماء ويشرب ويسقي ماشيته، وليس لصاحب الماء منعه من ذلك… إلى آخر ما قال.
الطريف في هذه المسألة: أن العلماء لما تكلموا في موضوع التيمم -وقد ذكرته قبل قليل- قالوا: إن وجد الماء بقيمة المثل اشتراه، قال الإمام ابن حزم في كتاب المحلى لا يجوز له أن يشتري الماء، ولو وجده بقيمة المثل أو أقل من ذلك، بل لو اشترى ماءً بقيمة المثل أو أقل ثم توضأ به، فإنه لا يجزؤه ذلك، إلا أن يتيمم، قال: لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حرم بيع الماء، فبيعه حرام وشراؤه حرام، وهذا عقد باطل ولا يجوز له أن يستعمل هذا الماء.
لكن بقي أن يقال -رداً على ابن حزم إن هذا الإنسان وإن كان بيعه حراماً، فلنفترض أنه أخذ الماء وتوضأ به، من غير بيع؛ لأنه يجب على صاحبه أن يبذله له إن لم يكن في حاجته، فيكون وضوؤه حينئذٍ صحيحاً، والله تعالى أعلم.(33/97)
حيض الحامل
في صفحة [731]-هذه قفزة بعيدة مراعاة للوقت- ذكر أن الحامل لا تحيض، وذلك بعد أن ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة} قال استنبط أن الحامل لا تحيض، وأن ما تراه من الدم، يكون دم فساد بمنزلة الإستحاضة، تصوم وتصلي، وتطوف بالبيت وتقرأ القرآن، وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء.
فذهب عطاء والحسن وعكرمة ومكحول وجابر بن زيد ومحمد بن المنكدر والشعبي والنخعي والحكم وحماد والزهري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر والإمام أحمد في المشهور من مذهبه، والشافعي في أحد قوليه، إلى أنه ليس دم حيض ".
ثم ذكر من قالوا بالقول الآخر: وأنه دم حيض، والقول الأول: هو مذهب سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز، فإنه يفتي بأنه ليس بحيض فيما أذكر من فتاواه.(33/98)
حرمة بيع كل وسيلة للشرك والزندقة
في صفحة [761] ذكر مسألة تحريم بيع أشياء معينة، وردت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: فصل، وأما تحريم بيع الأصنام، فيستفاد منه تحريم بيع كل آلة متخذة للشرك، على أي وجه كانت، ومن أي نوع كانت صنماً أو وثناً أو صليباً، وكذلك الكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله، فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع من كل ما عداها، فإن مفسدة بيعها بحسب مفسدتها في نفسها… إلى آخر ما قال.
وهذه عبرة لبعض الناس الذين يبيعون ما حرم الله، فمن الناس من يبيعون الصور والتماثيل التي قد تعبد من دون الله، ومنهم من يبيعون كتب الكفر والزندقة والإلحاد.
دخلت مكتبة فوجدت فيها كتاباً يباع في سائر المكتبات، وهو ديوان شعر لشاعر تونسي اسمه أبو القاسم الشابي، هذا الكتاب يقول فيه الشاعر: حدثوني هل للورى من إله راحم مثل زعمهم أواه يخلق الخلق باسماً ويواريهم ويرنو لهم بعطف الإله إنني لم أجده في هذه الدنيا فهل خلف أفقه من إله وهذا الكتاب يباع في كثير من المكتبات، وأناس لا يخافون الله عز وجل، يكسبون أموالاً من وراء بيع هذه أعني كتب الزندقة والإلحاد، ودعك من كتب الجنس، التي فيها كثير من القصص والروايات، وكثير من المجلات المملوءة بصور النساء، والدعوة إلى خروج المرأة وسفورها واختلاطها وسفرها، وتحويلها إلى مغنية أو راقصة أو ممثلة، فلا تكاد تدخل بقالة إلا تجد فيها هذه الأشياء، إضافة إلى بيع الدخان، وبيع الخمر سراً، وبيع أشياء كثيرة، فعلى هؤلاء أن يتقوا الله عز وجل ولا يأكلوا ما حرم الله تعالى.(33/99)
الزواج على المرأة
في صفحة [118،117] ذكر رحمه الله مسألة الزواج على المرأة، وأن بني هشام بن المغيرة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجوا علياً، ابنة أبي جهل، فلم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وقال: {إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها … إلى آخر ما قال.
فقال الإمام المصنف رحمه الله في التعليق على هذا الحديث: فتضمن هذا الحكم أموراً: أحدها: أن الرجل إذا شرط لزوجته ألا يتزوج عليها، لزمه الوفاء بالشرط، ومتى تزوج عليها فلها الفسخ " ثم قال: فيؤخذ من هذا أن المشروط عرفاً، كالمشروط لفظاً، وأن عدمه يُمَلَّك الفسخ لمشترطه.
فلو فرض من عادة قوم أنهم لا يخرجون نساءهم من ديارهم، ولا يمكنون أزواجهم من ذلك البتة، واستمرت عادتهم بذلك، كان كالمشروط لفظاً ".
يعني وإن لم ينطق به أهل المرأة، لكن كان هذا معروفاً عنهم مستفيضا في المجتمع، ثم قال: وهو مطرد على قواعد أهل المدينة، وقواعد أحمد رحمه الله أن الشرط العرفي كاللفظي سواء.(33/100)
الكفاءة في النكاح
في صفحة [158] ذكر الكفاءة في النكاح، وبماذا تكون الكفاءة؟ والمقصود بالكفاءة: تكافؤ الزوجين، والفقهاء لهم في ذلك تفصيلات كثيرة في المقصود من الكفاءة.
فالمصنف رحمه الله قال: " فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الكفاءة في النكاح " وذكر آيات وأحاديث ثم قال: " فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم، اعتبار الدين في الكفاءة أصلاً وكمالاً، فلا تزوج مسلمة بكافر، ولا عفيفة بفاجر " ومع الأسف -إخواني الكرام- فإن كثيراً من الآباء يزوجون بناتهم المؤمنات الدينات الصينات من كفار لا يصلون، بل بعضهم ملاحدة وقد يكونوا شيوعيين أو ملحدين أو زنادقة.
فقد تجد بنتاً متدينةً، تصوم النهار وتقوم الليل، في بيت رجل سكير عربيد فاجر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فتلقى منه الويل، لأن المرأة موقعها ضعيف، وقد لا يصلي هذا الرجل، فتجده-في البيت دائماً أوقات الصلوات، وهي مكرهة- يأخذها زوجها بالقوة من بيت أهلها، ثم يأتي بها إلى بيته ويضاجعها ويجامعها بالقوة، وهي لا تملك لنفسها، إلا الدموع والبكاء، وسؤال الله عز وجل.
أفلا يخافون الله عز وجل القائل: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4-6] فيجعل الواحد ابنته عند رجل كافر، يطؤها حراماً نسأل الله السلامة من ذلك.
يقول المصنف: فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الدين في الكفاءة أصلاً وكمالاً، فلا تزوج مسلمة بكافر ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمراً وراء ذلك، فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث، ولم يعتبر نسباً ولا صناعة، ولا غنىً ولا حريةً، فجوز للعبد القنِّ نكاح الحرة النسيبة الغنية إذا كان عفيفاً مسلماً، وجوز لغير القرشيين نكاح القرشيات، ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات، وللفقراء نكاح الموسرات.
وقد تنازع الفقهاء في أوصاف الكفاءة… إلى آخر ما قال.
والمهم أن رأي المؤلف رحمه الله أن الكفاءة هي الدين فقط، وبناءً عليه: يُعلم أن ما شاع عند الناس من أن الناس لا يتزوج بعضهم من بعض إذا اختلفت أنسابهم -كما يعبرون بالخطوط- فهذا خط وهذا خط، وهذا قبيلي، وهذا خضيري، وهذا كذا وهذا كذا، وبنوا عليها: أن هذا لا يتزوج من هذا، فهذا من انتكاس القيم والمفاهيم.
ومن العجيب أن الناس في هذا الزمان -كما ذكرت لكم قبل قليل- قد يزوج الرجل النسيب من عائلة معروفة ابنته من كافر لا يشهد الصلاة ولا يصلي جمعة ولا جماعة، ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر!! لماذا؟! لأنه من قبيلة كذا أو من عائلة كذا، ويأتيه إنسان قد يكون في الغاية من الدين والورع والتقوى والصلاح، ليس من نسبه فيرده! فهكذا يكون انتكاس المفاهيم واختلال القيم، لكن في هذه المسألة ينبغي أن تراعى قضية وهي: أنه إذا كان مثل هذا الأمر يدعو إلى مشاكل عائلية، وافتراق وقطيعة رحم، ونوع من هذه الأمور، وقد يؤدي فيما بعد إلى الطلاق، بسبب ضغوط الأهل، فيحرص الإنسان على تجنبها، لا لأنه غير جائز شرعاً، لكن مراعاة للمصلحة.(33/101)
النهي عن المغالاة في المهور
في صفحة [178] ذكر رحمه الله كلاماً في موضوع المغالاة في المهور، وهو من المسائل التي كثرت وأصبح الناس يتبارون فيها، في مقدار ما يدفعون وفي استئجار القصور والأفراح لليالي العرس، واستئجار الفنادق ومقدار ما يدفعون فيها فيتنافسون في ذلك، ويرهقون كاهل الزوج المسكين بهذه التكاليف.
فبعد أن ذكر أحاديث قال: " فتضمن هذا الحديث أن الصداق لا يتقدر أقله، وأن قبضة السويق وخاتم الحديد، والنعلين؛ يصح تسميتها مهراً، وتحل بها الزوجة " من يزوج بنته على قبضه سويق أو على خاتم حديد أو على نعلين؟! قال: " وتضمن أن المغالاة في المهر مكروهة في النكاح، وأنها من قلة بركته وعسره.
وتضمن أن المرأة إذا رضيت بعلم الزوج، وحفظه للقرآن أو بعضه من مهرها؛ جاز ذلك، وكان ما يحصل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صداقها، كما إذا جعل السيد عتقها صداقها، وكان انتفاعها بحريتها وملكها لرقبتها هو صداقها ".(33/102)
أخذ الجزية من الناس
وفي صفحة [92،91] ذكر رحمه الله مسألة أخذ الجزية من الناس، وهل تؤخذ من غير أهل الكتاب وهذه مسألة فيها خلاف.
فبعضهم قالوا: تؤخذ من اليهود والنصارى فقط، وبعضهم قال تؤخذ من اليهود والنصارى والمجوس، لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، وبعضهم قال: تؤخذ من سائر المشركين والكفار.
قال الشيخ رحمه الله في صفحة [91] ولم يأخذها صلى الله عليه وسلم من مشركي العرب، فقال أحمد والشافعي: لا تؤخذ إلا من الطوائف الثلاث التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وهم اليهود والنصارى والمجوس، ومن عداهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل، وقالت طائفة: في الأمم كلها إذا بذلوا الجزية قبلت منهم، أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسنة، ومن عداهم ملحق بهم، لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم، فأخذها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان من العرب، لأنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية، فإنها نزلت بعد تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب، واستوثقت كلها له بالإسلام، ولهذا لم يأخذها من اليهود الذين حاربوه " إلى آخر ما قال.
وقال: وفرقت طائفة ثالثة، بين العرب وغيرهم، فقالوا: تؤخذ من كل كافر إلا مشركي العرب.
ورابعة فرقت بين قريش وغيرهم وهذا لا معنى له، فإن قريشاً لم يبق فيهم كافر يحتاج إلى قتاله، وأخذ الجزية منه البتة، إلى آخر ما قال.
والظاهر -والله تعالى أعلم- أن القول بأخذها من سائر المشركين، قول قوي، ويشهد له ما رواه مسلم من حديث سليمان بن بريده عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال> >} وذكر فيها الجزية، فدل على أن الجزية تؤخذ من كل مشرك؛ يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسياً أو وثنياً، ولعل مما يؤيد ذلك قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] .(33/103)
تحريم إجبار البكر على النكاح
وفي صفحة [99،97،96] ذكر رحمه الله مسألة عدم إجبار البكر على النكاح، حتى تستأذن فقال وموجب هذا الحكم -أي: تحريم إجبار البكر- أنه لا تجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تزوج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القول الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته.
أما موافقته لحكمه فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة.
إلى أن قال: وأما موافقته لأمره فإنه قال: {والبكر تستأذن} وهذا أمر مؤكد.
إلى أن قال: وأما موافقته لنهيه، فلقوله: {لا تنكح البكر حتى تستأذن} .
إلى أن قال: وأما موافقته لقواعد شرعه، فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من مالها إلا برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يُرِقَّها، ويخرج بُضعها منها بغير رضاها، إلى من يريده هو.
وأما موافقته لمصالح الأمة، فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصول مقاصد النكاح لها به، وحصول ضد ذلك بمن تبغضه وتنفر عنه، فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول، لكان القياس الصحيح وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره، وبالله التوفيق".
وهذه مسألة مهمة -أيها الإخوة- فكثير من الآباء اليوم يتساهلون في تزويج البنت البكر، ممن يريدون هم، إما لكونه ثرياً أو لكونه قريباً أو لغير ذلك من الأغراض، وهذا حرام لا يجوز إذا كانت لا ترضى به، ومن حقها أن تطالب بالفسخ.
ونجد في واقع المجتمعات في عصرنا هذا من الآثار السلبية الضارة -من انتشار الزنا والخيانة الزوجية- الكثير بسبب هذه القضية؛ لأن الأب إذا زوج البنت من رجل لا تريده، فالغالب أنه لا يحصل وفاق؛ لأن المرأة إذا دخل عليها الزوج وهي في نفسها لا تقبله، فالغالب أنها تبقى على ما كانت عليه، والمرأة فيها من الشهوة مثل ما في الرجل، فلذلك إذا أصر الأب وأصر الزوج على التمسك بهذه المرأة، ولم يكن عنده وازع من الإيمان والخوف من الله عز وجل يزعه، فقد تفكر في الخيانة، وخاصة حين يكون كبير السن.
وكثير من القضايا التي توجد في الدوائر الرسمية، يكون السبب فيها مثل هذا الأمر، وخاصة أن الزوج يكون مسناً، فلا يعطي المرأة ما تريد، وهي شابة في سن الشباب والفتوة والقوة والحيوية، فلا تجد عنده ما تريد من العواطف، ومن إشباع غريزتها إلى غير ذلك، فيقع ما لا تحمد عقباه، ويحصل أيضاً حالات طلاقٍ كثيرة بسبب هذا الأمر؛ فليس من حق الأب أن يزوج بنته ممن لا تريد، كما أنه ليس من حقه أن يأخذ المهر، فالمهر في الواقع للبنت، وليس للأب، وكون بعض الآباء لا يخافون الله عز وجل، فيزوج ابنته بمبالغ طائلة، ثم يأخذ هذا المال؛ فهذا المال حرام وسحت، يأكله سحتاً، ولا يجوز له أن يأخذ قرشاً واحداً إلا برضاها.(33/104)
حد شارب الخمر
وفي صفحة [46] ذكر مسألة كثر فيها كلام أهل العلم، وهو يتكلم في مسألة حد الخمر؛ فإن العلماء اختلفوا في حد الخمر في أمور: اختلفوا أولا: هل الأربعون التي جلد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حد أم تعزير؟ ثم اختلفوا فيمن تكرر منه شرب الخمر مرة أو مرتين والثالثة والرابعة، فما حكمه؟ هل يقتل أم يكتفى بجلده؟ وقبل أن أذكر قوله أقول: إن الترمذي رحمه الله ذكر حديث معاوية بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه} .
وقال الترمذي في آخر كتابه السنن في كتاب العلل في آخر السنن، قال: لم أذكر اتفق العلماء على ترك العمل به، إلا حديثين وذكر ثلاثة أحاديث، وقال بعضهم: تصل إلى أربعة، منها حديث ابن عباس في أن النبي صلى الله عليه وسلم {جمع في المدينة من غير خوف ولا سفر ولا مطر} ومنها: هذا الحديث أنه قال: {فإن عاد في الرابعة فاقتلوه} ذكره ابن القيم رحمه الله وقال: وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتله في الرابعة أو الخامسة واختلف الناس في ذلك، فقيل: هو منسوخ، وناسخه {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث} وقيل: هو محكم، ولا تعارض بين الخاص والعام، ولا سيما إذا لم يعلم تأخر العام، وقيل ناسخة حديث عبد الله بن حمار، فإنه أُتِىَ به مراراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلده ولم يقتله، وقيل: قتله تعزير بحسب المصلحة، فإذا كثر منه ولم ينهه الحد، واستهان به، فللإمام قتله تعزيراً لا حداً، وقد صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: [[ائتوني به في الرابعة: فعلي أن أقتله لكم]] وهو أحد رواة الأمر بالقتل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم معاوية وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وقبيصة بن ذؤيب رضي الله عنهم ".
ثم قال في آخر الكلام رحمه الله في صفحة [48] : " ومن تأمل الأحاديث؛ رآها تدل على أن الأربعين حد، والأربعون الزائدة عليها تعزير اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ والقتل إما منسوخ، وإما أنه إلى رأي الإمام بحسب تهالك الناس فيها واستهانتهم بحدها، فإذا رأى قتل واحد لينزجر الباقون؛ فله ذلك، وقد حلق فيها عمر رضي الله عنه وغرَّب، وهذا من الأحكام المتعلقة بالأئمة وبالله التوفيق ".
وقد ذكر الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله -العالم المحقق المصري- في تعليقه على مسند الإمام أحمد، كلاماً طويلاً في تعزيز القول بقتل شارب الخمر فليرجع إليه في شرحه وتحقيقه للمسند.
وهذا يدل على فقه الصحابة رضي الله عنهم، فإن من فقههم أنهم يقولون: إذا كثر وقوع الناس في جريمة ضاعفوا العقوبة عليها، بخلاف ما عليه الناس في هذا الزمان؛ فإن الناس إذا كثر وقوعهم في جريمة تساهلوا فيها، وفرطوا وقالوا: صعب أن نجلد الناس كلهم، أو نضربهم أو نسجنهم أو نقتلهم، فرأوا أن كثرة الوقوع في الشيء مدعاة إلى التخفيف، خلافاً لهدي الصحابة رضي الله عنهم؛ فكان رأيهم أن كثرة الوقوع في الأمر مدعاة إلى المبالغة في العقوبة، حتى ينزجر الناس، وكما قيل: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.(33/105)
عقوبة اللواط
منها: ما ذكره رحمه الله في صفحة [40] فيما يتعلق بعقوبة اللواط، قال: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء -ويقصد بالقضاء هاهنا يعني حكم حد- لأن هذا لم تكن تعرفه العرب، ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ثبت عنه أنه قال: {اقتلوا الفاعل والمفعول به} رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح وقال الترمذي: حديث حسن.
وحكم به أبو بكر الصديق، وكتب به إلى خالد بعد مشاورة الصحابة، وكان علي أشدهم في ذلك.
وقال ابن القصار وشيخنا -يعني ابن تيمية رحمه الله- أجمعت الصحابة على قتله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فقال أبو بكر الصديق: [[يرمى من شاهق]] وقال علي رضي الله عنه: [[يهدم عليه حائط]] وقال ابن عباس: [[يقتلان بالحجارة]] .
فهذا اتفاق منهم على قتله، وإن اختلفوا في كيفيته ".
ثم قال: وهذا الحكم وفق حكم الشارع، فإن المحرمات كلما تغلظت، تغلظت عقوباتها، ووطء من لا يباح بحال أعظم جرماً من وطء من يباح في بعض الأحوال.
يقصد رحمه الله أن الزنا، على أنه كما وصفه الله تعالى فاحشة وجريمة عظمى، إلا أنه أخف من اللواط؛ لأن هذه المرأة تباح إذا كان بعقد شرعي، بخلاف اللواط فإنه لا يباح بأي حال من الأحوال ولذلك كانت عقوبته أعظم، فقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتل اللوطي وإن اختلفوا في كيفية قتله.(33/106)
فوائد من كتاب العزلة للإمام الخطابي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كنت قد وعدت أنه اعتباراً من هذه الحلقة -إن شاء الله- سوف أبدأ بتقديم بعض الكتب على سبيل انتقاء وانتخاب بعض الفوائد والفرائد، والشوارد التي قد لا يقف عليها الإنسان بسهولة، وذلك أولاً -حتى يستفيد الإنسان من هذه الأشياء، وحتى ينشط إلى قراءة هذه الكتب والاطلاع عليها, وهي فوائد متفرقة ومتناثرة لا يجمعها موضوع ولا عنوان ومن الطبيعي أن تكون إحداها مشرقة والأخرى مغربة، واحدة في الفقه والأخرى في الأصول، والثالثة في التاريخ والرابعة في الأدب، ولكن يربطها رابط عام وهو الفائدة -إن شاء الله-.
والكتاب الذي اخترته هو كتاب العزلة للإمام الحافظ المحدث الأديب اللغوي أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي المولود سنة 317هـ والمتوفى سنة 388هـ، والخطابي له مصنفات كثيرة جداًَ، منها معالم السنن تعليقه على سنن أبي داود، ومنها غريب الحديث، ومنها كتاب الدعاء وغيرها, وهذا الكتاب هو أحد كتبه التي جمع فيها من النقول والنصوص والأشعار، وجمع فيها من الآيات والأحاديث وأقوال العلماء الشيء الكثير حول هذا الموضوع، وهو موضوع العزلة, ومن فوائد هذا الكتاب ومميزاته أنه تعرض لمباحث.
منها: مباحث في موضوع العزلة والخلطة, ومتى تكون العزلة أفضل، ومتى تكون الخلطة أفضل؟ ومنها: الحث على اختيار الجلساء والأصحاب الصالحين.
ومنها: حسن المعاشرة وذكر الصحبة وآدابها، وهو بذلك يذكر قصصاً وطرائف وأخباراً وأشعاراً فيها متعة وفائدة.
ومن مميزات الكتاب: الحديث عن الناس وطبائعهم وما جبلوا عليه إلى غير ذلك، ولكن ينبغي أن يعلم أن هذا الكتاب قد بالغ فيه الإمام الخطابي في الحط من الخلطة والحث على العزلة, حتى قال هو في آخر الكتاب: إني أخشى أن أكون قد بالغت في ذلك أو زدت عليه بما لا ينبغي, ويقول في آخر الكتاب: في باب لزوم القصد -أي: رجع إلى الحديث عن القصد والاعتدال- قال: قد انتهى من الكلام في أمر العزلة، وأوردنا فيها من الأخبار ما خفنا أن نكون قد حسنا معه الجفاء من حيث أردنا الاحتراز منه، وليس إلى هذا جرينا ولا إياه أردنا, فإن الإغراق في كل شيء مذموم وخير الأمور أوسطها, والحسنة بين السيئتين, وقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإغراق في عبادة الخالق عز وجل, والحملة على النفس منها ما يؤودها ويكلها, فما ظنك بما دونها من باب التخلق والتكلف, وهذه من أجمل ما في الكتاب فينبغي أن ينتبه لها, لإن منهج الكتاب ليس مرضياً كله في مدح العزلة وذم الخلطة.(33/107)
التحذير من عبادة الله بغير علم وبصيرة
وهناك قصة أختم بها هذه المختارات، ذكرها المصنف في صفحة [91] وهي تدل على ما يقع للعُباد الذين يعبدون الله من غير علم وعلى غير بصيرة، وكيف يستزلهم الشيطان ويستدرجهم! بل ذكر قصتين في ذلك.
الأولى: قال: كان الشافعي رحمة الله عليه رجلاً عطراً -أي يحب الطيب- وكان يجيء غلامه كل غداة بغالية، وهو نوع من الطيب، فيمسح بها الأسطوانة التي يجلس إليها الشافعي رحمه الله، وكان إلى جنبه إنسان من الصوفية، وكان يسمي الشافعي بالبطال -أي: يعتبر أن طلب العلم والحديث نوع من البطالة- يقول: هذا البطال هذا البطال.
قال: فلما كان ذات يوم عمد هذا الرجل إلى شاربه، فوضع فيه الأذى، ثم جاء إلى حلقة الشافعي، فلما شم الشافعي الرائحة أنكرها وقال: فتشوا نعالكم، فقالوا ما نرى شيئاًَ يا أبا عبد الله، قال: فليفتش بعضكم بعضاً فوجدوا ذلك الرجل، فقالوا يا أبا عبد الله هذا.
فقال له: ما حملك على هذا؟ قال رأيت تجبرك، فأردت أن أتواضع لله عز وجل، ولا شك أن الشافعي رحمه الله أبعد الناس عن التجبر، ولكن هذا ظن هذا الصوفي المتعبد على جهل وضلال.
قال الشافعي: خذوه فاذهبوا به إلى عبد الواحد - عبد الواحد مدير الشرطة- فقولوا له: قال لك أبو عبد الله اعتقل هذا إلى وقت ننصرف، قال فلما خرج الشافعي؛ دخل إليه فدعا به، فضرب ثلاثين درة، قال الشافعي: إنما هذا لتخطيك المسجد بالقذر، وصليت على غير طهارة.
وانظر إلى فقه الإمام الشافعي ما قال: لأنك أهنتني، أو لأنك تعمدت إيذائي، إنما لأنه تخطى المسجد بالقذر، وصلى على غير طهارة.
ثم ذكر المصنف قصة ثانية: وهي أعجب من الأولى قال: " أخبرني بعض أهل العلم قال: كان يختلف معنا رجل إلى أبي ثور، وكان هذا الرجل ذا سمت وخشوع، فكان أبو ثور إذا رآه جمع نفسه، وضم أطرافه، وقيد كلامه -أي: من باب الهيبة لهذا الرجل، ألا يلحظ على أبي ثور أمراً يخالف ما ينبغي له من الهدي والسمت والأدب؛ فكان أبو ثور يتحفظ إذا حضر هذا الرجل- قال: فغاب عن مجلسه مدة، فتعرف أبو ثور خبره، فلم يوقف له على أثر.
ثم عاد إلى المجلس بعد مدة طويلة، وقد نحل جسمه وشحب لونه، وعلى إحدى عينيه قطعة شمع قد ألصقها بها، فما كاد يتبينه أبو ثور -أي ما كاد أن يعرفه، لأنه اختلف عليه- ثم تأمله فقال له: ألست صحابنا الذي كنت تأتينا؟ قال بلى، قال: فما الذي قطعك عنا؟ قال: قد رزقني الله سبحانه الإنابة إليه، وحبب إلي الخلوة وأنست بالوحدة واشتغلت بالعبادة- الشيطان يستله من مجالس الذكر والعلم إلى أماكن أخرى يخلو بها فيه، ويملي عليه ما يريد كما سوف يلاحظون - قال له أبو ثور: فما بال عينك هذه؟ قال: نظرت إلى الدنيا، فإذا هي دار فتنة وبلاء، قد ذمها الله تعالى إلينا وعاب فما فيها، فلم يمكنني تغميض عيني كلتيهما عنها، ورأيتني وأنا أبصر بإحداهما نحواً مما أبصر بهما جميعاً، فغمضت واحدة وتركت الأخرى.
فقال له أبو ثور: ومنذ كم هذه الشمعة على عينك؟ قال: منذُ شهرين، قال أبو ثور: يا هذا أما علمت أن لله عليك صلاة شهرين؟ وطهارة شهرين؟ انظروا إلى هذا البائس، قد خدعه الشيطان، فاختلسه من بين أهل العلم، ثم وكل به من يحفظه ويتعهده ويلقنه العلم ".
يعني الشيطان اختلس هذا الإنسان من مجلس أبي ثور وتفرد به، فـ أبو ثور نبهه إلى أن عليه وضوء شهرين وطهارة شهرين لأنه توضأ وصلى على غير طهارة هذا المدة، حيث لم يغسل ما تحت هذا الشمعة التي كانت على عينه، ثم وكل أبو ثور بهذا الرجل من يحفظه ويتعاهده ويلقنه العلم؛ لئلا يجتره الشيطان مرة أخرى.
وفي الكتاب فوائد وفرائد كثيرة غير ما ذكرت، ولكن هذا أبرز ما فيه.
أسأل الله أن يعلمني وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم أجمعين.(33/108)
مدح الموت وكراهة تمنيه
وفي صفحة [78] ذكر كلام بعضهم في مدح الموت، ولا شك أن تمني الموت لا ينبغي إلا إذا خاف الإنسان من الفتن يقول: " أنشدني بعض أصحابنا لـ منصور بن إسماعيل: قد قلت إذ مدحوا الحياة فأكثروا في الموت ألف فضيلة لا تعرف منها أمان لقائه بلقائه وفراق وفراق كل معاشر لا ينصف(33/109)
صحبة الفتيان والقراء
ومما يعجب في هذا الكتاب: أن المصنف رحمه الله ذكر في صفحة [89] كلمة أو كلمات إحداها، قول سفيان الثوري: " لأن أصحب فتى أحب إليَّ من أن أصحب قارئاً " وذكر رواية قال: زار عبد الله بن المبارك رجلاً من أهل نيسابور، ينسب إلى الزهد والتقشف، فلما دخل عليه فلم يقبل عليه الرجل - وابن المبارك هو من هو إمام الدنيا- ولم يلتفت إليه، فلما خرج ابن المبارك، أُخبر الرجل بما كان، وأُعلم أنه عبد الله بن المبارك، فخرج إليه يعتذر ويتنصل وقال: يا أبا عبد الرحمن! اعذرني وعظني- اعذرني من التقصير في استقبالك- قال: له ابن المبارك، نعم! إذا خرجت من منزلك؛ فلا يقع بصرك على أحد، إلا أُريت أنه خير منك، وذلك أن ابن المبارك رآه معجباً بنفسه، ثم سأل عنه فإذا هو حائك.
قال: وعن سفيان قال: " من لم يتفت لم يتقرأ " قال أبو سليمان يشرح هذه الكلمة - إن من عادة الفتيان ومن أخذ بأخذهم، بشاشة الوجه وسجاحة الخلق، ولين العريكة، ومن شيمة الأكثرين من القراء، الكزازة وسوء الخلق، فمن انتقل من الفتوة إلى القراءة؛ كان جديراً أن يتبقى معه تلك الذوقة والهشاشة، ومن تقرأ في صباه، لم يخلُ من جفوة أو غلظة…" إلى آخر ما قال.
والحقيقة أن هذا الكلام وإن كان ليس على إطلاقه، فلا شك أن في صغار طلاب العلم من فيهم من لين العريكة وسجاحة الخلق، والهشاشة والبشاشة الشيء الكثير، إلا أن له رصيد من الواقع، وإنما سقته حتى ينتبه الإخوة إلى هذا الأمر، ويباعدوا أنفسهم عن مثل هذه الخصال.(33/110)
من عيوب أصحاب الحديث
في صفحة [86/87] تطرق المصنف رحمه الله لبعض عيوب أصحاب الحديث، وأصحاب الحديث كما قيل: هم على ما هم خيار القبائل، وأفضل أصحاب العلوم، لكن ليس من طائفة إلا وفيها عيوب، والتحذير من عيوبهم مطلوب، فذكر أن رجلاً رأى من أصحاب الحديث بدعة سيئة، فلام أهل الحديث، وقال: إنه لا يعلم علماً أشرف، ولا قوم أسخف منهم، وهذا يحمل على أنه قاله في حال غضب وانفعال، ولا يقبل من قائله.
وذكر أن رجلاً كان في مجلس عبد الواحد بن غياث يقول: سمعت أبي رأى رجلاً من أصحاب الحديث صلى لجنبه، فلما سلم الإمام سلم دفاتره -وكانت قد فاتته ركعة- ولم يصلِّ الركعة التي فاتته، يعني لانشغاله بالطلب غفل عن الركعة التي فاتته، وذكر هاهنا قصة يقول: حدثنا مؤمل بن إيهاب قال حدثني يحيى بن حسان قال كنا عند سفيان بن عيينة وهو يحدث، فازدحمت فرقة من الناس على محمل شيخ ضعيف فانتهبوه، ودقوا يد الشيخ -أي ضروا الشيخ- وأخذوا بعض ما معه، فجعل الشيخ يصيح يا سفيان لا جعلتك في حل مما فعلوا بي، لأن ذلك كان في مجلسه، بسبب الزحام، قال: وسفيان لا يسمع -أي: أن سفيان يسمع صوت الرجل لكن لا يدري ما يقول- قال سفيان: فنظر سفيان إلى رجل من أولئك الذين صنعوا بالشيخ ما صنعوا -رجل ليس من أهل الحديث لكنه ملصق فيهم- فقال له سفيان ماذا يقول هذا الشيخ؟ قال: يقول زدنا في السماع" العكس- الشيخ يريد أن يسكت سفيان، حتى يزول الزحام، فهذا قال: إن الرجل قال يا شيخ يا سفيان: زدنا في السماع.(33/111)
مداخل الشيطان
في صفحة [97] ذكر أبو سليمان رحمه الله قولاً مفيداً في بيان مداخل الشيطان، فقال: قال علي بن غنام: كلا طرفي القصد مذموم، وأنشدنا أبو سليمان: تسامح ولا تستوفِ حقك كله وأبقِ فلم يستوف قط كريم ولا تغلو في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم قال: عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه قال: [[لا يكون حبك كلفاً، ولا يكون بغضك تلفاً]] .
ومن الفوائد التي ذكرها المصنف رحمه الله، أنه ذكر إخوان السراء، الذين يصاحبون الإنسان في حال غناه، فإذا احتاج إليهم هربوا منه، وذكر من ذلك قول بعضهم: وإن من الإخوان إخوان كثرة وإخوان حياك الإله ومرحباً وإخوان كيف الحال والأهل كله وذلك لا يسوى نقيراً مُترباً جواد إذا استغنيت عنه بماله يقول إلي القرض والقرض فاطلبا فإن أنت حاولت الذي خلف ظهره وجدت الثريا منه في البعد أقربا(33/112)
إعراض السلف عن الفساد
وفي صفحة [71] يشير المصنف إلى ما حصل من الفساد، وتغير كثير من السلف منه، قال، قال المصنف أبو سليمان قال وأنْشِدتُ هذا البيت:- هذا الزمان الذي كنا نحاذره في قول كعب وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غَيَّر لم يبكِ ميت ولم يفرح بمولود هذه الأبيات يحفظها الإنسان ليتمثل بها في بعض الوقائع، خاصة في هذا الزمان المظلم، فكثيراً ما ترى أحداثاً وتسمع أخباراً، أي: تجعلك تردد هذه الأبيات: هذا الزمان الذي كنا نحاذره في قول كعب وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غيَّر لم يبكِ ميت ولم يفرح بمولود(33/113)
من أحوال السلاطين
ومن الفوائد التي ذكرها المصنف، في صفحة [95] ذكر كلاماً لبعض الحكماء ينبغي أن يعلم، قال أبو سليمان: " قال بعض الحكماء: إن الذي يحدث للسلاطين التيه في أنفسهم -وهو العجب والغرور، ورد النصيحة، وبطر الحق وغمط الناس- والإعجاب بآرائهم لكثرة ما يسمعونه من ثناء الناس عليهم، ولو أنهم أنصفوهم، فَصدَقُوهم عن أنفسهم، لأبصروا الحق، ولم يخفَ عليهم شيء من أمورهم" وبذلك تعلمون أن الواجب على العلماء وطلاب العلم والجلساء والندماء، ليس هو المبالغة في المديح والتبجيل، وتصحيح الأعمال، بل هو النصيحة الخالصة، التي لا يراد من وراءها دنيا.(33/114)
التحذير من قرناء السوء
ومن الفوائد الموجودة في الكتاب أن المصنف رحمه الله ذكر أن أعرابياً، كان بالكوفة، وكان له صديق يظهر له المودة والنصيحة، فاتخذه هذا الأعرابي من عدده للنوائب، فأتاه فوجد أنه بعيد مما كان يظهر له، فأنشأ يقول: إذا كان ود المرء ليس بزائد على مرحباً كيف أنت وحالكا ولم يك كاشراً أو محدثاً فأف لود ليس إلا كذلكا لسانك معسول ونفسك بشة وعند الثريا من صديقك مالكا وأنت إذا همت يمينك مرة لتفعل خيراً قابلتها شمالكا وهذه الأبيات رواها غيره، منهم ابن حبان في نزهة الفضلاء وغيره، وفيها التحذير من قرناء السوء.(33/115)
تواضع سفيان بن عيينة
وفي صفحة [70] قال: أخبرني ابن سعدويه قال: حدثنا إسحاق، قال سمعت محمد بن عبد الأعلى يقول: خرج علينا سفيان بن عيينه، ونحن جلوس على باب داره - هؤلاء طلاب العلم والحديث ينتظرون سفيان ليحدثهم - فخرج علينا فقال: خلت الديار فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسؤدد أي: أن سفيان بن عيينة يحزن أن الديار خلت من العلماء فيما يقول هو، فصار سيداً هو، مع أنه ليس أهلاً لذلك في ظنه، ولا شك أن سفيان هو من هو في الفضل والعلم، والسؤدد والمكانة، لكن هذا من فضله ونبله وتواضعه وهضمه لنفسه رحمه الله فكيف لو خرج علينا في هذا الزمان؟! قال: وأنشدني إبراهيم بن فراس في نحو هذا - في نفس هذا الموضوع -قول الشاعر: وإن بقوم سودوك لحاجة إلى سيد لو يظفرون بسيد أي: القوم الذين وضعوك سيداً عليهم يحتاجون فعلاً إلى سيد؛ لأنهم ما وضعوك في هذا الموقع إلا لفقرهم من السادة، وقلة الأكفاء.
قال وفي آخر: وما سدت فيهم إن فضلك عمهم ولكن هذا الحظ في الناس يقسم أي: ما كانت سيادتك لفضلك وكرمك؛ وإنما هو قضاء وقدر.(33/116)
الصومال الجريح
تحدث الشيخ عن أسباب اختياره الموضوع، ثم ذكر أحوال إخواننا في الصومال ودور المنظمات التنصيرية في التنصير هناك، ودور مراكز الإغاثة الإسلامية، وواجبنا نحوها، ثم ذكر الأخوة الإيمانية عند الصحابة، والسلف وكيف هي فيما بيننا، وبيَّن طريقة القرآن والسنة في تقرير مبدأ الأخوة وأن الاسلام هو الفرق بين الناس، وليست القبيلة، ولا البلد، ولا غير ذلك.(34/1)
أسباب أختيار موضوع الصومال الجريح
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأعتذر إليكم عن هذا التأخير الذي كان لأسباب خارجة عن إرادتي، ثم إنني في هذه الليلة ليلة الأربعاء، العاشر من رمضان، كنت قد زورت لكم حديثاً عنوانه اعترافات مذنب.
ثم بدا أمر جديد دعاني إلى تأجيل هذا الموضوع إلى ليلة غد، أما في هذه الليلة فسيكون حديثي إليكم حديثاً سريعاً قصيراً عن جرح من جراحات المسلمين، عن الصومال الجريح.
والذي دعاني إلى هذا الموضوع أمور هي:(34/2)
التجاوب والتبرعات
أولها: ما رأيته منكم من التجاوب الكبير، فإن مجموع التبرعات، التي بذلتموها كان رقماً طيباً جداً، فقد وصلت إلى ما يزيد على مائتي ألف ريال، فجزاكم الله تعالى خيراً، وأسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن يرزقكم خيراً مما أنفقتم، وأن يبارك لكم فيما أعطاكم، وأن يكثر في المسلمين من أمثالكم، وأن يزيدكم جوداً وكرماً وإيماناً، إنه على كل شيء قدير.
لم يكن الفرح بهذا العطاء لمجرد؛ أنه عطاء، فإن ثرياً واحداً، ربما يعطي أضعاف أضعاف هذا المبلغ، ولكن الفرح كان أكثر بتجاوبكم، وشعوركم بالمسئولية ومشاركتكم، فإن الواحد يعلم أنه لم يكن أحداً منكم، لا من ذكرانكم ولا من إناثكم، مستعداً للمشاركة، وربما فوجئ بذلك الطلب، ومع هذا حصل هذا الخير الكثير، فأسأل الله تعالى أن يجزيكم خيراً.(34/3)
التقارير التي تصف المأساة في الصومال
الأمر الثاني: الذي دعاني ويدعوني الآن إلى طرح موضوع الصومال الجريح، هو مجموعة من التقارير التي جاءت من هناك، وكلكم علمتم بالمأساة التي نزلت بإخوانكم، نزلت بما يزيد على ثلاثة عشر مليوناً موزعين بين الصومال وجيبوتي لم يكن بينهم نصراني واحد، بل ثلاثة عشر مليوناً كانوا في البادية، يدعون الله تعالى أن يتوفاهم، قبل أن يروا بعيونهم نصرانياً واحداً، وكانوا إذا شرب النصراني في الإناء، فإنهم يغسلونه سبع مرات كما يغسلون الإناء إذا ولغ فيه الكلب، كانوا يستعظمون أن يروا رجلاً كافراً بالله تعالى، يمشي على وجه الأرض، بلادهم مليئة بالمساجد، على حين لم يكن يوجد فيها كنيسة واحدة.
ولذلك كانوا هدفاً للنصارى، فسعوا وخططوا واستغلوا أزمات المسلمين، ومزقوا بلادهم، حتى كانت الكارثة الأخيرة، وحينئذ شمرت المنظمات النصرانية عن ساعد الجد، وذهبت عشرات المنظمات من أشهرها منظمة أطباء بلا حدود، وهي منظمة نصرانية، وكذلك الصليب الأحمر، ووكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وغيرها من المنظمات الرجالية والنسائية النصرانية، التي أصبحت تستقبل المسلمين رجالاً، ونساءً، وأطفالاً، وتأخذهم وتذهب بهم إلى بلاد الكفر، حتى هاجر من الصومال ما يزيد على مليوني إنسان غالبيتهم من الشباب، رجالاً ونساءً فتياناً وفتيات ذهبوا إلى بلاد الكفر، ليحصلوا هناك على الجنسيات على المرتبات، ويحصلوا على سكن مجاني، ويحصلوا على كل المميزات، وإذا جاءوا يبحثون عن بلاد المسلمين، لم يجدوا البلد الذي يؤويهم، وأستطيع أن أقول وأنا مطمئن: ليس هناك دولة واحدة من دول المسلمين من أعلنت استعدادها لاستقبال عدد من الصوماليين قل أو كثر، بل إن مجرد الزيارة كان أمراً صعباً، فإذا أراد الإنسان أن يذهب إلى عمرة أو إلى زيارة، أو إلى إقامة مؤقتة في أي بلد إسلامي، فإن أهون ما يقال له: إن جوازك مزور، ووثائقك غير مضبوطة، ولذلك نحن نعتذر إليك.
إنها لكارثة؛ أن يجد اليهود في دولتهم المسماة بإسرائيل، فرصة للعمل في أوساط المسلمين، وأن يوزعوا الأدوية المختوم عليها بختم دولة إسرائيل، ويوزعوا الإعانات والإعانات، ويحضروا المؤتمرات، التي يقيمها المسلمون، ويسعوا إلى الإيقاع بين الصوماليين وبين العرب، فيقولون للصوماليين: إن العرب يحتقرونكم ويزدرونكم، وينظرون إليكم نظرة دونية، ولا يقيمون لكم وزناً، وينشر هذا في عدد من المطبوعات، التي تروج بين إخواننا في الصومال.
وأن يجد النصارى فرصتهم السانحة في العمل الإغاثي الإنساني، في ظاهره والعمل التنصيري في حقيقته، وأن يكون المسلمون هم آخر من يتحرك لغوث إخوانهم.
ثم تأتي الطامة الكبرى، يوم دخلت قوات الغزو الأجنبي القوات الأمريكية إلى الصومال بقوتها وأعدادها وعتادها، دخلت ودعواها أنها تغيث المسلمين، تفض الخصومات بينهم، أما حقيقتها فهي غزو مبطن لهذا البلد، ليس للالصومال فحسب، بل للقارة الأفريقية بأكملها، فهي نوع من الضربة الوقائية، ليطمئن الغرب إلى أن الإسلام الأصولي لن يكون له وجود يذكر في إفريقيا السوداء، وأن مضيق باب المندب وغيره سيكون مؤمناً، وأن الوجود الغربي سيكون قريباً من مناطق العمليات في الشرق الأوسط، وأمس -بالذات- أعلن الرئيس الأمريكي الجديد أن القوات الأمريكية، في منطقة الصومال، وفي منطقة الخليج، سوف يكون لها طابع المرابطة الطويلة الأمد.
نعم هذا كنا نعرفه من قبل، حتى كانوا يعلنون أن إقامتهم في الصومال، لن تتجاوز أربعة أشهر أو ستة أشهر، وأن وجودهم سوف يكون محصوراً بألف أو ألفين، فقد تفاقم العدد وأصبح بعشرات الألوف، وأعلنوا صراحة أن وجودهم سوف يتخذ طابع المرابطة الطويلة.
أيها الإخوة ذلك الصومالي، الذي كان بالأمس يكره أن ينظر في وجه الكافر، أو يشرب بعده، أصبح اليوم يسمع -وفي المسجد الجامع الكبير- رجلاً من ضحايا الغزو الغربي السافر الكافر، مثل بعض بني جلدتنا الذين أصبحوا يتكلمون عن العداوة للغربيين على أنها من أدبيات القرن الماضي، كما قال رئيس تحرير إحدى المجلات الإسلامية، جبر الله عزاءنا وعزاءكم، أصبحت العداوة للغربي الكافر من أدبيات القرن الماضي، كيف والقرآن الكريم يصرح بعداوتهم؟! كيف والسنة النبوية مليئة بذلك؟! إنها الهزيمة النفسية.
يقوم رجل من المنتسبين إلى الإسلام، على منبر الجمعة بعد الصلاة، في جامع من الجوامع الشهيرة وفي هذا العام بالذات، في مدينة بيدوا الصومالية، ويقول: أيها الناس أيها المسلمون أنتم ترون حالنا وما حل بنا من المجاعة نتيجة الحروب الأهلية والقبلية، ولقد رأيتم أنه لم يهتم بنا أحدٌ من إخواننا المسلمين، لا من العرب ولا من العجم، ولقد لاحظتم أن الذين هبوا لنصرتنا وإغاثتنا هم النصارى وعلى رأسهم الأمريكان، وبقية الدول الأوروبية، ثم يقول: علينا نحن كشعب قاسى من الحروب والويلات، ألا نعتبر أن المسيحية عدو لنا، -هذا تعبيره- أو أن المسيحية دين محرف وأننا نخافه، بل يجب علينا، أن نأخذ منهم المساعدات، بقلوب مطمئنة ونية صادقة، وأن لا نعتبرهم أعداءً؛ لأنهم أرحم بنا من المسلمين، وبما أن جميع الأديان السماوية والمسيحية من أول الأديان السماوية فهي أرحم دين ساعدنا، ومعتنقوا هذا الدين هم أرحم الناس بنا، فما الحرج من أن يعتنق بعضنا هذا الدين الرحيم، الذي أثبت ذلك للعالم بمواقفه معنا ومع جميع المتضررين في العالم!! انظروا من الذي يقف مع المسلمين في البوسنة والهرسك إلا الهيئات النصرانية؟ من الذي يقف مع المسلمين المبعدين في فلسطين إلا الصليب الأحمر الدولي؟ من الذي يقف مع الصوماليين إلا النصارى؟ فالمطلوب منكم -هكذا يقول- ترك الناس وشأنهم، كل يختار الدين الذي يحبه ويرتاح إليه لا إكراه في الدين.
انظر إلى البعد الشاسع والتأثير العظيم، ذلك المسلم صاحب الفطرة الذي كان يقرأ القرآن الكريم، فيعرف أن المسلم هو أخوه حيث كان، وأن الكافر عدوه مهما كان، فيترتب على ذلك أن يحب المسلمين ويبغض الكفار لا يزال الكفار به، يعملون له الأعمال، ويخططون له الأحاييل، حتى يوجد من بين المسلمين، من تكون هذه نظرته وهذا منطقه.
أيها الإخوة لا أريد أن تتصوروا أن شعب الصومال تحول إلى مجموعة، من المنهزمين وضعفاء الإيمان، والمغترين بالنصارى، كلا! فإن هذا الشعب، يشهد صحوة إسلامية قوية جداً، في الجنوب والشمال على حد سواء، وفيما يسمى بجمهورية أرض الصومال مثلاً، فقد وجد اجتماع ومؤتمر عام لا يزال معقوداً إلى الآن، وكانت أهم قرارات هذا المؤتمر ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية، وهناك المساجد مليئة بالمصلين والحمد لله، والشباب الدعاة إلى الله تعالى، لهم نشاط منقطع النظير، والعلماء والمشايخ الآن هم الذين أثبتوا أنهم قادرون على ضبط الأمن، والقضاء على اللصوص وعلى المجرمين، فالإسلام، هو مستقبل الصومال، وشعب الصومال شعب مسلم مهما عملوا، ولكن هذا لا يمنع من وجود العلمانيين والمنهزمين، وضعفاء الإيمان والمتأثرين، بل والذين شريت ضمائرهم من قبل الغرب، فيستغلون بعض الظروف وبعض الأوضاع.(34/4)
طريقة القرآن والسنة في تقرير مبدأ الأخوة
لنعد قليلاً إلى طريقة القرآن الكريم والسنة النبوية في تقرير مبدأ الإخوة الإسلامية.(34/5)
أين نحن من الأخوة الإيمانية الحقيقية
أيها الإخوة أنحن ندري معنى الأخوة الإيمانية الحقيقية؟! أنحن نألم لآلام إخواننا؟! كلا والله، بل إنني أقول: أي معنى لأخوة نظرية، نقولها بألسنتنا في كثير من الأحيان، وندعي أننا إخوان للمسلمين في كل مكان، وأننا أعداء للكافرين، ثم تجد أن المسلم يصيح ويستغيث ويستنصر، فلا يهب لنصرته ونجدته إخوانه المؤمنون، بل يسارع أعداء الدين من اليهود والنصارى المتربصين؛ ليعطوهم الطعام بيد والضلال باليد الأخرى، إنجيلاً أو توراةً أو كفراً أو إلحاداً أو ما أشبه ذلك.
والله تعالى يقول: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] فهم استنصرونا واستغاثوا بنا واستصرخونا.
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم جوعى وعطشى فما يهتز إنسان ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان أيسرك أن تتحول بلاد المسلمين إلى أوكار للنصارى، وأن يعلن المرتدون على المنابر أنه لا حرج على إنسان أن يغير دينه؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس {من بدل دينه فاقتلوه} والرب جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ويقول: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] أيسرك أن ترى أعداء دينك يأخذون فلذات الأكباد من أولاد المسلمين بعشرات الألوف؛ من أجل أن ينصروهم، لا أقول: من أجل أن يتحولوا إلى لادينيين، ولا أقول: من أجل أن يتحولوا إلى نصارى، بل من أجل أن يتحولوا إلى قسس، ودعاة للديانة النصرانية، وقد يكون اسم الواحد منهم جورج أو ميشيل، ولكن اسم أبيه عبد الله، أو محمد أو علي أو صالح، وهذا موجود مع الأسف الشديد.
فالغوث الغوث أيها المؤمنون! واليقظة اليقظة يا أصحاب القلوب! دعونا من مشاكلنا الصغيرة، ودعونا من همومنا الذاتية، ودعونا من قضايانا الخاصة، وهلم نطل على هذا الجسد الإسلامي المثخن بالجراح، وهلم ننظر لهذه الأمة التي عبث بها عدوها، لم يكتف بأخذ أموالها، ولا بإهدار اقتصادها، وقد فعل، ولم يكتف بغزوها عسكرياً، وجعلها تحت مظلة قواته وأجهزته وجنوده وعدده وعُدده، وقد فعل، ولم يكتف بأن يجعل جميع أولي النفوذ والقوة في البلاد، من ربائب الغرب الذين تخرجوا من جامعاته، ورضعوا من ألبانه، وقد فعل، بل أضاف إلى هذا كله، أنه أراد أن يحول أفراد المسلمين، ومستضعفيهم وجهالهم، ونساءهم وأطفالهم إلى دين النصرانية.
إنهم يعدون العدة للحرب العظمى بين الإسلام والكفر، والمعركة الفاصلة، ونحن نعلم علم اليقين، ونشهد بالله أننا نؤمن بذلك، وأن الله تعالى سينصر دينه ويظهر كلمته، وأن أمر الإسلام إلى ارتفاع، وأمر الكفار إلى سفول وأن هؤلاء يكيدون والله تعالى يكيد قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ولكننا نعلم علم اليقين أيضاً أن الله تعالى ابتلانا بأن نقوم على هذا الدين، وأن ننصر دينه، وأن نعلي كلمته، قال الله عز وجل: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:14-15] .
إنه مما يجرح القلب أن تكون بلاد المسلمين كلأً مباحاً لأعداء الدين، يتدخلون كما شاءوا وينشرون دعوتهم، ويفسدون كما شاءوا، دون حسيب أو رقيب.
لقد تدخل الكفار في بلاد الكفر، ومع ذلك لقنهم الكفار في فيتنام وغيرها دروساً لم ينسوها قط، وظلت محفورة في ذاكرتهم، أما بلاد المسلمين فهي أهون الضحايا، وهم يدخلون مطمئنين يظنون أنهم آمنون، ونحن نقول: إن نصر الله تعالى للمؤمنين آت، وإن الله تعالى سيبعث لدينه جنداً، وإذا تخلينا نحن اختار الله تعالى غيرنا قال الله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ} [محمد:38] {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} [المائدة:54] من هؤلاء القوم، ليسوا قوماً جبناء ولا بخلاء، ولا قوماً همهم أن يقاتلوا إخوانهم، وأن يتشاغلوا فيما بينهم، كما كانت الجاهلية الأولى.
وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا المهم أن نفتعل معركة ولو مع أقرب قريب، والمؤاخي الحبيب، ولو مع المؤاخي، ولو مع الموافق لك في دعوتك ودينك ومنهجك.
أما أولئك قوم صنف آخر، يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين -ذليل متواضع لأخيه المؤمن- أعزة على الكافرين ذووا قوة وشجاعة وبأس، لكن ليس على إخوانهم، وإنما على الكافرين {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] كل حالة رده.
عاشها المسلمون، جاء الله تعالى بعدها بالنصر على أيدي جند، يصنعهم على عينه، ويختارهم سبحانه، ويوفقهم للبلاء والصبر والجهاد، وتقع على أيديهم الوعود، التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وأعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فهلم أيها الأخ الحبيب نكون جزءاً من هذه الطائفة، وهذه الفئة التي وعد الله تعالى بها؛ فنجاهد بعلمنا وبعقولنا وأيدينا وأموالنا وألسنتنا وبدعائنا، وبكل ما نستطيع.(34/6)
الإسلام هو الفرق بين الناس
إنك تعجب وأنت تقرأ في القرآن الكريم {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فتدرك أن الله تعالى لم يفرق بين الناس بألوانهم ولا ببلدانهم ولا بقبائلهم، وإنما جعل الإسلام هو الفرق بين الناس، فمحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس، من أسلم وآمن فهو أخونا، له مالنا وعليه ما علينا، ومن كفر فهو العدو اللدود، ولو كان أخوك لأبيك وأمك، ولو كان من جلدتك ولو كان من بلدك، فنحن لا نعترف بحدود الجاهلية ولا نعتبر أن الأخوة هي الأخوة الوطنية أو الأخوة القبلية أو الأخوة العرقية.
كلا، وألف كلا، الأخوة: هي أخوة الدين والإيمان، أما أخوة الدم وأخوة النسب وأخوة الوطن، فكل هذه الأشياء نجعلها تحت أقدامنا، متى تعارضت مع أخوة الدين، مع الولاء والبراء الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل قريشاً تنقسم إلى قسمين: مؤمنين وكفار والمؤمنون يعتبرون أن سلمان الفارسي وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وفلان الأوسي أو الخزرجي الأنصاري أنهم هم إخوانهم، أما أخوه القرشي من قبيلته ومن بلده بل وربما من أبيه وأمه، فإنه يواجهه لا أقول بالكلمة القوية بل حتى بالسيف في ميدان المعارك.
كم أب حارب في الله ابنه وكم أخ حارب في الله أخاه يقول: مصعب بن عمير لأخيه عزيز بن عمير: رآه وهو يؤسر فقال مصعب للأنصاري: اشدد وثاقه، فإن أمه امرأة غنية تفتديه منك بأغلى الأثمان، فقال: يا أخي، فهذه وساتك بي قال مصعب: كذبت لست بأخي هذا أخي -يعني الأنصاري- هذا أخي دونك.
نعم إنها أخوة الدين والإيمان التي نسوا في ظلها كل معنى آخر للإخاء غير إخاء العقيدة، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ثم تنتقل إلى السنة النبوية وهذه نماذج فتجد أنه صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه} البنيان في حالة القوة كل لبنة تشد الأخرى وتقويها فإنك تلحظ أن اللبنة بذاتها قد يجملها الطفل وقد يكسرها، لكنها إذا كونت جدارا يشد بعضه بعضا ويقوي بعضه بعضا فإنه يقف في وجه العواصف والأعاصير ولا يستطيع أحد أن يزيله، فهذا في حال القوة فالقوة لا تجعل المؤمنين ينقسمون على أنفسهم أو يتحاربون فيما بينهم أو يضرب بعضهم بعضا أو يدمر بعضهم بعضا.
فما هو الأمر في حال الضعف؟ في حال الضعف يعبر عن ذلك الحديث الآخر العظيم حديث النعمان بن بشير وقد رواه مسلم في صحيحه عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر} إنه جسد اشتكى منه عضو بالحمى ارتفاع الحرارة بالمرض بالألم فلا يظل هذا الجرح أو هذا العضو يألم وبقية الجسد لا يتألم، بل يكون الجسد كله يتداعى له، إذا اشتكى رأسه اشتكى كله وإذا اشتكت يده اشتكى كله وإذا اشتكت عينه اشتكى كله هذا هو الإيمان.
تذوب حشاشات العواصم حسرة إذا دميت في كف بغداد إصبع ولو أن بردى أنت لخطب أصابها لسالت بوادي النيل للنيل أدمع(34/7)
المنظمات التنصيرية في الصومال
هذه بعض الجراح التي جاءتني هذا اليوم من الصومال، ومن الأشياء، التي وصلت إليَّ، نموذجاً للجهود التنصيرية.
هذه الورقة وهي عبارة عن دعاية لشركة نصرانية اسمها c.
r.
d.
e، أي منظمة التطوير الإغاثية الكنسية.
هذا نموذج للعمل التنصيري المكشوف، نصراني لا يقول: جئتكم للإغاثة أو للمساعدة أو للإنسانية، ولكن يقول: جئتكم لأدعوكم إلى الإنجيل! هذه الورقة عبارة عن منظمة مهمتها أنها مسئولة عن المشاريع الإنمائية الزراعية في الصومال، وأنت تعرف حاجة الصومال إلى مثل هذه المشاريع، فأي مشروع زراعي إنمائي، لابد أن يمر من خلال هذه المؤسسة أو هذه الشركة.
وهذه الشركة عندها فكرة أنها سوف تقوم في منطقة اسمها منطقة أرابي، في شمال غرب الصومال، سوف تقوم بعمل مشاريع زراعية، يؤوون من خلالها أكثر من ثلاثمائة ألف لاجئ مسلم، يؤوونهم في مشاريع إغاثية، وفي هذه المنطقة الزراعية الممتازة، هذا العمل الذي قد يكون سبباً في تنصير ألوف وربما مئات الألوف من المسلمين، وخاصة من الأطفال والجهلة، فكم تتوقع أن يكلف هذا العمل؟! إنه لا يكلف أكثر من ثمانية ملايين ريال سعودي! أين أغنياء المسلمين؟ أين رءوس الأموال؟! أين الدعايات الطويلة العريضة عن الإغاثات والمساعدات والكلام الإعلامي الذي يبدأ ولا ينتهي؟! فقط ثمانية ملايين ريال من شأنها أن تقوم بمثل هذا العمل، فهذا نموذج لمثل هذه المنظمة، وهذه المنظمة تلاحظ أنها وضعت في أسفل الورقة مربعاً كبيراً، وحشرت فيه أسماء مئات من المنظمات الأخرى، التي تعمل في الصومال، وفي القرن الأفريقي بشكل أوسع، وفي القارة الإفريقية وكل هذه منظمات نصرانية، ذات أهداف تنصيرية مكشوفة، أما تلك المنظمات التي تسعى إلى التنصير باسم الإغاثة والإنسانية والدعم والطب والعلاج فحدث ولا حرج.(34/8)
دور مراكز الإغاثة الإسلامية ووجوب دعمها
صحيح أن الأوضاع في الصومال قد تحسنت عن ذي قبل، وخاصة في العاصمة مقديشو، وفي بعض المناطق في جمهورية أرض الصومال فهناك تحسن كبير، ولكن لا يزال هناك مناطق في أواسط الصومال ما وصلتها الإغاثة بعد، ولا يزال هناك منظمات إغاثية إسلامية كثيرة، بأمس الحاجة إلى العون والدعم، خاصة وهي تواجه حرباً من القوات الأمريكية ومن قوات الأمم المتحدة ومن المنظمات التنصيرية الغربية، الذين بدءوا يضغطون على جميع المنظمات الإسلامية، ويعبرون عنها بأنها منظمات أصولية وأنه ينبغي حصارها، وأن أي إنسان يريد أن يعمل عليه أن يعمل من خلال الأمم المتحدة ومنظماتها، فهم بأمس الحاجة إلى دعمكم.
إن هناك مطابخ ومراكز توزيع، وإغاثة ومساعدة في طول الصومال وعرضها إسلامية، توشك أن تتوقف بسبب قلة الدعم أو توقفه من المسلمين.
إن من الأهداف التي سعى إليها الإعلام العالمي، أن أشعر المسلمين بأن الأوضاع في الصومال قد تحسنت، وأن الأمور على ما يرام، ولذلك فهذا من مكاسب التدخل الغربي، هكذا صوروا للناس كذباً وزوراً، ثم اطمأنت قلوب المسلمين، وظنوا أن إخوانهم في الصومال قد استغنوا عنهم، وهنا كاد المجال أن يخلو للمنظمات النصرانية الغربية.
فيا أهل الصيام والقيام! ويا من ترجون لقاء الله تعالى والدار الآخرة! ويا من تعلمون أنكم موقوفون بين يدي الله تعالى ومحاسبون، وبأعمالكم مجزيون! ويا من تحملون قلوباً يثيرها هم المسلمين في كل مكان وصدوراً تحزن لحزن أهل لا إله إلا الله! يا أهل التوحيد! كما جدتم وساعدتم إخوانكم في البوسنة والهرسك، فإني أدعوكم هذه الليلة إلى أن تصدقوا لله تعالى، وتروا الله تعالى من أنفسكم خيراً، وأن تبذلوا كل ما تستطيعون لإخوانكم المسلمين في الصومال، واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت عليها، وأن الله جل وعلا وهو لا يخلف الميعاد يقول: {يا ابن آدم أَنَفقْ أُنفِقْ عليك} فإذا كان ربك، وأنت تؤمن به وتصدق بوعده يقول لك: أنفق أنفق عليك، ماذا تريد أكثر من هذا؟ سوف تكسب الأجر والغنيمة والسعادة والبر والمغفرة بإذن الله عز وجل، ومع ذلك كله لن ينقص من مالك شيء، وفي الصحيح: {ما نقصت صدقة من مال} وأنت خبير بقصة صاحب الحديقة، التي جاء فيها: اسقِ حديقة فلان، اسقِ حديقة فلان.
فاصدق الله تعالى يصدقك، وقدم لنفسك وقدم لآخرتك وسارع، ولعل الله تعالى في هذه الساعة المباركة أن ينزل علينا -نحن الحاضرين- من بركاته ما يرحمنا به إنه على كل شيء قدير.
اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم تقبل منا، اللهم استر علينا، اللهم ارفع درجاتنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم اجمع شمل المسلمين، اللهم وحد كلمتهم اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم حرك الإيمان في قلوبهم اللهم اجعلهم يتناصرون بأخوة الإيمان يا رحيم يا رحمن، اللهم احم المسلمين من شر النصارى واليهود وسائر أعداء الدين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم وفقنا يا حي يا قيوم.
ثم إني أدعو -أيها الإخوة- الإخوة الشباب أن يقوموا بجمع التبرعات من الحضور المصلين، أما بالنسبة للأخوات، فإني أدعوهن إلى مزيد من البذل والصدقة، فإن المرأة ينبغي أن تتصدق وتعلم أن هذه الصدقة سعة في رزقها، وعافية في بدنها، وصلاح في أولادها وصحة لها وصلاح لزوجها، وزوال للمشكلات التي تعانيها، وقيل ذلك كله هي قربة لربها، ترجو ثوابها وأجرها وذخرها يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
هناك أبياتٌ أيها الإخوة من الشعر ننشدها فنقول: أنا عالميٌّ ليس لي أرض أسميها بلادي وطني هنا أو قل هنالك حيث يبعثها المنادي أو نقول: مسلمون مسلمون مسلمون حيث كان الحق والعدل نكون يا أخي في الشرق أو في المغرب أنا منك أنت مني أنت بي لا تسل عن عنصري أو نسبي إنه الإسلام أمي وأبي لكن المحك الحقيقي: هو أن نحول هذه الشعارات إلى برنامج عملي نطبقه، فنعيش مع إخواننا بقلوبنا وحياتنا، وألسنتنا، ودعواتنا، وأموالنا، وبكل إمكاناتنا.(34/9)
الأسئلة(34/10)
حكم اجتماع النساء بتبادل الأحاديث في المسجد
السؤال
بعض النساء في المدارس يتفقن على الحضور في هذه المساجد من أجل الكلام مع بعضهن أثناء صلاة التراويح أرجو توجيه كلمة لذلك؟
الجواب
لا شك أن المساجد ما وضعت لهذا، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من ينشد ضالة في المسجد قال: {إنما بنيت هذه المساجد لما بنيت له} وأمرنا إذا سمعنا من يبيع أو يشتري، أن فقول: لا أربح الله تجارتك، ومن ينشد الضالة أن نقول له: لا ردها الله عليك، مع أنه قد يحتاج إلى شيء من ذلك.
فأن تكون المساجد فرصة لتبادل الأحاديث، والطرائف والأقوال، والأخبار، وهذا قد يشغل المصلين، ويلهيهم عن صلاتهم، وقد يدخل فيه نميمة أو غيبة أو قيل وقال مما لا يجوز، فلاشك أنه لا ينبغي أن تستخدم المساجد لهذا، بل على الأخوات أن يعتبرن هذه فرصة لعبادة الله، وسماع القرآن، والتأمين على الدعاء، وذكر الله تعالى، والتكبير، والقيام، والركوع والسجود، وما يدري العبد ربما يدخل الجنة بسجدة، أو ركعة، أو دعوة توافق باباً مفتوحاً، ولا يدري العبد في أي عمله البركة.(34/11)
حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء
السؤال
ما حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء؟
الجواب
هذا فيه أقوال: من أهل العلم من يرى ذلك، لأنه جاء في حديث عند الترمذي أو حديثين، وقال ابن حجر: إن مجموعها يقتضي أنه حديث حسن، وكذلك حسنه الترمذي، والأكثرون على أن ذلك لا يثبت؛ وبناءً عليه فالأولى أن لا يمسح الإنسان وجهه بعد الدعاء، أما تقبيل البعض لإيديهم فهذا لا أصل له البتة، ولم يرد في حديث ولا غيره.(34/12)
حكم تعليق الأذكار والأدعية في السيارات
السؤال
ما الحكم فيما يعلق في السيارات من الأذكار والأدعية؟
الجواب
إذا كانت هذه الأذكار مناسبة مثل ذكر السفر، أو ركوب الدابة، أو ما أشبه ذلك، فهذا جائز لأنه يذكر الركب بمثل هذا، لكن الاعتماد عليه لا ينبغي، فإن الذكر لا ينبغي أن يعتمد على تعليقه، بل ينبغي أن يقوله الإنسان.(34/13)
حكم من لا يتعلم بحجة عدم معرفة الأساسيات
السؤال
ما الحكم فيمن يقول: أنا لن أطلب العلم لأني لا أعرف الأساسيات، فيقول: أنا لا أتعلم الحديث لأني لا أعرف المصطلح، وما نصيحتكم؟
الجواب
أخشى أن تكون هذه الأمور يجر بعضها إلى بعض، عليك أن تطلب العلم، فإذا كنت لا تعرف المصطلح فابدأ بالمصطلح، مع أن الإنسان يستطيع أن يتعلم من العلوم، ولو لم يكن ملماً بغيرها إلماماً كاملاً، فمثلاً تستطيع أن تقرأ في كتب الحديث، ولو لم يكن لديك علم واسع بالمصطلح، وتستطيع أن تقرأ في كتب التفسير، ولو لم يكن لديك علم غزير بالفقه، وعلى الإنسان أن يبدأ بالعلم شيئاً فشيئاً، ويبدأ بالمختصرات، ويبدأ بالعقيدة، ويبدأ بالكتب النافعة، وإذا أشكل عليه شيء سأل، ولا يهجم على العلم، وألا يدعي شيئاً ليس له، فكونه حفظ أو قرأ لا يعني أنه تحول إلى عالم أو مفتٍ يتكلم في الدقيق والجليل.(34/14)
تعارض صلاة العشاء مع التراويح للمتأخرين
السؤال
جماعة دخلوا المسجد متأخرين عن صلاة العشاء، وقد شرع الإمام في صلاة التراويح، فهل من الأفضل إقامة جماعة جديدة، أم الدخول مع الإمام بنية العشاء؟
الجواب
الأفضل أن يدخلوا مع الإمام بنية العشاء، ويتموا بعد ذلك ركعتين، ولا يضر اختلاف النية بين الإمام والمأموم، فإن معاذ بن جبل رضي الله عنه، كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يذهب إلى قومه في بني سلمة فيصلي بهم صلاة العشاء، وهي له نافلة ولهم فريضة كما في سنن البيهقي وغيره، وسنده صحيح، فاختلاف النية بين الإمام والمأموم لا يضر.(34/15)
وفاة الشيخ أحمد مفتي زاده
السؤال يقول: نشرت مجلة المجتمع في عددها الأخير نبأ وفاة الشيخ أحمد مفتي زاده وهو من أنصار السنة في إيران بعد أن أمضى عشر سنوات داخل السجون؟
الجواب
هذه من الأخبار التي وصلتني بالفاكس من بعض الإخوة المعنيين بأوضاع أهل السنة في إيران، فقد كتب إلي الأستاذ الدكتور العالم الشهير عبد المنعم صالح العلي، هو ومحمد أحمد الراشد بنبأ وفاة الشيخ أحمد مفتي زاده بعد زمان طويل قضاه في السجن، وبين أخبار المسلمين السنة في إيران وما يعانون من المصاعب والمشاكل، وأنهم بأمس الحاجة إلى دعم إخوانهم من أهل السنة ومساعدتهم، فإن ثمة فرص لإقامة المساجد في بلاد السنة، ودعوتهم ونشر الكتب بينهم، بل هناك بعض الفرص سواءً في العراق أو في إيران لدعوة الشيعة إلى السنة، وقد أخبرني ثقات أن أعداداً كبيرة من شباب الشيعة قد دخلوا إلى مذهب السنة في العراق وفي إيران، مع أن الدعوة هناك ضعيفة وقليلة والضغط كبير، فالحمد لله تعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.(34/16)
حكم من أتاها الدم في وقت الطهر
السؤال
هناك امرأة أتتها العادة، ثم طهرت عدة أيام، وبعد طهرها بأيام أتاها الدم مرة أخرى فهل تصلي وتصوم؟
الجواب
إذا كانت المرة الأخرى أتاها دم العادة المعتاد بلونه ورائحته، فإنها تدع الصلاة والصيام حتى تطهر.(34/17)
حكم من أخذت الجهات الرسمية منهم الزكاة
السؤال يقول: في العام الماضي ذهبت إلى أحد التجار لكي أعرض موضوع رجل مستحق للزكاة، فأعطاني مبلغاً من المال واعتذر لقلته، وقال: إنه يؤخذ منا أغلب الزكاة، وحدث مثل هذا الاعتذار لرجل هذا العام، بأن الزكاة تؤخذ من هؤلاء، وربما تأخذها بعض الجهات الرسمية، فهل هذه الزكاة تصل لمن يستحقها؟
الجواب
إذا أخذت منهم رسمياً فقد برئت ذمتهم، أما كونها تصل أو لا تصل، فهذه مسئولية من أخذها.(34/18)
استغلال وقت العمل
السؤال
أنا أعمل في دائرة حكومية ومن بعد الظهر لا يوجد عمل، لكن زملائي يجتمعون في غرفة ويقرءون الجرائد ويتكلمون بلا فائدة، حتى تسمع بعض الكلام من بعيد والضحك، أرجو توجيه كلمة لهؤلاء؟
الجواب
على الإنسان إذا كان في عمل حكومي، ولم يكن عنده عمل يشغله، أن يقبل على قراءة القرآن فهي فرصة لقراءة القرآن، وذكر الله تعالى والتسبيح وهو صائم، والملائكة تصلي عليه وتستغفر له، وهو مع ذلك يقبض مرتباً مقابل بقائه في هذا العمل، أما أن يشغل ذلك بمثل هذه الأمور التي ربما تكون نوعاً من الغيبة أو النميمة، فهذا لا شك أنه محرم، أما إن شغل وقته بالأمور المباحة، كالكلام في الأشياء المباحة، فلا حرج عليه في ذلك، ولكن الأولى ألا يضيع عمره في مثل هذه الأشياء، أو ألا يطيل فيها.(34/19)
الفقير الذي يجوز له أخذ الصدقة
السؤال
من هو الفقير الذي يجوز له أخذ الصدقة والزكاة، وإذا كان راتبه ألفين وخمسمائة ريال، والبيت إيجار ومعه الزوجة، وعنده ثلاثة أطفال فهل يستحق الزكاة والصدقة؟
الجواب
هذا يعتمد على ما يملكه هذا الرجل، فمن حق الإنسان أن يملك بيتاً ولو كان محتاجاً إلى أن يشتري بيتاً له ولأولاده، فإن له أن يأخذ الزكاة لهذا، ولو اشترى بيتاً بدين فإن له أن يأخذ الزكاة ليسدد هذا الدين، إذا لم يكن عنده ما يسدد به دينه، فليس له دخل ولا مزرعة ولا دكان ولا غير ذلك، فإن البيت من الأشياء الضرورية، ومثل ذلك الغذاء والكساء والدواء، وما أشبه ذلك من الحاجيات التي يحتاجها هو أو زوجته أو أولاده، وإذا أعطيت إنساناً فلتغنه، أي: تعطيه ما يكفيه ويكفي أولاده لشهر أو شهور أو سنة لا حرج في ذلك، فإذا أعطيتم فأغنوا.
أسأل الله تعالى أن يعطي منفقاً خلفاً، اللهم أعط منفقاً خلفاً، اللهم أعط منفقاً خلفاً، اللهم من تصدقوا وبذلوا وأنفقوا وساعدوا فإننا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا يا حي يا قيوم يا أرحم الأرحمين، يا أكرم الأكرمين، يا جواد يا كريم، أن تجعل السعادة في قلوبهم، والعافية والصحة في أبدانهم، والبصيرة في قلوبهم، والرفعة في درجاتهم، وأن تطيل أعمارهم، وتصلح أعمالهم وأولادهم وذراريهم يا أرحم الراحمين، وتحل مشكلاتهم، وتوفقهم لكل خير إنك على كل شيء قدير، اللهم وفق المسلمين في كل مكان إلى ما تحب وترضى، اللهم وفقهم إلى الاجتماع على طاعتك، والعمل بشريعتك، والدعوة إلى سنتك إنك على كل شيء قدير، اللهم من كان من المسلمين فقيراً فأغنه، ومن كان مريضاً فعافه، ومن كان ذليلاً فأعزه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين يا خير الناصرين، اللهم قد أغلقت أبواب أهل الأرض، ولم يبق إلا بابك يا واسع الجود، إنك على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(34/20)
معنى مائلات مميلات
السؤال
ما معنى هذا الحديث: {مائلات مميلات}
الجواب
هذا الحديث في صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: {صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما، ثم قال: نساء كاسيات، عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} ومعنى قوله: {مائلات مميلات} قيل: مائلات في مشيهن مميلات غيرهن وقيل: مائلات عن الحق مميلات غيرهن عن ذلك، وهذا كله داخل في معنى الحديث السابق.(34/21)
حكم تناول السحور وقت الأذان
السؤال يقول: قمت متأخراً وتناولت طعام السحور والمؤذن يؤذن، ولم أنته إلا بعد فراغ المؤذن، هل علي شيء؟
الجواب
لا ينبغي للإنسان أن يتناول طعام السحور بعد طلوع الفجر، فإذا كان المؤذن أميناً يؤذن على الوقت، فينبغي الإمساك بمجرد سماع لفظة الله أكبر من صوته.(34/22)
الغلول
السؤال
السكوت عن الزملاء في المكتب الذين يكثرون الغياب، حيث إن بعضهم لا يحضر إلا بعد الظهر طوال السنة؟
الجواب
هذا لا يجوز، بل هذا من الغلول، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] فلا يجوز للإنسان أن يكون على عمل فيتأخر في عمله، أو يفرط فيه، أولا يقوم بالواجب، وعليه إن وقع منه شيء من ذلك على غير تعمد؛ أن يسعى إلى تعويضه بقدر ما يستطيع.(34/23)
استخدام الأيدي العاملة الكافرة
السؤال يقول: يوجد في إحدى الصيدليات في الصالحية عامل نصراني مصري يتحدى مشاعر المسلمين، ويقول: لأطفالهم: إنه لا فرق بين الإسلام والنصرانية، فنرجو حث الإخوان على مقاطعته؟
الجواب
أولاً: يجب على كل المسلمين أن يستبعدوا مثل هؤلاء النصارى، وخاصة نصارى العرب، فلا يوجد أخبث ولا أحقد على الإسلام والمسلمين منهم، وهم أشد حقداً من نصارى الروم فنصارى العرب عصوا على بينة وعلى بصيرة، وهم قد جالسوا المسلمين في بلادهم، وحاربوهم وعادوهم وعرفوا ما عندهم، فهم أخطر ما يكون، وبعض هؤلاء النصارى في مصر يجعلون هناك شبكات لإيقاع الفتيات المسلمات في أوكار الدعارة، ويجعلون شبكات لتوريط شباب المسلمين، والحكومة هناك -مع الأسف الشديد- تعتبر أن هذا نوعاً من الحرب الطائفية، وتتصيد من تسميهم بالمتطرفين، ولم نسمع أن هناك تعرضاً للنصارى بوجه من الوجوه، فإلى الله تعالى المشتكى، فعلينا أن نستبعد جميع العمال، سواء أكانوا أطباء، أم صيادلة، أم موظفين، أم فنيين، أم ما كانوا، إذا كانوا من غير المسلمين، وألا نستعمل إلا مسلماً، ثم إذا عرفنا أنه يوجد مثل هؤلاء؛ فعلينا أن ندعوهم إلى الله عز وجل، فإن عرفنا أنهم مصرون محاربون للإسلام فيجب حينئذٍ أن يقاطعوا، خاصة إذا تفوهوا بمثل هذا الكلام، الذي إذا ثبت عليهم يعتبر نقضاً للعهد المبرم معهم، وينبغي على من اطلع على ذلك أن يثبته بالوسائل الشرعية، ثم يرسل ذلك إلى أهل العلم والإيمان.(34/24)
حكم صوم من لم يستيقظ إلا بعد الفجر
السؤال
ما رأيكم في صائم فات وقت السحور ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، ما حكم صومه؟
الجواب
صومه صحيح ولا شيء عليه، ما دام قد نوى الصيام من الليل.(34/25)
حكم من ترك تحية المسجد
السؤال
رأيناك جلست ولم تؤد تحية المسجد، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الذي جلس بالصلاة ركعتين؟
الجواب
لعلي لم أجلس على الأرض، هذا أولاً، الأمر الثاني: إنني تأخرت، وشعرت بأنني أخذت من وقتكم ولا شك أن تحية المسجد سنة مؤكدة أمر النبي عليه الصلاة والسلام بها فقال: {إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} وقد جلس بعض الصحابة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح دون أن يصلوا هاتين الركعتين ولم يقل النبي عليه الصلاة والسلام لهم شيئاً، فتحية المسجد سنة من فعلها فهو مأجور ومن تركها فلا شيء عليه.(34/26)
واجبنا نحو المجاهدين في فلسطين
السؤال
هذه ورقة من بعض الإخوة يقول نرجو ألا تنسى إخوة لنا في فلسطين، فادع الله تعالى أن يعينهم ويثبتهم، وخاصة أهل قطاع غزة ضربت عليه السلطات الإسرائيلية حصاراً، بدأ تنفيذه اليوم وإلى إشعار آخر، بسبب مقتل اثنين من اليهود، وجرح سبعة آخرين على يد بعض الشباب، وقد قتل جندي يهودي هناك، وواجب علينا نصرة إخواننا المسلمين ودعمهم والوقوف معهم ولو بالدعاء؛ عسى الله أن يرزقنا صلاة في المسجد الأقصى، ويعين إخواننا في فلسطين: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} [النساء:84] ؟
الجواب
نسأل الله أن يذل اليهود ومن شايعهم، فإن اليهود لم يكن لهم من شأن ولا قوة؛ لولا أنهم دعموا بحبل من الناس قال الله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112] فنحن العرب الذين نتسمى بالعروبة، نحن الذين مددنا إليهم الحبال، ورضينا بوجودهم، وعقدنا معهم المعاهدات، ومددنا معهم الجسور، بل ونحن الآن نعقد معهم الاتفاقيات للتبادل الاقتصادي، والتبادل الصناعي، والتبادل الأمني، والتبادل العسكري، ومن أجل أن نكون نحن واليهود صفاً واحداً في مقاومة الأصولية الإسلامية، لقد نجم النفاق في هذا الزمان، وظهر قرنه، وذرا صوته، وأصبح الإسلام يحارب في بلاده باسم حرب الأصولية، وحرب التطرف، وحرب العنف، وما أشبه ذلك من المسميات، وأصبح بعض بني قومنا يمدون أيديهم إلى اليهود ضد إخوانهم: والمدعون هوى الإسلام سيفهم مع الأعادي على أبنائه النجب يخادعون به أو يتقون به وما له منهم رفد سوى الخطب(34/27)
حكم قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية
السؤال يقول: أتحرج كثيراً في الصلاة، حيث إن الإمام لا يترك فرصة لقراءة الفاتحة، وهو يقرأ بعدها مباشرة؟
الجواب
لا حرج عليك في ذلك، فالراجح من أقوال أهل العلم أن المأموم لا يجب عليه قراءة الفاتحة في الجهرية، خاصة إذا كان الإمام لا يسكت بعد الفاتحة، والله تعالى يقول: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي ذكره مسلم {إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا} فمن كان وراء الإمام فقراءة الإمام له قراءة، فإن سكت الإمام فاقرأ، وإن قرأ الإمام فعليك بالسكوت ولا حرج عليك.(34/28)
الجريمة في الغرب والسقوط الوشيك
السؤال يقول: سمعت في إحدى الإذاعات تقريراً عن الجريمة بين الأحداث في بريطانيا، وكانت على شكل ندوة، وكان من ضمن المشاركين بعض المسئولين الذين قالوا: إن هذه الجرائم في أوروبا إنما هي من إفرازات الرأسمالية، وأن هذا النظام له سلبيات كثيرة، فهل هذا يدل على تبرم من هؤلاء بذلك، وأنه يبشر بسقوط هذا النظام؟
الجواب
نعم، وعندي معلومات كثيرة عن ذلك، وسوف أخصص لها بعد رمضان إن شاء الله محاضرة خاصة عنوانها السقوط الوشيك.
وسوف أتحدث فيها عن الانهيار الذي ينتظر الأمم الغربية، بعد ما راحت ضحيته الأمم الشرقية.(34/29)
مجالسة الكفار
السؤال
ما حكم مجالسة الكافر؟
الجواب
إن كانت مجالسته للدعوة وأمره بالخير وبيان الدين له، وبيان ما هو عليه من الباطل، فذلك من الخير ومن البر والله تعالى أمر بذلك وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:12] أما إن كانت مجالسته لتسمع ما عنده من الضلال والفساد والانحراف وترضى بذلك، فهذا لا يجوز، قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140] وأما إن كانت المجالسة لحاجة مثل أن يكون جمعك معه عمل، فلا حرج عليك في ذلك، ولكن عليك أن تستفيد من ذلك في دعوته إلى الله تعالى، وأمره بالإيمان والإسلام، مع أنه ينبغي على المسلمين أن يسعوا في إخراج المشركين من بلاد الإسلام، وخاصة من جزيرة العرب، وقد ساءني جداً ما سمعته من قدوم بعض الأطباء والموظفين من الهندوس، أهذه الجائزة التي نقدمها لهم، بعد ما هدموا أكثر من ثلاثمائة مسجد، منها المسجد البابري، وبعد ما قتلوا آلاف المسلمين، وبعد ما انتهكوا أعراض أخواتنا المسلمات؟! نقدم لهم هدية على طبق من ذهب، وكثير من هؤلاء الهندوس يأخذون أموالهم من منطقة الخليج العربي، وقد عرفت ذلك، وعندنا معلومات جديدة خطيرة عنهم وعن مخططاتهم في هذه المنطقة المهمة الثرية الغنية، فالله الله في إخوانكم المسلمين، لا تخذلونهم، ولا تولوهم الأدبار، ولا تطعنوهم في ظهورهم باستعمال الهندوس، وأعداء الإسلام.(34/30)
حكم الأرباح البنكية الربوية
السؤال
لي مساهمة في شركة سابك، وقد علمت أن الأرباح تدخل البنك للحصول على بعض الفوائد الربوية، فلو احتنبنا هذه الأرباح الممزوجة بالفوائد امتثالا لقول الله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا} [آل عمران:130] ولكن استعملته لشراء بعض الحاجات الأخرى، كفرش المنزل ولعب الأطفال وغيرها، فهل هذا جائز؟
الجواب
إن كنت تعلم أنها من الربا فلا يجوز لك استعمالها {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] أما إن كنت لا تدري فانظر، إن كانت هذه الشركة تعلن نسبة الأرباح والفوائد البنكية، فتقول مثلاً: عشرة في المائة فوائد بنكية، فعليك أن تخرج من الأرباح ما قيمته (10%) وتتخلص منها في أبواب الخير، أما إن كنت لا تدري، فعليك أن تتخلص من نصف هذه الأرباح (50%) منها في أبواب الخير، ولا تجعلها في شيء من أمورك الخاصة.(34/31)
حامل لعبة الورق أثناء الصلاة
السؤال
صليت الظهر، وبعد الانتهاء منها تذكرت أني أحمل في جيبي لعبة ما يسمى بالورق، ومن المعلوم أن فيها صوراً، ثم عزمت أن أخرجها من جيبي قبل العصر، ولكني نسيت، وكذلك الحال في المغرب والعشاء، فما حكم صلاتي؟
الجواب
أما صلاتك ما دمت ناسياً والصورة مخفية؛ فأرجو أنها مقبولة -إن شاء الله تعالى- وصحيحة، أما مايتعلق بهذه الصور فعليك أن تزيلها، وعليك أن تتلفها، وذلك لأن هذه اللعبة تضيع الوقت، وتسبب العداوة بين الإخوة، وربما يتحول لعبها إلى نوع من الإدمان، وقد قال كثير من أهل العلم بأنها مكروهة، بل بعض أهل العلم وصل بها إلى درجة التحريم، لما فيها من الإلهاء والإشغال عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة.(34/32)
الملابس التي فيها صور
السؤال
هل يجوز لبس الملابس التي فيها صور أو عليها علامة صليب؟
الجواب
ينبغي للمسلم أن يحرص على تجنب هذه الملابس، خاصة إذا كانت على الكبار، وخاصة إذا كانت هذه الصور لرجال أو نساء، وقد تكون صوراً لبعض العظماء عند الكفار، كالمغنين والممثلين، والراقصات وعارضات الأزياء والرؤساء، وما أشبه ذلك ممن هم من الطواغيت الذين يجب بغضهم ومحاربتهم وتجنبهم، ومقاطعة كل ما يكون فيه تصاوير لهم، أما إذا كانت على الأطفال فالأمر أخف، ومع ذلك ينبغي -إن أمكن- أن تطمس الصور، أو تزال أو يزال بعضها، فإن لم يتسن ذلك كله، فعلى أقل تقدير أن تلون بألوان من جنس لون الملابس، بحيث لا تتميز الصورة بلون خاص.(34/33)
النظر إلى العورة أثناء الصيام
السؤال
أنا امرأة أقوم بعلاج زوجي بتطهير جرح في مكان ما، ويؤدي ذلك إلى النظر إلى العورة، فهل في ذلك مضرة على الصوم؟
الجواب
يعتقد بعض النساء أن النظر إلى العورة يسبب الفطر، وقد سألتني نساء كثيرات: هل كشف الطبيبة على امرأة للحاجة، هل ذلك يفطر؟ والجواب: كلا! لا علاقة لذلك بالصيام ولا يفطر، لا الطبيبة التي تكشف ولا المريضة التي يكشف عليها، ومثل ذلك المرأة لو اضطرت إلى الكشف على زوجها لعلاج أو تمريض فإن ذلك لا يفطر.(34/34)
استجابة الدعاء
السؤال
تقول: أنا أدعو الله تعالى في هذا الشهر المبارك فلا يستجاب لي، وأنا طالبة في إحدى المدارس؟
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي} ولا يدعو المؤمن بدعاء إلا أجابه الله تعالى، أو دفع عنه من الشر مثله، أو ادخره ليوم الحساب، فهو على خير، والله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ولو لم يكن من بركة الدعاء إلا أنه عبادة لله تعالى يكتب للعبد به أجر عند الله تعالى لكفى، فهو إذا دعا كتب له أجر، كما إذا صلى أو صام أو تصدق أو حج أو ماشابه ذلك.(34/35)
دعاة على أبواب جهنم
السؤال
يقول: في حديث حذيفة الذي ذكر {دعاة على أبواب جهنم} فالآن كثرت الدعوات من الجماعات والأحزاب، فهل هؤلاء هم أولئك الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة {دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها} ؟
الجواب
هم الذين يدعون إلى الضلال، ويدعون إلى الفتنة، ويدعون إلى مخالفة السنة، وإلى البدع، وإلى الشيوعية وإلى الاشتراكية، وإلى الكفر، وإلى الرفض، ويدعون إلى الاعتزال، ويدعون إلى ما أشبه ذلك من المبادئ الكافرة أو الضالة، فهؤلاء هم الذين أخبر عنهم النبي عليه الصلاة والسلام، أما من يدعون إلى الخير والهدى والإيمان والسنة، فإن هؤلاء على خير، وليسوا مقصودين بالحديث، ولو كانوا مقصرين في بعض الأمور.(34/36)
حكم تارك الصلاة
السؤال
إنسان يصوم رمضان، وفي غير رمضان لا يصلي أحياناً فهل إذا ترك صلاة المغرب في رمضان أو غيره هل له أجر من الله تعالى؟
الجواب
أما إن كان هذا الإنسان تاركاً للصلاة بالكلية، كما هي حال بعض الناس لا يصلون قط، ومع ذلك يصومون، فهؤلاء على القول الراجح عند جماهير أهل العلم أنهم ليسو بمسلمين، ولا ينفعهم صومهم ولا عبادتهم، لأن الله تعالى يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} وقال: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} أما إن كان يصلي ويترك، يصلي أحياناً ويترك أحياناً، فهو على خطر عظيم، وقد أتى باباً من أبواب الكبائر، ويخشى أن يختم له بسوء، ويخشى ألا يقبل منه عمله، فإن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فعليه أن يتوب إلى الله تعالى ويراجع دينه، ويحرص على الصلاة، بل يكون مع المسلمين في صلواتهم {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] .(34/37)
استعمال الفكس للصائم
السؤال
الفكس هل يفطر أم لا؟
الجواب
كل الروائح بمجردها لا تفطر، لكن ينبغي للإنسان أن يحرص على أن الأشياء التي تكون رائحتها نفاذة ألا يقر بها من أنفه محافظة على صيامه، ومثل ذلك أيضاً ما ذكرته من موضوع البخور الذي يحرق بالنار.(34/38)
الإسراف بالمال أثناء العمرة
السؤال
يقول: بعض الناس يذهبون إلى العمرة ويستأجر أحدهم سكناً بعشرات الآلاف، ولو أنه تصدق بهذا المبلغ على فقير لكان خيراً له؟
الجواب
سبق أن ذكرت أن السفر إلى العمرة وإطالة البقاء هناك، مع إهمال الولد فيه مضرات كثيرة، ولو أن هذا الإنسان ذهب وأدى العمرة، وحصل على الأجر تعدل حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة في شهر رمضان الكريم، ثم وفر بقية المبلغ للفقراء والمساكين والمحتاجين وأهل الديون، أو لأصحاب الجوائح العامة، والشعوب المسلمة المستضعفة التي تعاني؛ لكان ذلك خيراً له.(34/39)
سجدة التلاوة أثناء السفر
السؤال
ما حكم سجدة التلاوة أثناء السفر؟
الجواب
إذا كان الإنسان في سيارة، وهو يقرأ القرآن فوصل إلى موضع سجدة، فإن كان يقود السيارة فإنه لا يسعه أن يسجد حينئذٍ، لأن السجود قد يكون سبباً في حادث يضره أو يضر غيره، أما إن كان راكباً وقرأ فإنه حينئذ يسجد بحسب وسعه، ولو أن يضع يديه وجبهته على ما أمامه، ويسبح الله تعالى.(34/40)
جمع التبرعات في الحرم
السؤال
ما حكم جمع التبرعات في الحرم المكي الشريف، خاصة في العشر الأواخر لصالح المسلمين المتضررين؟
الجواب
يا ليت أن يكون هذا، ولكن إذا لم يتيسر هذا على النطاق العام، فلا حرج عليك أنت أن تبذل وسعك في جمع التبرعات للمسلمين بكل مناسبة.(34/41)
حكم الماء النازل من البدن أثناء غسل الجنابة
السؤل: هل الماء النازل عن الجسم أثناء الغسل من الجنابة نجس أم لا؟ بمعنى: إذا لامس الملابس المعلقة النظيفة تكون نجسة؟
الجواب
هذا المال النازل من البدن، إن وقع على نجاسة في البدن مثل البول فإنه يكون نجس، أما إذا لم يقع على نجاسة بمعنى أن المغتسل قد طهر موضع النجاسة أولاً ثم اغتسل بعد ذلك، فإن الماء النازل من البدن لا يكون نجساً، ولا ينجس الملابس التي يقع عليها.(34/42)
الأسباب الشرعية في العلاج
السؤال
لقد ابتلاني الله تعالى منذ سنتين بمرض، ولقد راجعت قرابة عشرة أطباء لكنهم لم يجدوا شيئاً وما زلت أشكو من هذا المرض، فأرجو الدعاء لي بالشفاء، لعل الدعاء بتأمين الحاضرين يكون مستجاباً؟
الجواب
أولا: عليك أن تدعو الله تعالى لنفسك كما أسلفت، فلن يكون أحد أنصح منك لنفسك، ولا حرج أن تستخدم الأسباب الشرعية، ومنها الرقية، فإنها ربما تنفع، وقد قرأ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه سورة الفاتحة على لديغ، فبرأ وقام كأنما نشط من عقال، ثم إني أسأل الله تعالى لك ولسائر مرضى المسلمين أن يشفيهم ويعافيهم، إنه على كل شيء قدير.(34/43)
الاهتمام بقضايا المسلمين
السؤال
إنكم قد تحدثتم عن المسلمين في كل مكان، ألا يستحق الجهاد في فلسطين والمجاهدين مثل هذا الحديث؟ وتذكير المسلمين بوجوب تحرير الأقصى من أيدي اليهود، وبذل الغالي والنفيس من أجل ذلك، فقد جمعت التبرعات للمجاهدين في العالم، ونسيتم مجاهدي فلسطين فقد نسيتموهم حتى من الدعاء؟
الجواب
ندعو الله تعالى أن ينصر إخواننا المجاهدين في فلسطين، ونسأله جل وعلا أن يحرر المسجد الأقصى من رجس اليهود، ونسأل الله تعالى أن يقر عيوننا برؤية كتائب الجهاد، وهي تدق أبواب هذا البلد المبارك، وتطهره من رجس اليهود، فنحن لم ننس هؤلاء الإخوة، فهم يعيشون معنا وفي قلوبنا، وإني أشكر الأخ الكريم الذي كان محامياً عن قضية من قضايا المسلمين، وهكذا يجب علينا جميعاً، فإن الجراح كثيرة والألم أكثر، فربما في غمرة ذلك قد يكون الأمر كما قيل: تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد ولكن علينا أن نكون مدافعين عن قضايانا، ومذكرين بها، وأنا أطالب الإخوة الذين يحملون هم جرح معين أن يبذلوا وسعهم في سبيله، فالإخوة الفلسطينيون -مثلاً- عليهم أن يكونوا دائماً وأبداً مذكرين بقضيتهم في كل مكان، والإخوة من بلاد المغرب كذلك والإخوة من البوسنة كذلك، والإخوة من الصومال كذلك والإخوة من الفلبين كذلك، بحيث تظل قضايا المسلمين تعيش في وجداننا وفي حياتنا، وسأحاول إن شاء الله أن أخصص وقتاً لذلك.(34/44)
حديث الركب
تحتوي هذه المادة على مجموعة من المتفرقات، منها دعوية ومنها أخبارية، ومنها سياسية، فقد تحدث عن العطلة الصيفية، ثم تكلم عما يحدث بالمسلمين في بقاع الأرض، ثم تحدث عن أخطار محدقة بالأمة الإسلامية.(35/1)
التصحيف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] أما بعد عباد الله! فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذا المجلس الرابع والستون من الدروس العلمية العامة في هذه الليلة، ليلة الإثنين الثاني والعشرين من شهر الله المحرم من سنة (1413هـ) وعنوان هذا المجلس (حديث الرَّكْبِ) .
والركب: جمع راكب، والمقصود بهم: جماعة المسافرين، فإن القوم إذا كانوا في سفر فإنهم يعزفون كثيراً عن الأحاديث الثقيلة الطويلة، ويحرصون على الأحاديث القصيرة المختصرة المتنوعة؛ رغبةً في أن يقطعوا عنهم عناء الطريق، وهذا ما قصدته وأشرت إليه بهذا العنوان، أي أن حديثي إليكم الليلة سيكون على نمط أحاديث سابقة، مثل: "من هنا وهناك" أو "ثمرات الأوراق" وما شابه ذلك.
مع أن هذا الحديث سيكون فيه من الموضوعات والأحداث والأحوال ما تنوء بحمله الجبال وما تهتز له القلوب، وما تدمع له العيون، ولكن المقصود على كل حال هو التنويع لا غير، وقد قرأ بعض الإخوة العنوان خطأً فقرءوه حديث الرُكَب -بضم الراء وفتح الكاف- ثم ذهبوا في تفسيره كل مذهب وقالوا: جمع ركبة، وظنوا أنه يتعلق بأحاديث واردة في موضوع الرُكَب سواء في الصلاة أو في غيرها.(35/2)
كلام السلف في تلقي العلم عن الكتب
ولذلك كان السلف رحمهم الله يقولون: لا يؤخذ القرآن من مصحفي ولا العلم عن صحفي، أي أن الذي أخذ علمه عن الأوراق والقماطر، ولم يثنِ ركبته عند أهل العلم كثيراً ما يقع في الخطأ والوهم والتحريف والتصحيف لسوء فهمه وقلة علمه وضبطه، ومما يذكر في هذا الباب -وقد ألف فيه كثيرون من أهل العلم منهم الإمام العسكري صنف فيه كتباً منها تصحيفات المحدثين- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: [[لا يورث حميلٌ إلا ببينة]] أي أن الحميل الذي يحمل من بلاد الروم أو غيرها ولا يعرف أهله؛ فإنه لا يرث من ادعاه إلا أن يأتي ببينة على أنه ابنه أو قريبه، فصحفها بعضهم وقرأ هذه الكلمة هكذا " لا يرث جميل ٌ إلا بثينة " ومع ما فيها من الخطأ النحوي فإن فيها الخطأ المعنوي الكبير، ومن المعروف ما بين جميل وبثينة من العلاقة، وكأن هذا المحرف المصْحِّفْ جعل بثينة ترث جميلاً.
وقد ذكر الإمام العسكري شيئاً كثيراً مما يتعلق بتحريفهم في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتصحيفهم له، ثم انتقل إلى بابٍ آخر أوسع وأخطر وهو تحريفهم لآيات الله سبحانه وتعالى وسوء قراءتهم لها، وفي ذلك الكتاب الذي أشرت إليه شيءٌ كثير.(35/3)
الشباب والإجازة
ولا أقول نحن الآن على أبواب الإجازة، بل قد دلفنا إليها، وقد مضى منها أيامٌ أو أسبوع أو أكثر من ذلك، وهاهنا يتطلب الأمر حديثاً طويلاً لا أريد أن أفيض فيه الآن، فقد سبق وأن تكلمت عنه قبل سنة أو أكثر بعنوان (ماذا في الإجازة) ولكنني أشير إلى أمور سريعة فحسب.(35/4)
واجبات الشباب الذين يبقون في بلادهم
ملاحظة ثانية: إن كثيراً من الشباب يبقون في بلادهم هنا، ويتساءلون ماذا نصنع، وماذا نعمل؟ فأقول: ما أكثر المجالات والميادين التي تحتاج إلى جهود الشباب حتى وهم في بلادهم! فأما دروس العلم وحلق الذكر فهي كثيرة بحمد الله، جداً فيحرص الشاب أن يجعل برنامجه في هذه الإجازة حفظ شيءٍ من كتاب الله عز وجل، فإن لم يكن أو قد حفظ القرآن الكريم فحفظ شيءٍ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوف أتحدث في نهاية هذا المجلس -إن شاء الله تعالى- عن برنامج جديد لتحفيظ السنة النبوية، فإن لم يكن فعليه أن يثني ركبه في مجالس أهل العلم مدارسةً ومذاكرةً وسؤالاً واستماعاً وغير ذلك، فإن لم يكن فاشتراكاً في بعض المشاريع الخيرية، والمراكز الصيفية، والجولات الوعظية، التي تذهب إلى سائر البلاد لتعليم الكتاب والسنة، وتعليم الناس أمور الاعتقاد وأمور التعبد وغير ذلك، فإن لم يكن هذا ولا ذاك أو مع هذا كله فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسواق مع مجموعة من أهل الخير، فإن وجدوا منكراً غيَّروه بالكلمة الطيبة والأمر المناسب في الأسواق، والأندية، والحدائق وأماكن تجمعات الشباب، ترتادون هذه الأماكن وتجلسون مع أصحابها تباسطونهم في الحديث، وتدعوهم إلى الله عز وجل، وتزيلون هذه الوحشة الموجودة في قلوب أهل الخير، وتهدونهم الكتاب المفيد والشريط النافع، وتدعونهم إلى مجالس الذكر وإلى المساجد وحلق العلم، وتذكرونهم بالله تعالى، وتحدثونهم عن أوضاع إخوانهم المسلمين في كل مكان.
وما أحوج الشباب إلى مثل هذه الأمور! خاصةً وأنهم في الإجازة يتفرغون فيتجمعون على الأرصفة وفي الحدائق والأسواق وفي غيرها، ولربما لا توجد جهات رسمية تقوم بالاتصال بهم أو دعوتهم أو منع أي تجاوز أو مخالفة، وإن وجد شيئاً من ذلك فهو قليل، فما أحوجنا إلى المحتسبين المتبرعين الذين ينذرون أنفسهم لوجه الله تعالى في مثل هذه السبل، وفي مثل هذه الميادين! هذه وقفة سريعة مع موضوع الإجازة والكلام فيها كما أسلفت يطول.(35/5)
زيارة المسلمين في بقاع الأرض
أولاً: يتجه كثير من الشباب الصالحين في مطلع الإجازة إلى زيارة المسلمين في بلادٍ شتى كجمهوريات الاتحاد السوفيتي، أو المسلمين في يوغسلافيا، أو غيرها من البلاد سواء بجهود شخصية، أو عن طريق بعض الجامعات، أو عن طريق هيئة الإغاثة، أو عن طريق غيرها، وبكل حال فإن هذا أمرٌ طيب ومواصلة المسلمين هناك أمر مطلوب، ودعوتهم إلى الله عز وجل ونشر العلم الصحيح هي من أهم المهمات.
إننا نجد -أيها الإخوة- أن من أصحاب الاتجاهات المنحرفة من الصوفية والرافضة وغيرهم يبذلون جهوداً كبيرة لتغيير عقول المسلمين هناك، وقد وقفت من ذلك على شيء كثير مما كتبوا وصنفوا وألفوا وسجَّلوا، فقيام أهل السنة والجماعة، وأصحاب الاتجاهات الصحيحة بزيارة إخوانهم هناك، ودعوتهم إلى الله عز وجل، ومساعدتهم هو من منافسة أهل الشر بالخير، ومقاومة الباطل والضلال بالهدى والقرآن الذي أنزله الله تعالى هدى للناس وبينات، وواجب على الأمة المسلمة، وواجب على القادرين من الشباب وغيرهم، لكن ينبغي أن يراعى في هذا أمور: أن الإنسان يذهب إلى بلاد لا يعرفها فهو يحتاج إلى أن يكون عنده وعيٌ ويقظة وخوف يمنعه من الوقوع في الحرام، فلا يذهب بمفرده، ولا يذهب إلا من يعلم من نفسه يقيناً وقوةً وصبراً وثباتاً في مواجهة الفتن ومواجهة المغريات والشهوات.
كذلك ينبغي أن يعرف أنه يذهب إلى بلاد يكثر فيها النصب والاحتيال والتستر، فلا ينبغي أن يذهب الإنسان وهو طيب القلب سليم الطوية ومعه مالٌ جمعه من المسلمين فيعطيه لأي إنسان يحسن به الظن، بل ينبغي أن يستفيد من خبرة من سبقوه إلى هناك، وألا يقع في بعض الشباك والفخاخ التي تنصب لكثير ممن يأتون إلى كثير من البلاد الإسلامية.
أمر ثالث: إنه ينبغي أن يحدد الإنسان ما هو الهدف الذي يذهب من أجله، هل هو يذهب من أجل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وتعليم الكتاب والسنة، أم يذهب إلى إغاثة محتاجين وملهوفين ومشردين، أم يذهب للاستطلاع ومعرفة الأوضاع هناك، فلابد أن يحدد الهدف الذي من أجله ذهب حتى لا تذهب به الرياح يمنةً ويسرة.(35/6)
التطرف
قضى الله سبحانه وتعالى فيما سبق من أسابيع ويسر إلقاء محاضرتين: إحداهما في جدة والأخرى في مكة أما المحاضرة التي في جدة فقد يسر الله تعالى أن ألقيتها في جامع الإسكان في العاشر من المحرم، وكانت بعنوان (حقيقة التطرف) وموضوع هذه المحاضرة واضح، ولا أتحدث عما قلته فيها فهو موجود لمن رغب أن يستمع إليه.(35/7)
فرج فودة وأفكاره وكتاباته
النقطة الرابعة في موضوع التطرف أيضاً: من القضايا التي أثارت التطرف أن هناك كاتباً مصرياً اسمه فرج فودة هذا الكاتب قتله بعض الشباب الذين ينتسبون إلى إحدى الجماعات الإسلامية، أو هكذا قالت أجهزة الإعلام وأجهزة الأمن هناك، وقامت الدنيا ولم تقعد من أجل فرج فودة وتكلموا عنه أنه شهيد الكلمة، وبدءوا يترحمون عليه ورفع، حتى إن رئيس الدولة طلب أن تطبع كتبه كلها على نفقته وتوزع بالمجان، ولو قرأ أي إنسان أي صحيفة أو مطبوعة لوجد أنها تثني على هذا الرجل، وتتكلم عنه وتعتبره مثالاً ورمزاً للفكر والعقل والمنطق.
فلننظر الآن فرج فودة هذا الذي غضبوا من أجله ومن أجل قتله من يكون، دعونا من تاريخ فرج فودة، ومتى ولد، ومتى مات، وما هي المناصب التي تقلد فيها لأن الموضوع طويل، لكن لـ فرج فودة مجموعة من الكتب منها: ما قبل السقوط، الحقيقة الغائبة، حوار حول العلمانية، الطائفية إلى أين، الإرهاب، حوارات حول الشريعة، وله عدد كبير من المقالات المطبوعة في الصحف والمجلات الحكومية، إلى جانب صحيفتيالتجمع والأحرار، بالإضافة إلى مقالاته الأسبوعية (كلام في الهواء) التي تنشر في مجلة أكتوبر، وكان ضيفاً ثابتاً على التلفزيون المصري.
هل فرج فودة مسلم؟ بداية للجواب على هذا السؤال أقرأ عليكم بعض كلامه، أنا لا أحكم على فرج فودة فهو قد قدم إلى ربه عز وجل، وأترك الحكم عليه إلى كل إنسان عادل يسمع الكلام الذي سوف أقرؤه الآن، يقول: إن القوانين الوضعية تحقق المصلحة للمجتمع أكثر من الشريعة الإسلامية، هذا في كتاب الحقيقة الغائبة، ويقول: ورأيي أن القانون الوضعي يحقق مصالح المجتمع في قضايا الزنا أكثر مما ستحققه الشريعة لو طبقت، أيضاً في الحقيقة الغائبة (ص:121) .
وعن القانون الحالي في مصر يقول: إنه يعكس احتياج المجتمع المعاصر بأقدر مما تفعله الشريعة، ويقول: ببساطة أنا ضد تطبيق الشريعة فوراً أو حتى خطوة خطوة؛ لأنني أرى أن تطبيق الشريعة لا يحمل في مضمونه إلا مدخلاً لدولة دينية.
هذا في كتاب حوارات حول الشريعة، (ص:11) ويقول: إن الدعوة إلى إقامة دولة دينية في مصر تمثل ردة حضارية شاملة بكل المقاييس.
الطائفية إلى أين (ص:20) .
وقد سخر الرجل قلمه ولسانه بصورة بذيئة لمنع تطبيق الشريعة الإسلامية، وتطاول الرجل على عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، وقال عنه: إنه كان يسرق بيت المال.
هذا في كتاب الحقيقة الغائبة (ص:60) وكان فرج فودة يدعو للتعايش مع إسرائيل، وبدأ هو بنفسه في التعامل بالاستيراد والتصدير، حيث يمتلك شركة تعمل في هذا المجال، وكان يعترف بأن السفير اليهودي في القاهرة صديقه، ويعد هذا الرجل من أبرز دعاة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وجاء تأسيسه لحزب اسمه حزب المستقبل في هذا الصدد، ومما يقوله: إن المنطقة مقبلة الآن على السلام الذي ليس له إلا أسلوب واحد، وقد وضع الرجل نفسه أمام الرأي العام بكل وضوح أنه ضد قيام الدولة الإسلامية وضد تطبيق الشريعة، وكان ذلك واضحاً كل الوضوح.
في مناظرة أخيرة عقدها مع أحمد محمد خلف الله في معرض الكتاب في هذا العام، وفي مواجهة محمد الغزالي ومأمون الهضيبي ومحمد عمارة وهم دكاترة يمثلون الاتجاه الآخر، يتكلمون باسم الاتجاه الإسلامي، في هذه المناظرة أثار حنق الكثيرين من عامة الشعب، ومن المؤمنين على وجه الخصوص وأصحاب الاتجاه الإسلامي.
يقول فرج فودة: إن أعضاء اللجنة التشريعية في مجلس الشعب المصري قد أصيبوا باكتئاب شديد، قال لأنهم طالبوا بتحريم سفور المرأة، ومنع الشذوذ الجنسي، ومنع الزنا بالتراضي، وعندما حدثت حادثة الأتوبيس بالعتبة وهي قضية اعتداء علانية على عرض امرأة، كتب مقالاً فيه سخر فيه ممن قالوا: إن سبب الحادثة هو السفور والتفسخ في العلاقات، وفقدان الحشمة في الملابس النسائية، وقال: إن سبب هذا الحادث هو التطرف الديني.
وللكاتب مواقف مشهودة ومشهورة من مظاهر التدين العامة كالحجاب، واللحية، ومحاربة الاختلاط وغيره، وقبل وفاته بأيام تقدم بمشروع للرئيس المصري يطالب فيه بوضع فقرة في الدستور لمحاربة الإرهاب الديني، قد أقر الآن، برنامج نظام لمحاربة الإرهاب والتطرف الديني، في مجلس الشعب وهو موضع التنفيذ هناك.
على أي حال من ضمن ما يقوله أيضاً: إن ابن تيمية قد هددني بالقتل، رغم أنه مات قبل قرون - لا يزال الكلام له- إلا أنه ما يزال سيفه مصلتاً على رقابنا يهددنا جميعاً بالقتل، لذلك أرسلت لبعض علماء الأزهر وقلت لهم: لماذا لا نعيد محاكمة ابن تيمية؟! وعلماء الأزهر هؤلاء الذين يطالبهم بمحاكمة ابن تيمية ماذا يقول عنهم؟ إنهم نالوا نصيباً من شتائمه وسبابه حتى طالت بنادقه شيخ الأزهر نفسه، وطالب بجلد شيخ الأزهر في ميدانٍ عام.
كما هاجم أيضاً الدكتور يوسف القرضاوي والشعراوي وغيرهم، وملأ كتبه باللمز والهمز على الصحابة والتابعين، فليس غريباً أن يتكلم في بعض المشايخ أو بعض العلماء، أو بعض المنتسبين إلى العلم.
هذه المؤهلات التي كتبها وقالها جعلته الكاتب المفضل عند الأقباط النصارى، لأنه يعلن ما لا يقدرون هم على إعلانه، حتى إن شنودة نفسه أعلن مرات أنه معجب بكتابات فرج فودة، ولما طلب منه أن يبعث بشخص يمثل الأقباط في أحد المرات رشح فرج فودة، وقال: فرج فودة يمثلنا.
وفي كتابه الطائفية إلى أين يقول: إن البرامج الدينية تمثل اختراقاً للإعلام، وخطراً على مدنية الدولة، ويعتبر أن الإعلام في مصر التلفاز والإذاعة والصحف وغيرها تشجع الفتنة الطائفية بإذاعتها للأذان، ويقول: هذا تراجع إعلامي أمام المد الديني، ويرى أنه من الخطأ الفادح الذي وقع فيه المشرفون على التلفزيون، أنهم أعطوا مساحات كبيرة من ساعات الإرسال للبرامج الدينية خاصة للشعراوي في تفسيره وأحاديثه، كما هاجم بعنف إدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة هناك؛ لأنها اصطبغت بالصبغة الدينية، ويتعجب كيف سمحت لمجلة المجاهد بالانتشار في صفوف أفراد القوات المسلحة، كما هاجم العلماء الذين حرموا الربا، وتحفظوا على فتوى مفتي مصر بإباحة شهادات الاستثمار ووصفهم بأنهم فقهاء النكد، وقال: يجب أن نضحي بتطبيق الشريعة بالكلية حتى لا نخدش مشاعر النصارى.
قال هذا في جريدة الأهالي.
وهجم على منظمة حماس الفلسطينية، وقال: إنها نجحت في تقسيم الصف الفلسطيني لأول مرة، ونجحت في تقليص إعلام دمشق وعندما حدثت أزمة حلايب بين مصر والسودان كتب يقول: أهلاً ومرحباً -يعني بالخلاف- ويدافع عن جون قرنق في جنوب السودان.
هذه بعض الكلمات والمقالات التي كتبها وقالها.
من الأشياء الطريفة: يقول محمد زكريا وكيل أحد الأحزاب هناك: ذهبت إلى فرج فودة عام 1990م وقلت له: أخشى عليك أن يهدر دمك مجنون، ويحكم عليك بالموت متصوراً أنه يضحي بنفسه من أجل الإسلام والمسلمين، يقول: خوفته بهذا، فالتفت إليّ بعد أن انقبض وجهه وقال: تفتكر أنه يمكن يحدث ذلك؟ قلت له: كل شيء ممكن، إذا اعتقد القاتل أنه قتلك في سبيل الله ممكن، قال: فقام من مقعده وتوجه إلى الشرفة، ورفع حصيرة الشيش وقال: اطمئن الحكومة موفرة حماية كبيرة عند المنزل وعند المكتب، وأشار إلى مكتب المباحث القريب منه، وقال: انظر هذا الكشك الذي أمام المكتب وعلى ناصية كلية البنات، أقامته المباحث لحمايتي، وعند مدخل العمارة يوجد حراسة، قلت له: -وهذا وكيل أحد الأحزاب وليس من المنسوبين إلى الاتجاه الإسلامي- قلت له: إذاً هذا معناه أن هناك تحريضاً لك، وأن هناك من يشجعك ويقول لك: استمر ونحن نوفر لك الحماية، في الوقت الذي فشلوا في حماية رأس السلطة السابقة يعني أنور السادات فقال: لا، إن رسالتي هي أن أنقي الإسلام من خطايا المسلمين، يقول: قلت له: أخشى عليك يا فرج من نفسك.
إذاً نخلص من هذا الكلام إلى أن الذين قتلوا فرج فودة هم الذين دفعوه إلى أن يهاجم الإسلام والمسلمين وأن ينال من دين الله عز وجل، وقالوا له: نحن نوفر لك الحماية، وقل ما شئت، ودافع عن اليهود، ودافع عن النصارى، ودافع عن العلمانيين، وهاجم الإسلام والمسلمين والصحابة والشريعة والدولة الإسلامية، وتكلم عن التطرف والمتطرفين، ونحن سوف نحرسك ونحفظك منهم، فهؤلاء هم الذين قتلوه حقيقة وإن كانوا قد ألصقوا التهمة بمن يسمونهم بالمتطرفين.
وبمناسبة ذكري لهذا التقرير المطول الذي اجتزأت منه، فإني أشكر الأستاذ عبد الله الوهيبي الذي أرسل لي بهذا التقرير الوافي عن هذا الرجل بناءً على محادثة بيني وبينه.(35/8)
مقال نشرته جريدة صوت الكويت
النقطة الثالثة التي تتعلق بموضوع التطرف: مقال نشرته جريدة صوت الكويت في (6/1/1413هـ) عنوانه: حب الوطن والتكفير ووزارة التربية، والمقال غريب يقول فيه: أنه نقل نصاً من كتاب التربية الإسلامية المقرر على الصف الثاني متوسط يقول هذا النص: (وطني أغنى الأوطان، فيه خيرات كثيرة يحاول اغتصابها أعداؤنا الكفرة من أمم الكفر أمريكا وروسيا وإسرائيل وسوف أدافع عن وطني) انتهى النص.
بعد ذلك علق عليه هذا الكاتب يقول: مع احترامي وتقديري لكل الأساتذة أقول لهم: 1- ليس من حقكم أن تحكموا على الناس بالكفر!! فما عادت القضية أن تكفر المسلم الذي ارتكب مكفراً، بل حتى الكافر واليهودي والنصراني والبوذي والوثني لم يعد اليوم من حقك -في نظر هؤلاء- أن تقول له: كافر! والله تعالى يسميهم كفاراً ويقول: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [البينة:6] إلى غير ذلك من النصوص الصريحة في كفر اليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم، وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة الذي لم يختلف عليه المسلمون قطعاً، ومع ذلك يقول هذا الإنسان: ليس من حقكم أن تحكموا على الناس بالكفر.
2- إسرائيل وشعبها يدينون بالتوراة، وهو كتاب أنزله الباري على سيدنا موسى عليه السلام، وبالتالي فهم أبناء عمومتنا من أهل الكتاب وليسوا من أهل الكفر.
3- أمريكا وشعبها يدينون بالمسيحية، وكتابهم هو الإنجيل الذي جاء به سيدنا عيسى عليه السلام ناصحاً وهادياً لليهود، ولاقى في سبيل دينه وكتابه ما لقي من تعذيب وتشريد واتهام، ومن ثَمَّ صلب على أعواد المشانق، فهم ليسوا من أهل الكفر، وإنما يؤمنون بالله واليوم الآخر.
وقبل أن أواصل قراءته أذكركم بأن هذا المسكين نسي أنه سب اليهود من حيث لا يدري؛ لأنه من هو الذي تعرض لعيسى عليه السلام، ومن هو الذي كذبه، ومن هو الذي اتهمه، ومن هو الذي آذاه وعذبه وشرده وزعم أنه صلبه؟ إنهم اليهود، ولو تذكر هذا الإنسان أن الذين فعلوا هذه الجرائم هم اليهود ما قال الذي قال، لأن التطبيع الآن وعلاقات السلام -مع أبناء عمومته كما سماهم- تستدعي أن لا يذكر تاريخ اليهود المليء بالحقد على الأنبياء والقتل والتشريد والإيذاء والاعتداء عليهم.
ثم قال: ومن ثم صلب على أعواد المشانق وربنا عز وجل قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] ويقول: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:157-158] فيا سبحان الله! أن تجد إنساناً يحمل اسماً إسلامياً وينتسب إلى بلاد إسلامية، وأن تجد جريدة تصدر باللغة العربية وفي بلادٍ عربية وتباع في بلاد المسلمين كلها، وفي هذه البلاد أيضاً، ثم تنشر مثل هذا الكلام المخالف نصاً لكلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وعقيدة المسلمين منذ أن وجد الإسلام إلى اليوم، ثم يمضي الأمر وكأن شيئاً لم يكن.
4- وهو الآن أحرج لأنهم تكلموا عن روسيا وروسيا كانت بلداً شيوعياً، فماذا يريد أن يقول عن روسيا؟ هل يريد أن ينفي عنهم الكفر أيضاً، قال: روسيا لم يكن نظامها السياسي، وتركيبتها الاقتصادية، وفلسفتها الاجتماعية لم تكن تؤمن بالأديان قاطبة، ولكن الشعب الروسي خليط من الأديان الثلاثة الإسلام واليهودية والمسيحية، ويسبحون في ملكوت الله ويصلون في قرارة أنفسهم ليل نهار ويتجهون إلى الله صباح مساء تبارك الله رب العالمين، ثم يقول: إذاً لماذا اتهام الناس بالكفر وهي تهمة بغيضة شنيعة، وإذا كانت أمريكا من أمم الكفر كما يصف هذا الكتاب المقرر على أولادنا فكيف يفسر مدرس هذه المادة موقف أمريكا من تحرير الكويت المؤمنة المسلمة وهي الدولة الكافرة؟! وعلى افتراض أن أمريكا وشعبها من الكفار الزنادقة، هل كنا نرفض موقفهم المؤيد لنا ومساعدتهم لتحرير الكويت؟ وهل كنا سنضحي بالكويت من أجل أن أمريكا التي سوف تحررنا هي من أمم الكفر؟ أقول: يبدو من هذا الكلام أن هناك مجموعة نشأت ليس في الكويت فحسب، بل في العالم الإسلامي لم يعد الميزان عندها هو القرآن والسنة ولا الإسلام، وإنما الميزان عندها هي قضية الكويت فمن وقف معهم في أزمة الكويت فهو حبيبهم وصديقهم الذي ربطوا به حاضرهم ومستقبلهم، ومن سكت أو وقف ضدهم أو تحفظ أو كان معهم ولكن بالحق، فهذا هو عدوهم الذي لا يقبلون منه صرفاً ولا عدلا.
ولهذا لم يعد غريباً أن نجد على الجماعات الإسلامية، وعلى بعض الدول الإسلامية، هجوماً شنيعاً بالحق أحياناً وبالباطل في الغالب، في المقابل الذي نجد فيه مثل هذه اللهجة الغريبة جداً مع إسرائيل وأمريكا أو روسيا مع أمم الكفر الذين سماهم الله عز وجل كفاراً، ولم يسمهم أحد من عند نفسه.
أما قضية موقف أمريكا فهذا عجبٌ من العجب، هل قال أحد في الدنيا كل الدنيا أن أمريكا تدخلت في الكويت لأنها بلد مؤمن يحمي الإيمان ويحمي السلام ويحمي العدالة؟ أبداً! أمريكا تدخلت من أجل مصالحها، وهذا ليس سراً يقوله الجميع، ولعلكم تعرفون أن هناك أديباً ودبلوماسياً كبيراً من هذه البلاد كان يكتب أثناء الأزمة يومياً، وقد كتب فيمن كتب، وقال: لا أحد ينكر أن تدخل الغرب في أزمة الخليج كان من أجل حفظ مصالحهم ولا شيء في ذلك، إذاً هذا ليس سراً وليس موضع اختلاف.(35/9)
مقال نشرته صحيفة روز اليوسف
أمرٌ آخر: نشرت صحيفة مصرية اسمها روز اليوسف مقالاً طويلاً عما أسمته التطرف المسيحي، وقالت: إنه كما يوجد متطرفون في الإسلام، هناك متطرفون في المسيحيين، وذكرت جماعة التكفير والهجرة عند النصارى ومن يرأسها ومعلومات كثيرة، الغريب في الأمر أنها تكلمت مع زعيم من زعماء الأقباط يسمى البابا شنودة وكان يتكلم بقوة، وقال لا يوجد تطرف مسيحي أو نصراني أبداً! ولو وجد لكانت أجهزة الأمن المصرية قد قبضت عليه وأصبح يدافع عن بني قومه.
وأقول: يا ليت أن يوجد في المسلمين وعلمائهم هناك وفي كل مكان من يدافع عن أعراض المسلمين، والذين يزج بهم في السجون ويعلقون على أعواد المشانق، وتصدر الآن القوانين والأنظمة الرسمية التي تعطي رجل الأمن الحق في قتل المسلم في الشارع، ويقول رئيس دولة إسلامية كبرى: مش عاوزين محاكمات ووجع رأس، نريد أي إنسان متطرف يضرب بالرصاص في الشارع وننتهي من أمره، لا نريد تحقيقات وأخذ ورد.
وقد أصدرت مصر كما سمعتم جميعاً ما أسمته بالتنظيم المتعلق بمحاربة التطرف كبرنامج أو جدول قد أقرته وأصبح الآن موضع التنفيذ، فيا ليت أنه يوجد من علماء الأزهر، أو من علماء الإسلام من يدافع عن حقوق المسلمين هناك، كما دافع ذلك القبطي النصراني عن حقوق بني قومه وبني جنسه وبني دينه من النصارى.
والغريب أن -مجلة روز اليوسف - ذكرت بعد هذا التقرير مقالاً مختلقاً ووضعته أيضا على الغلاف الرئيسي، ومع هذا كله فإنها بيعت وتداولت وقرأها الناس هنا وهناك، هذا الخبر المختلف يتعلق بدير يوجد في سينا اسمه سان كاتريك، قالت المجلة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حفظ لهذا الدير مكانته وكرامته بخطابٍ موجود محفوظ وبشهادة عشرين من الصحابة، ثم ذكرت خطاباً مكتوباً تزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتبه، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي قام بخطه، وأن عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شهدوا عليه، وأن هذا الخطاب وجد في ذلك الدير الموجود في سينا.
وقد صدّقت الصحيفة هذه الرسالة ونشرتها، وقالت: هذا دليل على حماية الرسول صلى الله عليه وسلم للأقباط والنصارى وحفظ كرامتهم، وأن المتطرفين في مصر وغيرها يخالفون هدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونحن نقول: الإسلام يحفظ كرامة الإنسان، وأهل الذمة في الإسلام لهم حقوقهم المعروفة، وقد تكلم عنها العلماء قديماً وحديثاً، وممن تكلم عنها الإمام الفذ ابن القيم رحمه الله في كتاب أحكام أهل الذمة وهو مطبوع في مجلدين، وممن تكلم عنها من المعاصرين الدكتور عبد الكريم زيدان وهو فقيه عراقي في كتاب ضخم سماه أحكام الذميين والمستأمنين ولكن مَنْ قال: إن النصارى في مصر أو غيرها قد حفظوا الأمانة ورعوا العهد؟! وصلتني رسائل تقول: إن النصارى يقتلون المسلمين ويعتدون عليهم، بل ويعتدون على أعراض المسلمات، ويوجد في الجامعات هناك وفي بلادٍ أخرى شبكات نصرانية مهمتها اصطياد الفتيات المؤمنات والإيقاع بهن وتصويرهن على أوضاع سيئة، ثم تهديدهنَّ بأن ينخرطن في تيار الفساد والرذيلة والبغاء، وإلا فضحوهن على رؤوس الأشهاد ولدى أقاربهن ومحارمهن، فضلاً عن نشر المخدرات وغيرها، وكل القائمين بكل بهذه الأمور هم من النصارى.
مَنْ قال: إن الأقباط والنصارى في مصر أو في غيرها قد حفظوا العهد والميثاق؟! وهم يكتبون كثيراً كتابات تنال من الإسلام ومن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل من رب العزة عز وجل فضلاً عن المسلمين؟! ومن المعلوم أنه لو فرض أن هناك يهودي أو نصراني له عهد وميثاق فسب الله ورسوله، فإنه ينتقض عهده وميثاقه بذلك.
ثم مَنْ قال: إن الأمر الذي يحدث هو مجرد صراع بين النصارى والمسلمين؟! وأن الحكومة تحاول إيقاف ما يسمى بالفتنة الطائفية؟! إنني متأكد أن المقصود أن يثبت بعض من ينتسبون إلى الإسلام للغرب ويقدموا له شهادة حسن السيرة والسلوك، أنِ انظروا في أي مشكلة تحصل بين المسلمين والنصارى نحن نقف مع النصارى ضد المسلمين، هذا هو الذي يراد أن يقال، هي رسالة للغرب ولأمريكا بالذات، أنه نحن الآن علمانيون بما فيه الكفاية، ونحن لا نفرق بين المسلم والنصراني، بل على العكس نحن نقف مع النصراني ضد المسلم، ولذلك لم نجد ولا صحيفة مصرية واحدة تكلمت عن حقوق المسلمين المسلوبة، ولا -على الأقل- أفسحت المجال لهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ولكن كانت جميع الصحف تدافع عن النصارى؟ لأنها تمثل الرأي الرسمي.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] هذا حكم الله عز وجل: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] يخشون من النظام الدولي الجديد {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52] ولا شك أن هذه الوثيقة التي نشرتها مجلة روز اليوسف ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وثيقة مكذوبة مختلقة لم يذكرها أحد من أهل العلم بالتاريخ والأخبار فضلاً عن المحدثين وغيرهم، فهي وثيقة مختلفة مزورة، وهي تشبه الوثيقة التي زورها اليهود، وأشهدوا عليها مجموعة من الصحابة، ثم ثبت أنها وثيقة مختلقة بشهادة التاريخ نفسه، وتكلم عنها الإمام الخطيب البغدادي، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم، وكانوا قد أشهدوا عليها مجموعة من الصحابة، وزعموا أنها كتبت يوم خيبر، مع أن أولئك الصحابة لم يكونوا أسلموا يومئذٍ.(35/10)
ندوة في لندن عن التطرف
لكنني أضيف الآن بعض الموضوعات المتعلقة بعنوان المحاضرة، وهو (حقيقة التطرف) فقد سمعت بعد هذا العنوان ندوة عقدت وأذيعت في إذاعة لندن عن هذا الموضوع، وتكلم فيها كثير من الناس، ولم أسمع منها إلا قليلاً من الصوت المعتدل، فقد سمعنا في تلك الندوة وهي مسجلة في أكثر من ساعة صوتاً يتهم الإسلام نفسه بالتطرف من هذه البلاد -لا أعني هذه البلاد بالذات- لكن من بلاد الإسلام، ومن نساء ورجال يحملون أسماءً إسلامية، فيقولون: إننا نسمع كثيراً من يفرقون بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف، ونحن لم نسمع إسلاماً معتدلاً قط، -كما تقول إحداهن- فكل ما سمعناه هو تطرف وغلو، وهم يدعون إلى قتل الكفار، بل إلى قتل المسلمين الذين يخالفونهم في الاتجاه، وتقول: إن كل من يحمل أفكاراً علمانية، أو ينادي بفصل الدين عن السياسة وعن الحياة فهو في نظر هؤلاء كافر، وإذا أصر على دعوى الإسلام فإنهم يصفونه بأنه زنديق، ويعتبرونه حلال الدم والمال، ثم قالت أخرى: إن أولادنا يُعَلَّمون في المدارس ألواناً من التطرف وإنهم يصلتون علينا سيف النصوص، فكلما قامت واحدة منا تنادي بتحرر المرأة، أو تغيير أوضاع المرأة العربية، أو إعطائها حقوقها، فإنهم يصفونها بأنها متأثرة بالغرب، ويصلتون عليها سيف النصوص الشرعية -أي القرآن الكريم والسنة النبوية- وكأنها تريد من الناس ألا يقرءوا آية ولا يقرءوا حديثاً رعايةً لخاطرها لأن هذه الآية وهذا الحديث يدلان على أن هذا هو الإسلام وما عداه هو الباطل، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
ولم يقتصر أمرهم عند حد مطالبة المسلمين بالكف عن الرد على الخصوم أو عيبهم، بل وصل الأمر إلى حد أن يقولوا: لا نريد منكم أن تقرءوا الآيات القرآنية ولا أن تقرءوا الأحاديث النبوية.
لأنكم بذلك تستغلون سيفاً اسم سيف النصوص أو السيف النصي الذي تحاربون به كل من يخالفكم، ونقول لهم ولهن: ليس علينا عيبٌ إلا أننا نرجو أن نكون وقافين عند حدود الله، ملتزمين بالنص قرآناً وسنة، أما أنتم فلا: وكل خلاف بيننا فلأننا وعيناه في ضوء الكتاب ولم تعوا فهذا طرف.
الطرف الثاني: يدافع عن الإسلام، ولكنه ضمن دفاعه عن الإسلام يُحَمِّلَ الإسلام ما لا يحتمل، فيقول: الإسلام دين التسامح ودين الحرية، والمسيحيون -كما يسميهم- إخواننا، والإسلام يفتح لهم ذراعيه، ويحفظ لهم إلى غير ذلك من الكلمات المطاطة الواسعة التي بموجبها فقد المسلمون معنى الولاء والبراء، معنى البراءة من المشركين والكفار، معنى الالتزام والتميز بهذا الدين، فصار كثير، من المنسوبين إلى الإسلام وإلى العلم الشرعي والى الجامعات والمؤسسات الإسلامية يتكلمون عما يسمونه إخواننا الأقباط في مصر، ويعطونهم من عبارات الثناء والترحيب والتكرمة ما لا يعطونه حتى لإخوانهم المسلمين ممن يصمونهم بأنهم متطرفون، ويرمونهم بأبشع الألقاب وأحط الأوصاف.(35/11)
أخبار البوسنة والهرسك
وبعد هذا الاستطراد حول موضوع التطرف، الذي كان موضوع محاضرة جدة فإنني أنتقل إلى موضوع المحاضرة الثانية، وكانت في مكة، وكانت بعنوان (لماذا يخافون من الإسلام) وهي على كل حال تتكلم عن الغرب والنصارى وعداوتهم لهذا الدين من منطلق كلام الله عز وجل، ثم من منطلق الواقع المشهود الذي يؤكد حقيقة عداوتهم لنا في الماضي والحاضر والمستقبل على حدٍ سواء، ومما يتعلق بهذا الموضوع أن هناك تحليل يتلكم عن انهيار الإمبراطورية الأمريكية، وأتجاوزه لأن الوقت يمضي بنا سريعاً، وأنتقل بعده إلى الكلام عن موضوع البوسنة والهرسك والجديد في هذا الأمر.
هذه القضية القديمة الجديدة أخبارها تلاحقنا أسرع منا، ولذلك الكثيرون لا يسمعون شيئاً وإن كنت ذكرت بعض أخبارهم في المحاضرة المشار إليها، لكنني سوف أنقل لكم الآن وبسرعة بعض الأخبار الجديدة والمفزعة عن أحوال إخواننا المسلمين هناك.
يقول الرئيس الأمريكي في لقاء له مع رئيس البوسنة والهرسك: بينما نحن نجتمع الآن هنا تجري هناك عمليات إبادة للمسلمين في البوسنة والهرسك وهذا لا بد أن يتوقف، وأضاف الرئيس الأمريكي: الشعب الأمريكي يرى مناظر الإبادة اليومية، والمجازر التي تحدث للمسلمين في البوسنة والهرسك، ويتساءلون هل يمكن إيقاف ذلك؟ قال: لا بد من دعم هناك ومساعدة لحماية وجود البوسنة والهرسك.
هذا كلام الرئيس الأمريكي، ويكفي بالتعليق عليه أن الصحف الفنلندية نقلت هذا التعليق وقالت: إنها فرصة مناسبة لأمريكا لإثبات مصداقيتها للأنظمة العربية، ونحن نريد من أمريكا قولاً لا فعلاً، أما الكلام فهو للمزايدة والتجارة فقط، نحن نريد منه فعلاً تدخلاً لحماية المسلمين إن كانوا صادقين! والرئيس الفرنسي زار مطار سراييفو وفرح بعض الناس بذلك وتعجبوا، لكن الواقع أن هذه الزيارة أثارت شكوكاً لدى الأوساط السياسية الإسلامية هناك؛ حيث انتشرت أخبار كثيرة بأن الصرب كانوا على علم بموعد الزيارة وبمدتها، وأن إيقاف إطلاق النار على طائرة الرئيس الفرنسي كان متفقاً عليه أيضاً، فيما كانت النتيجة النهائية للزيارة هي إيقاف إصدار قرار مجلس الأمن بالتدخل ضد صربيا.
إذاً هو قام بحركة سريعة وذكية من أجل إيقاف قرار مجلس الأمن بالتدخل ضد الصرب، وإلى ذلك فقد تضاعفت المضايقات التي يوجهها الكروات وهم الحلفاء الآن للمسلمين في جمهورية البوسنة بعد تشكيل الحكومة الكرواتية الداخلية التي يرأسها قائد القوات الكرواتية في البوسنة والهرسك الذي يحظى بدعم كبير من الرئيس الكرواتي الذي قام بتعيينه رئيساً لهذه الحكومة المستحدثة.
ومن الأخبار الموجعة والمفزعة أيضاً: أحد الناس وهو لاعب في الماضي لكرة القدم، ثم أصبح رجل أعمال، وهو اليوم أحد المشردين المهاجرين خرج من مسقط رأسه وهو موجود حالياً في سراييفو يقول: لا يمكن وصف الذي حدث في تيشغراد فالشوارع والجسور والأنهار كلها مغرقة بالدماء، لقد أصبحت مذبحاً لم يبق فيها أحد، هاجرت معنا بعض الأسر الصربية التي اتهمت بخيانة الشعب الصربي، يقول: أصعب وأشد الأوقات تكون حينما ينزل جنود الصرب الاحتياطيون من قرية تابعة لإحدى الكتائب فيسكرون مع جيراننا من الصرب، ثم تحت تأثير الخمر ينطلقون من بيتٍ إلى بيت يتلذذون بهتك أعراض البنات المسلمات دون سن البلوغ وأمام ذويهن، وقمة التلذذ تكون بإسقاط الأطفال والرضع من فوق جسر نهر درينا، ثم يراهن القناصة مَنْ منهم سيصطاد أكبر عدد، إننا لم نحص عدد الضحايا حتى الآن لكن من المؤكد أنه لم يبق بيت واحد سالماً، كانوا ينهبون كل شيء، انتهى مصنع الأثاث، كل الآلات والأدوات نقلت بالشاحانات إلى صربيا أما الممتلكات الخاصة فقد نهبوها كلها، فأخذوا الأثاث حتى الحطب الذي جمعه الناس في مخازن الفحم أخذوه.
ومن أخطر وأبشع الأخبار التي وصلتني اغتصاب الفتيات المسلمات في مدينة برجكو يقول: لا تزال تتوالى الأخبار بما تقشعر له الأبدان، وتشيب له الولدان، فبجانب المجازر الوحشية التي تقوم بها المليشيات الصربية والجبل الأسود ضد المسلمين الأبرياء، فإنهم يعملون على تحقيرهم وإذلالهم، وذلك من خلال أعمالهم الاضطهادية: من الضرب المبرح، والخدش بالسكاكين، ورسم التثليث والصلبان على أجسادهم، وقطع الأعضاء التناسلية، وتقذير المساجد وتمزيق ورمي المصاحف والمشي عليها، وأعمال وحشية أخرى.
ومن أكثر الأعمال الوحشية التي يقوم بها أعضاء المليشيات هي اغتصاب الفتيات بالقوة، والتي لم تسلم منها حتى الفتيات من سن سبع سنوات، وحتى النساء فوق ستين سنة، ولكي يهينوا أهاليهن أكثر فإنهم يقومون بذلك أمام أعينهم من آبائهن وإخوانهن وأطفالهن وجيرانهن، وجرت أخيراً مثل هذه الأعمال في مدينة ذكر اسمها باللغة الإنجليزية حيث قام بعض أعضاء هذه المليشيات بأخذ مائة وخمسين مسلمة وأعمارهن بين عشر وخمسة عشر سنة، وقاموا باغتصابهن أمام أعين كثير من الأقرباء وأمام مجموعة من المسلمين، وهؤلاء الفتيات البائسات لمدة أيام كانوا يتنقلون بهن على أماكن متعددة لأعضاء المليشيات، وبعد مرور شهر على اعتقالهن أطلقوا سراحهن، ووصلن إلى مدينة توزولا، وهن الآن في حالة سيئة للغاية حيث أجسادهن وحالتهن النفسية منهارة، وقد طلبوا من الجمعية الإسلامية في مدينة توزولا بأن تقدم لهم فتوى بالسماح للفتيات البائسات بإسقاط الحمل الموجود في أحشائهن.
هذا التقرير مؤكد وقد أرسل إليَّ وعليه ختم رسمي، وكتب إليَّ الأخ شكري حسنين يقول: هذه الأخبار والتقارير التي تحكي عن مأساة المسلمين في البوسنة والهرسك من الوكالة الإسلامية للأنباء، وعليها ختم الرئاسة العليا هناك، فهي أخبار مؤكدة.
إلى هذا الحد بلغ الأمر بهؤلاء الصرب النصارى ومن ورائهم العالم المتفرج، إنها حرب صليبية تؤكد عداوة النصارى للمسلمين في كل زمانٍ ومكان، وعلى المسلمين أن يفهموا ويفقهوا هذه العداوة التي ذكرها الله تعالى في كتابه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران:118-119] .(35/12)
بعض المواضيع التي سيتكلم عنها الشيخ في دروسه العلمية العامة
هناك كثير من الإخوة والأخوات يتمنون أن أعلن عن عدد كبير من الموضوعات؛ حتى يتمكنوا من مواصلتي بما لديهم من وثائق وحقائق أو أخبار أو اقتراحات حول هذه الموضوعات، ولهؤلاء ولأولئك أذكر بعض الموضوعات التي سوف أقدمها -إن شاء الله تعالى- في هذه الدروس، سبق وأن تكلمت عن موضوع التنصير، وقد جاءني فيها أوراق ووثائق كثيرة جداً وغريبة، ولكن ما زلت أنتظر الكثير من ذلك، خاصة وأن بعض الإخوة وعدوني وذكروا أن عندهم كميات كبيرة من الوثائق المتعلقة بالتنصير في منطقة الخليج العربي فأطلب من هؤلاء الإخوة سرعة موافاتي بما لديهم.
كما أن هناك موضوعاً جديداً مهما سوف أشير إليه الآن، وهو ما يتعلق بالبث المباشر، ومثل موضوع التلفزيون والفيديو، فإنني أنتظر من بعض الإخوة معلومات ووثائق حول هذه القضايا وحول الصحون والهوائيات التي تستقبل البث العالمي، ومن الموضوعات موضوع المرأة، وما يتعلق بأحوال المرأة المسلمة في بيتها وفي مدرستها، ومآسي الطلاق هو أحد الموضوعات إلى غير ذلك.
ومن الموضوعات: قضية التصنيع والتقنية وحاجة المسلمين إلى ذلك، ومنها موضوع الحروب الصليبية المعاصرة والمعلومات حولها، ومنها المسلمون في عدد من البلاد فإن في عزمي إن شاء الله أن أخصص موضوعات عن عدد من البلاد الإسلامية، موضوعاً مثلاً، أو عن اليمن وأحوال الدعوة الإسلامية هناك، موضوعاً آخر أيضاً عن مصر وموضوعاً آخر عن تونس، وموضوعاً عن فلسطين، فآمل من الإخوة خاصة من الشباب المنتسبين لهذه البلاد موافاتي بما لديهم من معلومات ووثائق وحقائق عن الدعوة الإسلامية في تلك البلاد وعن أحوال المسلمين هناك، وآمل من الإخوة مشاركتنا، وبالمقابل أعدهم بأني سوف أتحدث بإذن الله تعالى قريباً عن هذه الموضوعات، وأوجه خطاباً للمسلمين هناك.
وقبل أن أغادر الموضوعات أود أن أشيد بمجموعة من المشاركات الجيدة والإيجابية، من ذلك لجنة البر الإسلامية فإن هذه اللجنة وبالذات ما يتعلق بالإعلام فيها لها نشاط كبير، وهي توافينا وتوافي غيرنا أولاً بأول بأخبار المسلمين في البوسنة والهرسك وأفغانستان والسودان وغيرها، فلهم منا جزيل وجميل الدعاء، وأسال الله أن يبارك في جهودكم وشكراً لهم على ما يفعلونه في سبيل التوعية في قضايا إخوانهم المسلمين، وكذلك وكالة اسمها وكالة قدس برس توافيني على وجه الخصوص بالأخبار المتعلقة بأوضاع المسلمين في فلسطين، وأخبار منظمة حماس، وأعمال اليهود هناك، ويرسلها لي بعض الإخوة الشباب جزاهم الله خيراً.
وأيضاً بعض الشباب أرسلوا لي بعضاً من الموضوعات، أحدهم أرسل لي موضوعاً مهماً هو عن تاريخ الصحوة الإسلامية جزاه الله خيراً، وآخر أرسل لي قرابة ستة موضوعات بالفاكس، وكلها موضوعات مهمة وثمينة، وسوف أتكلم عنها وأدعو الله تعالى أن يبارك في وقته وجهده.(35/13)
قصيدة عن البوسنة والهرسك
والأستاذ عبد الرحمن بارود صور مأساة المسلمين في سراييفو في هذه القصيدة الجميلة التي أقرأ شيئاً منها: أبحرت في الجماجم البشناق والسكارى من سكرهم ما أفاقوا آه يا مسلمون متم قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب أنتم آدميون أم نعاج تساق نحن لحمٌ للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق قد هوينا لمَّا هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق يعني لما تركنا قوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] وأقول: نعم، وأيضاً لما تخلينا عن ديننا وتمزق شملنا.
واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأرض تموت الأغصان والأوراق سراييفو تباد والعالم المجنون لغوٌ وخسة ونفاق فيمَ هذا الحطام والقصف الذبح وبقر البطون والإحراق نطقت بالشهادتين وهذا عندهم جرمها الذي لا يطاق تركوها وحولها من نمور الصرب طوقٌ من خلفه أطواق كل حين تلمُ لحم بنيها ذي يد تلك طفلة تلك ساق نضب الماء والدواء وجرحاها ألوفٌ وفي الجحور اختناق فتحت فوقها جحيم تدك الأرض حمراء مالها إغلاق ومئات القرى حطامٌ وأما عن بيوت الرحمن فهي انسحاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق ليت شعري يا بحر هل أنت بحرٌ أم سراب على الفلا رقراق سراييفو من دولة المجد عثمان أبوها والفاتح العملاق سراييفو من قلب مكة بالتوحيد يعلو لواؤها الخفاق ملكٌ كالحمائم البيض حبٌ وسلامٌ ورحمة وانطلاق هاهي الآن ساعة الذبح قد خارت قواها وزاغت الأحداق وإذا حزت السيوف الحلاقيم فلا ينفع الذبيح النعاق قدمتها الصلبان للصرب قرباناً وللصرب كلهم عشاق يا قطيعاً من ألف مليون رأسٍ صار نهباً يجري عليه السباق أيها اللحم في نيوب الضواري صهوات العز السيوف العتاق أنت يا بطرس بن بطرس غالي بسياط الحقد الدفين تساق لا يزال الصليب يحجب عينيك ونجم الكنيسة البراق بيدي بطرس ٍ وتبت يداه علقت في المشانق الأعناق لو فعلنا بالصرب ما فعلوه لرأينا الذي رآه العراق قد حفظنا للمرة الألف عنكم عالم الغاب ما له ميثاق سل عن العدل جدك الولد القبطي لما جرى بمصر السباق قد حملنا قرآننا فأضاءت ألف عامٍ مضت وسبع طباق وأعادٍ من جلدتي طعنوني ولهم بين أضلعي أنفاق كم عدو من جلدتي باع لحمي وله من دمي الذكي اغتباق أين أنتم يا من رقصتم لتيتو يوم كان الهوى وكان العناق جرعتنا الأصنام سماً زعافا والطبول الجوفاء والأبواق يا عبيد العبيد منذ أتيتم طفحت بالنخاسة الأسواق يا شباباً من عالم الغيب جاءوا كالغيوث ارتوت بها الآفاق طلعوا من جذور بدرٍ بدوراً قد سقاها من نوره الخلاق بسيوفٍ مخبوءة في الشرايين لها من لظى البروق ائتلاق فارتقبهم فرسان فتحٍ جديد وأمام الخيول طار البراق أخرجوا من محارق الكفر أنقى جوهراً ليس في الصفوف اختراق داركم فوق والعرائس حورٌ ودماء الشهيد نعم الصداق هذه أيضاً قصيدة سلمني إياها بعض الإخوة وهي للشاعر عبد الرحمن العشماوي مطلعها: نناديكم وقد كثر النحيب نناديكم ولكن من يجيب تعثرت الخطى حتى رأينا خطانا لا تهش لها الدروب وقد نشرت في المجلة العربية في العدد الأخير، ولضيق الوقت أعتذر عن قراءتها، وأنتقل إلى النقطة الثانية وهي الكلام عن بعض الموضوعات الجديدة.(35/14)
البث المباشر
النقطة التالية هي تتعلق بالتلفزيون والهوائيات والبث المباشر، وهذا الموضوع موضوع كبير ويحتاج أيضاً إلى حديث، وذكرت لكم أننا نحتاج إلى مشاركة من بعض الإخوة، ولكن حتى تأتي هذه المشاركة نخصص وقتاً لهذا الموضوع أتكلم عن هذا الموضوع باختصار، فقد نشرت بعض الصحف منها جريدة الرياض في عدد يوم الأربعاء 8/1 نشرت أن الكويت الآن أصبحت تستقبل البث المباشر التلفزيوني وبدون هوائيات، وتقول إن هناك الآن خدمة تلفزيونية لاستقبال البرامج عبر الأقمار الصناعية، وهي طريقة تغني عن استخدام الهوائيات أي أن هناك جهوداً الآن عن طريق وكالة الوزارة وزارة المواصلات لإيصال هذه الخدمة إلى المواطنين بواسطة خط تلفزيوني يمكن أن يوصل إلى المشترك فيه ما يزيد أحياناً على أربعين قناة تلفزيونية عالمية، مقابل رسم معين، وسوف يتولى القطاع الخاص توفير هذه الخدمة عن طريق شركة وطنية مساهمة، وأضاف أن وزارة الإعلام تنظر إلى هذه العملية على أنها خدمة وبادرة حضارية ومطلوبة ليتمكن المشاهد من متابعة الأحداث العالمية فور وقوعها.
وهذه قضية خطيرة؛ لأن هناك كثيراً من المحطات العالمية متخصصة بتخريب الأخلاق وهذا موجود، ويمكن الاتصال بها عن طريق اشتراك يوصل إلى البيوت، كما يشترك الإنسان بالهاتف وغيره، وهناك محطات ووكالات متخصصة في التنصير وتخريب عقائد المسلمين وعقولهم، وهذه يمكن أن تصل إلى أي بيت عن طريق الاشتراك، وتخرب عقول الرجال والنساء والشباب وغيرهم.
هذا في الكويت في الوقت الذي يكثر فيه الحديث عن خطر التلفاز وضرره حتى من الناحية الطبية، فمن الغريب أن في نفس العدد من جريدة الرياض تكلموا عن أن مشاهدة التلفزيون -وهذه نتيجة دراسة للأطفال في أمريكا ترفع نسبة الكلسترول إلى معدلات خطيرة بين الأطفال، وتؤدي إلى إصابات أمراض القلب، وقال: إن هذا نتيجة دراسة أجريت على مجموعة كبيرة من الأطفال هناك.(35/15)
انتشار الصحون والهوائيات
أيها الإخوة ظاهرة غريبة بدأت تطل علينا في هذه البلاد، فالذي يتجول في شوارع جدة أو الرياض يفاجأ ويندهش من هذه الصحون والأقراص الهائلة والكبيرة، وذات الأحجام الواسعة، والمخصصة لاستقبال البث العالمي المباشر، حتى إن بعض هذه الأقراص تصل قيمته إلى ما يزيد عن مائة ألف ريال حسب تقرير وتحقيق نشرته جريدة الرياض في (14) محرم، وبعضها من الحجم المتوسط سبعون ألف ريال، ومن الحجم الصغير من ثلاثين إلى أربعين ألف ريال، يدفع إنسان مائة ألف ريال من أجل هذا الصحن! ثم يتأسف البعض من الصحفيين وغيرهم لأصحاب الدخل المحدود الذين لا يملكون إلا الحسرة والانتظار! حيث لا يتسنى لهم الأمر بحكم ضيق اليد أن يركِّبوا مثل هذه الصحون والأطباق التي تستقبل البث المباشر.
أمرٌ آخر: تجدها في الشوارع تباع، وقد رأيت هذا كثيراً في جدة والرياض وشوارع بأكملها تقريباً خصصت لتصنيع الهوائيات وتركيبها، بل يقول تقرير نشر في جريدة الرياض أيضاً في (15) محرم: في المنطقة الصناعية بالرياض الكل تحول إلى صناعة الدشوش، مائة ورشة فعلاً تخصصت في هذا وحولت عملها إلى صناعة الدشوش، وأثرت حتى إن بعضهم أصبحوا يمتلكون الملايين بسبب إقبال الجمهور على هذه الأشياء.
كنا في الماضي نسمع أن هناك منعاً من قبل الإعلام ومن قبل الجمارك لدخول مثل هذه الآلات والأجهزة التخريبية، التي تدمر عقول الناس وأخلاقهم وأديانهم، بل وهي سببٌ من أهم الأسباب المباشرة في زعزعة استقرار وأمن هذه البلاد، كنا نسمع أنها ممنوعة وكانت ممنوعة فعلاً، ولا أعتقد أنه فعلاً صدر قرار بنسخ المنع، ولكن يبدو أن القبضة قد تراخت وأن هناك تسامحاً أو غضاً للنظر عن هذه الأشياء، فمن غير المعقول وجود مائة ورشة تصنعها في الرياض ووجود محلات رأيناها بأعيننا في الرياض تعد بالمئات في الرياض وجدة لبيع هذه الهوائيات وتركيبها في محلات كثيرة جداً، بل هناك أحياء راقية ربما تكون موجودة في معظم البيوت فيها.(35/16)
خطورة البث المباشر
إن بعض هذه القنوات وبعضها تستقبل أكثر من خمس وأربعين محطة، فتستقبل محطة إسرائيل مثلاً، تستقبل القناة الفرنسية، تستقبل قنوات تنصيرية، تستقبل قنوات تبث الدعارة، تبث الرذيلة، تبث الفساد، تبث الانحلال، فضلاً عن أنها تستقبل قنوات رياضية، وقنوات علمية، وقنوات تعليمية، وقنوات إخبارية، وقنوات اقتصادية هذا كله صحيح، ولكن: أولاً: كم حجم المعنيين بالأخبار في مجتمعنا؟ أطرح سؤالاً آخر: هل مجتمعنا بلغ من الوعي والإدراك والحرص على تتبع الأخبار أولاً بأول ومعايشتها إلى هذا الحد؟ في تقديري بأن الأمر ليس كذلك، وأن مجتمعنا ربما يعيش أحياناً حالةً من الأمية في معرفة الأخبار، وحاجة إلى توعية كبيرة، وأن هناك تعتيماً كبيراً على هذا المجتمع ورَّث تخلفاً في الوعي الإخباري، والحرص على تتبع الأخبار سواء كانت علمية أو اقتصادية أو تربوية أو تعليمية أو رياضية أو سياسية أو غير ذلك.
إن من المؤكد أن الدافع لدى الأغلب هو أمرٌ آخر غير ذلك، والإنسان بطبيعته قد يحب مشاهدة المشاهد المثيرة والمشاهد المغرية، وإذا لم يكن لديه رادع ديني وإيمان وخوف من الله عز وجل، فإن العين تطمح والبصر ينطلق، لهذا أدبنا الله عز وجل بقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30-31] ورسولنا صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: {العين تزني وزناها النظر} فأنا أعتقد أن الكثيرين أو أن عدداً غير قليل -وأحب أن أكون صريحاً مع من يستمعون إليَّ- أعتقد أن أكثر من يقتنون هذه الأجهزة الهوائية، أنهم يمارسون ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه الله عز وجل، فتطمح أبصارهم إلى رؤية ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى.
نحن جميعاً بشر، ونحن من طينة واحدة، ومن طبيعة واحدة، والمشاعر الموجودة عندك موجودة عندي، والطموحات الموجودة عندك موجودة عند زيد وعُبيد من الناس، فليست القضية سراً وكون الشباب يقبلون على المجلة التي تعرض صورة امرأة جميلة، بل كون المجلات تختار أجمل النساء وتعرضها على غلافها يعني أن الجميع يعرفون أن الإنسان وخاصةً الشباب تغريه صورة المرأة الجميلة.
إذاً الكثير ممن يقتنون هذه الهوائيات ويستقبلون بها المحطات العالمية وتلفزيونات العالم، هم يبحثون عن شيءٍ آخر غير مجرد الأخبار، وعلى سبيل المثال هناك قناة عربية، بل لا أفشي سراً إذا قلت إنها قناة سعودية يملكها رجال من أهل هذا البلد وتسمى (الإم بي سي) او تلفزيون الشرق الأوسط، تبث من لندن، وتلتقط في كل مكان من هذه البلاد، بل قبل فترة كان التلفزيون السعودي نفسه يلتقط الأخبار منها ويذيعها عبر فقراته مباشرةً فيشاهدها كل إنسان، فماذا في هذه القناة؟ يقولون: إن المقصود منها نقل الصورة الإسلامية ونقل الصورة العربية … إلخ، نجد في هذه القناة عروض أزياء لنساء كاسيات عاريات فاتنات مفتونات، رقصات، أخبار من أنحاء العالم، أمور تتعلق بما يسمى بالفلكلور الشعبي، أو أخبار تتعلق بالفنون الشعبية من كل بلد من مصر أو سوريا أو الشام أو غيره أو من هذه البلاد، وقد تذيع القرآن الكريم، وقد تنشر أحياناً معلومات معينة، لكن هذا قليل من كثير بالقياس إلى فترة الإرسال التي تبثها تلك القناة.
فإذا كان هذا الكلام في قناة عربية يملكها أناس عرب ومسلمون، فما بالك بالقنوات العالمية؟! فما بالك بالقنوات الفرنسية؟! وعلى سبيل المثال في تونس يلتقطون القنوات الفرنسية، وقد نشر قبل سنوات في جريدة المسلمون تحقيقاً عنها تحدث عن أنها تتاجر صراحةً بالأعراض، وتغري الناس بعرض الفساد الخلقي بلا رتوش، وبلا سواتر، وبلا حياء، ليست القضية الآن قضية امرأة أو رجل أو قبلة أو كلام، حتى الرذيلة والجريمة والفاحشة تعرض عليك! فهل بلغ الحال بالمسلمين في هذه البلاد الطاهرة بلاد الحرمين الشريفين أن يشتري أحدهم بمائة ألف ريال صحناً أو طبقاً يركبه في بيته؟! يقول: يتابع الأخبار، فهل زوجتك، وابنتك المراهقة، وولدك المراهق يتابعون الأخبار؟! وأنت تعرف أن ولدك يقضي جل وقته في التفحيط، ولو طلبت منه أن يذكر لك عواصم الدول الكبرى ما ذكرها لك، ولو طلبت منه أن يتكلم عن البلاد التي يعاني المسلمون فيها من المصائب ما يعانون لاعتذر وقال لك: أنا مشغول، ولدك الفاشل الذي رسب في الامتحان مثلاً تأتي له بهذا من أجل أن يتابع الأخبار، أطفالك تربيهم على عوائد النصارى واليهود، وتقول: يتابعون الأخبار!! كنا بالأمس نعرب عن أحزاننا من التلفاز، وبالذات من القناة الثانية، وما يعرض فيها من الأمور التي لا يرضاها الله ولا رسوله، ولا يرضاها المؤمنون لأنفسهم، وهي تزداد يوماً بعد يوم، فإذا بنا نفاجأ بهذا الخطر الداهم الذي أصبح يقتحم البيوت من أعاليها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم(35/17)
وسائل محاربة البث المباشر
إنه خطر جدير بأن نحاربه، وأقول: ونحاربه بوسائل منها: أولاً: الحث والحرص على مخاطبة المسئولين بمنع مثل هذه الأشياء، منع استيرادها، ومنع تصنيعها، ومنع تركيبها، سواءً في البيوت، أو في المحلات العامة كالفنادق والمستشفيات، إن أخشى ما أخشاه أن يتحول هذا الأمر إلى تنافس محموم في الفنادق وفي الشقق المفروشة وفي المستشفيات، فيصبح صاحب الفندق يركب مثل هذه الهوائيات، حتى يجر إليه الزبائن وقد حدثني بعض الشباب أنه في بلدٍ من المناطق المباركة المقدسة في هذه البلاد قد ركب أريال أو دش يستقبل قنوات كثيرة قريباً من أحد المنتزهات فصار الناس يأتون إلى هذا المنتزه زرافات ومجموعات كبيرة؛ لأنهم يمكن أن يلتقطوا بعض القنوات عن طريقه.
فلابد من مخاطبة ومناصحة ومطالبة من يملكون القرار بأن يقفوا ضد هذا الخطر الداهم، ويمنعوا مثل هذه الأشياء لا دخولاً ولا بيعاً، ولا تصنيعاً ولا تركيباً، لا في البيوت، ولا في المحالات والأماكن العامة كالفنادق والمستشفيات والجامعات وغيرها.
ثانياً: وهذا أمرٌ أرى أنه في غاية الخطورة: أنه بد من التوعية فهب أنه لا يستجاب لك، أو أن هذا الأمر أقر وبقي وأصبح واقعاً مفروضاً لا يملك أحدٌ أمامه شيئاً، أمامنا وسيلة كبيرة وهي مخاطبة عواطف المسلمين، وعقولهم وتوعيتهم، فينبغي أن يكون للخطيب دور، وللمتحدث دور، وللأستاذ في المدرسة دور، وللإنسان داخل أسرته دور، وفي حيه دور، وفي المسجد دور، ومع قرابته دور، ينبغي أن تكثر الكتب والرسائل والنشرات، التي تحذر المسلمين من هذا الخطر، وتكشف لهم عن حجم الغزو الصليبي الداهم الذي يهدد بيوتهم وعقولهم وأديانهم وأخلاقهم، وإذا فقد المسلم عقيدته فموته خيرٌ له من الحياة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] فأن يبقى المسلم حياً وهو وقد مسخ دينه ومسخت أخلاقه ومسخت عقيدته؛ فإنه لا خير فيه حينئذٍ لا دنيا ولا آخرة، ولكن أن يموت المسلم دون دينه فمآله إن شاء الله تعالى إلى جناتٍ ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فتخريب عقول المسلمين وأديانهم وأخلاقهم هو أخطر بكثير من قتلهم، بل أخطر بكثير من إبادتهم ومن انتهاك أعراضهم، فلنتفطن وننتبه جيداً.(35/18)
مآسي الصومال
أما القضية التالية؛ فهي عبارة عن أفراح وأحزان، وأذكرها بسرعة فالوقت يمضي سريعاً، ومع الأسف فلن نتمكن من ذكر الكثير مما أتمنى، هذا تقرير أرسله الأستاذ أحمد الصويان وهو أحد إخواننا الموثوقين المعروفين من الصومال حيث ذهب إلى هناك، وهو تقرير مبكٍ محزن عن أوضاع المسلمين، ولابد أن أقرأ عليكم ولو بعضه، ولعلكم تحصلون عليه يقول: هرب كثيرون من رحى الحرب القبلية التي تدور على أرض الصومال ويقول: يعجز القلم عن ذكر ما يجري هناك، عشرات من الأطفال يتساقطون يومياً بسبب الجوع وسوء التغذية، وعشرات من النساء والعجزة أهلكهم المرض والحزن، كل أسرة تحمل مأساة تنهد لها الجبال، ثم يقول: في بعض الإحصاءات بلغت نسبة الوفيات في بعض المخيمات واحد بالألف يومياً، وهذا يعني أن عدد الوفيات يومياً أربعون حالة، هذا في أحد المخيمات، ففي مدينة منديرا مات في يومٍ واحد أثناء وجودنا فيها أكثر من ثلاثين طفلاً بسبب الجوع والمرض، ورأينا عدداً ليس بالقليل من الأطفال والنساء في حالة الاحتضار، ومن المحزن أن (80%) تقريباً من النساء الحوامل يمتن أثناء الولادة لعدم وجود الرعاية والعناية بهن، ولقد استحدث الناس بجوار كل مخيم مقبرة جديدة، وفي عدد من الأماكن التي نذهب إليها كان الناس يقولون لنا: لا نريد منكم طعاماً ولا شراباً، ولكن نريد منكم أكفاناً نكرم بها موتانا، بل حتى لباس الأحياء لا يتوفر عند بعضهم، فالعري أصبح ظاهرة طبيعية خاصةً بين الأطفال، وكم من امرأة لا تستطيع أن تخرج من كوخها لأنها لا تملك ما تستتر به، وقد رأيت في مخيم إيفو وهو أحد المخيمات القليلة التي وزعت فيها الخيام، رأيتهم ينزعون البطانة الداخلية للخيام ويلبسونها للنساء والأطفال لعدم توفر الكساء، وزاد الأمر سوءاً وقسوةً الجفافُ الشديد الذي أصاب الأراضي الكينية المجاورة للصومال مما أدى إلى موت الحيوانات والمواشي التي يعتمد عليها بعد الله تعالى عامة الناس، وهذا أدى إلى هجرة جماعية إلى أهالي البادية الكينية، وقد زرت مدينة فوجدتها أكثر سوءاً من بعض مناطق اللاجئين الصومال.
يقول أيضاً في هذا التقرير: (20%) من الأطفال يموتون تحت سن خمس سنوات خلال شهر إبريل من هذا العام، مع العلم أن كلهم من المسلمين.
ويقول: المياه هي إحدى المشكلات الأساسية التي يعانون منها في المنطقة حيث لا تتوفر الآبار، وقد وصل الحال ببعض الناس أنهم يسيرون أكثر من خمسين كيلو متر بحثاً عن الماء، وفي بعض مواقع اللاجئين رأيت الناس يصطفون إلى منتصف النهار لكي يحصلوا على إناء من الماء لا يكفيهم ليومٍ، وبسبب انعدام أبسط متطلبات الحياة البشرية انتشرت الأمراض كانتشار النار في الهشيم، مثل أمراض سوء التغذية حيث لا ترى إلا هياكل عظمية، وأمراض نقص البروتينات خاصة بين الأطفال، وهؤلاء تكون بطونهم منتفخة وبصورة عجيبة جداً، والأمراض الجلدية، كما انتشرت بينهم أمراض السل والملاريا والحصبة والإسهال.
يقول: على الرغم من أن اللاجئين الصوماليين في كينيا مسلمين (100%) إلا أن المنظمات التنصيرية غزت الساحة بصورة مذهلة جداً، فالنشرات التنصيرية أصبحت في أيدي الناس، وقد رأيت بنفسي بيد أحد الأطفال قصة مصورة باللغة الصومالية محتواها أن المسيح هو المخلص، أو المنقذ، ورأيت في مخيم آخر منصرة بريطانية تقدم مساعدات إغاثية للمتضررين، وتساعدهم في بناء منازلهم من القش، ولكي تستطيع أن تؤثر في نفوسهم سمت نفسها عائشة، ومن أبرز المنظمات التنصيرية العاملة في الميدان الصليب الأحمر، منظمة كير الكاثولوكية، منظمة أطباء بلا حدود الهولندية، منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية، منظمة أوكسفام للإغاثة البريطانية، منظمة العون الأمريكي، منظمة الرؤية العالمية، منظمة الـ GTZ الألمانية إلى غيرها.
يقول: تحاول هذه المنظمات أن تعيق أعمال الهيئات الإسلامية وتعرقلها، ولكن {َيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] فعلى الرغم من هذا الزخم التنصيري المتلبس بلباس الإغاثة إلا أن الناس بحمد الله تعالى لا يزالون يشعرون بهويتهم الإسلامية، ويفرحون فرحاً شديداً إذا رأوا رجلاً مسلماً، ومن المواقف التي أسعدتني في مخيم العلواق أن الناس اجتمعوا حولنا، ولما أردت الخروج من بينهم دفع أحد الأطفال أخته الصغيرة وقال لها: ابتعدي من طريقه أتظنين أنه نصراني؟ إنه مسلم يقول: فأظهرت استنكاري لذلك لأحد العامة، فقال لي والأسى يعصر قلبه قال لي: لقد كنا في بادية الصومال نسأل الله عز وجل ألا يرينا يوماً من الأيام وجه كافر، وكان الناس لا يشربون في الإناء الذي شرب منه الكافر إلا بعد غسله بالتراب، ثم قال: أما الآن فأصبحنا نفرح بمشاهدتهم، ونجري وراءهم لنبحث عن لقمة العيش التي لم نجدها إلا منهم، ثم ذرفت عيناه وهو يقول: أين أنتم أيها المسلمون؟ ثم ذكر في آخر التقرير ما يحتاجه المسلمون هناك من المواد الغذائية بمختلف أنواعها، وخاصة حليب الأطفال المجفف، المياه النقية، وهذا يتطلب حفر الآبار، توفير الأطباء والأدوية، وتوفير الملابس والخيام.
ثم يقول الأخ: هذا نداء عاجل أبعثه باسم اليتامى الذين فقدوا آباءهم فلا تسمع إلا صراخهم، وباسم الثكالى اللاتي أنهكهن المرض فلا ترى إلا دموعهن، وباسم الشيوخ والعجزة الذين أسقطهم الجوع فلا تسمع إلا نحيبهم، باسم مسلمي الصومال الذين يموتون في كل ساعة وما من مجيب نداءٌ أبعثه إلى كل مؤمن بالله ويهمه أمر المسلمين، إلى كل مؤمن مصدق بقول النبي صلى الله عليه وسلم: {اللهم أعط منفقاً خلفاً} وبقوله صلى الله عليه وسلم: {ما نقص مالٌ من صدقة} اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.
وهناك تقارير كثيرة جداً عندي عن الصومال وإحصائيات وأرقام وصور يطول المجال بذكرها، فهذه أحد الأخبار المحزنة هناك، وبالمقابل حتى يزول حزنكم أذكركم بالخبر السار الذي حدث في السودان، حيث تمكنت الدفاعات والقيادات الإسلامية المقاتلة في جنوب السودان من إلحاق أقسى الهزائم بالنصارى المقاتلين هناك بقياد جون قرنق ومن يساعده من الغرب الصليبي الكافر، فتمكنوا من إسقاط مدينة توريت وهي المدينة التي كان يوجد فيها قرنق وتوجد فيها قيادته، وبسقوط هذه المدينة يكون المسلمون قد حرروا مناطق الجنوب كلها تقريباً، ولم يبق عليهم إلا تطهير بعض الجيوب، ومع ذلك يقول النصارى: نحن سوف نواصل القتال، ربما من خارج السودان.
فنحمد الله تعالى أن كلل نصر المسلمين هناك بهذه الانتصارات الكبيرة، وهناك أخبار مشجعة جداً عن توفيق الله للمسلمين المقاتلين هناك، بل عن أحوال المقاتلين وأنهم يفتحون تلك البلاد باسم الله تعالى، وأنهم من المؤمنين المحافظين على الصلوات، المقيمين لحدود الله عز وجل، فندعو الله عز وجل أن ينصرهم نصراً مؤزراً وأن يحفظهم من كيد عدوهم في الداخل والخارج.(35/19)
من أخبار الجزائر
أما في الجزائر فالأمر بين بين، فلعلكم سمعتم آخر أنباء محاكمة القيادات المسلمة هناك، حيث حكم على قيادة الجبهة الإسلامية بالسجن ما بين اثنيعشر إلى أربع سنوات، ولا شك أن هذا حكم دون ما كان متوقعاً، ولكنه من الظلم الذي لا يرضاه الله سبحانه وتعالى ولا يرضاه المسلمون، ولهذا ينبغي أن يتداعى المسلمون للمناداة ومخاطبة الجهات المختلفة في رفع الظلم الواقع على هؤلاء الشيوخ، والواقع على المسلمين جميعاً هناك، وإعطائهم حقوقهم المشروعة، وما زال المسلمون يتربصون أن يكون هناك انفراج في الأزمة في الجزائر فقد أدرك العسكر وأدرك السياسيون هناك فيما يبدو أن أسلوب القتل، وسفك الدماء والزج بالناس في غياهب السجون لا يمكن أن يقضي على روح الإسلام التي تحركت في نفس هذا الشعب القوي الأبي، ولهذا تراجعوا خطوات إلى الوراء، وهذا درس لهم ودرس لغيرهم ممن يهددون ويوعدون المسلمين بالتنكيل، فنقول لهم: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:34-35] افعلوا ما شئتم، فإن الإسلام أبقى وأقوى، وكم من طاغية حارب الإسلام فذهب الطغاة وبقي الإسلام.
وهذه قصيدة كنت أنوي أن أقرأها لكن ضاق المجال عنها للشاعر العشماوي، تهميشات على مقتل رئيس الجزائر يقول في مطلعها: قل لي بربك هل وجدت سبيلا وهل اتخذت إلى النجاة دليلا أوجدت قبرك روضة من جنة ووجدت ظلاً في ثراه ظليلا أم كان قبرك من لهيب جهنم ورأيت شيئاً في التراب مهولا ماذا تقول لمنكر ونكيره أتقول إنك لم تكن مسئولا ماذا تقول لمن سيحصي كل ما قد كان منك كثيره وقليلا ماذا تقول لصاحب الجبروت في يومٍ يصير به العزيز ذليلا أتقول إنك قد نبذت كتابه ورضيت قانون الضياع بديلا أتقول إنك ما اقتديت بشرعه يوماً وإنك تهجر التنزيلا أتقول إنك قد سجنت دعاته وجعلت قيد الصالحين ثقيلا أمسيت في ثوب الرئاسة رافلاً ورأتك أجفان النهار قتيلا أمسيت تنتظر المحاكمة التي صغتم بها للاعتداء فصولا هأنت تخرج من حياتك عاجزاً وتركت خلفك قصرك المأهولا قواتك اضطربت فما رفعت يداً تحميك أو أرخت عليك سدولا ما بال ضباط الحراسة أصبحوا خرساً وأطرقت الرءوس ذهولا قل للذين سمعت قرع نعالهم لا تتركوني هاهنا معزولا واسأل فرنسا ربما مدت يداً للقبر أو بعثت لك الأسطولا! إلى آخر القصيدة.(35/20)
من أخبار تونس
أما في تونس فالخطب عظيم، جاءتني تقارير مذهلة جداً خمسون ألف مسلم سجين هناك، وتؤكد الأخبار يوماً بعد يوم عن حرب الإسلام وأهله في تونس، الحريات صودرت والكرامات ديست، والمساجين قد صودرت أبسط حقوقهم، وهم في حالة يرثى لها، يعذبون صباح مساء، ويعتدى على حرياتهم الشخصية، ويجبرون على أعمال خسيسة حتى وصلت بهم الدناءة والخسة إلى درجة لا يصدقها إنسان، فأين المنظمات الدولية من هذا الأمر؟ امتلأت السجون بالشباب والفتيات من المسلمين، لا لشيءٍ إلا أنهم ينتسبون إلى الخير وأهله، ويطلق الشباب لحاهم، وأما الفتيات فيرتدين الحجاب.
صدرت قرارات سرية بمساءلة كل رجل يرى عليه لحية، وكل امرأة تلبس الحجاب، وصدر قرار بنزع الحجاب على رؤوس النساء جبراً وخاصة في المدارس والجامعات، بل وحتى في الشوارع، وتعرضت الفتيات لمضايقات من يسمون يسمى برجال المباحث والمخابرات، وصدرت قرارات سرية تدعو لملاحقة المتدينين والتجسس عليهم سواء كانوا من العلماء أم الشباب أم المساجد أم الجامعات، والويل لمن لا يطبق هذه القرارات، بل وصل الأمر إلى أن الكليات الإسلامية تجري مسابقة رياضية في كلية أصول الدين، والنساء من الطالبات في الكلية لبسن السراويل القصيرة التي تخرج نصف الفخذ من الفتاة، هذا كله لكي يبعد هؤلاء المدرسون عن أنفسهم التهمة؛ وليقولوا: إنهم ليسوا ضد القرارات السرية خوفاً من الطغيان حتى لا يزج بهم في غياهب السجون كما فعل بخمسين ألف سجين، والذي يزور تونس هذه الأيام لا يصدق أنه في دولة تدين الإسلام بسبب المحاربة العظيمة لجميع مظاهر الإسلام.
حدثني شباب تونسيون أنه الآن ولأول مرة ظهرت أفلام تونسية محلية تظهر فيها الفتاة المسلمة كما ولدتها أمها، وفي أحد الأفلام اسمه عصفور الصف -كما أخبروني- يقولون: ظهر فيه سبع لقطات عاريات لأول مرة في تاريخ تونس، وذلك ليقولوا للغرب: نحن دولة علمانية، نحن نفتح ذراعينا للسياحة الغربية، ونقول للسواح من كل الأجناس والأديان: تعالوا من أجل تنشيط الاقتصاد التونسي، وهانحن قضينا على المتطرفين الذين يشكلون لكم بعض الإزعاج.
وجاءتني أيضاً رسائل من بعض المضطهدين أو من يتصل بهم في تونس منها رسالة تتعلق بأوضاع النساء تقول: قامت قوات أمن الدولة باختطاف إحدى الأخوات زوجة أحد المجاهدين واقتادوها إلى الوزارة هناك، وتعرضت للضرب والتعذيب، وجردت من ثيابها، وضايقوها، وصورت بالفيديو على حالٍ سيئة لمساومة زوجها على أقواله أمام المحكمة وتحطيم معنوياته، مما أدى إلى إصابة تلك الأخت بانهيار عصبي ألزمها الفراش، علماً أنه قد تم تلفيق شريط لزوجها حين كان في السجن.
ثانياً: قامت عناصر من فرق الأمن باغتيال أخت أخرى وهي زوجة لأحد المؤمنين هناك، ومورست عليها شتى صنوف التعذيب، حيث تم تجريدها من ملابسها، واعتدي عليها بالضرب والحرق بالسجائر، وهددت بالاعتداء عليها جنسياً لأخذ معلومات حول مكان اختفاء زوجها، وقد تكررت هذه الممارسة العديد من المرات.
ثالثاً: تعرضت إحدى الزوجات خلال اعتقالها إلى حروق بليغة في صدرها تنكيلاً بها وبزوجها، وإضافة إلى آلاف من الحالات الأخرى التي يضيق الوقت بذكرها.
وهذا تقرير لمنظمة العفو الدولية! لم نسمع أية مؤسسة إسلامية مع الأسف الشديد تكلمت، ولا جهة خيرة ولا هيئة إسلامية دافعت، ولكن سمعنا هذا التقرير من منظمة العفو الدولية! وقد قمت بنفسي بإيصال هذا الخطاب إلى سماحة والدنا الشيخ عبد العزيز بن باز قبل نحو شهر أو شهرين، وطلبت منه مع بعض الإخوة الدعاة وطلبة العلم أن يكتب، وفعلاً كتب سماحة الوالد خطاباً إلى رئيس الدولة هناك يذكره بالله عز وجل، ويطالبه برفع الظلم عن المسلمين، وقد أخبرني آخر مرة التقيت به فيها قال لي: لم يأت رد منه حتى الآن، هذا التقرير من منظمة العفو الدولية وهي منظمة غير إسلامية يتكلم عن التعذيب في سجون تونس ولأن التقرير طويل وخطير ومزعج ولا يتسع المجال لقراءته فإنني أحيلكم إلى مجلة المجتمع عدد (106) فإنها قامت بنشر هذا التقرير أو نشر فقرات منه.
أخيراً وليس آخراً لأنه بقي أشياء كثيرة لا يتسع لها الوقت، فهناك موضوع يتعلق بالرياضة والاحتراف، وأنتم تعلمون أنه قد أقر قانون الاحتراف الآن، وسُمِحَ بمجيء اللاعب الأجنبي ليشارك في النوادي الرياضية السعودية، وهناك تصفيق صحفي على هذه القرارات الخطيرة قرار الاحتراف وقرار اللاعب الأجنبي، والذي كان معمولاً به ما بين 97 إلى عام 1402هـ، ومعنى ذلك أن النوادي سوف تستقبل أعداداً كبيرة من اللاعبين، وكثيراً ما يكونون من النصارى، تذكرون مثلاً ريتي رينو الذي كان يعمل هنا ويلعب هنا، يقول لي شاهد عيان: رأيته بعيني في أستاد جدة الرياضي، والله رأيته وأحد كبار لاعبي الكرة ينكب على قدميه ويقبلهما، كما رأيناه جميعاً وقد حمل على الأعناق في الصور، فهذا الآن يفتح المجال للاحتراف، وقد صفقت وهللت الصحف لمثل هذه القرارات، ونذكر أيضاً أن بعض اللاعبين كان يعطى ستين ألف ريال كمرتب فضلاً عن المخصصات الأخرى من أجل أن يشارك في أحد الأندية، ويقولون: إن هذا سوف يعطي دفعة جديدة للرياضة السعودية، وأقول: أي قيمة لرياضة مستعارة يكون الفائزون أولئك فضلاً عن أن الرياضة أصلاً رأينا فيها معروف، وقد أخذت أكبر من حجمها وأصبحت ملهاة للكثير من الشباب.
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأصلي وأسلم على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(35/21)
الشباب والغريزة
إن طريق الشيطان إلى القلوب يتمثل بمرضين هما: مرض الشبهات ومرض الشهوات، ويدخل الشيطان إلى القلب عن طريق الشهوات بوسائل عديدة منها النظر إلى الحرام والتعلق بالحرام والعشق والشذوذ.
ويستطيع الإنسان أن يحصن نفسه من الشيطان بوسائل عدة منها: الخوف من الله، والتبصر بالعواقب والزواج والصوم والسعي إلى إصلاح النفس.(36/1)
من أوصاف المنحرفين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وليس من قبيل المجاملة أو سلوك الطرق التقليدية في بداية الحديث؛ أن أقول لكم: إنني مسرور بالاستماع إليكم، ومسرور بمشاهدة وجوهكم المشرقة النيرة، وإن هذا شعور يلاقينا كلما رأينا ثلة من شباب هذه الأمة، نقرأ في وجوههم -إن شاء الله- حب الخير والتطلع إليه، والبحث عن الطريق المستقيم.
وأنا ألحظ في وجوهكم، وفي عيونكم ونظراتكم، وفي صمتكم الدال على الرغبة في الخير والبحث عنه، وتلمس الطريق المستقيم، أقرأ من وراء ذلك خيراً كثيراً، لا أقول هذا مجاملة في بداية الحديث، ولكني أقوله تعبيراً عن شعور في قلبي.
أيضاً أشكر أخي سعادة الأستاذ صالح التويجري مدير المعهد، والإخوة الأساتذة الذين كانوا -بعد الله تعالى- وراء هذا النجاح الكبير الذي يحظى به المعهد بتوفيق الله، سواء على المستوى الأخلاقي والديني، وهذا بالدرجة الأولى، أو على المستوى العلمي والفني، وهذا مطلب مهم باعتباره من أهم أو هو أهم أهداف إنشاء هذا المعهد.
وهم -أيضاً- كانوا وراء حضوري إلى هذا المكان، فقد كان لحرصهم -جزاهم الله خيراً- ورغبتهم، السبب في مجيئي إليكم وحديثي معكم.
أحبتي الشباب! قبل أن أدخل في الموضوع الذي حددت أن أتكلم معكم فيه، أقول: لفت نظري في قراءة الأخ للآيات وصفان ذكرهما الله تعالى في وصف المنحرفين عن الصراط، فهو سماهم مرة بالكافرين، فقال: {َ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59] وسماهم مرة أخرى بالمتكبرين، فقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60] وهذا فعلاً ملفت للنظر.(36/2)
معنى الاستكبار
لاحظ الوصف الثاني الذي سماهم الله به، وهو وصف المتكبرين قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60] وفي الآية الأخرى: {الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23] .
إذاً: الاستكبار ما هو؟ أعظم ألوان الاستكبار هو الاستكبار عن الحق، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر} وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] .(36/3)
أساس العبودية لله التذلل له
ومن هنا نلاحظ أن أساس العبادة وصلبها يقوم على أساس أنه يوجد إنسان ذليل، وهناك رب عزيز، فالذي ليس عنده استعداد؛ لأن يذل نفسه، لا يمكن أن يكون عابداً أبداً، ولا يمكن أن يكون مسلماً أبداً، لكن لا يذل نفسه للشهوة ولا للطاغوت ولا للناس مهما كانوا، إنما يذل نفسه لواحد فقط وهو الله.
انظر إلى العبادة كيف هي، أعز ما في الإنسان، وأكرم ما عليه وجهه، ولهذا الإنسان إذا أراد أن يهين آخر، يسيء إليه في وجهه، بحركة أو بقول أو بكلام أو بضرب، ولهذا من باب تكريم الإسلام للوجه وللإنسان، أن الرسول عليه السلام قال: {إذا قاتل أحدكم أخاه -أي ضاربه- فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته} أي لا تضرب الإنسان في وجهه، حتى لو أردت أن تؤدب ولدك، أو من هو أصغر منك تؤدبه، لكن لا تضربه على الوجه، اضربه في أي موضع آخر، الوجه له تقدير وتكريم، لأن الله تعالى كرم الإنسان، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] وأجمل وأحسن وأعلى ما في الإنسان وجهه، وهو لذلك مجمع الحواس، فالسمع، والبصر، والذوق، والشم، وكذلك العقل الذي يفكر به الإنسان، كلها تجتمع في رأس الإنسان.
إن العبادة التي يطالب المسلم أن يعملها، تتعمد أن يذل هذا الإنسان أعز ما فيه -وهو هذا الجزء المهم من جسمه - بذله لله فقط؛ لأن الذل لله تعالى عز، ولن تجد في الدنيا كلها عزاً أعظم من أن تذل لله تعالى.
إذاً: رحى العبادة تدور على الذل، فتجد أن الإنسان إذا صلى فأول ما يفعله أن يطرق رأسه مطأطئه، لا ينظر يميناً ويساراً، وفوق وتحت؛ بل تجد أن المصلي العابد حقاً وجهه في الأرض، ينظر للأرض، عيونه مثبتة في موضع السجود، لا يلتفت يمينه ويساره، ونهى الرسول عليه السلام عن الالتفات، وقال: {هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد} هذا وهو واقف.
فإذا ركع تجده يطأطئ رأسه، والقيام والركوع في الصلاة تمهيد لغاية الانكسار لله وهو السجود، حيث يهبط الإنسان ويهوي إلى الأرض فيجعل جبهته على التراب -ليس شرطاً على التراب- إنما على الأرض، على فراش أو على شيء يسجد عليه، المهم أنه جعل أعز ما فيه أسفل شيء من جسده -وهو وجهه- جعله على الأرض، ثم يقول: سبحان ربي الأعلى.
أي: في الوقت الذي أنا فيه ساجد، إنما جعلت جسمي كله في الأرض اعترافاً بألوهية العلي الأعلى، واعترافاً بأنه هو المستحق وحده للعبادة.(36/4)
الذل لله عز وجل
ولذلك تجد هذا الإنسان الذي يعبد ربه بهذه الطريقة، بقدر ما هو ذليل لله، تجده عزيزاً عند الناس، عزيزاً بشكل لا يمكن أن يخطر في بالك، يمكن أن تذهب روحه ولا يذل نفسه.
أحد العلماء سجن، وحكم عليه بالإعدام، فجاءه بعض الناس يتوسطون، وقالوا له: نريد منك أن تكتب كلمة واحدة تعتذر فيها إلى الحاكم؛ من أجل أن يطلق سراحك ويعفو عنك.
فقال: إن السبابة التي تشهد أن لا إله إلا الله، لا يمكن أن تخط كلمة واحدةً تقر بها حكم طاغوت ورضي -فعلاً- أن يقتل، ويعلق على المشنقة وهو يبتسم؛ لأنه يرى أن المسلم أعز من أن يسترحم للباطل أو يذل له.
المسلم الحق قد يموت ولا يمد يده لأحد يسأله، ولهذا جاء جماعة من الصحابة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأسلموا وأوصاهم بأشياء، فكان من ضمن ما أوصاهم به عليه الصلاة والسلام أن قال لهم: {لا تسألوا الناس شيئاً} فكان أحدهم -لاحظ التطبيق- يسقط السوط من يده وهو على البعير، فلا يقول لأحد: أعطني السوط؛ بل ينزل ويأخذ السوط ثم يصعد مرة أخرى، حتى كلمة اعطني السوط لا يقولها! إذاً الذل لله تعالى هو العز، والفقر إلى الله تعالى هو الغنى، وهذه قضية أساسية في الدين، فالعبادة تقوم على الذل، وكل حب يقوم على الذل، فالعشاق -مثلاً- والمحبون، تجد أن أبرز صفات العاشق -في التاريخ والأدب والواقع- تجده ذليلاً لمن يحب، حتى لو طلب منه أن يعمل أبشع الأعمال وأسوأ وأحط الأعمال، فإنه يفعلها من أجله ولا يتردد، بل يعتبر هذا شرفاً له، لماذا؟ لأنه يعتبر هذا من التعبير عن الحب، ولهذا يقول الشاعر: مساكينُ أهلُ الحب حتى قبورُهم عليها غبارُ الذل بين المقابر فإذا كان العبد يحب الله تعالى، فمعناه أنه لا بد أن يعترف له بالذل، أنه ذليل بين يديه، منكسر ومفتقرٌ إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] ليس الفقر في المال فقط؛ بل هذا النَّفَسُ الذي هو سر حياتك الذي يدخل ويخرج، هو يتحرك بإدارة الله تعالى، ولو شاء الله تعالى لحجزه وانتهت حياتك، فالفقر فطري في الإنسان.(36/5)
سبب تسمية المنحرف عن الصراط بالكافر
إذاً لماذا سمى الله الذي ينحرف عن الطريق المستقيم كافراً؟ يجب أن نسأل أنفسنا هذا السؤال.
سماه كافراً لأن الفطرة عنده موجودة، والعقل عنده موجود، والمعرفة عنده في النهاية موجودة، ولكنه يستر هذه الحقائق الموجودة بنفسه، بمعنى أنه يغالط نفسه ويضحك على نفسه، فالحق معروف لديه، وعندما تجادله توصله إلى طريق مسدود وتحرجه فعلاً، ولكنه يخادع نفسه، ويسلك الطريق المنحرف، وبعد ما يسلك الطريق المنحرف يقول: لا أريد أن أثبت للناس أنني أعرف الحق وأتركه، وأنني أسلك طريق الباطل على رغم أنني أعرف أنه خطأ، لا أريد أن يفهم الناس عني هذا، لأن هذا دليل على أنني ضعيف الهمة.
إذاً: ما الحل؟ الحل هو أن يقول الإنسان: إن هذا الطريق الذي سلكته -وهو يعرف أنه طريق خطأ- يقول: لا هذا صواب! وذاك الطريق الذي تركه -وهو يعرف في الواقع أنه طريق الحق- يقول: لا! هذا خطأ.
هذا أصل معنى كلمة الكفر، وقد تجد إنساناً يسلك طريق الخطأ، لكنه صادق مع نفسه وصريح، عندما تقول له: يا أخي! لماذا أنت على هذه الحال؟ يقول لك: يا أخي! أنا أعلم، ولا أحتاج أن تقول لي إن هذا خطأ، وأنه غير لائق مني، لكن يا أخي عسى الله أن يهديني، وعسى الله أن يأخذ بيدي، وأنا عندي ضعف همة، والسبب سوء التربية في الطفولة، وعدم وجود من يوجهني، وو إلى آخره.(36/6)
أمثلة للإعراض عن الحق
وأضرب لكم مثالين قريبين لا يتعلقان بموضوع الكفر، لكن يتعلقان بأن الإنسان في كثير من الأحيان يعرف الحق، ولكنه إما إن يعرض عنه ضعفاً، أو لغير ذلك من الأسباب، ثم من الناس من إذا ترك الحق حاول أن يجعل الحق باطلاً، ويجعل الباطل حقاً: من الصور الموجودة في مجتمعنا: صور المغنين والغناء، والمجتمع يتكلم عن الغناء على أنه نوع من الفن كما يسمونه، وتكتب عنه الصحف في الملاحق الفنية، وذلك لأن الفن عندنا -وفي كل مكان- له دور كبير في تخدير المشاعر، وصرف الناس عن الاهتمامات الحقيقية التي ينبغي أن تشغل عقولهم، إلى اهتمامات أخرى ثانوية أو ساقطة أحياناً.
فالفن -كما نعلم في الغالب- يخاطب غرائز الإنسان، ويتكلم عن العشق، والحب، واللقاء، والوصال، والهجر، وصفات المحبوبة، ولون شعرها، ولون رمشها ووجهها ونظرتها، وضحكتها إلى آخره.
هذا اللون من الفن وما يصحبه كما تعرفون من الموسيقى والغناء وتحسين الأصوات، وظهور أصوات الرجال تسمعها النساء فتتكسر قلوبهن، أو ظهور أصوات النساء يسمعها الرجال إلى آخره.
هذا الفن قد تواجه اثنين واقعين فيه، يشتغلان بالغناء، أنا رأيت اثنين منهم- كتاب - أحدهم لاحظت في رأسه شيباً، وهو لا يزال في مقتبل العمر، فقلت له: لماذا ظهر فيك الشيب على رغم صغر سنك؟ قال لي: أقول لك بصراحة، ظهر الشيب علي وأنا في مقتبل عمري، وذهبت للأطباء وسألتهم، فقالوا لي: إنك تواجه مشكلة نفسية، ووضعاً قلقاً وعدم ارتياح، أنت غير مقتنع بالوضع الذي أنت فيه.
وقال: أنا بصراحة غير مقتنع ولا أشعر أني خلقت لأكون مغنياً، ولا لأن أصدح بهذه الكلمات في آذان الناس، أنا أحس أنني شيء آخر غير هذا.
فقلت له: إذاً ما الذي جاء بك إلى هذا المجال؟ فقال: أنا بصراحة أعتبر المسئول الأول والأكبر عن هذا الموضوع هو والدي رحمه الله؛ لأنه غفل عني، ولم يهتم بي ولم يوجهني، بل ربما كان يشجعني، حتى كبرت ووجدت نفسي في هذا الأمر، ووجدت نفسي محاطاً بصداقات، وعلاقات، ومعرفة، وارتباطات، ومواعيد، وأمور، وشهرة، وسمعة، وأشياء كثيرة كسبتها من وراء مثل هذا الأمر، فلم يعد من السهل أن أسحب نفسي.
وليست القضية قضية أن أترك المجال فقط، القضية تتطلب قدراً من قوة العزيمة والإرادة، والصبر والتحمل، قد لا أملكها الآن، لكن لو عرفت من البداية لكان من السهل أن أتراجع.
انظر! هذا إنسان سالك طريق خطأ، طريق الغناء، لكن سلوكه هذا الطريق ما جعله يقول: لا يا أخي ليس في هذا شيء، لماذا أنتم تبالغون كثيراً؟ الغناء ليس فيه بأس، فهو لم يسلك الطريق هذا، إنما سلك طريق الوضوح والصراحة حتى مع نفسه.
تأتي لإنسان آخر يسلك نفس الطريق، فعندما تتحدث معه، تجد أنه يركز كثيراً ويقول لك: يا أخي الغناء لا شيء فيه، الغناء أمر مباح، وقد كان فلان يسمع الغناء، وكان فلان من العلماء يبيح الغناء، ويحاول أن يفلسف لك الخطأ حتى يتحول الخطأ إلى صواب! لاحظ الفرق الكبير!! الثاني يستر الحقيقة والأول يكشفها، وسبحان الله! ما من إنسان -غالباً- إلا وعنده شعور وميزان داخلي يستطيع أن يهتدي به إلى شيء من الحق، ولهذا يقول الله تعالى، كما في الحديث القدسي: {إني خلقت عبادي كلهم حنفاء} أي: على الفطرة المستقيمة الواضحة البينة، بحيث أي إنسان لو تُرِكَ وشأنه، لاهتدى إلى الله عز وجل، أي إنسان لو تركته وشأنه لاهتدى إلى الله تعالى، صحيح أنه لا يستطيع أن يعرف الدين، ولا يستطيع أن يعرف الإسلام، لا يستطيع أن يعرف أن هناك خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن هناك نبياً اسمه محمد عليه الصلاة والسلام بعث إلى الأمة، وأن هناك كتاباً اسمه القرآن، وأن هناك شهراً اسمه رمضان يصام، وأن هناك حجا، وصفة الحج كذا، هذه التفاصيل بالتأكيد لا يمكن معرفتها إلا عن طريق الوحي؛ لأنها من الله.
لكن شعوره بأن الله موجود، وأن الله هو المعبود الحق، وأنه يجب أن يتوجه ويتأله بالقلب إلى الله، هذا يعرفه بفطرته، كيف لا يعرفه والحيوان يعرفه يا أخي؟! إذاً: الله تعالى عندما يسمي المنحرفين عن الصراط المستقيم كفاراً، إنما يسميهم كفاراً لأنهم يسترون الحقيقة التي يعرفونها في قلوبهم، أي يضحكون على أنفسهم ويخادعون أنفسهم، فيصورون أن ما وقعوا فيه من الخطأ أنه صواب، وأن ما تركوه من الصواب أنه خطأ، ولهذا سماهم الله كفاراً.(36/7)
معنى الكفر
ما معنى الكافر في لغة العرب؟ وأنتم أهل الزراعة تعرفون كما قال الله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] كما قال في الآية الأخرى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] فالمزارع يحفر الأرض والتربة، ويضع فيها الحب ثم يدفنه، ولذلك ما زالت القرى الصغيرة في عدد من البلاد في مصر وغيرها، يسمونها (كفور) كفركذا، أو كفر كذا، أي: قرية كذا أو مجموعة من المزارع.
إذاً الكفر في أصل اللغة هو الستر والتغطية، ومنه يسمى المزارع أو تسمى الزراعة أو القرية بالكفر؛ لأنهم يبذرون الحب ويدفنونه في التربة.(36/8)
أمراض القلوب
أقول: قلب الإنسان بطبيعته فيه تشتت وتفرق، لا يمكن أن يلمه ويجمعه إلا الإقبال على الله سبحانه وتعالى فإذا أقبل العبد على الله أقبل الله تعالى عليه، وحفظ له قلبه، وجمع شمله، ووحد همه، فصار هذا الإنسان يملك من الاستقرار والانضباط والسعادة الشيء الكثير، وإذا أعرض عن الله تعالى أعرض الله تعالى عنه، حتى لا يبالي في أي أودية الدنيا هلك، فتجد هذا الإنسان ليس له قاعدة، وتجده يبحث عن السعادة في كل مكان لكن لا يحصل عليها.
فمن الأشياء المسلطة على قلب الإنسان -وهي قضية أساسية بالنسبة للشباب-: قضية الشهوة، والقضية الثانية: قضية الشبهة.
فهذان المرضان هما: اللذان يهلك بهما من يهلك من الناس، إما أن يكون هلاكه بشهوة، أي: دوافع غريزية تدفعه إلى الوقوع في الحرام، فينجر من الحرام إلى حرام آخر وهكذا.
الأمر الثاني هو الشبهة: يخطر في قلبه وفي عقله -أحياناً- تساؤلات لا يجد لها جواباً، فتجره إلى التفكير بشكل معين، وقد توقعه في نوع من الإلحاد، أو توقعه في نوع من الشك على أقل تقدير، أو وسوسة في قلبه تنغص عليه حياته.(36/9)
الزواج هو الطريق الشرعي لتصريف الشهوة
ففيما يتعلق بالشهوة: هي أصلاً فطرة مركوزة في كل المخلوقات، وهي فطرة أو غريزة مركبة لحكمة ومصلحة يعلمها الله لاستمرار التناسل في الكون، سواء للإنسان أم للحيوان، وقد جعل الله تعالى الزواج أو التزاوج بين البشر، هو السبيل الشرعي الصحيح لإشباع هذه الغريزة وهذه الفطرة، وجعلها تسلك طريقها الصحيح، لكن -كالعادة- الشيطان لا يمكن أن يرضى لك بسلوك الطريق الصحيح، بل الغريب أن الشيطان إذا سلكت الطريق الصحيح يحاول أن يثنيك عنه، ولهذا جاء في صحيح مسلم: {إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه يضلون الناس ويخربون فيما بينهم، فيأتيه واحد ويقول: فعلت كذا وكذا وكذا -أي من المعاصي- فيقول: ما فعلت شيئاً -أي: أنه سوف يتوب ويستغفر- فيأتيه الثاني ويقول: ما زلت بفلان حتى فرقت بينه وبين زوجته.
فيقربه الشيطان ويدنيه ويقول: أنت أنت} أي: وهذا جيد، عملك حسن، لماذا؟ لأنه فرق بينه وبين زوجته.
إذاً الطريق الصحيح الذي هو طريق الإشباع الفطري بالزواج، يحاول الشيطان أن يجعل أمامك ألف عقبة، وإذا تحقق الزواج حاول الشيطان أن يجعل هناك مشكلات عائلية مستمرة بينك وبين زوجتك حتى يفرق بينكما، لأن هذا الطريق لا يصلح له، يحبط جهوده ويخرب ما يهدف ويسعى إليه.(36/10)
الشباب ومشكلة الزواج
ولذلك تجد كثيراً من الشباب عندما تحدثه في موضوع الزواج يضحك، ويقول لك: الله المستعان! أنت تتكلم عن خيال! أتزوج! أنا الآن طالب في الثانوي، أمامي تأمين المستقبل، أمامي الوظيفة، هل أسكن زوجتي في أي بيت؟! وكيف أصرف عليها؟! وكيف أصرف على نفسي؟! وأمور ومشاكل وقضايا، وأمامي ثلاثة من إخواني لم تزوجوا بعد، ووالدي لا يمكن أن يساعدني! أتذكر الصحابي الذي سأل الرسول عليه الصلاة والسلام، وجلس عنده {فجاءت امرأة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ووقفت عنده، وقالت: يا رسول الله! جئت أهب نفسي لك -أريدك أن تتزوجني، لأن الرسول عليه السلام -بلا شك- كل امرأة شريفة يسرها أن يكون زوجها- فنظر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وصعد النظر وصوبه -كأنها ما أعجبته عليه الصلاة والسلام- فسكت قليلاً، فجاء رجل من عنده، وقال: يا رسول الله! زوجنيها إذلم يكن لك بها حاجة، قال له الرسول عليه السلام: ابحث عن مهر -التمس- فذهب ورجع وما وجد شيئاً، قال: ما وجدت شيئاً يا رسول الله، ما وجدت إلا إزاري هذا، -عليه إزار ورداء، قال: أعطيها واحداً، فهو من اقتناعه بأهمية الزواج مستعد أن يتخلى عن ثوبه من أجل أن يتزوج- فقال: إن أعطيتها إزارك بقيت ولا إزار لك، لكن التمس ولو خاتماً من حديد، فذهب وبحث فما وجد، فسأله: هل عندك شيء من القرآن؟ قال: نعم عندي سورة كذا وسورة كذا.
قال: أزوجك إياها على أن تعلمها هذه السور.
فزوجه إياها على سور من القرآن يعلمها إياها} .
المقصود من هذه القصة: هذا الرجل الصحابي لأن تفكيره سليم، أدرك أن الزواج حاجة ضرورية فطرية غريزية في الإنسان، وأن الإنسان ما دام أنه لم يتزوج فإنه يعتبر ناقصاً، تفكيره غير مستقل، وغير مستقيم، فيه نقص معين، وحياته غير مستقرة، أموره غير منضبطة، ولهذا فهو من شدة تفانيه في موضوع الزواج مستعد أن يتخلى عن ثوبه من أجل أن يتزوج.
لكن نحن الآن لا نجد هذا في نفوس الكثيرين، تجد أن الإنسان يشعر أن فكرة الزواج -أصلاً- مؤجلة خمس أو ست سنوات، وهذا عنده أمر مفروغ منه، وأنا حدثت في هذا كثيراً من الشباب، ففكرة الزواج عنده مؤجلة، وبالتالي لا يفكر فيها أصلاً، والكلام الذي تقوله يزل عن أذنه مثل ما يزل الماء عن الصخرة يميناً وشمالاً، لأنه ليس عنده استعداد أصلاً أن يفكر في الموضوع، لكن لو أقنع نفسه -على أقل تقدير- بأن يفكر في الأمر، فيمكن أن يجد بعض الحلول.
أقل تقدير أنه بدلاً من أن الزواج عنده بعد ست سنوات، أن يقتنع أنه يمكن أن يجعل المدة ثلاث سنوات، ويجد في العمل، ويرتب أموره بشكل معين؛ حتى يستطيع أن يحقق ذلك.
مثلاً: عندنا طلاب في الكلية يقول لك: زواجي بعد ما أتخرج، وأتوظف، وبعد ما يا أخي! أنت الآن طالب، فإذا كنت تشعر بالحاجة، فما هو المانع من أن تنتسب في الكلية، وتبحث عن عمل وظيفي تستفيد من ورائه، وتكوّن نفسك بشكل صحيح، وتعد موضوع الزواج؟ ما الذي يمنع الإنسان أن يكون له عمل إضافي؟ يقول لي بعض الناس: أتينا إلى أناس في كثير من البلاد، وهم شباب جسم الواحد منهم كالفيل في القوة، وصحته -ما شاء الله تبارك الله- ومن أسر وعوائل، ويعتبره الناس أنه ابن وزير، أو ابن مسئول كبير، أو ابن غني وثري من الأثرياء، ويمكن أن تجد الشاب هذا يعمل في بعض المطاعم؛ ينظف المطعم أو ينظف الصحون؛ مقابل مبلغ معين من المال، فليس في العمل ومواجهة العمل، أي ذلة، كما -مع الأسف- تلقينا هذا وتعودنا عليه في بيئتنا، بالعكس هذا شرف للإنسان أنه يعمل.
محمد عليه الصلاة والسلام، أشرف الناس وأكرم الناس، كان يعمل في المطبخ مع زوجته: {كان يكون في حاجة أهله، حتى إذا أذن المؤذن خرج إلى الصلاة} .
فكيف تكون هذه أشياء غير شريفة أو أشياء غير محمودة؟! وكذلك نبي الله داود كان يأكل من عمل يده، وأشرف المكاسب أن يأكل الإنسان من عمل يده.(36/11)
طرق الشيطان في إشباع غريزة الجنس
الشيطان وضع أمامك ألف عقبة أمام الإشباع الحلال وهو: الزواج.
وبالمقابل فتح أمامك أبواباً كثيرة من الإشباع الحرام.
مثلاً: من الإشباع الحرام: السفر فتجد هذا الشاب الذي يقول لك: ليس عنده مال، يجمع من هنا ومن هنا، حتى إذا جاءت الإجازة؛ فإنه يكون قد وفر له مبلغاً من المال يسافر به إلى أماكن الرذيلة والعياذ بالله فيعود وقد فقد دينه، وفقد عرضه، وفقد أخلاقه، وفقد صحته، وفقد أشياء كثيرة، ولو أنه جمع هذا المال مع مثله مع مثله مع مثله؛ لاستطاع أن يستغني بالزواج.(36/12)
النظر إلى الحرام
من الطرق التي يفتحها لك الشيطان: طريق النظر إلى الحرام سواء النظر المباشر للنساء الغاديات والرائحات، أو في صور المجلات، أو في الأفلام أو غيرها، بحيث أصبح هذا والعياذ بالله دأباً وديدناً لكثير من الشباب، يتمتعون بالنظر إلى الممثلات، والمغنيات والراقصات، سواء في المجلات -كما ذكرت- أو في التلفاز، أو في أفلام الفيديو، أو غيرها، بحيث إنهم يعتبرون هذا جزءاً من حياتهم، يتكلمون فيها كما يتكلمون عن زملائهم في العمل، فلانة شكلها كذا، وهذا شكله كذا وإلى آخره بأمور معينة.(36/13)
التعلق بالحرام والعواطف المنحرفة
بعضهم قد يشبع هذا الجانب عن طريق التعلق بالحرام، أي العشق أو الحب.
والعشق يمكن أن يكون -أحياناً- لامرأة، وهذا -مع الأسف- أصبح جزءاً منه وهماً، وجزءاً منه حقيقةً.
فالحقيقة أن الإنسان كما قال الله تعالى: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:14] يفتن نفسه، ينظر ويتأمل، وكأنه يود أن يقع أسير هذا الأمر.
وأحياناً يكون وهماً بأن الإنسان يضحك على الآخرين، فكم من إنسان منَّى الفتاة بالأحلام المعسولة وضحك عليها، وأعطاها الكلام الحلو؛ من أجل أن يبتز منها أنوثتها، ثم يتركها تبكى ويذهب إلى غيرها، وكثيراً ما يقع مثل هذا الأمر.
وأحياناً قد يكون التعلق بإنسانٍ آخر، مثل الشاب بالشاب، فيكون بينهم قوة ارتباط وشدة تواصل.
وفي مجال النساء يسمونه إعجاباً، والشباب لا أعرف بالضبط ما يسمونه، قد يسمونه هكذا.
المهم أنه تعلق، تجد هذا الشاب -وقد رأيت بعض هؤلاء- عيونه ساهمة، وتفكيره كذا، كأنه معك وهو في الواقع غير موجود معك، لماذا؟ لأنه مبتلى بالتعلق بشخص معين، لا يجلس إلا معه، ولا يركب إلا به، ولا يستأنس إلا معه، ولا يمزح إلا معه، ولا يتحدث إلا معه، وقد أعطاه كل قلبه.
وهذا يعتبر شذوذاً، إذا وصل الحد إلى هذا اعتبر وانحرافاً في الغريزة، انحرافاً في العاطفة، يمكن لإنسان أن يحب آخر محبة معتدلة، يقدره، ويحترمه، ويفرح برؤيته، هذا طبيعي، لكن عندما يصل إلى هذا الحد أن يصبح الإنسان أسيراً للآخر، لو غاب عنه شعر بقلبه يخفق ويرفرف حتى يلتقي به، ولا يريد أن يفارقه، وقد يكون هذا سبباً وسبيلاً إلى الوقوع في الحرام من ارتكاب الفاحشة والعياذ بالله أو غيرها من الأمور التي تسخط الله -جل وعلا- وهذا أيضاً يوجد كثيراً خاصة بين الشباب الذين تكون أعمارهم متفاوتة.
والإنسان عليه أن يكون منتبهاً؛ لأن هذا خطر كبير حتى على مستقبله في الحياة الزوجية، لأن الفطرة أو القلب الذي انتكس وانحرف وخالف الفطرة، قد يكون من الصعب أن يعود أحياناً، ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى قوم لوط فرفع قراهم ثم أرسل عليهم حجارة من السماء، وقتلهم بها، وقلب عليهم ديارهم لماذا؟ لأن الفطرة عندهم انتكست وانحرفت، فما أصبحوا يصلحون للحياة، لا بد أن يصفى هؤلاء، ويخرجوا من الحياة بهذه العقوبة الإلهية، ليأتي بعدهم جيل آخر يكون مستقيماً ومعتدلاً.
فينتبه الإنسان إلى مثل هذه الغرائز، ومثل هذه التوجهات وما فيها من الخطر.(36/14)
آثار الإشباع المحرم للغريزة
هذا الإشباع المحرم الذي يتمثل بالسفر، أو يتمثل بالنظر ومتابعة النساء في مجال الواقع، أو في الأسواق، أو في المجلات، أو في الأفلام أو غيرها، أو يتمثل بالتعلق، سواء أكان تعلقاً بامرأة، أم بشاب مثله قد يؤدي إلى الوقوع في الفاحشة، من زنا أو لواط أو غير ذلك من الموبقات.
عموماً هذا الإشباع المحرم لو تأملتم لوجدتم له آثاراً معينة، وسأذكرها باختصار.(36/15)
الأمراض الجنسية
من عواقب وآثار الإشباع المحرم: قضية الأمراض الجنسية التي أصبحت تفتك بالشباب، وضحاياها بالملايين في العالم، وأصبحت هي أعظم تحدٍ يواجه هؤلاء المشبعين بالحرام والذواقين، وهي عقوبة من الله تعالى، الرجل مع زوجته لا يصيبه مرض جنسي، لكن مع امرأة في الحرام، الأمراض الجنسية تترصده، وكل يوم مرض جديد، وكلما اكتشفوا عقاراً جديداً ظهر آخر، ولعل الهربس، والإيدز، وبالذات مرض الإيدز الذي أصبح الآن ضحاياه مئات الألوف بل ملايين، وخاصة في العالم الغربي، وفي المناطق التي يكثر فيها السواح، مثل تايلاند، ومع الأسف شباب الخليج لأنهم أثرياء نوعاً ما هم أكثر من يذهب إلى هناك.
وقد أتيح لي مرة أن أسافر، حيث كنا ذاهبين إلى أندونيسيا، فوقفت الطائرة في مطار بانكوك، وعلم الله أننا نزلنا نصف ساعة أو ساعة في المطار على خجل واستحياء، لكن الأمر الذي يدمي قلبي، أني رأيت شباباً نعرف سحناتهم من السمر، من شبابنا، لأن السحنة واضحة، فتجده بشكل معين في المطار، والله المستعان.
فإذا رأونا خجلوا وأشاحوا بوجوههم، لكنها كارثة عظمى بأن يقفوا وراء هؤلاء كالذين لا يريدون بمجتمعاتنا خيراً.
فهذه البلاد بلاد تايلاند هي من أكثر بلاد العالم تعرضاً للإصابة بالإيدز، ولكنهم لا يعلنون هذا في الإحصائيات الرسمية؟ لأن هذا قد يقلل من نسبة السواح، فهم يعطون أرقاماً غير صحيحة حتى تظل السياحة إلى بلادهم قائمة؛ لأنهم يستفيدون مادياً واقتصادياً بشكل كبير من مجال السياحة، فلا يعطون الأرقام الحقيقية عن نسبة المصابين بهذا المرض وبهذا الداء.(36/16)
الفضيحة في الدنيا والآخرة
من الآثار السيئة: قضية الفضيحة، والفضيحة لها صور شتى، منها: افتضاح الإنسان في وقوعه في معصية، حتى يتكلم الناس عنه، حتى الذين يقعون في مثل ما وقع فيه يتكلمون عنه في المجالس ويقولون: أنا رأيت فلاناً وكذا وحصل له كذا، وأي شر أسوأ من أن يسود وجه الإنسان بفضيحة تلاحقه أبد الدهر.
صورة أخرى من صور الفضيحة أعظم من هذه، بعض الشباب في فترة من فترات غياب الموجه، وغياب الإنسان الذي يرشدهم، يسافرون إلى الخارج ويرتكبون الحرام، فيمكن أن يفضح عن طريق وجود مرض جنسي يصيبه بسبب المعاشرة المحرمة، وكثير من المومسات والبغايا في العالم مصابات بأمراض مثل الهربس والإيدز وغيرها.
والغريب أن علماء الطب يقولون: إن المرأة المصابة بهذا المرض الجنسي يصبح عندها حقد عجيب على الرجال، فتتمنى أن توقعم في الشرك، ولهذا تتزين لهم وتتعرض لهم، وتحاول أن تغريهم وتخطفهم، حتى إذا التقوا بها جنسياً انتقل المرض باللقاء الجنسي إليهم.
حتى أنني قرأت مرة قصة عجيبة، تقول: إن هناك رجلاً من أثرياء العرب وأصحاب رءوس الأموال، ذهب ودخل في أحد المطاعم في أوروبا، فلما دخل وجد فتاة في أول المطعم جالسة على الماسة بمفردها ومعها حقيبتها، وإذا بها قطعة من الجمال، فجاء وجلس إلى جوارها، وحياها وتحدث معها وضاحكها، ثم عرض عليها أن تذهب معه، فوافقت مباشرة، ومن الواضح جداً أنها استرسلت معه في هذا الأمر وكأنما كانت تنتظره.
فذهب وجلس وإياها في غرفة في أحد الفنادق، وارتكب معها الحرام، ونام آخر الليل، فلما استيقظ التفت ينظر إلى الفتاة فما وجدها بجانبه، وجد أنها قد قامت، فقام فزعاً؛ لأنه قد تعلق قلبه بها، قام فزعاً يتلفت في الغرفة فلم يجدها، ذهب يميناً وشمالاً فما وجدها، دخل إلى دورة المياه، فلما دخل وجد كلاماً مكتوباً على زجاجة المغسلة، مكتوب بالروج الذي تتجمل به المرأة بخط عريض: مرحباً بك عضواً جديداً في نادي الإيدز! وفعلاً فزع الرجل وذهل؛ لأنه عرف أن هذه المرأة مصابة، وأنها عندما كانت تنتظره عند باب المطعم، كانت تنتظره لتوقع به كما تنتظر فريستها، وفعلاً أصيب الرجل والعياذ بالله بهذا الداء القاتل بسبب هذه الوقعة، فهذه من الفضيحة.
وكثير من الشباب -دعك من الإحصائيات الرسمية لكن الحقائق تنطق- كثير من الشباب من هذه البلاد -فضلاً عن غيرها- ولك أن تطلق الخيال لعنانك، فكثير منهم قد يستحي -أصلاً- أن يبوح بإصابته بالمرض، لكن الذين يجدون أنفسهم مضطرين إلى مراجعة المستشفيات والمصحات أعداد كبيرة، فهذه يعني فضيحة كبرى والعياذ بالله.
وهناك فضيحة أيضاً بشكل ثالث، الفضيحة عن طريق وقوع الحمل، فقد يرتكب الإنسان الجريمة في ساعة من ساعات فوران الشهوة وغلبة الشيطان وغيبة الإيمان، فيكون جنى جناية عظمى على نفسه وعلى غيره.
فنحن إذا رأينا أو زرنا بعض الشباب الذين يكونون مجهولي الهوية لا يعرف من أبوهم، فنحن نشعر بحجم كبير من الشفقة عليهم، والرحمة لحالهم، والتحسس لهم، ونشعر بالجناية الكبرى والجريمة المنكرة، التي لا يمكن أن يقدرها الإنسان، على أب كان هو السبب في عذاب مثل هذا الولد، حتى إن الإنسان -أحياناً- يجد مشاعر لا يملك إزاءها إلا البكاء أمام أمثال هؤلاء الأبرياء، بعضهم أطفال في وجوههم براءة الأطفال، ابتسامات بريئة، لا يدري، وقد يدري بالأمر الصعب الذي يواجهه أمام المجتمع، حين يسأل عن أبيه فلا يجاب! من الفضائح -أيضاً- التي يتوقعها الإنسان ويترقبها -وهي أعظم الفضائح- الفضيحة على رءوس الأشهاد يوم القيامة.
وإذا كان الإنسان منا ليس عنده استعداد للفضيحة أمام عشرة أو عشرين أو خمسين الآن، فما بالك بفضيحته يوم القيامة على الخلائق كلهم من الأولين والآخرين؟! وهي فضيحة طويلة، ليست بيوم أو يومين أو شهر أو سنة أو عشر سنوات.(36/17)
الحرمان من المتعة الحلال
من عواقب وآثار الإشباع المحرم: أن الله تعالى يحرم الإنسان من المتعة الحلال.
فهؤلاء الناس الذواقون الذين جربوا على الأقل النظر، بغض النظر عن الوقوع في الزنى أو الفاحشة، -إذا عود الشاب نفسه على أنه دائماً وأبداً يسمر عيونه في التلفاز أو الفيديو، أو المجلات الخليعة، وينظر في النساء، فما الذي يحصل؟ النساء اللاتي يعرضن في التلفاز أو الفيديو أو المجلة، يختارون جميلات العالم، من أجل عرضهن على أنظار الشباب، وبطبيعة الحال المجلة حتى يأخذ مالك من جيبك فإنه يضع صورة جميلة على الغلاف، والفيلم من أجل أن يأخذ مالك وعقلك وأخلاقك -أيضاً- فإنه يضع فيه مناظر جميلة، ومشاهد تخدش الحياء.
فإذا عود الشاب نفسه على مثل هذا الأمر، عندما يتزوج ما الذي يحصل؟ يرى أن النساء اللاتي تعود على مشاهدتهن شيء آخر، لأنهن نساء منتقيات تحت إشراف، وتحت مراقبة معينة، وتحت اختيار ولجان وأمور، لن يحصل على مثلهن أبداً، ولو حصل -ولن يحصل بإذن الله- لكن لو حصل فستكون حياته مع إحداهن جحيماً لا يطاق، لأنها امرأة قد يستمتع بها الإنسان الغادي والرائح خمس دقائق ينظر إليها، لكن أن تكون زوجة عنده في البيت هذا لا يمكن؛ لأن الزواج مسألة والاستمتاع مسألة أخرى، فالزواج أبعد من هذا وأعظم من هذا.
المقصود أن هذا النظر الحرام فتح نفسه على هذه الأشياء، فعندما يريد الحلال يحرم من متعته.
مثلاً: افترض أنه يريد أن يخطب، وكل واحدة يذهب ليشاهدها، فإنه يقول: يا أخي لا تصلح، دخلت علي كأنها خشبة وليست إنساناً، لا أرى فيها شيئاً، لا تعجبني، فيتركها ويذهب لامرأة أخرى، فيقول: يا أخي! أعوذ بالله هذه أردأ من الأولى.
يذهب ليرى ثالثة ويقول: يا أخي لا أريد الزواج، لماذا؟ لأن قلبه انفتح، وليس عنده موازين مضبوطة، وليس عنده مقاييس، فهو ينظر إلى هذه الفتاة التي دخلت عليه، وفي ذهنه وفي عقله وفي قلبه تلك الفتاة التي شاهدها في التلفاز أو الفيديو أو في المجلة، فهو يقارن بالشكل، انظر كيف حرم من المتعة الحلال بسبب وقوعه في النظر الحرام! ويمكن أن يحرم حتى من المتعة الزوجية، التمتع بما أحل الله تعالى له من زوجه، بسبب نظره إلى الأخريات، وبسبب وقوعه فيما حرم الله تعالى، وكم من إنسان يعاني في حياته الزوجية ما يسمى بمرض العنة أو العجز الجنسي؛ بسبب وقوعه فيما حرم الله قبل ذلك، فيعاقب بعقوبة من جنس المعصية التي وقع فيها.(36/18)
زيادة اشتعال الشهوة
من أهم الآثار: زيادة اشتعال الشهوة.
فالإنسان عندما يريد هذا الأمر كأنه يريد أن يطفئ ناراً بقلبه، وشهوة تتأجج، لكن هل الواقع أن الشهوة تنطفئ بهذا؟ قد تهدأ عشر دقائق أو نصف ساعة، لكنها تزيد اشتعالاً فيما بعد ذلك، ولهذا أسوأ آثاره أنه يزيد من اشتعال الإنسان، يزيد من فوران الشهوة، فهو يفتح النفس والعياذ بالله بصورة معينة على الشهوات، حتى يكون الإنسان معذباً بشكل دائم.
يقول ابن الجوزي في بعض كتبه: هذا الإنسان الذي أصبح منفتحاً على الشهوات ذواقاً، يأتي إلى هذه وإلى هذه وإلى هذه، يقول: هذا لو أتي له بنساء بغداد كلها ما كفينه، فيصبح عنده زيادة في شهوته واندفاع وتوقد يعذب، ولهذا قال العلماء: من أحب شيئاً غير الله عذب به، فتجد الإنسان يعذب من حيث يظن أنه يبحث عن إشباع وتهدئة لغريزته، فهو مثل الذي يشرب من البحر ولا يزيده الشرب إلا عطشاً، قد يشعر بالامتلاء لكن يشعر بأنه عطشان، كأنه ما شرب شيئاً! ما شفا نفسه، وما شفا قلبه، وهو في الواقع يتوقع أو يظن أنه يشبع بهذه الطريقة.
على النقيض من ذلك: الإنسان الذي منع نفسه وجاهدها بعض المجاهدة، هل تعتقد أنه خسر؟ لا, أول نقطة: أنه قد هذب نفسه وغريزته فأصبحت في الطريق الصحيح.
النقطة الثانية: أن هذا النهم والجوع إلى المعصية الذي عند الآخر غير موجود عنده، لأنه وقف نفسه عند حد معين ونهاها عن الهوى، فانكفت وتوقفت وعرفت حدودها، واستطاع الإنسان أن يتحكم في نفسه، يحركها في مجال التحريك، ويوقفها في مجال الإيقاف.
هل تعتقد أنت يا أخي! أن الشاب المستقيم الطاهر العفيف، هل تعتقد أنه ليس عنده شهوة؟ بل قد يكون أشد منك، لكنه نهى النفس عن الهوى وقاومها؛ فشعر بلذة الانتصار.
افترض أن إنساناً جاءه موقف صعب كاد أن يقع فيه في الحرام، ثم انتصر وجر نفسه ونجا، فبعد ساعتين يقول: الحمد لله، لو أنني وقعت في المعصية، الآن المعصية لذتها ذهبت وراحت، لكن بقي الإثم، وبقيت الحسرة في قلبي وبقيت العواقب، لكن لأنني منعت نفسي الآن أشعر بالانتصار ولذة النصر، وهذه اللذة تجعله دائماً في موقف قوة، وفي موقف استعلاء على النفس وصبر عليها.(36/19)
العفة عند أهل الإسلام وعند أهل الغرب
إني أود أن أقول لكم أيها الشباب: نحن المسلمين والعرب ورثنا قضية الشهامة والغيرة على الأعراض، وأحلف لكم بالله العظيم؛ أن أبا جهل، وأبا لهب، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعتاولة الكفار في مكة الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الذي لا إله غيره أنهم أكثر غيرة على أعراضهم وعلى حيائهم وعلى نسائهم، من كثير ممن ينطقون بـ لا إله إلا الله محمد رسول الله اليوم! أولئك قوم فيهم شهامة العروبة، ونخوتها وأنفتها وحميتها.
هند بنت عتبة لما بايعها الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {ولا يزنين.
قالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة؟!} استغربت فقالت: هل الحرة تزني حتى تقول: لا يزنين!(36/20)
النخوة والغيرة عند العربي
الشيء الثاني: قضية حفاظ نخوة العروبة على العرض، العربي الجاهل الذي كان يقاتل من أجل حماية عرضه: أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمال فمع الأسف الشديد أن كثيراً ممن ينتسبون للإسلام قد فقدوا غيرة الإسلام كما فقدوا نخوة العروبة، وهذا مخطط غربي، فالغرب لا يؤلمهم شيء مثلما يؤلمهم طهارتنا، لا يزعجهم شيء كما يزعجهم الشاب الذي يذهب ويدرس هناك، ويرون أنه محافظ وبعيد عنهم، فهذا يزعجهم.
ولذلك يقول واحد: إن هناك دراسة قامت بها امرأة خبيرة اجتماعية، جاءت إلى بعض المناطق هنا في الجزيرة، وكان هدفها أن تجري تحقيقات وتحريات ودراسات في مجال النساء، فكانت كلما لقيت امرأة بحكم أن معها دراسات وتقارير واستبانات وأمور، كلما لقيت امرأة كانت تحاول أن تعرف هل هي بكر، أم غير بكر، من غير المتزوجات، فاكتشفت أن جميع النساء اللاتي التقت بهن أبكار من غير المتزوجات، فكانت منزعجة إلى أبعد الحدود، وأنه هل من المعقول أن كل فتاة غير متزوجة في هذا المجتمع بكر؟ فهذا الأمر كان مزعجاً لها، وكانت نتيجة خطيرة بالقياس إليها، في نظر الغرب وهم على النقيض من هذا تماماً، لا يمكن أن تتزوج الفتاة وهي بكر، فيشعرون مثلما يشعر الإنسان الذي رأى الناس على صواب وهو على خطأ، فحاول أن يجر الناس إلى الخطأ الذي وقع فيه، وتعرفون قصة اللص الذي علّم الشرطة بيته في الليل حتى يهتدوا إليه في الصباح، فلما رأى أن بيته معلّم باللون الأحمر، ذهب وعلّم بيوت الناس كلها، حتى إذا جاءت الشرطة لم يدروا أين بيت السارق، لأن كل الأبواب أصبحت حمراء، فكذلك الحال مع هؤلاء، فهم يريدون أن تكون القضية متاحة مباحة للجميع.(36/21)
انعدام كلمة العرض من اللغة الإنجليزية
لكن اليوم انظر الله المستعان! أصبحنا نتعرض لمحاولة تربيتنا على الدياثة رجالاً ونساءً بكافة الوسائل، وهذا أثر من آثار هيمنة الحضارة الغربية، أنتم تدرون أن كلمة العرض هذه غير موجودة في لغتهم، ليس هناك كلمة أخرى تقابلها عندهم، ليس لها مقابل، لأنه -أصلاً- ليس عندهم شيء يقابل اسم العرض، ليس هذا موجوداً عندهم.
ومن الطرائف: أننا كنا نسمع أمهاتنا وجداتنا منذ زمن بعيد، إذا أحد الأطفال بال على ثيابه وهو صغير -أكرمكم الله- تدعو عليه أمه، ومن ضمن الدعوات التي -أحياناً- نسمعها، أن الأم تقول لولدها: أعطاك الفرنج، ما هو الفرنج هذا؟ يقول بعض الخبراء: إن الفرنج هو مرض جنسي، من جنس الزهري أو السيلان أو غيرها من الأمراض الجنسية، وأن العرب إنما عرفوه عن طريق الإفرنج، لما جاءوا غزاة محتلين وغير ذلك لبلاد المسلمين، فلذلك ارتبط المرض هذا في أذهان العوام رجالاً ونساءً، ارتبط بالإفرنج الذين كانوا هم السبب في مجيئه، ولأنه مرض يتعلق بالأعضاء التناسلية، تدعو الأم على ولدها إذا خالف أمرها أمرها بهذا المرض.
إذاً: هم لهم تاريخ أسود في هذه المجالات، فلا غرابة، لكن الغرابة منا نحن، الذين يفترض أننا ورثنا حفاظ الإسلام على الأعراض، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام مرة من المرات قال لـ عمر -والحديث في صحيح البخاري- قال: {إنني دخلت الجنة فرأيت قصراً، ووجدت إلى جواره امرأة تتوضأ -هذا الرسول عليه الصلاة والسلام، وأين؟ في الجنة - دخلت الجنة فرأيت قصراً، وإلى جواره امرأة تتوضأ، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لـ عمر، فذكرت غيرتك فأعرضت، فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟!} أي: هل أغار منك! يا رسول الله؟! والرسول نفسه عليه الصلاة السلام في مرة من المرات: {جاء من المقبرة وقد دفن ميتاً، فوجد ابنته فاطمة دخلت البيت، فاطمة الطاهرة المطهرة زوج علي بن أبي طالب، وبنت محمد عليه الصلاة والسلام، وسيدة من سيدات نساء الجنة ونساء العالمين، ومع ذلك يسألها: من أين أتيت؟ قالت: يا رسول الله أتيت من عند أهل هذا الميت أعزيهم بميتهم.
فقال: لعلك وصلت معهم إلى الكدى؟ -وهو مكان قريب من المقبرة- قالت: لا يا رسول الله! معاذ الله أن أصل إلى هناك وأنا سمعتك تقول ما تقول.
فقال: أما لو بلغت معهم الكدى ما دخلت الجنة، أو ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك} فحفاظ الإسلام على الأعراض يفترض أننا ورثناه.(36/22)
علاج مشكلة الغريزة
وأختم بالكلام عن العلاج في مثل هذه الأمور:(36/23)
السعي في إصلاح النفس
ومن الحلول: السعي في إصلاح النفس، والبحث عن القرناء الصالحين، والالتحاق بحلقات تحفيظ القرآن الكريم، وقراءة الكتب الإسلامية المختصرة الصغيرة المفيدة، وسماع الأشرطة المفيدة، والبحث عن محضن يتربى الإنسان من خلاله على الأجواء الطيبة المناسبة.
وأعتذر إليكم عن الاسترسال والإطالة، وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا المجلس المبارك نافعاً لي ولكم، وأن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى، ويصلح أحوالنا في الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(36/24)
التفكير في العواقب
الأمر الثاني: التفكير في العواقب أن يستخدم الإنسان العقل ويفكر، والتفكير -مهما كان- يهدي الإنسان بإذن الله تعالى، إذا دعاك زميلك إلى السفر، والإجازة قربت، هيا نسافر ونرى ونستمتع.
فانتبه واجعل أمامك ضوءاً أحمر يقول لك: لا! لا تدري ما وراء هذا السفر، وهذا الذي جرك إلى السفر الآن، قد يقول لك للسياحة والمتعة والمشاهدة فقط، لكن قد يجرك إلى أمور أخرى في وقت لا تستطيع أن تمتنع فيه.(36/25)
الزواج
الأمر الثالث: هو الاستغناء بالحلال كما ذكرت، أن يفكر الإنسان دائماً وأبداً تفكيراً جدياً بالإشباع المباح، فالذي حرم الزنا أباح الزواج.(36/26)
الصوم
الحل الرابع: كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء} فإن الصوم يلفت النظر أولاً إلى أمور، منها: أنه عبادة، والعبادة تقرب إلى الله وتبعد عن المعصية.
الأمر الثاني: أنه يصرف طاقة الجسم في مصرف صحيح، ولهذا يمكن أن نقول أيضاً: من الحلول أن الإنسان يشغل نفسه بالأعمال القوية، والأعمال النافعة، مثل العمل في أي مجال، أو الرياضة، أو العمل في مزرعة، أو العمل في دكان، العمل في مكان معين، هذه الأشياء كلها تصرف طاقة الإنسان وتشغله بأمور تبني شخصية، تؤمن -بإذن الله تعالى- مستقبله، تنفعه، وتجعله إنساناً سوياً قوياً مستقيماً صالحاً عضواً فعالاً في هذا المجتمع.(36/27)
الخوف من الله
أول علاج: الخوف من الله قال الله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] نعم! الإنسان عنده غريزة، لكن وعنده قرآن، ودين، وسنة، يفترض أنها تحرك قلبه للخوف من الله تعالى، والخوف من الله هو أهم حاجز، أما قضية هذا ابن أسرة، وهذا من عائلة فهذا كلام فارغ، حتى الخوف من الفضيحة -الذي تكلمت عنه -قد يردع الإنسان وقد لا يردعه غالباً، لأن الإنسان إذا تحركت شهوته وتأججت؛ ألغى عقله وأغلق التفكير، وانطلق وراء الغريزة ووراء الشهوة، لكن الخوف من الله هو الرادع والحاجز.
يوسف نبي الله عليه الصلاة والسلام شاب في قوة الشباب، وحيويته، وتوقده، فعنده مثل ما عند غيره، بل أقوى، لأن الأنبياء أشد من غيرهم في هذا الجانب، والرسول عليه الصلاة والسلام نفسه أعطي قوة ثلاثين رجلاً في الشهوة، بل ورد أنهم ثلاثون رجلاً من أهل الجنة، فيوسف عنده هذا الجانب، وهو قوي أيضاً، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: أنه كان في بلد غريب؛ لأنهم ذهبوا به -كما تعرفون- إلى مصر، وهو في الأصل من فلسطين، فالبلد غريب وهو غير معروف، لا يعرفه أحد في البلد.
الناحية الثالثة: أنه؟ في أي مكان؟ في بلد الملك نفسه رئيس الوزراء، والتي تعرض نفسها عليه هي زوجة العزيز نفسه، وتتجمل له، وفي قصر سيدها وزوجها، وتتجمل وتغلق الأبواب وتقول: هيت لك، وفي بعض القراءات قالت: (هئت لك) أي: تهيأت لك فتعال كل الطرق مفتوحة وليس هناك رادع، امرأة جميلة، ومعروف أنه لن يتزوج العزيز إلا امرأة من أجمل النساء، وفي قصر الحكم، وهذه تعتبر سيدة له، أي أنها تأمره، وإذا رفض فإنها قد تعاقبه، حتى القتل قد تقتله، فها هي قد سجنته وتسببت في سجنه بضع سنين، واحتمال الفضيحة غير وارد إلا ما شاء الله، وبلد غريب، وهو شاب، فما هو الذي حال بينه وبين هذا؟ معاذ الله! قال الله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:24-25] فهو يهرب منها وهي تلحقه وتركض إليه وتجره.
إذاً قضية الخوف، والتقوى هي الرادع الأول والأكبر من الوقوع في مثل هذه الأمور.(36/28)
الأسئلة
.(36/29)
الاهتمام الزائد بالمظهر
السؤال
بعض الشباب يريدون أن يقدم الشيخ نصيحة إلى بعض الشباب الذين يهتمون بشعورهم، ولا يهتمون بطول ملا بسهم، ويركزون على مظهرهم أكثر من مخبرهم؟
الجواب
المشكلة ليست في المظهر، المظهر جزء من شخصية الإنسان، كون الإنسان يعتني بمظهره وهندامه بما يتناسب مع رجولته هذا أمر حسن، بل قد أمر به الشارع: {جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أشعث الرأس متسخ الثياب، فلم يعجب هذا المظهر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: من أي المال أعطاك الله؟ أنت فقير أم غني؟ قال: أنا غني وعندي أموال كثيرة، عندي من الغنم والإبل والذهب والفضة وغيرها.
فقال: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته عليك.
فلماذا أنت أتيت بهذه الثياب وبهذا الشكل؟ فذهب الرجل وحسن ثيابه وزينها وطيبها وسرح شعره بشكل جيد، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا أحسن من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس كأنه شيطان} .(36/30)
حرمة الدخان وأحكام الحبوب المنشطة
السؤال
يسأل عن الدخان عن حرمته وعن كراهيته، كما يقول: إنني آكل حبوب منشطة للمذاكرة وهي ليست مخدرة، فما حكم ذلك؟
الجواب
بالنسبة لحكم المخدرات فمعروف ذلك، وعندكم جهود التوعية في شأنها وخطرها، وهي -كما قلت-: ضمن حملة عالمية لتدمير هذه الأمة، وقد اكتشفت خططاً لتدمير هذه البلاد بالذات، بإيصال المخدرات والحشيش إليها، لأنهم يدركون أنها هي الخطر الأكبر الذي لا يزال يهددهم، فما دام أن هناك شعباً واعياً ومدركاً وعاقلاً، فالخطر قائم، فيجب أن يكون عندنا وعي، وأنا لا أشك أن يكون الشباب في مثل عقلكم وسنكم وتفكيركم بعيدين عن هذه الأمور، لأن غالب من يقع في ضحية المخدرات إنسان فاشل في حياته.
فعليكم أن تدركوا أنه لا يكفي أن تكونوا أنتم بعيدين عن هذه الأمور، بل لابد أن تؤدوا رسالتكم إلى المجتمع لتحذير من تعرفون من حولكم، من إخوة وأقارب وجيران، وغيرهم من مثل هذه الأمور، وتحذير أهلهم من الغفلة عنهم.
والتدخين أيضاً لا يجوز، ولا شك في تحريمه، لأنه ثبت طبياً ضرره، وكل ما ثبت ضرره فهو محرم، وضرر التدخين معروف لديكم ضمن جهود التوعية؛ سواء ضرره الصحي والاقتصادي، أو الأضرار الاجتماعية، وقد نشر في إحدى الصحف -أظنها اليمامة- إحصائية مذهلة تعتبر مصيبة كبرى، عندما يتكلم عن المبلغ الذي هو قيمة استيراد المملكة للسيارات، وقيمة استيرادها من السجاير، فتصور أنه قد يقول لك: وأنا لا أحفظ الرقم تماماً إن استيراد المملكة من السيارات مليار أو مثل هذا، وعندما يذكر لك قضية السجاير تجدها ضعفها وأكثر منها.
فهذه كارثة اقتصادية على الأمة، فالناحية الاقتصادية ضررها ظاهر، والناحية الصحية أيضاً ضررها ظاهر، وقبل هذا وبعده التدخين ليس من الطيبات التي يفرح الإنسان بها، ويحمد الله عليها، بل هي من الخبائث، سواء في أثرها أو في رائحتها أو في مواصفاتها، فهي محرمة ولا يجور للإنسان أن يتعاطى هذه السجاير، وإذا ابتلي بها فيحرص قدر المستطاع على التخلص منها ولو بالتدريج، ومع ذلك عليه أن يحرص على الإسرار بذلك، وأن لا يُعرف عنه.
وأنا أعجب -أيها الإخوة- هناك شخص لي معه اتصال دائم، وأراه بشكل دائم، ومكثت معه سنوات، فما علمت أنه يدخن، ولا توقعت ذلك ولا خطر في بالي، حتى أخبرني أحد أقربائه، فهذا يدل على رجولة عند هذا الإنسان وخير وصلاح، أنه ما دام قد بلي بهذا الأمر، وما استطاع التخلص منه فلا يخبر به، يتحفظ بحيث لا أحد يعلم عنه هذا، ولا يشم عنه رائحة ولا تأثيراً ولا شيئاً يدل على ذلك.
أما مسألة الحبوب المنشطة للمذاكرة، فأنا أعتقد أنه ما من حبوب منشطة إلا ولها تأثير سلبي، والوضع الطبيعي أن الإنسان يظل يذاكر ما دام يحس بنشاط، فإذا شعر بالتعب فعليه أن ينام، ثم يواصل نشاطه من جديد بشكل طبيعي، أما هذه الحبوب المنشطة فمن المعروف طبياً يقيناً؛ أنه ما من نوع من أنواع هذه الحبوب إلا وله مضاعفات وسلبيات على الإنسان، أقلها أن يعتاد الجسم عليها، ويصبح لا يحتفظ بنشاطه بدون هذه الحبوب.(36/31)
من أحكام القصر في السفر
السؤال
أحدهم يقول: إنه يأتي إلى المعهد من بيته، وهو على بعد مائة وثلاثين كيلو متر عن بريدة، فهل يقصر الصلاة؟ والثاني يقول: إنه يسافر سفر قصر، ولكن للصيد والنزهة، فهل يقصر الصلاة؟
الجواب
بالنسبة للسفر للصيد والنزهة، إذا كانت تنوي أن تسافر مسافة بعيدة فاقصر، لكن لو فرضنا أنه ما نوى مسافة بعيدة، بل نوى أن يذهب قريباً ليصيد في مزارع قريبة من البلد، لكن من سوء حظك أنك ما وجدت صيداً، فقلت: أذهب للتي وراءها ثم التي وراءها، وصار الطريق يسترسل بك بدون قصد منك، فهذا قال كثير من الفقهاء: إنه لا يقصر، مادام أنه لم ينو السفر.
لكن إذا نوى السفر للصيد أو للنزهة وذهب بعيداً فهذا يقصر، كذلك الطالب الذي يأتي إلى المعهد عن بعد مائة وثلاثين كيلو، فإن له أن يقصر إذا كان في الطريق ذاهباً أو آيباً، أو حتى إن كان في البلد هنا، ولكنه فاتته صلاة الجماعة، فإنه يجوز له أن يصليها قصراً، أما إذا رجع إلى بلده فمعروف أنه يقصر في الطريق راجعاً كما قصر آتياً، فإذا وصل إلى بلده صلّّى تماماً من غير قصر.(36/32)
حكم من يؤخر الصلاة
السؤال
المجموعة الثانية تدور حول الصلاة، وأصحابها يسألون: ما حكم من ينام عن صلاة الفجر، أو صلاة العصر؟ أو ما حكم من يؤخر الصلاة عن وقتها مثل من يحضر المباريات؟ هذا جزء.
والجزء الثاني يقول: إننا أربعة أشخاص في المنزل ونصلي جماعة في البيت، فما حكم هؤلاء؟
الجواب
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] أمر الصلاة عظيم، وهي الفيصل بين الإسلام والكفر، هي العلامة الفارقة، فنحن عندما نذهب إلى بلاد الإسلام، أو التي كانت بلاد إسلام وحكمها المستعمرون، ثم حكمها من بعدهم تلاميذهم، وقد مسخوا آثار الإسلام فيها، تذهب إلى تركيا -مثلاً- إلى أندونيسيا، ما هو الذي بقي لهم؟ حقيقة الذي بقي لهم شيء واحد: (الله أكبر الله أكبر) لا تعرف هذه البلاد ما هي إلا إذا جاء وقت الأذان ضجت بالأذان والتكبير.
فالصلاة هي الفيصل بين الإسلام والكفر وهي الفارق، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وقال: {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة} .
ولهذا أنا أقدم لكم نصيحة محب: لا تدعوا الصلاة في أي ظرف من الظروف، فلا يوجد ظرف من الظروف يبيح لك ترك الصلاة، سواء كان مرضاً أو مباريات، أو أي شيء، ليس هناك ظرف يبيح للإنسان ترك الصلاة، بل يجب أن يصلي الصلاة وفي وقتها.
ومن رحمة الله أن الإنسان يمكن أن يصلي في أي مكان قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة صلى حيث كان} فلا يجوز للإنسان أن يؤخر الصلاة لأجل مباريات، من أجل مباريات تؤخر الصلاة! أصلاً نحن لا نسمح لك أن تذهب إلى المباريات، خاصة إذا كنت من المدمنين الذين يتابعون الدورات والأشياء والمباريات ويركض وراءها، يا أخي هذا ضياع لعمرك، ونحن لا نرضى لك بذلك.
والله يا إخواني إني كنت مسروراً جداً: عندما قرأت في جريدة الرياضية، أنهم منزعجون يقولون: إن الشباب قد أعرضوا عن المباريات، وتركوا الملاعب، وبدءوا يدرسون هذه الظاهرة، وأجروا مقابلات مع رؤساء النوادي، ما هو التحليل وما هو السبب؟ الحمد لله رب العالمين، يعلم الله أننا سررنا بهذا، ليس كرهاً للرياضة وأهلها، فإن الرياضة في أصولها الصحيحة ليس فيها شيء، لكن لأن الرياضة أصبحت الآن تهميشاً لعقليات الشباب، حيث حصروا اهتمامهم بها فقط، عشرون ألفاً يتدافعون ويتراكضون في الأسواق من أجل المباريات، وهؤلاء فلذات الأكباد، هؤلاء هم عزنا، ومجدنا، إذا ضاع هؤلاء فمن ننتظر؟! ننتظر كبار السن والعجزة!! يا أخي انفع أمتك ديناً أو دنيا، فكله نافع، أما مسألة الكرة الآن فلم تعد رياضة؛ بل بالعكس حتى من الناحية الجسمية، الذين يجلسون على المدرجات أو أمام التلفاز ماذا استفادوا؟ هل هم ربوا أجسامهم؟ هل ركضوا؟ بل هم جالسون تتكدس أعصابهم، وتشتد وتتأثر وتسترخي، وتضعف عقولهم, فهي حتى من الناحية الجسمية ضارة، حتى وصل الحال أن أصبحت الرياضة ألوهية والعياذ بالله.
قرأت في جريدة الجزيرة مقالاً عنوانه: (ضحايا الكرة!) وذكر أن واحداً في نادي الزمالك قفز في المدرج حين هدف فريقه، قفز وسقط ميتاً، وذكر تاريخاً وقصصاً ونحن نعرف أشياء من هذا.
وهذا الهدف الذي مات من أجله ما انتهت المباراة إلا وجاء هدف يقابله وانتهت المباراة بالتعادل، فما كسبنا شيئاً.
فالمقصود يا أخي أن الرياضة الآن يجب أن تعيدوا النظر فيها، وأنا ما أفرض عليكم فيها شيئاً، لكن يكفيني أن كل واحد يخصص خمس دقائق فقط يفكر: هل وضع الرياضة بالشكل هذا صحيح أو خطأ؟ من الناحية الدنيوية والدينية؟ فكيف إذن يسمح لك أن تؤخر الصلاة؟! حتى لو كنت تخوض معركة مع الكفار فلن يسمح لك، فكيف تؤخر الصلاة من أجل الكرة؟! فينبغي بل يجب على الإنسان إذا كان في البلاد أن يصلي مع الجماعة، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أذن لـ عبد الله بن أم مكتوم، وهو رجل أعمى لا يجد من يدله إلى المسجد، ومع ذلك لم يأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم بترك الجماعة، بل قال له: {هل تسمع النداء؟ قال: نعم قال: فأجب} .
فما دمت أنك عبدلله، والله يقول لك: حي على الصلاة حي على الفلاح، فيجب أن تأتي إلى حيث الأذان وتصلي مع الناس.
أما إن نام عن الصلاة لعارض، ولم يكن عابثاً كل يوم ينام عن الصلاة، ولا يصلي إلا بعد طلوع الشمس، فهذا لا يجوز، لكن إنسان عنده ظرف معين، كأن يكون مريضاً، أو نام عن الصلاة فتأخر، ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، فهذا يصلي، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك} أما كونك تقوم الساعة السابعة وتصلي ثم تفطر وتمشي، فهذا لا يمكن ولا يجوز.
وبالنسبة للصلاة داخل البيت، لا يجوز لهم أن يصلوا داخل البيت مادام هناك مسجد داخل البلد، ولو صلوا في البيت فصلاتهم صحيحة ومجزئة، لكنهم آثمون على ترك الصلاة جماعة في المسجد.(36/33)
ظاهرة الملتزمين وانعزالهم عن المجتمع
السؤال
المجموعة الأولى تدور حول الالتزام، والالتزام ظاهرة محببة والحمد لله، والأسئلة التي جاءت عن الالتزام دارت حول موضوعين: جزء من الشباب يرى أنه يسمع الغناء، ويعزف العود، ويقصر في صلاة الجماعة، ويستهزئ بالملتزمين أيضاً، ويرغب من فضيلة الشيخ أن يوضح له كيف يبتعد عن ذلك.
الجزء الثاني من الأسئلة: يعتب على الملتزمين ويقول: إنهم لا يختلطون بغيرهم، ولا يصحبونهم في رحلاتهم واجتماعاتهم، وقد يكون في بعض عباراتهم فضاضة قد تنفر من يرغب في الالتزام، أو من يميل إلى الالتزام، هؤلاء وهؤلاء يرغبون في كلمة من الشيخ توضح لهم كيف ينتهجون؟
الجواب
بالنسبة للأسئلة الأولى فهي ظاهرة إيجابية؛ لأنه -كما ذكرت لكم في مطلع الحديث- ليس منا إنسان لا يخطئ، بل كل الناس كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون} .
فليست المشكلة أن الواحد يخطئ، بل أحياناً الخطأ طريق الصواب، ورُبَّ معصية يدخل بها الإنسان الجنة؛ لأنه وقع في خطأ فبعد ذلك استيقظ قلبه، وصارت هذه المعصية أمام وجهه دائماً وأبداً، فيكثر من الأعمال الصالحة والاستغفار والتوبة، حتى دخل الجنة، وعلى العكس رُبَّ طاعة أوردت الإنسان النار والعياذ بالله هي الطاعة، لكنه عمل الطاعة فصار مدلاً بنفسه معجباً بها، ويشعر أنه فعل وأدى ما عليه، فيصل والعياذ بالله إلى الدرك.
فمجرد وقوع الإنسان في خطأ ليس هو المشكلة، لكن المشكلة الحقيقية أن يصبح الخطأ عندي وعندك صواباً، لأننا ألفناه وأصبحنا ندافع عنه ونستمرئه.
يا أخي! إن الله فتح أبواباً، يقول ربنا في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم} انظر! ربنا سبحانه وتعالى، الرب الكريم الرحيم الجواد المتعطف على عباده، يتعرض لهم: اسألوني ادعوني اطلبوا مني استغفروني: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} .
هل هناك أحد يحول بينك وبين استغفار الله؟ لا يوجد أحد، ونوح عليه السلام كان يقول لقومه: استغفروا ربكم، ألف سنة إلا خمسين عاماً، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] حتى الدنيا تحصلون عليها، لو أن أنساناً استقام وصلح، فهل يخسر شيئاً؟ والله العظيم -وأحلف بالله ولا أستثني- والله الذي لا إله غيره إن أسعد طبقات الدنيا من آدم إلى قيام الساعة هم المتدينون، الصادقون في تدينهم في الدنيا قبل الآخرة.
يا أخي! الملتزم الصادق عنده لذة الدنيا بجميع ما فيها لذة الشرب والأكل، والنساء، والمال، والحياة الدنيا نفسها هي عنده مضاعفة، ومسكين الذي لا يسلك هذا الطريق، بل هو في خسران بكل المقاييس، فالالتزام والتدين الحق هو للدنيا قبل الآخرة، ولهذا يقول نوح لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] .
فالالتزام لن يخسرك شيئاً أبداً، وحتى هذه الذنوب التي يرتكبها الإنسان، ثم يستغفر الله منها، فإن الله غفور رحيم، لكن على الإنسان ألا يصر على الذنب أولاً، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] .
الشيء الثاني: عليه أن يملك قلباً منيباً أوّاباً رجّاعاً، سليماً: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .
فمثلاً: الإنسان الذي يسخر بالملتزمين -كما قال في السؤال- هذا لا يملك قلباً سليماً، وليس بصادق، وإلا فكيف يسخر بمن يتمنى أن يكون مثلهم؟! وكيف يسخر بمن يعتقد أنهم على الصواب وهو على الخطأ؟! أليس هذا من حجب الحقيقة وسترها إذ أنه يعرف ويستر؟ والإنسان الذي عنده معصية، ولكنه يملك قلباً فيه صلاح، تجده إذا رأى الأخيار أحبهم، ويقول: ياليتني أكون يوماً مثلكم! أرجو الله ألا يحرمني يوماً من الدهر أن أكون منكم! فيحبهم، ويقدرهم، ويواليهم، ويدافع عنهم، هذا هو القلب السليم، ولو كان عنده ذنب أو تقصير.
لكن أن تكون القضية بالعكس، أن يشعر أنه طرف وهم طرف ثانٍ، وهو في وادٍ وهو في وادٍ ثانٍ، هنا عليه أن يعيد الحساب مع نفسه.
أيها الإخوة إن أمامنا فرصاً نحن مسئولون عنها، لقد رأيت في بلاد العالم الذي يريد الهداية أمامه ألف عقبة، وقد قرأت ورأيت بعيني بعض الذين أسلموا، كالأمريكان، أو الفرنسيين أو غيرهم، رأينا تجاوزوا عقبات طويلة، أبوه يهودي، وأمه نصرانية، بيئته فاسدة وحياته وعقليته وتفكيره، ذهب إلى المكتبة ووجد أن الكتب التي فيها مشوهة عن الإسلام، سأل فما وجد من يجيبه، عنده أناس من العرب، ولكنهم جاءوا يشتغلون بالدنيا، فأمامه ألف عقبة، ومع ذلك ظل الرجل مصابراً يبحث، وفي النهاية وقع على الإسلام وأسلم.
لقد بحث وسلك طريقاً طويلة، وأنت يا أخي ليس أمامك ولا أي عقبة، ففي المعهد نشاط خيري، وفي المسجد نشاط خيري، وفي السكن كذلك، وعند أهلك، وفي البلد الذي أنت فيه إذا عدت، وفي كل مجال، المكتبات مليئة بالكتب، بل وتوزع، وكذلك الأشرطة، فمن السهل أن تحصل على الخير، فليس لك عذر -أخي الكريم- فكن صادقاً مع نفسك، ولا تمنِّ نفسك بالأعذار، هذا بالنسبة للطائفة الأولى.
أما بالنسبة للطائفة الثانية فهذا حق، فعلى الملتزم أن يكون صورة لما يدعو إليه، أولاً: ما دام أن الله قد هداه إلى الخير، هذا الخير الذي هداه الله إليه زكاته وشكره أن يدعو غيره إليه، وهذه الدعوة يجب أن تكون بالتي هي أحسن قال الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فالدعوة بالبسمة، الدعوة بالإحسان إلى الآخرين، وبالتلطف معهم، والصبر عليهم، الدعوة في خدمتهم حتى في أمورهم الدنيوية ومساعدتهم، في دراستهم وفي أعمالهم، ومشاكلهم، الدعوة بطول النفس معهم، والحرص عليهم، هذا هو الذي يليق بالإنسان، خاصة ونحن الآن أمام جهود كبيرة موجهة إلى الشباب لإغرائهم، فهم بحاجة إلى اليد الحانية التي تنتزعهم بالأسلوب الحسن، ويبقى هناك من الناس من قد لا ينجح تماماً في هذا.
فنحن نقول: الصورة المثالية أنك أمام داعية ملتزم، مطبق لما يقول، أخلاقه عالية، صاحب ابتسامة، وكلمة طيبة، وصاحب صبر، هذا أكمل شيء.
وهناك رجل ملتزم وخير، ولكنه لا يدعو، أو يدعو لكنه يدعو بأسلوب ليس حسناً.
الثالث إنسان منحرف أو مقصر.(36/34)
الرؤى والأحلام
تحدث الشيخ عن داوعي الحديث عن هذا الموضوع، ثم ذكر دلالات الرؤى والأحلام، ثم بين حقيقة الرؤيا عند غير المسلمين وعند المسلمين، وعلى ضوء ذلك شرع في ذكر أقسام الرؤيا كما تدل على ذلك النصوص الشرعية، ثم عرف الرؤيا الصالحة ومنزلتها، وأن من جملة من يرى الرؤيا الصالحة الأنبياء والصحابة الصالحون وأنه قد يراها غير الصالحين، وذكر بعض الرؤى الواردة عنهم.
ثم عدد عوامل صدق الرؤيا، وأنه لا يثبت بالرؤيا حكم شرعي، وأن لها آداباً، وختم بالكلام على تعبير الرؤيا(37/1)
مقدمة عن الدروس العامة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فهذا هو الدرس الأول من (سلسلة الدروس العلمية العامة) التي كنت وعدت بها إخواني من طلاب درس الحديث في مطلع العام الهجري الحالي، أي: قبل نحو ستة أشهر، ثم وعدتهم في المجلس السابق أن نبدأ في هذه الليلة، وهي ليلة الإثنين، السابع عشر من شهر رجب لعام (1410هـ) .
لابد -أيها الإخوة- قبل أن أبدأ بموضوع هذه الأمسية، أن أعطي الإخوة الحضور والمستمعين فكرة عن منهج هذا الدرس.
ففي الأصل كانت هناك نية لإيجاد درس آخر في (بلوغ المرام) لكن حالت دونه بعض الحوائل، ففكرت في إقامة درس آخر، ثم ترددت ماذا يكون الموضوع الذي أُدرِّس فيه؟ هل أدرس في التفسير مثلاً؟ فهناك وقفات وفوائد عظيمة في هذا العلم، أم أُدرِّس في السيرة النبوية؟ ولا شك أن الناس في أمس الحاجة إلى دروس وعبر من سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم أم أدرس في العقيدة والتوحيد؟ وهذا هو لُبُّ اللباب وأصلُ الأصول، وقد كثرت الثغرات والانحرافات في هذا الباب، فالناس أيضاً في أمس الحاجة إلى من يبصرهم بحقيقة دينهم وأصل الأصول فيه، ألا وهو موضوع العقيدة الصحيحة، والرد على أهل البدع والأهواء والمِلَل والنِّحَل وغيرهم.
وبعد طول تفكير؛ رأيت أن من المناسب أن يكون هذا الدرس عاماً ليشمل هذه الأمور جميعها؛ بحيث يكون لدينا فرصة لنتحدث في إحدى الليالي -مثلاً- عن موضوع في العقيدة، ونتحدث في ليلة أخرى عن موضوع في السيرة، وفي ليلة ثالثة: عن موضوع يتعلق بالأخلاق والآداب والسلوك، وفي بعض الليالي عن موضوعات تتعلق بالأحوال الاجتماعية، والتنبيه عن بعض ما يقع الناس فيه، وأحياناً يكون هناك مناسبة تستدعي الحديث عنها، كقدوم موسم من مواسم الطاعة، كاستقبال رمضان أو الحج، أو وجود مناسبة تاريخية معينة، أو حدوث حادث يتطلب التعليق عليه والتوعية بشأنه، فضلاً عن بعض الموضوعات الأخرى التي يناسب طرحها في مثل هذا المجال.
ولذلك رأيتُ أن يبقى موضوع هذا الدرس عاماً، من ناحية عدم تقييده بفن معين، بل قد أتحدث - أحياناً - عن كتاب من الكتب له أهمية، أو نقد له، أو أتحدث عن ترجمة لبعض رجالات الإسلام الكبار، وبعض الدروس والعبر والفوائد من حياته إلى غير ذلك؛ بحيث لا يكون هناك حدود أو قيود في هذا الموضوع.
هذا من جهة موضوع الدرس، فلن يكون له موضوع خاص، بل سيكون لكل ليلة موضوع خاص، وقد يستدعي الأمر -أحياناً- أن أتحدث ليلتين أو أكثر، على مدى أسبوعين أو أكثر في موضوع واحد؛ لأنه موضوع طويل، ولا يمكن استقصاؤه واستيعابه في درس واحد أو جلسة واحدة، كما هو الحال -تقريباً- بالنسبة لدرس هذه الليلة، فسيتضح لكم أنني لا أستطيع أن أستغرق كل ما ينبغي أن يقال في هذا الموضوع في هذه الأمسية الواحدة.
إذاً: هو درس علمي عام، وسأحرص -إن شاء الله- على أن يكون تناول الموضوع الذي أريد الحديث عنه -قدر الإمكان- مُيَسراً مُسَهلاً قريباً، يمكن أن يفهمه أي إنسان، بمعنى: ألاَّ يكون هذا الدرس خاصاً بطلاب العلم، كما هو الحال في درس (بلوغ المرام) بل أن يكون الدرس درساً للكافة، مِن الكبار والصغار، والمتعلمين وغير المتعلمين، ومِن الرجال والنساء أيضاًً، ولذلك -إن شاء الله- سيتم إيجاد وترتيب مكان مخصص للنساء، إن لم يكن موجوداً فعلاً الآن، هذا ما يتعلق بموضوع الدرس.
أما وقته فقد علمتموه جميعاً، فسينعقد بصفة دورية أسبوعية -إن شاء الله- في كل أسبوع، في مساء الأحد، ليلة الإثنين، بعد صلاة المغرب، في هذا المكان، في الجامع الكبير ببريدة.
أما فيما يتعلق بما بين الأذان والإقامة، فسيكون مخصصاً للإجابة على الأسئلة غالباً، باستثناء هذا الليلة؛ لعدم ترتيب مسبق في هذا، وإلاَّ فسيكون هناك ورق تُوَزَّع على الإخوة الحضور أو على من أراد؛ لكتابة الأسئلة، على أن تكون الأسئلة متعلقة بالدرجة الأولى بالموضوع، لا مانع من الأسئلة المهمة وإن لم تكن في الموضوع، لكن في الدرجة الأولى: بالموضوع؛ لأننا سنتناول -كما ذكرتُ- موضوعات كثيرة، فيستحسن أن تكون الأسئلة فرصة لاستكمال الجوانب التي قد لا أكون تطرقت إليها أثناء الحديث.
هذه مقدمة تتعلق بفكرة هذا الدرس وطبيعته وطريقته، ولا أستغني عن جهودكم في هذا المجال؛ لأن هذا الدرس عام -كما ذكرتُ لكم- فمثلاً: حين يوجد في المجتمع ظاهرة معينة تحتاج إلى الحديث عنها، قد لا أستطيع أن أدرك هذه الظاهرة؛ لأنني - أحياناً - أكون بعيداً عنها، لكن منكم من يدركها، ويحس أنها موضوع يستحق الحديث، فلا مانع من الاقتراح في هذا المجال، بل هو مطلوب.(37/2)
أهمية موضوع الرؤى والأحلام
موضوع هذا الليلة هو: الحديث عن (الرؤى والأحلام) .
ولا بد أن يسأل سائل: لماذا تبدأ بهذا الموضوع، موضوع الرؤى والأحلام؟ فأقول: أولاً: ليس البدء بهذا الموضوع مقصوداً أن نبدأ به دون غيره، كلا! بل من منهج هذا الدرس ألا يلتزم -كما ذكرتُ- بترتيب معين، بل ينتقل من موضوع إلى موضوع، ولو كانا متباعدَين؛ لدفع الملل والسآمة عن نفوس الإخوة الحضور والمستمعين عموماً.
ثانياً: أما الحديث عن الرؤى والأحلام، فهو ضروري لأسباب أشير إليها:(37/3)
بيان شمولية الإسلام
الأمر الثالث الذي يدعو إلى الحديث في موضوع الرؤيا هو: أن نبين أن للإسلام بياناً وتفصيلاً في كل أمر من الأمور، كما قال الله عز وجل: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] وقال أيضاً: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] ولذلك جاء في الصحيح: {أن رجلاً من اليهود أو من المشركين قال لـ سلمان الفارسي رضي الله عنه: هل علمكم نبيكم كل شيء، حتى الخراءة؟ -يعني: آداب قضاء الحاجة- قال: أجل! أمرنا ألا نستقبل القبلة بغائط ولا بول، وألا نستنجي برجيع ولا عظم، وألا نستنجي بأقل من ثلاث أحجار} .
فلم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد بين لأمته البيان الشافي الشامل الكامل في كل أمر من الأمور، دقيقها وجليلها، ومن ذلك: أمر الرؤيا، فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أتم بيان، وهذا الهدي النبوي الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم يقف في مقابلة كلام المنحرفين الذين لم يستنيروا بنور النبوة، فأنت تجد في موضوع الرؤيا -مثلاً- هناك للأطباء في الرؤيا كلام، وللفلاسفة أيضاً كلام، ولعلماء النفس في العصر الحاضر في الرؤيا كلام، حتى أن فرويد، وهو صاحب مدرسة التحليل النفسي -كما يسمونها- له نظرية متكاملة في الأحلام، وسيأتي الإشارة إلى بعض الطرائف المضحكة في شأن هؤلاء بعد قليل إن شاء الله.
إذاً: نحن نبين للناس هدي الإسلام وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ في مقابل ما يُشاع على ألسنة الكثيرين من انحرافات الجاهلية، ولوثات المادية، ومع الأسف الشديد لم يعد الكلام في الرؤيا -الذي يقوله أعداء الإسلام- سراً، فقبل أسابيع كنت أستمع إلى أحد البرامج، فإذا به يتحدث عن الرؤى والأحلام، ويذكر نظريات غربية مادية في شأن الرؤيا، ويعتبر أنها من أحدث ما توصل إليه العلم، وأنها أمور طريفة، مع أن المسلم الواعي لا يملك إلا أن يضحك منها، ويحمد الله على نعمة العقل والإسلام.
وعلى أي حال فإن منهج الإسلام في موضوع الرؤيا هو منهج الاعتدال، لا إفراط ولا تفريط، ليست الرؤيا وحياً ولا تشريعاً، كما أن الرؤيا ليست عبثاً ولا تخليطاً، بل منها الحق ومنها الباطل، كما سيظهر.(37/4)
ارتباط الرؤى بواقع الناس
ثانياً: أننا نجد أن الرؤيا مرتبطة بواقع الناس، فكثيراً ما يتحدث الناس عن الرؤى والأحلام وخاصةً النساء، وغيرهن على سبيل العموم، كثيراً ما يتحدثون عن الرؤى والأحلام، يقال: رأيت فيما يرى النائم، ورأت فلانة، ورأى فلان، وما أشبه ذلك.
وعلى سبيل المثال أيضاً: عندما تسمع من بعض المشايخ الذين يسألهم الناس عن أمور دينهم، تجد أن كثيراً من السائلين يسألون عن الأحلام -أحياناً- أكثر مما يسألون عن الحلال والحرام، كثيراً ما يسأل الإنسان عن رؤيا رآها لنفسه، أو لأبيه الذي مات منذ كذا أو أمه التي ماتت منذ كذا، أو قريبه، لكن ربما هذا الإنسان نفسه لا يسأل -أحياناً- عن أمر من أمور الدين الذي يخصه ويتعلق به، وقد يكون بعض ما يسأل عنه من الرؤى والأحلام أضغاث أحلام لا قيمة لها.
وأذكر أن كثيراً من المغرضين يستغلون ناحية اشتغال الناس بالرؤيا، فينشرون -أحياناً- رؤى باطلة، ولعلكم جميعاًَ تذكرون الورقة التي وُزِّعت منذ سنين عما يسمى بـ (رؤيا الشيخ أحمد) خادم الكعبة، كما سُمِّيَ في الورقة، وفيها تهاويل وخرافات ومبالغات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان، وفي نفس الورقة طُلِبَ أن تُكْتَبَ هذه الرؤيا وتوزع، وأن من استهان بها أو أحرقها أو أتلفها فإنه يتعرض للعقوبة العاجلة والآجلة، وهذه الرؤيا كَتَبَ فيها سماحةُ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رسالة بعنوان: تنبيه هام على كذب الوصية المنسوبة إلى الشيخ أحمد، ووزع الكتاب كثيراً ومراراً، ومع ذلك فإن هذه الوصية نفسها تثور بين حين وآخر، وتنتشر عند الخاصة والعامة، وأخص: أوساط النساء في كثير من الأحيان.
وقبل فترة ليست بالبعيدة في أواخر الفصل الأول؛ اتصل بي مجموعة غير قليلة من الطالبات، يسألن عن رؤيا يزعمن أنها وُجِدَت، فيقلن: إن إحدى الفتيات كانت مريضة أو شيئاً من هذا القبيل، ورأت في المنام إحدى أمهات المؤمنين، فقالت: إنها مَسَحَتْ عليها، فشُفِيَتْ بإذن الله، ثم قالت لها: اكتبي هذه القصة في ورقة (13) مَرَّة، وأبلغي الناس أن يكتبوها (13) مَرَّة، ومن كتبها فإنه يكون له الأجر والثواب في الدنيا والآخرة، ومن استهان بها فإنه يُعاقَب.
وانتشرت هذا الأسطورة في أنحاء البلاد، وبدأ بعض النساء يَكْتُبْنَها، خوفاً من العقوبة الدنيوية، أو خوفاً من العقوبة الأخروية، مع أنها أسطورة مكذوبة مختلقة لا أصل لها.
ونحن لا نشك في أن هذا الأمر مكذوب لأسباب عديدة، سبق أن بينتها في بعض المناسبات، منها على سبيل المثال: إن هذه الرؤيا لا يتعلق بها تشريع ولا حلال ولا حرام، بمعنى: أنه ليس فيها حكم شرعي، حتى يلزم الناس أن يطلعوا عليها ويعرفوها ويكتبوها، فمن أنكر هذه الرؤيا وكذبها، فكيف نقول: إنه آثم أو يتعرض لعقوبة؟! التشريع من عند الله تعالى، والله تعالى أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فقد كَمُلَ الدين، وتمت النعمة، فلم يعد الدين بحاجة إلى من يكمله، بمعنى: أن بعد وفاة الرسول -عليه الصلاة والسلام- لن يَجِدَّ أمرٌ من الأمور يصبح بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- مطلوباً من الناس، أو يصبح بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- منهياً عنه، المنهيُّ عنه عُلِم والمطلوبُ عُلِم، ولم يعد هناك مجال للزيادة أو النقص في الدين.
كما أننا نعلم أن هذه القصة مسلسلة بالمجهولين والكذابين، فمن التي رأت هذه القصة؟ ومن الذي روى عنها وأسند عنها هذا الخبر؟ لا شك أنهم أناس أو نساء مجهولات لا نعرف مَن هُن! ثم لنفترض أن هؤلاء النساء نساء موثوقات ودينات وصينات وعابدات وو إلخ، فكيف يروِين مثل هذا الأمر الذي لو فُرِضَ أنه صحيح ورأته واحدة في المنام؛ لكنا نجزم ونقطع بأنه من لَعِبِ الشيطانِ على الإنسان؟ لأن الشيطان قد يأتي للإنسان في المنام فيلعب به ويخادعه، فإذا حدث مثل هذا، فكان الأجدر بالإنسان أن يكتم هذا الأمر ولا يُخبر بِلَعِب وعَبثِ الشيطان به في منامه، أما أن يعلنه على الناس ويبينه ويضحك به على السذج، فهذا -لا شك- أنه لا يجوز.
وأخيراً: أقول في شأن هذه الرؤيا: كونها تطلب أن تُكتب هذه الرؤيا وتُنْشر، وتزعم أن رجلاً كتَبَها فحصل له سعادة ومال وتوفيق، وآخر مزقها ففصل من وظيفته، وثالث أصابه حادث، ورابع تلف ماله بسبب تمزيقها، نسأل: هذه الرؤيا هل تُكْتب على أنها أمر من الأمور الدينية، أم تُكْتب على أنها أمر من الأمور الدنيوية؟ إن كانت ستكتب على أنها دين، فلا شك أن هذا باطل؛ لأن تعالى يقول في محكم التنزيل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] فالإنسان لو صلَّى -مثلاً- أو صام أو حج يريد الدنيا؛ لكان صومه وصلاته وحجه من الأشياء التي يُعاقَب عليها في الآخرة، وإن كانت عبادات في الأصل، لكنه أراد بها الدنيا قال الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15] وكذلك يقول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] .
إذاً: أنت لو صليتَ -مثلاً والصلاة مشروعة كما هو معلوم- تريد الدنيا، وتريد مدح الناس أو ثناءهم، أو أن يزوجوك، أو أن تحصل على وظيفة من المصلين، لكانت صلاتك وبالاً عليك، وتعذب بها يوم القيامة، وهي عبادة في الأصل، لكن نيتك فيها سيئة، فكيف حين يفعل الإنسان أمراً ليس مشروعاً بنية تحصيل الدنيا؟ هذا لا يكون.
والأسباب في الوصول إلى الأمور الدنيوية معروفة، فالإنسان -مثلاً- إذا أراد حفظ صحته -بعد توفيق الله- يعمل بالأسباب، مثل: تجنب الإكثار من الطعام والشراب أو الإقلال منه، أو التعرض -مثلاً- للبرد الشديد، أو الحر الشديد، أو غير ذلك من الأسباب التي تجلب له -بعد إرادة الله تعالى- المرض.
فأسباب تحصيل الأمور الدنيوية معروفة، وأسباب تحصيل الأمور الدينية أيضاً معروفة، فهذه الرؤيا ليست من أسباب تحصيل أمور الدنيا، وليست من أسباب تحصيل أمور الدين، وبذلك ثبت أنها باطلة، وأنه يجب التحذير منها، وأن ينتبه لذلك أولياء الأمور، فينبهوا من يطلعون عليه إلى مثل هذا السخف ومثل هذا الهراء.
إذاً: كثيراً ما يشتغل الناس بالرؤى والأحلام، وكثيراً ما تؤثر في حياتهم، وتجعل بعضَهم يتصرفون تصرفات منافية للشرع.(37/5)
الغلو في الرؤى أو الجفاء عنها
أولاً: ما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: أنه كان يقول في عهده، وقد شُكِي إليه بعض الانحراف في أمور معينة، فقال: "هذا الزمان قَلَّمَا تجد فيه شيئاً مستقيماً".
أكثر الأشياء مُعْوَجَّة، وإذا كان هذا في عصر الإمام أحمد، فما بالك في عصرنا هذا؟! فكل شيء في عصرنا هذا يكاد أن يكون وقع فيه اعوجاج عظيم، ويحتاج إلى تقويم، ففي موضوع الرؤيا -مثلاً- تجد هناك مَن غلا في تقييم الرؤيا ورَفَعَها عن مكانتها، حتى أصبحتَ تجد مَن يَعْتَبر الرؤيا تشريعاً أو ينقص بها شرع الله عز وجل، فقد يحلل الحرام أو يحرم الحلال؛ بناءً على رؤيا رآها، وقد يدَّعي بعضهم عِلْمَ الغيوب التي تفرد الله تعالى بعلمها، والتي لم يطّلع عليها أحداً، بسبب أنه رأى رؤيا أو رئيت له رؤيا، وطالما افتتن الناس -مثلاً- بأن فلاناً رأى أن الساعة تقوم بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة، مجرد رؤيا في المنام، تخدع كثيراً من سذج الناس ودهمائهم، مع أنها مناقضة لصريح القرآن الكريم، قال الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34] {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات:42-45] ومع ذلك فكثيراً ما ينخدع الناس بهذا، وقد تنشره الصحف أحياناً، ويغتر به بعض المسلمين.
وفي مقابل هؤلاء الذين يعظمون شأن الرؤيا، ويعتبرونها -أحياناً- تشريعاً؛ تجد هناك من يستهينون بالرؤيا ويفرطون في شأنها، حتى أنهم لا يرونها شيئاً، يقللون من قيمتها، بل لا يرون لها قيمة البتة، ويرون أن جميع ما يُتَحَدَّثُ عنه من الرؤى، إنما هو كلام عجائز، وخرافات وأساطير وما أشبه ذلك! وهذا هو الآخر انحراف في الطرف الثاني، وهو أقرب ما يكون إلى نظرات الماديين في هذا العصر، الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوس، ولذلك ينكرون الغيب، وما يتعلق به من الأمور.(37/6)
معنى الرؤيا ودلالتها
النقطة الثانية التي سأشير إليها هي: الحديث عن معنى الرؤيا ودلالاتها.
أما معنى الرؤيا فهو ما يتخيله الإنسان ويَعْرِض له في منامه.
وتُجْمَع على رؤى، ومفردها رؤيا، ويقال: أحلام، ومفردها حُلُم، وسيأتي بيان الفرق بين الرؤيا وبين الحُلُم.
وأما ما يراه الإنسان عياناً فيُسَمَّى رؤية، بالهاء، فإذا قيل: رؤيا، فمعناها: رؤيا في المنام، وأما إذا قيل: رؤيةٌ، فالمقصود رؤية بالعين المجردة، وقد تُسمى الرؤيا مناماً.
هذا فيما يتعلق بتعريفها.
أما فيما يتعلق بدلالات الرؤيا، فأحب أن أشير إلى عدة نقاط، أعتبر أنها مهمة جداً.(37/7)
التثبيت للمؤمنين
الدلالة الرابعة من دلالات الرؤيا: أنها تثبت من الله عز وجل للمؤمنين، ولهذا -أيضاً- سبق أن في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب؛ لأن المؤمن أشد ما يكون حاجة إلى تثبيت الله تعالى له في مثل ذلك العصر الذي قَلَّ فيه المساعدون، وكثر فيه المخالفون والمناوئون.(37/8)
الدلالة على نوع من الفراغ
الدلالة الخامسة من دلالات الرؤيا والانشغال بها: أنها تدل على نوع من الفراغ.
فإن كون المجتمعات فارغة من الأمور الجادة يجعلها تتجه إلى الحديث عن الأحلام، ولذلك أسلفت لكم قبل قليل، أن في هذا العصر كثر الحديث عن رؤى ومنامات باطلة ومخالفة للشرع، لماذا؟ لأن الناس عندهم فراغ، ليس لديهم علم شرعي صحيح، وليس لديهم أعمال إسلامية ودينية نافعة، فيشتغلون بهذه الأمور التي لا قيمة لها، ومثل ما تسمعونه وتقرءونه في الكتب عن منامات الصوفية وأحلامهم وأباطيلهم، التي يزعمون أنهم رأوها على فُرُشِهِم، لهذا السبب نفسه، كما أنها تكون في النساء أكثر منها في الرجال، للسبب نفسه أيضاً.(37/9)
التطلع إلى المجهول المغيب
الدلالة الثالثة من دلالات الرؤيا: أن في الرؤيا تطلعا إلى المجهول المغيب عن الإنسان.
ومن حِكمة الله تعالى أنه غيَّب عن الإنسان أشياءَ كثيرة، عالَم الغيب محجوبٌ عن الإنسان، فالإنسان بطبيعته يتطلَّع إلى المغيَّب عنه، فإن كان مؤمناً فإنه يتطلع بطريقة، وإن كان غير مؤمن فإنه يتطلع بطريقة أخرى.
خُذ على سبيل المثال: كثيرٌ من الناس يتجهون إلى التعرف على المحجوب عنهم عن طريق الخط في الرمل، والضرب بالحصى، وإتيان الكهان والعرافين والمنجِّمين وغيرهم، الذين يدَّعون علم الغيوب، فيقولون للناس: سيحدث كذا وكذا، وكذا، وهذا من وحي الشياطين إليهم.
ومثله الخط في الرمل والضرب بالحصى وغيرها.
فبعض الشباب -مثلاً- إذا أهمه أمر وأراد أن يعرف نتيجته؛ يسلك طريقة هي طريقة الخط في الرمل؛ لأنهم يهتمون بأمور دنيوية؛ فإن الواحد منهم إذا اهتم بموضوع الرياضة، فالرياضة أصبحت هماً مقلقاً لكثير من الشباب، فهو يهتم لقضية من يفوز في مباراة رياضية، لكن لا يهتم بقضية الإسلام، وقضية انتصار الإسلام، وقضية التنصير الذي يجتاح المسلمين، وقضية احتلال اليهود لبلاد الإسلام، والشيوعيين، والنصارى، هذه قد لا تهمه.
يهمه أن فريق كذا انتصر على كذا، فإذا أُعْلِنَ عن مباراة حاوَلَ أن يتعرَّفَ على نتيجة المباراة قبل حصولها، كيف؟ يخط خطوطاً في السبورة أو في الأرض مثلاً هذا يفعله بعض الشباب، يضاهِئون به فِعْل أهل الجاهلية، ويَتْبَعُون به وحيَ الشياطين، فيخطون خطوطاً عشوائية، فيقولون: إن كانت الخطوط فردية، فالنصر حليف فلان، وإن كانت الخطوط زوجية؛ فالنصر حليف فلان، ثم بعدما ينتهون من التخطيط العشوائي يبدءون في العد، فإذا كان فردياً قالوا: المنتصر فلان، وإن كان زوجياً قالوا: المنتصر فلان.
إذاً: يتعرف الإنسان غير المؤمن أو ضعيف الإيمان، الذي يَتَّبِع الشيطانَ في كثيرٍ من أموره، يتعرف أو يحاول أن يتعرف على ما حُجِب عنه عن طريق الوسائل المحرمة.
ولعلكم تشاهدون ما يُكْتَب في المجلات والصحف اليوم، وهي تباع في أسواقنا مع الأسف الشديد: حظك هذا الأسبوع، أو ما أشبه ذلك، ويضعون بروجاً معينة، فإذا كنتَ من مواليد برج الثور، أو مواليد برج الحوت، فإنه في هذا اليوم سوف يحصل لك أزمة عاطفية، أو يحصل لك أمور تجارية، ومكاسب تجارية، أو صفقة مربحة، أو يحصل لك كذا وكذا.
ومع الأسف أن المسلمين يشترون هذه الأشياء بأموالهم، ويتعاطونها فيما بينهم، وينسون هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي حذَّر من الكهان والعرافين والمنجمين، وبيَّن أن من صدقهم فإنه كافر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتاهم ولو لم يصدقهم؛ فإنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، صح ذلك عنه عليه الصلاة والسلام.
هذا شأن غير المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، يتعرفون على المحجوب عنهم بهذه الطريقة.
أما المهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يُفْتَح له روزنة إلى ما حُجِب عنه -إلى المجهول- عن طريق الرؤيا وما أشبهها، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لم يَبْقَ من النبوة إلا المبشرات.
قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة، يراها الرجل، أو تُرى له} وإنما عدَّها النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة؛ لأن هذه المبشرات فيها إشعار للمؤمن بأمر خير سيقع، فيكون فيها تبشير له بما سيقع من هذا الخير، وقد يكون فيها تحذير المسلم من شر سيقع؛ ليأخذ أُهْبَتَه واستعداده له، فتكون محذرات، وإنما سماها مبشرات على سبيل التغليب، ولأنها بالنسبة إلى غيره تعتبر خيراً له.
فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن هذه الرؤى من المبشرات، كما أنه عليه الصلاة والسلام قال في الحديث المتفق عليه أيضاً: {الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} وفي لفظ: {الرؤيا الصالحة جزءٌ من سبعين جزءاً من النبوة} .
وقد أطال أهل العلم في الكلام على معنى كون الرؤيا من النبوة، بما لا أرى ما يدعو إلى الحديث عنه الآن والإطالة في شأنه، لكن من الأشياء المشهورة في هذا الباب: ما ذكره الإمام ابن القيم، وذكره قبله جماعة من العلماء: أن معنى كونها جزءاً من (46) جزءاً من النبوة: أن الرؤيا الصالحة في أول النبوة، مكثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم مكث ثلاثاً وعشرين سنة نبياً رسولاً عليه الصلاة والسلام فستة أشهر إلى ثلاث وعشرين سنة هي جزء من ستة وأربعين جزءاً.
وهذا التفسير عليه بعض الاعتراضات والمآخذ، التي من أهمها: إن الحديث جاء في سياق بيان البشارة للمؤمنين بالرؤيا، وعلى هذا التفسير تكون خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم على أي حال هذا أحد الأقوال في الحديث.
والأقرب والأظهر عندي -والله تعالى أعلم- أن مقصود الحديث: أن الرؤيا فيها إشعار للمؤمن بخير سيقع ليغتنمه، أو بشر سيقع ليجتنبه ويحذر منه ويتخذ أُهبته واستعداده، فهي من هذا الوجه جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة؛ لأن فيها إخباراً لهذا المؤمن بأمر غيب لم يقع، وإن كان لا يمكن الجزم والقطع بهذه الرؤيا إلا إذا وقعت؛ لأنه قد يخطئ الذي عبَّرها، وقد تكون على خلاف ما ظن أو على خلاف ما توقع.
المقصود: أن المؤمن فتح الله تعالى له هذا الرَّوْزَنَة، لمعرفة بعض الأحداث والأشياء التي وقعت أو ستقع أيضاً، كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام علَّم المؤمنين موضوع الاستخارة في الأمور المستقبلية، كما في صحيح البخاري من حديث جابر: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علاَّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسميه باسمه- خير لي في ديني ودنياي، وعاجل أمري وآجله، ومعاشي ومعادي فاقْدِرْه لي ويسره لي، وإن كنت تعلم غير ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضِّني به} في مقابل أن أهل الجاهلية كانوا يستقسمون بالأزلام -مثلاً- لمعرفة الأحسن من الأمور في ظنهم، وأهل هذا الزمان لهم طرق -أيضاً- تناسبهم في معرفة الأنسب من الأمور، وفعلها أو تركها، مثلما يقولون: قراءة الكف، أو غير ذلك من الوسائل الجاهلية، ففي الإسلام بدل وعوض عن كل أمر يطمح ويتطلع إليه الناس.(37/10)
الدلالة الأولى: أنها تدل على اهتمام صاحبها
الدلالة الأولى من دلالات الرؤيا: أنها تدل على اهتمام صاحبها.
فإذا اهتم الإنسان بشيء فإنه كثيراً ما يراه في منامه، كما أن الواحد إذا اهتم بأمر فإنه يشغله وهو في الصلاة أحياناً، ويشغله وهو يستمع إلى محاضرة، فكذلك يشغله هذا الأمر وهو في المنام، فيرى رؤى وأحلاماً متعلقة بهذا الأمر الذي شغله في اليقظة.
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث سمرة بن جندب المتفق عليه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر التفت إلى أصحابه، وقال لهم: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فإن رأى أحدهم رؤيا قصها.
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: خيرٌ لنا وشرٌّ لأعدائنا} ويؤوِّل هذه الرؤيا.
إذاً: كونه صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه: {هل رأى أحد منكم رؤيا؟} دليلٌ على أن أولئك الرجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان هم الإسلام يشغل قلوبهم -حتى وهم يتقلبون في فرشهم- كانت قلوبهم مرتبطة بالإسلام، ولذلك انظر أيَّ لون من المرائي كانوا يرونها؟ وسأشير في نقطة قادمة إلى بعض مرائي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا بأس أن نسبق الأحداث، وأشير إشارة عابرة إلى شيء منها: رؤيا عبد الله بن عمر -مثلاً- كما في الصحيحين يقول: {كنت أنام وأنا أتمنى أن أرى رؤيا، فرأى يوماً من الأيام أنه جاءه رجلان فأخذا بيديه، فذهبا به فوقفا به على النار، قال: وإذا بها رجال قد عرفتهم، وهي مطوية كطي البئر، ولها قرنان، فقلت: أعوذ بالله من النار.
فقالا لي: لن تُرَعْ -أي: لا تخف- ثم ذهبا به إلى الجنة، وأعطياه قطعة من حرير، قال: فما أريد مكاناً إلا طارت بي إليه، ثم استيقظ، فأخبر أخته حفصة بهذه الرؤيا، فأخبرت بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: نِعْم الرجلُ عبد الله بن عمر لو كان يقوم من الليل.
فكان عبد الله بن عمر بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً} كان كثير الصلاة رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: هذا ما كان يفكر فيه ابن عمر في يقظته رضي الله عنه وأرضاه، أي: كان موضوع الجنة والنار قد شغل باله، وكان له حيز في قلبه وتفكيره في اليقظة، فلما نام رأى رؤيا تتناسب مع هذا الهم الذي كان يشغله في يقظته.
ومثله مرائي كثيرة حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه، كما في رؤياه في معركة أحد، وكما في رؤيته صلى الله عليه وسلم لـ عمر في أحوال عديدة، ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: {دخلت الجنة فوجدت فيها قصراً من ذهب، فاقتربت منه فوجدت امرأة تتوضأ، فسألتُ: لمن هذا القصر؟ قالوا: لـ عمر قال: فأردتُ أن أدخل، ثم ذكرتُ غَيْرَتك فولَّيتُ مدبراً، قال أبو هريرة: فبكى عمر رضي الله عنه وقال: أوَ عليك أغار يا رسول الله!} وقل مثل ذلك في مرائي كثيرة رآها النبي عليه الصلاة والسلام، أو رآها أصحابه الكرام، أو رآها الصالحون، وسوف أشير إليها -إن لم يمكن في هذه الحلقة- ففي الأسبوع القادم الذي وعدتكم بأننا سوف نكمل فيه الحديث عن هذا الموضوع.
المهم أن الرؤيا أولاً: تدل على اهتمام الرائي بأمر من الأمور، فإذا كان الإنسان مشتغلاً بقضية الإسلام والإيمان، فإنه -غالباً- يرى أموراً تتعلق بهذا الموضوع.
وقُل مثل ذلك فيمن يكون مشغولاً بغير هذا، مَن يكون مشغولاً بالدنيا أو بالدراسة، أو بأي أمر من الأمور، غالباً ما يرى ما يتناسب مع اهتمامه.(37/11)
دلالتها على العجز وعدم التمكن
الدلالة الثانية من دلالات الرؤيا: هي أنها تدل على نوع من العجز وعدم التمكن.
كيف ذلك؟ الإنسان - أحياناً - تُغْلَق أمامَه الأبواب في أمر من الأمور، والوسائل التي يستطيعها بذلها، ثم فوض الأمر بعد ذلك إلى الله، والإنسان بطبيعته ضعيف وعاجز، وهذا من حكمة الله تعالى، ومن علامات النبوة -أيضاً- أن الرؤيا تدل على العجز في الإنسان.
ولذلك تجد -مثلاً- أن السجين كثيراً ما يرى الرؤيا.
لأن السجين أُغْلِقَت أمامَه الأبواب، فهو عاجز لا يستطيع أن يصنع شيئاً، ولذلك غالب بضاعته تتعلق بالرؤيا، وفي القرآن الكريم في سورة يوسف، ذكر الله تعالى ضمن القصة مرائي عدد من المساجين الذين ذكروا ليوسف عليه السلام مرائيهم: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] .
وكثيراً ما يرى المسجونون الأحلام ويتحدثون بها، وأذكر شاعراً كان يقول وهو في السجن، يصف حاله: خرجنا من الدنيا ولسنا من أهلها ولسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السَّجَّان يوماً لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ونفرح بالرؤيا فجُلُّ حديثِنا إذا نحن أصبحنا الحديثُ عن الرؤيا فهي تدل على نوع من العجز، ولعلي أستشهد في هذا بالحديث الذي صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه مسلم وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا تقارب الزمان لم تَكَدْ رؤيا المؤمن تكذب} .
والمقصود بذلك: أنه في آخر الدنيا، وقبل قيام الساعة، يغلب على رؤيا المؤمن الصدق، حتى لا تكاد تكذب، ولا تكاد تخلف، ولعل من الحِكَم -والله تعالى أعلم- أن المؤمن في آخر الزمان ضعيف مستضعف؛ لأن الإيمان قَلَّ ونَدُرَ أهله، وكَثُر الشرك والفساد والضلال والانحراف والمنكر، فأصبح المؤمن يعتصر قلبه من الأسى والحزن، ثم لا يجد طريقة ينصر فيها الإسلام، ويأمر فيها بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر، ويدعو الناس إلى الخير، وحينئذ -مع شدة اهتمامه بقضيته- ينفس الله تبارك وتعالى عن هذا المؤمن بهذه الرؤيا، التي يكون فيها الأنس والسرور والتثبيت والتبشير لهذا المؤمن.(37/12)
حقيقة الرؤيا
النقطة الثالثة في هذا العرض: هي تحديد حقيقة الرؤيا.
ما هي الرؤيا من حيث الحقيقة؟ هذا سؤال عويص، وفيه طرائف بالنسبة لغير المسلمين.(37/13)
حقيقة الرؤيا عند غير المسلمين
يعجبني في هذا أن الإمام المازري يقول: إن غير الإسلاميين -أي: العلماء من غير المسلمين- لهم في شأن الرؤيا خبط وتخليط كثير وأقوال باطلة، وذلك بسبب أن الرؤيا أمر يتعلق بالروح وبالنفس، والروح لا يعلم حقيقتها إلا الله، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] وهؤلاء الفلاسفة والمنحرفون من غير الإسلاميين، حاولوا أن يتوصلوا إلى حقيقتها فضلوا؛ لأنهم إذا كانوا لا يمكن أن يتوصلوا إلى حقيقة الروح والنفس التي هي أصل الرؤيا، فمن باب الأولى لا يمكن أن يتوصلوا إلى حقيقة الفرع وهو الرؤيا.
على سبيل المثال: هناك رجل ذكره ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والنحل، وسماه: صالح قبة، وهو تلميذ النظام، والنظام من شيوخ المعتزلة يقول: إنه يقول: إن من رأى شيئاً في المنام فما رآه فإنه حق كما هو، وضرب: ابن حزم مثالاً يتناسب مع مجتمعه وبيئته، يقول: لو أن إنساناً نائماً في الأندلس، ورأى أنه في الصين في المنام، فإنه يكون حقيقة في الصين، وأن يكون الله اخترعه في تلك اللحظة في الصين!! وهذا من الباطل المحال الذي لا يحتاج إلى نقض ولا إلى عرض أيضاً؛ لأنه أمر دون الكذب والباطل ودون المحال أيضاً؛ فلا يحتاج إلى الاشتغال به، وإن كان هناك من قال به مِن سَقَطَةِ الناس وسفهائهم.
وهناك الأطباء -وأعني بالأطباء: الأطباء من الماديين، أما الأطباء من المسلمين فدينهم الإسلام- وقولهم في هذا الباب كقول غيرهم من علماء الإسلام، لكن أعني: الذين ينظرون نظرة طبية بحتة، يرون أن الأشياء التي يرآها الإنسان في المنام تعود إلى الأخلاط الموجودة فيه، فإذا كان يغلب على الإنسان البلغم -مثلاً- فإنه يرى كثيراً أنه يسبح في الماء، وإذا كان الغالب عليه الصفراء؛ فإنه يرى النيران في المنام، وإذا كان غلب عليه الدم؛ فإنه يرى أشياء فيها فرح وسرور ومتعة أثناء نومه، وهكذا بحسب الأخلاط التي تغلب على مزاج الإنسان، ويرون أن جميع ما يراه الإنسان هو من هذا الباب.
وأما الفلاسفة، فإنهم يرون أن الرؤيا هي انعكاس لأمور منقوشة في العالم العلوي، فإذا صادفها الإنسان انعكست على نفسه ورآها.
وهذا كله كلام باطل؛ لأنه ليس عليه دليل، لا من النقل ولا من العقل.
فالنقل عن المعصوم ما جاء بهذا، ولا قاله الله ولا الرسول عليه الصلاة والسلام.
والعقل لا يدل على هذا أيضاً، فهذه أمور فوق مستوى أن يدركها العقل.
إذاً: هو كلام هُراء في هُراء.
وفي العصر الحاضر وُجِِدَت مدرسة يسمونها مدرسة التحليل النفسي، ويقوم على رأسها يهودي مجرم، هو: فرويد، وهذه المدرسة تفسر الرؤيا تفسيراً معيناً، ولها فيها نظرية متكاملة، يقولون: إن الرؤيا أو الأحلام التي يراها الإنسان ليست مجرد خليط جزافي، وإنما هي أولاً: تأثيرات من أمور ماضية، سواءً في الأيام القريبة أو في التاريخ البعيد لتربية الإنسان، وما واجهه من أحداث، فتظهر على الإنسان أثناء الرؤيا، كما يرون أنها تعبير عن أشياء مكبوتة في النفس.
فإذا كان الإنسان جائعاً -مثلاً- في زعمهم فإنه يرى في المنام أنه يأكل، أو عطشاناً فإنه يرى في المنام أنه يشرب، وهكذا بالنسبة لأية رغبة مكبوتة، حتى إنهم يقولون: إذا كان يكره -مثلاً- شخصاً قريباً منه من أقربائه، ولا يستطيع أن ينتقم منه، فإنه قد يرى في المنام أنه يقتل حية -مثلاً- تعبيراً عن هذا الإنسان الذي يريد أن ينتقم منه ولا يستطيع إلى غير ذلك مما يقولونه.
والغريب أن هؤلاء يرون أن مهمة أو وظيفة الرؤيا حراسة النوم، يقولون: إن الإنسان أثناء النوم قد تعرض له أصوات أو أشياء مزعجة تمنعه من الاستمرار في النوم، فأحياناً الرؤيا مهمتها أن تحرس الإنسان أثناء النوم، بحيث يكون منشغلاً فلا يصحو أو ينزعج، فيقولون: لو أن إنساناً ينام وهو متعب وبحاجة إلى النوم، ويأتي إنسانٌ فيضرب الجرس ويدق عليه الباب، فبدلاً من أن يستيقظ من منامه ويقوم ليفتح الباب؛ يرى في المنام أنه يُضْرَبُ الجرسُ ويُدَقُّ البابُ، وأنه قام وفتح وهو في المنام، فيعفيه هذا العمل من مهمة القيام.
وآخر متعب لا يريد أن يذهب إلى الدوام، فيرى في المنام أنه قد توضأ واغتسل ولبس ثيابه وذهب إلى الدوام، وهو في الواقع لا يزال يتقلب في فراشه، هذا تفسيرها.
أذكر لكم أنني سمعتُ -كما قلتُ قبل قليل- أحدهم يتحدث فيقول: إن آخر نظرية في تفسير الأحلام، وآخر صرعة علمية -كما يقولون- أن واحداً يقول: إن الأحلام هذه عبارة عن نفايات المخ، بمعنى: أن المخ أثناء النوم يعيد تنظيم نفسه، فهذه الرؤى التي يراها الإنسان هي نفايات، أي: قمامة المخ يخرجها، فيحصل للإنسان هذه المرائي وهذه الأحلام.
هذه كلها تصورات أقوام قد ضلوا عن سواء السبيل، ما استناروا بنور الكتاب والسنة؛ ولذلك وجدت عندهم هذه التصورات التي هي بالضرورة نتاج العقل البشري، فالعقل البشري في هذه الأمور إذا لم يستنر بنور الكتاب والسنة فستكون هذه نهايته، يأتي بهذه الأقوال والخرافات المضحكة التي ليس عليها أثارة من علم، لا من علم المعقول ولا المنقول، ولو كانت أموراً تُدْرك بالحس أو بالعقل لكان لنا كلام معهم، لكنها أمور ليست حسية ولا عقلية، فلا سبيل إلى معرفة هذه الأمور إلا عن طريق الوحي والشرع.(37/14)
حقيقة الرؤيا في الإسلام
أما الإسلام فله حكم وبيان في موضوع الرؤيا وتحديدها، وألخص ما يتعلق بهذا الموضوع في أقسام: أ- القسم الأول: الحُلُم.
والمقصود بالحلم: هو ما يصيب الإنسان أثناء المنام من تزيين وتسويل وتمثيل الشيطان، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث جماعة من الصحابة في الصحيحين أنه قال: {الرؤيا من الله، والحُلُم من الشيطان} .
ومثاله: أن يرى الإنسانُ نفسَه في موقع حرج جداً، وأن هلاكه لا بد منه بحال من الأحوال، فهذا حُلُمٌ يريد الشيطانُ أن يخيف به الإنسان.
مثال آخر: أن يرى الإنسانُ أن رأسَه مقطوع، وهو يَتَدَهْدَهُ ويَتَدَحْرَجُ أمامه مثلاً، وهذا الحلم وقع لأعرابي، كما في صحيح مسلم، من حديث جابر، {فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني رأيتُ أن رأسي قد قُطِع، فهو يَتَدَهْدَهُ أو يَتَدَحْرَجُ أمامي.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخبر الناس بتلاعب الشيطان بك في المنام} أي: إن هذه مجرد وساوس وتسويلات وتزيينات من الشيطان، لا ينبغي للإنسان أن يتحدث عنها ولا يخبر الناس بها، بل يعلم أنها من الشيطان، وسيأتي بيان الأدب الواجب في مثل هذا.
وأيضاً من الأحلام التي هي من الشيطان: أن يرى الإنسانُ في منامه شيئاً يخالف الدين، كأن يرى -مثلاً- أن مَلَكَاً أو نبياً يأمره بارتكاب ما حرم الله، فهذا يكون من الشيطان ولا بد، وأعظم من ذلك أن يرى الإنسان أن ربه يأمره في المنام بارتكاب ما حرم أو بترك ما أوجب.
وأذكر في هذا المجال قصة حدثت للإمام عبد القادر الجيلاني -رحمه الله- وهو من أئمة أهل السنة، وإن انتحله الصوفية وتَبَنَّوْه، فقد جاء الشيطان إلى الإمام عبد القادر وهو في منامه وأوقد أمامه ناراً عظيمة في المنام، وزين وسَوَّل له هذا، ثم ظهر هو في وسط النار، وهو يقول له: يا عبد القادر، يا عبد القادر، أنا ربك، وقد أحللتُ لك ما حرَّمتُ عليك.
فهذا الرجل الموفق المسدد لم يغتر بل قال: اخسأ يا عدو الله.
ثم استيقظ وعلم أن هذا من الشيطان؛ لأنه يعلم أن الله تعالى لا يمكن أن يحلل بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حراماً، ولا يحرم حلالاً، فقد خُتِمَ الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبه كَمُل الدين وتمت النعمة، ولم يعد الوحي يتنزل، وليس لأحد أن يخرج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كائناً من كان.
ومن ادعى أنه يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو مرتد عن الإسلام كما يدعي بعض شيوخ الطرق الصوفية.
المهم كونه رأى أن هذا الشيطان يدعي الألوهية، والشيطان لا يمنع أن يدعي الألوهية، كما ادعاها فرعون وغيره، ثم يقول لـ عبد القادر: إني قد أحللت لك ما حرمت عليك.
فعرف أن هذا من لعب الشيطان به في المنام، واستعاذ بالله منه، وقال: اخسأ يا عدو الله.
هذا القسم الأول وهو الحُلُم.
ب- القسم الثاني مما يراه الإنسان في المنام: حديث النفس.
فالإنسان إذا حدَّث نفسه بشيء، وأطال التفكير فيه، أو تمناه وتمنى حصوله، أو اعتاد مواجهته ومعالجته في الواقع، فكثيراً ما يراه في المنام، فقد تجد الإنسان يرى في المنام ما يتعلق بعمله وشأنه الذي يشتغل به في الدنيا، أو ما يتمنى من الأمور، من كسب أو جهاد أو تجارة أو غيرها، أو الأشياء التي يفكر فيها، وإذا فكر الإنسان -مثلاً- لمدة ربع ساعة قبل النوم بأمر؛ فإنه -غالباً- يرى شيئاً يتعلق بما حدث به نفسه، وهذا لا يُحْمَد ولا يُذَم، بل هو من الأمور العادية.
جـ- القسم الثالث: ما يكون مِن قِبَل الطبع.
وهذا لا مانع أن يقع لبعض الناس، فإذا تغير مزاج الإنسان -كما أسلفت- فإنه قد يرى شيئاً يتناسب مع تغير مزاجه، بزيادة البلغم أو زيادة الدم أو ما أشبه ذلك، فيرى أحياناً نيراناً أو يرى سروراً، أو يرى نوراً وضوءاً أو ما أشبه ذلك، بحسب تغير مزاجه، وهذا يحدث إذا مرض الإنسان -مثلاً- أو اعتلت صحته، أو أكثر من الأكل، أو كان شديد العطش، فيحدث له مثل هذا.
د- القسم الرابع: الرؤيا التي هي من الله تعالى.
وهذه -لا شك- أشرف الأقسام وأعظمها، وقد ورد فيها عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} وهذا الحديث عند البخاري، وفي الصحيحين من حديث أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الرؤيا الصادقة من الله والحُلُم من الشيطان} وأيضاً من حديث أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، وإذا رأى رؤيا يكرهها فإنما هي من الشيطان} والحديث متفق عليه.
ومن حديث أبي هريرة -كما أسلفت-: {لم يبقَ من النبوة إلا المبشرات} وفي صحيح مسلم: أنه قال: {الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له} وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، كشف الستر ثم نظر إلى الناس ورأسه معصوب، ثم قال: {لم يبقَ من النبوة إلا المبشرات، الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له} والحديث رواه البخاري.
فهذه الرؤيا التي يكون فيها خير للإنسان، كأن يرى الإنسان فيها بشارة بخير، أو تنبيهاً على أمر سيقع، فيكون فيها خير، وقد يكون فيها تحذيراً أحياناً.
فمثلاً: قد يرى المؤمن النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، كما سيأتي، لكن ربما يرى النبي عليه الصلاة السلام في المنام وهو مُزْوَرٌّ عنه، ومعرض عنه، فيكون هذا إشارة إلى أنه حصل من هذا المؤمن نوع من التقصير، فيتنبه إليه ويحرص على أن يستدركه، فيكون في ذلك خيراً له، وإن كانت الرؤيا قد تحزنه لما رأى، لكن يكون فيها خيراً له.
هذا ما أحببت أن أقوله في هذه الليلة.
وفي الأسبوع القادم -إن شاء الله- سوف نستكمل موضوع الرؤيا، ونذكر بعض مرائي النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والصالحين، وتعبير الرؤيا، وبعض القصص الطريفة في ذلك، والآداب الواجبة للمؤمن إذا رأى رؤيا يحبها أو رأى رؤيا يكرهها، وبعض المتفرقات المتعلقة بموضوع الرؤيا، وبعد صلاة العشاء في الأسبوع القادم -إن شاء الله- نجيب على الأسئلة المتعلقة بهذا الموضوع، والله تبارك وتعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(37/15)
الرؤيا الصالحة وفضيلتها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فهذا الموضوع الثاني والأخير إن شاء الله في موضوع الرؤى والأحلام، وسأتحدث عن مجموع نقاط تتعلق بموضوع الرؤيا الصالحة، وآدابها وما يتعلق بذلك، وأود أن أشكر الإخوة الذين وافوني ببعض اقتراحاتهم حول موضوعات الدروس.
فقد اقترح بعض الإخوة أن يكون موضوع الدرس في العقيدة والتوحيد، ولا شك أن العقيدة والتوحيد هما الأصل الذي ينبثق عنه غيره.
ولكنني أود أن أقول للإخوة: إنني قد خصصت درساً منذ زمن بعيد ولا يزال قائماً في موضوع العقيدة والتوحيد.
وقد أنهينا فيه بحمد لله ما يزيد عن ثلثي كتاب التوحيد للشيخ الإمام المجدد: محمد بن عبد الوهاب، حفظاً وشرحاً.
وكذلك الإخوة الذين يقترحون بأن يكون شرحاً لأحد كتب السنة الأخرى إضافة إلى بلوغ المرام، فإنني أقول لهم: بأننا في أربعة أيام في الأسبوع بعد صلاة الفجر وهي السبت والأحد والثلاثاء والأربعاء، نقرأ ونحفظ ونشرح في مختصر صحيح البخاري للزبيدي ومختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري.
ونعود إلى موضوع الرؤيا الصالحة.(37/16)
المرأة قد ترى الرؤيا الصالحة
ومن الرؤيا الصالحة التي رأتها أنثى ما رواه البخاري وغيره عن أم العلاء الأنصارية رضي الله عنها قالت: {لما هاجر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اقتسم الأنصار المهاجرين، فطار لنا عثمان بن مظعون -صار في سهمنا ونصيبنا- قالت: فذكرت من صلاته وعبادته وذكره لله عز وجل وصومه، ثم مرض فمرضته، قالت: فلما مات جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فكشف عن وجهه وقبله وبكى، فقلت: هنيئاً لك يا أبا السائب الجنة، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك يا أم العلاء؟! إن الله تعالى خلق للجنة أهلاً، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقها وخلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وإني والله وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي ولا بكم، فقالت: فو الله يا رسول الله لا أزكي بعده أحداً أبداً، ثم حزنت حزناً شديداً رضي الله عنها، قالت: فلما نمت رأيته في المنام، ورأيت له عيناً تجري، فجاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك فقال: ذلك عمله} أي هذه العين التي تجري له في المنام هي عمله الصالح.
إذاً: الرؤيا الصالحة قد تكون من رجل أو امرأة وقد تكون ليلاً أو نهاراً.(37/17)
منزلة الرؤيا الصالحة
جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو متفق عليه: {الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} جاء هذا المعنى عن أنس بن مالك، وعن عبادة بن الصامت، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، وأحاديثهم ثلاثتهم كلها متفق عليها، {الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} وجاءت في صحيح مسلم عن ابن عمر: {الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءاً من النبوة} .
وجاء في بعض الألفاظ: {جزء من خمسة وأربعين} وكذلك {تسعة وأربعين} و {خمسين} .
وقد ذكر الحافظ العراقي في طرح التثريب، أنه ورد في هذا الحديث ثمان روايات أكثرها سبعون، وأقل عدد فيها ستة وعشرون وما بين ذلك ست روايات، والأكثر من الرواة على أن العدد ستة وأربعون.
فإن ذهبنا مذهب الترجيح رجحنا رواية ستة وأربعين، وإن ذهبنا مذهب التوثيق وهو أولى؛ لأن هناك روايات صحيحة لا نطعن فيها كما ذكر ابن عبد البر وغيره، منها رواية مسلم عن ابن عمر فإنه قال: {الرؤيا الصالحة جزءٌ من سبعين جزءاً من النبوة} فإننا نقول: إنها تتفاوت بحسب الرائي وبحسب الحال.
هناك رؤيا الإنسان الصالح المستقيم العابد العالم الصدوق، هذه تكون جزءاً من ستة وأربعين، وربما تكون جزءاً من ستة وعشرين، أما الإنسان المخلط -أمثالنا- ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً أو المقصر هو المستور، فقد تكون رؤياه جزءاً من خمسين أو ستين أو سبعين جزءاً من النبوة.
وقال بعضهم: إنه ليس المقصود العدد، وإنما المقصود الإشارة إلى أن الرؤيا يطلع الإنسان فيها على ما غيب الله عنه، فهي من هذا الوجه تشبه النبوة في بعض أجزائها، وعلى كل حال فإنه لم يقل إنها من الرسالة، إشارة إلى أن الرؤيا لا يعتمد عليها في التشريع كما سبق أن أكدته في الدرس الماضي.
النبوة: هي العلم بغيب من غيب الله تعالى.
النبي:- هو من أوحي إليه وأخبر بغيب، والوحي نفسه غيب، فهذا معنى قوله: {جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} .
فقد تكلم العلماء وأطالوا في هذا الحديث في كلام لا أرى تحته طائلاً، وخلاصته أن يقال كما قال بعضهم: إن هذا من الأمور التي قد يعلمها العلماء إجمالاً لا تفصيلاً، فإن هناك أموراً يعلمها العلماء جملة وتفصيلاً، كأمور الشرائع، وهناك أمور لا يعلمها العلماء مطلقاً، وهناك أمور يعلمونها جملة ولا يعلمونها تفصيلاً، وهذا الحديث منها، فإنه لم يحدث لأحد من أهل العلم أن اطلع على أجزاء النبوة، ثم قاس الرؤيا إليها أو عد هذه الأجزاء جزءاً جزءاً.
فنحن نقول: الرؤيا الصالحة جزء من النبوة، وحسن السمت جزءٌُ من النبوة، والهدي الصالح جزء من النبوة كما ورد ذلك في الحديث، وغير ذلك لا نعلمه بل يعلمه الله.(37/18)
زمان الرؤيا الصالحة
هذه الرؤيا الصالحة قد تكون في الليل، وقد تكون في النهار، أما في الليل فكثير، ولعل أكثر الرؤيا الصالحة قد تكون في الليل، ولكنها قد تكون في النهار، خلافاً لما يتوهمه الناس.
ولذلك جاء في صحيح البخاري من حديث قصة نوم النبي صلى الله عليه وسلم عند أم حرام بنت ملحان: {أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها، ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما يضحكك؟ قال: قوم من أمتي عرضوا علي يركبون ثبج هذا البحر -وثبج البحر بالتحريك هو وسط البحر- غزاة في سبيل الله، ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، ثم نام صلى الله عليه وسلم واستيقظ مرة أخرى وهو يضحك، فقالت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما يضحكك؟ قال: قوم من أمتي عرضوا عليَّ يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، قالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين، وكان زوجها عبادة بن الصامت فذهبت معه في الغزو، فسقطت من راحلتها وماتت رضي الله عنها} .
فالرؤيا قد تكون بالليل، وقد تكون بالنهار، وقد تكون من رجل، وقد تكون من امرأة، فقوله عليه الصلاة والسلام: {الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له} ليس المقصود الرجل الذكر وإنما هذا على سبيل التغليب بمعنى الإنسان ذكراً كان أو أنثى.(37/19)
تعريف الرؤيا الصالحة
الرؤيا الصالحة: فسرها النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترُى له} وهي من المبشرات؛ ففيها بشارة وخير ووعد حسن لهذا المؤمن، وقد جاء في القرآن الكريم ما يدل عليها، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64] .
روى الإمام مالك في موطئه بسند صحيح عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه فسر قوله تعالى: (لهم البشرى) بالرؤيا الصالحة، فقال: البشرى هي الرؤيا الصالحة، وذلك أخذاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إلا المبشرات} ولا شك أن تفسير عروة مما يصدق عليه أنه من التفسير بالمثال، فليس مقصوده رضي الله عنه أن البشرى هي الرؤيا الصالحة، كلا! فإن من المعلوم قطعاً أن الرؤيا الصالحة لا تكون في الآخرة إنما تكون في الدنيا، وأما الآخرة فليس فيها نوم كما قال عليه الصلاة والسلام: {النوم أخو الموت} وأهل الجنة لا ينامون، وكذلك أهل النار.
فالبشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة أعم من الرؤيا الصالحة، لكن الرؤيا الصالحة مثال يفسر البشرى، وإلا فالبشرى أعم من ذلك وأوسع.(37/20)
الأصناف الذين يرون الرؤيا الصالحة
والذين يرون الرؤيا الصالحة هم أصناف من الناس:(37/21)
رؤيا الصالحين
ومن الرؤيا الصالحة غير رؤيا الأنبياء رؤيا الصالحين كما سبق، ولعل من أكثر الناس، صلاحاً بعد الأنبياء هم الصحابة، ولذلك لهم مرائي كثيرة حسنة كتبت في كتب السنة أكتفي بذكر ثلاثة نماذج: منها: رؤيا عبد الله بن سلام رضي الله عنه -الذي كان يهودياً وأسلم- فقد رأى في المنام أنه يرقى ويجد عروة فيستمسك بها -ضمن رؤيا طويلة- وأنه يرقى جبلاًَ فكلما أراد أن يرقى خر لأوله، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أما العروة الوثقى فهي لا إله إلا الله تموت عليها، وأما هذا الجبل فهو الشهادة ولن تبلغها، وهكذا فإنه لم يمت شهيداً رضي الله عنه، ولذلك كانت هذه الرؤيا شهادة له بالموت على الإسلام، وكان الصحابة يشيرون إليه، ويقولون: رجل شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
ومنها: رؤيا عبد الله بن عمر وقد سبقت الإشارة إليها: {رأى أن في يده قطعة من حرير لا يريد مكاناً في الجنة إلا طارت به، ثم خرج فرأى رجلين ملكين معهما مقامع من حديد فذهبا به إلى النار، قال: فإذا هي مطوية كطي البئر، وعليها قرن، وإذا فيها رجال، قد عرفتهم من قريش، فقلت: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فقال له رجل: لن تراع لن تراع -لا تخاف- فقصها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم الرجل عبد الله بن عمر لو كان يقوم من الليل، فكان عبد الله بن عمر لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلاً} .
ومن المرائي الحسنة للمؤمنين ما ورد عن عائشة رضي الله عنها فقد ورد في موطأ مالك بسند فيه انقطاع -وإن كان صحيحاً- أنها قالت لأبيها: [[إنني رأيت ثلاثة أقمار وقعت في حجرتي، فسكت ولم يعبر الرؤيا، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن في حجرتها، قال لها أبو بكر: هذا أول أقمارك، وكان القمر الثاني أبوها أبو بكر، والثالث عمر، حيث دفنوا جميعاً في حجرتها رضي الله عنها]] .(37/22)
رؤيا غير الأنبياء والصالحين
الرؤيا الصالحة يراها الأنبياء، والرؤيا الحق لا شك أنها وحي، ويراها الصالحون كذلك، وكذلك قد يرى الرؤيا الصالحة أناس مستورون -لا يعرفون بصلاح ولا بغير ذلك- ولكن هذا ليس كثيراً وأما الفسقة والكفار فقلما يرون الرؤيا الصالحة، نعم قد يرون رؤيا تأتي كما رأوها، فهذا لا شك أنه يحدث للكافرين ويحدث للفساق من المؤمنين، ولعل من أصح وأصرح أمثلتها، أي: ما ورد في القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43] فهذه الرؤيا رآها الملك وكان كافراً وعبرها له يوسف عليه السلام فكانت رؤيا حق، {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:47-49] .
وكذلك الرجلين اللذين كانا مع يوسف في السجن: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] فأخبرهما: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41] .
فقد ذكر بعض أهل التفسير أن الآخر كان كاذباً في رؤياه، فلما قال له يوسف: تصلب فتأكل الطير من رأسك، قال: إني كنت كاذباً، فقال يوسف: قضي الأمر الذي كنتم فيه تستفتيان، والله أعلم إن كانت هذه الرواية في كذب الرائي حقاً أو كاذباً فالله تعالى أعلم بذلك.
ومما يضرب به المثل على إمكانية أن يرى الفاسق أو الكافر الرؤيا وتكون حقاً، يذكرون أن بختنصر رأى في المنام رؤيا فسرها له المعبرون أنه يفقد ملكه، وكذلك كسرى رأى فقدان ملكه على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك عاتكة عمة الرسول صلى الله عليه وسلم رأت أن حجراً سقط في مكة وطار إلى كل مكان منه شظية، وأول هذا بفتح مكة على يد المؤمنين أو نحو ذلك.
المهم أن الكافر أو الفاسق يندر أن يرى الرؤيا الحسنة، أما المؤمن الصالح فأكثر رؤياه رؤيا حسنة، وهذا نظيره أن المؤمن أكثر حديثه الصدق، والكافر أكثر حديثه الكذب، ولكن قد يصدق الكاذب، حتى الشيطان قد يصدق أحياناً كما قال صلى الله عليه وسلم: {صدقك وهو كذوب} .
وكذلك ورد أن الكهان والعرافين والمنجمين قد يخلط الواحد منهم كلمة الحق أو الصدق بتسع وتسعين كذبة، فتكون واحدة صواباً، والباقي كذب، فكذلك رؤياهم قد يكون فيه الحق ولكنه قليل نادر.(37/23)
رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن الرؤيا الصالحة رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وأنس وقتادة وأبي سعيد المتفق عليها، أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي} أو {لا يتكونني} على اختلاف في ألفاظ الحديث.
فكل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فهذه بشارة له، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، بل الصورة التي رآها في المنام هي صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن لا بد من التنبيه في ذلك على أمور: أولها: أن تكون رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على صورته المعروفة، فلا بد أن يكون الرائي يعرف ويعلم صورة صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجسدية من خلال قراءته في كتب السنة والسيرة، فيعرف حاله وطوله وشعره وما أشبه ذلك، أما لو رأيت شخصاً في المنام على غير هيئة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يلزم من هذا أن يكون هو الرسول، كما إذا رأيت شخصاً طويلاً بائن الطول أو قصيراً بائن القصر أو نحيفاً بائن النحافة أو سميناً بائن السمن، أو رأيته علىهيئة لا تليق بالنبي صلى الله عليه وسلم كأن يكون عليه أثر معصية أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يكون الرسول عليه الصلاة والسلام، بل يكون الشيطان صور للإنسان صورة في منامه ثم لبس عليه أنه الرسول وليس كذلك.
كما أن بعض الناس -وهذا يحدث- قد يرون في المنام ويلبس عليهم الشيطان أن هذا ذو الجلال والإكرام وكما سبق أن ذكرت لكم في قصة عبد القادر الجيلاني رحمه الله، وهذا يكون من الباطل غالباً، فالإنسان لا يمكن أن يرى ربه في هذه الدنيا، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال: {تعلمون أنه أعور يقول: أنا ربكم، واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا} وإن كان بعض أهل العلم قال: إن العبد الصالح يمكن أن يرى ربه في المنام، لكن الحقيقة غير ذلك، والله تعالى أعلم.
لأننا لا يعلم كيف هو سبحانه إلا هو، ولذلك لا يمكن أن يميز الإنسان إذا رأى في المنام أن يعرف أن من رأى هو الله، أو أن يكون الشيطان لبس عليه، فتحسم مادة هذا الباب أصلاً، فهذا هو الأولى، وفي المسألة خلاف، ونقل عن الإمام أحمد وغيره اختلاف في ذلك والله تعالى أعلم.
إذن لا بد في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون عالماً عارفاً بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أن لاتقبل ممن ترى في المنام أنه رسول أن يأمرك أو ينهاك عن أمر يخالف الشرع، ولذلك ذكر الشاطبي رحمه الله في الاعتصام أن الكتاني رأى في المنام رجلاً يقول: إنه رسول الله، فقال له: ادع الله ألا يميت قلبي، فقال له: قل كل يوم أربعين مرة: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت! فقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى وهو الفقيه الفحل المحقق: أما كون الذكر سبباً لحياة القلب فهذا لا شك فيه، وأما ذكر الله تعالى بالوحدانية فهو من أعظم الأذكار، وكذلك الدعاء يا حي يا قيوم، فكل هذا وارد في الكتاب والسنة، لكن تخصيص أن يقول هذه الكلمة أربعين مرة كل يوم هذا لم يرد في السنة النبوية، ولذلك فالقول بأنه مشروع للكتاني أو لغيره هو أمر باطل لا يمكن أن يقال به.
ومثله ما ذكره الشاطبي عن ابن رشد وكان قاضياً، أنه جاءه رجلان من العدول الثقات يشهدان على فلان، فلما نام رأى في المنام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أتى وقال له: لا تقبل شهادة هذين الرجلين فإنهما كاذبان، فلما استيقظ تردد، ثم جزم بقبول شهادتهما ورد هذه الرؤيا؛ لأن الرؤيا لا يثبت بها حكم شرعي كما سبق، ولا مدخل لها في تقرير الأحكام، وسيمر شيء من ذلك لا يخلو من طرافة.(37/24)
الأنبياء
الصنف الأول: هم الأنبياء؛ وكل رؤيا الأنبياء حق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رؤيا الأنبياء حق} فإن الأنبياء لا يقولون من الكلام إلا الصدق، ولذلك لا يرون في المنام إلا الحق، فجميع رؤيا الأنبياء حق بلا استثناء، ولذلك ورد عن جماعة من أنبياء الله ورسله في القرآن مرائي رؤها وكانت حقاً لا شك فيه، لعل من أشهرها وأعرفها رؤيا يوسف عليه السلام التي جاءت في سورة يوسف: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] .
فهذا أول السورة، وفي آخر السورة: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] .
رؤياه عليه الصلاة والسلام جاءت حقة كفلق الصبح، وقد جاء عن بعض السلف عند الطبراني والبيهقي كما في رواية عن سلمان الفارسي وسندها صحيح: [[كان بين رؤيا يوسف وبين تعبيرها أربعون سنة]] .
وجاء عن ابن مسعود أنها تسعون سنة أو ثمانون سنة وقيل أقل من ذلك، وذكر بعض السلف أن أمد الرؤيا ينتهي إلى أربعين، أي إذا رأى الإنسان رؤيا فأقصى ما يمكن أن تحدث فيه أربعون سنة، وهذا استنباط من الرواية الواردة عن سلمان الفارسي، لكن ليس عليه دليل من كتاب الله تعالى صريح ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تتحقق الرؤيا في زمان طويل يزيد على أربعين سنة، وهذه رؤيا يوسف عليه السلام.
ومنها أيضاً رؤيا إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:102-105] .
وقد جاء عن السدي عند ابن أبي حاتم في قصة ذبح إبراهيم لابنه إسماعيل قصة طويلة مشهورة أنه ذهب به، فجاء الشيطان إلى أمه فقال: إنه ذهب ليقتله، فأضجعه إبراهيم بعد أن أخبره، فقال له: يا أبت اشدد وثاقي، واجعل وجهي إلى الأرض لئلا تصيبك رقة أو رحمة فتصد عن أمر الله عز وجل، ثم قال: أبعد ثوبك لئلا يصيبه الدم، فتراه أمي فتحزن لذلك، فكان يضع السكين على رقبته، فتتغير وتصبح شفرتها إلى أعلى، ثم بعث إليه الله تعالى بكبش من الجنة، وفدى به إسماعيل عليه السلام.
وهذه القصة وإن كانت من روايات بني إسرائيل إلا أنها تسير في منوال النص القرآني ليس فيها جديد، لأن من المعلوم أنه ذهب معه وعرض عليه الرؤيا ووافقه على ذلك، بل أمره وقال: يا أبت افعل ما تؤمر، وأسلم لله عز وجل وتله للجبين: أي: جره، وجعل جبهته على الأرض، وبدأ يحاول أن يذبحه، وهنا سمع النداء: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:104-105] {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] وجعل الله تعالى عمله ذكراً حسناً في الناس إلى يوم يبعثون، فهذه من رؤيا الأنبياء وهي حق، ولو لم تكن حقاً لما عمل إبراهيم عليه السلام بمقتضاها، فرؤيا الأنبياء حق؛ أي: أنها وحي من عند الله عز وجل.
وكذلك رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت في الصحاح عنه مرائي كثيرة جداً، لعلي أسرد شيئاً منها لما فيها من العبرة والعجب؛ ولأن هذه الرؤى التي رأها النبي صلى الله عليه وسلم من شأنها أنها تعود الإنسان على التعبير الحسن للرؤيا، فهي مدرسة يتخرج منها المعبرون.
فمن ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بينما أنا نائم إذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي -وهذه إشارة إلى الفتوح التي فتح الله بها على أمته صلى الله عليه وسلم- قال عليه الصلاة والسلام: ثم نظرت في يدي فوجدت فيهما سواران من ذهب فأهمني أمرهما، فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين اللذين أنا بينهما مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، وفي رواية: فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي} .
فأول النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأساور من الذهب التي رآها في المنام في يديه بأنها عبارة عن رجلين يدعيان النبوة في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان، فقد ادعى مسيلمة وهو في اليمامة وتبعه بنو حنيفة، وادعى الأسود بن كعب العنسي -بفتح العين وسكون النون- النبوة، وتغلب على اليمن، وطرد عامل النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وكان له شأن عظيم حتى أنه كان يضحك على الناس ويلبس عليهم، ويذكر ابن إسحاق من طرائفه أن كان يسمى ذا الحمار فيقول: إن سبب تسميته بهذا الاسم أنه كان في يومٍ من الأيام يمشي في الشارع فمر به حمار أو قرب منه، فعثر الحمار فسقط على الأرض، فقال: إنه قد خر لي ساجداً فسمي بعد ذلك بذي الحمار.
وضحك على الناس وتغلب على اليمن زماناً، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا الرجل تزوج امرأة مسلمة بالقوة، فاتفقت مع بعض المسلمين كـ فيروز الديلمي، ومعه رجال على أن تفتح لهم سرباً إلى منامه ففعلت، ثم دخلوا عليه فقتلوه، وكان هذا على الراجح بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
لأن أمر الأسود إنما انتشر وارتفع بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
وقد قال أهل العلم في تأويل هذه الرؤيا: إن كونهما سوارين من ذهب، والرجل يحرم عليه أن يلبس سواري الذهب هذا دليل على أنه هم يلحقه، وهكذا كان، فقد لحق النبي صلى الله عليه وسلم هم من أمر هذين المتنبئين، وكذلك قالوا: كونهما من ذهب دليل على سرعة ذهابهما، وعلى سرعة زوالهما.
وأما كونه نفخهما فقد اختلف فيها أهل التعبير، والأقرب -والله تعالى اعلم- أن النفخ هنا إشارة إلى هوان أمرهما، وأن مجرد نفخة من الرسول عليه الصلاة والسلام كافية في القضاء عليهما.
صحيح أن أمرهما علا وارتفع، وكان لهما خبر عظيم لكن إلى قصر، ما حصل لهم كما حصل في شأن الإسلام الذي لا يزال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها في علو وقوة، فإن أمرهما لا شك يعتبر قصيراً، وكذلك نفخهما إشارة إلى فضيلة أبي بكر رضي الله عنه، وأنه بمنزلة الروح من الرسول عليه الصلاة والسلام، كما ذكر ذلك ابن القيم في زاد المعاد؛ لأن الذي تولى القضاء على حركات الردة هو أبو بكر الصديق.
وكذلك من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري عن أبي هريرة {أنه عليه الصلاة والسلام رأى امرأة عجوزاً ثائرة الرأس قد خرجت من المدينة حتى نزلت بمهيعة -أي بالجحفة- قال: فأولتها بالحمى التي كانت في المدينة، ومعلوم أنه كانت فيها وباء الحمى، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بنقل حماها إلى الجحفة، فاستجاب الله دعاءه} ورأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في المنام على شكل امرأة عجوز ثائرة الرأس.
كذلك حديث ابن عمر في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رأيت في المنام رجلاً آدم كأحسن ما أنت راءٍ من أُدم الرجال جعداً، كأن رأسه يقطر ماءً واضعاً يديه على كتفي رجلين وهو يطوف بالكعبة، فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا عيسى بن مريم عليه السلام، قال: رأيته، ورأى رجلاً جعداً قططاً أعور كأن عينه اليمنى عنبة طافية، فقلت: من هذا؟ قيل لي: هذا هو المسيح الدجال} فهذه من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك روى أبو موسى كما في البخاري {أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين قال: فذهب وهلي -أي: ظني- إلى أنها هجر -الأحساء- فإذا هي المدينة -وهجر فيها نخل- قال النبي صلى الله عليه وسلم: ورأيت كأنني هززت سيفاً فانقطع طرفه، ثم هززته مرة أخرى، فعاد أحسن ما كان، فأولت ذلك بنقص، ثم بالخير الذي آتنا الله به بعد بدر، ورأيت بقراً تذبح فأولتها قتلى في أصحابي} هكذا كان في معركة أحد حيث قتل طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم -وهي حق- ما رواه البخاري وروى مسلم أوله من حديث سمرة وهو حديث طويل فيه: {أن ملكين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم هما جبريل وميكائيل، فقالا له: انطلق، فأتيا به على رجل مضطجع وعنده رجل يضربه بالحجر، فيشق رأسه فيتدهده الحجر، فيأتي الرجل به، فإذا رأس المضطجع قد التأم، فيضربه به مرة أخرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ فقالا: انطلق، قال: فانطلقا بي، فإذا برجل مضطجع على جنبه، وعنده رجل قائم بكلوب من حديد فيضعه في شقه، ثم يشقه حتى يبلغ به أذنه، ثم يضعه في منخره فيشقه، ثم يضعه في عينه فيشقها، فإذا انتهى ذهب إلى الشق الآخر، فعاد الأول كما كان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماهذا؟ فقالا: انطلق، قال: فانطلقا به فإذا بنهر أحمر كالدم، وإذا به رجل وعند جانب النهر رجل عنده حجارة، فإذا جاء هذا الرجل الذي في النهر يخرج ضربه بالحجر فوضعه في فمه، فعاد إلى وسط النهر، فقلت: ما هذا؟ فقالا: انطلق، فأتيا بي على شيء مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، وإذا فيه رجال ونساء عراة، إ(37/25)
عوامل صدق الرؤيا
لا بد أن يتحرى الإنسان على أن تكون رؤياه صادقة، ومن ذلك: 1- أن يحرص أن يكون صادقاً في حديثه، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً} وهو من حديث أبي هريرة، فكلما كان الإنسان حريصاً على تحري الصدق والبعد عن الكذب أو المبالغة أو التهويل فيما يقول؛ كان هذا أدعى إلى أن يرى في المنام الصدق، وكلما كان الإنسان متوسعاً في الروايات والأخبار وربما مختلقاً للأكاذيب؛ فإنه يكون أبعد عن الصدق في رؤياه.
2- أن ينام الإنسان على السنة: كأن ينام على جنبه الأيمن متطهراً، ويقرأ الأذكار الواردة والإخلاص والمعوذتين ويمسح بهما رأسه ووجهه وما أقبل من جسمه، وكذلك يقرأ الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم: {باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ عبادك الصالحين، اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، اللهم وجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، وأسلمت نفسي إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت} كما في صحيح البخاري عن البراء، وغيره من الأذكار الواردة، ثم يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر حتى تغلبه عينه، فإن هذا من الأسباب التي تجعل الإنسان لا يرى في منامه -إن شاء الله- إلا المرائي الحسنة.
3- اعتدال الإنسان فلا يكون نام على جوع أو شبع أو عطش شديد أو هم شديد، أو ما أشبه ذلك، بل يكون معتدل المزاج خالياً من أسباب الرؤيا الصالحة، كما أسلفت في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب، إذا تقارب الزمان فقيل: إذا اعتدل الليل والنهار، وقيل: قبيل قيام الساعة، وهو الأرجح.
4- التواطؤ عليها، أي: أن يراها أكثر من إنسان، وهذا حدث كليلة القدر -كما سبق الإشارة إليه- وقال صلى الله عليه وسلم: {أرى رؤياكم قد تواطأت} .
كذلك كما حدث في رؤيا الأذان، فقد رآها عبد الله بن زيد بن عبد ربه: {رأى الرجل الذي معه ناقوس يحمله قال: تبيعه؟ قال: ما تصنع به؟ قال: ننادي به للصلاة، قال: ألا أدلك على ماهو خير لك من ذلك؟ قال: بلى، قال: تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثم ذكر الأذان، ثم استأخر قليلاً، ثم قال: والإقامة أن تقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله ثم ذكر الإقامة، فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنها لرؤيا حق فألقها على بلال فإنه أندى منك صوتاً، فلما سمعها عمر في بيته خرج يجر إزاره، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: والله يا رسول الله! لقد رأيت الذي رأى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله} حَمِدَ الله على تواطؤ رؤيا أصحابه، وأن هذا مما يؤكد صدق هذه الرؤيا.(37/26)
عدم ثبوت الحكم الشرعي بالرؤيا
الرؤيا لا يثبت بها الشرع، وهذه قضية مهمة جداً، فلو أن إنساناً رأى شيئاً في المنام يقول له: فلان عالم فاسأله عن دينك، أو فلان سارق أو زان؛ فأقم الحد عليه فإنه لا عبرة بهذه الرؤيا ولا يلتفت إليها.
ومن طريف ما يذكر أن شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي أحد الخلفاء، فلما دخل عليه قال المهدي وقد غضب واشتد غضبه: علي بالسيف والنطع، قال: وما تصنع به يا أمير المؤمنين؟ قال: أقتلك! قال: ولمَ؟ قال: إني رأيت في المنام أنك تطأ على بساطي وأنت معرض عني، فسألت أهل التعبير عن ذلك، فقالوا: إنه يظهر لك الموافقة والود، ويبطن لك المخالفة والبغض، فقال شريك بن عبد الله وكان حكيماً: ما أنت بإبراهيم، حتى تكون رؤياك كرؤياه، ولا معبرك بيوسف حتى يكون تعبيره كتعبير يوسف، أفبرؤيا كاذبة تستحل دماء المؤمنين؟! فخجل المهدي وسكت، وخرج هذا الرجل من مجلسه، ثم أعرض عنه بعد ذلك.
وهكذا أنجى الله هذا الرجل بسبب حكمته، وبسبب معرفته أن الرؤيا لا يثبت بها حكم شرعي، ولا تستحل بها دماء ولا أموال ولا أعراض، ولا يثبت بها حلال ولاحرام ولا يلتفت إليها.
ولذلك أؤكد التحذير من بعض المرائي التي تنتشر في بعض الناس، مثل رؤيا أن الساعة تقوم قريباً، والعلامة على ذلك: افتحي أي مصحف تجدي فيه ورقة ممسوحة أو تجدي فيها شعرة، وقد شاعت هذه في أوساط الطالبات، وكذلك اكتبي هذه الورقة ثلاث عشرة مرة ووزعيها، وإلا فسوف تفقدين شيئاً عزيزاً عليك، فهذه من الأكاذيب والخرافات التي لا تنتشر إلا عند ضعفاء العقول وضعفاء العلم والإيمان.(37/27)
آداب الرؤيا
أولاً: أن يبتعد الإنسان عن الكذب في رؤياه، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس الذي عند البخاري {من تحلم -ادعى في منامه شيئاً لم يره- كُلِّفَ يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل} .
وكذلك رواه الترمذي من حديث علي وسنده حسن: {من تحلم وادعى رؤيا وهو فيها كاذب، كُلِّف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين، وهو لا يستطيع أن يفعل ذلك} .
ومثله في التحذير من ذلك، ما رواه البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {إن من أفرى الفري -أي من أكذب الكذب- أن يُري الرجل عينيه ما لم تريا} .
فمن الخطورة أن يكذب الإنسان في رؤياه، وهذا بعض الناس يتساهل فيه، والكذب في الرؤيا كالكذب في اليقظة، الكذب في الرؤيا أقل ما يقال فيه: إنه كالكذب في اليقظة، بل قال بعضهم: إنه أشد من ذلك.
ثانياً: على الإنسان إذا رأى رؤيا صالحة فيها خير؛ أن يحمد الله تعالى، فيقول: الحمد لله، ويستبشر ويفرح بهذه الرؤيا، ويحدث بها من يحب، كما ورد ذلك في حديث أبي سعيد في صحيح البخاري: {فليحمد الله وليحدث بها} وورد من حديث أبي قتادة: {لا يقصها إلا على وادٍّ -محب- أو ناصح أو عالم} .
ثالثاً: إذا رأى رؤيا مكروهة؛ فهذه فيها الأدب منها أن يتعوذ من شرها ومن شر الشيطان، ويتفل عن يساره ثلاث مرات، فإن الشيطان يخنس ويبتعد حينئذٍ عن هذا الإنسان، فلا يسيء إليه، وكذلك لا يذكرها لأحد قط، لا محب ولا غيره، لا قريب ولابعيد، فقد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث جابر عن أن يخبر الإنسان بتلعب الشيطان به في المنام: {لما أتاه الأعرابي فقال: يا رسول الله! رأيت في المنام أن رأسي قطع، فهو يتدهد أمامي وأنا ألحق به، فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنكر على هذا الأعرابي، ثم صعد المنبر فقال: لا يخبر أحدكم بتلعب الشيطان به في المنام} فلا ينبغي للإنسان أن يذكر الرؤيا السيئة لأحد؛ لئلا يشمت به عدو أو يؤولها أحد، فيكون هذا التأويل هماً في قلب الإنسان، وقد يكون سبباً في وقوعه في بعض ما دلت عليه الرؤيا.
رابعاً: من أدب من رأى رؤيا لا تسره أن يقوم ويصلي، فقد ورد هذا من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم.
خامساً: من الأدب أن يتحول عن شقه الذي كان نائماً عليه، تفاؤلاً لتحول حاله من سيء إلى حسن، وقد ورد هذا في حديث جابر الذي رواه مسلم.(37/28)
تعبير أو تفسير الرؤيا
الإمام مالك قال كما ذكر ذلك ابن عبد البر وغيره -لما قيل له في تأويل الرؤيا: هل يؤولها كل أحد؟ قال: لا، أيلعب بالنبوة؟ أي: ما دامت الرؤيا جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة فهل يلعب بها كل أحد؟ فأنكر على من أوَّل الرؤيا أو فسرها وهو غير عالم، فقيل له: يا إمام! إن بعضهم يؤول الرؤيا على الأمر الحسن، وإن كان لا يعلمها؟ أي إذا قال له إنسان: رأيت رؤيا فإنه يؤولها على تأويلٍ حسن يطمئن هذا الإنسان، وهو ليس لديه علم، قال: لا يفعل ولا يعبث بالنبوة.
فلا ينبغي للإنسان أن يُعِّبر أو يفسر الرؤيا إلا إذا كان عنده إلهام وتوفيق من الله ومعرفة بشأن الرؤيا، لأن الرؤيا قد تكون للشيء وعدمه، فقد ورد أن رجلاً جاء إلى أحد الصالحين، فقال له: إني رأيت في المنام أنني أؤذن، قال: إنك سوف تسرق، فتأول قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] ثم جاءه رجل آخر، فقال له: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فقال: إنك سوف تحج فتأول قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:27] .
لذلك على الإنسان ألاَّ يتسرع في تعبير الرؤيا، بل يعتبر أنها من الدين وأنها من الشرع، والحمد لله! فالله عز وجل جعل لنا سعة في قول: لا أدري، وفي قول: الله أعلم.(37/29)
أقسام الرؤيا
الرؤيا قسمان: النوع الأول: ظاهر جلي: كمن رأى في المنام أنه يأكل شيئاً، فحدث له ذلك في اليقظة، فهذا ظاهر ليس فيه رمز وليس فيه خفاء.
النوع الثاني: رؤيا مرموزة لا يعبرها إلا الحاذقون، وهذه الرؤيا لها قواعد وأصول تخفى على كثير من الناس، ولذلك سبقت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة كثيرة، قد لا يستطيع الإنسان أن يتوقعها.
كذلك عمر رضي الله عنه قال: إنه رأى في المنام أن ديكاً نقره ثلاث نقرات، فأولها بأنه يقتله رجل من العجم، فقتل رضي الله عنه وطعنه أبو لؤلؤة المجوسي ثلاث طعنات، كما هو معروف في السيرة.
ومن الذين اشتهروا بتأويل الرؤيا ابن سيرين وقد جاء في صحيح البخاري عنه أنه كان يقول: [[إن الرؤيا ثلاث: إما حديث النفس، أو تحزين من الشيطان، أو رؤيا من الله]] .
وهذا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما سبق، قال ابن سيرين: وكانوا يعجبهم القيد، ويكرهون الغل، ويقولون: القيد ثبات في الدين، وهذا من الأشياء التي يعجب الإنسان منها، فإن السلف رضي الله عنهم كانوا يكرهون الغل، والغل هو القيد الذي يكون في عنق الإنسان في النوم، ولعل كراهيتهم للغل؛ لأنه ورد في القرآن على أنه عقوبة لأهل النار: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ، فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] وكذلك قال تعالى عن الكفار: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8] .
أما القيد: فيكون في الرجل فيعجبهم القيد، لأن القيد منع الإنسان من المشي إلى الحرام، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن} المؤمن لا يقتل ولا يعتدي على الناس؛ لأن الإيمان قد قيده بذلك؛ فالقيد دليل على الإيمان، أما الغل في الحلق فكانوا يكرهونه ويعتبرونه أمراً ليس بحسن.
ولكن مع أن ابن سيرين له تأويلات كثيرة، إلا أن هناك كتاباً مشتهراً من تفسير ابن سيرين، تفسيراً للأحلام وتأويل للرؤى، وهذا فيه أشياء كثيرة منسوبة إلى ابن سيرين لا تصح، ولذلك يجب الحذر منه، ومن الخطورة بمكان أن ينتشر هذا الكتاب بين أيدي العامة والرجال والنساء، لأن الكتاب فيه حقائق وأباطيل، ولا تصح نسبته إلى ابن سيرين، فقد يؤول الشيء بالشيء أو بضده، إما رزق أو موت، فإذا رأى الناس هذه الرؤيا أصابته بهم شديد.
ينبغي التحذير من هذا الكتاب وتبيين أن هذا الكتاب لا يعتمد عليه، وكذلك هناك كتاب آخر للنابلسي فيه أشياء صحيحة وأشياء غير صحيحة، وهناك لبعض الحنابلة وهو أحمد بن عبد الرحمن المقدسي كتاب سماه البدر المنير في تأويل الأحلام ذكره الذهبي، وسوف يأتي الإشارة إلى بعض تأويلات المقدسي.
وذكر من هذه التأويلات ابن القيم في زاد المعاد المجلد الثالث، ذكر تأويلات المقدسي، وقد التقى به وأخذ عنه وإن كان ابن القيم يقول: لم يتح لي فرصة أن أقرأ عليه تأويل الرؤيا لصغر سني ولتقدم وفاته رحمه الله، وكان يسمى بـ الشهاب العابر، لأنه دقيق، حتى يقول: الذهبي لا يدرك شأنه في تفسير الأحلام، لا يشق له غبار في تأويل الرؤى والأحلام، فمن ذلك أن رجلاً رأى في رجله خلخالاً، فقال له: سوف يصيب رجلك داء تتخلخل منه، وهكذا كان.
وجاءه آخر فقال: إني رأيت في أنفي حلقة من ذهب، ورأيت فيها حباً أحمر جميلاً، فقال له: إنه سوف يصيبك رعاف! وهكذا كان.
وجاءه آخر فقال له: رأيت في يدي سواراً والناس ينظرون إليه، فقال له: سوف يصيب يدك داء برص أو بهاق أو نحوه، وسوف ينظر الناس إليه.
وجاءه آخر فقال: رأيت في يدي سواراً ولقد خفيته فلا ينظر إليه الناس، فقال له: سوف تتزوج امرأة حسنة جميلة رقيقة، قال: وهكذا كان.
وأشار الإمام ابن القيم في الموضع المشار إليه إلى أن الحلية في اليد قد تكون هماً، وقد تكون تزويجاً، وقد تكون بنتاً تولد له أو ما أشبه ذلك.
فيكون الشيء رمزاً لآخر، مثلاً: الذهب يكون رمزاً للمرأة الصالحة، وقد يكون الرمز باللفظ كما سبق بأن الذهب أوله بعض أهل العلم بالذهاب لسرعة ذهاب شأن الكذابين.
ومن ذلك ما ورد في صحيح مسلم عن أنس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {رأيت أنني في دار عقبة بن رافع، وكأنه أُتي لنا بتمر من تمر ابن طاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأولته الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة لنا في الآخرة، وأن ديننا قد طاب} أخذ الرفعة من اسم رافع، وأخذ العاقبة من عقبة، وأخذ طيب الدين من أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أكلوا من تمر يسمى تمر ابن طاب وهو من جيد تمر المدينة.
وكما ذكر ذلك عدد من المعبرين.(37/30)
خطورة تعبير الرؤيا
وقد ورد في الحديث الذي رواه أبو رزين العقيلي وسنده جيد عند أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت سقطت} وظاهر الحديث يدل على أن الرؤيا لأول عابر، فإذا عبَّرها الإنسان؛ فإنها قد تقع كما عبرها والله تعالى أعلم.
وهذا ليس على إطلاقه كما تدل عليه الأحاديث الأخرى لكنه يحدث، وهو ردع للإنسان أن يُعبر الرؤيا إذا لم يكن عالماً بذلك، وليسعه ما وسع رجال الملك حين قال لهم: أفتوني في رؤياي، قالوا: أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، فليقل الإنسان: وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، إلا إن كان ممن وفق وألهم وسدد في ذلك فلا بأس.(37/31)
الأسئلة(37/32)
صاحب الرؤيا الصالحة
السؤال
هل الذي يرى في المنام رؤيا صالحة، هل يكون صالحاً؟
الجواب
الرؤيا الصالحة في المنام للرجل الصالح، لكن قد يرى غير الصالحين رؤيا صالحة في المنام، لكن هذا نادر كما سبق، مثل قصة رؤيا الملك كما في سورة يوسف، وكذلك الرجلان صاحبا يوسف كانا مشركين كما هو ظاهر من السير، وكذلك رأيا رؤيا وقعت مثلما رأياها.(37/33)
اختلاف تعبير الرؤيا حسب أحوال الذي رآها
السؤال
ذكرت في معرض الحديث أن رجلاً أتى إلى أحد الصالحين، فقال: إني رأيت أني أؤذن، ففسرها الرجل أنك تسرق، وفسرها للرجل الآخر أنه يحج، فما الفرق بين الرجلين من حيث رؤياهما؟ وما التوفيق بينهما؟
الجواب
أن الرجل الأول الذي قال له: تسرق ظهر للمعبر من حاله وهيئته أنه رجل أقرب إلى الفسق وخفة اليد، فدل هذا أنه سارق، ولذلك من أصول تعبير الرؤيا أن يكون العابر عنده معرفة بحال الشخص إما ظاهره أو باطنه.
وأما الآخر فكأن الرجل كان عليه سيماء الصلاح، فرأى أن أذانه يعني الحج {وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ابن عباس وهو حديث صحيح- قال: يا رسول الله! إني رأيت كأن ظلة في السماء تنطف السمن والعسل، والناس تحتها يتوكفون ويأخذون منها، فمقل ومستكثر، ورأيتُ حبلاً موصولاً بين السماء والأرض، فأخذت به يا رسول الله فرفعت، ثم أخذ به بعدك رجل آخر فرفع، ثم أخذ به رجل ثالث فرفع، ثم أخذ به رجل فرفع ثم انقطع، ثم وصل له ثم رفع، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! دعني أعبر هذه الرؤيا - يريد أبو بكر أن يتعلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعم المعلم! ونعم المتعلم! فقال: أما الظلة التي في السماء فهي ما آتانا الله به من الخير.
أما السمن والعسل الذي تمطره وينزل منها فهو الوحي والقرآن الذي أكرمنا الله به، وأما كون الناس يأخذون منها فمقل ومستكثر فهؤلاء الناس يأخذون بقدر أوعيتهم وبقدر ما معهم من الدين والعلم، وأما الحبل الذي بين السماء والأرض فهو الحق الذي بعثك الله به، تأخذ به أنت فتعلو، ثم يأخذ به رجل بعدك فيعلو، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو، ثم يأخذ به رجل فينقطع ثم يُوصل له فيعلو، فقال: أبو بكر بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أخبرني أصبت أم أخطأت؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فقال: والله يا رسول الله لتخبرنني ما أخطأت؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم} .
وترك الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الرؤيا دون أن يعبرها أو يفسرها أو يبين الخطأ من الصواب، وهذا دليل أن الإنسان إذا عبر الرؤيا باجتهاد، وكان أهلاً لذلك من حيث العلم بالشرع والعلم بأحوال الناس، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر وهو مجتهد، كما فعل أبو بكر.(37/34)
مآل الرؤى
السؤال
هل كل رؤيا حسنة تؤول بالخير، وكل رؤيا شر تؤول شراً؟
الجواب
هذا معنى الرؤيا الحسنة أنها تؤول إلى خير، وتكون خيراً للإنسان في عاجل أمره أو آجله، والرؤيا السيئة هي ضد ذلك.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صلِّ وسلم على نبيك وعبدك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(37/35)
حكم الكذب في الرؤيا
السؤال
إذا كذب الرجل أنه رأى في المنام لغرض صحيح، فهل يجوز الكذب في ذلك، مثل أن يقول لشخص لا يصلي في المسجد إني رأيتك تعذب؛ من أجل أن يصلي في المسجد؟
الجواب
لا يجوز هذا، وليس هذا من طرق الدعوة إلى الله تعالى، بل على الإنسان أن يقول له: إني سمعت الله تعالى يقول في كتابه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] وسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في سنته: {بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة} ويقول: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وما أشبه ذلك من النصوص التي تدل على عظمة عقوبة تارك الصلاة، وفي ذلك كفاية في أن يختلق له رؤيا لا أصل لها.(37/36)
أثر قراءة آية الكر سي
السؤال
هل يمكن للشيطان أن يتمكن من الإنسان وقد قرأ آية الكرسي وقرأ الورد، فإذا رأى شيئاً لا يسره، فهل هذا من الشيطان أم هو غير ذلك؟
الجواب
نعم آية الكرسي ورد: {من قالها فإنه لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح} لكن هذا فيمن قرأها بحضور قلب، وصفاء نفس، وعمل بمقتضاها، فإن في الآية من المعاني والآثار الشيء العظيم، أما من قرأها بقلب راكد لاهٍ، فإن هذا لايكون له مثل ما للأول، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر وأبي هريرة وهو حديث حسن بمجموع طرقه قال: {ادعوا وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يجيب دعاء من دعاه بقلب غافل لاهٍ} .
فإذا كان الدعاء وهو من أفضل العبادات لا يستجاب من قلب العبد الغافل اللاهي، فكذلك غيره من الأذكار والأدعية إذا غفل الإنسان ولها، ولا شك أنه مأجور على قراءته ليس كمن سكت ولم يقرأ، لكنه ليس كمن قرأ بقلب حاضر ونفس مقبلة على ذكر الله.(37/37)
حكم الإخبار بالرؤيا السيئة
السؤال
إذا رأى الإنسان رؤيا غير طيبة كمن رأى شخصاً يُقتل أو شخصاً يقتله، فهل يخبرهم بهذه الرؤيا أم لا؟
الجواب
كلا! فإن هذه الرؤيا فيها شر، فعلى الإنسان ألاّ يخبر بها أحداً، كما سبق في الآداب المطلوبة في الرؤيا السيئة، سواء كانت الرؤيا تتعلق به، أو كانت رؤيا تتعلق بغيره، ولكن إن كان في هذه الرؤيا تحذير وتنذير وتخويف، فعليه أن يعرضها على بعض المعبرين؛ لأن بعض الرؤى كما أسلفت يكون فيها إنذار، مثل أن ترى رجلاً وترى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أعرض عنه، فإن هذه الرؤيا قد يكون فيها إنذار لهذا الشخص، فلا بأس أن تعرض على بعض المعبرين، ثم يستشار في إخبار صاحب الرؤيا إن كان في ذلك تنبيه على بعض الذنوب التي وقع فيها.(37/38)
حديث النبي الذي كان يخط والجواب على وجه الإشكال فيه
السؤال
لقد تحدثت عن حكم الخط، وأنه في حديث معاوية بن الحكم الطويل أنه: {سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخط؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك فليعقل} فما حكم الخط في الحديث؟
الجواب
لا يجوز الخط بالرمل، مثلما يفعله الرمالون والعرافون والمنجمون، لا يجوز لأنه من ادعاء علم الغيب، والله تعالى يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] فلا يجوز للإنسان أن يدعي علم الغيب بسبب من الأسباب أو بوسيلة من الوسائل، لا عن طريق الخط، ولا قراءة الكف، ولا قراءة الفنجان، ولا غير ذلك من الطرق التي يسلكها المشعوذون، الذين يضحكون على الناس ويأخذون أموالهم ويستخفون بعقولهم، أما الحديث فظاهره والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كان نبي من الأنبياء يخط} فيكون هذا طريقة من طرائق الوحي لذلك النبي سواء كان إدريس أو غيره، والوحي له طرق كثيرة تختلف من نبي إلى آخر، وقد ذكر الإمام ابن القيم في طرق الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها على ثمانية أضرب، منها الرؤيا الصالحة، ومنها الإلهام ومنها ومنها فيكون هذا نوعاً من الإلهام لذلك النبي، أما غير النبي فليس له شيء من ذلك.
أما قول النبي عليه السلام: {كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك} فهذا على سبيل التعجيز، كما في القرآن الكريم في مواضع كثيرة: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} .
ليس معناه الإذن للإنسان أن يصنع ما شاء، لكن على سبيل التعجيز وبيان أن الأمر واضح ولا إشكال فيه، فهنا قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك} كأن الحديث يقول للسائل: هل أنت نبي؟ سيقول السائل: كلا! فسوف يقول له: هل تعرف أنت الطريقة التي كان يخط بها ذلك النبي؟ فسوف يقول: لا! فيكون الجواب: إذن لا سبيل لك إلى ذلك.(37/39)
أسباب انبعاث حديث النفس
السؤال
ذكرتم أن الرؤيا من الله وأن الحلم من الشيطان، فمن أي شي يكون النوعان الآخران وهما حديث النفس وما يكون مما يناسب الطبع؟
الجواب
لعل هذا مما لا يوصف بأنه من الله تعالى ولا من الشيطان، هو من الله تعالى من ناحية أنه خالقه ومقدره بلا شك، لكنه ليس مما يفرح به أو يسر، كذلك ليس هو من الشيطان الذي يحذر به المؤمنين، بل إنه من الأمور العادية، كما أن الإنسان قد يفكر وهو يقظ بأفكار وتخطر له في نفسه خواطر من الأمور المباحة التي لا تحمد ولا تذم، وكذلك له أفكار وخواطر محمودة، مثل الهم بالأعمال الصالحة: إذا هم بحسنة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وفي مقابل ذلك قد يفكر ويخطر في باله خواطر سيئة يلام ويذم ويعاقب عليها، كما إذا هم بالسيئة ولم يمنعه من عملها إلا العجز عنها، فإنه يأثم بذلك ويعاقب عليه كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! ما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه} .
وكما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] هذا مجرد الإرادة أو الهم الجازم على المعصية يأثم عليه الإنسان إذا كان لم يمنعه من فعله إلا العجز.
أما إنسان هم بارتكاب الفاحشة وكاد أن يبدأ، ثم اطلع عليه رجل يخافه أو يستحي منه فأقلع، فهذا ما أقلع خوفاً من الله حتى يكتب له حسنة، وإنما أقلع خوفاً من المخلوقين أو لعجزه.(37/40)
النوم في الجنة
السؤال
ذكرت أن ليس في الجنة والنار نوم، فما معنى قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان:24] ؟
الجواب
ليس المعنى أنهم يقيلون فيها؛ فإن النوم أخو الموت كما قال عليه الصلاة والسلام، وأهل الجنة لاينامون فيها، لكن المقصود أن الناس إذا بعثوا من قبورهم وحوسبوا، ذهب أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار, وكأن مقامهم في عرصات القيامة وقت كوقت القيلولة كما ذكر ذلك بعض السلف.
فالمقصود ذهابهم إلى الجنة في وقت القيلولة، وليس أنهم ينامون في هذا الوقت.(37/41)
تعبير الرؤيا
السؤال
إذا اعتقدت أني رأيت رؤيا فكيف أعرف معناها؟ وهل من اشتُهر بتعبير الرؤيا حالياً؟
الجواب
إذا تبين لك أن الرؤيا فيها بشارة وخير؛ فهذا دليل على أنها رؤيا حق وخير إن شاء الله، وهناك من يعرفون بتأويل الرؤيا.(37/42)
بعض المراجع في الرؤى والأحلام
السؤال
نرغب أن تذكر في بداية المجلس أو نهايته بعض المراجع المهمة في كل بحث؟
الجواب
هناك بعض المراجع المهمة في موضوع الرؤيا، فمنها كتاب تعبير الرؤيا في صحيح البخاري، المجلد الثاني عشر من فتح الباري، وقد أطال الحافظ ابن حجر النفس في شرحه، ومنها كتاب طرح التثريب شرح التقريب للعراقي الجزء السابع، ومنها كتاب الاعتصام للشاطبي الجزء الأول، حيث ذكر طرائق أهل البدع في الاستدلال وذكر منها الاحتجاج بالمنامات، ومنها كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل لـ ابن حزم في آخر الكتاب الأخير.
ومنها كتاب جامع الأصول في حرف التاء تعبير الرؤيا، حيث جمع الأحاديث الواردة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنها كتاب المنامات لـ ابن أبي الدنيا، وإن كان كتاباً جمع فيه ما هب ودب من الرؤى والأحلام، وابن أبي الدنيا رحمه الله يجمع روايات، فيها الصحيح، والحسن، والضعيف، وفيها الموضوع الباطل الذي لا أصل له، فينتبه لذلك القارئ.
ومنها كتاب زاد المعاد لـ ابن قيم الجوزية في مواضع عديدة من الكتاب حيث ذكر آداب النوم، وآداب الاستيقاظ وكذلك ذكر الرؤى في الجزء الثالث.
وذكر أحمد بن عبد الرحمن بن نعمة بن سرور المقدسي، صاحب كتاب البدر المنير في تعبير الأحلام.(37/43)
الكتاب المنسوب لابن سيرين
السؤال
ما رأيكم في كتاب ابن سيرين تعطير الأنام في تأويل الأحلام؟
الجواب
هذا الكتاب لا يصح عن ابن سيرين، ولا يعلم أن الإمام ابن سيرين رحمه الله كتب كتاباً وإن كان من المشهورين في تفسير الرؤى والأحلام.(37/44)
ابن تيمية والاسترشاد بالرؤيا
السؤال
سمعت من أحد العلماء أن شيخ الإسلام ابن تيمية رأى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: عليك بالاستثناء يا أحمد، وذلك حين أشكل عليه حال الذين يقدمون ليصلي عليهم، فهل يكون أخذ منها حكماً شرعياً؟
الجواب
ذكر ابن القيم رحمه الله أن ابن تيمية رحمه الله تردد فترة في الجنائز التي تقدم ليصلى عليهم وهو يشك في حالهم، ويظهر له من أحوالهم خلاف الاستقامة، فتردد في ذلك فترة، ثم نام فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: عليك بالاستثناء يا أحمد.
والاستثناء المقصود به الدعاء يقول: اللهم إن كان عبدك هذا صالحاً فاغفر له وارحمه وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد إلى آخر الدعاء.
وهذا اجتهاد من الشيخ رحمه الله، وكأنه رأى أن هذا ليس فيه حكم شرعي، رأى أن الرؤيا هذه فيها تنبيه إلى حكم الفاجر، فهي تشبه من بعض الوجوه رؤيا أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي كما في صحيح البخاري جاء إلى ابن عباس فقال له: [[أترى أن أحرم بالحج والعمرة؟! قال: نعم أحرم بالعمرة متمتعاً بها الحج، فجاء إلى بعض الناس فنهوه عن ذلك؛ لأن عمر رضي الله عنه كان ينهى عن التمتع، وكذلك عثمان رضي الله عنه كان ينهى عن متعة الحج، فتابعهم بعض الصحابة ونهوا أبو جمرة عن ذلك، لكنه أطاع ابن عباس وأحرم بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، فلما نام رأى في المنام رجلاً يقول له: حج مبرور وعمرة متقبلة.
فجاء إلى ابن عباس وأخبره بالرؤيا، فقال له: هديت إلى سنة نبيك! وفرح ابن عباس بالرؤيا، وقال له: أقم عندي حتى أقسم لك من مالي، وأجعلك كأحد أولادي، فأقام عنده وأخذ عنه العلم، وكان يترجم بينه وبين الناس]] .
يحمل كلام ابن تيمية رحمه الله أنه رأى أن هذه الرؤيا ليس فيها حكم شرعي، وإنما كأنها نبهته إلى حكم ظاهر له، خفي عليه ثم انتبه له.
وإن هذا تفسير لفعله، كان بالنسبة لغيره لا يعتبر هذا دليلاً شرعياً، ولا يجوز للإنسان أن يستثني في الدعاء، بل الراجح أن الإنسان إذا ظهر من حاله أنه مسلم، يؤخذ بظاهره ويدعى له، فإن عرفت بأن هذا الشخص كافر حرم عليك أن تدعو له وإذا شككت في حاله، وعرفت منه أنه فاسق مظهر للفسق كالذين يتركون الصلاة مع الجماعة، ويصرون على تركها أو يؤذون المؤمنين أو يتعاطون الربا عياناً ويحاربون الله ورسوله أو ما أشبه ذلك كالذين يجاهرون بالمعاصي، يغنون مثلاً ينشرون الفساد والفاحشة بين المؤمنين أو تسلطوا على المسلمين وآذوهم في أنفسهم وأموالهم وأرزاقهم، وما أشبه ذلك.
فمثل هذا أرى أن الأفضل من العالم إذا قدم مثل هؤلاء للصلاة أن ينصرف ولا يصلي عليه، ردعاً لغيره وتعزيراً لغيره من الناس، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل هكذا بعض أصحابه، فالرسول عليه السلام كان إذا قدم إليه رجل عليه دين، قال: صلوا على صاحبكم وتركه، وكذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على الغال الذي غل المتاع، وكذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه، كما ورد في صحيح مسلم ولم يصلِّ عليه مع أنه ليس بكافر، فأخذ من هذا أهل العلم أن الإنسان المجاهر بالفسق والمصر على ذنوبه أن الأفضل إذا كانت الظروف مناسبة له وليس هناك فتنة أو ضرر ظاهر أن يبتعد العلماء المرموقون عن الصلاة عليه؛ حتى يكون بذلك زجر وردع له لمن كان على مثل شاكلته.(37/45)
من آداب الرؤيا السيئة
السؤال
قلت: من آداب الرؤيا السيئة أن يقوم يصلي، ثم ذكرت أنه يحول جنبه، وهذا ظاهره التعارض، فما الجمع؟
الجواب
لا تعارض! بل يفعل هذا وهذا، فإما أن يصلي وإذا رجع إلى فراشه فإنه ينام على جنبه الآخر، أو نقول: يتحول بمجرد أن يستيقظ، ثم بعد قليل يقوم ويصلي.
أو يقال: إن استطاع أن يقوم ويصلي فعل، وإن لم يستطع فعلى الأقل يتحول من جنب إلى آخر.(37/46)
تعلق الروح بالجسد
السؤال
يقال في علم النفس: إن الإنسان إذا لم تخرج روحه وتتجول، فقيل: إنها تصعد إلى السموات العلى، وقيل: إنها تتجول في الدنيا، وعليه تخرج أو تأتي الأحلام، فما قولكم؟
الجواب
قولنا هو قول أهل السنة والجماعة، كما ذكروا في كتب الاعتقاد أن تعلق الروح بالجسد على مراتب: أقوى وأتم ما يكون تعلق الروح بالجسد في الدار الآخرة، أهل الجنة وأهل النار تتعلق أرواحهم بأجسادهم تعلقاً تاماً ولذلك يكون لأهل الجنة أتم النعيم، ويكون لأهل النار أشد العذاب.
ثم تعلق الروح بالجسد في الحياة الدنيا في حال اليقظة هذا هو في المرتبة الثانية.
المرتبة الثالثة: تعلق الروح بالجسد في الدنيا في حال النوم، ثم في المرتبة الرابعة: تعلق الروح بالجسد في حال البرزخ، فإنها تتعلق الروح بالجسد لكنها تحله أو تسكن فيه، فلا يوصف بأنه حي حياة دنيوية مستقرة، بل روحه متعلقة بجسده بكيفية أضعف مما هي عليه في الدنيا، ولذلك لا يدركها الناس.(37/47)
أساليبهم في حرب الإسلام
لقد تفنن أعداء الإسلام في حربه سراً وعلناً، واستخدموا ما أمكنهم من وسائل لإضعاف الإسلام في قلوب المسلمين، وقد ذكر الشيخ هذه الأساليب وفضحها، داعياً المسلمين إلى التنبه لها ومحاربتها، والعمل على إحياء روح الإسلام بين المسلمين.(38/1)
قواعد أربع في الحرب ضد الإسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،، أيها الأحبة الكرام، موضوع هذا الدرس هو: وسائلهم في حرب الإسلام، وهذا هو المجلس الثالث والثمانون من سلسلة الدروس العلمية العامة، في ليلة الإثنين، السابع والعشرين من شهر جمادى الآخرة من سنة (1413هـ) .
أولاً: قواعد أربع لا بد منها:(38/2)
القاعدة الأولى: العداوة والصراع في الحياة سنة إلهية
إن العداوة والصراع في هذه الحياة قائمة إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وليست هذه العداوة بالضرورة مبنية على خطأ ممن نصبت له العداوة، ولا على ظلم، ولا على اعتداء؛ بل إن الله تعالى، وهو الإله الكريم الجواد الرحيم الرحمن المتفضل على عباده بكل خير، ومع ذلك كان له من خلقه أعداء، كما قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] .
وهكذا الملائكة عليهم الصلاة والسلام، وهم خلق عند الله تعالى في السماء، ومع ذلك لهم أعداء، والرسل عليهم الصلاة والسلام لهم أعداء، وأي أعداء قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:97] .
فذكر أن هناك من اليهود وغيرهم من هم أعداء لجبريل عليه الصلاة والسلام، أما الرسل صلى الله عليهم جميعاًَ وسلم، فإن العداوة لهم برزت أشد البروز، لأن لكلٍ منهم شريعةً ومنهجاً وأتباعاً وديناً، وربما أقام النبي عليه الصلاة والسلام دولة، وحارب أعداءه وقاومهم، ولهذا قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] .
فانظر كلمة (كل) ما من نبي إلا وله أعداء، مع أن النبي قد لا يكون له أتباع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد} فهناك من الأنبياء من لم يكن لهم تابع، لكن كان لهؤلاء أعداء يحاربونهم ويناصبونهم، وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] .
وهذا يبين سبب خلق النار، وما فيها من السعير والعذاب، لأن النار أعدت لهؤلاء الذين فسدت فطرهم، وخربت عقولهم، وتحجرت قلوبهم، فهم لا يسمعون.
وإن كانوا ذوي آذان، ولا يبصرون وإن كان لهم عيون، ولا يعتبرون وإن كان في صدورهم قلوب، لكنها لا تعي ولا تعقل، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] .
فهؤلاء الذين هم أعداء الرسل، وأعداء الله والملائكة، وأعداء الدين والحق، هم وقود النار، فهذه قاعدة لا بد من فهمها وبيانها، مهما حاولت وجادلت وتحريت وتلطفت، واستخدمت من الأساليب والطرق، فلن تعدم عدواً، ولن يعدم المؤمن أحداً يؤذيه حتى ولو كان على قمة جبل.
ولستُ بناجٍ من مقالةِ شانئٍ ولو كنتُ في رأسٍ على جبلٍ وعر(38/3)
القاعدة الثانية: الأعداء جبهة واحدة ضد الإسلام
إن الأعداء مهما وجد بينهم من التباغض والتباين والتناقض والتباعد، فإنهم إذا واجهوا الحق وواجهوا الإسلام؛ وحدوا صفوفهم في مواجته، خاصةً إذا قويت شوكة الدين وعز جانبه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] .
مع أن التاريخ شاهدٌ بالكثير من القصص والأخبار، التي كان اليهود فيها أعداء للنصارى، وكان النصارى فيها أعداء لليهود، ومع ذلك قال الله تعالى لليهود: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] قال بعض المفسرين: المعنى أن بعض النصارى أولياء لبعض، وبعض اليهود أولياء لبعض.
وقال آخرون: بل المعنى أن اليهود والنصارى يجتمعون ويوحدون كلمتهم إذا واجهوا دين الحق والإسلام، فينسون العداوات فيما بينهم لمواجهة هذا العدو المشترك، كما هو المشاهد اليوم، فإننا نجد تحالف القوى العظمى ضد الإسلام، اليهودية، والنصرانية، والعلمانية، وبقايا الشيوعية، كلها أصبحت جبهة واحدة ضد الإسلام.
وليسَ غريباً ما نرى منْ تصارعٍ هو البغيُ لكنْ بالأسامي تجددا وأصبحَ أحزاباً تناحرُ بينها وتبدو بوجهِ الدينِ صفاً موحدا إنهم جميعاً يظهرون العداوة لهذا الدين: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] .
من كل ذئب إذا واتته فرصته أهوى إليك بناب الغدر عن كثب وإن بدا جانب الأيام معتدلاً سهلاً أتاكَ بثغرِ أغيدٍ شنب ما شئتَ من مقتٍ ما شئت أدبِ ما شئت من ذلةٍ في خده الثربِ إن الأفاعي وإن لانتْ ملامسها ماذا على نابها من كاملِ العطبِ كانوا المطيةِ للأعداء مذ درجوا فينا وما برحوا في كلُ محتربِ رسل الفساد وما حلوا وما رحلوا إلا وكانوا به أعدى من الجربِ(38/4)
القاعدة الثالثة: تعاون المسلمين مع الأعداء
إن هذا الكيد الموجه ضد الإسلام، والموجه ضد المسلمين، لم يكن ليبلغ مبلغه ويحقق أثره لولا أنه وجد آذاناً صاغية من المسلمين، ووجد تربة خصبةً لزرعه في بلاد الإسلام، ولهذا قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] .
ثم قال في الآية التي بعدها: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الأنعام:113] وقال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] .
إن من السهل أن نلقي الملامة على عدونا، سواءً الاستعمار، أو الصهيونية، أو الحكومات الجائرة، أو أمريكا، أو القوى الخفية، أو القوى المعلنة، ولكن هذا الكلام ليس دقيقاً، فهو -أعني العدو- إنما نفد من خلالنا، وبحبل منا بلغ ما يريد، حتى الشيطان نفسه، وهو أعظم الأعداء، إنه يقول يوم القيامة في خطبته الشهيرة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] .
وقد صدق في بعض ما قال وهو كذوب، كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، فإنه ما كان له من سلطان، إنما سلطانه على الذين آمنوا به وتولوه، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99-100] .
وإذا نظرنا اليوم إلى عدونا، وقد نفذ إلى مجتمعاتنا، وإلى بلاد الإسلام كلها، فإننا من الممكن أن نتصور أنه كان يمكن أن يحدث النقيض، وكان من الممكن أن يؤثر جهد المسلمين وكيدهم في عدوهم، وكان هناك احتمال أن يقع غزو فكريٌ إسلامي على الأمم الكافرة، ولكن الذي حصل هو أن أعداء الإسلام قووا وضعف المسلمون، ووجد العدو في المسلمين من القبول والاستجابة ما مكن له، فعلينا أن نلوم أنفسنا، وأن نعود إلى ذواتنا، وأن ندرك أنه ما كان هناك شئ ليحدث لولا أننا تجاوبنا مع هذا الكيد، فحقيق بنا أن نخاطب هذه الأمة المكلومة المجروحة بكلمات الشاعر الذي يقول لها: ادفني قتلاكِ وارضي بالمصيبةْ واذهبي عاصفةِ الليل غريبةْ واحملي العارَ الذي أنجبتهِ وتواري في الزنازينِ الرهيبةْ أنتِ ضيعت البطولات سدى يا شعوباً لم تعلمها المصيبةْ(38/5)
القاعدة الرابعة: كيد الأعداء ومكرهم ضعيف
إن كيد العدو ضعيف، ومكره إلى تباب، قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] .
وسبحان الله! قد يتصور بعض البسطاء، والذين لا علم عندهم، وغير المتأملين، قد يتصورون نوع تعارض ظاهري، بين الآيات التي وردت في شأن كيد الكافر، يقول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] ويقول: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25] أي: في ضياع، ولا قيمة له ولا بقاء له، فهذه الآيات تدل على ضعف كيد الشيطان، وأتباع الشيطان من الكافرين، وزواله، وذهابه وضلاله وأنه لا يبلغ أثره.
وبالمقابل هناك آيات أخرى تتحدث عن عظيم كيدهم ومكرهم، قال الله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] .
فسبحان الله! انظر إلى واقع الحياة المشهود اليوم لترى مصداق ما أخبر به الله جل وعلا في كتابه الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فأنت اليوم حين تقرأ عن خطب أعداء الإسلام ودراساتهم واحتياطاتهم؛ تحس بعمق الكيد وخبثه ودهائه، وأنهم يحسبون لكل شيء حساباً، ويدبرون أدق التدبير وأعظمه وألطفه، فلهم حيل وأساليب خفية لطيفة لا يدركها أكثر الناس، فهنا تتذكر قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] فهو مكرٌ دقيق، مكرٌ لو بلغ أثره وتحقق مقصوده لزالت الجبال بسببه، لكننا نجد أن الجبال باقية في مكانها، إذاً مكرهم دقيق ولطيف وبعيد، ولكن آثاره أقل مما يدبرون ويتصورون.
فإذا نظرت في المقابل إلى الآيات الأخرى التي تتكلم عن ضعف كيدهم، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25] ؛ وجدت مصداق ذلك اليوم في أعمال كثيرة ظنوا هم أنها بأيديهم، فإذا بالأمر يكون خلاف ما يتوقعون، فتجد الثغرات التي تقع في النتائج المترتبة على أعمالهم ولو بعد حين، وتكتشف ضعف الكيد ووهنه وكثرة ثغراته في أمور كثيرة، منها: مثلاً مواجهة الشيوعية اليوم.
لقد كان العالم الغربي يتعامل مع الشيوعية على أنها قوة باقية لعشرات السنين، وصرحوا بذلك، كما في كتاب نصر بلا هزيمة لـ نيكسن وغيره، ولم يكن هناك أي دراسة تتوقع سقوط الشيوعية في الغرب بهذه السرعة، فإذا ببناء الشيوعية يتهاوى خلاف ما كانوا يتوقعون، فلما تهاوى، حاولوا أن يصطادوا في الماء العكر، وقالوا: نحن كنا وراء سقوطالشيوعية، وسربوا أخباراً عن أعمال الفاتيكان في بولندا للقضاء على الشيوعية، وعن اتصالاتٍ خفية، وعلى أن العالم الغربي هو الذي كان يسعى إلى إسقاط الشيوعية.
نعم كان للعالم الغربي يدٌ في ذلك، لكن اليد الغربية كانت يداً واهية ضعيفة، وأما الذي أسقط الشيوعية فهي السنن الإلهية العظيمة التي سبق الحديث عنها.
مثال آخر: حرب الخليج، لقد ظن العالم الغربي أنه سوف يخرج من حرب الخليج ظافراً منتصراً، وسوف يتوج ما يسمى بالنظام الدولي الجديد، الذي بموجبه يخضع العالم لهيمنة الصليب، ممثلاً في الولايات المتحدة أو في الأمم المتحدة وهما لفظان أو اسمان لمسمى واحد، فإذا بحرب الخليج تتمخض عن أحداث لا يتوقعونها، مثلاً: كانوا يتوقعون أن يتخطف المؤمنون بعد حرب الخليج في بيوتهم بلادهم، وأن يضعف شأن الإسلام، فإذا بهم يواجهون أن العالم الإسلامي عاش فراغاً كبيراً بعد حرب الخليج، وأن الشيء الوحيد الذي كان يمكن أن يلبي طموحات الناس وتطلعاتهم ورغباتهم وأمورهم، هو العودة إلى الدين الحق، فشهد العالم الإسلامي كله صحوة إسلامية عظيمة، زادت وتنامت بعد حرب الخليج الثانية.
مثال آخر: ظنوا أنهم قد قضوا على جميع التحديات التي كانت من بقايا الشيوعية، فإذا بتحديات جديدة تبرز أمامهم في بلاد العالم الإسلامي، وفي البلقان، وفي الصين، وفي غيرها.
مثال رابع: حرب البلقان، سواءً في البوسنة والهرسك أو في غيرها.
إنها مثلٌ شاهدٌ يدل على ضعف الكيد الكافر، فهي قوة إسلامية ضعيفة قليلة، ومع ذلك وقف الصرب أمامها عاجزين مقهورين، على رغم سنة كاملة من الضرب والحرب والحصار والتقتيل والإبادة، ومع ذلك -أيضاً- وقف العالم الغربي عاجزاً محتاراً، فإن بقاء الحرب يهدد قوة الغرب ويهدد هيبة الأمم المتحدة، وربما ينذر بخطرٍ كبير، وربما تتحول جزيرة البلقان إلى بحرٍ من الدم، وهذا ما توقعت وتنبأت به استخبارات بريطانيا وغيرها، ومع ذلك هم عاجزون عن حل هذه المشكلة.
مثال خامس: قضية الصومال.
إنهم يدركون أن الأمر خطير، ولهذا أعلنوا أمس واليوم أن القوات الأمريكية سوف تنسحب قريباً، وأنه خلال شهرٍ واحد سوف تكون بعض هذه القوات قد غادرت وانسحبت، وحلت محلها قوات أخرى من دولٍ متعددة، وواجهوا سلبيات هناك لم تكن لهم في حساب.
المهم أنهم قد يقدرون ويحسبون ويخططون ويرسمون، لكن تأتي النتائج خلاف ما كانوا يتوقعون، كما قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ؛ إن علينا أن نؤمن بالله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى هو وحده المتصرف في الأكوان، فهو الرب الذي لا يُقضى شيء إلا بإذنه، ولا يقع في الكون إلا ما يريد، وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
فالذي ينفذ هو أمر الله تبارك وتعالى، وليس أمر الغرب أو الشرق، ولا أمر هذه الدولة أو تلك، ولا يقع في الكون شيء إلا بإذن الله عز وجل.
زعمتْ أوروبا أن تحارب ربها وليغلبنَّ مغالب الغلابِ إن النموذج الفرعوني ظاهرٌ اليوم عياناً، فهذا فرعون كان يقول: إن هؤلاء -أي موسى وأتباعه-: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54] أي: قلة وحفنة، كما يعبرون بلغة العصر الحاضر: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:55] {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] فهم يقولون: هؤلاء أقلية، ويحاولون أن يعرقلوا خطة الحضارة، وسير الأمور، ونظام الإدارة، ونحن حذرون يقظون، وسوف نقاومهم بكل الوسائل.
هذا هو الظن الفرعوني، الظن البشري الجاهلي، عمل على حسب التأييد الشعبي، وعلى ملء عقول الناس، وعلى تشويه نظراتهم، حتى قال عن موسى عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] وقد قال الحافظ ابن كثير، قال: قيل في المثل: أصبح فرعون واعظاً.
ففرعون يخاف على الدين، {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر:26] وفرعون يبعد الفساد ويحاربه: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] وهذا يقوله فرعون في مواجهة موسى عليه صلوات الله وسلامه، وجمع فرعون الكهنة، ورجال الدين في زمانه، وجبرهم لصالحه، فكانوا يحضرون الحفلات والمناسبات وغيرها، ويؤيدونه، ولما مات قاموا وصاحوا وبكوا وأعولوا وجمعوا الشعوب بهذه المناسبة، لما مات أحد الفراعنة، لكن النتيجة على الرغم من القوة التأله والطغيان النتيجة: هذا فرعون جثة ملقاة على جانب البحر: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] يقول الله تبارك وتعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:91-92] .
فقذف البحر بجثته إلى الخارج {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] وفي الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره، أن جبريل عليه الصلاة والسلام يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا محمد! فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه؛ مخافة أن تدركه الرحمة} أي أن جبريل عليه السلام يضع في فم فرعون الطين الأسود، خشية أن تدركه رحمة الله.
فهذا هو إلههم الذي كانوا يعبدون ويؤلهون، وكانوا له يسجدون، وبحمده يسبحون، هاهو جثة ملقاة على البحر، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، إذاً هذه قواعد أربع لا بد أن نعيدها باختصار: القاعدة الأولى: العداوة والصراع في الحياة سنة إلهية.
القاعدة الثانية: الأعداء مهما اختلفوا فيما بينهم يوحدون صفوفهم في مواجهة الإسلام.
القاعدة الثالثة: لم يكن كيد العدو ليبلغ مبلغه؛ لولا أنه وجد من المسلمين تجاوباً معه.
القاعدة الرابعة: إن كيد الكافرين ضعيف وهو إلى تبابٍ وإلى ضلال.(38/6)
فائدة طرح موضوع: أساليب الأعداء في محاربة الإسلام
ثانياً: فائدة طرح الموضوع: إن كشف أساليب الأعداء سنة قرآنية وطريقة نبوية، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم خطط المشركين فقال: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا} [الإسراء:73] {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء:76] إلى غير ذلك.
وذكر خطط اليهود فقال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] وذكرت خطط النصارى فقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران:75] .
وذكر خطط المنافقين فقال: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا * هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:3-4] .
إذاً فذكر خطط الأعداء وكشفها، منهج قرآني وسنة نبوية، ولها فوائد عظيمة منها:(38/7)
التطعيم
تطعيم المؤمن ضد هذه الأساليب، بحيث تؤدي أساليب الأعداء إلى مردود عكسي، فتزيد الإيمان بدلاً من أنهم كانوا يريدون أن تضعفه، وتوثقه ولا يرتاب المؤمنون بسببها ولا يشكون.
مثال: قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] هذه خطة، عمل أبو سفيان وقريش على نشر إشاعة مؤداها: إن قريشاً قد حشدت حشودها للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستئصال شأفتهم، وقالوا ربما تكون هذه الإشاعة سبباً في ضعف المسلمين وترددهم، أو تراجع بعضهم وقلة يقينهم وإيمانهم، قال الله تعالى: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] .
فأثمرت هذه الخطة نتيجة عكسية، المشركون ما كانوا يريدون أن يزيد الإيمان، ولا أن يزيد التوكل، ولكن الله تعالى جعل النعمة في طي النقمة.
وربما نقمٌ في طيها نعم وربما صحت الأبدان بالعلل إذاً الإرهاب النفسي والتخويف كان مقصوداً، لكن المؤمنين الواعين المتوكلين على الله تعالى، تمردوا على هذا النوع من الحرب، وجعلوه لصالحهم.
مثلٌ آخر: قال الله تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] .
المسلم المعاصر اليوم حين يقال له -مثلاً-: سيقول الذي أشركوا عن دعاة الإسلام ورجاله وعلمائه كيت وكيت، وسوف ينشر في الصحف كذا وكذا، وسوف يقال في الإذاعة كذا وكذا، فإنه إذا رأى هذا الكلام وقرأه أو سمعه؛ فإنه لم يتأثر به بل قال: هذا مصداق ما علمنا أنهم سيقولون كذا ويقولون كذا.
إذاً كشف هذه الخطط فيها تطعيم للمسلم أن يتأثر بها، فإذا قيل له: سوف يقول أعداء الإسلام -مثلاً- عن دعاة الإسلام إنهم متطرفون.
فإذا قرأ في الجريدة: المتطرفون، قال: هذا ما كنا نُحذّره من قبل، فالذين حذرونا كانوا مصيبين وصادقين، وقد عرفوا دخيلة هؤلاء وخبيئتهم، وماذا يقولون وماذا تنطوي عليه جوانحهم.(38/8)
مواجهتها بالطرق المناسبة
الفائدة الثانية: مواجهة هذه الأساليب بالطرق المناسبة؛ فإن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ولا شك أن الغفلة عن ألوان الخداع التي يمارسها اليوم عدو الإسلام، فهو يملك الإعلام، ويملك الاقتصاد، والتصنيع، والإدارة، لا شك أن الغفلة عن خططه تؤدي إلى الوقوع في شراكه وحبائله، ولا يمكن للأمة أن تواجه هذه الحرب الضروس؛ إلا إذا وصلت إلى درجة من الوعي والإيمان والتوكل على الله تعالى، والإدراك الواضح لأساليب الخصوم.(38/9)
تقوية الإيمان
الفائدة الثالثة: تقوية الإيمان عند المؤمنين.
فإن الحرب لا تزيدهم إلا قوة، وقد حدثني أحد الإخوة أن كثيراً من الشباب يقبض عليهم، وهم حدثاء عهدٍ بهداية وبإيمان، فيودعون السجون، ويعذبون ويضربون ويؤذون، فإذا خرجوا كانوا أشداء أقوياء، صُبُراً عند الحرب.
صدقاً عند اللقاء، وهذا مصداق ما أخبر الله تعالى به: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)) [الأحزاب:22] .(38/10)
رص الصفوف وجمع الكلمة
الفائدة الرابعة: رص الصفوف وجمع الكلمة.
فإن الشعور الحقيقي بالخطر، وقوة العدو وشدته وشراسته، يؤدي إلى الوحدة والتقارب، وما أحوج المسلمين اليوم إلى توحيد صفوفهم، وإزالة العداوة والشحناء بينهم!.(38/11)
أساليب قديمة وجديدة
قال الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:43] .
قال الحسن وقتادة وجمهور المفسرين: قد قيل فيمن أرسل من الرسل من قبلك؛ ساحر وكاهن ومجنون وكذبوا كما كذبت، فلم يقل لك الناس من الشتم والسب والعيب والأذى، إلا ما قالوه للرسل من قبلك.
ونحن نقول اليوم لدعاة الإسلام، وأهل العلم والصلاح، نقول لهم: ما يقال لكم إلا ما قد قيل للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكم أسوة وقدوة؛ فإنه لا يمكن أن تجد كلمة قيلت اليوم إلا ولها رصيدٌ في الأمس، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] .
إن طرائق الكفر في محاربة الإيمان هي هي، وإن تغيرت الأدوات وتنوعت الوسائل، إلا أن الأصول ثابتة، وإليك بعض الأمثلة:(38/12)
الحصار وفرض الإقامة الجبرية
خامساً: الحصار وفرض الإقامة الجبرية.
كما فعلوا بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال:30] أي: يمنعوك من الخروج ومغادرة البلد.(38/13)
النفي من الأوطان
سادساً: النفي من الأوطان والإخراج، قال الله تعالى: {أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30] .
وكذلك في الآيات الأخرى: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82] .
فعيبهم وذنبهم: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82] أصبح التطهر عاراً وعيباً وذنباً عند هؤلاء المنكوسين الممسوخين، فأصبحوا يخرجونهم، لأنهم أناس يتطهرون.
إن من الممكن جداً أن يستخرج من القرآن الكريم حصرٌ كامل للأساليب الفكرية في مقاومة دعوة التوحيد عبر العصور، وهذا باب يطول، وما ذكرته لا يعدو أن يكون بعض الأمثلة التي تؤكد أن الأساليب القديمة هي ذاتها الأساليب الجديدة، التي يستخدمها طغاة العصر في مقاومة الإسلام والتوحيد والدين.(38/14)
التصفية
رابعاً: التصفية والقتل والقمع، ويسمونها التصفية الجسدية، قال تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف:20] فهو قتل وبطريقة بشعة أيضاً، وكذلك قال فرعون ومن معه: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [غافر:25] .
أي: اقتلوهم هم واقتلوا أبناءهم، ويجوز أيضاً أن يكون المعنى التهديد بقتل الأولاد، إرغاماً للمؤمنين، واضطراراً لهم إلى التراجع عن دينهم؛ بحيث يقتل ولد واحد منهم والأب يرى، ومما يصدق ذلك قصة ماشطة بنت فرعون، وقد رواها أهل السنن وأحمد بأسانيد عديدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد إلى السماء ليلة أسري به، وجد ريحاً طيبة، فقال: {يا جبريل ريح من هذه، قال: هذه ريح ماشطة بنت فرعون قال: وما كان من خبرها؟ قال: إن ماشطة بنت فرعون سقط المشط من يدها، فقالت: بسم الله.
فقالت بنت فرعون: الله والدي أبي.
قالت: لا، ربي وربك ورب أبيك الله رب العالمين.
قالت: أولك ربٌ غير أبي؟ قالت: نعم، ربي وربك الله.
فقالت: أخبر أبي.
قالت: أخبريه، فذهبت البنت إلى أبيها وقالت: إن الماشطة قالت كيت وكيت، فأحضرها فقالت: نعم، ربي وربك الله.
فأحضر قدراً من نحاس، فأوقد عليه النار حتى أصبح أحمر يتلهب، ثم جاء بها ومعها أولادها، فقال لها: ارجعي عن دينك.
فقالت: لا أرجع.
فأخذ ولدها الصغير ليلقيه في هذا القدر، فقالت: لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قالت: أن تجمع عظامي وعظام أولادي في قبر واحد.
قال: ذلك لك علينا من الحق.
فأخذ ولدها ووضعه في هذا القدر، فإذا هو يحتمس ويسود ويحترق في لحظة واحدة، والأم ترى وتشاهد، ثم أخذ الآخر وكان ممسكاً بطرف ثوبها فألقى به في القدر، ثم أخذ الثالث من على كتفها فألقى به في القدر، والأم تصبر وتتجلد، ثم أخذها ورماها معهم فاحترقوا جميعاً} .
قال الله: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:10-14] .
لقد ذهب فرعون وذهبت الماشطة، لكن هذا إلى نار تلظى قال الله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] وتلك إلى: {جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55] إذاً التصفية والقتل واردة عندهم، وقد يقتلون أولاد الواحد، إرغاماً له ومضايقةً وتهديداً، بل قد يهددونه بالاعتداء الجنسي على بناته أو على زوجته أو على قريبته؛ من أجل مضارته ومضايقته، كما هو ظاهر الآية أيضاً: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر:25] .
أي: أبقوهن حيات، للخدمة والامتهان والابتزاز والاغتصاب، والاعتداء الجنسي عليهن.
هذا هو منطق الكفر أمس واليوم وغداً، ولا تظن إلا هذا: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر:25] .(38/15)
تشويه نية الداعي ومقصده
أولاً: تشويه نية الداعي ومقصده، والحكم على ضميره، وعلى ما في داخله، قال تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] وقيل لموسى وهارون: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس:78] إذاً قيل للرسل موسى ومحمد وغيرهم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، قيل لهم: أنتم تريدون الملك، وتريدون السلطة، والحكم، وتسعون إلى قلب الأنظمة في البلاد.(38/16)
اتهام الإنسان في عقله
ثانياً: اتهام الإنسان في عقله.
قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: إنا لنراك في ضلالة، وقالوا: ساحر ومجنون ومسحور، إذاً اتهموه في عقله وتفكيره ونظره، حتى يحولوا بينه وبين الناس، ودعوا الجماهير إلى التمسك بموروثاتها، والوفاء لآبائها وأجدادها وتقاليدها، وأن الرسل والأنبياء يريدون أن يغيروا هذه الأشياء، ويحكموا على الأمم السابقة بالضلال والانحراف، ولهذا ذكر الله تعالى ما قاله قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً} [نوح:23-24] .
فحرضوا الجماهير بالتمسك بهذه المورثات والعادات والتقاليد والشخصيات والآباء والأجداد، وأن الرسل يريدون صرفكم عن ذلك كله.(38/17)
أسلوب التضييق على المؤمنين والحصار
ثالثاً: أسلوب التضييق على المؤمنين والحصار.
سواء كان حصاراً اقتصادياً، كما قال المنافقون: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] مساكين! يظنون أن أهل الإيمان طلاب مال وطلاب جاه، وما علموا أن الدرهم والدينار تحت أقدامهم، وأنهم لا يعبئون بالدنيا ولا ينظرون إليها، بل يحتقرونها، ويحتقرون من يسعى في جمعها، وهكذا تعلموا من رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، فهكذا المؤمنون.
أما المنافقون فظنوا أن المسألة مادية، ولهذا قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] أي: ينصرفوا إذا لم يجدوا مالاً، ولم يجدوا نفقة، وأيضاً المنافقون بذلك يظنون أن الرزق بأيديهم، وأن العطاء من جيوبهم، فإذا رأوا إنساناً رزق من غير طريقهم تعجبوا واندهشوا، وقالوا من أين جاء لفلان المال؟ ومن أين جاء له هذا العطاء؟ ومن أين جاءت له هذه المزرعة؟ ومن أين جاءه هذا الرزق؟ فإذا حجبوا هم ما بأيديهم ظنوا أن الإنسان يموت جوعاً وعطشاً وفقراً، أو يذهب يتسول ويسأل الناس ما يأكل وما يشرب.
وما علموا أن الله تعالى بيده خزائن السماوات والأرض، وأن الله تعالى يعطي ويرزق من يشاء بغير حساب، قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:3] .
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً وتروح بطاناً} فهم يظنون أن الحصار الاقتصادي يجعل المؤمنين يتراجعون.(38/18)
الحرب المعاصرة
إننا محتاجون أن نلقي شيئاً من الضوء على الحرب التي تواجه الإسلام اليوم، لأننا نصطلي بنارها، ونواجهها ونعايشها لحظة لحظة وساعة ساعة، وهذه الحرب تتحدد فيما ظهر لي في هدف واحد كبير، وهو الفصل بين المسلمين وبين حقيقة دينهم.
إننا بحاجة إلى أن نضع خطاً كبيراً تحت هذه الكلمة: (الفصل بين المسلمين وبين حقيقة دينهم) بالفصل بينهم وبين القرآن، والفصل بينهم وبين المسجد، والفصل بينهم وبين العلماء والدعاة؛ ليسهل حينئذٍ خداع العامة، وترويج الأقاويل الباطلة عليهم، بعيداً عن أولي الأمر وأولي الرأي، الذين يدركون ويستنبطون، ويسهل صرف الناس عن دينهم والتلبيس عليهم.
وطالما وقفت الأمة -مرات كثيرة- مع جُلادها ضد منقذيها بسبب عدم تبين الأمور، وغيبة الوعي، وضياع الهدف، وما جمال عبد الناصر عنا ببعيد، طالما صفقت له الجماهير، وطالما تحلق الشباب في العالم الإسلامي يستمعون إلى خطبه، وطالما وضعت الأمة فيه آمالاها، وإذا بالأمور تتبين عن حقدٍ مبيتٍ للإسلام والمسلمين، وقضاء مبرم على هذا الدين بقدر ما كانوا يستطيعون.
إنه بالفصل بين الأمة وبين دينها، وبينها وبين قرآنها وبينها وبين مسجدها، وبينها وبين علمائها ودعاتها؛ ليسهل القضاء على علماء الأمة وعلى دعاتها بشتى الوسائل، والأمة تتفرج وتشعر أن الأمر لا يعنيها، إن الوئام والانسجام بين الدعاة وبين الأمة هو خير وقاية للطرفين.
وقد قال قوم شعيب لشعيب: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود:91-92] لقد تعللوا برهطه وعشيرته، وامتنعوا عن رجمه وقتله لمراقبة ورعاية رهطه وعشيرته وقبيلته ومن حوله.
إذاً: التفاف الأمة حول دعاتها، وقاية لعلماء الأمة من ألوان الخسف والإهانة، ولقد مر بالأمة زمانُ علق العلماء على أعواد المشانق وقتلوا، وصب عليهم ألوان العذاب، بل وأحرقوا بالنيران في الميادين العامة، كما حصل ذلك في الصومال، وحصل ذلك في مصر، وحصل في عدن أيام الشيوعية، وحصل في الشام، وحصل في بلادٍ كثيرة، وشوهت صور العلماء في وسائل الإعلام، وعرضوا على أنهم دراويش، ومتخلفون وعلى أنهم رجعيون، وعلى أن هم الواحد منهم أن يجمع عدداً من الزوجات، وعلى أنهم أصحاب عقول عتيقة، وقتل وشرد منهم من شرد وقتل، وكانت الشعوب خلال ذلك كله لاهية تبحث عن لقمة العيش، وتبحث عن الوظيفة، وتقطعت النداءات دون جدوى، وكان الحال حينئذٍ كما قيل: لقد أسمعتَ لو ناديتْ حياً ولكنْ لا حياةَ لمن تنادي ولو ناراً نفختَ بها أضاءت ولكن أنتَ تنفخُ في رمادِ فالتقاء الأمة بعلمائها، واجتماعها معهم، والوئام والانسجام بين هؤلاء وأولئك؛ هو وقاية للعلماء والدعاة والمخلصين والمجددين والمصلحين من أن تمتد إليهم يد الأذى أو يد التشويه، وهو -أيضاً- وقاية للأمة ذاتها من الانحراف، في عقيدتها أو في سلوكها أو في عبادتها، وذلك لوجود الهداة الدعاة، الذين يبصرونها بدين الله تعالى، ويدعونها إليه، ويحذرونها من سبل الضلال، ولن تجد الأمة قط أنصح لها من أهل الدعوة والعلم، لا في دينها ولا في دنياها، إذاً هم وقاية للأمة في دينها من الضياع والانحلال والفساد، وهم وقاية للأمة في دنياها -أيضاً- من تسلط المتسلطين، فإن العلماء والدعاة والمخلصين هم المدافعون عن حقوق الأمة , وهم المحامون عن مصالحها، دينية أ, دنيوية، وهكذا كانوا عبر التاريخ ولا زالوا إلى يوم الناس هذا.
لقد جرب العدو -أيها الأحبة- وأدرك أن الشعوب قابلة لأن تتحرك وتثور إذا مست عقيدتها مساً مباشراً.
إن إحراق المصحف أو هدم المسجد -مثلاً- أو شتم الرسول عليه الصلاة والسلام، أو سب الله تعالى من قبل بعض الكافرين، والمنافقين، إن هذا يثير المشاعر، ويحرك حتى أكثر الناس بعداً عن الدين، حتى المشاعر الخامدة تتحرك.
وما أخبار المسجد البابلي إلا شاهد عيان على ذلك، كيف تحركت الأمة من أقصاها إلى أقصاها، حيث مس مسجدٌ مساً مباشراً وهدم بصورة صريحة، وقد يسبب مثل هذا الاعتداء على المسجد أو المصحف، أو على الرسول عليه الصلاة والسلام، أو على العالم الرباني، قد يسبب طوفاناً من الغضب يجرف في سيله كل خطط الأعداء.
ولهذا فلا بأس من قدر من العناية بالمصحف، وقراءته في الإذاعة، حتى في إذاعة إسرائيل، وإذاعة لندن، وصوت أمريكا، يفتتحون بالقرآن الكريم، ولا بأس أيضاً من تحلية المصحف بالذهب، ولا بأس أيضاً -عند الضرورة- من إنشاء معاهد تخصص للقرآن الكريم، شريطة أن تقتصر على مجرد اللفظ، وإتقان القراءة والتجويد، دون التربية والبناء، ودون الدعوة للعمل بالقرآن، بل حتى التجويد ينبغي أن يكتفى منه بالإدغام والإخفاء ويتجنب الإظهار، كما قال الشاعر: وإخفاءٌ وإدغام وويل للذي أظهر أما تفسير القرآن والدعوة إليه، فضلاً عن المناداة بتحكيمه والعمل بشرائعه؛ فهي جريمة عندهم، ربما يصل عقابها إلى القتل أو ما يسمونه بالإعدام، لأن الذي ينادي بذلك خارج عن القانون، ويريد تحطيم مكتسبات الوطن، ويريد العودة إلى عصور التخلف والرجعية، وهو مرتبط بالقوى الأجنبية العميلة، إلى غير ذلك.
ولا بأس -أيضاً- من تشييد المساجد وتزويقها وتفخيمها، وصرف الأموال لذلك، والإعلان السافر المتكرر عن بناء المسجد على نفقة فلان، وتوسعته على نفقة علان، وترميمه على نفقة فلانة، لكن لا مانع من أن يبنى جوار المسجد كنيسة صغيرة، أو معبد لـ بوذا، أو حتى مرقص للترفيه والتسلية، كما رأيناه في عدد كبير من بلاد الإسلام.
أما المتردد على هذا المسجد ليصلي فيه، فإنه بمجرد أن يصلي الصلوات الخمس يصنف في قائمة المتطرفين، ويعتبر متزمتاً، وتلاحقه أجهزة الأمن وتكتب عنه التقارير، أما إذا أقام درساً في المسجد أو ألقى كلمة، أو التقى بزميل أو زميلين أو قريب أو صديق؛ فهو حينئذٍ رئيس تنظيم سري خطير، أو يعمل تجمعات محظورة، وكم هدمت من مساجد وعطلت عن العبادة الحقيقية دون أن ينكر الناس ذلك.
إذاً: الناس يغضبون إذا هدم المسجد علانية، أو أحرق المصحف، لكن إذا عطل عن غرضه وهدفه، وسبب وجوده، فإن الناس ربما يغفلون ولا يتحركون، خاصة إذا أُحكم الكيد ونظم المكر، وأيضاً لا مانع من تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام، وعدم التعرض له أو المساس بشخصه، وأن يوجد قانون في بعض الدول يحارب ويعاقب من يفعل ذلك، لكن الويل كل الويل لمن يعمل بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن هذا من أكبر البراهين على أنه إرهابي، وعلى أنه يعاني من الكبت الجنسي، وعلى أنه -على أقل تقدير- يستغل الدين لأغراض شخصية، وهو يكفر الدين، والدين من هذا الإنسان براء.
وخلاصة ذلك أن هناك طريقة واضحة اليوم، وهي تهدئة المشاعر بالمحافظة الظاهرية على أماكن العبادة، والحفاظ الظاهر على أشخاص الملة، أنبياء كانوا أو علماء أو دعاة، وبالمقابل يكون العمل الجاد للحيلولة بين الأمة وبين قرآنها، وبينها وبين مسجدها، وبينها وبين عالمها بشتى الوسائل، ومن هذه الوسائل المتعلقة بالأمة الموجهة لها:(38/19)
أولاً: تجنيد الأجهزة الإعلامية لصياغة
وذلك لصياغة الأمة صياغة علمانية، من خلال البرنامج والمسلسل والأغنية والتعليق الإذاعي والحوار والتغطية الإخبارية؛ بحيث يساهم الإعلام في صياغة الأمة، وتقديم نمط كامل للحياة العلمانية، هو بديل عن دين الله تعالى الذي يحكم الحياة كلها.(38/20)
ثانياً: تجنيد الأجهزة التعليمية على كافة المستويات
وذلك بتخريج الطلاب والطالبات، الذين لا يشعرون بالاعتزاز بدينهم أو تاريخ أمتهم، بل تربوا على أن أهم شيء في الحياة هو تحصيل الشهادة لضمان الوظيفة، أي: البحث عن لقمة العيش، ولو أراق الإنسان في سبيلها ماء وجهه، ولو ضحى من أجلها، وملأ الرعب والخوف قلبه، ولو سكت عن كلمة الحق ولو داهن وجامل ونافق، وتربية الطلاب على أن الولاء الوطني الأجوف للزعيم أو الحزب أو الطائفة أو القبيلة؛ هو الولاء الحقيقي.
ولذلك كان السعي إلى تجفيف منابع التدين، وتطبيع العلاقات بين الأديان -كما يسمونها- الإسلام مع اليهودية ومع النصرانية، وبالتالي تغيير المناهج الدراسية، خاصة مناهج الدين، ومناهج التاريخ، ولم يسلم هذا التغيير حتى في هذه البلاد، التي تعتبر آخر المعاقل التي تتمنع على أعداء الإسلام وخصومه.(38/21)
ثالثاً: سن القوانين الاجتماعية العلمانية
وهي التي تبيح العلاقات المحرمة بين الجنسين، بل وتشجع ذلك باسم الحرية، وباسم ممارسة الحياة الاجتماعية السليمة من العقد، وفي معظم بلاد العالم الإسلامي تسن القوانين التي تحمي المجرمين باسم الحرية، ولكن هذه القوانين نفسها التي تتيح للإنسان إقامة علاقاتٍ مع امرأةٍ أجنبية؛ لا تسمح للإنسان أن يتزوج امرأةً أخرى على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(38/22)
رابعاً: إغراق المجتمعات بالمؤسسات والمدارس والنوادي
سواءً النوادي الرياضية أو الترفيهية أو الاجتماعية، شريطة أن يكون هدف هذه النوادي تربية المجتمع العلماني البعيد عن قيود الدين.
إن مثل هذه الأساليب السابقة وغيرها، تولد مجتمعاً لا مكان للدين فيه، إلا أنه ترفع فيه المنارات، ويسمع فيه الأذان، وربما كان من الممكن أن يتم عقد النكاح فيه على الطريقة الشرعية إذا رغب الطرفان، وكذلك من الجائز أن يتم دفن الموتى فيه على الطريقة الإسلامية، أما ما سوى ذلك فلا، ونحن نجد نماذج لمثل هذه المجتمعات التي عمل العدو على مسخها، في تركيا اليوم وفي إندونسيا، وهما أوضح نموذج لذلك، ومثله ما عملته اليهودية في دولة إسرائيل مع المسلمين في فلسطين؛ حيث فرضت عليهم العلمانية في القوانين الاجتماعية، وفي المؤسسات والمسلسلات والتعليم وفي سوى ذلك.
حتى أنه في بعض هذه الدول تكون نسبة المسلمين (90%) ، ومع ذلك تكون الإجازة يوم الأحد ولا أحد يعترض على ذلك، لأنه أصبح قانوناً ملزماً، والجميع تربوا على النظرة العلمانية اللادينية، أما الداعية فإنه يعاني من هذه المجتمعات الأمرين، فهو -كما يقال- مثل صياح القبور.
وهذا الوضع إذا وصلت المجتمعات إلى هذا المستوى؛ فإن هذا يوحش قلوب المتدينين من أبناء المجتمع، ويجعل ظنهم يسوء بالناس من حولهم، بل وربما أودى بكثير من الناس إلى ممارسة كثير من المعاصي العظام، التي تشمئز منها الأبدان وتقشعر منها الجلود، بل وربما وصل الحال إلى ارتكاب الكفر البواح عياناً وعلانية، بالقول أو بالفعل أو بهما معاً، وبذلك يضعون حاجزاً بين الدعاة وبين هذا المجتمع، المجتمع المنحرف في أخلاقياته وسلوكه، أما دعاة الإسلام فيشعرون أنهم في وادٍ آخر، وربما أصبحوا ينظرون إلى هذا المجتمع نظرةً سيئة، ويعتبرونه موالياً للأعداء ومناصراً للكافرين ضد الإسلام وضد الدعوة والخير؛ بسبب هذا الشر المستطير المنتشر فيه، ومع ذلك؛ فإن هذا الحاجز الذي أقاموه في المجتمعات العلمانية، يمكن تخطيه بالدعوة وبالصبر والمصابرة، وبطول النفس، وبالتوكل على الله تبارك وتعالى.
ولهذا وجدنا أن حزباً كحزب الرفاه، الذي كان يسمى حزب السلام في تركيا، وهو حزب إسلامي؛ وجدناه يحصل هذا العام على أكثر من (25%) من الأصوات، ويتجاوز بذلك جميع الأحزاب العلمانية، فيسقط في يد الأحزاب الأخرى العلمانية كحزب الأمة وحزب الصراط المستقيم، وتندهش وتتعجب، وتقيم الدراسات للنظر في حزبها وبرامجه وقياداته وضرورة التغيير وغير ذلك، والواقع أن هذا هو تجاوب الأمة مع صوت الحق متى خلي بينها وبينه، حتى أن بعض العلمانيين في تركيا يقولون: نحن ندرك أن الخلافة قد تقوم اليوم أو غداً في تركيا، بل ربما في العالم الإسلامي كله، لكن نحن لا نريد أن نراها، يقول الله: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:43] {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] .
لو قالوا: إن كان هذا هو الحق فنسأل الله أن تأتي الخلافة اليوم قبل غد، وأن نستمتع نحن بها قبل أولادنا، لكن أنى لهم أن يقولوا، إنما قالوا كسابقيهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] .
أيضاً نحن نجد اليوم في فلسطين، على رغم الجهود اليهودية المكثفة؛ لتغيير عقول وقلوب وأخلاق وعادات وتقاليد الشعب الفلسطيني، من خلال الإعلام المكثف، ومن خلال التعليم والمؤسسات والقوانين، ومن خلال الأساليب الجهنمية، ومع ذلك تجد أن الأمة قد شمرت عن ساعد الجد، وصدقت وعادت إلى دينها، وأنتم تسمعون أخبار منظمة حماس، وهي منظمة إسلامية داخل فلسطين، وهناك نشاط إسلامي أوسع وأكبر داخل الفلسطينيين، سواءً في الأرض المحتلة أو في غيرها، وقد رأيت الذين أبعدوا وعددهم أكثر من أربعمائة، أبعدوا عن ما يسمى بدولة إسرائيل، وهم اليوم بين إسرائيل وبين لبنان لا أحد يقبلهم، رأيتهم وهم جميعاً يشيرون بأصابعهم بعلامة التوحيد، ورأيت كثيراً منهم وعليهم شعار من شعار الالتزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إعفاء اللحى، وهم في الغالب من الأشخاص المتدينين، بل كلهم من المتدينين.(38/23)
وسائل العزل بين الأمة وعلمائها
إن هذا يكشف على أنه مهما خطط العدو لجعل المجتمعات الإسلامية مجتمعات علمانية؛ حتى يرفضها الدعاة ويبتعدوت عنها، ويحاربوها ويسعوا إلى تدميرها؛ إلا أنه من الممكن أن يتغلب الدعاة، وأن تتغلب الأمة على هذه الحواجز، ولذلك يسعى العدو إلى لون آخر من الحواجز، وهي الحواجز التي يقيمها في الأمة ضد الدعاة، وهاهنا يأتي الدور الكبير للحيلولة بين الأمة وبين أهل الدعوة والإسلام بكافة الوسائل، ومن هذه الوسائل ما يلي:(38/24)
الاتهام بخدمة أهداف خاصة
الأسلوب الرابع: هو الاتهام بخدمة أهداف خاصة.
كأن يتهم الدعاة بأنهم لا يسعون إلى مصلحة الأمة ولا يهمهم أمر الدين، وإنما هم يسعون إلى تحقيق أهداف جماعة بعينها، وما ذلك إلا للحيلولة بينهم وبين بقية المسلمين.
إنني أقول لكم أيها الإخوة: إن مجرد الانتماء والانتساب للجماعات التي تكون على الكتاب والسنة، وعلى طريقة السلف الصالح؛ إن مجرد الانتساب ليس حراماً بذاته، وقد قرأت لكم في المجلس السابق فتوى سماحة الوالد عبد العزيز بن باز بحروفها في هذا الجانب، ومن ينتسب إلى جماعة من هذه الجماعات، ليس عليه حرج أن يعلن ذلك صراحة، لأن المسألة لا تعدو أن تكون تعاوناً على البر والتقوى، وليس الانتساب إلى هذه الجماعات عيباً ولا عاراً، ولكن مجرد إلصاق هذه التهمة بفلان أو علان دون أن يقول هو بذلك ولا ادعاه ولا أعلنه؛ إن هذا من أظلم الظلم، وهو من الكذب الذي يجب ألا يلقه المسلمون بألسنتهم.
إن هذا التصنيف إلى جماعات وطوائف الذي تسعى إليه أجهزة الأمن في بلادٍ كثيرة، وقد أصبح يتسرب إلى منطقة الخليج العربي؛ يجب أن يحارب علانية، والانتساب إلى الجماعات -كما قلت- متى كان مجرد انتساب، لا يشوبه تعصب ولا بدعة ولا هوى؛ ليس عيباً ولا عاراً، ولكننا مع ذلك -معاشر دعاة الإسلام- نرى أن الأفق الأرحب أفق الأمة أوسع وأنظف وأحسن، وبناءً عليه؛ فإن دعاة الإسلام ليسو دعاة جماعة بعينها، ولا يدعون الناس إلى طائفة بذاتها، وإنما هم دعاة إلى دين الإسلام، ولا يقبلون هذه الأطر الضيقة؛ أن يحجموا بها شخصياتهم أو عقولهم أو آراءهم أو نفوسهم، وإن كانوا لا يحاربون هذه الجماعات، ولا يناصبونها العداء، بل هم يصادقونها ويوالونها على البر والتقوى والطاعة، ويتعاونون معها بالمعروف، ويناصحونها إذا رأوا منها ما يوجب النصيحة، وهذا هو الذي أعلمه من هؤلاء الدعاة.
ومن ذلك أيضاً: العمل على تكثير الجماعات الإسلامية والطوائف، وتشقيقها وتوسيعها، وضرب بعضها ببعض، حتى يسلم العدو، ويقف متفرجاً؛ على حين يتشابك هؤلاء كما يتشابك الصبيان فيما بينهم.
إن الغريب قد لا يستطيع ما يستطيعه القريب، فالقريب أبلغ في المحاربة: احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصديق فصار أدرى بالمضرة ولذلك يجب على دعاة الإسلام ورجاله وحملته؛ أن يكونوا فوق مستوى المسائل الشخصية، والمعارك القريبة، وأن لا يقبلوا أن تثار معركة إلا مع عدو الإسلام، أما المعركة مع إخوانهم ومع أحبابهم وأصحابهم؛ فيجب أن لا يستجيبوا لها، وأن يكونوا فوق مستوى هذه المعارك التي هي للعدو لا للصديق.(38/25)
الحصار الإعلامي
الأسلوب الخامس: هو أسلوب الحصار الإعلامي.
ففي الوقت الذي يُجند الإعلام فيه لضرب الدعاة، والنيل منهم، وسبهم والتشهير بهم، فإن دعاة الإسلام لا يمكنون من الدفاع عن أنفسهم، بل إنه يستكثر عليهم زاويته.
بل إنني أقول بصراحة: حتى مجرد ذكر اسم بعض العلماء وبعض الدعاة، ممنوع في الإعلام في أكثر من دولة، مجرد ذكر اسمه، اللهم إلا أن يذكر اسمه لسبه وعيبه وشتمه وتنقصه واتهامه؛ فهذا لا بأس به، وكذلك الحال في الكتب، إنني أضرب لك مثلاً: كتابان يتعلقان بشخص: أحدهما فسح له؛ لأنه يَنال منه ويَرد عليه، أما الآخر فإنه لم يفسح له، على رغم أنه كتاب لا يمت إلى الواقع بصلة، وليس فيه إلا قال الله قال رسوله، وقال أهل العلم، وفيه تقريض لأحد كبار الأئمة والعلماء في منطقة الخليج، وبالذات في هذه البلاد في المملكة وفيه هذه الأمور، ومع ذلك فإن هذا الكتاب لم يفسحَ له؛ لمجرد وجود ذلك الاسم على غلافه.
ومثله أيضاً: حرب الشريط الإسلامي، والحيلولة بينه وبين الناس؛ أن يسمعوه أو يشتروه أو يتبادلوه، وما زالت القضية حتى اليوم حيلولة بين الناس وبين عددٍ من طلبة العلم والدعاة، لا يستمعون إليهم، ولا تصل إليهم دروسهم ولا محاضراتهم ولا أشرطتهم، على رغم أننا نجد أن هناك ترويجاً في الأشرطة الغنائية -حتى في الصحف- وإعلاناً عنها، وجوائز لمن يشتريها، ونجد هناك إغراءً للمغنين والمغنيات المحليين بالانتشار، ونجد هناك ترويجاً للمسلسلات المحلية، وإظهاراً للفتيات السعوديات على شاشة التلفاز، إلى غير ذلك من الوسائل، هذا نموذج محلي، وهناك نماذج أخرى في جميع البلاد -ولا أستثني- تنصب في الحصار الإعلامي على صوت الحق، وصوت الوضوح والصراحة، ومحاولة الترويج والتشهير للأصوات الأخرى المغرضة.(38/26)
اتهام العلماء بطلب الدنيا بالدين
أولاً: اتهام الدعاة بأنهم يريدون مقاصد دنيوية، مثل السعي لقلب نظام الحكم، وهي شبهة قديمة، ومع ذلك ما فتئوا من ترديدها وما ملوا منها، ومن الطريف المضحك: أن أحدهم قيل له: أنت تسعى إلى قلب نظام الحكم.
قال: لا -هذا في مصر- هو أصلاً نظام الحكم مقلوب، ونحن نسعى إلى تعديله.
والطريف أن الذين يطلقون هذه الكلمة: (السعي إلى قلب نظام الحكم) هم أنفسهم قلبوا نظام الحكم، فلننظر كيف جاء الرئيس التونسي مثلاً، وكيف جاء الرئيس الجزائري، وكيف جاء الرئيس السوري وغيرهم، كيف جاءوا إلى الحكم، هل جاءوا برغبة شعوبهم واختيارهم؛ أم جاءوا على صهوات الدبابات والمدافع، لقد أطلقتها أجهزة الأمن على شباب دون العشرين وهم لا يملكون إلا مقصات الأظافر يقلبون بها نظام الحكم!!! وإن من السهل توزيع الخبر على وكالات الأنباء العالمية لتطير به في كل مكان، وتتحدث عنه في كل مناسبة؛ حتى لا يبقى أدنى ريب أو شك حتى عند المتحمسين للدين، وحتى عند الغيورين، والعقلاء، والواعين -أحياناً- لا يبقى عندهم شكٌ أن الخبر صحيح، وكيف لا يكون الخبر صحيحاً، وقد تصدر الصحف كلها، ونشر بالخط العريض، وقد اعترف المتهمون بالجريمة وقد وقد، وهكذا تتنطلي الحيلة عليهم.
يا أعدلَ الناس إلَّا في معاملتي فيك الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحكمُ أخي: عليك المسارعة إلى ما علمك الله: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] فنحن وسائر دعاة الإسلام، بل وكل مسلم ولو لم يكن داعية معروفاً أو مرموقاً، واجب عليه أن يسعى إلى العمل بشريعة الله سبحانه وتعالى، وتحكيمها في عباده، سواء في دماء الناس أو أعرضهم أو أموالهم {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] والفاسقون الظالمون، وهذا دين الله وقوله، شاء من شاء وأبى من أبى، رضي كم رضي وسخط من سخط؛ لكن اتهام الناس بغير بينة، وانتزاع الإقرارات تحت وطأة التعذيب والتهديد والعسف والإرهاب؛ أمرٌ غير مقبول، ويجب أن يرفضه الجميع، ويرفضوا كل ما نتج عنه.
لقد سمعت أحد المتهمين الذين أعدموا في قضية سابقة حدثت في مصر، وهو يقول للقضاة: إنني أعرف أنني مقتول، ويشرفني جداً أن ألحق بقافلة الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله عز وجل، وإن أجهزة الأمن قد قالت لي قبل أن أحضر هاهنا إلى القاعة أن إذا غيرت شيئاً في اعترافاتي أو إقراراتي التي أخذت مني بالقوة، إذا غيرت شيئاً منها أمام المحكمة؛ فسوف يقتلونني بطريقتهم الخاصة.
ثم قال: لأن أقتل اليوم أحب إلي من أعيش تطاردني أشباح الاغتيال والقتل في كل لحظة.
أيها الإخوة: إن من الأمور العادية أن يتم تزوير اعترافات وشهادات وإدلاءات ونشرها بين الناس، وكما قيل: لا يلام الذئب في عدوانهِ إن يك الراعي عدو الغنمِ ومن المقاصد الدنيوية التي يتهمون الدعاة بها أيضاً: اتهامهم بأخذ الأموال واختلاسها، والتشهير بذلك وترويجه بأجهزة الإعلام، مع عدم إعطائهم فرصة حتى للدفاع عن أنفسهم ولو في نطاق محدود.(38/27)
اتهامهم بالعمالة لدول أجنبية
وهذا يعتبر طعناً في الولاء والوطنية، والعجيب أن تلك الجهات التي تتهمهم بالولاء لدولٍ أجنبية؛ هي نفسها ذات ارتباطات صريحة بدولٍ معادية، فهي على صلة بإسرائيل وتعاونٍ وطيد معها، ولها علاقات خفية ومعلنة مع أمريكا، ومع مخابراتها، وتصل إلى حد الولاء والتبعية المطلقة لها، بل وما نشر من أرواق المخابرات السوفيتية والأمريكية؛ يكشف تورط شخصيات كبيرة وشهيرة في مثل ذلك، فالأمر كما يقول المثل: رمتني بدائها وانسلت.
واليوم أصبحت إيران والسودان محط الرحال، فكل من دعا إلى الله، أو طالب بالحكم بالشريعة، أو علل أو تعلل، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، فإن أسهل ما يمكن أن يقال في شأنه: إنه مرتبطٌ بإيران ومرتبطٌ بالسودان، وإيران والسودان منطلق للتخريب والإرهاب والمعسكرات الإرهابية، ويجب أن ندرك أنه كما قيل: من فمك ندينك.
كنت أتعجب كيف تنشر جريدة الحياة كثيراً من الأخبار المزورة الكاذبة! فإذا بها تصرح قبل أربعة أيام في ردٍ على أحد المراسلين أو أحد القراء، تقول له: إن معظم الأخبار السياسية كاذبة، سواءً نشرتها صحيفة الحياة أو غيرها من الصحف، ولو لم نقتصر إلا على الأخبار الصحيحة لأصدرنا لك ورقاً أبيض أو رسمنا فيها صوراً للقطط والكلاب.
إذاً يجب أن ندرك أن مثل هذه الدعايات والأقوال المغرضة؛ لا تعتمد على حقٍ ولا على صدق، وقد عجبت أكثر حينما قرأت في خضراء الدمن -أيضاً- خبراً يقول: إن الأردن كانت قد اتهمت اثنين من النواب بتهمٍ، كالإرهاب وحيازة الأسلحة، وغيرها من التهم التي يعتقدون أنها تؤثر في مشاعر الجماهير وتهز قلوبهم وعقولهم، ونشروا وقالوا: إن هناك شاهداً اعترف بأنه هو الوسيط الذي نقل الأموال من إيران إلى هذين النائبين، وإذا بهذا الشاهد نفسه يرسل إلى جريدة خضراء الدمن رسالة يقول فيها: إنني كاذبٌ في هذا الإدلاء الذي قلته، وهذه الشهادة التي قدمتها، وإنما قمت بذلك تحت وطأة الترغيب والترهيب، وقد نشر هذا في قصاصة في الجريدة، وهي موجودة عندي، إذاً لا ثقة بأجهزة الأمن، ولا ثقة بأجهزة القضاء ولا أجهزة الإعلام؛ إذا كانت تتحدث عمن تسميهم بالإسلاميين أو الأصوليين أو المتطرفين أو غير ذلك من العبارات، إذا تكلمت عن رجال الإسلام فلا ثقة بها مطلقاً، والثقة بها في غير ذلك منزوعة.
إن مثل هذه الأشياء قد توجد عند الناس، وقد تصور لهم أنكم أنتم أيها الناس بسطاء ومغفلون، وأنكم لا تعرفون بواطن الأمور، فتحملون الأمور على ظواهرها، وتصور أن هؤلاء دعاة، وأنهم مخلصون، وأن قصدهم الخير، وقصدهم الدعوة، أما الحقيقة الخفية الباطنة فهي أن هؤلاء مرتبطون بإيران، أو مرتبطون بالسودان أو مرتبطون بجهات أخرى، والخفايا فيها فضائح في هؤلاء المتسترين بالدين، إنهم يخادعون الجماهير بمثل هذا الكلام حتى يقول الإنسان والله يمكن أنني مسكين مخدوع آخذ الأمور بالظاهر، والأمور الخفية لا أعرف عنها شيئاً، على كل حال هما خصمان، أحدهما يملك أجهزة الإسلام ويسلطها على عدوه، ويوجهها كيف يريد، والآخر لا يملك حتى مجرد التصريح لجريدة، وربما يلوذ بالصمت حتى في بعض مجالسه الخاصة وما كل ما يعلم يقال.
وفي مجلة مهاجرة أيضاً الوطن العربي قدمت تحقيق العلاقات الإسلامية بأمريكا فما هي علاقة الجماعات الإسلامية بأمريكا؟ قالت: عمر عبد الرحمن وهو زعيم الجماعة الإسلامية أو تنظيم الجهاد في مصر، أنه مقيم في أمريكا، وقالت: إن حسن الترابي وهو زعيم الجبهة الإسلامية في السودان إنه ذهب وزار أمريكا وكندا، إذاً مجرد زيارة لأمريكا، أو مجرد إقامة فيها تعتبر عند هؤلاء علاقة بالمخابرات الأمريكية وتعاون مع أمريكا.
أما الذين يصدرون صحفاً بكاملها في بلاد الغرب، والذين يقيمون علاقات بأكملها مع أنظمة، ويقيمون بعلاقات مع أجهزة مخابرات عربية وغربية؛ فهؤلاء أطهر من السحاب في سمائها، ويجب عليك أن تؤمن بالمتناقضات في هذا الزمن.
ومثل ذلك: الاتهام بالارتباط الأجنبي، ولو لم يكن بالحكومات، مثل الارتباط بأحزاب أو جماعات أو قوى خفية أو قوى ظاهرة، فإن مجرد الدعوى لا تصعب على أحد، ولكن المطلوب هو الوثائق والأدلة، كما قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] .
إن من الممكن أن يتهم المروجون لمثل هذه الأقاويل وهذه الأكاذيب، وهذه الإشاعات الباطلة، من الممكن أن يتهموا بأنهم عملاء لـ (C.
I.
الجواب
) مثلاً، أو للموساد، أو حتى لإحدى القوى العظمى، فما هو المانع من ذلك؟ وما هو الدليل الذين يدفعون به عن أنفسهم؟ إن الله تعالى قال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] .
وأيضاً لا يكفي أن تأتي لي ببرهان من إنسان مكبل في غياهب السجون، يعاني من ضغوطٍ نفسية وعائلية واقتصادية، وتنتزع منه بالقوة إقراراً ثم توزعه على الناس، أو تشهر به في وجهه، دعه حراً طليقاً وعلى الملأ وفي الهواء الطلق، تقف أنت وإياه على قدم المساواة دون أن تتميز أنت بمزية، ليس لك مزية إعلامية، ولا مكانة خاصة، ولا تسلط خاص، ولا وسائل ولا إغراءات، وحينئذٍ يكون الكلام منكما مقبولاً.
أما أن يكون القاضي يملك الوسائل كلها، ويرمي الخصم بكل نقيصة، ولا يسمح له بالدفاع عن نفسه، فإن هذا أكبر دليل على أن كل المسألة لا تعدو أن تكون كذباً في كذب، ولعباً على السذج والمغفلين، ويجب أن لا نكون سذجاً ولا مغفلين.
إن مسألة الاتهام بالانتماء اليوم أو الانتساب، أو الولاء لدولة أو لجماعة؛ أصبح أمراً رائجاً تروجه أجهزة الأمن في بلاد عدة للتأثير على الناس، وتشويه صور الدعاة، والحط من قدرهم أو التشكيك في مقاصدهم، وأن دوافعهم ليست غيرة للدين ولا للحرمات، ولا غضباً لله ورسوله، وإنما بدوافع خارجية وانتماءات أجنبية، وما أشبه ذلك، فعلى المسلمين أن يكونوا على مستوى من الوعي بحيث يحبطوا هذه التهم.
وقل لي بالله عليك: ما هو الشيء الذي تريده من الداعية حتى يثبت براءته؟ هل تريد منه أن يقول لك: هذا كذب؟ إنه يقول لك بملء فمه: إن هذا كله كذب في كذب في كذب.
لكن ماذا تريد أكثر من ذلك؟ إنسان اتهم بتهمة وليس عليها دليل، هو لا يملك إلا أن يقول لك: إن هذا كذب، ولا يملك هو الدليل، وإذا أردت أن تطلب منه يميناً فخذ يمينه، أما أكثر من هذا فإن الذي يطالب بالدليل هو ذلك الذي يلقي بتلك التهم على دعاة الإسلام، وهي على كل حال كما قيل: شنشة أعرفها من أخزم.(38/28)
الاتهام بالتطرف والإرهاب
أما الأسلوب الثالث فهو: الاتهام بالتطرف والإرهاب، والسعي إلى تحطيم المكتسبات الوطنية والسياسية كما يقال، وضرب اقتصاد البلاد، والسياحة، والمكاسب السياسية، وضرب الاستقلال الوطني.
إن جميع الصحف المصرية اليوم إلا ما ندر، وجميع الصحف التونسية، ومعظم الصحف الكويتية، تضرب على هذا الوتر، وتصور دعاة الإسلام وشباب الجماعات الإسلامية، بل وشباب الدعوة -ولو لم يكونوا من الجماعات- على أنهم متوحشون، وليست لديهم قدرة على الحوار، وعلى أنهم متعصبون، وأصحاب انفعالات وهياج عاطفي وعصبي، وأنهم لا يستطيعون الحوار مع الأطراف الأخرى، إلا من منطلق أحادي، أي: أنهم يؤمنون بأن آراءهم حقٌ لا يقبل الجدل، وأن آراء غيرهم باطل لا يستحق النظر أو التأمل، وأن خصومهم كفار أو فساق، ويكفرون الناس، وأنهم يمارسون أساليب العنف، إلى غير ذلك.
إن مثل هذه الأساليب لا تعبر حقيقة عن دعاة الإسلام، فإن دعاة الإسلام يؤمنون بالحوار، وكيف لا يؤمنون به والله تعالى يقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] .
وكيف لا يؤمنون به والله تعالى يقول: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا منهم} [العنكبوت:46] .
لكن الذي لا يؤمن بالحوار هو الذي يمارس أسلوب الإسقاط، فهل حاوروا هم شباب الإسلام، ورجال الدعوة؟ هل حاوروهم بالحجة والبرهان، أم حاوروهم بالسب والشتم والتجريح والاتهام، وممارسة أسلوب الإسقاط على هؤلاء والتهرب؟ فمثلاً تجد منهم من يَتهم ثم يَنفي، يَرمي ثم يَهرب، وأقرب مثال: ذلك الكاتب في جريدة الندوة، لقد كتب مقالاً ينادي به ويطالب بضرب المتطرفين والقضاء عليهم، فلما رد عليهم صاحب الفضيلة الشيخ سفر الحوالي، كتب هو في مقال بعدها يقول: إنني لم أكن أقصد أهل هذا البلد، لكنني أقصد المتطرفين في مصر، وفي تونس، والمتطرفين في بلاد أخرى في الجزائر وغيرها، ثم إذا به بعد ذلك بعددين يقول بالحرف الواحد: سفر الحوالي وجماعته من المتطرفين، إذاً لقد أبان عما يخبؤه قلبه، وكشف عن تناقضه، وحدد حقيقة ما يدعو إليه، وهو أنه يدعو -في الوقت الذي ينادي به بالوحدة الوطنية هو وأمثاله- إلا أنهم يدعون إلى ضرب الإسلام والصحوة، وضرب المسلمين والدعاة، وهو وغيره يعرفون أن ضرب الإسلام في هذه البلاد يعني القضاء على كل خيرٍ فيها، فإن هذه البلاد لا وجود لها إلا بالإسلام، وما عرفت استقراراً -في يوم من الأيام- ولا أمناً في غير شريعة الله عز وجل.
إن هؤلاء لا يترددون موغلون في الكذب والتزوير، والاستهانة بعقلية الجماهير والقراء، فهم يفترضون أن القراء مغفلون، وسذج، وسريعوا النسيان، فلا مانع أن يناقض هؤلاء اليوم ما قالوه بالأمس، ولا مانع أن يستشهدوا بالكلام لنقيض ما هو له، ولا مانع أن يضربوا الأمور بعضها ببعض، ومن أعجب العجب أن الكاتب السيئ الذكر إياه، ذكر بيان سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز في الرد على المتطرفين، مع أن بيان الشيخ -حفظه الله تعالى- إنما كان للدفاع عن دعاة الإسلام في هذا البلد، سواء الشيخ سفر الحوالي أو غيره.
ولا مانع عند هؤلاء من اتهام الأطراف الأخرى بأنها تعيش حالة من الهستيريا العقلية، وهي الضلالة أو الجنون كما قيل بالنسبة للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو أنهم يعانون أزمات نفسية، فهم يلقون هذا على دعاة الإسلام، أو أنهم يعانون من ظروف اقتصادية، ولذلك أحد الكاركاتيرات التي اطلعت عليها اليوم في بعض الصحف المصرية، أن زعيم جماعة -ملتحٍ وقصير الثوب وعليه عمامة- يعطي واحداً صرة من الذهب ويقول له: خذ سمكة في يدك ولا عشر في البحر.
أي: بدلاً من أن تذهب تبحث عن وظيفة فلا تجد، تعال وكن متطرفاً، وأعف لحيتك وصلِّ في المسجد، وهذه الفلوس، أي: أنهم يغرون الناس بالمال، مع أننا نعرف أن هؤلاء مساكين ليس عندهم أموال، من الذي يعطيهم المال؟ إسرائيل تعطيهم، أو أمريكا، دول الخليج، أو غيرها؟! نحن نعرف أن العالم كله يحاربهم، والصحف كلها تسميهم المتطرفين والإرهابيين، ولا تسمح بصوت حقٍ يدافع عنهم، فهم غرباء في هذا الوقت وفي هذا الزمن، ومع ذلك يقول: سمكة في يدك ولا عشر في البحر.
وكذلك قرأت في جريدة أخرى: أن المتدينات من الفنانات اللآتي اعتزلن الفن، وتبن إلى الله تعالى، والتزمن الحجاب الشرعي؛ أنهن أخذن مالاً من بعض الجهات مقابل الالتزام بالحجاب، أنتم لا تأخذون أموالاً، ولا تقبضون مقابل، وفرج فودة -مثلاً- الذي كان يكتب للدولة لم يقبض مالاً ولا مرتباً!! أما هؤلاء المساكين الذين لا يجد أحدهم لقمة العيش، ويترك من غداءه لعشائه ومن عشائه لغدائه، هؤلاء يقبضون من الشرق ومن الغرب.
ولا مانع أن يوصف هؤلاء بأنهم يعانون من كبت جنسي، وقد قرأت اليوم في إحدى الكاريكاتيرات أيضاً أن أحد شباب الجماعات الإسلامية صوره في صورة ساخرة، يحاول أن يلحق ببنت، فلما أعرضت عنه وتركته قال لها: أنا أحبك لكن إذا تخليت عني فسوف أشيع في الحي أن الحب حرام! لاحظ كيف يصورون الأمور على غير وجهها! أما هم أصحاب الصحف، والإعلام والسلطة، وأصحاب النفوذ؛ فهم العقلاء، وهم الأسوياء المحترمون النظيفون النزيهون، ما سرقوا أقوات الشعب، ولا سرقوا المساعدات الخارجية، ولا اضطهدوا الناس، ولا أودعوهم في غياهب السجون، ولا تعاملوا مع المخابرات الأجنبية، ولا اتصلوا بالدول الخارجية، ولا وصلوا إلى الحكم بقوة الحديد والنار، ولا صادروا رغبة الشعب، ولا سخروا كل إمكانيات الدولة لتحقيق مآربهم ومطالبهم.
إن الألفاظ والألقاب التي يطلقونها اليوم على دعاة الإسلام؛ إنه لا يطلقها إلا من سفه نفسه، أفهذه هي أهوات الحوار لديكم الذي تدعون إليه وتنادون به؟ إن الذي يصدر في صحفنا المحلية اليوم كما نوهت سابقاً بمثال جريدة الندوة، وأنوه الآن بمثال جريدة الجزيرة فيما كتبه حماد السالمي في أكثر من مرة، عن سب المتدينين وإلصاق تهم التطرف بهم، وأنهم ليس لهم نصيب لا من الدين ولا من العروبة!! إن هذا هو طليعة الغثاء الخارجي الذي بدأ يغزونا في الداخل، وأخشى أن يكون وراء الأكمة ما وراءها، فيجب أن يتحرك الغيورون على الدين هنا وفي كل مكان، ويجب أن يُسعى لوقف هؤلاء عند حدهم، وجعل هؤلاء المتكلمين عبرة لغيرهم.
إنه إن مرت هذه الكلمات بسلام؛ فسوف نرى سيلاً من التهجم على المتدين في صحفنا، وإنا نعلم أن منكم سماعون لهم، وأنَّ المنافقين متواجدون في كل مجتمع وفي كل مؤسسة، في الإعلام وفي غيره، وهم إن أتيح لهم المجال؛ سوف يعبرون عن أحقادهم ومرض قلوبهم في النيل من المتدينين وسبهم، والنيل من الدين ذاته.
إنه لا مانع أبداً من المطالبة بمحاكمة هؤلاء شرعاً، واللقاء معهم، ومناظرتهم ومراسلتهم، والرد عليهم، وإخراجهم في بيوتهم وفي مكاتبهم، واضطرارهم إلى أن يتوبوا إلى الله تعالى، علانية، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا؛ ليرتدع بهم غيرهم ويتوقف من كان يضمر في نفسه شراً.(38/29)
مداخلة
هاهنا مشاركة أرسلها لي أحد الإخوة؛ ولأنها مفيدة ونافعة أحببت أن أقرأها عليكم، وإن لم تكن ذات علاقة كبيرة بهذا الموضوع: يقول: في هذا الوقت الذي تشتد فيه ضراوة الكافرين ومن شايعهم من العملاء والمنافقين، ويقود هذا الزحف الأممي على أهل الإسلام دولة الصليب، يبقى جهد الدعاة قاصراً عن دفع هذا الظلم الذي لحق بالإسلام وأهله، وفي أحيانٍ كثيرة يبدو هذا الجهد محصوراً في عمل من الأعمال لا يتعداه الداعية، فيفرغ فيه جل وقته، ويبذل فيه غالب جهده، ألا يمكن أن تتغير تلك الصورة فيكون المسلم -إن صح التعبير- جهازاً متعدد الأغراض -وهذه من الكلمات التي ينبغي أن تنقل لأنها تعبير عن فكرة سليمة- فتكون له مشاركة في وجه من أوجه الخير، والتي ربما تكون في اليوم الواحد أمامه، فيضيف إلى جهده الأساسي الذي اختاره لنفسه جهداً آخر، وكلما سنحت له فرصة أضاف عملاً آخر يرضى الله تعالى به عنه، فيأمر بمعروف وينهى عن منكر، إما بقول أو كتاب، أو زيارة قريبٍ أو صلة رحم، أو دعوةٍ إلى الله ورسوله، أو يفرغ جزءاً من وقته مع زميله في العمل أو صديقه في الدراسة أو جاره؛ للحديث عن شئون المسلمين، وعن قضية حدثت لهم، أو ينشط لتوزيع شريط أو عن أمرٍ ألم بالمسلمين، أو يساهم في الحديث في المسجد بأي صورة، عن معنى آية من آيات القرآن الكريم يختارها، أو حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو يواصل من يرجو فيه خيراً للإسلام والمسلمين، بل وأن يحمل منقطعاً أو يؤوي مسكيناً، ويبلغ رسالة الأنبياء والرسل بسهولة وبساطة ووضوح، وغير ذلك كثيرٌ كثير.
فإذا عاد إلى منزله أو أوى إلى فراشه، دعا الله عز وجل للمسلمين في كل مكان، وأسأل الله تعالى أن يعز هذا الدين وأهله، وأن يخذل الكافرين والمنافقين، وأن يشتت شملهم، وأن يمزقهم كل ممزق، وأن يجعل الدائرة عليهم إنه سميع مجيب.
وصلى على نبينا محمد وآله وصحبه.(38/30)
الأسئلة(38/31)
تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى
السؤال
تكلمت في القاعدة الثانية عن اليهود والنصارى، وأنهم يجتمعون سوياً أمام المسلمين، ولكن الله تعالى يقول: {تحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] أي: يكونون مع بعض بصورة شكلية، وإذا اجتمعنا ضدهم فسوف نكون نحن المنتصرين؟
الجواب
هذا مثل ما ذكرت لك في موضوع الكيد، كيدهم قوي ومكرهم تزول منه الجبال، ولكن إذا واجهوا المسلمين الصادقين ذهب كيدهم، كما قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] .
أي: إذا جاء أولياء الرحمن ذهب كيد أولياء الشيطان وصار ضعيفا.
أما إذا واجهو العلمانيين والقوميين والوطنيين؛ فإنهم حينئذٍ منتصرون عليهم.(38/32)
أهداف أمريكا في الخليج
السؤال
نحن أبناء المسلمين وخاصة العرب، الكثير منهم يبرروا ضعف مواقفهم أن الغرب لهم أهداف، وأين دليل حرب الخليج، حيث كان يقول الناس: إن أمريكا سوف تضع قاعدة عسكرية ولها أهداف، ولكنها خرجت مع انتهاء الحرب، نرجو التوضيح؟
الجواب
في الواقع أن الأمر واضح جداً من خلال حرب الخليج وما كان خافياً بالأمس أصبح واضحاً اليوم، وأصبح الغرب لا يجدون غضاضة في أن يصرحوا به ويعلنوه، فمن أهم الأهداف التي سعوا إليها ضرب أي قوة تواجه إسرائيل.
وهذا أصبح معلناً اليوم، حتى أن بعض العلمانيين في بلادنا صرحوا به، لقد ضربت قوة العراق وكان من أهداف ضربها تأمين سلامة إسرائيل، واليوم يقولون: إن إيران تهدد قوة إسرائيل، ولا بد من إيقاف الصادرات إلى إيران، وفرض حصارٍ عليها، ومثلها أي دولة أخرى، وكذلك ما يتعلق بليبيا، فإن من أهم المقاصد والأهداف: تأمين إسرائيل ومحاولة تدمير أي قوة تواجهها.
كذلك من الأهداف حماية آبار النفط، وضمان وصول النفط إلى دول الغرب، وهذا لا شك تحقق لهم، ونحن لا نقول إن العراق لا يشكل خطراً، فالعراق خطر أيضاً، ولكن هناك أخطار أخرى، هناك إسرائيل خطر، وهناك خطر الإسلام الذي يخاف منه الغرب أن يكون مداً متنامياً في العالم الإسلامي كله.
أيضاً: تدشين ما يسمى بالنظام الدولي الجديد، القائم على القطب الأحادي، أي على أن الولايات المتحدة المتفردة بالسلطة فيه، كان هو أحد الأهداف المقصودة، وقالوا: إنه لا بد أن يكون الإعلان عن النظام الدولي الجديد وسط طبول الحرب الذي تفرع؛ بحيث يكون له هيبة وتأثير ووقع في نفوس الناس.(38/33)
دور أعداء الإسلام في الداخل
السؤال
ذكرتم مجملاً ومفصلاً أساليب أعداء الإسلام وخططهم في الخارج، فما هو دور أعداء الإسلام في الداخل؟ هل هو نطاق ضيق وعمل قليل، أم هو تنفيذ لما هو في الخارج؟
الجواب
أعداء الإسلام في كل مكان هم هم، ولكنهم أحياناً يكونون كفاراً معلنين، وأحياناً يكونون منافقين يستترون بالدعوة إلى العلمانية، أو إلى العلمية وإلى الوطنية، وإلى غير ذلك من الشعارات البراقة، التي تناسب المقام وتناسب الحال، ولكن هم كما قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] .
الكل يعرفون اليوم من هم أولياء الإسلام، ومن هم محبوه، ومن هم المدافعون عنه، ويعرفون من خصومه وأعداؤه.(38/34)
الفقه والواقع
السؤال
ما رأيك في من يقول: إن تعلُّم أحوال العالم الإسلامي أهم من تعلم أحكام الحيض والنفاس؟
الجواب
هذا خطأ؛ لأنه لا ينبغي أن نضرب الدين بعضه ببعض، فمن الدين تعلم أحكام الحيض وأحكام النفاس، والوضوء والغسل والصيام والحج والزكاة وغيرها، ومن الدين -أيضاً- أن يتعلم الإنسان ما يحتاجه في أمر معاشه، ومن الدين -أيضاً- أن يعرف الإنسان ما يجب عليه من مساعدة إخوانه ومناصرتهم.
وأقول: ليس ضرورياً لكل مسلم أن يعرف تفاصيل أحوال العالم الإسلامي، فإذا وجد من يكفي ومن يقوم كفى، لكن ينبغي أن يخاطب المسلمون -أيضاً- بالمساعدة بالمال، والمساعدة بالدعاء في بعض الأمور، وينبغي أن نعلم أنه كما يوجد بين المسلمين من يهتم بأحوال الأمة الإسلامية، ويتحدث عن قضاياها، ويكشف الخطط التي تدبر ضدها؛ ينبغي أيضاً أن يوجد في المسلمين دعاة معروفون مشهورون، همهم تعليم الناس النية الصالحة، وتعليم الناس العقيدة الصحيحة، وتعليم الناس أحكام العبادة، وتعليم الناس المبادئ العامة، والأصول والقواعد الكلية للدين، كل هذا يجب أن يكون، والمؤسف اليوم أننا قد ننتقد واحداً تكلم ولا نتكلم نحن، فينبغي أن نقول كل ذلك مما تمس الحاجة إليه.(38/35)
المنشورات التي فيها بعض خطط أعداء الإسلام
السؤال
نقرأ كثيراً من المنشورات التي فيها بعض أعمال أعداء الإسلام وبعض خططهم، فهل يصدق كل ما ينشر من هذه المنشورات؟ وهل من الممكن أن تكون غير صحيحة؟
الجواب
نعم من الممكن أن تكون غير صحيحة، فالأعداء أحياناً يتكثرون ويحاولون إيجاد حرب نفسية كما أشرت عند المسلمين، من جهة أن يشعروا المسلمين بأن الغرب والعدو يملك قوة ضارية وضاربة، وأنه لا سبيل إلى مقاومته وأنه ليس أمام المسلمين إلا التسليم، وأن يلقوا سلاحهم ويطأطئوا رءوسهم، ويتركوا الأمر لعدوهم، فكثيرٌ من النشرات والإخباريات، وكثير من الإحصائيات تعتمد على مثل هذه الحرب النفسية.(38/36)
أخبار عن المسلمين
السؤال
معظم الأسئلة تدور حول أخبار البوسنة، وأخبار الصومال، وما يجري في مصر، وتغيير مناهج التعليم، واستمرار إيقاف الأشرطة؟
الجواب
حقيقة الحديث عن مثل هذه الأمور طويل، وربما معظمها سبق أن تحدثت عنه، وفيما يتعلق بالصومال فقد أعلن جماعة من العلماء هناك، وأعلن الاتحاد الإسلامي الجهاد ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وحصلت اشتباكات مع قوة العدو الكافر هناك، وصارت هناك بعض البوادر، وكأن الغرب حاول أن يسبق الأحداث؛ فأعلن -كما أسلفت- عن أنه سوف ينسحب قريباً، وحاول أن يضم إليه بعض الطوائف وبعض الجهات، وحاول أن يغري الناس باستتباب الأمن وبتوزيع المعونات، والعجيب أنهم يقولون: إن الجنود الأمريكيين الذين جاءوا لتوزيع المعونات، كانوا يضعون أيديهم على خدودهم في انتظار الناس، فلا يأتيهم إلا العدد القليل لطلب المعونة؛ لأن الناس ليسو في مجاعة كما صور لهم إلى هذا الحد.(38/37)
القوات المسلحة في الصومال
السؤال
ما هي تصوراتكم تجاه إرسال بعض دول الإسلام قوات إلى الصومال؟
الجواب
في الحقيقة هذا من الأمور المؤسفة؛ أن تكون الدول الإسلامية تبعاً في هذا لغيرها، وأن يبعث المسلمون قوات تبعاً لغيرهم، لو أن المسلمين كانوا صادقين لكانوا هم أصحاب المبادرة، وعلى فرض أن ثمة حاجة في الصومال إلى قوة تحرس قوافل الإغاثة، كان من الممكن أن تقوم بها دول إسلامية، وأن يكون المسلمون هم الذين يساعدون إخوانهم هناك، أما أن تقوم بها أمريكا بمبادرة من قبل نفسها، حتى قبل أن تستشير الأمم المتحدة ذاتها وترسل ثلاثين ألفاً من قوات المارينز، ثم بعد ذلك تتوالى القوات الغربية، ثم يطلبون من المسلمين إرسال عدد رمزي من القوات، لمجرد إضفاء الشرعية على ذلك؛ فهذا ِأمرٌ غير صحيح.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(38/38)
نهاية التاريخ
انتشرت في العالم الغربي وأميركا على وجه الخصوص، نظريات نهاية التاريخ وذلك منذ بداية التسعينات الميلادية في القرن الماضي، ومؤداها أن العالم الغربي والديمقراطية التي يُعمل بها هي المنقذ الأوحد بعد زوال الشيوعية، كما أن من هذه النظريات من يبشر بصدام الحضارات، وهم يرشحون عدة حضارات لصدام الحضارة الغربية، على رأسها جميعاً الحضارة الإسلامية المجيدة، ومما يلفت النظر وجود دراسات في العالم الغربي نفسه وأمريكا؛ تؤكد الانهيار الوشيك للحضارة الغربية.(39/1)
نظرية نهاية التاريخ في أمريكا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: فسلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته أجمعين.
ثم إن هذه الليلة، ليلة الإثنين السادس من شهر ربيع الأول، من سنة (1414) من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهذا الدرس هو السادس والتسعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وعنوانه: (نهاية التاريخ.
وهذا العنوان مستعار من كتاب أحدث ضجة كبيرة، وقد طبع في أمريكا ووزع في أنحاء العالم، وترجم إلى اللغات الحية بما في ذلك اللغة العربية، ومؤلف هذا الكتاب رجل ياباني الأصل أمريكي الجنسية والمولد، اسمه فرنسيس فوكوياما، أما المترجم العربي فهو الدكتور حسين الشيخ، وقد طبعت الترجمة العربية للكتاب في دار العلوم العربية ببيروت في قرابة ثلاثمائة صفحة، وقد أتيح لي أن أقرأ مجموعة من التحاليل، والتقارير، والدراسات حول هذا الكتاب، ثم أن أطلع عليه بترجمته العربية.
وفكرة هذا الكتاب -نهاية التاريخ- فكرة بسيطة إلى حد السذاجة -كما يقول أحد المحللين- وهي تعتمد على أن المؤلف يقول وهو يحتفل بسقوط الشيوعية، وانهزامها، ودفنها: إن الديمقراطية الغربية قد انتصرت، وانتصر معها الغرب، ولم يعد أمام العالم -أمريكا والغرب- ما ينتظرونه من جديد، فلقد حدث الجديد فعلاً، وهو انهيار الماركسية وتفكك الاتحاد السوفيتي، وانتشار النظام الديموقراطي الليبرالي الحر في العالم، بما في ذلك الدول الشرقية التي كانت تابعة للمنظومة الشيوعية، ولهذا فقد أُغلق باب التاريخ فلا جديد بعد اليوم، إلا في حدود بعض الإصلاحات والتغييرات الطفيفة هنا أو هناك.
فهذه هي فكرة الكتاب، يقول المؤلف: ليس هناك أيدلوجية، أو عقيدة يمكن أن تحل محل التحدي الديمقراطي الغربي الذي يفرض نفسه على الناس، لا الملكية، ولا الفاشية، ولا الشيوعية، ولا غيرها، حتى أولئك الذين لم يؤمنوا بالديمقراطية، ولم يتبنوها كمنهاج لحكمهم، أو حياتهم، أو عملهم، يقول: سوف يضطرون إلى التحدث بلغة ديمقراطية، ومجاملة التيار من أجل تبرير الانحراف والديكتاتورية والتسلط الذي يمارسونه.
أما الإسلام فإن المؤلف يتحدث عنه بلغة مختلفة بعض الشيء، فهو يقول: يمكن أن نستثني الإسلام من هذا الحكم العام، وهذا الكلام، فهو دين متجانس، ودين منتظم وهو قد هزم الديمقراطية في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، وشهدت نهاية الحرب الباردة بين الغرب والشرق، تحدياً سافراً للغرب على يد العراق، وهو يعتبر أن التحدي العراقي يتضمن تحدياً إسلامياً، باعتبار الموروثات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط، فهذا الدين الإسلامي، يقول المؤلف: على رغم جاذبيته العالمية، وقوته إلا أنه ليس له جاذبية خارج المناطق ذات الثقافة الإسلامية، فالشباب مثلاً في برلين، أو طوكيو، أو موسكو، أو واشنطن لا يجذبهم الإسلام، وإن كان يؤمن به أعداد من الذين يعانون ظروفاً صعبة، أو من الساخطين على الأوضاع العامة هنا أو هناك.
إذاً: يقول: أصبح من الممكن أن نخترق العالم الإسلامي بالأفكار التحررية الغربية، وأن نكسب أنصاراً داخل المسلمين ممن يؤيدون الليبرالية الغربية، أو العلمنة الغربية.
وهذا التوقع الذي طرحه المؤلف في كتابه نهاية التاريخ، هو مجرد حلم لذيذ، أو توقع محتمل على أحسن الأحوال في ظنه، أما الآخرون فيقولون خلاف ذلك، إن هذا الكلام الذي قاله، قاله من قبله هتلر حينما تحدث عن الرايخ الثالث الذي سيعيش ألف عام على حد زعمه، ولكن هذا التوقع اصطدم بالواقع المخالف تماماً لما يقول.
ومثل ذلك الماركسية التي كانت تتحدث عند انتصار اليوتوبيا، وقيام جنة دنيوية، وفردوس ينتظم العالم كله تحت ظل الشيوعية، فإذا بالشيوعية لم تعش أكثر من سبعين سنة، وهي عمر إنسان عادي ليس عمر دولة، أو أمة، أو معتقد، ثم في ظل هذه السنوات القصيرة يعيش العالم الشرقي تحت الشيوعية حياة بائسة كئيبة.
ومثل ذلك نبوءة شبلنجر عن انهيار الغرب.
إذاً: هي مجرد ظنون، أو أوهام، أو أحلام لذيذة مخدرة، يتوقعها هؤلاء الكاتبون.
وكما ذكرت فقد أشار وأثار هذا الكتاب زوبعة كبيرة، وكتبت عنه مئات الصحف في أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وكتب عنه كاتبون كثيرون، بعضهم قسس، وبعضهم مفكرون اجتماعيون أو سياسيون، وانتقدوا هذا الطرح الأمريكي المتطرف، واعتبروا أن الكاتب بسيط إلى حد السذاجة، وأن ما قاله لا يعدو أن يكون احتفالاً بسقوط الشيوعية، ولا يملك مقومات النظرية العلمية الصحيحة.
و
السؤال
ماذا يعني سقوط الحضارة الغربية، أو الحضارة الأمريكية على وجه الخصوص؟ ماذا يعني تحديداً؟ بعض الناس يتصورون -مثلاً- أننا حينما نتحدث عن سقوط الغرب، أو أمريكا، أو الحضارة الغربية، يعنون معنىً عاماً شاملاً يترتب عليه تدمير جميع المنجزات الحضارية، وعودة الإنسان -كما يقولون- إلى العصور البدائية بعيداً عن كل ما يتمتع به في هذا العصر.
وهناك -مثلاً- طرح عبارة عن فيلم اسمه: مقاتل على الطريق لـ جورج ميلر، وهذا الروائي يتنبأ بهذه النهاية المرعبة للعالم الغربي، والبؤس الذي سوف يلف العالم هناك، ويقضي على كل المنجزات الحضارية التي يتمتع بها الناس اليوم، سواء منجزات الاتصالات المختلفة، أم المتعة، أم الرفاهية، أم النقل، أم الكهرباء، أم غير ذلك.
وهكذا روايات الخيال العلمي -كما يسمونها- التي تصور تدمير الحضارة التكنولوجية الحديثة، والعودة المفاجئة إلى العصور البدائية، ولذلك فإن البعض يبدون انزعاجاً من الحديث عن سقوط الغرب، لأنهم يظنون أن سقوط الغرب سوف يترتب عليه زوال هذه الفرص والإمكانيات التي يتمتعون بها الآن.
حتى إنني قرأت لكاتب إسلامي في جريدة الحياة، أنه يقول: ينبغي ألا نطرح هذا الأمر بتفاؤل لأن هذه الأشياء مصلحة مشتركة بين الأمم كلها، وهذا في الواقع ليس مقصوداً لنا، حينما نتحدث عن سقوط الغرب، أو سقوط أمريكا، وإن كان هذا مطروحاً لدى بعض الغربيين، فهناك جماعات من العلماء المتخصصين يتوقعون أحوالاً سيئة سوف تكون إليها البشرية، حتى يوم كان هناك نظرة متفائلة مثالية للمستقبل قبل عشرات السنوات وكانت هي السائدة.(39/2)
نظريات علمية عن نهاية التاريخ
حين ذاك كتب فيلسوف ألماني اسمه سبيكر، كتب كتاباً عن تدهور الحضارة الغربية، وتوقع مستقبلاً مظلماً للغرب، وللعالم كله من وراء الغرب، ثم جاء العالم الإنجليزي جورج أورويل، وكتب كتاباً اسمه: العالم عام أربع وثمانين، وكان كاتباً متشائماً، وتوقع أوضاعاً سيئة، لكن الواقع كان أكثر تشاؤماً منه!! فإن الأوضاع التي مر بها العالم عام أربع وثمانين وما بعده، كانت أكثر سوءاً وسوداوية وقتامة، مما تصوره وظنه ذلك العالم الإنجليزي.
ثم كتب الفيلسوف الآخر أيضاً هولن ويلتن، وهو الآخر إنجليزي، كتب عن سقوط الحضارة الغربية وذلك ضمن منظومة متسلسلة من البحوث والكتب والدراسات القديمة، التي كانت تتحدث عن سقوط وشيك للعالم الغربي.
وهناك علماء الفلك الذين يكتبون نهايات مفزعة عن الكون، بسبب زيادة طاقة الشمس وحرارتها -مثلاً- ووجود ثقب ضخم لطبقة عليا، يسمونها: طبقة الأوزون، ويقولون: إن هذا الثقب إذا ظل يكبر بالمعدلات التي تحدث الآن فإنه سوف يترتب عليه أخطار تهدد الحياة البشرية كلها.
مثلاً: زحف الماء على الكرة الأرضية، وتغطية مدن بأكملها، وغمرها بالمياه، وابتلاع هذه المدن بسكانها، وإمكانياتها، تلوث البيئة والجو، وانتشار الأمراض، ومنها: سرطان الجلد، إلى أشياء أخرى مترتبة على هذا الخطر الذي يسمى ثقب الأوزون.
وعلماء الطب -مثلاً- يتحدثون أيضاً بنفس النظرة، ويتكلمون عن الأخطار والأمراض التي سوف تحدث للبشرية من جراء هذا الثقب الذي أصبح مرئياً وملاحظاً الآن، وهو يتزايد بسبب كثافة الاستهلاك التصنيعي خاصة في الدول الغربية.
إضافة إلى ذلك فعلماء الطب يدقون نواقيس الخطر من الأمراض الذي أصبحت تفتك بالبشرية، فلم يعد مرض السرطان هو أخطرها، بل أصبح مرض الإيدز الذي ضحاياه يعدون بعشرات الملايين، وحاملو الجراثيم مئات الملايين، ويتوقع أن تزداد النسبة بكثرة في السنوات القادمة، ويقف الطب عاجزاً عن ذلك، إن هذا يهدد السلالات البشرية، ويهدد الحياة على وجه الأرض.
أما علماء البيئة فهم يرسمون صورة مكبرة لما حدث في المعمل النووي في الاتحاد السوفيتي، معمل يسمونه "تشر نوبل" وقد تسرب من هذا المعمل بعض الإشعاعات النووية، فدمرت الحياة هناك، وأثرت، وقتلت، وغيرت أشياء كثيرة، وانتقلت آثارها عبر مأكولات وفواكه وخضروات وأشياء إلى العالم العربي والإسلامي بل إلى العالم كله.
فهم يقولون: ماذا لو حدث زلزال -مثلاً- في أحد المواقع التي تقام عليها مفاعلات أو معامل نووية، وترتب على ذلك تسرب خطير لهذه المواد والإشعاعات القاتلة للناس؟ بل ماذا لو حصلت حرب نووية أو حرب جرثومية بين دولتين من دول العالم، لامتد أثر ذلك وضرره إلى مواقع كثيرة، بل ماذا لو تملكت بعض ما يسمونها بالجماعات الإرهابية، أو عصابات المافيا، أو المجموعات التخريبية في العالم، وبطبيعة الحال أنا لا أقصد بهذا المسلمين إنما يُقصد بشكل عام تلك الجماعات التي تتاجر بكل شيء في الشرق والغرب، وهي جماعات إرهابية؛ همهما تحصيل المال والثراء والكسب، ماذا لو تملكت بعض هذه العصابات السلاح النووي، فضلاً عن أن المصانع والنفايات والإشعاعات النووية التي تدفن -غالباً- في بلاد المسلمين، أو تصدر بصورة أو بأخرى، حتى إن آخر ذلك أن الصومال وضع في مياهها بعض النفايات النووية أن هذا أيضاً يهدد الحياة البشرية على وجه الأرض.
إذاً: هؤلاء توقعوا نهاية حادة، وحاسمة للحياة البشرية، وأن سقوط الحضارة لا يعني فقط تأخراً أو تراجعاً، بقدر ما يعني تهديداً للحياة البشرية على وجه الأرض، أو على الأقل تهديداً للمنجزات الحضارية التي يتمتع بها الإنسان في العالم كله.
وهؤلاء العلماء يتفقون على أن العالم يسير إلى كارثة محققة لا مهرب منها، يقول كاتب روماني شهير: إن محاولة إنقاذ العالم حينئذ هي مثل محاولة الفئران أن تهرب من سفينة على وشك الغرق، فهي تهرب من السفينة لتغرق في البحر، فهي بين حرق أو غرق.
فهذه التوقعات أو الظنون مع أنها الآن لا تؤخذ بعين الجدية، إلا أنه ينظر إليها على أنها من الطرائف العلمية، ومع ذلك يجب ونحن نتحدث عنها أن نتنبه إلى أربع أو خمس نقاط: أولاً: هذه الأشياء هي احتمالات قائمة وواردة، وليست أموراً في دائرة المستحيل وغير الممكن، والمعتاد أن مراكز التحليل الغربية تضع لكل احتمال حساباً، فينبغي أن تُوضع هذه الأشياء في الاعتبار، وألا تستبعد استبعاداً كلياً، أو نهائياً.
ثانياً: من المعلوم أن ثمة حضارات كثيرة سادت ثم بادت، وقد ذكر الله تعالى لنا في القرآن الكريم أخبار أمم كثيرة مكن الله تعالى لها، وبوّأها في الأرض، ثم حكم عليها بالهلاك والفناء، فلم يغن عنهم بأسهم من عذاب الله تعالى شيئاً، قال الله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:42-48] .
وتأمل: أولاً: كأين: قرى كثيرة كانت ممكنة، وذات حضارة، وآبار، وقصور مشيدة، وقوة، وعروش، ثم خوت على عروشها، وعطلت آبارها وقصورها المشيدة.
ثانياً: هذا الأمر عبرة للذين يعقلون، ويدركون سنن الله تعالى في عباده أفراداً وأمماً وجماعات، ولا يغفل عن هذه العبر إلا أولئك العميان الذين ليس لهم قلوب يعقلون بها، ثم هم يستعجلوننا بالعذاب، فيقولون: متى ذلك؟ هاهو العالم الغربي مُمكن منذ عشرات السنين، وأنتم تقولون سقط الغرب، ونحن لا نرى الغرب إلا يزداد قوة، ورسوخاً، وتمكناً، وتغلغلاً، وسيطرة على العالم، وبعضهم يقول: وعلى الطبيعة، فأين أقوالكم، وزعومكم التي ملأتم بها آذاننا على حين أن الغرب لا يزال يتمكن يوماً فيوماً؟ قال الله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] ثم هذا التمكين الذين يعيشونه هو مرحلة الإملاء والإمهال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] {أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48] فأي ظلم أعظم من الظلم الذي يعيشه الغرب اليوم، وهو يكيل بمكيالين، ويزن بميزانين في قضايا كثيرة جداً معلومة.
النقطة الثالثة: ثمة نصوص شرعية، وأحاديث نبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم توحي وتدل على أن العالم سوف يعود إلى العصور البدائية في آخر الزمان، وسوف يستعمل السلاح الأبيض، فمثلاً: في صحيح مسلم لما تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الملاحم الكبرى التي تقع قرب الساعة، وقبل ظهور المسيح الدجال، ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الفرسان الذين يفتحون القسطنطينية، ويعلقون سيوفهم على شجر الزيتون، إذاً هم يحملون السيوف، وقال: {إني لأعرف أسماءهم، وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم} .
إذاً: فهم يقاتلون -حسب ظاهر النص النبوي- عبر الخيول، ويحملون السلاح الأبيض، يحملون السيوف والخناجر ونحوها ويقاتلون بها، وهذا قد يدل -والله تعالى أعلم- على أن ما توقعه العلماء والخبراء من نكسة للحضارة الغربية، أنه أمر وارد وواقع، لكن متى؟ الله تعالى أعلم، بعد عشر سنين، أو مائة سنة، أو مائتي سنة، أو أقل أو أكثر، فإن هذا مما لا يطيق له البشر تحديداً أو ضبطاً، بل هو غيب من غيب الله تعالى جل وعلا.
وبعض المحللين والدارسين للنصوص النبوية، قالوا: إن ما أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام لا يلزم أن يكون مقصوداً به السيف ذاته، أو الخيل نفسه، بل قد يكون هذا تعبيراً عن السلاح الذي يستعملون أياً كان، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام عبر باللغة التي يفهمها المخاطبون يومئذ.
الأمر الرابع: أن المسلمين، بل وغير المسلمين حتى من أهل الديانات السماوية يؤمنون بالساعة وأنها ستقع، والقيامة أنها ستحق فهي الصاخة، والحاقة، والقارعة التي أخبر الله تعالى عنها، وهي التي سوف تدمر الحياة الدنيوية ونظامها المعتاد، وتنقل الناس إلى العالم الأخروي، عالم الجزاء والحساب.
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الإنفطار:1-4] ذلك هو يوم الجزاء والحساب: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] وقبل ذلك الساعة التي هي تبليغ الحياة الدنيوية والقضاء على البشر وموتهم عن آخرهم، حتى ملك الموت يموت.
خامساً: أمريكا بالذات برزت بسرعة، فبروزها كقوة عالمية وقيادة دولية كان بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال تقريباً خمسين سنة تبوأت هذا المنصب العظيم الكبير كشرطي للعالم اليوم، والغرب ربما احتمى بها واستعان بها خوفاً وذعراً من الشيوعية التي كانت تهدده، بل سيطرت على جزء كبير من أوروبا الشرقية على ما هو معروف.
ولذلك العالم الغربي يريد الآن أن يخلع نير السيطرة الأمريكية عنه، ويتخلص من هيمنتها عليه، ولهذا يوجد تناقض صارخ وواضح بين أمريكا وأوروبا الموحدة، وبين أمريكا ودول أوروبا كلاً على حدة كبريطانيا، أو ألمانيا، أو فرنسا، وبين أمريكا والصين، وبين أمريكا واليابان، وبينها وبين دول أخرى.
إذاً: أمريكا برزت بسرعة، ولهذا لا غرابة أن يكون انهيارها سريعاً أيضاً، كما تتوقع بعض الدراسات، وبعض التحاليل، وسوف أشير إلى شيء منه(39/3)
توقع انكفاء العالم الغربي على نفسه
أما الصورة الثانية للانهيار: وهي التي غالباً ما يرسمها السياسيون الغرب فهي لا تعدو أن تكون نوعاً من انكفاء العالم الغربي على نفسه، وانكماشه، وانشغاله بهمومه الخاصة، ومشاكله الداخلية، وكف يده عن العالم الخارجي، وهذا الأمر أصبح يمثل تياراً في السياسة الأمريكية حيث يطالب بعدم التدخل في الدول الأخرى، والانهماك والانشغال بالهم الداخلي، وأن علاقة أمريكا بالعالم، وما يتطلبه ذلك من تدخل، وإرسال القوات، ودفع المساعدات إلى غير ذلك، أن هذا من أهم أسباب الانهيار الاقتصادي الذي يهددها، ولهذا عليها أن تقلل من حجم تدخلها العالمي.
حتى في بعض الصور الديمقراطية الغربية يُخشى أن تتحول أيضاً إلى خطر يهدد أمريكا في نظر السياسيين، فإن مستشار الأمن القومي السابق واسمه بريجنسكي ألف كتاباً اسمه: (خارج نطاق السيطرة) وهذا الكتاب يقول فيه: إن العالم الذي جاء بعد الشيوعية عالم خطر، عالم قلق، ومتوتر، ويجب أن ندرك المخاطر الناجمة عن الديمقراطية الغربية، حيث سيوجد في أمريكا نوع من الإباحية المطلقة، كل شيء مسموح، وكل شيء مباح، وبالتالي سوف تتعرض مصالح الأفراد للخطر، وسوف يوجد هناك قدر كبير من الأنانية بين الأفراد توجد انشطاراً في المجتمع وخطراً عظيماً، إنه عالم -كما يقول بريجنسكي - يعيش حالة غليان بعد انهيار الشيوعية.
ومن الجدير بالذكر أن هذا الرجل وهو بريجنسكي أنه كان قد توقع سقوط الشيوعية عام سبع وثمانين للميلاد-تقريباً- في كتاب سماه: السقوط العظيم توقع فيه سقوط الشيوعية كما حدث فعلاً.
وهذا أسلوب أو نموذج لهذا الأمر، وينبغي أن أشير في المجال إلى أن هذا الأمر يشمل رجال الاقتصاد الغربي، فإن الاقتصاد الغربي الأمريكي يعيش ما يسمونه بمرحلة النكبة، نكبة الاقتصادي الأمريكي.
وعلى سبيل المثال هذا كتاب جديد ومهم اسمه: الإفلاس عام خمس وتسعين، ومؤلف الكتاب باحث ومؤرخ أمريكي اسمه هاوإي كيكي، وهذا الكتاب الذي نشرته دار أمريكية -دار ليكل باور- يرسم مسلسلاً متلاحقاً للانهيارات الأمريكية التي سببها الاقتصاد المثقل بالديون على الخزينة الأمريكية.
والغريب أن صحيفة: نيويورك تايمز اعتبرت هذا الكتاب ضمن قائمة الكتب الأكثر رواجاً وانتشاراً في العالم.(39/4)
انهيار الاقتصاد الأمريكي
فهذا الكتاب يحدد بالضبط عام خمس وتسعين ميلادية، يعني: بعد أقل من سنتين أنه عام السقوط والانهيار الأمريكي، ويحدد أن الانهيار سوف يتم من خلال الاقتصاد الأمريكي المتردي، وهناك دراسة اقتصادية رصينة جداً، بل دراسات اطلعت عليها، ولا يسعفني الوقت أن أعرضها لكم، لكن على سبيل المثال، تقول إحدى هذه الدراسات وهي دراسة علمية دقيقة، تقول: إن الاقتصاد الأمريكي الآن -الاقتصاد الحكومي- محمل بأربعة ترليونات من الديون، وهو رقم خيالي لا يمكن للعقل أن يتصوره، وأن هذا الرقم سوف يزداد إلى نهاية العقد الحالي، أي: حوالي ستة سنوات سوف يزداد إلى حوالي ثلاثة عشر ونصف ترليون دولار أمريكي.
فهذا الرقم الخطير -يقول- سوف يجعل أمريكا أمام عدة خيارات لا مخلص لها منها، هذه الخيارات أولها خفض المرتبات للموظفين بنسبة ربما قد تصل إلى أكثر من (30%) للموظف العادي، وبالمقابل زيادة الضرائب عليهم إلى نحو (50%) وماذا تتصور من رجل خُفض مرتبه بنسبة (30%) وزيدت الضريبة (50%) هذا أمر لا يحتمل ولا يطاق، والذين يعرفون العقلية والنفسية الغربية يدركون أن هذا الأمر لا يمكن أن يعمله رئيس مهما كان في الظروف العادية.
وهذا الاحتمال لا يمكن أن يعملوه من أجل تطوير والحفاظ على اقتصادهم من الانهيار.
الحل الثاني هو: أن يعلن العجز عن سداد الديون، وهذا معناه إعلان الإفلاس وهو لا يعني سقوط الاقتصاد الأمريكي فقط، بل يعني سقوط الدولار الأمريكي، وسقوط اقتصاد جميع الدول التي ربطت نفسها بالدولار، ومع الأسف الدول العربية هي جزء من هذا العالم الذي ربط اقتصاده بالدولار الأمريكي.
الحل الثالث، وهو المتوقع: أن تقوم الحكومة هناك بما يسمونه بتسييل الدولار، وهو يعني طباعة كميات هائلة من الأوراق النقدية ليس لها رصيد يقابلها، لمجرد إغراق الأسواق بها وسد الحاجة وهذا الأمر سوف يؤدي إلى انهيار الاقتصاد فعلاً، بمعنى أن الدولار سيفقد قيمته بالتدريج، حتى إنه في النهاية لا يساوي إلا قيمة الورقة التي طبع عليها فقط، وهذا أيضاً هو انهيار كالذي قبله ولكنه بدلاً من أن يكون انهياراً مفاجئاً سوف يكون انهياراً بطيئاً أو تدريجياً.
فهذه الدراسات ليست مجرد أوهام، أو خيالات، إنها دراسات علمية من مراكز متخصصة غربية، وشرقية، تدق نواقيس الخطر، ولذلك فإن أمريكا نفسها بدأت تشن حرباً اقتصادية ضد اليابان مثلاً، وضد أوروبا، وضد الصين، وهي حرب مكشوفة وأخبارها تعلن يومياً، وأي شخص متابع للصحف الاقتصادية أو الملاحق الاقتصادية في الصحف يدرك ذلك جيداً.
وعلى سبيل المثال: فإنك تجد أن أمريكا تضغط على اليابان من أجل أن تفتح أسواقها للمنتجات الأمريكية، وبالمقابل تحاول أن تُحد من وجود المنتجات اليابانية في الأسواق الأمريكية، وكذلك تضغط على بعض الدول من أجل توقيع معاهدات للتبادل التجاري سواء مع فرنسا أم مع أوروبا أم غيرها تكون في النهاية لمصلحة أمريكا.
وكذلك تنافسها على الأسواق الآسيوية، وهي الأسواق الرئيسية في العالم اليوم، سواء في ذلك أسواق العالم الإسلامي أم بقية الدول الآسيوية المعروفة، والعجيب أنه في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الأمريكي والغربي من التضخم، والتراجع في معدلات النمو، فإنك تجد أن الدول الأخرى كالصين -مثلاً- واليابان، بل والدول النامية كماليزيا، وكوريا، وغيرها أن معدلات النمو فيها ترتفع باضطراد، أحياناً بنسبة (7%) وأحياناً بأكثر من هذا، وهذا أمر تحدث عنه بعض الخبراء بأنه أمر يشبه المعجزة -في ظنهم- لأنه ليس له تفسير واضح مكشوف.
ويتوقع أنه في ظل التراجع والتردي الاقتصادي الأمريكي، أن أمريكا ستجد نفسها مضطرة إلى التدخل المباشر لحماية اقتصادها، ومصالحها، ونفطها، وصناعاتها، سواء كان ذلك في اليابان -كما توقعت إحدى الدراسات- أم في مناطق أخرى من العالم كالخليج العربي أم غيرها.
إذاً: هذا لون من الدراسات السياسية والاقتصادية، يصور انحساراً للوجود الأمريكي والغربي بشكل عام، على نمط ما حدث لبريطانيا، فقد كانت بريطانيا يوماً من الأيام امبراطورية لا تغيب عنها الشمس -كما يقال- ثم اضطرت إلى التخلي عن مستعمراتها، ومحمياتها، وعادت أدراجها إلى الوراء إلى بلادها، ولكنها ظلت محتفظة بتقدمها العلمي والعسكري، وتفوقها ومركزها الدولي، على ما هو معروف الآن.
وهذا بحد ذاته كافٍ، فإنه سوف يعطي المسلمين فرصة أن يرتبوا أوراقهم، وأن يعرفوا مصالحهم، وأن يتعاملوا مع من يكون التعامل معه أصلح لهم وأضمن لنجاحهم وحفظ اقتصادهم.(39/5)
صراع الحضارات
أما النوع الثالث من الدراسات الغربية: فهي الدراسات التي ترسم تصوراً آخراً لنهاية الحضارة الغربية، وهو يتمثل فيما يسمونه بالصراع الحضاري، وهي صراعات مكشوفة وأحياناً مخفية غير معلنة بين الحضارات المختلفة، وهذه يمثلها كتاب يعتبر تقريباً أحدث كتاب صدر هناك، وقد أعدت عنه دراسات في جريدة الحياة قبل بضعة أيام.
وهذا الكتاب اسمه: صدام الحضارات ومؤلفه صمويل هنتجتون ويعتقد هذا المؤلف أن ثمة صداماً وصراعاً سوف يحدث بين حضارات مختلفة، ويرشح هو ستة حضارات في العالم إضافة إلى الحضارة الغربية، فما هذه الحضارات الست المرشحة لدخول المعركة؟: أولاً: الكونفوشيوسية: الصين.
ثانياً: اليابانية.
ثالثاً: الإسلامية.
رابعاً: الهندية.
خامساً: الأرثوذكسية السُلافية سادساً: الأمريكية اللاتينية.
ويرشح في الدرجة الأولى الحضارة الإسلامية، والحضارة الصينية للمستقبل القريب، باعتبارها أعظم خطر يهدد الحضارة الغربية، وقد حشد هذا المؤلف كل ما يحتاج إليه من الأدلة والشواهد والإثباتات على أن الصراع الحضاري هو القادم، وعلى أن الحضارة الإسلامية والصينية هي أخطر ما يهدد الغرب اليوم.
مع أن المؤلف أيضاً توقع وجود نوع من التعاون بين المسلمين وبين الصينيين، وقال: إن ذلك يهدد الحضارة الغربية، والقيم والمصالح الغربية.
وهذه الدراسة صدام الحضارات، تعطي الدين أهمية قصوى في الصراع بين الحضارات، ولذلك ينظر المؤلف إلى الصراع العربي اليهودي، على أنه صراع بين دينين -دين الإسلام واليهودية- ومثل ذلك الصراع بين الجمهوريات السوفيتية يعتبره صراعاً دينياً، وربما الصراع في البوسنة والهرسك يدخل في هذه القائمة أيضاً.(39/6)
احتمالات مآل صراع الحضارات
فهناك صراع حضاري منوع في كل المجالات.
صراع فكري، صراع ديني وعقائدي، صراع علمي، صراع سياسي، صراع اقتصادي، صراع حضاري شمولي.
وأمام هذا الصراع هناك عدة احتمالات: الاحتمال الأول: هو تغريب العالم: أي تحويل العالم إلى عالم تابع للغرب مسلم بنظريات الغرب، وقيمه، وأخلاقياته، وحضارته، وهذا غير ممكن ولا وارد.
الاحتمال الثاني: هو الصدام الحضاري، الصدام بين الحضارات والمواجهة بينها، وهو ما توقعه المؤلف وذهب إليه.
الاحتمال الثالث: هو -كما قال المؤلف- انتصار قيم التسامح الثقافي والحوار بين الحضارات، والمبادئ المشتركة التي تجمع الأمم كلها، وهذا الأمر مستبعد جداً.
فالمؤلف رجح ورشح أنه سيكون هناك صراع بين الحضارات، وهذا المؤلف وضع نفسه في الخندق الغربي، لأنه رجل أمريكي يقول -كما قال الذي قبله فوكوياما يقول: أنا أمريكي (100%) وإن كنت من أصل ياباني إلا أنني لا أعاني من عقدة ازدواجية الانتماء فأنا أمريكي (100%) وهو يقدم أمريكا، بل يقول: إنني أشعر أنني سوف أقدم دوراً عظيماً لأمريكا وقد يكون هذا الدور في البيت الأبيض -هكذا يقول فوكوياما - ومثله أيضاً هنتجتون فهو يقول مثل ذلك، ويضع نفسه في الخندق الغربي.
ثم يقول: يجب أن نرص الصفوف الغربية أمام التحدي الإسلامي والتحدي الصيني، ويجب أن نطور نوعاً من الوحدة بين أمريكا وأوروبا، ويجب إيجاد علاقة تعاون على أقل تقدير بين أمريكا وروسيا، بين أمريكا واليابان، يجب ألا نذهب بعيداً في تخفيض القدرة العسكرية الغربية.
وهذه الأشياء الذي يطالب بها، لأنه يقول: إن هناك عدواً منتظراً استعدوا له، كيف يستعدون له؟ وحدوا صفوفكم، وتعاونوا مع أصدقائكم الآخرين، لا تخفضوا أسلحتكم كثيراً، ولا تذهبوا بعيداً في ذلك لأنكم سوف تحتاجونها.
فانظر إلى الوعي والعمق والإدراك والتخطيط للمستقبل وأنت حين تأتي للمسلمين تجد أنهم على رغم الضعف، والذلة، والقلة، والتأخر إلا أن الخلافات الشرسة تعصف بهم فلا تبقي أحداً مع أحد، وإلى الله المشتكى وهو وحده المستعان! وهذا الكتاب: صدام الحضارت قد يكون ردة فعل للمد الأصولي العالمي، والتوجهات الدينية الموجودة في الإسلام، وفي بقية الديانات الأخرى، وكأنه يدعو أمريكا إلى أن تعتصم بمعطياتها، وخصائصها في مواجهة قوم مسلمين يؤمنون بدين، وينتمون إليه انتماءً عريقاً.
كما أن هذا الكتاب يتحدث ويكشف حرج القوى الغربية -أمريكا وغيرها- إزاء ما يسمونه بالديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، فهو يقول لك: إن الديمقراطية مع أنها هي البديل الذي يقدمه الغرب، وهي الشيء الذي يتحدثون عنه، وهي دين الغرب، وعقيدته، ومنهجه، وسياسته إلا أنهم يقولون لك: إن الديمقراطية خطر في العالم العربي والإسلامي.
وذلك لأن الديمقراطية الحقيقية لو طبقت في العالم العربي والإسلامي فسوف تدعم قوى معادية للغرب، على نمط ما حصل في الجزائر، والأردن، واليمن، وما يمكن أن يجري في مصر وأي بلد آخر، أي أنها سوف تدعم التوجهات الأصولية التي تكتسح الشارع العربي والإسلامي، وبالمقابل فإن رفض الديمقراطية في العالم الإسلامي سوف يكرس التذمر، والتوتر، والقلق الاجتماعي والسياسي، ويجعل الرفض والغضب الشعبي يزداد ويتفاقم يوماً بعد يوم.
إن هذا الطرح -طرح الصراع الحضاري- هو طرح معقول في نظري في الجملة، وإن كان هذا الطرح مقلقاً للعلمانيين لأنه يقتضي الاعتصام بالدين، وسوف يجعل كل أمة تعود إلى دينها، وإلى عقيدتها، وإلى تراثها الصحيح تعتصم به أمام من يحاربونها بدين مختلف، وعقيدة مختلفة، وتراث متغير، وأمور وخصائص تاريخية مميزة.
ولذلك يقول البعض: إذا صح هذا التوقع في صدام الحضارات فإن النصر في جميع الديانات، وفي جميع الأمم، وفي جميع الدول، سوف يكون لأكثر التيارات تشدداً وانغلاقاً في جميع الحضارات، وسوف يكون النصر بالنسبة للمسلمين -مثلاً- حليف من يسمونها بالتيارات الأصولية التي تدعو إلى رجعة صادقة وكاملة إلى الدين في جميع ميادين الحياة.
ومثل ذلك في الديانات الأخرى، فالنصرانية -مثلاً- سوف يكون النصر للتيارات الأصولية المتشددة فيها، والهندوس سوف يكون النصر للتيارات الهندوكية المتشددة التي تؤمن بالحديد والنار في مقاومة خصومها وأعدائها، ومثل ذلك بالنسبة لليهود أو غيرهم، وخاصة إذا كانت تلك التيارات تملك قوة الاستقطاب والتأثير في الجماهير.
فهذه ثلاثة توقعات يمكن أن يتم من خلالها سقوط الحضارة الغربية، وبالجملة فهناك قائمة طويلة جداً من الأمراض الفتاكة المزمنة التي تنخر في الجسم الغربي عامة، والجسم الأمريكي خاصة.
وهناك على سبيل المثال: الأمن واختلال الأمن، فساد الأسرة وتفككها، ضياع الشباب ومشكلاتهم، الإجهاض وهو قضية خطيرة، المخدرات وانتشارها وعصاباتها، الشذوذ الأخلاقي والجنسي، الفقر المدقع في تلك الدول الغنية حتى إنك تجد أنه عام (1978م) كان عدد الفقراء الذين لا يجدون قوت اليوم -دون مستوى الفقر المعدم- ثلاثمائة مليون إنسان فقط، وبعد عشر سنوات تحول هذا الرقم إلى كم؟! هل تتوقع أنه انخفض؟! كلا، بل ارتفع إلى مليارين من الناس، مليارا إنسان يعيشون دون مستوى الحياة الإنسانية العادية من شدة الفقر، حتى في أرقى المدن الغربية والأمريكية ينامون على الأرصفة ويأخذون أطعمتهم من صناديق القمامة، وقد رأيت بعيني مثل هذه المشاهد، وهم يعدون في بعض الولايات بالملايين.
البطالة: وانتشار معدلات البطالة وارتفاعها في أمريكا وغيرها.
عصابات الإجرام: كالمافيا وغيرها، وهي عصابات خطيرة للخطف، وللسرقة، وللقتل، وللاغتيال، ولتعاطي وبيع كل الأشياء بلا استثناء.
الديون الفردية: كل الأفراد مدينون في أمريكا، والديون الفردية تزيد الآن على (4.
4 تريليون دولار) على أفراد الشعوب الأمريكية! فكل فرد مدين وهو يقضي حياته كلها في تسديد الديون: دين للسيارة، دين للبيت، دين للزواج، دين لكل شيء، وهذا أمر خطير بدأ يتسرب أيضاً للبلاد الإسلامية.
التعليم وانهياره: حتى إن هناك كتابا ًانتشر ودرس، عنوانه: أمة معرضة للخطر -أظن أني سبق أن تحدثت عنه- يتكلم عن انهيار التعليم في أمريكا.
الإعلام وخطره أيضاً، التجسس على الأفراد، أو على الدول، أو على المؤسسات، والتجسس المضاد أيضاً.
النعرات العنصرية في أمريكا، والصدام بين البيض والسود مثلاً، وقد حدثت كما تعرفون أحداث كثيرة من هذا القبيل في العام الماضي، وراح ضحيتها عشرات الأفراد، ومليارات من الأموال.
تلوث البيئة: وهو أحد الأمراض الخطيرة، الأمراض الفتاكة كما أسلفت، الفشل السياسي والفضائح الكثيرة التي تلاحق البيت الأبيض وتلاحق جميع مراكز الإدارة والسياسية في فرنسا، وفي إيطاليا، وفي بريطانيا، وفي ألمانيا، وفي غيرها.
وعلى سبيل المثال: هناك عشرات بل مئات المقالات موجودة عندي تتحدث فقط عن الفشل السياسي في أمريكا، ومشكلات داخل البيت الأبيض، وقضايا تتعلق بشخص الرئيس هناك، وفضائح عن ذاته، وعن علاقاته، وعن إخوانه، وأخواته، ومن الذي سجن بالمخدرات، ومن الذي سجن بالسرقة، ومن ومن، وبعض القضايا المتعلقة به، وأشياء شخصية تدل على أن هناك -فعلاً- إخفاقات كثيرة، وفشلاً في الإدارة، وتأخراً في الإنتاجية.
أيضاً الفضائح التي تلاحق الإيطاليين اليوم، يومياً فضائح تكشف عن رجال الحكم هناك، وكثير من رجال السياسة هناك لم يعودوا لامعين لشعوبهم بما فيه الكفاية.
فهذه قائمة طويلة، وعندي فيها معلومات كثيرة لعل جلسة خاصة -إن شاء الله- تخصص لمثل هذه الأمور، لأنها لا تخلو أيضاً من عبرة، وطرافة في بعض الأحيان، وبغض النظر عن هذا كله إلا أن الجميع يتفقون على وجود صعوبات جمة تنتظر المسيرة الغربية عامة، وتنتظر المسيرة الأمريكية على وجه الخصوص.
ولقد كنا في يوم من الأيام نقرأ كلاماً كهذا عن انهيار الحضارة الغربية، وأذكر أنه وقع في يدي كتاب للأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى اسمه: المستقبل لهذا الدين، فقرأت فيه فصلاً بعنوان: انتهى دور الرجل الأبيض، وهو يتكلم كلاماً شبيهاً بهذا، عن أن دور الغربيين قد انتهى، وجاء دور المسلمين الذين يجب أن يحملوا ويقدموا للعالم الحل، فكنا نعلم أن ذلك حق، ولكن الإنسان يراوده شيء مما يرى من هيمنة الغرب، ومما يسمعه من المستغربين الذين كانوا يعدون هذا الكلام أضحوكة يسخرون بها ويتلهون بها، بل حتى الصالحون داخلتهم الظنون في ذلك، وصار إيمانهم أحياناً نظرياً، فهم يقولون نعم صحيح ولكن! إذاً: عندهم شك ويتوقعون أن العالم الغربي سيظل مهيمناً لفترة طويلة غير منظورة، حتى المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله وهو مفكر عميق، واجتماعي متخصص، إلا أنه مع ذلك كان يميل إلى القول بخلود الحضارة الغربية وأبديتها في الدنيا، ثم تراجع عن ذلك وأعلن خلافه.
ونحن إذاً نفرح ونسر لكل حديث عن سقوط أمريكا أو الحضارة الغربية، لأننا وإن جاءنا بعض إنتاجها، وبعض تيسيراتها المادية والحضارية، إلا أنها أصلتنا بنارها في مجتمعاتنا وأممنا، فنحن وإن كنا كأفراد في نعمة، إلا أننا كأمة في خطر، ولا يجوز أبداً أن ننظر إلى الناحية المادية، أو الأنانية، أو الفردية فحسب، وأردد وترددون مع الشاعر هذا الأبيات: أنا ضد أمريكا إلى أن تنقضي هذي الحياة ويوضع الميزان أنا ضدها حتى وإن رقَّ الحصى يوماً وسال الجلمد الصوان بغضي لأمريكا لو الأكوان ضمت بعضه لأنهارت الأكوان هي جذر دوح الموبقات وكل ما في الأرض من شر هو الأغصان من غيرها زرع الطغاة بأرضنا ومن ذا سواها أكبر الطغيانا حبكت فصول المسرحية حبكة يعيا به المتمرس الفنان هذا يكر وذا يفر وذا بهذا يستجير ويبدأ الغليان حتى إذا انقشع الدخان مضى لنا جرح وحل محله سرطان وإذا ذئاب الغرب راعية لنا وإذا جميع رجالنا خرفان وإذا بأصنام الأجانب قد ربت وبلادنا ورجالها القربان إذاً: لا نلام حينما نبغض هذا الصنم الذي مارس ألوان التسلط على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
أيها الأحبة: إن سنة التغيير قطعية، والتاريخ ما توقف لغير فوكوياما حتى يتوقف له، أما الشرع ف(39/7)
الجهاد بالدعوة إلى التوحيد
ومن الجهاد الدعوة إلى الإسلام في بلاد المسلمين، ليكون الإسلام هو الأساس الذي عليه يجتمعون ومنه ينطلقون، والدعوة إلى التوحيد، توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة، ونفي جميع الأوثان والأنداد والأصنام التي ما أغنت عن المسلمين شيئاً، ولا يمكن أن تغني عنهم شيئاً، ولا يمكن أن يكونوا مسلمين حقاً وهم يرونها بين أظهرهم، ويسكتون عنها أو يداهنونها.
فلا بد من توحيد الله تعالى، وصرف جميع أنواع العبادة له، فلا حب إلا لله، ولا خوف إلا منه، ولا رجاء إلا فيه، ولا عبادة لغيره، وكل ألوان العبادة: الصلاة، والصيام، والذبح، والنذر، والحكم، والعبودية، كلها تصرف لواحد جل وتعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] .
إن الفرد بالتوحيد لله تعالى ينضبط في عمله، وتستقر نفسه، وعقله، ويثمر، وينتج، ويصبح إنساناً فعالاً مؤثراً في هذه الحياة.(39/8)
الجهاد بأسلمة النظم
ولا بد أيضاً من اعتماد الشريعة الإسلامية في جميع الشرائع، وفي جميع الأنظمة، وفي جميع الإدارات، فلا يكون هناك مصدر آخر للتقنين أو التشريع غير الإسلام، وعلى كافة المستويات الداخلية: في علاقة الأفراد بعضهم ببعض، أو علاقة الحاكم بالمحكوم، أو علاقة الرجل بالمرأة، أو الخارجية في علاقة المسلمين بالدول الأخرى عربية كانت أو إسلامية، أو عالمية.
وكذلك في الاقتصاد، أو الإعلام، أو التعليم، أو العلاقات الاجتماعية، أو غيرها، فنسلم لله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] .
إذاً لا بد من إقامة الحياة الإسلامية في بلاد المسلمين كلها على أساس الإسلام عقيدة وشريعة، وإذا آمنا بذلك، وسعينا في تطبيقه بصدق وجد، فحينئذ التقصير، والنقص، والخطأ غير المقصود يصحح على مدى الأيام.
وإذا وجد المسلم الواثق بدينه، والواثق بمستقبله، الذي يعلم أنه لا حل إلا في الإسلام، ويحرك طاقاته في هذا السبيل لأدركنا حقاً ويقيناً وصدقاً أننا -لا أقول سوف نحرر بلاد الإسلام منهم- بل سوف نملك حتى موضع أقدامهم، كما قال هرقل: {لئن كان ما تقوله صدقاً لسوف يملك ما بين قدمي هاتين} .(39/9)
الجهاد بعرض شمولية الإسلام لغير المسلمين
ولا بد من دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ودعوتهم إلى العقيدة الإسلامية التي هي الحل لكل المعضلات الفلسفية التي تعبث بعقولهم، ودعوتهم إلى المنهج الأخلاقي البديل عن الفساد، والانحراف، والفوضى، والأنانية الموجودة في بلاد الغرب، والذي يُؤمن لهم الرحمة، والتعاون، والأخوة التي يفتقدونها، ولا بد من دعوتهم إلى المنهج التعبدي الذي يربط الإنسان بربه في عالم الماديات والآلة.
ولابد من دعوتهم إلى الاقتصاد والسياسة على نمط الإسلام، وتقديم المنهج الإسلامي الصحيح من خلال معاهد ومؤسسات تطرح هذا الجانب، فالإسلام جذاب في كل شيء، كما هو جذاب في عقائده، هو جذاب أيضاً في أخلاقه، وفي عبادته، وفي منهجه للحياة، ولابد من تصحيح النظرة الغربية التي أصبحت موجودة لدى المواطن الغربي عن الإسلام والمسلمين.
ثم لا بد من الإفادة من معطيات العصر، ووسائل الإعلام، ووسائل الاتصال المختلفة، والتقنيات الحديثة واللغات في إيصال الدعوة إلى أولئك القوم وشرح الإسلام لهم، إن من المدهش والمحزن أن تجد مكتبات ضخمة في الكونجرس في أمريكا، وفي بريطانيا وفي غيرها، فيها كل كتب الدنيا، ثم إذا بحثت عن الكتب الإسلامية لا تجد أي كتاب موجود، وفي بعض الأحيان لا تجد إلا الكتب التي تمثل اتجاهاً خاصاً ككتب الرافضة -مثلاً- أو الإباضية، أو القاديانية، أو غيرهم من أهل البدع وأرباب الضلالة.
أولئك الطلاب أو غيرهم من الذين يذهبون من العالم الإسلامي إلى الغرب، ويقيمون في أوساط الأمم الغربية، دارسين أو موظفين: هل حملوا المشعل؟ أم أنهم منهزمون في داخلهم، منهزمون عقائدياً، وحضارياً، وإن كانوا يتكلمون بألسنتهم بغير ذلك؟ فلسان حال أحدهم يقول: أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم أتلقاك وطرفي مطرق خجلاً من أمسك المنصرم ويكاد الدمع يهمي عابثاً ببقايا كبرياء الألم أين دنياك التي أوحت إلى وتري كل يتيم النغم؟! كم تخطيت على أصدائه ملعب العز ومغنى الشيم وتهاديت كأني ساحب مئزري فوق جباه الأنجم حلم مر كأطياف السنا وانطوى خلف جفون الظلم أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم فاحبس الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم إن الكثيرين يتكلمون بمثل هذه العبارات والكلمات والأقوال، أي أنهم منهزمون أمام الغرب، فهم لا يقدمون الإسلام بقوة، ولا يطرحونه بشجاعة في أخلاقهم، وسلوكهم، وأعمالهم، واتصالاتهم، وجهودهم هناك.(39/10)
نماذج تبشّر بالخير
ومع ذلك فإن المستقبل مشرق، ومن أجل كلام أكثر تفصيلاً أطرح هذه النماذج السريعة، التي لا يسمح الوقت بأكثر منها:-(39/11)
الدعوة داخل الجيش الأمريكي
المجلس الإسلامي الأمريكي: هذا مجلس في مجال دعوة المجندين، وقبل دقائق سلمني أحد الإخوة رقعة أو قصاصة من جريدة المسلمون تتكلم عن المسلمين الموجودين داخل الجيش الأمريكي، وأعتقد أنه قال: إن عدد المسلمين هناك حوالي ثمانية آلاف مسلم في الجيش الأمريكي، لكنهم -كما يقول المقال- بلا مفتٍ، وبدون رتب كبيرة، وبلا تأثير، هذا في العدد (421) لكن الكلام الذي سوف أقوله مختلف بعض الشيء، فقد وصلني تقرير يقول: إن هذا المجلس الإسلامي الأمريكي المسئول عن الدعوة بين المجندين الأمريكان، يديره شخص يتبعه مجموع من الأفراد وهم قليلون على كل حال، لكن الغريب أن هذا المجلس كُون من قبل وزارة الدفاع الأمريكية وبرضاهم وموافقتهم.
أي دولة عربية أو إسلامية تجعل هناك جهة مسئولة عن التوعية والإرشاد الديني والإسلامي في صفوف جيوشها وشعوبها، ويوجد في هذه البلاد بوادر ومكاتب مسئولة عن ذلك، نسأل الله تعالى أن يمنحهم القوة والفرصة لممارسة دورهم وجهدهم.
أما في كثير من الجيوش الإسلامية فإن مجرد وجود كتاب إسلامي، أو محاضرة يعتبر أمراً خطيراً، لكن المهم أن وزارة الدفاع الأمريكية أوجدت ما يمكن أن نسميه مكتباً للتوعية الدينية خاص بالمسلمين، وأعطته صلاحيات واسعة، فنظمت لهم رحلة حج، وقام معهم ذلك المسئول، ومنحت ذلك المسئول رتبة عليا -جنرالاً في الجيش الأمريكي- وأعطته فرصة وإمكانية أن يدخل إلى جميع القواعد العسكرية الأمريكية -بحرية أو جوية أو برية- ويتفقد أحوال المسلمين هناك، وينظم جداول لزيارتهم ومحاضرات ودروساً تلقى لهم، وكتباً وأشرطة توزع عليهم، وجعلت هناك تعميماً على جميع مؤسساتها للمواصفات المطلوبة، ما هو الطعام الذي يقدم للجندي أو الضابط المسلم؟ وما هو الشراب الذي يقدم له؟ وما هي الأعياد التي يسمح له بالاحتفال بها؟ من أجل مراعاة المسلمين ومنح الحرية لهم حتى داخل الجيش الأمريكي.
وفي ذلك المقال الذي تلوته عليكم قبل قليل صورة لمجموعة من المسلمين وهم يؤدون الصلاة هناك، فضلاً عن تكوين بعض المواد الإعلامية من أفلام وأشرطة للتثقيف والتدريب والتعريف بدين الإسلام، وحرية دعوة غير المسلمين إليه أيضاً، وكذلك دفن الموتى على الطريقة الشرعية، بالإضافة إلى هذا كله فقد سمحت وزارة الدفاع الأمريكية، بأن يعلن هذا المجلس عن نفسه في جميع المطبوعات والمجلات والصحف التي تصدرها وزارة الدفاع.
إذاً: أمامنا فرص لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام لو كنا جادين وصادقين، وقد تكون هذه الفرص -أحياناً مع الأسف- أعظم وأكبر من الفرص الموجودة في بعض الدول العربية والإسلامية.(39/12)
الدعوة بالتخطيط في بعض المراكز الإسلامية
النموذج الثاني: هو نموذج مختلف بطبيعة الحال -إنما المقصود التنويع- وهو مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في أنقرة بتركيا، وقد عقد مؤتمراً تعاونياً للمرة الثانية، وحضره جمع من العلماء المسلمين من مصر، وبلاد المغرب، وباكستان، والهند، وغيرها، وتفرعت عنه عدة لجان منها لجنة خاصة بالعلم والتكنولوجيا، وأصدرت توصيات كبيرة وعظيمة، ولكنها نظرية بطبيعة الحال، ولجنة أخرى للتنظيم والتشكيل بتقسيم العالم الإسلامي إلى أقاليم، وإلى ولايات وإلى أقسام، والتركيز عليها، ولجنة ثالثة للعمل التربوي في أوساط المسلمين، ولجنة رابعة للإعلام الإسلامي وتقديم البديل، ولجنة خامسة للمناهج الاستراتيجية، وخرجت بتوصيات كبيرة وبناءة.
المهم والخطر أن هذا المركز وهذا المؤتمر لم يحدد الجهة التي يمكن أن تنفذ هذه التوصيات، وهذا هو المشكل، أو كما يقال من يعلق الجرس، فمن الممكن جداً أن يرسم حتى فرد واحد توصيات كثيرة، لكن من الذي يتولى التنفيذ في ظل غياب الإرادة الإسلامية الصحيحة من المسلمين حكومات وشعوباً وأفراداً تجاه ذلك.(39/13)
التقدم التقني والاقتصادي
النموذج الثالث: ماليزيا فنسبة الارتفاع في معدلات النمو في ماليزيا سبعة إلى عشرة في المائة باطراد، وهم يخططون إلى أن يكونوا عام (2000م) وقد وضعوا حداً، وسيكونون دولة اقتصادية وصناعية عظيمة في مصاف الدول الكبرى، فهم خططوا لذلك ورسموا وسعوا وفعلوا وحققوا تكريماً لليد العاملة الماليزية، وحققوا نقلاً للتقنية والتصنيع، وحققوا تقدماً اقتصادياً حتى إنهم يصنعون الآن ألوان الصناعات: السيارات، والمكيفات، والآلات، والأسلحة، وغيرها.
حتى إن السيارة التي يستقلها رئيس الوزراء هي نفسها صناعة محلية، وهي تجربة ضخمة تستحق الدراسة، وعندي عنها مقالات وأشياء كثيرة، وربما يكون ذلك الذي لاحظ خطورة التعاون الإسلامي الكونفوشي كما سماه -التعاون بين المسلمين وبين الصين- ربما لاحظ وجود نوع من التقارب بين ماليزيا والدول الآسيوية، وبين الصين، واليابان، وبعض تلك الدول.
وهذا أمر جيد ينبغي أن يطرحه المسلمون، حيث يكون هناك نوع من التعاون، ونقل التقنية، والتصنيع والاقتصاد المتبادل بين المسلمين وبين تلك الدول كبديل عن العالم الغربي الذي أثبت انحيازه لليهود، وانحيازه للنصارى في البوسنة، وتعصبه لمصالحه الذاتية والشخصية.(39/14)
إيجابيات في الحضارة الغربية
ونحن نتحدث عن الغرب لا بد أن نتحدث ونشير إلى بعض هذه الإيجابيات، ويظن البعض أننا نتجاهل الإيجابيات العظيمة الموجودة في المجتمع الغربي، وأننا ننظر -فقط- للجانب المظلم أو المعتم منه، وهذا خطأ، لكن طبيعة الحديث تقتضي التركيز على ذلك، وإلا فهناك إيجابيات عظيمة، أذكر منها ثلاثاً تقريباً بإيجاز واختصار، وإنما اخترتها لأنها تتعلق بموضوع حديثناً:(39/15)
صدق الغرب مع نفسه
أولاً: الغرب صادق مع نفسه، وواضح، ومباشر، ومهتم بعرض المشكلات ومعالجتها في الهواء الطلق، بل والغرب يرصد الميزانيات الضخمة لمثل هذا العمل، ولدراسة المشاكل الموجودة وتحديدها، ويقيم المراكز، ويتيح لوسائل الإعلام، تلفزة أو صحافة، كل الوسائل التي تضمن قدرتهم على معالجة المشكلة وعرضها، أما نحن المسلمين فنعتمد أسلوب التعتيم، والتعمية، والتستر على المشكلات، ونعتقد أن الصمت، والزمن كفيل بحل المشكلات، مع أنه ربما يكون الصمت والزمن سبباً في زيادتها وتفاقمها.
مثال: أمة معرضة للخطر كتاب -كما قلت قبل قليل- يتحدث بعد إعداد من لجنة مكونة من ثمانية عشر خبيراً يمثلون جميع القنوات الغربية الأمريكية درسوا على مدى ثمانية عشر شهراً، ثم أعدوا تقريراً نشر في العالم، وفي جميع وسائل الإعلام يتكلم عن الخطر الذي يهدد الغرب، ويهدد أمريكا، من خلال عملية التعليم ويدعو إلى الإصلاح، وما قالوا: إنه تقرير سري، ولا خاص، ولا رأوا أن في نشره إثارة لفتنة، ولا تقليلاً من ثقة الشعب بحكومته.
مثال آخر: الموضوع الذي نتحدث عنه الآن، جاءتني الآن ورقة من أحد الإخوة يقول: إنك خلال كلمتك تحدثت عن مجموعة من الكتب التي نشرت في أمريكا، وهي تتحدث عن سقوط أمريكا وانهيارها، وتراجع اقتصادها، فلماذا لم يحاكم أولئك الذين كتبوا هذه الكتب؟ وهذا السؤال قرأته الآن، وهذا شيء عجيب، إن الغرب ربما يقدم جوائز لأولئك الذين ينتقدونه، والذين يتكلمون عن مشكلاته، وربما يتحدث عن كتبهم علانية، والناس يقبلون عليها، وأجهزة الإعلام تعرضها بطرق مختلفة، ولا يملك أحد أن يعترض على مثل هذه الأشياء.
فمفهوم التقهقر الغربي يعالج، ويطرح على خطورته، وعلى حساسيته، وأنهم يتناولونه بشيء من الحذر أحياناً، إلا أن الكتب والصحف والمجلات، أصبحت تتناوله بوضوح، لأنهم يدركون أن السكوت عن هذا، أو إغماض الأعين لا يعني أن الغرب أصبح يترقى، ولا يعني أن الانهيار توقف، فهم يرون أنه إن كان ولا بد من الانهيار، فليكن انهياراً نشهده نحن بعيوننا، ونسعى على الأقل في تخفيف حدته، أما أن نواجهه بالمشكلة بعدما استفحلت، وتعاظمت، وأصبحت مواجهتها كالمستحيل، فلا فائدة من ذلك.
وهناك ميزات أخرى في الحضارة الغربية لبسطها مقام آخر، ويفيدنا كثيراً التعرف عليها والاستفادة منها.
أسأل الله تعالى أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين واليهود والنصارى والوثنيين والمنافقين وسائر أعداء الدين، آمين يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(39/16)
إرضاء الله تعالى
إن الرضا بالله عز وجل رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً له مقتضيات يجب تحقيقها.
ولذلك فقد تكلم الشيخ حفظه الله عن هذه الأمور التي تقتضيه، وبين كذلك كيفية تحقيقها قولاً وعملاً، وبين أنه لا ينال ثمارها ولا يستحق وعدها إلا من حققها قولاً وعملاً وأن من كان كذلك يبشر بثلاث بشائر هي: 1- حصوله على إيمان يجد لذته في قلبه.
2- غفران ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر.
3- يرضيه الله يوم القيامة ويجعله من أهل الجنة.(40/1)
الرضا بالله رباً
الحمد لله فاطر السماوات والأرض، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين.
أيها الإخوة غاية ما يصبو إليه كل مؤمن في هذه الدنيا هو: أن يحصل على السعادة المطلقة في الدارين، وأي مطمحٍ أو مطمع يتمناه الإنسان أكثر من أن يمنحه الله في هذه الدنيا الرضا والسعادة في قلبه؛ ثم أن يصير بعد الموت إلى جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟! والرسول عليه الصلاة والسلام قد بيَّن لنا الطريق إلى ذلك بعبارات شتى.
فنوع في القول وأبدأ وأعاد، حتى تكتمل الحجة على كل إنسان.
ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام حدثنا في أحاديث كثيرة؛ مبيناً أن الوسيلة إلى تحصيل هذا المطلب: هي أن يحقق العبد الرضا بالله رباً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً.
فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وجبت له الجنة} وهذا الحديث رواه أبو داود بإسناد حسن، فرتب على قول هذه الكلمة: الجنة دون أن يقيد ذلك بوقت معين، فمن قال: رضيت بالله رباً، أي: ولو قالها مرةً في عمره، على ظاهر هذا الحديث، وقد وردت أحاديث أُخر في هذه الكلمة مقيدة بأوقات خاصة منها ما رواه ابن ماجة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبد أو إنسان أو مسلم يقول حين يصبح وحين يمسي: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً إلا كان حقاً على الله أن يرضيه يوم القيامة} وهذا الحديث رواه ابن ماجة بإسناد حسن، وروى أبو داود والنسائي نحوه.
فقيَّد قول هذه الكلمة بأن يقولها حين يصبح وحين يسمي -وهو كما سمعتم حديث حسن- فهو يدل على أنه يشرع لكل مسلم أن يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
وفي حديث ثالث بين النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية قول هذه الكلمة عند سماع الأذان؛ فروى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، ثم قال: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، غفر له ذنبه} فقيَّد قول هذه الكلمة عند سماع الأذان، ولعل المقصود أن يقولها بعد سماعه للشهادتين؛ لما ورد في رواية أخرى لـ مسلم أنه قال: {من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله} .(40/2)
الوعد المترتب على قولها في الدنيا والآخرة
ففي هذه الأحاديث: وعد الرسول صلى الله عليه وسلم من قال هذه الكلمة بوعود، منها: أن يرضيه الله تعالى يوم القيامة، ومنها أن يدخله الجنة، ومنها أن يغفر له ذنبه؛ وكل هذه أشياء ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، فإذا وعد قائل هذه الكلمة بهذه الوعود الثلاثة من غفران الذنوب، وإدخال الجنة، والرضا عنه وإرضائه؛ فلابد أن يؤمن المسلم بهذا الوعد، ويعلم أن الله تعالى من كرمه وجوده أنه إذا وعد المسلم -على عمل صالح- بوعد؛ فإنه يحققه له.
أما إذا توعده على ذنبٍ بوعيد؛ فإنه قد يغفر ويعفو ويسامح؛ تكرماً منه وفضلاً.
ولذلك ذكر الإمام الخرائطي في كتابهمكارم الأخلاق"أن رجلاً من المعتزلة -وهو عمرو بن عبيد - جاء إلى الإمام المقري القاري اللغوي أبي عمرو بن العلاء، فقال له: يا أبا عمرو أرأيت إذا وعد الله عبده وعداً على عمل صالح، فهل يمكن أن يخلفه الله، قال أبو عمرو: لا.
لا يمكن أن يخلف الله وعده، قال: فإذا وعد عبداً على معصية بعقوبة فهل يمكن أن يخلف وعده، فقال له أبو عمرو بن العلاء: إنما أوتيت من جهلك بلغة العرب؛ لأن العرب تطلق الوعد على الأمر الصالح وعلى الخير، وعلى العِدة بالرضوان أو بالجنة أو بالعطاء، أو بما أشبه ذلك، أما ما كان عقوبةً فإن العرب تسميه وعيداً، ولا تسميه وعداً.
ألم تسمع إلى قول الشاعر -وهو عامر بن الطفيل - حيث قال: ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ولا أختتي من سطوة المتهدد يعني: لا أخاف، ولا أبالي، ولا يتغير لوني من سطوة المتهددين.
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فالعرب تقول الوعد فيما كان من الوعد بخير، أما ما كان بشر فتسميه وعيداً.
فمن كرم الله وجوده أنه إذا وعد العبد -على عمل صالحٍ- بجزاء؛ فإنه لا يخلف هذا الوعد وهذا فيما يتعلق بالدار الآخرة.
أما فيما يتعلق بالدنيا فقد روى مسلم في صحيحه عن العباس بن عبد المطلب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ذاق طعم الإيمان! من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً} .
ومن ذاق طعم الإيمان، فإنه يجد السعادة في قلبه وفي حياته في هذه الدنيا؛ ولذلك فإنك تجد من هذه النصوص أن هذه الكلمة فيها سر السعادة في الدنيا وفي الآخرة.
أفلا يجدر بك أيها المسلم وأنت تسمع هذا الوعد -على لسان الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام- من الله الذي لا يخلف وعده؛ أن تتأمل في هذه الكلمة؟ ولماذا رتب الرسول صلى الله عليه وسلم على قولها وتحقيقها هذه الوعود العظيمة؟ بلى، إنه لجدير بنا أن نتأمل هذه الكلمة، ونعمل على تحقيق معناها في واقع حياتنا، فأول ما ينبغي للمسلم: وهو أن يدرب نفسه ويعودها على قول هذه الكلمة مع ورده في الصباح والمساء؛ لأن النطق بها -بلا شك- فضيلة؛ لكن النطق المجرد لا يكفي -كما هو معروف- والأمور الشرعية لم يكن ترتيب الجزاء المطلق عليها بمجرد النطق بها؛ بل لا بد من أمور أخرى وراء ذلك، وسأبين بعض هذه الأشياء حسب ما يتسع له الوقت.(40/3)
الرضا بالله ومقتضياته
فأما قولك: رضيت بالله رباً، فإنه لا بد أن يكون إخباراً عن أمر صادق ولا بد أن يكون إخباراً عن صدق؛ أما من يقول بلسانه: رضيت بالله ربا، وهو في واقع حياته غير راضٍ بالله ربا؛ فإنه إنما يكذب قوله بفعاله؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً} فلم يقل: من قال، بل من رضي يعني: حقق قوله بفعله.
والرضا بالله عز وجل يشمل عدة أمور:(40/4)
التوكل على الله وحده في كل الأحوال
ومن تحقيق الرضا بالله رباً: ألَّا يتوجه الإنسان إلا إلى الله تعالى، فلا يطلب الخير إلا منه، ولا يطلب دفع الشر إلا منه؛ فهذا يحقق له التوكل على الله؛ وذلك لأنك حين تقول: إنني قد طلبت من فلان أمراً وقد رضيت به، معناه أنك قد اكتفيت بفلان هذا، فلم تعد تطلب هذا الأمر من غيره؛ لثقتك بحرصه على تحقيق ما تريد.
وكذلك أنت حين تقول: رضيت بالله رباً؛ فإنك تعني: أنك لا تطلب الأمور حقيقةً إلا من الله تعالى؛ ولذلك ورد في صحيح مسلم وغيره في الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أنه رأى أمته وقيل له: إن فيهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل منزله، فبات الناس يدوكون ليلتهم في هؤلاء الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب.
فقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يدركوا الجاهلية، وقال بعضهم أشياء، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هم الذي لا يسترقون، ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون} .
فبين أن أساس فضيلة هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، هي: أنهم حققوا التوكل الكامل على الله عز وجل -وعلى ربهم يتوكلون- حتى إنهم من شدة توكلهم على الله تعالى لا يسترقون، يعني: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم فيقرأ عليهم إذا مرضوا، ولا يتطيرون أي: لا يتشاءمون أو يتفاءلون بهذه الطيور؛ لمعرفتهم بأن كل شيء بقضاء وقدر، ولتوكلهم على الله تعالى.
فتحقيق التوكل على الله تعالى هو من الرضا بالله رباً، يعني: أنك رضيت بالله في تحقيق ما تحب، ودفع ما تكره؛ وحين تستعين بالناس في أمر من أمور الدنيا، فلا بد أن تدرك أن هؤلاء الناس إنما هم أسباب يحقق الله على أيديهم ما يشاء.
فلا بد -حين تستعين بأحد في أمر من الأمور- أن تعرف أن هذا الإنسان الذي استعنت به؛ إنما هو وسيلة يحقق الله تعالى على يديه ما أراد لك من خير، أو يدفع بسببه عنك الشر.
وهذا من الرضا بالله رباً.(40/5)
تحقيق العبودية لله وحده والكفر بالطاغوت
ومن الرضا بالله رباً: تحقيق العبودية له، وهي تعني: ألَّا تعبد غيره، فترضى به إلهاً معبوداً، ومن المعلوم أن الألوهية: هي توحيد الله تعالى بأفعال العباد؛ فتدرك أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله تعالى، ثم تحقق هذا في نفسك، فتعبد الله وحده لا شريك له، وهذا يتطلب من كل مسلم أمرين: الأمر الأول: الكفر بالطواغيت وليست الطواغيت -كما يتصور كثير من السذج- محصورة في الحجارة التي كان الناس في الجاهلية ينحتونها ويسجدون لها ويعبدونها، فهذه صورة بدائية ساذجة من صور عبادة غير الله والإيمان بالطواغيت؛ فهناك مئات أو آلاف الصور التي قد يعبد الإنسان فيها هذا الطاغوت، أو يؤمن بالطاغوت غير هذه الصورة، منها مثلاً: الصورة الموجودة في كثير من البلاد الإسلامية من تقديس الأولياء، ودعائهم، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكروب، ودفع الضر وغير ذلك، وهذا موجود في كثير من البلاد الإسلامية.
ومنها ما يقع فيه كثير من الشباب من ذريات المسلمين من اعتناق المذاهب الأرضية البشرية المناهضة لدين الإسلام، كمن يؤمنون بالإشتراكية مثلاً، أو بالقومية، أو بالبعثية، أو بالعلمانية، أو بغيرها من المذاهب والنظريات التي وضعها الناس لتنظيم حياة البشر؛ فهي دين آخر غير دين الإسلام، يعبد الناس فيها رباً غير الله تعالى.
ومن صور الإيمان بالطاغوت: تحكيم القوانين الوضعية في الأنفس والدماء والأموال والأعراض في بلاد المسلمين وهذا بلاء عم وطم، ومع الأسف أن كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام اليوم لا يفرقون بين الإسلام وبين هذه القوانين، وربما فضل بعضهم هذا القانون على دين الله عز وجل وشرعه، لأن في هذا القانون -مثلاً- مصلحة شخصية له، أو تسهيلاً عليه في أمر من الأمور، أو لأنه يعتقد أن في الإسلام قسوة أو شدة أو أحكاماً لا تتناسب مع هذا الواقع، وهذا كله كفر بالله العظيم، مؤدٍ إلى الردة الكاملة، وخروج معتقد ذلك وفاعله عن دين الإسلام إلى دين الطاغوت والعياذ بالله.
ومن الإيمان بالطاغوت: أن يفضل الإنسان في واقع حياته الأشياء الدنيوية على الأمور الأصولية التي لا قيام للإسلام إلا بها فمثلاً: تجد من الشباب من يسمع منادِ الله عز وجل في كل يوم -حي على الصلاة حي على الفلاح- وبيته مجاور للمسجد، فلم تحدثه نفسه يوماً من الدهر أن يجيب هذا المنادي، ويقول: لبيك يا رب، ويأتي إلى المسجد ليصلي مع المسلمين، أو حتى يصلي في بيته، لكنه يسمع خبراً في الإذاعة أو في الجريدة أو في غيرها أن هناك دورة ألعاب تقام في مشرق الأرض أو في مغربها أو في أي أرض من الدنيا؛ فيتجشم الصعوبات، ويزيل العقبات! فإن كان عنده اختبار أجله، أو عنده ظروف تغلَّب عليها، ولو كان أهله أو أقاربه في أمس الحاجة إليه، ضرب بذلك كله عرض الحائط، وذهب من أجل هذا الأمر! فهذا يؤكد لك: أن هذا الشاب الذي استجاب لنداء الشيطان -في هذا الأمر- ولم يستجب لنداء الله تعالى -الذي يطرق أذنه خمس مرات- أن هذا الإنسان مؤمنٌ بهذا الطاغوت الذي ملأ قلبه حتى لم يعد في قلبه محلٌ لغيره، ولذلك يترك الصلاة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر عند مسلم: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} وفي الحديث الآخر في السنن: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} -وكل هذه أحاديث صحاح- ويرضى بالكفر، في حين أنه يرتكب أشد الصعوبات من أجل حضور مباريات رياضية.
وقل مثل ذلك في أمور أخرى كثيرة.
ومن صور عدم تحقيق العبودية لله والكفر بالطاغوت: أنك تجد كثيراً من الناس قد أصبحوا عبيداً للدرهم والدينار والقرش والريال.
ولا يلزم من ذلك أن يصنعوا تمثالاً من ذلك، لكن أصبح هذا القرش أو الريال هو المعبود في قلوبهم؛ ولذلك في الصحيحين عن أبي هريرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة إلى آخر الحديث} .
فسماه عبداً لهذه الأشياء، فنحن نجد أناساً عبيداً لهذه الأشياء إما عبودية مطلقة، أو عبودية جزئية، فمن عبيد هذه الأشياء عبودية مطلقة: من فضلوها على الأصول التي لا قوام للإسلام إلا بها، كمن يشتغل بالدنيا بالحلال والحرام وبالمضاربات الربوية، وبكل وسيلة وبالختل والغش والخداع ومع ذلك تجد أنه في سبيل هذه الأشياء، قد يهزأ بالأمور الدينية، فقد يسخر بمن يحرمون الربا أو يمنعونه، أو بمن يوجبون الزكاة، أو بمن يذكرونه بالله عز وجل، وقد يعتبر من الجنون: أن يفوت الإنسان صفقة تجارية مراعاةً لحكم شرع، فهذا عبد العبودية المطلقة لهذا القرش والريال.
وقد تكون عبودية جزئية، كمن يكون قائماً بفروض الإسلام لكن قد غلب على قلبه حب هذه الأشياء، والاشتغال بها حتى فضلها على بعض الواجبات.
فكل هذه الأنواع هي نوعٌ من الإيمان بالطاغوت، والمسلم لا بد أن يكفر بالطاغوت أولاً، ثم لا بد أن يؤمن بالله تعالى ثانياً، فلا بد من أن يخلي قلبه من عبادة الطاغوت والإيمان به، ثم يملأ قلبه بالإيمان بالله تعالى، وعبادته، والتوجه إليه.
ولذلك كانت كلمة الشهادة -لا إله إلا الله- فيها نفي وإثبات؛ نفي الألوهية عن غير الله -وهذا يعني الكفر بالطاغوت- وإثبات الألوهية لله وحده، وهذا كقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] .
إذاً فتحقيق العبودية لله تعالى والكفر بالطاغوت هو من الرضى بالله تعالى ربا.
فهذه الأشياء كلها لا بد أن يعلم المسلم أنها داخلة ضمن قوله: رضيت بالله رباً، يعني آمنت به خالقاً رازقاً محيياً مميتاً لا شريك له في ذلك، ورضيت بقضائه وقدره على نفسي وأهلي ومالي وكل ما يتعلق بي، وقنعت بما رزقني وأعطاني فلا أتسخط على ذلك ولا أجزع منه، وتوجهت إليه بالعبادة فلا أعبد معه غيره.
فكل هذه الأشياء هي داخلة ضمن حقيقة الرضا بالله تعالى رباً.
وأما الرضا بالإسلام ديناً فيعني أموراً: أولاً: الإيمان بالإسلام وأنه هو النظام والدين الوحيد الذي لا يقبل الله تعالى من أحدٍ ديناً سواه، ولا ينجو في الآخرة ويدخل الجنة إلا أهله.
فمن اعتقد أن هناك طريقاً آخر إلى مرضاة الله والجنة غير الإسلام -مع الإسلام، أو من دونه- فهو مرتد، وهذا كما يوجد عند كثيرٍ من المنتسبين إلى الإسلام -مع الأسف الشديد- من اعتقادهم أن دين اليهود بالنسبة لليهود حق، ودين النصارى بالنسبة للنصارى حق، ودين المسلمين بالنسبة للمسلمين حق، فكأنهم يقولون: كل هذه طرق موصلة إلى الله تعالى، وأنت تجد مثل هذه الكتابات في بعض ما تكتبه مجلة العربي وتجد هذه الكتابات واضحة في فكر ذلك الكاتب المغربي المسمى: محمد أركون.
فتجد التشكيك في أن الإسلام هو الدين الوحيد الحق، الذي لا يقبل الله من أحدٍ ديناً سواه، فلا بد لمن رضي بالإسلام ديناً أن يعرف أن الرضا بالإسلام ديناً يقتضي أن تدرك أنه من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، وأنه لا طريق إلى رضوان الله والجنة إلا الإسلام، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: تطبيق هذا الإسلام في واقع حياتك تطبيقاً عملياً، أما من يقول: رضيت بالإسلام ديناً، ثم يرضى في واقع حياته بدينٍ آخر، أو بأديان شتى؛ فهذا من التناقض الذي لا يرضاه الله للمؤمنين.
أرأيتم من يقول: رضيت بالإسلام ديناً، ثم يتعامل بالربا ويرضاه ويقر به؟! أين الرضا بالإسلام؟ أين الرضا بحقيقة الإسلام؟ أرأيت من يقول رضيت بالإسلام ديناً، ثم يقر نظاماً اجتماعياً مخالفاً للإسلام، فيطالب بمنع الطلاق إلا عند القاضي، بحيث لا يقع الطلاق -ولو نطق به الزوج- إلا عند القاضي ووفق ضوابط معينة، أو يطالب بمنع تعدد الزوجات، أو يطالب بأشياء اجتماعية في قضايا المرأة والعلاقات الاجتماعية، تناوئ وتناقض دين الإسلام؟ هل يرضى الله عز وجل من إنسان أن يقول بلسانه: رضيت بالإسلام ديناً، ثم يقول في واقع حياته بصورة عملية -فيقول حاله إن لم يقل مقاله- إنه رضي بالاشتراكية ديناً، أو بـ القومية، أو بالقانون الفلاني، أو بالنظرية الفلانية، أو بالنظام الفلاني ديناً؟! هذا لا يكون.
بل هذا إن قال: رضيت بالإسلام ديناً؛ فإن دين الله وشرعه يقول له: كذبت، أنت لم ترض بالإسلام ديناً؛ فالذي يرضى بالإسلام ديناً يعني أنه اختار طريق الإسلام على غيره، ولو ترتب على ذلك بعض الخسائر الدنيوية.
فالإسلام له تضحيات، ومن يرضى بالإسلام سيضحي بأشياء، فقد يضحي ببعض المال، وقد يضحي ببعض المكانة، وقد يضحي ببعض العلاقات في سبيل تحقيق الإسلام، والرضا به، ولو كسب ذلك غيره ممن لم يرض حقيقة الرضا بدين الإسلام.
ثالثاً: أن تجعل الإسلام هو الحكم في علاقتك بالناس، فتوالي وتعادي فيه، فمن كان من أهل الإسلام أحببته وواليته، وإن كان من غير جنسيتك أو من غير بلدك أو من غير طبقتك، ولو لم ينفعك بأمر من الأمور؛ ومن كان عدواً للإسلام مناوئاً له حاربته وأبغضته، ولو كان أقرب قريب، ولو كان جارك أو أخاك أو ابنك، ولو كان ينفعك في أمور كثيرة من أمورك الدنيوية؛ فالمقياس عندك في علاقتك مع الناس هو الإسلام.
وهذه القضية مهمة -أيها الإخوة- ونحن نرى اليوم في مجتمعنا أعداداً من الشباب قد انسلخوا من هذا الدين والعياذ بالله وتطلعوا إلى غيره من الأديان البشرية الأرضية، والنظم الوضعية، والمذاهب الإلحادية وغيرها.
وأصبحوا يتكلمون عن ذلك في المجالس ويجاهرون به، وقد يجتمع أفراد العائلة كباراً وصغاراً، فينبري من بينهم شابٌ حدث السن، قليل العلم غراً، فيهجم على قضايا الدين، وعلى أهل الإسلام؛ وقد يتكلم في الله تعالى أو في الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في بعض نظم الإسلام وتشريعاته بملء فمه؛ ثم لا يجد من هؤلاء من ينكره عليه، أو يبين وجوب البراءة من هذا الإنسان ومحاربته بعد إقامة الحجة عليه، فقد لا تجد ذلك أحياناً.
فالواقع أننا اليوم ونحن نجد هذه البوادر ال(40/6)
القناعة بما قدر من أمور الدنيا
ثم هناك أمر ثالث يدخل في الرضا بالله تعالى، أو قد يكون جزءاً من الرضا بالقدر؛ لكنه وجه آخر، وهو: أن يقنع الإنسان بما أعطاه الله عز وجل من الأمور الدنيوية؛ فالإنسان أُعطي أشياء هي عبارة عن مواهب أو ملكات أو أعطيات من عند الله تعالى، ليس للإنسان يد في زيادتها ولا في نقصها.
فمثلاً العقل، ليس للإنسان قدرة أن يزيد من عقله أو ينقصه، وكذلك الأشياء الخلقية الطبيعية التي لا يمكن تغييرها، فهذه الأشياء ليس للإنسان يدٌ فيها، بل هي من عند الله تعالى، فلا بد أن يرضى الإنسان بالله رباً؛ فيقنع بهذه الأشياء؛ ولذلك قال الله عز وجل في سورة النساء: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] يعني: إذا رأيت إنساناً فضل عليك -مثلاً- بالجسم أو بالعقل أو بأي أمر آخر ليس مكتسباً يمكن التنافس فيه؛ وإنما هو هبة من الله عز وجل؛ فلا تتمنى ما أعطى الله فلاناً، أو تتسخط مما أعطيت، بل اسأل الله من فضله.
ولذلك قال سبحانه: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] ولذلك على ضوء الآية كون المرأة ترى ما فضل به الرجال، فتسخط كونها خلقت امرأة، وتتمنى أن تكون رجلاً؛ فهذا ينافي كمال الرضا وحقيقة الرضا بالله رباً؛ لأنه لا سبيل إلى تغيير ذلك، ومثل ذلك كون الإنسان رجلاً أو امرأة يتمنى -من هذه الأشياء الفطرية- ما عند فلان وفلان؛ مع أنه لا سبيل إلى تغيير هذه الأمور، فهي أمور ممنوحة من الله تعالى.
فهذا الأمر الأول: هي أشياء خلقية من الله تعالى.
والأمر الثاني: أمور دنيوية: من المال، ومن الجاه، ومن المنزلة، ومن السلطان , ومن المكانة الاجتماعية، ومن غيرها.
فقد تجد إنساناً فضل عليك بهذه الأشياء هو أغنى منك، وأوسع منك في الدنيا، وأحسن منك في المكانة الاجتماعية؛ وقد ترى المرأة امرأةً أخرى فضلت عليها بأشياء من هذه الأمور الدنيوية؛ فأيضاً يقنع الإنسان بما أُعطي من هذه الأمور ويرضى بها، ولا ينظر إلى من هو فوقه.
ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {انظروا إلى من هو دونكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم} فأنت في أمور الدنيا إذا نظرت إلى من هو دونك -وجرب ذلك- شعرت بحقيقة النعمة التي أنت فيها؛ لكن إذا نظرت إلى من هو فوقك شعرت بالحسرة على أنه فاتك ما عنده.
ولذلك من نظر إلى من هو دونه؛ رضي بما أعطاه الله، وأذكر في هذه المناسبة قصة وقعت لأحد الناس، وهي أنه كان رجلاً لا يولد له إلا الإناث، فسخط من ذلك وضاق به صدره، حتى إن زوجته لاحظت عليه هذا الأمر، وتمنت من أعماق قلبها أن تلد ذكراً، لكن الأمر ليس بيدها، ففي أحد المرات أُدخلت زوجته المستشفى للولادة، وكان عازماً على أنها إن ولدت أنثى أنه سيطلقها ويتزوج غيرها، أو ما أشبه ذلك.
وكانت زوجته خائفةً من ذلك، فلحظت عليها القابلة هذا الأمر، فسألتها فأخبرتها بالخبر، فأخبرت هذه المرأة الطبيب بذلك، وكان الزوج في الغرفة ينتظر خبر الولادة، فولدت المرأة أنثى، فقال الطبيب للمرأة: اطمئني لن يقع -إن شاء الله- إلا كل خير، فذهب إلى زوجها، وقال له: أبشر! قد ولد لك غلام، فتهلل وجه الرجل وفرح واستبشر، فقال له: ولكن هذا الغلام مشوه، فيه ارتجاج في المخ، وفيه تشويه في وجهه وفي يديه وفي رجليه، وفي سائر جسده، وبدأ يعدد له -من العيوب الخلقية في هذا الطفل المزعوم- أشياء كثيرة، حتى انقلب هذا الفرح في نفس الأب إلى حزن عميق، وعاد على نفسه يلومها، ويقول لنفسه: هذه عقوبة من الله عز وجل لي؛ حيث لم أرض بما رزقني من الإناث فعاقبني بهذه العقوبة، ونبهه هذا الأمر -الذي سمعه- وهذا الخبر، إلى تقصيره في السابق، وأن الواجب أن يرضى بما كتبه الله له، والخير فيما اختاره الله تعالى.
فوطَّن نفسه على الصبر والرضا والتسليم، وبعد أن هدأت نفسه وركن إلى الله عز وجل ورضي به، قال له الطبيب: إنما ولدت لك أنثى ليس فيها عيب؛ وإنما أحببت أن تضع نفسك في موضع من هو دونك، فتصور نفسك في موقع رجل لا يولد له إلا أولادٌ مشوهون، فيهم من العاهات والآفات الشيء الكثير، فتحمد الله عز وجل؛ أو تجعل نفسك في موقع إنسان لا يولد له ألبته، فترضى بما قسمه الله لك.
فلا بد أن يعرف الإنسان أن من كمال وتحقيق الرضا بالله رباً؛ أن يقنع الإنسان بما كتب له في هذه الدنيا، ولا ينظر إلى من هو فوقه في الأمور الدنيوية.
أما في القضايا الدينية: من عبادة وطلب علم، ومسابقة إلى الخيرات، فينبغي أن ينظر إلى من فوقه حتى يزيده ذلك إقبالاً وحرصاً على الخير، في حين أنه لو نظر إلى من دونه لقال: أنا في خير ونعمة، وأنا أحسن من فلان وفلان، فبقي على ما هو عليه، وربما قصر في بعض الطاعات.(40/7)
الإقرار بربوبيته تعالى
وأنه هو: الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع، الذي بيده تصريف الأمور وتدبيرها، وهذا القدر لا بد منه، ولكنه لا يكفي؛ لأنه حتى المشركون الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، كانوا يؤمنون بربوبية الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} [لقمان:25] فلم ينفعهم ذلك؛ ولكن الإيمان بربوبية الله أمر لا بد منه لما بعده، فلم يؤمن بربوبية الله من أنكر وجود الله تعالى كما هو مذهب الدهرية والشيوعيين الذين لا يؤمنون بوجود الله تعالى، وربما كان عدم إيمانهم لأغراض سياسية؛ لاستمرار دولتهم وحفظ مكانتها، أو للمحافظة على هذا المبدأ الذي جاء به زعيمهم ماركس.
ومع الأسف أن يوجد من ذراري المسلمين في جميع البلاد الإسلامية -من الشباب الأغرار- من تلقفوا هذه المبادئ الكافرة، ورضعوها وآمنوا بها وتحمسوا لها، وأصبحوا دعاةً على أبواب جهنم، من أجابهم إلى هذه المبادئ قذفوه فيها.
النوع الثاني ممن لم يؤمنوا بالله رباً: هم من يعتقدون أن هناك مصرفاً مع الله عز وجل -كما يعتقد كثير من المنتسبين إلى الإسلام- كالصوفية مثلاً، الذين يعتقدون أن من الأولياء والأقطاب والأبدال والأوتاد من لهم تصرف في شئون الكون: في الرزق، والإحياء، والإماتة، وغير ذلك.
ومثلهم -بل أشد منهم وأكثر- الرافضة الذين يعتقدون أن لأئمتهم خلافة تكوينية على كل ذرة من ذرات الكون، كما يقول طاغوتهم الأكبر الخميني في كتابهالحكومة الإسلامية: إن لأئمتنا خلافة تكوينية على كل ذرة من ذرات هذا الكون.
فهم يعتقدون أن هؤلاء الأئمة مشاركون لله تعالى في ربوبيته.
فلا بد من الإيمان بأن الله تعالى وحده هو الرب لا شريك له في ذلك؛ ثم لا بد من تحقيق الأمر الآخر المترتب على إيمانك بربوبية الله، وهو: أن ترضى بهذه الربوبية، وأعتقد أن هناك وفرقاً بين مجرد الإقرار وبين الرضا.
فالأمر الأول: نوعٌ من الإقرار بأن الله هو الرب؛ لكن الثاني: هو الرضا بربوبيته، وقد يقول قائل: إن من أقر بأن الله هو الرب، وأن تصريف الأمور كلها بيده، لا بد أن يرضى بذلك؛ لأنه ليس له مفر من ذلك.
ولكن الواقع أن الأمر ليس كذلك؛ فإن كثيراً من الناس -مع اعترافهم بأن الله تعالى هو الرب- لم يحققوا الرضا بهذه الربوبية، أرأيتم من أصيب بمصيبة في نفسه أو أهله أو ماله: من فقر أو مرض أو موت قريبٍ أو حبيب أو عقم عن الإنجاب أو فقد مال، أو ما أشبه ذلك من المصائب التي تنتاب الناس في كل حين، ففرقٌ بين أن يقر في قرارة نفسه بأن الذي قدر وقضى عليه هذه المصيبة هو الله، ثم يسخط ويتجزع ويقلق، وبين أن يرضى بالله رباً، ويعلم أن هذه المصيبة هي بإذن الله، فيرضى ويسلم.
ففرق بين هذا وذاك، بين من يقر بأنها من عند الله ولا يرضى بها -فهذا حقق الإقرار لكنه لم يحقق الرضا- وبين من يقر أنها من عند الله، ثم يرضى ويسلم.(40/8)
الرضا بأقدار الله
والقدر أمر يتعلق بالربوبية، فإيمانك بالقدر: هو إيمانك بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت مقدر الأقدار، وأن كل ما في الكون هو بإرادة الله تعالى ومشيئته.
فلا بد أن يرضى المسلم بقضاء الله وقدره في نفسه، وأهله، وماله؛ ولذلك يقول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] فمن سلم بذلك، وآمن به ورضي هدى الله قلبه حين نزول المصيبة، ومنحه من الاطمئنان والرضا والسكون ما قد يحول هذه النكبة والنقمة إلى نعمة.
ويقول سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:22-23] فالإيمان بقضاء الله وقدره، والرضا به والتسليم، يمنح الإنسان الطمأنينة والهدوء والسكون عند نزول المصائب، ويمنحه -أيضاً- الأمن قبل نزولها؛ ونقص ذلك أو عدمه هو نقصٌ في الرضا بربوبية الله تعالى.
وحين نتأمل واقعنا وواقع كثير من المسلمين من حولنا، نجد أن كثيراً من المسلمين يرهبون المصائب قبل نزولها، فتجد الإنسان منهم قلقاً خائفاً حتى ولو كان في نعمة، خائفاً أن تنزل به المصيبة، فهو يتوقع نزول مصيبة تفجعه صباحاً أو مساء، وهذا نوع من التشاؤم أو الاكتئاب، ومن أهم أسبابه ضعف الرضا بالله رباً.
ثم إذا نزلت المصيبة وجدت من كثير من المسلمين التسخط والجزع والتبرم بالأقدار الشيء الكثير، وقد يصاب الإنسان بمصيبة في أهله، أو في ماله، يترتب عليها لشدة جزعة أن يجلب على نفسه مصيبةً أخرى؛ كمن يفقد المال فيصاب بهمٍ وغمٍ شديد، حتى ربما كان سبباً في فقد عقله أو في إصابته بمرضٍ في جسده، وربما في موته أيضاً.
فأين الرضا بالله؟! أين الرضا بالله الذي يجعل الإنسان يحس بأنه عبدٌ لله تعالى يقضي الله تعالى فيه ما يشاء؟ وأين الدعاء الذي نردده في كل مناسبة، خاصة في القنوت في رمضان أو غيره: {اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك} .
فمن كان يؤمن بهذه المعاني في قلبه؛ لا بد أن يتقبل قضاء الله وقدره في كل شيء بالرضا والتسليم، مع أنه سواء قبله بالرضا والتسليم أم بغيره.
فالقدر النازل لا مفر منه؛ لكن من رضي بالله وسلم منح الرضا في قلبه والأنس، وحُفظ له أجره؛ ومن لم يفعل ضاع أجره، ولم يدفع شيئاً من هذه الأقدار التي نزلت به.(40/9)
الرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ومقتضياته
الأمر الثالث: هو الرضا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً: وهذا أيضاً يشمل أموراً منها:(40/10)
السير على خطاه
ثالثاً: والأمر الثالث الذي من الرضا به صلى الله عليه وسلم نبياً هو اتباعه، وإيثار السير على خطاه صلى الله عليه وسلم على السير على خطى غيره من البشر أياً كانوا؛ فهو أعظم أسوة وقدوة.
ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فمن كان يرجو الله، واليوم الآخر فله مقنعٌ وكفاية بالتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، واتباعه في دقيق الأمور وجليلها.(40/11)
الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم
رابعاً: هو أن يدفع الإنسان عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته؛ ما يلصقه بها أعداء الإسلام -من المنافقين واليهود والمستشرقين ومن المرتدين وغيرهم- ممن يحاولون أن يشوهوا شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام بأي صورة؛ كأن يشوهوا شخصيته بعدم العدل، أو بقضية تعدد الزوجات، أو بالحروب التي خاضها صلى الله عليه وسلم، أو بأسلوب معاملته لليهود، أو بالتشريعات التي جاء بها عليه الصلاة والسلام، أو بغير ذلك.
فكثير من الناس يقرءون ما يكتبه المستشرقون، ومن سار على خطاهم من المرتدين المنسلخين عن هذا الدين، فقد يسبق إلى قلوبهم شيء من ذلك، أو لا تنكره قلوبهم؛ والذي رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، يغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغضب من النيل منه أو الحط من قدره أو التعرض لشخصيته؛ أكثر مما يغضب لو تعرض أحدٌ لشخصيته هو، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه عن أنس: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان -وذكر منها- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما} .
فالواحد من الناس قد يغضب لو سمع سباً أو شتماً في جدٍّ من أجداده أو في قبيلته؛ ولكنه قد يسمع -أحياناً- أو يقرأ في الصحف، أو في بعض الكتب، أو في بعض الأجهزة الإعلامية نيلاً من الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة مباشرة أو غير مباشرة فلا يغضب كما يغضب من ذلك؛ فقد ينزل في السوق -أحياناً- كتاب يتكلم عن أنساب بعض القبائل، ويكون في هذا الكتاب نوعٌ من الأخطاء العلمية كنسب قبيلة إلى غير نسبتها الصحيحة، أو أخرج عائلة من القبيلة الحقيقة التي تنتسب إليها، فتجد هؤلاء الأفراد المنتسبين إلى هذا البطن أو الفخذ أو القبيلة تثور ثائرتهم، ويغضبون ويوصلون الأمر إلى الأجهزة العليا، حتى يسحب هذا الكتاب ويعاقب صاحبه ويعاد الحق إلى نصابه -وهذا لا يلامون فيه- لكن الشيء الذي نطالب به: هو أن يكون غضبنا لله ولرسوله ولدينه أشد من غضبنا لأشخاصنا، أو لأنسابنا، أو لقبائلنا، أو لأمورنا الدنيوية المتعلقة بنا، من فعل هذه الأشياء السابقة.(40/12)
ثمار الرضا بالله رباً
ثم قال وهو يفهم ما يقول، ويعني ما يقول: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً؛ فليبشر بالأمور التالية: أولاً: أن يمنحه الله إيماناً يجد لذته في قلبه، وهذا أغلى ما يطمح إليه إنسان في هذه الدنيا.
ثانياً: أن تغفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر، كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أن يرضيه الله تبارك وتعالى يوم القيامة، ويجعله من أهل الجنة، وأي مطلب يبحث عنه إنسان فوق هذا! لكن هذه الأشياء لا تجعل الإنسان ينكص عن قول هذه الكلمة، بزعم أني أخشى أن أكون لم أحققها! لا، قل هذه الكلمة، وافهم معناها، واحرص على تطبيق مقتضاها بكل ما تستطيع، ولا يمنعك الضعف في تطبيق أمرٍ من الأمور عن غيره، فلا شك أن المحافظة عليها صباحاً ومساءً باللسان أمرٌ مشروع.
فلا ينبغي أن يفهم من إيضاح معناها: أن يترك الإنسان النطق بهذه الكلمة؛ لأنه يقول لم أحقق معناها.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده رسولنا ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(40/13)
الإيمان بنبوته ورسالته
أولاً: الإيمان بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم، ولذلك في البخاري وغيره من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقول إذا أوى إلى فراشه ضمن الدعاء المعروف: {آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت فلما أعادها عليه البراء، قال: آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا، وبنبيك الذي أرسلت} .
فلابد أن تؤمن بالنبوة والرسالة، فهو نبيٌ صلى الله عليه وسلم مكلفٌ بتبليغ هذه الدعوة إلى جميع الناس، ولا يمكن أن يوجد معه أو بعده نبي آخر ينسخ دينه عليه الصلاة والسلام.(40/14)
وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم
ثانياً: وهذا لا يكفي، فقد يوجد إنسان يشهد بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، لكنه لا يرى عليه وجوب اتباعه -لسبب أو لآخر- كمن يعتقد أنه رسولٌ إلى العرب خاصة، أو رسول في وقت معين، أو أنه جاء لبيئة معينة، وهذا موجود كثيراً عند ملوثي الأفكار من المنتسبين إلى الإسلام.
ومثله من يعتقد أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست واجبة، فليس ضرورياً أن نطيعه، فنحن نصدقه لكن لا نطيعه، فهذا غير مسلم بل هو كافر؛ فمن لم يلتزم بوجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، كافر ولو اعترف بنبوته، واعترف برسالته وأحبه، فهو كافر إذا لم يعترف بوجوب اتباعه وطاعته ولم يلتزم بذلك.
ولذلك روى مسلم في كتاب الحيض من صحيحه عن ثوبان {أن حبراً من أحبار اليهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إني سائلك، قال ثوبان: فدفعته دفعةً كاد يسقط منها، قال: ولم دفعتني؟ قلت له: ألا تقول: يا رسول الله، قال: إنما أسميه باسمه الذي سماه به أهله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: فإن اسمي الذي سماني به أهلي محمد، قال: إني سائلك، قال: هل ينفعك إن حدثتك، قال: أسمع بأذني، قال: سل، فقال هذا الرجل: أين يكون الناس حين تبدل الأرض غير الأرض؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: في ظلمة دون الجسر -يعني الصراط- قال: فمن أول من يجوز -يعني يمضي على الصراط- قال النبي صلى الله عليه وسلم: فقراء المهاجرين، قال: فما تحفتهم أول ما يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد الحوت أو النون، قال: فما طعامهم عليها؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها، قال: فما شرابهم؟ قال: من عين تسمى سلسبيلاً، قال: صدقت، ثم قال: إني سائلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هل ينفعك إن حدثتك، قال: أسمع بأذني، قال: ما الذي يجعل الولد ذكراً أو أنثى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا اجتمع ماء الرجل وماء المرأة فماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فإذا علا ماء الرجل أذكر بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة أنثى بإذن الله، فقال هذا الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: صدقت، وإنك لنبيٌ} .
بل في رواية عند الترمذي وغيره، أنهما كانا رجلين فقبلا يدي النبي صلى الله عليه وسلم ورجليه، وقالا له: إنك لنبي، ولكن مع اعترافهم بنبوته لم يطيعوه؛ إما لأنهم ينتظرون نبياً آخر بعده من بني إسرائيل -كما زعم بعضهم- أو لأنهم يخافون أن تقتلهم اليهود، أو للتعصب، وهذا هو الغالب.
والمهم أنهم لم يلتزموا بوجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم ذلك، ولذلك فإن التزام وجوب طاعته شرطٌ أساسي في صحة الشهادة.(40/15)
الأسئلة(40/16)
واجبنا نحو ما ينشر في المجلات من أباطيل
السؤال
هذا أخٌ يسأل فيقول: إنه دخل عند أحد الأقارب، ووجد مجلة فيها كلام يخالف الإسلام، وهي مجلة اليقظة، وهذه الكلمة هي عبارة: عن كلام عن امرأة، وأنها امرأة تدرس وتتعلم وتخرج وعندها طموح، ويقول: إنها تؤيد عمل المرأة في كل مجال دون خوف أو تردد، فالمرأة في نظرها كالرجل متساويين تماماً، وليست كما يقولون: نصف رجل؛ لأنها أثبتت جدارتها في المناصب الكبرى، فهي وزيرة واعية ومديرة جادة ومهندسة وطبيبة وعالمة ومحاربة أيضاَ إلى آخر هذا الكلام؟!
الجواب
هذا الكلام ليس في مجلة اليقظة فحسب، بل في كثير من هذه المجلات التي أصبحت تغص بها مكتباتنا بل وبقالاتنا، وهذا الكلام بطلانه لا يحتاج إلى أمر، ونحن لسنا نتلقى الحكم على هذه الأشياء من مجلة اليقظة، أو مجلة سيدتي أو غيرها؛ بل نحن -بحمد الله- قد عرفنا طريقنا، فلا نأبه بهذه الأشياء؛ لكن هناك كثير من المغفلين من المسلمين تتسلل هذه الأفكار إلى عقولهم ذكوراً وإناثاَ! ولذلك أقول: إن الواجب على كل فرد منا، أن يجعل من نفسه جندياً عند باب بيته، فيفتش البضائع التي تدخل: كل مجلة، أو فكرة، بل وكل كتاب أو شريط أو أشياء معينة حتى لا يدخل إلا المواد النافعة، ويكون في يقظته وانتباهه كالجندي الذي يمسك بالمدفعية في قلب المعركة، فهو يتوقع الهجوم في كل لحظة! وبهذه الصورة يمكن أن يحافظ الإنسان على بيته.
ثم إن هناك واجباً عاماً علينا تجاه المجتمع: وهو أن الإنسان إذا وجد مثل هذه الأشياء ورآها؛ يحاول أن يكتب عنها سواء كتب في الصحف أو كتب للمشايخ والعلماء، أو كتب للمسئولين في وزارة الإعلام، لأنه مع كثرة الضيق والتبرم من هذه الأشياء وكثرة الشكوى، ينتبه من كان غافلاً.
ولذلك فقد قرأت اليوم في إحدى الصحف: أن وزارة الإعلام قد منعت دخول ثلاثة وعشرين مجلة من هذه المجلات الفنية المتخصصة؛ وهذه خطوة طيبة كان يجب أن تتم منذ زمن طويل، لكن ربما تكون -مثل- هذه الخطوة بسبب جهود بعض الناس في الكتابة عنها، والتنبيه عليها.
وكذلك بعض الأفلام: علمت أنها منعت بسبب أنه كتب عنها، فلو أن كل إنسان اطلع على مثل هذا الشر كتب عنه للمشايخ والعلماء أو للمسئولين في الإعلام أو لغيرهم، وردَّ عليها في الصحف، فسيصبح هناك رأي عام عند الناس معارض لهذه الأشياء.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(40/17)
صحة حديث: رضيت بالله رباً
جزى الله فضيلة الشيخ على ما قدم، فقد أفاد وأجاد، ونسأل الله أن يجعلها خالصة لوجه الله تعالى، وفي ميزان حسناته يوم القيامة.
السؤال
فضيلة الشيخ: ما مدى صحة ثبوت ذكر هذا الدعاء في أذكار الصباح والمساء، مع ذكر من صححه من العلماء؟
الجواب
ذكرت أن الحديث ورد بعدة ألفاظ منها: {من قال: رضيت بالله ربا} الحديث وهذا في رواية أبي سعيد، ومنها: {من قال حين يمسي} وهذا قد لا أكون ذكرته في حديث ثوبان: {من قال حين يمسي} وفيه ضعف؛ لأن فيه أبو سعيد سعد بن المرزوبان، وهو ضعيف مدلس.
وفي اللفظ الثالث في حديث أنس من قال: {أيما عبد أو إنسان أو مسلم قال حين يصبح وحين يمسي} وهذا عند ابن ماجة بسند حسن، وهو أيضاً عند أبي داود والنسائي وغيرهما بلفظ مقارب.(40/18)
الحزن على ما فات ومعنى كلمة: خيرة
السؤال
يقول السائل: فضيلة الشيخ عندما يفوت على الإنسان أمرٌ من الأمور مثل أن يفوت عليه سنة من دراسة أو سنتين، فهذا الإنسان عندما يتذكر ذلك يحس بحزن في نفسه، فما هو جواب من كان على هذه الصفة؟ وله سؤال آخر يقول: يقال لمن حصلت له مشكلة أو مصيبة: خيرة، فما معنى هذه الكلمة؟
الجواب
خيرة أي: لعل ما نزل بك خيرٌ لك، وإن كنت لا تحبه ولا تتمناه.
أما حزن الإنسان على ما فاته من أمور الخير، فهو من الحزن المحمود الذي ينبغي أن يدفعه إلى أن يعوض وينشط في مستقبل الأيام ويتدارك ما فاته، فهذا الحزن هو أمرٌ جبلي وطبيعي؛ بل هو محمودٌ لأنه يدفع الإنسان إلى المسارعة في أعمال الخير في المستقبل.
أما إن كان هذا الحزن مدعاة لأن يقعد الإنسان، ويقول: فاتني الركب ولا أستطيع! فهو حينئذٍ ينقلب إلى نوع من التحسر المذموم.(40/19)
بطلان حجة استجابة الدعاء عند القبور
السؤال
ذكر الإمام الذهبي في السير -في ترجمته لأحد السلف-: أن الدعاء كان مستجاباً عند قبره! فما رأيكم في هذه العبارة؟
الجواب
هذه العبارة لا شك أنها خطأ! لأن قصد القبور للدعاء غير مشروع، بل هو من البدع المحدثة، ثم دعوى أن فلاناً يجاب الدعاء عند قبره؛ فهو الآخر غير صحيح، والذي أرشدنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الأدعية هو: أن هناك أوقاتاً فاضلة للدعاء، وأحوالاً فاضلة ينبغي للإنسان أن يتحراها؛ وكذلك أرشدنا إلى ألفاظ وعبارات وأدعية يحرص الإنسان على معرفتها والدعاء بها.
أما قصد قبر أحد، فهو بدعةٌ محرمة، ودعوى أن الدعاء يستجاب عند قبره هي خطأ وغير صحيحة وكلٌ يأخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.(40/20)
كيف يكون الداعية محبوباً
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فأرجو من فضيلة الشيخ أن يبين كيف يكون الداعية محبوباً من جميع الناس؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
كونه محبوباً من جميع الناس، فهذا يطلب المحال! لكن يكون محبوباً من أهل الخير والصالحين، فهذا قد يكون ممكناً، ومن أعظم وسائله: أن يصلح ما بينه وبين الله تعالى؛ لأن الله إذا رضي عن العبد أحبه، وإذا أحبه كتب محبته في قلوب عباده الصالحين -كما ورد في الحديث الصحيح- ومن أهم وسائله: الإحسان إلى الخلق.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم وليس المقصود أن يستعبد الإنسان قلوب الناس؛ إنما المقصود: أن الإحسان سببٌ في توجه قلوب الناس لهذا الإنسان بالمحبة.(40/21)
دفع الضر لا ينافي الرضا بالله ربا
السؤال
وهذا سؤال يقول: هل محاولة دفع الضر عن الإنسان يعتبر من عدم الرضا بقضاء الله، وبالله رباً، وبما قدره؟ وإذا قدر وأن إنساناً كان فقيراً أو جاهلاً، فيقول: أنا قد رضيت بالله رباً، وبما قدر، ثم لا يعمل ولا يحاول التغيير؟
الجواب
أما دفع الضر: فهو مطلوب، والإنسان وغير الإنسان بطبيعته يحاول أن يدفع الضر عن نفسه ما استطاع.
فدفع الضر عن الإنسان مطلوب! بل لا يسع الإنسان شرعاً أن يعلم أن هناك ضرراً سيصيبه وهو يستطيع دفعه فلا يدفعه؛ فهو كغيره من الأسباب المشروعة.
أما من لا يعرف هذه الكلمة ولا يعلم معانيها ولا يحاول التغيير؛ فينبغي أن يعلم -وقد بينت- أن قول هذه الكلمة بحد ذاته هو ذكر لله تعالى، يؤجر عليه الإنسان إذا صلحت نيته.(40/22)
سؤال الله الدنيا وكثرة المال
السؤال
إني أحب أن أكون في مرتبة عالية من الدنيا، فأقول: اللهم نجحني نجاح الدنيا كل مرة، وارزقني الدرجة العالية، وأحب أن يكون لي مال كثير وأدعو بذلك، فما حكم ذلك؟ جزاك الله خيراً.
الجواب
وجهنا الله تعالى إلى ذلك حيث قال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] فسؤال الإنسان ربه من فضله أمر من العبادة، والدعاء هو العبادة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وكون الإنسان كلما نزلت به حاجة أنزلها بالله، فهذا من ثقته بالله، فحسن بالإنسان أن يسأل الله تعالى كل ما يحتاج من الأمور: لا تسألن بني آدم حاجةً وسل الذي أبوابه لا تحجب الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب لكن عليك ألَّا تنظر إلى من هو فوقك فتحسده على ما هو فيه، كمن تقدم عليك في الدراسة أو في المال أو في غير ذلك؛ ثم عليك أن تتطلع إلى الآخرة أكثر من أن تتطلع إلى الدنيا، فلا تجعل همك الدنيا، وسؤالك الله أموراً دنيوية بحتة؛ بل احرص على أن تسأل أموراً أخروية أكثر من أن تسأل هذه الأمور الدنيوية.(40/23)
شمولية الرضا بالله للدين ووجوب الاتباع
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً وبالقرآن إماماً نرجو من فضيلتكم التحدث عنه -علماً بأنه حجة الرسول- فقال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] .
الجواب
إن كان السائل يقصد: زيادة وبالقرآن إماماً، فلا تشرع هذه الزيادة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام الذي رضيت به رسولاً أرشدك على أن تقتصر على هذه العبارات الثلاث: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وإلا فقد يتطلب منك الأمر -إذا أردت الدخول في التفاصيل- أشياء كثيرة، تبين أنك رضيت بها، كأن -مثلاً- ترضى بالصحابة مبلغين للدين، أو ترضى بالإٍسلام في منهج كذا أو في منهج كذا، أو ما أشبه ذلك، لكن رضاك بالله تعالى وبالإسلام وبالرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن رضاك بالقرآن؛ لأن الذي جاء بالقرآن هو الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى، فالقرآن كلام الله، ومادمت رضيت به فقد رضيت بكتابه، والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله، وما دمت رضيت به فقد آمنت بهذا البلاغ الذي جاءك به، والدين الذي قرره القرآن هو الإسلام؛ ولذلك -مثلاً- الإيمان بالآخرة وبالجنة وبالنار وبالملائكة وبغيرهم كل هذا في الجملة داخل في العبارة السابقة، بدون حاجة إلى التفصيل؛ لأنك إذا رضيت بالله وبالرسول عليه الصلاة والسلام، وآمنت به فالمعنى أنك آمنت بكل ما جاء به، آمنت بالبعث، وآمنت بالجنة بالنار، وبالملائكة، وباليوم الآخر، وبالقدر، وبالنبيين، وبالكتب السابقة، كل هذا داخل في العبارة التي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليها.(40/24)
تمني الخير لا ينافي الرضا بالله
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: إني أحبك في الله وأرجو منك ألا تنسانا من دعائك الصالح، ويقول: هل من يتمنى أن يكون حليماً مثل فلان ممن اشتهروا بالحلم أو الكرم -وغيرها من الصفات المحمودة، ويقول: اللهم اجعلنا مثل فلان- ينافي الرضا؟
الجواب
أحبك الله كما أحببتني فيه، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياك وجميع إخواننا المستمعين وجميع المسلمين ممن رضي به رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وأن يميتنا على ذلك.
أما مسألة تمني هذه الخصال الحميدة، فسبق الكلام عنها خلال الكلمة السابقة، فهذه من الأمور الخيرة والصالحة التي ينبغي للإنسان أن ينظر فيها إلى من هو فوقه، ويحرص على الوصول إلى ما وصل إليه؛ فإن هذه الخصال من الإسلام، والحرص على تحقيقها أمر مشروع، ولا ينافي الرضا بل هو أمر مطلوب كما ذكرت.(40/25)
إرضاء الله وصلة الرحم
السؤال
من تحقيق رضا الله: صلة الرحم، وأختي لديها ولد لا يصلي، وإذا وصلتها وأعطيتها مالاً فسينتفع منه هذا الذي هو مصرٌّ على ترك الصلاة، فهل أقطعها أم أصلها، أرجو التفصيل؟
الجواب
ما دامت أختك محافظة على الصلاة فصلتها حقٌ، وكونك تصلها بالزيارة والمساعدة والمال وغير ذلك؛ فكل ذلك مشروع.
أما ولدها فلا تعطه شيئاً، ولا تساعده في هذه الأمور إلا أن يتوب إلى الله عز وجل ويحافظ على الصلاة.
وأما الحق الذي عليك له -إن استطعت- فهو: أن تناصحه في الله تعالى، وتبين له عظم شأن الصلاة ووجوب أدائها وما أشبه ذلك؛ فإن لم يُجدِ فيه شيئاً؛ كان عليك أن تبين لأختك الطريقة الصحيحة في معاملة هذا الولد، بالضغط عليه حتى يصلي، أو هجرانه ومباعدته وإبعاده عن المنزل -متى كان ذلك ممكناً- وأما صلتك لأختك فلا شيء فيه.(40/26)
معنى مقولة: كفر دون كفر
السؤال
أرجو توضيح هذه المقولة والتفصيل فيها -إن كانت تحتاج إلى تفصيل- والمقولة هي: كفر دون كفر، هل هي صحيحة أم لا؟ وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
مقولة كفر دون كفر هذه، ثبتت عن ابن عباس رضي الله عنه، في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] فقال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، أي: الخوارج، وإنما هو كفر دون كفر، وهي صحيحة كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم، كل هذه الأشياء صحيحة، بمعنى أن الكفر كفران: أولاً: كفر أكبر ينقل عن الملة: وذلك كعبادة غير الله أو دعائه، أو الشرك بالله تعالى، أو اعتقاد أن هناك نظاماً خيراً من نظام الإسلام، أو مثله، أو اعتقاد أن الإسلام لا يصلح للتطبيق في هذا العصر مثلاً، أو تحكيم القوانين الوضعية في رقاب المسلمين ودمائهم وأموالهم، واستباحة ذلك.
فكل هذه الأشياء هي من الكفر الأكبر الناقل عن الملة.
أما النوع الثاني: فهو كفر دون كفر، وذلك كما ورد في نصوص كثيرة أنه: {أيما عبد أبق من مولاه فقد كفر حتى يرجع إليه} أو أن: {من أتى امرأة في دبرها فقد كفر} أو {من انتسب إلى غير مواليه، أو إلى غير أبيه فقد كفر} أو قوله عليه الصلاة والسلام: {ثنتان من أمتي هما بهم كفرٌ، الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت} إلى غير ذلك من الأمثلة.
فكل هذه الأشياء هي من كفر المعصية -الكفر الأصغر- فهو كفر لا يخرج عن الملة، وقل مثل ذلك في الفسق، فالفسق قد يطلق على الكفر كما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقا} [السجدة:18] يعني كمن كان كافراً، لقوله بعد ذلك: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة:20] .
فالفسق قد يكون فسقاً أكبر، يعني: كفراً مخرجاً من الملة، وقد يكون فسقاً دون ذلك كسائر المعاصي التي يرتكبها الإنسان.
وكذلك الظلم قد يكون ظلماً أكبر بالكفر، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وقد يكون ظلماً دون ذلك كظلم الإنسان نفسه بألوان المعاصي.(40/27)
وذروا ظاهر الإثم وباطنه
أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بترك الإثم الظاهر منه والباطن، لأن في تركه النجاة والخلاص في الدارين، والإثم الظاهر هو الإثم الذي يظهر للناس ويجاهر به، ويعاقب المجتمع كله به، ففي الحديث: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، والمجاهرة قد تكون لمعاصٍ شخصية يجاهر بها أصحابها في المجتمع، وقد تكون أيضاً بالسكوت عن معاصٍ معلنة متفشية في المجتمع يحرسها القائمون على أموره كمعصية الربا ومؤسساته المنتشرة في كل بلاد المسلمين.(41/1)
مكانة المسجد في الإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وحييتم في هذه الروضة من رياض الجنة تتبوءونها بمجلسكم هذا، فإنه {ما مشى عبد إلى مسجد من مساجد الله عز وجل لأداء فريضة من فرائض الله؛ إلا كانت خطواته إحداهما ترفعه درجة، والأخرى تحط عنه خطيئة، ولا تزال الملائكة تدعو له وتستغفر له ما دام في مصلاه ذلك ما لم يؤذ فيه} .
فهذا خيرٌ عظيم، وهو إعادة للدور والمكانة التي كان يتبوؤها المسجد في عهود الإسلام الأولى حين كان المسجد هو حلقة الدرس والجامعة التي تخرج الأجيال، وكان المسجد هو ميدان التدريب على الرماية وفنون القتال، وكان المسجد هو مجلس الشورى الذي يتدبر فيه المسلمون أمورهم، يتشاورون فيما بينهم، ويتباحثون فيما يعرض لهم، ثم مرت بالمسلمين أحقاب وأزمنة عمروا فيها المساجد وشيدوها، ورفعوا فيها المنائر، وفخموا فيها الأبنية، واعتنوا بذلك أتم عناية، ولكنهم أهملوا الحقيقة التي من أجلها وجد المسجد {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] .
إن رفعها ليس ببنائها فحسب، ولا بتشييدها فقط، إنما رفعها الحق هو بإقامة ذكر الله تعالى فيها، وجعلها مجلساً للدرس، والبحث، والتعلم، والجدال بالتي هي أحسن، وبإعادة مهمتها، ومكانتها التي أوجدت لها، فالحمد لله تعالى حمداً كثيراً مباركاً فيه أن عادت المساجد اليوم في رقاع العالم الإسلامي إلى ما كانت عليه أول الأمر، فأصبحت المساجد اليوم منطلقاً للدعوة، ومكاناً للدروس وحلق العلم والمحاضرات، وميداناً لنشر الكتاب والشريط، وموضعاً لإعلان الفتاوى العلمية التي يصدرها أهل العلم في بلاد الإسلام، وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين وغيرهما من أهل العلم وأئمته.
فالحمد لله على ذلك كثيراً، والحمد لله أن رأينا بأعيننا كيف عمرت المساجد بحلق تحفيظ القرآن الكريم، وحلق تحفيظ السنة النبوية، ودروس العلم، ومحاضراته، وغير ذلك مما هو نافع مفيد، ثم شكراً لله تعالى شكراً، وحمداً له حمداً، أن وفق مكاتب الدعوة في سائر البلاد -في هذا البلد وفي غيره- إلى المساهمة في هذا الإحياء الإسلامي المنشود لدور المسجد ورسالته، وهذا يجعلنا حريصين أشد الحرص على دعم مكاتب الدعوة بقدر المستطاع، والوقوف إلى جانبها، ومساعدتها في أداء مهمتها ورسالتها بكل غالٍ ونفيس.
ومن ذلك دعمها الدعم المادي، فإن مكاتب الدعوة على رغم الدور العظيم التي تقوم به في هذه البلاد، إلا أنها تفتقر إلى الدعم المادي الذي يمكنها من أداء رسالتها، وهي لا تستطيع أن تقوم بهذه المهمة إلا بأن تمدوا -أنتم أيها الإخوة الحاضرون، وأيها الإخوة المستمعون- أن تمدوا أيديكم إليها بالعون والمساعدة المادية والمعنوية.
وإنني أقول لإخوتي الأحبة الكرام: حقٌ علينا جميعاً أن نقف صفاً واحداً، وكلمةً واحدة، ويداً واحدة في سبيل نصرة الحق والدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] .
فـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] انصروا الله تعالى في أنفسكم، وفي أموالكم، وفي بيوتكم، وفي مساجدكم، وفي مسئولياتكم، وفيما ولاكم الله -تعالى- واسترعاكم عليه، يخلف لكم الله تعالى بذلك أجراً وذخراً، وهو المطلع على ذلك: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] .(41/2)
سياق الآيات السابقة لقوله تعالى (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)
عنوان هذه المحاضرة أيها الأحبة: هو جزء من آية من كتاب الله جل وعز: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] وهي تنعقد في هذه الليلة، ليلة السبت السابع عشر من ذي القعدة من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، في مدينة المذنب، في مسجد الجمل.
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] إنه منتزع من تلك الآية الكريمة الآية مائة وعشرين من سورة الأنعام، قال الله عز وجل: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام:120] وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد تطواف طويل في السورة، في عدد من أصحاب الجرائم والكفر والمعصية لله تعالى، تحدثت الآيات قبلها عن الذين أنكروا الوحي والنبوات، وأجلبوا في وجه الرسل عليهم الصلاة والسلام وقالوا {إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91] .
فأبدوا قراطيس، وأخفوا حقائقها ومعانيها وجواهرها؛ لأنهم أظهروا ما لا بد من إظهاره، وكتموا الحق الذي اؤتمنوا عليه، فكانوا كما قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] وجاءت هذه الآيات بعد ما ذكر الذين يدعون نقيض ذلك، فيزعمون أن الله تعالى اختارهم واصطفاهم، وأنزل الرسل عليهم بكرة أو عشياً، ويقولون: قد أنزل علينا الوحي، فعاتبهم الله تعالى وجلَّى كذبهم وزيفهم، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام:93] وهؤلاء ما ادعوا دعواهم العريضة تلك بتنزل الرسل عليهم، ومجيء الوحي إليهم، إلا من استكبار في أنفسهم وإثم في قلوبهم، دعاهم إلى أن يدعوا ما ليس لهم بحق، وما زال ورثة هؤلاء الكذابين الأفاكين، قائمين إلى اليوم.
وقبل أيام أعلن التليفزيون اليمني عن رجل يدعي النبوة، ويقول: إن ماءه الذي يوجد في بئره خيرٌ وأكثر بركة من ماء زمزم، لأن ماء زمزم مذكر، وماؤه هو مؤنث، وهو خير منه! وادعى أن الملائكة تنزل عليه بوحي الله عز وجل، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويقدر على شيء من ذلك كثير، وأتيحت له وسائل الإعلام في الوقت الذي يحال بين دعاة الحق ودعاة الهدى وبين هذه الوسائل بشتى الأساليب، والطرائق، والحيل، والألاعيب.
وجاءت هذه الآيات الكريمة بعد ما ذكر الله تعالى الذين أشركوا به آلهة أخرى، وأشركوا، واتخذوا من دونه أنداداً: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:100] .
فهؤلاء الذين أشركوا بالله عز وجل ما أشركوا به إلا لمرض قلوبهم بالشهوة أو بالشبهة، وعبادتهم غير الله عز وجل، وتقصيرهم في معرفة ما يجب لله، وتعظيمهم لبعض المخلوقين تعظيماً أوصلهم إلى أن رفعوهم إلى مقام الألوهية، وجعلوا لهم شركة في العبادة، فأشركوا مع الله تعالى الجن أو غير الجن.
وجاءت هذه الآية الكريمة بعد أولئك الذين ادعوا دعوة عريضة أنهم أهل للإيمان وأهل للتقوى، وأنه متى جاءتهم الحجج البينة والآيات الظاهرة آمنوا بالله عز وجل، قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:108-109] فهم يدعون أن توقفهم في الإيمان هو من باب التثبت والتحري والبحث والصبر، وأن الذين أسرعوا في الإيمان هم من ضعاف العقول، وضعاف النفوس، السريعين إلى قبول كل قول، ولهذا أقسموا بالله جهد أيمانهم.
فأنت تتصور بين عينيك إنساناً بطوله وعرضه وبلسانه الفصيح المبين، يقسم بالله أيماناً تُرَوب الماء، وليس اللبن، أنه لو جاءته حجة ظاهرة وآية بينة لآمن وأسلم، ولكن الله تعالى يقول: هم كاذبون، وإذا جاءتهم هذه الآيات لا يؤمنون، وإنما حال بينهم وبين الإيمان أنهم رأوا الحق فأعرضوا عنه، ولهذا حيل بينهم وبينه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:109] .
جاءت الفرصة فأعرضوا عنها، فعاقبهم الله عز وجل بأن حال بينهم وبينها، وجعل أفئدتهم وأبصارهم زائغة لا تستقر على حال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] أما أولئك الذين أسرعوا للإيمان فهم أهل التقوى والصدق وأهل النقاء والنظافة في قلوبهم، ما حال بينهم وبين الإيمان كبر ولا غطرسة ولا أنفة في قلوبهم ولا تعاظم في نفوسهم، وما قالوا: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان:21] بل قالوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النساء:46] وأجابوا داعي الله عز وجل.
وجاءت هذه الآية بعد ذكر الذين يتمردون على شريعة الله، ويعاندونها بالباطل، يجلبون في وجه الحق بشبهات من عندهم يزخرفونها بجميل القول وحسن العبارة، ويأتون بالقانون المعارض لشرع الله تعالى، ويأتون بالهوى المعارض للحق، ويلبسون به على الناس: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] .
فهم يتعاونون فيما بينهم: (شياطين الإنس وشياطين الجن) يتعاونون على الزخرفة والتلبيس على الناس، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] ثم قال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] فلا يصغي لهم أذنه، ولا يلين لهم قلبه، ولا يجعل لهم عقله ميداناً، إلا أولئك الذين لم يؤمنوا بالآخرة، ولم يجعلوها في حسابهم، فتلبست بهم الشبهات، واجتالتهم الشياطين، وأعرضوا عن الحق أيما إعراض، ورضوا بحكم الهوى عن حكم الله جل وعلا.
بعد ذلك ذكر الله تعالى أيضاً الأكثرية من الناس التي رضيت بالباطل وقبلته، بل أصبحت من الدعاة إليه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] .
لأنهم إما مقلد أعمى يغتر بمعسول القول وحلو العبارة، وينخدع بما تروج له أجهزة الإعلام، فيقرأ في الصحف العناوين العريضة، ويشاهد في التلفاز البرامج المرئية المؤثرة الكثيرة، ويسمع في الإذاعة حسن القول ومعسوله، ويقرأ في الكتب القصص، والأشعار، والقصائد، والتحاليل، والأخبار، والدراسات التي توصف بأنها تاريخية وعلمية وموضوعية وغير ذلك من الألفاظ والألقاب الفضفاضة؛ فينخدع بذلك فيتحول من إنسان على فطرته إلى شخص منخدع بالباطل، ثم ينتقل بعد ذلك خطوة أخرى ليصبح داعية إلى الضلالة، من أطاعه أضله عن سبيل الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] .
إن أكثر الناس إنما هم مقلدون، عقولهم وقلوبهم هي مسرح لآراء الآخرين، قد رضوا أن يفكر عنهم غيرهم، وأن ينظر في الأمر سواهم، ثم يملي عليهم ما وصل إليه، فيقبلون ذلك منه، ويرددونه بألسنتهم دون أن تعيه قلوبهم، ولو نظرت عبر التاريخ كله لوجدت أن الجاهلية التي واجهت الرسل عليهم الصلاة والسلام كان لها زعماء يغرون العامة، ويقولون لهم: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} [نوح:23-24] .
بعد ذلك ذكر الله عز وجل في الآيات موضوع الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وأن المؤمنين عليهم أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وذبح بالذكاة الشرعية، قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام:119] .
لقد قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: أنتم تأكلون ما ذكيتم، ولا تأكلون ما ذبح الله عز وجل، فتأكلون ما ذبحت أيديكم، ولا تأكلون ما ذبحه الله بسكين من ذهب؛ يعنون الميتة، لماذا تفرقون بين هذا وذاك؟ هذا من وحي الشياطين، شياطين الجن والإنس الذي هو قانون وضعي يعارضون به شريعة الله تعالى، فشريعة الله تقول المذكى حلال، المذكى باسم الله على يد مسلم أو كتابي هذا حلال، أما شريعة الطاغوت فتقول: حتى الميتة حلال، والدم حلال، لماذا؟ لأنها مما ذبحه الله عز وجل، فالحكم أنها حلال في شريعة الطاغوت، والتعليل أو الدليل أنها مما ذبح الله، وهذا من تلبيس الشيطان على بني آدم، فهو من وحي شياطين الجن تلقفه عنهم شياطين الإنس، ورموا به في وجوه المؤمنين بالتشبيه والتشكيك، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} [الأنعام:121] أي: في تحليل الحرام أو تحريم الحلال واعتقاد ذلك {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] {(41/3)
نظائر هذه الآية في القرآن الكريم
لهذه الآية الكريمة نظائر في كتاب الله جل وعز، وهي في موضعين: أولهما: قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] .
والآية الثانية هي في سورة الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] والقرآن مثاني كما قال الله عز وجل يشهد بعضه لبعض، ويؤيد بعضه بعضاً، ويفسر بعضه بعضاً، فالإثم الظاهر والباطن هو الفواحش ما ظهر منها وما بطن المذكور في الآيتين.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه العظيم مدارج السالكين قال ما خلاصته: إن العبد لا يستحق اسم التائب استحقاقاً كاملاً تاماً إلا إذا ترك جميع المحرمات التي نهى الله تعالى عنها في القرآن، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها في السنة، والمحرمات اثنا عشر جنساً، ذكرها الله تعالى في كتابه، هي الكفر، والشرك، والنفاق، والفسوق، والعصيان، والإثم، والعدوان، والفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول على الله تعالى بغير علم، واتباع غير سبيل المؤمنين.
ثم قال رحمه الله: فهذه عليها مدار ما حرم الله عز وجل، وعامة الخلق يرجعون إليها ويقعون فيها إلا من عصم الله جل وعز من أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد يكون في الرجل أكثرها، أو أقلها، أو خصلة منها، وقد يعلم ذلك أو لا يعلمه، والمعصوم من عصمه الله تعالى.
فينبغي أن تعلم هذه الأصول من المحرمات، وأن تعلم أن من أعظم ما جاءت به الرسل النهي عن هذه المحرمات، والتحذير منها بكافة الوسائل والطرق.(41/4)
دلالة الآية
ثالثاً: دلالة الآية: الآية أمرت بترك الإثم، وهو المعصية التي توجب الإثم، وإنما سميت المعصية إثماً لأنها سبب في الإثم الذي يلحق العبد، ولهذا سمى العرب الخمر إثماً، كما قال شاعرهم: سقوني الإثم ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور أي: سقوني الخمر، وقال آخر في مجلس أبي العباس: نشرب الإثم بالصواع جهارا وترى المسك بيننا مستعارا أي: يشربون الخمر، وقال شاعر جاهلي ثالث: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول وإنما سميت الخمر إثماً لأنها سبب في الإثم، أو داعية إليه.
ولهذا قال مجاهد في تفسير هذه الآية: المقصود بالإثم الظاهر والباطن معصية الله تعالى في السر والعلانية، وعبارة المفسرين كلهم تدور حول هذا المعنى؛ وهي أن الآية قسمت الإثم إلى قسمين: الأول: إثم ظاهر يراه الناس بعيونهم، أو يسمعونه بآذانهم ويعرفونه.
والنوع الثاني: إثم باطن لا يعلمه إلا الله تعالى، أو لا يعلمه إلا القليل من الناس.
ثم توعد الله تعالى الذين يكسبون الإثم أن يكون كسبهم للإثم خسارة عليهم يوم الحساب: {سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام:120] أي: من الجرائم والآثام متى؟ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] .(41/5)
تعريف ظاهر الإثم
رابعاً: ظاهر الإثم: ما هو ظاهر الإثم؟ ظاهر الإثم: علانيته، كما قال قتادة، والربيع بن أنس، وأبو العالية، ومجاهد، والزجاج وغيرهم من المفسرين، وذكر ذلك الطبري، وابن كثير، وابن الجوزي، وسواهم، وظاهر الإثم أو علانيته يشمل أموراً منها: أولاً: المجاهرة بالمعصية وإعلانها على الملأ، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل أمتي معافىً إلا المجاهرين} أي: المعلنين بالمعاصي الذين لا يستترون بها، والمجاهرة بالمعصية تضاعف إثمها، فإن العاصي إذا استسر بمعصيته ضر نفسه فقط، أما إذا جاهر فإنه يكون بذلك ضر المجتمع كله، وجرَّأ آخرين على الوقوع في الإثم، أو تقليده في ذلك ومحاكاته، وبذلك انتقلت لوثة المعصية إلى المجتمع كله، فتنفسها الناس في الهواء، وشربوها مع الماء، ورضعوها مع لبن الأم، وتعاطوها بكل حال؛ لأنها أصبحت جزءاً من أعراف المجتمع ورسومه، يفعلها الجميع علانية لا يستترون بها، ولا يدارون عنها.
متى يجاهر الإنسان بالمعصية؟ إنه لا يجاهر بها إلا إذا كان في قلبه استخفاف بالذنب، وجراءة عليه، وتهاون بالمجتمع، ولا يجاهر بالمعصية أيضاً إلا إذا كان المجتمع مقصراً أو مفرطاً بشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاحتساب على الخطاة والجناة والعصاة، فهو يسكت ويجامل ويستحي، يسكت عن هذا لقرابته، ويسكت عن هذا لمنزلته، ويسكت عن هذا لإمارته أو سلطانه، ويسكت عن هذا لمنصبه، ويسكت عن هذا لتجارته.
وبذلك يستمرئ الناس المعصية، فيعذب المجتمع كله بسببها، ولو كان الذي يفعلها قليلاً، فإن الناس إذا رأوا المعصية، ورأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب، كما جاء ذلك في أحاديث صحاح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لا يعني أبداً أن المجاهر بالمعصية يكفر بذلك، كلا! بل هو آثم فاسق، ولكنه لا يكفر ما دام معتقداً أن المعصية حرام، إنما يبقى الحديث على ظاهره: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} .
يبقى ليكون أهيب في النفوس، وأوقع في القلوب، وأردع عن الوقوع فيما حرم الله تعالى، ولهذا مجرد المجاهرة ليست كفراً، ولكن ننطق بما نطق به الصادق المصدوق أن كل الأمة معافى إلا المجاهرين فهم غير معافين، وكيف يكونون في عافية وهم يجاهرون ويبارزون الله تعالى بالمعصية؟! ولهذا قال السدي، والضحاك وغيرهما في هذه الآية {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] قالوا: ظاهر الإثم أولات الرايات، وباطنه أولات الأخدان.
ما معنى هذا الكلام؟ معناه: أنه كان في الجاهلية نساء يعتبرن الزنا حرفة ومهنة يقمن بها، وهذا معلن، وتضع الواحدة منهن الراية على بيتها، حتى يعرفها الغريب فيأتي ويأوي إليها، إنها تعلن بجريمتها وإثمها، وتتظاهر بذلك، فهذا من ظاهر الإثم.
أما باطن الإثم فهن أولات الأخدان؛ أن تجعل الواحدة لها صديقاً تخادنه، وترتكب معه المعصية، ولكنها لا تتعاطى ذلك مع الجميع، وهذا مشهود موجود حتى في مجتمعاتنا، فأنت تجد من المنحرفات وصاحبات النفوس المريضة اللاتي تغلبت عليهن الشهوة، تجد منهن من تركض مع كل من أخذ بيدها، عرفته أو لم تعرفه؛ لأنه داخلها من ذلك والعياذ بالله تعلق بالشهوة وتربص بها وركض وراءها، فهي لا تعف عن شيء، ولا تتردد في شيء.
وفي بعض بلاد الإسلام -مع الأسف الشديد- مع أنها بلاد إن لم تكن أغلبيتها مسلمة، فكل سكانها يقولون إنهم مسلمون، ومع ذلك قد تجد في بعض تلك البلاد مواخير الزنا وبيوت الدعارة علانية، وبعض بلاد الخليج مع الأسف الشديد أصبحت مكاناً للمومسات يأتين إليها من أنحاء الأرض والعياذ بالله، ويلتقي بهن شباب الإسلام حتى تنسلخ أخلاقهم وقيمهم، وتضعف قلوبهم ونفوسهم، ويرتكبوا ما حرم الله عز وجل، وينقلوا أوبئة الأمم الأخرى، وأمراضها وعيوبها وآفاتها إلى بلادهم وأسرهم ومجتمعاتهم النقية النظيفة العفيفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون! أقول يوجد في بعض النساء من تكون كذلك، قد انفتق قلبها على الشهوة، فأصبحت تركض وراءها وتبحث عنها، فهي كصاحبات الرايات التي تعلن بالمعصية، كل من اتصل عليها بالهاتف أو راسلها أو رمى لها برقم أو عنوان أو دعاها في سيارة ركبت معه لا تلوي على شيء، ولا تتردد في شيء، فهذا من ظاهر الإثم وعلانيته، أما باطن الإثم فقد مثل له هؤلاء الأئمة بأولات الأخدان التي تتخذ لها خدناً أو صديقاً أو حبيباً، وهذا كثير جداً حتى في بعض المجتمعات المحافظة، وحتى في بعض الأسر النظيفة النقية العفيفة، فتجد للبنت صديقاً تتصل به ويتصل بها، وتخلو به، بل وتركب معه، بل ترتكب معه ألواناً من الحرام دون الزنا، بل يصل الأمر إلى الزنا، وأول خطوة قد تكون يسيرة في نظرها، لكن الخطوة الأخيرة ولو كانت صعبة إلا أنها لم تستطع أن تمتنع عنها وكما قيل: وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها والله عز وجل يقول: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] .
فالخطوة الأولى كانت نظرة، أو لمحة، أو كلمة، أو عبرة، أو ضحكة، أو مجاملة، والخطوة الأخيرة هي كسر الزجاجة، والوقوع في الفاحشة العظمى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33] وقال: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] لقد سماها الله تعالى فاحشة لأنها جمعت ألواناً من الإثم والزور والظلم والغبن الذي لا يحق ولا يحل، فما بالك حين يكون ذلك في شأن امرأة خانت زوجها، وغدرت بأطفالها وأولادها وبناتها، وألبستهم عاراً وشناراً لا يمحى، فخالفت زوجها إلى غيره؟! بل ربما في بيته وربما على فراشه أيضاً؟!(41/6)
المجاهرة بالمعاصي الشخصية
هذا نموذجٌ فحسب لظاهر الإثم في المجاهرة بالمعصية.
ومن ظاهر الإثم -أيضاً- المجاهرة بالمعاصي الشخصية المتعلقة بشخص الإنسان في ثوبه، أو كلامه، أو مأكله، أو مشربه، أو ملبسه، أو شعره، أو هيئته، أو ما أشبه ذلك: مما يراه الناس ويعرفونه، ويتكلمون عنه في مجالسهم، فإن هذا من ظاهر الإثم الذي نهى الله عز وجل عنه، ومن ذلك بل أخطر منه البوح ببعض الأشياء الخاصة، والتحدث بها في المجالس، والتمدح بها، واعتبار أنها علامة من علامات الكرم، والرجولة، والقوة، والفتوة، والشخصية.
فأحدهم إذا كبر المجلس قام يفتخر بمغامراته، ويعرض بأفعاله، ويتحدث عما فعل، فعلت كذا، وفعلت كذا، رحلات وعبث ليس تحته طائل، ويخبر عن تلعب الشيطان به في اليقظة لا في المنام.
ولو أنه استتر بستر الله عز وجل، واتقى الله، واستغفر الله تعالى، لكان في عافية، ولكنه جاهر، فدخل في قوله عليه السلام: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} .
ومن ذلك أيضا التشبع بما لم يفعل من المعصية والزور، فبعض البنات في المدرسة إذا جلست في الفسحة مع زميلاتها فقالت إحداهن: صديقي فلان، وقالت الأخرى: أنا أتصل بشاب، وقالت الثالثة، وقالت الرابعة -وهي بنت نقية عفيفة لكنها استحت أن تنفرد من بينهن- قالت: وأنا لي صلة بابن عمي، وهو كذا وهو كذا، وهذا وإن كان قليلاً، لكنه ينبغي أن يحاصر من بدايته ويقاوم بقدر المستطاع، لتظل مجتمعاتنا نقية، فإن الثوب الأبيض يبين فيه الوسخ والعيب ولو كان قليلاً، بخلاف الثوب الأسود فإنه مهما وضع فيه الإنسان لا يبين ولا يظهر.
يجب أن تكون أسرنا ومجتمعاتنا وأفرادنا أثواباً بيضاء، تأبى على ألوان الغش والخداع والتدليس.
ومن ذلك أيضاً بل شر منه توثيق الإنسان جريمته ومعصيته بوثيقة يؤاخذ بها في الدنيا والآخرة، وأي عار أو شنار أعظم عند الله تعالى ثم عند الناس أن يتحلق الناس ليسمعوا ماذا؟! ليسمعوا شريط مغازلة بين ذكر وأنثى، يقول لها فاحش القول، وترد عليه بمثل ذلك، وربما تحدث الناس فقالوا: فلان، وقالوا: فلانة، وأي عار أو شنار من أن يتناقل الناس صوراً بأيديهم على الورق تتحدث عن جريمة وقع فيها زيد أو عبيد من الناس؟! وأي عار أو شنار أعظم من أن يتحلق الناس حول هذه الشاشة ليشاهدوا شريط فيديو يعرض جريمة وقع فيها فلان! وقد يكون شخصاً معروفاً مشهوراً يتحدث الناس باسمه، ويتكلمون عنه، ثم يتبعونه باللعنة على جريمته العظيمة التي غدر فيها ليس بامرأة، وإنما غدر فيها بمجتمع كامل، وغدر فيها بنفسه، وغدر فيها بأسرته، وعصى فيها الله عز وجل، هذه كلها ألوان من المجاهرات، لكنها يمكن أن توصف بأنها مجاهرات تتعلق بالجريمة الشخصية، أو الفردية، أو الفاحشة الخاصة بالإنسان.(41/7)
المجاهرة بالمعاصي الجماعية
لكن ثمة ألوان أخرى من المجاهرات أعظم من ذلك وأخطر، ألا وهي: المجاهرات الجماعية، والمنكرات العامة التي يعلن المجتمع كله معصية الله تعالى من خلالها ويصر عليها، بل ويقيم المجتمع المؤسسات والدور والأجهزة التي تحرسها وتحميها وتدعمها وتقيم بناءها، ويظل هذا المجتمع عليها يغذيها بعرقه، وجهد أبنائه وماله وسمعته، ويعمل المجتمع على تدعيمها وتعميق جذورها وترسيخها يوماً بعد يوم.
تقول لي: مثل ماذا؟ أقول لك: بيوت الربا التي تجاهر بحرب الله عز وجل صباح مساء، تعلن الحرب على الله جل وعز: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:279] أي: بترك الربا، {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] .
بيوت الربا التي تدار فيها الفوائد المحرمة التي جاء في تحريمها أكثر من سبعة عشر حديثاً، فهي أحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أقول بملء فمي: اقتصاد البلاد الإسلامية كلها وبدون استثناء يقوم على هذا الربا الحرام الذي هو حرب لله عز وجل، فكيف ترى وتظن في اقتصاد يقوم على محاربة الجبار؟! أليس مصيره إلى خسار وإلى إفلاس وإلى ضياع؟! ولذلك تجد أن أموال المسلمين تضيع في بنوك الغرب حيث تودع هناك فيستثمرها الغرب، ويأخذ المسلمون منها الفتات القليل الذي هو -أيضاً- حرام؛ لأنه جاء عن طريق فوائد ربوية، وليس عن طريق مضاربة أو ربح حلال.
تضيع في النفقات والأعطيات والهبات السخية التي تنفق ذات اليمين وذات الشمال على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين من اليهود، أو من النصارى أو من غيرهما، تضيع في مجاملات واستمالات لبعض الطوائف والأطراف، فيوماً هنا ويوماً هناك، ومع ذلك ما قربت منا بعيداً، ولا أزالت عداوة، ولا نفعت إلا بإيغار الصدور وتعميق العدواة وتحريك الضغائن في هؤلاء وأولئك، فأصبحوا كلما قلت عنهم النفقة أعلنوا العداوة، وصرحوا بها، وبدءوا يبتزون أمم الإسلام يوماً بعد يوم.
وذلك كله من آثار تخلي الله عز وجل عن المسلمين في اقتصادهم حيث أقاموه على غير شريعة الإسلام، وعلى غير ما يرضي الله عز وجل، فبارزوا الله تعالى بهذه المعصية الكبيرة العظيمة، معصية الربا التي هي من أكبر الكبائر، ولم يرد فيما أعلم في شيء من المعاصي من النصوص في القرآن والحديث في التعظيم لها والتحذير منها وبيان خطورتها وفظاعتها مثل ما ورد في شأن الربا.
ومن ذلك أيضاً، من المعاصي الظاهرة الجماعية التي يقوم المجتمع، أو تقوم المجتمعات الإسلامية على حمايتها وحراستها وحياطتها: دور الرذيلة والبغاء والدعارة الموجودة في بعض بلاد الإسلام، بل والمرخص لها رسمياً في بعض بلاد الإسلام، وتقوم بعض الجهات بالإشراف الطبي عليها، وتأخذ منها الضرائب، وتعتبر أن هذه الدور هي جزء من الدخل القومي، وجزء من تحقيق معنى الاقتصاد، وجزء من جذب السواح، وهذا موجود في دول مغاربية، ودول أفريقية إسلامية، وفي بلاد كثيرة من بلاد الإسلام، والله المستعان! والغريب أن الناس يستفظعون ذلك، ويستعظمونه، وهو لا شك فظيع عظيم، وكيف لا يستفظع المسلم الذي يستفظع مجرد سماع كلمة الفاحشة، كيف لا يستفظع أن يقع فيها إنسان؟! بل كيف لا يستفظع أن يعلن بها آخر؟! إذاً: كيف لا يستفظع أن توضع لوحة طويلة عريضة تنادي المارة إلى الإثم والفواحش؟! ولكنني أعجب -وحق لي أن أعجب- لماذا يستفظع المسلمون أن يرخص لبيوت الدعارة وبيوت الرذيلة، ولا يستفظعون أن يرخص للبنوك الربوية مع أن الربا أعظم من الزنا؟! وقد يسمون هذه البيوت بغير اسمها، {يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها} ، فهي تسمى أحياناً النوادي الليلية أو الملاهي أو المراقص أو المسارح أو ما أشبه ذلك، وكل ذلك من باب تغيير الأسماء، والحقائق واحدة.
ومن المنكرات الظاهرة الاجتماعية التي هي من ظاهر الإثم، والمجتمعات الإسلامية كلها تنفخ فيها وتؤيدها وتدعمها وتساعدها، وتنفخ فيها روح الحياة والقوة يوماً بعد يوم: أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي التي تشحذ الغرائز، وتهيجها وتثيرها من جهة، فهي تخاطب الشباب والفتيات: هيت لك! هيت لك! صباح مساء؛ من خلال الأغنية، ومن خلال الرقص الخليع، ومن خلال المشهد، ومن خلال الصورة، ومن خلال العبارة، فهذه الكلمة هي التي يدندنون حولها صباح مساء، أو من خلال تشويه الحقائق الواقعية، وطمس الصورة التي يحتاج الناس إلى معرفتها، وشغل الأمة بالتوافه من الأمور، والاهتمامات الفارغة؛ فيوماً بالكرة والرياضة، ويوماً بصناعة الأبطال الوهميين، ويوماً بالفن الرخيص، ويوماً بالنفخ في صور القيادات المصطنعة التي لا قوام لها بذاتها، فهي لا تملك المواهب الذاتية التي تقدم نفسها للناس من خلالها، بل هي تتهاوى كلما هدأ التطبيل لها، ولذلك تحتاج إلى أن ينفخ فيها باستمرار، وأن تعظم أبداً، وأن يتحدث عنها، وأن يصفق لها، وأن يظل الناس في ضجيج وهتاف لها حتى تكون لماعة باستمرار، ويظل الناس منخدعين بها.
وإلا فما معنى أن تقدم رموز الحداثة والأدب والشعر الحداثي في إعلام المسلمين، على أن هؤلاء هم الأدباء، وهم الشعراء، وهم رموز العلم، والفن، والفكر، والثقافة، والتقدم؟! ويحال بين الصوت الإسلامي والنموذج الإسلامي وبين أن يخاطب ولو قطاعاً من المسلمين، بل يوصم بكل نقيصة، فتلصق به تهم التطرف، والإرهاب، والتخلف، والرجعية، والانحطاط، والسوداوية، والرغبة في الرجوع إلى عصور الحريم وإلى العصور الوسطى، والعمل على القضاء على مكتسبات الدول، وعلى تدمير الاقتصاد، وعلى هدم المصالح القومية، وما أشبه ذلك من العبارات التي يلصقونها، ثم لا يسمحون للمتهم حتى بمجرد الدفاع عن نفسه، فضلاً عن أن يعرض بضاعته بضاعة السماء ويدعو الناس إليها.
وما معنى التمكين لهؤلاء المنافقين، والهتافين، والمطبلين، الذين لا يجيدون إلا فن النفاق، والمداهنة، والتطبيل، والتزمير، والحيلولة بين رجال العلم، ورجال الدعوة، ورجال العمل، ورجال الصناعة، ورجال التقوية، ورجال الخبرة الذين ينفعون الأمة في دينها، أو ينفعون الأمة في دنياها؟! وما معنى تقديم صنائع الغرب وخدامه ومحاصرة رجال الإسلام المخلصين الذين هم خير مخلص لأمته ووطنه؟! إن من العجب أن تضيع الملايين من الشباب والفتيات في بلاد الإسلام بطولها وعرضها في لهاث مسعور وراء الإغراء، أو وراء الشهوة، أو وراء الفساد باسم الفن تارة، وباسم الرياضة تارة أخرى، وباسم الرقص، وباسم ألوان وألون من المغريات العصرية، أو يضيعون وراء الشهوة التي يبحثون عنها، أو يضيعون أيضاً وراء الشهرة عن طريق من هذه الطرق السابقة.
فإذا من الله على واحدهم بالهداية، وتاب إلى الله تعالى وأناب، فإن كان شاباً أقلع عن ذلك كله وربَّى لحيته، وتردد على المساجد، وصلى لله عز وجل واستقام حاله، وإن كانت فتاة تحجبت، وسترت ما حرم الله، وابتعدت عن الحرام، وتركت كل ما لا يرضي الله عز وجل.
وبالأمس يوم كانوا في طريق الغواية، كانت الطرق كلها أمامهم مفتوحة، والأبواب مشرعة، ووسائل الإعلام تدعوهم صباح مساء، والأموال تصب عليهم صباً، أما يوم اهتدوا فقد وجدوا المتسع ضيقاً، ووجدوا الميدان مزحوماً عنهم، فَمُنَّ عليهم وبخسوا حقهم، مُنّ عليهم حتى بكلمة يسيرة يدافعون فيها عن أنفسهم، أو يبينون حقيقة موقفهم، وقد رأيت كثيراً من الصحفيين وغيرهم يقولون عن أولئك الفتيات المتحجبات اللاتي كن بالأمس راقصات، أو فنانات، أو ممثلات، أو ما شابه ذلك، قال عنهن أرباب الصحافة الكثير، فقالوا: هؤلاء البنات قبضن مرتبات وأموالاً من الخارج مقابل الهداية، وقال آخرون: تحولن إلى متطرفات ومتزمتات، وقالت فئة ثالثة: إن هؤلاء كن يمارسن بالأمس باسم الفن أموراً غير حميدة، فلما كان الأمر كذلك تركن الفن، أما بقية الفنانات اللاتي ما زلن على طريق الفن فهن نظيفات تقيات عفيفات، فالله أكبر كيف تحولت الأمور وانقلبت الموازين؟! إذا وصف الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل وقال السها للشمس أنت ضئيلة وقال الدجا يا صبح لونك حائل وطاولت الأرض السماء جهالة وفاخرت الشهب الحصى والجنادل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل كيف تعيّر التقية النقية التي ضحت بالشهرة، والمال، وتحملت في سبيل الله ألسنتكم الطويلة يا أرباب الإعلام، ويا أهيل الصحافة، وتحملت في سبيل ذلك أذى الأبعدين والأقربين، وتخلت عن أشياء كثيرة في سبيل الله عز وجل، وكان حق المجتمع أن يؤيدها ويناصرها ويدعمها، ويقدمها للأجيال على أنها النموذج الذي يجب أن يحتذى، لا أن يطعنها في خاصرتها أو في ظهرها، ويتهمها بمثل هذه التهم.
وليس العجب أن يتسلط على الإعلام مثل أولئك الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، لكن العجب أن تسكت الأمة عن هؤلاء، والعجب أن تشتري الأمة مطبوعاتهم وكتاباتهم وأشرطتهم وأفلامهم، وأن يكون مال المسلمين دعماً وتقوية لهؤلاء يثرون على حسابهم.
ومن ظاهر الإثم أيضاً تولي أعداء الله عز وجل بالقول والفعل، وتمكينهم من بلاد المسلمين، ودعمهم، ومساعدتهم، وتسهيل السبل أمامهم في مقابل إيذاء أهل الخير، ومضايقتهم، واضطهادهم، والحيلولة بينهم وبين الدعوة إلى الله تعالى، أو عبادته، أو طاعته، أو الجهاد في سبيله، نعم إننا نعلم في بلاد الإسلام كلها أنه تقام الاحتفالات للنصارى علانية، وفي الشوارع العامة، وفي الساحات والميادين العلانية، ويحضرها أولاد المسلمين وبناتهم وكبارهم وصغارهم بصور مختلفة، ويرقصون على أنغام الموسيقى، ويقدم لهم رجال النصرانية على أنهم نماذج حية مثلما قدم لـ بابا نويل أو غيره في عدد من الاحتفالات التي أقيمت في هذه البلاد وفي غيرها من البلاد.
في حين أنهم يستكثرون على أهل الخير أن يجتمع منهم ولو كان العدد قليلاً، وقد يسمح لمجموعة من النصارى أن تجتمع منهم ألوف في ميدان أو فندق أو قصر أو مكان ليقيموا الاحتفالات، ويلقوا الكلمات، ويتبادلوا الأحاديث بأجواء مخ(41/8)
باطن الإثم
خامساً: باطن الإثم، أما الباطن وهو السر والخفي فكثير، ولكن هاهنا
السؤال
لماذا نص الله تعالى على باطن الإثم دون ظاهره؟ فأقول لأسباب: أولها: إن من شأن الإنسان المؤمن أن يخفي إثمه، ويستتر به عن الناس لأنه يدري أنه عيب وعار ومذمة، ولهذا روى الإمام أحمد رحمه الله ومسلم رحمه الله في صحيحه عن {النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس} فالمؤمن يكره أن يطلع الناس على الإثم بفطرته وطبيعته، لأنه يعلم أن الناس يستعيبون ذلك ويسترذلونه ويذمونه، والمقصود بالناس: المؤمنون الأتقياء الذين يذمون الباطل وينكرونه، ويعرفون المعروف ويأمرون به.
إذاً فالآية نهي عن الإثم من حيث هو إثم، عرفه الناس أو لم يعرفوا، فهو يترك الإثم لأنه إثم: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] ولهذا قال ابن الأنباري رحمه الله: المعنى ذروا الإثم من جميع جهاته.
السبب الثاني: أن من الناس من يترك المعصية علناً، لا يتركها خوفاً من الله عز وجل ولا خشيةً من عقابه، ولكن يتركها حفاظاً على مكانته الاجتماعية، وخشية انكسار جاهه عند الناس، وحياطة لمنزلته، وذلك لأنه في مجتمع متدين، تقوم علاقاته على أساس ديني، فهو حريص على صورته الدينية لدى الجيران، ولدى الأقرباء، ولدى الزوجة، ولدى أهل الزوجة، ولدى زملاء العمل أو المهنة، ولذلك هو يستتر عن الناس جميعاً، ولكنه لا يستتر عن الله عز وجل لأنه لا يخافه، فهو يستخفي من الناس ولا يستخفي من الله، ولا يترك المعصية مراقبة لله تعالى هذا من جهة.
أوقد يكون تظاهره بالطاعة وإخفاؤه للمعصية رعاية لمكانته الخاصة في المجتمع المبني على أساس ديني، كأن يكون إماماً، أو خطيباً، أو عالماً، أو داعياً، أو موجهاً، أو مرشداً، فيرى أن الناس ينظرون إليه على أنه رمز للدين والتدين والصلاح، ولذلك هو كسب المنزلة بهذا السبب، ونال رضا الناس من هذا الوجه، حتى لو كان مجتمعه مقصراً، أو منحرفاً أو مفرطاً، فهو يحتاج حفاظاً على منزلته الخاصة إلى المصانعة الظاهرة والتجمل والتعمل للناس دون أن يراعي الله عز وجل في الباطن، لأنه تقي الظاهر فاجر الباطن، والعياذ بالله! السبب الثالث: أن من الناس من يترك المعصية عجزاً، استفرغ وسعه في الحصول على المعصية والوصول إليها، فخطط ودرس ونظم وكاد وأبلغ، ولكنه فشل بعد ذلك، وعجز عن الوصول، فذهب وهو يفرك إحدى يديه بالأخرى تمنياً للمعصية ورغبة فيها، لكن حيل بينه وبين ما يشتهي، وهذا قد ثبت له إثم نيته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى} .
فهو قد استفرغ وسعه في تحصيل ذلك العمل، ولكن انقطعت به الأسباب، وأغلقت في وجهه الأبواب، إما بأن أمره انكشف للناس، أو أن تدبيره انفرط وبطل، أو فاته ما يتمنى وما يخطط له، ولهذا جاء في حديث أبي بكرة المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا التقى المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل -أي: قتل نفساً- فما بال المقتول؟! قال عليه الصلاة والسلام: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه} .
لقد ثبت له إثم العزم والنية الجازمة والمحاولة وبذل الوسع في الوصول إلى المعصية، ثبت له ذلك كله، ولكن الله تعالى لا يظلم أحداً، فهذا يكتب له إثم ما سعى إليه وما بذل وحاول، أما المعصية فلا تكتب عليه معصية لم يفعلها، لا يكتب عليه أنه زنى وهو لم يزن، لكن زنت يده بالبطش، وزنت رجله بالمشي، وزنت عينه بالنظر، وزنت أذنه بالسمع، وزنى فمه بالقبلة أو بالكلمة، أما فرجه فلا يكتب عليه إثم زناً لم يفعله.
وهكذا السارق تكتب له سرقة رجله بالمشي، وسرقة يده التي امتدت إلى الحرام، وسرقة المحاولة بالتسلق -مثلاً- أو الوصول والتسلل إلى ذلك المكان، لكن لا يكتب عليه إثم مال لم يقم بسرقته أو أخذه، وهكذا بقية المعاصي، ولذلك جاء في حديث ابن عباس -أيضاً- في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -فيما يرويه عن ربه عز وجل: {إذا هم العبد بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات، إلى أضعاف كثيرة، فإذا هم بها فلم يعلمها كتبت له حسنة كاملة، فإن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإذا هم بسيئة فعملها كتبت عليه سيئة واحدة} قال الله تعالى في آخر الحديث: {فإنه إنما تركها من جرائي} أي: من أجلي وخشية، ومراقبة لله عز وجل.
فلذلك كتبت له حسنة حينما ترك السيئة، تركها لوجه الله فكتبت له حسنة، لكن لو تركها عجزاً بعد ما حاول وبذل واستفرغ جهده، فإنه يكتب عليه وزر محاولته تلك كما دل عليه حديث أبي بكرة السابق.
أما صور باطن الإثم: فهي صور كثيرة، ولأن هذا الموضوع موضوع خطير، وهو مرادي أصلاً من هذه المحاضرة، فإني أدع ذكر بقية الصور لضيق الوقت عنها لمحاضرة أخرى إن شاء الله تعالى، وأدع ما بقي من الوقت للإجابة على ما قد يكون هناك من أسئلة.(41/9)
الأسئلة(41/10)
نصيحة لرجال الأمن
السؤال يقول: ما يروجه بعض المنافقين عن شباب الصحوة من صورة غير حقيقية، تعرضهم للنقل عن وظائفهم مثل ما حدث في هذه المنطقة من نقل بعض الشباب إلى مناطق أخرى، فهل هناك توجيه لمن ينقل مثل هذه الادعاءات؟
الجواب
أنا أخاطب رجال الأمن في هذا الأمر؛ لأن لهم دوراً كبيراً عظيماً، وهذا التقارير الأمنية التي تكتب عن زيد وعبيد هي التي يبنى عليها في كثير من الأحيان قرارات بسجن أو مضايقة أو نقل أو إيقاف أو ما أشبه ذلك.
فأنا أدعو الإخوة من رجال الأمن إلى أن يتقوا الله تعالى، وأن يعلموا أنهم هم جزء من أبناء هذه البلاد، وقد ولاهم الله تعالى مثل هذه المسئولية العظيمة الخطيرة، فليعلم الواحد منهم أن كل ما يخطه بقلمه، أو يقوله بلسانه، أو يسجله بجهازه أنه مسئول عنه بين يدي الله عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .
وأن من تخاطبهم من رؤساء ومسئولين لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وأنهم لن ينفعوك ولن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل لك أو عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
فعليك أن تتحرى الحق، وأن تراقب الله تعالى، وأن تبتعد عن أن تكتب ما يضر مسلماً أو يسيء إليه، ولا تغتر بأنه عدو لك أو خصم، أو أن ذلك قد يرفعك في وظيفتك أو رتبتك، أو أنه قد يجعل مسئولك يرضى عنك، فإنه قد يرضى عنك، ولكن قد يسخط الله عليك من فوق سبع سماوات، وقد يكون سخط الله عز وجل عليك سبباً في كره زوجتك لك، أو عقوق أولادك، أو قلة أموالك، أو عدم توفيقك في أمورك، أو مرض في بدنك، أو ما أشبه ذلك مما لا توفق فيه.
وكيف تسجد لله وتركع بين يديه، وتقول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي العظيم، سبحانك اللهم وبحمدك، إياك نعبد وإياك نستعين كيف تفعل ذلك وأنت تعلم أنك قد تكون يوماً من الأيام حاربت مسلماً أو ولياً من أولياء الله؟! لا يا أخي أنت حاربت الله، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي أعلمته بأني محاربٌ له.
فكيف يكون حالك وأنت ضعيف فقير، إذا كان ربك مؤذناً لك بالحرب؟! كيف تقول له: إياك نعبد وإياك نستعين، وأنت تعلم أنك تحاربه بتقارير تكتبها، أو أقوال تنقلها، أو شبهات، أو ظنون؟! أنت تقول: أظن الأمر كذا، لكن مسئولك يكتب الأمر على أنه حقيقة، والذي فوقه حتى يرفع على أنه تقرير على أعلى المستويات، وكانت بدايته تلك البداية الضعيفة التي لا تعدو أن تكون ظناً أو انتقاماً من شخص بينك وبينه خصومة، أو تحقيقاً لهوى في نفسك.
فأنا أدعو الإخوة من رجال الأمن إلى أن يراقبوا الله عز وجل ويتقوه، ويبتعدوا عن الحرام، وأن يدركوا أن قرشاً يدخل جيوبهم من غير حلال يحبط كثيراً من أموالهم، ويكون سبباً في تلفها: {وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به} .
وأنا أعلم أن من بينهم كثيراً ممن يراقبون الله عز وجل، ويخافونه، ويحبون الخير، ويصلون مع المسلمين، ولكنهم كمؤمن آل فرعون، مضطهد لا يستطيع أن يبطل باطلاً ولا أن يقول حقاً، لكن {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] .
ووالله لا يجوز لأحد أن يضر مسلماً حتى ولو أبعد عن وظيفته، أو أقصي عن عمله، أو أخرت علاوته أو ترفيعه.
إذا لم تقل الحق فعلى أقل تقدير لا تقل الباطل، واعلم أن دعوات المسلمين في آناء الليل وأطراف النهار وفي أدبار الصلوات، اعلم أن دعواتهم على من تسبب في أذى مسلم، أو آذى مسلماً، أن جزءاً منها ينصرف إليك إن كنت ممن آذى، أما إن كنت بعيداً عن ذلك بريئاً، يؤذيك أن يصاب مسلم، وتفرح لعز الدين فأنت -إن شاء الله- على خير {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] .
على كل حال نترك بقية الأسئلة، لعل الله يتيح لها فرصة، وإلا فهي كلها أسئلة جيدة تدل حقيقة على مستوى جيد للإخوة الحضور، أسأل الله تعالى أن يجزيهم خيراً، وألا يخيب مسعاهم، وألا يقوموا من اجتماعهم هذا إلا وقد غفرت لهم ذنوبهم، وحطت عنهم خطاياهم، ورفعت درجاتهم.
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا أن يغفر لنا أجمعين، وأن يهب المسيئين منا للمحسنين، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.
أسأل الله أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم من أراد الإسلام بسوء فأشغله بنفسه، اللهم من أراد الإسلام بسوء فأشغله بنفسه، اللهم فك أسر إخواننا المضطهدين المأسورين في كل مكان، اللهم فك أسر إخواننا في مصر، اللهم فك أسرهم في الجزائر، اللهم فك أسرهم في كل مكان، اللهم انصر إخواننا في البوسنة، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصر إخواننا في مصر والجزائر يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا في طاجكستان.
اللهم انصر إخواننا فوق كل أرض وتحت كل سماء، يا ناصر المستضعفين اللهم بيت أعداء الدين، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أقر أعيننا بهلاكهم يا حي يا قيوم، اللهم صب عليهم البلاء صباً يا رب العالمين، اللهم فك أسر أخينا الشيخ إبراهيم الدبيان، اللهم فك أسره يا حي يا قيوم، اللهم فك أسره يا حي يا قيوم، اللهم فك أسر إخواننا المأسورين المسجونين في بلاد الجوف يا رب العالمين، اللهم من أرادهم بسوء فأشغله بنفسه، اللهم من آذاهم فسلط عليه العذاب، اللهم إن أردت هدايته فعجل له بالهداية، وإن سبق في علمك أنه لا يهتدي فعجل له بالعقاب والعذاب يا رب العالمين، حتى يكون عبرة لغيره، إنك على كل شيء قدير.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.(41/11)
إجراء عملية ضرورية للنساء من الرجل
السؤال
لدي جرح قديم وله أثر واضح، وقرر فيه عملية تجميل، ولكني مترددة في ذلك؛ لأن الذين يقومون بها رجال، فبماذا تنصحونني؟
الجواب
إن استطعت أن تجدي نساءً يقمن بها فعليك بذلك، أما إن لم تجدي إلا رجالاً، فإن كان هذا لا يؤثر فيك ولا يضر، فأرى أن تصبري وتحتسبي، أما إن كان يضرك فلا بأس أن يعملها رجال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] مع العلم أنه يوجد الآن مستشفيات نسائية في أكثر من مكان يمكن أن تساهم في ذلك.(41/12)
النوم عن الصلاة
السؤال
لي أخ مصلٍ، ولكن إذا نام يصعب إيقاظه، وأحياناً يرفض القيام، فبماذا تنصحوني؟
الجواب
عليك أن تنصحيه بأن يستعد للقيام بالتبكير في النوم، ووضع المنبهات، والنوم على طهارة، وذكر الله عز وجل والنوم على الجنب الأيمن، وما أشبه ذلك مما يعينه على الاستيقاظ، ويدعو الله تعالى، وأن تكثري من تذكيره، فإنه لو عظمت الصلاة في عينه لاستيقظ وقت الصلاة، أو استيقظ إذا أوقظ، أما إن كان ذلك يرجع إلى مرض فيه كما يقع في البعض، أو أمر موروث بحيث أنه لا يستيقظ أبداً، فإن الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ صفوان: {إذا استيقظت فصلِّ} .(41/13)
خبر إيقاف الشيخ
السؤال
ما هي حقيقة توقيفكم؟ هل هذا صحيح؟
الجواب
نعم صدر بذلك قرار، ولكن الشيخ عبد العزيز وعد شفهياً أنه سوف يلغي هذا القرار قبل أسبوع، وآخر ما وعد به غداً يوم السبت أنه سوف يصدر قراراً بإلغاء ما سبق، وأرجو من الله تعالى أن يتمكن من ذلك وألا يحال بينه وبينه، وعلى كل حال الأمر بيد الله، والمؤمن يعلم أن الخير فيما اختاره الله عز وجل.(41/14)
أخبار الانتخابات في اليمن
السؤال
يسأل عن الانتخابات التي جرت في اليمن؟
الجواب
نعم جرت في اليمن انتخابات كما تعلمون، وفاز ما يسمى بحزب المؤتمر الشعبي في الشمال بأغلبية الأصوات؛ لأنه يؤيده الجيش، ويؤيده أجهزة الأمن، وبعض القبائل، وكذلك فاز حزب الإصلاح اليمني الذي يرأسه الشيخ الأحمر، والشيخ عبد المجيد الزنداني، فاز بحوالي سبعة وستين صوتاً أو قريباً من ذلك، وفاز الحزب الاشتراكي في الجنوب بحوالي ستة وخمسين صوتاً، وبعض الأحزاب العلمانية، والبعثية، والزيدية فازت بقليل من الأصوات.
وعلى كل حال الأمر حصل ووقع وتم، ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين هناك إلى التصرف المناسب، وإلى الحكم بالشريعة، وإلى اتخاذ التدابير اللازمة التي تضمن تحكيم شريعة الله عز وجل وإحياء شعيرة الجهاد في سبيله بالقول والفعل، وتسخير إمكانية ذلك البلد العظيم إعلامياً، واقتصادياً، وعسكرياً، وأمنياً، واجتماعياً لخدمة الإسلام.
فإن هذا البلد عمق عظيم للإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {الإيمان يمان، والحكمة يمانية} وأثنى صلى الله عليه وسلم عليهم برقة أفئدتهم وسلامة قلوبهم، وكان منهم الأشعريون أبو موسى وقومه الذين قال الله عز وجل فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] .
فهم حملة رسالة الإسلام إذا نكص الناس وتخلوا: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] وأدعو الإخوة هناك أيضاً إلى العمل على تسوية خلافاتهم فيما بينهم في المسائل الاجتهادية بالطرق الهادئة الأخوية التي ترضي الله عز وجل وتفوت الفرصة على خصوم الإسلام، وأن يبتعدوا عن الشجار، وارتفاع الأصوات فضلاً عن ارتفاع العصي والأيدي أو ما فوق ذلك.
أسأل الله تعالى بمنه، وكرمه، وأسمائه، وصفاته أن ينصر الإسلام والمسلمين في اليمن إنه على كل شيء قدير، وأن ينصر إخواننا هناك، وأن يوفقهم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يصلح ذات بينهم، وأن يكفيهم شر أعدائهم، وأن يرينا في اليمن وفي سائر بلاد الإسلام من تحكيم شريعته وإحياء الجهاد ما تقر به عيوننا إنه على كل شيء قدير.(41/15)
حكم قراءة القرآن أثناء فترة الحيض للمرأة
السؤال
أحاول ختم القرآن خلال شهر، ولكن لا يمكنني ذلك، دون قراءته خلال أيام الدورة، فهل يمكنني تلاوته وعلي القفازين؟
الجواب
يجوز للمرأة -على القول الراجح- أن تقرأ القرآن، ولو كانت حائضاً أو نفساء، وهذا مذهب جماعة من أهل العلم كـ مالك، وهو رواية في المذهب، واختاره طوائف من أهل العلم، ومنهم سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز وأدلته كثيرة، فللمرأة أن تقرأ القرآن ولو كانت حائضاً أو نفساء، لكن لا يجوز لها أن تمس المصحف، بل عليها إن احتاجت إلى مسه أن تمسه من وراء حائل، أما الجنب فالراجح أنه لا يجوز له قراءة القرآن حتى يغتسل، وذلك لأن بين الجنب والحائض فرقاً، فأما الجنب فإنه يمكنه إزالة حدثه باغتسال، أما الحائض فحدثها ليس في يدها.(41/16)
الدعوة للتبرع لمكتب الدعوة
السؤال يقول: تعلمون أن مكتب الدعوة محتاج إلى الدعم المادي، وأن هذا من التجارة الرابحة، فحثوا الحضور على ذلك، لأن المكتب له مبنى يحتاج إلى الدعم لكي يشتروه؟
الجواب
سبق أن ذكرت في المقدمة حاجة مثل هذه المكاتب إلى الدعم، وأنا أدعوا الإخوة إلى المشاركة في سبل الخير وأبوابه، ودعمها مادياً ومعنوياً، وأرجو أن يقوم بعض الإخوة بعد الصلاة بجمع التبرعات لهذا المشروع.(41/17)
إطلاق الجاهلية على العالم الإسلامي
السؤال
هل يعتبر وضع العالم الإسلامي بحربه على الدعوة وإطلاق التطرف على دعاته فيه جاهلية؟
الجواب
لا ينبغي أن نطلق هذه الكلمة على عمومها، فهذه الأعمال كلها من أعمال أهل الجاهلية، لكن لا يمكن أن نصف الناس كلهم بأنهم في جاهلية، لأنهم يوجد فيهم أهل العلم، وأهل الخير، وأهل الفتوى، وأهل الدين، وأهل الصلاح، والذين هم على خير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المتواتر: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين} .(41/18)
مقاطعة المحطات التي فيها مخالفات
السؤال يقول: هناك محطات هنا فيها عمال هندوس وفيها بيع مجلات فاسدة وما أشبه ذلك؟
الجواب
ينبغي مقاطعتها بعد مناصحة القائمين عليها، فإن انتصحوا وأبعدوا هؤلاء العمال فالحمد لله، وإلا تقاطع هذه ويبتعد عنها.(41/19)
ضرورة إبعاد الهندوس عن جزيرة العرب
السؤال يقول: بشرى نزفها للجميع، وصلنا تعميم في إحدى الدوائر الحكومية ينص على ضرورة إبعاد العمالة الهندوسية من القطاعات المختلفة، بأقصى سرعة ممكنة؟
الجواب
أتمنى أن يتحول هذا التعميم إلى برنامج عملي، لقد علمت أن وزارة الصحة استقدمت مئات العمال الهندوس خلال الشهور الثلاثة الماضية، وكان مندوبو الوزارة موجودين في الهند في الوقت الذي هدم فيه المسجد البابري، واعتدي على أعراض المسلمات، واستقدموا عدداً من الهندوس كان نصيب منطقة القصيم منهم بالعشرات، والله المستعان.
أرجو أن يتحول هذا التعميم إلى واقع عملي، وأن يقوم كل إنسان في ميدانه وفي إدارته بتطبيق ذلك والسعي فيه.(41/20)
دور المرأة المسلمة في الدعوة
السؤال
دور المسلمة في الدعوة إلى الله، سواء كانت معلمة أم ربة منزل؟
الجواب
دور المسلمة دور كبير وجليل وخطير، سواء في منزلها مع زوجها ومع أطفالها، أم في مجتمعها مع بنات جنسها وجيرانها وزميلاتها وقريباتها، في المناسبات وفي الأفراح وفي الاجتماعات وفي الدروس العلمية وفي تحفيظ القرآن الكريم، وفي تحفيظ السنة النبوية، أم حتى في مدرستها بعقد حلق العلم ومجالس الذكر وتوزيع الكتب وتوزيع الأشرطة النافعة ونشر الخير بين البنات بقدر المستطاع.(41/21)
الفتوى الواجب إصدارها في شئون الصراعات
السؤال
لماذا لم يصدر منكم توجيه حازم تجاه أعمال الجماعات الإسلامية المنسوبة من اغتيال وتفجير، من حيث الحلال والحرام في مصر؟
الجواب
الواقع الآن ليست المسألة مسألة فتوى، الآن المسألة تتطلب أن تقال كلمة الحق في مجمل الواقع الذي حدا بهم، واضطر كثيراً منهم إلى ما وصلوا إليه، ونحن يصعب أن نحكم على ردة الفعل، ونتجاهل الفعل، نحن نقول: إن ما يحدث الآن في مصر، أو الجزائر، أو غيرها، هو أثر يسير لمخالفة هدي الله عز وجل والله تعالى، يقول: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] .
وأنا أحلف بالله العظيم، الواحد، الأحد، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، أن كل مجتمع يعرض عن شريعة الله تعالى، ويعرض عن التحاكم إليها، ويحكم غير هذه الشريعة، ويحارب الله تعالى ويحارب رسله، أنه سوف يتعرض لأقسى وأشد وأغلظ وأعظم من تلك الزعازع والقلاقل والفتن التي تعيشها الشعوب الإسلامية، سوف يتعرض لأشد من ذلك كله إذا لم يراجع تصرفاته ويصححها، ويخاف الله عز وجل ويتقي الله، ويأتمر بأمر الله، وينتهي عن نهيه.
فالقضية لا تتعلق بفتوى تصدر إلى هؤلاء، إنما القضية أوسع من ذلك، لا بد أن تصدر فتوى عن حكم التقنين والعمل بالقانون، ولا بد أن تصدر فتوى عن حكم موالاة الكفار والإلقاء إليهم بالمودة، ولا بد أن تصدر فتوى عن حكم تجنيد الإعلام لحرب الإسلام، ولا بد أن تصدر فتوى عن حكم استقدام الدعارة والفجور باسم السياحة، وباسم الفن، وباسم غير ذلك من الأشياء، ولا بد أن تصدر فتوى باسم تمكين اليهود، ومساعدتهم وتطبيع العلاقات معهم باسم السلام، ولا بد أن تصدر فتوى باسم التمكين للنصارى من الدعوة إلى دينهم، وإغراء المسلمين بالخروج عن الدين والدخول في النصرانية، وإيقاع البنات المسلمات في فكاك وشراك النصارى الذين ينظمون شبكات دعارة يورطون بنات المسلمين فيها، ويجرونهن إليها جراً، ولا بد أن تصدر فتوى بالظلم الواقع على المسلمين في كل مكان، ولا بد، ولا بد، ثم تصدر بعد ذلك فتوى في حكم ما يجري! أما أن تكون الفتوى مجيرة إلى فئة خاصة هي الفئة التي تريد السلطات الرسمية أن تصدر عنها فتوى، فأنا أرى أن يربأ طالب العلم بنفسه عن ذلك.
وقد تحدثت عن هذا الموضوع كثيراً، وكان آخر ذلك (السهام الأخيرة) التي هي ضمن الدروس العلمية، كما تحدثت عنه في محاضرة (حقيقة التطرف) وكانت في جدة، وفي محاضرة (نثار الأخبار) ؟ أيضاً ضمن الدروس العلمية.(41/22)
فتنة البث المباشر
السؤال
إن بعضهم يقول: إن الخطب والمواعظ لن ترد فتنة الأقمار الصناعية؟
الجواب
هذه صحيح، لن ترد، لأنه كما قال الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد فأنت تجد أن فتوى العلماء في تحريم الدشوش أصبحت تلاحق وتصادر، ويحقق مع من يوزعها، وإلى الله تعالى المشتكى وهو المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولكن علينا نحن أن نكون جميعاً وسائل إعلامية متنقلة، ينبغي أن نعلم أن همم الرجال تزيل الجبال، وأن قوة الشباب يمكن أن تفتت الصخور بإذن الحي القيوم، متى ما صدقوا وأخلصوا، كن أنت داعية إلى الخير بكل مكان، حيثما حللت تنشر كتاباً، أو شريطاً، أو كلمة حق، أو أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو دعوة، أو دفاعاً عن خير، أو محاولة إيصال الخير بقدر ما تستطيع، وحينئذٍ سوف تكون هذه الوسائل ضعيفة الجدوى، بل ربما تحول بعض الوسائل الإعلامية إلى أساليب قد تستثمر في صالح الخير ولو في نطاق ضيق.(41/23)
مناظرة أهل الكتاب
السؤال
إنه يحب الشيخ أحمد ديدات الذي يعمل مناظرات مع النصارى؟
الجواب
هذا جيد، لا بأس به، كما قال الله تعالى: {ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] وقال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] فالمجادلة والمناظرة بالحق، متى ما كان عندك بذلك علم ومعرفة، وتستطيع أن ترد على شبهاتهم هو أمر طيب، وينبغي أن نسلط عليهم سهام الدعوة، منهم من يسلم، ومنهم من يضعف يقينه بدينه، ومنهم من يقل حماسه، ومنهم من قد يثير عنده علامة استفهام، وتكبر فيما بعد، وربما تكون سبباً في الإسلام إلى غير ذلك.(41/24)
حسن الظن من حسن العمل
السؤال يقول: قال الله تعالى: {أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن عبدي بي ما شاء} فهل حسن الظن من حسن العمل؟
الجواب
حسن الظن من حسن العمل، وحسن العمل من حسن الظن، أي أن حسن ظن الإنسان بربه يكون بسبب أعماله الصالحة، فإذا عمل صالحاً وفقه الله تعالىلحسن الظن، وكذلك حسن الظن بالله عز وجل هو من العمل الصالح الحسن الذي ينبغي للعبد أن يحرص عليه، أما أن يقول الإنسان: أنا أحسن الظن بالله وهو يبارزه بالمعصية صباح مساء، فهذا ليس بصحيح، بل هو من وضع الشيء في غير موضعه، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.(41/25)
الأحداث مع الشيعة في المنطقة الشرقية
السؤال يقول: لقد أرهقنا وأزعجنا ما حصل للشيخ إبراهيم الدبيان وغيره من العلماء، فما هي أخباره؟ وما هو عملنا نحو هذا المنكر؟ هل صحيح ما حصل في الشرقية من تسلط أحد الشيعة على رجال الهيئة؟
الجواب
نعم، كل ذلك صحيح، والخطب يطول، والذي نخشاه أن يكون العلمانيون قد رفعوا رءوسهم، ووجدوا الأرض الخصبة والجو المناسب، فأصبحت طرق الخير تضيق يوماً بعد يوم، وأصبح الدعاة يسحب منهم البساط خطوة بعد أخرى، وأصبح العلمانيون وأهل الشهوة يعلنون بباطلهم وفسادهم يوماً بعد يوم.
فهذا الشيخ إبراهيم -حفظه الله وعجل فرجه- مضى عليه الآن عشرة أيام تقريباً، وهو رهين السجن، ولا أحد يعلم عنه شيئاً، مع أننا نعلم أنه لم يأتِ ما يدعو إلى ذلك، ونعلم أن أرباب الفساد والريب والشهوة والظلم الذين يقبضون بجرائم علنية، أنهم يخرجون بالكفالة، وهذا نظام معروف شائع.
فلماذا يعامل الدعاة بمعاملة خاصة، وطلبة العلم؟! ولماذا لا يخرجون؟! ولماذا لا تحال قضايانا جميعاً إلى المحاكم الشرعية؟! لقد رضينا بشريعة الله تعالى حكماً في أمورنا كلها، دقيقها وجليلها، لا مثنوية في ذلك، فلماذا لا تحال هذه القضايا إلى المحاكم الشرعية يبت فيها أهل العلم والقضاة؟! وأعتقد أننا جميعاً نرضى بحكم الله عز وجل في أنفسنا ودمائنا وأهلينا وغير ذلك، ومن طلب الشريعة فإنما طلب حقاً، وينبغي أن يلبى، أما أن يرفض أو يعرض عن ذلك، فهذا هو الخطب الجلل: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:48-50] إنها خياراتٌ لا مخلص من أحدها، وكلها خيارات عظيمة عظيمة! إننا نعجب أن يفتح المجال للشيعة على مصراعيه، فيعقدون الاجتماعات العلنية، يحتفل مئات من الشباب منهم بزواجهم، يحضر عشرات الألوف هذه الاحتفالات، وتعلن في الجرائد، وتقدم في التلفاز، ويتحدث عنها، وبإذن رسمي، فإذا أراد أهل الخير أن يجتمع فيهم عدد قليل، قيل: لا، هذا فيه إثارة، وهذا فيه خطورة! فإذا اجتمع النصارى اجتمعوا أين؟ اجتمعوا في الميادين العامة في الظهران، في الأسواق والشوارع الرئيسية، رقص، وغناء، وموسيقى، التقى الرجال والنساء، السعوديون وغير السعوديين، المسلمون والكفار، ورأينا ذلك بأعيننا في وثائق لا تقبل الرد أو المناقشة، وترى فلذات الأكباد يعرضن أنفسهن أمام الرجال، وأمام الكفار بملابس النوم، الأرواب الشفافة التي تكشف ما وراءها.
وترى الشاب السعودي يحمل العلم الأمريكي، وترى الرجل الأمريكي يحمل العلم السعودي، وترى بابا نويل المنصر المعروف، يأتي بتمثيلية تقوم بأداء دور من أدواره على مرأى ومسمع من الجميع، وترى الإذن لأكثر من ستمائة مهندس وخبير غربي مع زوجاتهم بالاحتفال على مدى ثلاثة شهور في فنادق رئيسية شهيرة، يختلط فيها آلاف الرجال والنساء من الأمريكان وغير الأمريكان، وكل ذلك تحت سمع المجتمع وبصره وموافقته.
فإذا كانت القضية قضية المتدينين ضيقنا الخناق عليهم، فهذا خطيب يفصل، وهذا يبعد، وهذا يحاكم، وهذا يحقق معه، وهذا يطرد من البلد، وهذا يبعد عن عمله، وهناك عشرات الخطباء في المنطقة الشرقية بالذات قد أبعدوا منذ زمن بعيد، وحيل بينهم وبين المنبر، ثم تجد أن آخر ذلك مداهمة مقر حكومي رسمي، لماذا؟ لأنه مقر هيئة بالجبيل قبل يومين، ويأتي مريد الشرطة ومعه أعوانه، فيداهم ويفتش، ويصبح الآمر الناهي، ويأمر أفراده باحتجاز بعض العاملين في الهيئة، وعلى رأسهم رئيس الهيئة، ويسجن يوماً كاملاً لماذا؟! ما الجرم؟! ما الخطب؟! الجرم أن شيعياً قد اشتكاهم، وادعى أنهم آذوه، وأتى بتقرير من مستشفى هو أحد أفراده العاملين فيه، فهو يشهد لنفسه، أو يشهد له بعض أصحابه، ولنفرض أن ذلك حق، وأن الرجل ضرب، لننظر هل ضرب بباطل أم بغير باطل؟ ثم لنفرض أنه ضرب بغير باطل، وكل ذلك دون إثباته خرط القتاد! ولكن لنفرض أن الأمر وقع، ما الذي يدعو إلى هذه الأعمال الاستفزازية الموجهة إلى أهل السنة والجماعة بالذات؟ والموجهة لرجال الدعوة ورجال الصحوة على سبيل الخصوص، هل يراد أن يستثاروا بمثل هذه الأعمال؟ هل يراد أن يخرجوا عن صبرهم وطورهم؟ هل يظنون أنه ليس لهم من يحرسهم، ولا من يحميهم، ولا من يغضب لهم؟ نعم يجب أن يعلموا إنه إذا كان للشيعة دولة تغضب لهم، وللنصارى دول تحامي دونهم، أن المسلمين وأهل السنة يغضب لهم الجبار من فوق سبع سماوات.
يجب عليكم جميعاً أن تكونوا عمليين وفاعلين ومؤثرين، دعوا عنا النوم، ودعوا عنا الكلام، ودعوا عنا التمني، وانزل للميدان، وشارك بقدر ما تستطيع، شارك بالمراسلة، بالاتصال الهاتفي، بالزيارة، بالحديث، بكتابة البرقيات، بكتابة الرسائل، بالخطب، بالدروس، بالمحاضرات، بالكلمات في المساجد، وبكل ما تستطيع.(41/26)
إعلان لجنة حقوق الإنسان بالسعودية
السؤال يقول: أذيع في إذاعة لندن عصر هذا اليوم إنشاء جمعية لحقوق الإنسان في المملكة، برئاسة الشيخ عبد الله المسعري، وعضوية كل من الشيخ عبد الله بن جبرين وبعض المشايخ الذي على رأسهم عبد الله بن حمود التويجري وغيرهم، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
على كل حال وصلني هذا الخبر، ووصلتني ورقة عن هذه اللجنة، التي مهمتها الدفاع، وأعتقد أن هذه اللجنة من أهم الضرورات التي نحتاج إليها الآن، خاصة في ظل التسلط على شباب الإسلام، وعلى دعاته وعلى أهل السنة والجماعة، ولعلكم تعرفون -أيضاً- أن بعض الشباب مسجونون في الجوف منذ عشرة أيام، لسبب وجريمة هي أن زوجاتهم يدرسن القرآن الكريم في البيوت، هذا هو الذنب الذي من أجله سجنوا وأوذوا، ولا يزالون رهن الاعتقال منذ تلك الأيام.
فإلى متى يقع مثل هذا؟ في الوقت الذي يمكن فيه للنساء بعرض الأزياء، ويمكن فيه بالاختلاط، ويمكن فيه بالفساد، ويمكن فيه بألوان المخالفات الشرعية، ويمكن فيه للشباب بالرياضة، ولعبة الكرة، وعقد النوادي والاجتماعات من أجل تنمية الروابط -كما يقولون- وتدعيمها في تلك المنطقة وفي غيرها من المناطق.(41/27)
نظرة الغرب إلى المسلمين
تحدث الدرس عن أسباب خوف الغرب من الإسلام وأن منها الصحوة (الرجوع إلى الدين) بحيث فشل التنصير واستعاد المسلمون تميزهم، ثم ذكر من الأسباب: التكاثر السكاني عند المسلمين وأثره على الغرب، ومن الأسباب تنامي القوة العسكرية عند المسلمين.
ثم تطرق إلى كيفية مواجهة الغرب لذلك.
ثم ذكر الأشياء التي تؤثر في نظرة المسلمين إلى الغرب وأن من أهمها الدعم لإسرائيل ثم أجاب عن الأسئلة.(42/1)
أسباب المخاوف الغربية من الإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداًً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا الدرس الثمانون من سلسلة الدروس العامة، وهذه ليلة الإثنين السادس من شهر جمادى الآخرة من سنة ألف وأربعمائة وثلاثة عشر للهجرة، وعنوان هذا المجلس: (نظرة الغرب إلى المسلمين) وأول فقرة فيه، هي بعنوان: (الدرس السابق خلاصات وتعليقات) .
إن مما استفدناه من جلستنا الماضية، أن مخاوف الغرب من الإسلام تتزايد يوماً بعد يوم، سواء في ذلك مخاوف الحكومات الغربية، أو مخاوف المؤسسات الفكرية والسياسية وغيرها، أو مخاوف المواطنين العاديين الذين يكثر بينهم التخوف من الإسلام، بل تلقي إليهم أجهزة الإعلام الرعب بمجرد مشاهدة الثوب العربي، أو الغترة العربية، أو مشاهدة الإنسان المسلم.
وأسباب هذه المخاوف الغربية من الإسلام كثيرة منها:(42/2)
تنامي القوة العسكرية في العالم الإسلامي
أما السبب الثالث والأخير فهو: تنامي القوة العسكرية في العالم الإسلامي، خاصة بعد تحرر الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، وهي تملك الأسلحة والعتاد، بل وتملك القوة النووية، ولهذا فلا غرابة أن يصرح الرئيس الأمريكي السابق بيكر تصريحاً رسمياً بعد ما زار تلك الجمهوريات وبالذات موسكو: أن من أهداف الزيارة مواجهة المد الأصولي، ومنعه من الوصول إلى تلك الجمهوريات.
ولا شك أن الحرب التي تعلن الآن على إيران -في نظري- وتصريحها هي جزء من ذلك، فالغرب يخيفه أن تمتلك إيران الأسلحة النووية لماذا؟ هل لأنه لا يضمن أن تستخدم إيران السلاح ضد دول الخليج، إذاً لهان الأمر، وكان بإمكانه أن يجعل إيران ذراعاً يهدد دول الخليج، من أجل مزيد من الولاء له، والارتماء في أحضانه، ولكن الغرب يخاف أن تتطور الأمور بصورة لا يمكن تصورها الآن، وأن تدخل المنطقة كلها في مواجهة عامة شاملة تكون إسرائيل طرفاً فيها، فإذا كان الغرب يسعى إلى إيقاف إيران عن تعزيز قوتها، فلا تظن هذا خوفاً على دول الخليج بل هو بالدرجة الأولى خوف على ربيبته وحليفته الإستراتيجية التاريخية المسماة بإسرائيل.(42/3)
الرجوع إلى الدين
أولاً: الرجوع إلى الدين: فإن الدين هو سر القوة، والبقاء، والصبر، وسر التجمع والوحدة بين المسلمين، فالغرب ينزعج كثيراً من إقبال الناس على الإسلام، سواء ما نسميه نحن باصطلاح: الصحوة الإسلامية، أو أي مظهر آخر ينم عن عودة إلى الدين ورجوع إليه، فإن هذا يشكل عند الغرب رعباً ليس باليسير، ولذلك دلالات مهمة: أ/ فشل جهود التنصير: أولها: أن الغرب حينما يكتشف عودة الناس إلى الإسلام، فمعنى ذلك أنه يكتشف أن الجهود الضخمة التي بذلها هو للتنصير قد باءت بالفشل، وأن الجهود الأخرى التي بذلها للتغريب، ومحاولة جعل المسلمين بعيدين في مجال حياتهم عن الإسلام أنها هي الأخرى لم تجدِ نفعاً، وعلى سبيل المثال بثت إذاعة ألمانيا، وإذاعة صوت أمريكا، باللغة الأمهرية الموجهة إلى بعض البلاد الإفريقية وغيرها، بثت تقريراً نشرته الواشنطن بوست، أبدت فيه تخوفها من تمدد الإسلام، وهذه المخاوف تعتبر تعزيزاً وتأكيداً لمنشور سري وزعته الكنيسة باللغة الإنجليزية، وأشار هذا المنشور إلى سرعة تنامي عدد المسلمين، ولا سيما في أثيوبيا، حيث لا يرتاد الكنيسة إلا أقل من (5%) من سكان أديس أبابا، وأكد المنشور على ضرورة السعي الجاد للتنصير، ونقل التنصير من بيت إلى بيت لمواجهة الإسلام، هذا فيما يتعلق بالتنصير، وهو مثال من طرف القلم كما يقال، وإلا فالأمثلة في الجريدة الواحدة تعد بالعشرات.
أما فيما يتعلق بالسلوك الاجتماعي والأخلاقيات في أوساط المسلمين، فقد نشرت -وهذا أيضاً مجرد مثال- مجلة اسمها بانوراما الخليج، في عدد سابق مقالاً عنوانه: "خلونا ننشد ما دامت الغناوي حرام" وخلاصة المقال أن الكاتبة تبدي ذعرها وانزعاجها من شباب وشابات هذه الجيل، الذين أصبحت حياتهم -كما تعبر هي- حياة رتيبة مللاً في ملل، وأصبحوا يعيشون روتيناً لم يفرض عليهم، ولكن اختاروه بأنفسهم من المدرسة إلى المسجد إلى البيت وما أشبه ذلك، هؤلاء الشباب تقول: لم يعد الواحد منهم يتجه -مثلاً- إلى النوادي الاجتماعية، ولا يتجه إلى الجامعة لماذا؟ لأن الجامعة فيها اختلاط، وأصبحت البنت تفرح بمجرد ما تدعو لها أمها بالزواج، وتقول بصوت عالٍ: اللهم آمين، اللهم آمين، فالكاتبة المتحدثة مذعورة من هذا الإقبال على التدين ومن الالتزام بالأخلاقيات الذي لم يفرض على البنات والأولاد، وإنما بمحض اختيارهم، طلبوه وأرادوه، ونحن لا شك لا نصدق أبداً حقيقة ما تقول هي عن الملتزمين والملتزمات، فهم سباقون إلى كل خير، وهم بحمد الله منافسون في كل ميادين الحياة، ولكن هذه صورة من صور التشويه.
تقول في آخر المقال: خلونا نطلع، نمثل، نقرأ، نعزف، وحتى خلونا ننشد مادامت (الغناوي) حرام.
إن مثل هذا الكلام له معنى كبير، على رغم أننا نعلم جميعاً أن الأجهزة الرسمية في البلاد الإسلامية، ليست أجهزة محايدة لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، لا، بل هي تزيد في جرعة الفساد كلما زادت نسبة الخير، فكلما كثر الإقبال على الدروس والمحاضرات، كثفت الدورات الرياضية، ووسع نطاقها لإغراء المزيد من الأولاد والبنات بالاتجاه إليها، وكلما زادت الحشمة والعفة في أوساط البنات, وسعت أجهزة الإعلام من مساحة التحلل فيها، وقبل ثلاثة أيام نشر في القناة الثانية، في التلفزيون السعودي مشهداً -الذين يكبون على مشاهدة التلفاز يندهشون منه- رجل يقبل فتاة، وهكذا.
إذاً الدلالة الأولى التي يكتسبها ويكتشفها الغرب من التوجه نحو الإسلام أن جهوده للتنصير، أو التغريب على حد سواء قد باءت بالفشل.
أما الدلالة الثانية: فهي أن العالم الإسلامي بدأ يستعيد تميزه، واستقلاليته الفكرية، والعقائدية.
إن من الممكن أن يتعايش الغرب مع دول إسلامية، علمانية في إطارها العام، فالذي يزعج الغرب ليس هو مجرد رفع شعار الإسلام فحسب، ولا مجرد بناء المساجد فحسب، ولا مجرد دفن الموتى على الطريقة الإسلامية فحسب، وإن كان ذلك كله يزعج الغرب أيضاً، ولكن الذي يخيف الغرب هو الوجود الإسلامي بالمعنى الشمولي للإسلام.
الذي يخيف الغرب هو الإسلام الذي يهيمن على الاقتصاد، فيهدم الربا، ويحاول إقامة النظام الشرعي الإسلامي بديلاً عن النظام الرأسمالي الربوي الغربي.
الذي يخيف الغرب هو الإسلام الذي يرفع راية الجهاد، والجهاد ذروة سنام الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله} هذا الجهاد الذي كان شبحاً على مدار التاريخ يخيف الغرب، وهو الذي أذعنت له أوروبا يوم وطئتها سنابك خيول المسلمين القادمة من بلاد الأندلس، -أسبانيا الفردوس المفقود- ويوم أن احتل المسلمون العثمانيون أجزاء غير قليلة من أوروبا، وكادت روما عاصمة النصارى أن تقع في أيدي المسلمين.
الذي يخيف الغرب هو ذلك المجتمع المسلم الذي يبني علاقاته الدولية ومعاهداته ومواقفه على أساس من العقيدة الإسلامية الصحيحة.
الذي يخيف الغرب هو الإسلام الذي يقيم نظام الدولة بتفاصيله كلها على أساس التشريع الإسلامي، ومرجعية القرآن والسنة.
إذاً: فالذي يخيف الغرب: هو ما يسميه هو بالإسلام الأصولي، الإسلام المهيمن على كل مناحي الحياة، ولو كان الذين يحملون هذا الإسلام الأصولي، مهذبين بأساليبهم، ولو كانوا منطقيين، ولو كانوا عقلانيين، المهم أنهم يحملون فكراً شمولياً، يحملون الإسلام كله جملة وتفصيلاً، ويمتثلون قول الله عز وجل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85] فيعملون على أن يؤمنوا بالكتاب كله، ويدعوا إليه كله، ويقوموا به كله، فلا يجزئون الإسلام، ولا يجعلون القرآن عضين، كما توعد الله من يفعل ذلك، فهؤلاء الأصوليون مهما كانت أساليبهم مهذبة، وطرائقهم لبقة، وعباراتهم هادئة، وشخصياتهم لطيفة، إلا أنهم مصدر إزعاج كبير للغرب.
وعلى النقيض فإنَّ الإسلام الذي يمكن أن يقبل به الغرب بشكل مؤقت، هو لون آخر سيتبين بعد قليل، إن خطراً كهذا الخطر الإسلامي يمكن أن يهدد الغرب في عقر داره، أما ذلك اللون المهجن المدجن لا أقول من الإسلام، فالإسلام واحد، ولكن أقول: من المسلمين المنتسبين إلى الإسلام، فهذا من الممكن أن يهادنه الغرب، وأن يصالحه مصالحة مؤقتة -أيضاً- ليست طويلة الأمد؛ لأن هذا الإسلام الناقص الذي قد يؤمن به بعض المسلمين، من الممكن أن يتحول مع الوقت إلى الإسلام الكامل، وهذا المسلم الضعيف، من الممكن مع الأيام أن يعطي صوته وتأييده ونصرته لذلك المسلم القوي، إنما يعمل الغرب على الموازنة بين المصالح، وترجيح بعضها على بعض، فمن الممكن أن يهادن بعض شرائح المسلمين مؤقتاً، ريثما يفرغ للعدو الأكبر (الإسلام الأصولي) .
إن التاريخ كله هو في الحقيقة تاريخ الصراع بين العقائد والمبادئ والمذاهب، ومن يستعرض الحروب العظمى في التاريخ يتأكد من هذه الحقيقة، فالحروب الإسلامية كلها على مدار أربعة عشر قرناً من الزمان، ثم الحروب الصليبية وغيرها، هي مجرد أدلة على أن التاريخ كله، تاريخ الصراع بين العقائد.
لا تظن أبداً أن التاريخ تاريخ الصراع على المرأة، أو تاريخ الصراع على حفنة من الطعام، أو تاريخ الصراع على البترول فحسب، لا؛ هذه الأشياء كلها صحيحة، لكن الصراع الجذري والصراع الجوهري بين كل أمم الدنيا هو الصراع بين العقائد، الصراع بين الأديان، الصراع بين المذاهب، وقلّبْ تاريخ أي أمة من الأمم، لا تخطئك هذه الحقيقة قط، ولا شك أن الغرب اليوم لا يملك العقيدة التي يستطيع أن يواجه بها الإسلام، وإن حاول الغرب أن يستعين بالعقيدة النصرانية كحل، ويكثف الجهود في الدعوة إليها، وقد طالب نكسون كما ذكرت لكم في المجلس السابق بأن على أمريكا أن تشبع العالم روحياً، ولا تكتفي أن تشبعهم مادياً بالمساعدات فحسب، وقال: إن علينا أن نحمل الإنجيل بيد، ونحمل المساعدة الإنسانية باليد الأخرى، ومع ذلك فلا شك أن الغرب يدرك أن النصرانية غير قادرة على مواجهة الإسلام.
لقد فشلت النصرانية وانهزمت في أوروبا دون أن تواجه ديناً آخر، فالأوربيون تركوا النصرانية، وتركوا الكنيسة إلى ماذا تركوها؟ إلى دين آخر؟ لا؛ لم يتركوها إلى الشيوعية مثلاً، والذين تشيعوا من الغرب قليل، أحزاب معدودة في فرنسا وفي غيرها، لم يترك الغرب النصرانية إلى اليهودية، لم يترك الغرب النصرانية إلى الإسلام؛ لأن الإسلام لم يقدم له بصورة دعوة سابقاً، إنما ترك كثير من الغربيين النصرانية عقيدةً وسلوكاً وعبادةً، تركوها إلى المرقص، والماخور، والسوق، والبنك، وإلى غير ذلك.
فدل هذا على أن النصرانية دين محرف أولاً، ودين منسوخ ثانياً، فلو كانت غير محرفة، لكفاها أنها منسوخة؛ مما يدل على أنها لا تلائم الإنسان في هذا العصر، فالله تعالى هو العالم بطبيعة الإنسان، وفضلاً عن كونها منسوخة فهي محرفة -أيضاً- دخلتها يد التحريف والتغيير والتبديل، من اليهود ومن النصارى ومن غيرهم، فإذا كانت النصرانية قد فشلت في استقطاب الناس في قلب أوروبا على رغم عدم وجود المنازع لها، فكيف تتصور أن يكون الحال لو كانت النصرانية في مواجهة الإسلام؟ لا بد أن يؤمن ويوقن المسلم الذي يصدق الله تعالى ويؤمن به، ويصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، بأن النصرانية فاشلة في مواجهة الإسلام، وأن مجرد ظهور الحق كافٍ في دحضها، قال الله عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] فالباطل زاهق وذاهب لا بقاء له ولا وجود، وقوله سبحانه: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] ، أي: يصيبه في الدماغ، ضربة مسددة قاضية لا بقاء له معها قط.
وقال الله عز وجل: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَ(42/4)
التكاثر السكاني للمسلمين
أما السبب الثاني الذي يثير مخاوف الغرب فهو: التكاثر السكاني للمسلمين، وقد ذكر ريتشارد نكسون: أن أربعة أخماس المواليد في العالم هم من المسلمين، فأربعة من كل خمسة أطفال يولدون هم مسلمون، وبلاد الغرب نفسها مهددة بهجرة خمسين مليون مسلم خلال حوالي ثلاثين أو خمس وثلاثين سنة، هؤلاء من المسلمين العاديين الذي ذهبوا يبحثون عن الثروة، أو فرص العمل، أو عن لقمة العيش.
إسرائيل نفسها تواجه تزايد في أعداد الفلسطينيين، ولذلك تسعى إلى تعقيمهم بقدر المستطاع، وتسعى إلى تهجير أعداد غفيرة من اليهود من روسيا وغيرها، مع أن هذا يزيد في أعبائها الاقتصادية، وهي تواجه أزمة اقتصادية، المهم أنَّ عندها مشكلة التكاثر السكاني التي تواجه به أعداد الفلسطينيين.
إذاً: هاجس الخوف من التزايد العددي الإسلامي، هاجس كبير جداً، وإليك بعض الأدلة السريعة: د/ من مذكرات ريتشارد نكسون: أولاً قال ريتشارد نكسون في مذكراته، وقد خلع قفاز الدبلوماسية والسياسة، وقال بصراحة متناهية: إنه ليس أمامنا بالنسبة للمسلمين إلا إحدى حلين:- الأول: القضاء على الإسلام بقتل جميع المسلمين.
الثاني: العمل على استيعاب المسلمين وتذويبهم.
فمن المفترض عنده أن الإسلام عدو لدود، ولكن المشكل عنده كيف يمكن مواجهة هذا العدو، بهذا الأسلوب أم بذاك، ومع أن هذا الرجل رجح الحل الثاني؛ أنه لا داعي لمواجهة القتل، بل ينبغي أن نعمل على تذويبهم؛ إلا أن الخبراء في السياسة الأمريكية يدركون أي سياسة يميل إليها هذا الرجل على سبيل الحقيقة، لا على سبيل التظاهر.
هـ/ تحذير صحيفة يهودية: مثال آخر: حذرت صحيفة يهودية اسمها جيرو سالم بوست -وهي شهيرة- حذرت زعماء اليهود من اليقظة الإسلامية، ودعت إلى التحرك لمواجهة الخطر الإسلامي، ونشرت مقالاً عنوانه: "الطوق الإسلامي الفولاذي" قالت فيه: إن تأييد الجماهير الذي يحظى به الدعاة الإسلاميون، مرده فساد الأوضاع العامة في الشارع العربي، إن الأصوليين يشكلون طوقاً فولاذياً حول إسرائيل، وهم غير مستعدين حتى للتلفظ بكلمة السلام، فضلاً عن الاعتراف بإسرائيل.
فإسرائيل، جزيرة في بحر إسلامي متنامي، وهذه الدول المحيطة بها مهما كانت هي دول إسلامية، مهما حيل بينها وبين إسلامها، فإذا كانت الدول البعيدة أوروبا وأمريكا وغيرها تخاف من الهجرة الإسلامية، فما بالك بدولة تقيم في قلب البحر الإسلامي، وهي إسرائيل وهي -أيضا- جسم طارئ غريب على المسلمين.
و/ إرسال دماء ملوثة إلى تونس: مثال ثالث: ثارت ضجة إعلامية، ربما قرأها البعض، حول شحنة من الدماء الملوثة التي باعتها فرنسا على تونس، هذا الدم تبين أنه ملوث بماذا؟! بجرثومة الإيدز، وفقدان المناعة، فمات بسبب هذه الشحنة ثلاثة، وحقن بها اثنا عشر شخصاً، منهم مجموعة على شفير الموت، وما زال التحقيق في ذلك كبيراً في تونس , وما زالت هناك حرب إعلامية بينها وبين فرنسا، وربما كان لهذا الحرب أبعاد، فإن من الأبعاد المهمة أن أخا الرئيس التونسي مقبوض في فرنسا بجريمة المخدرات، يحاكم هناك، ولذلك منعت الصحف الفرنسية من الدخول إلى تونس، وصار هناك جفاء في العلاقات، ولكن -أيضاً- هذه الشحنة لها تأثير معين ولها دلالة معينة، هو أن الضمير الغربي ضمير فاسد حقود على الإسلام، مهما كان هذا الإسلام إسلاماً ضعيفاً وليس إسلاماً أصولياً، ومع ذلك فإن هذا الخبر صغير الأهمية بالنسبة لتلك الأنباء التي تثبت أن هناك مخلفات إشعاعية خطيرة دفنت في أرض الصومال مما يشكل تهديداً خطيراً للبيئة، وتهديداً خطيراً للإنسان هناك.
ز/ أحداث الصومال: مثال رابع: أحداث الصومال، وهي مؤشر خطير، فقد فُرِضَتْ الاستقالة على مندوب الولايات المتحدة في الصومال وهو عربي اسمه سحلول؛ لأنه كشف جوانب من الإهمال والتقصير في عمل هذه الهيئة الدولي في حق المسلمين في الصومال فأقيل أو فرضت عليه الإقالة، مع أن تقارير الأمم المتحدة ذاتها تقول: إنَّ المساعدات الدولية فشلت والفقراء يتزايدون.
وأقيل هذا الرجل من منصبه؛ لئلا يكشف الفضيحة التي تورطت فيها الأمم المتحدة في التقصير بحق المسلمين في الصومال، بل أن هناك ما هو أخطر من ذلك، هناك تقرير يجب أن نضعه في الاعتبار نشرته جريدة "انترناشيونال هلاردتربيون" في أحد أعدادها بتاريخ (18/10/1413هـ) أي قبل حوالي ما يزيد على عشرة أيام -هذا التقرير عنوانه: "صرح إسلامي جديد"، ويتكلم التقرير عن مجموعة من الشباب المسلم في الصومال الذين يقومون بمجهودات عسكرية هناك، سأقرأ عليكم منه فهو مترجمٌ إلى العربية، يقول: مجموعات من الأصوليين الإسلاميين المسلحين جيداً، يتوسعون في أنحاء المناطق الصومالية، في منطقة القرن الإفريقي، وذلك كمسعى جاد لإقامة معقل قوي للإسلام الأصولي في المنطقة حسب كلام مراقبين صوماليين وأجانب، أقوى مجموعة وأكثرها حضوراً حزب الاتحاد الإسلامي المعروف بالاتحاد، والذي يلبس زي الإخوان المسلمين العالميين، قد حقق غزواً واسعاً في شمال الصومال، المطل على خليج عدن إلى إقليم أوجادين داخل أثيوبيا، وإلى المناطق التي يقطنها الصوماليون شمال كينيا -قبل أن استرسل في نقل هذا التقرير أحب أن أفيدكم أن هذا الاتحاد الإسلامي هو اتحاد سلفي على طريقة الكتاب والسنة، بعيد عن جميع أنواع الانحرافات السلوكية والعقدية وغيرها، وقد التقيت بأفراد منه، ومعهم تزكيات من مجموعات من أهل العلم وسيرتهم سيرة معروفة- لقد أقام الاتحاد معسكرات للتدريب في أنحاء شمال الصومال وإقليم أوجادين، ويدير شبكة للإمداد بالمال والسلاح، للشعوب الصومالية في جيبوتي والصومال وأثيوبيا وكينيا حسب ما أفاد عشرات القادة المحللين والدبلوماسيين وموظفي الإغاثة في الصومال وأثيوبيا الذين تحدثنا إليهم.
أحد الأهداف المعلنة لحركة الاتحاد، توحيد مختلف فئات الشعب الصومالي تحت راية الإسلام، ثم ذكروا أن الفوضى التي حصلت في الصومال بسبب سقوط حكومة زياد بري عام (1990م) قد سهلت نشاط الأصوليين في المنطقة، ثم قالوا: إن الإسلام الأصولي، قد فشل في بلاد كثيرة، ولكن كانت هناك حكومات توقف الأصوليين -يعني في البلاد التي فشل فيها كما قال عمر يوسف أزهري - وهو ممثل الجبهة الديمقراطية لإنقاذ الصومال، أما في الصومال فهم يتحركون بحرية وسط هذا الفراغ، وقال: يجب عدم الاستهانة بهم؛ لأنه إذا سمح لهم بالنمو فوق طفولتهم، فسوف يشكلون تهديداً حقيقياً لمنطقة القرن الإفريقي بأسرها، ثم ذكروا اغتيال طبيبة في بوصاصو وهو أحد المواني المطلة على خليج عدن، واتهموا الجبهة -جبهة الاتحاد الإسلامي- بأنها هي المسئولة عن ذلك، ثم ذكروا سيطرتهم على هذه المدينة، وتكلموا عن معسكراتهم التي تقدم التدريب العسكري والديني لآلاف من الشباب، وأنها أقيمت في عدة مدن، وقال: لم تنجح محاولاتنا المتكررة للاتصال بقيادات الاتحاد في المنطقة، لكن حسب قول بعض شيوخ القبائل الصوماليين الذي يعرفونهم، إن قادة الاتحاد يقولون: بأنهم حملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم في بلد تسوده الفوضى العارمة وتنتشر فيه العصابات المسلحة، ثم قال: إنه لم يمكن تحديد مصادر التموينللاتحاد بينما تقول بعض المصادر إن المتدينين الصوماليين في الخارج يدعمون الاتحاد، ويقول الصوماليون الكثيرون: إن مصادر غربية تدعمهم -أيضاً-، وهذا المقصود منه التشويه لهؤلاء المسلمين، ثم قال: ومن الملحوظ أنه يأتيهم من تنظيمات أصولية متطرفة في السعودية وإيران وباكستان والسودان ودول أخرى بعض المساعدات.
يقول دبلوماسيون غربيون: إن شحنات الأسلحة للصومال قد سجلت أنها تغادر ميناء جيزان السعودي في البحر الأحمر، هذه كلها أقاويل ودعايات وأكاذيب المقصود منها تشويه صورة هؤلاء الشباب أمام المواطن الصومالي العادي؛ لأنه يتخوف حينما يقال له: هؤلاء من الخارج، خاصة إذا قيل له: مدعومين من الغرب، يقول التقرير: إن التراث الإسلامي المشترك قد وحد مختلف الفروع القبلية في الحركة الوطنية الصومالية في الشمال، وكذلك فإن علاقات الصومال التجارية والثقافية مع دول الجزيرة العربية والخليج تقوم على جذور عميقة، انتهى التقرير.
وعلق عليه مندوب الاتحاد بقوله: لا شك أن بعض ما ذكرته الصحيفة صحيح من حيث الأصل، ويعتبر من الأمور الظاهرة التي لا تخفى على أي زائر للصومال، خاصة إذا كان مهتماً بمثل هذه الأخبار، ووجد بعض الأطراف التي تزوده بالمعلومات الأخرى في المناطق، ولكن فيها قدر من المعلومات غير الصحيحة مثلما يذكرونه عن دعم بعض الدول، وعدد القتلى والجرحى في المعارك من الجبهة الديمقراطية العلمانية، حيث سبق أن أعلنا المعلومات الصحيحة حول هذه الأمور، ونعتقد أن غرض الجريدة لا يخفى على الكثيرين فيما يتعلق بالإشارة حول هذه الأمور، ولكن يبقى الأمر الهام، وهو ما يظنه الأعداء فينا من قوة التخطيط والتدبير والرعب الذي يصيبهم، والموقف الذي يقفه الكثيرون منهم حيث لا يعرفون كثيراً عن قضاياهم المهمة فالله المستعان! هذا الكلام يتحدث عن مجموعة محدودة من الشباب المسلمين في الصومال، فانظر كيف كان رد الفعل الغربي ضخماً وخطيراً وكبيراً أمام ذلك.
في مقابل هذا الخبر، خبر آخر كبير نشرته كل الصحف أمس وقبل أمس، بما في ذلك جريدة الحياة والشرق الأوسط والصحف المحلية وغيرها، يتلكم عن أربع سفن أمريكية تنقل أكثر من ألف وثمانمائة جندي أمريكي من قوات المارنز، وبالذات من الفرقة اثنين وثمانين والتي كان لها مشاركة فعالة في حرب الخليج، أبحرت متوجهة إلى منطقة عمليات الشرق الأوسط، والمقصود بها بالذات منطقة الصومال، وهي نواة لقوة أمريكية ستتواجد هناك، تتراوح حسب المصادر الأمريكية نفسها ما بين عشرين إلى ثلاثين ألف جندي أمريكي جاهزة للتدخل، وقريبة من موقع الأحداث، والغريب في الأمر أن المتحاربين في الصومال أيدوا هذه القوة؛ لأنهم شعروا أن هناك خطراً إسلامياً ينازعهم.
إذاً: السبب الثاني الذي يخيف الغرب هو: التكاثر السكاني الإسلامي، وما العملية التي تجري في الصومال -مثلاً- من عملية الإبادة عن ط(42/5)
كيف يواجه الغرب الإسلام
الغرب يواجه الإسلام بأساليب مختلفة.(42/6)
تعميق الغرب للروابط مع الحكومات العلمانية في العالم الإسلامي
ثالثاً: تعميق الغرب للروابط مع الحكومات العلمانية في العالم الإسلامي، والتغاضي عن أخطائها الكبيرة، فيتغاضى الغرب -مثلاً- عن إهدارها لحقوق الإنسان، مع أن الغرب يتبجح بأنه حامي حقوق الإنسان، أو يتغاضى الغرب عن أنها حكومات دكتاتورية هدمت الديمقراطية، وقضت عليها في الوقت الذي يتبجح فيه الغرب على أنه عالم ديمقراطي، وأن أهم أهداف النظام الجديد: إقرار الديمقراطية في العالم، وذلك لأن الغرب يعلم أن البديل عن تلك الحكومات العلمانية في نظر الغرب هو الأصولية، ولذلك رضي الغرب بضرب المسار الديمقراطي كما يسمونه في الجزائر، لأن البديل الجبهة الإسلامية.
ويبدو والله أعلم أن الأصولية ورقة رابحة للطرفين للحكومات العلمانية، وللغرب أيضاً، فأما الحكومات العلمانية فهي تستثمر الأصولية الموجودة في شعوبها؛ لكسب تأييد الغرب وضمان موقفه، فهي تقدم نفسها دائماً وأبداً على أنها البديل، وأنه لا بديل عنها إلا الأصولية، فعليكم أيها الغربيون أن تدعمونا وتقفوا في صفنا.
أما الغرب: فهو يستثمر الأصولية أيضاً؛ لتهديد الحكومات العربية، لضمان من مزيد الولاء له، فهو دائماً وأبداً يقدم لهم التقارير، وأنه يقول لهم: لو تخلينا عنكم ساعة من نهار لم تكونوا شيئاً مذكوراً، كما كان بالأمس يهدد الحكومات العربية بالأحزاب الشيوعية.(42/7)
النشاط التنصيري الواسع
رابعاً: النشاط التنصيري الواسع، والنشاط التنصيري كان موضوع بحث في هذه الدروس على مدى ستة أسابيع، ويومياً تأتي معلومات خطيرة من الداخل والخارج عن المنصرين، لكن كمثال من طرف الذهن إليك هذا الخبر: أطفال ألبانيا اليتامى كلهم -وألبانيا دولة أكثر من (70%) منها مسلمون- وقعوا رهينة لمنظمة نصرانية اسمها "مبرة أمل العالم"، ويقوم أمور أولياء هؤلاء الأيتام بتوقيع وثيقة يعترفون بموجبها بحق هذه المبرة في أن تتولى أمر أطفالهم، منذ اليوم ولمدى تسع وأربعين سنة، ومعنى ذلك أن الطفل سيظل لمدى تسع وأربعين سنة في قبضة هذه المبرة، أو هذه المنظمة النصرانية، وهم يتعلمون داخل تلك الدار ويتربون فيها، ويمارسون حياتهم كلها، حتى أن أحد الصحفيين الأمريكان ذهب إلى هناك، وشاهد التعليم النصراني، بل وشاهد المسرح الذي قد أقيم فيه حفل ترفيهي، فقام الأطفال الذين حفظوا الأغاني الإنجليزية -وهم لا يعرفون الإنجليزية، لكنهم حفظوها جيداً- شاهدهم وهم يقرءون تلك الأغاني عن ظهر قلب: أوه كم أحب يسوع، أوه كم يحبني يسوع، هكذا يردد أطفال المسلمين اليتامى في ألبانيا، ثم قام ممثل وعرض على الأطفال رواية أو قصة إنجيلية مأخوذة من كتابهم المقدس كما زعموا، ثم تحدث عن نوع الأشخاص الذين يدخلون الجنة.
وقال ممثل منظمة اليونيسيف -وهي منظمة تابعة للأمم المتحدة-: إن في العقد المبرم بين هذه الجمعية وبين الحكومة الألبانية فقرة خاصة تستطيع المبرة بموجبها -المبرة النصرانية- تبني هؤلاء الأطفال، وقد نشر هذا الخبر في جريدة القبس الكويتية، عدد"6976".
إذاً: النشاط التنصيري الواسع يستهدف تحويل المسلمين إلى نصارى منذ الطفولة، وهذا نموذج في ألبانيا، أما النماذج في الصومال، والبوسنة والهرسك وعموم القارة الإفريقية، وفي إندونيسيا ودول الخليج، وفي مصر فقد سبق ذكر أشياء من ذلك.(42/8)
الحروب المدمرة
خامساً: الحروب المدمرة، سواء تلك الحروب التي يدعمها الغرب بين فرقاء من داخل المسلمين، كنموذج الصومال، وقد ثبت أن هناك طائرة جاءت بحجة الإغاثة فسقطت هذه الطائرة -وهي من طائرات الأمم المتحدة- فوجد المسلمون داخل هذه الطائرة أسلحة فتاكة، بعثت بها قوى غربية إلى أحد الفرق المتنازعة في الصومال، فهم يدعمون هذا الطرف وذاك من أجل مزيد من الحروب، ومزيد من الإبادة، ومزيد من الرعب، وكل ذلك تمهيد لفرض وصاية دولية على البلاد الإسلامية.
أما الحرب التي تدار بأيدي نصرانية في البوسنة والهرسك فأمرها واضح، البابا شنودة في جريدة العالم اليوم يقول: إن الحرب في البوسنة ليست حرباً إسلامية أو دينية، بل هي حرب سياسية.
ولا غرابة أن يقول البابا شنودا ذلك، فقد كشفت الصحف وجميع الإذاعات خبراً مفزعاً مفجعاً عظيماً، ما هذا الخبر؟! شركات مصرية تقوم بنقل البترول إلى صربيا متحدية بذلك الحصار الدولي، نعم في الوقت الذي تقوم فيه أو تأذن فيه الحكومة المصرية بإقامة مهرجانات ومؤتمرات شعبية لمناصرة المسلمين في البوسنة والهرسك، تعطي ضوءاً أخضر للشركات لأن تخرق الحظر على صربيا، وتقوم بإرسال شحنات من البترول وغيره إلى جمهورية الصرب التي تقاتل المسلمين، تماماً- كما رسم ريتشارد نكسون في كتابه، وقرأتها عليكم في المجلس السابق: نأذن لأصدقائنا أن يلعنونا علانية، ليتجنبوا الإحراج في مقابل أن يؤيدونا سراً.
وهاهنا تقرير عن أطفال المسلمين في البوسنة، سوف أقرؤه عليكم الآن، وهو تقرير مبكٍ محزن تتفطر منه الأكباد، وتسيل منه العيون، وتحزن له القلوب عنوانه "أطفال الحرب ضحايا الذاكرة" وقد نشر في جريدة الواشنطن بوست، يوم الأحد (28/5/1413هـ) وهو عبارة عن قصص لأطفال مسلمين.
يقول الكاتب: أدمير يتبع أمه حول معسكر اللاجئين وهو يصطف حولها، هناك ملابس قد وصلته من التبرعات، ولكن في كل ليلة هذا الطفل المسلم ذو السنوات الثمان يسافر وحده في الأحلام، ذلك عندما يتذكر هو ومئات الآلاف من الأطفال مثله أحداث الحرب في يوغسلافيا السابقة، على حشية رقيقة مصنوعة من الأغصان في غرفة يشترك فيها هو وثلاثون آخرون معه، يتكلم أدمير في نومه، يصرخ وينادي ويحذر ثم يبكي على والده الذي أطلق الصرب النار عليه مع ابن عمه وعمه في (20/7/92م) عندما يفزع من نومه، لا يستطيع أحد أن ينام في تلك الغرفة.
تقول أمه: لقد رأى أدمير المنازل تحترق والأجساد ملقاة أمام منزلنا، لقد أخذته إلى الطبيب مرتين، ويقول الطبيب: إنه مليء بالخوف، أعتقد بعض الأحيان أنني قد فقدت ابني، لقد صدم الأطفال في هذه الحرب أكثر من غيرهم، وأكثر من أي وقت مضى، حتى في الحرب العالمية الثانية، كثير من الأطفال قد بدت عليه أعراض أزمات نفسية عميقة، هناك أحد الأطفال كان يرى -ولمدة ثلاثة أيام ومن النافذة- جثمان أخيه يتحلل، وقد أصبحت جثته سوداء من الذباب حولها، بينما القذف المتواصل والشديد منع عائلته من أخذه ودفنه، الآن في منطقة اللاجئين خارج منطقة الحرب، هذا الطفل يجلس ساعات طويلة يحدق بعينيه إلى أعلى، ويطرد الذباب الذي يتخيل إليه أنه على وجهه.
كما أن طفلاً آخر وهو زياد، وعمره أربعة عشر سنة كان قد اختبأ خلف حافلة عندما قبض الصرب على عائلته في (25/7) ثم رأى على بعد بضعة أقدام أمه وأخته، وثمانية وعشرين آخرين من أقربائه تطلق عليهم النار ويقتلون، الآن يعيش زياد مع أقربائه في ألمانيا، وفي الليل يتذكر ما حصل في ذلك الوقت، ولماذا لم ينج أحد في تلك الحادثة، ويفكر بذلك كل الوقت ويبكي.
إن كثيراً من القاتلين كانوا معروفين لدى هؤلاء الأطفال، فقد كانوا جيرانهم ومدرسيهم، (أقول: هكذا يجب ألا نثق بالنصارى طرفة عين، وإن جاورونا، وإن جلسوا بين أظهرنا، وإن جاءونا كخبراء، أو كأصدقاء، أو كسفراء، أو بأي صفة، فإنهم هم صانعو الخيام) تقول الدراسات التي أجريت على أطفال العراق بعد حرب الخليج: إن الأزمات النفسية، قد تزيد عبر الوقت، إذا لم يجد الطفل من يفضي إليه بشعور، ولكن في البوسنة أكثر أطفال المخيمات على الطرق، عائلاتهم قد تفرقت.
إن كابوس أدمير يستمر في إيقاظ من في الغرفة، ولكنه لم يعد يثير شفقة أحد، ولكن عندما يستيقظ أدمير يتكلم عن والده وعن ساعته، تقول أمه: إن الصرب أخذوا ساعته في الباص الذي أخذهم إلى الخارج، وهو دائماً حزين لها، أنا أخبره أنني سأشتري له ساعة أخرى، ولكنه لا يريد إلا تلك الساعة؛ لأنها كانت هدية له من والده الذي قتله الصرب.
حالات متزايدة من انتحار الأطفال، فقدان التركيز، فقدان النوم، فإن غالب الأطفال الذين هم من مناطق الحرب قد رأوا أناس قد قطعوا إلى نصفين بفعل مدافع الهاون، وأطفال قد رأوا قذائف تقطع رءوس أمهاتهم، أو تقص رجلي طفل هو بين ذراعي أمه، تقول أسبيكا، وهي جدة لبنت عمرها خمس سنوات: إن الصرب قذفوا قريتنا بالقنابل لثلاثة أيام بلياليها، وقد تحول شعر ابنتها إلى أبيض، وتعتقد أسبيكا أن الصرب سوف يهاجمونهم مرة أخرى في معسكرات اللاجئين، ولذلك فهي ترتدي حذاءها دائماً، لا تخلعها حتى إذا ذهبت لتنام، إن الأطفال لا يستطيعون أن يفهموا ما رأوه بأعينهم، ولذلك فإن تلك الأحداث تدور في أذهانهم في الحالات الطبيعية، يعالج الأحداث، ولكن عندما يشاهد المرء خارج خبرته المعتادة؛ فإنه يعيش في حالة من الأزمة النفسية، كثيراً ما يقتل أحد أفراد العائلة بين عائلته، وكثيراً ما يكون هناك اغتصاب للأطفال وللأمهات أمام أطفالهن، وأطفال يرون رجال يقومون بتقطيع أمهاتهم بزجاج مهشم أمامهم، بعض الأطفال ينامون لثلاث أو أربع ساعات فقط، وبعد أشهر من تلك الأحداث التي مرت على بعضهم ما زال بعضهم يشعر ويتصور رائحة الدم، أو رائحة البنادق، أو بعضهم لا يستطيع التخلص من رؤية اللهب والحرائق في عينيه، إنه بالفعل كفلم مصور لهذه الأحداث في أعينهم طوال الوقت.
هكذا يلقى المسلمون من أعدائهم من الصرب ومن ورائهم من الغرب الذين تقع كل هذه الجرائم على أيديهم.(42/9)
الهدنة مع المسلمين
أولها: نوع من الهدنة مع المسلمين الذين يتصفون بالمرونة -كما يسمى- كحل مؤقت يضمن لهم عدة نتائج:- النتيجة الأولى: أن الغرب لا يستطيع مواجهة المسلمين كلهم جملة واحدة، فلذلك يسعى إلى تقسيمهم إلى أقسام، قسم من المسلمين يمكن أن يتعامل معهم الغرب، بل يمكن أن يتحالف معهم، ويظهر الرضا، ويكتب تقارير المديح والثناء، ويحاول تحسين صورتهم شيئاً ما، وهم أولئك المسلمون الضعفاء الذين لا يحسون بأي روح عداء للغرب، بل هم إما جهلة، أو عملاء، أو منافقون، أو ما أشبه ذلك، فهو يضمن عدم مواجهة المسلمين جميعاً بالتحالف مع فئة منهم، من ضعفاء الإيمان وضعفاء النفوس.
أما الأمر الثاني الذي يضمنه الغرب أنه قد يستطيع ضرب المسلمين بعضهم ببعض، فيضرب من يسميهم بالأصوليين والمتطرفين والإرهابيين بمن يسميهم بالمسلمين المعتدلين، الإسلام المعتدل، الإسلام المرن، الإسلام غير الأصولي، الإسلام العصري، ولذلك تجد أن جميع الدول العربية اليوم تعلن حرباً على ما تسميه بالإسلام الأصولي.
فمصر -مثلاً- أقرت قانون مكافحة الإرهاب الذي يضمن لرجل الأمن أن يضرب أي مشتبه به في الشارع دون أن يقال له: لماذا، وأن يخطأ في العقوبة خير من أن يخطأ في العفو، لا تظن أن جندياً سوف يوقف أو يحاكم؛ لأنه أخطأ في قتل إن لم تثبت جريمته أبداً، لأن مصداق ولائه لدولته، وكرهه للأصوليين أن يقتل دون تمييز، بل في الجزائر جاءتني أخبار دامية كتبها أحد الشباب، وحلف لي بالله أن ما قاله صحيح، وأنه لا يعدو أن يكون بعض الحقيقة، في بلدة الأخيضرية -وهي مركز من مراكز المسلمين القوية- يقول: ذهب أحد الشباب إلى الإسعاف من أجل قلع ضرسه، وكان معه والده، ففوجئ أن أجهزة الأمن تأتي بسرعة، وبطريقة مرعبة، فتأخذه من أحضان أبيه وتذهب به إلى الساحة العامة، ثم تطلق عليه الرصاص لترديه قتيلاً، فأصيب والده بالغيبوبة، أما الطبيب فقد أصيب بانهيار عصبي، وماذا كان ذنب هذا الشاب، كان ذنبه أنه ملتحٍ.
لا مانع أن تكون أجهزة الأمن اشتبهت فيه، لكن لا تحقيق ولا محاكمة ولا مساءلة ولا سجن، بل يأخذه من حضن والده ثم يوضع في الميدان العام ويقتل!! دول المغرب العربي لما اجتمعت وفشلت في الهدف الذي اجتمعت له، أعلنت على الاتفاق على استراتيجية واحدة لمقاومة الأصوليين، وكتب يوسف دمنهوري في جريدة الندوة، مقالاً، يطالب فيه بالقضاء على الأصوليين الذين يدمرون المنجزات الحضارية للدول، ويهددون اقتصادها بالإفلاس، وقد كتب مقالاً بالأمس أو اليوم يعتذر فيه عن هذا الكلام، ويرد على من تكلم في شأنه فضيلة الشيخ سفر الحوالي، إلا أن كتاباته لم تكن اعتذاراً وإنما كانت نوعاً من اللف والدوران تجاه هذا الأمر، وأعتقد أنه يجب ألا يكتفي بذلك حتى يعلن تراجعه عما قال علانية.
المهم أن الغرب يريد أن يضرب المسلمين بعضهم ببعض، فيضرب الشعوب بالحكومات، بل يضرب الشعوب بعضها ببعض، لو استطاعوا، وعلى سبيل المثال: هذا يشمل تهييج الحكومات ضد الصحوة، وضد الأصولية، باعتبارها خطراً، بل وتضخيم شأنها من خلال التقارير الصحفية، التي ربما بالغت أحياناً في ذكر هذه الصحوة والحديث عنها، وربما وجدت مقالاً صحفياً طويلاً، أو برنامجاً إذاعياً، أو حتى برنامجاً تلفزيونياً، يمتد لساعة ونصف في إحدى المحطات في الغرب، ما هو موضوعه؟! موضوعه الحديث عن أحد دعاة الإسلام في هذه البلاد، والكلام عن كل كلمة أو عبارة أو حديث أو مقال أو نشاط.
فهذا التضخيم من خلال التقارير الصحفية والمعلومات الإعلامية، أو حتى من خلال المعلومات الأمنية والاستخباراتية، التي لا شك أن هناك آفاق كبيرة للتعاون بين الشرق والغرب، بل حتى بين الشرق وإسرائيل، تعاون أمني للقضاء على الأصوليين، ومعرفة مدى خطورتهم واتصالاتهم، وكيفية مقاومتهم، وكما يشمل ذلك إعطاء الفرص لبعض الشخصيات المحسوبة على الإسلام وعلى الدعوة الإسلامية لتؤدي بعض الدور لتقليص النفوذ العلماني الذي يعتبر ورقة في يد الأصوليين، فإن قوة العلمانيين في أي بلد هي في الواقع قوة كما يقولون للأصوليين؛ لأنها تأكد للشعوب أن تلك الحكومات ليست محايدة، بل هي حكومات علمانية محاربة للإسلام فلا بد من تقليص النفوذ الإعلامي نوعاً ما، ومحاولة أن يستر ولو بعطاء رقيق من بعض الشخصيات التي لها طابع إسلامي، ولذلك تعيد بعض الدول منصب المفتي، وتجعل للمفتي دوراً كبيراً في الإعلام، وربما وضعت له برامج كثيرة، وربما استفادت منه في مناسبات عدة حتى تخادع شعوبها عن حقيقتها العلمانية، وتحاول أن تبرز نفسها كما لو كانت حكومات إسلامية.
كما يشمل ذلك تحريض بعض الأطراف الإسلامية على بعض، ومحاولة ضرب الجماعات الإسلامية بعضها ببعض، وضرب النشاطات الدعوية بعضها ببعض، واعتقد أن محاولة تمزيق شمل الدعوة الإسلامية، وتكثير الجهود والرايات والأسماء من أهم الوسائل في ذلك، ومما يحكى ويذكر أن مستشاراً أمنياً كان وزيراً لإحدى الدول العربية الكبيرة، مستشاراً في دولة أخرى، أنه كان يقترح الاقتراح التالي: ما لم توجد في أي بلد عشرات من الجماعات الإسلامية؛ فإنه لا يمكن مقاومة الأصولية بحال من الأحول.
إذاً الأمر الأول في مواجهة الإسلام عند الغرب هو نوع من الهدنة مع من يسمونهم بالمسلمين المعتدلين، لمقاومة المسلمين الأصوليين، حسب تعبيراتهم.
ثانياً: المزيد من الحصار على العالم الإسلامي؛ حتى لا تصل إليه الأسلحة، ولا الخبرات العلمية، ولا أسرار التقنية؛ ليظل العالم الإسلامي فقيراً في مجال العلوم، مرتبطاً بالغرب محتاجاً إليه، ولهذا قد يبيع الغرب على المسلمين مصانع بأكملها وقواعد بأكملها، حتى الأيدي العاملة تأتي معها، حتى يكون المسلمون عالة على الغرب، لا يعرفون حتى كيف يديرون مصانعهم.(42/10)
ماذا صنع لنا الغرب؟!
لقد ثارت الحرب العالمية الأولى، وشارك العرب فيها الحلفاء أثناء الحرب، ولما انتهت الحرب وقامت عصبة الأمم؛ وضعوا جميع بلاد العرب والمسلمين تحت الانتداب والاستعمار، ونهبوا خيراتهم وأعطي وعد بلفور لتسليم فلسطين إلى اليهود.
ثم قامت الحرب العالمية الثانية، وكان في أعقابها قرار تقسيم فلسطين، وإنشاء دولة إسرائيل، ودعمها على المستوى العالمي من قبل الشرق والغرب، واليوم يقوم النظام الدولي الجديد بعد سقوط الاتحاد السوفيتي كبديل عن الحرب الباردة، والغريب أن هذا النظام لم يكن بديلاً عن الإسلام، ولم يكن الإسلام شريكاً فيه؛ إنما قام هذا النظام على أنقاض الشيوعية.
ومع ذلك كان نصيب المسلمين والعرب هو الأكبر في هذا النظام الدولي الجديد، فهل كان الإسلام هو العدو المنهزم أمام الغرب في تلك الحرب الباردة حتى يلقى هذه المواجهة أم أن ضرورة البحث عن عدو جعلت الغرب يواجه الإسلام في هذه الحرب؟! لم يكن المسلمون حلفاء للشيوعية التي سقطت، بل كانوا ضدها، ولم تكن الأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي، ذات شعبية أبداً، كان الشيوعيون في العالم الإسلامي لا يشكلون أكثر من (2%) فقط وكانت الأحزاب الشيوعية منبوذة.
ومع ذلك فإن الذين تبنوا الشيوعية في العالم الإسلامي، سواء حكومات أو أحزاب إنما تبنوها لأن أمريكا كانت تعلن دعمها لإسرائيل، فكان مقتضى العداء لإسرائيل، أن يلقي المسلمون بأنفسهم في أحضان روسيا، لكن هذا لم يقع إلا على نطاق ضيق جداً، فلماذا يعتبر الغرب أن سقوط الاتحاد السوفيتي، يعني إعلان الحرب على المسلمين، حتى أن رجلاً بريطانياً اسمه فريد هوليداي، وهو أستاذ في جامعة لندن، كان يسارياً إلى حد ما، وكان له مواقف -يقولون: مواقف مشرفة- في السابق من القضايا العربية، كقضية فلسطين مثلاً، ومع ذلك كتب مقالاً في جريدة الإندبندت البريطانية يدعو إلى أخذ الحذر من الإسلام، وقال: إن الإسلام غزا أوروبا مرتين، ويجب الاستفادة من القوة الأمريكية الموجودة اليوم لضرب الإسلام قبل أن تتم المحاولة الثالثة الإسلامية لغزو أوروبا.
إذاً: في ظل النظام الدولي الجديد، هناك حرب معلنة على الإسلام، وقد لخص وزير خارجية بريطانيا هذه الحرب بقوله: يجب على الأمم المتحدة أن تقوم بدور امبريالي في حكم الدول الصغيرة التي لا تحسن حكم نفسها، نعم الدول الإسلامية: هي الدول الصغيرة التي لا تحسن حكم نفسها.(42/11)
الأشياء التي تؤثر في نظرة المسلمين إلى الموقف الغربي
وهذه بعض الأشياء التي تؤثر في نظرة المسلمين إلى الموقف الغربي: أولاً: الدعم الفعلي غير المشروط لإسرائيل، والالتزام بتفوقها على جميع الدول العربية والإسلامية، وآخر دليل هو تصريح كلنتون في كتابه مصلحة الشعب أولاً، الذي يقول فيه: نؤيد حاجة إسرائيل للاستمرار في تفوقها النوعي والعسكري على خصومها العرب مجتمعين، ويجب على إسرائيل وأمريكا إقامة هيئة عليا مشتركة للتعاون في مجال البحث وتنمية الصناعة، للقرن القادم، ونحن مطالبون بجهد مضاعف لمنع وصول الأسلحة الخطيرة إلى إيران وسوريا وليبيا والعراق لحماية إسرائيل، والقدس هي عاصمة إسرائيل إلى الأبد، والسلام الذي لا يراعي أمن إسرائيل لا يعد سلاماً.
انتهى كلامه.
ألا يؤكد لكم هذا ما قلته لكم قبل قليل، من أن الغرب حين يمنع إيران من التسليح، إنما يمنعها خوفاً على إسرائيل؟ بلى.
ثانياً: دعم الأنظمة العربية العلمانية الموالية للغرب، ودور المخابرات المركزية الأمريكية في ألوان الاضطهاد الذي يلقاه المسلمون واضح جداً، سواء في مصر أو تونس أو الجزائر أو غيرها، وإن كان الغرب لا يمانع أن تشتم تلك الدول أمريكا مقابل أن تؤيدها في الخفاء كما أسلفت.
ثالثا: إيمان الغرب بعقائد ومُثل وأخلاقيات مناقضة ومناوئة للإسلام، وتبنيه لها، سواء فيما يتعلق بدعم الجهود التنصيرية في العالم الإسلامي، أو تصدير أنماط الحياة الغربية القائمة على الإباحة الجنسية، وعلى الحرية الشخصية، وعدم الإيمان بالعفة والطهارة الأخلاقية، سواء عن طريق الأمريكان الموجودين في البلاد العربية والإسلامية، أو عن طريق وسائل الاتصال كالإذاعة والصحف والتلفزة والكمبيوتر والكتاب وغير ذلك، وآخر ذلك أشرطة كمبيوتر شائعة تعرض ألوان الفساد الأخلاقي والدعارة، وموجودة في كل مكان، ويتداولها الناس، أو عن طريق إغراء المسلمين المقيمين في بلاد الغرب بذلك.
رابعاً: الابتزاز الاقتصادي الذي يمارسه الغرب في حق المسلمين، ومصادرة ثرواتهم وخيراتهم، وذلك بأشكال مختلفة معروفة، وبالتالي يدرك المسلمون أن بلادهم وخيراتهم هدف بارز للمطامع الأمريكية الغربية.
خامساً: عدم مصداقية أمريكا والغرب في تبني حقوق الإنسان -كما يدعون- أو حماية الحرية والكرامة، أو القيام بأي مبادرة حقيقية في هذا المجال، فالروح التي يتحرك بها الغرب، لا تختلف أبداً عن الروح الاستعمارية التي كانت قائمة في العالم الإسلامي قبل عشرات السنين، وبصورة واضحة فإن أمريكا دولة نصرانية وهي حامية الصليب، وكذلك الغرب كله، وهم كفار داخلون في قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] فكيف تستغرب من كافر وصفه الله بالظلم، أن يظلم غيره، فضلاً أن يظلم من يعتبره عدواً له وهو المسلم؟! بهذا يتبين أنه قبل النظام الدولي الجديد وبعده، كان المسلمون في الحالين هم الخاسر الأكبر.(42/12)
الأسئلة(42/13)
قرار إيقاف الأشرطة
السؤال
ما رأيكم بصحة إلغاء القرار المتعلق بإيقاف الأشرطة؟
الجواب
هذا الخبر ليس صحيحاً، بل القرار ساري المفعول، ولم يوقف، وقد جلسنا مع سماحة الوالد ليلة الخميس الماضي، وأخبرنا عن امتعاضه وانزعاجه وسائر أهل العلم من هذا القرار، وأنهم سعوا فيه وكلموا بعض المسئولين، ولا يزالون يبذلون مجهوداً في ذلك، وسئل الشيخ علانية -أيضاً- ولم يذكر لنا أن هناك أي تغيير في هذا الموضوع، فعليكم أن تعلموا أن هذا القرار لا يزال قائماً وساري المفعول، ولم يلغ أبداً.(42/14)
مقارنة النصارى بالمسلمين
السؤال
رجل معجب بالغرب النصراني، ويقول: إن العمال النصارى أكمل من العمال المسلمين، وأحسن عملاً؟
الجواب
أولاً: لا ينبغي أن يقارن النصارى بالمسلمين، على الإطلاق إنما قد تقول: إن هذا العامل عندي مع أنه كافر فإنه أكثر إخلاصاً من المسلم، هذا قد يقع، ليس هذا لأنه كافر، وهذا مسلم، ولكن لأن لهذا ضعيف الإيمان، وذاك الإنسان إما أن يكون ربي تربية معينة، أو ربما يعمل هذه الأعمال حتى يخدع بها بعض المسلمين، أو أنه ذكي يعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف يحظى بثقة من حوله، حتى يمنحوه مزيداً من الأعمال، ومزيداً من الصلاحيات.
الغرب لا يسرق القرش والريال كما يفعل ضعفاء المسلمين، لكنه يسرق البنوك بأكملها، والغرب لا يضربك على وجهك، ولكنه يقتل شعباً بأكمله.(42/15)
خوف الغرب
السؤال
ما رأيكم أن الغرب بقوته وتخطيطه يخاف المسلمين، مع أنهم لم يصلوا إلى مرحلة التحدي حقيقة؟ أما المسلمون فإنهم يخدرون بمثل هذا الكلام، حتى وإن قلت في نهاية المحاضرة: يجب أن لا يحملنا هذا الكلام على الركون؟
الجواب
أما إنه تخدير، فلا أعتقد ذلك؛ لأن عندنا أن القوة، قوة الإسلام باقية مهما كان الأمر، وكون الإنسان يعيش شعوراً مؤقتاً بعد أن سمع محاضرة، هذا لا يضر، المهم مستوى الوعي والإدراك الذي يوجد لدى الشعوب الإسلامية وعلى كل حال لدينا يقين مهما كان الأمر، أن قوة الغرب لن تنفعه إذا واجهه المسلمون الصادقون.(42/16)
أسباب ضعف المسلمين
السؤال
إن العالم الإسلامي ينحدر كل يوم، وأعداؤه يتقوون على حسابه، ويتحولون من الدفاع إلى الهجوم، ويقتطعون كل يوم قطعة من العالم الإسلامي يستذلونها ويستعبدونها، هل الأسباب كانت نتيجة طبيعية لكل ما حدث من انحراف خلال القرون، أم أن هناك أسباب أخرى؟
الجواب
هذه ثمرة الانحراف السابق، والإعراض عن شريعة الله تعالى، وهي ضربة معلم، ودرس للمسلمين، ونحن على يقين أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تبلغ المستوى المطلوب له، في تمسكها بدينها، وصدقها مع ربها وتوكلها عليه، وإيمانها ووحدتها ونبذها لألوان الخلاف والفرقة إلا على مثل هذه المطارق، فأنت لو جلست سنين طويلة تتكلم للمسلمين عن عدوهم وخصمهم، وحربه لهم وهم لا يرونه، ولا يرون أعماله، فإنهم لا يمكن أن يدركوا ذلك جيداً.
وعلى الأقل على مستوى الشعوب والمستوى العام، إذا رأوا بعيونهم ماذا يصنع بهم عدوهم، وكيف يعاملهم فإن هذه الأشياء هي الكفيلة بأن توعي المسلمين، وترفع من مستوى إدراكهم لمسئولياتهم إلى القدر المطلوب.(42/17)
نظرة المسلمين إلى العلمانيين
السؤال
لقد تحدثت عن نظرة الملتزمين في نظر الغربيين، فلو تحدثت عن نظرة الملتزمين إلى المتعاملين مع الغرب والذين يحملون شعاراتهم وأفكارهم وعقائدهم في الداخل والخارج، والذين هم من بني جلدتنا؟
الجواب
هذا الكلام عن العلمانيين وقد تكلمت عنهم في محاضرة قديمة، قبل ثلاث سنوات عنوانها المعركة بين الإسلام والعلمانية.(42/18)
انتشار الإسلام
السؤال
قلت: من المستبعد أن تكون دول الغرب إسلامية، والعلم عند الله، فكيف والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ما معنى كلامه: ستكون الأرض إسلامية والكل يشهد أن لا إله إلا الله؟
الجواب
لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما أخبر بانتصار الإسلام في جولة قادمة، وأن المسلمين سيكون لهم معارك مع اليهود، وأن الله سيدخل هذا الدين في كل بيت مدر ووبر، وهذا لا يلزم ولا يعني أن يكون الغرب والشرق كلهم مسلمين.(42/19)
الترف والمادة من أسباب ضعف المسلمين
السؤال
ألا تعتقد أن الترف القاتل، والانصراف إلى العمارة المادية للأرض، وعدم اتخاذ أسباب القوة من أسباب الضعف الذي أغرى أعداء الأمة، فجاءوا من الشرق والغرب، يحاولون القضاء على دين الله تعالى؟
الجواب
نلاحظ أن هذه الأسئلة تنم عن وعي وعن إدراك، أننا نعيش وضعاً يجب دراسته، ومعرفة أسبابه، إذاً المسلمون يعيشون مشكلة أنهم متخلفون دينياً، وعقلياً، وعقائدياً، وأخلاقياً، وسلوكياً، وعلمياً، وسياسياً، واقتصادياً، وإعلامياً، ويجب أن نبحث ما هي الأسباب، هذا موضوع له مجاله الخاص، فلا أريد أن أدخل فيه؛ لأن الأسباب كثيرة وما ذكره الأخ وغيره هي بعض الأسباب.
إذاً: من المهم جداً أن ندرك أننا نعيش مشكلة ينبغي أن نعرف أسبابها، ونعمل على التخلص منها.(42/20)
الاستدلال بالآيات والأحاديث
السؤال
لقد سمعت ذلك في أكثر من مجلس، ولولا ثقتي بانشراح صدرك، وتقبل النقد والملاحظة، لم أذكر ذلك، أقول: يلاحظ قلة الاستدلال بالأحاديث والآيات مع أنها تزخر بالأدلة على كثير مما تقوله: فالإسلام دين اليوم والأمس وغدٍ؟
الجواب
لا شك، لكن يا أخي ذكر الآيات والنصوص هو في مجاله، فمثلاً: لو لاحظت الأسبوع قبل الماضي، عندما تكلمت عن العمال، كان هذا الموضوع والحمد لله مليئاً بالآيات والأحاديث، والذي قبله "أنصفوا المرأة" كان مليئاً بالآيات والأحاديث، لكن عندما نتكلم عن نظرة الغرب إلى المسلمين، قدمنا -مثلاً- بمسألة الكفار وموقفهم من الإسلام، بعد ذلك أصبحنا محتاجين أن نعرف ونسمع ماذا يقول الغرب عنا؟ وأنا معك فيما تقول، وأنا والله أتضايق حينما أتحدث عن مثل هذه الأمور؛ لولا أني أشعر أنها ضرورة، والذي أتمناه أن يكون كلامنا كله حول النصوص وحول الآيات، وإذا قربت من ذكر آية أو حديث، فإن نفسي تنشرح، وقلبي يفرح، والسرور يملؤني ويغمرني، وهذا أمر أبوح لك به، بغض النظر عن هذا السؤال، لكن أحياناً يكون الموضوع يتطلب شيئاً آخر، فنحن إذا أردنا أن نخبرك ماذا يقول عنك الأعداء، فنحن محتاجون أن ننقل كلامهم بكل ما فيه، وهذا قد يتطلب بعض الوقت.(42/21)
أخبار من عمان
السؤال
في هذا الأسبوع والذي قبله، نرى بعض الأخبار التي تقلق المسلمين في هذا الزمان، وهي أخبار عمان وشن الدولة على المسلمين هناك بالسجن والتعذيب، فما هي آخر أخبار المسلمين هناك؟
الجواب
الحقيقة لم يأتني خبر جديد غير الذي ذكرته لكم فيما سبق، ولكن هذا السؤال ذكرني بقضية: وهي أنني ذكرت لكم في ذلك اليوم، أو في يوم قبله، أن هناك بعض البضائع كالتفاح الإيراني، جاءت إلى الأسواق في هذه البلاد، وقد غطيت في جوانبها كلها بقصاصات من المصحف الشريف، وبالذات مصحف المدينة المنورة، مقصوصة وموضوعة لهذه البضائع، والتفاح قادم من إيران، وهذا خطر كبير، وهي جريمة منكرة، لو جاءت هذه البضائع من إسرائيل، ونحن الآن نتكلم عن قضية إلغاء المقاطعة الإسرائيلية، فلا مانع أن تجد تفاح، يافا، وعكا، وحيفا، بعد زمن يطول أو يقصر بالأسواق، لو جاء التفاح من إسرائيل وفيه هذه القصاصات من المصاحف، لم نستغرب أن يفعلوا هذا، فهم اليهود، ولو جاء هذا التفاح من بلاد نصرانية لم نستغرب، لكنه جاء من إيران، وإيران دولة تقول: بأنها تحترم القرآن الكريم، وتدعي أنها تعظم القرآن الكريم، وتقول: إن القرآن الكريم دستورها، فأنا من هذا الموقع أرسل مناشدة لتلك الدولة، ممثلة بسفارتها في هذه البلاد، والمسلمون كلهم يتساءلون عن سر هذه الإهانة للقرآن الكريم، وعن سر هذا التحدي المباشر لمشاعر المسلمين، إن سفارة إيران نفت مرات أن تكون إيران أرسلت البترول إلى الصرب، ونفت مرات أن تكون ساعدت النصارى على المسلمين في أذربيجان، ولكنها لا تستطيع أن تنفي هذا الخبر؛ لأن تلك القصاصات موجودة في أيدينا، وقد وجدها الناس ورأوها، وتداولوها، وموجود عندي نماذج منها، أظن أنني قد أطلعتكم على شيء منها، ولم يبقَ إلا أننا نسائل هذه الدولة من خلال سفارتها في هذا البلد، ونطلب منهم جواباً وإيضاحاً، عن سر هذه الإهانة لكتاب الله عز وجل، وعن سر هذا التحدي العظيم لمشاعر المسلمين.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم إن نسألك أن تفرج كروب المسلمين في كل مكان، اللهم فرج كربهم، اللهم فك أسرهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، اللهم عمنا برحمتك وتوفيقك يا أرحم الراحمين، اللهم أنزل علينا من بركاتك وجودك يا حي يا قيوم، اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، اللهم ربنا هب لنا من لدنك علماً، اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم إنا نسألك أن تصلح أحوال المسلمين جميعاً كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، حاكمهم ومحكومهم، إنك على كل شيء قدير، اللهم إن نسألك أن تصلح أحوالنا يا حي يا قيوم، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح شبابهم، وشيبهم ورجالهم ونساءهم، وحكامهم وشعوبهم، إنك على كل شيء قدير، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.(42/22)
مقالات بعنوان (أمريكا تعايش أم تصادم)
السؤل: طالعتنا جريدة المسلمون في عددين سابقين بمقابلات مع عدد من الشخصيات الإسلامية وغير الإسلامية بعنوان أمريكا تعايش أم تصادم؟
الجواب
هذا اطلعت على شيء منه، ولا بأس أن يقرأ الإنسان، لكن عليه مع القراءة أن يكون عنده حس ووعي عقدي إسلامي؛ لأننا لا نأخذ معلوماتنا عن الغرب، من خلال أقوالهم فقط، بل ينبغي أن نأخذ من خلال القرآن والسنة، وقد كان من همي أن أذكر لكم النصوص القرآنية والنبوية التي تؤكد عداوة الكفار للمسلمين، ولكنني عزفت عن ذلك: لأنني شعرت أنني أثقلت عليكم، وأكثرت عليكم فيه، فإنني ذكرته لكم مراراً وقرأت عليكم تلك الآيات: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] إلى غير ذلك من والآيات النصوص الكثيرة.(42/23)
قصاصة من جريدة الشرق الأوسط
هذه قصاصة بعث بها بعض الإخوة من جريدة الشرق الأوسط فيها عدة مقالات، فيها مقال يقول: مجلة سيدتي تقيم معرضاً للأزياء السعودية في لندن، وقد عرضوا صوراً من هذه الأزياء وذكروا الخبر، وفي المجلة نفسها مقال يقول: الجمال والحرب، وقد نشر صورة فتاتين جميلتين، وعلقوا عليها بهذا التعليق، يقول: رغم الحرب الضارية في جمهورية يوغسلافيا، وعملية التفريق العرقي التي تقوم بها القوات الصربية، ضد جمهوريتي البوسنة، وكرواتيا، فإن ملكتي جمال أسلوفونيا وكرواتيا وجدتا ما يثير الابتسامة بعيداً عن شبح الحرب على الشاطئ الصناعي الذي أقامته اللجنة المنظمة لمسابقة جمال العالم في جنوب إفريقيا المقرر انطلاقها الشهر المقبل، في هذا التعليق أمران:- الأمر الأول: الحرب تفريق عرقي وليست حرباً دينية، هذا الكلام نفسه هو كلام البابا شنودة في جريدة العالم اليوم، يقول: المسألة مسألة الحرب العرقية، مع أن من المعلوم أن العرق واحد، فالمسلمون البسنويون، والصرب والكروات أصولهم العرقية واحدة وليست مختلفة، وإنما المختلف هو الدين، فهؤلاء يحاولون أن يجعلوها حرباً عرقية؛ ليغطوا الطابع الديني في هذا الحرب، ونحن لا نستغرب من شنودة أن يقول ذلك، فهو عضو في مجلس الكنائس العالمي، وهو المسئول عن المجلس في مستوى الشرق الأوسط كله، لكن الذي نستغربه من مجلة تصدر باللغة العربية، ويكتب فيها كتاب إسلاميون، بل مجلة محسوبة على هذه البلاد، أن تجعل المسألة، مسألة تفريق عرقي! الأمر الثاني: أكثر ما شد أنظار هذه المجلة وكتابها المأفونين الكلام عن ملكتي جمال تبتسمان على رغم شبح الحرب، فتباً لهؤلاء وتباً لمن يشتري هذه الجريدة، لقد ناديتكم وطالبتكم مراراً أن تقاطعوا هذه الجريدة، وأقول لكم: أيها الإخوة! المقاطعة التي صدرت منكم قد أثمرت، ولا أدل على إثمارها من أن هناك بعض الشركات الرسمية، كشركة الطيران السعودي أنها أصبحت توزع هذه الجريدة أحياناً وحدها على الركاب، وقد يركب البعض في طائرة ضخمة فيها مئات الركاب، فلا يوزع عليهم إلا جريدة الشرق الأوسط، وقد كتب لي مجموعة من الإخوة من داخل الخطوط يؤكدون هذا الأمر، كما هاتفني به وشافهني مجموعة من الإخوة الذين ركبوا في بعض الطائرات، وكأن ذلك نوع من الدعم لهذه الجريدة في مقابل إعراض الناس عنها، لكنني متأكد -أيضاً- لو أنكم قمتم بحملة صادقة وشاملة على هذه الجريدة أنه لن ينفعها الدعم الرسمي مهما كان، فأنا أؤكد عليكم ذلك، وقد سبق أن قرأت عليكم فتوى الشيخ عبد الله بن جبرين، وقد أرسلنا إلى سماحة الوالد في الأسبوع الماضي ملفاً عن هذه الجريدة، وما نشر فيها؛ برجاء أن يصدر فتوى عامة للمسلمين، وسوف نقوم إن شاء الله بتوزيع فتوى الشيخ عبد الله بن جبرين عن هذه الجريدة، على نطاق واسع.
وهذا -أيضاً- مقال يشير إلى كاتب -أحد كتاب هذه الجريدة- لا أريد أن أذكر اسمه، وإن كان كلامه أكثر من الكفر، وأكثر من الإلحاد، وقد وقع في يدي كتاب ألفه: وهو عبارة عن حلقات كان ينشرها في هذه الجريدة، يسخر فيه بالله تعالى، وينسب الله تعالى إلى الجهل، ويسخر فيه بجبريل، حتى إنه يقول: إن جبريل جاء يعرف الله تعالى على رؤساء الدول العربية، فيقول لله تبارك وتعالى -تعالى الله عما يقول الكافرون والظالمون والملحدون علواً كبيراً-: هذا فلان، وهذا فلان، والله تعالى كما زعم هذا الخبيث، يقوم من عرشه ويصافحهم واحداً تلو الآخر، حتى جاء دور الرئيس جمال عبد الناصر فلم يقم -كما زعم هذا الخبيث- ولم يسلم الله تعالى عليه، قال جبريل لماذا؟ قال: لو قمت لجلس هذا الإنسان مكاني، هذه أحد الطرائف والنكت، وقد قرأتها -أيضاً- على الوالد سماحة الشيخ عبد العزيز، فأنا أدعوكم أيها الإخوة أن تغاروا لدينكم، وتغضبوا لربكم، وأقول: لا خير فينا إن لم نستطع أن نقاطع مثل هؤلاء الذين يعلنوها صريحةً، وكنت أتوقع أن هذه الجريدة تستحيي، أو تراعي مشاعر المسلمين، فإذا بي أقرأ عدد هذا اليوم، وإذا هناك مجموعة من المقالات والقصص والأخبار، التي تدل على أن هؤلاء موتى القلوب، وأنهم غير آبهين بأحد، فاتقوا الله يا عباد الله وغاروا لدينكم.(42/24)
حفل مسابقة السنة
أقيم هذا الحفل في مدينة بريدة بالقصيم ختاماً لمسابقة في حفظ الأحاديث النبوية، مقسمة إلى فئات تبدأ الفئة الأولى في حفظ الصحيحين بالكامل، ثم الفئة الثانية في حفظ أحدهما، ثم الثالثة في حفظ ألف حديث منهما، ثم الرابعة في خمسمائة، والخامسة في مائة حديث، والسادسة في خمسين حديثاً نبوياً، وقد كرم الحفاظ في هذا الحفل المهيب والذي حضره عشرات المشايخ والعلماء من أرض الحرمين، وألقى عدد من العلماء والمشايخ كلمات في الحفل، كما ألقيت فيه عدد من القصائد الشعرية.(43/1)
بين يدي الحفل
قال مقدم الحفل حفظه الله: صاحب السمو الملكي أمير منطقة القصيم، أصحاب الفضيلة العلماء، أيها الدعاة الأجلاء، إخواني الحضور، أيها الوجهاء والأعيان، يا من تجشمتم عناء الحضور لتشجعوا حفاظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرادوا أن يصحبوا أنفاسه صلى الله عليه وسلم بعد أن فاتهم صحبة نفسه صلى الله عليه وسلم.
معاشر الإخوة: إن الدهشة لتعقد لساني، وأنا أرى هذه الجموع الغفيرة التي اتجهت نحو هذا المكان الطيب، منذ أول عصر هذا اليوم، والتي امتلأت بها ساحات هذا المسجد على اتساعها، بل والشوارع المحيطة بها، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على تشجيعكم للمسيرة العلمية التي هي بحق مفخرة لهذه البلاد.
هذا يوم يسجل في أمجاد بلدتنا على صحائف من نور تشرفنا معاشر الإخوة: لا يسعني إلا أن أقول لكم: حياكم الله، وأسأله أن يجعل خطواتكم في ميزان حسناتكم، ثم لا يسعني إلا أن أبدي لكم مشاعر لا يسعني أن أخفيها، وهو أننا عشنا على مدار أسبوعين ومنذ أن أعلن عن هذه المسابقة وهذا التكريم، عشنا اتصالات مكثفة من المحبين والغيورين؛ كل يتسابق يريد أن يقدم خدمة للعلم والعلماء، بل ربما تشاحَّ اثنان أو أكثر على تقديم خدمة لكم، ومن متصل يقول هل سيقدم من العلماء فلان وفلان؟ وإذا بنا نتفاءل ونقول نعم سيقدمون، وإذا بهم اليوم من أمكنة كثيرة، من مكة المكرمة ومن المدينة المنورة ومن جدة ومن الرياض ومن الدمام ومن الأحساء، ومن الجوف، ومن رفحاء، ومن عرعر ومن نجران ومن جيزان ومن أبها، ومن سائر مناطق المملكة أجمع.
بل لا أخفيكم إذا قلت: إنه قدم من خارج المملكة من دول الخليج ضيوف أعزاء علينا، فحياكم الله وبياكم، وجعل خطواتكم في ميزان حسناتكم، وأسأله أن يجعل هذا الجمع المبارك يجتمع في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وإن أبناءكم طلاب العلم لممتنون أتم الامتنان بحضوركم، هذا وأترك المجال لبدء حفل تكريمنا على بركة الله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
المقدم: أيها الإخوة الكرام: كم نحن مسرورون وكم نشعر بالغبطة والسعادة، ونحن نعيش هذه اللحظات المباركة، ونشاهد هذه الوجوه الزكية النيرة، ونرى هذه الجموع الحاشدة التي غص بها المسجد داخله وخارجه وعلويه وتحتيه، وامتلأت به الساحات المحيطة به، وأغلقت بها الشوارع من حوله، إنه اجتماع متميز أيها الإخوة، متميز من جهة كثرة الحضور من الوفود والضيوف وأهل هذا البلد، ومتميز من جهة نوعية الحاضرين ومكانتهم، فقد ضم هذا الاجتماع المشهود كثيراً من العلماء والدعاة والقضاة، وطلبة العلم المعروفين ليس في هذه المنطقة فحسب، ولا في هذا البلد فحسب، بل على مستوى العالم الإسلامي كله.
كما ضم هذا الاجتماع المبارك عدداً كبيراً من الوجهاء، والتجار، وأعيان هذا البلد المبارك، فشكر الله للجميع مسعاهم، وكتب لهم خطواتهم وجزاهم على إجابة هذه الدعوة، وتجشم عناء السفر خير الجزاء وأوفاه وأجزله.
أيها الحضور الكرام: موعدكم الآن مع كلمة لسماحة الوالد فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والذي نعلم جازمين أنكم أيها الإخوة تتشوقون وتتمنون حضوره بشخصه حفظه الله، كما كنا نتمنى ذلك من كل قلوبنا ولكن ظروفه -حفظه الله- ومشاغله الكثيرة التي لا تخفى عليكم حالت بينه وبين ذلك، وقد شاركنا -حفظه الله وجزاه الله خير الجزاء- بكلمة ضافية يلقيها نيابة عنه واحد من علمائنا الأجلاء ودعاتنا الفضلاء الذين نتشوق كذلك للقائهم والاستماع لحديثهم ألا وهو فضيلة الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود فليتفضل بارك الله فيه وأجزل له المثوبة.(43/2)
كلمة الشيخ عبد الله بن قعود نيابة عن الشيخ ابن باز
قال الشيخ: عبد الله بن حسن بن قعود حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه، أما بعد:- فإن الله تعالى قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وعلمه الكتاب والحكمة -أي القرآن والسنة- كما في الحديث الذي رواه أهل السنن بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه} فالقرآن والسنة هما الأصلان اللذان عليهما مدار الأحكام، ومن رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن قيض لها من يحفظ عليها أمر دينها، فمنذ العصور الأولى والأمة تعتني بالقرآن حفظاً ومدارسة وفهماً، وتأملاً، وتفسيراً، تعلماً وتعليماً وإلى اليوم، والحمد لله على ذلك.
فهذه المدارس القرآنية، والجمعيات الحكومية والخيرية التي تربي النشء على حفظ كتاب الله وفهمه، والعمل به، مما يسر كل مسلم، وإن مما يضاعف الفرحة أن نجد إقبال حفاظ القرآن وغيرهم على التفقه في الأمور الشرعية ودراسة السنة النبوية وحفظها وتعلمها وتعليمها، فإن هذه الدروس العلمية المقامة في المساجد في سائر منطقة القصيم، وغيرها لتعليم الحديث والفقه والتفسير، هي من رياض الجنة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال حلق الذكر} .
وقد صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تتداعى إليها، فنحمد الله على وجودها وكثرتها وكثرة المقبلين عليها، ونسأل الله أن يبارك في عمل القائمين عليها، ويضاعف مثوبتهم، ويرزقهم الإخلاص في ذلك، وأن يجزيهم خير الجزاء.
وإن مما ينبغي الإشادة به: الاهتمام بالسنة النبوية في هذا الوقت الذي كثر فيه الإعراض عنها، والاعتراض عليها من بعض الجهلة أو من أهل البدع أو غيرهم، فالعمل على نشر السنة واجب وتعليمها من أفضل القربات وأجل الطاعات، وقد كان السلف الصالح يحرصون على تعليم الطلبة شيئاً من السنة النبوية، ويحرصون على حفظها في الصدور، وعدم الاكتفاء بالكتب والمصنفات خاصة ما يتعلق بمتون الأحاديث وجوامع الألفاظ، وقد سرني كثيراً ما قام به الإخوة في اللجنة العلمية، ومكتب الدعوة في القصيم من رعاية الدروس وتنظيمها والإشراف عليها، لحمايتها من الإفراط والتفريط، ومن الغلو والجفاء والسير بها إلى الطريق المستقيم، فالحمد لله على ذلك كثيراً، وشكر الله لأصحاب الفضيلة القائمين على مشروع حفظ القرآن والسنة، والتفقه في الدين جهدهم وعنايتهم، حيث حفظوا الطلاب، وبذلوا لهم من الوقت والجهد الشيء الكثير، ثم أجروا لهم الاختبارات والمسابقات لحفزهم على طلب العلم، فضلاً عما يقومون به من طباعة الكتب المفيدة، وتوزيعها وغير ذلك من الأعمال النافعة، فجزاهم الله على ذلك كله خير الجزاء وأفضله وأوفاه.
وإنها سنة حسنة محمودة أن يُشجَّع الطلاب على الحفظ، وتجرى لهم الاختبارات، ويعطون الإعانات والجوائز التشجيعية على ذلك دفعاً لهم ولغيرهم إلى الخير، فهو عمل طيب مبارك مشكور.
وإنني أدعو الإخوة المشايخ وطلبة العلم في سائر المناطق إلى القيام بمثل هذه الأعمال النافعة من تربية النشء على القرآن والسنة علماً وعملاً، ونرجو أن نسمع في المستقبل عن أعمال خيرية كثيرة من جنس هذه الأعمال، والله تعالى يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] ويقول سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} ويقول صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} .
وإنني بهذه المناسبة: أوصي جميع الطلبة وجميع المعلمين بتقوى الله سبحانه، وإخلاص النية، والصدق في العمل، كما أحثهم على مواصلة الطلب وعدم الملل أو العجز، وعلى أن يجمعوا بين العلم والعمل، فإن العمل هو ثمرة العلم، وعليهم بالإقبال على القرآن والإكثار من تلاوته ومدارسته وتفهم معانيه، فإنه أصل العلوم وأساسها.
كما أحث أولياء الأمور على تشجيع أوليائهم المنتسبين إلى هذه الحلقات، وتسهيل أمورهم وحثهم على ذلك، وإنني أشكر كل من ساهم في تيسير أمر هذا الاجتماع المبارك من المسئولين والتجار والمشايخ وغيرهم.
فجزى الله الجميع خيراً، كما أدعو الجميع إلى المزيد من المساهمة في دعم هذا المشروع النافع، دعماً مادياً ومعنوياً فإنه بحسب ما يتوفر من الإمكانات والتسهيلات يكون نجاح العمل واستمراره، وقد جاء في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة} .
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية والسداد، وصلاح القول والعمل في الظاهر والباطن، والله تعالى ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبيه محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
وأستسمح المنظمين بأن أدعو وأرجو من الإخوة أن يؤمِّنوا فقد يكون من بينهم من هو حري باستجابة الدعوة، فأقول اللهم احفظنا واحفظ الشيخ عبد العزيز من الفتن، اللهم احفظنا وإياه من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ثبتنا على ما يرضيك إلى أن نلقاك غير مبدلين ولا مغيرين، اللهم وقد أكرمتنا بالإسلام، ومننت علينا بالعلم فنور به طريقنا في الدنيا وفي القبور، وفي طريقنا إليك، واختم للجميع بالصالحات، واجز شيخنا عنا وعن الإسلام والمسلمين خيراً وبارك في أيامه، واجزه أحسن ما يجزى به مخلص عن أمته، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.
قال مقدم الحفل حفظه الله: نشكر فضيلة الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود على زيارته وتشريفه لنا ولهذه المسابقة، ونشكره مرة أخرى على إلقائه هذه الكلمة العطرة التي وجهنا فيها سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز فلهم منا جزيل الشكر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظهم بالإسلام، وأن يوفقهم لما يحبه ويرضاه من الأقوال والأعمال.
أيها الجمع المبارك، أيها الإخوة، أيها العلماء والمشايخ: كم نحن مسرورون وكم نحن مغتبطون بهذا الجمع المبارك، وبهذا اللقاء الذي هو يوم عظيم وموسم كريم، تذكر فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم فتحفظ وتعظم، إن هذا يوم من أيام الله سبحانه، يوم عظيم ويوم مبارك ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله مباركاً على الجميع.(43/3)
كلمة الشيخ العجلان
أيها الحفل الكريم: معنا كلمة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله العجلان رئيس محاكم القصيم، ذلكم الشيخ الفاضل الذي عرفه الجميع بخلقه وتواضعه الجم، ذلكم الشيخ الذي كان لجهوده الأثر العظيم في دفع مسيرة الدروس العلمية في هذا البلد، فله منا جزيل الشكر والعرفان، ونسأل الله تعالى أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، فليتفضل حفظه الله وجزاه الله عنا وعن الإسلام خيراً.
قال الشيخ: عبد الرحمن بن عبد الله العجلان حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز أمير منطقة القصيم.
أصحاب الفضيلة العلماء.
أصحاب السعادة.
أيها الحفل الكريم: أحييكم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأرحب بكم في هذا المكان المبارك الذي نجتمع فيه لتكريم حفاظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما احتفلنا قبل أشهر بحفظهم لكتاب الله جل وعلا، وأشكركم جميعاً على تفضلكم بالحضور، وتكبدكم المشقة من قريب وبعيد، وترك أمور هامة عليكم إيثاراً وتكريماً وتشجيعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشتغلين بها والمهتمين بها، فجزاكم الله خير الجزاء، وأرجو الله أن يكتب خطواتكم في سجل حسناتكم، وأن يجزيكم عليها {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .
ثم إنني -أيها الإخوة- أشكر أصحاب الفضيلة رئيس وأعضاء اللجنة العلمية، والمسئولين في مكتب الدعوة والإرشاد ببريدة على اهتمامهم البالغ بتعليم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على أن يحفظها الطلاب، وأن يهتموا بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحفظوه، فجزاهم الله خير الجزاء، وأهنئ إخواني وأبنائي حفاظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم- يهنئ بعضهم بعضاً بما ينال به ثواب الله جل وعلا، وأفضل عمل وأفضل شيء تنفق فيه الأوقات والجهود الحفاظ على كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حفظ سنته، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فحفظه فبلغه كما سمعه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم: {فرب مبلغ أوعى من سامع} وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الوحي الثاني، وصاحبها المعصوم عن الزلل -صلوات الله وسلامه عليه- يقول ربنا جل وعلا {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] .
ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة، وما سوى ذلك فهو فضل} .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: {كنت أكتب كل شيء أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وأنت تكتب كل ما تسمعه منه، وهو يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا الحق} رواه أبو داود.
وقد أمرنا جل وعلا في أي خلاف وتنازع أن نرجع إلى كتابه -جل وعلا- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال جل وعلا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] قال العلماء: الرد إلى الله: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسول الله، الرد إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذرنا جل وعلا من مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال عز من قائل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] يقول عبد الله بن عباس: [[أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك]] .
ورتب جل وعلا طاعته على طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال عز من قائل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] فهنيئاً لحفاظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنيئاً للعلماء المشتغلين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
{ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة} .
فحري بنا أيها الإخوة أن نغتنم فرصة الوقت، والقدرة والنشاط في أن نصرف جل وقتنا لكتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، حفظاً ودراسة، وتعلماً وتعليماً، وأن ننشِّئ أبناءنا على ذلك، وأن نبذل لهم الجوائز التشجيعية، وأن نشجع الإخوة الأفاضل الذين قاموا بهذا المشروع العظيم، ونشجع الآخرين للقيام بمثل ذلك لعل هذا أن ينتشر كما انتشرت الجمعيات الخيرية لحفظ كتاب الله جل وعلا.
وقد كنا في القريب لا نجد من يحفظ كتاب الله إلا القليل، واليوم -ولله الحمد- نرى العدد الكثير من حفاظ كتاب الله جل وعلا، وتباشير الخير بدأت بحمد الله بحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فشجعوهم أيها الإخوة تشجيعاً مادياً ومعنوياً يخلف الله عليكم ويبارك في أوقاتكم وأعمالكم.
هذا وأرجو الله أن يثيب الجميع خيراً، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل سعينا مشكوراً، وعملنا مقبولاً، وأن يوفق الجميع لسعادة الدنيا والآخرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال مقدم الحفل حفظه الله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، شكر الله لشيخنا عبد الرحمن العجلان هذه الكلمة الضافية، والتي أبان فيها أن هذا الحفل هو تكريم لحفظة السنة وحملتها من أبنائنا، واحتفاءً بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم كما احتفى الجميع في هذا المكان الطاهر في حفظ هؤلاء لكتاب الله الطاهر جل وعلا.(43/4)
عرض نماذج من حفاظ السنة
فنحن أهل كتاب وسنة، منهجاً وعقيدة وسلوكاً وأخلاقاً وتوجيهاً، واليوم -أيها الإخوة- نحتفل بحفظة السنة التي كانت نتيجة لمسابقة أقيمت فيما مضى، هذه المسابقة -أيها الإخوة- تتكون من ستة فروع.
أما الفرع الأول: فهو حفظ الصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم وقد شارك في هذا الفرع ثمانية طلاب.
وأما الفرع الثاني: فهو حفظ أحد الصحيحين صحيح البخاري أو صحيح مسلم، وقد شارك في هذا الفرع ثمانية طلاب.
وأما الفرع الثالث: فهو حفظ ألف حديث، وقد شارك فيه أيضاً ثمانية طلاب.
وأما الفرع الرابع: فهو حفظ خمسمائة حديث، وقد شارك في هذا الفرع تسعة طلاب.
وأما الفرع الخامس: فهو حفظ مائة حديث، وقد شارك في هذا الفرع خمسون طالباً.
وأما الفرع السادس: فهو حفظ خمسين حديثاً، وقد شارك في هذا الفرع ستة وثلاثون طالباً.
أيها الحضور الكريم: وتعطيراً لهذا المجلس ببعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فإننا سنعرض لكم في هذا الحفل المبارك نماذج متنوعة من هذه الفروع الستة، وقد اختير من هذه الفروع من يمثلهم، وقد تم أيها الإخوة اختبار هؤلاء الطلاب من قبل، ويقوم بتحكيم هذه المسابقة، أو إلقاء هذه المقاطع على الطلاب كل من فضيلة الشيخ عبد الله بن حمود التويجري، والشيخ سلمان بن فهد العودة، والشيخ يحي بن عبد العزيز اليحيى، فنرجو من المشايخ الكرام أن يتقدموا للمنصة لإلقاء المقاطع المتنوعة التي يختارونها للطلاب المتسابقين.(43/5)
المتسابق الأول: عبد الله بن غدير التويجري
ونبدأ أيها الإخوة بالفرع الأول ومع الطالب عبد الله بن غدير التويجري.
قال الشيخ: سلمان حفظه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
حسب معلوماتي فإن الإخوة حفظوا أولاً صحيح الإمام مسلم ثم حفظوا بعد ذلك ما زاد عليه من صحيح الإمام البخاري، فتجمع لهما الصحيحان ابتداء بصحيح مسلم ثم أضافوا إليه ما يتعلق بالزيادات من صحيح الإمام البخاري.
السؤال
اقرأ من قول الإمام مسلم رحمه الله في باب: (الاستعانة بالمشركين في الغزو) : عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر} .
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، قال رحمه الله تعالى: وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بحرة وبرة؛ أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له الرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك} .
السؤال: اقرأ من قوله رحمه الله تعالى في باب: (الاستئذان والسلام) : عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري، قال: جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: السلام عليكم الجواب: وعن أبي بردة رضي الله عنه قال: جاء أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: السلام عليكم، هذا عبد الله بن قيس، السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعري، ثم رجع، فقال عمر رضي الله عنه: ردوا عليَّ الرجل، فلما جاء قال: ما ردك؟ كنا في شغل فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع} .
السؤال: اقرأ من قوله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فجعل يقول الجواب: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {قدم مسيلمة الكذاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته، فقدمها في بشر كثير من قومه، فقدم إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريدة، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: لو سألتني هذه الجريدة ما أعطيتكها، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإنك لأُرى الذي أريت فيك ما أريت، قال ابن عباس: فسألت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنك أُرى الذي أريت فيك ما أريت، فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي، فكان أحدهما مسيلمة الكذاب والآخر العنسي صاحب صنعاء} .
السؤال: اقرأ في باب كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ألا كلكم راع} .
الجواب: وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} .
السؤال: اقرأ باب: في (خيار الأئمة وشرارهم) عن عوف بن مالك رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم} .
الجواب: وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل يا رسول الله: أفننابذهم بالسيوف؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة} .
السؤال: باب: (النهي عن لبس الديباج) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لبس النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قباء من ديباج الجواب: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: {لبس النبي صلى الله عليه وسلم قباء من ديباج أهدي له ثم أوشك أن نزعه، فأرسل به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقيل له: قد أوشك ما نزعته يا رسول الله؟ فقال نهاني عنه جبريل عليه السلام، قال فجاءه عمر رضي الله عنه يبكي، فقال: كرهت شيئاً وأعطيتنيه فما لي؟ قال: إنما أعطيتكه لتبيعه، فباعه بألفي درهم} .
السؤال: باب: (النهي أن يُقيمَ الرجلَ من مجلسه ويجلس فيه) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يقيم الرجلُ الرجلَ} .
الجواب: وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن توسعوا وتفسحوا} .
السؤال: بسم الله الرحمن الرحيم {اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب، والنياحة على الميت} حديث من؟ الجواب: أبي هريرة في مسلم.
السؤال: حديث {بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة} الجواب: جابر / مسلم.
السؤال: {كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم} .
الجواب: ابن عمر / البخاري.
السؤال: {شهرا عيد لا ينقصان} الجواب: أبو بكرة متفق عليه.
السؤال: {إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا}
ابن عمر / مسلم.
السؤال: {من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي ابتاعها إلا أن يشترط المبتاع} الجواب: ابن عمر / متفق عليه.
السؤال: {إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما} الجواب: أبي سعيد عند مسلم.
السؤال: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به} .
الجواب: عائشة / مسلم.
السؤال: {إن شر الرعاء الحطمة} الجواب: عائذ بن عمرو متفق عليه.
السؤال: {من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو زرع نقص من أجره كل يوم قيراطان} الجواب: ابن عمر وأبو هريرة / متفق عليه.
السؤال: {قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن من أمتي أحد فإن عمر منهم} .
الجواب: عائشة / متفق عليه.
السؤال: {يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا، حتى يقول من خلق الله فإذا بلغه ذلك فليستعذ بالله ولينته} الجواب: أبو هريرة / متفق عليه.
السؤال: {لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول} الجواب: ابن عمر / مسلم.
السؤال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث} الجواب: أنس بن مالك / متفق عليه.
السؤال: {لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان} الجواب: ابن عمر / متفق عليه.
السؤال: {إنه ليس بدواء ولكنه داء} الجواب: وائل الحضرمي / مسلم.
السؤال: {ألم تر آيات أنزلت علي الليلة لم يُرَى مثلهن قط} الجواب: عقبة بن عامر / مسلم.
السؤال: {مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب} الجواب: أبو موسى / متفق عليه.
السؤال: {إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه} الجواب: عبد الله بن عمر متفق عليه.
بارك الله فيك.(43/6)
المتسابق الثاني: محمد بن صالح
الطالب الثاني من الفرع الأول وهو في حفظ الصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم الطالب محمد بن صالح فليتفضل.
السؤال
اقرأ يا محمد من قوله رحمه الله في باب: (رقية الرجل أهله إذا اشتكو) عن عائشة رضي الله عنها قالت: {كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب البأس} .
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله.
قال رحمنا الله تعالى وإياه، عن عائشة -رضي الله عنها قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه، ثم قال: أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً} .
السؤال: اقرأ من قوله في باب: (خروج الموحدين من النار) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم} .
الجواب: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس منكم أصابتهم النار بذنوبهم، أو قال بخطاياهم، فأماتهم الله تعالى إماتةً حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، فقيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حمل السيل، فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان في البادية} .
السؤال: اقرأ من قوله في باب: (تزويج الصغيرة) عن عائشة رضي الله عنها قالت: {تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين} .
الجواب: عن عائشة -رضي الله عنها قالت: {تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين، فقدمنا المدينة فوعكت شهراً فوفى شعري جميمة، فأتتني أم رومان وأنا على أرجوحتي ومعي صواحبي، فصرخت بي فأتيتها وما أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي فأوقفتني على الباب فقلت: هه هه! حتى ذهب نَفَسي، فأدخلتني بيتاً فإذا نسوة من الأنصار، فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر، فغسلن رأسي وأصلحنني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأدخلنني إليه} .
السؤال: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: {يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟} .
الجواب: عن عائشة رضي الله عنها قالت: {قلت يا رسول الله: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على عبد يا ليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فإذا فيها جبريل فناداني فقال: يا محمد: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال تأمره بما شئت فيهم} .
السؤال: {إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق عن قلوبهم} أكمل هذا الحديث ومن راويه الأعلى؟ الجواب: الحديث عن أبي سعيد الخدري متفق عليه: {إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق عن قلوبهم، فقفى الرجل، فنظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مقف، وقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، قال: أظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود} .
السؤال: {الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين} لمن هذا الحديث؟ الجواب: حديث تميم الداري عند مسلم.
السؤال: {إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث} من راوي الحديث الأعلى ومن أخرجه، وأكمل الحديث؟ الجواب: حديث أبي هريرة متفق عليه {إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً} .
السؤال: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر} الجواب: ابن مسعود عند مسلم.
السؤال: {ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟} .
الجواب: أبو بكرة وأنس / متفق عليه.
السؤال: {ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات} الجواب: أبو هريرة / مسلم.
السؤال: {كان بلال يؤمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة} الجواب: أنس / متفق عليه.
السؤال: {لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا} الجواب: أبي هريرة / متفق عليه.
السؤال: {لقنوا موتاكم لا إله إلا الله} الجواب: أبي سعيد الخدري / مسلم.
السؤال: {لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين} الجواب: أبو هريرة / متفق عليه.
السؤال: {الشهر يكون تسعة وعشرين يوماً} الجواب: أم سلمة / متفق عليه.
السؤال: {مَهَلُّ أهل العراق من ذات عرق} الجواب: جابر / مسلم.
السؤال: {الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة} الجواب: ابن عمر / في مسلم.
السؤال: {إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج} الجواب: عقبة بن عامر / متفق عليه.
السؤال: {فراش للرجل، وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان} الجواب: جابر / مسلم.
السؤال: {ألا أنبئكم ما العضه} الجواب: ابن مسعود مسلم.
السؤال: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أقرأ عليك} الجواب: أنس / متفق عليه.
بارك الله فيك(43/7)
المتسابق الثالث: ياسر إبراهيم السلامي
أيها الإخوة والطالب الثالث في الفرع الأول في حفظ الصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم هو الطالب ياسر إبراهيم السلامي فليتفضل.
اقرأ يا ياسر من قوله في: (باب الترغيب في النكاح) عن علقمة رضي الله عنه قال: كنت أمشي بسم الله الرحمن الرحيم: قال -رحمنا الله تعالى وإياه- عن: علقمة - قال: {كنت أمشي مع ابن مسعود رضي الله عنه بمنى فلقيه عثمان رضي الله عنه فقلت: أمشي معه، فقال: يا أبا عبد الرحمن ألا نزوجك جارية شابة لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك؟ فقال: أما لئن قلت ذاك، لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} .
السؤال
باب: (الإهلال حين تنبعث به الراحلة) عن عبيد بن جريج أنه قال لـ عبد الله بن عمر
الجواب
{عن عبيد بن جريج أنه قال لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها، قال: وما هن يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت في مكة أهل الناس حتى يروا الهلال، ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية.
فقال عبد الله: أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيان، وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها} .
السؤال: {صنفان من أهل النار لم أرهما} من هو راوي الحديث، الأعلى ومن أخرجه، وأكمل الحديث؟ الجواب: من حديث أبي هريرة عند مسلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة؛ لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا} .
السؤال: {ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء} .
الجواب: عن عطاء قال: {قال لي ابن عباس رضي الله عنهما ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي!! قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، قالت: فإني أتكشف، فادعُ الله ألا أتكشف، فدعا لها} متفق عليه.
السؤال: {سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين} الجواب: جبير بن مطعم، متفق عليه.
السؤال: {من استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله} الجواب: حديث أنس عند البخاري.
السؤال: حديث {الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله} الجواب: حديث ابن عمر، متفق عليه.
السؤال: حديث {ما الموجبتان؟ قال: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار} الجواب: الحديث حديث جابر عند مسلم، ومتفق عليه من حديث ابن مسعود في الصحيحين بلفظ {من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار، قال ابن مسعود: وأنا أقول من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة} السؤال: {المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة} الجواب: حديث معاوية بن أبي سفيان عند مسلم.
السؤال: رواه عن معاوية من؟ الجواب: طلحة.
السؤال: {أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها} الجواب: حديث أبي هريرة عند مسلم.
السؤال: {خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها} الجواب: حديث أبي هريرة، عند مسلم.
السؤال: {نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور} الجواب: حديث ابن عباس في الصحيحين.
السؤال: حديث {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه} .
الجواب: الحديث حديث عائشة عند مسلم، متفق عليه من حديث أبي موسى وعبادة بن الصامت.
السؤال: حديث {تسحروا فإن في السحور بركة} .
الجواب: حديث أنس، متفق عليه.
السؤال: حديث {بيداؤكم هذه الذي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أهل إلا من عند} .
الجواب: حديث ابن عمر متفق عليه، رواه عنه سالم.
السؤال: {مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مَليءٍ فليتبع} الجواب: حديث أبي هريرة في الصحيحين.
السؤال: {من احتكر فهو خاطئ} الجواب: حديث معمر عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله.
السؤال: {العائد في هبته كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه} .
الجواب: حديث ابن عباس، متفق عليه.
السؤال: {اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم} الجواب: حديث النعمان بن بشير.
السؤال: {يسرا ولا تعسرا} الجواب: حديث أبي موسى، متفق عليه.
السؤال: {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو} الجواب: حديث ابن عمر، متفق عليه.
السؤال: {حفظت من رسول الله اثنتين: إن الله كتب الإحسان على كل شيء} الجواب: حديث شداد بن أوس عند مسلم.
السؤال: {من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من أظفاره ولا من شعره شيئاً} الجواب: حديث أم سلمة عند مسلم.
السؤال: {لا فرع ولا عتيرة} الجواب: حديث أبي هريرة متفق عليه.
السؤال: {تجدون الناس كإبل مائة لا تكادون تجدون فيها راحلة} الجواب: حديث ابن عمر، متفق عليه.(43/8)
الدروس العلمية
أيها الإخوة: إن مما يفرح المؤمن، ويقر عينه، ويثلج صدره، أن يعلم أن هذا البلد مليء بالدروس العلمية، عند كثير من علماء هذا البلد، ولا غرابة في ذلك فإن هذا البلد له سابقة في تخريج العلماء وطلبة العلم، ونظراً لضيق الوقت فسأكتفي بذكر الدروس هي كالتالي: الشيخ عبد الرحمن عجلان دروسه: فرائض، فقه، تفسير.
الشيخ محمد بن صالح المنصور دروسه: فقه، وحديث، وتفسير، ونحو.
الشيخ سلمان بن فهد العودة دروسه: حديث، وعقيدة، ومصطلح، والدروس العامة.
الشيخ محمد بن فهد دروسه: توحيد، وحديث، وكتب منوعات.
الشيخ عبد الله إبراهيم القرعاوي دروسه: كتب منوعة العقيدة تفسير حديث فرائض.
الشيخ حمود بن صالح المرشد دروسه: توحيد وفقه.
الشيخ محمد بن سليمان العويمر دروسه: كتب منوعة.
الشيخ عبد الله بن محمد دروسه: كتب منوعة.
الشيخ صالح الخزيم دروسه: عقيدة وفقه.
الشيخ صالح الونيان دروسه: حديث ومصطلح.
الشيخ حسن بن صالح حميد درسه: حديث وتفريعاته.
الشيخ عبد الله المرزوق درسه: تفسير.
الشيخ سليمان اللقيم درسه: نحو.
الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان دروسه: تفسير ونحو وحديث.
الشيخ يحي بن عبد العزيز اليحيى دروسه: حديث ومصطلح وتفسير.
الشيخ إبراهيم بن صالح الجبوري درسه: حديث.
الشيخ صالح بن سليمان درسه: نحو.
الشيخ محمد بن عبد الله الخضيري درسه: عقيدة.
الشيخ عبد الله بن فهد السلوم درسه: توحيد.
الشيخ محمد بن صالح المقيفد درسه: تفسير.
الشيخ عادل الفضيل دروسه: فقه وتوحيد ومصطلح.
الشيخ صالح سليمان دروسه: تفسير وفقه.
هذه نبذة موجزة عن بعض الدروس التي في هذه البلدة هي بمثابة الإشارة إلى الحركة العلمية في هذا البلد.
أيها الإخوة؛ أما الآن فمع كلمة لفضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة.(43/9)
كلمة الشيخ سلمان العودة
بسم الله الرحمن الرحيم رواد سنة أحمد وشبابه زادوا بنور حضوركم تنويرا وربا البلاد تعطرت أنفاسها حيوا الكرام رعية وأميرا أهلاً شيوخ العلم كل قلوبنا قد كبرت لوصولكم تكبيرا أحبتي الكرام: الوقت يمضي سريعاً ولا نريد أن نطيل عليكم في هذا المقام، ولذلك اعذروني إذا كانت كلماتي كلمات عابرة.
فأولاً: نرحب بالجميع كبيرهم وصغيرهم، مأمورهم وأميرهم، شيوخهم وطلابهم، وإنما نرحب هذا الترحيب لأننا عاجزون عن أن نخص كلاً باسمه، والفضلاء الحاضرون كثير، وأعتقد أننا إن سمينا بعض الوفود وبعض القادمين فسيكون شأننا كشأن أهل حفلة العرس فإنهم ينسون في كثير من الأحيان أقرب الناس إليهم، وألصق الناس بهم، ولكن لا غرو علينا إن نسينا فإن الذي يتعامل مع الكرام يتعامل مع النفوس الطيبة الكريمة التي تحمل الأمر على أحسن المحامل، فبين أيدينا ممن يستحقون الإشارة والإشادة الكثير الكثير، فهذه كلمة لهم جميعاً.
هذا الاحتفال -أيها الإخوة- يقام في هذا المسجد بيت من بيوت الله تعالى، ومكان من أماكن العبادة لأنه تكريم لحفظة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والداخلين في هذه المسابقات.
إن المسابقة التي تنظرون اليوم جزءاً من ثمرتها حسب ما رأيت وعلمت هي جهد كبير قديم قام عليه مجموعة كبيرة من المشايخ والفضلاء وعلى رأسهم مكتب الدعوة والإرشاد بالقصيم الذي هو ممثل لسماحة الوالد الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
بل إن الشيخ نفسه كان يتابع هذه المسابقة وهذه الدروس أولاً بأول منذ شهر رمضان الفائت بل وقبل ذلك، وقد دعم هذا المشروع دعماً كبيرا ًمادياً ومعنوياً، فجزاه الله تعالى عنا وعنكم وعن طلبة العلم في كل مكان أفضل الجزاء وأكرمه وأوفاه.
أيها الإخوة: نحن نحتفل اليوم بتخريج مائة وعشرين حافظاً، منهم من يحفظ الصحيحين كما رأيتم نماذج من هؤلاء، وأقلهم من دخل هذه المسابقة وحفظ بسببها خمسين أو مائة حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فلماذا نحتفل بهؤلاء؟ أولاً: حتى نعبر للجميع عن شمولية العلم والتعليم في هذا البلد، فإن العلم والتعليم هنا ليس مقصوراً على فن خاص، ولا على علم بعينه فأمام تدريس العلم تفسيراً وحفظاً للقرآن، وحديثاً، وفقهاً، وعقيدة، وأحكاماً، وغير ذلك، وما الدروس التي أعلن عنها قبل قليل إلا نموذج جزئي لهذا الأمر الذي نتحدث عنه.
ومع العلم فإن المشايخ هنا حريصون أشد الحرص على أن يكون العلم مقروناً بالعمل وبالدعوة إلى الله تعالى، وبالمشاركة في ميادين الحياة، فنحن لا نريد أن نخرج حفاظاً فقط يقرؤون قراءة مجردة، وإنما نتمنى أن تخرج هذه الدروس رجالاً للحياة، يوجَّهون ويُعَلِّمون ويَعْمَلون ويدعون إلى الله تعالى، ويجاهدون في سبيل الله تعالى بما يستطيعون.
ثانياً: إن من أهم ما نقصد ويقصد إليه الشيوخ هو عملية تطبيع الحفظ، فقد كنا نسمع منذ زمن أنه وجد في القرن الماضي في هذه المنطقة رجل يحفظ صحيح البخاري، أو في منطقة أخرى آخر يحفظ صحيح مسلم، فكان الحفظ حكراً على أصحاب المواهب النادرة الذين أعطاهم الله ذواكر جيدة جبارة، أما اليوم فنحن نريد أن نؤكد للناس بصورة عملية أن الحفظ ليس مقصوراً على أصحاب المواهب الجبارة، بل هو أمر أصبح طبيعياً ومتاحاً لأصحاب المواهب العادية، بل والمواهب التي قد تكون أقل من عادية مع شيء من الجهد، وشيء من الاهتمام، وشيء من تفريغ الوقت بالنسبة للمشايخ.
أيها الأحبة: لا نعتقد أبداً أن وجود حافظ واحد لصحيح البخاري مثلاً يعني أننا أضفنا إلى نسخة البخاري نسخة جديدة، ولنفترض أننا أضفنا إلى البخاري نسخة جديدة؛ فإن النسخة بحد ذاتها مهمة ومفيدة، ويكفي أن فيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه وذكر خبره، وعمله وعلمه وغير ذلك: أهل الحديث همُ أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا إننا حين نحفظ هؤلاء ويحفظهم غيرنا، فإنما نريد أن يكونوا حفاظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيون تلك السنة التي عمل بها العلماء السابقون، ويكونون نماذج حية من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أقوالهم وأعمالهم وسلوكهم، وإذا كانت الدروس العلمية اليوم في هذا البلد فقط أربعين أو خمسين أو ستين درساً، فبمقتضى هذا التطور الكبير والإقبال العظيم سيتوفر عندنا خلال سنتين أو ثلاث أعداداً كبيرة ممن يحفظون القرآن، وإضافة إلى ذلك يحفظون الصحيحين ويحفظون شيئاً من السنة، وقد حفظوا متوناً في العقيدة وفي الفقه وفي النحو وفي غيرها وسيكون كل واحد منهم معلماً للشريعة في حيه ومسجده.
وأود أن أشير إلى أن هذه الدروس التي ذكرها الإخوة هي في مدينة بريدة فقط، أما حين ننتقل قليلاً فسنجد إلى جوارنا -مثلاً- دروس فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في عنيزة، ومجموعة أخرى كبيرة من الدروس فيها وفي مناطق أخرى في منطقة القصيم، أما على مستوى البلاد كلها فالأمر أكبر من أحيط به في مثل هذه العجالة.
أختم كلمتي بالترحيب بكم جملة وتفصيلاً، وأقول شكر الله لكم مسعاكم، وكتب الله لكم خطواتكم، وإن كل ما أستطيع أن أقدمه لكم وقد عنيتم إلينا أن نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وهو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد أن هذه الأقدام التي مشت إلى المسجد المبارك أنها لا تمشي إلى النار، إن الله تعالى على كل شيء قدير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعقيب المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، جزى الله شيخنا الفاضل خيراً على هذه الكلمة الطيبة.
أيها الإخوة: لا يفوتني في هذا المقام أن أكرر ترحيبنا الحار لصاحب السمو الملكي أمير منطقة القصيم وأصحاب الفضيلة العلماء، وأصحاب السعادة المسئولين في هذه البلدة وفي غيرها، والدعاة والحضور جميعاً.(43/10)
عرض لأسماء المشايخ الحاضرين
أيها الإخوة وقد حضر هذا الاجتماع كما سمعتم قبل قليل عدد من الوفود من شتى مناطق المملكة وسأشير إلى بعض منهم على عجل، بقدر ما يسمح به الوقت.
من الرياض قدم إلينا عدد كبير من المشايخ ومنهم: فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين عضو الإفتاء والإرشاد.
فضيلة الشيخ عبد الله بن جسن بن قعود عضو هيئة كبار العلماء سابقاً.
فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن صالح البراك أستاذ في جامعة الإمام.
فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن حمود التويجري رئيس قسم السنة.
فضيلة الشيخ الدكتور ناصر العمر وهو أستاذ في جامعة الإمام.
والدكتور سعيد آل زعير.
والدكتور عبد الرحمن العشماوي.
وهؤلاء كلهم أساتذة في جامعة الإمام، وكذلك الشيخ عبد الوهاب الطريري وهو محاضر في جامعة الإمام.
والدكتور محسن العواجي أستاذ في جامعة الملك سعود.
والشيخ عمر سعيد العيد أيضاً محاضر في جامعة الإمام.
ومن مكة قدم إلينا جمع من المشايخ وعلى رأسهم الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي أستاذ في جامعة أم القرى.
والأستاذ عبد الحميد داغستاني جامعة أم القرى.
الشيخ جابر محمد مدخلي الأمين العام للتوعية الإسلامية.
والشيخ محمد أمين ميرزا عالم أيضاً في التوعية الإسلامية.
والشيخ سعد سليمان العكوز في الشئون الدينية.
والأستاذ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس جامعة أم القرى وهو ابن عم فضيلة الشيخ عبد الرحمن إمام الحرم المكي.
وكذلك الأستاذ الدكتور حمزة الفهر جامعة أم القرى.
والأستاذ الدكتور محمد بن سعيد القحطاني جامعة أم القرى.
والشيخ مرزوق بن سالم الغامدي إمام مسجد الرحمة.
والشيخ الدكتور عابد السفياني عميد كلية الشريعة جامعة أم القرى.
ومن جدة وفد إلينا جمع من العلماء أذكر منهم فضيلة الشيخ فريح العقلاء، وأعتذر عن ذكر بقية العلماء لأنه لم تؤخذ هذه الأسماء إلا حين دخولهم إلى هذا المكان، ولهذا لم نتمكن من حصرهم جميعاً، فأرجو المعذرة من الجميع.
من الطائف وفد إلينا أيضاً كل من: الشيخ علي بن محمل العتيبي قاضي المحكمة المستعجلة.
والشيخ محمد عمر عرب عضو جماعة تحفيظ القرآن الكريم بالطائف.
والشيخ عبد الله بن رداد النفيعي، عضو جماعة تحفيظ القرآن الكريم في الطائف.
والشيخ أحمد بن موسى الشهري، رئيس جماعة تحفيظ القرآن بالطائف.
وأيضاً ورد إلينا من الأحساء جمع من العلماء منهم الشيخ منصور بن إسماعيل وهو مندوب الدعوة هناك.
ومن حائل ورد إلينا أيضاً الشيخ سليمان العامر رئيس هيئات حائل.
والشيخ إبراهيم الصائغ.
والشيخ سعيد هليل عضو الدعوة والإرشاد.
ومن المدينة المنورة كل من الشيخ صالح بن سعد السحيمي رئيس قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية.
والشيخ الدكتور صالح بن عبد الله العبود عميد كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية.
والشيخ الدكتور يحي اليحيى عميد شئون الطلاب بالجامعة الإسلامية.
وورد إلينا من الجنوب كل من المشايخ التالية أسماؤهم وهم: الشيخ عائض بن عبد الله القرني.
والشيخ محمد بن يحي القرني رئيس محكمة صبيا وهو عضو تمييز الآن.
والشيخ جريم بن يحي حكمي رئيس محكمة بيشة.
والشيخ يحي بهلول رئيس محكمة الشقيط.
والشيخ علي حمد عريشي مستشار شرعي.
والشيخ موسى علي شبيبي رئيس بلدية.
والشيخ الحسن علي العسكري رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والشيخ محمد علي شيبان عريشي وهو عضو هيئة أيضاً.
وورد إلينا من الزلفي أيضاً عدد من المشايخ منهم الشيخ محمد المعتق رئيس محكمة الزلفي.
والشيخ الدكتور عبد الله بن محمد الطيار أستاذ الفقه في جامعة الإمام فرع القصيم.
والشيخ مديد السويفي مندوب الدعوة بالزلفي.
وأما من القصيم أيها الإخوة فلا يفوتني أن أرحب بجمع من مشايخنا الكبار وعلى رأسهم فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين.
وفضيلة الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي.
وفضيلة الشيخ صالح المنصور.
وفضيلة الشيخ محمد بن صالح المنصور.
وفضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد المحسن العبيد، وغيرهم ممن لا يتسع الوقت للإشادة بأسمائهم.(43/11)
المتسابق الرابع: عبد الله بن ناصر السلمي
أترككم الآن مع متسابق رابع وهو من الفرع الثاني واسمه عبد الله بن ناصر السلمي، وقد كان في الأصل قد رتب لاختبار اثنين من الفرع الثاني، ولكن لضيق الوقت اختصرناهم بواحد ونرجو من الطالب أن يتقدم من أجل امتحانه.
السؤال
اقرأ يا عبد الله من قوله رحمه الله: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه} .
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد فإن خير الكلام كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها} .
السؤال: اقرأ من قوله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان ابن لـ أبي طلحة يشتكي الجواب: {كان ابن لـ أبي طلحة يشتكي، فخرج أبو طلحة فلما جاء قال: كيف الصبي؟ فقالت: بخير} .
السؤال: اقرأ من قوله: عن سليمان بن يسار قال: تفرق الناس عن أبي هريرة فقال له: نأكل أهل الشام أيها الشيخ وعن سليمان بن يسار رضي الله عنهما قال: تفرق الناس عن أبي هريرة رضي الله عنه فقال له: نأكل أهل الشام يا أبا هريرة، حدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أول الناس يوم القيامة يقضى عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمة فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت حتى يقال: فلان جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، ثم أتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم، فقد قيل} .
السؤال: {لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا} أكمل الحديث، واذكر راو الحديث الأعلى، ومن أخرجه.
الجواب: أنس، متفق عليه، {لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله التقوى هاهنا وأشار إلى قلبه} الحديث عن أبي هريرة.
{ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم} .
السؤال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن العبد ليتكلم بالكلمة} .
الجواب: {إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به سبعين خريفاً في النار} وفي لفظ آخر: {يهوي به ما بين المشرق والمغرب} .
السؤال: {إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس} الجواب: مسلم من حديث عبد الله بن مسعود.
السؤال: {اللهم وليديه فاغفر} الجواب: مسلم من حديث جابر.
السؤال: {إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط} الجواب: متفق عليه من حديث أبي أيوب الأنصاري.
السؤال: {إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً} الجواب: متفق عليه من حديث أبي هريرة، وجاء معناه من حديث عبد الله بن زيد بمعنى بعيد.
السؤال: {أبرد أبرد أو قال انتظر انتظر، وقال: إن شدة الحر من فيح جهنم} الجواب: متفق عليه من حديث أبي ذر وأبي هريرة وجاء معناه أيضاً من حديث أبي سعيد وابن عمر عند البخاري.
السؤال: {أوتروا قبل أن تصبحوا} الجواب: مسلم من حديث أبي سعيد.
السؤال: {نحن السابقون الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا} الجواب: متفق عليه من حديث أبي هريرة.
السؤال: {أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض} الجواب: متفق عليه من حديث أنس.
السؤال: {يهود تعذب في قبرها} متفق عليه من حديث أبي أيوب.
{أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع فما كان بدر ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع} الجواب: متفق عليه من حديث رافع بن خديج.
السؤال: {ما من يوم يصبح العبد إلا وفيه ملكان ينزلان فيقول أحدهما} الجواب: متفق عليه من حديث أبي هريرة.
السؤال: {إنك ببطحاء مباركة} الجواب: ابن عمر، متفق عليه.
السؤال: {إن أحد جبل يحبنا ونحبه} الجواب: متفق عليه من حديث أنس.
السؤال: {لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر أو قال غيره} الجواب: مسلم من حديث أبي هريرة.
السؤال: {لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان} الجواب: عن أم الفضل، مسلم.
قال مقدم الحفل حفظه الله: ومن الدروس العلمية في هذا البلد المبارك درس فضيلة الشيخ ابن قعود في الأصول للفقه وأصوله.(43/12)
مقابلة مع أحد الطلاب للشيخ عبد الوهاب الطريري
الآن نبقى مع مقابلة مع أحد الحفظة يجريها فضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري فليتفضل جزاه الله خيراً اللهم لك الحمد ولك الشكر ولك الثناء الحسن، أيها الإخوة في الله لقد أذكرتنا بريدة هذه الليلة حواضر العلم الشرعي في المدينة النبوية وفي الكوفة وفي بغداد ونيسابور وبخارى ودمشق، أذكرنا هذا الجمع مجالس التحديث حيث الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج، ومحمد بن يحي الذهلي.
أذكرنا هذا اللقاء بحفاظ السنة من سلف الأمة، يوم كان للمساجد وحلق العلم دوي بالحفظة وطلبة الحديث النبوي، أبهجنا هذا اللقاء، أبهجنا حيث أبان عياناً أن هذه الصحوة المباركة موصولة بإمامها محمد صلى الله عليه وسلم ترشف من نبعه، وتنفق من ميراثه، وتقفو أثره وتسير على نهجه، {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] .
ولابد في هذا اللقاء المبارك أن توجه التحية والحفاوة والتقدير لمن لولاهم لما كان لقاء، ولولاهم لما اجتمعنا هذا الاجتماع، إنهم الفتية الذين انتدبوا لسنة محمد صلى الله عليه وسلم يستظهرونها حفظاً، ويتتبعونها فقها، وينفقون صفو شبابهم في العناية بهذا الإرث النبوي والعلم المحمدي.
فيا حفظة السنة أبهج الله قلوبكم، وأبلغكم من العلم مأمولكم، فقد سعدت بكم القلوب وقرت بكم العيون: بكم تبتنى شرفات الحياة وينشق للفجر منها عمود لكم كلكم سيزف الثناء وتزجى المنى وترف البنود أيها الإخوة في الله أنتم الآن مع لقيا سريعة مع أحد الحفظة للسنة النبوية فليتفضل مشكوراً الأخ يوسف الغفيص.(43/13)
مقابلة مع الطالب يوسف الغفيص
نرجو من الأخ يوسف الغفيص أن يتقدم جزاه الله خيراً.
السؤال
اتفضل أخ يوسف عرف بنفسك؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وفي الحقيقة أجدني محرجاً ومديناً لكم أن آخذ من وقتكم من وقت هذا الاجتماع المبارك للاستماع إلى شيء مما أقوله، ولكنه النزول عند رغبة وتكليف المشايخ الكرام الذين لا أجد مجالاً للتخلص من أمرهم وتكليفهم، فحقهم علينا الاستجابة لأمرهم، فاعذرونا بارك الله فيكم الاسم: يوسف محمد الغفيص.
العمر، والمستوى الدراسي: مواليد عام 1390هـ، تعينت معيداً في قسم العقيدة، وقد بدأت بحمد الله الدراسة في الرياض.
السؤال: مشايخك يا أخ يوسف؟ الجواب: مشايخ كثير في الحقيقة، وعلى رأسهم سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في درس الفقه، وسماحة الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي في العقيدة، وفضيلة الشيخ العلم الماجد سلمان بن فهد العودة وقد لزمته كثيراً واستفدت منه في علوم شتى، كذلك الشيخ يحي عبد العزيز اليحيى واستندت إليه كثيراً لا سيما في حفظ السنة، كذلك الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان وغيرهم من الأساتذة الكرام في الجامعة كثير.
السؤال: هل تحفظ القرآن يا أخ يوسف؟ الجواب: الحمد لله، وهو ولا شك أنه الأصل الأول قبل حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جامع العلم وجامع الدين، وهو حبل الله المتين.
السؤال: هل حفظت الصحيحين؟ الجواب: أحمد الله، مختصراً على طريقة المشايخ الكرام الجمع بين الصحيحين.
السؤال: وعلى من؟ الجواب: على فضيلة الشيخ يحيى بن عبد العزيز اليحي.
السؤال: كم تبلغ محفوظاتك الآن؟ الجواب: بحمد الله عز وجل وأسأله التوفيق، قرابة الأربعة آلاف تقريباً.
ما شاء الله تبارك الله! السؤال: وهل هناك متون علمية تدرسها على بعض المشايخ؟ الجواب: نعم زاد المستقنع عند فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وكذلك الطحاوية عند الشيخ حمود بن عقلاء، وكذلك في العقيدة كتاب التوحيد والواسطية عند الشيخ سلمان العودة، وكذلك بلوغ المرام عند الشيخ سلمان، وكذلك سنن أبي داود عند فضيلة الشيخ يحي، والنحو درست عند الشيخ سلمان، والأصول عند الشيخ عبد الله الفوزان، وغير ذلك أسأل الله التوفيق.
السؤال: هل تسمعنا يا أخي يوسف دليلين من حفظك يدلان على أهمية الحفظ؟ الجواب: لعل من ذلك الحديث المتفق عليه: {عن أبي جمرة قال: كنت أترجم بين يدي عبد الله بن عباس وبين الناس، فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجبر، فقال: إن وفد عبد القيس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من الوفد أو من القوم؟ قالوا: ربيعة، قال: مرحباً بالوفد أو بالقوم غير خزايا ولا ندامى، قالوا: يا رسول الله! إنا نأتيك من شقة بعيدة، وإن بيننا وبينك هذا الحي من مضر، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، قال: فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده، وقال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خُمساً من المغنم، ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت، قال شعبة: وربما قال النقير، وقال احفظوه وأخبروا من وراءكم} .
{وزاد ابن معاذ عن أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس، إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة} .
السؤال: ما وجه الاستدلال؟ الجواب: وجه الاستدلال قول النبي صلى الله عليه وسلم: {احفظوه وأخبروا به من وراءكم} .
الحديث الآخر، حديث أبي زيد عمرو بن أخطم رضي الله عنه قال: {صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل وصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأعلمنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا} والحديث من إخراج مسلم.
السؤال: هل من مشاركة في الدعوة يا أخ يوسف؟ الجواب: إنني ذو قصور وتقصير، ولا شك أن الدعوة إلى الله عز وجل أصل من أصول هذا الدين العظام، وهو واجب من الواجبات الضرورية، ومن أصول الإسلام، أسأل الله العون والتوفيق للجميع.
بارك الله فيك ووفقك ونفعك ونفع بك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
شكر الله لفضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري على تفضله بإجراء هذه المقابلة الممتعة والتي كانت ولا شك تقديماً لأنموذج من الشباب الحافظين، وكنا نود أن يكون في الوقت فسحة لمقابلة شباب آخرين من الحفظة، فإن منهم من وصلتني أنباء بأنه يحفظ أكثر من خمسة آلاف حديث، وشخص آخر من الحفظة يبلغ حفظه أيضاً أربعة آلاف حديث، فلله الحمد والمنّة.
كما نشكر الأخ الكريم يوسف بن محمد الغفيص على هذه المعلومات الطيبة، والتي قصد من ورائها تشجيع إخوانه من طلاب العلم بأن يحذوا حذو هذا المنهج، وأن يسلكوا هذا الطريق الطيب، سائلين الله -جل وعلا- أن يحفظه وأن يوفقه فيما بقي من وقته وعمره، للاستمرار في طلب العلم الشرعي، وأن ينفع به إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
أيها الإخوة: وإنه لا يفوتنا في عداد الترحيب بالحضور الكرام أن نرحب بالشيخ سمير بن خليل المالكي الذي حضر إلينا من مكة فحياه الله وحيا الله جميع الحاضرين.(43/14)
مسابقة حفظ ألف حديث
أيها الإخوة: ننتقل الآن إلى الفرع الثالث وهو حفظ ألف حديث ونظراً لضيق الوقت فإننا نكتفي بطالب واحد بدلاً من طالبين وهو خالد بن عبد العزيز السيف فليتفضل مشكوراً.
المقابلة:
السؤال
اقرأ من قوله رحمه الله تعالى في باب: (قبول الصدقة تقع في غير أهلها) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على إمام المرسلين؛ قال رحمه الله تعالى: {عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصحبوا يتحدثون تُصدِّق على زانية! قال: اللهم لك الحمد! على زانية! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون تُصُدِّق على غني! قال: اللهم لك الحمد! على غني! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون تُصُدِّق الليلة على سارق! قال: اللهم لك الحمد! على زانية وعلى غني وعلى سارق} .
السؤال: اقرأ من قوله في (باب الإحسان إلى المملوكين) عن المعرور بن سويد قال: مررنا على بـ أبي ذر بالربذة وعليه برد الجواب: {عن المعرور بن سويد قال: مررنا على أبي ذر بالربذة، وعليه برد وعلى غلام مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة، فقال: لقد كانت بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه فشكى إلى} .
السؤال: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان} أكمل.
الجواب: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} .
السؤال: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر} من راوي هذا الحديث الأعلى، ومن أخرجه؟ الجواب: {وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سباب المسلم فسوق وقتاله كفر} متفق عليه.
السؤال: {أي المسلمين خير} الجواب: {وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده} .
السؤال: {أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر} الجواب: حديث زيد بن خالد الجهني، متفق عليه.
السؤال: {لكل نبي دعوة مستجابة تعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة} الجواب: أبو هريرة، متفق عليه.
السؤال: {اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم} الجواب: أبو هريرة، مسلم.
السؤال: {توضئوا مما مست النار} الجواب: أبي هريرة، مسلم.
السؤال: {لا تتحروا بصلاة طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك} الجواب: روته عائشة، متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر وعائشة.
السؤال: حديث {كخ كخ ارم بها ارم بها، أما تعلم أن الصدقة لا تحل لنا} الجواب: أبو هريرة، مسلم.
السؤال: {ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة} الجواب: أبو هريرة، متفق عليه.
السؤال: {ما كان رسول الله يصوم في العشر قط} الجواب: عائشة، في مسلم.
السؤال: {أيام التشريق أيام أكل وشرب -وفي رواية- وذكر لله عز وجل} الجواب: رواه مسلم.
السؤال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة} الجواب: أنس، متفق عليه.
السؤال: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون} الجواب: أبو هريرة، متفق عليه.
السؤال: {ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي} الجواب: أبو هريرة، متفق عليه.
السؤال: {تنكح المرأة لأربع} الجواب: أبو هريرة، متفق عليه.
السؤال: {أوْلِمْ ولو بشاة} الجواب: أنس بن مالك، متفق عليه.
السؤال: {استوصوا بالنساء خيراً} الجواب: أبي هريرة، متفق عليه.
السؤال: {المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان} الجواب: جابر، رواه مسلم.
السؤال: {نهى عن بيع علم المخابرة والمعاظمة} الجواب: مسلم.
السؤال: حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم {قضى بالشفعة} الجواب: جابر، متفق عليه.
السؤال: حديث {ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا أوصى بشيء} الجواب: عائشة، مسلم.
بارك الله فيك، ما شاء الله.(43/15)
قصيدة للشاعر عبد الرحمن العشماوي
وإنما الشعر لب المرء يعرضه على المجالس إن كيساً وإن حمقا وإن أشعر بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقا قالهما شاعر النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه نعم إن الشعر شعور صادق معبر عنه بلفظ جميل، إن هذا الصدق وجمال التعبير خصلتان قد ألفناهما عند شاعرنا الإسلامي الكبير أخينا الدكتور عبد الرحمن بن صالح العشماوي، الذي أبى إلا أن يشاركنا ابتهاجنا بهذه المناسبة الطيبة، فنظم قصيده عنوانها (عناقيد الضياء) فليتفضل مشكوراً بإلقائها على أسماعكم، أو بالأحرى في قلوبكم.
قال الدكتور عبد الرحمن العشماوي: بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أحيكم جميعاً بتحية الإسلام الخالدة: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أحبتي قبل أن أبدأ بإلقاء القصيدة أريد أن أضع أمامكم ملاحظة واحدة وهي: أنني أتهيب منذ زمن طويل من كتابة شيء عن الرسول عليه الصلاة والسلام، كلما أردت أن أكتب توقف القلم، لأنني أجد أن الألفاظ التي أملكها تظل عاجزة عن تصوير ما أحمله في قلبي تجاه رسولنا عليه الصلاة والسلام، القصيدة هذه ستسمعون فيها نداء يا سيد الأبرار، وهو نداء استحضار أدبي لا دعاء ولا رجاء، وتعلمون صفاء عقيدتنا في هذا الأمر، اللهم صلِّ وسلم على نبيك محمد صلاةً وسلاماً دائمين ما دام الليل والنهار.
هلّ الهلال فكيف ضل الساري وعلام تبقى حيرة المحتار ضحك الطريق لسالكيه فقل لمن يلوي خطاه عن الطريق حذار وتنفس الصبح الوضيء فلا تسل عن فرحة الأغصان والأشجار غنت بواكير الصباح فحركت شجوى الطيور ولهفة الأزهار غنت فمكة وجهها متألق أملاً ووجه طغاتها متواري هلّ الهلال فلا العيون ترددت فيما تراه ولا العقول تماري والجاهلية قد بنت أسوارها دون الهدى فانظر إلى الأسوار واقرأ عليها سورة الفتح التي نزلت ولا تركن إلى الكفار أوما ترى البطحاء تفتح قلبها فرحاً بمقدم سيد الأبرار عطشى يلمظها الحنين ولم تزل تهفو إلى غيث الهدى المدرار ماذا ترى الصحراء في جنح الدجى هي لا ترى إلا الضياء الساري وترى على طيف المسافر هالة بيضاء تسرق لهفة الأنظار وترى عناقيد الضياء ولوحة خضراء قد عرضت بغير إطار هي لا ترى إلا طلوع البدر في غسق الدجى وسعادة الأنصار ما زلت أسمعها تصوغ سؤالها بعبارة تخلو من التكرار هل يستطيع الليل أن يبقى إذا ألقى الصباح قصيدة الأنوار ماذا يقول حراء في الزمن الذي غلبت عليه شطارة الشطار ماذا يقول للاتهم ومناتهم ماذا يقول لطغمة الكفار ماذا يقول ولم يزل متحفزاً متطلعاً لخبيئة الأقدار طب يا حراء فليلهم كحكاية نسجت ومنك بداية المشوار أوما تراه يجيء نحوك عابداً متبتلاً للواحد القهار؟ أوما ترى في الليل فيض دموعه أوما ترى نجواه بالأسحار؟! أسمعت شيئاً يا حراء عن الفتى أقرأت عنه دفاتر الأخبار؟! طب يا حراء فأنت أول بقعة في الأرض سوف تفيض بالأسرار طب يا حراء فأنت شاطئ مركب مازال يرسم لوحة الإبحار ماجت بحار الكفر حين جرى على أمواجها الرعناء في إصرار وتساءل الكفار حين بدت لهم في ظلمة الأهواء شمعة ساري من ذلك الآتي يمد لليلنا قبساً سيكشف عن خبايا الدار؟ من ذلك الآتي يزلزل ملكنا ويرى عبيد القوم كالأحرار؟ ما باله يتلو كلاماً ساحراً يغري ويلقي خطبة استنفار ما باله يقسو على أصنامنا باللوم بالتسفيه بالإنكار هذا محمد يا قريش كأنكم لم تعرفوه بعفة ووقار هذا الأمين أتجهلون نقاءه وصفاءه ووفاءه للجار هذا الصدوق تطهرت أعماقه فأتى ليرفعكم عن الأقذار طب يا حراء فأنت أول ساحة ستلين فيها قسوة الأحجار سترى توهج لحظة الوحي الذي سيفيض بالتبشير والإنذار اقرأ ألم تسمع أمين الوحي إذ نادى الرسول فقال لست بقاري اقرأ فديتك يا محمد عندما واجهت هذا الأمر باستفسار وفديت صوتك عندما رددتها آياً من القرآن باسم الباري وفديت صوتك خائفاً متهدجاً تدعو خديجة أسرعي بدثار وفديت صوتك ناطقاً بالحق لم يمنعك ما لاقيت من إنكار وفديت زهدك في مباهج عيشهم وخلو قلبك من هوى الدينار يا سيد الأبرار حبك دوحة في خاطري صدَّاحة الأطيار والشوق ما هذا بشوق إنه في قلبي الولهان جذوة نار حاولت إعطاء المشاعر صورة فتهيبت من وصفها أشعاري ماذا يقول الشعر عن بدر الدجى لما يضيء مجالس السمار؟ يا سيد الأبرار أمتك التي حررتها من قبضة الأشرار وغسلت من درن الرذيلة ثوبها وصرفت عنها قسوة الإعصار ورفعت بالقرآن قدر رجالها وسقيتها بالحب والإيثار يا سيد الأبرار أمتنا التَوَت في عصرنا ومضت مع التيار شربت كئوس الذل حين تعلقت بثقافة مسمومة الأفكار إني أراها وهي تسحب ثوبها مخدوعة في قبضة السمسار إني أراها تستطيب خضوعها وتلين للرهبان والأحبار إني أرى فيها ملامح خطة للمعتدين غريبة الأطوار إني أرى بدع الموالد أصبحت داء يهدد منهج الأخيار وأرى القباب على القبور تطاولت تغري العيون بفنها المعماري يتبركون بها تبرك جاهل أعمى البصيرة فاقد الإبصار فرق مضللة تجسد حبها للمصطفى بالشطح والمزمار أنا لست أعرف كيف يجمع عاقل بين امتداح نبينا والطارِ كبرت دوائر حزننا وتعاظمت في عالم أضحى بغير قرار إني أقول لمن يخادع نفسه ويعيش تحت سنابك الأوزار سل أيها المخدوع طيبة عندما بلغت مداها ناقة المختار سل صوتها لما تعالى هاتفاً وشدا بألف قصيدة استبشار سل عن حنين الجذع في محرابه وعن الحصى في لحظة استغفار سل صحبة الصديق وهو أنيسه في دربه ورفيقه في الغار سل حمزة الأسد الهصور فعنده خبر عن الجنات والأنهار سل وجه حنظلة الغسيل فربما أفضى إليك الوجه بالأسرار سل مصعباً لما تقاصر ثوبه عن جسمه ومضى بنصف إزار سل في رياض الجنة ابن رواحة واسأل جناحي جعفر الطيار سل كل من رفعوا شعار عقيدة وبها اغتنوا عن رفع كل شعار سلهم عن الحب الصحيح ووصفه فلسوف تسمع صادق الأخبار حب الرسول تمسك بشريعة غراء في الإعلان والإسرار حب الرسول تعلق بصفاته وتخلق بخلائق الأطهار حب الرسول حقيقةٌ يحيا بها قلب التقي عميقة الآثار إحياء سنته إقامة شرعه في الأرض دفع الشك بالإقرار إحياء سنته حقيقة حبه في القلب في الكلمات في الأفكار يا سيد الأبرار حبك في دمي نهر على أرض الصبابة جاري يا من تركت لنا المحجة نبعها نبع اليقين وليلها كنهار سحب من الإيمان تنعش أرضنا بالغيث حين تخلفت أمطاري لك يا نبي الله في أعماقنا قمم من الإجلال والإكبار عهد علينا أن نصون عقولنا عن وهم مبتدع وظن مماري علمتنا معنى الولاء لربنا والصبر عند تزاحم الأخطار ورسمت للتوحيد أكمل صورة نفضت عن الأذهان كل غبار فرجاؤنا ودعاؤنا ويقيننا وولاؤنا للواحد القهار والسلام عليكم.
قال مقدم الحفل حفظه الله: شكر الله لشاعرنا الدكتور عبد الرحمن على هذه القصيدة وجزاه الله خير الجزاء.
أيها الإخوة لا يفوتني قبل أن نقدم لمجموعة من الطلاب امتحانهم، أن نرحب بوفد وفد إلينا من السودان البلد الشقيق، وعلى رأس هذا الوفد فضيلة الشيخ أبو زيد محمد حمزة نائب رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية بالسودان.
كما لا يفوتني أيها الإخوة أن أرحب بوفد الدمام والخبر وعلى رأسهم فضيلة الشيخ محمد بن سليمان الشيحة.
والشيخ رياض بن عبد الرحمن الحقيب.
والشيخ عثمان السيف.
والشيخ محمد الدهيمان.
ومن الرياض أيضاً جاء إلينا قبل قليل كل من الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل.
والشيخ محمد الفراج.
والشيخ عبد العزيز الوهيري، فأهلاً بالجميع ومرحباً.
أيها الإخوة: لا يفوتني أيضاً أن أشكر من أعماق قلبي أولئك التجار الذين ساهموا في دعم المشروعات الخيرية ومنها هذه المسابقة التي رأيتم شيئاً من برامجها، ومن هؤلاء وعلى رأسهم التاجر المعروف صالح بن عبد العزيز الراجحي.
والشيخ سليمان بن عبد العزيز الراجحي.
ودرع بن سليمان الدرع.
وعلي بن عبد الرحمن القرعاوي، وصالح السلمان، وعبد الله بن إبراهيم الجديعي.
وهؤلاء أيها الإخوة بذلهم وعطاؤهم مشهود معروف لدى الجميع.(43/16)
مسابقة حفظ خمسمائة حديث
أيها الإخوة: أترككم مع ثلاثة من المتسابقين من الفروع الثلاثة الأخيرة، من الفرع الرابع الطالب عادل بن عبد الله السعوي، وبعده من الفرع الخامس الطالب زياد بن عبد الله الغفيري، ثم من الفرع السادس والأخير الطالب عادل بن عبد الرحمن المحسن.(43/17)
المتسابق: عادل السعوي
نبقى مع الطالب الأول في الفرع الرابع عادل بن عبد الله السعوي، ومتسابقو الفرع الرابع يحفظون من الأحاديث خمسمائة حديث.
المقابلة:
السؤال
اقرأ يا أخ عادل من قوله: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لكل نبي دعوة مستجابة.
الجواب
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة بإذن الله من مات لا يشرك بالله شيئاً} .
السؤال: اقرأ من قوله: باب وقت صلاة العشاء {عن عائشة رضي الله عنها قالت: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم} .
الجواب: عن عائشة رضي الله عنها قالت: {أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى وقال: إنه لوقتها، لولا أن أشق على الناس} .
هذا لا يعني أننا سوف نعتم في صلاة العشاء حتى يذهب عامة الليل.
السؤال: {ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان} ؟ الجواب: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} متفق عليه.
السؤال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فقال: {مستريح ومستراح منه} السؤال: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: مُر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة فقال: {مستريح ومستراح منه، فقيل: ما المستريح وما المستراح منه؟ فقال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب} متفق عليه.
السؤال: {هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار} الجواب: رواه العباس بن عبد المطلب، متفق عليه.
السؤال: {تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء} الجواب: أبو هريرة، مسلم.
السؤال: {يهود تعذب في قبرها} الجواب: أبو أيوب، متفق عليه.
السؤال: {إنما الصبر عند أول الصدمة} الجواب: أنس بن مالك، متفق عليه.
السؤال: {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص على القبر} الجواب: جابر بن سمرة، مسلم.
السؤال: {لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن} الجواب: جابر بن عبد الله، مسلم.
السؤال: {إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون} الجواب: أم سلمة، مسلم.
السؤال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الأضحى والفطر -نخرج الحيض-} الجواب: أم عطية، متفق عليه.
السؤال: {أفضل الصلاة طول القنوت} لما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصلاة.
الجواب: جابر، مسلم.
السؤال: {أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد} الجواب: أبو هريرة، مسلم.
أحسنت.(43/18)
مسابقة حفظ مائة حديث(43/19)
المتسابق: زياد الغفيري
والآن نبقى أيها الإخوة مع أحد الطلاب من الفرع الخامس وهو حفظ مائة حديث، ومع الطالب زياد بن عبد الله الغفيري فليتفضل.
الأخ زياد ممن حفظوا تجاوباً مع مشروع مسابقة السنة النبوية، فاختار أهله -جزاهم الله خيراً- وكل من عني بتربية ولده، اختاروا له مائة حديث من صحيح البخاري وغيره متفرقة.
السؤال
{من يقوم ليلة القدر}
الجواب
أبو هريرة.
السؤال: {آية المنافق ثلاث} الجواب: {آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان} .
السؤال: {من غدا إلى المسجد} الجواب: {من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً من الجنة كلما غدا أو راح} .
السؤال: {إذا قلت لصاحبك} ؟ الجواب: {إذا قلت لصاحبك وهو بجانبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت} .
السؤال: {صلاة في مسجدي هذا} الجواب: {صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام} .
السؤال: {الذي يخنق} الجواب: {الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعنها في النار} السؤال: {إن الإيمان} الجواب: {إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها} .
السؤال: من هو الصحابي؟ الجواب: أبو هريرة.
السؤال: من رواه؟ الجواب: البخاري.
السؤال: {يسلم الصغير} الجواب: {يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير} .
السؤال: {حجبت النار} الجواب: {حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره} .
السؤال: {أول ما يقضى} الجواب: {أول ما يقضى بين الناس في الدماء} .
السؤال: من هو الصحابي؟ الجواب: ابن عمر.
السؤال: والراوي من هو؟ الجواب: البخاري.
السؤال: {الجنة أقرب} الجواب: {الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك} .
السؤال: من هو الراوي؟ الجواب: ابن عمر.
السؤال: في أي صف تدرس؟ الجواب: ثاني ابتدائي.
بارك الله فيك وأصلحك الله.
وأضيف أن هذا الطالب عمره سبع سنوات، وهو من مدينة الرس.
أيها الإخوة: وممن شاركنا في حفلنا هذا جمع من المشايخ أيضاً لم أذكر أسماءهم سابقاً ومنهم: الدكتور الشيخ أسامة بن عبد الله بن عبد الغني خياط رئيس قسم السنة بكلية الدعوة بجامعة أم القرى.
وكذلك الشيخ حمد الريس رئيس جماعة تحفيظ القرآن بمدينة تمير وتوابعها ومعه بعض الأعضاء.
وكذلك الشيخ الأستاذ الدكتور علي بن سعيد الغامدي المدرس بالحرم النبوي والأستاذ بجامعة الإمام فرع المدينة.
والدكتور محمد الفلاح الجامعة الإسلامية.
والشيخ الفاضل عبد الله الجلالي.(43/20)
مسابقة خمسين حديث
أيها الإخوة: أترككم مع المتسابق الأخير وهو الطالب عادل بن عبد الرحمن المحسن وهو من الفرع السادس ويحفظ خمسين حديثاً نبوياً فليتفضل.
لعلنا أيها الإخوة حتى يطمئن الطالب ويجلس، أن نستغل الوقت، هذه ورقة جاءت تقول: أرجو الدعاء لفضيلة الشيخ صالح بن أحمد الخليصي في هذا الجمع المبارك، فنسأل الله تعالى بقدرته وعزته وجلاله ورحمته أن يشفيه ويعافيه ويزيل عنه البأس إنه على كل شيء قدير، وأن يمد في عمره على طاعته.
الآن أترككم مع الطالب.(43/21)
المتسابق: عادل بن عبد الرحمن المحسن
الطالب يحفظ الأربعين النووية مع زيادة ابن رجب، في الأربعين النووية.
السؤال
حديث عن معاذ بن جبل تحفظه؟ اقرأ الحديث؟
الجواب
قال رحمه الله تعالى: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: {قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويبعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال له: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم الجنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والصلاة في جوف الليل، ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] } .
السؤال: حديث {لا ضرر ولا ضرار} اقرأه؟ الجواب: عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا ضرر ولا ضرار} حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني، وغيرهما مسنداً، ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمر بن يحي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، فأسقط أبا سعيد وله طرق يقوي بعضها بعضاً.
السؤال: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجواب: {إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت} رواه البخاري.
السؤال: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لو يعطى الناس} الجواب: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر} حديث حسن رواه البيهقي وغيرهما، وهو في الصحيحين.
بارك الله فيك.
قال مقدم الحفل حفظه الله: أيها الإخوة: نشكر المشايخ الفضلاء على قيامهم بهذه المسابقة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك فيهم ويجزيهم خيراً.
أيها الإخوة: إن وجود هؤلاء العلماء والدعاة فرصة لا تقدر بثمن، ولذلك انتهزنا هذه الفرصة لإقامة مجموعة من المحاضرات والندوات في مدن القصيم المختلفة، وكم كانت أمنيتنا أيها الإخوة أن تدوم فعاليات هذه المسابقة لمدة أسبوع على الأقل، ولكن مشاغل هؤلاء العلماء، وتعسر إقامتهم هذه المدة جعلتنا نرضى منهم بالقليل، ولكن القليل منهم كثير وكثير، جزاهم الله عنا خير الجزاء.
وإليكم أيها الإخوة سرداً بهذه المحاضرات والندوات وأماكن وجودها: في بريدة محاضرة بعنوان: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، يلقيها فضيلة الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي.
وفي عنيزة ندوة علمية يشترك فيها كل من فضيلة الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود، والشيخ سعيد بن مبارك بن زعير، والشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري.
وفي الرس ندوة علمية أيضاً يشترك فيها كل من الشيخ سلمان بن فهد العودة، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، والشيخ عبد الله بن حمود التويجري.
وفي رياض الخضراء ندوة علمية أيضا يشترك فيها كل من المشايخ ناصر العمر، وحمزة الفهر، والثالث لم يتقرر حتى الآن.
وهناك محاضرة في البكيرية بعنوان نصائح لطالب العلم، يلقيها فضيلة الشيخ رياض بن عبد الرحمن الحقيب.
أيها الإخوة: لا يفوتني أن أرحب بفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد الدبيخي وهو من وفد الدمام.
وأيضاً أن نشكر شكراً جزيلاً مؤسسة الراجحي التجارية للصيرفة عن فرع القصيم فقد تبرعوا لهذه المسابقة بارك الله فيهم.
وأحب أن أنبه إلى أن التجار الذين ذكرت أسماءهم قبل قليل هم كلهم ممن شاركنا في هذا الحفل فجزاهم الله خير الجزاء وبارك فيهم.(43/22)
توزيع جوائز الحفل
والآن نبقى مع توزيع الجوائز.
أيها الإخوة: نأتي إلى الفقرة الأخيرة في هذا الحفل المبارك -إن شاء الله- وهي توزيع الجوائز، حيث تم صرف جوائز تشجيعية للحافظين، وحيث أن الحفظ يتفاوت فقد تفاوتت أيضاً الجوائز، ونظراً لضيق الوقت فإننا سنختار مندوباً عن كل فرع يستلم جوائز زملائه، نرجو أيها الإخوة من صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر أمير منطقة القصيم، وصاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن العجلان أن يتفضلا بتوزيع الجوائز على الفائزين.
أيها الإخوة: أما الفرع الأول: فهو في حفظ الصحيحين، وقد تسابق في هذا الفرع ثمانية وكلهم نجحوا بتقدير ممتاز، ومقدار الجائزة اثنا عشر ألف ريال لكل فائز، يتفضل الأخ تركي بن فهد الغميز لاستلام جوائز هذا الفرع بأكمله، ثم يعطي زملاءه كلاً بحسبه.
أما الفرع الثاني: فإنه في حفظ أحد الصحيحين وقد تسابق في هذا الفرع ثمانية، وقد فازوا جميعاً بتقديرات تتفاوت ما بين ممتاز وجيد جداً ومقدار الجائزة ستة آلاف لممتاز، وخمسة آلاف وأربعمائة لتقدير جيد جداً، ويتفضل الأخ فهد بن عبد الله التركي باستلام جوائز هذا الفرع.
أما الفرع الثالث: فمقداره ألف حديث، وعدد المتسابقين ثمانية، ومقدار الجائزة ثلاثة آلاف لتقدير ممتاز، وأقل من ذلك بقليل لتقدير جيد جداً، ويتفضل الأخ أحمد بن محمد السبعوق لاستلام جوائز هذا الفرع.
أما الفرع الرابع: فمقدار أحاديثه خمسمائة، حديث وتسابق في هذا الفرع تسعة متسابقين، ويتفضل الأخ إبراهيم بن عبد العزيز الفصيلي لاستلام جوائز هذا الفرع.
أما الفرع الخامس: فمقداره مائة حديث، وقد تسابق في هذا الفرع خمسون طالباً، ويتفضل الأخ محمد بن صالح الفصير لاستلام جوائز هذا الفرع.
أما الفرع السادس: فمقداره خمسون حديثاً، ويتفضل الأخ خالد بن حمد الصائغ لاستلام جوائز هذا الفرع.
بعض الإخوة يرغب في ذكر الفائزين في الفرعين الأول والثاني ولذلك نسرد أسماءهم: أما الفرع الأول فهو في حفظ الصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم والإخوة المتسابقون هم: ياسر بن إبراهيم السلامي ممتاز يوسف بن محمد الغفيص ممتاز عبد الله بن غدير التويجري ممتاز تركي بن فهد الغميز ممتاز صالح بن سليمان الصقعبي ممتاز محمد بن صالح محيجين ممتاز فهد بن عبد الرحمن اليحي ممتاز إبراهيم بن صالح الحيمضي ممتاز أما الفرع الثاني فهو حفظ أحد الصحيحين وأسماؤهم وتقديراتهم كما يلي: عبد الله بن ناصر السلمي ممتاز فهد بن عبد الله التركي ممتاز عبد الله بن فوزان الفوزان ممتاز عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل ممتاز محمد بن عبد العزيز الفراج جيد جداً سليمان بن محمد الدبيخي جيد جداً عبد العزيز بن عبد الرحمن الراجحي جيد جداً فهد بن أحمد الأسطى جيد جداً أيها الإخوة: شكر الله للجميع مساعيهم ونسأل الله تعالى أن يجمعنا على خير إن شاء الله، ونسأله تعالى كما جمعنا في هذه الدار أن يجمعنا في مستقر رحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(43/23)
كلمة الشيخ ابن عثيمين
أيها الإخوة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحييكم في هذا اللقاء الطيب المبارك إن شاء الله، إخواني في الله اغتناماً لهذا الوقت نلتقي مع بعض مشايخنا الفضلاء، ومع أستاذنا وشيخنا صاحب الفضيلة محمد بن صالح العثيمين فليتفضل مشكوراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإننا هنا في القصيم نرحب بإخواننا الذين قدموا إلينا من بلاد شتى، ونسأل الله تعالى أن يجعل هذا أول بركة لهذا المشروع الجيد المفيد، الذي فيه حفظ لشريعة الله عز وجل، بحفظ سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والذي نسأل الله تعالى أن يجعله أول باكورة لمثل هذا المشروع، فإن هذا -كما نعلم جميعاً- هو أول ما حصل من هذا النوع، لأن الناس كانوا فيما سبق يعتنون بكلام الله عز وجل، ونعم المعتنى به، وهو الذي يجب أن يعتني به أولاً.
ولكن هذا اللقاء لبيان المتسابقين ومراتبهم وجوائزهم هو أول سباق من نوعه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة} .
وإنني بهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أن حفظ شريعة الله، كما يكون بحفظ القرآن والسنة، فإنه يكون بحفظ الشريعة عملاً يعمل بها الإنسان فيما يعتقده في ربه، في أسمائه، وصفاته، وأحكامه وأفعاله، وفيما يعتقده في كتبه، ورسله، وملائكته، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
وكذلك أيضاً فيما يقوله بلسانه، من تسبيح الله تعالى وتهليله وتكبيره، وقراءة كتابه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما يقرب إلى الله، وكذلك مما يكون في أفعاله من القيام بعبادة الله على الوجه الأكمل، والقيام بمعاملة عباد الله على الوجه الذي يحب أن يعاملوه به، وإن أهم من يقوم به، وأعظم من يقوم بهذه الأمور هم طلبة العلم، الذين هم قدوة الأمة في عقيدتها، ومقالها، وفعالها.
فالواجب علينا -نحن طلبة العلم- أن نكون يداً واحدة، وألا نتفرق مهما اختلفت الآراء المبنية على الاجتهاد السائغ، فإن الاختلاف في الاجتهاد أمر ثابت من عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى عهدنا هذا، ولكنه لا يجوز أبداً بأي حال من الأحوال أن يكون سبباً لتفرق القلوب، فإن تفرق القلوب هو الداء العضال الذي لا يفرح به إلا أعداء الأمة الذين ينتهزون الفرص في تشتتها، وتفرقها.
وإنني أرجو من إخواني طلبة العلم أن يكون بعضهم لبعض ولياً، يتولاه، وينصره، ويدافع عنه، ويكون معه في الحق، ويذود عنه، وإذا أخطأ والخطأ لا يعصم منه إلا من عصمه الله -فليبين له الخطأ، وليكن ذلك سراً بينه وبينه، دون أن يفشيه لأحد، لأن الخطأ إذا ظهر للناس فإنه سيجعل فوق الخطأ خطأً آخر وثالثاً ورابعاً وهكذا.
لكن إذا كان نصيحة بين الإنسان وأخيه فإنه يزول -بإذن الله- مع حسن النية، وحسن الطريقة، فالإنسان قد يخطئ، وقد تظن أنه أخطأ، وقد تكون أنت الذي أخطأت، فإذا تقارب الناس وتناصحوا فيما بينهم وتبين الحق؛ فإنه لا يعذر أحد لمخالفته أبداً.
لكن الشر كل الشر أن ينتهز الواحد منا خطأ صاحبه، ثم ينشره بين الناس فتبقى الضغينة والأحقاد، والعداوة والبغضاء بين الناس، ثم إن الخلاف الذي يقع بين العلماء، والتعادي بينهم، والقدح بين بعضهم ببعض ليس ضرراً على العالم شخصياً، بل هو ضررٌ على الشريعة كلها، لأن حملة الشريعة هم العلماء فإذا طعن بعضهم ببعض، لم يثق العامة لا بالطاعن ولا بالمطعون فيه، وحينئذ تضيع الشريعة الإسلامية بين الأحقاد والضغائن.
لذلك أنا أدعو من هذا المكان، وفي هذا المجتمع المبارك إلى أن يرجع كل منا إلى صواب رأيه، وأن يفكر في الأمر، وألا يجعل من مخالفة أخيه عداوة وبغضاء، وألا يجعل أيضاً من نعمة الله على أخيه بقبوله عند الناس ألا يجعل من ذلك حسداً وكراهة لما أنعم به الله عليه، فإن ذلك بلا شك من أخلاق اليهود كما قال تعالى عنهم: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] .
ومن المعلوم أن الحاسد لن يضر المحسود شيئاً؛ لأن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء كما قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} [النساء:54] وإنما يضر الحاسد نفسه، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والحسد جمرة عظيمة في قلب الحاسد، لا يمكن أن يهدأ له بال، ولا يقر له قرار حتى يرى نعمة الله على أخيه قد زالت والعياذ بالله.
وحينئذ يهلك ويفقد تمام الإيمان الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} .
وإن ظني في ختام كلمتي هذه أن الذين يقومون على هذا المشروع الجيد الطيب، وهو حفظ السنة، ظني أنهم لن يغفلوا ما ينبغي أن يكون الطلبة منه على علم، وذلك: بفقه الأحاديث والعمل بها، ودعوة الناس إلى ما تدل عليه من الأخلاق والآداب العالية، كما أظن أيضاً أنهم لن يغفلوا رجال الإسناد، وحفظ الطلبة للرجال، لأن ذلك يعينهم على ما إذا أتى هؤلاء الرجال في سياق ما ليس في الصحيحين أو أحدهما، فيعرفون الحديث بمعرفة رجاله، واتصال سنده.
وأخيراً أسأل الله تعالى أن يجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً، وأن يجعل سعي الجميع مشكوراً وذنبنا مغفوراً إنه جوادٌ كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المقدم: شكر الله لفضيلة شيخنا على هذا الكلمة التوجيهية لأهل العلم، وأحب أن أبشر فضيلة شيخنا وغيرهم، بأن الحلق العلمية تحرص أشد الحرص على معرفة فقه الحديث، بل إن هناك حلقاً في هذا البلد خاصة لفقه الأحاديث، فالحمد لله إن أغلب من يحفظون الحديث هم ممن يهتمون بفقه الحديث، وهذا فضل من الله ومنّه.(43/24)
كلمة الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي
أيها الإخوة: أترككم مع كلمة لأحد مشايخنا، وهو شيخنا الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي فليتفضل.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: إننا نرحب بإخواننا ونحييهم في بلدهم بلد العلم، وبلد العقيدة، وبلد الدعوة، فحياهم الله في بلدهم ومع إخوانهم، وإننا لنرجو الله أن يثيبهم، ويجازيهم على ما بذلوه من تعب وجهد في السفر من بلادهم إلى هذه البلد المباركة، وعلى ما تركوه من مشاغلهم، وجاءوا حباً للعلم ولأهله.
أيها الإخوان: إن الله سبحانه وتعالى قد منَّ على عباده بإرساله محمداً صلى الله عليه وسلم إليهم، حيث قال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] وإن أكبر نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض هي إرساله محمداً صلى الله عليه وسلم إليهم بالهدى ودين الحق.
وكثيراً ما يذكر سبحانه وتعالى بهذه النعمة في كتابه العزيز {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الأنفال:26] وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:102-103] .
وقال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] وإذا أراد الإنسان أن يعرف مدى هذه النعمة وعظمها؛ فعليه أن يلقي نظرة ولو سريعة على ما كان عليه العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا أدرك ذلك وعرفه، عرف مدى عظم النعمة الذي منَّ الله بها على عباده من وفقه منهم وهداه لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
كل واحد من هؤلاء الحاضرين يدرك ويعرف يقيناً الفساد والضلال والجهل الذي كانت عليه الأمم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الخير ما حصل لهم إلا بالشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، فالعالم قبل الإسلام كانوا أمماً وثنية منها الأمم المتحضرة كالفرس والروم والأحباش وغيرهم، ولكن مع هذا هم يستعبدون شعوبهم، ويرون أنهم من جنس غير الجنس الذي منه الملوك والرؤساء.
بل يريدون منهم أن يقدسوهم ويعبدوهم، وهذا ثابت في التاريخ لكل ناظر ينظر فيه، ولهذا لما دخل رجل من الفرس على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد حلق لحيته، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أمرك بهذا؟ قال: أمرني ربي -يريد ربه الملك كسرى- فكانوا يؤلهون أنفسهم، ويرون أنهم أرباب لشعوبهم، وأنه لا يجوز لأحد أن يخرج عما يريدونه أو ما يأمرونه به، أو يشرعونه لهم.
أي: أن الشعوب عبيد والملوك آلهة، وهذا ظاهر لكل من ينظر في تاريخ الأمم السابقة قبل الإسلام، وما أشبه الليلة بالبارحة، هذه حالة أولئك، ولا أريد أن أشرح قولي: ما أشبه الليلة بالبارحة لأنه واضح، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد بأهل الأرض خيراً فأرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فدلهم على الخير، ونهاهم عن الشر، وقال بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: [[توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في الهواء، إلا وذكر لنا منه علماً]] .
وقال عمر رضي الله عنه: {خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فذكر بدء خلق الإنسان إلى أن دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ولم يترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه} .
وقال عليه الصلاة والسلام: {تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك} وقال عليه الصلاة والسلام: {إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي} .
فعلى الأمة الإسلامية أن تقتدي بهذه النصوص والأخبار عنه صلى الله عليه وسلم، وتعمل بها لأجل أن تنجو من الشرور المحدقة بها في الدنيا والآخرة، وإذا نظرنا إلى واقع المسلمين في هذا العصر وجدنا أن قوله عليه الصلاة والسلام: {يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا يا رسول الله: أمن قلة نحن؟ قال: لا، أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل} .
وصدق صلى الله عليه وسلم، المسلمون يبلغون ألف مليون في العالم أو يزيدون، ومع هذا لا تجد إلا القليل والقليل جداً من يتمسك بشرع النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتفي أثره في التشريع وفي الأحكام، بل اختاروا لأممهم وشعوبهم شرائع جاءوا بها من عند أعدائهم أعداء المسلمين، أعداء الإسلام الذين ما فتئوا يبحثون عما يضعف الإسلام، أو يقضي على الإسلام منذ بزغ نور الرسالة، وحتى يومنا هذا، ما زالوا يدبرون المؤامرات، ويدبرون الخطط لإضعاف الإسلام أو القضاء عليه، من بعثته صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا، بالمؤامرات، بالحروب، بإحداث الأفكار المنحرفة السيئة، وكل هذه الأوقات والأزمنة التي مضت ما استطاعوا أن يحصلوا على مرادهم في القضاء على الإسلام، ولكن في عصرنا الحاضر جعلوا لهم أعواناً من المنافقين والملحدين والكافرين الذين اندسوا في صفوف المسلمين، وجعلوا لا يفتئون يفرقون صفوفهم، ويحدثون الخلافات بينهم، ويشككون نشء المسلمين في عقيدتهم وفي شرعهم.
وكانت لهم صولات وجولات في الكتابات، وفي الشعر، وفي التشريع، وفي المناهج كطريقة المنافقين الأولين، يفعلون أموراً يظهر منها الإصلاح وهم يريدون بها القضاء على الإسلام، يزعمون أنهم مصلحون وهم والله مفسدون يريدون القضاء على الإسلام، وينفذون أوامر أسيادهم في خارج بلاد المسلمين، وإلا فكيف يرضى المسلمون، كيف يرضى حكام المسلمين أن يتحاكموا إلى الطاغوت (إلى القانون) ويجعلونه دستوراً، وشريعة يرجع إليها أفراد الأمة وجماعاتها يتحاكمون إلى الطاغوت وإلى القانون في معظم بلاد المسلمين، وينسون أنه سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] .
هذا خبر منه سبحانه وتعالى عامٌ لا يقصد به أمة من أمة، ولا قوم من قوم، وإنما هو عام لجميع الناس، لجميع الأمم، من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحكم غيرهما سواء حكمهما في كل شيء، أو حكمها في شيء دون شيء، فإنه داخل تحت قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] .
نرى أعداء الإسلام الكافرين، والملحدين، والعلمانيين، والحداثيين، ومن لف لفهم يصولون ويجولون في العالم الإسلامي، بقصائدهم، وكلماتهم، ومقالاتهم، ولا نرى أحداً يعترض لهم، أو ينقدهم، أو حتى يسمح لغيره أن ينقدهم أو يرد باطلهم، وأما غيرهم من المصلحين من الدعاة الذين يريدون تقويم الأمة، ويريدون تطبيق شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعليم الكتاب والسنة، هؤلاء توضع العراقيل في طريقهم، ولا يتمكنون من تبليغ رسالات ربهم في معظم العالم الإسلامي، بل يحال بينهم وبين دعوتهم، وبينهم وبين ما يريدونه.
ولكن إذا رأينا هذه الصحوة -التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل التوفيق رفيقها ومصاحبها، وأن ييسر لهم ما يهدفون إليه من تقويم الأمة، وتطبيق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم- إذا رأينا ذلك فإننا نعلق آمالاً عظيمة على هؤلاء وعلى مناهجهم، وعلى طريقتهم في الدعوة إلى الله وإلى الجهاد، ومعلوم أن الجهاد ليس طريقه مفروشاً بالورد، ولكنه مفروش بالشوك، ومفروش بالمتاعب، ولا بد في ذلك من الصبر والتحمل، ولا بد من الإصرار على إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، وتحكيم شرعه في جميع العالم الإسلامي على يد هؤلاء الشباب الذين نذروا أنفسهم ونذروا حياتهم للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى سبيله، وإلى نصرة كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(43/25)
قصيدة للشيخ عائض القرني
أيها الإخوة: ومع قصيدة شعرية للشيخ عائض القرني، فليتفضل مشكوراً.
قال الشيخ عائض بن عبد الله القرني حفظه الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وفيهم مقامات الحسان وجوههم وأندية ينتابها النبل والفضل على مقتفيهم حق من يقتفيهم وعند المقلين السماحة والبذل وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطي إلا وشيجه وتغرس إلا في مغارسها النخل جزى الله رب الناس خير جزائه وأبلاكمُ خير البلاء الذي يبلو أيها الناس: ليس عندي نثر كثير، ولكنْ عندي شيء من الشعر، وقبل أن أبدأ في القصيدة أنا أعلم أني في القصيم ولست في الرياض، ولكني سوف أخبركم بخبر سر بيني وبينكم، والمجالس بالأمانات، ومن شاء منكم أن يخبر به الناس فليفعل بعد أن يستأذن مني.
الخبر: شكر يعلن في الأسواق والمساجد لأهل الرياض، وخبرٌ هو يخصني وما أنا إلا طويلب ممن حضر، لكن أمة لا تجحد ولا تجمد، تقول للمحسن: أحسنت، وتقول للمسيء: أسأت، أمة تشكر لعلمائها، وقضاتها، وخطبائها، ودعاتها، أمة يقول معصومها عليه الصلاة والسلام {من صنع إليكم معروفاً فكافئوه} .
أمة تقول لمن أحسن جزاك الله خيراً، أنا في القصيم ولست في الرياض، ولكني أقول لأهل الرياض: جزاهم الله خيراً، ولعلكم سوف تسمعون ببعض أخبارهم، ببعض أخبار علمائهم، كأمثال الشيخ عبد الله بن قعود، والشيخ ابن جبرين، والشيخ البراك، والشيخ حمود التويجري، والقضاة، والدعاة، والخطباء، ورجال الأعمال، فأخجلوني من كثرة الكرم، وكثرة التبجيل والحفاوة، فأبذلوا البيوت، والشراب، والطعام، والمال، والسيارات، والأوقات.
جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فزلت همُ خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفات أدفأت وأظلت أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملت ولا زلت في الرياض، وأهل القصيم يعرفون ما هم في قلبي ولي معهم كلام خاص، لكنني الآن في الرياض، والقصيدة بعنوان (نجد الإباء ومهد البطولات) نجد الهدى والفجر يا أرض الحمى المجد فوق بساط سهوتك ارتمى قيس وليلى والكميت وجرول ودموع عشاق الفضيلة قد همى وهنا خيام الحب كل مفازة ملأى من الوصل المعطر واللمى صهوات خيل بني تميم أسرجت وسيوف وائل ضرجت منها الدماء وسل الخزامى في الدجى يروي الهوى غضاً ويلعب في العشية بالدمى هذي الجماجم كل جمجمة لها عهد من التاريخ ألا تحجما صلت على شفتيك يا نجد الحمى قبلات من زار الحطيم وزمزما وسقاك يا نجد الأبوة وابل بالحب يدلف بالحياة غطمطما ألقيت رحلي والعصا ووسادتي ووضعت رأسي فوق أرضك منعما ونثرت أحلام الشباب طرية في وجنتيك وقد نسيت المأتما وأتيت يا نجد الإباء مشاعري تمتاح منك وذا يراعي مفعما قد جئت والهمم الكبار رواحلي عاهدتها بالأمس أن تتقدما شيخي رسول الله أروي نهجه أحسو الهدى منه وأدني الأنجما أجد المتاعب في هواه لذيذة وكذاك يفعل من يعيش متيما من لم تلده أمة وشريعة غراء تبت فلتذقها علقما الأزد أنصار الرسول جدودنا هل أبصرت عيناك فينا مأثما؟ هم أهل بدر والمشاهد كلها لله كم من باسل قد أضرما تلك المكارم لا مساعي تائه يتجرع الصهبا ويهوى الدرهما يا نجد عندي ألف قافية همت في كل بيت ألف معنى قد هما من نجد تبدأ قصة الحق الذي هو حبل من عرف الطريق وألهما ولنجد في ذرات جسمي منزل يا نجد حبك في السويدا خيما علماؤها خطباؤها طلابها كم من كريم عاش فيهم ملهما أحببتكم في الله والله الذي شق القلوب لمن أراد وأنعما لو أن دمعي جدول وزعته أو أن عمري يستطاع لقسما شُم الأنوف كريمة أخلاقهم لا يسلمون الضيف حتى يكرما وأشد من ينهى الغوي عن الردى من طاش بغياً وشحوه الميسما يتهافت الدجال عند ظهوره من زحفهم حتى يعود محطما فاخر بهم من شئت أو ظاهر بهم فهم الشموس بنورهم يجلى العمى وصل الرياض مع القصيم بقبلة عانق بها جيل الهدى متبسما قد جئت من أبها وكل حديقة غرثى وكل خميلة ماتت ظما فركبت راحلة القبول مشرقاً ومغرباً والأرض حيت والسما والكون مدرستي وربي حافظي والشرع تاجي والهوية مسلما أما أهل القصيم فلهم يومٌ خالد من أيام الله سوف أدخره ليوم من الدهر، وأتيت أخبركم بما فعل أهل الرياض معي لئلا أكون جاحداً منكراً للجميل، لأقول للمحسن أحسنت، فقد أحسنوا كل الإحسان، وأحسنتم أنتم قبل وبعد أثابكم الله على هذا الحفل، وعلى هذا القيام لله، بما يرضى عنه سبحانه وتعالى، وأثاب علماءكم، ودعاتكم، وخطباءكم وحضوركم أجمل ثواب.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:181-182] وفي الحقيقة عندي قصيدة هنا بعنوان (أرض القداسات في القصيم) ولكني تذكرت هذه وقد سايرني بقصيدة أخرى الدكتور عبد الرحمن العشماوي عسى الله أن يحفظه ويسدده ويتولانا وإياه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
المقدم: جزى الله الشيخ عائض خير الجزاء.(43/26)
كلمة للشيخ عبد الرحمن البراك
ومع كلمة للشيخ عبد الرحمن البراك فليتفضل.
قال الشيخ عبد الله البراك حفظه الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة في الله: أخاطبكم جميعاً بهذا اللقب لأنه وصف مشترك يجمع بيننا صغيرنا وكبيرنا، وإلا ففيكم من له حق علينا مشايخ لنا كرام، نسأل الله أن يرفع درجاتهم وأن يجزيهم خيراً، وإخوة نسأل الله أن يجمع بين قلوبنا على محبته سبحانه وتعالى.
أيها الأحباب: إنه لجمعٌ يهيج مشاعر من يحضره، جمعٌ علام؟ جمعٌ على الخير، على العلم، على الحب في الله، نسأل الله أن يحقق لنا ذلك بمنه وكرمه.
لقد جئت أيها الإخوة، وأجبت الدعوة، وما جئت إلا لأحضر، وأشجع بالحضور، وأسلم على أحبابٍ طالما انقطع بيني وبينهم اللقاء المباشر، وإن لم ينقطع اللقاء الثابت الدائم.
ففي هذا اللقاء منافع كثيرة، لقاء الإخوة في الله، لقاءٌ يؤكد الحب في الله، لقاءٌ يؤكد الدعوة إلى الله، لقاءٌ يشجع الناشئين الذين نرجو أن يكونوا خلفاً صالحاً لأسلافهم.
ولقد بدا لي أن أذكر بهذه المناسبة أن مثل هذا الجمع الذي يقوم على تشجيع العلم، وعلى تشجيع حفظة القرآن وحفظة السنة، تشجيعهم التشجيع المعنوي قبل المادي.
وهذا الجمع الذي يضم أشتاتاً من أقطار متباعدة كما نُوه عن ذلك في الكلمات التي تضمنها الحفل، هذا الاجتماع أيها الأحباب يضم علماء، ويضم طلاب علم، يضم إخوة محبين في الله يحبون الخير وأهل الخير، ويعينون على الخير بأنفسهم وأموالهم، إنَّ مثل هذا في هذا العصر الذي أرى أنه أعظم العصور فتناً، فالصراع بين الحق والباطل أمر جارٍ وثابت على مر الزمن، سنة الله في خلقه، وما أسكن الله الجنس البشري في هذه الأرض إلا ليبتليه {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] .
فالصراع بين الحق والباطل قائم على الدوام، ولكنه في بعض الأعصار وفي بعض الزمان تشتد المحن، وتشتد وتقوى قوى الباطل وقوى الشر، وأرى أن هذا الزمان قد قويت فيه قوى الشر، وعظمت فيه الفتنة لما مكن للبشرية من وسائل، ومن حكمة الله البالغة أن جرت هذه الوسائل على أيدي أمم الكفر، حكمة بالغة، المسلمون هم الأضعف الآن مادياً، ولا أقول: هم الأضعف معنوياً، فالمسلمون مهما بلغ بهم الضعف، فهم الأقوى وإن امتحنوا، وإن حصل لهم وحصل عليهم تسلط من الأعداء.
لا سيما من كان مستقيماً على منهج الله، معتصماً بحبله، قد اتقى الله ما استطاع فلا يضره أن يفتقد كثيراً من القوى المادية فهي أحوال ومراحل، ولا بد أن تكون العاقبة للمؤمنين المتقين، الصابرين وإن مروا بمحنة، وهم منصورون على كل حال، منصورون في الدنيا وفي الآخرة، والنصر متنوع، وصوره متعددة {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] في الحياة الدنيا متعلق بننصر، أي: ننصر رسلنا وننصر الذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، أي: قد وعد الله رسله والمؤمنين بالنصر في الدنيا والآخرة.
ومع هذا البلاء العظيم، وهذه الفتن المدلهمة، والمتمثلة في قوى الباطل في سائر دول العالم، مع هذا ومع الكيد المتنوع المادي والمعنوي لا بد أن يبقى الحق ثابتاً، وهذا علمٌ من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ضروري ولازم من ختم النبوة، فإذ قد ختمت النبوة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلا بد أن تبقى شريعته، ولا بد أن يبقى الدين الذي جاء به، لا بد أن يبقى لتبقى الحجة، ولا بقاء لهذا الدين إلا بحملته، وما أسعد من كان من حملة هذا الدين القائمين به قولاً وعملاً! أقول: إن مثل هذا التجمع العلمي الخيري الأخوي وما يجري على غراره؛ هذا يعبر عن خير في الأمة ولله الحمد، وعن خير في الأمة يرجى أن يظهر أكثر وأكثر وأن يعود، أقول: إنه علمٌ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى يرجع إلى آية وحديث، أما الآية فقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وعد صادق لا يخلف {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9] .
وحفظ الذكر يستلزم حفظ القرآن، وحفظ ما يفسر القرآن وهو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويستلزم أن يبقى في هذه الأمة من يحمل القرآن نصاً ومعنى، وعملاً، أما الحديث فهو الحديث المشهور، قوله صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يظرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى} .(43/27)
قصيدة للشيخ ناصر الزهراني
أيها الإخوة مسك الختام مع رياض الشعر، ومع الشاعر الشيخ ناصر الزهراني، فليتفضل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
معذرة أيها الأحبة: فهده مقطوعة متواضعة كتبتها في طريقي إليكم: سلام قصيم المجد والعلم والذرى ومن خير أبناء الجزيرة عنصرا سلام لكم يا معدن العلم والتقى وأفضل من يعلو مقاماً ومنبرا هنا هامة التاريخ ذلت لربها هنا باء بالخسران من كان فاجرا هنا وثبات الجيل جيل محمد هنا يوم ميلادي أباهي به الورى رعى الله يا أرض القداسات ساعة قطعنا بها أرض المفازة في السرى أتينا ديار الخير والأنس والتقى على تربك الغالي نبث المشاعرا أتيناك جرحاً قد برانا ولوعة أتيناك آهات وشعراً محبرا أتيتك مكلوم الفؤاد منغصاً ودمعٌ غزيرٌ فوق خدي قد جرى أيا موطني قدمت روحي ومهجتي لتحيا عزيزاً شامخاً عالي الذرى أيا موطني ما كنتُ يوماً مخادعاً ولا خائناً للعهد أو متنكرا صدقتك في حبي وطلقت راحتي واضنيت نفسي كي أرى الجدب مزهرا ألا يا قصيم الحب تلك إشارة وكتمت في صدري من الحزن أسطرا أرى منظراً تهتز نفسي لمثله فكم من عيون سرها اليوم ما ترى ألا هكذا تبنى المعالي وتشترى بحفظ لهدي المصطفى سيد الورى فبالعلم علم الشرع سدنا وبالتقى مشينا على أنقاض كسرى وقيصرا وما قيمة الإنسان إلا بدينه فمن كان أتقى كان بالمجد أجدرا وكم من أخي كفر يغاظ بما يرى فيمسي كسيف البال مضنىً مكدرا يولي إلى أربابه في بلاهة ليروي لهم من خيبة الظن أسطرا فكم كان يرجو أن يرى الدين ضائعاً وأن يصبح الإنسان منه تحررا فأرهبهم إقبالنا والتزامنا وعودتنا الحرى إلى أوثق العرى تود وحوش الغاب أن نخسر المنى وألا ترى في الأرض يوماً غضنفرا وكم يكره الجعلان يوماً حياته إذا ما رأى جواً جميلاً معطرا أيا إخوة الإسلام تاقت إليكم قلوب تعاني من لظى الهم أعصرا فسيروا على درب الهداية والتقى فما خاب عبدٌ عاش لله شاكرا ولا بد من رأي قويٍّ موحدٍ وإلا رأيت الجهد جهداً مبعثرا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(43/28)
هموم المرأة
تحتوي هذه المادة على مجموعة من الأمور التي تهم المرأة وقد بدأ بمدخل عن كون النساء شقائق الرجال، وأنها لم تخلق كما خلقت البهائم، ثم تكلم عن هموم المرأة، وركز اهتمامه على الموضة وأضرارها، وكيف الخلاص من هذا الداء ثم أجاب على الأسئلة.(44/1)
النساء شقائق الرجال
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلىآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هموم المرأة: هو الدرس الحادي والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين الرابع عشر من ربيع الآخر، لسنة (1412هـ) .
أيها الأحبة: أرى جمعكم في هذا اليوم أقل من المجلس السابق، ولا أدري أهو نوعٌ من الاحتجاج على معالجة قضايا المرأة، أم أنه تنفيذٌ لأوامر صدرت إليكم من جهةٍ مجهولة، وقد قرأت في بعض الطرائف، أنه أقيم معرض في مكانٍ ما، ووضع فيه لوحتان، كتب على أولاهما: الذين تطيعهم زوجاتهم، وكتب على اللوحة الثانية: يقف هنا الذين يطيعون زوجاتهم؛ فوقف أمام لوحة الذين يطيعون زوجاتهم طابورٌ طويل، أما اللوحة التي كتب عليها: الذين تطيعهم زوجاتهم، فلم يقف أمامها إلا رجلٌ واحد، فجاءت اللجنة المنظمة لهذا الاختبار، لتسأل هذا الرجل، إلى أي حدٍ تطيعه زوجته؟ فقالوا له: ما سر وقوفك هنا؟ قال: لأن زوجتي أمرتني بأن أقف هنا! أيها الأحبة: المرأة شقيقة الرجل وأخته، ونظيره في أصل الخلقة، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] .
فالناس من جهة التمثيل أكفاءُ أبوهمُ آدمٌ والأم حواءُ فإن يكن لهمُ من أصلهم نسبٌ يفاخرون به فالطينُ والماءُ ويقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] ويقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] .
فأصل الخلق وأصل البشر آدم عليه السلام، وقد خلقت منه حواء، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: {إن المرأة خلقت من ضِلعٍ} كما في الصحيحين، وجاء عن ابن عباس: [[أنها خلقت من ضلع آدم عليه السلام]] ولهذا يقول الشاعر: هي الضلع العوجاء لست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارُها أتجمع ضعفاً واقتدراً على الفتى أليس غريباً ضعفها واقتدارُها فالمرأة خلقت من الرجل، لكنها خلقت بطبيعة خاصة، فهي تحتاج إلى أن تعرفها المرأة ويعرفها الرجل، حتى يتم التعامل معها بصورة صحيحة، وبشكلٍ عام فإن نظرة الإسلام إلى المرأة يلخصها قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي روته عائشة رضي الله عنها كما في المسند، وسنن أبي داود وسنن الترمذي، ورواه أيضاً أنس، كما في مسند البزار، ومسند أبي عوانة، وسنن الدارمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما النساء شقائق الرجال} وهو حديث حسن، فالمرأة شقيقة الرجل، وهي جزءٌ منه، وهي أخته، وأمه، وزوجه، وقريبته.
والمعاملة في الدنيا الأصل فيها التساوي، إلا ما نص الشرع على تمييز الرجل عن المرأة فيه، أو نص على تمييز المرأة عن الرجل فيه، وكذلك المعاملة في الدار الآخرة، قال الله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء:124] .
ولذلك فإنه من نافلة القول، ومن البدهيات التي لا تحتاج إلى تكرار، وهو أن نقول: إن المرأة جسد، وروح، وعقل، وحين نتحدث في هذا الدرس عن هموم المرأة، فإننا لن نقصر الحديث على الهموم المادية البحتة من مطعم ومشرب وملبس ومنكح؛ لأن هذه الهموم كلها تمثل الجانب الجسدي، في الرجل والمرأة على حدٍ سواء، وحصر الإنسان في هذه الهموم فقط -كما هو واقع في الحضارات المادية الغربية والشرقية اليوم هو نوعٌ من جعل الإنسان حيواناً لا هم له، إلا الأكل والشرب والسفاد، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] .(44/2)
الطبيعة البهيمية
إن كون الإنسان في هذه الدنيا لا همَّ له إلا المتعة، بالأكل والشرب وبألوان المتع المادية الحسية، هو أمرٌ يشترك فيه الإنسان مع الحيوان، بل لا نبالغ إذا قلنا: إن الحيوان أقوى من الإنسان فيه، فالناس إذا رأوا إنساناً شرِهاً في الأكل، قالوا: هذا يأكل أكل البعير مثلاً، أو أكل الحمار، فالإنسان إذا كانت القضية مقصورة على الجوانب المادية، والمتع الحسية، فإن الحيوان فيها يكون أبرع من الإنسان وأكثر.
وفي هذا المجال يعجبني ما ذكر الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه الجيد المفيد: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، وهو يتكلم عن الإنسان، فماذا يقول عن الإنسان؟ يقول: "لم أعن بالإنسان كل حيوان منتصب القامة، عريض الظهر، أملس البشرة، ضاحك الوجه، ممن ينطقون ولكن عن الهوى، ويتعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم، ويعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، ويكتبون الكتاب بأيديهم، ولكن يقولون: هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ويجادلون ولكن بالباطل ليدحضوا به الحق، ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، ويعبدون ولكن من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويبيتون ولكن ما لا يرضى من القول، ويأتون الصلاة ولكن كسالى ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ويصلون ولكنهم من المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون ويمنعون الماعون، ويُذَكَّرون ولكن إذا ذكروا لا يذكرون، ويدعون ولكن مع الله آلهة أخرى، وينفقون ولكن لا ينفقون إلا وهم كارهون، ويحكمون ولكن حكم الجاهلية يبغون، ويخلقون ولكن يخلقون إفكاً، ويحلفون ولكن يحفلون بالله وهم كاذبون، فهؤلاء وإن كانوا بالصورة المحسوسة أناساً فهم بالصورة المعقولة لا ناسٌ ولا نسناس.
والنسناس نوع من الحيوان الوهمي، الذي يدعون أنه يشبه الإنسان، مثل العنقاء، أي أنه حيوان وهمي لا وجود له كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: [[يا أشباه الرجال ولا رجال]] بل هم من الإنس المذكور في قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] .
قال: وما أرى البحتري إذا اعتبر الناس بالخلق لا بالخلق متعدياً، في قوله: لم يبق من جُل هذا الناس باقية ينالها الوهم إلا هذه الصورُ -يقول: ما بقي من الناس إلا صورهم وأشكالهم، أما حقائقهم فاختفت وزالت- ولا من يقول في قصيدةٍ أخرى: فجلهمُ إذا فكرت فيهم حميرٌ أو ذئابٌ أو كلابُ ولا تحسبن هذه الأبيات أقوالاً شعرية وإطلاقاتٍ مجازية، فإن الله تعالى يقول: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ".(44/3)
المراد بهموم الإنسان
إذاً نحن حين نتكلم عن هموم الإنسان، رجلاً كان أو امرأة، لا نقصد به هموم الجسد فحسب، ولا هموم المادة فسحب، ولا هموم الأشباح الحسية، وإنما نقصد هذه ونقصد معها هموم العقل وهموم الروح، التي بها تميز الإنسان وصار إنساناً، وأنقل لك ولكِ أختي المسلمة أيضاً، نصاً آخر عن الراغب في كتابه السالف الذكر أيضاً، وهو نصٌ جميل يقول: "جعل الله الإنسان سلالة العالم وزبدته، وهو المخصوص بالكرامة، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الاسراء:70] وجعل ما سواه كالمعونة له، كما قال الله تعالى في معرض الامتنان: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] قال: وليس فضله بقوة الجسم؛ فالفيل والبعير أقوى منه أجساماً، ولا بطول العمر في الدنيا، فالنسر أطول عمراً منه".
وأقول من عندي: ذكر بعض الذين صنفوا في الحيوان كـ الجاحظ، والدميري وغيرهم، أن الضب أيضاً طويل العمر، حتى قال بعضهم: إنه يعيش إلى سبعمائة سنة، ولا أدري من هو الذي عاش سبعمائة سنة، حتى راقب الضب واكتشف أنه عاش هذه المدة الطويلة! المهم هذا مما قيل.
يقول: فليس فضل الإنسان بقوة الجسم؛ فالفيل والبعير أقوى منه أجساماً، ولا بطول العمر في الدنيا؛ فالنسر والفيل أطول منه عمراً، ولا بشدة البطش؛ فالأسد والنمر أشد منه بطشاً، ولا باللباس واللون؛ فالطاوس والدراج أحسن منه لباساً ولوناً، ولا بالقوة على النكاح؛ فالحمار والعصفور أقوى منه نكاحاً، ولا بكثرة الذهب والفضة؛ فالمعادن والجبال أكثر منه ذهباً وفضة.
قال المتنبي: لولا العقولُ لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسانِ ولما تفاضلت النفوس ودبرت أيدي الكماة عوالي المرانِ أي لولا العقول التي ميز الله بها الناس، لكان الحيوان أدنى إلى الشرف من الإنسان، ولما تفاضل الناس فيما بينهم، ودبرت أيدي الأبطال الشجعان في المعارك الأسلحة التي يحملونها.
يقول: وليس فضل الإنسان بعنصره الموجود منه، كما زعم إبليس حيث قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76] بل ذلك بما خصه الله تعالى به من المعنى الذي ضمنه فيه، والأمر الذي رشحه له، وقد أشار إليه بقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29] وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] .
إذاً ميزة الإنسان أن الله تعالى خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، فوقع الملائكة له ساجدين، أعني آدم عليه السلام، ثم كانت سلالته مفضلة على بقية الخلق بالعقل والروح والتكليف، فميزهم الله تعالى وفضلهم على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً.
قد رشحوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ(44/4)
مكانة المرأة في الإسلام
إذاً فنحن ننظر للمرأة على أنها الجزء الآخر من الحياة، والوجه الثاني من المجتمع، ونعتبر الذين ينظرون إلى المرأة، على أنها مجرد أداة لترويج بعض البضائع والسلع، أو مادة للإعلانات التجارية كما يحصل في التلفاز وغيره، أو أنها صورة للإغراء على غلاف مجلة، حتى يقبل عليها المراهقون، أنهم يستخدمون من المرأة الجانب الجسدي فحسب، ويحرضون فتيات المجتمع على العناية بالجانب الجسدي وحده، فنحن نعلم جميعاً -ولا يختلف منا اثنان في هذا- أن الذين يقدمون المرأة في إعلانٍ تجاري في التلفاز، أو على صورة غلاف في مجلة، لا يقدمون للناس الفتاة العاقلة، ولا يقدمون الفتاة الخلوقة، ولا يقدمون الفتاة الذكية، ولا يقدمون الفتاة المتدينة، ولا يقدمون الفتاة البارة، ولا يقدمون الفتاة القادرة على صناعة الحياة، وصناعة السعادة، كلا، إنما يقدمون الفتاة الجميلة!!.
وهم بهذا يقولون لفتيات المجتمع: إن الأهمية هي للجانب الجسدي فحسب، وهي للجمال فقط!! وهذا في الواقع إجحافٌ بحق المرأة ذاتها، قبل أن يكون إهداراً لكرامة الإنسان، وذلك أن الفتيات الجميلات من المجتمع يشكلن في كل المجتمعات نسبة معينة افرض أنها (20%) أو (25%) أفلا يعني ذلك أن هؤلاء يحتقرون ثلاثة أضعاف المجتمع؛ لأنهن لا يتميزن بالجانب الجسدي البارز لديهم؟! ثم حتى هذه الجميلة، ماذا قدموا لها؟ إنما جعلوها ألعوبة ومطية للوصول إلى أغراضهم، وجعلوها أداة لترويج بضائعهم، ولأخذ الأموال من جيوب الناس وسرقتها من الفقراء؛ حتى يثروا على حساب الآخرين، فهم في الواقع حطموا جنس الإنسان أولاً، وحطموا عنصر المرأة بالذات ثانياً، فأولى طبقات المجتمع بأن تحارب هذه النوعية من الناس هي المرأة، لأنهم يوجهون إلى المرأة تهمة خطيرة، ويحقرون المرأة بما فيه الكفاية.
إن صناعة الإعلام في العالم كله -أيها الأحبة- تقوم عليها اليوم شركات تستخدم من المرأة أداة ترويج لكل شيء، حتى أخص خصائص المرأة تستخدمها شركات الإعلام والإعلان في أغراضٍ لا تمتُّ إلى المرأة بصلة، لا من قريب ولا من بعيد، وربما وجدت إعلاناً عن بعض المعدات الثقيلة، أو الدركترات أو غيرها، أو السيارات، فوجدت أنهم يعلنون عن ذلك، ويلفتون نظر المشاهد من خلال صورة امرأة جميلة.
ونحن لا ننكر الجانب المادي من المرأة، ولذلك سنتحدث في هذه الحلقة وفي حلقات قادمة -إذ قد لا يتسع الحديث الآن لكل شيء- عن الجوانب المادية من المرأة، فسأتحدث عن الموضة والشعر والزواج والمنزل وغيرها، ولكننا سنضيف إليه الجانب الأخلاقي والمعنوي من المرأة، فنتحدث -مثلاً- عن العبادة، وعن الدعوة، وعن أحوال القلب، وعن الأسرة، وعن العمل، وعن الدراسة، وعن الأشياء الأخرى التي تحتاج المرأة إلى الحديث عنها.
أيها الإخوة والأخوات، كنا بالأمس نسمع بعض الناس يتحدثون عن غياب المرأة، أو غياب الفتاة عن مجالات الإبداع، والأدب، والشعر، والقصة، والنقد، وضعف مشاركتها في هذا المجال، ليس في هذه البلاد فحسب، بل في بلادٍ أخرى كثيرة، فإذا برزت امرأة وكتبت مقالة، أو قصة أو قصيدة أو أخرجت ديواناً، صفقوا وطبلوا، وحاولوا أن يبرزوا هذا من أجل دعوة الأخريات للمشاركة والمساهمة، أما اليوم فإذا بنا نجد أن الأمر تحول إلى مجالات الشعر الشعبي مثلاً، الذي لا يعني أكثر من مغازلات مكشوفة على صفحات الجرائد؛ التي أصبحت تخشى من الكساد، فتتلاعب بمشاعر المراهقين والمراهقات دون رقيبٍ ولا حسيب، فاليوم نقرأ قصيدة شعبية لفتاة، وغداً قصيدة شعبية لفتى، تدور حول عبارات الحب والغزل والغرام والتغني بالحبيب، والشوق إلى لقائه، وشتم العادات والتقاليد على حد تعبيرهم، التي تحول بينهم وبين ما يشتهون.
وتصور فئة قليلة من المجتمع على أنهم يمثلون طبقة الشباب، أو طبقات الفتيات كلهن، بل تطور الأمر أكثر من ذلك، فأصبحنا نجد بعض الصحف الرياضية تنذر بقدوم الأقلام النسائية على صفحاتها الباهتة، وتستفز مشاعر المجتمع بهذه الطريقة الغريبة، ولما لم تجد هذه الصفحات ومن ورائها، تجاوباً من بنات هذا المجتمع، صارت تكتب بأقلامٍ رمزية وتستعير أسماء وهمية للنساء، لا وجود لها إلا في خيال المرضى الذين صنعوها واختلقوها، فهذه مثلاً فتاة كذا، وهذه بنت بريدة، وهذه فتاة الحفر، وهذه مشجعة هلالية، وهذه فتاة نصراوية، وهذه وهذه الخ، وبعناوين ملفتة، فلانة ترد على فلان، أو عنوان آخر: بنات يهاجمن فلاناً، إثارة مكشوفة، دعوة البنات إلى المساهمة في مجال الكتابة الرياضية، تمهيداً لبروزهن ومشاركتهن ومطالبتهن بالرياضة، وكأن هذه الجريدة الباهتة، تستجدي بناتنا أن يكتبنَ إليها تجاوباً معها، بعد ما استثارت، أو حاولت أن تستثير مشاعرهن للكتابة.
وأنا بطبيعة الحال لستُ أنكر أنّ في مجتمعنا بعض الفتيات المخدوعات، لكنني أعلم علم اليقين -ويعلم غيري- طرائق بعض غلمان الصحافة، لجر الفتيات إلى ما يريدون، وطرائقهم إيضاً في طرح الموضوعات النسائية بأسلوبهم الخاص.
ونحن نخاطب أولاً الإخوة القائمين على تلك الصحف، أن يتقوا الله تعالى في بنات المسلمين، فلسنا بحاجة إلى مثل هذه الهموم الرياضية الجديدة إن صح التعبير، التي يريدون أن يغرقوا فيها بنات المسلمين، وكفى ما نال شبابنا من الضياع على مدرجات الكرة، وكفى ما نال شبابنا من الضياع على الأرصفة.
ونخاطب ثانياً أولياء أمور البنات والشباب في بيوتهم، أن يراقبوا بيوتهم جيداً، فمن غير المعقولٍ -أيها الأب الكريم- أبداً أن تشتري جهاز التلفاز، وتضعه في البيت، ولا تدري ماذا يحدث بعد ذلك، فأقل ما نستطيع أن نقوله لك: إن هذا الجهاز يعرض المباريات الرياضية، وليس ببعيد، أن يكون من بين اللاعبين -وهم يظهرون بصورةٍ تبرز أكثر أجسامهم- من يلفت نظر الفتيات، فيكون مجالاً للإغراء، ومجالاً للإعجاب، ومجالاً للحديث، ومجالاً للاتصال، وربما اتصلت فتاة تسبق دمعتها كلمتها، تقول: كنتُ أسخر ممن يقولون: أخرجوا التلفاز من البيوت، واليوم عرفتُ لماذا يطالب الصالحون بإخراجه من البيوت، لأنني وقعت ضحيته، ووقعت في هوى من لو جاء يخطبني من الباب ما قبلته، ولكنها بلوى الفؤاد.
كما أننا نخاطب القائمين على رقابة الصحف في كل مكان، ألّا يسمح بنشر مثل هذا الهراء، ومثل هذا الهوس الكروي على صفحات الجرائد والمجلات، حفاظاً على أخلاقيات الأمة، وحفاظاً على المستوى الذي نريده لصحافتنا! أما بعد:(44/5)
هموم المرأة
فالهموم التي سأتحدث عنها كثيرة، وسأبدؤها بهمّ هو لا شك ليس أكبرها ولا أعظمها، ولكن هكذا بدأت به، ثم شعرتُ بأن الوقت لا يتسع لغيره.
إذاً فترتيب هذه النقاط التي سأتحدث عنها لا يخضع لأهميتها، بل بالعكس، ربما كان الموضوع الأول، ينبغي أن يكون هو آخر الموضوعات، ليس أهمها بل هو في آخرها، أو من آخرها.(44/6)
همُّ الموضة
والموضة كلمة أجنبية إنجليزية معناها: على الطراز الحديث أو الجديد، أو آخر زي، والإنسان الذي يتبع الموضة أولاً بأول، ذكراً أو أنثى، يطلق عليه عندهم: مودرن، أي عصري أو جديد، وهذه الألفاظ البراقة، مثل طراز حديث، أو آخر زي، أو موضة، وهذه الألفاظ تختلب ألباب السطحيين دائماً، وتجعلهم يسيرون في ركابها، لأنهم غير مستقلين في حكمهم على الأشياء بل هم تابعون لغيرهم، فلا يحبون أن يكونوا متأخرين في نظر الناس، أو رجعيين أو متخلفين، أو كما تقول بعض البنات: دقة قديمة، وهذا إذا رأت امرأة لا تتابع الموضة، فتقول: هذه دقة قديمة، ومن قبل سميت الخمر مشروبات روحية، وسمي الزنا حباً وغراماً عند بعضهم، وسمي الانحلال والفجور وكشف العورات فناً، وسميت عبودية الأجسام رياضة.
وفي المقابل يحرص الغرب على تسمية الإسلام بالرجعية، وكثيراً ما يطلق الآخرون على المتدين بأنه معقد أو طائفي أو متطرف أو أصولي أو ما أشبه ذلك من العبارات التي يقلبون بها الحقائق، من أجل تنفير الناس عن هذا الأمر، أو دعوتهم إلى ضده.
والموضة هي فنٌ مستقل أيضاً، قائم بذاته، له في الغرب والشرق دورٌ كبيرة، ودور العرض أيضاً موجودة مع الأسف حتى في بلاد الإسلام، بل حتى في كثيرٍ من البلاد المحافظة، حيث يضعون صالات العرض -عرض الأزياء- انتظاراً لوجود فرص تتيح لهم أن يقوموا بالعرض، فأماكن العرض مستمرة، والحفلات الساهرة تستنزف ملايين الريالات، وهناك برامج إذاعية وتلفازية، تهتم بالموضة، وليس بغريبٍ فقد أعلنت الصحف في هذه الأيام عن مركز تلفزيون الشرق الأوسط، وهذا المركز يبث من لندن إلى العالم، وإلى العالم العربي بالذات، ومن ضمن البرامج التي أعلنوا عنها -لدعوة الناس ولفت نظرهم إلى هذا المركز- برنامج دنيا الموضة!! وهو في طليعة البرامج التي يبشرون بها الجماهير!! وإن مما يلفت النظر بالمناسبة، أنني قد قرأت في الأمس في جريدة الرياض إعلاناً غريباً جداً، وهو إعلان عن إيريال هوائي خفيف صغير الحجم، ثمنه معقول، يباع في محل مجهول لا يُعْرَف مكانه إلا من خلال الهاتف، والخطوط التلفونية الضخمة التي تدل على توقع الإقبال الكبير عليه، وهذا الإيريال يستقبل مركز تلفزيون الشرق الأوسط، الذي يبث من بريطانيا، والمحطة المصرية، ومحطة الهند، ويحتمل إضافة محطات أخرى، وهو خفيف التركيب سهل الأداء، وبطبيعة الحال سيكون سعره معقولاً، وليس مثل الأشياء الغالية الأخرى، الأقراص التي قد تصل إلى عشرات الآلاف من الريالات، أما هذا فسيكون أقل حتى يتسنى للآخرين الاستفادة منه، وربما قالوا: إنه صنع خصيصاً للشرق الأوسط، فلستُ أستبعدُ أبداً أن يكون روعي في صناعته بشكل خاص؛ أنه يمكن وضعه في البيت دون أن يدرك الآخرون ذلك، بحيث لا يدري الناس إن كان هذا البيت يستقبل البث الخارجي أو لا يستقبل، لأن هذا الإيريال صغير ومعقول، ولا يشاهد بصورة واضحة كما تشاهد الأقراص الكبيرة.
وهذا جزء من الغزو الخطير الكبير، ونحن نتذكر في هذه المناسبة قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10-11] .
إنها حضارة جديدة، وثقافة جديدة، وتعاليم جديدة، بل أقول بكل وضوح: إنه دين جديد يقدم للناس كبديل عن دين الإسلام.
فإذا كان الإسلام ينظم حياة الإنسان من يوم يولد إلى أن يموت، فالإسلام يستلم الإنسان يوم يولد، بل قبل الولادة، حتى وهو في بطن أمه، ويوم يولد، يستلمه الإسلام فيقترح الاسم المناسب، ويذكر الأسماء الممنوعة مثلاً، إلى أن يموت، فيذكر مثلاً طريقة دفن الميت، وما بين ذلك كله دين، ينظم لك من إلى، فما يعرض من خلال قنوات البث الإعلامية هو دينٌ جديد بديل عن الإسلام، يستلم الإنسان منذُ نعومة أظفاره، ومنذُ طفولته، فيما يسمى بأفلام الكرتون وغيرها، إلى أن يلفظ آخر نفس في حياته، وهو ينظم له برنامج حياته كاملاً.
فهذه قضية يجب أن تكون واضحة للعيان، وأن ندرك حجم الخطر، وكيف نواجه مثل هذه المخاطر التي تهدد المسلمين، المهم أن أقول: إن دنيا الموضة هي من أهم البرامج التي يبشرون بها في هذا المركز.
أما المرأة فإنما يبشرون بدنيا الموضة لها، لكي تطلع على آخر صرعات الموضة ساعة بساعة، بل دقيقة بدقيقة، وأما الرجل فلكي يستمتع بمشاهدة اللحوم الآدمية، التي تتخصص في تهييج الغرائز وإثارتها باسم الفن والعرض والرقص الخ.
خاصة وقد نشرت جريدة الشرق الأوسط أيضاً، في عدد الجمعة مقالاً ضافياً واسعاً، بعنوان: لندن تستعيد مكانتها الدولية في عالم الأناقة والموضة.
أيها الأحبة وأيها الأخوات! للموضة قانونٌ صارخ، لا يجوز في عرف ودين ملوك الموضة تعديه، ويسهر على حماية هذ القانون جموعٌ من ضعفاء العقول المجندين لخدمة رجال الموضة ودورها وبيوتها، إذا رأى هؤلاء الرجال أو النساء المرأة مثلاً تلبس أزياء السهرة في الصباح، أو أزياء الصباح في الظهيرة، أو أزياء الليل في النهار، أو أزياء النهار في الليل، أو أزياء فصل الربيع في الخريف، أوالعكس، تغامزوا وتضاحكوا وتقهقهوا، كأنهم رأوا إنساناً قد هبط عليهم من عالمٍ آخر، أو من كوكبٍ آخر.
وبذلك يحكمون القبضة، فلا يستطيع إنسان أن يخرج عن رموزهم وعن رسومهم وعن طقوسهم وعن شرائعهم في عالم الموضة، وليس الفرق فيما يتعلق بالموضة في سماكة الثوب، وأن منه للصيف ثوب، ومنه للشتاء ثوب، أو شفافيته، كلا، بل تعدى الأمر إلى الألوان، والخيوط، والخطوط، والتصميمات، والأشكال، والأحجام إلى غيرها.(44/7)
المكياج
ويتبع ذلك أيضاً المكياج، فهناك عشرات الألوان مما يسمى بأحمر الشفاة، وعدة ألوان من ظلال العيون، وأغلبها ذلك اللون الأحمر الباهت الذي يجعل المرأة التي تطلي به جفنيها، وكأن جفنيها متورمان من شدة البكاء، وكأنها امرأة حزينة قد ابتليت بمصيبة، وهذا يصبح موضة أو عادة لا تملك الفتاة إلا أن تخضع له، ويصبح حسناً في عينها، ولو كان قبيحاً في عينها قبل قليل.
ومن الغريب أن الوشم وهو ظاهرة قديمة، يسعى إلى إخراج الدم من الجلد عن طريق الوخز أو غيره، ثم يثبت بذلك ويصبح ألواناً ثابتة في الجسد، هذا الوشم كان موجوداً عند أهل البادية في الزمان القديم، ومرَّ وقت شنت عليه الصحافة والكتب والمحاضرات وغيرها حملة شعواء، وأن هذا تشويه للإنسان، وهذا، وهذا إلخ.
أما الآن فعاد الوشم من جديد لأنه قانون الموضة الصارم الذي يفرض على الجميع، فعاد الوشم من جديد، ولا تستغرب ولا تستغربي أبداً أن تجدي فتاةً يوماً من الأيام، وقد وشمت في وجهها، أو في يديها، أو في أي موضع من جسمها بلا استثناء، صوراً، أو ألواناً أو زهوراً أو أشياء معينة، لأن هذا قانون الموضة الجديد.
ثم هناك أيضاً من ألوان المكاييج مكياج خاص للون الأسمر، ومكياج خاص للأشقر، وثالث ورابع وخامس، وهناك أدهان منوعة، لحفظ البشرة، وأخرى لترطيبها، وثالثة لتغذيتها، ورابعة لتنظيفها، وخامسة لتثبيت المكياج، وسادسة لإزالته، وسابعة وثامنة وتاسعة إلخ.(44/8)
تسريحات الشعر
وهناك تسريحات الشعر، وهي شيءٌ آخر، وكل موضة لها تسريحة تخصها، والذين يتبعون هذه الموضة، أو هذه التسريحة لا يملكون إلا أن يخضعوا لرسومها، فإذا كانت رسوم الموضة تقتضي أن يكون الشعر منتفشاً مجعداً، فإنه لا بد من فعل ذلك، حتى ولو كانت الفتاة ذات شعرٍ ناعم، تتفاخر بنعومته في الأمس، فإنها اليوم تسعى بألوان المعالجات المختلفة حتى يصبح شعرها متثنياً ومجعداً، وإذا كانت الموضة بعكس ذلك، فإنها تسعى بقدر ما تستطيع، من خلال الكوافير وغيرها إلى أن يكون شعرها ناعماً مسترسلاً، وليس المهم هو أن يعجبها هذا أو ذاك، إنما المهم هو متابعة قانون الموضة، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وألا تخرج عنه بحالٍ من الأحوال.
وهذه لا شك أنواعٌ من الأشياء التي أتتنا عن طريق الغرب، وأصبحنا نسير فيها حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه، وهناك أنواع بطبيعة الحال من البودرة والعطور، وطلاء الأظافر، ومن التسريحات التي نسمع بها في مجتمعنا: تسريحات الكاريه، والقصة الفرنسية، وآخر ما سمعت من صرعات التسريحات: عاصفة الصحراء!!(44/9)
شباب الموضة
وكما أن هناك موضات للنساء فيجب أن نعلم أيضاً أن الرجال لهم كذلك موضات خاصة، ولا بد أن بعضكم مرَّ على أماكن الحلاقة بالنسبة للرجال، ووجد أنواع القصات للشباب، فالرجال أيضاً لهم موضات خاصة، ونقوش وألوان وخامات تصنع منها الثياب والقمصان، وهي تستهدف إلحاق الرجال بالنساء، فهناك السلاسل الذهبية التي يلبسها بعض الشباب، وهناك قصات الشعر كما أسلفت، وهناك تشجيعهم على حلق اللحية، واعتبار أن إعفاءها نوعٌ من التخلف، فهذا قانون الموضة، وهو يخالف شريعة الله تعالى، ومع ذلك فيتبعون قانون الموضة! ومن الطريف أنه في أكثر من بلد إسلامي -وأقول بين قوسين: إسلامي باعتبار ما كان- يحارون حين يريدون أن يضعوا لوحة على حمامات النساء، وحمامات الرجال، كيف يميزون أن هذه الحمامات للرجال، وهذه الحمامات للنساء؟ وذلك لأن الفوارق عندهم ذابت أو كادت أن تذوب بين الرجل والمرأة، وقد رأيت بعيني أنهم -أحياناً- يضعون على حمامات الرجال صورة إنسان وبفمه ما يسمى بالغليون، لأنه لا يوجد شيء يميزون به الرجل، إلا أنه أكثر تدخيناً من المرأة، فيضعون صورة إنسان، -لا أقول: رجل، لأنه لا يتميز أنه رجل أو امرأة- المهم في فمه الغليون، فتدخين الغليون دليل على أن دورات المياه هذه خاصة بالرجال.
وأحياناً يضعون صورة حذاء بكعبٍ عالي، وكأنه لم يبق من ميزة المرأة إلا الكعب العالي، وأحياناً ثوباً قصيراً ميزة للمرأة، لأن المرأة تلبس ثوباً قصيراً، أما الرجل فثوبه إلى ما تحت الكعبين، وهذا مع الأسف موجود حتى في هذا البلد، في أكثر من مكان، وربما تراه في بعض المطارات أحياناً، وذات مرة، قررت الموضة أن تجعل من رسومها إعفاء اللحية، فسارع المفتونون بالموضة إلى إعفاء اللحية، ثم عادوا إلى حلقها من جديد، حينما تغيرت الموضة واختلفت.
ونحن نجد مع الأسف الشديد، أن من الأجانب، من العظماء عندهم ومن نخبتهم الممتازة، ممن يسمونهم برجال الدين ومن المفكرين، ومن الرسامين، ومن الفلاسفة، ومن أصحاب العقليات الفذة والعباقرة عندهم من يعفون لحاهم، ويفتخرون بها، ويظهرون في صورهم بلحاهم الكثة، وفي كثير من بلاد الإسلام، صار حتى العلماء والفقهاء والوعاظ يتحرجون من إعفاء اللحية، ويحلقونها ليعبروا على الأقل للآخرين عن مرونتهم وتسامحهم، ويتخلصوا من وصمة التطرف والتخلف التي يخشون أن تلصقها بهم جهة من الجهات.
فلقد صارت الموضة، وملاحقة الموضة هماً يعيشُ مع الفتى ومع الفتاة ليلاً ونهاراً، حتى والفتاة على مقاعد الدراسة! وليسمح لي الجميع أن أذكر لكم نكتة مصنعة محلياً، فهي ليست حقيقة على كل حال، وهذه النكتة تقول: إن المدرسة -وهي مدرسة المواد الشرعية- سألت الطالبة وقالت لها: ما هي أسباب سجود السهو؟ أي: متى يشرع للإنسان أن يسجد سجود السهو؟ فتوقفت الطالبة حائرة، لا تعرف ما هو الجواب، فساعدتها المدرسة في بعض الإجابة، قالت لها: يا ابنتي يشرع سجود السهو إما لزيادة، أو لنقص، أو لشك، أو؟ فقالت الفتاة: أو تطريز!! وعلى كل حال: أرجو ألا يكون هذا مدعاة إلى شيءٍ آخر، فنحن نتحدث عن عينة فقط، ولا أحد يستطيع أن ينكر وجودها.
والحمد لله في المقابل هناك عينات كثيرة جداً، وهي الغالبية إن شاء الله، في أكثر من مكان، وأكثر من ميدان، من فتياتنا من ترفعنَّ عن هذا المستوى، بل أصبحنَ بحاجة إلى من يحثهنَّ على المحافظة على قدر من العناية بالنفس، كما سأتحدث بعد قليل.
وهناك قصة واقعية، وهي لمعيدة جامعية سمراء اللون وسمراء الشعر، حيث إنها جاءت يوماً من الأيام إلى مدرستها، وقد صبغت شعرها باللون الذهبي، ثم أخذت تتحدث عن سر هذه الصبغة باللون الذهبي، وهو لونٌ لا يتناسب إلا مع اللون الأبيض، فذكرت هذه الفتاة لبعض زميلاتها أن لها أخاً يدرس في أوروبا، وقد تزوج بفتاةٍ أوروبية، فلما أراد أن يزور مسقط رأسه -البلد الذي هو منه- سارعت أخته بصبغ شعرها باللون الذهبي الذي هو لون شعر الأوروبيين، وهو السائد هناك!! حتى لا تبدو تلك الفتاة العربية أقل جمالاً وجاذبية من زوجة أخيها الأوروبية، وفاتها أن في السمراوات من هي أشد جمالاً وجاذبيةً من غيرهن، لأن الجمال لا تحده الأصباغ والألوان، والذهبي لا يناسب مطلقاً تلك الفتاة، بل يجعل من شعرها أضحوكةً للأخريات، فذهبت تلك الفتاة إلى المطار، تستقبل أخاها وزوجته الأوروبية، وفوجئت بالعروس الأوروبية، وقد ارتدت ثياباً فضفاضةً طويلةً، واحتشمت وغطت رأسها بخمار، فلم يبدُ من شعرها الذهبي الحقيقي خصلة واحدة، وبلغ السيل الزُبى، وغضبت هذه الفتاة أشد الغضب، عندما استضافت أخاها وزوجته الأوروبية في بيتها، فرأتها تسارع إلى الوضوء والصلاة، كلما طرق الأذان مسمعها، وتقول لمن حولها: الصلاةَ الصلاةَ!! بينما تغطُ تلك المعيدة في نومٍ عميق، أو تتشاغل بأي عمل جانبي؛ لتخفي عار تركها لهذه الفريضة التي هي الفاصل بيننا وبين الكافرين، كما في الحديث: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} فما كان من زوج تلك الفتاة العربية إلا أن استقبح أفعال زوجته، وبدت له وكأنها حيوانٌ لا هم لها إلا الأكل والشرب واللهو فحسب، فكان يعاتبها، مقارناً أفعالها بأفعال تلك الفتاة المسلمة الأوروبية، فما كان منها إلا أن طردت أخاها وزوجته المؤمنة من المنزل، قائلةً: إنكما ستخربان بيتي، فاختارا مكاناً آخر ليقيما فيه.(44/10)
أضرار الموضة
وللموضة أضرار كبيرة جداً، لا أستطيع أن أتحدث عنها، بل هناك كتاب خاص وهو جيد جداً، لـ فاطمة عبد الله عن الموضة وحكمها، أنصح بقراءته واقتنائه، لكن من أضرار الموضة بشكلٍ عام:(44/11)
الاستنزاف المادي
أولاً: إذا كانت المعلمة أو الموظفة تقبض في نهاية الشهر مرتباً ضخماً، فإنها لو اهتمت بمتابعة الموضة أولاً بأول، فمن المؤكد أن هذا الراتب قد لا يكفي لمتابعة الموضة والعناية برسومها وطقوسها وتقاليدها، وهذا لا شك فيه إهدارٌ لاقتصاد الأمة بشكل عام، وفيه إهدار لحياة هذه الفتاة، التي أصبحت تحيا للتتجمل، وتلبس اللباس الحسن، وتعتني بشعرها، ومكياجها، ولون بشرتها.
كما أن فيه تضييعاً لهذا المال، الذي كان من المفروض أن يصرف في المصارف الشرعية، مثل الإنفاق على الفقراء والمساكين والمحتاجين والأهل والأقارب وسبل الخير، أو على الأقل أن تحفظه المرأة لنفسها، فربما تحتاج يوماً من الدهر، أو لأولادها، فربما يموت زوجها، فتكون محتاجة إلى ذلك، أو مساعدة زوجها على تكاليف الحياة، فضلاً عن أن تقوم المرأة، إضافةً إلى ما تنفق من نفسها، بمطالبة زوجها بمزيدٍ من الرسوم الباهضة والتكاليف.
ولو أن إنساناً خبيراً في الاقتصاد، حسب الأموال الضائعة التي تذهب إلى جيوب اليهود وإلى غير اليهود من رجال الموضة، لوجد أن اقتصاد الأمة في خطر، من جراء هذه الأموال التي تذهب إليهم عن هذا السبيل.(44/12)
التحطيم المعنوي لإنسانية الإنسان
ثانياً: كما أن من أضرار الموضة التحطيم المعنوي لإنسانية الإنسان؛ لأن أبرز سمات الموضة هي التلاعب بإظهار أجزاء جديدة من جسم المرأة، وبطريقة جديدة أيضاً، ولا أبالغ إذا قلتُ أحياناً: إن العري الكامل الذي يعيشه الإنسان في الغابة أخف وألطف بكثير من ذلك العري المتفنن الذي تبدو به المرأة وهي تتابع الموضة أولاً بأول، وتخضع لرسومها الملزمة، وإذا ما بدا من المرأة أي تمنع تجاه رسوم الموضة، صدرت التعليقات بأنها لا تزال تعيش بعقلية ريفية، وأنها فتاة قروية، لا تزال تمارس أخلاق القرية، وقد سمعت هذا بأذني.
وإذا كان هدف اللباس في الإسلام هو ستر جسد المرأة وحمايته من العيون النهمة والنظرات الجائعة، فإن هدف اللباس الغربي هو التفنن في كشف جسد المرأة، وقد قال الله عز وجل: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:20] فهذه من مهمات إبليس وجنوده: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:20] وقال سبحانه: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22] وقال سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:27] وقال جل وعلا: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] .
والموضة لعبة -أيها الأخ وأيتها الأخت- وإذا دل اسم الموضة على التجديد والحداثة، وأن الموضة زي جديد، فحقيقة الموضة أنها عودة إلى القديم، وعودة إلى الوراء، فالملابس القصيرة مثلاً وجدت في أيام الفراعنة، وجددتها الموضة، وفتحات الفساتين الموجودة الآن، وجدت في فرنسا قبل عهد نابليون، وأطلق عليها القسس وقد حاربوها حين ذاك: نوافذ الجحيم.
وكثيراً ما تكتب بعض المجلات النسائية تحت زيٍ حديث، وموضة جديدة، تكتب عبارة: ملابس جدتي أصبحت موضة! إذاً فالتي تريد أن تسبق الموضة، عليها أن تحافظ على القديم الذي هي عليه، وبعد زمانٍ طويل سوف ترجع النساء الأخريات إليها.
وقد رأيت بعيني الموضة في أكثر من بلد غربي، فوجدت كثيراً من الشباب والفتيات يعتبرون أن الموضة هي لبس ما يسمى بالجنز القديم الممزق، فيشتري الشاب منهم أو الفتاة لباس الجنز، ويقوم بتمزيقه بنفسه بطريقةٍ معينة، فيشققه هنا وهناك من عند الركبة ومن أمام ومن فوق ومن تحت وهكذا، ويشقق أسفله، ثم يمشي به، فيصبح ثوباً مهماً عندهم، وقد يبيعه بأضعاف ثمنه الذي اشتراه به وهو جديد!!! فما دامت هذه رسوم الموضة، فإنهم يتبعونها؛ لأنهم في الغرب ليس عندهم إلا هذه القضية، وكل يوم عندهم جديد، لكن العجب من أناس ينتسبون إلى الإسلام، وهم من أهل الإسلام، وعندهم هذا القرآن، وعندهم هذا الدين، وعندهم هذا التميز، ومع ذلك رضوا من أنفسهم ومن عقولهم ومن استقلاليتهم، بأن يكونوا مجرد أتباع لملوك الموضة، بل لزبانية الموضة الذين يصدرونها في دور الغرب والشرق، ثم يتلقفها المسلمون وتتلقفها المسلمات دون وعي ولا بصيرة.(44/13)
تنبيهات للمرأة
وأود في نهاية الحديث عن الموضة، أن أوضح أموراً في غاية الأهمية، وأريد أن أقول بين يدي ذلك الكلام -الذي قلته قبل قليل-: الموضة ليست هي أهم شيء، والحديث عن لباس المرأة ليس هو أهم شيء، لأننا اتفقنا على أن قيمة الإنسان ليست بلباسه، بل قيمة الإنسان بعقله وروحه وقلبه وإيمانه ودينه وصلاحه، واللباس دوره بعد ذلك، فهو أمرٌ ثانوي: يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسرانُ أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ لكن مع ذلك هذا هو الموضوع الذي بدأت فيه، وأرجو عدم المؤاخذة إذا تناولت بعض القضايا التي يراها بعض الناس قضايا جزئية أو قضايا ثانوية، لأنه لا ينبغي أن تحكم على الموضوع إلا بعد أن يكتمل من كل جوانبه.(44/14)
التساهل في الحجاب
النقطة الثالثة: هناك ظواهر سلبية جانبية، لا بد من لفت النظر إليها، وذلك مثل طريقة بعض الأخوات حتى من المحجبات، في لبس غطاء الوجه، أو لبس العباءه، أو لبس ما يسمونه بالكاب، الذي ظهر في هذه الأيام، ولا أريد أن أطيل التفصيل في هذه النقطة، لكن أترك التصوير الدقيق لإحدى الأخوات الغيورات التي كتبت إليَّ منذ فترة ليست بالقريبة، رسالةً تتحدث فيها وتصور بصورة دقيقة بعض ما يجري في أوساط الفتيات على سبيل التحذير، تقول: (وللنساء طرقٌ خفية شيطانية في لبس حجابهن -هذا لا يغضب أحداً لأنه من كلام النساء- قد يطلع على محظورها، كل وجهٍ إلا وجوه العلماء مع بالغ الأسف الشديد، ولا ريب أن للعالم عذره، إذ أنه رجلٌ وللرجولة عالمها الخاص -هذا من كلام الأخت التي رمزت لنفسها بالرباب وهو كلامٌ دقيق- تقول: إذ أنه رجلٌ وللرجولة عالمها الخاص، الذي من دأبه أن تظل دقائق أمور النساء بعيدةً عن إطاره، بالذات إذا علمن أن أغلب محارم أولئك العلماء والدعاة من الملتزمات، بحيث لا يرى الشيخ منهن الحالة الرديئة التي عليها بعض فتيات الأمة من خلال نسائه المحارم، لذلك كان لا بد أن تتولى الخائفات على مصير الأمة، أمر تنبيه المشايخ، وبالأخص من يخاطبون عامة الناس، ويصلون إليهم، إما من فوق منابر المساجد، أو حتى من خلال ذبذبات الأشرطة.
ولم أجد أنا طريقةً أنبه إليها إلا من خلال هذه الرسالة، وعلى غير عادة، فمعذرةً إن أخطأت السبيل، والمشكلة التي أتيتكم من أجلها، وباختصار هي اليوم في عددٍ من المدن، في السوق، في المدرسة، أمست الواحدة منا تضع عباءتها فوق أكتافها لا على رأسها، ثم تأتي بغطاءٍ طويلٍ جميل، ارتفعت الآن قيمته المادية من بضعة ريالات بالأمس، وكانت لا تتجاوز العشرة، واليوم وصلت حدود المئات، وذلك ولا شك تبع لارتفاع مهمته، ثم تديره الفتاة بفنٍ على حدود رأسها، متصنفة به، وبسرعة ترمي قطعةً أخرى سوداء صغيرة على ملامح وجهها وتمضي، هذا بعد أن كنَّا نستر وندخل الغطاء الطويل مع سائر الأعضاء تحت العباءة، بحيث تبدو الواحدة منا جسماً أسود لا يكاد يرى منه إلا عتمة سواده، أما هذه الطريقة الجديدة المدروسة، فوالله إن العابد لو رمق المرأة وهي بهذه الصورة مرةً واحدة، ما زرعت هذه النظرة في صدره إلا رغبةً جادةً في تكرارها ألف مرة.
والأكثر إيلاماً أن هذه الطريقة بكل ما تحمله من مساوي، لو انتشرت بين فتياتنا -وقد انتشرت فعلاً فستجر خلفها محاذير أكثر خطورة، خذ واحداً منها، ليس من السهل على المرأة أن ينزع حجابها الأسود الذي اعتادته على وجهها، هكذا دفعةً واحدةً، وشياطين الإنس والجن لا ريب يدركون ذلك، ويفقهون ما هو أبعد منه، فنزعه ومن ثم سفورها قضيةٌ مدرجة، لا تسير إلا بعجلات هي الخطوات المؤطرة بإطارٍ فنيٍ خفيٍ بديع، فقط هي اليوم تسحب الغطاء الصغير المعروف بالشيلة من أسفل العباءة إلى فوقها، فتظهره منسدلاً على أكتافها بكل ما فيه من علاماتٍ جمالية، يزيدها جمالاً وحسناً شكل أكتافها الذي تكفل الغطاء بتحديدها بدقة، وتبقى ترتدي العباءة بهذه الصورة فترةً هادئةً وقصيرة، فيها يمارس الدعاة إلى الله تعالى تقليب الكتب، وتصفح بطون المراجع بعيداً عن الأصابع المسمومة التي تعمل خلف أستار الظلام، وحتى يعتاد الآباء وتألف الأمهات، وحتى تجرؤ العاقلات من الفتيات على لبس العباءة بهذه الصورة، ترى بعدها بفترةٍ كيف تبدأ الأكتاف الناعمة تظهر مللها من ضيافة هذا الغطاء الذي اعتلى فوقها منذُ فترةٍ أقل من قليلة، فيعلن انسحابه من الأكتاف، كما قد تم إعلان إنسحابه من أسفل العباءة إلى أعلاها.
لذلك أشعرُ ورب الكعبة بالخشية التي تمزق أنيابها صدري، أخشى أن يأتي اليوم الذي نقلبُ فيها أبصارنا، نديرها شمالاً مرة ويميناً تارة، نبحث بين ركامِ فتياتنا عن اللون الأسود الذي اعتدنا رؤيته، فيرتد إلينا البصر خاسئاً وهو حسير إلخ.
فمثل هذه الصور التي تعبر عن أنماط ووسائل في لبس الفتاة لغطاء الوجه، أو لعباءتها، أو لغير ذلك، هي من الأشياء التي ينبغي أن يتفطن لها، لأن من شروط اللباس الشرعي ألا يكون زينةً في نفسه، وقد أحضر لي مجموعةٌ من الشباب مجموعةً مما يسمى بالكاب، ويباع في الأسوق، فرأيتُ فيه من ألوان الزينة ومظاهر الجمال ما قد يجعل عدم لبس المرأة له أفضل مما لو ظهرت وهي غير لابسة له، فهو زينةً في نفسه، وهو لا يحقق الغرض الشرعي بالستر وغض نظر الرجال عنه، بل ربما دعا الآخرين إلى تأملها، والنظر إليها، وزادها حسناً إلى حسنها، وجمالاً إلى جمالها.(44/15)
لا مانع من متابعة الموضة إذا لم تخالف الشرع
الأمر الأول: لا مانع مطلقاً أن تخيط الفتاة ثوبها بالطريقة التي تعجبها، والتي ترى أنها جميلة، فنحن لسنا خبراء تجميل، بحيث نقول للفتاة: هذا شكل حسن، وهذا شكلٌ قبيح.
كما أن حرص الإنسان ذكراً أو أنثى على الجمال أمرٌ فطري لا يلام عليه، وفي صحيح مسلم: {أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جميلٌ يحب الجمال} إذاً نحن لا ننتقد الفتاة لعنايتها بثوبها، أو عنايتها بشعرها، أو عنايتها بنظافتها، أو ما أشبه ذلك، فهذا أمرٌ لا تثريب عليها فيه، لكن الشيء الذي نستنكره هو كون الفتاة مستعبدة للموضة، تتابعها أولاً بأول، وتستبدل ثوبها كلما تغيرت الموضة، فهذه المتابعة من العبودية للموضة، وانحصار الهم في الجانب المادي، والتبعية لليهود وغيرهم والنصارى، والتشبه بالأعداء في خصائصهم، فإن متابعة الموضة ساعة بساعة، هي من خصائص عارضات الأزياء، ومن خصائص الراقصات، والفنانات من المتاجرات بالأجساد الرخيصة.
إذاً أقول للإخوة والأخوات حتى لا يلتبس عليهم رأيي في هذه المسألة بكلامٍ قلته من قبل: إنني أفرق بين فتاة ترى موديلاً فيعجبها، فتخيط عليه مع مراعاة الضوابط الشرعية، فإن كان قصيراً طولته، وإن كان ضيقاً وسعته، وإن كانت فيه فتحات أزالتها ثم لبسته، فهذا لا أرى فيه حرجاً عليها، وبين فتاةٍ أخرى كل همها مُنصبٌّ على متابعة الموضة، وكل يومٍ ثوبٌ جديد، وكل يوم زي جديد، وكل همها ومالها ووقتها منصرف لهذه القضية، فلا شك أن هذا نوع من العبودية لغير الله عز وجل فهذه نقطة.(44/16)
عناية المرأة بجمالها مطلوب
النقطة الثانية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] .
ونحن -أيها الإخوة وأيتها الأخوات- بقدر ما ننتقد تلك الفتاة التي تحولت إلى تمثال من الشمع سرعان ما يذوب، همها القماش الذي تلبسه، وقيمتها في ثوبها، بقدر ما ننتقد تلك الفتاة، فنحن ندعو الفتاة المسلمة الملتزمة أن تكون على قدرٍ من العناية بجمالها وثيابها ونظافتها وترتيب أمورها، وهي ناحية فطرية غريزية لا ينبغي أن نجور عليها بحالٍ من الأحوال، وكما أن الأولى ظاهرة سلبية موجودة، فالثانية أيضاً ظاهرة سلبية موجودة عند بعض الفتيات.
لذلك استغرب سلمان الفارسي -كما في صحيح البخاري- لما رأى أم الدرداء متبذلة!! وكانا أخوين، فلما رآها سلمان الفارسي قال: {يا أم الدرداء مالي أراك متبذلة؟ -ملابسك ليست ملابس امرأة متزوجة- قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له همة في الدنيا، بالنهار صائم وبالليل قائم!! فلما جاء أبو الدرداء وأراد أن يقوم، قال له سلمان: نم، فنام، وبعد قليل أراد أن يقوم فجاءه سلمان، وقال: نم، فنام، وبعد قليل جاءه فقال: نم، فنام، فلما بقي من الليل جزء، قال: قم الآن فصل، ثم قال له: إن لنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه} وهذا حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فلماذا استغرب سلمان الفارسي من هيئة أم الدرداء، وكونها متبذلة في ملابسها؟ لأنها امرأة متزوجة، والمفروض أن يكون عندها قدر من العناية بزوجها وبملابسها، وبمظهرها، حتى تلفت نظر زوجها وتعفه عن النظر إلى الأخريات، ولذلك استغرب لما لم يجد هذا.
والحديث الآخر، حديث عائشة رضي الله عنها تقول: {دخلت عليَّ خويلة بنت حكيم بن أمية، وكانت عند عثمان بن مظعون -زوجة عثمان بن مظعون رضي الله عنه- قالت: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها -ملابسها غير جيدة وغير ملائمة- فقال لي: يا عائشة، ما أبذ هيئة خويلة! -غريبة ملابسها- قالت: فقلت: يا رسول الله! امرأةٌ لها زوجٌ يصوم النهار ويقوم الليل، فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها وأضاعتها، قالت: فبعث رسول الله صلى الله وسلم إلى عثمان بن مظعون، فجاءه فقال: يا عثمان! أرغبة عن سنتي؟ قالت: فقال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب، قال: فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليكَ حقَّاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصم وأفطر، وصل ونم} والحديث رواه أحمد في مسنده، وأبو داود، وغيره، وله شواهد منها حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وزاد في آخره قال: {فأتتهمُ المرأة بعد ذلك -ولاحظ هنا دقة امتثال الصحابيات لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته- فأتتهم المرأة بعد ذلك، كأنها عروس -أي متزينة متجملة مهتمة بمظهرها بما فيه الكفاية- فقيلَ لها: مه!! - تعجبت عائشة رضي الله عنها فالوضع قد تغير قالت لها عائشة: مه، -أي ما الخبر؟ - قالت: أصابنا ما أصاب الناس} أي: عادت الأمور إلى مجاريها، والحديث بهذا اللفظ رواه ابن حبان، وقد روى البخاري أيضاً الحديث الذي أسلفته، وهو بمعنى هذا الحديث فهو شاهد له.
إذاً قضية الاهتمام بالثياب وبالجمال أمرٌ فطري عند الرجل والمرأة لا يلام عليه، وخاصةً إذا كانت المرأة متزوجة، فكون بعض الفتيات يظهر منها قدرٌ من عدم العناية بشعرها ومشطه وتسريحه ودهنه وتزيينه، أو عدم العناية بمظهرها وثيابها وترتيبها وجمالها، هذا أمرٌ تلام عليه، وربما يكون أحياناً هذا التواضع والتقشف سبباً في إعراض بعض الفتيات عن مجالس الذكر وحلق العلم والوعظ؛ لأن تلك الفتاة ذات العناية بملبسها تظن أن حضورها في المجالس ومشاركة الأخريات فيه، يقتضي إهمال ذلك الجانب الذي تعتني به هي أو إغفاله، أو تظن أنها سوف تصبح في محل النقد والاستغراب من الفتيات الملتزمات، فهو يحول بين الأخريات وبين الالتزام.
وعناية الفتاة الداعية بمظهرها هي البوابة الضرورية للوصول إلى قلوب الأخريات، دون أن تخرج عن حدود اللباس الشرعي، فهي قدوة، ولا ينبغي أن تعمل شيئاً يكون في موضع النقد، أو يقلدها فيه الآخرون.
وهذه المرأة الداعية مع هذا وذاك هي امرأة لها زوج، أو سيكون لها زوج، فيجب أن يرى فيها من الجمال والعناية به ما يغض بصره ويعفه عن النظر الحرام، وهذه من جوانب العظمة في الإسلام، حتى تكلم عنها الغربيون، وأعجبوا بها أيما إعجاب، كما سوف أتحدث في حلقة قادمة إن شاء الله، فإن الإسلام يربط الدنيا بالآخرة كنسيجٍ واحد، فحتى المرأة وهي تتجمل لزوجها، هي بهذا العمل تتقرب إلى الله تعالى، وتقرب من الجنة.
فالإسلام لا يستقذر أو يعيب مثل هذه النظافة، أو مثل ذلك الجمال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: {وفي بُضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ} .(44/17)
محلات الخياطة
النقطة الرابعة: ما يتعلق بمحلات الخياطة وسلبياتها: أولاً: ربما أقول بدون مبالغة: إن أكثر محلات الخياطة الموجودة في كل البلاد -خاصةً في هذه البلاد- هي محلات الخياطة النسائية، فهي أكثر من أية محلات أخرى، وهل نستطيع أن نقارن محلات الخياطة بالمكتبات؟! لا مقارنة! فيمكن أن تجد في البلد عشر مكتبات، لكن لا غرابة أن تجد فيه ألفاً أو ألفاً وخمسمائة محل خياطة، وهذا بلا شك مؤشر خطير، يدل على ضعف الاهتمام بالناحية العقلية، والناحية العلمية، والناحية الفكرية، وناحية إعداد الإنسان في مقابل العناية بالناحية الشكلية والجمال المظهري.
وهذه الظاهرة لا شك تستحق الدراسة، ولو كانت في بلد من بلاد الغرب لوجدت دراسات طويلة عريضة عن هذه الظاهرة، وإيجابياتها، وسلبياتها، وأضرارها الاقتصادية، وأضرارها الاجتماعية، وأضرارها الإنسانية والأخلاقية إلخ.(44/18)
سلبيات محلات الخياطة
وأنا أذكر لكم بعضاً من سلبيات هذه المحلات على سبيل الاختصار والإيجاز، فمن السلبيات:(44/19)
تفويت مصالح على الآخرين
ومن السلبيات تعطيل النساء الأخريات، اللائي جئنَ لهذا الخياط، وغالباً ما يكون هذا بطبيعة الحال في الشارع، فيقفنَ على شكل طابور أمام الغادين والرائحين في انتظار أن تنتهي هذه المرأة، وهذا مشهد يراه بعضنا في بعض الأحيان، وفيه سلبية، وهو مشهد غير لائق، لا من الناحية الأخلاقية والشرعية، ولا من الناحية المصلحية.(44/20)
الوقوع في بعض المخالفات الشرعية
وبعض الرجال مع الأسف يطلب من الخياط أن يقوم بالتفصيل على البنت الصغيرة مباشرة، وهي ليست بصغيرة، فربما تكون مابين الثامنة إلى الثالثة عشرة من عمرها، ومع ذلك يطلب من الخياط أن يقوم بالتفصيل عليها مباشرة، ويعتقد أن هذا يكون فيه التفصيل أدق، ولا ينتبه إلى الجانب الأخلاقي في المسألة.
وكذلك من السلبيات ظهور أجزاء من جسد المرأة خلال الأخذ والعطاء، والحديث وما أشبه ذلك مع الخياط.(44/21)
تضييع وقت الزواج
السلبية الثالثة: تعطيل ولي أمر هذه المرأة وضياع وقته، فهو جالس في السيارة ساعتين ونصف ساعة، أو واقف ينتظرها، وإن ذهب وتركها فهذه مشكلة أكبر، وفيه ما فيه من تعريض هذه المرأة لأمور قد لا تحمد عقباها.
وكذلك احسب من ناحية اقتصادية إذا كُنا لا نؤمن بأهمية الوقت من الناحية الشرعية، ونحن بحمد الله مؤمنون بذلك، وندرك أن ساعتين ونصف ساعة قد يعمل الإنسان فيها عملاً جليلاً يدخل به الجنة، لكن حتى من الناحية الاقتصادية، ساعتان ونصف كان يمكن أن يكسب الإنسان فيه شيئاً كثيراً، وعلى مستوى الأمة كلها، احسب كم فرداً يجلسون: ذكراً أو أنثى عند الخياط ساعتين ونصف الساعة؟ ستجد أننا ضيعنا وأهدرنا من وقت الأمة وعمرها وحياتها قدراً كبيراً جداً من الممكن أن الأمة تمشي فيه خطوات إلى الأمام، في مجال التقدم العلمي أو في مجال الصناعة أو في مجال التطور أو في مجال مواجهة عدوها، وفي كل مجالات الحياة التي تحتاج إليها.(44/22)
التأخر عن البيت
ومن السلبيات التأخر عن البيت، أي أنها ثلاث ساعات بعيدة عن المنزل، وفيه أطفال، وفيه بنات، وما يدريك ماذا حصل للأطفال، ربما حدث لهم شيء، فقد يحصل لبعضهم مشكلة، أو قد يعبث بعضهم بأمور معينة.
هذه رقعه وصلت إليَّ يقول فيها صاحبها: هناك محلات في بعض الأحيان هي محلات خياطة، تبقى مفتوحة إلى ساعات متأخرة من الليل، ومع ذلك قد تتردد عليها النساء، وهذه أيضاً سلبية جديدة من السلبيات -كما ذكرت- وهي التأخر عن البيت، وفي ذلك ما فيه من احتمال وقوع أشياء للأطفال، تحتاج المرأة فيها إلى أن تكون قريبة منهم، أو حتى عدم إمكانية الرقابة على البيت، لا من قبل المرأة، ولا من قبل الرجل الذي أصبح مشغولاً معها، ويزيد الطين بلة إذا عرجت المرأة على محلات أخرى أيضاً لخياطة أو لشراء بعض البضائع والسلع.(44/23)
الإسراف
السلبية الأولى: الكثرة بشكل ملفت للأنظار كما ذكرت، وهو يدل على مدى الإسراف التي تعيشه البيوت، لأنها ما كثرت إلا ولها زبائن، وهؤلاء الزبائن هم من النساء بطبيعة الحال الكبيرات أو الصغيرات، فهو يدل على مدى الإسراف في البيوت.(44/24)
التبسط في الكلام مع رجل غير محرم
السلبية الثانية: وقوف المرأة أمام الخياط لفترة طويلة من الوقت، أحياناً ربما تصل إلى ثلاث ساعات، وهذا بدون مبالغة، وافترض أن المرأة ذهبت من أجل تخييط ملابس للزواج، فإذا تصورت أنها تريد أن تخيط ثلاثين ثوباً، مع أنه تقول بعض الفتيات: ماذا؟! ثلاثين ثوباً!! لا يكفي ستون ثوباً للزواج عند بعضهن، لكن لنفرض نحن القدر المعقول ثلاثون ثوباً، ولو افترضنا أن المرأة تريد أن تشرح للخياط طريقة خياطة الثوب أو الموديل الذي تريده في خمس دقائق، مع أن هذا أمر بعيد، ويصعب أن تستطيع إفهامه في خمس دقائق، فإن كان كل ثوب يتطلب خمس دقائق، فالنتيجة: ثلاثون في خمسة، فيكون الناتج مائة وخمسين دقيقة، أي: ساعتان ونصف والمرأة واقفة أمام الخياط.
وقد يترتب على هذا الوقوف التبسط في الكلام، ورفع الكلفة، وترقيق القول، والتودد إليه، خاصةً إذا احتاجت المرأة إلى إنجاز العمل بسرعة، فتجد أنها تقول للخياط مثلاً: الله يخليك، لو تكرمت، تكفى، وما أشبه ذلك، بل إنه حصل أن بعض الفتيات -وهي العروس نفسها- تحضر بطاقة دعوة للخياط لحضور حفل زواجها!! وربما تستخدم أحياناً عبارات غير لائقة؛ لأنها حين تتحدث عن الموديل وصفته وطوله وعرضه وخصره، وأين تكون الفتحة، و، وإلخ.
تتحدث بكلام غير لائق مع رجل أجنبي عنها، ولكنها تتبسط معه مع اعتياد ذلك، ويصبح أمراً عادياً.(44/25)
الحلول المقترحة
هنا نعرض بعض الحلول المقترحة لتلافي هذه المشكلة:(44/26)
توعية المرأة
ومن الحلول أيضاً: توعية المرأة بمخاطر مثل هذا العمل، والبحث عن وسائل بديلة، مثل أن تقوم المرأة أو الفتاة برسم الموديل المراد في المنزل، وشرح كل ما تريد على ورقة، ثم يحضره رجل إلى الخياط، وإذا لزم الأمر تحضره هي مع محرمها، وذلك بدلاً من أن تقوم هي بطلب كتاب الأزياء من الخياط وتقليبه واختيار ما تريد، وربما لا يكون اختيارها سريعاً، وربما غير مناسب، وربما تندم عليه بعد ذلك، فيكون سبباً في تأخيرها، وتأخير من ينتظرونها.(44/27)
قيام المرأة نفسها بهذه المهمة
ومن الحلول: قيام المرأة بعمل الخياطة بنفسها، وليس في الأمر صعوبة تذكر، وعلى الأقل يمكن أن يوجد في الأسرة أو العائلة أو البيت فتاة واحدة تقوم بهذه المهمة ولو بمقابل؛ لأن هذه وسيلة من وسائل الكسب الحلال الطيب المبارك، متى كان ملتزماً بالشروط الشرعية.(44/28)
تأهيل الفتيات في مجال الخياطة
ومن الحلول أيضاً: قيام الجهات المختصة وبالذات جهاز تعليم البنات والأجهزة الأخرى المساوية له بإيجاد دورات قصيرة لتعليم مبادئ الخياطة والتفصيل، والتشجيع على دخولها من قبل الطالبات والمدرسات، وربات البيوت، أو تكون لهن دورات قصيرة، ولو كان ذلك أيضاً برسوم بحيث تكون في مدارس البنات، ويراعى فيها الضوابط الشرعية.
ومن الحلول أيضاً: أن يضع أصحاب محلات الخياطة، لوحات إرشادية في محلاتهم يكون فيها تنبيه للمرأة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وبيان ما يحل ومالا يحل، وذكر الشروط الشرعية في اللباس.
فهذا جانب صغير وقليل مما أردت الحديث عنه فيما يتعلق بهموم المرأة، ولنا وقفة أخرى مع بقية هموم المرأة، سأتحدث عنها بشيء من الاختصار، في الأسبوع القادم، حتى ننتهي من هذا الموضوع.
إذاً: جلسة الأسبوع القادم ستكون إن شاء الله بعنوان: همومٌ أخرى للمرأة، وسأتحدث فيها عن هموم كثيرة جداً، تعايشها الفتاة في بيتها، وفي مدرستها، وفي بيت الزوجية، وسأنقل لكم صوراً من رسائل كتبتها بعض النساء، وهي في الواقع صور جيدة، ومشرقة، ومعبرة، وتبشر -إن شاء الله- بخيرٍ كثير.(44/29)
ترشيد محلات الخياطة
فمن الحلول: ترشيد هذه المحلات بعدم فتح المجال على مصراعيه للرخص بدون دراسة أو تخطيط لمعرفة وتحديد مدى الحاجة إلى هذه الأشياء، وهذا موجود في كل الأشياء، وفي كل المجالات، فيكون فتح هذه المحلات وفق سلسلة وأولويات معينة، وأرقام معروفة، فتفتح بقدر الحاجة، ولا يزاد على ذلك، لما ينجم عنها من أضرار اقتصادية وأخلاقية على الأمة.(44/30)
عدم الإسراف في كثرة الملابس
ومن الحلول أيضاً: عدم الإسراف في كثرة الملابس، فبعض الفتيات تلبس الثوب مرة واحدةفقط، بل يقول صاحب محل: نعاني من كثرة الملابس التي لا يحضر أصحابها لاستلامها، ونحتار كيف نصنع فيها، وهي ملابس غالية الثمن، حتى يقول: أحضرت إحدى الفتيات لنا قماشاً بثمانمائة ريال، وبعد ما قام الخياط بخياطته وأعطاه لها فذهبت، وخلال عشر دقائق أعادته، وقالت: إنه لا يصلح! وطلبت منه أن يخيط لها ثوباً جديداً بطريقة أخرى، فطلب منها الخياط، إذا كان يمكن أن يجري تعديلات على الثوب الأول، قالت: لا، ليس هناك شيء، والثوب جيد، لكنه لا يناسب جسمي، وهكذا ضاعت ثمانمائة ريال هدراً.
يا أخي هذا جزء من ثروة الأمة، وجزء من ثروة الآباء، وجزء من حاجة المرأة التي قد تحتاج إليها المرأة في يوم من الأيام، والرجل والمرأة كلاهما على مستوى المسئولية والمفروض أن يدركا أن التصرف بالمادة بهذه الطريقة لا يخدم أبداً إلا الأعداء.(44/31)
الأسئلة(44/32)
ليس هذا من أخلاق المسلمات
السؤال
بعض الفتيات المتدينات لا يرين للنساء كبيرات السن فضلاً وشأناً، فتجدهنَّ لا يجلسن معهن، ولا يفدنهن ولا يستفدنَ منهن تجربة ومروءة نرجو التوجيه؟
الجواب
هذه مشكلة حقيقة، سببها من الطرفين، فإن كبيرات السن كثيراً من الأحيان لا يستمعن إلى نصائح الفتيات اللاتي هن أصغر منهن سناً، وإنما يعتمدن على موروثهن وما أخذن، ويقلن: نحن أدرى ونحن أعرف، ولا ندري ما هذا الدين الجديد الذي جئتن به! فيكون هذا سبباً في إعراض الفتاة، والفتاة أحياناً تأخذ الأمر بجد، ويكون عندها حماس قوي، فتريد من النساء الأخريات أن يكنَّ منصاعات ومستجيبات أولاً بأول، ومنفذات للأوامر والتعليمات، وهذا أمرٌ صعب، فالفتاة بحاجة إلى قدر من المرونة والتفاهم والتحمل والتدرج فيما تريد أن تعمله مع الآخرين، ولا يمكن أن تغير الأمور وتصلحها كلها دفعة واحدة، خاصة كبيرات السن فهن بحاجة إلى سعة الصدر وسعة البال، وهناك أمور كثيرة جداً لا بد من تمريرها، بمعنى أن تقتنع الفتاة أن هذه الأمور لا حيلة فيها، لأنها كبرت مع المرأة، وصارت جزءاً من شخصيتها، وجزءاً من حياتها، ولا حيلة في تغييرها، لكن يسعى الإنسان ويحاول أن يهذبها أو يصلحها شيئاً فشيئاً.(44/33)
هذا هو البديل يا مسلمات
السؤال
ما رأيكم في طرح مجلات إسلامية، تختص بالزي الإسلامي لمحاولة التقليل من خطر المجلات النسائية المستوردة من الغرب؟
الجواب
هذا موضوع، إذا أمكن طرح الزي الشرعي بشروطه الشرعية، وبدون صور، وبطريقة تغني المرأة المسلمة عن تلك المجلات المسماة بالبردة، والتي تأتي من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وكل بلاد الدنيا، فإذا أمكن ذلك، وصار مضبوطاً بالضوابط الشرعية، فهذا شيء لا بأس به إن شاء الله.(44/34)
حكم لباس الثياب القصيرة للبنات الصغيرات
السؤال
هل على المرأة وزر إذا ألبست بنتها ثياباً قصيرة؟
الجواب
إذا كانت البنت كبيرة الجسم، ولو كانت صغيرة السن، وجسمها ملفت للأنظار، فينبغي أن تراعي أمها أن تلبسها ثوباً ساتراً فضفاضاً، خاصةً إذا كانت سوف تظهر أمام الرجال.(44/35)
هذا هو الإسراف
السؤال
بعض النساء إذا اشترت ثوباً أو خاطته، لبسته مرة أو مرتين في الكثير، ثم لا تلبسه وتقول: هذا الثوب لا يمكن أن يرى مرة أخرى في العرس، فما نصيحتكم في هذا الأمر؟
الجواب
وهذه مصيبة إذا كان الثوب لا يمكن أن يرى مرة أخرى، فهذا بابٌ طويل، والغريب في الأمر أن هناك مسألة أخرى، وهي أن امرأة تقول: ذهبتُ إلى محل أزياء وأنا محجبة، ومعي امرأة أريد أن أشتري لها ثوباً لزوجها، فنظرت إلى زيٍ جميل، فقلت لها: هذا يصلح لزوجك، تقول: فجاءت المرأة التي كانت تبيع في ذلك المحل، فلمت رأسها، ووضعت يديها على رأسها، وقالت: أعوذ بالله! حرام عليكِ! حرام عليك، قلت: لماذا؟ قالت: هذا الثوب الجميل تلبسه لزوجها!! هذا ثوب يمكن أن تلبسه في أرقى المحلات وتلفت به أنظار الآخرين، ليس لزوجها فقط! أي كأن الثوب الذي للزوج يجب أن يكون ثوب المطبخ، أما إذا أرادت أن تتزين وتتجمل، فإنما تتزين وتتجمل للآخرين، وهذه كارثة، وكم تحطمت بيوت بسبب ذلك! وإلى متى نظل نحن نركض وراء قانون الموضة ووراء رسومها؟! ولا بد أن تقوم الأخوات العاقلات والفتيات المتدينات بوضع حد لذلك ووضع حد لذلك، لا يكون بمسك العصا من الطرف الآخر بأن تكون متبذلة في ملابسها، ومتواضعة ليس لديها أدنى قدر متبذل من العناية بالجمال، لا! بل ينبغي أن تحرص الفتاة المتدينة على أن تكون مهتمة بجمالها بصورة معتدلة، وكأنها تقول للأخريات: هأنا مهتمة بمظهري معتنية به، ومع ذلك لم أسلك الطريق الذي سلكتنه في المبالغة بالثياب وتكثيرها، وعدم لبسكن الثوب مرة أخرى إذا لبس سابقاً.(44/36)
الطريقة المناسبة للتخلص من الموضة
السؤال
ما هو الأسلوب والطريقة التي ترى أنها مناسبة للتخلص من الموضة؟ وما رأيك إذا اتفقت مجموعة من الفتيات على ترك ذلك والتوسط فيه؟
الجواب
هذا أسلوب جيد، لأنه ليس أمامنا إلا أسلوب القدوة الحسنة، وأسلوب القدوة الحسنة من أهم الأساليب، فإذا وجد في كل مدرسة، وكل فصل، وكل مجتمع، وكل نادي، وكل عرسٍ، وكل حفلة، مجموعة من الفتيات متدينات، وواعيات، وعاقلات، وفي أرقى المستويات، ومع ذلك عندهن رفض لأصول الموضة وقوانينها، وتمرد عليها وكفرٌ بها، فإن هذا سوف يكون مدعاة إلى أن تقلدهن الأخريات، فالناس دائماً يقلدون القوي، وتستطيعين أن تكوني بذلك قدوة للأخريات، وسوف يقلدنكِ بكل تأكيد.(44/37)
حكم التقيد في تسريحة الشعر
السؤال
بعض الفتيات عندما تقول لها عن تسريحة الشعر: {من تشبه بقومٍ فهو منهم} تقول بطبيعة الحال: أنا لست مقلدة، وإنما رأيت أن صديقتي فعلت ذلك، أو نحو ذلك؟
الجواب
على كل حال الحديث: {من تشبه بقوم فهو منهم} هو حديثٌ صحيح ورواه ابن عمر، وهو في سنن أبي داود، ومسند الإمام أحمد، وسنده جيد.
وبالنسبة لموضوع التسريح، فقد ذكرت في كلامي قبل قليل: إن كانت هذه الفتاة كل يوم لها تسريحة جديدة، وهي تتابع قانون التسريح أولاً بأول، وكلما خرجت تسريحة جديدة سرحت رأسها بمقتضى هذه التسريحة، فلا شك أن هذا مذموم، لما فيه من ضياع الوقت وضياع العمر، وتقليد الغرب والتشبه بهم، والتبعية المطلقة لهم في الظاهر والباطن، أما كون فتاة أعجبت بشكلٍ معين في تسريح شعرها، وعملته دون أن يكون متابعة الموضة هماً لها، فهذا أمرٌ لا أرى فيه -إن شاء الله- حرجاً، ولا بأس به.(44/38)
اعتذار عن الإسهاب في الموضوع
السؤال
أرى أنك أسهبت في وصف الموضة، وأنا أقول عن نفسي: إني تضايقت من ذلك؟
الجواب
لا بأس! إن كان هذا حصل فأستغفر الله تعالى، وأتوب إليه.(44/39)
مواجهة الغزو من قبل الشباب
السؤال
بماذا يواجه الشباب الغزو والإثارة وخاصةً من الفتيات في الأماكن العامة؟
الجواب
بالنسبة للشباب الذكور بطبيعة الحال: أولاً: على الشاب أن يتجنب الأماكن التي تتواجد فيه النساء، مثل الأسواق، وقرب مدارس البنات، وأماكن تجمع النساء وغيرها، فعلى الشاب أن يكون بعيداً عن هذه الأشياء لا يقترب منها، وإذا اقترب منها لحاجة، فعليه أن يلتزم بأوامر الشرع، بغض البصر، والبعد عن النظر إلى الحرام؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اصرف بصرك؛ فإن لك الأولى وليست لك الثانية} كما أن على الفتاة واجباً بحفظ نفسها من نظر الآخرين، وألا تكون مدعاةً لإثارة الفتنة، حتى لا يُفتَتَنْ بها الآخرون، أو تَفتَتِنَ هي بالآخرين، وكما قيل: كل الحوادث مبداها من النظرِ ومعظمُ النارِ من مستصغر الشررِ كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوسٍ ولا وترِ يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرورٍ جاء بالضررِ وقال الآخر: فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ ووالله إني لأعلم -يا إخواني- من فتن الرجال والنساء بالنظر ما يشيب من هوله رأس الوليد.
ولكن ربما الإنسان إذا كثر سماعه لمثل هذه الأخبار والقصص، صار عنده نوع من الاعتياد على هذا الأمر، فلم يعد يهز وجدانه ويؤثر في ضميره، فلا حول ولا قوة إلا بالله!(44/40)
جرأة المفسدين
السؤال
إحدى المجلات -مجلة اليقظة- أرسل إليها أحد الإخوة، فقال: لماذا تضعون صورة فتاة كاشفة على غلاف المجلة؟ وكان الرد عبر المجلة: لو وضعنا صورتك أو صورة أمثالك، لم تأخذ المجلة هذا الرواج!!
الجواب
هذا ما قلناه قبل قليل، فهناك مجلات كاسدة، أرادت أن تثري على حساب المساكين، وليس من العدل ولا من العقل أن يثروا على حسابنا، ولو أننا كنا رجالاً بمعنى الكلمة، وكانت النساء نساءً بمعنى الكلمة، لاستطعنا أن نقاطع هذه المجلة، فنقاطع مجلات الأزياء، ونقاطع المجلات التي تتاجر بجمال المرأة، وتستهين بإنسانية المرأة، وتستهين بعقل المرأة، وتستهين بعفة المرأة، وتستهين بأخلاق المرأة، ونقاطع المجلات أو الجرائد الرياضية التي تجر الفتاة جراً إلى المشاركة، ولو فعلنا أو كنا على مستوى المسئولية، لعرفوا بعد أسبوع أو أسبوعين أنه فعلاً عليهم أن يراعوا مشاعر هذا المجتمع، أو تلك المجتمعات المسلمة، أو هذه الأمة المسلمة، وأن يخضعوا وينصاعوا لما نريد نحن المسلمين، لكن مع الأسف الشديد، على حساب من أثرت تلك المجلات؟ وعلى حساب من اشتريت تلك الجرائد؟ إنها لا تباع في إسرائيل أبداً، إنما تباع في بلاد الإسلام!!.(44/41)
وسائل حماية الرجل لأهله من التبرج
السؤال
كيف يمكن للرجل حماية أهله من التبرج أو خداع التلفاز بطريقة حكيمة؟
الجواب
الحقيقة أقولها بصراحة، وهي مسألة صعبة، لكنني أقولها والدين النصيحة: بعد ما حصل الذي حصل، وجرى الذي جرى، منذ زمن كان العقلاء والعلماء يحذرون من قضية البث المباشر الذي أصبح في تناول الفرد العادي من الناس اليوم، أقول: لا حل إلا أن يقوم العقلاء بإخراج جهاز التلفاز من بيوتهم، وأن يقوموا بحملة صادقة على ذلك، ويقنعوا أهلهم بذلك.
وقد حدثني عدنان أكبر، وهو بالمناسبة صاحب دار أزياء ضخمة، وقد كان مصمماً عالمياً للأزياء، حدثني بنفسه، ورأيت معه أطفاله الصغار، وهم يحفظون شيئاً من القرآن الكريم، وقال لي: إنني لما هداني الله تعالى قمتُ في ساعةٍ واحدة، فأخرجت جهاز التلفاز من البيت وكسرته، فقال له أهله وأقاربه: على الأقل بالتدريج حتى نرفق بالصغار ونعلمهم، فقال: لا يمكن أن نتدرج في هذا الأمر، هذه قضية لا خيار فيها، والذي يريدني يقبلني بهذه الشروط، وما هي إلا لحظات قليلة حتى اعتاد الكبار والصغار وألفوا هذا الأمر، ورأيت معه أطفاله وهم يحفظون أجزاء من القرآن، وعليهم سمات الخير والصلاح، نسأل الله لنا وله ولهم الهداية والثبات.
فهممُ الرجال تزيل الجبال، ولا أعتقد أن الإنسان عاجز عن أن يقوم بمثل هذه المهمة، فما قيمة الجهود التي تبذل لإصلاح الإعلام الداخلي إذا كُنَّا قد غُزينا من فوقنا؟ وجاءونا من فوقنا! فهذه قضية لا بد من استيعابها.
إذا وجد الجهاز في البيت فهذه والله مأساة، لأنه لا أعتقد أنك سوف تبقى بواباً على التلفاز، تفتح وتغلق متى جاء أمرٌ تحبه أولا تحبه، فأنت تخرج إلى العمل، وتخرج للصلاة، وتخرج للوظيفة، وتخرج للدراسة، وتخرج لشئونك الخاصة والعامة، وربما في بعض البيوت يوجد في كل غرفة جهاز تلفاز.
فالخطر -أيها الأحبة- شديد، ونحن بحاجة إلى أن ندرك حجم الخطر وحجم الغزو، وأن ندرك أن الغربيين يريدون منَّا الشيء الكثير، وأهم خطوة يريدونها الآن هي التغيير الاجتماعي.(44/42)
وسائل لإخراج التلفاز من البيت
السؤال
نحن أسرة بلانا الله بالتلفاز، ونريد إخراجه، ولكن الوالد يحول دون ذلك، فما قولكم؟
الجواب
لا بد من إقناع الوالد بإخراج التلفاز، ومن الوسائل في إقناعه أن تعمل الأخت ما يسمى بالرأي العام المعارض لوجود التلفاز، وهذا قد عملته عدد من الأخوات والإخوة ونجح، مثل أن تقوم الأخت بإقناع أخواتها الصغيرات بأن التلفاز ضار ومفسد، وأنَّ من أضراره كذا وكذا، ثم تقنع إخوانها الصغار بذلك، ثم تبدأ بأمها، ثم بأخوانها الكبار، حتى يصبح في البيت رأي عام واتجاه بضرورة إخراج الجهاز من المنزل.(44/43)
حكم لبس المرأة للأشياء القصيرة والضيقة
السؤال
هناك بعض الشباب لا يتدخل في أمور زوجته الخاصة، فتلبس بعض الثياب الضيقة، والحذاء العالي وغيرها من تتبع الموضة، فا رأيكم في هذا؟ ولسان حاله يقول: هذه أمور خاصة لا دخل لي فيها.
الجواب
أما إن كان لبسها للأشياء الخاصة بحضرة زوجها فياحبذا ذلك، فإن المرأة مطالبة بأن تتبعل لزوجها، وسأتحدث عن هذه النقطة في الجلسة القادمة إن شاء الله تعالى، أما إن كان لبسها لذلك عند الأجانب، فما قيمة الرجل إذا لم يكن قواماً على أهله؟! قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] .(44/44)
دور المرأة في الدعوة
السؤال
ما هو دور المرأة في الدعوة؟ وكيف تكون المرأة داعية داخل عالمها المحافظ؟
الجواب
هذا أحد الهموم التي سوف أتحدث عنها في الجلسة القادمة، وهو لدعوة.(44/45)
الهزيمة النفسية لدى الشباب
السؤال
ما رأيكم بالظاهرة التي انتشرت أخيراً، وهي وجود بعض الشباب والفتيات يلبسون الثياب، ويلصقون عليها بعض أعلام الدول الكافرة، كما وجد أيضاً كثير من الشباب يلصقون هذه الأعلام على زجاج السيارات؟
الجواب
هذا نوع من الهزيمة النفسية، أي أننا أصبحنا مستعبدين للغرب الكافر في كل شيء، نفكر بعقليته، ونقتني صناعاته، ونتلقى أفكاره وفلسفاته، ونأخذ بنمط حياته في كثير من أمورنا، وأخيراً أصبحنا نتلقى حتى المواد الإعلامية من الغرب، والغرب إذا استطاع فهو يحب أن يجعل بلاد العالم كلها -وبالذات بلاد المسلمين بالدرجة الأولى لأنها أخطر شيء يواجه الغرب- مسرحاً واسعاً للغرب، تروج فيها بضائعه، ويسرح ويمرح فيه جنوده وأعوانه وعملاؤه وأنصاره كيف شاءوا، وتنتشر فيها أفكاره وأساليبه وطرائقه، وتنفذ فيها سياساته كما قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وقال تعالى: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2] وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] وقال جل وعلا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] .(44/46)
المحن والمصائب ودلالتها على المعاصي
السؤال
هل ما يصيب المسلم من الهموم والأحزان يدل على وجود المعاصي فيه، فعليه أن يراجع نفسه، أم أن هذا كما ورد في الحديث: {لا يصيب المؤمن من همٍ ولا غمٍ ولا نصب إلا كفر الله عنه من خطاياه} ؟
الجواب
ما يصيب الإنسان في هذه الدنيا من هموم أو مصائب دنيوية، فهو قد يكون بسبب ذنبٍ فعله، فيكون تكفيراً لذنوبه، وقد يكون رفعة لدرجاته، ولو لم يفعل ذنباً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، الأمثل فالأمثل} فالنبي عليه الصلاة والسلام هو أفضل الناس، ومع ذلك هو أشدهم بلاءً، فليس كل ما يصيب الإنسان دليلاً على أنه مذنب أو عاصٍ، اللهم إلا المصائب العامة التي تنزل بالأمة، مثل الفقر العام والجدب والقحط والهزائم والفيضانات والزلازل، وغيرها من المصائب العامة التي تجتاح الأمة بأكملها، هذه هي التي لا تكون إلا بسبب ذنوب الأمة ومعاصيها.(44/47)
حكم تفصيل الثياب بموديلات مختلفة ومبالغ كبيرة
السؤال
ما حكم تفصيل الثياب بموديلات مختلفة للنساء، وبمبالغ كبيرة جداً، وهل تنصحني بالامتناع عن تفصيل الثياب لزوجتي عند حصولها على مبلغ كبير؟
الجواب
إذا كان المبلغ فاحشاً، ولا يتناسب مع مستواك المادي، ومع مستوى زوجتك المادي أيضاً، فأنصحك بالكف عنه، أما إذا كان المبلغ معقولاً يتناسب مع مستواك فلا بأس؛ لأن بعض الناس يقول: ما حدود الإسراف؟ فأقول: حدود الإسراف وكونه باهضاً أو فاحشاً أو غير ذلك يختلف من إنسان إلى آخر، فالإنسان الفقير حين يكون قيمة الثوب بمئات الريالات، مثلاً خمسمائة أو ستمائة، يكون هذا المبلغ مرتفعاً، لكن هذا المبلغ بالنسبة لأسرة ثرية يعتبر مبلغاً معقولاً، وهكذا يختلف من أسرة إلى أخرى، وهذا يحدده العرف.
وعلى كل حال -إن شاء الله- لنا لقاء في الأسبوع القادم، بعنوان: هموم أخرى للمرأة، وسوف أحاول أن أنفض في كل ما تبقى -إن استطعت- مما يتعلق بموضوع المرأة وهمومها الأخرى، وأنا في انتظار ما يصلني من مشاركة الإخوة والأخوات، فإنني اعتمدت في جل ما قدمتُ لكم في هذه الجلسة على رسائل وملاحظات وكتابات من بعض الأخوات الفاضلات، ولهنَّ مني الدعاء بأن الله يسعدهن في دنياهن وأخراهن، ويثبتنا وإياهنَّ بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويكثر في مجتمعات المسلمين من أمثالهن.
وأسأل الله لنا ولكم جميعاً أن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وآخر كلامنا من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يتوفانا وهو راضٍ عنا، ونسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يحيينا حياة السعداء، وأن يميتنا ممات الشهداء، وأن يرزقنا الذرية الصالحة، التي تحمل راية الإسلام وتدافع عنه، وتموت في سبيله، وتنصره نصراً مؤزراً عزيزاً، إنه على كل شيءٍ قدير.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(44/48)
من سلبيات الخياطين
السؤال
لعل من السلبيات، بل من أعظم السلبيات استقدام أيدٍ عاملة غير مسلمة، وأحياناً وسيمة بالإضافة إلى أن المسلمين المستقدمين يختارون من الشباب الوسيم؟
الجواب
هذه أيضاً سلبية تضاف إلى ما ذكرته، فإنني أذكر الأشياء على سبيل التفصيل، إنما ذكرت ما تيسر منها أو ما ظهر لي.(44/49)
فتيات ساذجات
السؤال
لقد سمعتُ أختي منذُ يومين تتحدث عن بنات الفصل، وتقول: إنهنَّ كتبن على جدار الفصل عبارات عن بعض اللاعبين، ثم كتبن في جدار المسجد: اللاعب فلان، فأرجو أن توجه نصيحة لهؤلاء الطالبات الساذجات؟ وكذلك ما دور البنات عندما يحدث مثل هذا؟
الجواب
صراحةً أشعر -علم الله- وأنا أقرأ هذا السؤال كأن السائل وجه إلى قلبي خنجراً مسموماً وطعنني به، إذ أنه يعز علينا أن نسمع عن فلذات أكبادنا، وعن بناتنا اللاتي كنا وما زلنا ننتظر منهنَّ أن يكنَّ معلمات ومربيات للأجيال، وأن يكنَّ كما قالت إحداهنَّ -وقد كتب لي مقالاً سوف أذكر طرفاً منه في الأسبوع القادم-: إنَّ على كل فتاةٍ منا أن تسعى في تربية ابنها، وكأنها تربي الخليفة المنتظر، فتيات مجتمعنا وفتيات هذه الأمة، التي كنا ولا زلنا ننتظر أن يكنَّ أبلغ رد على دعاة التغريب والتخريب والعلمانية والفساد.
يا أختي الكريمة: هذا اللاعب الذي تتحدثين عنه تنظر إليه كل الفتيات، وربما تحاول أن تتصل به عبر الهاتف، وربما تتمنى أن تلقاه، فهل يسرك أن يكون زوجك بهذه الصورة، أم أنكِ تريدين أن تكوني عبثاً للغادين والرائحين ليس لك حياةٌ مستقرة، ولا بيت تأوين إليه، ولا زوجٌ تلوذين بالله تعالى ثم به، ويكون أباً لأولادك وراعياً لك، ومشبعاً لعواطفك ورغباتك، أية فتاة ترضى أن تكون بهذه الصورة؟! لماذا تندفع الفتيات مع مشاعر المراهقة إلى هذا الحد؟! وهنا أُحَمِّل أولياء الأمور مسئولية كبيرة، وأحمِّل الأخوات المدرسات أيضاً مسئولية كبيرة، وهذا طبعاً حديث جرنا إليه السؤال، وكان المفترض أن يقال في الأسبوع القادم، فلا يجوز للمدرسة أبداً أن تكون مهمتها أن تلقي الدرس ثم تخرج، إنما مهمتها صناعة عقول الفتيات، وتعليم الفتاة ما يضرها وما ينفعها، ودعوة الفتاة إلى الخير، وتحذير الفتاة من المخاطر التي تهددها.(44/50)
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية
الإسلام باقٍ، والمستقبل لهذا الدين، والمسلمون بحاجة إلى مراجعة ماضيهم والنظرة إلى المستقبل بإدراك ووعي مع رسم الأهداف الصحيحة الموصلة لإحياء هذه الأمة من جديد وذلك يكون بقيامها بواجب الجهاد على كافة المجالات والأصعدة.(45/1)
الصحوة والمستقبل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
إخوتي الكرام: حين نتحدث عن مستقبل الدعوة الإسلامية، أو الصحوة الإسلامية، فإننا لا نتحدث عن طائفةٍ معينة، أو حركةٍ مخصوصة في نطاقٍ محدودٍ من المكان، أو لحظاتٍ محدودة من الزمان، لكن نتحدث عن يقظة المسلمين في كافة المجالات والأصعدة، نتحدث عن هذا البحر الذي تصب فيه جهود العلماء والفقهاء المخلصين، وتصب فيه جهود الدعاة والمربين، وتصب فيه جهود الشجعان والمفكرين، وتصب فيه جهود الكتاب والشعراء وغيرهم من الداعين إلى الله عز وجل، فهي بلا شكٍ أكبرُ من أن تكون محصورةً في نطاقٍ معين، أو مكانٍ معين، أو راية معينة، أو شعار معين.(45/2)
التخطيط والإعداد للمستقبل في القرآن
أما الحديث عن الصحوة، أما الحديث عن المستقبل لهذا الدين، أو لهذه الصحوة، فهو كما يقال: حديثٌ ذو شجون يشتمل على: حيث تعلمنا من الكتاب والسنة أهمية التخطيط والإعداد للمستقبل، وأهمية ترقب الأحداث ومواجهتها بصبرٍ ويقظةٍ وإيمان، فمثلاً في القرآن الكريم نجد قصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وضمن هذه القصة نرى ذلك الرجل الذي كان يقول ليوسف عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف:43] تنتقل الرؤيا من الملك حتى تقرع سمع يوسف، ومن خلالها يعبر ما يجري في المستقبل، وأن الناس يزرعون سبع سنين دأباً، ويأمرهم بأن يضعوا هذا في سنبله ويحفظوه ليوم الشدة، قال تعالى حاكياً عنهم: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:47-49] هذه القصة نتعلم فن النظر والإعداد للمستقبل، فقد توقع يوسف عليه الصلاة والسلام من خلال هذه الرؤيا وتعبيرها الذي علمه الله إياه، ماذا سيقع في مقبلات الأيام، ثمَّ أخذ العدة لهذا الأمر الذي توقعه وأمر الناس بأن يدخروا ليوم الشدة.(45/3)
النواميس والسنن الكونية وعلاقتها بالمستقبل
وبصفة أوسع وأشمل من ذلك، فإن القرآن الكريم مليء بالحديث عن السنن الكونية والنواميس الاجتماعية، التي جعلها الله تعالى جاريةً في حياة الناس أفراداً ومجتمعات، بحيث إن المسلم إذا عرف هذه السنن، استطاع أن يقرأ المستقبل من خلال الواقع، كما أن الإنسان يعرف أن النتائج لها أسباب، فإذا وجد الأسباب تلمس نتائجها من ورائها بناءً على السنن والنواميس التي وضعها الله تعالى في هذا الكون، وفي تلك المجتمعات، وبينها لنا أتم بيان في القرآن الكريم.
وأخبار الأمم السابقة وقصصها وما علق وذكر الله تعالى على تلك الأحداث من العبر والدروس والآيات كفيلٌ بأن يجعل الإنسان ينظر للمستقبل من خلال الواقع، وأقرب مثال على هذا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة:66] وقوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] وقوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:97-98] إلى غير ذلك من الآيات التي هي عبارة عن نواميس وسنن إلهية، من خلال استقرائها في الواقع نستطيع أن نتوقع ماذا يحدث للأمة إذا عملت بمقتضى هذه النواميس أو أخلت بها.
فبين هذه النواميس وبين الواقع علاقةً وثيقة، هي علاقة النتيجة بالسبب، وبينهما ترابطٌ عضويٌ لا ينفك بحال، ودراسة الحاضرِ بناءً على ذلك تتيح للإنسان فهم الواقع، كما تتيح له تصوراً إجمالياً للمستقبل، إضافةً إلى هذا وهذا فإنه الطريق العلمي الصحيح لاستقراء أحداث المستقبل، أن نستقرئ أحداث المستقبل من خلال النظر إلى أحداث الواقع.(45/4)
قرائن تدل على المستقبل
وهناك قرائنُ كثيرةٌ جاء بها القرآن الكريم، وذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام تعين على استقراء المستقبل، وهي كثيرة منها:(45/5)
الرؤيا الصادقة
والرؤيا قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {أنها جزء من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة} وذلك لما فيها من تطلع الإنسان إلى أمورٍ حادثةٍ مستقبلة، ليست واقعة فيتوقعها الإنسان، ومن خلال رؤيا يراها في المنام يظن أنه قد يحدث كيت وكيت وكيت، وهذا في السنة النبوية منه كثيرٌ وكثير، يكفي أن نذكر -مثلاً- قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله، رأيت في السماء ظُلة "سحابة" تنطف السمن والعسل، والناس يأخذون منها فمستقلٌ ومستكثر، ورأيت حبلاً ممدوداً بين السماء والأرض فأمسكتَ به أنتَ فرُفعت، وأمسك به رجلٌ بعدك، فرفع وأمسك به رجلٌ آخر فرفع، ثم أمسك به رجلٌ ثالثٌ فانقطع به، ثم وصل له فرفع، فقال أبو بكر: يا رسول الله دعني أعبرها، قال: افعل، فقال: أما هذه الظلة فهي ما آتانا الله به من العلم والإيمان والوحي، والناس منه يأخذون بقدر علمهم وإيمانهم، وأما هذا الحبل فهو الحق، تأخذ به فتعلو ويأخذ به رجلٌ بعدك فيعلو، ويأخذ به رجل ثالث فيعلو، ويأخذ به رجل آخر فينقطع، ثم يوصل له فيعلو، ثم قال: والله يا رسول الله، أو قال: أخبرني يا رسول الله هل أصبت؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فقال: والله يا رسول الله لتخبرني ما أصبت وما أخطأت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا تقسم ولم يخبره} فهذه الرؤيا هي عبارة عن تفسير لما وقع فيما بعد من موت النبي صلى الله عليه وسلم شهيداً في سبيل الله عز وجل بسبب الأكلة التي أكلها بخيبر، ثم ولاية أبي بكر وقيامه بالحق، ثم ولاية عمر وقيامه بالحق، ثم ولاية عثمان وما حدث له بعد ذلك من المصائب، ثم استشهاده في سبيل الله عز وجل إلى غير ذلك.(45/6)
الفراسة
والفراسة يقول الله عز وجل فيها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] فمن أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يكون فيهم تفرسٌ، وفراسةٌ تصدق في استقراء الأحداث، وتوقع ما يجري، يلهمه الله تعالى إلهاماً، فتأتي توقعاته مطابقة للواقع أو قريبة من ذلك، بسبب ما أعطاه الله تعالى من زكاة القلب، وصدق الفراسة، وصلاح الباطن.(45/7)
الفأل الحسن
من القرائن أيضاً الفأل الحسن، وهي الكلمة الطيبة يجريها الله تعالى على لسان العبد الصالح، فكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلنها حرباً على الطيرة والتشاؤم باعتبارها عادات الجاهلية، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل بالكلمة الطيبة، ومثله الرؤيا الصالحة وما أشبه ذلك، فكان يتفاءل صلى الله عليه وسلم بالأسماء الحسنة والكلمات الطيبة، سواء كانت اسم شخصٍ أو اسم بلدٍ أو ما أشبه ذلك.(45/8)
صدق الدعاء
من القرائن أيضاً: صدق الدعاء، فإن العبد أحياناً يستطيع أن يتوقع -بإذن الله تعالى- بعض ما تخبئه الأيام المقبلة من جرَّاء دعوةٍ صادقة، تخرج من قلبٍ محترق، فيظن أن يحدث كذا، أو يهلك الله طاغيةً مثل أن ينصر مجاهداً، أو يبين حقاً أو يكشف زيفاً، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول فيما صح عنه: [[إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن أحمل هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء، كانت معه الإجابة]] يعني رضي الله عنه بكلمته تلك أن العبد أحياناً يشعر بصدق الدعوة إذا خرجت من قلبه وحرارتها، فيحس كأن أبواب السماء تفتح لها، ويثق بإذن الله تعالى سيجيب له هذه الدعوة.
وإني لأدعو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع ومن ذلك أيضاً: أشياء كثيرة يتوقع الإنسان بها بعض ما تخبئه الأيام، هذه الأمور السابقة كلها تجتمع على أمر واحد، هي أننا لم نتعبد بشيءٍ من هذه الأشياء، بل هي محض فضل من الله عز وجل، فليس مطلوباً من الإنسان أن يجلس في انتظار فراسةٍ صادقة، أو رؤيا صالحة يبني عليها تصرفاً معيناً، أو يتبع فألاً يحدث له، لكن إن جرى هذا الأمر على لسان أحد، أو رأى أحد رؤيا صالحة؛ فإنه يفرح بها ويستبشر.(45/9)
قرائن معرفة المستقبل أمورٌ ليست تعبدية
إذاً: خلاصة الكلام في مثل هذه القرائن أنها ليست مما تعبد به العبد، فيجلس في انتظار رؤيا صالحة أو فراسةٍ أو إلهامٍ من رجل صالحٍ أو دعوةٍ صادقة ينتظر نتيجتها، هذا كلامٌ مطلوبٌ من الإنسان أن يفرح به إن وقع، ويسر به ويأنس له، ويعتبره من حسن الظن بالله عز وجل، لكن ليس مطلوباً من الإنسان أن يتعبد بانتظار رؤيا صالحة، أو فأل حسن، ولذلك قال العلماء: الفأل الحسن إن وقع يفرح به، لكن لا يطلبه الإنسان، أما الدعاء فلا شك أن الإنسان متعبدٌ بأن يدعو الله تعالى، لكن الدعاء هو أحد الأسباب التي يفعلها الإنسان، ويضيف إليه الأسباب الأخرى، كما ورد [[أن عمر رضي الله عنه مر بإبلٍ جرباء، فقال: ماذا تصنعون بها؟! قالوا: هاهنا امرأةٌ صالحة نأمرها فتدعو الله عز وجل بالشفاء لها، فقال لهم عمر رضي الله عنه: اجعلوا مع دعاء العجوز شيئاً من القطران]] اخلطوا مع دعاء العجوز شيئاً من القطران، لا بأس بدعاء العجوز، لكن لا بأس أن نفعل معه سبباً طبيعياً مما جعل الله تعالى وعلق النتائج عليه.(45/10)
التحدث عن المستقبل في السنة النبوية
ومن جهة ثانية: فإن أمامنا مجموعة كبيرةً من النصوص الحديثية، الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي تتعلق بالحديث عن أمور مستقبلية، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستقع لهذه الأمة، وهي ما يسميه العلماء -علماء الحديث خاصة، يسمونها أخبار الملاحم أو أخبار الفتن، وقلّ كتابٌ من كتب الحديث كـ البخاري أو مسلم أو السنن أو غيرها، إلا وتجد فيه باباً خاصاً لهذه الأحاديث، أبواب الفتن والملاحم يتكلمون فيها عما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن أمورٍ مستقبلة، الله تبارك وتعالى أعلم متى تقع منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى قيام الساعة، ويكفي أن أذكر في مثل هذه الأحاديث أن جماعة من العلماء أفردوها بالتصنيف، منهم الإمام أبو عمرو الداني صنف كتاباً لا يزال مخطوطاً اسمه السنن الواردة في الفتن، ومنهم نعيم بن حماد له كتاب في الفتن هو مخطوط أيضاً في حدود ما أعلم، ولا شك أن من هذه الأحاديث أحاديث الملاحم والفتن، الأحاديث المتعلقة مثلاً بظهور المهدي أو عيسى بن مريم، أو الدجال أو غير ذلك.(45/11)
كيفية معاملة هذه الأحاديث
إن طريقة التعامل مع هذه النصوص المتعلقة بأمور مستقبلية هي طريقة حساسة جداً، فإنها هي الأخرى مما لم نتعبد بانتظاره وترقبه، بل هي غيوب يجريها الله تبارك وتعالى متى شاء ومتى أراد، ولذلك كانت توقعات بعض السابقين، لهذه الأمور غير مطابقة للواقع، فمثلاً المهدي والمسيح بن مريم -عليه السلام- منذ زمن طويل والناس يترقبون ظهورهما، حتى إن الإمام العراقي قال في منظومته في المجددين لما عدّ المجددين، وصل إلى القرن الثامن فقال:- والظن أن التاسع المهدي من ولد النبي أو المسيح المهتدي فالأمر أقرب ما يكون وذو الحجا متأخرٌ ويسود غير مسود فكان يتوقع أن يكون المهدي، أو عيسى بن مريم هو مجدد القرن الثامن، أو مجدد القرن التاسع، وقد تبين بالدلالة دلالة التاريخ القطعية أن هذا الظن في غير محله، وكذلك ظن غيره ممن توقعوا مثل الأمر، ومثل الأحاديث الواردة في الكلام عن آخر الزمان، كحديث: {إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فعليك بخاصة نفسك} فإنك تجد عالماً تكلم عن هذا الحديث ربما في القرن الرابع أو الخامس، فقال: وقد صح هذا في زماننا، فإننا نرى كيت وكيت وكيت، فيأتي عالمٌ آخر في القرن السابع فيقول: رحمة الله على فلان، كيف لو رأى ما نحن فيه الآن؟! إنهم كانوا في خير كثير بالقياس على ما نحن فيه، وهكذا، فهذه ظنونٌ وتوقعاتٌ وحدس، قد لا يكون أحدٌ مصيباً فيها على كل حال.(45/12)
المطلوب من المسلم تجاه الأمور المستقبلية
إننا أيها الإخوة: نميل أحياناً إلى شيء يعفينا من العمل والتفكير في المشكلات، خاصةً إذا ادلهمت الأحداث واحلولك الظلام، وحينئذٍ يحس الإنسان أنه يجب أن ينتظر وافداً من خارجه، يجلو الله تبارك وتعالى به عنه المحنة والغمة، وهذا لا شك آية العجز والفتور وضعف الهمة، فنحن كما أسلفتُ لسنا مطالبين بأن نجلس في انتظار مجيء المهدي، أو مجيء عيسى بن مريم عليه السلام ولا شك بأننا نؤمن بنزول عيسى، بل الأحاديث فيه متواترة ودلالة القرآن عليه ظاهرة، وكذلك نؤمن بخروج المهدى في آخر الزمان، والأحاديث فيه كثيرة، وقد صرح جماعةٌ من العلماء أيضاً بأنها متواترة؛ لكن ليس في النصوص الشرعية ما يدل على أننا نتعبد بانتظار هذا أو ذاك، بل هذا مهرب نفسيٌ لطيفٌ نلوذ به، ونلبي به رغبة في نفوسنا، وتدعو إلى تجنب دراسة المشكلات والتفكير في حلها، وتعليقها على أمرٍ من الخارج، وعليه فنحن متعبدون بدراسة أمورنا دراسةً صحيحة، والنظر في واقعنا نظراً سليماً، والبحث عن مخرج وبذل الوسع، وترك ما سوى ذلك لله عز وجل، فهو الذي يحكم في أمر الغيب بما يشاء.
بل أقول أيها الإخوة: حتى هؤلاء الموعود بهم، كالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام والمهدي، حتى هؤلاء الموعود بهم، لن ينزلوا على أمةٍ منهكة متهالكة متآكلة، فإن الله تبارك وتعالى وحده هو الذي يحيي الموتى، بل سينزلون على أمةٍ يجدر بها أن يقودها مثلهم، وكما أن الله عز وجل ذكر في كتابه أنه يولى بعض الظالمين بعضاً، فكذلك هو يولي بعض الصالحين بعضاً، فمتى كانت الأمة فيها صلاح وخير وقوة وجدارة، قيض الله تعالى لها من يحكمها، ممن يكون مهدياً ولو لم يكن هو المهدي المنصوص عليه في الأحاديث، لكن يكون مهتدياً بسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هذا من جهة ثانية.(45/13)
المستقبل لهذا الدين
ومن جهة ثالثة أيضاً، فإننا يجب أن نعلم علماً قطعياً يقينياً لا يرتابه شك أن المستقبل لهذا الدين، وذلك بدلالة القرآن والسنة والتاريخ والواقع والفطرة والأحاديث والأدلة في ذلك كثيرة، سواء كان من الناحية الشرعية أم من الناحية التاريخية أم من الناحية الواقعية، وسواء كان في واقع الأمة الإسلامية التي بدأت تستيقظ، أم واقع الأمم الكافرة التي بدأت تئن تحت مطارق المادية، وتتطلع إلى حضارةٍ جديدةٍ تنقذها من مهاوي الرذيلة.
إذاً الكلام في مستقبل الإسلام وأن المستقبل لهذا الدين، هو أمر مفروغ منه، ولا يحتاج إلى إفاضة أو بيان.(45/14)
غفلة المسلمين عن دراسات المستقبل
على رغم أن الدلائل الشرعية -التي أسلفت- تدل على أهمية النظر للمستقبل والإعداد والتخطيط له، فإن المسلمين في كثير من الأحيان غفلوا عن إدراك الواقع بالبصيرة فيه، وغفلوا عن معرفة أبعاد هذا الواقع، ومعرفة الأحداث ومجرياتها، وما وراءها، فضلاً عن أن يستطيعوا استقراء المستقبل وأخذ الأهبة والحيطة والحذر، فضلاً عن التأثير في الأحداث بصورةٍ حقيقية، ومع الأسف أننا نجد أن الغرب قد سبقنا في مجالاتٍ منها هذا المجال، فإنهم في الغرب يهتمون بالدراسات المستقبلية بشكل غريب، وقد أصبحت تلك الدراسات علماً مستقلاً بذاته يسمونه علم المستقبل، ويخصصون له الجامعات والمراكز والأندية، من ذلك مثلاً نادي روما، الذي أعد دراسات، منها: دراسة أجريت ونشرت تحت عنوان: "أحوال العالم" متوقعٌ فيها عدداً من الكوارث التي تسعى إليها البشرية، مثل كارثة الانفجار السكاني، أو كارثة نضوب الموارد الطبيعية، أو كارثة نقص الأغذية، أو كارثة الأسلحة النووية والكيماوية وتضخمها، بما يكفي لإبادة البشرية كما ذكروا في تقريرهم، ليس هذا موضع دراسة نتائجهم، وإنما المقصود أن هذا نموذجٌ لدراساتهم.
ومثله الدراسة التي أعدتها جامعة "ساسكس" وهي إحدى الجامعات في جنوب بريطانيا، ونشرت أيضاً، وكانت هذه الدراسة قد أجراها فرقٌ من الباحثين، كلما انتهى فريقٌ تولاها فريقٌ آخر، واستمرت على مدى ثلاثين عاماً، ثم نشرت وكان من ضمن النتائج التي توقعوها في تلك الدراسة أن الحضارة الغربية آيلة للسقوط، وأنهم يقولون: أن البديل هو توقع حضارةٍ تخرج مما يسمونه بالعالم الثالثة، تحتاج إلى جرأة وشجاعة وتغيير جذري في واقع ذلك العالم لإنتاج حضارة جديدة تحقق متطلبات الإنسان، إضافة إلى دراساتٍ كثيرة، قامت بها معاهد متخصصة، كمعهد المستقبل الذي يقوم عليه هملر ومعهد "هدسون" والمؤسسات المستقبلية، والجمعية الدولية لدراسات المستقبل، والتي يعد المنتسبون إليها بالألوف.
إضافةً إلى مؤتمرات ونظريات ودوريات ونشرات ومجلات، في أوروبا وأمريكا وبريطانيا، جعلت همها دراسة الإنسان والمستقبل، والعناية بذلك عنايةً كبيرة.(45/15)
ما يملكه المسلمون لدراسة المستقبل
وبطبيعة الحال نحن المسلمين نملك من إمكانيات دراسة المستقبل ما لا يملكون.
أولاً: نملك النواميس والسنن الكونية التي نجدها في القرآن الكريم والسنة النبوية، وهذه ليست في منظورهم.
ثانياً: نملك من صحة الحدس والنظر وصدق الفراسة والقرائن الأخرى ما لا يملكون، ومع ذلك فإن الدراسات الإسلامية في هذا المجال قليلة، أذكر منها -في حدود ما اطلعت عليه- كتاباً أصدره الدكتور محمد جابر الأنصاري، في البحرين بعنوان العرب والعالم عام (2000م) وقد نشر هذا الكتاب، وتوقع من خلاله ظهور حضارة جديدة يقوم عليها ما سماه المؤلف بالحضارة الصفراء، ويقصد أن يقوم على هذه الحضارة الجنس الأصفر اليابان والصين والدول المحيطة بها وتكون وريثة للحضارة الغربية، وكأنه يتوقع أن تكون جسراً تعبر من خلاله الحضارة بعد ذلك إلى هذه الأمة الإسلامية ومثل كتابات الدكتور رشدي فكار فقد كتب عن المسلمين وتحديات المستقبل، ومروان بحيرى كتب العرب والعالم عام (2000م) ، والدكتور النفيسي كتب أيضاً حول الصحوة ومستقبلها، إضافةً إلى كتابات متفرقة هنا وهناك.(45/16)
أهمية قضية المستقبل
لكن لاشك أن الكلام عن قضية المستقبل، مستقبل المسلمين عامةً، ومستقبل الدعوة الإسلامية خاصةً، هو من القضايا الخطيرة التي تحتاج إلى اجتهادات جماعية ودراسات ومؤتمرات حتى تصل إلى بعض النتائج، ولا أقصد بالنتائج أن نأتي ونقول: إن الصحوة الإسلامية والدعوة الإسلامية عام كذا سوف يحدث لها كذا وكذا، عبارة عن تنبؤات، هذا ليس مجدياً وليس مهماً، لكن الشيء المهم هو أن نرسم ما يجب أن نفعله للمستقبل، نرسم التحديات التي تواجه الأمة في مستقبلها، حتى نستعد لها في وقت مبكر.(45/17)
علاقة المستقبل بالماضي
وهناك سؤالٌ يطرح نفسه قبل ذلك: هل يدرس المسلمون أحداث الماضي؟ لأن المستقبل يولد من رحم الماضي، فالمستقبل هو امتدادٌ للحاضر، والحاضر امتدادٌ للماضي، وعليه فهل نحن ندرس أحداث الماضي دراسةً صحيحة؟ العقد الماضي مثلاً، أين الدراسات التي تحدثت عن مكاسب الإسلام فيه؟! أو عن خسائر الأمة الإسلامية، عن الخطأ والصواب، عن الصحيح من غيره؟! أين الدراسات التي تقوّم أعمال المسلمين خلال العقود الماضية، وتحاول أن تضع النقاط على الحروف، لتبين ما هو الخطأ الذي يجب أن يصحح وما هو الصواب الذي يجب أن يستمر، في الواقع لا يزال المسلمون -أيها الإخوة- تسيرهم عواطف تحركهم نحو أحداث الحاضر بدون وعيٍ، فهم يغرقون في مشكلات الحاضر، فلا يفكرون في جذورها لإزالتها، ولا يفكرون في حلولها المستقبلية.
مثال: إنسان يصيبه الصداع مثلاً ويؤلمه حتى لا يستطيع أن ينام من ألم الصداع، فتجد أن كل ما يفكر فيه، هو أن يأخذ حبوباً مهدئة تجعله يتمكن من النوم براحةٍ أو يتحدث براحة، أو يأكل أو يشرب أو يجلس بصورةٍ طبيعية، لكن أن يفكر في أسبابِ هذا الصداع، التي قد تزيد على اثني عشر سبباً من أجل إزالة هذه الأسباب، لا يفكر بذلك، أو يفكر أيضاً في حلولٍ مستقبلية، فإنه لا يفكر، إنما يفكر في لحظته الحاضرة، فإذا زال عنه الألم بدأ يمارس أعماله بصورةٍ طبيعية، ونسي هذا الألم الذي كان يعاني منه.
مثال آخر: إنسانٌ مسه الجوع وألمه فأصبح يتلوى منه، وينصب همه على لقمة عيشٍ تسد جوعته، وتجعله يتصرف بصورةٍ طبيعية، لكن هل يفكر ما الذي آل به إلى هذا المستوى من الفقر والمسغبة والمتربة؟ لا! أو هل يفكر بالحلول المستقبلية التي تجعله يخرج من هذه الأزمة؟ أيضاً لا! كل همه أن يجد لقمةً حاضرةً يسد بها جوعته، فإذا شبع قال لك: أنا يكفيني رزق اليوم، أما المستقبل فله ألف حلاّل كما يقولون.(45/18)
كيف نصنع مستقبل هذا الدين
والحقيقة التي تحتاج منا إلى دراسة، هي كيف نصل لهذا المستقبل؟ وكيف نستطيع أن نصنع هذا المستقبل؟ فإننا نعلم أن الله عز وجل يريد منا أن نبذل ما في وسعنا إلى الوصول إلى هذه النتيجة، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنوا واقع الإسلام، نصروا الإسلام نصراً مؤزراً حتى دانت له الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، وحتى نزل قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وأنزل قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه سعوا وخططوا وبذلوا وتعبوا، حتى صنعوا هذا النصر لهذا الدين، كذلك المطلوب منا بعد أن علمنا أن الله تعالى آتٍ بالنصر لهذا الدين لا محالة أن يكون دورنا وجهدنا هو السعي لتحقيق النصر، وصناعة المستقبل بإذن الله تعالى لهذا الدين.(45/19)
أسباب الاغتراب في نظرة المسلمين لمستقبلهم
نقطة خامسة أيضاً: مما يزيد من الضبابية والاغتراب في نظرة المسلمين لمستقبلهم ولواقعهم ولماضيهم أمور:-(45/20)
التعتيم على الماضي
نقطة أخرى تؤثر في نظرنا للماضي، وبالتالي في نظرتنا للمستقبل، وهي قضية التعتيم على الماضي، وعلى أحداثه وأوضاعه، سواء التعتيم على المستوى الرسمي، أو التعتيم على المستوى الدعوي، في كثيرٍ من الأحيان، لابد من الاعتراف بالخطأ، والاعتراف بالخطأ فضيلة، وليس يعيب الإنسان أياً كان موقعه -سواء كان مسئولاً أو حاكماً داعية أو عالماً- أن يعترف بخطئه، ويقول: إن الأمر كان كذا وكذا، وفي تصورنا كذا وكذا، وجاءت النتائج مخالفة لما كنا نتوقع، هذا لا يضر، ومن هو الذي لا يخطئ؟! الذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل، أما الذي يعمل فلابد أن يقع في الخطأ، وقضية نقد الذات، ونقد النفس لابد منها، كم واحداً منا يملك الشجاعة فينتقد نفسه أو ينتقد واقعه أو تاريخه أو ماضيه، وبالتالي يملك أن يراجع مسيرته؟ يراجع الأوراق ثم يصحح الأخطاء، لابد من الرجوع إلى التفسير الشرعي للأحداث، وأحب أن أضرب لكم بعض الأمثلة.
مرت الدعوة الإسلامية في تاريخها القريب بمحنٍ كثيرة في معظم البلاد الإسلامية، ومن خلال هذه المحن زج بالدعاة في غياهب السجون، وعلق جماعة منهم على أعواد المشانق، وشرد منهم من شرد، وأصبحت أحداثهم أحداثاً دامية، يرويها التاريخ في مصر، وفي بلاد الشام، وفي فلسطين، وفي الفلبين، وفي مناطق كثيرة جداً، ولا يكاد يوجد بلد إسلامي إلا وتعرض الدعاة فيه إلى محنة، بل إلى محن، كيف ننظر إلى هذه المحن التي ابتلينا بها، كثيراً ما نخرج من المسئولية بأن نقول: إن هذا ابتلاءٌ وامتحان، وقد وعد الله تعالى من يكون على الطريق الصحيح، أن يبتليه ويمتحنه، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة:16] إلى غير ذلك من الآيات، ثم نخرج وكأن المحنة ما هي إلا ابتلاءٌ وتمحيصٌ محض، وليس لنا فيها يد، وهذا جزء من الواقع صحيح لاشك فيه، لكننا غفلنا عن الجزء الآخر المتعلق بمسئوليتنا نحن عن قضية المحنة، قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11] وفي الآية الأخرى قال تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] وفي الآية الثالثة قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] .
إذاً: المصائب والنكبات العامة التي تنزل بالأمم وبالدول وبالجماعات وبالطوائف، هذه المصائب لابد لها من أسباب، أما مصيبة الفرد، فقد يكون لها سبب، وقد تكون تمحيصاً كما قال عليه السلام: {أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل} قد يكون تمحيصاً ورفعةً للدرجات، لكن المصائب العامة التي تنزل بالأمم، لها جانب مسئولية في الأمة نفسها، وفي الطائفة نفسها، وفي الدولة نفسها، فنحن نغفل عن هذا الجانب الذي نحن مسئولون عنه، ونقول: هذا ابتلاءٌ وامتحانٌ من الله تعالى وليس دورنا فيه إلا الصبر، الصبر مطلوب، لكن أيضاً مراجعة الأخطاء، فقد نكون تعجلنا في خطواتٍ كانت سبباً في المصيبة، أو سلكنا طريقاً غير صحيح، أو قصرنا في اتخاذ الأسباب، أو غفلنا عن التوكل على الله عز وجل، وتفويض الأمور إليه، واعتمدنا على أسبابنا ووسائلنا، فوكلنا الله إلى أنفسنا إلى غير ذلك من الأسباب التي يمكن أن نستقرئها من خلال دراسة المحنة، ومعرفة دورنا في هذه المحنة.
مثال آخر قلة الأتباع: رأيت كثيراً من الدعاة حين ينظر إلى من حوله فيجد قلةً في من يتبعونه، فيقول: هذه هي السنة، سنة الله تعالى في الأمم، ثم يسرد لك الآيات الواردة في القرآن الكريم، فيقول لك: قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ويستدل لك بقول النبي عليه الصلاة والسلام: {ويأتي النبي وليس معه أحد، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان} ثم يخرج وكأنه حينئذٍ يقول: قلة من يتبعونني في الدعوة ليست لتقصيرٍ عندي، ولكن هذه سنة إلهية، أي ليس لي أي دورٌ فيها، وهنا تأتي الخطورة، وهو أننا قد نجبن عن مواجهة أنفسنا بالحقائق، مع أن هذه الآيات الواردة هنا هي في شأن الكفار، أما هذه الأمة المحمدية فقد ثبت بدلالة الشرع والتاريخ والواقع أيضاً أنها أمة معطاءة، أليس الرسول عليه السلام قال في نفس الحديث، حديث عمران قال: {ثم رفع لي سوادٌ عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر فنظرت فإذا سواد قد سد الأفق، فقيل لي: هذه أمتك، وفيهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب} وفي رواية أخرى قال ابن حجر: سندها حسن: {ومع كل ألف سبعون ألفاً} إذاً هذه أمة العطاء وأمة البذل وأمة القبول، وحين يرتفع في هذه الأمة صوتٌ صادقٌ للدعوة، تلتف حوله الأمة ولابد على مدار التاريخ، ولما كانت هذه الأمة في الجاهلية، كانوا في سوق عكاظ والمجنة وذي المجاز، كل شاعرٍ يجتمع حوله عشرة أو عشرون لكن لما قام الرسول عليه الصلاة والسلام بدعوته اجتمع حوله في حجة الوداع -كما ذكر الحاكم أبو عبد الله وغيره- ممن سمعوا خطبته أكثر من مائة وأربعة عشر ألفاً، يستمعون خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، أولُ مرةٍ يجتمع مثل هذا الحشد، ثم ورث هذا السر أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحنا نجد مثلاً الإمام أحمد يحضر مجلس درسه ما يزيد على خمسة آلاف إنسان، هذا مجلس فقه وحديث وسنة، ومجلس وعظه يحضره ما يزيد على خمسة آلاف، ويحضر جنازته ألوف مؤلفة لا يحصيها العد، ثم يأخذ الراية بعده أئمة كُثُر، خذ منهم ابن الجوزي مثلاً كم كان يحضر مجلس وعظه؟ ذكروا أنه كان يقدر بعشرات الألوف، وقد يُسْلم في المجلس الواحد عشرات من أهل الذمة، ويتوب مئات من المؤمنين الضالين، ابن تيمية رحمه الله كيف كانت قلوب الأمة تلتف حوله؟! إذاً: ليس بصحيحٍ أن نخرج من قلة الأتباع بأن نقول: هذه والله سنة الله تعالى، ونسوق الآيات الواردة في شأن الكفار، وأنهم أكثر أهل الأرض، ثم نطبقها على أنفسنا، لا، فقد تكون قلة الأتباع لهذا الداعية أو ذاك، ترجع إلى أسباب تعود إليه هو، مثلاً قد يكون ذلك لغياب القدوة، لأن هذا الداعية ليس على مستوى القدوة، فيدعو إلى شيءٍ لا يطبقه في نفسه، وقد يكون السبب لأجل قسوة الشروط أحياناً، فالداعية يريد من الناس أن يلتزموا بشروطٍ صعبة لا يقبلها أي إنسان، يريد إنساناً على مستوى معينٍ ذكاء معين، وطاعة معينة، وانقيادٍ معين، واستعدادٍ معين، والناس كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {كإبل مائة لا تجد فيها راحلة} إذاً قسوة الشرط قد يكون من أسباب قلة التابع إلى غير ذلك.
مثال ثالث: ضعف التأثير من الداعية في الناس، يدعو فيجد أن أثره ضعيف، يرجع يقول: هذا أمر طبيعي أليس الرسول عليه السلام لما ذكر الغرباء قال: {من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم} إذاً هذا أمر طبعي ولا غرابة فيه، وينسى أن هذا الأمر قد يكون بسبب ضعف المؤثر، أو ضعف الوسيلة التي يستخدمها في الدعوة، أو عدم القدرة على الوصول إلى نفسية المتلقي وعقله وقلبه وفكره إلى غير ذلك.
مثال رابع: قضية المفاجأة بالأحداث والنتائج، نفاجأ بأحداث كثيرة، لعل أحداث الساعة، من الأحداث التي فوجئ بها الجميع، وقبلها أحداث كثيرة وقعت على كافة المستويات، إذا فوجئنا بها نلوذ ونحتج بالقدر، ولاشك أن الله تعالى ذم المشركين على احتجاجهم بالقدر، في ثلاثة مواضع من كتابه، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] بل الإنسان المؤمن مسلكه مسلك أبيه آدم عليه السلام، صحيحٌ أنه يؤمن بأن هذا كله بقضاء الله وقدره، لكن لا يمنع هذا أن يكون هناك أسبابٌ أوصلت إلى هذه النتيجة، ويجب العمل على إزالة هذه الأسباب، ولذلك من آمن بالأسباب وعملها، وآمن بالقدر؛ فهو مؤمن موحد على مذهب آدم عليه السلام ومن يشابه أباه فما ظلم! لابد أن ننازع القدر بالقدر، كما قال بعض أهل العلم: ننازع الجهل بالعلم، والفقر بالمال، والمرض بالعلاج، والفوضى بالتخطيط، والتعتيم ننازعه بالمكاشفة والتعبئة، ولابد من تحديد المسئولية بدقة، كلنا مسئولون -لاشك- عما يقع لنا على مستوى الأمة، لكن درجة المسئولية تتفاوت، فليست مسئولية الفرد العادي كمسئولية العالم، أو كمسئولية الحاكم، أو كمسئولية المفكر، بل كل إنسان يتحمل من المسئولية بقدر طاقته.
أما تحميل المسئولية لجهةٍ معينة، كالحكام أو العلماء، فهذا أيضاً من المهارب النفسية التي نلجأ إليها للخروج من أزمة معينة، ونطلع نحن أبرياء، وقد نحتج بالحديث الضعيف الذي رواه أبو نعيم: {صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء} وهذا الحديث لا يصح سنداً ولا متناً، وبناء على تحديد المسئولية، نكون جميعاً مطالبين بالعمل على الخروج من الأزمة، كل في مجال اختصاصه، كل متخصصٍ في مجالٍ يقدم ورقة، ويرفع راية، ويخط طريقاً، ويجر وراءه من يستطيع.(45/21)
عدم تحديد الهدف بدقة
أولها: عدم تحديد الأهداف بدقة، وهذه مشكلة يعانيها المسلم على المستوى الفردي، وعلى المستوى الاجتماعي، ففي تصور كثيرٍ من الدعاة إلى الله عز وجل، أن الهدف يتلخص فيما يسمونه بالحل العسكري، حركة جهادٍ تقوم هنا أو هناك لمجاهدة الكافرين والظالمين والقاسطين، ثم بعد ذلك تقوم دولة الإسلام، وتبدأ ببسط سلطانها وهيمنتها على الأرض، ولاشك أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ولاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة والتي تليها كما بين السماء والأرض، أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله} ولاشك أيضاً أن الجهاد شريعةٌ ماضيةٌ إلى قيام الساعة، لا يمنعه فجور الفجار ولا ظلم الظالمين ولا قسط القاسطين؛ ولكن الإسلام دينٌ مهيمنٌ على كل شيء، والجهاد يجب أن يكون في جميع الاتجاهات، والجهاد يجب أن يكون في كل ميدان.
ولا بد هنا من التخصص في جميع المجالات، فمثلاً: في مجال التخصصات الشرعية، فلاشك أن العلماء والفقهاء الشرعيين هم الكواكب الذين تسير الأمة على هديهم، وتقتبس من نورهم، ويوم تغيب هذه النجوم، فإن الأمة تتيه في صحراء لا هادي فيها ولا دليل لها، ولذلك فإن التخصص في مجال الدراسات الشرعية من ضمن الأهداف التي يجب أن تضعها الأمة في قائمة الأولويات، وذلك بأن ينبري وينبعث من بين شباب الأمة وشباب الصحوة طائفة كما قال تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] .
والتخصصات العلمية الأخرى: كالطب والهندسة والعلوم والاقتصاد، كل هذه تحتاجها الأمة، وتحتاج إلى متخصصين فيها، وتحتاج الدعوة إلى كوكبةٍ من المتخصصين يصدقون ما يقوله العالم الشرعي، فإذا قال العالم الشرعي: الكلام والحكم كذا وكذا وكذا، قال له الطبيب: صدقت، وقال له المهندس: صدقت، وقال له الاقتصادي: صدقت، وقال له المتخصص في كل مجالٍ: صدقت، حتى ليقول العلماني، عدو الإسلام حين يرى أن الأصوات تنادت عليه من كل مكان، تؤيد وتصدق ما قاله عالم الشرع، حتى ليقول كما قال أبو جهل: هذا أمر دبر بليل.
خذ مثلاً حين يتكلم العالم عن خطر الزنا، يستطيع أن يأتي بالنصوص الشرعية والأحاديث النبوية، ويفيض في ذلك ويبين عواقبه في الدنيا والآخرة، وما ورد في ذلك، حتى أن المؤمن بالله واليوم الآخر يقشعر بدنه ويخاف، لكن هناك الكثير من الناس لم يصل إليهم هذا الكلام، ولم يصل إلى قلوبهم، فنحتاج حينئذٍ إلى طبيبٍ يصدق كلام العالم، فيقوم يتحدث -مثلاً- عن الأمراض الجنسية: الهربز، والإيدز، والكلاميبيا، وغيرها من الأمراض الجنسية الفتاكة التي أصبحت إحصائياتها ترعب أكفر الناس وأكثرهم طغياناً وصفاقةً ووقاحةً وجرأةً على الله تعالى، تجد الطبيب يقوم فيصدق كلام هذا العالم من خلال ميدانه في الطب، ومن خلال معلوماته واختصاصاته.
مجالٌ آخر: وهذا مثالٌ قد يكون قريباً من واقعنا ويمسنا كثيراً، قضية الجن أو العين -مثلاً- هذه القضية قد يجلس العالم زماناً طويلاً يقنع بها كثيراً من الناس فيقتنعون، وقد يكون من بينهم من لا يزال في قلبه حُسيكة، بل قد يكون منهم من لم يسمع هذا الكلام، وقد يتعلق بأقاويل لبعض المنسوبين إلى العلم في مثل هذه الأمور، لكن ما رأيك حين يقوم الطبيب من خلال ميدانه وعمله ومرئياته ومختبراته، ليصدق كلام هذا العالم، ويحقق بعدما يقوم بكشوف وتحريات على هذا المريض، فيقول له: كل هذه التحاليل والكشوف كلها أثبتت أنه ليس فيك مرضاً عضوياً يمكن أن يخضع للتحليل والطب البشري، فبقي عليك الطب الشرعي، فتلجأ إلى الرقية وإلى القراءة وإلى الذكر وإلى الأوراد الشرعية التي تستعيذ بالله من خلالها، من شر شياطين الإنس والجن، فكم يكون وقع مثل هذا على نفسية المريض؟! بل على نفسية المجتمع كله؟ وقل مثل ذلك من الناحية العملية فقد، يتحدث العالم طويلاً، عن قضية خطورة الاختلاط والتبرج، ووجوب التستر وما أشبه ذلك بكلام قوي مدعم بالدليل من الكتاب والسنة وأقوال السلف والآثار، وفيه مقنع لمن أراد القناعة، لكن مع ذلك يبقى الواقع واقعاً مريراً، فإذا جاء الواحد منا إلى مستشفى، أو إلى مستوصف أو ميدان أو مختبر أو جامعة أو كلية، ووجد فيها من ألوان الاختلاط الشيء الكثير الذي لا قبل له به، فنظل نقلب أيدينا ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، لكن من خلال وجود هؤلاء المتخصصين، الذين نذروا أنفسهم في كل ميدان، واعتبروا أنفسهم مصدقين لكلمة الشرع، نستطيع أن نغير هذا الواقع تغييراً عملياً، فإذا قال عالم الشرع كلمته في تحريم الاختلاط -مثلاً- أو تحريم التبرج والسفور، وجدنا أنه ينبري كوكبة من الأطباء ليقوموا عملياً بفصل تطبيب الرجال عن تطبيب النساء، فهذه كوكبة من الأطباء أفلحت ونجحت في تكوين وإقامة مستشفى خاص بالنساء، طاقم المستشفى من ألفه إلى يائه طاقم نسائي، ويثبت للناس عملياً أن هذا ممكن وليس مستحيلاً، وكيف يكون مستحيلاً في بلاد الإسلام ونحن نعرف أنه في بلاد الغرب أصبح واقعاً عملياً، جامعات مخصصة للنساء، وفنادق مخصصة للنساء، ومستشفيات خاصة للنساء، هذا في أمريكا وبريطانيا وألمانيا، وأخبار تقرءونها في الصحف، فيصدق المتخصص في أي مجالٍ ما يقوله عالم الشرع ويطبقه تطبيقاً عملياً.
وقل مثل ذلك في مجال الاقتصاد فكم يتحدث العالم عن الربا، وخطر الربا، وضرر إقامة الاقتصاد على الربا، وخطر التفاوت الكبير بين الطبقات في توزيع الثروة، ووجوب العدل، وتحريم الظلم، إلى غير ذلك، لكن يبقى الواقع في بعض الأحيان وفي بعض المجالات يبقى الواقع بعيداً عن ذلك، لكن نحتاج مع ذلك إلى من يصدق كلام هذا العالم ويحوله، لأنه ليس صحيحاً أن نتوقع أن العالم الشرعي بيده كل شيء، يكفي في مهمة العالم الشرعي أن يبين لنا هذا الطريق، ثم نحن نسير وراءه، فيبقى دور المتخصص في الاقتصاد، أن يبين من خلال الدراسات والتحاليل والتقارير الواقعية المبنية على أوضاع العالم الغربي، والبنوك وغيرها، والألاعيب الاقتصادية، أن يثبت صدق ما قاله هذا العالم في واقع الناس، وأنه لابد من أن نقيم اقتصادنا على الأسس الإسلامية، وأن نخلصه من لوثة الربا، التي ما كانت في شيءٍ إلا أفسدته.
وكذلك في مجال الاقتصاد أقول: لابد من التوبة النصوح من الإسراف في تحذير الناس، من الحرص على المال، وترغيبهم في الوظائف، فقد أسرفنا كثيراً في تحذير الناس، من الاشتغال بالتجارة، ونسينا (نعم المال الصالح للعبد الصالح) وركزنا على قضية خطورة المال، وأنه قد يكون سبباً لانحراف الإنسان وفساده وظلمه وغفلته وانشغاله عن الدعوة، أسرفنا في ذلك كما أسرفنا في إغراء الناس بأن يتعلقوا بالوظائف، ويركزوا عليها ويغفلوا عما عداها.
وفيما يتعلق -أيضاً- بالاختصاص، ضرورة الاختصاص نلحظ أن كثيراً من الشباب المتدين، أرادوا أن يحطموا خرافة الصراع بين الدين والعلم التي كانت موجودةً في أوروبا، فدخلوا في الكليات وفي الطب وفي الهندسة وفي العلوم وفي كليات تكنولوجيا الحاسب الآلي إلى آخره، ولكننا بعد ذلك نتساءل: هل نجحنا فعلاً في إقناع الناس بالقضاء على هذه الأسطورة؟ أم فشلنا فوجدنا أننا بعد ذلك نهرب من بعض المجالات وبعض التخصصات؟ تحت عقدة الخوف من الفشل أو الشعور بأننا نسير في طريقٍ مسدود، أو أننا يجب أن نتجه اتجاهاً آخر؟ وأحياناً تقرأ -مثلاً- أن هناك نقابة للأطباء المسلمين، كم عدد أعضاء هذه النقابة ثلاثون ألف -مثلاً- في إحدى الدول، وهؤلاء الثلاثون ألفاً من الأطباء المسلمين ماذا فعلوا لأمة الإسلام؟! ماذا فعلوا للدعوة؟! من المؤسف أن تقول الإحصائيات: إنه ما بين (30% إلى 50%) من هؤلاء يعيشون في بلاد الغرب، ومعنى ذلك أن جهودهم وتخصصاتهم وإبداعهم هو يصب في خدمة صحةِ وعافيةِ الكفار، وأن الأمة الإسلامية قد خسرت هذه الطاقات الهائلة الجبارة المتخصصة، هذا جانبٌ فيما يتعلق بالتخصصات العلمية.
جانبٌ آخر في قضية التخصصات العملية، مثلاً: محو الأمية، سواء أمية الحرف، أي: القراءة والكتابة، أم أمية الفكر والعلم، وذلك من خلال محو أمية الناس في عقائدهم بحيث يتعلمون مبادئ العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومحو أمية الناس في معرفة الأحكام الشرعية التي لابد لهم منها، ومحو أمية الناس في تعليمهم مبادئ التفكير الصحيح، وفي بعض الدول تحتفل منذ سنوات بمرور عشرات السنين على نهاية آخر أمي في تلك الدولة، وفي بعض البلاد الإسلامية لا تزال نسبة الأمية فيها تصل أحياناً إلى (80%) ، ماذا فعلنا لمحو أمية المسلمين؟! ما هو المانع من أن ينبري مجموعة من الدعاة، فيذهبوا إلى تعليم المسلمين مبادئ القراءة والكتابة، وقِصار السور، ومبادئ العقيدة الإسلامية في أي مكان؟ ونعتبر أننا بذلك قدمنا خدمة جليلة للدعوة الإسلامية.
وهناك -أيضاً- تخصص عملي آخر، وهو قضية توفير القوت لما يسمونه بالعالم الثالث، بل هناك ما يسمى بالعالم الرابع، أو ما يسمى بحزام البؤس، حيث يموت كثيرٌ من المسلمين من الجوع، في مناطق كثيرة، وأكثر الشعوب التي تموت من الجوع من الأمة المسلمة!! ما هو المانع أن ينبري كوكبةٌ من الدعاة في التخصص في توفير لقمة العيش للمسلمين؟ ومن خلال لقمة العيش نقدم إليهم الدعوة؟ وهل كتب على المسلمين ألا يتخصصوا في توفير الغذاء والكساء، والصحة والتعليم، وأن يتخصص في توفير ذلك المنصرون، وذلك من خلال جهودهم ومؤسساتهم وأموالهم الهائلة، لاشك أننا يجب أن نحطم ذلك، ونبين أن المسلمين يجب أن يكونوا أحق بذلك، وهؤلاء هم إخوانهم، وفي هذا وذاك لابد من الإحسان والنجاح، حتى نضمن للإسلام أرضيةً خصبةً تسيرُ الأحداث بقوة، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} والحديث رواه البيهقي وغيره وسنده حسن، يتقنه ليس فقط من أجل الصنعة، بل يتقنه لوجه الله عز وجل، وليس فقط من أجل أن يأخذ الناس عنه انطباعاً حسناً، أو حتى لا ينفض من حوله المشترون أو الرواد، بل هذه الأهداف تأتي تبعاً، لأن المؤم(45/22)
رسم الأهداف الصحيحة
أخيراً: إذا أفلحنا في رسم الأهداف الصحيحة، التي نسعى في الوصول إليها، والتوجه إليها بتوازن، دون أن نبرز جانباً على حساب جانبٍ آخر، كأن نبرز جانب الاهتمام مثلاً بعلم من العلوم، سواء كانت علوماً شرعية أم علوماً دنيوية، على حساب جوانب أخرى، أو نبرز في الدعوة على الجانب الأخلاقي، أو جانب الاهتمام بالقيم والسلوك الإسلامية على الجانب الاجتماعي، والاهتمام بمشاكل الناس وحاجاتهم، وتحقيق مطالبهم من لقمة العيش، أو قدرٍ من التعليم كجانب من احتياجاتهم الاجتماعية والدنيوية القريبة، أو الاهتمام بالجانب السياسي أيضاً، أو الاهتمام بالجانب الاقتصادي، فلابد على كل حال أن نهتم بالجوانب هذه كلها متوازنةً، إذا رسمنا الأهداف بدقة، وبدأنا الطريق إليها، فسنجد أننا بعد عقد أو عقدين من الزمان، بعد عشرين سنة أو أقل أو أكثر، سنجد أننا أمام أمةٍ قد دبت فيها الحياة بصورة صحيحة، وعرف المرء فيها سبيله، وأدرك كل إنسانٍ ما هو الدور الذي ينتظر منه، واتجه إليه بقدر ما يستطيع، وركز على ما يحسن وأفرغ جهده في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، وحينئذ تكون الأمة قد قامت بواجب الجهاد على كافة المجالات والأصعدة، وأصبحت أهلاً لأن يتحقق فيها قول الله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] كيف ننصر الله عز وجل؟! ليس معنى (نصر الله) هو فقط أن ننصر الله في معركة حربية، لا بل ننصر الله بأن نحقق الإسلام في مجال الاقتصاد، ونحقق الإسلام في مجال الطب، ونحقق الإسلام في مجال الاجتماع والخدمات الاجتماعية، ونحقق الإسلام في مجال السياسة، ونحقق الإسلام في المجال الفردي، وعلى مستوى الأمة، فإذا فعلنا ذلك كله، وحققنا الإسلام أخيراً في مجال الحرب، فحينئذٍ خضنا الحرب ونصرنا الله؛ لأننا نصرناه في كافة المجالات، فهذا مجالنا الأخير، وهو مجال القتال الذي نحتاج فيه إلى عون الله ونصره، لأننا مهما بذلنا لن نكون على مستوى قوة عدونا، فحينئذ ينصرنا الله عز وجل، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40-41] فقد تثبت الأحداث أحياناً أن الله تعالى لو منحنا نصراً رخيصاً بسبب حرب أو قتال، ما استطعنا أن نقوم بتكاليف هذا النصر وتبعاته، ثم لابد ثانياً من أن ننصر الله عز وجل بعد ما مكننا، فنقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر.
فحين ندرك أننا لم ننتصر في معركة عسكرية، نرجع فنقول: إن الله تعالى علق النصر على أمر مستقبلي، ينصر الله عز وجل من؟ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وما يدريك أنك إن مكنت أقمت الصلاة وآتيت الزكاة؟! قد يكون من بين المؤمنين من لو مكن لنكص على عقبيه، فنحتاج حينئذٍ إلى أن ننصر الله تعالى في واقعنا الفردي والاجتماعي على كافة الأصعدة، وبصورة عمليةٍ صحيحة جادةٍ ومستمرة، وألا نتوقع أن نحصل للإسلام على نصر هينٍ رخيص، يتحقق من خلال معركةٍ نخوضها، ثم نستلم الراية ونبدأ الفتح، فهذا تصور فيه قُربٌ وبساطة، ولا يتناسب مع خط سير الأحداث، أقول هذا القول، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(45/23)
الأسئلة(45/24)
التشاؤم في آلام المسلمين
السؤال
هل من التشاؤم ذكر ما يحيط بالمسلمين من مخاطر من أعداء الله تعالى من النصارى واليهود؟
الجواب
ليس هذا من التشاؤم، لكن ينبغي مع ذلك أن يكون مع الإنسان روح التفاؤل، والبشارة للناس، ينبغي أن يثبت الناس، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة الأحزاب حينما ادلهمت الخطوب وأحاط الأحزاب بالمدينة من كل جانب، قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:11] ومع ذلك لما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بالمعول خرجت النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أُريت فيها قصور بصرى، وفتحت لي كنوز كسرى وقيصر، فبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر، من خلال اشتداد الأحداث: اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج فحين نتحدث عن الأحداث وضراوتها وقسوتها ينبغي ألا نيئس الناس أو نقنطهم، أو نجعلهم يصلون إلى طريق مسدود، لا، بل ينبغي أن نغرس في قلوبهم الثقة بالله عز وجل، وأن المستقبل للإسلام، والسكنية، والطمأنينة، وأن نبين أنه كلما ادلهم الظلام كان هذا دليلاً على قرب انبلاج الفجر.(45/25)
مؤتمر الدراسات المستقبلية للإسلام وغياب طلبة العلم
السؤال
قبل ثلاثة أشهر، أقام مركز الدراسات لمستقبل الإسلام مؤتمراً حول مستقبل الصحوة، في الجزائر، وظهر من خلال المحاضرة أنك تبارك مثل هذه الدراسات وتتحمس لها بعد أن حررت أصالتها الشرعية، كيف ترى ذلك المؤتمر كبداية للدراسات المستقبلية الإسلامية، ولماذا يغيب طلبة العلم عن مثل هذه المؤتمرات؟
الجواب
لعله فاتني أن أشير إلى هذا المؤتمر أثناء المحاضرة، لأنني سمعت خبره في حينه، أما قضية تقييم أو تقويم المؤتمر فهذا يعتمد على قراءة الأوراق التي قدمت للمؤتمر، ومع الأسف لم تصل إلي بحيث أستطيع أن أقومها، وذلك أن الكلام على المستقبل، كالكلام عن الواقع وكالكلام عن أية قضية، قد يأخذ أكثر من منحنى، فقد يعالجه الإنسان بصورة صحيحة وسليمة، وقد يعالجه بصورة بعيدة، فبعض الناس قد يعالجون المستقبل من خلال تصحيح الأوضاع، وهي على الأقل في وجهة نظري قد تكون صحيحة، ومع ذلك يرون تصحيحها، الكلام على المؤتمر سلباً أو إيجاباً يفتقر إلى اطلاعي إلى ما جرى فيه، ولم يَتَسَنَّ لي شيء من ذلك، أما قضية الغياب، فهذا الغياب المسئول عنه الذين ينظمون مثل هذه الأعمال، فإنهم حينما يوجهون الدعوة إلى مجموعات طلبة العلم أو المتخصصين أو المهتمين، فأعتقد أنهم لا بد أن يظفروا ولو ببعض هؤلاء.(45/26)
الصحوة الإسلامية عاطفية أم علمية؟!
السؤال
ما رأيكم بقول أحد العلماء بأن الصحوة الإسلامية صحوة عاطفية، وليست علمية، وما هو السبيل إذا كانت عاطفية إلىالنهوض بها إلى العلمية؟
الجواب
دائماً الأحكام التعميمية لا تخلو من خطأ، فالقول بأن الصحوة عاطفية ليست علمية، عمومٌ ليس بصحيح، وكيف تكون الصحوة ليست علمية، ونحن نرى أن شباب الصحوة قد ملئوا المساجد، وعمروا حلق الذكر ومجالس الدرس، وأقبلوا على طلب العلم إقبالاً منقطع النظير، فأحيوا مجالس الذكر بعد اندراسها، وبدأنا نجد الشباب يهتمون بالبحث، والقراءة، والاطلاع، ويلتفون حول العلماء بشكل جيد ومشجع، فالواقع أن الصحوة لها جانب علميٌ كبير، هذا من الناحية الشرعية، أما من الناحية الاختصاصية، فلا شك أن البوادر طيبة، ويكفي أننا نعلم جميعاً ويعلم غيرنا أن الأكثرية في الكليات العلمية كالطب والهندسة في غالب الجامعات الإسلامية هم ملتزمون متدينون، وهذه ظاهرة لاشك مشجعة، أما قضية العاطفة، فلا شك أن هناك جانباً عاطفياً في الصحوة الإسلامية، وهذا الجانب العاطفي ليس مذموماً بكل حال، فالعاطفة مطلوبة، والإنسان الذي ليس عنده عاطفة إنسان جامد، لأن الإنسان لا يعيش فقط بالفكر وحده، الإنسان يحتاج إلى عاطفة حية، بل إنني أقول: إن العاطفة أمر لا بد منها، ونحتاج إلى قدر من العواطف أكثر مما نحتاج إلى قدر من التفكير، لأن التفكير يخاطب مجموعةً من الناس، أنت حينما تتكلم في موضوع يتعلق بالفكر، يستمع إليك مائة، لكن حين تتكلم في قضية عاطفية، يستمع إليك ألوف، ويسمعون إليك بقلوبهم، ويتجاوبون معك بشكلٍ جيد وقوي، والإسلام والدعوة الإسلامية بأمس الحاجة إلى مثل هؤلاء، لكن نحن أيضاً كما أننا بحاجة إلى العاطفة، بحاجة إلى التفكير السليم والنظر البعيد، وبحاجة إلى أن نضع العاطفة في موضعها، فلا تسيرنا العاطفة نحو الأحداث، فهذا هو الأمر الخطير أن نجعل العاطفة هي التي تحرك أعمالنا وتصرفاتنا، فنندفع لأننا مثلاً نملك تضحية، ولا نفكر بشكل جيد، فنندفع هنا وهناك، ونحن مستعدون للقتال والتضحية وأن نستشهد في سبيل الله، ونريق دماءنا بكل يسر وسهولة، والواحد يركض ويقول: هبي يا رياح الجنة، إني لأجد ريح الجنة من دون كذا وكذا، لكن أن نفكر جيداً قبل أن نضحي هذا الذي يحتاج إليه، نحتاج إلى أن نجعل الفكر يقود العاطفة، وليس العكس.(45/27)
تفسير الأحداث عند المسلمين
السؤال
ما هو سبب ركون كثير من المسلمين إلى الأسباب المادية فقط، سواء في تحليلهم لأحداث الماضي، أم عندما يخططون للمستقبل، خصوصاً عند من يسمون أحياناً بالإسلاميين؟ وما هو الحل في تصحيح هذه النظرة في المجتمع الإسلامي، في مختلف شرائحه؟
الجواب
أعتقد أنه ليس من الواقع الآن أن المسلمين يميلون إلى التفسير المادي، بل في الواقع الآن -وهو الذي ألحظه- أن المؤمنين يميلون إلى التفسير العاطفي، فالعاطفة تتلاعب فينا بشكلٍ كبير، في حبنا وبغضنا وتفسيرنا للأحداث، إن أحببنا شخصياً رفعناه إلى القمة، وإن أبغضناه أو كرهناه أنزلناه إلى الحضيض، لا نعرف أنصاف الحلول، أي إن أبغضنا أسرفنا، وإن أحببنا أسرفنا، خلافاً لما جاء عن علي رضي الله عنه: [[أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] وإن أردنا أن نحلل الأحداث، تجدنا نميل أحياناً إلى النظرة الأحادية، تفسير الأحداث بإرجاعها إلى سبب واحد فقط، وهذا خطأ؛ لأن كثيراً من الأحداث تشترك فيها أسبابٌ عديدة، ونميل أحياناً في تفسير الأحداث إلى تبسيط الحدث، فنقول: القضية سهلة وبسيطة، ونهون الموضوع بحيث لا يحتاج إلى تفكير، أو نضخم الأمر حتى نجعله فوق مستوى التفكير، وأنه يصعب التفكير فيه.
المهم أننا نريد أن نتخلص من التفكير السليم المنطقي في الحدث، فنحن بين أمرين: إما أن نقول: إن الحدث صعب، بحيث أننا لا نفكر فيه، أو سهلٌ جداً بحيث أنه لا يستحق التفكير، وهذا يذكرني بالنكتة التي تنسب إلى جحا يقولون: إنه قام يوماً خطيباً، فقال: أيها الناس! هل تدرون ماذا أريد أن أقول؟ قالوا: الله أعلم، قال: إذاً لا فائدة أن أخبركم، فنزل، فاتفق الناس إن صعد المنبر على أن يقولوا: نعم نعلم، فلما صعد مرة أخرى، قال: أيها الناس! هل تدرون ماذا أريد أن أقول؟ قالوا: نعم، قال: إذاً لا فائدة في أن أخبركم، ما دمتم تدرون فلا داعي أن أخبركم، ثم نزل، وفي المرة الثالثة اتفق الناس أن يقول بعضهم: نعم، وبعضهم: لا، فلما صعد المنبر قال: أتدرون ماذا أريد أن أقول؟ قال بعضهم: نعم، وقال بعضهم: لا، فقال: من يعلم يخبر من لا يعلم، ثم استغفر ونزل! وقصدي من وراء هذا أن أقول: إن كثيراً من المسلمين يميلون إلى تبسيط الموضوع، أي أن عندنا -مثلاً- مشكلة نعانيها، فأحياناً نبسط المشكلة حتى تظهر بأنها مشكلة ما تحتاج إلى تفكير لأنها سهلة، فإذا جاء واحد وبين المشكلة، وأبعادها، وجذورها وما أشبه ذلك؛ قلنا: إذاً القضية خطيرة، هذه ما يمكن يبت فيها شخص، بل تحتاج إلى جهود ومؤتمرات وأحلنا القضية على مجهول حتى نتجنب التفكير فيها، وفي كل الصورتين كأننا لا نريد أن نكلف أنفسنا عناء التفكير في المشكلات، ومواجهة المشكلات بشكل صريح، ثم العمل على دفعها وحلها، وهناك طائفة من المسلمين لا شك قد يفكرون في الأسباب المادية، ويغفلون عن القضايا الشرعية، والتوكل على الله عز وجل، وهذا أيضاً خطأٌ آخر، فالعدل مطلوب.(45/28)
خطر الذنوب والمعاصي
السؤال
حول ما أصاب الإخوة الكويتيين، فيسأل الأخ عن سبب ذلك، ويقول: أنه بسبب المعاصي والذنوب، وأنه لم يسمع أحداً تحدث عن هذا؟
الجواب
في الواقع أن هذا حديثُ أكثر الخطباء في حدود ما أعلم، وأقول: ينبغي حين نتحدث ألا نتحدث وكأن شعباً آخر أصيب، فالمصيبة للمسلمين جميعاً، وليست مصيبة شعبٍ معين، والذنوب قاسم مشترك فينا وفيهم، فالأمر من بعضه، ولكن هذا لا يمنع أن يكون في ذلك تنبيهاً لنا ولهم في ضرورة الإسراع بالتوبة إلى الله عز وجل، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، والإقبال على الله تعالى بالصدق في كل أمر.(45/29)
خطر المحن على مستقبل الصحوة
السؤال
على الأحداث الراهنة، وهو يقول: ما رأي فضيلتكم في تأثير الأحداث الراهنة على الصحوة الإسلامية ومستقبل الدعوة؟
الجواب
أما على المستوى القريب، فالذي يبدو أن الأحداث سوف تكون ضارة بالصحوة الإسلامية، من وجوه:- أولها: أننا نعلم أن المناطق التي أصيبت - منطقة الخليج بشكل عام- هي من المناطق التي عرفت بأنها ذات جهد كبير في دعم المشاريع الإسلامية العالمية، في مشارق الأرض ومغاربها، وحيثما تجولت في بلاد الدنيا، فرأيت مدرسة أو مشروعاً أو مؤسسة أو معهداً أو مسجداً، لوجدت أن بصمات وأصابع الخيرين من أهل الخليج موجودةٌ فيه، وهذا لاشك سيتأثر بالأحداث تأثيراً سلبياً كبيراً.
من جهة أخرى: فإننا نجد أن هذه الأحداث اكتسحت في غمرتها مجموعة غير قليلة من الإسلاميين الذين انخدعوا بالعبارات البراقة الرنانة، وفي غمرة العاطفة المشبوبة، نسوا أحداث الماضي القريب، فبالأمس جاءت ثورة إيران، فوجدنا أن جماعة غير قليلة من دعاة الإسلام -دعك من رجل الشارع- قد انساقوا بغفلةٍ وراء هذه الدعوة الباطنية المشبوهة، وصدقوا شعاراتها الكاذبة وحلفوا لها يمين الولاء، ونفخوا في بوقها، وكتبوا لها الكتب، ودعموها حتى تكشفت الأحداث، فرجعوا عما كانوا يعتقدون بخيبة أمل، واليوم يتكرر الخطأ، فالذين وقفوا بالأمس ضد العراق في حربه مع إيران، هاهم اليوم نجد منهم طوائف في عدد من البلاد الإسلامية، يقفون إلى جانب العراق، ويقومون ببعض المظاهرات الصاخبة إلى جانبه، وينسون بذلك جرائم العراق الكبيرة ضد أهل السنة في العراق، وضد الأكراد وهم أيضاً من أهل السنة في حادثة حلابجة، التي قتل فيها ما يقارب -حسب ما ذكرت بعض المصادر الإعلامية- عشرين ألفاً بأسلحة كيماوية، ودمرت تدميراً وقضي على الدعوة الإسلامية، بل ونسوا حتى مواقفهم السابقة، ضد هذا الطاغية المتجبر، فانطلقوا وراءه، وقد يقف آخرون في مقابل ومواجهة هذا التيار، فقد تتواجه سيوف المسلمين، أو سيوف شباب الصحوة الإسلامية، وقد يقوم الدعاة إلى الله تعالى في أكثر من مكان وسط غيبة الوعي بحرب بالوكالة عن غيرهم، حرب من حروب الوكالة، هم الخاسرون فيها بكل حال، وسواءً انتهت الحرب بالنصر أم بالهزيمة، فإنهم في الحالين ليس لهم من الأمر شيء، إنما يستعان بهم في مثل هذه الأحداث إذا اهتزت الأمور، واضطربت واحتيج إليهم، صرخ بأنصاره يناديهم إلى جهاد مقدس، أو إلى قتالٍ أو ما أشبه ذلك، فاستفز عواطفهم واستثارهم فاستخفهم فأطاعوه.
فعلى المدى القريب لاشك أن هناك ضرراً يلحق بالصحوة، أما على المدى البعيد، فإن المؤمن ينبغي أن يكون متفائلاً على الدوام، ويعجبني الفأل، فنحن نتفاءل ونقول: هزيمة (1967م) كانت شرارة انطلقت بعدها الصحوة بشكل واسع متنامٍ، وامتدت امتداداً أفقياً عريضاً، وشملت قطاعات كبيرة، وأظن أن الصحوة الإسلامية حتى تمتد امتداداً رأسياً، أي امتداد عمقٍ وفهمٍ وعلمٍ ومشاركة وإيجابية وإدراك ووعي وتعقل، تحتاج إلى أحداثٍ مماثلة، تنصهر في بوتقتها، وتصحح مسيرتها، وتهزها بشدة حتى تجعلها تعي واقعها، فالمؤمن يتفاءل بمثل هذه الأحداث، ولو على المدى البعيد، وهذا قد يظهر ولو بعد سنين، قد لا يستطيع الإنسان أن يتنبأ بتحديدها.(45/30)
دور المتخصصين في الجوانب العلمية
السؤال
ما موقف المتخصصين في التخصصات العلمية، في الطب، والكيمياء، والفيزياء، من حال المسلمين في هذا الوقت، وذلك لما وصل إليه المسلمون من درجة متدنية في أخذهم التقنية العلمية والتكنولوجيا؟
الجواب
كما أسلفت إجمالاً في المحاضرة، دور كل متخصص أن يجاهد في ميدانه -هذا هو الأصل- ولذلك مثلاً قد تحدث حالات تحتاج الطبيب أن يقيم درساً في الحديث أو في السيرة في المسجد، وهذا قد يحدث، لكن ليس هو الأصل، الأصل أن الطبيب يتعبد من خلال القيام بشريعة الله في اختصاصه، في محاولة تصحيح أبدان المسلمين، فنحتاج إلى الصحة والعافية في بدن المسلم، حتى المسلم الضعيف، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يكون قوياً في دينه وإيمانه ومجاهداً في سبيل الله عز وجل، فضلاً عن تحقيق الإسلام من خلال المؤسسات، والمجالات والوسائل، فضلاً عن تصديق كلمة العالم الشرعي -كما أسلفت- وكلٌ في اختصاصه، يمكن أن يقال فيه ما قيل في مجال الطب.(45/31)
أهمية التخصصات
السؤال
تحدثتم عن أهمية التخصصات، وأنها منقولة أن ترجع إلى العالم الشرعي، لكن الإسلام دين الكمال، أليس المفترض أن يكون الطبيب يفقه في دين الله، فـ ابن المبارك رحمه الله كان مجاهداً، وتاجراً، وعالماً، وشاعراً، والشافعي كان طبيباً وعالماً لعلكم تدندنون حول هذا؟
الجواب
هذا فيه جزء من الصواب، لكن كم عندنا في الأمة من ابن المبارك؟ وكم عندنا في الأمة من مثل الشافعي؟ فمن الصعب أن نفترض في كل إنسان أنه ذو كفاءات متكاملة، فالطبيب الذي ينهمك في طبه، يصعب أن يكون متخصصاً في الحديث، حتى يعرف الأسانيد، والمتون، والرجال، والجرح والتعديل، والشذوذ والعلة القادحة، ويتكلم في الرجال والأسانيد، حتى كأنه كما ذكر السائل ابن المبارك، أو يحي بن معين في مجلس درسه، يصعب هذا، كما أن المتخصص في العلم الشرعي والحديث والفقه، يصعب أن يتحدث في القضايا الطبية، كما لو كان طبيباً متخصصاً، هذا معروف، فالتخصص لابد منه، لكن التخصص لا يعني أن الطبيب أصبح أمياً في مجال الشرعيات، لا فعنده علم أولاً: بفروض الكفاية، ومعرفة بالعقيدة الصحيحة، لابد من هذا، وعنده معرفة بالأحكام الشرعية التي يحتاج إليها، كأحكام الطهارة والوضوء والصلاة، والزكاة إن كان ذا مال وما أشبه ذلك، ومعرفة أحكام المعاشرة الزوجية.
المهم الأحكام التي هي فرض عين على أن يعرفها.
ثانياً: أن يكون عنده معرفة ببعض الأحكام التي تخصه في مجال عمله، بعد ذلك لاشك أنه يحتاج إلى العالم الشرعي، والعالم الشرعي أيضاً قد يحتاج إليه، فإن العالم الشرعي قد يقدم له استفتاء في موضوع طبي، وهو لا يفهم المصطلحات الموجودة، أو في موضوع اقتصادي، لا يدري ما معنى هذه المصطلحات الموجودة في السؤال، يحتاج إلى متخصص يأتي ويشرح له، ويبين له أبعاد الموضوع، ولذلك من أهم شروط المفتي العلم بالنازلة أولاً.
ثانياً: العلم بحكم الله تعالى فيها، فإذا لم يتصور المفتي الواقع من جميع جوانبه وأبعاده تصوراً صحيحاً، ويدرك ما وراءها، ويعرف حقيقتها، فقد يأتي حكمه ناقصاً أو مقتصراً، لأنه حكم حكماً سطحياً، وكم من إنسانٍ يقول: والله الأمر كذا، فإذا بين له الأمر تغير حكمه، قال: لا، إذا كان كذلك تغيرت المسألة.(45/32)
التخصصات المختلفة وحاجة الصحوة إليها
السؤال
هل الصحوة الإسلامية الآن بحاجة أكثر إلى متخصصين في العلم الشرعي، أم العلم التجريبي؟
الجواب
الصحوة الإسلامية محتاجة إلى الجميع بلا شك، وقد يكون من الصعب في مثل هذا الوقت أن أحدد حاجتها أكثر إلى العلم الشرعي، أو حاجتها أكثر إلى العلم التجريبي، لكن لاشك أن التخصصات كثيرة -كما أسلفت- فحين نقول: العلوم التجريبية أو الطبيعية مثلاً، أو الإنسانية هذا يدخل تحته علومٌ كثيرة جداً، كالطب، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والعلوم الإنسانية، كالتربية، وعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرها، بل كل تخصصٍ فيه شعب نحتاج إلى متخصصين فيه، ولذلك نحتاج في الواقع إلى جيوش جرارة في مثل هذه التخصصات.
كما نحتاج بلا شك إلى العالم الشرعي الذي يواكب مثل ذلك، وفيما يتعلق بالعلم الشرعي، أعتقد أننا ما زلنا نحتاج إلى الكثير لكن ليس عدداً بقدر ما نحتاج إلى نوعية في مجال التخصص الشرعي، فلسنا نحتاج الآن كثافة العدد بقدر ما نحتاج جودة النوعية، ولو أن يتخصص وينبري للعلوم الشرعية آحاد من الناس، لكن يكونون ذوي كفاءات عالية، عقليات قوية، تفكير سليم، قدرات، حفظ، قوة، بحيث أنهم يسدون الفراغ الموجود، لأننا بحاجة إلى الاجتهاد في جميع المجالات، فالآن الطبيب يواجه مئات بل ألوف الإحراجات الشرعية، ويأتي ويضعها بين يديك، هات الحل؟ والمتخصص في الاقتصاد يأتي بمشاكله يضعها بين يديك، والعسكري كذلك، والمتخصص في كل فنٍ يأتي بهذه الإشكالات الجديدة الحادثة، ويضعها بين يديك، فنحن نحتاج في الواقع إلى عقليات قوية، أكثر مما نحتاج إلى عدد، كما أننا نحتاج إلى أمرٍ آخر في مجال التخصص الشرعي، وهو ما يمكن أن يسمى بالاجتهاد الجماعي، من خلال المؤسسات، كالمجمعات، والمجالس الفقهية، ونحوها التي تخرج برأي مدروس، بعد بحث ومناقشة، يشترك فيه أفراد متعددون، وتشترك فيه عقول مختلفة.(45/33)
المواثيق الدولية
السؤال
نرجو من فضيلتكم بيان مدى وجوب التزام الداعية بالمواثيق والمعاهدات الدولية التي تسود العالم في هذا العصر، والتي قد تُعطل بعض شعائر الإسلام، ومن مثل هذه المواثيق احترام الجوار ومخالطة الكفار؟
الجواب
المواثيق الدولية أولاً: هي حبر على ورق تستخدم عند الحاجة، فالذين صنعوا هذه المواثيق من الكفار يفعلون ما يشاءون، ويسرحون كيف شاءوا، وأعمالهم سواء في بلاد الإسلام أو في غيرها معروفة؛ لم تمنع المواثيق الدولية مثلاً روسيا من أن تكتسح أفغانستان، ولم تمنع أمريكا من ضرب عدد من البلاد الإسلامية، ولكنها تستخدم عند الحاجة في نطاق ضيق، وفي مجال الدول الصغيرة، التي تدور في فلك الدول الكبرى، هذا من جانب.
ثانياً: أنه بغض النظر عن المواثيق الدولية الموجودة حالياً والمنبثقة عن هيئة الأمم، ومنظمات حقوق الإنسان وغير ذلك، بشكل عام في أي زمان ومكان، وعندنا أمةٌ مسلمة وعندنا دولةٌ مسلمة، إلى أي حدٍ يسعها الالتزام بهذه المواثيق؟ أقول: هذه المواثيق يسع المسلمين أن يلتزموا بها في حدود ما لا يتعارض مع الأصول والقواعد الشرعية، ليس صحيحاً أن يلتزم المسلمون مثلاً في أي زمان أو مكان، بالمواثيق وهي تمنعهم من القيام بواجب الجهاد في سبيل الله، فالجهاد واجب، ولا يمكن أن يبطله أحد كائناً من كان، وأي ميثاق يبطل الجهاد فهو باطل، ولا يمكن أن يلتزم به المسلمون في حال من الأحوال.
وأيضاً لا يمكن أن يلتزم المسلم بمواثيق تساوي المسلم بالكافر، وتجعلهما على حد سواء في أمر من الأمور، لا يمكن أن يلتزم المسلم بمواثيق تجعل الولاء والبراء منعدماً بين المسلم والكافر أيضاً، لا يمكن أن يلتزم المسلم بمواثيق تلزمه أن يحكم بالطاغوت، ويحكم بغير ما أنزل الله، في أموال الناس ودمائهم، وأعراضهم، وفروجهم، كل هذا لا يلتزم به المسلم على أي حال؛ لكن إذا وجدت مواثيق فيها مصلحة للمسلمين، وليس فيها ما يعارض، الذي يظهر أنه لا مانع أن يقر هذه المواثيق المسلم، ويوافق عليها إذا كان فيها خير ومصلحة للإسلام، ونفع له ونشر للدعوة، ما الذي يمنع من ذلك؟!(45/34)
الولاء والبراء في الإسلام
السؤال
من الأمور التي أهملت كثيراً في حساب كثير من الدعاة، قضية الولاء والبراء، ولهذا الأمر عدة أسباب فما هو السبيل لإبراز هذه القضية وجعلها في المواقع المخصص لها؟ أرجو الإفادة!
الجواب
قضية الولاء والبراء أولاً: هي جزءٌ من العقيدة الإسلامية بشكلٍ عام، ولا شك أن العقيدة إذا ضعفت في قلوب الناس، والذي يبرز ضعفها هو الواقع والأحداث المتجددة، فكثير من الناس يخيل إليه أنه مؤمن متمسك، فإذا نزلت المصائب بانت الحقائق، فأما المؤمن فإنه إذا رأى الأحداث قال: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] أما المنافق فيقول: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] .
التوكل مثلاً كجزء من العقيدة الإسلامية، فقد يخيل أنه متوكل، وقد يقول: توكلنا على الله، بكرةً وعشية؛ لكن إذا جاءت الأحداث، تغيرت قناعته، واهتز توكله، وأصبح قلبه نهباً للخواطر والمشاعر، والإذاعات والإشاعات؛ ويتخذ الأسباب الممكنة، ويسعى إلى الأسباب غير الممكنة، وكأنه مضبوع مسبوع، يركض بلا عقل، قد فقدَ توازنه وثقته واطمئنانه، نحن لا ننكر فعل الأسباب، لكن فرق بين من يفعل الأسباب وقلبه مطمئن واثق، وبين من يركض يسرةً ويمنةً ولا يدري بأي شيء يبدأ، وقلبه قد انهار وتأثر من حدثٍ معين، هذا مثال.
وهكذا مثال الولاء والبراء: الكلام نفسه، قد يقول إنسان مادام في حالة الرخاء والأمن وعدم الحاجة: لست بحاجة إلى هذا يمكن الكافر، وأنا في غنى؛ لكن إذا احتاج إليه في أمر من الأمور ضعف هذا التوكل، وأصبح يقول: هذا أستفيد منه، هذا كذا، وكما قال تعالى: {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر:8] والأحداث هي التي تبين عن معادن الرجال، وصدق إيمانهم، أو عدم صدقهم، أما السبيل فلا شك أن السبل كثيرة، من أهمها الكلمة التي بعث بها الأنبياء والمرسلون، أن نبين هذا للناس ونجليه من خلال الخطب، والمحاضرات، والدروس، والمجالس، لأن الناس يحتاجون إلى تثبيت، ويحتاجون إلى دعم، ويحتاجون إلى تصحيح مواقفهم، وإذا لم يقم بذلك الداعية والعالم والخطيب، فمن يقوم به؟!(45/35)
مكائد الشيطان
تحتوي هذه المادة على ذكر غاية الشيطان وهدفه من إضلال الناس، ثم جاء ذكر الوسائل والأساليب التي يتخذها الشيطان لغواية الناس.(46/1)
الحاجة إلى الاستفادة من المعلومات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنني في بداية هذه الكلمة المتواضعة، أحب أن أشكر أشياخي وأساتذتي، الذين حرصوا على تشجيع تلميذٍ صغير من تلاميذهم، فحضروا في هذه الليلة، وأحب أن أقول: إنني كنتُ أعتقد أنها لا تعدو أن تكون كلمة في إحدى أُسَرْ هذا المعهد وعلى كل حال، فإنني أشكر لهم تكرمهم بهذه الجلسة، التي أرجو أن يكون من ورائها إن شاء الله الخير الكثير، وحول هذا الموضوع، بل وحول كل موضوع أحب أن أقول: إننا دائماً لسنا بحاجة إلى المعلومات المجردة، بقدر ما نكون بحاجة إلى الاستفادة من هذه المعلومات، فكم وكم من الناس من تجد لديه العلم والمعرفة في كثير من الأمور، وقد يبرز في هذا أهل الاختصاص وأهل الفن، ولكن تجد استفادته وانتفاعه بهذه المعلومات قليلاً أو معدوماً، وهذا ممن كتب عليه الشقاء، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] .
فالقضية -أيها الإخوة- ليست في كوننا نعرف فقط، بل القضية في كوننا نستفيد مما نعرف، والإنسان يشاهد في واقعه العملي أحياناً أشياء مادية ملموسة يستغربها، وأضرب لذلك مثلاً: لو افترضنا أن رجلاً من الناس يعاني من مرض من الأمراض، ويخاف من هذا المرض أشد الخوف، ثم ذهب إلى الأطباء، فقالوا له: إن علاجك يكون في الحمية، أي: أن تمتنع عن تناول أطعمة بعينها، وأعطوه قائمة بألوان وأنواع الطعام التي يجب أن يمتنع منها، فأخذ هذه القائمة، وحفظ هذه الأسماء وأتقنها، وظل لا يحتمي منها، ولا يمتنع عنها، هنا نقول: هذا الإنسان عرف السبيل إلى العلاج، لكنه لم يستفد، لأنه لم يمتنع، ولماذا لم يمتنع؟ قد يكون عدم امتناعه في الغالب ناتجاً عن ضعف إرادته، فهو يعلم أن هذا فيه ضرر عليه، لكنه لا يستطيع أن يمنع ويقهر نفسه عن تناول هذه الأطعمة، ويكون في هذه الأشياء حتفه.
كذلك الحال بالنسبة لمكائِد الشيطان، من منا يجهل العداوة التي قدرها الله سبحانه وتعالى وقضاها بين الإنسان وبين الشيطان؟ وكيف يجهلها المسلم، وهو يقرأ القرآن الكريم الذي يشير دائماً وأبداً أن الشيطان كان خلف جميع النكبات التي أصابت هذا الإنسان؟! وخروج أبينا آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة كان بحيلة من هذا العدو اللعين، وقد حكاها الله سبحانه وتعالى لنا في القرآن الكريم، وبين كيف وسوس إليه الشيطان، وأغراه بمخاطبة غريزة موجودة ومفطورة في قلب الإنسان، وهي حب الخلود وحب البقاء، فقال: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] وأيضاً أغراه بقضية حب التملك، حتى أخرجه من الجنة.
وما من مصيبة نزلت بالإنسان إلا ومصدرها الشيطان، وسببها الشيطان، ومع ذلك كله تجد كثيراً من الناس على رغم معرفتهم القوية بهذه الألاعيب وهذه الأحاديث قد يقعون فيها، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول لنا: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6] ثم يقول: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] .
الفقرة الأولى من الآية تؤكد العداوة، وأنها موجودة: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6] وهذه القضية نظرية، وهي معرفة عقلية مجردة، كل الناس يؤمنون بها، ولذلك عقب الله سبحانه بقوله: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] أي: عاملوا هذا الشيطان كما تعاملون عدوكم، واعتبروا كل ما يأمركم به الشيطان أو يدعوكم إليه الشيطان كيد العدو لعدوه، ومن ينتظر من عدوه خيراً أو أمراً بخير؟! وهذا التحذير الإلهي يأتي أيضاً في سورة أخرى، فبعد أن يذكر الله تبارك وتعالى لنا قصة الشيطان مع أبينا آدم ورفضه للسجود له، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] هذه هي قصة العداوة التاريخية بين الإنسان وبين الشيطان، يعقب الله تبارك وتعالى عليه بقوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50] .
وقد يكون غريباً أن هذا المخلوق الذي يعلن الله سبحانه وتعالى في كتابه في غير موضع أنه عدوٌ لنا، قد يكون من الغريب أن كثيراً من الناس يتبعون هذا العدو، ويتخذونه ولياً من دون الله: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} [النساء:119] .(46/2)
الشيطان لا يدعو إلا إلى عبادته
إلى ماذا يدعوك الشيطان أيها الإنسان؟ كل ما في الأمر أن الشيطان -بكلمة مختصرة- يدعوك إلى عبادته، كما أن الله خلقك وأمرك بعبادته فقط، ولم يكلفنا الله بأمرٍ آخر إلا عبادته، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: أن الآية فيها حصر نفي وإثبات، نفي أن يكون الله خلق الناس لغرض آخر إلا لغرض واحد وهو العبادة، فالله يدعوك إلى عبادته، والشيطان يقف في الطرف الآخر، أيضاً يدعوك إلى عبادته، وقد يكون من القليل أن يعبد الشيطان عبادة حقيقية، وإن كان هذا ليس معدوماً، فهناك طوائف موجودة في البلاد الإسلامية، وطوائف حديثة ظهرت في البلاد الأوروبية، يقيمون معابد يسمونها معابد الشيطان، ويصلون فيها للشيطان ويسجدون له!! لكن هذه الصورة ساذجة، صورة بدائية من صور عبادة الشيطان، إنما مفهوم عبادة الشيطان أوسع من هذا كله، فإذا كان الله عز وجل، يدعوك إلى أمر، والشيطان يدعوك إلى أمر يخالفه، فعصيت الله وأطعت الشيطان، فهذه شعبة من العبادة، وكم وكم تجد الإنسان يستجيب لداعي الشيطان حين يضعف فيه وازع العقيدة والإيمان.(46/3)
صور من عبادة الشيطان
ونجد في القرآن الكريم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين وقف أمام والده المشرك المكابر يذكره ويقول له: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم:44] .
ولم يكن والد إبراهيم ممن أقاموا المعابد والهياكل وصلوا فيها وسجدوا فيها لإبليس، بل كانوا يعبدون الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب وغيرها، وإنما إعراض الإنسان عن عبادة الله إلى عبادة الصنم، هي في الحقيقة عبادة الشيطان، حتى ولو برزت في بعض الأحيان أنها عبادة لملكٍ مقرب أو لنبيٍ مرسل، فالذين يعبدون الملائكة هم في الحقيقة يعبدون الشياطين، والذين يعبدون الأنبياء هم في الحقيقة يعبدون الشياطين، والذين يعبدون الأولياء والصالحين هم في الحقيقة يعبدون الشياطين، ولذلك إذا كان يوم القيامة يحضر الله سبحانه وتعالى الناس في صعيدٍ واحد، ويحضر آلهتهم المدعاة، فمن كان يعبد شيئاً تبعه؛ فيأتي هؤلاء الناس الذين كانوا يعبدون الملائكة في الدنيا، يحضرهم الله تبارك وتعالى، ويحضر الملائكة، الذين ادعوا أنهم كانوا يعبدونهم، ويسأل الله سبحانه الملائكة، فيقول: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] هؤلاء الذين كانوا في الدنيا يتظاهرون بعبادة الملائكة هل كانوا يعبدونكم فعلاً وحقاً أيها الملائكة؟ فماذا تقول الملائكة؟ تقول كما قال عنها: {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [البقرة:32] فبدءوا بتنزيه الله سبحانه وتعالى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} [سبأ:41] أي: وإن ادعوا عبادة الملائكة، فالملائكة تبرأ من هذه العبادة وتنكرها، وتقول: نحن عبيدٌ مربوبون نتوجه بالدعاء والعبادة لله رب العالمين، فلا ينبغي أن نُعبد: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] .
إذاً: أنكر الملائكة أن يكون هؤلاء يعبدونهم، وقالوا: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41] وما المقصود هاهنا بالجن؟ المقصود بالجن: الشياطين، لأن إبليس هو أبو الجن كما تعلمون، إذاً: فالإنسان حتى وهو يخيل إليه أنه يعبد ملكاً من الملائكة، حقيقة الأمر أنه يعبدُ الشيطان، وكيف يعبد الشيطان؟ لو قيل له: إنك تعبد الشيطان؟ لأبى ونفر وتخلى عن هذه العبادة، لكن نقول: يعبد الشيطان، لأن الذي دعاه إلى هذه العبادة وزينها له، وأغراه بها هو الشيطان، فقد سلك طريق الشيطان وأعرض وأبى عن طريق الله سبحانه وتعالى، هذه صورة من صور عبادة الإنسان للشيطان.
وخلاصة القول فيها: أن الشيطان يدعو الإنسان إلى أمرٍ واحد فقط، هو أن يعبده!! وما المعاصي إلا دليل إلى عبادة الشيطان، فهي صورة مصغرة من صور العبادة، فأنا وأنت حين نعبد الله تعالى، نصلي ونسجد وندعو ونقرأ القرآن ونتوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وهذه هي العبادة، أو هذه هي بعض صور ومظاهر العبادة، كذلك نفس الشيء إذا صرفت هذه الأشياء لغير الله، أو انحرف الإنسان عن الطاعات إلى المعاصي، يكون وقع في شيءٍ من عبادة الشيطان، فالذي يرتكب معصية، نقول هذه المعصية انحراف، وفيها نوع من عبادة الشيطان أو طاعة الشيطان، لأن الذي أمرك بهذه المعصية هو الشيطان.(46/4)
أصل العبادة
أصل العبادة في الحقيقة: هي الطاعة، ولذلك يقال: طريق معبد، أي: أنه مطروق، وكذلك بعير معبد، وغير ذلك.
فأصل العبادة: هي الطاعة والاتباع، فما دام الإنسان أطاع الشيطان بهذه المعصية، نقول: إن هذه شعبة من العبادة، لكن حذار أن نقول: إن وقوع الإنسان في هذه المعصية أنه عبد الشيطان! هو أخطأ لا شك، واتبع الشيطان في هذه المسألة، وهذه شعبة من شعب العبادة، لكن يبقى الإنسان مسلماً، ما دام لم يصدر منه سوى هذه المعصية، يبقى مسلماً لأنه يعبد الله أكثر أحيانه، ويؤدي المفروضات الواجبات عليه، وإنما زل ووقع في هذه معصية، فهذه المعصية تبقى إثماً يحاسب عليه، وقد يعذبه الله سبحانه وتعالى إن لم تتداركه رحمته، لكن يبقى مسلماً، إنما إذا خلع ربقة العبودية لله، وتوجه بكليته إلى عبادة الشيطان، فترك الصلاة، وترك الدعاء، وترك الإيمان بالله، وصار يتبع الشيطان، ولا يرد له أمراً، هنا نقول: إن هذا الإنسان قد انخلع تماماً من العبودية والإيمان بالله سبحانه وتعالى، وصار عابداً للشيطان بكل ما تحمله كلمة العبودية من معنى.(46/5)
الطرق التي يتوصل بها الشيطان إلى أمنيته
هذه -أيها الإخوة- هي أمنية الشيطان، لكن كيف يتوصل الشيطان إلى هذه الأمنية؟ لو جاء الشيطان إلى إنسان مسلم، حتى ولو كان هذا المسلم عاصياً لله، أو واقعاً في بعض الأمور، ثم قال له: إني أريد منك أن تعبدني، أو وسوس إليه بعبادة ملك مقرب، أو نبيٍ مرسل أو صالح من الصالحين، أو بالكفر بالله والعياذ بالله، لنفر هذا الإنسان واشمأز من هذا الطلب، لأنه يوجد شيء من حرارة الإيمان في قلبه.
والشيطان أولاً: وهبه الله سبحانه وتعالى أسلحة قوية وفتاكة، لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى.
وثانياً: اكتسب خبرة طويلة جداً تصل إلى آلاف السنين أو أكثر من ذلك، الله أعلم، منذ عاش تجربته مع آدم عليه السلام، وإلى أن يموت وينتهي، والشيطان يكتسب تجارب يوماً بعد يوم، وقد يقع في مزلق مع إنسان، فيستفيد منه للمرات القادمة، فالشيطان ذكي، ولا يمكن أن يبارئ الإنسان، أو يطلب منه أمراً يعرف منذ البداية أن نفسه تنفر منه، كما يفعل أولياء الشيطان من الناس، فجنود الشيطان الذين جتدهم في هذه المهمة، عندما يريدون أن يضلوا الإنسان أو يصرفوه عن طريق الحق، يبدءون معه بصغار الأمور قبل كبارها، أمرٌ أو درسٌ تلقوه على يد شيخهم وأستاذهم، فالشيطان يبدأ بالإنسان أولاً: بالكفر، فإذا كان ذلك ممكناً بوسيلة أو بأخرى، أن يدعو الشيطان الإنسان إلى الكفر، فهو أغلى ما يريد، لأنه بذلك يضمن أن هذا الإنسان سوف يكون مرافقاً له في النار، والعياذ بالله! فإذا استطاع الشيطان أن يدخل الإنسان إلى الكفر فعل، وذلك بأحد طريقين:(46/6)
طريق الشبهات
الطريق الأول: طريق إثارة الشبهات في قلبه، يشككه في الله، أو في الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في القرآن، أو في الجنة، أو النار، أو في البعث، فإذا استقرت هذه الشكوك في قلب الإنسان، وامتلأ بها ضميره، فإنه حينئذٍ يكون قد سلم قياده للشيطان، وانتهى منه الشيطان.
ولكن قبل أن نغادر هذه النقطة، أقول: يجب أن نفرق بين الوساوس التي قد تعرض لكل إنسان، وبين العقيدة المستقرة في القلب، فما من إنسان إلا والشيطان يحاول أن يغريه، ويحاول أن يثير عليه الشكوك والوساوس، وخاصة في فترة الشباب وفترة التفكير، فيبدأ الإنسان يضرب يمنةً ويسرةً ويفكر، وقد يحاول الشيطان أن يلقي إليه بقدر ما يستطيع بعض الشبهات، فتجد هذا الإنسان -وكم رأينا من بعض الشباب، حتى الذين فيهم خيرٌ وصلاحٌ واستقامة- تجده يعيش حياته في قلق، لا يهدأ له بال، ولا يستقر له ضمير، ولو فتشت لوجدت أن الشيطان قد ألقى في قلبه شبهة من الشبهات، أو وسوس له بشيءٍ ما نغص عليه حياته.
ثم بدأ يقول له: أنت الآن على حال من الكفر، أو شك في الدين، ومن الممكن أن الموت يداهمك اليوم أو غداً، فتموت كافراً، وهذا الشعور يقلق الإنسان كثيراً، يقلقه كثيراً أن يشعر أنه لم يستقر الإيمان في قلبه، وأن الموت يهدده في كل لحظة، فهو حريص على أن يمتلئ قلبه إيماناً، لكن ليس بإمكانه ذلك بين عشية وضحاها.
فأقول: هنا يجب ألا ننخدع بهذه القضية، لأن هذه ألعوبة محبوكة من الشيطان، لكن يجب أن نكون منتبهين لها، ربما يكون قصد الشيطان هنا، إضافة إلى أنه يحرص بطبيعة الحال على أن يضل الإنسان، قد يكون قصده من جانبٍ آخر، وهو أنه ينغص على المؤمن عيشه، ولا تظن أن الشيطان لا يفكر في هذه الأمور، حتى الحزن، يحرص الشيطان على أن يكون الإنسان حزيناً، وقد ذكر الله تعالى هذا في كتابه، فقال: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10] والشيطان حريص على أن يكون الإنسان فقيراً: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] فربما يكون قصد الشيطان هنا أن ينغص عليك الحياة، ويجعلك في حال من التوتر والهم والحزن شديد، على الأقل ربما يكون من نتائج هذا أن الإنسان قد يكون عنده رغبة في الخير وحرص على الطاعات، فيضعف ويصبح إنساناً عادياً، يؤدي الفرائض، ولا يهتم بأمرٍ آخر.
فإذا قيل له: اتق الله وفكر في أمور دينك، وفكر في الآخرة، قال: يا أخي أنا لا أحب أن أفكر في هذه القضايا، لماذا لا تحب أن تفكر فيها؟ قال: لأني إذا فكرت فيها، تبدأ الوساوس، والشكوك، والهواجس تتسرب إلى قلبي، ثم إني أحب أن أبقى إنساناً لا أفكر في هذه الأمور، ولا تخطر لي على بال، يكفيني أن أكون كعوام المسلمين، أصلي وأصوم وأزكي وأحج، ولا أحب أن أدخل في نفسي مثل هذه المتاهات، وهذا لأن الشيطان يحرص على اصطياده، ولاحظوا كيف وصل الشيطان إلى ما يريد، بطريقة قد تخفى على الإنسان، فإذا وجد إنسان شيئاً من ذلك في قلبه، فأقول: أولاً: يجب أن يقنع نفسه بأن الحالة التي يعيشها، ليست حالة شك، وإنما هي حالة وسوسة تدل على صريح الإيمان في قلبه، وفي الصحيح أن الصحابة جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في قلبه ما يتعاظم أن يتكلم به} وفي بعض الروايات قالوا: {إن أحدنا يجد في قلبه ما لأن يحترق حتى يصير حمماً، أحب إليه من أن يتكلم به} نفس الشعور الذي عندك جاء إلى الصحابة، وأخبروا سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: {أوجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة} وفي أحاديث أخرى صحيحة قال: {ذاك صريح الإيمان} وقوله: ذاك اسم إشارة قد يكون راجعاً إلى الوسوسة التي ألقاها الشيطان، لأنهم قالوا: {إن أحدنا يجد} ثم قال: {أوجدتموه؟ قالوا: نعم، قال ذاك صريح الإيمان} .
فيكون ما وجدوه هو صريح الإيمان، وقد يكون الضمير راجعاً إلى شعورهم الذي عبروا عنه بقولهم: ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به} أو {ما لأن يحترق أحدنا حتى يصير حمماً أحب إليه من أن يتكلم به} والمقصود أنك أيها الإنسان الذي قد تشعر بنفسك أحياناً بهذا الشعور، لو سألناك أنت الآن فإننا نجدك متأثراً وخائفاً، تخاف من ماذا؟ تقول: والله أخاف أن أموت على هذه الحالة، هذا نفسه دليل على أنك مؤمن، لأنه لو لم يكن عندك إيمان لما كان يهمك أن تموت على هذه الحالة، أو أن تموت على أي حال، لكن خشيتك أن تموت على هذه الحال، لأنك تعلم في قرارة قلبك أن موتك على حالٍ من الشك في نظرك يكون نتيجته أن تكون من أهل النار، وهذا الشعور يجعلك تخاف، فهو دليل على أنك مؤمن وعندك صريح الإيمان، فلا يجب أن تقلق لكن لا أقول لك لا تأبه ولا تهتم بهذا الشعور، لا.
بل ينبغي للإنسان أن يكافح هذا الأمر، يكافحه بقراءته القرآن الكريم، بالذكر، بالعبادة، بصرف التفكير عن هذه الأمور، بقراءة الكتب التي تصرف هذه الهواجس والوساوس، وأهم من ذلك، لا أقول أهم من العبادة، لكن أهم من قراءة الكتب، أن تتصل ببعض الشيوخ الذين تثق فيهم، وتعرض عليهم ما تجد، حتى لا تبقى وحدك في المعركة، بل تستعين بمن قد يكون خاض هذه الأمور أو عاشها، أو جربها، أو عرف عنها أكثر مما تعرف.(46/7)
طريق الشهوة
الطريق الثاني: هو طريق الشهوة، فقد يكون الإنسان أصلاً لا يفكر في الأمور هذه، وعقله منصرف عن الشبهات، ومؤمن بها إيماناً مسلماً، لا يوجد مجال للتأثير عليه، فيأتيه الشيطان عن طريقٍ آخر، فهذا الإنسان بشر ركبت فيه الشهوة، فلا يزال الشيطان ينفخ في نار الشهوة، ويؤججها في قلب هذا الإنسان، حتى يوقعه في مزلق من المزالق، والنهاية في كلا الطريقين التي يحرص عليها الشيطان، هي إيقاع الإنسان في الكفر.(46/8)
أساليب الشيطان
لكن قد يجد الشيطان صعوبة في هذه المرحلة، فيحاول بمرحلة أخرى أقل.(46/9)
حرص الشيطان على أن يختم للإنسان بسوء الخاتمة
وإذا عجز الشيطان عن هذه الأشياء كلها فإنه لا يضع رجلاً على رجل، ويترك -كما يقولون- الحبل على الغارب، بل يظل يجاهد الإنسان حرصاً على سوء الخاتمة والعياذ بالله، ولذلك كان الإمام أحمد، رحمه الله، وهو ممن خبروا كيد الشيطان، فعصمهم الله تعالى منه، كانت الشياطين تخاف من الإمام أحمد، ولعلكم جميعاً تذكرون القصة الصحيحة عنه أن رجلاً أصيب بجن في بغداد -أصابه الجنون- فعجز عنه الأطباء والقراء، فذهب أهله إلى الإمام أحمد، وقالوا: إن هاهنا رجل أصابه جن، فأعطاهم الإمام أحمد رحمه الله نعلاً، وقال: اذهبوا إليه وقولوا له: يقول الإمام أحمد: يخرج وإلا جئت لأضربه بهذا الحذاء، فلما قالوا هذه الكلمة عند الرجل المجنون، قال الجني: بل أخرج، الإمام أحمد أطاع الله فأطاعه الجن.
لقد ابتلي بالمحنة فصبر وخرج منها كما يخرج الذهب من النار نقياً مصفى، ووقف هو في طرف والدنيا كلها بما فيها الخليفة في طرف آخر، وضُرب وجُلد وكان يغمى عليه، ويسيل الدم منه وهو صابر، فيعرضون عليه الطعام فيأبى أن يفطر، وكان يصلي والقيود في رجليه والدماء تسيل منه، فهذه صورة من صور الثبات على المبدأ، لو كانت عند غيرنا، ولو كانت عند الأمم الأخرى الكافرة، لشغلوا بها الدنيا، وملئوا بها أسماع الناس.
المهم أن هذا الإمام الجليل حفظ الله فحفظه الله، فلما كان آخر لحظة من حياته حاول الشيطان محاولة أخيرة أن يضعف بعض هذا المستوى الإيماني الرفيع الذي وصل إليه الإمام أحمد، فمر من عنده الشيطان، وقال: فتني يا أُحَيمِد، فُتّني يا أُحَيْمِد أي يقول: أفلت منى ويئست منك، فقال له الإمام أحمد: لا بعد، لا بعد -وكان في نوع من الغيبوبة- فلما صحا قالوا له: إنك تقول كذا، قال: إن الشيطان عرض لي، يقول: فتني يا أُحَيْمِد، فأقول له: لابعد، لابعد، أي: ما فتك، لأنه لو وافق الإمام أحمد الشيطان على أنه فاته، لكان هذا مدخلاً ذكياً للشيطان أن يضعف المستوى الإيماني عند الإمام أحمد في اللحظة الأخيرة من لحظات حياته.
فالشيطان إذاً يعمل هذه الأشياء كلها، بل هو مع نجاحه فيها، يحرص على أن يسيء للإنسان الخاتمة، وهذا الأمر كان يقلق بال الصالحين ويقض مضاجعهم، حتى وهم يعبدون الله يخافون أن يأتيهم الشيطان وهم في حال الاحتضار، فيغريهم أو يضرهم، ولا عصمة للإنسان من هذا إلا أن يكون في حال حياته مع الله سبحانه وتعالى كثير الاستعاذة من الشيطان، ويحصن نفسه من الشيطان بالحصون المنيعة من الذكر والقرآن والدعاء والعبادة وصحبة الأخيار وغير ذلك.(46/10)
شغل الإنسان عن عبادة الله
فإذا عجز الشيطان من الإنسان عن طريق الرياء والعجب والغرور والزهو، انتقل إلى المرحلة الرابعة: وهي أن يشغل الإنسان عن عبادته، فإذا عصى الإنسان الشيطان وعبد الله تعالى، وتخلص من العجب، وعرف قدر نفسه، وعرف أن كل نعمة عنده فهي من الله، فما ينبغي للإنسان أن يعجب؛ لأنه إذا كانت النعمة من الله، فمن واجبك أن تشكر هذه النعمة، لا أن تغتر بها، لأنه لو خلق الإنسان منا غبياً، لما استطاع أن يكون ذكياً، ولو كان دميماً لما استطاع أن يكون جميلاً، ولو خلق فقيراً لما استطاع أن يكون غنياً، فكل نعمة عندك من الله فما ينبغي لك أن تغتر بها، بل أن تدرك أنها مسئولية عليك، ولذلك يقول الشاعر: إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر أي: إذا قمت بشكر النعمة، فهذا الشكر نفسه نعمة جديدة تحتاج إلى شكر جديد، وهكذا تنتقل من شكر إلى شكر إلى شكر، حتى تموت وما أديت شكر نعمة الله، فهذا الشكر جعل الإنسان يرفض وسوسة الشيطان في موضوع العجب والغرور.
ثم ينتقل الشيطان إلى المرحلة الرابعة، وهي أن يشغل الإنسان عن عبادته، فإذا دخل الإنسان في الصلاة، بدأت المعركة مع الشيطان، وهذا دأبه، وكلنا نشتكي من هذا الأمر، ونطرحه في مجالسنا ونشتكي منه، ونتكلم فيه، ولكننا واقعون فيه، وهذه من الأمور التي يقال فيها: إن عند الإنسان علماً بها، لكنه لم يستفد من علمه، وعند الإنسان معرفة لكنها معرفة عقلية مجردة، كلنا ندخل في الصلاة، فنكبر، ولا ننتبه إلى الصلاة إلا بالتسليم، وقد بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري قال: {إن الشيطان إذا أُذن للصلاة أدبر، وإذا انتهى الأذان جاء، فإذا أقيمت الصلاة أدبر، فإذا انتهت الإقامة جاء حتى يحول بين الإنسان وبين صلاته، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا لما لم يكن يذكر} .
وفي هذا المجال قصة، وهي أن رجلاً جاء لـ أبي حنيفة وقال له: إني نسيت كذا وكذا -وضع شيئاً في مكان ونسيه- فقال له أبو حنيفة: صلِ عشر ركعات، وسلم من كل ركعتين، وسبح واستغفر، ولن تتم العشر إلا وقد عرفت أين وضعت الشيء، فلما قام هذا الرجل صلى الركعتين الأوليين، ثم اتنفل من صلاته -انصرف من صلاته- وجاء إلى أبي حنيفة ودعا له، وقال: جزاك الله خيراً، وصية ناصح، قال: لماذا؟ قال: إني قد ذكرت هذا الشيء، فضحك أبو حنيفة رحمه الله، وقال: هذا الشيطان اللعين، عرف أنك سوف تصلي عشر ركعات، فأحب أنه يذكرك بالأمر قبل أن تتم العشر، وبعد أن صليت الركعتين ذكرك بهذا، ليقطع عليك بقية الركعات التي أمرتك بأدائها.
فهذا أمر كلنا يعلمه، ولذلك لو استطعنا أن نخلص بمجاهدة الشيطان في هذه الأمر، لحصلنا من وراء ذلك خيراً كثيراً، وفي الحديث الصحيح: {من توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه} والرسول صلى الله عليه سلم صلى ذات يوم وكان في قبلته ستارة فيها تصاوير، فقال لـ عائشة رضي الله عنها: {أميطي عنا قرامك هذا، فإن تصاويره لم تزل تعرض لي في صلاتي} .
ولما أهدي له أبو جهم أنبجانية وكان فيها أعلام وخطوط، فلما انتهى من الصلاة خلعها، وقال: {اذهبوا بأنبجانيتبي هذه وأتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي} فيجب على المصلي أن يحرص ما استطاع على أن يستحضر قلبه في صلاته، ووسائل استحضار القلب في الصلاة كثيرة، ليس هذا مجال ذكرها والحديث عنها، ويمكن للإنسان أن يرجع إلى كتاب مختصر منهاج القاصدين أو كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، فإنه يجد فوائد في ذلك.
وبمناسبة ذكري لكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، أقول: إن هذا الكتاب مفيد جداً في هذا الباب، لكن يجب أن يكون قارئه على حذر شديد، فالكتاب مليء بالأحاديث الضعيفة والموضوعة والمكذوبة، ومليء بخرافات الصوفية التي سيطرت على الأمة الإسلامية في وقت من الأوقات، وهي سقطات كبيرة وخطيرة أيضاً ليست بالبسيطة، أما في مجال ترقيق القلوب والمعاني الإيمانية فإنه مفيد، فإذا انتبه الإنسان إلى هذه المزالق التي أشرت إليها، استفاد منه، وإلا فليدعه وليستفد من غيره من الكتب.(46/11)
الدعوة إلى البدع
فإذا عجز الشيطان عن الإنسان عن طريق شغله في عبادته، انتقل إلى المرحلة الخامسة: وهي أن يدعوه إلى البدعة.
فيقول له: أنت عابد، مصل صائم تخلصت من كيد الشيطان، ويجره إلى مزيد من الخير، حتى يوقعه في الطرف الآخر، فكما أن المعاصي ضرر ووسيلة وبريد للشيطان، كذلك البدعة والغلو في الدين وسيلة للشيطان.
وخذوا مثالاً واضحاً في هذا: قضية الخوارج الذين ظهروا في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وما بعده، ما أتاهم الشيطان من جهة العبادة.
كان ابن عباس يذهب إليهم ويقول عنهم: كانت جباههم كأخفاف الإبل، قد تمتنت من طول السجود والعبادة، وكانوا شباباً إذا رأيتهم أنضاء عباده وأطلاح سهر، تقول: بهم مرض وما بهم من مرض، ولكنه من طول الصيام والعبادة والقيام، لكن كان الصحابة إذا رأوهم يبكون كما بكى أبو بكرة رضي الله عنه وغيره، ويقولون: [[كلاب النار، كلاب النار]] ويقول بعضهم: لولم أسمع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالها مرة ولا مرتين ولا ثلاث ما قلتها، وقال صلى الله عليه وسلم: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} ؛ لأنهم زادوا في العبادة والزيادة في العبادة ممنوعة كالنقص فيها؛ لأن العبادة تشريع وتوقيف من عند الله ولا أعني بالزيادة أن تقوم الليل فتصلي أكثر من ثلاث عشرة ركعة، فهذا لا يدخل في هذا الباب، وإن كان من الأولى والأفضل للإنسان دائماً الالتزام بالسنة في كل شيء، ولا على ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من مزيد، لكن لأنهم زادوا في العبادة بمعنى أنهم غلوا، وصارت نتيجة عبادتهم أنهم أصيبوا بالغرور، وأصيبوا بالعجب الذي جعلهم ينظرون إلى الناس، على أنهم عصاة وفساق وجهلة ومرتدون، وهم وحدهم المسلمون، حتى كفروا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والشيطان يضحك عليهم، وهم يعتقدون أنهم قد أرغموا الشيطان، وقد أهانوا الشيطان، وداسوه بأقدامهم، والحقيقة أن الشيطان يرقص في رءوسهم ويضحك مسروراً بهذا، لأن هذا يشبع رغبة عدد من الناس.(46/12)
الإغراء بالكفر
فالمرحلة الأولى هي مرحلة الكفر، فإذا عجز الشيطان عنها فإنه يؤجل هذه المرحلة، لا أقول: ينهيها لا، إنما يؤجل هذه المرحلة، ويبدأ بخطوة أسهل منها، لأنه كما قلنا يبدأ بالطريقة المناسبة لحال الإنسان.(46/13)
الإغراء بالمعاصي وترك الطاعات
فيبدأ بإغراء الإنسان بالمعاصي وترك الطاعات، فالإنسان الذي ما استجاب للشيطان في دعوته إياه إلى الشرك وإلى الكفر بالله، فيبدأ الشيطان يحاول مع الإنسان بالمعاصي وترك الطاعات، ويحاول يقنعه بألا يصلي، وألا يصوم، وألا يقرأ القرآن، ومع الأسف الشديد تجد أن أكثرنا في كثير من الأحيان قد يقع من حيث لا يشعر بهذا التثبيط، سبحان الله!! يا إخوة: الإنسان حينما يسمع -مثلاً- قصيدةً من القصائد الجميلة، أو كلمة أو يشاهد مشهداً من المشاهد، تجده مشدود الأعصاب مهتم يشعر بنشاط لهذا الأمر، لكن إذا أراد أن يقرأ القرآن، مع أن القرآن هو أبلغ الكلام وأعظم الكلام وخير الكلام، ويكفي أنه كلام رب العالمين سبحانه.
حينما يسمع القرآن تجد الإنسان يبدأ ينعس أحياناً، أو يتشاغل أحياناً، وهذه والله لو تأملناها لوجدناها غريبة فعلاً، ما الذي يجعل الإنسان هكذا، إنه كيد الشيطان ووسوسته للإنسان، فهو يغري للإنسان هنا بترك الطاعة.
فإذا عصا الإنسان الشيطان وفعل الطاعة، وصلى وصام وقرأ القرآن، لا ييأس الشيطان هنا، بل يأتي ويحاول أن يفسد عليه هذه الطاعة، يفسدها عليه بالرياء، ويفسدها عليه بالعجب.
الرياء: هو أن يعمل الطاعة من أجل الناس، ومن أجل أن يراه الناس، والعجب لا يكون كذلك، فربما فعل الطاعة لله وبنية خالصة، ولكن بعد ما فعل، أصابه الزهو والغرور والإعجاب بنفسه والعياذ بالله وصار يشعر أنه فلان بن فلان، فهذا يحبط عمله، والعياذ بالله.
ولذلك -أيها الإخوة- تجدون الغرور لا يسلم منه طائفة من الطوائف، كلها تصاب بالغرور، لكن غرور يناسب ما هي عليه، فالشيطان قد يدعو الإنسان إلى الغرور، إن كان جميلاً بجماله، وإن كان غنياً بماله، وإن كان فصيحاً فبلسنه وفصاحته، وإن كان عالماً أغراه بعلمه، وإن كان عابداً أغراه بعبادته، وكلكم تعرفون قصة الإسرائيلي الذي كان يعبد الله دهراً طويلاً، فذكر له رجل من الفساق المدمنين على المعاصي، فقال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: {من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر لفلان؟! لقد غفرت له وأدخلتك النار} أو كما ورد في الحديث القدسي.
فالذي دعا الإنسان إلى هذه الكلمة والعياذ بالله هو الغرور، ولذلك قال بعض السلف: لا يبلغ الإنسان حقيقة التواضع، إلا أن يرى لكل إنسان لقيه من المسلمين فضلاً عليه، لأنك حين ترى أنك خير من الناس، هنا تصاب بنوع من الغرور والعجب، وما أكثر ما يوجد هذا في طلاب العلم والعباد! ومن أسباب كثرة وجوده: أنهم آمنون من هذا الأمر، والمثل يقول: من مأمنه يؤتي الحذر، وقد يكونون يجاهدون الشيطان في المعاصي، أي: لو جاء الشيطان لإنسان عالم، وقال له: الزنى -عياذاً بالله- هذا العالم لا يفكر مجرد تفكير في الزنى، ويعتبره معصية، أو السرقة لا يفكر في هذه الأمور، أو جاءه يشككه في الجنة أو في النار، لا يمكن أن يستجيب لهذه القضايا، لأنه في حال من العبادة والزهد والورع مع الله سبحانه وتعالى، التي تجعل هذه الأمور بعيدة عنه كل البعد، ولكن يأتيه الشيطان فيقول له: الناس في نومهم وأنت تتعبد، الناس في لهوهم وأنت قائم أو راكع أو ساجد، أنت الذي حصَّلت من العلم كذا وكذا، وحصَّلت من العبادة كذا وكذا، ولا يزال به حتى يوقعه في العجب.
ولذلك من داء العباد العجب، فتجد العبد في المجلس يحرك شفتيه، لأنه لا يريد أن يجهر بالذكر حذراً من أن يكون مرائياً، فيحرك شفتيه، وينسى أن هذه أحبولة ذكية وخبيثة من أحابيل الشيطان، فهو يحرك شفتيه ليقول لمن حوله: انظروا إنني عابد، ومع أنني عابد فأنا بعيد عن الرياء ولا أجهر بعبادتي، بل بيني وبين نفسي حتى لا أفسدها بالرياء، وهذه نفسها وسيلة وكيد من كيد الشيطان، فهذا مدخل لطيف وذكي جداً من مداخل إبليس اللعين أعاذني الله وإياكم منه.(46/14)
صور من سوء الخاتمة
وكم سمعنا من صور سوء الخاتمة ما يتقطع له الفؤاد أسىً، وقد حدثني أحد الثقاة أن صديقاً له أيضاً من الناس الطيبين الصالحين لا حظه في بعض الوقت وقد بدأ عنده نوع من التعب وضيق الصدر وشرود البال حتى خاف عليه، حتى إنه لا يكاد يأكل ولا يشرب ولا يطعم ولا يتحدث ولا يجلس مع الناس، وكان صديقاً له فجاء إليه، وقال له: يا أخي ما لك؟ فأبى أن يخبره، فأصر عليه، وقال: إما أن تخبرني وإما أفارقك فلا أصحبك أبداً، فما قيمة الصداقة إذا كنت تخفي عني أموراً ولا تبديها، فقال له: يا أخي الأمر شديد وخطير، كان لي أخ، وكان رجلاً مسرفاً على نفسه، واقعاً في المعاصي، فمرض وضعف واشتد به المرض حتى كان في حال الاحتضار، فقال لي: اذهب وأتني بالمصحف، يقول: فتطلع قلبي وسررت، وقلت: لعل الله كتب لأخي أن يتوب في هذه اللحظة من حياته، لعله يريد أن يضعه على صدره، يموت مطمئناً، فبعض الناس يكون لهم هذا الشيء، بغض النظر عما إذا كان هذا الأمر مشروعاً أو غير مشروع يقول: فأحضرت المصحف، فقال لي والعياذ بالله: إنه كافر بهذا القرآن، يقول: فوالله إن الدنيا كلها أظلمت في عيني؛ لأنني في الماضي كنت أرى فعل الفسق، وأراه على المعاصي وأشك فيه، لكن كان الأمل عندي موجوداً، ورحمة الله سبحانه وتعالى واسعة، لكن بعد ما لفظ هذه الكلمة في اللحظة الأخيرة من عمره، يقول: صرت أتصور أخي وهو في هذا العذاب الذي لا يفتر، ثم أتصور ما يئول إليه في يوم القيامة من العذاب الذي لا يمكن أن ينفك عنه أبداً.
وأنتم تعلمون أن الله عز وجل حرم الجنة على الكافرين، وفي الحديث الصحيح: {أن رجلاً كان يقاتل مع المسلمين قتالاً شديداً، ولا يترك شاذة ولا فاذة إلا تعرض لها، فقال الصحابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما أبلى فلان اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو في النار -حتى كاد بعض الصحابة أن يرتاب، كيف في النار؟! هذا الرجل الذي جاهد أحسن مما جاهدنا يحكم له الرسول صلى الله عليه وسلم بالنار، والحديث صحيح- فقال رجل: والله لأنتظرن ما يفعل، فصار يلاحقه ويتابعه في المعركة، فجاءوا إلى رسول الله صلى عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله قتل فلان شهيداً، قال: هو في النار، -فزاد شكهم وحيرتهم في ذلك، فبينما هم كذلك إذ جاءهم خبر يقول: لا، إن الرجل لم يقتل، وإنما جرح وما زال حياً، وذلك الرجل يراقبه ويصحبه، حتى اشتدت به الجراحة، فقام ووضع السيف على الأرض وذبابة السيف إلى أعلى، ثم وضعها في صدره أو في بطنه واتكأ على السيف والعياذ بالله حتى خرج السيف من ظهره ثم مات- فجاء الرجل وقال: يا رسول الله، أشهد أنك رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي قلت هو في النار اشتدت به الجراحة فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله، قم يا فلان فناد في الناس: إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر} فهذه صورة من صور سوء الخاتمة.
أعتقد أنني قد أكون أطلت عليكم، فأكتفي بما ذكرت، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجيرني وإياكم من مكايد الشيطان، وأن يحفظنا على ذلك حتى نلقاه، وإنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(46/15)
الأسئلة(46/16)
نصيحة حول كتاب تلبيس إبليس
السؤال
ما رأيكم بقراءة كتاب تلبيس إبليس لـ ابن الجوزي، وهل ورد فيه بعض الخرافات؟
الجواب
ورد فيه خرافات وروايات إسرائيلية وأقاويل وأقاصيص، ليست لها أسانيد؛ لكن الكتاب جيد جداً، وأنا أنصح بقراءته، والإنسان عنده حاسة تمييز، فالأشياء الذي يرويها مطلقة ليس لها زمام ولا خطام، الإنسان غير ملزم بما فيها والتصديق بها، لكن فيه كشف مداخل الشيطان ووساوسه فهو جيد، خاصة إذا علمنا أن ابن الجوزي رحمه الله كان واعظاً، حتى كان يحضر حلقته في بغداد الآلاف المؤلفة، وكان يسلم أعداد كبيرة من اليهود والنصارى على يديه.
وبالمناسبة أقول: الكلام عن موضوع ترقيق القلوب والسلوك مع الأسف الشديد صار وقفاً على الصوفية، وقد دخلوا فيه فأفسدوه، وحشدوا فيه من الخرافات والانحرافات والضلالات ما الله به عليم، ولكن يوجد من شيوخ وأئمة أهل السنة من كتب في هذا الموضوع ومن أفضلهم الشيخ الإمام ابن القيم رحمه الله، ثم الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي، ثم ابن الجوزي.(46/17)
من مداخل الشيطان
السؤال
أنا طالب، وأحياناً يوسوس لي الشيطان، بأن أترك الدراسة؛ لأن النية غير خالصة لطلب العلم، وخاصة أن بعض المدرسين يحرضوننا على الاجتهاد عند الامتحان فقط، فما هو الخلاص من هذه الوساوس؟
الجواب
إن الشيطان أحياناً يغري الإنسان بترك الطاعات بطريقة خاصة، فإذا شعر أنك تصلي أدخل عليك الشيطان الرياء، ويمكن أن يدعوك الشيطان إلى أن تعالج هذا الرياء بأن تترك هذه الصلاة والعياذ بالله، وقد تستغرب إذا قلت لكم: إن إنساناً بدأ الشيطان يأتيه من هذا الجانب، فبدأ يترك صلاة الجماعة، ويصلي في البيت، أمام والديه وإخوانه، ثم بدأ الشيطان يوسوس له، أنه قد يكون مرائياً في هذا، فبدأ يصلي في غرفته، ويقفل باب الغرفة على نفسه، لئلا يراه أحد، فهذه مشكلة.
إن الشيطان قد يدعوك إلى ترك الطاعة، بأن يدخل عليك ما تتوهم أنه شيء من الرياء، مثلاً لماذا تريد أن تترك الدراسة؟ عندما تشعر أن النية قد لا تكون خالصة، ما بالك إذا لم يكن عندك وازع إيماني يجعلك تشعر بوجوب الإخلاص، فنصيحتي لهذا الأخ ألا يترك الدراسة، والذي يترك الدراسة يفوت على نفسه وعلى غيره مصالح كثيرة.
أما أن الإخوة المشايخ يحرضونك على الدراسة والمذاكرة عند الامتحان، فهذا أمر طبيعي، وإلا أصلاً لماذا وضع الامتحان إلا ليشد من همم الطلاب، بوجود حافز يدعوهم إلى المذاكرة، وكل حافز لا يعني أنك لم تخلص النية، ووجود الحافز لا يعني عدم وجود النية، فالإنسان قد يعمل عملاً خير ياً ويعطى عليه راتب مثلاً، كالتدريس أو غيره، فلا نقول: إن هذا الإنسان يعمل للدنيا، إذا كانت نيته صحيحة فهذا الحافز الذي وجد مشجع له، ولا يؤثر ولا يضعف من قيمة هذا العمل إن شاء الله.(46/18)
من الكتب المفيدة التي ينصح بقراءتها
السؤال
ما هي الكتب التي تنصحوننا بقراءتها وخاصة ونحن شباب تنفعنا الثروة الثقافية؟
الجواب
أنصحكم بالقراءة وخاصة قراءة كتاب الله، ثم الحرص على القراءة، وقد لا يكون من المناسب أن أخص كتباً، فقد أذكر بعضها وقد أنسى بعضاً آخر، لكن النصيحة التي أسديها لكم هي المواظبة على القراءة وخاصة في هذا العمر الذي تعيشون فيه، فإن هذه الأيام التي تمر لن تعود، حتى إن انتبه الإنسان فيما بعد فالعمر الذي مر وفات لن يرجع، ويمكن أن يستفيد مما يأتي، لكن لن يستطيع أن يسترجع الأيام التي فرط فيها فيما مضى، والقراءة تنفع، ونفعها لا يمكن أن يقدر بثمن، ولذلك أنصحكم نصيحة أخ مجرب أن تحرصوا على القراءة وتكثروا منها، أما الكتب فأهم شيء يقرؤه الإنسان هو كتاب الله، وأن يجعل الإنسان له ورداً يقرؤه من كتاب الله ما شاء الله له، جزء أو أقل أو أكثر من ذلك، ثم يقرأ، فلا يقرأ ما هب ودب، بل يستشير بعض الناصحين، ليشيروا عليه بالكتب المهمة.
فمن الكتب المفيدة في الحديث النبوي كتاب رياض الصالحين، فهذا الكتاب سبحان الله!! كتب الله له القبول، مع أنه أحاديث منتقاة من السنن ومن الصحيحين، لكن كتبه وكتب الله له القبول بشكل عجيب وملموس، وفعلاً إذا قرأت شعرت بأن الإمام النووي رحمه الله قد وفق في الاختيار، فهذا الكتاب طيب جداً ومفيد، وحبذا أن يقرأه الإنسان حتى ينهيه، ثم يقرأه أخرى ليكتسب ثروة حديثة كبيرة جداً، في مجال شرح الحديث هناك كتاب فتح الباري وهو كتاب كبير وشامل.
وهناك كتب في مجال العقيدة مثل كتاب فتح المجيد، وتيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وهي كتب مفيدة جداً، وهناك كتاب شرح العقيدة الواسطية، لـ محمد خليل هراس، وهو أيضاً كتاب طيب، وهناك كتب كما يقولون للثقافة الإسلامية، أذكر منها الآن كتاباً طيباً للشيخ أبو الحسن الندوي ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، وله كتاب آخر أيضاً بعنوان: إلى الإسلام من جديد، هذه الكتب فيها روح، وفيها إيمان، وثقة، فمن الجيد للإنسان أن يقرأها، وهناك كتب أخرى لا يتسع المجال لذكرها.(46/19)
كيف تصارع الشيطان
السؤال
دائماً يجد الواحد منا مصارعة مع إبليس، وقد يتغلب الشيطان على أحدنا، فبماذا تنصحوننا ونحن في هذه الحالة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] أنصح الشاب أولاً: أن يتذكر -إذا وقع أو كاد أن يقع- شدة عقاب الله؛ إن الله ركب في الإنسان غريزة، وهذه الغريزة تكون قوية حتى تطفى على العقل، لكن في المقابل جعل للإنسان الذي ينحرف عن الطريق عقاباً، مجرد سماع العقاب يذهل العقول، ويوم القيامة الحرمان من الجنة يعتبر أقسى أنواع العقاب، فكيف إذا أضيف إلى ذلك أن يعذبك الله في النار، وفي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يؤتى يوم القيامة بأشد أهل الدنيا بؤساً من أهل الجنة، فيصبغ في النعيم صبغة، ثم يقال له: يابن آدم هل رأيت شراً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب -يقسم بالله ما رأى شيئاً قط، فهو قد نسي كل ما مر به في الدنيا- ويؤتى بأشد أهل الدنيا نعيماً، من أهل النار، فيصبغ أو يغمس في العذاب غمسة، ثم يقال له: يابن آدم هل مر بك خير قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا -والله- يارب، ما مر بي نعيم قط، ولا رأيت خيراً قط} فهذا أكثر أهل الدنيا نعيماً لحظة واحدة في النار تنسيه ذلك النعيم، لماذا لا تتصور نفسك في هذا الموقف؟ -حماني الله وإياكم من ذلك- وتتصور أن كل لذة في الدنيا يعقبها حسرة، بل حتى حسرة في الدنيا، والمؤمن إذا فعل معصية تجده مضطرب النفس، وكما يقول الشاعر: إن أهنا عشية قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل فاللذة التي دعتك انتهت وزالت، وبقي الهم ووخز الضمير وعذاب النفس، فأقول: بقدر ما تشعر حجم الشهوة التي ركبها الله فيك تذكر حجم العقاب الذي وضعه الله تعالى.(46/20)
هل إبليس من الملائكة
السؤال
هل إبليس من الملائكة أم لا؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً مع الدليل؟
الجواب
هذه المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله قديماً، وذلك بحسب قواعد الأدلة، فقال بعضهم: إن إبليس كان من الملائكة حقيقة؛ لأن الله عز وجل استثناه منهم كما قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [البقرة:34] فقال: كان إبليس من الملائكة حقيقة، والدليل هذه الآية، وذهب آخرون إلى أن إبليس لم يكن من الملائكة، بل كان من الجن، وإنما ورد استثناؤه في القرآن، لأنه كان معهم، وربما كان في ظاهر الأمر قريباً منهم فشمله الخطاب، وهذا رجحه عدد من العلماء، لأنهم قالوا: إن الملك مجبول على الخير في أصله لا يعرض له وازع الشر ولا البغي ولا الاستكبار، فالملائكة كما قال الله عنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] هذان قولان في المسألة.(46/21)
معرفة الكسوف بالحساب
السؤال
تحديد وقت الكسوف نسمع عنه في الجرائد، فهل الكسوف يدرك بالحساب، وما دام يدرك بالحساب فهل يكون آية تخويف؟
الجواب
في الحقيقة أنا لا أفترض أن أسأل هذه الأسئلة، لأنها تقديم بين أساتذتي، وأن أجيب على هذا الشيء، ولكن في هذا الموضوع، أقول: قد ساءني في الحقيقة كلام بعض الناس حول هذا الموضوع، من جهة جهلهم في الدين وكلامهم فيه بغير علم، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى وجود البلبلة عند الناس، وأقصد بذلك أننا أحياناً نكابر الواقع، نسمع خبر الكسوف قبله بفترة، وكل الناس يؤمنون بها، فيأتي بعض المسلمين الآن ويقولون لك: هذا كذب، فإذاً هذه مكابرة للواقع لأن حركة الشمس وحركة القمر يمكن أن تضبط وتدرك، وقد تكلم العلماء في هذا كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، والذين أنكروا أن يقال مثل هذا الأمر لم ينكروا أنه يمكن أن يدرك بالحساب، وإنما قالوا: إنه لا ينبغي أن يعلن على العامة، لأن الإعلان قد يؤدي إلى بلبلة، وهذا ليس فيه شيء، فمن الممكن أن نقول: أن مثل هذا لا يعلن للعامة، لكن أن نقول: إن هذا كذب وتزوير وليس بصحيح، ثم إذا وقع قلنا حصل موافقة وابتلاءً واختباراً، هذا في نظري هو من المكابرة، والمسلم لا يعبد الله على رأي فلان ورأي علان أبداً، القرآن والسنة فيصل بين الناس فيما يختلفون فيه.
أما هل يكون آية وهو يدرك بالحساب فأقول: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12] بعضهم قال: آية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، فالقمر بحده حتى قبل أن يكسف هو آية، والشمس آية.
نحن نعلم أن الشمس تطلع كل صباح وتغيب كل مساء فهي آية، وأنت أيها الإنسان آية، والكسوف آية، والخسوف آية، وكل شيء له آية سبحانه، وإنما الكسوف يكون آية من جهة أنه مخالف لمجرى العادة، فهو ينبه الناس أن الذي جعل الشمس والقمر ينخسفان أو ينكسفان قادر على أن يزيلهما البتة، فلا نتمتع بشمس ولا قمر، كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:71-73] .(46/22)
الفرق بين الشيطان والنفس الأمارة بالسوء
السؤال
كيف نفرق بين الشيطان والنفس الأمارة بالسوء؟ وهل النفس واحدة أم أنواع؟ وهل إبليس أبو الجن أم أبو الشياطين؟ وما هو الفرق بين الجن والشياطين؟
الجواب
أما الأمر الأول وهو التفريق بين الشيطان وبين النفس، فالشيطان هو شئ خارجي، أما النفس فهي نفس الإنسان، لكن النفس قابلة للخير والشر، قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] وقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7-8] فالنفس قابلة للهدى والضلال، ولذلك إذا وسوس لها الشيطان، تحركت وازع الضلال في النفس واستجابت للشيطان.
أما النفس هل هي واحدة؟ فهذا كلام تكلم فيه القدماء، وفي نظري أنها فلسفة لا يجب أن نشغل أنفسنا فيها، إنما الذي يجب أن نعلمه أن النفس على مراتب، هناك أناس نفوسهم أشرقت، فأصبحت نفوسهم عندها إيمان لا يكاد يوسوس لها الشيطان إلا نادراً، وهذه هي النفوس التي تبشر عند موتها لقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27-28] .
النوع الثاني: نفس فيها خير، ولكن يكيد لها الشيطان فتعصي ثم تتوب، وتعصي ثم تتوب، وتلوم نفسها على هذه المعصية، فهذه النفس اللوامة، وقد أقسم الله بها فقال: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2] .
النفس الثالثة: هي الأمارة بالسوء، وهي التي زادت فيها عناصر الشر والفجور، وصارت أقرب إلى استجابة الشيطان.
أما إبليس فالمعروف والمشهور أنه أبو الجن, والله أعلم.(46/23)
حقيقة الصراع مع الشيطان
السؤال
ما الذي يذهب الوسوسة حتى لا أقع في مصايد الشيطان، وهل يتوفى الشيطان في الدنيا أم لا؟
الجواب
لا شك أنه يموت، فالشيطان طلب من الله كما حكى الله عنه في قوله: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14] فلم يجب الله دعاءه، ولم يقل إلى يوم يبعثون، لكن قال: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:38] والشيطان يموت، والملائكة يموتون حتى ملك الموت يموت قبل يوم القيامة، ويبقى الله سبحانه، وهذا هو الشق الأول.
أما الشق الثاني: أعتقد أن موضوع الكلمة كله يتعلق بموضوع وسوسة الشيطان وإيراد بعض مصايده، والذي يظن أنه تمر به مرحلة خالصة من وسوسة الشيطان ومكائده فقد أخطأ، ولذلك قلنا: الشيطان يوسوس حتى وأنت على فراش الموت، والحرب سجال يوم لك ويوم عليك، فإذا قوي إيمانك وصحت نيتك غلبته.
وفي المناسبة أذكر قصة ذكرها الإمام ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس وهو من الكتب المفيدة في هذا المجال، مفيد جداً يقول: إن عابداً من العباد كانت في أيامه شجرة يعبدها الناس، فقام وأخذ فأسه وذهب إلى هذه الشجرة ليقطعها، فجاءه الشيطان، وقال له: أين تريد؟ قال: أريد الشجرة الفلانية لأقطعها، فحاول الشيطان أن يمنعه من ذلك، فقام هذا العابد وأخذ الشيطان وقعد عليه حتى صار الشيطان تحته، فقام العابد فلحقه الشيطان إلى الشجرة، فقال له: الشجرة تقطعها اليوم ثم تنبت من جديد ويعبدها الناس، ألا أدلك على خير من ذلك؟ قال: نعم، قال: اذهب إلى صومعتك، واجلس في عبادتك، وأنا أعطيك في كل يوم دينارين، تستغني بها عن الناس وعن الحاجة، وتتصدق أيضاً بها على الفقراء والمساكين، ففكر العابد فوجد الأمر مناسباً له، فقال: نعم، فرجع العابد إلى صومعته، ففي اليوم الأول جاءه بأربعة دنانير، وفي الثاني جاءه بدينارين، وفي الثالث جاءه بدينار واحد، وفي اليوم الرابع انقطع، فخرج العابد مغضباً، وحمل فأسه على كتفه، وفي هذه المرة خرج أكثر انفعالاً أكثر من الأولى، فقال له الشيطان: أين تريد؟ قال: إلى الشجرة لأقطعها، قال: هيهات لا تستطيع، فقام العابد يصارعه، فصرعه الشيطان، فقال العابد: الآن أستسلم لك، فأخبرني، قال: المرة الأولى خرجت من أجل الله فغلبتني، أما هذه المرة فلم تخرج من أجل الله فغلبتك.
فالإنسان يصارع الشيطان فيصرعه مرة، والشيطان يصرع الإنسان مرة، والإنسان يصرع الشيطان أخرى، لكن إذا خلصت النية فالله سبحانه يساعده ويعينه.(46/24)
خطر شياطين الإنس والجن
السؤال
نسمع كثيراً أن شياطين الإنس أعظم خطراً من شياطين الجن، فهل هذا صحيح؟ وهل عليه دليل؟
الجواب
يذكر الله سبحانه وتعالى شياطين الإنس والجن جنباً إلى جنب، فمراتبهم قد تكون نسبية لأن مهمتهم واحدة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] فمهمتهم زخرفة القول وتضليل الناس به، وشياطين الإنس هم في الحقيقة جند للشيطان الأكبر إبليس اللعين، ولكنهم في بعض الأحيان قد ينجحون في طرق ووسائل يفشل فيها شيطانهم ورئيسهم الأكبر؛ لأنهم منا ومن بني جلدتنا يتكلمون بلغتنا ويوسوسون للإنسان، ويستطيعون في بعض الأحيان أن يصرفوه عن طريق الخير إلى طريق الشر، فهم قد ينجحون في أعمال ووسائل يفشل فيها الشيطان أولاً، أو لا يستطيع الشيطان أن يصل إليها إلا عن طريقهم، ولذلك فالإنسان كما يحذر من الشيطان ويستعيذ بالله منه في كل لحظة وفي كل حين، يجب عليه أن ينتبه وأن يحذر من شياطين الإنس، الذين يتدسسون بالإنسان ويتزينون له بكافة الصور، وكم والله من ضحية ذهبت بسببهم -ومع الأسف الشديد- لأنهم أصدقاؤه، وقد يحبهم ويحبونه فعلاً، لكنهم يأتونه بمداخل من الشر حتى ينجرف.
وأنتم تعلمون اليوم ما يعانيه مجتمعنا من انتشار بعض المنكرات، كالمخدرات التي شاعت في أوساط الشباب -مثلاً- والأفلام وغيرها، على رغم الجهود المبذولة لتلافي هذه الأشياء، فالجهات الشرعية من جهتها تنصح وتحذر وتذكر، والجهات الأمنية تتابع هذه الأمور وتعاقب عليها أشد العقاب، ومع ذلك تجد الأمر يزداد خطورة، صحيح أن هناك تجاراً يتاجرون بهذه الأشياء، لكن أيضاً هناك شياطين الإنس الذينيجرون أصدقاءهم إلى هذه الأمور، فالحذر الحذر من شياطين الإنس والجن.(46/25)
كيفية طرد الوسواس في الصلاة
السؤال
تردد في فكري بعض الوساوس وأشياء أخرى في الصلاة، فما هي الأدعية والأذكار التي يمكن أن أقولها للتخلص من ذلك؟
الجواب
أولاً: الرسول أرشدنا إلى الاستعاذة بالله من الشيطان، فإذا حال بينك وبين صلاتك ودعاك إلى الوسوسة أو شغلك، فاستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، هذا أمر.
الأمر الثاني: هو الأمر الإيجابي، وهو أن تشغل نفسك عن الشيطان، لأن نفسك إذا لم تشغلها، شغلها الشيطان، ففكر في ماذا تقرأ؟ وفكر في صلاتك؟ لو فكرنا في هذه الأمور أيها الإخوة لاستفدنا منها كثيراً.
جلست في يوم من الأيام مع بعض الجيران، فسألتهم ما معنى سبحان ربي الأعلى، أو سبحان ربي العظيم كلمة نقولها في كل حين، وفي كل وقت، لكن ما معناها؟ فوجدت أن أكثرهم لا يعرف ما معناها، وهذا دليل على أننا أخذنا الصلاة وغيرها من الأعمال بالوراثة والتقليد، وصرنا نفعلها، ولذلك لا تترك فينا أثرها، فاعلم وفكر أولاً ما معنى الأذكار، وما معنى الآية التي نقرؤها؟ فتجد أن هذا بإذن الله خير عاصم من الشيطان.
وهناك مثال آخر غير سبحان ربي الأعلى، وسبحان ربي العظيم، وهو إذا رفع الإنسان رأسه من الركوع يقول: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وإذا سلم من الصلاة قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاثاً، ثم قال، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
وكل هذا ثابت صحيح، فما معنى لا ينفع ذا الجد منك الجد؟ أعتقد أن أكثر الإخوة قد يكون سمعها من الأشرطة، أو يفهم معناها، ولذلك تعلم أنك أنت تخاطب الله، ولو أن إنساناً كلمك بكلام لا يفهمه هو، لكان هذا خطأً فادحاً فكيف تكلم رب العالمين، تقول: اللهم.
وأنت لا تدري ما معنى الكلمة التي بعد اللهم؟ بالمناسبة (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي: صاحب الغنى والحظ والنصيب لا ينفعه ذلك الغنى والحظ والنصيب، إنما ينفعه العمل الصالح، ولا ينفع ذا الجد، أي صاحب الجد وصاحب الغنى، لا ينفعه منك: أي عندك، الجد أي: الغنى، وإنما ينفعه العمل الصالح.(46/26)
كيفية معالجة الوسوسة في صفات الله
السؤال
إذا قرأت في التوحيد في باب أسماء الله وصفاته أشك في بعض الصفات، فهل هذا ضعف في الإيمان أم لا؟
الجواب
أولاً: أقول: تعبيرك بأَشُك ليس بجيد، ولا أعتبر أن هذا شك، وإنما هو نوع من الوسوسة، والوسوسة ليست نقصاً في الإيمان، ولكن ينبغي للإنسان أن يدافع الوسوسة وكيد الشيطان، ولكن في الحقيقة هنا أمر مهم جداً وثمين، وأذكر هناك أناساً كثيرين كانوا في فترة أو مرحلة من مراحل حياتهم يحتاجون إلى هذا الأمر الذي سأقوله، فالشيطان أحياناً يأتيك، فيحاول أن يصور لك صوراً لا تليق بالله عز وجل، وهذا يضيق به الإنسان، وفعلاً كما قال الصحابة: [[لأن يحترق أحدنا حتى يكون فحماً أحب إليه من أن يذكر هذا الأمر]] فيصور لك في ذهنك رب العالمين بصورة نقص فهنا الحل بسيط جداً، وهو يتمثل في القاعدة التي ذكرها بعض الأئمة وهي: إذا تصورت الله في صورة فاعلم أن الله على خلافها، فهناك لا توجد مشكلة، فهذه إذا كانت صورة صورها لك الشيطان، أما لو وجد عند الإنسان شك حقيقي، فيجب على الإنسان أن يتصل ببعض الشيوخ والعلماء، ويسألهم في هذا الأمر حتى يشفوا علته، لكن من الصعب أحياناً على الشاب أن يفرق بين الشك وبين الوسوسة، لأن الوسوسة تظهر في مظهر الشك، ولا يحل هذا الإشكال إلا أن يستعين الإنسان بالله ثم ببعض المشايخ والعلماء الذين يميزون له ويبينون له الفرق إذا كان وسوسة أو إذا كان شكاً حقيقياً.
أما إذا كان شكاً، فهذا ضعف في الإيمان.(46/27)
على طريق الدعوة
"على طريق الدعوة" لقاء أجراه الشيخ/ عبد الرحمن العشماوي مع الشيخ سلمان -حفظهما الله تعالى- وقام الشيخ بإعطاء نبذه تعريفيه عن نفسه، ثم تكلم عن مرحلة طلبه العلم، ثم تطرق إلى الحديث عن جهوده الدعوية والعلمية والفكرية في الساحة.
ثم أجاب على عدة أسئلة تتمحور حول الأمة الإسلامية والأخطار التي تهددها وأيضاً عن واقع الدعوة الإسلامية ومعوقاتها والخلاص منها وإلى غير ذلك من الأسئلة الهامة التي لابد للمسلم أن يضعها أمام عينيه.(47/1)
تقديم الدكتور عبد الرحمن بن صالح العشماوي
على طريق الدعوة، هذا الطريق الطويل، الذي سلكه الأنبياء والمرسلون، والعلماء والدعاة المصلحون.
طريق الدعوة إلى الله تعالى، هو طريق إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهو طريق السعي الدءوب إلى إصلاح البشرية، بإنقاذها من سيطرة الشهوات والشبهات، ومن تسلط الأهواء والنزوات.
طريق الدعوة إلى الله بكل ما فيه من متعة مناصرة الحق ونشره، والدعوة إليه، وبكل ما فيه من العناء والعوائق والصعوبات، قد سار عليه عبر الأزمان رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وجرى لهم فيه من المواقف والتجارب والعبر والدروس ما نراه جديراً بالاهتمام والمتابعة، حتى ترى الأجيال نماذج حية للعمل والجد، فتفيد من أخبارها ومواقفها، وتجد القدوة الصالحة التي تدلها على طريق الخير.
وقد بدأنا -أيها الأحبة- رحلتنا مع العلماء والدعاة، من خلال سلسلة على طريق الدعوة، ومضينا سوياً على هذا الطريق، حيث اصطحبناكم في عدد من اللقاءات فيما مضى، وها نحن نكمل الرحلة، وندعوكم لإكمالها معنا، ونواصل خطواتنا في طريق الدعوة من خلال هذا اللقاء الجديد، وهو لقاء نلتقي فيه مع عالم شاب، له دوره البارز في الساحة، وله خطواته الثابتة المتواصلة على طريق الدعوة إلى الله.
نلتقي بالأخ الكريم الداعية الشيخ/ سلمان بن فهد العودة؛ لنرحل معه ومع الإخوة المستمعين في موكب من المحبة والإخاء، نستطلع فيه تجربة الشيخ سلمان منذ أن نشأ في أسرته طفلاً متطلعاً إلى الحياة، وفتىً مغرماً بطلب العلم حريصاً عليه.
إلى أن أصبح محاضراً في الجامعة وداعية إلى الله، تقام له الدروس والندوات التي تحظى بمتابعة شباب الأمة المتطلعين إلى طلب العلم الشرعي، والمتعطشين إلى المعرفة الجادة، والفكر السليم.
على طريق الدعوة نرحب بفضيلة الشيخ سلمان.(47/2)
حياة الشيخ سلمان الشخصية ونشأته
السؤال
شيخ سلمان، قد تعودنا في هذا اللقاء الطيب أن يتعرف الإخوة المستمعون على العلماء والدعاة من خلال حياتهم الشخصية، ثم من خلال رحلتهم العلمية، وجهودهم الفكرية والدعوية.
فنود في بداية هذا اللقاء الطيب، أن يتعرف المستمع الكريم على الاسم الكامل للشيخ سلمان، وتاريخ الميلاد والمكان؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فيما يتعلق بالاسم، فاسمي هو سلمان بن فهد بن عبد الله العودة، من مواليد عام (1375هـ) تقريباً، وكان ميلادي في إحدى ضواحي مدينة بريدة من منطقة القصيم.
السؤال: هل يمكن أن نعرف اسم هذه الضاحية؟ الجواب: هي بجوار قرية صغيرة تسمى قرية البصر، تبعد عن بريدة قرابة خمسة عشر كيلو متر.
السؤال: شيخ سلمان هل يمكن معرفة الحالة الاجتماعية، وعدد الأولاد؟ الجواب: الحالة الاجتماعية متزوج، وعندي -بحمد الله- ستة أولاد ما بين ذكر وأنثى.
وأكبرهم معاذ.
السؤال: إذاً: نرحب مرة أخرى بـ أبي معاذ ونسألك -جزاك الله خيراً- عن النشأة التربوية، وأن تذكر أي ذكريات عن الطفولة؟ الجواب: كانت نشأتي في تلك القرية التي أشرت إليها من قبل، ودرست فيها سنتين من سنوات الدراسة الابتدائية، وأتذكر أننا كنا في القرية، ومعروف أجواء القرى وما يكون فيها غالباً من الهدوء، والبعد عن المؤثرات المختلفة.
فكانت طبيعة النشأة -بحمد الله- نشأة في بيئة طيبة، ونتردد -بحمد الله- على المساجد، وقرأنا قدراً لا بأس به من القرآن على إمام الجامع في تلك القرية، وكان من فضلاء الرجال في ذلك الوقت، وقد ظل الرجل على رغم كبر سنه حياً -رحمه الله- إلى أن توفي في العام الماضي، عن سن يقارب الخامسة والثمانين أو يزيد.
وأتذكر أنهم كانوا -في بعض الأحيان- يؤدبوننا على عدم التأخر عن الصلاة ولو لركعة واحدة، فمن فاتته ركعة واحدة في الصلاة، فإنه قد يؤدب على ذلك.
كما أتذكر أننا ظللنا فترة نقرأ القرآن في بيت مجاور للمسجد، وقد نجلس فيه أوقاتاً طويلة نقرأ القرآن، منا من يقرأ لنفسه، ومنا من يقرأ على الشيخ أو الإمام رحمه الله، وجزاه الله خيراً.
وإن كان هناك من ذكريات ما زلت أعجب منها، وهي تجمع بين الماضي والحاضر؛ فإنني في العام قبل الماضي، لمحت في أحد الدروس العلمية في الجامع الكبير شخصاً كأني أعرفه، فلما خرجت قابلني وصافحني وسلم علي، وعرفني بنفسه، فإذا به أحد أساتذتي الذين درسوني في المدرسة الابتدائية في تلك الأيام.
وقد دارت الأيام فإذا به يصبح أحد طلابي في الجامع، ولا يزال يحافظ على الدرس بشكل منتظم، فعجبت من هذه الأخلاق الجبارة، التي جعلت هذا الرجل يتجاوز عامل السن والاعتبارات الأخرى التي يقيم الناس لها وزناً، ويجلس في الحلقة كأحد الطلاب.(47/3)
حياة الشيخ في بداية الطلب
السؤال
نحن الآن كأننا بدأنا نتحدث عن بداية طلب العلم، فنريد أن تفصل لنا قليلاً في هذا الموضوع، وتذكر مراحل العلم الأخرى، وأبرز المشايخ الذين تلقيت على أيديهم العلم، وكان لهم أثر في حياتك العلمية؟
الجواب
بعدما انتقلنا من القرية إلى المدينة إلى بريدة، وكنت في آخر السنة الثانية الابتدائية؛ التحقت بمدرسة ابتدائية تسمى مدرسة الأندلس، أو سميت فيما بعد الأندلس، وتخرجت منها.
ثم التحقت بالمعهد العلمي ببريدة، وفيه قضيت ست سنوات دراسية، وكان المعهد يضم نخبة من فضلاء مشايخ البلد -على سبيل المثال- منهم الشيخ صالح السكيتي رحمه الله، والشيخ علي الضالع رحمه الله، والشيخ صالح البليهي رحمه الله، وأمثالهم كثير.
فكانت دراستي في المعهد قد أتاحت لي فرصة الجلوس بين أيديهم، والأخذ من علمهم وأخلاقهم، واستفدت من ذلك -بحمد الله- فائدة كبيرة.
كما أن التحاقي بالمعهد أتاح لي فرصة الاستفادة من مكتبة المعهد آنذاك، وكانت عامرة بالعديد من الكتب، وهناك مكتبة للإعارة، وتُجدد وقتاً بعد وقت، فتضم عدداً كبيراً من الكتب الجديدة التي يحتاج الناس إليها، فاستفدت منها -بحمد الله- فائدة كبيرة، وكانت بداية طيبة لتنمية العلوم الإسلامية، سواء بالاستفادة من أولئك المشايخ الفضلاء، أم بالاستفادة من تلك الكتب التي كانت موجودة في مكتبة المعهد.
ولا يفوتني أن أقول: إنه قبل ذلك، وفي أواخر المدرسة الابتدائية، كانت هناك بعض القصص الموجودة عند الصغار، والتي قد لا تخدم القضية التربوية بشكل جيد، لكن ربما لضعف الموجه في تلك الفترة، كالقصص الصغيرة التي ما زالت متداولة في أيدي الطلاب الصغار اليوم، وربما قرأت منها قدراً كبيراً، وأذكر أنني كنت وإخواني نتناوب قراءتها، حتى أن الواحد ليقف على رأس الآخر؛ ينتظر أن ينتهي من هذه القصة حتى يأخذها ليقرأها بدوره.
فكنا نقرأ بنهم، لكن لا نجد المادة المفيدة، فلما كتب الله تعالى وصرت إلى المعهد العلمي والتقيت بشيوخ، بل وبطلاب خاصة من يكبرونني في السن، استفدت منهم فائدة كبيرة؛ حيث توجهت إلى قراءة الكتب العلمية المفيدة والاستفادة من المشايخ.
حتى أني أذكر أنني كنت أذهب مع والدي رحمه الله إلى الدكان، حيث كان يبيع، فكنت أحضر معي باستمرار كتاباً أو أكثر، ولأن الأهل كانوا يخوفوننا في تلك الفترة من العين، كنت أخفي الكتاب في وسط دفتر اليومية، فيظن من يأتي أنني أسجل حسابات أو شيئاً من هذا القبيل، وأنا كنت أقرأ، حتى أنني قرأت في أحد الإجازات الصيفية ما يزيد على ستين كتاباً، بعضها يصل إلى مائتين أو إلى ثلاثمائة صفحة، وغالبها كتب مفيدة، وإن كان يغلب عليها طابع التاريخ أو القصص، أو أشياء من هذا القبيل، وفيها ولا شك كتب توجيهية، وكتب في العقيدة، وكتب علمية، وأذكر منها الأصمعيات، الذي جُمعت فيه عيون الشعر العربي القديم، وكنت أحاول أن أتحفظ شيئاً منها.
أما فيما يتعلق بالشيوخ؛ ففضلاً عمن ذكرت من المشايخ، فلعلي أؤكد على فضيلة الشيخ صالح البليهي رحمه الله، فهو من الشيوخ الذين أفتخر بالانتساب إليهم، لأن الرجل كان على سعة علمه رحمه الله وذلك يبرز من خلال كتابه السلسبيل، بالدرجة الأولى، وجهوده العلمية الأخرى.
كان الرجل يتمتع بأخلاق عالية، وكرم السجايا والطباع، وليونة مع الناس، وحسن استقبال للطلاب، وحسن تربيتهم، ولذلك ألفته نفسي وكنت أتردد عليه في منزله، وأستفيد من علمه ومن خلقه، وأرجو أن يكون الله تعالى نفعني بشيء من ذلك.
وإن كان من شيء يؤسى عليه؛ فهو أن الشيخ رحمه الله توفي في الوقت الذي كنت مسافراً إلى أمريكا لحضور مؤتمر جمعية الكتاب والسنة في عام مضى، فهناك أخبرونا بوفاته رحمه الله وما حصل في جنازته من جمع غفير؛ يذكرنا بما تكلم فيه المؤرخون عن علماء سابقين؛ كما حصل للإمام أحمد، ولـ ابن تيمية، ولـ ابن الجوزي، ولغيرهم من العلماء رحمهم الله تعالى.
فضلاً عن علماء آخرين؛ لم يُكتب لي أن أتتلمذ عليهم على مقاعد الدراسة، لكنني استفدت من علمهم بالحضور في مجالسهم العلمية، أو قراءة بعض الكتب عليهم، منهم الشيخ محمد بن صالح بن العثيمين، حيث كنت أحضر دروسه اليومية في الإجازات الصيفية، وهي دروس طويلة تستمر -أحياناً- إلى أكثر من ساعتين ونصف، أو ثلاث ساعات وزيادة، فكنت أحاول حضورها ما استطعت، وأستفيد منها، وهي دروس منوعة، في التفسير والحديث والفقه والأصول والفرائض، وغيرها من أنواع العلوم.
فضلاً عن مجالساتي للشيخ واستفادتي من علمه بقدر المستطاع، وكذلك شيخنا الشيخ محمد بن صالح المنصور، وهو قاضٍ سابق من علماء بريدة، وأفرح بمجالسته كثيراً، وأستفيد من علمه، وقد قرأت عليه قدراً لا بأس به من كتاب الروض المربع في الفقه الحنبلي، ولا زلت أطمع في تكميل هذا الكتاب على يديه، والاستفادة منه، مهما كثرت المشاغل والصوارف.
ومنهم شيخنا الشيخ حمود بن عبد الله العقل، حيث حضرت عدداً من دروسه في الجامع الكبير، حيث يدرس العقيدة الطحاوية، واستفدت منها، وكان يدرس مع العقيدة الطحاوية النحو في شرح ألفية ابن مالك.
والتحقت بعد المعهد بكلية الشريعة، واستفدت من عدد من الأساتذة من الإخوة السعوديين وغيرهم، في كافة العلوم المدرسة في هذه الكلية.
ومما يفخر به كل طالب علم أو طويلب علم؛ أن يكون التقى أو أخذ ولو نزراً يسيراً، عن سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فهو تاج العلماء في هذا العصر، وإمامهم وواسطة العقد فيهم.
ولهذا سعيت إلى لقائه كثيراً، وحصل أن استفدت منه -والحمد لله- في بعض المسائل، حيث أستغل الجلوس معه، على أن هذه الجلسات قد لا تكون انفرادية، لكن أحرص على استغلالها في بعض الأسئلة المشكلة لاستيضاح رأي الشيخ فيها، والاستفادة منه، سواء في المسائل الفقهية، أو في رأيه في بعض الأحاديث -درجة بعض الأحاديث النبوية- أو الجمع بين ما يشكل من الأحاديث، أو ما أشبه ذلك، وأسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، إنه على كل شيء قدير.(47/4)
بعض علماء السلف الذين يتلقى عنهم العلم
السؤال
جزاك الله خيراً يا شيخ سلمان، بلا شك أن لطالب العلم مشايخ يتلقى منهم العلم مباشرة، وقد ذكرت لنا طرفاً من هذا.
لكن هناك أيضاً المشايخ الذين يتلقى منهم طالب العلم العلم، إما من علماء السلف، أو من بعض المعاصرين الذين لم يلتق بهم، فهل يمكن أن نعرف بعض الأسماء في هذا المجال؟
الجواب
أما فيما يتعلق بعلماء السلف، فإن كل ناشئ في هذه البلاد المباركة في هذه الجزيرة، غالباً ما يكون استفاد وانتفع كثيراً بمؤلفات الشيخ الإمام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم وهكذا كان.
فإنني -بحمد الله- وثيق الصلة بتراث هذين الإمامين الجليلين، ولا زلت أحرص في كل مسألة أبحثها أو تعرض لي، أن أطلع على رأيهما وأعرف اختيارهما فيها، لما لرأيهما من الأهمية والقوة والتميز التي يشهد بها كل منصف.
لهذين الإمامين أثر كبير، ليس علي فحسب؛ بل ربما في عنق كل طالب علم في هذه البلاد، بل وكل طالب علم مخلص باحث عن الحق، ملتزم بالمنهج الصحيح، البعيد عن الانحراف في أرجاء العالم الإسلامي، من أقصاه إلى أقصاه.
فضلاً عن الكتب الأخرى؛ التي تتداول كثيراً في هذا المجتمع، وهي بحمد الله ذات صلة وثيقة بالمنهج السلفي الصحيح، أذكر منها على سبيل المثال: كتاب تفسير ابن كثير، فهذا الكتاب قلما يوجد طالب علم إلا وقرأه، أو قرأ منه، وكان هذا الكتاب يقرأ في المساجد إلى وقت قريب.
وكذلك الإمام النووي، خاصة في كتابه رياض الصالحين، فإننا كنا نقرؤه ونحن صغار في البيت على الوالد رحمه الله، ولا زال يقرأ في المساجد، وهو من أجمع وأحسن ما كتب في مختصر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكذلك كتب الإمام ابن رجب الحنبلي؛ فهي كتب قوية، فيها ترقيق، وتربية، وتهذيب، وفيها جمع، مع بُعدها إلى حد كبير عن لوثات الصوفية التي تكدر هذا المنبع الصافي.(47/5)
زملاء الشيخ سلمان في الدارسة
السؤال
جزاك الله خيراً يا شيخ سلمان، للدراسة زملاء، فهل يمكن أن نعرف بعض هؤلاء الزملاء البارزين إذا أمكن؟
الجواب
في الواقع هناك زملاء كثير، فهناك زملاء الدراسة، وهناك بعد التخرج من المعهد والدراسة في الجامعة زملاء، قد يختلفون شيئاً ما، لأنني بعد التخرج التحقت بكلية اللغة العربية سنتين، ثم حولت إلى كلية الشريعة في نهاية السنة الثانية.
حتى أني أذكر بالمناسبة؛ أنه كان عندي في تلك السنة بحثان: الأول عن كان وأخواتها -هذا تابع للغة العربية- وقد قدمته، أو كان هذا في السنة الأولى، وفي الثانية كان عن عبد القادر الجرجاني، وكتابه أسرار البلاغة.
وفي كلية الشريعة بعدما انتقلت إليها قدمت بحثاً آخر عن صلاة الجماعة وأحكامها، وما يتعلق بها، وهناك زملاء التخرج في الجامعة.
بعدما تخرجت التحقت بالتدريس بالمعهد العلمي ببريدة، فدرست فيه ما يزيد على أربع سنوات، وكان لي في هذه الفترة زملاء، ربما أن بعضهم من أساتذتي وشيوخي الذين درسوني في المعهد، ثم تخرجت فيه وزاملتهم في التدريس فيه.
ثم انتقلت بعد ذلك إلى الجامعة؛ حيث أعددت فيها رسالة الماجستير، وكان لي فيها زملاء آخرون، ولعلي أكتفي بذكر أقل القليل منهم: أذكر من الزملاء الذين كانوا معي منذ الدراسة الابتدائية وحتى التخرج من الجامعة، وظل صديقاً طيلة هذه المدة، بل إلى أن قبضه الله تعالى إليه، وهو أخي الشيخ صالح بن إبراهيم الشيبان رحمه الله تعالى، الذي لا زلت أحتفظ بذكريات كثيرة ودقيقة معه، منذ أن كنا طلاباً في المدرسة الابتدائية، فالمتوسطة، فالثانوية، فالمعهد، فالجامعة، وبعد ذلك ظلت علاقة الأخوة والمحبة تربط بيننا، إلى أن قبضه الله تعالى إليه في السابع والعشرين من شهر رمضان، في ليلة الجمعة من هذا العام، على إثر حادث تصادم، أسأل الله تعالى أن يكتبه في الشهداء، وأن يغفر لنا وله، وأن يرفع درجته في المهديين، ويخلفه في عقبه في الغابرين، ويغفر لنا وله أجمعين.
والزملاء كثير بحمد الله، وكلهم أحتفظ معهم بعلاقات الحب والمودة، نحمد الله تعالى على ذلك.(47/6)
الشيخ سلمان وحفظ المتون
السؤال
في هذه الرحلة العلمية، هل حفظت شيئاً من المتون؟
الجواب
لا بد من ذلك، فإن طبيعة تكوين الطالب في هذه البلاد وفي غيرها من مراكز العلم الشرعي، تهتم بتلقين الطالب عدداً من المتون، وإن كنت لا أستطيع أن أستحضر كثيراً منها، لكنني أذكر من المتون على سبيل المثال فيما يتعلق بالعقيدة: الأصول الثلاثة، والقواعد الأربع، وكتاب التوحيد، والعقيدة الواسطية.
وأذكر أيضاً فيما يتعلق بالنحو: متن الآجرومية، وقد حفظته وحفظته لطلابي الصغار في المسجد.
وكذلك فيما يتعلق بالفرائض: هناك متن الرحبية، وهو عبارة عن منظومة شيقة وخفيفة في علم الفرائض، وهي مختصرة أيضاً، فضلاً عن كتاب زاد المستقنع في الفقه الحنبلي، ولعله أخصر كتب الحنابلة وأكثرها مسائل، وقد حفظت جزءاً كبيراً منه في المعهد العلمي، وقرأت شرحه -كما أسلفت قبل قليل- على عدد من المشايخ، منهم الشيخ صالح البليهي رحمه الله، ومنهم الشيخ محمد بن صالح المنصور حفظه الله ووفقه.
وهناك في المصطلح أيضاً: مختصر للحافظ ابن حجر وهو: نخبة الفكر، وقد حفظته في زمن الطلب، ودرسته وحفظته لطلابي أيضاً في زمن التعليم، هذه بعض المتون.
وهناك بعض المتون قد حفظت شيئاً منها لكن لم أكملها ولم أضبطها تماماً، منها ألفية ابن مالك في النحو، ومختصرات ومتون أخرى، منها في الأصول وغيرها، لكنني لا أستطيع أن أقول إني حفظتها بشكل صحيح.(47/7)
الشيخ سلمان وحفظ القرآن
السؤال
هل تحقق للشيخ سلمان العودة حفظ القرآن الكريم منذ الصغر؟
الجواب
في الواقع لم يتسن لي هذا الشرف الكبير، الذي هو نعمة، كما قال الله عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فأثنى على الذين يوجد القرآن في صدورهم بأنهم ممن أوتوا العلم.
فلم يتسن لي أن أحفظ كتاب الله تعالى في صغري، وإن كنت بدأت بحفظه بعدما انتقلنا إلى المدينة، فحفظت سورة البقرة، ثم في الجامعة حفظت عدداً من السور، إلى سورة يونس، وبلا شك آخر القرآن هو أصلاً محفوظ من المقررات الدراسية.
وهناك سور متفرقة حفظتها أيضاً بجهدي الشخصي، كسورة الكهف وطه وهود وإبراهيم وغيرها من السور، لكن بقي علي مواضع متعددة وإن لم تكن بالكثيرة، لم يسبق لي أن حفظتها.
كما إنني أقول: إن السور التي حفظتها تحتاج إلى مراجعة دائمة، وبهذه المناسبة يتبين دور الأسرة في محاولة تحفيظ الصبية القرآن الكريم، لأنه من الملحوظ أن الذين حفظوا في طفولتهم، بل في أول طفولتهم، يكون حفظهم مجوداً ولا يحتاج إلى كثير مراجعة، بخلاف الذين حفظوا عن كبر، فإنهم مع كثرة المراجعة يظل في حفظهم خلل كبير.(47/8)
رسالة الماجستير
السؤال
بالنسبة لرسالة الماجستير، عن ماذا كانت؟
الجواب
رسالة الماجستير في قسم السنة وعلومها في كلية أصول الدين، وكان موضوع الرسالة: غربة الإسلام وأحكامها في ضوء السنة النبوية.(47/9)
رسالة الدكتوراه
السؤال
وبالنسبة للدكتوراه، هل سجلت موضوعاً فيها؟
الجواب
نعم، سجلت موضوعاً منذ فترة ليست بقصيرة، وكان عنوان هذا الموضوع هو: أحاديث التشبه جمع وتحقيق ودراسة، وأعتقد أن دلالة الموضوع الذي هو التشبه، يدخل فيه التشبه بالكفار، والتشبه بالفساق، والتشبه بالأعراب، والتشبه بالرجال من قبل النساء، وبالنساء من قبل الرجال، والتشبه بالحيوانات، حتى التشبه بالصالحين، كالتشبيه بالملائكة، والتشبه بالأنبياء، والتشبه بالصالحين، فهو موضوع واسع ذو علاقات اجتماعية وطيدة، وله جوانب متعددة.
ولا شك أنه مهم كموضوع للدراسة، لكن نسأل الله أن يوجد من يتحدث عن هذا الموضوع بشكل علمي جيد.
السؤال: وهل قطعت فيه شوطاً كبيراً؟ الجواب: في الواقع هناك كتاب مخطوط ضخم جداً للغزي اسمه (حسن التنبه لما ورد في التشبه) وهذا المخطوط الذي لا يزال مخطوطاً، ولعل السر في كونه لا يزال مخطوطاً هو ضخامته، واستطرادات المصنف، التي قد لا تكون ذات أهمية علمية كبيرة.
لكنه من جهة أخرى حشد نصوصاً هائلة في هذا الكتاب، وهناك -ولله الحمد- بداية مشروع عندي، في جمع الأحاديث والآثار الموجودة في هذا الكتاب، بحيث أنها يستفاد منها في الرسالة على حدة، بعيداً عن استطرادات المؤلف التي قد لا يكون ثمة حاجة كبيرة إليها.
كما أن الإمام ابن تيمية رحمه الله، كتب كتاباً فذاً بل فريداً في هذا الباب، وهو اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، وكله يدور على هذا الأصل العظيم من أصول الإسلام، وهو تميز المسلمين عن الكافرين في كل شئونهم.
وهذا الموضوع أعتقد أنه في العصر الحاضر ذو أبعاد خطيرة جداً، خاصة مع انفتاح العالم بعضها مع بعض، ووجود تأثيرات عميقة بعيدة المدى على أخلاقيات الناس وحضاراتهم وعاداتهم وتصرفاتهم الفردية والاجتماعية والدولية، ومما يتطلب -فعلاً- لوجود أمة إسلامية متميزة عن غيرها من الأمم الكافرة، وهو زيادة الاهتمام والعناية بالموضوع.(47/10)
العمل الحالي للشيخ سلمان
السؤال
جزاكم الله خيراً الحياة العملية، ما هو العمل الآن حالياً؟
الجواب
محاضر في كلية الشريعة وأصول الدين في القصيم، وعندي في هذا الفصل محاضرات في كلية اللغة العربية، وفي قسم اللغة، وقسم الاجتماع، وقسم الجغرافيا.(47/11)
طبيعة التدريس في المسجد والجامعة والفرق بينهما
السؤال
يبدو لي يا شيخ سلمان أنك قد قمت بالتدريس في الجامعة وفي المسجد أيضاً، هل يمكن أن نعرف شيئاً عن العمل في هذين المجالين؟ ثم هل هناك فرق بين هذين المجالين؟
الجواب
أما بالنسبة للمسجد -فالحمد لله- معظم جهودي كانت في التدريس في المساجد، وثمة دروس كثيرة في المسجد، لعل أقدمها هو ما بعد صلاة الفجر، فمنذ ما يزيد على ست سنوات، كان عندي درس يومي بعد صلاة الفجر في جميع أيام الأسبوع عدا الخميس والجمعة، وأحياناً قد يكون الدرس -أيضاً- في يوم الخميس، خاصة في الفترة السابقة، فكان الدرس يومياً، وقرأنا فيه -والحمد لله- عديداً من الكتب، منها زاد المعاد لـ ابن القيم، فقد قرئ علي وعلقت على المواضع التي أرى أنها تحتاج إلى تعليق فيه.
ومنها بعض المختصرات المذكورة قبل قليل، كالأصول الثلاثة، والقواعد الأربع، ومتن الآجرومية، بالإضافة إلى قراءة شيء من القرآن الكريم في مطلع كل درس، هذا في الفترة السابقة، لأن الدرس تنقل بين أكثر من مسجد، بحسب السكن الذي أسكن فيه.
ثم بدأ الطلاب يقرءون ويحفظون علي: مختصر صحيح البخاري للزبيدي، ومختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري، وقد قطعنا بحمد الله تعالى وبمنه وكرمه شوطاً بعيداً جداً في هذين الكتابين، فقد تجاوزنا الثلثين أو قريباً من ذلك فيما يتعلق بصحيح البخاري، والنصف فيما يتعلق بصحيح مسلم، ويحفظ مجموعة من الإخوة الطلاب، وأعلق على كل حديث بشرح له، خاصة فيما يتعلق بـ البخاري، أما مسلم فإنني أختصر فيه الشرح بعض الشيء.
وكذلك يقرأ الطلاب في يوم الإثنين مجموعة من الكتب، منها: كتاب التوحيد للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قرءوه عليّ حفظاً وشرحته كاملاً بحمد الله، ثم بدءوا يقرءون علي بعد ذلك، العقيدة الواسطية، وقد وصلنا فيها إلى منتصفها، فانتهينا من الآيات القرآنية التي ساقها المصنف، ووقفنا على الأحاديث، وكذلك يقرءون نخبة الفكر، وأقوم بشرحها.
فهذه أهم الدروس التي أدرسها بعد صلاة الفجر.
أما بعد صلاة المغرب، فعندي درسان: الأول: درس بلوغ المرام، وقد سجل في التسجيلات مائة حلقة، ووصلنا فيه إلى صفة الصلاة، وأحمد الله تعالى أن وفق على التزام منهج علمي دقيق قدر ما استطعت، في شرح الأحاديث ودراستها وتخريجها والكلام عليها من جميع النواحي.
وقد لقي هذا الشرح -بحمد الله- قبولاً، ومما أعتز به ثناء مشايخي الكبار على هذا الشرح، واستماعهم إليه وتتبعهم له في الأشرطة، وقد يأتيني من بعضهم ملاحظات، وكل هذا مما يشجعني ويدفعني إلى بذل المزيد في هذا.
كما أن كثرة الطلب لهذا الشرح مطبوعاً؛ تدل على حاجة الناس إليه أو شعورهم بوجود نوع من الفائدة فيه، وقد يكون هذا من باب حسن الظن، وقد يكون لأن هذا الكتاب بلوغ المرام، لم يسبق أن شرح بطريقة متكاملة، فإن الشرح الوحيد المتداول عند الناس هو سبل السلام، وفيه نقص كبير، وهو مختصر عن البدر التمام أيضاً، ففيه نقائص كبيرة جداً، وفيه خلل أيضاً، وقد يتجاوز أحاديث دون أن يعلق عليها بشيء، فمن هنا كانت أهمية شرح كتاب كهذا.
وهناك درس آخر بعد المغرب في الجامع الكبير، وهو درس علمي عام، وهذا الدرس هو الآخر، لقي قبولاً من المحبين وطلاب العلم، بل ومن عامة الناس، وتناولنا فيه مواضيع شتى، والرابط الوحيد بينها أنها موضوعات تربوية وتوجيهية، تمس حاجة الناس.
فمثلاً: تحدثت في أكثر من درس عن قضية "الأسماء والألقاب والكنى" وتحدثت عن قضية "المزاح وآدابه" وقضية "النكت والطرائف"، وتحدثت عن قضية "الرؤى وآدابها وأحكامها"، إلى موضوعات كثيرة، تزيد على خمسة وثلاثين موضوعاً، وبعضها يكون في عدد من الأشرطة اثنين أو ثلاثة، في عدد من الحلقات.
وهذا إضافة إلى المحاضرات التي لا تلتزم بالوقت ولا بالمواضيع، بل تكون متفرقة في المدارس أو في بلدان مختلفة.
فهذا ما يتعلق بالدروس أو النشاط في المساجد.
ولا شك فيما يتعلق بالفرق بينهما، أن هناك فرقاً كبيراً، لأن التدريس في المساجد يخاطب فئة هي -أصلاً- جاءت للتحصيل، ولا يدفعها إلى ذلك إلا أمر واحد وهو الرغبة في سماع العلم وتحصيله، فهم نوعية مختارة، ولذلك هم -أحياناً- أكثر حرصاً من الشيخ ومتابعته، وقد يكون حرصهم سبباً في المواصلة واضطرار الشيخ إلى أن يراجع وأن يحضر ويستعد للدرس؛ ليكافئ هذا الجهد الذي يبذله الطلاب.
أما في الكلية يختلف الأمر، فإن الدراسة نظامية، ويأتي فيها الجميع، وقد يكون من الطلاب من يرغب في الدراسة لذاتها، وقد يكون منهم له مقاصد أخرى، كنوع من تكميل شهاداته أو الوصول إلى وظيفة معينة، وقد يكون الطالب مرتاحاً لهذا الدرس، أو لا يكون مرتاحاً إليه، بخلاف طالب المسجد، فإن الغالب أنه لا يأتي إلى الدرس أو الحلقة، إلا وهو يحس برغبة ذاتية في حضورها هذا من جانب.
ومن جانب آخر، فإن مستوى طالب المسجد يختلف عن مستوى طالب الجامعة -على الأقل- باعتباره متخصصاً، فطالب الجامعة -ولأضرب لك مثلاً-: أنا أدرس في اللغة، وفي الاجتماع، وفي علم النفس، وهؤلاء الطلاب غير متخصصين في المواد الشرعية، وبالتالي فإن همَّ الإنسان من خلال المحاضرة أو الدرس؛ أن يوصل إليهم قدراً من المفهومات الشرعية الصحيحة، والعلوم النافعة، والقواعد المهمة التي تنفعهم في حياتهم، دون الدخول في تفاصيل أخرى قد لا يتسع المجال لها.
بخلاف طالب المسجد؛ فإنه طالب متخصص، وهو يعد نفسه، أو يجب أن يعده شيخه؛ ليكون فقيهاً يسد فراغاً في المجتمع بعد سنوات قلت أو كثرت.(47/12)
كتب الشيخ سلمان
السؤال
بالنسبة للكتب التي أصدرتموها، والكتب التي تعتزم إصدارها بعد ذلك.
الجواب
بالنسبة للكتب التي صدرت: الحمد لله صدر عدد طيب من الكتب، لعل من أشهرها كتاب حوار مع الغزالي وفيه ناقشت آراء وأفكار الشيخ محمد الغزالي في كتابه الأخير، بل ليس الأخير، إنما كان الأخير في ذلك الوقت، وهو (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) .
ومنها: كتاب (المسلمون بين التشديد والتيسير) و (نداء الفطرة) وكتاب (دروس رمضان) وكتاب (جزيرة الإسلام) ورسالة (جلسة على الرصيف) و (من أخلاق الداعية) وهناك كتاب مهم، قمنا بتحقيقه أنا وأخي الدكتور ناصر القفاري، لمؤلف الكتاب وهو أحمد الكسروي، أحد علماء الشيعة في إيران، والكتاب اسمه (الشيعة والتشيع) وفي الواقع الكتاب في غاية الأهمية؛ لأنه كتب بقلم رجل من رجالات الشيعة، وهو يناقش مذهبهم، ويفند أصول المذهب بطريقة علمية عقلية قوية، وكان لهذا الكتاب صدى كبير، حتى إن مؤلف هذا الكتاب دفع حياته ثمناً لهذا الكتاب، فقد قتل في أحد شوارع طهران، وقد كتب الكتاب بناءً على طلب شيعة الكويت.
فهذا الكتاب قمت بتحقيقه مع الدكتور القفاري، وطبع بمصر.
ولكنه لم يصل إلينا، ولم ينتشر كما ينبغي له، ولعله تتيسر الأسباب لإعادة طباعته مرة أخرى.
أما بالنسبة للكتب التي أقوم بإعدادها، فلعل من أهمها: شرح بلوغ المرام، وهو في الواقع مكتوب من خلال الأشرطة، فقد قام الطلاب بتفريغه، وهو عندي في مذكرات، وقد تداوله الناس في هذه المذكرات وقرؤه.
لكن لا شك أن المذكرات من كتابات الطلاب، وهي من إلقائي الشفهي فهو عبارة عن أمالي، يعرض فيها ويحدث ما يحدث في المشافهة عادة من التجوز أو التسامح في العبارة، كما أن الطالب قد يفهم الكلام أو ينقله أو يسمعه على غير ما نطق به الشيخ، فتتداخل بعض الحروف، أو تلتبس عليه بعض الأمور، فيحدث فيها أشياء تحتاج إلى تصحيح، ولم يتسن لي أن أقوم به بالنسبة للمذكرات، فشعرت بالحاجة إلى إعادة كتابة الكتاب مرة أخرى، وفعلاً قد بدأت من جديد بكتابته بنفسي، وكتبت ما يزيد على مائة صفحة، انتهينا فيها من الباب الأول وهو باب المياه.
وأنا بعون الله تعالى عازم -خاصة في هذه الظروف، التي أتيحت لي فيها فرصة أكبر- على التفرغ لتصحيح هذا الكتاب وإصلاحه؛ ليكون جاهزاً للتداول والطباعة في أقرب وقت.
وهناك كتاب آخر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أيضاً جاهز للطباعة.
وقد سبق أن طبع لي كتابان في سلسلة رسائل الغرباء، الأول: الغرباء الأولون، وهو دراسة في السنة النبوية، والثاني هو بعنوان: صفة الغرباء، وهناك القسم الثالث، وهو في طور المراجعة والتصحيح الآن، وسوف يقدم للطباعة حال إنجازه بإذن الله تعالى.(47/13)
الاستفادة من الأشرطة العلمية
السؤال
للأشرطة دورها الفعال كما تعلم، ولك مشاركتك الفعالة أيضاً، ولك تركيز على الشريط الإسلامي، فماذا يرى الشيخ سلمان في مجال التركيز على الشريط للاستفادة منه، وهل يرى ما يراه بعضهم: من أنه يمكن أن يتفقه الشباب عن طريق الأشرطة بدل حضور الحلقات، أم لا بد من الجمع بينهما؟
الجواب
بالنسبة لوسائل التركيز والاستفادة من الشريط، فلا شك أن هناك فرصاً كبيرة جداً للاستفادة، ومن أهم ذلك تنويع المادة العلمية، بحيث تخاطب جميع طبقات المجتمع، لأن الشريط وسيلة فعالة بلا شك وسريعة الانتشار.
وأيضاً الاستفادة منها ممكنة لكل أحد وفي كل الظروف، وهي متنوعة بحيث تخاطبي طبقات المجتمع المختلفة، كمخاطبة النساء مثلاً، ومخاطبة الشباب، ومخاطبة كبار السن، ومخاطبة الأطفال أيضاً.
أما فيما يتعلق باستخدام الشريط كبديل عن حضور الحلقة العلمية، فهذا غير ممكن بحال من الأحوال، فحضور الحلقة يربي على أشياء لا يتربى عليها الإنسان في الشريط، ويكفي في ذلك أن يتربى الطالب على ثني ركبتيه في مجلس العلم، فهذا شيء يحتاج إليه الطالب، ولن يتلقاه إلا في الحلقة، كما أن ربط الطالب بشيخه وبزملاء الطلب والتعلم، يتم من خلال حضور الحلقة، كما أن فرصة السؤال والاستيضاح ممكنة في الحلقة وغير ممكنة في الشريط.
لكن الشريط بديل -بلا شك- عند تعذر الحضور إلى الحلقة أو تعسر هذا الأمر، كما يلحظ في بلاد بعض الإخوة، حيث لا يوجد في بلدهم شيوخ يعلمون، أو يكون سكنه في مناطق نائية، أو لا تسمح له ظروفه بالحضور، أو يغيب أحياناً لعارض، فيعوض عن ذلك بسماع الشريط.(47/14)
طريقة تحضير الدروس
السؤال
بالنسبة لمحاضراتكم ودروسكم، فإنه يلاحظ تسلسل المعلومات وتتابعها، فهل يمكن أن يعرف المستمع شيئاً عن طريقة إعدادك لهذه المحاضرات والدروس؟
الجواب
بالنسبة لما يتعلق بالدروس؛ كدروس بلوغ المرام، فأمرها واضح؛ لأنها مسائل علمية وأحاديث محددة، فيرجع إليها الإنسان في مراجعها، ويمكن أن أقول: إنني أكتب كل ما أريد أن أقوله في هذه الدروس قبل أن أذهب إلى الدرس، ثم ألخص ذلك في ورقة، حتى أضمن ألا يفوتني شيء من هذه المعلومات المهمة، وأنا أقوم بإلقاء الدرس.
أما فيما يتعلق بالدروس العلمية؛ فإنها تمر بمراحل: المرحلة الأولى: مرحلة اختيار الموضوع، وقد كتبت عندي قائمة كبيرة بكل الموضوعات التي في ذهني، حتى لو مرت في ذهني وأنا في أي مكان فإني أحاول أن أسجله، مما يحتاج إليه الناس في أي مجال، كما أنني لا يمكن أن أنكر استفادتي من عدد كبير من المخلصين الذين يواصلونني ويراسلونني، أو يتصلون بي بالهاتف ويقترحون علي موضوعات معينة، وخاصة أولئك الذين يتجاوزون اقتراح العنوان إلى اقتراح عناصر، وتسجيل بعض النقاط المهمة، وبعض المفاهيم الخاطئة، وبعض الأشياء التي تحتاج إلى معالجة، فيساعدونني على تحديد الموضوع.
المرحلة الثانية: بعد ذلك أقوم بتسجيل عناصر الموضوع في ذهني قبل أن أرجع إلى أي كتاب، لأنه قد يكون هناك عناصر في ذهن الإنسان لا يجدها في كتاب محدد، فإذا سجلت العناصر سجلت ما يتعلق بها من نصوص ومعلومات وغير ذلك؛ بدأت الرجوع إلى المراجع، وإضافة ما أريده إلى ما كتبته سابقاً، ثم أستكمل كتابة الموضوع، بتسجيل عناصره، وتسجيل النصوص المتعلقة به، سواء كانت نصوصاً من القرآن الكريم، أو من السنة النبوية، أو من أقوال أهل العلم، أو بعض الأشعار، أو غير ذلك.
ثم أعود فألخصها في ورقة تكون أمامي أثناء الإلقاء؛ لأضمن عدم فوات شيء من هذه المعلومات، التي أعتقد أنها مهمة، وحصل هناك بعض التعب في جمعها، وقد يستغرق إعدادي للموضوع أحياناً يوماً كاملاً أو يومين متواصلين.
أما بالنسبة للمحاضرات، فقد يكون موضوع المحاضرة في الأصل موضوعاً يتطلب معالجات عامة، ولهذا لا يكون فيه من المراجع والمراجعة والتصحيح والكتابة، مثلما يكون في الدروس العلمية.(47/15)
الطريقة المثلى لتدريس القرآن والفقه وربطهما بالواقع
السؤال
هنالك سؤال له شقان فيما يتعلق بتدريس العلماء في المساجد: فمنهم من يركز تركيزاً واضحاً على الفقه على حساب علوم أخرى كالقرآن مثلاً، إضافة إلى أن تدريس الفقه لا تراعى فيه -في الغالب- مسائل الواقع، بل قد تجد أن بعض المسائل في المعاملات لا وجود لها الآن، فما هي الطريقة المثلى في تدريس هذا الجانب؟ والجانب الآخر: بالنسبة لتدريس القرآن الكريم، هنالك تقصير في هذا الجانب، ولكن إذا درس ربما ركز على المسائل الشرعية واللغوية والبيانية في القرآن الكريم، بينما نادراً ما تجد من يناقش معاني القرآن، ويربطها ربطاً شرعياً وربطاً روحياً بواقع الناس، فما هي الخطط التي تقترحونها في هذين الجانبين؟
الجواب
فيما يتعلق بالفقرة الأولى، وهي: قضية العناية بتدريس الفقه.
فأعتقد أن هناك مسوغاً واضحاً، وهو أن الفقه يتعلق بأحكام تفصيلية يحتاجها الناس، فإن جمهور الناس غالباً ما يسألون عن تفاصيل حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مسائل يعانونها في واقع حياتهم.
ولهذا يكون هناك اهتمام وعناية، هذا فضلاً عن كثرة مسائل الفقه وكثرة الفروع، مما يحتاج إلى وقت وإلى فترة طويلة في ضبطها وحفظها ودراستها، فهذا جانب.
ولكن هذا -بلا شك- لا يسوغ بحال من الأحوال، أن يغلب جانب الفقه بمفهومه الاصطلاحي، الذي يعني المسائل الفرعية، على الفقه بمفهومه الشرعي الأصلي السلفي، الذي هو الفقه في الدين حقيقة، أصولاً وفروعاً: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} كما في المتفق عليه، ومن التفقه في الدين معرفة القرآن، ومعرفة السنة إلى غير ذلك.
أما فيما يتعلق بربط الفقه بمسائل الواقع، فهذه -فعلاً- مشكلة، ولا بد من العناية في ربط الفقه بمسائل الواقع بقضايا كثيرة، تبدأ بقضية الناحية المنهجية، وترتيب المواد، وطريقة عرضها، فإن كانت كتابة، فبوضع عناوين فرعية وترقيم، إلى غير ذلك.
وأيضاً تمر بالأسلوب وباللغة، فإن اللغة التي يفهمها الناس اليوم حتى طلاب العلم، غير اللغة التي هي موجودة في بعض الكتب الفقهية، فتحتاج إلى نوع من مراعاة الواقع، ومستوى الناس في اللغة، وتقريب هذا الأمر إليهم، وتنتهي بالمضمون.
فمثلاً: علاج القضايا المستجدة من أهم المسائل، وليس صحيحاً أن يهتم الناس بقضايا لا وجود لها -الآن- من الناحية الفقهية، ويغفلوا عن مشاكل، أو ما يسميها الفقهاء بالنوازل والحوادث التي طرأت الآن واحتاج الناس إليها، وهي كثيرة، في مجال الاقتصاد، وفي مجال الاجتماع، وفي مجال المعاملات، وفي المجالات الدولية وفي غيرها، وتحتاج إلى رأي أو اجتهاد شرعي ناضج فيها.
كما أن الناس يحتاجون من خلال تدريس القضايا الشرعية، سواء كان فقهاً أم أصولاً، أم تدريس القرآن الكريم نفسه -كما أشرت في سؤالك الآخر- يحتاجون إلى ربط هذا العلم بالواقع.
فأنت عندما تقرأ للغزالي، أو تقرأ للجويني أو تقرأ لـ ابن قدامة في كتبهم الأصولية، أو غيرهم من العلماء، تجد أن الأمثلة التي يضربونها أمثلة منبثقة من صميم الواقع الذي يعيشونه، ولذلك كانوا يعيشون الواقع حقاً، ويضعون الأمثلة للطلاب من واقعهم، لكننا نحن نردد نفس الأمثلة التي ذكروها، والواقع أنه ينبغي أن تكون هناك أمثلة من واقع الحياة، بحيث يربط الطالب بالحياة، ويعرف أنه يتعلم ليعلم وليدع الناس، وليغير واقع الناس إلى ما يرضي الله تعالى، وليس لمجرد العلم.
أما فيما يتعلق بالقرآن، فلا شك أن التقصير وهجران القرآن على كافة المستويات موجود، وإذا درس القرآن فقد يدرس -أحياناً- لكن يغلب على ذلك طابع العناية بالمسائل الشرعية واللغوية والبيانية كما أسلفت.
أما الحل في نظري، فأعتقد أن من أهم ذلك، هو ما أسلفته من محاولة ربط معاني القرآن الكريم بواقع الناس، لأن القرآن نزل هكذا، حيث نزل منجماً بحسب الوقائع والأحوال، وكان يعالج قضايا يحتاجها الناس.
فعندما تأتي امرأة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] .
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لما سألها سائل: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: {ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن} .
فكان القرآن في واقع الناس هو الذي يحرك واقعهم، ويسير واقعهم، أما الآن فقد اكتفى كثير من الناس بأن القرآن يستفتح به في المجالس، وفي الندوات، وفي المناسبات، وفي الإذاعات، عن أن يكون مسيراً لواقع الفرد والجماعة والدولة.
وبالتالي صارت دراسة القرآن -سواء كانت تأليفاً، أم دراسة في المساجد- يغلب عليها هذا الطابع، ولعله يكون هناك دروس -إن شاء الله- تحاول أن تصحح هذا الأمر، وتحاول أن تجمع بين الفهم الصحيح للقرآن المبني على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرح القرآن وفسره بسنته، فالسنة تفسر القرآن، ومع ذلك يربط هذه الأشياء بواقع الناس.(47/16)
مسألة الجمع بين الفكر والعلم الشرعي
السؤال
بالنسبة إلى ما يسمى بالانفصام بين الفكر والعلم الشرعي في هذا الزمان، فكثيراً ما نجد مفكرين، ولكن حظهم قليل من العلم الشرعي، ونجد العكس أيضاً، هل يمكن أن يصور لنا الشيخ حلاً لهذه القضية؟
الجواب
إن التخصص مبدأ يجب أن نؤمن به ونعترف به، فيوجد إنسان وجَّه همَّه وعنايته للعلم الشرعي أصولاً وفروعاً، وشُغل عما عداه، فمن الصعب على عالم متخصص كهذا، أن يشغل نفسه بدراسة اللغات ليتعرف على الفكر الغربي من مصادره، أو حتى أن يقرأ الكتب المترجمة ويعرف مصادر الفكر وأنماطه وتياراته، وما أشبه ذلك، ثم يرد عليها.
فهذا أمر تفنى دونه الأعمار، ويمكن أن يتخصص فيه آخرون، بعد أن يتزودوا بالأصول الشرعية، التي تمكنهم من معرفة مواطن الخلل في ذلك الفكر، والرد عليه بصورة شرعية صحيحة، وعدم التأثر به، أو الانسياق وراءه.
ولكن أعتقد أن هناك قاسماً أو قدراً مشتركاً، لا بد أن يوجد في الصنفين، فكما أننا نشترط فيمن يدرس تيارات الفكر المنحرف -غربية وشرقية- أن يكون عنده قاعدة من العلم الشرعي تمكنه من تقويم هذا الفكر ومعرفة خطئه من صوابه.
فكذلك ينبغي أن يكون من يتكلم في الشرعيات والأحكام وغيرها، خاصة في مثل هذا العصر الذي اشتهرت وانتشرت فيه الأفكار، وأصبحت تطل من خلال الشاشة، والجريدة، ومن خلال المقال، والكتاب، أن يكون عنده ولو إلمام عام بهذه التيارات، بحيث يستطيع أن يجيب الناس فيها، ويبين القدر الذي قد يتأثر به عامة الناس منها.(47/17)
كتاب حوار هادئ، وتأثيره سلباً وإيجاباً
السؤال
شيخ سلمان، الكتاب الذي كتبته وأصدرته: حوار هادئ مع الغزالي له أثر جيد ونحن نلمس ذلك، ولكن نريد من الشيخ سلمان، أن يعطي صورة لهذا الأثر سلباً أو إيجاباً، من خلال ما بلغه كتابةً أو مشافهةً إن أمكن؟
الجواب
لقد كان لهذا الكتاب -بحمد الله- صدى واسع وطيب أيضاً، ولعلي أعتبر أن الرسائل البريدية تعطي مؤشراً واضحاً عن هذا.
فقد تلقيت، ولا زلت إلى هذا الأسبوع أتلقى رسائل من أنحاء العالم الإسلامي، بل وغير الإسلامي أيضاً، فقد جاءتني رسائل من الجزائر والمغرب ومصر ودول في الخليج العربي واليمن، وهناك رسائل جاءتني من بريطانيا وفرنسا وغيرها، وكلها تتحدث عن هذا الكتاب، وربما يكون كلامي في هذا الموضوع غير دقيق (100%) لأن هذه الرسائل ليست أمامي، لكنها كانت على الأقل مئات الرسائل، ومعظم هذه الرسائل تكتفي بالتعبير عن ارتياحها للكتاب والرد ومنهجه، وطلب نسخة من هذا الكتاب، وكذلك جاءتني رسائل كثيرة من السودان.
وهناك رسائل تثني على جوانب، وتنتقد جوانب أخرى من الكتاب، وهذه أيضاً ليست بالقليلة، قد تكون ملاحظات علمية، وقد تكون ملاحظات لغوية، وقد تكون ملاحظات منهجية، ربما أُسلم لشيء منها أن الصواب معهم، وهناك أشياء أخرى قد يكون عندي الجواب عليها، وهناك القليل من الرسائل كان نقداً للكتاب، وهذا النقد ينقسم إلى شقين: هناك نقد يقول: إنك تسامحت مع محمد الغزالي أكثر مما يجب، وقد جاءتني إحدى الرسائل من فرنسا، وكانت رسالة ثائرة، ووصفت الشيخ بأوصاف أعف عن ذكرها؛ لأنها لا تناسب، وربما يكون فيها شيء من الزيادة، فهذا نوع.
النوع الثاني: تعتقد أنني بخست حق الرجل وظلمته، ولم أعطه حقه، وأذكر منها بالدرجة الأولى: رسالة جاءتني مطبوعة، لم يتحدث صاحبها فيها عن الكتاب فقط، إنما أدخل العالم الإسلامي كله من خلال زاوية هذا الكتاب، فصار يتكلم عن مشاكل المسلمين وأوضاعهم، وأوضاعنا وأوضاع كثيرة جداً من خلال نقده لهذا الكتاب، وكان -في الواقع- نقداً مريراً.
حتى إني أذكر من كلماته أنه يقول: يمكن أنك لاحظت غلاف الكتاب، وأظن الأخ الذي رسم الغلاف اسمه زهران، وكتب اسمه على الغلاف، فهو يقول: أنا لا أجد فرقاً بين سلمان وزهران، فهذا يشطب على الغلاف، وهذا أتى بأفكار في آخر الكتاب، أو من هذا القبيل.
وربما أن هذه أكثر الرسائل غلياناً وانفعالاً، ومع ذلك كله، أذكر أن كاتبها في آخرها اعتذر لي اعتذاراً حاراً، وقال إنني أغبطك على هدوء أعصابك، وعلى سعة بالك، وشيء من هذا القبيل، وطلب التماس العذر له لأنه إنسان مشرد، ولا يستقر في مكان، من الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، فهو قد اعتذر عن هذا، وأسال الله تعالى أن يغفر لي وله ولسائر المسلمين.
كما أنني أذكر -أيضاً- من ردود الفعل، خلال زياراتي لعدد من البلاد الإسلامية، زرت الكويت سابقاً، والبحرين وأمريكا وكندا وفرنسا، وكلها من المواقع التي توجد فيها كتب الغزالي بكثرة، وكنت أتوقع أن تكون ردود الفعل مختلفة، لكنني وجدت أن من لقيتهم مطمئنون إلى منهج الكتاب بصفة عامة، وأحمد الله تعالى على ذلك.
السؤال: بالنسبة للشيخ الغزالي، هل كان له معك نقاش في هذا الموضوع، ولو عن طريق الرسائل؟ الجواب: لقد جاءتني رسالة من أحد الإخوة من مصر، ويقول إنه تلميذ خاص من تلاميذ الغزالي، والرسالة كان فيها اعتدال واعتراف بأشياء كثيرة، وفيها تصحيح لأمور معينة، وفيها ثناء على الكتاب، وإشعار بأنه لم يقع موقعاً سيئاً من الشيخ.
وبالنسبة للأشرطة فقد انتشرت في مصر، وسمعها الغزالي، وكان مريضاً آنذاك، فسمع الأشرطة ولم يكن رده أيضاً سيئاً، وقد اتصل بي أكثر من واحد من أصحاب المكتبات، وكان تجاوبه معقولاً، لكن فيما بعد، أُجريت معه عدة مقابلات في عدد من الصحف، وكان يتكلم بطريقة مختلفة تماماً، فلا أدري هل هو يتكلم عن شيء آخر، أم أن الصحفيين أفلحوا في استفزازه بطريقة معينة، وقد يكون ثمة ملابسات أخرى.(47/18)
المنهج السليم للنقد
السؤال
هنالك سؤال حول النقد، كما يقول المثل: (الناقد بصير) والناس يحبون أن ينتقدوا على اختلاف مستوياتهم، فما المنهج السليم للنقد في أوساط طلاب العلم وأهل الدعوة؟
الجواب
هذا سؤال في غاية الأهمية، لأن قضية النقد هي أولاً: قضية حيوية وضرورية، وأي أمة ليس فيها نقد، معنى ذلك أنها تستمرئ أخطاءها وتستمر عليها، ولا ترضى بمن يصححها، فهي أمة آيلة إلى الفناء شاءت أم أبت، رضيت أم سخطت.
فلا بد من النقد على كافة المستويات، ومن ذلك ما يتعلق بالدعوة والدعاة، والعلم الشرعي وطلاب العلم، فهم يحتاجون إلى إثارة النقد فيما بينهم.
لكن الناس في موضوع النقد ما بين مفرِط ومفرِّط.
فمن الناس من همه النقد، فتجده لا يتكلم إلا منتقداً، وأعرف بعض الأحبة من هذا القبيل، جبلوا على هذا الأمر، فلا يلتذ الواحد منهم إلا بالنقد، وكأنه يعتبر نفسه قيماً أو وصياً يصحح للناس، وهذا صعب تَحمُّله مهما كان الأمر.
كما أن من الناس من يفرِّط في هذا الأمر، فيتقبل كل شيء، ولا يحب أن يُنتقد ولا أن يَنتقد، فهو يستثقل أن يُلاحَظ أو يُوجَّه إليه أيُّ شيء، فذلك هو لا يَنتقد الآخرين، وكأنه يريد أن يسكت ليسكت الناس عنه، وكما يقال (افتضحوا فاصطلحوا) .
والواقع أنه يجب أن يكون عندنا مسلك وسط في هذا الجانب، فالنقد لا بد من الاعتراف به على مستوى الجميع، والناقد ينبغي أن يلتزم بالمنهج العلمي الشرعي الصحيح.
فالتهم لا داعي لها، والتهجم لا داعي له، والنبرات النابية في غير محلها لا داعي لها، بل يكون النقد منصباً على فكرة، فلا تتحدث عن فلان، وأن فيه كذا، تحدث عن فكرة معينة، أو مذهب معين، أو خطأٍ معين، وصحح هذا الأمر بالأدلة، ودع القراء أو المستمعين يشاركونك أو يخالفونك في هذا الجانب، هذا من جهة.
الجهة الثانية: ينبغي أن لا يكون النقد ومعرفة الأخطاء، إهداراً لحسنات الآخرين، وتنكراً لجميلهم، فما من إنسان إلا وفيه شيء من الخير، والمسلم عنده شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وما دام محققاً لها فهو على خير بإذن الله تعالى، وينبغي ألا ينكر فضله.
فإذا انتقدت إنساناً فحسنٌ أن تبدأ بذكر بعض فضائله وبعض حسناته؛ لأن هذا أدعى لأن يقبل هو، ويقبل من يكون على شاكلته، لأنك عندما تكتب النقد تكتبه غالباً له وللمعجبين أو المتأثرين به، فإذا رأوك متحاملاً، لم يقبلوا منك شيئاً حتى الحق الذي جئت به، لكن إذا رأوك منصفاً معتدلاً كان هذا مسلكاً سلساً حسناً يدعو إلى تقبل الحق الذي جئت به.
وعندنا كتاب الله وهو حسبنا قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] فلم يمنع الإثم الكبير الذي فيها وكونهما محرمين، أن الله تعالى يبين أن فيهما منافع.
كما أن عندنا كتاب الله وهو حسبنا، فالهدهد لما قال سليمان: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل:21] وفي آخر الآيات قال الله تعالى لما ذكر قول الهدهد: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] إلى أن قال: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] فالمسألة مسألة موضوعية، أصدقت أم كنت من الكاذبين بالأدلة المادية الصحيحة، أما من ادعى دعوى لا دليل عليها، فيضرب بدعواه عرض الحائط.
كما أن الحق كونه ظهر على لسان الهدهد؛ لم يمنع نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام من تقبله والتثبت منه.(47/19)
الدعوة تبليغ مع وجود العقبات
السؤال
بالنسبة لتبليغ العلم، كيف السبيل إلى أن يبلغ العالم علمه، مع وجود العقبات أمامه؟
الجواب
العقبات لا بد منها، والعالم الصادق لا بد أن يلقى العقبات، وإلا لم يكن صادقاً، فإن الذي أمرَنا وأمرَ الأمة بأن تبلِّغ، ذكرَ العقبات، وأن الإنسان بقدر ما يبذل، بقدر ما سيواجه من نفسه وممن حوله من الأقربين والأبعدين.
فالعقبات أمر طبيعي، وهي بالنسبة للمستبصر هي المؤشرُ على صدق توجهه، وصحة مسلكه ومنهجه، ولو لم يجد هذه العقبات كان عليه أن يراجع نفسه، ويصحح مساره، بمعنى أنه سلك طريقاً آخر لم يجد فيه تلك الجبال التي نصبت له، ولا تلك الصعاب، ولا تلك العقبات، فهذا أمر طبيعي.
لكن عليه أن يواجهها بالصبر، الذي لا يدعوه إلى أحد طرفين، إما أن ينفد صبره فيسلك مسلكاً غير محمود، لا يتسم بالحكمة ولا يتسم بالبحث عن المصلحة العامة.
أو بالعجز الذي يؤدي به إلى أن يترك، ويعتبر أن عقبات الطريق أكبر من إمكانياته، فعند ذلك ييأس ويترك العمل.
فعلى الداعية أن يتحلى بالصبر وطول النفس، ومعرفة أن الأمور تتغير، والأيام تتغير، والعقبات توجد ثم تزول.
بل إن هذه العقبات عند التأمل؛ هي جزء من شخصية العالم، ابحث عن أي عالم في تاريخ الأمة واقرأ تاريخ هذا العالم؛ تجد أن طبيعة المواقف ووجود بعض العقبات، هي جزء من تاريخه الذي كون حياته، وكون شخصيته، وكون علمه، وكونه كشيء معتبر وشيء صاحب قيمة في المجتمع، فهو أمر لا يُغضب منه، ولا يعتبر أمراً غير مألوف في حياة الدعاة وطلبة العلم، فضلاً عن العلماء.
والعقبات التي تكون أمام العالم، لا تحول بينه وبين إيصال العلم بالكلية، فإن العقبات قد تُغلق عليه طريقاً، لكن إذا كانت الدعوة وكان التعليم يتحرك في قلبه، فسيفتح بدلاً من الطريق طُرقاً، وسوف يجد الوسيلة لإيصال العلم إلى أهله، قد تغلق طريقاً، لكن يفتح الله تعالى له أخرى، بل قد يكون هذا سبباً في توجيهه إلى أمور قد تكون أثمن وأهم وأغلى مما يشتغل به، ولكنه قد يكون مقصراً فيه فتوجهه إليه.
فهكذا قد يقيض الله تعالى بعض الناس ليوجهوا الدعوة، ويوجهوا العلم الشرعي الوجهة الصحيحة التي يحتاج إليها.(47/20)
الجفوة بين العلماء والشباب
السؤال
كثيراً ما يشتكي بعض الشباب من عدم تفاعل العلماء معهم في كثير من القضايا، وكثيراً ما يقولون نحن بحاجة إلى العلماء المربين، فماذا نقول لهؤلاء الشباب؟
الجواب
في الواقع أن القضية يجب أن يخاطب فيها الطرفان معاً، فمن جهة: الشباب مطالبون بأن يلتفوا حول علمائهم، ويجلسوا إليهم، ويستشيروهم في أمورهم، بل وأن يقتربوا منهم، لأن كون الشاب قد يحضر حلقة العلم ثم ينصرف دون أن يتعرف على الشيخ أو يعرفه بنفسه، أو يحييه بتحية الإسلام، أو يقدم له ما اعتاد الناس عليه من أمور فيها معاني التقدير والتكرمة والتعبير عن الود والاحترام لهذا الشيخ، فإن هذا تقصير من جانب الشاب، وينبغي أن يتدرب الشاب على طرائق وأساليب في الحضور إلى العلماء، والتعرف عليهم، وتعريفهم بنفسه، والتقرب من نفوسهم وقلوبهم.
وفي مقابل ذلك فلا شك أن الأصل في العالم أن يستمع إلى هؤلاء الشباب، وأن يفتح ويفسح لهم صدره، ليستمع إلى همومهم ومشاكلهم، وأحياناً قد يكون الشاب عنده مشكلة تؤرقه، فإذا عرضها عليك تشعر بأنها صغيرة أو تافهة في مقياسك، لكنها بالنسبة له مقلقلة ومزعجة، يحتاج إلى من يشاطره ويشاركه في الاهتمام بها، فمن المهم أن يشعر بصدر يتسع لمشاكله، يتجاوب معه، يعطيه شيئاً من وقته.
وينبغي للشاب حين يفقد هذا أن يعلم أن العالم مشغول بما هو أكبر من ذلك، فربما ينشغل العالم عن مشكلة فردية، لكنه منشغل بمشكلة أمة، ولا شك أنه حينئذٍ معذور، حين يعتذر عن سماع تفاصيل جزئية في مشكلة يعانيها شخص بعينه.
لكن على سبيل العموم، كما قال عليه الصلاة والسلام: {سددوا وقاربوا} ولا شك أن دور العالم لا يتوقف عند مجرد حقن المعلومات في ذهن الطالب، بل دوره أكبر من ذلك، فدوره هو بناءً الطالب بناء متكاملاً، والمساهمة في حل مشكلاته، وأن يعيش مع الطالب في كل جزئيات وتفاصيل حياته، أن يجعله عالماً وداعية ومصلحاً، وليس أن يجعله مجرد حافظ للمعلومات لا يتعدى الأمر عنده هذا الحد.(47/21)
بعض أخطاء الدعوة الإسلامية
السؤال
واقع الدعوة الإسلامية فيه كثير من المعوقات والأخطاء، فهل للشيخ سلمان أن يحدد لنا شيئاً من ذلك؟
الجواب
واقع الدعوة الإسلامية، جزء من واقع الأمة الإسلامية، وأنا أعتبر أن أخطاء الدعوة الإسلامية، هي انعكاس أو ظل لأخطاء الأمة الإسلامية في شرقها وغربها، ولكنها قد تكون بصورة مصغرة أحياناً، ولعل من أبرز الأخطاء: ما أسلفت قبل قليل من غياب النقد الصحيح، واعتبار أن هذا النقد -متى كان بناءً صحيحاً- أنه نوع من الهدم أو التشهير.
والواقع أن النقد شرط أساس لا بد منه، وهو النصيحة التي أمر الله بها، وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {الدين النصيحة} فهذا من النصيحة لخاصة المسلمين، التي نحتاج إليها جميعاً.
كما أن من أهم الأخطاء: غياب المنهج الصحيح.
فإن كثيراً من الدعاة ينطلقون من مشاعر ومن عواطف ومن تلهف، ومن الإحساس بالواقع الأليم للأمة، والحاجة إلى تغييره، لكنهم لا ينطلقون من منهج صحيح، ولهذا يذهبون ذات اليمين وذات الشمال، وقد يتجهون يوماً مع هذا ويوماً مع ذاك، وتتفرق بهم السبل، والواقع أنه لا عاصم من هذا إلا بالعودة إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنهج السلف الصالح، والتماس العبرة والأسوة، ورسم الخطوط الأساسية من خلال هذه الأسس الثلاثة -الكتاب والسنة وما كان عليه سلف هذه الأمة- ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
فهذه أبرز الأشياء التي في الذهن، والحديث في هذا الأمر يطول التفصيل فيه.(47/22)
وسائل الدعوة إلى الله
السؤال
إذاً ما رأيك في وسائل الدعوة التي يمكن أن نواجه بها مثل هذه المعوقات والأخطاء؟
الجواب
وسائل الدعوة جزء من واقع الدعوة، والمقصود بالوسائل: الأشياء التي يتوسل ويتوصل بها إلى تحقيق المقصود، فهي المعبر بين الدعاة الناس.
وهناك وسائل متفق عليها في كل البلاد وفي كل الأمم عبر التاريخ، مثل وسيلة الكلمة التي بعث بها الرسل عليهم الصلاة والسلام، فكل رسول قد دعا بكلمة: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] فهو يدعو الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، ونبذ الآلهة والأنداد التي تعبد من دون الله عز وجل.
وهذه الكلمة يمكن أن تصل من خلال وسائل شتى: بالخطاب الشفهي، فيمكن أن تصل عبر كتاب، أو في قصة، أو في قصيدة، أو في أي وسيلة متاحة ومباحة.
وهناك وسائل كثيرة للدعوة توجد في كل عصر، وأعتقد أن الدعاة إلى الله تعالى يستطيعون استخدام أي وسيلة للدعوة متاحة لهم بشرطين: الشرط الأول: أن تكون هذه الوسيلة ليس فيها محظور شرعي، فلا يقوم باستخدامها ارتكاب محظورات شرعية محرمة بنص كتاب أو نص سنة أو بإجماع العلماء، فالغاية لا تبرر الوسيلة، فصحة الغاية، وأن المقصود إيصال الدعوة لا يبرر استخدام أي وسيلة قد تكون محرمة.
فالشرط الأول: أن تكون الوسيلة مباحة على الأقل، أما إذا كانت مشروعة وثبت استخدامها، فهذا لا شك من باب الأولى.
الشرط الثاني: أن يغلب على الظن، أو أن يجزم الداعية بأن هذه الوسيلة تحقق مقصوده، فإن المقصود من الوسيلة هو الوصول إلى الغاية وإلى الهدف، فلا بد أن يقتنع الداعية بأن هذه الوسيلة تحقق مقصوده، إما ظناً غالباً أو جزماً.
أما الاعتقاد بأن وسائل الدعوة تعبدية، فلا أدري كيف هذا، -ولا شك أن الدعوة من أعظم العبادات- إلا أننا حين نقول: إن الوسائل توقيفية؛ فإننا بذلك ندخل الوسائل حينئذٍ في القرب التي يتقرب بذاتها إلى الله، وفي الشعائر التعبدية، وليس الأمر كذلك، فوسائل الدعوة كوسائل الجهاد، وهي أمور تخضع للحاجة وللواقع الذي يحتاج إليه الناس، وليست تعبدية بذاتها، لأنها ليست من القرب المحضة، ولا من الشعائر التعبدية.(47/23)
بعض إيجابيات الدعاة وسلبياتهم
السؤال
إذاً من هذا المنطلق؛ لا شك أنه ستكون هناك سلبيات وإيجابيات عند الدعاة، فهل يتصور الشيخ سلمان بعض هذه السلبيات وهذه الإيجابيات حتى يمكن تجنبها؟
الجواب
السلبيات فيما يتعلق بالدعوة والدعاة كثيرة، ولعلي أسلفت شيئاً منها.
أما ما يتعلق بالإيجابيات فلا شك أن الأصل في الدعوة الإيجابية، لأن الدعوة خطاب للمجتمع بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودعوتهم إلى المنهج الصحيح، وتصحيح المفهومات المنحرفة، والسلوكيات الخاطئة في المجتمع، وتقريب المجتمع مما يجب أن يكون عليه، فهذه هي الدعوة في أبسط تفهيماتها وتعريفاتها، فالأصل في الدعوة الإيجابية، وحين نجد خطأً أو خطأين في واقع الدعاة، أو في أساليبهم، أو في طرائقهم، أو في أساليبهم ووسائلهم التي يسلكونها في الدعوة، فإن هذا يعتبر استثناءً من الأصل الذي يجب أن يكون.(47/24)
مشكلة تعميم الأمور
السؤال
ما دمنا تحدثنا عن الإيجابيات والسلبيات، فهناك من يرى أن بعض الدعاة يقعون في مشكلة تعميم الأمور، وحالياً يدور حديث كثير -مثلاً- في أزمة الخليج التي نعيشها حول هذه التعميمات.
فمثلاً يقولون: الشيخ سلمان العودة نفسه عمم في بعض الأحكام، وقال: إنه لن تقع حرب في منطقة الخليج، وقال: أبشر بطول سلامة يا مربع.
ومن مثل هذا الكلام، فنريد أن تبين للناس حقيقة هذا الأمر حتى يكونوا على بصيرة من الأمر؟
الجواب
التعميم في الأحكام غالباً ما يجانبه الصواب، واللجوء إلى الدقة والتبصير يكون أقرب إلى الحق، لأن الإنسان يستطيع أن يميز بين بعض الأمور المتشابهة، وهذا أمر يقع لكثيرين في الماضي والحاضر، ولا غبار أنه يقع وأنه يجب تصحيحه.
أما فيما يتعلق بهذه الأزمة التي أشرت إليها، وما ذكره عني بعضهم، فأعتقد أنه يحتاج إلى توجيه عدة أمور: أولاً: هل فعلاً كان مرادي أن الحرب لن تقع؟ لم يكن هذا قصدي، بل: واضح من لهجتي وحديثي، بل السؤال الذي وجه أصلاً في المناسبة، حيث أن القضية كانت في مدى مشاركة أطراف معينة بالضبط في موضوع المقاومة الكويتية فكان هذا هو السؤال، وجاء الجواب بهذا الأمر.
أما وقوع حرب بين قوتين عظميين أو بين دولتين، فلم يكن هذا موضع السؤال قط، فهذه قضية توضع في الاعتبار، وفعلاً لم يقع من المقاومة الكويتية -التي كان الأخ يسأل عنها في حدود ما أذكر- مشاركة فعالة، أو دور، أو أنه كان لها أثر مباشر فيما جرى، على أنه لا ينكر أن لهم أدواراً إيجابية في جوانب أخرى.
الجانب الثاني: لنفترض أن هناك من الدعاة -سواءً أنا أو غيري، أو من المحللين- من قال: إنه لن تقع حرب، فلماذا نستعظم هذا الأمر؟ ألا ندري أن (60%) من المحللين الغربيين الذين هم مختصون في هذا الأمر، ويسهرون الليل ويتعبدون النهار في متابعة ما يجد، ومعرفة المرئيات والأبعاد؛ كانوا يتوقعون ألا تقع حرب، ويستبعدون وقوعها.
إذاً: ليس بغريب أن يقع في هذا التوقع غيره، بل ما المانع أن يتصور بعضهم أنه ربما حتى القائمون على مجريات الأحداث، والذين يرسمون خط سير الأحداث وفق ما يتصورون، قد تتغير وجهة نظرهم، ويتغير قرارهم بين الفينة والأخرى، بحسب ما يكون أمامهم من معطيات متجددة في الحدث، ومع التسليم بأن هذا قد يكون صدر من بعض الدعاة، إلا أنه لماذا نعتبر أن هذه قضية كبيرة أو غريبة أن تقع؟ لأن الداعية حين يتكلم لا يتكلم عن نص كتاب منزل ولا سنة محكمة، ولا شريعة ماضية، وإنما هي مرئيات في واقع معين، قد تصيب وقد تخطئ.
السؤال: نتوقع أشياء كثيرة منها: قضية النواحي الاقتصادية، حيث توقع خبراء اقتصاديون أن تصل قيمة برميل البترول إلى ثمانين وأكثر من ثمانين دولاراً، ولم يصل إلى النصف من هذا، فهذه توقعات لم تحصل، ولكن الناس دائماً تلفت نظرهم مثل هذه الأمور، وتحتاج إلى بيان؟ الجواب: لكني أعتبر أن هذا له جانب إيجابي في الواقع؛ لأن هذا يؤكد أن الناس يعتبرون أن الدعاة أن كلمتهم ذات قيمة، ولذلك قد يسمع كلمتهم العامي وغير المختص وغير المطلع، فلا يستطيع أن يدرك الأمر الذي أشرنا إليه.
فهذا يؤكد على أن كلمة الدعاة تسير بها الركبان شرقاً وغرباً، ويؤكد على أن الناس يأخذونها مأخذ الجد والاهتمام، ولهذا يستغربون أن يقع خلافها، فهذا جانب إيجابي ينظر إليه في الموضوع.(47/25)
الجماعات الإسلامية وتصحيح الأخطاء
السؤال
الجماعات الإسلامية، كثر الحديث عنها وعن فرقتها، وعما سُمي بفشلها في تحقيق أهدافها، وذلك ضمن الحملات التي تشن عليها في هذا العصر، فهل للشيخ سلمان العودة، أن يدلي برأيه في هذا الموضوع؟
الجواب
ما يسمى بالجماعات الإسلامية، هي إفراز لواقع معين عاشته الأمة الإسلامية، ولا زالت تعيشه، ولا يمكن عزلها عن المجتمعات التي انبثقت منها.
ومسألة فشلها في تحقيق أهدافها، من الصعب أن نقول: إنها فشلت بهذا الأسلوب، كما أن من الصعب أن نقول: إنها نجحت في تحقيق أهدافها، فأعتقد أن الفشل والنجاح أمر نسبي يتفاوت بين بلد وآخر، وبين فئة وأخرى من الناس.
لكن لا شك أن الأمر الذي يجب أن نقوله هو: أن الدعاة إلى الله عز وجل سواء ما يسمى بالجماعات الإسلامية، أو الدعاة إلى الله تعالى في كل بلد وفي كل مكان؛ أنهم بحاجة دائماً إلى مراجعة وتصحيح مسيرتهم، وسماع النقد الهادف البناء، وتصحيح الأخطاء الواقعة.
وأنا حقيقة أتعجب من جهود بذلت، وسنوات طويلة قد تعد بالعشرات من جهود الدعاة وعرقهم، وتضحيات جسام، ومع ذلك لا تقابل هذه الجهود الكبيرة الجبارة بمؤتمرات أو حلقات نقاش جادة تعمل على معرفة الصواب والخطأ، وأين مكمن الخلل، ومراجعة الخطوات، وتصحيح المسار، فنحن أحوج ما نكون إلى مثل هذا، ومن حق تلك التضحيات التي بذلتها الأمة، وضحت من أجلها أن يراجع الناس مسيرتهم بين آونة وأخرى.
ونعجب من الغرب أعداء الله وأعداء الإسلام، كيف يستفيدون من أخطائهم بصورة غريبة، فيراجعون مسيرتهم بشكل مستمر، بل إننا نجد أن التاجر يراجع حساباته بشكل دوري، ويصحح أخطاءه.
فالدعوة الإسلامية أحوج ما تكون إلى مثل هذه المراجعات، وليس عيباً أن يقول الدعاة: إنهم أخطئوا، أو إنهم تصرفوا تصرفات غير محمودة، أو إنهم اجتهدوا فلم يحالفهم الصواب في مسألة أو مسألتين، أو عشرين، بل العيب كل العيب هو أن نُصِّر على أخطائنا، وأن نقول: إننا ما زلنا نسلك الطريق المستقيم في كل أمورنا، ونحاول أن نجعل الأمور كلها على ما يرام، فإذا اعترفنا بالخطأ اعترفنا به اعترافاً إجمالياً، فنقول: نعم نحن بشر نخطئ ونصيب، ولسنا معصومين، ثم نقف عند هذا الحد، ولا نحدد أخطاءنا.
فيجب على الجميع -سواء ما تعرض له السؤال من الجماعات الإسلامية، أو الدعاة أو طلبة العلم، أو أي فئة من فئات الأمة، بل الأمة كلها- أن يكون عندها اعتراف إجمالي وتفصيلي بالأخطاء، والاعتراف الإجمالي الكل يقر به، ونقول: نحن بشر نخطئ ونصيب، ولسنا معصومين، لكن ماذا بعد هذا؟ هل تحولت هذه القناعة المجملة إلى نظرات تفصيلية في أنهم أخطئوا في كذا وأخطئوا في كذا، ويجب أن يصحح؟ أما اعتبار أن هذا أمر يشمت به أعداءهم، أو أن هذا يفرق الناس من حولهم، فهذا ليس بصحيح، فإن الذي يفرق الناس هو أن يتستر بعضهم على الأخطاء، حتى تتفجر الأخطاء كلها دفعة واحدة، ثم تجعل الجميع شتاتاً، ونجد أن الأمة علقت آمالاً كثيرة على أحياء، ثم تبين لها أن الأمور ليست كما كانت تعتقد وتتصور.
أما الأعداء فإنهم يجدون في مثل هذه الأمور فرصة لشن حملات غير منصفة ولا عادلة، ونجد أنهم يخرجون من هذا إلى شن حملة على الإسلام نفسه فإننا نجد أن كثيراً ممن يتناولون قضية الإسلام والدعوة الإسلامية لا يقف وجودهم عند فئة معينة، أو على فرد معين، أو على موقف معين أخطئوا فيه، بل يتعدى الأمر إلى الهجوم على كل من يرفع راية الإسلام، وكل من يتسمى بالإسلام، وإن كانوا لا يجرءون على النيل من الإسلام نفسه، لكنهم إذا نالوا من دعاته ومن علمائه، ومن الفئات التي تدعو إليه، ولو كان فيها ما فيها من ملاحظات أو أخطاء، ما بقي للإسلام حينئذٍ شيء، فخلت الساحة لأعداء الإسلام، وإن كانوا يلبسون لكل حالة لبوسها.(47/26)
حكم التعددية في مناهج العمل الإسلامي
السؤال
شيخ سلمان، بالنسبة لظاهرة التعددية في مناهج العمل الإسلامي وجماعاته، هل هي بناء على هذا الذي قيل، ظاهرة معقولة من الناحية الشرعية والواقعية؟
الجواب
التعددية في الواقع لها أكثر من صورة؛ والعلماء السابقون تكلموا عن موضوع الاختلاف، فهناك اختلاف يمكن أن يفسر بأنه اختلاف تنوع، وهذا مقبول شرعاً وواقعاً.
والمقصود باختلاف التنوع: أن يتخصص فئات من الناس لألوان من الخير لا يتخصص فيها غيرهم، فهناك فئة -مثلاً- متخصصة في بناء المساجد، وهناك فئة أخرى متخصصة في بناء المدارس والقيام عليها، وهناك فئة ثالثة متخصصة في تأليف الكتب ونشرها، وهناك فئة رابعة متخصصة في الرد على أهل البدع والمنحرفين وأهل الزيغ والضلال مثلاً، وهناك فئة خامسة متخصصة في الجهاد في سبيل الله، ومقاتلة أعداء الله على الثغور، وسادساً وسابعاً إلى آخره، فهذا تنوع محمود وطبعي ولا غبار عليه، وينبغي أن يكون بعضهم يكمل بعضاً، ولا يلوم بعضهم بعضاً، أو يعتبر أنه يشتغل في غير طائل.
فليس صحيحاً أن المشتغل بالجهاد يعتب على المتفرغين لدراسة الفقه، ويقول: مساكين هؤلاء يشتغلون بأمور عفى عليها الزمن في وقت ينازل الإسلام فيه الكفر.
هذا ليس منهجاً صحيحاً لأن الأمة -حتى في حالة القتال- تحتاج إلى الفقيه.
كما أنه ليس صحيحاً أن المتفقه في المسجد، يعتب على الذين يشتغلون بمنازلة العدو ويعيب عليهم أنهم لم يتفرغوا لدراسة العلم الشرعي وتعلمه، اللهم إلا أن يكونوا قصروا فعلاً في تعلم العقيدة التي يحتاجون إليها، فيلامون على ذلك مثلاً، أو قصروا في تعلم الأحكام الشرعية التفصيلية، التي يحتاجونها هم في قتالهم لأعداء الله تعالى وما يتعلق بذلك، فيلامون على هذا، ويدعون إلى التصحيح.
فهذا لون من الاختلاف لا حرج فيه، كما أنه مما يدخل فيه: أنه قد تختلف اجتهادات الناس في معاملة واقع معين، وكلها اجتهادات مبنية على أدلة شرعية وقواعد عامة، وليس في القضية نص يجب الرجوع إليه، فهذا لا ينبغي أن يلوم بعضهم بعضاً.
لكن هناك نوع آخر من الاختلاف مذموم، وهو اختلاف التضاد، واختلاف التضاد مذموم في حقيقته وفي صورته: أما في حقيقته، فاختلاف التضاد منبثق من اختلاف المناهج، بمعنى أن هؤلاء لم ينطلقوا من منطلق عقدي صحيح، ولم يحتكموا إلى الكتاب والسنة وما كان عليه سلف هذه الأمة؛ فلذلك اختلفوا في الكتاب، واختلفوا على الكتاب، واختلفوا في فهم النصوص الشرعية التي دل الدليل الصريح على المعاني الصحيحة لها، ولذلك تفرقت بهم السبل.
فهذا نوع من الاختلاف، ثم ترتب على هذا اختلافهم في طريقة معالجة الواقع، وفي أساليبهم وفي مناهجهم، بناءً على اختلافهم في الفهم الصحيح للإسلام، وما يجب أن يكونوا عليه، فلا شك أن هذا الاختلاف مذموم، ويترتب عليه أن يكون بعض هؤلاء ينقض جهود بعضهم الآخر، وربما يشتغل بعضهم بحرب بعضهم الآخر أكثر مما يشتغل بحرب الأعداء الأصليين للإسلام، فهذا اختلاف تضاد في أصله ومنطلقه، واختلاف تضاد في نتيجته وثمرته، ولا شك أنه اختلاف مذموم شرعاً، وثمرته الواقعة ثمرة مرة كما يشهدها الجميع.(47/27)
حكم المشاركة في المجالس النيابية
السؤال
اشتراك الدعاة في بعض البلدان العربية والإسلامية في المجالس النيابية، وتعاونهم مع بعض الأحزاب التي لا تسير وفق منهج إسلامي، وذلك لتشكيل جبهة معارضة ضد بعض الحكومات العلمانية، فهل هذا من خلال تصوركم إجراءٌ من الناحية الشرعية يمكن أن يكون مقبولاً؟
الجواب
مثل هذا السؤال من النوازل الجديدة التي تحتاج إلى اجتهادات جماعية، لأن الاجتهادات الفردية مدعاة إلى تشعب الآراء واختلافها وكثرتها، وكثرة القيل والقال فيها، وتجد الناس فيها أطرافاً متباعدة.
فمنهم من يعتبر هذا لوناً من الشرك، يوقع صاحبه في الخروج من الدين، ومنهم من يعتبر هذا أمراً مباحاً سائغاً، بل مشروعاً وربما أدى إلى القول بوجوبه.
ولذلك لا أرى أن أقدم رأياً محدداً في هذه القضية، بل ربما لا أملك رأياً محدداً في هذه المسألة، لكنني أستطيع أن أضع بعض القواعد العامة: فمن القواعد العامة: أن الأصل في المسلم ألا يقبل المشاركة في أي حكم بغير ما أنزل، لأن الحكم بغير ما أنزل الله في مجال التشريع والتقنين لا شك أنه كفر ينقل عن الملة، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:44-45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] .
وتكلم أهل العلم عن مثل هذا الأمر، حتى أشار الإمام الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية إلى أن هذا الأمر مما أجمع المسلمون عليه أن هذا كفر ينقل عن الملة.
أي: فرض القوانين الوضعية الجائرة الكافرة، التي تحكم الناس في أنفسهم وأموالهم ودمائهم وأعراضهم، وتعميمها على الناس وحمايتها.
والمسلم لا شك أنه لا يمكن أن يقبل بهذا الأمر، وأن يكون شريكاً فيه، والله تعالى يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] وقال تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] وفي قراءة {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] تشرك: بالتاء.
الجانب الثاني: إن من أهم ما يُعنى به الداعية هو وضوح الدعوة وجلاؤها وعدم التباسها في حال من الأحوال، فإن الناس في أكثر من بلد، صاروا يتصورون أن الدعوة الإسلامية عبارة عن الحرص على نيل مطامع ومكاسب دنيوية، وربما ظنوا أن الدعاة يتنافسون ويتسابقون مع غيرهم إلى الكراسي وإلى الوصول إلى السلطة.
ونحن نعرف أن هناك بعض المغرضين، يصطادون في الماء العكر -كما يقال- ويحاولون أن يلبسوا الدعاة هذا الثوب الذي لم يفصَّل لهم، لكن ربما أن واقع بعض الدعاة الذين تجاوزوا أشياء كثيرة، وتأولوا في اجتهادات ومواقف عديدة، ربما أنه جعل الناس يملكون نوعاً من القابلية؛ لتصديق مثل هذه الإشاعات ومثل هذه الأمور المكذوبة.
فلذلك أقول: إن من المهم أن تكون الدعوة واضحة وجلية غير ملتبسة، وأن الدعاة إلى الله عز وجل لا يريدون من الناس أجراً، ولا يسألونهم عليه دنياً ولا مالاً، إنما همُّ الدعاة هو أن يقوم الإسلام، وأن يقوم حكم الله تعالى في الأرض.
أما أشخاصهم فلا تعنيهم بقليل ولا كثير، ولا يبالون أن تُقرض أجسامهم بالمقاريض، وأن هذا الخلقَ قد أطاعوا الله عز وجل.
فينبغي أن يفهم الناس هذا عن الدعاة فهماً قولياً وفهماً عملياً أيضاً، ليُقطع الطريق على أي مغرض يحاول أن يلبس الدعاة مثل هذا الثوب.
الجانب الثالث: قد يكون هناك مصالح في حال من الأحوال، وفي وضع من الأوضاع، تستدعي اجتهاداً قد يكون استثناءً من قاعدة كلية عامة، فهذه المصالح تعتبر -أحياناً- حاجات، وتعتبر -أحياناً- ضرورات فتقدر بقدرها، ويجتهد فيها بكل نازلة أو واقعة معينة من يملكون الاجتهاد: ممن يملكون العلم الشرعي أولاً، ويملكون المعرفة بالحالة التي يتكلمون عنها ثانياً، وإن أصابوا حينئذٍ فلهم أجران، وإن أخطئوا وكانوا أهلاً للاجتهاد فلهم أجر واحد.(47/28)
إعداد الخطط لمواجهة الأعداء
السؤال
يلاحظ في مسيرة الدعوة، أن هنالك تركيزاً واضحاً من كثير من الدعاة، على سلبيات أو على خطورة الأعداء وسلبيات مخططاتهم بالنسبة إلى عالمنا الإسلامي.
ولكن قليلاً ما نجد من يضع خططاً لمواجهة هذه الخطورة، فما رأي الشيخ سلمان في هذا الموضوع؟
الجواب
الحقيقة أنك بسؤالك هذا لامست داءً دفيناً في نفوسنا جميعاً، وهو أن الأمة -وخاصة دعاتها لأنهم المعول عليهم بالدرجة الأولى- الأمة ودعاتها أصبحوا يميلون إلى جانب من السلبية وعدم التفاعل مع الأوضاع، وعدم القيام بدورهم المنوط بهم، وفي سبيل أن نسوغ لأنفسنا هذا الدور -الذي هو دور القعود والركود والنكول- أصبحنا نبحث عن أحد نعلق عليه أوضاعنا، وأقرب ما نعلق عليه هو قضية الأعداء.
فيكفي أن نقول: الاستعمار، والأعداء، والصهيونية واليهود والنصارى والمنافقون، ثم ننام ملء جفوننا؛ معتقدين بذلك أننا معذورون، والواقع أن منهج القرآن الكريم واضح، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] و (شيئاً) هنا نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء.
أي: إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم أي شيء، وأيضاً ها هنا نص صريح، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] فهذا مهرب نفسي يلجأ إليه المسلمون ويلجأ إليه الدعاة؛ ليقعدوا عن القيام بالواجبات الملقاة على عواتقهم، وإلا فحتى مع كيد الأعداء -ولا نشك في كيد الأعداء، ويجب أن ندرك خطر كيدهم ومدى مكرهم لكن مع ذلك كله- نحن مطالبون بأن نواجه هذا الكيد وهذا الأمر، وحين نواجهه بصدق وإخلاص سيدفعه الله تعالى عنا، وسيجعل جهودهم تبوء بالدمار والبوار والخسار، وجهود المؤمنين مهما قلَّت تظهر آثارها وثمارها.
فهذا نوع من المهرب النفسي الذي يلجأ إليه بعضهم؛ للتخلي عن القيام بدورهم في مواجهة هذا الواقع، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: إننا إذا أردنا أن نقوم بدورنا، وأصبحنا -فعلاً- متربين على الإيجابية، فلا نريد إنساناً يقول: ماذا بيدي وماذا أصنع؟ أنا صفر على الشمال، فهذا الكلام يجب أن يختفي، فإذا وجد الداعية الفعال الإيجابي، الذي يسأل ما دوري وهو صادق، ويريد أن يؤدي دوره، حينئذٍ سنكون أمام أمة فاعلة، أمام أمة مؤثرة، الفرد منها بعشرة أو بمائة بل ربما بألف.
يقول الله عز وجل: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:65] حين نكون أمام مثل هذه النوعية من الأفراد؛ معناه أننا نملك قدراً كبيراً من طلبة العلم والدعاة، بل ومن عامة المسلمين الذين يملكون الاستعداد لفعل أي شيء، وهنا يأتي دور التخطيط لمواجهة كيد الأعداء، ودور العلماء والدعاة في رسم الخطط التي تواجه كيد العدو على كافة المستويات، ولا شك أن المسلمين يحتاجون إلى مثل هذا.(47/29)
كيف تواجه التهم ضد الدعاة
السؤال
من أساليب خصوم الدعوة -كما تعلم- في تشويه صور الدعاة في كثير من أنحاء العالم الإسلامي، أن توجه إليهم بعض التهم المالية والأخلاقية، وغير ذلك من التهم، فما رأيك في هذه القضية؟ وما واجب الدعاة تجاه هذا الأمر لأخذ الحيطة؟ وما واجب عامة الناس في مقابلة هذه التهم؟
الجواب
أيضاً هذا السؤال حقيقة في غاية الأهمية، فهو أنموذج عملي واقعي، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث رمته الدنيا عن قوس واحدة، وألصقوا به كل التهم: المالية والأخلاقية واتهامه في مقاصده ونياته، إلى غير ذلك.
ومع ذلك استطاع عليه الصلاة والسلام، بتوفيق الله وتسديده، ثم بصبره وسلوكه الطريق الصحيح، أن يتغلب على كل هذه الأشياء، وأن تتحول الآلة الإعلامية للكفار إلى آلة غير مؤثرة.
لماذا؟ أولاً: لأن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت شخصية واضحة، غير قابلة لإلصاق هذه التهم بها، فقد كان عليه الصلاة والسلام يتحرك في الهواء الطلق -كما يقال- وكل ما عنده ظاهر ومكشوف ومعروف للناس.
وشخصيته عليه الصلاة والسلام لم يتلبس بها ما يريب أو يعاب، حتى التصرفات التي فيها تأويل كان عليه الصلاة والسلام يتجنبها، مع أنه قد يكون التأويل أو بعض الأشياء التي يكون فيها تلميح للإنسان فيها متسع، كالمعاريض ففيها مندوحة عن الكذب، ومع ذلك، حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تجنبها.
ولذلك لم يجد المشركون أي أمر يمكن أن يتعلقوا به في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فاضطروا إلى إطلاق تهم عارية عن الدليل، فقالوا: هو ساحر، وشاعر، وكذاب، وكاهن إلى آخره، والناس الذين رددوها هم أول من يدري أنها كذب، وجمهور الناس حين سمعوها، لم يستطيعوا أن يصدقوها وهم يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يجدون في شخصيته ما يمكن أن يصدق ما قيل عنه.
ولذلك على الداعية: أولاً: أن يدرك أنه عرضة لهذه الأشياء، فعليه أن يحرص قدر المستطاع أن تكون شخصيته واضحة نظيفة، بعيدة عن أي أمر يمكن أن يتعلق به الخصوم.
ثانياً: إن على الدعاة أن يحرصوا على إيضاح الصورة الحقيقية للناس من خلال وسائل إعلامية مكافئة وقوية وتقوم بهذا الدور، وتخاطب جماهير الأمة، بحيث لا يحال بين الأمة وبين دعاتها بأصوات غير نظيفة، ولا مخلصة ولا صادقة.
ثم على الدعاة أن يربوا الناس على التثبت والتبين في الأقوال والأخبار، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] بحيث تملك الأمة منهجاً واضحاً صحيحاً في غربلة الأخبار والإشاعات والكتب والأقاويل والتهم، ومعرفة الحق منها والباطل، وعلى كل حال فإن عندنا نص من كتاب الله تعالى، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] فمتى ما كان الدعاة مؤمنين صادقين مخلصين، ويريدون وجه الله والدار الآخرة؛ فلا عليهم أن يقول الناس فيهم ما قالوا.
ومهما ضج الباطل فإن دولته ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، قال الله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] وكم من تهمة قيلت وتحدث الناس بها، وروجوا لها، ولكنها ولدت ميتة، ولهذا بمجرد أن تخلت عنها الأجهزة والأشخاص الذين كانوا يروجون لها سقطت ميتة، وبقي الحق شامخاً لا تؤثر فيه تلك العوادي.(47/30)
أهم مظاهر العلمانية
السؤال
ننتقل إلى موضوع آخر، ويبدو أننا في كثير من الأسئلة نثير بعض الهموم، ولكن هذه هموم الأمة، ونسأل الله تعالى أن يقودها إلى طريق النصر.
ماهي أهم مظاهر العلمنة في الوقت الحاضر؟
الجواب
العلمنة في الوقت الحاضر تتجلى في مظاهر كثيرة تسير جنباً إلى جنب، وبشكل عام: محاولة نقل واقع الأمة إلى واقع غير إسلامي، والحيلولة بين الإسلام الصحيح وبين واقع الأمة في كل مجالاتها.
فلم تعد العلمنة اليوم مقصورة على جانب معين، يمكن أن يتحدث عنه، بل من الواضح أن هناك خططاً للعلمانيين في أنحاء العالم الإسلامي؛ لمحاولة حصر الإسلام في زاوية ضيقة، لا أقول في مسجد، بل في زاوية ضيقة من المسجد، لأنه حتى المسجد يحاول العلمانيون حصر المسجد في أدوار محدودة، والحيلولة بينه وبين دوره التاريخي، الذي كان يقوم به ولا يزال -بحمد الله- يقوم به إلى حد بعيد.
فالعلمنة اليوم ليست محصورة في مجال معين، بل هي حركة تستهدف حياة الأمة، والحيلولة بين الأمة الإسلامية وإسلامها.(47/31)
المتعاطفون مع العلمانية
السؤال
إذاً نحن نقول هنا -طارحين تساؤلاً يقوله بعض الناس-: إن الدعاة يبالغون أحياناً ويهولون من موضوع العلمانية ودورها في عالمنا الإسلامي، وفي البلاد الإسلامية، نقول هذا القول ونوجهه على شكل سؤال إلى الشيخ سلمان، فما إجابته؟
الجواب
أنا لا ألوم من يطرح مثل هذا السؤال؛ لأنه أحد صنفين من الناس.
إما أن يكون إنساناً يعيش غيبة عن الواقع، ويعيش في قرن مضى، أو يعيش في أحلام قادمة، فهو لا يعيش الواقع، ولذلك يستغرب الحديث عنه، وكم من إنسان يستفظع ويستعظم كلاماً، فإذا ذكرت له تفاصيل عاد فحملها أكثر مما كان ينكر من قبل.
والنوع الثاني من الناس: هم أولئك العلمانيون، أو أولئك المتأثرون بهم، ممن يحاولون أن يخفوا حركاتهم، ويعملوا في الظلام بعيداً عن العيون، وبعيداً عن محاولة كشف خططهم وألاعيبهم، وبالتالي يشيرون بأصابع الاتهام لكل من يتحدث عنهم بأنه يبالغ، لأنهم يريدون أن يتحركوا.
ومن الخطط الأساسية التي يتكلمون عنها -وبالأمس كان في يدي قصاصة من جريدة خارجية تتكلم عنها- أن التغيير يجب أن يكون بالتدريج، إذاً هم يؤمنون -الآن- بأن التغيير يجب أن يكون بالتدريج، وألاَّ يواجه المجتمع صراحة بأشياء كثيرة قد تستفز مشاعر المجتمع، ومعروف كيف يكون التدريج في مثل هذه الأمور، لا أعلم كيف يتصور الناس مثل هذا الأمر؟ على رغم الواقع الذي وجدنا فيه أنه حتى المسلم العادي، أصبح يشكك في أشياء كثيرة من واقعه، ومدى ارتباطها بالإسلام، وما ذلك إلا بتأثير لوثات علمانية عامة أصبح الناس يتنفسونها مع الهواء.(47/32)
النصيحة ومفهومها الشرعي
السؤال
إزاء هذه الأمور والقضايا التي تحيط بالأمة، والتي تجري في واقع العالم الإسلامي، نحن نعلم أنه -شرعاً- لا بد أن يكون للنصيحة دورها في هذا المجتمع، ولكن من خلال استقرائنا جميعاً، أن مفهوم النصيحة في الإسلام قد اختلط في هذا الزمن عند كثير من المسلمين مع مفهوم المعارضة المفهوم عند الغرب، فأخذوا يخلطون بين المفهومين، وينسون أن النصيحة أمر مشروع بالنسبة للمسلمين، فنريد من الشيخ سلمان -جزاه الله خيراً- أن يجلي هذه النقطة، حتى يعرفها الإخوة المستمعون حق المعرفة؟
الجواب
لعل هذا نموذج -ذكرناه قبل قليل- من اختلاط المفاهيم وتأثير العلمنة في مفاهيم المسلمين العامة؛ لأن النصيحة أصل في الدين، حتى الذين يكتبون في العقائد، يذكرون وجوب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
والله عز وجل ذكر في كتابه من صفات المؤمنين: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91] والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث تميم بن أوس في مسلم: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة} فهي أصل، ومع ذلك فهي أصل عملي درج عليها المسلمون منذ أبي بكر رضي الله عنه إلى يوم الناس هذا: أن كل فرد مسلم مطالب بالنصيحة: النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
فبالدرجة الأولى تكون النصيحة لمن ولي أمراً من أمور المسلمين، إذ أن النصيحة حينئذٍ تكون ثمرتها أكبر وأعظم، والمسئولية على الجميع في التوجيه والتصحيح، فهذا أصل شرعي ثابت مطرد مستقر، لم يتخل المسلمون عنه يوماً من الأيام، وكانوا يسلكون كافة الوسائل لهذا الأمر، والحديث في تفصيل الوسائل يطول.
وبالمقابل، المسلمون اليوم بُلوا بحملات تغريبية وجهود للعلمنة، تحاول أن تنقل واقع المسلمين إلى الغرب.
فمن جهود العلمانية: محاولة إثارة قضية المعارضة لتكون بديلاً عن النصيحة، فهم: أولاً: يعتبرون المعارضة لذات المعارضة، فهناك جهات -أو ما يسمونها أحزاباً- موقفها موقف المعارضة، وقد تكون القضية تمثيلاً في بعض الأحيان، وقد تكون حقيقة، لكن هذه الأحزاب تحرص على كشف عيوب الآخرين، وعلى التماس العيوب لهم، بل ربما تجعل من أمور فعلوها عيوباً ولو لم تكن كذلك إلى غير ذلك، مما يعرف في تاريخ الغرب المعاصر، وهكذا الحال بالنسبة لعدد من الدول الإسلامية.
أما في نظام الإسلام، فليس هناك حاجة إلى شيء اسمه المعارضة، لأن عندنا النصيحة هي البديل الشرعي، فالناصح ليس معارضاً لك، ولا يعني أنه ضدك، فهو ينصح لأنه يرى أن هذا خطأ ينبغي أن يصحح، وهذا صواب متروك يجب أن يفعل.
ولا يمنع أنه بعد حين، يأتي ليقول: إن هذا الفعل -فعل آخر- إنه صواب يوافق مادل عليه الكتاب والسنة، أو إن هذا الأمر الذي تُرك إنه -فعلاً- خطأ تُخلي عنه.
فليست القضية قضية مبدأ، أن الإنسان يجب أن يكون مبدؤه مبدأ معارضة، بل القضية قضية النصيحة، التي تعني تصحيح الصواب وكشف الخطأ.(47/33)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمفهوم الشرعي
السؤال
بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أيضاً يرتبط في أذهان بعض الناس في هذا الزمن، بقضية إثارة الفتنة والخروج، فنريد أن توضح هذه النقطة أيضاً؟
الجواب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو جزء من النصيحة، بل هو جزء لا يتجزأ من حياة الأمة ومقوماتها، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] بل إن الأمة في مجموعها! يجب ويتحتم عليها أن يوجد فيها فئة أو طائفة أو أمة تقوم بهذا الدور.
كما قال الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ و