خطبة: (أصحاب الأخدود)
فضيلة الشيخ: د. عبد الوهاب الطريري
.............................................................................
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله.
واشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واهتدى بهداه.
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن دعاء لا يسمع.
اللهم إنا نسألك الهدى والسداد فأهدنا وسددنا.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(والسماء ذات البروج، وشاهد ومشهود، قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السماوات والأرض، والله على كل شيء شهيد).
إن هذه الآيات تحملُ قصةَ أصحابِ الأخدود، هؤلاء اللذين فتنوا في ديِنهم..
هؤلاء اللذين أحرقوا في خنادقِ النارِ مع نسائهم وأطفالِهم.
وما نقموا منهم إلا أن يأمنوا بالله العزيز الحميد.
وكان نكالاً دنيوياً بالغَ القسوة.
وجريمةً نكراء عندما يقادُ أولئك المؤمنون الأطهارِ إلى خنادقَ وحفر أضرمت فيها النار هم ونسائهم وأطفالهم ليلقوا فيها لا لشيء إلا لأنهم أمنوا بالله جل وعلا.
حتى تأتي المرأةُ معها طفلُها الرضيعُ تحملُه، حتى إذا أوقفت على شفيرِ الحفرةِ والنارُ تضطرمُ فيها تكعكعت، لا خوفاً من النار ولكن رحمةً بالطفل.
فيُنطقُ اللهُ الطفلَ الرضيع ليقولَ لها مؤيدا مثبتاً مصبرا:
يا أمه اصبري فأنك على الحق.
فتتقحم المرأةُ الضعيفةُ والطفل الرضيع تتحقحمان هذه النار.
إنه مشهدُ مريعُ وجريمةُ عظيمةٌ يقصُ القرآنُ خبرها ويخبر بشأنها فإذا هي قصةُ مليئةُ بالدروسُ مشحونة بالعبر فهل من مدكر؟(1/1)
ولكنا نطوي عبرَها كلها ونعبرَها لنقف مع آيةٍ عظمى، آية عظمى تومض من خلال هذا العرض للقصة، إن هذه الآيات قد ذكرت تلك الفتنة العظيمةَ وذكرت تلك النهايةُ المروعةُ الأليمة لتلك الفئةُ المؤمنة، والتي ذهبت مع آلامها الفاجعة في تلك الحفرُ التي أضرمت فيها النار.
بينما لم يرد خبرُ في الآياتِ عن نهايةِ الظالمين اللذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات:
لم تذكرُ الآياتُ عقوبةُ دنيوية حلت بهم.
لم تذكر أن الأرض خسفت بهم.
ولا أن قارعة من السماءِ نزلتَ عليهم.
انتهاء عرضُ القصةِ بذكرِ مصيرِ المؤمنين وهم يُلقونَ في الأخدود.
والإعراض عن نهاية الظالمين الذين قارفوا تلك الجريمة فلم تُذكر عقوبتهم الدنيوية ولا الانتقام الأرضي منهم. فلما أغفل مصيرُ الظالمينَ ؟
أهكذا ينتهي الأمر، أهكذا تذهبُ الفئةُ المؤمنةُ مع آلامها واحتراقها بنسائِها وأطفالِها في حريق الأخدود؟
بينما تذهب الفئةُ الباغية الطاغية التي قارفت تلك الجريمة تذهبُ ناجية؟
هنا تبرزٌ الحقيقةُ العظمى التي طالما أفادت فيها آياتُ الكتاب وأعادت، وكررت وأكدت وهي:
أن ما يجري في هذا الكون لا يجري في غفلةٍ من اللهِ جل وعلا، وإنما يجري في ملكِه.
ولذا جاء التعقيبُ بالغ الشفافية:
( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض).
فهذا الذي جرى كلِه جرى في ملكِه ليس بعيدا عن سطوتِه، وليسَ بعيدا عن قدرتِه إنما في ملكه:
(والله على كلِ شيء شهيد).
فهذا الذي جرى لم يجري في غفلةٍ من الله ولا في سهو من الله.
كلا… ولكن جرى والله على كل شيء شهيد، شهيدُ على ذلك مطلعُ عليه.
إذا فأين جزاء هؤلاء الظالمين ؟
كيف يقترفون ما قارفوا، ويجترمون ما اجترموا ثم يفلتون من العقوبة؟ يأتي الجوابُ، كلا لم يفلتوا.
إن مجال الجزاء ليس الأرضَ وحدَها.
وليسَ الحياةَ الدنيا وحدها، إن الخاتمةَ الحقيقةَ لم تجئ بعد، وإن الجزاءَ الحقيقيُ لم يجئ بعد.(1/2)
وإن الذي جرى على الأرض ليسَ إلا الشطر الصغير الزهيد اليسير من القصة.
أما الشطرُ الأوفى والخاتمةُ الحقيقةُ والجزاء الحقيقي فهناك:
(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق).
هولا الذين أحرقوا المؤمنين في الأخدود سيحرقون ولكن أين؟
أين ؟ في جهنم.
في جهنم، إن الذين أحرقوا المؤمنين في الدنيا سيحرقون ولكن في الآخرة.
وما أعظمَ الفرقَ بين حريقٍ وحريق!
أين حريقُ الدنيا بنارٍ يوقدُها الخلق، من حريقِِ الآخرةِ بنارٍ يوقدُها الخالق ؟
أين حريقُ الدنيا الذي ينتهي في لحظات، من حريقِِ الآخرةِ الذي يمتدُ إلى آبادٍ لا يعلمُها إلا الله ؟
أين حريقُ الدنيا الذي عاقبتُه رضوانُ الله، من حريقِ الآخرةِ ومعهُ غضبُ الله ؟
هذا المعنى الضخم الذي ينبغي أن تشخصَ الأبصارُ إليه وهو الارتباطُ بالجزاء الأخروي رهبة ورغبة.
أما الدنيا فلو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربةَ ماء.
إن الدنيا هينةُ على الله جل وعلا:
مر النبيُ (صلى الله عليه وسلم) وأصحابُه معه، مروا في طريقهم فإذا سباطة قوم، تلقى عليها النفايات، الفضلات، الجيف.
فإذا بالرسول (صلى الله عليه وسلم) ينفردُ عن أصحابه ويتجه صوب سباطة هؤلاء القوم ليأخذَ من القمامة الملاقاة عليها جيفة تيس مشوهِ الخلقةِ قد مات، مشوه الخلقة، صغير الأذن قد انكمشت أذنه.
فأمسك النبيُ (صلى الله عليه وسلم) بهذا التيس الميتَ فرفعه.
ثم أقام مزاداً علنياً ينادي على هذه الجيفة الميتة، فيقول مخاطبا أصحابه:
آيكم يحبُ أن يكونَ هذا له بدرهم ؟
من يشتري هذا التيس المشوه بدرهم؟
وعجب الصحابة من هذا المزاد على سلعة قيمتها الشرائية صفر.
ليس لها قيمة شرائية ولذا ألقيت مع الفضلات.
قالوا يا رسولَ الله، والله لقد هانَ هذا التيس على أهلهِ حتى ألقوه على هذه السباطة، لو كان حيا لما ساوى درها. لأنه مشوه. فكيف وهو ميت؟(1/3)
لقد هان على أهله حتى ألقوه هنا، فكيف يزاد عليه بدرهم ؟
فألقاهُ النبي (صلى الله عليه وسلم) وهوت الجيفة على السباطة والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول:
لدنيا أهونُ على الله من هذا على أحدِكم.
إن الدنيا هينةُ على الله، ومن هوانها أنها أهونُ من هذه الجيفةُ التي ألقيتموها واستغربتم أن يزاد عليها ولو بدرهمٍ يسير. فقيمتها الشرائية صفر، ليس لها قيمة.
وإذا كانتِ الدنيا هينةُ على اللهِ هذا الهوان، فإن اللهَ جلا جلاله لم يرضها جزاءً لأوليائِه.
وأيضا لم يجعلَ العذابُ فيها والعقوبة فيها هي الجزاءُ الوحيدُ لأعدائه.
كلا إن الدنيا أهونُ على الله، بل لولا أن يفتن الناس، لولا أن تصيبهم فتنة لجعل الله هذه الدنيا بحذافيرها وزينتها وبهجتها ومتاعها جعلها كلها للكافرين.
أستمع إلى هذه الآيات:
(ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون، وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين).
أما الدنيا فأهون على الله من أن يجعلها للمتقين جزاء، أو يجعل العذاب فيها فقط جزاء الكافرين.
كلا.. لولا أن تفتن قلوب الناس لأعطى الدنيا للكافرين، كل ذلك قليلُ وحقير وتافه:
(وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين).
ولكن قلةَ هذا المتاع وضآلته وتفاهته لا تظهرُ إلا إذا قورن بالعمرِ الأبديِ الخالدِ في الآخرة.
هناك تظهرُ قلةَ هذا المتاع.
ولذا لما ذكر اللهُ زهو الكافرين ومظاهر القوة التي يتمتعون بها، وتقلبَهم في البلاد واستيلائهم عليها، ذكر ذلك وعبر عنه بقوله جل وعل متاع قليلا:
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد).
(قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار).
نعم قليلا، تمتع بكفرك قليلا، قد يكون هذا القليل ستون سنة.
قد يكون سبعون، قد يكون مائة، ولكن كم تساوي هذه الومضة في عمر الخلود الأبدي في الآخرة؟(1/4)
كم تساوي هذه الومضة في عمر أبدي خالد في دار الجزاء.
(قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين ،قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين).
قالوا يوما..ثم تكاثروا اليوم فرجعوا أو بعض يوم فسأل العادين.
(قال إن لبثتم إلا قليلا).
كان هذا القليل عشرات السنين، ولكنها أصبحت في عمر الخلود الأبدي في الآخرة يوما، كلا فاليوم كثير، بعض يوم، بعض يوم وهم مستيقنون أنه بعض يوم فاسأل العادين.
(قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنت تعلمون).
هناك يأتي الجزاءُ الحقيقي.
ولذا كانت آياتُ القرآنِ تتنزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تخاطبه وتلفتُ أنظارَ المؤمنين معه إلى أن القِصاص الحقيقي، والعقوبةَ الحقيقةَ والجزاءُ الذي ينتظرُ الظالمين والمتكبرين والمتجبرين من الكفار والفجرة والظلمة هناك:
(إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم).
(وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون).
قد ترى شيئا من عقوبتهم وقد يتوفاك قبل ذلك.
ولكن العبرةُ بالمرجع إلينا، وهناك سيلفون على ربٍ كان شهيداً على فعلهم كلِه، كلِ الذي فعلُوه لم يكن خافيا على الله، كان مطلعاً عليه:
(فذرهم يخوضوا ويلعبوا، حتى يلاقوا يومَهم الذي يوعدون).
حينها كيف سيكون حالهم؟
(يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفون، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون).
وطالما نظرت أبصارهم بجرائه.
وطالما اشمخرت أنوفهم بكبرياء.
أما اليوم فأبصارهم خاشعة، وكبريائهم ذليلة، لماذا ؟…. ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون.
لأنهم في يوم الموعد، لقد وعدوا ذلك اليومَ.
وعدوا به في الدنيا ولكن استهانوا واستخفوا فما بالوا وما اكترثوا ولا استعدوا فما أسرعَ ما لقوه.
وما أسرع ما شاهدوه.
وما أسرع ما أحاطَ بهم أمره، ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون.
هنا أيها المؤمنون بلقاء الله جل وعلا تأثرُ هذه الحقيقةُ العظمى في نفسِ المؤمنِ ووجدانِه.(1/5)
فيعلم أن من اجترأ على الله وإن عاش كما يعيشُ الناس.
بل ومات كما يموت الناس فإن الجزاء الحقيقيَ ينتظر هناك.
إن الدنيا ليست دارُ جزاء ولكن دارُ عمل، وأما الآخرةُ فهي دارُ جزاء ولا عمل.
نعم قد يعجلُ اللهُ العقوبة لبعضِ المتمردين لحكمةٍ يعلمها.
فأهلك قومَ نوحٍ، وقوم هود وقوم صالح، أهلك أمما، وأهلك أفرادا.
أهلك فرعون وقارون وهامان وأبا جهل وأبي ابن خلف.
ولكن هذا تعجيل لبعض العقوبة، وقد يتخلف هذا التأجيل فتدخر العقوبةُ كلُها ليوافي المجرم يوم القيامة فإذا عقوبته كاملة لم يعجل له منها شيء.
ولكن كل ما قارفَه في الدنيا، وإن عاش في الدنيا كما يعيش الناس، وتمتع في الدنيا كما يتمتع الناس، ثم مات ميتة طبيعية كما يموت الناس فإن كل ما فعله لم يكن يتم في غفلة من الله:
(ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء).
هنا نعلم أنه ليس بالحتم أن تحلَ العقوبةُ بالظالمينَ في الدنيا.
ليس بالحتم أن يعجلوا بالعقوبة.
ولكن الذي نحن منه على يقين أن ظلمَهم واجترائَهم على الله، وانتهاكَهم لحرماتِ الله،لم يجري في غفلةٍ من الله.
ثم ليست كلُ عقوبةٍ لابد أن تكون ماثلةً للعيان، فهناك عقوباتُ تدبُ وتسرب إلى المعاقبينَ بخفية، تسري فيهم وتمضي منهم وتتمكن من هؤلاء وهم لمكر الله بهم لا يشعرون.
قد يملي اللهُ لظالمِ ولكن ليزدادَ من الإثمِ وليحيطَ به الظلمُ، ثم يوافي اللهَ بآثام كلِها وجرائمهِ كلِها ليوافي حينئذٍ جزاءه عند ربٍ كان في الدنيا مطلعاً عليه شهيداً عليه رقيبا عليه.
(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين).
ليزدادوا إثما، وأنظر إلى عقوبة أخرى:(1/6)
(ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون). فماذا كانت العقوبة ؟
هل احترقت أموالهم؟
هل قصمت أعمارهم؟
هل نزلت عليهم قارعة من السماء؟
هل ابتلعتهم الأرض؟
ماذا كانت العقوبة التي حلت بهم؟
أستمع إلى العقوبة:
(فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون).
كان الجزاء أن أعقبهم الله نفاقا مستحكما في القلوب إلى يوم يلقونه، فهو حكم عليهم بسوء الخاتمة.
(كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).
(بل طبع الله عليها بكفرهم).
هذه عقوبات تسرب إلى القلوب في غفلة من الناس ومن الظالمِ نفسه، ولكنها عقوبات بالغة الخطورة.
ولكن العبرة بالمصير، بالمصير يوم يفضي هذا الظالم إلى الله جل جلاله فيوافي عقوبة لا يستطيع أحدا من البشر، من الخلق الذين كانوا في الدنيا يحبونه، ويوالونه وينصرونه، لا يستطيع أحد منهم أن ينصره أو يكفيه أو يتحمل عنه شيئا من العذاب.
كانوا في الدنيا يقولون له نحن فداك، نحن نكفيك.
لكن في الآخرة لا فداء لأن الفداء نار تلظى، لأن الفداء نار شديدة محرقة وخلود فيها، فمن الذي يفدي؟
(يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه).
يود ذلك! لكن يأتي الجواب ..كلا:
(كلا إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى).
فمن الذي عنده استعداد للفداء.
أمة الإسلام، أيها المؤمنون بالله ولقائه نفضي من هذا كله إلى وقفات سريعة:
الوقفة الأولى:
أنا إذا رأينا أملا اللهِ للظالمين وتمكينه للمجرمين فينبغي أن نعلم باليقين وإلا فنحن نعلم بالإيمان أن الجزاءَ مدخرٌ هناك، ولذا فلا دعي للبحث عن كوارث دنيوية تحل بهم.(1/7)
إنك تشفق على بعض الطيبين عندما تراهم يجهدون أنفسهم في البحث عن عقوبة دنيوية حلت بهذا الظالم أو ذاك المجرم، حتى إذا لم يجدوا شيئا قالوا الموت هو العقوبة.. كلا.
لقد مات الأطهار والأبرار والرسل الكرام، ولكن العبرة هناك في دار الجزاء.
الوقفة الثانية:
أن لا يغترَ أحدُ بأي مظهرٍ من مظاهر القوةِ أُتيها، فمظاهرُ القوةِ في الدنيا نسبية، ولكنها كلها على تفاوتها تتعطل حينما يوقفُ العبدُ بين يدي اللهَ جل جلاله.
إن الرجل يتمتع بقوة نسبية على المرأة تلك التي لا تملك إلا الدموع تستنصر بها.
لكن عليه أن يتذكر أنه إن ظلمها فلم تستطع أن تنتصر منه في الدنيا ومشى أمام الناس بطوله ورجولته فهناك موعد تذهب فيه قوته وقوامته ويتم القِصاص منه للمظلوم ولو كان ضعيفا.
يتذكر شرطي المرور أو الدوريات:
أنه عندما يأمر بمسكين إلى التوقيف، ثم يوقف ذلك المسكين دون أن يسائل هو، وإن سؤل فهو المصدق، ثم يذهب هو إلى بيته ويجلس إلى أهله ويتناول طعامه.
وذاك في التوقيف يحاول الاتصال بأهله هاتفيا وقد لا يستطيع.
ليتذكر أن هذه القوة الدنيوية ستنمحي، ستنمحي وسيوقف هو وهذا الذي ظلمه فلم يجد في الدنيا من ينتصر له، سيوقف هو وإياه بين يدي من ينتصر له.
ليتذكر الكفيل غربة العامل وحاجة العامل:
فيجور عليه ويكلفه بما ليس من عمله ويماطله في حقه، ليتذكر أن هذه الفوارق ستنتهي.
وهذه القوة الجزئية التي يتمتع بها ستنمحي.
وهذا الضعف الذي يهيمن على هذا العامل الآن سيذهب.
وسيوقفان جميعا بين يدي رب لا يظلم أحدا، وليس أمامه تمايز في القوى.
إن القوة التي تستمدها من جنسيتك أو بلدك ستذهب لأنك ستحشر ولك ليس في بلدك وستوقف أمام الله وليست معك جنسيتك، ولكن بين يدي رب لا يظلم أحدا.
ليتذكر المسؤول الإداري مهما كانت منزلته، مهما كانت مسئوليته:
أنه عندما يجور على موظف بنقل تعسفي.(1/8)
أو جور إداري وهو مطمئن إلى أن هذا الموظف لا يستطيع أن ينتصف منه في الدنيا.
وأن المسؤول الأعلى وإن علا مصدق له مكذب للموظف المسكين.
ليتذكر أن هذا يدور في أرض لا يعزب عن الله فيها شيء، وأن هذا التفاوت في القوة سينتهي وينمحي وستوقف أنت وإياه بين يدي رب لا يظلم أحد.
قد لا تفضي إليك العقوبة في الدنيا، قد تنال ترقياتك كاملة ورواتبك موفاة وتنال تقاعدك أو تأمينك بانتظام، بل وتموت من غير عاهة مستعصية، ولكن كل ذلك لا يعني أنك قد أفلت من عقوبة.
التاجر الذي يستغل ذكائه التجاري فيدلس على محتاج أتى إلى سلعة:
ويستغل عبارة ركيكة مكتوبة في آخر الوصفة (البضاعة التي تشترى لا ترد ولا تستبدل).
ينبغي أن يتذكر أن هناك موقفا لا تجديه فيه هذه الورقة، ولا ينفعه فيه الذكاء التجاري لأنه موقف بين يدي علام الغيوب المطلع على السر وأخفى.
ليتذكر كل من يتمتع بأي مظهر من مظاهر هذه القوة:
أن هذه القوة وإن كثرت وقويت فهي تنتهي سريعا وتمضي جميعا.
والعبرة بالمثول بين يدي رب تنتهي كل موازين القوى أمامه جل وتقدس وتعالى.
أما أنت أيها المظلوم فتذكر أن الله ناصرك لا محالةَ لأنك في ملكِ من حرم الظلمَ على نفسه، وحرمَه بين عباده، وسينتهي بك المصيرُ إلى يومٍ يقتصُ اللهُ فيه للشاة الجماء من الشاة القرناء، فكيف بك أنت!
لن يفوت شيء من حقك في الآخرة وإن فات في الدنيا.
الوقفة الثالثة:
أن هذا المعنى وهو انتظار الجزاء الأخروي كما هو دافع رهبة فهو دافع رغبة.
توفي زين العابدين على أبن الحسين، فلما وضع على لوح الغسل وجد المغسلون في أكتافه ندوبا سوداء، فتفكروا ! مما أتت هذه الندوب في ظهر هذا الرجل الصالح؟
وأكتشف الأمر بعد، لقد كان هذا العابد يستتر بظلمة الليل وحلكة الظلام ينقل أكياس الطعام إلى أسر فقيرة لا يدرون من الذي كان يأتيهم بها، عرفوا بعدما مات فانقطعت تلك الصلة من الطعام.(1/9)
ما الذي يحمل زيد العابدين على أن يتوارى بعمل الخير ويستتر به ؟
إن الذي يحمله على ذلك انتظار الجزاء الأخروي، يريد أن يوافي ربه بأجره موفورا.
وكذا كل منا عليه أن يجعل بينه وبين ربه معاملة خاصة سر بينه وبين الله يجهد جهده أن لا يطلع عليها أحد من الخلق حتى يوافي ربه بعمل يستوفي جزاءه منه.
الوقفة الأخيرة:
وما هي بأخيرة، أن في استحضار هذا الأمر مدد للسائرين في طريق العمل للدين والدعوة إلى الله.
إن الذي يشخص ببصره إلى الجزاء الأخروي ينظر إلى العوائق فإذا هي يسيرة.
وإلى الصعوبات فإذا هي هينة.
وإلى الضيق فإذا هو سعة لأنه ينتظر جزاء أتم وأوفى.
قتل مصعب أبن عمير، وقتل حمزة أبن عبد المطلب فلم يوجد ما يوارى به أحدهم إلا بردة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه وإن غطيت بها رجلاه بدأ رأسه، فأمر نبيك (صلى الله عليه وسلم) أن تغطى رؤوسهما وأن يوضع على أرجلهما من ورق الشجر.
هكذا انتهت حياة العمل للدين من غير أن يتعجل شيء من أجورهم أو يروا شيئا من جزائهم.
ولكن عند الله الموعد وعنده الجزاء الأوفى.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
……………….
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشأنه
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه (صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه) وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى، وأعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد (صلى الله عليه وسلم) وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل وعلا:
(إن الله وملائكته يصلون على النبي.. يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد النبي الصادق الأمين،
وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وخلفائه الراشدين.(1/10)
وسائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأحمي حوزة الدين.
وأجعل بلدنا هذا أمنا مطمئنا يأمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
وتقال فيه كلمة الحق لا يخشى قائله في الله لومة لائم.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم أصلح أحوال المسلمين.
اللهم أصلح ولاتهم، اللهم أصلح علمائهم، اللهم أصلح شبابهم، اللهم أصلح نسائهم، اللهم أصلح ذراريهم.
اللهم تولهم في كل أمورهم.
اللهم عليك بكل عدو للإسلام.
اللهم عليك بإخوان القردة والخنازير.
اللهم عليك بالصرب الصليبيين.
اللهم عليك بالرافضة الكائدين.
اللهم أشدد عليهم جميعا وطأتك، وانزع عنهم عافيتك، وأنزل عليهم نقمتك، ومزقهم كل ممزق.
يا رب العالمين.
ربنا آتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
تم بحمد الله وتوفيقه.
………………………………………………………
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب،
بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
إبلاغنا عن الخطأ الإملائي أو الهجائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
أخي الحبيب لا تحرمنا من دعوة صالحة في ظهر الغيب.
من خلال اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الجليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
للتواصل:
أخوكم البوراق / anaheho@maktoob.com(1/11)
بسم الله الرحمن الرحيم
أين المفر..؟؟؟؟
فضيلة الشيخ / علي ابن عبد الخالق القرني
.............................
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتنا إلا وأنتم مسلمون).
أما بعد: عبد الله:
اتقوا الله عباد الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، يومَ ينفخ في الصورِ، ويبعث من في القبورِ، ويظهرُ المستورُ، يومَ تبلىَ السرائرَ، وتُكشَفُ الضمائرُ ويتميزُ البرُ من الفاجر.
ثم أعلموا أن هناك حقيقةً وأيُ حقيقة!
حقيقةٌ طالما غفلَ عنها الإنسانُ، ولحظةٌ حاسمةٌ ومصيرٌ ومآل.
إنها لحظةُ ملاقيكُم إلى أين من هذه اللحظةِ المهرب، وإلى أين منها المفر ؟
إلى الأمام ملاقيكُم.
إلى الوراءِ ملاقيكُم.
إلى اليميني والشمالِ ملاقيكُم.
إلى أعلا إلى أسفل ملاقيكُم، إلى الوراء ملاقيكم.
لا تمنعُ منه جنود، ولا يُتَحصنُ منه في حصون، مدريكُكم أينما كنتم.
إنه واعظُ لا ينطق، واعظ صامت يأخذَ الغنيَ والفقير، والصحيحَ والسقيمَ، والشريفَ والوضيع، والمقرَ والجاحدَ، والزاهدَ والعابد، والصغيرَ والكبيرَ، الذكرَ والأنثى، كلُ نفسٍ ستذوقهُ شاءت أم أبت.
لعلَكم عرفتموه، لا أظنُ أحداً يجهلُه، أما حقيقتُه فالكل يجهله، إنه الموت.
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
الموتُ ما الموت ؟(2/1)
أمرُ كبار وكأسُ يدار، في من أقامَ وسار، يخرجُ بصاحبه إلى الجنةِ أو إلى النار.
ما زالَ لأهلِ اللذاتِ مكدرا، ولأصحابِ العقولِ مغيرا ومحيرا، ولأرباب القلوبِ عن الرغبةِ فيما سوى اللهِ زاجرا.
كيفَ وورائُه قبرٌ وحساب، وسؤالٌ وجواب، ومن بعدهِ يومٌ تدهشُ فيه الألبابُ فيعدمُ الجواب.
السكرات، ما أدراكم ما السكرات ؟
عانى منها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكان يقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرا، اللهم هون علينا سكرات الموت.
سكرات أي سكرات ؟
يقول العلماء كل سكرة منها أشد من ألف ضربة بالسيف.
ملك الموت، ما ملك الموت؟
الدنيا بين يديه كالمائدة بين يدي الرجل يمد يده إلى ما شاء منها بأمر الله فيأخذه.
وإن له لأعوانا ما يعلم عددهم إلا الله، ليس منهم ملك إلا لو أذن الله له أن يلتقم السماوات السبع والأراضين في لقمة واحدة لفعل.
فلا إله إلا الله من لحظة حاسمة لو لم تعتقل الألسنة، وتخدر الأجسام وقت الاحتضار لما مات أحد إلا في شعف الجبال ألما، ولصاح الميت من شدة ما يعاني حتى تندك عليه جدران الغرفة التي هو فيها ولمستطاع أن يحضر ميتا أحدا أبدا، فنسأل الله العافية والسلامة، وأن يهون علينا السكرات.
روي عن الحسن أنه قال:
رأي أحد الصالحين بعد موته فقيل له كيف وجدت طعم الموت؟
قال أواه أواه وجدته والله شديدا، والذي لا إله إلا هو لهو أشد من الطبخ في القدور والنشر بالمناشير، أقبل ملك الموت نحوي حتى استل الروح من كل عضو مني فلو أني طُبخت في القدور سبعين مرة لكان أهون علي.
كفى بالموت طامة وما بعد الموت أطم وأعظم.
ويرى آخر بعد موته في المنام فيقال له: كيف وجدت نفسك ساعة الاحتضار؟
قال كعصفور في مقلاة لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير.
فالله المستعان على تلك اللحظات، و اللهم هون علينا السكرات وجعلها لنا كفرات وآخر المعاناة، وهي كذلك بأذن الله للمؤمنين والمؤمنات، ولغيرهم بداية المعاناة.(2/2)
عبادَ الله، وفي تلك اللحظاتُ الحرجةُ ينقسمُ الناسُ إلى قسمين، إلى فريقين شقي وسعيد:
فريقُ السعداء حالُهم ما حالُهم:
( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي ْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).
ها هيَ أسماءُ بنتُ عميسٍ رضي اللهُ عنها تقول كما روي عنها:
إنا لعند علي رضي اللهُ عنه وأرضاه بعدما ضربَه ابن مُلجِم عليه من الله ما يستحق.
إذ بعليٍ يشهقُ شهقةً فيغمى عليه، ثم يفيقُ ثانيةً وهو يقول:
مرحباً مرحبا، الحمدُ لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنةَ، الحمد لله الذي أذهبَ عنا الحزن، لمثلِ هذا فليعملِ العاملون، وليتنافسِ المتنافسون.
فيالها من موعظة ومصير لو وافقت من القلوب حياة. من ظفر بثواب الله فكأنما لم يصب في دنياه.
كأنك لم توتر من الدهر مرة ........ إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه
وأسمع معي أخر لسعيد أبن جبير رضي الله عنه يوم يروي لنا قصة صحيحة متواترة كما قال الذهبي في سيره فيقول:
لما مات أبن عباس رضي الله عنه في الطائف، جاء طائر لم يرى مثل خلقته فدخل نعشه، ثم لم يخرج منه، فلما دفن فإذا على شفير القبر تال يتلو لا يرى: ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي). فيا لها من خاتمة، ويا له من مصير.
والخير في الأمة يستمر، ولن تعدم الأمة خيّر، فأسمع ثالثة إلى هذا الحدث الذي ذكره صاحب كتاب "يا ليت قومي يعلمون)، قال حدثني أحد الصالحين قائلا:(2/3)
كان هناك رجل صالح من أهل الطائف، كان عابدا فاضلا، نزل مع بعض أصحابه إلى مكة محرما، ودخلوا الحرم بعد أن انتهت صلاة العشاء، فتقدم ليصلي بهم، وهو محرم قد خرج لله عز وجل كما يحسب، فقرأ سورة الضحى، فلما بلغ قول الله عز وجل ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى)، شهق وبكى وأبكى، فلما قرأ ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) ترنح قليلا ثم سقط ميتا. فعليه رحمة الله، ليبعث يوم القيامة بأذن الله مصليا، فمن مات على شيء بُعث عليه كما ورد عن المصطفى (صلى الله عليه وسلم).
وآخر يقضي حياته مؤذنا يهتف بالتوحيد كل يوم وليلة خمس مرات، ويؤذن يوما من الأيام ثم يشرع ليقيم الصلاة، ولما انتصف في إقامة الصلاة سقط ميتا فعليه رحمة الله، سنوات يؤذن ثم يجيب داع الله مؤذنا فيُبعث يوم القيامة من أطول الناس أعناقا مؤذنا، فرحمة الله عليه.
يا لها من خواتم طيبة، ملائكةٌ بيضُ الوجوه يتقدمُهم ملكُ الموت، يخاطبُ تلك الأرواح الطيبة:
أيتها النفسُ الطيبةُ أخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان وربٍ راضٍ غيرِ غضبان، فتخرجُ تسيل كما تسيلُ القطرةُ من فم السقاء، وتفتحُ لها أبوابُ السماء، وتحملُ الجنازةُ على الأكتاف وهي تصيح وتقول قدمونيَ، قدموني، تسألُ فتجيبُ وتثبتُ، ويفرشُ لها من الجنة، ويفتحُ لها بابٌ إلى الجنة، قد استراحت من تعبِ هذه الدار، وإلى راحةٍ أبديةٍ في دار القرار.
وفريقٌ آخر:
في تلك الساعة يشقى، حسبَ أن الحياة عبثٌ ولهوٌ ولعب، وإذا به يعاني أول المعاناة.
نزلت عليه ملائكةٌ سودُ الوجوه يتقدموهم ملكُ الموت –نعوذ بالله من ختام السوء وساعة السوء- يقول أيتها النفسُ الخبيثةُ أخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب.(2/4)
فتنتزَعُ نزعاً بعد أن تُفرقَ في الجسد، ثم ترفعُ فلا تُفتحُ لها أبوبُ السماء، تحملُ الجنازةُ على الأكتافِ وهي تصيح: يا ويلها أين تذهبون بها، ثم تسألُ فلا تجيب، ويفرشُ لها من النار، ويفتحُ لها بابٌ إلى النار، فنعوذ بالله من النار ومن سوءِ الختامِ وغضبِ الجبار.
ذكر صاحب قصص السعداء والأشقياء أنه وقع حادث في مدينة الرياض على إحدى الطرق السريعة لثلاثة من الشباب، كانوا يستقلون سيارة واحدة، توفي اثنان منهما في الحال، وبقي الثالث في آخر رمق، يقول له رجل المرور الذي حضر الحادث قال لا إله إلا الله، فأخذ يحكي عن نفسه ويقول:
أنا في سقر، أنا في سقر أنا في سقر حتى مات عل ذلك، فلا إله إلا الله.
رجل المرور يسأل ويقول ما هي سقر، فوجد الجواب في كتاب الله عز وجل:
( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ).
( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ).
نسأل الله السلامة والعافية.
عباد الله:
فريقان لا ثالث، شقي وسعيد:
فريق في الجنة وفريق في السعير.
فريق استراح، وفريق استراح منه العباد والبلاد ومضى إلى جهنم وبئس المهاد.
ألا ترون ألا تتفكرون ألا تنضرون، تشيعون كلَ يومٍ غادياً إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجلَه، حتى تغيبوه في صدعٍ من الأرضِ خُلعَ الأسباب، وتركَ الأحباب، وسكنَ الترابَ، وواجهَ الحسابَ، انتهى أجلُه وأملُه، تبعَه أهلُه ومالُه وعملُه، فرجع الأهلُ والمال وبقي العمل.
فارق الأحبةَ والجيران، هجرَه الأصحابُ والخلان، ما كأنَه فرِحَ يوما ولا ض يوما ما، أرتُهنَ بعملِه فصار فقيراً إلى ما قدم غنياً عن ما تركَ.
جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا ...... وبنوا مساكنَهم وما سكنوا
فكأنَهم كانوا بها ضعنا........... لم استراحوا بها ساعةً ضعنوا
ولذلك كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أرحم الناس بالأموات، يقول عوف ابن مالك:(2/5)
صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على جنازة رجل من الأنصار، يقول فتخطيت الصفوف حتى اقتربت منه، فسمعته يبكي ويقول: اللهم أغر له، اللهم أرحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالثلج والماء والبرد.
يقول عوف والذي لا إله إلا هو لوددت أني أنا الميت من حسن دعائه (صلى الله عليه وسلم) له.
ومن رحمته بالأموات (صلى الله عليه وسلم) كان يذهب في الليل ليقف علة مقبرة البقيع فيدعو لعم طويلا ويترحم عليهم طولا (صلوات الله وسلامه عليه)، فما أرسله الله إلا رحمة للعالمين.
وأصحابه كذلك، أبن عمر كان إذا قرأ قول الله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) بكى وأبكى ودعا للأموات وقال: اللهم لا تحل بيني وبين ما أشتهي، قالوا وما تشتهي؟ قال أن أقول لا إله إلا الله.
فلا إله إلا الله.. ما من ميت إلا ويود أن يسجل في صحيفته لا إله إلا الله، ولكن هيهات حيل بينهم وبينها، وبقي الجزاء والحساب.
فرحم الله امرأ قد من الصالحات لتلك الحفر، ورحم الله حاسب نفسه قبل ذاك اللحد الذي لا أنيس فيه ولا صاحب إلا العمل، وكفى بالموت واعظا.
روي أن عمر أبنُ عبد العزيز رحمَه الله يقول لجلاسه يوما ما:
أرقتُ البارحةَ فلم أنم حتى طلعَ الفجر، قالوا ما أسهرك؟
قال لما أويتُ إلى فراشي ووضعتُ عليَ لحافي تذكرتُ القبرَ، وتذكرتُ الميتَ بعد لياليٍ تمرُ عليه، حينما تركَه أهلُه وأحبتُه وخلانه، تغير ريحُه وتمزقَ كفنُه وسرى الدودُ على خدودِه فليتك ترى تلك الرائحةَ المنتنةَ، وتلك الأكفانَ الممزقةَ، إذا لرأيتَ أمراً مهولا، ثم أنفجر يبكي ويقولُ لا إله إلا الله ولسانُ حالِه:
واللهِ لو قيل لي تأني بفاحشةٍ ......... وأنا عُقباكَ دنيانا وما فيها
لقلتُ لا والذي أخشى عقوبَتَه ...... ولا بأضعافِها ما كنتُ أتيها
تجهزي بجهاز تبلغين به ............. يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
كفى بالموت واعظا لمن كان له قلب أو ألقى السمع.(2/6)
يمر عمرو ابن العاص رضي الله عنه بالمقبرة فيبكي ثم يرجع فيتوضأ ويصلي ركعتين، فيقول أصحابه:
لم فعلت ذلك ؟
قال تذكرت قول الله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) وأنا أشتهي الصلاة قبل أن يحال بيني وبينها.
عمر الذي حضرته الوفاة فبكى، فقال له ابنه يا أبتاه صف لنا الموت.
قال يا بني الموت أعظم من أن يوصف، لكأن على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب ابرة، وكأن السماء اطبقت على الأرض وأنا بينهما.
ثم حول وجهه إلى الحائط ليبكي بكاء مرا فيقول ابنه محسنن ظنه:
أنت من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أما فتحت مصرا، أما جاهدت في سبيل الله!
فيقول يا بني لقد عشت مراحل ثلاث:
لقد كنت أحرص الناس على قتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيا ويلتاه لو مت في ذلك الوقت.
ثم هداني الله فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحب الناس إلي، والله ما كنت أستطيع أن املأ عيني من وجهه حياء منه، والله لو سألتموني أن أصفه الآن ما استطعت، والله ما كنت أملأ عيني إجلالا له، فيا ليتني مت في ذلك الوقت لأنال دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم).
يقول ثم تخلفت بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلعبت بنا الدنيا ظهرا لبطن، فما أدري أيؤمر بي إلى الجنة أو النار، لكن عندي كلمة أحاج بها لنفسي عند الله هي لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ثم قبض على لا إله إلا الله:( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ).
يقول أبن عوفٍ رضي الله عنه:
خرجتُ مع عمرَ رضي الله عنه إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها، ارتعد وأختلس يدَه من يدي، ثم وضع نفسَه على الأرض وبكى بكاءً طويلاً.
فقلت ما لك يا أميرَ المؤمنين ؟
قال يا ابن عوف ثكلتك أمك أنسيت هذه الحفرة.
حاله يقول: لمثل هذا فأعد.(2/7)
شد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيك ........ لأن لا تجزع للموت إذا حل بواديك.
كفى بالموت واعظا، وبسير الصالحين عنده عبرا.
تحل السكرات بمحمد ابن أدهم فيقول لخادمه: وقد أصابته رعده، يصيح ويقول:
ما لي وللناس، والذي لا إله إلا هو لو استطعت أن أتطوع لله وحدي حيث لا يراني ملكاي لفعلت خوفا من الرياء، ولكن لا أستطيع.
كان يدخل بيته ومعه كوز ماء فيغلق بابه ويقرأ القرآن ويبكي وينشج، فيسمعه ابن له صغير فيقلده في البكاء، فإذا خرج من بيته غسل وجهه واكتحل لكي لا يرى أثر البكاء عليه.
يقول خادمه: دخلت عليه قبل موته بأربعة أيام فقال:
يا أبا عبد الله أبشر فقد نزل بي الموت، وقد من الله علي أن ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه، فقد علم ضعفي فإني والله لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيء يحاسبني عليه فله الحمد.
ثم قال لخادمه أغلق علي الباب، ولا تأذن لأحد علي حتى أموت وأعلم أني أخرج من الدنيا ليس عندي ميراث غير كسائي وإنائي الذي أتوضأ فيه، فغطوا علي بكسائي وتصدقوا بإنائي على مسكين يتوضأ فيه.
ثم لفظ روحه في اليوم الرابع ليلقى الله ليس معه من الدنيا شيء، فرحمه الله رحمة واسعة.
خذ القناعة من دنياك وأرضى بها........ لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها....... هل راح منها بغير الحنط والكفن
كفى بالموت واعظا.
وولله لو كان الأمرُ سينتهي بالموت لكان هيناً سهلاً، لكنَه مع شدتِه وهولِه أهونُ مما يليه، والقبرُ مع ظلمتِه أهونُ مما يليه، كلُ ذلك هينٌ إذا قُرنَ بالوقوفِ بين يدي الله الكبيرِ المتعال.
تلفت المرءُ يميناً فلم يرى إلا ما قدم.
وشمالاً فلم يرى إلا ما قدم.
ونظرَ تلقاء وجه فلم يرى إلا النار.
فيا له من موقفٍ ويا لها من خطوبٍ تذهلُ المرضعةُ عما أرضعت وتضعُ كلُ ذاتِ حملٍ حملها، وترى الناسَ سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.(2/8)
يبلغ العرق أن يلجم الناس إلجاما، والشمس تدنو منهم قدر ميل، فيالها من أحداثٍ مجردُ تصورُها يخلعُ ويذيبُ الأكباد. يومُ القيامةِ لو علمت بهولِه ......... لفررتَ من أهلٍ ومن أوطانِ.
روي عن الحسن رضي الله عنه:
أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان رأسُه ذات يوم في حجرِ عائشة، فنعس فتذكرت الآخرة فسالت دموعُها على خدِ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم)، فأستيقظَ بدموعها ورفع رأسه وقال ما يبكيك؟
قالت يا رسول الله ذكرتُ الآخرة، فهل تذكرونَ أهليكُم يومَ القيامة؟
قال (صلى الله عليه وسلم) والذي نفسي بيده في ثلاثةِ مواطنَ فإن أحداً لا يذكرُ إلا نفسَه:
إذا وضعتِ الموازين حتى ينظرَ أبنُ أدمَ أيخفُ ميزانُه أم يثقل.
وعند الصحف حتى ينظرَ أبيمينِه يأخذُ أم بشمالِه.
وعند الصراط حتى ينظرَ أيمرَ أم يكردس على وجههِ في جهنم.
يؤتي بإبن أدم حتى يوقفُ بين كفتي الميزان، فتصور نفسِك يا عبد الله وأنت واقفٌ بين الخلائقَ إذ نوديَ باسمك، هلمَ إلى العرضِ على اللهِ الكبير المتعال.
قمتَ ولم يقم غيرك ترتعدُ فرائصُك، تضطربُ رجلاك وجميع جوار، قلبك لدى حنجرتك، خوفٌ وذلٌ وانهيار أعصاب:
شبابكَ في ما أبليتَه ؟
عمرُك فيما أفنيتَه ؟
مالُك من أين اكتسبتَه وفيما أنفقتَه ؟
علمُك ماذا عملتَ به ؟
هذه الأسئلةُ فما الإجابةُ.
كم من كبيرةٍ نسيتهَا قد أثبتَها عليك الملك.
كم من بليتٍ أحدثتهَا.
كم من سريرةٍ كتمتها ظهرت وبدت أمامَ عينيك.
أعظمِ به من موقف، وأعظم به من سائلٍ لا تخفى عليه خافيةٍ، وأعظمِ به من حياءٍ يداخلُك وغم وحزنٍ وأسفٍ شديد، فإما أن يقول الله:
يا عبدي أنا سترتُها عليكَ في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. فيا لسرورِك وهدئت بالك واطمئنان قلبك والمنادي ينادي: سعدَ فلانُ أبن فلان سعادةً لا يشقى بعدها أبدا.(2/9)
وأما أن يقولَ الله – عافاك وسلمك الله– إما أن يقول: خذوه فغلوه ثم الجحيمَ صلوه فيذهبُ بك إلى جهنمَ مسود الوجه، كتابك في شمالك ومن وراء ظهرك قد غلت ناصيتك إلى قدمك، أي خزي وأي عارٍ على رؤوس الخلائق ينادى: شقي فلانُ أبن فلان شقاوة لا يسعدُ بعده أبدا.
عباد الله:
الأمر خطير جد خطير، إبليس قد قطع العهد على نفسه ليغوينكم أجمعين، فقال:
وعزتك وجلالك يا رب لا أزال اغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم.
والله برحمته ومنه يقول:
وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
فالبدار البدار، والتوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي.
أكثروا من ذكر هادم اللذات.
زوروا المقابر فإنها تذكركم الآخرة.
احضروا المحتضرين معتبرين.
اصدقوا الله يصدقكم.
احفظوه يحفظكم وعاملوا الله فلن تخيبوا.
( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
نفعني الله وإياكم بالقرآن وبسنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عباد الله:
اعلموا أن الآمال تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى، والليل والنهار يقربان كل بعيد ويبليان كل جديد، وفي ذلك والله ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغب في الباقيات الصالحات.
لتفتوا وانظروا وتدبروا وتأملوا بعيون قلوبكم أين من كان حولكم:
أين من كان حولكم ...... من ذوي البأس والخطر
سائلوا عنهم الديار....... واستبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحيل....... وإنا على الأثر
كان عبد الرحمن ابنُ يزيد ابنُ معاوية خلا لعبد الملك أبنُ مروان، فلما مات عبدُ الملكِ ودفنَ وتفرق الناسُ عن قبرِه، وقفَ عليهِ عبد الرحمنُ قائلاً:(2/10)
أنتَ عبدُ الملك، أنت من كنتَ تعدوني خيراً فأرجوك، وتتوعدُني فأخافُك، الآن تصبحُ وتمسي وليسَ معكَ من ملكِك غير ثوبُك، وليسَ لك من مُلكِكَ سوى ترابِ أربعةِ أذرُعٍ في ذراعين.
إنه لملكٌ هينٌ حقيرٌ وضيعٌ، أفٍ ثم أفٍ لدنياً لا يدومُ نعيمُها، ثم رجعَ إلا أهلِه فأجتهدَ وجد في العبادةِ وعلم أنها الباقيةَ، حتى كان كأنه شن بال من كثرة ما أجهد نفسَه في العبادة.
فدخلَ عليه بعض يعاتبَه لأنه أضر بنفسه، فقال لمن عاتبه:
أسألكَ عن شيء فهل تصدقني فيها، قال نعم.
قال نشدتُك الله عن حالتِكَ التي أنتَ عليها أترضاها حين يأتيك الموت؟
قال اللهم لا.
قال نشدتُك الله أعزمتَ على انتقال منها إلى غيرها؟،
قال اللهمَ لم أشاور عقلي بعد.
قال افتأمن أن لا يأتيكَ ملكُ الموتِ على الحالةِ التي أنت عليها؟
قال اللهم لا آمن.
فقال حالُ ما أقام عليها عاقلٌ وما يقيم عليها ذو قلبٍ ولب، إن الطائرَ إذا علم أن الأنثى قد حملت البيض، أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع.
أفترُاك ما علمت قُرب رحيلِك إلى القبرِ الذي ستنفردُ فيه وحدَك، ويسدُ عليك فيه بالطينِ وحدَك، آلا عملتَ لك فراشاً من تقوى الله، فمن عمل صالحاً فلأنفسِهم يمهدون.
فلا يومُك الماضي عليكَ بعائد ........ ولا يومُكَ الآتي بهِ أنت واثقُ
فاستعد وأعد.
يا شابا عكف على القرآن:
مسجده ومصلاه، والمسجد مظهره ومخبره اسأل الله الثبات، وازدد من الحسنات، واجعل الآخرة همك يجعل الله غناك في قلبك ويجمع لك شمل، وتأتيك الدنيا راغمة، فجد وسارع واغتنم زمن الصبا.
و يا شابا هجر القرآن:
وأعطى نفسَه هواها فدساها، لتقفنَ موقفاً ينسى الخليلُ به الخليل، وليركبنَ عليكَ من الثرى ثقلُ ثقيل، ولتسألنَ عن النقيرِ، والقطميرِ والصغيرِ والكبير، فعد فالعودُ أحمد قبل أن تقولَ ربي ارجعون فلا رجوع:
ذهبَ العمرُ وفات، يا أسير الشهوات، ومضى وقتُك في لهوٍ وسهوٍ وسبات.
يا شيخا اقترب من القبر:(2/11)
عرف أنه منه قاب قوسين أو أدنى، فأكثر من الاستغفار، وحبل لسانه عن الزور، ورعى رعيته كما ينبغي، وعرف قدر يومه وليلته بشراكَ بشراك، ضاعف العمل فإن الخيل إذا وصلت إلى نهاية السباق قدمت كل ما لديها من قوة لتفوز بالجائزة.
ويا شيخا نسي الله في شيخوخته بعد شبابه:
فارتكب الجرائم وقارف الكبائر ووقف على عتبة الموت، أين الهوى والشهوات؟ ذهبت وبقيت التبعات، تتمنى بعد يبس العود العَودَ وهيهات.
يا من شاب رأسه فما استحي من الله:
يا من شاب رأسه فانتهك حدود الله وأعرض عن منهج الله تب إلى الله قبل أن تكون ممن لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
إلى من ضيعَ الصلاة وأتبعَ الشهوات.
إلى المنافقين والزناة.
إلى الظلمةِ والبغاة.
إلى من طغى وآثر الحياة الدنيا.
إلى المغتابينَ والنمامينَ والحاسدين وأكلة الربا.
إلى من ألهاهم التكاثرَ فنسوا بعثرةَ المقابر وتحصيلَ من في السرائر.
إلى من أضنى عينيه بمشاهدةِ المسلسلات واستقبالِ القاذورات.
إلى من طربت أذنُه باستماعِ الأغنيات.
إلى من شغلته أمواله المحرمة والشركات.
إلى من أعمى الهوى بصرَه وأصم سمعه فكانَ حياً وهو في عدادِ الأموات.
إلى الراشين والمرتشين وأهلِ السكرِ والمخدرات.
إلى المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب.
إلى الكاسيات العاريات.
إلى العصاةِ جميعاً.
من الموتِ والقبرِ والحسابِ أين المفر، أين المفر؟
( كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ).
( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ).
عباد الله: آن الأوان أن نعلنها توبة إلى الله باللسان والجنان.
اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد.(2/12)
اللهم آتي نفوسنا تقواها.
اللهم زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولها. وأنت أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأنصر عبادك الموحدين.
اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك ولا مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك.
اللهم ارحم سائلك ومؤملك لا منجى له ولا ملجئ إلا إليك.
اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين.
اللهم فرج همهم ونفس كربهم وارفع درجتهم واخلفهم في أهلهم.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء.
يا سميع الدعاء
الله ارحم موتى المسلمين، اللهم إنهم عبيدك بنوا عبيدك بنو إمائك احتاجوا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابهم، الله زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم أنت أرحم بهم وأنت أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين.
................................................
تم بحمد الله وتوفيقه.
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب، بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
- إبلاغنا عن الخطأ الإملائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
- الاستئذان من الشيخ لتبني طباعتها ككتيب يكون صدقة جارية لك إلى قيام الساعة.
في اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الجليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
أخي الحبيب لا تحرمنا ومن شارك في هذا الجهد من دعوة صالحة في ظهر الغيب..
للتواصل:
أخوكم البوراق / anaheho@maktoob.com
واحات الهداية / http://www.khayma.com/ante99/index.htm(2/13)
بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان المادة: الرقابة لمن ؟
الشيخ: علي عبد الخالق القرني.
…………………………………
إن الحمد لله نحنده ونستعينه ونستغفيره وتوب إليه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته.
أشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما)
أما بعد عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ جل وعلا، وأن نقدمَ لأنفسِنا أعمالاً تبيضُ وجوهَنا يوم نلقى اللهَ
(يومَ لا ينفعُ مالُ ولا بنونَ إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم).
(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا).
(يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون)
(يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)
يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور،
(يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا).
(ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا)
يوم الحاقة يوم الطامة يوم القارعة يوم الزلزلة يوم الصاخة
(يوم يفر المرء من أخية، وأمه وأبيه، لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه)(3/1)
ثم أعلموا يا عباد اللهِ أن رقابةَ البشرِ على البشرِ قاصرة، وأن رقابةَ المخلوقاتِ على بعضها قاصرة.
البشرُ يغفل، والبشرُ يسهو، ينام، يمرض، يسافر، يموت
إذا فلتسقطُ رقابةَ المخلوقين ولتسقط رقابة الكائنات جميعَها، وتبقى الرقابةُ الكاملة، الرقابةُ المطلقة
آلا وهي رقابةُ اللهِ جل وعلا.
باري البراي منشى الخلائق…..مبدعهم بلا مثال سابق
حي وقيوم فلا ينام…………...وجل أن يشبه الأنام
فإنه العلي في دنوه…………...وإنه القريب جل في علّوه..
لا إله إلا هو.
علمُ البشرِ ما علمُهم، علمُ قاصر، ضعيف قليل
ما وراءَ هذه الجدران نجهلُ منه الكثيرُ لا نعلمه، بل لا نعلمُ أنفسَنا التي بين جنبينا.
لكن الله يعلم ذلك ويعلم ما هو أعلى من ذلك.
(وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)
(إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)
يعلم ما تسره الآن في سريرتك ومن بجوارك لا يعلم ذلك.
يعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد مأئة عام، وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو ساعات.
إنه العلم الكامل، إنه العلم الكامل المطلق، علم الله السميع العليم، العليم الخبير.
(يعلم ما تسرون وما تعلنون)
(يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)
يعلم ويسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء.
هو الذي يرى دبيب الذر…. في الظلمات فوق صم الصخر
وسامع للجهر والأخفات…...بسمعه الواسع للأصوات
وعلمه بما بدا وما خفي…...أحاط علما بالجلي والخفي
(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم)
رجلان من قريش:
يجلسان في جوف الليل، تحت جدارِ الكعبة، قد هدأت الجفون ونامت العيون، أرخى الليلُ سدوله، واختلط ظلامُه، وغارت نجومُه، وشاع سكونُه.(3/2)
قاما يتذاكران، ويخططان ويدبران وظنا أن الحي القيوم لا يعلمُ كثيرا مما يعملون.
استخفوا من الناس ولم يستخفوا من الله الذي يعلم ما يبيتونَ مما لا يرضى من القول.
تذاكرا مصابهم في بدر فقال صفوان وهو أحدُهم:
والله ما في العيش بعد قتلى بدر خير.
فقال عمير:
صدقت والله لولا دينُ علي ليس له قضاء، وعيالُ أخشى عليهم الضيعة لركبتُ إلى محمد حتى أقتله.
(صلى الله على نبينا محمد)
اغتنم صفوان ذلك الإنفعال، وذلك التأثر وقال:
علي دينُك، وعيالُك عيالي لا يسعُني شيءُ ويعجزُ عنهم.
قال عمير: فأكتم شأني وشأنك لا يعلم بذلك أحد. قال صفوانُ أفعل.
فقام عمير وشحذ سيفَه، وسمَه، ثم انطلقَ به يغضُ السير به إلى المدينة.
وصل إلى هناك وعمرُ رضي الله عنه، أعني أبنَ الخطاب في نفرٍ من المسلمين.
أناخَ عميرُ على بابِ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحا سيفه.
فقال عمر:
عدو الله، والله ما جاء إلا لشر.
ودخل عمر على رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبره.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم أدخلُه علي.
فأخذ عمرُ بحمائل سيفِ عُمير وجعلها له كالقلادة ثم دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأه صلى الله عليه وسلم قال لعمر أرسله يا عمر.
ثم قال ما جاء بك يا عمير.
وكان له أبنُ أسير عند رسولِ صلى الله عليه وسلم
قال جأت لهذا الأسير، فأحسنوا به.
قال صلى الله عليه وسلم فما بالُ السيفِ في عنقك ؟
قال قبحها اللهُ من سيوف وهل أغنت عنا شيء .
فقال صلى الله عليه وسلم وقد جاءه الوحيُ بما يضمرُه عمير، اصدقني يا عمير ما الذي جاء بك؟
قال ما جأت إلا لذاك.
فقال صلى الله عليه وسلم بل قعدت مع صفوان في الحجر في ليلة كذا، وقلت له كذا، وقال لك كذا وتعهد لك بدينك وعيالك واللهُ حائلُ بين وبينك.
قال عمير أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/3)
هذا أمرُ لم يحضُره إلا أنا وصفوان، وللهِ إني لأعلم أنه ما أتاك به الآن إلا الله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق والحمد لله الذي هداني للإسلام.
جاء ليقتلَ النور ويطفىء النور، فرجعَ وهو شعلةُ نور أقتبسَه من صاحب النور صلى الله عليه وسلم.
عباد الله سمعتم المؤامرة تحاك تحت جدار الكعبة، في ظلمة الليل لا يعلمُ بها أحد حتى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم الغيب. حُبكت المؤامرةُ سرا.
من الذي أعلنها ؟ من الذي سمعهما ؟ وهما يخططان، ويدبران ويمكران عند باب الكعبة.
إنه الذي لا يخفى عليه شيءُ في الأرض ولا في السماء.
كم تأمر المتأمرون في ظلام الليل، كم من عدو لإسلام جلس يخطط لضرب الإسلام وحدَه أو مع غيره سرا، ويظن أنه يتصرفُ كما يشاء، متناسيا أن الذي لا يخفى عليه شيءُ يسمع ما يقولون ويبطل كيدَهم فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
يا أيها العبدُ المؤمن:
إذا لقيت عنتا ومشقة وسخرية واستهزاء فلا تحزن ولا تأسى إن الله يعلم ما يقال لك قبل أن يقالُ لك وإليه يرد كل شيء لا إله إلا هو.
يا أيه المؤمن إذا جُعلت الأصابع في الآذان:
واستغشيت الثياب، وزاد الأصرار والإستكبار، وكثر الطعن وضاقت نفسك فلا تأسى ولا تحزن، إن الله يعلم ويسمع ما تقول وما يقال لك.
(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)
(يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)
يا أيها الشاب الذي وضع قدمَه على أو طريق الهداية:
فسمع رجلا يسخر منه، وآخر يهزء به، وثالثا يقاطعه، أثبت ولا تأسى وأعلم علم يقين أنك بين يدي الله يسمع ما تقول ويسمع ما يقال لك، وسيجزي كل أمرء بما فعل
(لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين)
يا مرتكبَ المعاصي مختفياً عن أعينَ الخلق أين الله ؟
أين الله ما أنت واللهِ إلا أحدُ رجلين:
إن كنتَ ظننتَ أن اللهَ لا يراك فقد كفرت.(3/4)
وإن كنت تعلمُ أنه يراك فلمَ تجتريَ عليه، وتجعلَه أهونَ الناظرينَ إليك ؟
(يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا)
يدخلُ بعضُ الناسِ غابةً ملتفةُ أشجارُها، لا تكادُ ترى الشمسَ معها، ثم يقول:
لو عملتُ المعصيةُ الآنَ من كان يراني ؟
فيسمعُ هاتفاً بصوت يملىء الغابة ويقول:
(آلا يعلمُ من خلقَ وهو اللطيفُ الخبير). بلا والله.
فيا منتهكاً حرماتِ الله في الظلمات، في الخلوات، في الفلوات بعيداً عن أعين المخلوقات أين الله ؟
هل سألت نفسكَ هذا السؤال.
في الصحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه قال قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(لأعلمنَ أقواماً من أمتي يومَ القيامةِ يأتون بحسناتٍ كأمثالِ الجبال بيضاً، يجعلُها اللهُ هباءً منثورا).
قال ثوبان صفهم لنا جلّهم لنا أن لا نكون منهم يا رسول الله قال:
(أما إنهم إخوانُكم ومن جلدتِكم ويأخذون من الليلِ كما تأخذون، لكنهم إذا خلوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها).
إلى من يملىء ليله عينَه وأذنه ويضيعُ وقتَه حتى في ثُلث اليل الآخر، يملىء ذلك بمعاصي الله، أين الله ؟
فقد روى االثقاةُ عن خيرِ الملاء ….بأنه عز وجل وعلا
في ثلثِ الليل الأخيرِ ينزلُ……… يقول هل من تائبٍ فيقبلُ
هل من مسيء طالبٍ للمغفرة……..يجد كريما قابلا للمعذرة
يمن بالخيراتِ والفضائل………. ويسترُ العيب ويعطي السائل.
فنسأله من فضله.
إن اللهَ لا يخفى عليه شيء فهلا اتقيتَه يا عبد الله.
عمرُ أبن الخطاب رضي اللهُ عنه، يعسُ ليلةً من الليالي ويتتبع أحوال الأمة، وتعب فاتكاءَ على جدارٍ ليستريح، فإذا بمرأةٍ تقولُ لأبنتها: أمذقي اللبنَ بالماءِ ليكثرَ عند البيع.
فقالت البنت:ُ إن عمرَ أمرَ مناديه أن ينادي أن لا يشابُ اللبنَ بالماء.
فقالتِ الأم:ُ يا ابنتي قومي فانكي بموضعٍ لا يراكِ فيه عمرُ ولا مناديه.(3/5)
فقالتِ البنتُ المستشعرةُ لرقابةَ الله: أي أماه فأين الله ؟ وللهِ ما كنتُ لأطيعَه في الملا، واعصيه في الخلاء.
ويمرُ عمرُ أخرى بأمرة أخرى تغيبَ عنها زوجها منذ شهور في الجهاد في سبيل الله عز وجل، قد تغيبت في ظلمات ثلاث، في ظلمة الغربةِ والبعد عن زوجها، وفي ظلمة الليل، وفي ظلمة قعر بيتها، وإذا بها تنشد وتقول وتحكي مأساتها:
تطاول هذا الليل وازور جانبه….وأرقني أن لا حبيبُ إلاعبه
فوالله لولا الله لا رب غيره…….لحرك من هذا السريري جوانبه
ما الذي راقبته في ظلام الليل وفي بعد عن زوجها، وفي هدأت العيون ؟
والله ما راقبت إلا الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أنعم بها من مراقبة وأنعم بها من امرأة.
وأعرابية أخرى يراودها رجل على نفسها كما أورد أبن رجب، ثم قال لها:
ما يرانا أحد إلا الكواكب.
فقالت: وأين مكوكبها يا رجل ؟ حالُها أين الله يا رجل ؟
أتستخفي من الناس ولا تستخفي من الله وهو معك إذ تبيت ما لا يرضى من القول.
أخيرا أسمع لهذا الحدث ولم يقع في هذا الزمن وإنما وقع في زمن مضى لتعلم ثمرة مراقبة الله عز وجل، واستشعار ذلك الأمر.
رجل أسمه نوح أبن مريم كان ذي نعمة ومال وثراء وجاه، وفوق ذلك صاحب دين وخلق، وكان له أبنة غاية في الجمال، ذات منصب وجمال. وفوق ذلك صاحبة دين وخلق.
وكان معه عبد أسمه مبارك، لا يملك من الدنياء قليلا ولا كثيرا ولكنه يملك الدين والخلق، ومن ملكهما فقد ملك كل شيء.
أرسلَه سيده إلى بساتين له، وقال له أذهب إلى تلك البساتين وأحفظ ثمرها وكن على خدمتها إلى أن آتيك.
مضى الرجل وبقي في البساتين لمدة شهرين.
وجاءه سيده، جاء ليستجم في بساتينه، ليستريح في تلك البساتين.
جلس تحت شجرة وقال يا مبارك، أتني بقطف من عنب.
جاءه بقطف فإذا هو حامض.
فقال أتني بقطف آخر إن هذا حامض.
فأتاه بآخر فإذا هو حامض.
قال أتني بآخر، فجأءه بالثالث فإذا هو حامض.(3/6)
كاد أن يستولي عليه الغضب، وقال يا مبارك أطلب منك قطف عنب قد نضج، وتأتني بقطف لم ينضج.
ألا تعرف حلوه من حامضه ؟
قال والله ما أرسلتني لأكله وإنما أرسلتني لأحفظه وأقوم على خدمته.
والذي لا إله إلا هو ما ذقت منه عنبة واحدة.
والذي لا إله إلا هو ما رقبتك ، ولا رقبت أحدا من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أعجب به، وأعجب بورعه وقال الآن أستشيرك، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششه، والمستشار مؤتمن.
وقد تقدم لأبنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه، فمن ترى أن أزوج هذه البنت ؟
فقال مبارك:
لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب.
واليهود يزوجون للمال.
والنصارى للجمال.
وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزوجون للدين والخلق.
وعلى عهدنا هذا للمال والجاه.
والمرء مع من أحب، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
أي نصيحة وأي مشورة ؟
نظر وقدر وفكر وتملى فما وجد خيرا من مبارك، قال أنت حر لوجه الله (أعتقه أولا).
ثم قال لقد قلبت النظر فرأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت.
قال أعرض عليها.
فذهب وعرض على البنت وقال لها:
إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بمبارك.
قالت أترضاه لي ؟
قال نعم.
قالت فإني أرضاه مراقبة للذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فكان الزواج المبارك من مبارك.
فما الثمرة وما النتيجة ؟
حملت هذه المرأة وولدت طفلا أسمياه عبد الله، لعل الكل يعرف هذا الرجل.
إنه عبد الله أبن المبارك المحدث الزاهد العابد الذي ما من إنسان قلب صفحة من كتب التاريخ إلا ووجده حيا بسيرته وذكره الطيب.
إن ذلك ثمرة مراقبة الله غز وجل في كل شي.
أما والله لو راقبنا الله حق المراقبة لصلحة الحال، واستقامة الأمور.(3/7)
فيا أيها المؤمن، إن عينَ اللهِ تلاحقُك أين ما ذهبت، وفي أي مكان حللت، في ظلامِ الليل، وراء الجدران، وراء الحيطان، في الخلوات في الفلوات، ولو كنتَ في داخلِ صخورٍ صم، هل علمتَ ذلك، واستشعرتَ ذلك فاتقيتَ اللهَ ظاهراً وباطنا، فكانَ باطنُك خيرُ من ظاهرِك.
إذا ما خلوت الدهرَ يوما فلا تقل……خلوتُ ولكن قل علي رقيبُ
ولا تحسبنَ اللهَ يغفلُ ساعةً………..ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ
عباد الله، اتقوا اللهَ في ما تقولون، واتقوا الله في ما تفعلون وتذرون
اتقوا الله في جوارحكُم، اتقوا اللهَ في مطعمِكم ومشربِكم، فلا تدخلوا اجوافَكم إلا حلالاً فإن أجوافَكم تصبرُ على الجوعِ لكنها لا تصبرُ على النار.
اتقوا اللهَ في ألسنتِكم، اتقوا اللهَ في بيوتِكم، في أبنائِكم في خدمكم، في أنفسكم.
اتقوا اللهَ في ليلِكم ونهارِكم، اتقوا اللهَ حيثما كنتم.
( واتقوا يوماً ترجعونَ فيه إلى الله ثم توفى كلُ نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون).
أقول ما تسمعون واٍستغفر الله فأستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمدا عبده ورسول صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد عباد الله:
أعلموا علم يقينٍ أن اللهَ هو الرقيب، وأن الله هو الحسيب، وأنه لا ملجىء منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه.
هو الشهيدُ وكفى به شهيدا، ومن حكمتِه سبحانه وبحمده أن جعل علينا شهوداً آخرين لإقامةِ الحجُةِ حتى لا يكون للناس حجة، وتعدد الشهودُ علينا وكفى باللهِ شهيدا، من هؤلاءِ الشهودِ:
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حيثُ يقول اللهُ عز وجل:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
(فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا، يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا).(3/8)
فرسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيشهدُ على الأممِ وعلى هذه الأمة.
والملائكةُ أيضاً يشهدون وكفى باللهِ شهيدا، قال اللهُ عز وجل:
(وإن عليكم لحافظينَ، كراما كاتبين، يعلمون ما تفعلون).
ويقول جل وعلا :
(إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
فالملائكة أيضا ستشهد.
والكتابُ سيشهد:
والسجلات ستفتح بين يدي الله فترى الصغيرَ والكبيرَ والنقيرَ والقطميرَ، تنظرُ في صفحةِ اليومِ الثامنُ من هذا الشهر فإذا هي لا تغادرُ صغيرةً ولا كبيرة،:
(ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا).
(وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ).
والأرضُ التي ذللها الله عز وجل لنا ستشهدُ بما عمل على ظهرها من خيرِ أو شر:
(إذا زلزلت الأرضُ زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان مالها، يوم إذا تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها).
ستحدث بما عمل على ظهرها من خير أو شر، بل إن هذه الأرض تحمل عاطفة، إذا مات المؤمن بكاه موضع سجوده، وبكاه ممشاه إلى الصلاة، وبكاه مصعد عمله إلى السماء.
وأما الذين أجرموا وكفروا ونافقوا:
(فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين).
والخلقُ أيضا سيشهدون وكفى باللهِ شهيدا:
لطالما تفكهُ الإنسانُ بين هؤلاءِ الخلقِ بالوقوعِ في أعراضِ المسلمينَ بذكرِ ما سترَه اللهُ عليه.
وما علم أن الخلق سيشهدونَ.
في الصحيح أن جنازة مرت على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه فيثني عليها الناس خيرا فيقول صلى الله عليه وسلم وجبت.
وتمر أخرى فيثني عليها الناس سوء فيقول صلى الله عليه وسلم وجبت.
فيتسأل الصحابة ؟(3/9)
فيقول صلى الله عليه وسلم أثنيتم على الأولى بخير فوجبت لها الجنة، وعلى الثانية بسوء فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه، أنتم شهداء الله في أرضه.
وسيشهدُ ما هو أقربُ من هذا:
ستشهدُ الجوارحُ فـ أيدٍ تشهد، وأرجلٍ تشهد، وألسنٍ تشهد، وجوارح تشهد:
(اليومَ نختمُ على أفواههم، وتكلمُنا أيديِهم، وتشهدُ أرجلُهم بما كانوا يكسبون).
(ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون، حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون)
(وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون)
(وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين)
فاتقوا الله يا باد واجعلوا هؤلاءِ الشهودِ جميعهم لكم لا عليكم.
وبادروا أنفسَكم وأعمارَكم بالأعمالِ الصالحةِ قبل حلولِ الآجالِ وبقاءِ الحسراتِ.
أيا من يدعّي الفهم، إلى كم يا أخَ الوهم، تعبي الذنبَ بالذنب، وتخطي الخطاءَ الجم.
أما بان لك العيب، أما أنذرك الشيب، وما في نصحه ريب، ولا تنعُ فقد صم.
أما نادى بك الموت، أما أسمعك الصوت، أما تخشى من الفوت، فتحتاطَ وتهتم.
فكم تسكرُ في السهو، وتختالُ من الزهو، وتنصبُ إلى اللهو، كأن الموتَ ما عم.
وحتى متى جافيك، وإبطاءُك لافيك، طباعُ جمعت فيك، عيوبُ شملُها أنظم.
أتسعى في هوى النفس، وتختالُ على الأنس، وتنسى ظلمةَ الرمس، ولا تذكرُ ما تم.
ستذري الدمَ لا الدمع، إذا عاينتَ لا دمع، يقي في عرصتِ الجمع، ولا خالٍ ولا عم.
كأني بك تنحط، إلى اللحدِ وتنغط، وقد أسلمك الرهط، إلى أضيق منسم.
هناك الجسمُ ممدود، ليستأكَله الدود، إلى أن ينخر العود، ويمسي العظمَ قد رم.
فبادرِ أيها الغمر، لما يحلُ به المر، فقد كاد ينتهي العمر، وما أقلعت عن ذم.(3/10)
وزود نفسَك الخير، ودع ما يعقبُ الضير، وهيء مركب السير، وخفف لجة اليم.
الهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد
اللهم يا من لا تراه العيون، ولا تخالطهُ الظنون، يا من دبر الدهور، وقدر الأمور، وعلم هواجسَ الصدور، يا من عليه يتوكل المتوكلون، أقلِ العثرةَ، وأغفرِ الزلةَ، وجُد بحلمِك على من لا يرجُ غيرَك ولا قصدَ سواك، اللهم هب لنا فرجاً قريبا، وصبراً جميلا، وكن لنا ولا تكن علينا، وأمكر لنا ولا تمكر بنا، وتولى أمرنا لا إله إلا أنت أنتَ حسبُنا.
اللهم لا تجعل بيَننا وبينَك في رزقنا أحداً سواك، اللهم اجعلنا أغنى خلقِكَ بك، وأفقرَ عبادِكَ إليك، وهب لنا غناً لا يطغينا، وصحةً لا تلهينا، وأغنناً اللهم عن من أغنيته عنا.
اللهم أصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، وأجعل تدبيره تدميره يا حي يا قيوم يا عزيز.
اللهم أنت خلقتَ أنفسَنا، وأنت تتوفاها، فزكِها أنت خيرُ من زكاها، أنتَ وليها ومولاها لك مماتَها ومحياها.
اللهم إنا عبيدُك بنو عبيدِك بنو إيمائك، في حاجةٍ إلى رحمتِك وأنت غنيُ عن عذابنا، اللهم فجازِنا بالإحسانِ إحسانا وبالإساءةِ عفوا وغفرانا.
اللهم آنس وحشتنا في القبور، وآمن فزعنا يوم البعثِ والنشور، وأغفر لنا ولجميعِ موتى المسلمين يا أرحم الراحمين. الهم صلي على محمد
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
…………………………………………………………..
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم
لا تحرمنا من دعوة صالحة في ظهر الغيب
من خلال اقتراحاتك وتوجيهاتك يمكن أن تساهم في هذا العمل الجليل.
تواصل:
أخوكم البوراق / anaheho@maktoob.com(3/11)
المحرومون
للشيخ إبراهيم الدويش
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده و رسوله وصلى الله عليه و على آله وصحبه أجمعين أما بعد
أيها الأحبة في الله ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ينعقد هذا المجلس في مهبط الوحي مكة المكرمة وهذه ليلة الأحد أو ليلة السبت الموافق الحادي عشر من الشهر السادس للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف وفي جامع فقيهه في العزيزية وموضوع هذا اللقاء بعنوان المحرومون.
وعفواً أيها الأحبة واعتذار أيضاً للأخوات فلا نجزع من كلمة محروم بالرغم من قساوتها فالكثير منا يشعر بالحرمان و ينال الإنسان من الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله وسأوجه بخطابي للمحرومين وسأنادي المحرومين كثيراً فلا نجزع فقد يكون المحروم أنا وقد تكون أنت وقد يكون فلان أو فلانة و قد نكون جميعاً فالحرمان يتفاوت من شخص إلى آخر ويختلف باختلاف الأحوال و الأشخاص فقد تحرم الراحة و السعادة وقد تحرم لذة السجود و الركوع وقد تحرم قراءة القرآن وتدبر آياته وقد تحرم كثرة الذكر و الاستغفار وقد تحرم لذة الخشوع والبكاء من خشية الله وقد تحرم بر الوالدين والإنس بهما وقد تحرم لذة الأخوة في الله وقد تحرم السعادة الزوجية وقد تحرم أكل الحلال و لذته وقد تحرم التوبة والندم على ما فات وقد تحرم حسن الخاتمة .(4/1)
فيا أخي الحبيب ، ويا أختي الغالية قد نحرم هذه الأمور كلها وقد نحرم الكثير منها وقد نحرم القليل و السعيد من جمعها ووفق إليها و قليل ما هم فأن كنت منهم فأذكر نعمة الله عليك وأشكره و اعلم أن من تمام شكره النصح و التوجيه للمسلمين فلا تحرم نفسك أجر التبليغ فالدال على الخير كفاعله أذن ، فقد يصيبك من الحرمان ولو القليل فاحتمل خطابي و احتمل مناداتي لك بيأيها المحروم فإني قصدت بها الشفقة و الرحمة و الحب و النصح وأعوذ بالله أن أكون من الشامتين فأنا أول المحرومين .
أسأل الله عز وجل أن يحيينا حياة طيبة وان يتوب علينا توبة صادقة كثيراً مما ظاهرهم الصلاح محرومون فهم لم يذوقوا حلاوة الإيمان و لا حقيقة الهداية والاستقامة فليست الاستقامة أشكال ومظاهر بل هي أعمال وسرائر وأنتم أيضاً يا أصحاب المناصب وأهل المال و التجارة ويا كل مهندس وطبيب وكاتب أقول لكم جميعاً أحسنتم يوم سهرتم و عملتم و نجحتم ولا شك أنكم جميعاً من صناع الحياة ومن أصحاب الأيادي البيضاء لكن ما هو رصيدكم من السعادة و الراحة و انشراح الصدر ما حقيقة الصلة بينكم وبين الله ما هو نصيبكم من حلاوة الإيمان و لذة السجود .
والمناجاة ولذة الدمعة من خشية الله عز وجل، أذن فقد يكون لكم نصيباً من الحرمان فاسمعوا يرعاكم الله هذه الكلمات وإذا كان هذا هو واقع بعض الصالحين والجادين العاملين فكيف بجال الغافلين اللاهين .(4/2)
فمن الناس من كسب الدنيا و الآخرة نسأل الله عز وجل أن نكون منهم ومنهم من كسب الدنيا وضيع الآخرة ومنهم من ضيع الدنيا و الآخرة وهؤلاء هم المحرومون حقاً يحدثني أحدهم أنه لم يركع لله ركعة ولم يشعر بلذة الصيام يوم من الأيام وأنه لا يعرف عن رمضان سوى السهر والمعاكسات والنوم بالنهار ويهمس لي آخر عن أحواله وأحوال أصحابه وجلساتهم في الليل و ما يدور فيه من الخنا والفساد والضياع وقال آخر أنه يجلس الساعات بل الليالي يتنقل من قناة إلى قناة لفضاء الفراغ و قتل الوقت كما يقول ، يقول عن نفسه و الحق أنني أبحث عن الشهوة و تلبية رغبات النفس الأمارة فإذا انتهيت شعرت بندمٍ وضيقٍ وهمٍ لا يعلمه إلا الله ولا أدري إلى متى سأظل على هذا الحال من قتل العمر وتضييع الأيام ، يقول أضعت نفسي ورجولتي وإيماني ووظيفتي وباختصار إنني أعيش في دوامة التعاسة و الشقاء وإن كنت في الظاهر في سعادة و هناء إلى آخر ما قال قلت في نفسي صدق الله يوم أن قال : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكا ) ويصارحني آخر ودمعته تسيل على خده فيقول : أنكم مسؤولين عنا أمام الله أدركوا الشباب ..... مخدرات أفلام معاكسات ، سهر و غناء ، ولواط ، وزنا ، ثم يجهش بالبكاء هذه حالة و الله العظيم ثم يجهش بالبكاء و يضع و جهه بين يديه وهو يقول لقد فكرت بالإنتحار عدد من المرات و كتب إلى أحدهم رسالة طويلة قال في مقدمتها قضية الشباب قضية كبيرة و مهملة وللأسف مهملة من الجميع إلا ما شاء الله فلا أدري من أين أبدأ في مشاكلهم المعاصرة ؟ و هل أبدأ بتقضيتهم أوقاتهم أم أموالهم ، أو لأنفسهم أو إلى أمتهم ثم عدد بعض أسرارا الشباب إلى أن قال هذا فيض من غيض مما يدور في أواسط الشباب من الفساد و الإفساد فضلاً عن حلق اللحى وسماع الغناء وإسبال الثياب و تبادل الأشرطة و الأفلام المدمرة وشرب الدخان ولعب الورق و تبادل أرقام الهواتف وسباب ولعان وغيبة ونميمة و كذب ناهيك عن ترك(4/3)
الصلاة وأني بمقامي هذا – والكلام ما زال له - بعد إذ نجاني الله من شبكة أعداء الإسلام التي ينصبونها لأبناء هذه الأمة وليس الخبر كالمعاينة أقول هذا واقع الشباب فاذهبوا و شاهدوا العجائب إلى آخر رسالته و حدثتني بعض الأخوات فتبين لي العجب من الضياع و الحرمان الذي تعيشه بعض بنات المسلمين و للأسف تقول إحداهن : قد كانت غافلة عابثة بالهاتف أنا أعيش في محنة كبيرة شديدة لا يعلمها إلا الله فأنام وأصحو وأنا أبكي وقلبي يكاد يتقطع أحس أن الدنيا ضيقة أبكي في كل وقت وأخاف أن يكون هذا الإحساس بضيق الدنيا قنوط أو يأس من رحمة الله وأنا لا أريد ذلك تقول فأنا أريد أن أحقق صدق توبتي بالصبر والثقة بالله والتوكل عليه والاستعانة به وبالثقة بأنه سينجيني من تلك المعصية و يغفر لي و يعوضني خيراً وحتى لحظة كتابتي هذه الكلمات أبكي من شدة ما أجد من ألمٍ وتعبٍ وضيق لأن كل شيء يذكرني بالماضي و لا أجد الراحة و الإطمئنان إلا في الصلاة و الدعاء وتلاوة القرآن وهذه من الصعوبات التي تواجهني في هذه الفترة و أساله تعالى أن يغفر ذنوبي فقد فرطت في جنب الله وتهاونت في المعصية إلى أن قالت كنت أقول في نفسي أمعقول أن يوجد من يتوب و يرجع إلى الله بسبب محاضرة واحدة أو شريط واحد أو موقف بسيط فالحمد لله . وأساله ألا يزيغ قلبي بعد إذا هداني وقد هداها الله بسبب حضورها لمحاضرة لإحدى الأخوات في كليتها إلا أخر قصتها من رسالة لطيفة بعنوان دموع ساخنة من فتاة عائدة فاهدي هذا الموضوع ( المحرومون ) اهديه إلى المحرمين من نعمة الإيمان الفاقدين حلاوته وأنسه وطعمه .
أهديه إلى المحرومين من لذة الدمعة والدعاء خشية و خوفاً من الله(4/4)
أهديه إلى لذة المحرومين من السجود و مناجاة علام الغيوب إلى المحرومين من لذة قراءة القرآن وتدبر آياته و تذوق معانيه إلى المحرومين من لذة الأخوة و الحب في الله ، إلى المحرومين من بركة الرزق وأكل نعمة الحلال إلى المحرومين من بركة العمر وضياعه بالشهوات والملذات .
إلى المحرومين من انشراح الصدر وطمأنينته وسعادته ، إلى المحرومين من بر الوالدين و الأنس بهما و الجلوس إليهما و جماع ذلك كله أقول أهدي هذا الموضوع إلى المحرومين من الاستقامة و الطاعة و الالتزام إلى أولئك الذين أصابهم الوساوس و الشكوك و استبد بهم الأسى واجتاحهم القلق والظلام و نزلت بهم الهموم و الغموم ، إلى الذين حرموا زاد الإيمان ونور الإسلام إلى البائسين ولو عاشوا في الرغد و النعيم .
إلى الذين حرموا نعمة الإيمان لقد فقدتم كل شيء وان وجدتم المال و الجاه . ، إلى الذين حرموا لذة الإطمئنان وبرد الراحة لقد فقدتم كل شيءٍ وإن ملكتم الدنيا بأسرها .
إلى الذين حرموا السعادة و الإنس وأضاعوا الطريق .
إلى أولئك جميعاً ، أقول أسالوا التائبين يوم ذاقوا طعم الإيمان يوم اعترفوا بالحقيقة و الله ثم و الله ما رأيت تائباً إلا وقالها ولا نادماً إلا وأعلنها صرخات متوجع وزفرات مذنب وآهات نادم اختصروها بكلمات وقالوا نشعر بالسعادة لحظات وقت الشهوة فقط وعند الوقوع بالمعصية و اللذة وبعدها قلق وحيرة وفزع واضطراب و ضياع وظلام وشكوك وظنون وبكاءً وشكوى عقد وأمراض نفسية وصدق الله عز وجل يوم قال : ( فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى )(4/5)
إذن فهو في أمان من الضلال و الشقاء ؟؟ من بالهداية وبالاستقامة باتباع هوى الله و الشقاء ثمرة الضلال ولو كان صاحبه غارقاً في متاعه في متاع الدنيا بأسرها فما من متاعٍ حرام إلا وله غصة تعقبه و ضيق يتبعه ولذلك قال الله عز وجل بعد هذه الآية مباشرة: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) قال ابن كثير ( أي في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرجاً لضلاله وان تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة) انتهى كلامه رحمه الله .
فإلى المحرومين لماذا اعرضتم عن ذكر الله ؟
لماذا حرمتم أنفسكم سماع المواعظ ومجالس الذكر تدعون فلا تأتون و تنصحون فلا تسمعون تغفلون أو تتغافلون بل ربما تسخرون وتستهزئون ولكن اسمعوا النتيجة اسمع إلى النهاية المرة اسمعي إلى النهاية التي لا بد منها قال الحق عز وجل : ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) هذا في الدنيا وأما في الاخرة ( ونحشره يوم القيامة أعمى قال ربي لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) فنسيتها أعرض عنها أغفلتها تناسيتها أذن الجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان وكذلك اليوم تنسى اليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومكم هذا فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ) .
أيها المحرومين لماذا نسيتم لقاء ربكم لماذا هذا الأعراض العجيب أنكم حرمتم أنفسكم فحرمتم السعادة والراحة والاستقرار النفسي ، لماذا نسيتم و تناسيتم ما قدمت أيديكم ، لماذا غفلتم ولماذا غفلنا عن المعاصي و الذنوب .
أسمع لقول الحق عز وجل : ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه ) .
أين النفس اللوامة ؟ أين استشعار الذنب أين فطرة الخير أين القلب اللين الرقيق أين الدمعة الحارة .(4/6)
اسمعوا واعوا ( إنا أنذرناكم عذاباً قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه و يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ).
يقسم بعض التائبين كما أسلفت أنه ما ركع لله ركعةً وما سجد لله سجدةً ، فأي حرمان بعد هذا الحرمان
عفوك اللهم عنا خير شيئاً نتمنى ربي
إنا قد جهلنا بالذي قد كان منا وخطيئاتنا وخطمنا ولهونا وإساءتنا أن يكن ربي خطانا ما أسأني بك ظناً فأنت اعظم بالحسنى وان عامناً ومني .
أيها المحرومين لا راحة للقلب ولا استقرار إلا في رحاب الله إلا في الهداية إلا في الاستقامة والالتزام بأوامر الله ويتصور بعض المحرومين والمحرومات أن الراحة والسعادة في المال والمنصب و السفر إلى الخارج .
ذكرت جريدة الشرق الأوسط 21/4/1415 نقلاً عن مذكرات زوجة الرئيس السابق جورج بوش قالت : إنها حاولت الانتحار أكثر من مرة وقادت السيارة إلى الهاوية تطلب الموت وحاولت أن تختنق للتخلص من همومها و غمومها .
ويذكر التاريخ لنا أن علي بن المأمون العباسي ابن الخليفة كان يسكن قصر فخماً وعنده الدنيا مبذولة وميسرة فأطل ذات يوم من شرفة القصر فرى عاملاً يكدح طيلة النهار فإذا أضحى النهار توضأ وصلى ركعتين على شاطئ دجله فإذا اقترب الغروب ذهب إلى أهله فدعاه يوماً من الأيام فسأله فأخبره أن له زوجة وأختين وأماً يكدح لهن وأنه لا قوت له ولا دخل إلا ما يكتسبه من السوق وأنه يصوم كل يوم و يفطر مع الغروب ما يحصل قال ابن الخليفة فهل تشكو من شيء ؟ قال العامل : لا والحمد لله رب العالمين فترك ابن الخليفة القصر و ترك الإمارة وهام على وجهه ووجد ميتاً بعد سنوات عديدة ، وكان يعمل بالخشب جهة خرسان فيا سبحان الله من الأمارة إلى النجارة لأنه وجد السعادة في عمل ذا ولم يجدها في القصر .(4/7)
إن من المحرومين من قال الله عنهم : ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) ، فأي حرمان بعد إضاعة الصلاة أقسم لي شاب أنه لم يسجد لله سجدة إلا مجاملة أو حياءً .
فأقول أيها المحروم أنه الكفر و الضلال (أن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) كما عند الترمذي و النسائي وأحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي
(إن بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة ) أخرجه مسلم في صحيحه .
مسكين أنت أيها المحروم يوم أن قطعت الصلة بينك و بين الله إنها مفتاح الكنز الذي يفيض سعادة و طمأنينة .
أنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود أنها زاد الطريق ومدد الروح و جلاء القلوب إن ركعتين بوضوء وخشوع وخضوع كفيلتان أن تنهي هذا الهم و الغم و الكدر و الإحباط .
إن من أسباب سعادة المؤمنين ما أخبر الله عنه بقوله : ( ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) .
وقوله : ( أمن هو قانت أناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة يرجو رحمة ربه)
من أجمل لحظات الدنيا وأسعدها يوم أن يسجد العبد لمولاه يدعوه ويناجيه يخافه ويخشاه قياماً وسجود وبكاءً وخشوع فيتنور القلب و ينشرح الصدر وتشرق الوجوه قال عز وجل ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) .
أما المحروم فظلام القلب وسواد الوجه وقلق في النفس هذا في الدنيا وفي الآخرة يقول الله تعالى عنهم ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ) .
حرموا من السجود في الاخرة لأنهم كان يدعى لهم في الدنيا فيتغافلون ويتكبرون ويسخرون أي فلاحاً وأي رجاء واي عيش لمن قطع صلته بالله .(4/8)
أو قطع بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غنى له عنه طرفة عين فلا تعلم نفساً في هذا الانقطاع من انواع الألم وهذا العذاب مسكين أيها المرحوم كيف تريد التوفيق و الفلاح والسعادة و النجاح وانت لا تصلي وقد قطعت الصلة بينك و بين الله اسمع لقول الله عز وجل ( واستعينوا بالصبر و الصلاة وانها لكبيرة إلا على الخاشعين ) واسمع لقول الحق عز وجل ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) سجود المحراب واستغفار الأسحار ودموع المناجاة سيماء يحتكرها المؤمنون ولئن توهم المحروم جنان الدنيا والنساء و القصر الفسيح .
فإن جنة المؤمن في محرابه ، إن المحرومين من ذكر بالصلاة سخروا واستهزءوا وفي هؤلاء يقول الحق عز وجل ( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوماً لا يعقلون ) ويقول ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ) أي في الدنيا ( وإذا مروا بهم يتغامزون ) ولكن السعيد من يضحك في النهاية ولذلك قال الله ( فاليوم الذين أمنوا من الكفار يضحكون ) إن المتهاون بالصلاة حرم خيراً كثيراً فقد قال صلى الله عليه وسلم من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له برهاناً ولا نوراً ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبيّ بن خلف والحديث أخرجه أحمد و الدارمي وقال الهيثمي في المجمع رواه أحمد و الطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات وقال المنذري إسناده جيد قلت فيه رجلاً لم يثقه إلا ابن حبان فأيها المحروم حرمت نفسك أجمل اللحظات في الدنيا لحظات السجود وتمريغ الجبين للرب المعبود حرمت نفسك أجمل اللذات لذة المناجاة لذة التذلل والخضوع أنك تملك اغلى شيئاً في هذا الوجود تملك كنزاً من كنوز الدنيا الصلوات الخمس الثلث الأخير من الليل ساعات الاستجابة إسال المصلين الصادقين إسألهم ماذا وجودوا أمامهم لا تتردد فسيجيبونك بنفوس مطمئنة .(4/9)
وبنفوس راضية بنفوس ذاقت حلاوة الدنيا سيقولون أكثر الناس هموماً وكدراً المتهاونون المضيعون للصلاة ولكن أبشر أيها الأخ الحبيب فإن الله عز وجل يقول : ( إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً )
المحرومون من التوبة التائب اعتق نفسه من أسر الهوى و اطلق قلبه من سجن المعصية ، التائب يجد للطاعة حلاوة وللعباد راحة وللإيمان طعم وللإقبال لذة التائب يجد في قلبه حرقة وفي وجهه أسى وفي دمعه مرارة التائب منكسر القلب غزير الدمعة رقيق المشاعر ، التائب صادق العبارة فهو بين خوف وأمن وقلق وسكينة :
اليوم ميلاد جديدوما مضى ……موت بليت به بليلاً داجي
أنا قد سريت إلى الهداية عارجاً ……يا حسن ذا الأسراء و المعارج
أيها المحروم تب إلى الله ذق طعم التوبة ذق حلاوة الدمعة أعتصر القلب و تألم لتسيل دمعة على الخد ، تطفي نيران المعاصي و الذنوب ، أخلي بنفسك اعترف بذنبك ادعو ربك وقل : ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وانا عبد ك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت اعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فأغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) أبكِ على خطيتك جرب لذة المناجاة أعترف بالذل و العبودية لله تب إلى الله بصدق قل ناجي ربك ( اللهم أني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا انت فاغفر لي مغفرة من عندك وأرحمني انك أنت الغفور الرحيم ) جرب مثل هذه الكلمات جربها كما كان صلى الله عليه وسلم يرددها .
أيها المحروم ذاق طعم الإيمان من رضى الله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً كما عند مسلم في صحيحه .
أسمع لملك الملوك وهو يناديك أنت أسمع لجبار الأرض و السماوات وهو يخاطبك أنت وانت من أنت أسمع للغفور الودود ذي الرحمة الرحمن وهو يقول : ( قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم )(4/10)
ويقول سبحانه في الحديث القدسي : ( يا عبادي أنكم تذنبون بالليل و النهار وانا اغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم كما عند مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر ويقول
الله في الحديث القدسي الآخر : ( يا بن آدم أنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) كما عند الترمذي من حديث أنس وهو صحيح .
أذن فيا أيها المحروم ما هو عذرك وأنت تسمع هذه النداءات من رب الأرض والسماوات إن أسعد لحظات الدنيا يوم أن تقف خاضعاً ذليلاً خأفاً باكياً مستغفراً تائباً فكلمات التائبين صادقة ودموعهم حارة وهمهم قوية ذاقوا حلاوة الإيمان بعد مرارة الحرمان و وجدوا برد اليقين بعد نار الحيرة و عاشوا حياة الأمن بعد مسيرة القلق و الاضطراب ، فلماذا تحرم نفسك هذا الخير و هذه اللذة و السعادة فإن أذنبت فتب وان أساءت فاستغفر وأن أخطأت فأصلح فالرحمة واسعة و الباب مفتوح .
قال ابن القيم في الفوائد :
ويحك لا تحقر نفسك فالتائب حبيب والمنكسر صحيح إقرارك بالإفلاس عين الغنى تنكيس رأسك بالندم رفعة واعترافك بالخطأ نفس الإصابة انتهى علامة رحمة الله .
أذا العبودية لله عزة ورفعة ولغيره ذللاً ومهانة .
أيها الحبيب أيتها الغالية أننا نفرح بتوبتك و نسر لرجوعك إلى الله وليس لنا من الأمر شيء :
عين تسر إذا رأتك وأختها ……تبكي لطول تباعدا وفراقي
فحفظ لواحدة دوام سروها ……واعد التي أبكيته بتلاقي
عدنا بالرجوع إلى الله عدنا بتوبة صادقة و نحن معك بكل ما تريد نسر ونفرح نمدك بأموالنا وأيدينا و دعاءنا وليس لنا من الأمر شيء إنما هو لنفسك ومن المحرومين من حرم لذة قراءة القرآن و تدبر آياته و البكاء من خشية الله .(4/11)
عن عطاء قال دخلت أنا و عبيد بن عمير علىعائشة رضي الله عنها فقال عبد الله بن عمير حدثيني باعجب شيء رايبية من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت قام ليلة من الليالي فقال يا عائشة ذرنيني اتعبد لربي قالت أني أحب قربك واحب ما يسرك قالت فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى أبل حجره ثم بكى يزل يبكي حتى بل الأرض و جاء بلال يؤذن بالصلاة فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال صلى الله عليه وآلة وسلم أفلا أكون عبداً شكوراً . لقد نزلت علىّ الليلة آيات ويلاً لمن قرأها ولم يتفكر فيها ( إن في خلق السموات و الأرض .... إلخ ) الآيات
من سورة الأنعام ، رواه أبو الشيخ ابن حبان في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وإسناده جيد وابن حبان في صحيحه و صححه الألباني .
إذن من المحرمين من لم يقرأ القرآن و ربما قراه في رمضان بدون تدبر ولا خشوع أسأل نفسك أيها المحب كم آية تقرأ في اليوم بل كم مرة تقرأ في الأسبوع كم مرة دمعة عيناك وأنت تقرأ القرآن إن من الناس لم تدمع عينه مرة واحدة عند سماع أو قراءة آيات القرآن و ربما دمعة مراراً ومدراراً عند سماع كلمات الغناء في الحب و الغرام و الهجر و الحرام و العياذ بالله .(4/12)
مساكين الذين ظنوا الحياة كأساً نغمة ووتراً مساكين الذين جعلوا وقتهم لهو لعباً وغروراً مساكين الذين حسبوا السعادة أكل وشرب و لذة الليل المحرومين غناء وبكاء وليل الصالحين بكاء ودعاء ليل المحرومين مجون و خنوع وليل الصالحين ذكر و دموع أيها المحروم من لذة البكاء اعلم إنه متى أقحطت العين من البكاء من خشية الله فأعلم أن قحطها من قسوة القلب و أبعد القلوب من الله القلب القاسي والعياذ بالله فقل أيها المحروم قل لنفسك قل لها وا اسفاه وا حسرتاه ! كيف ينقضي الزمان وينفذ العمر و القلب محجوب محروم ما شم راحة القرآن دخل الدنيا وخرج وما ذاق أطيب ما فيها بل عاش فيها عيش البهائم وأنتقل منها انتقال المفاليس فكانت حياته عجزاً و كسلاً وموته غماً وكمداً .
ألم تسمع أيها المحروم ألم تسمعي أيتها المحرومة لقول النبي صلى الله عليه آله وسلم والقرآن حجة لك أو عليك فأيهما تختار وأيهما تختارين لك أو عليك قال أحد الصالحين أحسست بغماً لا يعلمه إلا الله و بهم مقيم فاخذت المصحف و بقيت أتلو فأزا عني فجأة هذا الغم و أبدلني الله سروراً وحبوراً مكان ذلك الكدر فيا أيها الأخ الحبيب و يا ايتها المسلمة أن هذا القرآن رحمة وهدى و نور وشفاء لما في الصدور كما وصفه الله سبحانه تعالى فأسمع إيها المحروم من قراءة القرآن ان قراءة القرآن بتدبر و تمعن من اعظم أسباب السعادة ومن أعظم أسباب انشراح الصدور في الدنيا و الآخرة ومن المحرومين من حرم لذة الأخوة في الله .
حرم الرفقة الصالحة التي تذكر الخير و تعينه عليه أن الجليس الصالح لا تسمع منه إلا كلاماً طيباً أو دعاءً صالحاً أو دفاعاً عن عرضك .(4/13)
فأيها المحروم من الأخوة في الله انك بأمس الحاجة إلى دعوة صالحة وإلى كلمة طيبة أنك بأمس الحاجة إلى من تبث له أشجانك و احزانك أنك بأمس الحاجة إلى صادق أمين وناصح مخلص أنك بأمس الحاجة إلى اخ يتصف بالرجولة و الشهامة أتراك تجد هذه الصفات بصديق الضحكات و الرحلات و المنكرات أيها المحب آْعد النظر في صداقاتك استعرض أصدقاءك واحداً بعد الاخر أسال نفسك ما نوع الرابط بينكم أهي المصالح الدنيوية أو الشهوات الشيطانية أم هي الأخوة الإسلامية كل أخوة لغير الله هباء وفي النهاية هماً و عداء .
لا شك مر بك قول الله عز وجل الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاالمتقين) أيها المحروم من لذة الأخوة في الله راجع ما فاتك قبل ان نقول يوم القيامة يا وليتي ياليتني لم اتخذ فلانا خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا راجع أحبابك و خلانك فإنك ستحشر معهم يوم القيامة فقد قال حبيبك صلى الله عليه وسلم ( المرء مع من احب فمن أي الفريقين أحبابك )
قرينك في الدنيا وفي الحشر من بعدها فأنت قرين لي بكل مكاني . فإن كنت في دار الشقتاء فإنني أنا وأنت وجميعا في شقائي وهواني.
أيها المحروم كم كسبت من صفات ذميمة وكم خسرت من صفات حميدة بسبب أصحابك تقول لماذا ؟ أقول لك لأن الطبع سراق و قل لي من تصاحب أقول لك من انت و النبي صلى الله عليه وسلم يقول{ الرجل علي دين خليله فلينظره منكم من يخالل} .
أبل الرجال إذا ارتم أخاهم أمورهم تفقدي فإذا وجدت أخ المانة و التقى فيه الدين قرير عين فاشددي
إن للأخوة في الله حلاوة عجيبة ولذة غريبة لا يشعر بها إلا من وجدها وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ) و ذكر منها وأن يحب المرء لا يحب إلا لله .
وفي الأثر المشهور : لولا ثلاث ما حببت البقاء في الدنيا وذكر منها مجالسة أخوة ينتقون أطياب الكلام كما ينتقون أطياب التمر .(4/14)
فكم من محروم حرم الأخوة في الله ومن الناس من حرم أكل الحلال ومن ثم حرم إجابة الدعاء .
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيب وان الله أمر المؤمنين يما أمر به المرسلين فقال يا أيها الرسل كلو من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وقال ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يار رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام و ملبسه حرام و غذي بالحرام فأني يستجاب لذلك .
كم من الناس حرموا لذة أكل الحلال و حرموا بركة المال و حرموا صلاح العيال بسبب أكل الحرام من ربا و غش وخداع وسرقة وحلف كاذب .
مسكين أنت أيها المحروم ربما أنك تركع و تسجد و ترفع يديك بالدعاء فأنا يستجاب لك .
أيها الأخوة : أخشى ان نكون من المحرومين و نحن لا نشعر فنحن نرفع أيدينا في الدعاء ونلح على الله فيه وربما سالت الدمعات على الخدين انظر لحال المصلين و دعاء القنوط في رمضان فربما لا نرى أثراً لدموعنا وبكاءنا .
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير ) لنراقب أموالنا ولنحرص على أكلنا و شربنا ولبسنا وربما دخلنا في أعمالنا ووظائفنا .فيا أيها المحروم إن الأكل الحلال أثر عجيب على القلب وراحته وسعادته .
إن لأكل الحلال أثر كبير على صلاح الأولاد وبرهم لأبائهم بل إن لأكل الحلال أثر كبير على سعة الرزق ونماء المال فكم من المحرومين بسبب المعاصي و الذنوب فمن السند من حديث ثوبان ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الرجل ليحرم الرزق ليذنب يصيبه والحديث أخرجه احمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان وصححه ولحاكم .(4/15)
فكم من المحرومين بسبب المعاصي والذنوب و انتبه أيها المحب فليس كثرة المال عند بعض الناس دليل على بركته بل قد يكون شقاء على صحابه وكم سمعنا عمن ملك المال و القصور يعيش في تعاسة وهموم وقد قال صلى الله عليه آله وسلم ( إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا قوله عز وجل ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا فأخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) الحديث أخرجه أحمد والطبري وابن أبي الدنيا في كتاب الشكر وقال الألباني في المشكاة وأسناده جيد .
وأسمع لآبن القيم رحمه الله وهو يقول عن أثر الذنوب و المعاصي ومن عقوبتها أنها تمحق بركة العمر و بركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة وفي الجملة تمحق بركة الدين و الدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله .
وما محقت بركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق قال الله تعالى ( ولو أن اهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض ) وقال تعالى : ( وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءً غدقا لنفتننهم فيه وأن العبد ليحرم الرزق لذنب يصيبه) أنتهى كلام رحمة الله ومن الناس من حرم كثرة ذكر الله تهليل و تسبيح و تحميد فلسانه يأس من ذكر الله رطب ببذئ الكلام و السباب و اللعان و العياذ بالله وإذا أردت أن تعرف شدة الحرمان ولخامره للغافل عن ذكر الله فاسمع لهذه الآيات فأسمع لهذه الأحاديث و الربح العظيم فيها.(4/16)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا (ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى و النعيم المقيم يصلون كما نصلي و يصومون كما نصوم و لهم فضل من أموال يحجون و يعتمرون و يجاهدون ويتصدقون فقال صلى الله عليه آله وسلم ألا أعلمكم شيئا تدركون به أصحابكم و تسبقون به من بعدكم و لا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم قالوا بلى يا رسول الله قال تسبحون و تحمدون و تكبرون خلف كل صلاة ثلاث و ثلاثين قال أبو صالح الراوي عن أبي هريرة لما سأل عن كيفية ذكرهن قال يقول سبحان الله و الحمد لله و الله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاث و ثلاثين ) متفق عليه . و زاد مسلم في روايته ( فرجع فقراء المهاجرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال الرسول صلى الله عليه وسلم (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) و أهل الدثور هم أهل المال الكثير .
و عنه أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال ( من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاث و ثلاثين و حمد الله ثلاث و ثلاثين و كبر الله ثلاث و ثلاثين و قال تمام المئه لا اله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وان كانت مثل زبد البحر ) و الحديث أخرجه المسلم في صحيحه .
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنه فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب ألف حسنه؟قال: يسبح مائة تسبيحه فيكتب له ألف حسنه أو يحط عنه ألف خطيئة ) و الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.(4/17)
و الأحاديث في مثل هذه الفضائل كثيرة جدا و مستفيضة . أسألك بالله أليس محروما من ترك مثل هذه الأذكار ؟ فمن لا يرغب أن تغفر خطاياه و إن كانت مثل زبد البحر , و من منا يرغب أن يكسب ألف حسنه أو تحط عنه ألف خطيئه , و لكن بعض الناس لم يسمع بهذه الأحاديث قط فضلا على أن يحرص على فضلها أليس هذا من الحرمان ؟ أنها كلمات قصيرة في أوقات يسيره مقابل فضائل كثيرة و هي سلاح للمؤمن تحفضه من شياطين الأنس والجان و هي اطمئنان للقلب و انشراح للصدر كما قال عز وجل (( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ))و الله عز وجل يقول ((والذاكرين الله كثيرا و الذاكرات أعد الله لهم مغفرتاً و أجرا عظيما )) ولكن سبق المفردون و تأخر و خسر المحرومون , وال مفردون هم الذاكرون الله و الذاكرات كما أخبر صلى الله عليه و سلم عند مسلم في صحيحه , فيا أيها المحروم من ذكر الله أحرص على هذه الأذكار لعلها أن تمحو عنك السيئات و إياك إياك و بذائت اللسان و السب واللعان فتزيد الطين بلة,ومن الناس من حرم السعادة الزوجية و العيشة الهنية فهو لا يجد السكن النفسي يعيش في قلق و اظطراب و شجار و خصام كم شكا هؤلاء لنا, كم شكوا حياتهم مع أزواجهم في بيوتهم يعيش بدون مودة و لا رحمة و بدون لذة و لا متعة . بينه و بين زوجته وحشة فلماذا كل هذا قال بعض السلف أسمع يا رعاك الله إني لا اعصي فأرى ذلك في خلق دابتي و امرأتي . أيها الزوجان ربما تحرمان السعادة الزوجية و الراحة النفسية بسبب المعاصي و الذنوب منكما أو من أحدكما . أنضرا إلى البيت و ما فيه من وسائل فساد تغضب رب العباد , أنضرا إلى حرصكما على الفرائض و الطاعات و الاهتمام بها و الصلاة في أوقاتها , قفا مع بغضكما و ستجدان ان السبب معصية الله لا شك(4/18)
قال الله تعالى ((و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير )) إنه ما من مشكلة تقع بين الزوجين إلا بمعصية أو ذنب فكم في البيوت من المحرومين بسبب معصية رب العالمين.
و أقف هنا فقد سبق الحديث عن هذا الموضوع بدرسين بعنوان( السحر الحلال) فمن أراد فليرجع لهما و من الناس من حرم بر الوالدين و الأنس بهما و الجلوس معهما و قضاء حوائجهما حرم المسكين من فضل عبادة قرنت بتوحيد الله عز وجل فقد ثنى بهما قال ((و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيءً و بالوالدين إحسانا ) و يدل هذا على فضلهما و عظم القيام بهما اسمع يا من حرمت برهما قال صلى الله عليه و سلم (الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفضه ) و الحديث في الترمذي و قال حسن صحيح و يروى عن عبد الله بن مبارك أنه بكى لما ماتت أمه فقيل له فقال : إني لأعلم أن الموت حق و لكن كان لي بابان للجنة مفتوحان فأغلق أحدهما و النبي صلى الله عليه و سلم يقول ( رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة ) كما في مسلم , و قال صلى الله عليه وآله وسلم( من أحب أن يبسط له في رزقه و ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) متفق عليه .(4/19)
فأي فضل حرمه بعض الناس بغفلته عن بر والديه و برهما ميتين بالدعاء لهما وزيارة صديقهما و إنفاذ وعدهما أن قصص العقوق التي نسمعها لينفطر لها الفؤاد أسى و تذوب لها النفس حسرة , أيها المحروم برهما أن العقوق من الكبائر بل لا يدخل الجنة عاق و يحرم التوفيق بالدنيا و لربما عجلت له العقوبة و ربما ابتلي بأولاده فالجزاء من جنس العمل أبو هريرة كان لا يخرج ولا يدخل حتى يسلم على أمه و كان يحملها فقد كانت كبيرة مكفوفة, و أبن الحنفية كان يغسل رأس أمه و يمشطها و يقبله و يخدمها , و كان علي بن الحسين من أبر الناس بأمه و كان لا يأكل معها فسأل فقال : أخاف أن تسبق عينها إلى شيء من الطعام و أنا لا أعلم فأكله فآكون قد عققتها , و طلبت أم مسعر ماء في ليلة فجاء بالماء فوجده نائمة فوقف الماء عند رأسها حتى أصبح, و سأل عمر بن ذر عن بر ولده فقال ما مشى معي نهارا فقرر خلفي و لا ليلا إلا كان أمامي و لا رقى سطح أنا تحته ,فنستغفر الله عن حالنا مع آبائنا و نعوذ بالله من الحرمان , إليك أيها السامع هذه العناوين السريعة أنقلها لك من رسالة صغيرة بعنوان أبناء يعذبون آبائهم قصص واقعية:/(4/20)
(ابن يتهرب من المستشفى حتى لا يتسلم والده )( و آخر يتخلص من أمه يرميها بجوار القمامة)(و آخر يأتي بأبيه الذي بلغ 80 سنه إلى دار النقاهه ويقول خذوا أبي و اذاأردتواا الى شيء أتصلوا علي)( وآخر يبخل على أمه بمائة ريال ثمنا لخاتما أعجبها بل أخذ الخاتم من يدها و رماه على طاولة البائع )( وابنة تطرد والدتها من المنزل و)( وأخرى فغضب بعد أن علمت أن والدتها ستعيش معها) و هذه عناوين قصص واقعية و تفاصيلها تدمي القلوب و تقرح الأكباد فإنا لله و إنا إليه لراجعون نعوذ بالله من حال هؤلاء محرومون و معذبون في الدنيا و الآخرة اللهم أغفر لنا و لوالدينا و اجزهم عنا خير الجزاء اللهم أعنا على برهما الهم أعنا على برهما الهم أرفع درجتهم و أسكنهم الفردوس الأعلى برحمتك يا أرحم الراحمين , و من المحرومين من حرم حسن الخاتمة نسأل الله عز وجل حسنها عجيب أمرك أيها المحروم أنك تعلم أن الموت حق و أنه نهاية الجميع و مع ذلك تصر على حالك و أنت تسمع هذا الكلمات مراراً و تكراراً أيها الأخ و يا أيتها الأخت ليس العيب أن تخطئ و لكن العيب الاستمرار على الخطأ أيهما تريد أن تموت على خير أم على شر أقول هذا لأننا نرى و نسمع نهاية بعض المحرومين نسأل الله حسن الخاتمة قال ابن القيم في الجواب الكافي : ثم أمر أخوف من ذلك و أدهى و أمر و هو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار و الانتقال إلى الله تعالى فربما تعذر عليه نطق بالشهادة كما شاهد الناس كثيراً من المحتقرين ممن أصابهم ذلك ثم ذكر رحمه الله صوراً لبعضهم منها قيل لبعضهم قل لا اله إلا الله فجعل يهذي بالغناء و يقول كان تان تنى تنتني , وقيل لآخر فقال كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها إلى آخر الصور التي ذكرها رحمه الله تعالى إلى قوله وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبر و الذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم و أعظم و نحن اليوم نشاهد ونسمع ونقرأ صوراً كثيرة لسوء الخاتمة و منها(4/21)
أن رجلاً ذهب إلى أحد البلاد المعروفة بالفساد و هناك في شقته شرب الخمر أعزكم الله قارورة ثم الثانية ثم الثالثة هكذا حتى شعر بالغثيان فذهب إلى دورة المياه أعزكم الله ليتقيأ أتدري أيها المحب ماذا حدث له مات في دورة المياه و رأسه في المرحاض أعزكم الله , و منها أن شابا كان لا يعرف من الإسلام إلا اسمه و كان لا يصلي أضاع طريق الهداية عندما نزلت به سكرات الموت قيل له قل لا اله إلا الله يا لها من لحضات حرجة كربات و شدائد و أهوال أتدرون ماذا قال؟ أخذ يردد أنه كافر بها نسأل الله حسن الخاتمة , و منها أن شاباً حصل له حادث على أحد الطرق السريعة فتوقف بعض المارة لإسعافه فوجدوه يحتضر و الموسيقى الغربية تنبعث بقوة من مسجل السيارة فأطفئوه و قالوا للشاب قل لا اله إلا الله فأخذ يسب الدين و يقول لا أريد أن أصلي لا أريد أن أصوم و مات على ذلك والعياذ با لله ,(4/22)
يقول أحد العاملين في مراقبة الطرق السريعة فجأة سمعنا صوت ارتطام قوي فإذا سيارة مرتطمة بسيارة أخرى حادث لا يكاد يوصف شخصان في السيارة في حالة خطيرة أخرجناهما و وضعناهما ممدين أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية فوجدناه قد فارق الحياة عدنا للشخصين فإذا هم في حالة الإحضار هب زميلي يلقنهم الشهادة و لكن ألسنتهم ارتفعت بالغناء أرهبني الموقف و كان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت أخذ يعيد عليهما الشهادة و هما مستمرا في الغناء لا فائدة بدأ صوت الغناء يخفت شيئا فشيئا سكت الأول فتبعه الثاني فقد الحياة لا حراك يقول لم أرى في حياتي موقفا كهذا حملناهما في السيارة قال زميلي إن الإنسان يختم له إما بخير أو شر بحسب ظاهره و باطنه قال فخفت من الموت و أتعضت من الحادثة و صليت ذلك اليوم صلاة خاشعة قال و بعد مدة حصل حادث عجيب شخص يسير بسيارته سيراً عادياً و تعطلت سيارته في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة فترجل من سيارته لإصلاح العطل في أحد العجلات جاءت سيارة مسرعة و ارتطمت به من الخلف سقط مصاباً إصابات بالغة فحملناه معنا في السيارة فقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله شاب في مقتبل العمر متدين يبدو ذلك من مظهره عندما حملناه و سمعناه يهمهم عندما حملناه سمعناه يهمهم فلم نميز ما يقول و لكن عندما وضعناه في السيارة سمعنا صوتا مميزا إنه يقرأ القرآن و بصوت ندي سبحان الله لا تقول هذا مصاب الدم قد غطى ثيابه و تكسرت عظامه بل هو على ما يبدو على مشارف الموت أستمر يقرأ بصوت جميل يرتل القرآن فجأة سكت التفت إلى الخلف فإذا به رافع إصبع السبابة يتشهد ثم انحنى رأسه قفزت إلى الخلف لمست يده قلبه أنفاسه لا شيء فارق الحياة نظرت إليه طويلاً سقطت دمعة من عيني أخبرت زميلي أنه قد مات انطلق زميلي في البكاء أما أنا فقد شهقت شهقة و أصبحت دموعي لا تقف أصبح منضرنا داخل السيارة مؤثرا و صلنا إلى المستشفى أخبرنا كل من قبلنا عن قصة(4/23)
الشاب , الكثير تأثروا ذرفت دموعهم أحدهم لما سمع قصته ذهب وقبل جبينه الجميع أصروا على الجلوس حتى يصلى عليه أتصل أحد الموظفين بمنزل المتوفى كان المتحدث أخوه قال عنه أنه يذهب كل أثنين لزيارة جدته الوحيدة في القرية كان يتفقد الأرامل و الأيتام والمساكين كانت تلك القرية تعرفه فهو يحضر لهم الكتب و الأشرطة و كان يذهب و سيارته مملوءة بالأرز و السكر لتوزيعها على المحتاجين حتى حلوى الأطفال كان لا ينساها و كان يرد على من يثنيه عن السفر و يذكر له طول الطريق كان يرد عليه بقوله أنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن و مراجعته و سماع الأشرطة النافعة و إنني أحتسب إلى الله كل خطوة أخطها يقول ذلك العامل في مراقبة الطريق كنت أعيش مرحلة متلاطمة الأمواج تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه بكثرة فراغي وقلة مارفي و كنت بعيداً عن الله فلما صلينا على الشاب و دفناه و أستقبل أول أيام الآخرة استقبلت أول أيام الدنيا تبت إلى الله عسى أن يعف عما سلف و أن يثبتني على طاعته و أن يختم لي بخير انتهت القصة بتصرف من رسالة لطيفة بعنوان الزمن القادم ,قلت صدق ابن القيم رحمه الله بقوله و سبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبر أي من سوء الخاتمة و الذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم و أعظم أقول كيف يوفق لحسن الخاتمة من حرم نفسه الاستقامة و الطاعة لله , فقلبه بعيد عن الله غافل عنه عبد لشهوته و هواه اللهم أجعل خير أعمالنا خواتمها و تب علينا انك أنت التواب الرحيم , و هذا موقف آخر قال أبو عبد الله لا أعرف كيف أروي قصتي التي عشتها منذ فترة و التي غيرت مجرى حياتي كلها و الحقيقة أنني لم أقرر الكشف عنها إلا من خلال إحساسي بالمسؤولية تجاه الله عز وجل و لتحذير بعض الشباب الذي يعصي ربه و بعض الفتيات الآتي يسعين عن وهم زائف أسمه الحب , يقول كنا ثلاثة من الأصدقاء يجمع بيننا الطيش و العبث كلا بل أربعة فقد كان الشيطان رابعنا فكنى نذهب(4/24)
لاصطياد الفتيات الساذجات بالكلام المعسول و نستدرجهن إلى المزارع البعيدة و هناك يفاجئن بأننا تحولنا إلى ذئاب لا ترحم و لا نرحم توسلاتهن بعد أن ماتت قلوبنا و مات فينا الإحساس هكذا كانت أيامنا و ليالينا في المزارع و في المخيمات و في السيارات و على الشاطئ , إلى أن جاء اليوم الذي لن أنساه ذهبنا كالمعتاد إلى المزرعة كان كل شيء جاهز الفريسة لكل واحد منا الشراب الملعون شيء واحد نسيناه الطعام و بعد قليل ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته كانت الساعة السادسة تقريبا عندما أنطلق و مرت الساعات دون أن يعود و في العاشرة شعرت بالقلق عليه فانطلقت بسيارتي أبحث عنه و في الطريق شاهدت بعض السنة النار تندلع على جانبي الطريق و عندما وصلت فوجئت بأنها سيارة صديقي و النار تلتهمها و هي مقلوبة على أحد جانبيها يقول أسرعت كالمجنون أحاول إخراجه من السيارة المشتعلة وذهلت عندما و جدت نصف جسده وقد تفحم تماما و لكنه ما زال على قيد الحياة فنقلته على الأرض و بعد دقيقة فتح عينيه و أخذ يهذي النار النار فقررت أن أحمله بسيارتي و أسرع به إلى المستشفى لكنه قال لي بصوت باك لا فائدة لن أصل فخنقتني الدموع و أنا أرى صديقي يموت أمامي و فوجئت به يصرخ ماذا أقول له ؟ماذا أقول له ؟ نضرت إليه بدهشة و سألته من هو ؟ قال بصوت كأنه قادم من بعيد ((الله)) يقول ذلك الشاب أحسست بالرعب يجتاح جسدي و مشاعري و فجأة أطلق صديقي صرخة مدوية و لفض آخر أنفاسه و مضت الأيام لكن صورة صديقي الراحل وهو يصرخ و النار تلتهمه ماذا أقول له؟ ماذا أقول له ؟ و وجدت نفسي أتسائل و أنا ماذا سأقول له و ليتساءل كل محروم ماذا سيقول لله يقول ففاضت عيناي و اعترتني رعشة غريبة و في نفس اللحظة سمعت المؤذن ينادي الله أكبر الله أكبر حي على الصلاة أحسست أنه نداء خاص بي يدعوني لأسدل الستارة على فترة مضلمة من حياتي , يدعوني إلى طريق النور و الهداية , فاغتسلت و توضأت و(4/25)
طهرت جسدي من الرذيلة التي غرقت فيها لسنوات و أديت الصلاة و من يومها لم يفتني فرض و لقد أصبحت أنساناً آخر فسبحان مغير الأحوال انتهت من رسالة لطيفة بعنوان للشباب فقط , إذا فلعل الكثير من المحرومين يتساءلون أين الطريق و ما هو العلاج ؟ أين الطريق و ما هو العلاج ؟ و أقول العلاج ما قاله النبي صلى الله عليه و سلم و آله وسلم لسفيان ابن عبد الله الثقفي,قال له سفيان يا رسول الله يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا اسأل عنه أحد غيرك فقال صلى الله عليه و سلم قل :
(( آمنت بالله ثم استقم )) فيا أيها المحروم و يا أيتها المحرومة لنقل كما قال صلى الله عليه وسلم(4/26)
آمنوا بالله ثم لنستقم على طاعة الله لنؤدي ما طلب عز و جل منا , لزوم الصراط المستقيم من غير ميل عنه يمنة و لا يسرة , يضن البعض , يضن بعض السامعين أن الاستقامة أنها نفل فمن أرادها كان مستقيماً و من لا يريد فلا بأس عليه و هذا مفهوم خاطئ فإن كل مسلم مطالب بالاستقامة قال تعالى(( فاستقم كما أمرت و من تاب معك )) , و ثمرات الاستقامة ثمرات عظيمة تدفع سامعها إلى الالتزام بشرع الله و مجاهدة النفس يقول الحق عز وجل (( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا و ابشروا بالجنة التي توعدون نحن أوليائكم في الحياة الدنيا و في الآخرة و لكم فيها و ما تشتهي أنفسكم و لكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم )) و يقول عز و جل ((و الو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا لنفتنهم فيه و من يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً )), فكم كم من المحرومين المعذبين كم من المحرومات المعذبات من شبابنا و رجالنا و إخواننا و أخواتنا نسأل الله لهم الهداية , لقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في سخف حتى استقاموا على الطريقة ففتحت لهم الأرض التي يغدقون فبها الماء و تتدفق فيها الأرزاق , ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتها استلاباً , والله يقول(( و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض)) و كل ما سبق أيها الأخ الحبيب من صور الحرمان إنما هو بسبب البعد عن الاستقامة و ينال الإنسان منا الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله ,أخي الحبيب أيتها الأخت الغالية قف مع نفسك لحظات بعيد عن الدنيا بذهبها و مناصبها و قصورها اجلس مع نفسك بعيداً عن الأصحاب و الأولاد أخلو بنفسك واسألها لماذا تعيش ؟ و ماذا أريد؟ و ماهي النهاية ؟ من أين أتيت؟ و أين سأذهب؟ و لكن إياك إياك إياك أن تكون كذلك البائس المحروم الشاعر النصراني الذي يقول :(4/27)
جئت و لا أعلم من أين أتيت و لكني أتيت و لقد أبصرت قدامي طريقاً فمضيت
و سأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري
إلى أخر تلك الطلاسم و الأسئلة التي يثيرها في قصيدته حيرتاً وتردد ذهول يشعر به المحرومون من نعمة الإيمان , أما نحن المسلمين المؤمنين لا تقلقنا هذه الأسئلة ولله الحمد و المنة فإننا نجد في ديننا الإجابات المفصلة عليها إننا نجد في قرآننا و في أحاديث نبينا عليه الصلاة و السلام الكلام الشافي الصادق عنها إن قرآننا علمنا أننا نعيش لغاية وهدف ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فهل أنت تعيش لهدف ؟هل أنت تعيش لهدف أيها الأخ الحبيب و علمنا أن كل شيء في حياتنا إنما هو لله ( قل إن صلاتي و نسكي و محياي و ممتاي لله رب العالمين لا شريك له) فهل كل شيء في حياتك لله ؟ فلا نعمل الا ما يرضي الله و لا نتكلم إلا بما يرضي الله فلا نرضي إلا الله لو سخط الناس كلهم فنحن نردد كل لحظة لا اله إلا الله و نعلم أن من عاش عليها صادقاً مخلصاً عاش سعيداً عزيزاً و إن مات عليها صادقاً مخلصاً مات شهيداً في جنة عرضه السماوات و الأرض , إذن فأسمع و أعلم أيها المحروم إن من يعيش لهدف و مبدأ يتحرك و يعمل و يركع ويسجد ويذهب و يجيء و يحرص على وقته ولا يجعل دقيقة للفراغ فإن الفراغ قاتل و العطالة بطالة وأكثر الناس هموماً و هموماً العاطلون الفارغون , إنك يوم تفرغ يدخل عليك الهم والغم والوسواس و الهواجس وتصبح ميداناً لألاعيب الشياطين , أيها الأخ أيتها الأخت اجعل الهم هماً واحداً هم الآخرة هو لقاء الله عز وجل هم الوقوف بين يديه (يوم إذا تعرضون لا تخفى منكم خافيه)(4/28)
اجعل عملك خالصاً لوجه الله احرص على رضى الله لا تنتضر شكراً من أحد أيها الأخ و يا أيتها الأخت ماذا قدمت لنفسك؟ و ماذا قدمتي لنفسك؟ والله يقول (( وقدموا لأنفسكم و اتقوا الله و العموا انكم ملاقوه)) إن من ركب ظهر التفريط والتواني نزل به بوادر الحسرة و الندامة إذا فأول العلاج التفكير الجاد بطريق الاستقامة و الالتزام فكن صاحب هدف وكن صاحب مبدأ لتشعر بقيمة الحياة و أجعل همك دائما رضى الله وحده لا رضى غيره و طاعة الله لا طاعة غيره و من العلاج أيضاً أو من أسباب الاستقامة إرادة الله الهداية للعبد قال تعالى ((فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء))(4/29)
و بعض الجهال و الجاهلات يقولون ماذا أفعل إذا لم يرد الله هدايتي ؟ و أقول هذه شبه حيلة نفسيه و مدخل شيطاني لدى كثير من المحرومين و الإجابة على هذا نقول لابد من فعل الأسباب فأطلب الهداية وأسعى لفعل أسبابها و جاهد النفس وسترى بمشيئة الله النتائج وهكذا بكل أمرٍ تريده لابد من فعل الأسباب , أتراك أيها المحروم إذا طلبت النجاح في الامتحان تدرس وتقرأ و تحفظ و تسهر قلنا لك مثلاً لا تدرس و لا تقرأ و تسهر و إن كان الله أراد نجاحك فستنجح أتوافق على هذا ؟أتوافقين على هذا ؟ بالطبع لا , إذا لا بد من فعل الأسباب من ترك جلساء السوء و ترك وسائل الفساد و الحرص على مجالس الصالحين و كثرة الذكر والإلحاح بالدعاء أن يفتح الله على قلبك و أن يثبتك على طريق الحق فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم( كان يكثر في سجوده من قول الهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فكيف بي و بك و من شابهنا من ضعاف الإيمان) أدعو الله بصدق و إلحاح أن يرزقك طريق الاستقامة و هاأنت تدعوا في اليوم أكثر من سبعة عشر مرة إن كنت ممن يحافظ على الصلوات المفروضة تقول (اهدنا الصراط المستقيم ) لكن و للأسف بدون حضور للقلب و لا تدبر للمعنى فاصدق مع الله بطلب الهداية جاهد النفس فإن الله عز و جل يقول {و الذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا }, إذا فقبل مرحلة الهداية لا بد من مرحلة المجاهدة و حبس النفس عن شهوتها تذكر حلاوة الصلة بينك و بين الله يهون عليك أمر المجاهدة اعلم أن شراب الهواء حلو و لكنه يورث الشرق فأطلب الهداية من الله بصدق و أحرص على فعل أسبابها لعلك أن تشعر بالسعادة و الراحة في الدنيا و الآخرة , و أسباب الهداية كثيرة لعلي ألحظها لك في النقاط التالية لتحرص على فعلها فكن صاحب هدف و عش لمبدأ و أعلم لماذا خلقت ؟ ثانياً أعلم أن إرادة الله فوق كل شيء و لكنها في علم الغيب فما عليك إلا أن تحرص على الخير و فعل الأسباب للوصول إليه مع التنبه لحيل(4/30)
النفس و مداخل الشيطان ثالثاً: الإلحاح الشديد في الدعاء و كثرة ذكر الله رابعاً: الحرص على مصاحبة الصالحين و نبذ أهل الفسق و الفجور فإنهم لا يهدئون حتى تكون مثلهم و صدق من قال ( ودت الزانية أن النساء كلهن زواني ) خامساً :مجاهدة النفس و محاسبتها و هل أنت مستعد للموت أم لا, سادساً : أتبع السيئة الحسنة تمحها و كلما و وقعت بذنب أو معصية أكثر من فعل الخيرات تصدق أطعم المساكين صلي ركعتين احسن إلى الوالدين احرص على كل خير فإن الله عز و جل يقول (إن الحسنات يذهبن السيئات ) و الرسول صلى الله عليه و سلم يقول ( و أتبع السيئة الحسنة تمحها ) سابعاً:تب كلما وقعت بذنب أو معصية و إياك و إياك و الملل من التوبة و لو تبت من الذنب الواحد ألف مرة و أحذر من ضعف النفس و حيل الشيطان فربما يحدثك أنك منافق أو أنك مخادع لله بكثرة توباتك و المهم أن تكون صادقاً بالتوبة و الندم و الإقلاع و كلما رجعت للذنب بضعف النفس ارجع للتوبة قال الإمام النووي باب قبول التوبة من الذنوب و إن تكررت الذنوب و أنصحك بقراءة كتاب التوبة في صحيح مسلم لترى الأحاديث في عظم رحمة الله و فرحه بتوبة عبده و هو غني عني و عنك و عن العالمين جميعا لكن إياك إياك إياك والاغترار بسعة رحمة الله مع الإصرار على المعاصي و اعلم أن الله شديد العذاب كما أنه غفور رحيم فالخلاصة : اكثر من الاستغفار و التوبة و اعلم أن خير البشر حبيبنا و قدوتنا صلى الله عليه و آله وسلم صح عنه أنه كان يستغفر الله في اليوم سبعين مرة و في رواية مائة مرة فكيف بي و بك أيها الحبيب على كثرة ذنوبنا و ضعف نفوسنا فيا أيها المحب فيا أيها الأخوة أيتها الأخوات فل نكثر من التوبة مهما تكرر الذنب ففي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الله عز و جل قال لذلك الرجل الذي تكرر منه الذنب فكرر التوبة قال الله له (( علم عبدي أن له رب يغفر الذنب و يأخذ به غفرت لعبدي غفرت لعبدي(4/31)
غفرت لعبدي فليعمل ما شاء ) و الحديث متفق عليه , و عن عقبة بن عامر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال (( يا رسول الله أحدنا يذنب قال الرسول صلى الله عليه و سلم يكتب عليه قال : ثم يستغفر منه قال يغفر له و يتاب عليه فيعو فيذنب قال يكتب عليه قال ثم يستغفر منه و يتوب قال يغفر له و يتاب عليه قال فيعود فيذنب قال صلى الله عليه و سلم يكتب عليه و لا يمل الله حتى تملوا )) أخرجه الحاكم وقال هذا حديث صحيح على شرط البخاري و لم يخرجاه و وافق الذهبي , و أخرجه الطبراني في الكبير و قال في المجمع إسناده حسن , فيا أخي الكريم إياك و إهمال التوبة مهما كانت معاصيك و المهم أن تكون جاداً في التوبة صادقاً فيها فأغلق الباب أغلق أبواب الشيطان و سد المنافذ و أفعل الأسباب و ستجد أثر ذلك على قلبك حفظك الله و رعاك من كل سؤ و وفقك للتوبة النصوح , أيها الأخ الحبيب و أيتها الأخت الغالية لست بعيد و إنك قريب جداً , إن السعادة و الراحة في الاستقامة و أنت قريب منها المهم أن يكون عندك العزم و الهم الصادق قال ابن القيم في الفوائد : أخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق المحشو بالآفات إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه ما لا عين رأت فهناك لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب (انتهى كلامه) , فيا أيها المحب ارجع إلى فطرتك و إلى الخير في نفسك ستجد أنك قريب من الهداية و الهداية قريبة منك
فإذا استقام على الهداية ركبنا يخضر فوق هضابنا الأقدام
و تلف أغصان السعادة فوقنا و تزول من أسطاعها الأسقام(4/32)
إن الدنيا بأموالها و مناصبها و قصورها لا تستاهل قطرة دمع منك حتى و لا هماً أو زفرة من زفراتك فالرسول صلى الله عليه و سلم يقول((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله و ما ولاه و عالم و متعلماً)) كما عند الترمذي و الله عز و جل يقول (( و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب)) فيا أيها المحب إن نفسك غالية و ربما اليوم أو غداً أو بعد غداً قالوا مات فلان و الموت حق و لكن شتان بين من مات على صلاح و هداية وبين من مات على فسق و غواية فإياك والغفلة و طول الأمل و الاغترار بالصحة فكم من صحيح مات من غير علة و كم من سقيماٍ عاش حيناً
من الدهر ربما تضحك و تسعد و تنام مسروراً و قد لا تصبح ,
يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارى
فيا أيها الأخ و يا أيتها الأخت بادرا إلى الفضائل و سارعا إلى الصفات الحميدة و الأفعال الجميلة و كل ذلك بالإيمان الصادق بالله عز وجل نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا جميعاً و أن يجعلنا من الصادقين الصالحين المصلحين اللهم تب علينا توباً صادقاً نصوحاً اللهم أغفر لنا و ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين سبحانك اللهم و بحمدك نستغفرك و نتوب إليك نشهد أن لا اله إلا أنت و صلى الله وسلم و بارك على نبينا محمد و على آله وصحبه و سلم تسليماً كثيراً
س/يقول ماهي الخطة و البرنامج المثالي أو الطريقة المثلى في دعوة الشباب الذين أصبحت الرياضة الهم الأكبر مع حبهم للدين ؟(4/33)
ج/طبعاً رسم البرنامج أو الخطة يطول لمثل هؤلاء و لكن هو فقه يؤتيه الله عز وجل من شاء و هي الحكمة يؤتيها الله عز وجل من يشاء و لكني أقول للأحبة و الشباب الصالحين رفقاً رفقاً بإخوانكم ربما كنتم يومً من الأيام أمثالهم و ربما سرتم يوماً من الأيام على طريقهم فهويناً عليهم فكلمة طيبة و إرشادً مرة بشريط ومرة بكلمة و مرة برحلة و مرة نعيد ذلك ستجد أنهم بدئوا الطريق و عرفوه , المهم أن تسعى لربط هذا القلب بالله عز و جل قلبك و قلب أخيك أن يكون لنا صلة بالله سبحانه و تعالى إذا فليس من المناسب أن نأتي لأمثال هؤلاء الشباب الذي تعلقت قلوبهم بالرياضة مثلاً فنقطع عليهم الطريق أو نريدهم مباشرة أن ينتقلوا من حب الرياضة إلى حب الدين أو من الجلوس في الرياضة و الملاعب إلى الجلوس في المساجد و الحلق أقول هذا يبدو صعب و لكن علينا أن نكون رفقاء أن نسعى مع إخواننا بتئوده وحكمة و كلمة طيبة و سنجد أثر ذلك معهم لكن من المؤسف أنني أسمع كثيراً من بعض الرياضيين و من بعض الشباب المحبين للرياضة مثلاً كلامهم على بعض الشباب الطيبين أو انتقاداتهم على بعض الصالحين و قد تكون هذه الانتقادات خاطئة و الكثير منها خاطئ إن شاء الله و لكن هناك منها ما هو صواب إذا أردنا أن نقف على العلاج فهناك من بعض الانتقادات التي توجه لبعض الصالحين نعم فيها صواب فعلى الصالح أن يراجع نفسه و أن يعلم عندما يجلس مع أمثال هؤلاء أو غيرهم من إخوانه أن يعلم انه لا يمثل نفسه فقط إنما يمثل هذا المنهج و هذه الشريعة التي يريد الله عز وجل بها و من استعان بالرفق و استعان بالله عز و جل و سأل الله عز و جل أن يعينه على هداية فلان أو أن يهدي فلان و الدعاء لا شك أنه ثلاثة أرباع الطريق لكل مسلم و الدعاء إلى الله سبحانه و تعالى سيجد الطريق بمشيئة الله و نتمنى أن نحمل هم إيصال الخير لإخواننا يا أحبه يقسم بعض الناس ا سمع يوم من الأيام موعظة و لم يسمع ذكر لله(4/34)
عز و جل لماذا ؟ مع أن ما شاء الله تأتي لمدينة حي من الأحياء ما أكثر الصالحين و الخيرين فيها من الشباب و الفتيات مسؤولية من هذا الأمر ؟ مسؤولية الصالحين و الصالحات أمثالكم بارك الله فيكم أن نوصل الخير للناس بقدر ما تستطيع إن إهدائك شريطاً واحداً لشاب من الشباب و لأخ من إخوانك بأي طريقة ربما يفتح الله عز و جل قلوباً عمياً و ليس قلباً واحداً و أذكر أن أحد التائبات تقول نزلت من سيارة المدرسة في الطريق و تقول عن نفسها أنها كانت مغرمة جداً بالأغاني خاصة الغربية و تقول أن حجرتها مليئة بالصور للموسيقيين الغربيين تقول فمرة أنها نزلت من سيارة المدرسة و إذا بقدمي ترتطم بشيء قاس فنظرت إليه فأخذته و إذا به شريط أبيض تقول فوضعته في شنطتي ضنا مني أن فيه مادة أي موسيقى غربية تصلح لي تقول فوصلت إلى غرفتي و بعد أيام و أنا اقلب حقيبتي و جدت الشريط فأخذته فإذا به موعظة عن الموت تقول فأنقلب حالي و استمعت إلى الشريط و تغيرت نفسي و علمت أني على خطاء تقول بعد ذلك فقمت على جميع الأشرطة التي عندي فأبدلتها و قمت على جميع الصور فأحرقتها و قد هداني الله عز و جل و أصبحت من الأخوات النشيطات في الدعوة إلى الله عز و جل بسبب شريط و جدته ملقى على الأرض فلماذا نحرم أنفسنا الخير الدال على الخير كفاعله و لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم فالله الله بأصال الخير للاخوة أو للناس جميعاً بقدر ما نستطيع فأنتم شهداء الله في الأرض أيها الأحبة , هذه قصة من أحد الإخوة يحب المشاركة لا بأس أن نختم بها يقول أحد أقاربي و قد مات في المستشفى كان رجلاً صالحاً حافظ لكتاب الله يعمل في هيئة الأمر بالمعروف و النهي هن المنكر من أهل قيام الليل يقول الطبيب أنه يتكلم وهو في الغيبوبة و لا أعلم ماذا يقول و عندما تثبت الطبيب فإذا به يقرأ القرآن وهو في الإنعاش و مات على ذلك نسأل الله عز و جل أن يتقبله عنده و يرحمنا برحمته و أن(4/35)
يحسن خاتمتنا جميعاً هو ولي ذلك والقادر عليه و نأسف للاخوة للإطالة عليهم و لكن حباً لهم وحباً لإيصال الفائدة أسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما سمعنا و يعلمنا ما ينفعنا و أ، يوفقنا لما يحبه و يرضاه ((أيها الأخوة بموجب فهرس تسجيلات التقوى فإن رقم هذا الشريط هم 11491 أحد عشر ألفاً و أربع مائة و واحد وتسعون ))(4/36)
بسم الله الرحمن الرحيم
المشتاقون إلى الجنة
الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلا
ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها فلم يتخذوا سواها شغلا
وسهل لهم طرقها فسلكوا السبيل الموصلة إليها ذللا
وكمل لهم البشرى بكونهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولا.
الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا
وباعث الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
والحمد لله الذي رضى من عباده باليسير من العمل
وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل
وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة
وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً ، ولم يتركهم سدى
بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم
عرض على السموات والأرض والجبال فأبين وأشفقن منه إشفاقاً ووجلا
وحمله الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً
والعجب كل العجب من غفلة من لحظاته معدودة عليه
وكل نفس من أنفاسه إذا ذهب لم يرجع إليه
وإنما يتبين سفه المفرط يوم الحسرة والندامة
إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً
فالأولون في روضات الجنة يتقلبون وعلى أسرتها يجلسون وعلى بطائنها يتكئون
وأولئك في أودية جهنم يصطلون ، جزاء بما كانوا يعملون
ومن هنا اشتاقت نفوس الصالحين إلى الجنة
حتى قدموا في سبيل الوصول إليها كلَّ ما يملكون
هجروا لذيذ النوم والرقاد ، وبكوا في لأسحار ، وصاموا النهار ، وجاهدوا الكفار ،
فلله كم من صالح وصالحة اشتاقت إليهم الجنة كما اشتاقوا إليها
من حسن أعمالهم ، وطيب أخبارهم ، ولذة مناجاتهم ،
وكان لكل واحد منهم ، ولكل واحدة منهن مع الله جل جلاله أخبار وأسرار ، لا يعرفها غيره أبداً، جعلوها بين أيديهم عُدداً
لا يطلبون جزاءهم إلا منه ، فطريقهم إليه ، ومعولهم عليه ، ومآلهم يكون بين يديه(5/1)
فلا إله إلا الله .. كم بكت عيون في الدنيا خوفاً من الحرمان من النظر إلى وجه الله الكريم
فهو سبحانه أعظم من سجدت الوجوه لعظمته ، وبكت العيون حياءً من مراقبته ، وتقطعت الأكباد شوقاً إلى لقائه ورؤيته
فالمشتاقون إلى الجنة لهم مع ربهم تعالى أخبار وأسرار
فإليكم شيئاً من أخبارهم ، وطرفاً من أسرارهم ..
أول هذه الأخبار
ما أورده ابنُ الجوزي في صفة الصفوة وابنُ النحاس في مشارع الأشواق عن رجل من الصالحين اسمه أبو قدامة الشامي ..
وكان رجلاً قد حبب إليه الجهاد والغزو في سبيل الله ، فلا يسمع بغزوة في سبيل الله ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارع وقاتل مع المسلمين فيه ، فجلس مرة في الحرم المدني فسأله سائل فقال :
يا أبا قدامة أنت رجل قد حبب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهاد والغزو
فقال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك :
خرجت مرة مع أصحاب لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور ( والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدود البلاد الإسلامية لصد الكفار عنها ) فمررت في طريقي بمدينة الرقة ( مدينةٍ في العراق على نهر الفرات ) واشتريت منها جملاً أحمل عليه سلاحي ، ووعظت الناس في مساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله ، فلما جن علي الليل اكتريت منزلاً أبيت فيه ، فلما ذهب بعض الليل فإذا بالباب يطرق عليّ ، فلنا فتحت الباب فإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها ،
فقلت : ما تريدين ؟
قالت : أنت أبو قدامة ؟
قلت : نعم ،
قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور ؟
قلت : نعم ، فدفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية ،
فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها : إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما فيَّ وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي ،
قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها ، وشدة شوقها إلى المغفرة والجنة .(5/2)
فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة ، فلما بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : يا أبا قدامة يا أبا قدامة ، قف عليَّ يرحمك الله ،
قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي : تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذا الفارس ، فلما رجعت إليه ، بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائباً ،
فقلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم للقتال .
فقلت له : أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيراً يلزمك القتال قبلتك ، وإن كنت صغيراً لا يلزمك الجهاد رددتك .
فقال : فكشف اللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام عمره سبع عشرة سنة
فقلت له : يا بني ؟ عندك والد ؟ قال : أبي قد قتله الصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي .
قلت : أعندك والدة ؟
قال : نعم ، قلت : ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنة تحت قدمها
فقال : أما تعرف أمي ؟ قلت : لا ،
قال : أمي هي صاحبة الوديعة ، قلت : أي وديعة ؟
قال : هي صاحبة الشكال ، قلت : أي شكال ؟
قال : سبحان الله ما أسرع ما نسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال ؟؟
قلت : بلى ، قال : هي أمي ، أمرتني أن أخرج إلى الجهاد ، وأقسمت عليَّ أن لا أرجع ..
وإنها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدبر ، وهَب نفسك لله واطلب مجاورة الله ، ومساكنة أبيك وأخوالك في الجنة ، فإذا رزقك الله الشهادة فاشفع فيَّ
ثم ضمتني إلى صدرها ، ورفعت رأسها إلى السماء ، وقالت : إلهي وسيدي ومولاي ، هذا ولدي ، وريحانةُ قلبي ، وثمرةُ فؤادي ، سلمته إليك فقربه من أبيه ..
سألتك بالله ألا تحرمني الغزو معك في سبيل الله ، أنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد ، فإني حافظ لكتاب الله ، عارف بالفروسية والرمي ، فلا تحقرَنِّي لصغر سني ..(5/3)
قال أبو قدامة : فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا ، فوالله ما رأينا أنشط منه ، إن ركبنا فهو أسرعنا ، وإن نزلنا فهو أنشطنا ، وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً ...
………..
إذ رأيت قصراً يتلألأ أنواراً لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وإذا شُرفاته من الدرّ والياقوت والجوهر ، وأبوابه من ذهب ، وإذا ستور مرخية على شرفاته ، وإذا جوار يرفعن الستور ، وجوههن كالأقمار ..
…..
تقدم يرحمك الله فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر ، قوائمه من الفضة البيضاء ، عليه جارية وجهها كأنه الشمس ، لولا أن الله ثبت علي بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية ..
فلما رأتني الجارية قالت : مرحباً بولي الله وحبيبه .. أنا لك وأنت لي
فلما اقتربت منها قالت : .. ..
.. .. ..
فجالت الأبطال ، ورميت النبال ، وجردت السيوف ، وتكسرت الجماجم ، وتطايرت الأيدي والأرجل ..
واشتد علينا القتال حتى اشتغل كلٌ بنفسه ، وقال كل خليل كنت آمله ..
.. .. .. .. ..
فالتفت أبو قدامة إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام
وإذا الرماح قد تسابقت إليه ، والخيلُ قد وطئت عليه
فمزقت اللحمان ، وأدمت اللسان
وفرقت الأعضاء ، وكسرت العظام ..
وإذا هو يتيم ملقى في الصحراء
قال أبو قدامة : فأقبلت إليه ، وانطرحت بين يديه ، وصرخت : هاأنا أبو قدامة .. هاأنا أبو قدامة ..
فقال : الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك ، فاسمع وصيتي
قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله ، ورحمةً بأمه ، وأخذت طرف ثوبي أمسح الدم عن وجهه
فقال : تمسح الدم عن وجهي بثوبك !! بل امسح الدم بثوبي لا بثوبك ، فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك ..
قال أبو قدامة : فبكيت والله ولم أحر جواباً ..(5/4)
فقال : يا عم ، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة ، ثم تبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه ، وأن ولدها قد قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر ، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة ، ..
ثم قال : يا عم إني أخاف ألا تصدق أمي كلامك فخذ معك بعض ثيابي التي فيها الدم ، فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول ، وأن الموعد الجنة إن شاء الله ..
يا عم : إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختاً لي صغيرة عمرها تسع سنوات .. ما دخلت المنزل إلا استبشرت وفرحت ، ولا خرجت إلا بكت وحزنت ، وقد فجعت بمقتل أبي عام أول وفجعت بمقتلي اليوم ، وإنها قالت لي عندما رأت علي ثياب السفر :
يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا ، فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات ..
ثم تحامل الغلام على نفسه وقال : يا عمّ صدقت الرؤيا ورب الكعبة ، والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشم ريحها ..ثم انتفض وشهق شهقتين ، ثم مات ..
قال أبو قدامة : فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أن أرجعَ إلى الرقة وأبلغَ رسالته لأمه ..
.. .. .. .. .. .. ..
قدمت هذه المرأة الصالحة كل ذلك في سبيل أن تدخل الدار التي اشتد شوقها إليها ،
وقدم ولدُها نفسَه رخيصةً لله ، وتناسى لذاتِه وشبابه ، فليت شعري ماذا قدم للجنة المفرطون أمثالُنا ؟!
رحم الله فتى هذب الدين شبابه
ومضى يزجي إلى العلياء في عزم ركابه
مخبتاً لله صير الزاد كتابه
وارداً من منهل الهادي ومن نبع الصحابة
إن طلبت الجود منه فهو دوماً كالسحابة
أو نشدت العزم فيه فهو ضرغام بغابة
جاذبته النفس للشر فلم يبد استجابة
متقٍ لله تعلو من يلاقيه المهابة
رقّ منه القلب لكن زاد في الدين صلابة
بلسم للأرض يمحو عن محياها الكآبة
ثابت الخطو فلم تُطف الأعاصير شهابه
جرّبته صولة الدهر فألفت ذا نجابة
إن يقم يوماً خطيباً يُسمعُ الصمَّ خطابَه
أو يسر في الدرب يوماً أبصر الأعمى جنابه(5/5)
مسلم يكفيه فخراً أن للدين انتسابه
المشتاقون إلى الجنة ، ارتفع قدرها عندهم ، حتى لم يرضوا لها ثمناً إلا أرواحَهم التي بين جنوبهم ..
ولماذا لا يبذلون للجنة ذلك وأكثر
وهي الدار التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأقل أهلها نعيماً ، وأدناهم ملكاً فكان له في ذلك نبأ عجيب ..
ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" آخر من يدخل الجنة : رجل فهو يمشي على الصراط مرة ، ويكبو مرة ، وتسفعه النار مرة ، فإذا جاوزها التفت إليها ، فقال : تبارك الذي نجاني منك ، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين .
فترتفع له شجرة فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة أستظل بظلها وأشرب من مائها
فيقول الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها ؟
فيقول : لا يا رب ، ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره ، لأنه يرى مالا صبر له عليه ، فيدنيه منها فيستظل بظلها ، ويشرب من مائها .
ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى ، فيقول: يا رب أدنني من هذه لأشرب من مائها ، وأستظل بظلها لا أسألك غيرها
فيقول : يا ابن آدم ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها ؟
فيقول : لعلي إن أدنيتك منها أن تسألني غيرها ، فيعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى مالا صبر له عليه فيدنيه منها ، فيستظل بظلها ، ويشرب من مائها
ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين
فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة لأستظلَّ بظلها وأشربَ من مائها لا أسألك غيرها
فيقول : يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ؟
قال : بلى يا رب ، هذه لا أسألك غيرها وربه يعذره لأنه يرى مالا صبر له عليه فيدنيه منها ، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة
فيقول: يا رب أدخلنيها
فيقال له : ادخل الجنة فيقول : رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم(5/6)
فيقول الله : يا ابن آدم ما يرضيك مني ؟!
أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا ؟
فيقول : رضيت رب
فيقول : لك ذلك ومثله ، ومثله ، ومثله ، ومثله
فيقول في الخامسة : رضيت رب
فيقول الله تعالى : لك ذلك وعشرة أمثاله ، ولك ما اشتهت نفسك ولذّت عينك
ثم يقول الله تعالى له : تمن ، فيتمنى ، ويذكره الله : سل كذا وكذا ، فإذا انقطعت به الأماني
ثم يدخل بيته ويدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان : الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك
فيقول: ما أعطى أحد مثل ما أعطيت .
قال ( يعني موسى عليه السلام ) : رب فأعلاهم منزلة ؟
قال : أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر ) فـ
سبحان من غرست يداه جنة الفردوس عند تكامل البنيان
ويداه أيضا أتقنت لبنائها فتبارك الرحمن أعظم بان
لما قضى رب العباد العرش قا * ل تكلمي فتكلمت ببيان
قد أفلح العبد الذي هو مؤمن * ماذا ادخرت له من الاحسان
فيها الذي والله لا عين رأت * كلا ولا سمعت به الأذنان
كلا ولا قلب به خطر المثا * ل له تعالى الله ذو السلطان
هي جنة طابت وطاب نعيمها * فنعيمها باق وليس بفان
دار السلام وجنة المأوى ومنزل عسكر الايمان والقرآن
أمشاطهم ذهب ورشحهم فمسك خالص ياذلة الحرمان *
هذا وسنهم ثلاث مع ثلا * ثين التي هي قوة الشبان
وبناؤها اللبنات من ذهب وأخـ ـرى فضة نوعان مختلفان *
وقصورها من لؤلؤ وزبرجد أو فضة أو خالص العقيان *
وكذاك من در وياقوت به * نظم البناء بغاية الاتقان
والطين مسك خالص أو زعفرا * ن جابذا أثران مقبولان
حصباؤها در وياقوت كذا ك لآليء نثرت كنثر جمان
وترابها من زعفران أو من المسك الذي ما استل من غزلان
أنهارها في غير أخدود جرت * سبحان ممسكها عن الفيضان
من تحتهم تجري كما شاؤوا مفجرة وما للنهر من نقصان
عسل مصفى ثم خمر ثم أنهار من الالبان
سبحان ذي الجبروت والملكوت وال * إجلال والاكرام والسبحان(5/7)
والله أكبر عالم الاسرار والاعلان واللحظات بالاجفان *
والحمد لله السميع لسائر الأصوات من سر ومن اعلان *
وهو الموحد والمسبح والممجد والحميد ومنزل القرآن *
والأمر من قبل ومن بعد له * سبحانك اللهم ذا السلطان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشتاقون إلى الجنة لهم مع ربهم أخبار وأسرار بل كانوا إذا حصلوا الجنة لم يلتفتوا إلى غيرها أبداً
حارثة بن سراقة غلام من الأنصار .. له حادثة عجب ذكرها أصحاب السير وأصلها في صحيح البخاري
دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إلى بدر ..
فلما أقبلت جموع المسلمين كانت النساء ..
وكان من بين هؤلاء الحاضرين عجوز ثكلى ، كبدها حرى تنتظر مقدم ولدها ..
فلما دخل المسلمون المدينة بدأ الأطفال يتسابقون إلى آبائهم ، والنساء تسرع إلى أزواجها ، والعجائز يسرعن إلى أولادهن ، .. وأقبلت الجموع تتتابع ..
جاء الأول .. ثم الثاني .. والثالث والعاشر والمائة ..ولم يحضر حارثة بن سراقة ..
وأم حارثة تنظر وتنتظر تحت حرّ الشمس ، تترقب إقبال فلذة كبدها ، وثمرةِ فؤادها ،
كانت تعد في غيابه الأيام بل الساعات ، وتتلمس عنه الأخبار ، تصبح وتمسي وذكره على لسانها ..
تسائل عنه كل غاد ورائح وتوميء إلى أصحابه وتسلم
فلله كم من عبرة مهراقة وأخرى على آثارها لا تقدم
وقد شرقت عين العجوز بدمعها فتنظر من بين الجموع وتكتم
وكانت إذا ما شدها الشوق والجوى وكاد <ن® <ب@يل تفصم
تذكر نفساً بالتلاقي وقربه وتوهمها لكنها لا توهم
وكم يصبر المشتاق عمن يحبه وفي قلبه نار الأسى تتضرم
ترقبت العجوز وترقبت فلم تر ولدها ..
فتحركت الأم الثكلى تجر خطاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودموعها .. ..(5/8)
فنظر الرحيم الشفيق إليها فإذا هي عجوز قد هدها الهرم والكبر ، وأضناها التعب وقلّ الصبر ، وقد طال شوقها إلى ولدها ، تتمنى لو أنه بين يديها تضمه ضمة ، وتشمه شمة ولو كلفها ذلك حياتها ..
اضطربت القدمان ، وانعقد اللسان ، وجرت بالدموع العينان ..
كبر سنها ، واحدودب ظهرها ، ورق عظمها ، ويبس جلدها ، واحتبس صوتها في حلقها ..
وقد رفعت بصرها تنتظر ما يجيبها الذي لا ينطق عن الهوى ..
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلها وانكسارها ، وفجيعتَها بولدها ، التفت إليها وقال :
ويحك يا أم حارثة أهبلت ؟! أوجنةٌ واحدة ؟! إنها جنان ، وإن حارثة قد أصاب الفردوس لأعلى ..
فلما سمعت العجوز الحرى هذا الجواب : جف دمعها ، وعاد صوابها ، وقالت : في الجنة ؟ قال : نعم .
فقالت : الله أكبر .. ثم رجعت الأم الجريحة إلى بيتها ..
رجعت تنتظر أن ينزل بها هادم اللذات ..ليجمعها مع ولدها في الجنة ..
لم تطلب غنيمة ولا مالاً ، ولم تلتمس شهرة ولا حالاً ، وإنما رضيت بالجنة ..
ما دام أنه في الجنة يأكل من ثمارها الطاهرة ، تحت أشجارها الوافرة ، مع قوم وجوههم ناضرة ، وعيونهم إلى ربهم ناظرة ، فهي راضية ، ولماذا لا يكون جزاؤهم كذلك ..
وهم طالما يبست بالصيام حناجرهم ، وغرقت بالدموع محاجرهم ..
طالما غضوا أبصارهم عن الحرام ، واشتغلوا بخدمة العزيز العلام ..
فهم في جنة ربهم يتنعمون ] على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزِفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزاء بما كانوا يعملون * لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما [
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/9)
وأينما سرت في ركب الصالحين لتجدن طلب الجنة يملأ قلوبهم ويشغل نفوسهم .. قد تعلقت بها أرواحهم حتى لم تقم لغيرها وزنا .. فهان عليهم كل شيء في سبيل الوصول إليها ..
أبو الدحداح ثابت بن الدحداح .. كان له نبأ عجب ..
روى البخاري ومسلم عن أنس y : أن غلاماً يتيماً من الأنصار كان له بستان ملاصق لبستان رجل منذ سنين ، فأراد الغلام أن يبني جداراً يفصل بستانه عن بستان صاحبه ..
نعم خرجت أم الدحداح وخرج أبو الدحداح وتركوا البستان والأشجار ، وفارقوا الظلال والثمار
نقلوا عيشَ دنياهم من الحدائق إلى المضائق ،
تركوا الشهوات ، واشتغلوا بالقربات ، عطشوا في دنياهم وجاعوا ، وذلوا لربهم وأطاعوا ، فارقوا في طلب رضاه كلَّ شيء وباعوا
فعل ذلك أبو الدحداح حتى يكون هو وزوجته مع أولادهما في ظلال على الأرائك يتكئون ] "إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون * هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون * لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون * سلام قولا من رب رحيم [
ولا يزالون في مزيد فهو سبحانه البر الرؤوف الرحيم
] "إن المتقين في جنات ونعيم * فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم * كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون * متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين * "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين * وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون * يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم * ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون * وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم [
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/10)
المشتاقون إلى الجنة : لم يكتفوا بقيام الليل وصيام النهار ، والعفة عن النظر إلى المحرمات ، والاشتغال بالطاعات ، بل نظروا إلى أعز ما يملكون ، إلى أنفسهم التي بها قوام حياتهم ، ثم قدموها في سبيل رضا العزيز الحكيم ..
في معركة بدر .. اشتدّ البلاء على المسلمين ..
إذ قد خرج المسلمون لا لأجل القتال وإنما خرجوا لأخذ قافلة لقريش كانت قادمة من الشام ، ففوجئوا بأن القافلة قد فاتتهم وأن قريشاً قد جاءت بجيش من مكة كثيرِ العدد والعدة لحربهم ..
فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ضعف أصحابه وقلة عددهم وضعف عتادهم ..
فاستغاث بربه ، وأنزل به ضره ومسكنته ، ثم خرج إلى أصحابه فإذا هم قد لبسوا للحرب لأمتها ، واصطفوا للموت كأنما هم في صلاة ،
تركوا في المدينة أولادهم ، وهجروا بيوتهم وأموالهم ، شعثاً رؤوسهم ، غبراً أقدامهم ، ضعيفة عدتهم وعتادهم .
فلنا رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، صاح بهم وقال :
قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة ..
فقام عمير بن الحمام ..
نعم رحل عمير من دار الأشرار ونزل في جوار الملك الجبار ، انتفع بما قدم من صيام النهار ، ورفعه بكاء الأسحار ، وسكن في جنات تجري من تحته الأنهار ..برحمة العزيز الحكيم ..
الذي أجزل لهم الثواب ، وسماهم الأحباب ، وأمنهم من العذاب ، الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ،
لهم فيها ما تشتهي أنفسهم ، ولا يزالون في مزيد
] في سدر مخضود * وطلح منضود * وظل ممدود * وماء مسكوب * وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة * وفرش مرفوعة * إنا أنشأناهن إنشاء * فجعلناهن أبكارا * عربا أترابا * لأصحاب اليمين [
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشتاقون إلى الجنة لهم مع ربهم تعالى أخبار وأسرار
كلما زاد ربهم في بلائهم وامتحانهم ، ازدادوا صبراً واحتساباً(5/11)
فهو سبحانه أكبر المنعمين ، ولا يقبل أن يعامله عباده بالمجان بل يعظم لهم الأجور
وما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها ..
استمع إلى هذا الخبر العجيب
روى البخاري عن عطاء بن أبي رباح
الأمة السوداء :
جاءت إليه صلى الله عليه وسلم تلتمس منه أن يغير مجرى حياتها فقد تعذبت فيها أشد العذاب ..لا أحد يتزوجها .. ولا يجلس معها .. الناس يخافون منها .. والأطفال يضحكون منها .. تصرع بين الناس في أسواقهم .. وفي بيوتهم .. وفي مجالسهم .. حتى استوحشوا من مخالطتها .. ملت من هذه الحياة فجاءت إلى الرحيم الشفيق .. ثم صرخت من حرّ ما تجد :
إني أصرع .. فادع الله تعالى أن يشفيني ..
فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من كلامه ..
نظرت المرأة وتأملت في حالها ومرضها .. ورددت كلامه صلى الله عليه وسلم في عقلها ..
فإذا هو يخيرها بين المتعة في دنيا فانية يمرض ساكنها ، ويجوع طاعمها ، ويبأس مسرورها ، وبين دار ليس فيها ما يشينها ، ولا يزول عزها وتمكينها ،
دار قد أشرقت حِلاها ، وعزت علاها ،
دار جلَّ من بناها ، وطاب للأبرار سكناها ، وتبلغ النفوس فيها مناها
فقالت الأمة المريضة يا رسول الله : بل أصبر .. أصبر يا رسول الله ..
وصبرت حتى ماتت .. وليتعب جسدها ..ولتحزن نفسها ..ما دام أن الجنة جزاؤها ..
الله أكبر .. زال نصبهم ، وارتفع تعبهم ، وحصل مقصودهم ، ورضي معبودهم ..ما أتم نعيمهم ، وأعز تكريمهم ، يتقون في الدنيا .. ليفوزوا يوم القيامة ..
] إن للمتقين مفازا * حدائق وأعنابا * وكواعب أترابا * وكأسا دهاقا * لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا * جزاء من ربك عطاء حسابا"[
في الجنة :
أعد الله لهم القصور والأرائك ، وأخدمهم الغلمان والملائك ، وأباحهم الجنان والممالك ، وسلم عليهم الرب العظيم المالك ] سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار [
قال الله ] والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم(5/12)
صبروا ------ على الأمراض والأسقام ، وعلى الأدواء والأورام ،
صبروا ------ على الفقر واللأواء ، والضيق والبلاء ..
صبروا ------ على حفظ الفروج ، وغض الأبصار ، ومناجاة ربهم في الأسحار ..
] صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار * جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" [
أولئك الصابرون الذين اشتاقوا إلى الجنات ، واستبشروا فتحملوا مرضهم ، وكتموا أنينهم ، وسكبوا في المحراب دموعهم ، فما مضى إلا قليل حتى فرحوا بجنات النعيم
وإذا رأى أهل العافية يوم القيامة ما يؤتيه الله تعالى من الأجور لأهل البلاء ودوا لو أن جلودهم قرضت بالمقاريض ..
[ "جناتِ عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بل استمع إلى هذا الامتحان الصعب الذي أثبت فيه المحبون أنهم إلى ربهم مشتاقون ، وفي رضاه راغبون ، ولسان حالهم :
فليتك تحلوا والحياة مريرة . .
الأنصار في العقبة :
عن جابر . قال : مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم ، عكاظ و مجنة ، و في المواسم يقول : من يؤويني ؟ من ينصرني ؟ حتى أبلغ رسالة ربي و له الجنة فلا يجد أحداً يؤويه و لا ينصره ، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر ـ كذا قال فيه ـ فيأتيه قومه و ذوو رحمه فيقولون احذر غلام قريش لا يفتنك ، و يمضي بين رحالهم و هم يشيرون إليه بالأصابع ..
فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة ..
فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك ؟(5/13)
قال : تبايعونني على السمع و الطاعة في النشاط و الكسل ، و النفقة في العسر و اليسر ، و على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و أن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم ، و على أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم و أزواجكم و أبناءكم
فقال العباس بن عبادة الأنصاري : يا معشر الخزرج ، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟
قالوا : نعم !
قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال ، و قتل الأشراف ، فخذوه ، فهو و الله خير الدنيا و الآخرة .
وقام أسعد بن زرارة فقال : رويداً يا أهل يثرب ، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وأن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة و قتل خياركم و تعضكم السيوف . فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله ، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه . فبيبنوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله .
قالوا : يا رسول الله إن بيننا و بين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها ، وإنا نأخذك على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ؟
قال : الجنة
قالوا : ابسط يدك ،
فبسط يده فبايعوه "
فعلوا كل ذلك طمعاً في مغفرة الله تعالى ، وخوفاً من شر يوم الحسرة والندامة(5/14)
[ فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا * متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا * ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا * ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا * قوارير من فضة قدروها تقديرا * ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا * عينا فيها تسمى سلسبيلا * ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا * وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا * عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا * إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ] .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي معركة أحد : كان للمحبين امتحان آخر ..
روى مسلم في صحيحه : عن أنس بن مالك أن المشركين لما رهقوا النبي وهو في سبعة من الأنصار ورجل من قريش ، قال : من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة ؟ فجاء رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل . فلما رهقوه أيضاً قال : من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة ، حتى قتل السبعة ، فقال رسول الله : ما أنصفنا أصحابنا ..
فهؤلاء السبعة ملوك على الأسرة في الجنة ، ومن صدق الله صدقه الله
وهم الملوك على الأسرة فوق ها * تيك الرؤوس مرصع التيجان
ولباسهم من سندس خضور ومن * إستبرق نوعان معروفان
هذا وتصريف المآكل كل منهم * عرق يفيص لهم من الابدان
كروائح المسك الذي ما فيه خلـ * ط غيره من سائر الألوان
فتعود هاتيك البطون ضوامرا * تبغي الطعام على مدى الازمان
لا غائط فيها ولا بول ولا * مخط ولا بصق من الانسان
ويرونه سبحانه من فوقهم * رؤيا العيان كما يرى القمران
أو ما سمعت منادي الايمان يخبر عن منادي جنة الحيوان
يا أهلها لكم لدى الرحمن وعد وهو منجزه لكم بضمان
قالوا أما بيضت أوجهنا كذا * أعمالنا ثقلت ففي الميزان
وكذاك قد أدخلتنا الجنات حين أجرتنا من مدخل النيران
فيقول عندي موعد قد أن أن * أعطيكموه برحمتي وحناني(5/15)
فيرونه من بعد كشف حجابه * جهرا روى ذا مسلم ببيان
والله لولا رؤية الرحمن في الجنات ما طابت لذي العرفان
والله ما في هذه الدنيا ألذ من اشتياق العبد الرحمن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشتاقون إلى الجنة ، قد يذنبون ويخطئون ، فكل بني آدم خطاء ، لكنهم يسرعون إلى التوبة والاستغفار ، ويغلبهم الخوف من العزيز الجبار ..
أولئك الصالحون قد يذنبون لكنهم إذا لاحت لهم ذنوبهم تجافت عن المضاجع جنوبهم ، وإذا ذكر الله وجلت قلوبهم ..
صفوا أقدامهم في المحراب ، وأناخوا مطاياهم على الباب ، في طلب مغفرة الرحيم التواب ..
فهم في محاريبهم أسعد من أهل اللهو في لهوهم ..
فلو أبصرت عيناك موقفهم بها وقد بسطوا تلك الأكف ليرحموا
فلا ترى إلا خاشعاً متذللاً وآخر يبكي ذنبه يترنم
تراهم على المحراب تجري دموعهم بكياً وهم فيها أسرّ وأنعم
ينادونه يا رب يا رب إننا عبيدك لا نبغي سواك وتعلم
وهانحن نرجو منك ما أنت أهله فأنت الذي تعطي الجزيل وتنعم
فما منكم بد ولا عنكم غنى وما لنا من صبر فنسلو عنكم
ومن شاء فليغضب سواكم فلا إذا إذا كنتم عن عبدكم قد رضيتم
فلله ذاك المشهد الأكرم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
ويدنوا به الجبار جل جلاله يباهي بهم أملاكه فهو أكرم
يقول عبادي قد أتوني محبة وإني بهم برٌ أجود وأكرم
فأشهدكم أني غفرت ذنوبهم وأعطيتهم ما أملوه وأَنعَم
حاسبوا أنفسهم أشد المحاسبة ، وصاحوا بها بألسن المعاتبة ، وبارزوا إبليس بالمحاربة ، علموا أن عدوهم الأكبر هو إبليس ، تكبر أن يسجد لأبيهم آدم ، ثم كاد له فأخرجه من الجنة ، ثم أقسم ليحتنكن ذريته إلا قليلاً ،
لم يفرح إبليس منهم بمعصية ، فعجباً لهم من أقوام :
جن عليهم الليل فسهروا ، وطالعوا صحف الذنوب فانكسروا ، وطرقوا باب المحبوب واعتذروا ،
واستمع إلى قصة من أعجب القصص أوردها أبو نعيم في حلية الأولياء وأشار إليها ابن حجر في الإصابة وابن حبان في الثقات(5/16)
وهي عن شاب من الصحابة
غلامٌ لم يتجاوز عمره ست عشرة سنة
ثعلبةُ بن عبد الرحمن ..
فما زالوا يترقبونه حتى نزل ..فإذا هو كأنه فرخ منتوف بالٍ من شدة البكاء ..
نزل منكسَ الرأس .. كسيرَ الفؤاد .. دامعَ العينين .. يجر خطاه على الأرض حزناً وذلاً ..
أيها الأخوة الكرام
هذه هي الجنة .. وهؤلاء هم المشتاقون إليها
الذين راغموا الشيطان .. وتقربوا إلى الرحمن ..
المشتاقون إلى الجنة الذين أخلصوا لله تعالى توحيدهم فلم يدعوا غير الله ، ولم يتوجهوا إلى قبر في طلب حاجة ولم يحلفوا بغير الله تعالى ، ولم يتدنسوا بسحر ولا شعوذة ..بل حرصوا على أن تصفو عقائدهم من شوائب الشرك حتى يلقوا ربهم وهو راض عنهم ..
كيف يكون مشتاقاً إلى الجنة ..ويرجو دخولها من يتمسح بالقبور لطلب البركات ؟ أو يذبح عند هذه القبور تقرباً إلى أهلها ؟ أو يعتقد أن من الأولياء والصالحين من يملك له ضراً أو نفعاً فيتبرك به ويعظمه طلباً لهذا النفع أو دفعاً لذلك الضر ؟
المشتاقون إلى الجنة الذين حفظوا نساءهم ، وأحسنوا تربية أولادهم فعلموهم الصلاة وحفظوهم القرآن ، وأخلصوا في عبادة ربهم ..
المشتاقون إلى الجنة الذين عزموا على الرجوع إليها إذ هي منازلهم الأولى قبل أن يكيد لهم إبليس مكائده ..
فإن تكن اشتقت إلى الجنة فهي قريبة ..
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وحي على السوق الذي فيه يلتقي المحـ ـبون ذاك السوق للقوم يعلم
وحي على روضاتها وخيامها وحي على عيش بها ليس يسأم
وحي على يوم المزيد الذي به زيارة رب العرش فاليوم موسم
فلله برد العيش بين خيامها وروضاتها والثغر في الروض يبسم
ولله واديها الذي هو موعد المز يد لوفد الحب لو كنت منهم
بذيالك الوادي يهيم صبابةً محب يرى أن الصبابة مغنم
ولله أفراح المحبين عندما يخاطبهم من فوقهم ويسلم
ولله أبصارٌ ترى الله جهرة فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم(5/17)
فيا ساهياً في غفلة الجهل والهوى صريع الأماني عن قريب سيندم
أفق قد دنى الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم
وهيئ جواباً عندما تسمع الندا من الله يوم العرض ماذا أجبتموا ؟
به رسلي لما أتوكم فمن يكن أجاب سواهم سوف يخزى ويندم
وخذ من تقى الرحمن أعظم جنة ليوم به تبدوا عياناً جهنم
وينصب ذاك الجسر من فوق متنها فهاوٍ ومخدوشٌ وناج مسلّم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك على فيه المهيمن يختم
فيا ليت شعري كيف حالك عندما تطاير كتب العالمين وتقسم
أتأخذ باليمنى كتابك أم تكن بالأخرى وراء الظهر منك تسلم
وتقرأ فيه كل ما قد عملته فيشرق منك الوجه أو هو يظلم
فبادر إذا ما دام في العمر فسحة وعدلك مقبول وصرفك قيم
فهن المنايا أي واد نزلنه عليها القدوم أو عليك ستقدم
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار ، وأسكنا معهم في دار القرار ، ولا تجعلنا من المخالفين الفجار ، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ، يا من لم يزل ينعم ويجود ، برحمتك …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتبه :
محمد بن عبد الرحمن العريفي
15/11/1420هـ(5/18)
بسم الله الرحمن الرحيم
حسرات
فضيلة الشيخ / علي ابن عبد الخالق القرني
الوجه الأول:
…………………
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول.
وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
وسلم تسليما كثيرا.
(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتنا إلا وأنتم مسلمون)، أما بعد:
عباد الله، فأعلموا أن المتأملَ لحالنِا نحنُ المسلمين اليوم.
وحالِ زماننا وما ظهر فيه الآفاتِ والفتنِ، وما حصل فيه من انفتاحٍ كبيرٍ على الدنيا وزُخرُفيها حتى ظن أهلها أنهم قادرون عليها، أو مخلدون فيها.
إن المتأملَ لذلك ليشعرُ بالرهبةِ والإشفاقِ والخوفِ الشديدِ من مظاهرِ وعواقبِ هذه الحال.
إذ قد قست منا القلوب، وتحجرت العيون، وهُجرَ كتابِ علامِ الغيوب.
بل قُرأ والقلوبُ لاهيةٌ ساهيةٌ في لُججِ الدنيا وأوديتُها سابحةٌ.
كيف لا وقد زينا غير متبعين جدرانَ بيوتنا بآياتِ القرآن، ثم لم نزين حياتَنا بالعمل بالقرآن.
يقرأه البعضُ غير مقتدينَ على الأموات، ثم لا يحكمونه في الأحياء.
بل جُعلت البركةُ في مجردِ حملهِ وتلاوته.
وتُركت بركتُه الحقيقيةُ المتمثلة في إتباعه وتحكيمه امتثالاً لقولِ الله تعالى:
(وهذا كتابُ أنزلناه مباركاً فأتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون).
غفلنا ولم نشعر أننا غفلنا وهذه لعمرُ اللهِ أدهى وأمرُ فينا.
كثُر القلق وغلبَ الهمُ والحزن، وصاحبَ ذلك الأرق.
مكرَ مكراً شديداً بالليلِ والنهار بأساليبَ ووسائلَ خبيثة ماكرةٌ تزينُ الفاحشة وتصدُ عن الآخرةِ.(6/1)
فشت الفواحشُ والمظالم، ونيلَ من الأعراض، وأُكلتُ الأموال.
وظهرت صورُ صارخةِ من الحسد والبغضاء والفرقةِ والخلاف، حتى بين خبراءِ الفضلِ والإحسان. وعندها أستُضعِفَ المسلمون، وتبجحَ وتسلطَ الملحدون والمجرمون.
قلنا ولم نفعل أمام عدونا…….وعلى أحبتنا نقولُ ونفعلُ
قل الاهتمامُ والعنايةُ بركيزةِ الوعظِ والتذكير، كركيزةٍ تربويةٍ مؤثرةٍ مفيدة، فصرت تسمعُ من يقللُ من أهمية كتابٍ أو خطبةٍ أو محاضرةٍ، أو درسُ يركزُ على هذا الجانبِ.
فيقالُ هذا كتابُ وعظي، ومحاضرةُ وعظيه، ومقالٌ عاطفي وكبرت من كلمة:
إن صحَ أن الوعظَ أصبحَ فضلة……..فالموتُ أرحمُ للنفوسِ وأنفعُ
فلولا رياحُ الوعظِ ما خاض زورقُ………ولا عبرت بالمبحرين البواخرُ
عندها عُطلت طاقاتُنا الإيمانية،
وكيفَ يعيشُ في البستان غرس…….إذا ما عُطلت عنه السواقيَ
هبت رياحُ المعصيةِ فأطفأت شموعَ الخشيةِ من قلوبِنا.
وطال علينا الأمدُ فعلى القلوبَ قسوةً، كما قست قلوبُ أهلِ الكتاب فهيَ كالحجارةِ أو أشدُ قسوة.
أسأنا فهم الدينِ الذي هو سرُ تميُزَنا وبقاؤنا فشُغِلنا بالشكلِ عن الجوهر، وبالقالبِ عن القلب، وبالمبنى عن المعنى، بذكرياتُ مجيدةُ وتواريخَ تليدةُ نحتفلُ غالباً مبتدعين غير متبعين.
وأحيانا نهتمُ بطبعِ الكتب الشرعيةِ مفتخرين، ثم نتمردُ على مضمونِها هازئين.
حالُنا كالذي يقبلُ يدَ والدهِ ولا يسمعُ نصحه، إن هذا لهو البلاء المبين.
وإننا نخشى أن نصبحَ في زمرةِ من قال اللهُ فيهم:
( الذين اتخذوا دينَهم لهواً ولعبا، وغرتُهم الحياةُ الدنيا)
وأسوءُ ما تمرُ به أمةُ وأتعسُ ما تمرُ به أمة أن يصبحَ اللهوُ فيها دينا، والدينُ فيها لهواً ثم لا تسمعُ نصحا:
بُح المنادي والمسامعُ تشتكي صمماً……. وأصبحتَ الضمائرُ تشترى
تاهت سفائنُها بحراً ولا……………… هيَ في الشواطئ تظهرُ(6/2)
لهذا كله كان لابد من الوقوفِ بعضِ مشاهدِ الحسرةِ في الأخرى لعل النفوسَ تستيقظُ وتخشعُ وتذلُ فتبادر إلى الحسنى، فما هناك من أمر هو أشد دفعا للنفوس إلى فعل الخير من أمر الآخرة، والوقوف بين يدي من له الأولى والآخرة، فكل ضعف من أسبابه الغفلة عن الآخرة، في ذكر اليوم الآخر سعادة وطمأنينة وسد منيع دون الهم والحزن وعدم السكينة، وعلى ما يحزن طالب الآخرة؟
على أمر حقير يفنى عما قريب؟
كلا، فالآخرة خير وأبقى.
المؤمن باليوم الآخر لا تأثر فيه المصائب لأنه موقن أن المصائب إن لم تزل عنه زال عنها بالموت لا محالة، فلا تذهب نفسه على الدنيا حسرات.
ذكر اليوم الآخر يطهر القلوب من الحسد والفرقة والاختلاف.
ذكره يهدد الظلمة ليرعووا، ويعزي المظلومين ليسكنوا فكل سيأخذ حقه لا محالة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، فلا ظلم ولا هضم:
والوزن بالقسط فلا ظلم ولا…….يأخذ عبد بسوى ما عملا
ذكر اليوم الآخر يمسح على قلوب المستضعفين والمضطهدين والمظلومين مسحة يقين تسكن معه قلوبهم، ثم تثبت شماء وهي تتطلع لما أعده الله للصابرين من نعيم يُنسى معه كل ضر وبلاء وسوء وعناء.
وتتطلع لما أعده للظالمين من بؤس يُنسى معه كل هناء.
فهي معي يا عباد الله إلى مشاهد من الحسرة أسأل الله أن لا تكونوا من أهل الحسرة.
عل ذلك أن تصلح معه القلوب، وتتجه إلى علام الغيوب وتنقاد الجوارح إلى العمل الصالح.
إنه يوم الحسرة:
ومما أدراك ما يومُ الحسرة، يومٍ انذرَ به وخوفَ، وتوعدَ بهِ وهدد، قال الله عز وجل :
(و أنذرهم يومَ الحسرةِ إذ قضيَ الأمرُ وهم في غفلةٍ وهم لا يؤمنون)
إنذارُ و إخبار في تخويفٍ وترهيبٍ بيومِ الحسرةِ حين يقضى الأمر، يوم يجمعُ الأولون والأخرون في موقفٍ واحد، يسألون عن أعمالهم.
فمن آمنَ و أتبع سعِدَ سعادةً لا يشقى بعدها أبدا.(6/3)
ومن تمردَ وعصى شقيا شقاءً لا يسعدُ بعده أبدا، وخسرَ نفسَهُ وأهلَهُ وتحسرَ وندِمَ ندامةً تتقطعُ منها القلوبُ وتتصدعُ منه الأفئدةُ أسفا.
وأيُ حسرةٍ أعظمُ من فواتِ رضاء الله وجنته واستحقاقِ سخطهِ وناره على وجهٍ لا يمكنُ معه الرجوعُ ليُستأنف العملُ، ولا سبيلَ له إلى تغييرِ حالهِ ولا أمل.
وقد كان الحالُ في الدنيا أنهم كانوا في غفلةٍ عن هذا الأمرِ العظيم، فلم يخطر بقلوبِهم إلا على سبيلِ الغفلةِ حتى واجهوا مصيرَهم فيا للندمِ والحسرة، حيثُ لا ينفعُ ندمُ ولا حسرة.
وأنذرهُم يومَ الحسرة، ( يوم يجاءُ بالموت كما في صحيح البخاري كأنه كبشُ أملح فيوقفُ بين الجنةِ والنار فيقال: يا أهلَ الجنةِ هل تعرفون هذا؟
فيشرأبون وينظرونَ ويقولون نعم هذا الموت.
ثم يقالُ يا أهل النارِ هل تعرفون هذا؟
فيشرأبون وينظرونَ ويقولون نعم هذا الموت.
قال، فيأمرُ به فيذبحُ، ثم يقال يا أهلَ الجنةِ خلودُ فلا موت، ويا أهلَ النارِ خلودُ فلا موت).
(وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون).
آه من تأوه حين إذٍ لا ينفع، ومن عيونٍ صارت كالعيون مما تدمع.
إنها حسرةُ بل حسرات، أنباءٌ مهولات، نداماتٌ وتئسفاتٌ ورد ذكرها في غير ما آية من الآيات تصدرُ عن معرضين عن الآيات ولاهين ولاهيات عن يومُ الحسرة والحسرات.
نذكر بعض منها في هذه الخطبة من رسالة (قل هو نبأ عظيم) بتصرف يسير.
إنها تذكرةٌ وعضات، علنا أن نحاسبَ أنفسِنا ما دمنا في مهلةٍ من أعمارٍ وأوقات وقبلَ أن نندمَ حيث لا ينفعُ ندمُ ولا حسرات.
فمن هذه الحسرات "أجاركم الله من الحسرات":
الحسرةُ على أعمالٍ صالحةٍ:
شابتها الشوائبُ وكدرتها مُبطلاتُ الأعمالِ من رياءٍ وعُجبٍ ومنةٍ، فضاعت وصارت هباءً منثورا، في وقتٍ الإنسانُ فيهِ أشدُ ما يكونُ إلى حسنةٍ واحدةٍ:
(وبدا لهم من اللهِ ما لم يكونُ يحتسبون)
(وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاط بهم ما كانوا به يستهزئون)(6/4)
فكيفَ تقيكَ من بردٍ خيامٌ………إذا كانت ممزقةَ الرواقِ
الفضل عند الله ليس بصورة الأعمال بل بحقائق الإيمان.
القصد وجه الله بالأقوال والطاعات والشكران.
بذاك ينجو العبد من حسراته ،ويصير حقا عابد الرحمن.
الحسرةُ على التفريطِ في طاعةِ الله:
وتصرمِ العمرِ القصيرِ في اللهثِ وراء الدنيا حلالِها وحرامِها، والاغترارِ بزيفِها مع نسيانِ الآخرةِ وأهوالِها:
( أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين)
( أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين)
( أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين)
( بلا قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين)
يا ضيعتَ العمرِ لا الماضي انتفعتُ به…….ولا حصلتُ على علمٍ من الباقي
بلا علمتُ وقد أيقنتُ و أسفا……..أني لكلِ الذي قدمتُه لا قي
الحسرةُ على التفريطِ في النفسِ والأهل:
أن تقيَهم من عذاب جهنم، يوم تفقدَهم وتخسرَهم مع نفسُك بعد ما فتنتَ بهم، ذلك هو الخزيُ والخسار والحسرةُ والنار، حالك:
بعضي على بعضي يجّردُ سيفه……..والسهم مني نحو صدري يرسلُ
النارُ توقد في خيام عشيرتي…………وأنا الذي يا للمصيبة أُشعلُ
( قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسَهم وأهليهم يومَ القيامة، آلا ذلك هو الخسرانُ المبين).
الحسرةُ على أعملٍ صالحة:
كان الأمل بعد اللهِ عليها، ولكنها ذهبت في ذلك اليومِ العصيب إلى من تعديت حدودَ اللهِ فيهم فظلمتَهم في مالٍ أو دمٍ أو عرض، فكنتَ مفلساً حقا:
(وقد خابَ من حمل ظلما).
فيأخذُ هذا من حسناتِك وهذا من حسناتك، ثم تفنى الحسنات فيطرحُ عليك من سيئاتِ من ظلمتَهم ثم تطرحُ في النار، أجارك الله من سامعٍ من النار وجنيك سخطِ الجبار بفعلِ ما يرضي الواحدَ القهار.
حسرةُ جُلساءِ أهلِ السوء:(6/5)
يومَ انساقوا معهم يقودونَهم إلى الرذيلةِ، ويصدونَهم عن الفضيلةِ، إنها لحسرةُ عظيمةٌ في يومِ الحسرة يعبرون عنها بعضِ الأيدي يومَ لا ينفعُ عضُ الأيدي كما قال ربي:
( ويومَ يعَضُ الظالم على يديه يقولُ يا ليتني اتخذتُ مع الرسولِ سبيلا)
( ياويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا)
( لقد أضلني عن الذكرِ بعد إذ جاءني وكان الشيطانُ للإنسانِ خذولا).
حسرةُ الأتباعُ المقلدين لكلِ ناعق:
يوم يتبرأ منهم من تبعوه بالباطل فلا ينفعهم ندم ولا حسرة:
(ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا، وأن الله شديد العذاب)
( إذا تبرأ الذين أتُبعوا من الذين أتَبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب)
( وقال الذين أتبَعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا)
( كذلك يرويهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار).
حسرة الظالمين المفسدين في الأرض:
الذينَ يصدون عن سبيلِ الله ويبغونها عوجا، حين يحملون أوزارَهم وأوزار الذين يضلونهم بغيرِ علم، وحين يسمعون عندها قول الله :
( فأذن مؤذنٌ بينهم أن لعنتُ الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيلِ الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرةِ كافرونِ ).
ومن أعظم المشاهد حسرة في يوم القيامة يوم يكفر الظالمون بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا محتدين ومتبرئين فذلك قول الله:
( قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار، كلما دخلت أمة لعنت أختها)
( حتى إذا إداركوا فيها جميعا قالت أخراهم الأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار)
( قال لكلٍ ضعف ولكن لا تعلمون)
( وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون).
فيا حسرة الظلمة وأعوانهم حين يعلمون فداحة جريمتهم في تنفيذ رغبات الظالمين، لكن حيث لا ينفعهم علم العالمين، وعندها لسادتهم يقولون:
………………………………………………………………
الوجه الثاني:(6/6)
لكن حيث لا ينفعهم علم العالمين، وعندها لسادتهم يقولون:
( إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار) ؟
فإذا بالسادة أذلة قد عنت وجوههم للحي القيوم لا يملكون لانفسهم شيئا ولا يستطيعون يقولون:
( إنا كل فيها، إنا الله قد حكم بين العباد).
إن لله غضبة لو وعاها من………. بغى ما عدا يمط اللسان
كم من ظالم يردد:
(وقال الذين كفروا للذين أمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون، وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم، وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون).
فالعقلاء بمقولتهم لا يغترون، وإن فعلوا فأنهم يوم إذ في العذاب والحسرة مشتركون.
تصور معي أخي ذلك الجو من الحسرة والخزي والندامة المخيمة على المستضعفين والمستكبرين.
أتباع ضعفاء يتهمون زعمائهم بالحيلولة بينهم وبين الإيمان.
ومستكبرون يقولون لإتباعهم أنتم المجرمون دعوناكم فكنتم مجيبين.
لو رأيتهم إذ وقفوا عند ربهم من غير إرادة ولا اختيار مذنبون ترهقهم ذلة في انتظار الجزاء لرأيت أمرا مهولا، يتراجعون، يرجع بعضهم إلى بعض القول.
يلوم بعضهم بعضا.
ويؤنب بعضهم بعضا.
ويلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض.
يقول أتباع الظلال الذين اُستضعفوا لقادة الضلال الذين استكبروا:
( لولا أنتم لكنا مؤمنين ).
يقولونها جاهرين بها صادعين في وقت لم يكونوا في الدنيا بقادرين على هذه المواجهة، كان يمنعهم الذل والضعف والاستسلام، وبيع الحرية التي وهبها الله لهم والكرامة التي منحهم الله إياها.
أما اليوم يوم الحسرة فقد سقطت القيم الزائفة وواجهوا العذاب فهم يقولونها غير خائفين:
( لولا أنتم لكنا مؤمنين ).
حلتم بيننا وبين الإيمان، زينتم لنا الكفران فتبعنكم فأنتم المجرمون وبالعذاب أنتم جديرون وله مستحقون.(6/7)
ويضيق الذين استكبروا بهم ذرعا إذ هم في البلاء سواء ويريد هؤلاء الضعفاء أن يحملوهم تبعة الإغواء الذي صار بهم إلى هذا البلاء، عند إذ يردون عليهم ويجيبونهم في ذلة مصحوبة بفظاظة وفحشاء:
( أنحن صددناكم عن الهدى؟)
الله أكبر كانوا في الدنيا لا يقيمون لهم وزنا، ولا يأخذون منهم رأي، ولا يعتبرون لهم وجودا، ولا يقبلون منهم مخالفة، بل حتى مناقشة.
أما اليوم، يوم الحسرة فهم يسألونهم في استنكار الأذلاء:
( أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ؟ بل كنتم مجرمين).
زينا لكم الإجرام؟ نعم، لكنا لم نكرهكم عليه، فما لكم علينا من سلطان.
آما أنه لو كان الأمر في الدنيا لقبع المستضعفون لا ينبسون ببنت شفه.
لكنهم في الآخرة حيث سقطت الهالات الكاذبة، والقيم الزائفة، وتفتحت العيون المغلقة، وظهرت الحقائق المستورة فلم يسكت المستضعفون ولا هم يخنعون، بل يجابهون من كانوا لهم يذلون ويقولون:
( بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا).
مكركم لم يفتر ليلا ولا نهارا للصد عن الهدى.
تزينون لنا الضلال وتدعوننا إلى الفساد، وتقولون إنه الحق.
ثم تقدحون في الحق وتزعمون أنه باطل، فما زال مكركم بنا حتى أغويتمونا وفتنتمونا.
يا عباد الله:
إن صور المكر تتنوع وتختلف من عصر لآخر.
ففي وقت نزول القرآن كانت تتخذ أشكالا من الأشعار في منتديات الجاهلية توجه فيها التهم الباطلة لرسول الله (ص) ومن معه.
أو بصد الراغبين عن سماع الحق وتفويته عليهم.
أو بإثارة نعرة الأباء والأجداد والتهويل من خطر تركها.
هذا جل ما عند الجاهلية الأولى من مكر الليل والنهار، و والله إنه لعظيم.
لكن ماذا يساوي ذلك المكر الأول عند مكر الليل والنهار في زماننا الحاضر في أكثر ديار المسلمين، والذي ينطبق تماما بلفظه ومعناه على المكر الموجود الآن الذي يعمل على مدى الأربع والعشرين ساعة:
فما يكاد المذياع يفتر من مكره حتى يأتي دور التلفاز.(6/8)
وما يكاد التلفاز يفتر من مكره حتى يأتي دور الفيديو.
ثم يأتي دور البث المباشر.
ثم المجلة الهابطة، فالقصة الخليعة، وهكذا دواليك دواليكَ مكر بالليل والنهار.
هل يعذر المسلم في فتح فكره وبيته لمكر الليل والنهار؟؟؟
كلا والله لا يعذر، لأن المفسدين المتسلطين لن يعذروه بين يدي الله يوم القيامة بقولهم:
( أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ؟ بل كنتم مجرمين).
ويرد هؤلاء المستضعفون:
( بل مكر الليل والنهار).
ثم يدرك الجميع أن هذا الحوار البائس لا ينفع هؤلاء ولا هؤلاء إلا براءة بعضهم من بعض.
علم كل منهم نه ظالم لنفسه، مستحق للعذاب فندم حين لا ينفع الندم.
ويتمنى سرا أن لو كان على الحق والإيمان:
(وأسّروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا، هل يجزون إلا ما كانوا يعملون)
قطاة غرّها شرَك فباتت……تجاذبه وقد علق الجناحُ
فلا في الليل نالت ما تمنت…….ولا في الصبح كان لها براحُ
قضي الأمر وانتهى الجدل وسكت الحوار.
وهنا يأتي حادي الغواة، وهاتف الغواية يخطب خطبته الشيطانية القاصمة يصبها على أوليائه:
( وقال الشيطان لما قضي الأمر، إن الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم ).
طعنة أليمة نافذة لا يملكون أن يردوها عليه، وقد قضي الأمر وفات الأوان:
( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ).
ثم يأنبهم على أن أطاعوه:
( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، ما أنا بمصرخكم، وما أنتم بمصرخي ).
نفض يده منهم وهو الذي وعدهم ومنّاهم ووسوس لهم.
وأما الساعة فلن يلبيهم إن صرخوا، ولن ينجدوه إن صرخ (إن الظالمين لهم عذاب أليم ).
فيا للحسرة والندم.
الحسرةُ على أعمالٍ محدثةٍ:
وعباداتٍ لم يأذن الله بها ولم يتبعُ فيها رسولُ الله (ص)، ويحسبُ أهلها أنهم يحسنون صنعا:
( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ).(6/9)
لكنها تضيعُ في وقتِ الحاجةِ الماسة إليها فهم الأخسرون أعمالا وساءوا أعمالا، أعمالَهم كرمادٍ اشتدت به الريحُ في يومٍ عاصف أو كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الضمئانُ ماءً، حتى إذا جاءهُ لم يجده شيأً ووجد اللهَ عنده فوفاه حسابهُ.
( والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظامئان ماءً، حتى إذا جاءهُ لم يجده شيئا ووجد اللهَ عنده فوفاه حسابهُ ).
يا أيها اللاهي الذي افترش الهوى…..وبكل معنى للضلال تدثرا
إن كنت ذا عقل ففكر برهة………….ما خاب ذو عقل إذا ما فكرا
الحسرةُ على أموالٍ جمعت من وجوه الحرام:
رباً ورشِوةٍ وغشٍ غصب وسرقةٍ واحتيالٍ وغيرِها.
فيا لله أي حسرةٍ أكبر على امرؤ يؤتيَه اللهُ مالاً في الدنيا، فيعملُ فيه بمعصيةِ الله، فيرثَه غيرَه فيعملُ فيه بطاعةِ الله، فيكونُ وزره عليه وأجرُه لغيره.
أي حسرة أكبر على أمرؤ أن يرى عبدا كان الله ملّكه إياه في الدنيا يرى في نفسه أنه خبر من هذا العبد، فإذا هذا العبد عند الله أفضل منه يوم القيامة.
أي حسرة أكبر على أمرؤ أن يرى عبدا مكفوف البصر في الدنيا قد فتح الله له عن بصره يوم القيامة وقد عميَ هو، إن تلك الحسرة لعظيمة عظيمة.
أي حسرة أكبر على أمرؤ علم علما ثم ضيعه ولم يعمل به فشقيَ به، وعمل به من تعلمه منه فنجى به.
أي حسرة أعظم من حسرات المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
يوم تبلى السرائر وينكشف المخفي في الضمائر ويعرضون لا يخفى منهم على الله خافية، ثم يكون المأوى الدرك الأسفل من النار ثم لا يجدون لهم نصيرا.
أما الحسرةُ الكبرى فهي:
عندما يرى أهلَ النار أهلَ الجنةِ وقد فازوا برضوانِ الله والنعيم المقيم وهم يقولون:
( أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا) ؟
( قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ).
وحسرة أعظم:
يومَ ينادي أهلُ النار أهل الجنةِ :
( أن أفيضوا عينا من الماءِ أو مما رزقكم الله)(6/10)
( قالوا إن اللهَ حرمهما على الكافرين ).
وحسرة أجل:
حين ينادي أهلُ النارِ مالكاً خازن النار:
( ليقضي علينا ربك).
( قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحقِ ولكن أكثرَكم للحق كارهون ).
ومنتهى الحسرة ِوقصاراها:
حين ينادون ربَهم عز وجل وتبارك وتقدس:
( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فأنا ظالمون ).
فيُجبَهم بعد مدة:
( اخسئوا فيها ولا تكلمون ).
فلا تسأل، لا ينبسون ببنت شفة وإنما هو الشهيق والزفير.
طال الزفيرُ فلم يُرحم تضرُعهم…هيهاتَ لا رقة تغني ولا جزعُ
فيا حسرة المقصرين.
ويا خجلة العاصين.
لذات تمرٌ وتبعاتٌ تبقى.
تريدون نيل الشهواتِ والحصولَ في الآخرةِ على الدرجات.
جمع الأضدادِ غير ممكنٌ يا تراب.
هواك نجد وهواه الشامُ………وذا وذاَ يا خي لا يلتامُ
دع الذي يفنى لما هو باقي وأحذر زلل قدمِك، وخف حلول ندمك واغتنِم شبابك قبل هرمِك، واقبل نصحي ولا تخاطر بدمك، ثم تتحسرُ حين لا ينفعُ ندمك.
إذا ما نهاك امرأٌ ناصحُ…عين الفاحشاتِ إنزجر وانتهِ
إن دنياً يا أخي من بعدها…ظلمتُ القبرِ وصوتُ النائحِ
لا تساوي حبةً من خردلٍ…أو تساوي ريشةً من جانحِ
لا تسل عن قيمةَ الربح واسل عن أساليبَ الفريق الرابحِ
جعلنا الله وإياكم من الرابحين السعداء، يومَ يخسرُ المبطلون الأشقياء، ويتحسرَ المتحسرون التعساء، إن ربي وليُ النعماء وكاشفَ الضرِ والبلاء.
عباد الله وبعد هذا البيانِ من كتاب الرحمنِ عن صورِ الخزي والحسرةِ والخسران.
هل آن لنا أن نعدَ لهذا الموقفِ العظيمِ عدته؟
ونعملَ جاهدين على الخلاصِ من صفاتِ أهلِ هذه المواقفِ المخزيةِ.
آن لنا أن نُخلص العبادةَ لله وحده، ونجردَ المتابعةِ لرسولِ اللهِ (ص).
آن لنا أن نحذرَ من كلِ ناعقٍ ملبسٍ خائنٍ يمكرُ في الليلِ والنهار قبل أن تقولَ نفسُ يا حسرتاه ولا مناة حين مناص.(6/11)
آن الأوان لضعفةِ الأتباع أن يتبرءوا من متبوعيهم الظالمين المفسدين فلا يكونوا أداة لهم في ظُلمٍ في دماء أو أموالٍ أو أعراض طمعاً في جاه أو حطام.
آن الأوان للإنابةِ والبراءةِ من الظالمين قبل أن يتبرءوا من تابعيهم بين يدي الله يومَ ينقلبون عليهم فيلعن بعضَهم بعضا حيث لا ينفع لعن ولا ندم.
آن الأوان للمرأة المسكينة في زماننا اليوم أن تتنبه لهذه المواقف فتتبرأ في دنياها اليوم من كل ناعق لها بأسم الحرية والتمدن ومتابعة الأزياء والموضات.
وحتى لا تحق عليها الحسرة الكبرى حينما يتبرأ منها شياطين الأنس والجن الذين أضلوها ثم لا يغنوا عنا من عذاب الله من شيء إلا الخصام والتلاعن المذكور في كتاب الله:
( وقالوا ربنا إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا)
( ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبير).
آن الأوان لأتباع الطوائف الضالة المبتدعة أن يفيقوا ويدركوا خطر هذه المتابعة التي ستنقلبُ حسرة كبرى وعداوة ولعنة بينهم وبين متبوعيهم يوم القيامة:
(ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين).
آن الأوان لمن أعطوا قيادهم لجلساءِ السوءِ والمفسدينَ في الأرض، ومن هم دعاةُ على أبوابِ جهنمَ يسوقونهم إلى الرذيلةِ ويفتحون قلوبَهم للمكر والألاعيب والصدِ عن الفضيلة.
آن لهم أن ينتهوا ويقطعوا صلَتَهم بهم وطاعتَهم لهم ما داموا في زمنٍ من مهلةٍ وإمكان، وإن لم يقطعوها في الدنيا، فهيَ لا شكَ منقطعة يومَ القيامةِ وستنقلبُ عداوةً وخصاماً وحسرةً:
( الاخلاء يوم إذا بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ).
آن الأوان للمجاهرين عموما بالمعاصي.
والمجاهرين خصوصا برفع أطباق القنوات فوق البيوت غير معظمين لشعائر الله والحرمات.
من اشرعوا بيوتَهم للضلالِ والمكرِ واللهوِ والعفنِ والترهات بحجة الأخبار والمباريات:
يستقبل الأفكار في علب الهوى……. والشر فيها لوّع المستقبلُ(6/12)
علب يغلفها العدو وختمه……….…فيها الصليب ونجمة والمنجل
آن لهم أن يعلونها توبةً عاجلةً نصوحاً قبل الممات وقبل يومَ الحسرات بلا مبررات واهيات فالحقائق ساطعات غير مستورات وإن تعامتها نفوس أهل الشهوات.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد……وينكر الفم طعم الماء من سقم
وكل أمة محمد (ص) كما أخبر معافى إلا المجاهرين، وما من راعي يسترعيه الله رعيةً يموت يومَ يموت وهو غاشٍ لهم إلا حرم اللهُ عليه الجنة. وكلُكم راعيٍ ومسؤول. وما كل راع براع.
ما كل ذي لبد بليث كاسر……وإن ارتدى ثوب الأسود وزمجرا
يستخدم الشيطان كل وسيلة….…..لكنه يبقى الأذل الأصغرا
( والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما )
آن الأوان لمضيع وقته أمام ما تبثه هذه القنوات من محرمات أن يتوب ويؤب.
آن الأوان لمن عقلُه أصبح في أذنيه ولبه بات في عينيه من أثر البهتان فيه وانطلى الزورُ عليه أن يتوبَ قبل أن يقفَ أمام الله فتشهدُ الأعضاء والجوارح وتبدو السوءاتُ والفضائح فيختمُ عل فمه وتتكلم يده ويشهدُ سمعه وبصره وجلده بما كان يكسب ثم لا يكونُ إلا الحسرات، فما تغني الحسرات؟
( وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين، فإن يصبروا فالنار مثوى لهم، وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين).
يا ابن سبعين وعشرٍ وثمانٍ كاملات………غرضاً للموتِ مشغولاً ببث القنوات
ويكَ لا تعلمُ ما تُلقى به بعد الممات………من صغارٍ موبقات وكبارٍ مهلكات
يا ابن من قد مات من آبائهِ والأمهات…… هل ترى من خالدٍ من بين أهلِ الشهوات
إن من يبتاعُ بالدينِ خسيسِ الشهوات……. لغبي الرأيِ محفوفُ بطولِ الحسرات
عباد الله في يومِ القيامة يبحثُ كلِ إنسان عن أي وسيلة مهما كانت ضعيفة واهية لعلَها تصلُحُ لنجاته من غضبِ الله.(6/13)
ولذلك تكثُر المناقشاتُ والمحاورات بين الأباء والأبناء.
والأزواج والزوجات.
والكبار المتسلطين والصغار التابعين.
بين الأغنياء الجبارين والفقراء المنافقين.
كل يحاول إلقاء التبعة على غيره، لكن حيث لا تنفع المحاورات ولا الخصومات ولا التنصل من التبعات، ثم لا يكون إلا الحسرات:
إلى الله يا قومي فما خاب راجع…….إلى ربه يوم وما خاب صابرُ
اللهم آنس وحشتنا في القبور، وآمن فزعنا يوم البعث والنشور.
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين.
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأخرتنا التي إليها معادنا، وأجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وأنصر عبادك الموحدين.
اللهم كن للمستضعفين والمظلومين والمضطهدين.
اللهم فرج همهم ونفس كربهم وارفع درجتهم واخلفهم في أهلهم.
اللهم أزل عنهم العناء وأكشف عنهم الضر والبلاء.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء. يا سميع الدعاء.
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم.
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما بركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
………………………………………………………..
تم بحمد الله
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
لا تبخلوا على أخيكم بدعوة صالحة بظهر الغيب.
ويا حبذا التصحيح الإملائي وإبلاغنا، وكذا نشر هذا الجهد في ما تستطيعه لتعم الفائدة.(6/14)
خطبة : حقيقة الإرهاب
فضيلة الشيخ : عبد الوهاب الطريري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بفضله اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون، لا يُسأل عن ما يفعل وهم يسألون.
لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وإذا قضى شيئا فإنما يقول له كن فيكون.
أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أنزهه بها عن ما يقول المبطلون، وأعظمه بها عن ما يقول المشركون.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واهتدى بهداه).
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى.
( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
هكذا أختار الله لهذه الأمة منهجها، وبين لها طريقها:
صراط مستقيم فلا عوج.
أمة وسط فلا انحراف.
وسط في التصور والاعتقاد.
وسط في العبادة والنسك.
وسط في الأخلاق والسلوك.
وسط في الارتباطات والعلاقات.
بل وسط في الزمان والمكان.
( صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) .
جعلها الله على الجادة الوسط التي تصلح لهذه الأمة، وتصلح بها هذه الأمة.
وإن التزحزح عن هذا المنهج افترى على الله في حكمه، واستدراك عليه جل وعلا في شرعه:
( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
إنه جنوح عن الوسط إلى الطرف، بكل ما في الطرف من وعورة، وبكل ما في الطرف من انحراف وبكل ما في التطرف من شدة ورهق.
ولأن كانت الأمة قد عايشت صورا من التطرف في عصور سلفت فإن أشد أنواع التطرف ما عاشته الأمة في عهودها وعقودها هذه الأخيرة حيث تطرف التطرف إلى طرف الطرف.(7/1)
ولأن كانت الضوضاء قد علت وعلا ضجيجها عن التطرف أخيرا فإن وجود التطرف حقيقة لا مرية فيها ولكن قبل ذلك!
إن التطرف سابق للضجة التي أثيرت حوله بكثير، عانت الأمة من التطرف، وعانت من ثمار التطرف، فإن التطرف شجرة خبيثة، إذا نمت، نمت معها أشواكها الحادة، ومن أشواكها الحادة الإرهاب، فالإرهاب أبن شرعي للتطرف، وأحد ثماره المرة.
وجد التطرف في حياة الأمة ليس منذ سنين ولكن منذ عقود، وجد التطرف يوم زحزحت الأمة عن الوسط الذي اختاره الله لها، فزحزحت إلى حفر التطرف، فألبست ثيابا وانحلت نحلا.
ألبست ثياب الاشتراكية حينا من الدهر، وظلمت بقوانين الإصلاح الزراعي، بل فرضت الشيوعية كإيديولوجية عقدية، وليس كمسألة اقتصادية.
وجد التطرف فسرت الدعوات الكفرية من خلال أجهزة الإعلام الرسمية لبعض الدول.
فمثلاً:
يكتب كاتب إباحي في الستينات إبان الحمى الاشتراكية مقالة بعنوان ( اشتراكية الأسرة)، وكانت دعوة مزدكية إلى الإباحية، وفي صحيفة رسمية، حتى إذا ما نشرت هذه الوقاحة رد عليها أحد العلماء الأعلام ردا علم رصينا غار فيه للحق ولله عز وجل، فرد عليه ذلك الكاتب السافل بمقالة ساخرة جعل عنوانها (لا يا شيخ!!).
وفي بلد آخر، وليس إسلاميا فقط بل هو عقر دار الإسلام يصدر الدستور وليس فيه النص على أن دين الدولة الإسلام، ولا على اشتراط الإسلام دينا لرئيس الدولة.
ويكتب بعثي زنديق في مجلة الجيش الرسمية التي توزع على كل أفراد الجيش بالمجان مقالة إلحادية يقول فيها: (إن الله والعادات والتقاليد تماثيل يجب أن تدخل متحف التاريخ).
وفي بلد من بلدان الشمال الأفريقي تخطف ثمرة جهاد سنين ودماء مليون مجاهد ضد الاستعمار الفرنسي، تقطف ليكون بدلا منها الكفر الاشتراكي، وأما العلماء الذين قادوا مسيرة الجهاد فيقضون تحت الإقامة الجبرية، كالشيخ البشير الإبراهيمي، والشيخ عبد الطيف سلطاني وغيرهم رحمهم الله.(7/2)
بل يصل التطرف غايته حينما يطل رئيس دولة من شاشة التلفاز وهو يشرب الماء في نهار رمضان، ويدعو على الفطر في رمضان بحجة أن الصيام يضر بالإنتاج الاقتصادي للبلد.
والصور من هذا النوع - وإلى الله المشتكى- كثيرة وموجودة في وعي كل من رصد الفترة الماضية.
أليس هذا هو التطرف بأبشع صوره ؟ أليس هذا هو التطرف بأقبح الصور ؟
بلا... ولكن لم يدن لأنه تطرف مؤسسي تحميه القوة وتفرضه السلطة، وهذا التطرف ما كان له أن ينبت بدون أن يؤتي ثمرته المرة وأن ينبت أشواكه الحادة وهي الإرهاب.
فصحب الإرهاب هذا التطرف، فقد مارس كل هؤلاء المتطرفون أبشع أنواع الإرهاب لأن مقولة: ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ) لا تبقى إلا تحت ظل (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ).
شهدت الخمسينات والستينات أبشع أنواع التعذيب في سجون اللومان، وطُره، والحربي، والقلعة، ودفن رفات الصالحين والعلماء والدعاة في سفوح جبل المقطم.
وفي بلد آخر دكت مدينة على أهلها ليموت تحت أنقاضها أزيد من عشرين ألفا.
في بلد ثوري يعدم الشباب الصالح في ملعب كرة القدم ساعة الإفطار، يعدمون في بين من اللجان الثورية على أن هؤلاء هم الكلاب الضالة.
في بلد آخر يحشر الآلاف في مخيمات في الصحراء الكبرى جنوب ذلك البلد، يحشرون لأنهم اختاروا الإسلام خيارا، حتى إن منظمة العفو الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان تستنكر الظروف التي يعيشون فيها.
إلى غير ذلك من مآسي إرهاب الأنظمة، تلك الأنظمة التي مارست التطرف ثم مارست تلوا الإرهاب، ولكن ذلك الإرهاب لم يدن لأنه إرهاب مؤسسي تمارسه السلطة وتحميه القوة.
ولأن لكل فعل ردة فعل مساوية في القوة معاكسة في الاتجاه فقد نبتت في بعض البلاد اتجاهات دينية متطرفة كونها العذاب داخل السجون، ترعرعت وراء القضبان، ثم تحدد فكرها وظهر أثرها، حين إذ فقط ارتفع الضجيج ضد التطرف وضد الإرهاب.(7/3)
وبدأ المنظرون ينظرون، والمحرضون يحرضون، وتناسى كثيرون، تناسوا حقائق مهمة ينبغي أن لا تغيب في معالجة هذه القضية.
تناست معالجات كثيرة التطرف الذي تتبناه دول، والإرهاب الذي تمارسه الأنظمة الثورية فتسحق به الشعوب، وعندما يحصل التطرف المضاد يبدأ الحديث عنه فقط، بينما التطرف الأصل، والإرهاب الأصل، يبرر بل يشجع.
تتناسى تلك المعالجات حدود المواضيع، فنرى بعض الأقلام المغرضة تعبر من الحديث عن نقد التطرف الديني إلى نقد الدين ذاته، وتعبر من نقد بعض الجماعات المتطرفة إلى نقد الصحوة الدينية بعامة.
وكل ذلك من التلبيس وخلط الأوراق، والكيد داخل تلك المعالجات، تتناسى تلك الكتابات الأسباب الحقيقة للتطرف، وتطرح أسباب ساذجة بل سامجة، كأن تطرح أن من أسباب التطرف الوضع الاقتصادي، أو الكبت الجنسي، أي والله الكبت الجنسي.
ولا تطرح بعد ذلك من وسائل العلاج إلا المطالبة بالمزيد من الكبت والقهر، ومصادرة الحريات، وخنق الأنفاس وتكريس الردة عن الدين.
لماذا لا تتذكر تلك الكتابات أن من أهم أسباب التطرف:
أن يطلق العنان في أرض الإسلام لدعاة العلمانية والاشتراكية واللبرالية وغيرها من المذاهب، يطلق لها العنان ويسمح لها بتكوين الأحزاب وتكوين التنظيمات وإنشاء المنظمات وإصدار الصحف والمجلات وإنشاء الدوريات.
يسمح لها بذلك كله ويفرض الحضر على الإسلام وحده وهو صاحب الدار، وتوضع الكمائم على أفواه دعاته وحدهم وهم المعبرون عن سواد الشعب:
أحرام على بلابله الدوح ......... حلال للطير من كل جنس
كل دار أحق بالأهل إلا ......... في خبيث من المذاهب رجس
وقد يسمح للإسلام أحيانا، ولكن أي إسلام يسمح له!
الإسلام المدجن، إسلام الموالد والمآتم، إسلام الدروشة والبدع.
لماذا يتناسى المتحدثون عن التطرف، لماذا يتناسون التطرف العلماني؟
وأمثلته كثيرة منها:
ما نراه في الصحف الخليجية مثلا من إسفاف هابط في الحديث عن الصحوة وشبابها.
خذ مثلا:(7/4)
ما نشر في صحيفة خليجية حيث نشرت في أحد أعدادها مقالة قالت فيها: ( أحذركم من الذي يواظب على الصلوات الخمس، وهو يغتسل من جنابة الزنى في حمام المسجد).
خذ من أمثلة ذلك:
دعوة غلاة العلمانيين إلى منع البرامج الدينية في الإذاعة والتلفاز، بل منعهم الآذان في مكبرات الصوت بحجة إزعاجه للآخرين.
بل دعوتهم إلى ما يسمى بتجفيف المنابع، وذلك بقطع كل أسباب التدين لأن كل متدين صغير سيصبح متطرفا كبيرا بعد ذلك، إذا فلترفع المواد الدينية من مناهج التعليم، ولترفع البرامج الدينية من أجهزة الإعلام حتى لا تنشأ لنا متدينين يتحولون إلى متطرفين.
خذ مثالا آخر:
ما كتبه أحد غلاة العلمانية، فقد قال بتبجح في مقابلة صحفية معه ( أنا كنت الوحيد الذي تصدى لمسألة تطبيق الشريعة، ورفضت هذه الدعوة يوم سكت غيري). هذا الوقح قال في آخر مقال نشر له قبل هلاكه بيومين:
( يا وزير الصحة مطلوب منك أن ترد على ما طالبتك به في مقال سابق).
فمالذي طالب به وزير الصحة في مقال سابق؟ استمع إلى المطالبة:
( يا وزير الصحة مطلوب منك أن ترد على ما طالبتك به في مقال سابق بدعم المهدءات الجنسية، ولم ترد علي، وعدم استجابتك هذه المرة تهدد الأمن القومي، الأمن القومي مهدد، الإرهاب يزيد، التطرف يشتد، الحل في يدك يا وزير الصحة).
أي أن علاج التطرف والإرهاب هو بالمهدئات الجنسية، وهؤلاء المتطرفون الدينيون هم قوم مثارون جنسيا، فلتدعم المهدئات الجنسية لهم.
وقد هلك هذا الكاتب فعلا الضجيج وعلت الضوضاء، وارتفع الصياح ينادي ما هذا الإرهاب؟ لماذا لا تقارع الحجة بالحجة؟ لماذا لا يواجه الرأي بالرأي؟
وأجيبوني بربكم أي حجة يمكن أن يرد بها على هذا الكلام!
أي رأي موجود في هذه السماجة!
كيف يمكن أن تناقش إنسانا يتهمك فيقول أنت حمار، فهل ستقف لترد عليه بنقاط محددة تثبت فيها أنك إنسان، هل وجدنا في قوله حجة حتى يرد عليها بحجة، هل هناك فكرة حتى تفند بفكرة.(7/5)
وتذكرت موقفا شبيها ولكن على الضفة الأخرى، أصدر الأستاذ سيد قطب رحمه الله كتابه (معالم في الطريق)، فحوكم ثم أعدم، فلم يقل أحد لماذا لم تواجه الحجة بالحجة، ولماذا لم تنقد الفكرة بالفكرة، ولماذا يكون ثمن كتاب رقبة تشنق؟
ولكن عندما يهلك كتاب من هذا النوع تظهر المناداة بهذا الأسلوب.
ألا إن هذا التصرف الذي حصل تصرف يدان ولا يرضى، ولكن ينبغي أن يبحث عن أسبابه، وأن يناقش الموضوع بموضوعية، لا أن يناقش بعين حولا تكيل بمكيالين.
لماذا يُتحدث عن التطرف والإرهاب، ثم يتناسى المتحدثون الغيرة في قلوب المؤمنين؟
إن في قلوب المسلمين من محبة الله ورسوله ما يملأ صدورهم غيرة وحمية لدينه وآياته وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم). ولا يقر لهم قرار ولا يهدأ لهم بال وهم يرون من يعبث بدينهم ويسخر بمسلمات عقيدتهم.
وإنه لا يصلح أن يساهم في علاج هذه الظاهرة من لم يتذوق هذه الغيرة ولم يشم لها رائحة، بل لعله لم يسجد لله سجدة.
إنه يتلقى سخرية المستهزئين بدين الإسلام لا أقول بهدوء ولكن بتميع ولا مبالاة، يفتقد هذا الهدوء ويفتقد هذه ألا مبالاة ويفقد توازنه حينما تمس أموره الشخصية، لماذا ؟
لأنه رب الإبل وللبيت رب يحميه.
إن هذه النوعية لا تصلح أن تعالج موضوع التطرف والإرهاب.
لقد أنبرا عدد من العلماء والباحثين فعالجوا مشكلة التطرف ومشكلة الإرهاب الناتج عنها، عالجوه بأسلوب موضوعي هادى رزين، بحث عن المشاكل الحقيقية، وطرح نقاط العلاج الواضحة، وتتبع جذور المشكلة وذلك في مثل كتاب:
(الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف)، وفي مثل البحث الكبير (الغلو في الدين).
إن مثل هذه الدراسات الجادة المنصفة الباحثة عن الأسباب، المتعمقة في تتبع الجذور، ثم الطارحة على ضوئها علاج تلك المشكلة هي التي ينبغي أن يرجع إليها عند الحديث عن هذا الموضوع.(7/6)
ولابد من الإشارة بعد هذا كله إلى أهمية الصلة الوثيقة بين الشباب والعلماء، فإليهم يرجعون ومنهم يأخذون، وبتسديدهم يسترشدون، وإن لحمة الشباب بالعلماء عصمة للأمة من أن تدب إليها أفكار نشاز أو أن تنحرف إلى مقولات جانحة.
وإن هذا من الأسباب التي ينبغي أن يعتنى بها وتكرس وذلك لتوثيق الصلة بين الشباب والعلماء، وسيظل الشباب ملتفون غاية الالتفات بالعلماء مادام لهم بالعلماء ثقة، مادام العلماء ينطقون بهمومهم، يعبرون عن مشاكلهم، يتحمسون لقضاياهم ويعانون معاناتهم.
اللهم إنا نسألك أن تصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا.
وأن تصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا.
وأن تصلح لنا أخرتنا التي إليها معادنا.
وأن تجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
وأن تغفر لنا وترحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا غله غلا الله تعظيم لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه (صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليما كثيرا).
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وأعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة في النار.
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل وعلا:
( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) .
اللهم صلي وسلم وبارك أطيب صلاة وبركة على نبيك محمد النبي الصادق الأمين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وخلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر الصحابة أجمعين.
اللهم أرضى عن أصحاب نبيك وأرضهم، اللهم ألعن من لعنهم وعادي من عادهم وتولنا في من تولاهم، اللهم اسلك بنا سبيلهم واحشرنا في زمرتهم.(7/7)
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وأحمي حوزة الدين، وأجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا يأمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتقال فيه كلمة الحق لا يخشى قائلها في الله لومة لائم وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح عقائدهم، وأصلح ولاتهم وعلمائهم وشبابهم ونسائهم وذراريهم وتولهم في كل أمورهم.
اللهم أنصر المجاهدين في سبيلك، اللهم أجعل عاقبة جهادهم نصرا قريبا، وفتحا مبينا.
اللهم عليك بكل عدو للإسلام.
اللهم عليك بإخوان القردة والخنازير.
اللهم عليك بالصرب الصليبيين.
اللهم عليك بالرافضة الكائدين، اللهم أشدد عليهم جميعا وطأتك، وانزع عنهم عافيتك، وأنزل عليهم نقمتك، ومزقهم كل ممزق، يا رب العالمين.
ربنا آتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
....…………………………
تم بحمد الله وتوفيقه.
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب،
بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
- إبلاغنا عن الخطأ الإملائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
من خلال اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الجليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
للتواصل: أخوكم البوراق / anaheho@maktoob.com
واحات الهداية / http://www.khayma.com/ante99/index.htm(7/8)
حقيقة الإنتماء
لفضيلة الشيخ : بشر بن فهد البشر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
أيها الإخوة في الله :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حديثي إليكم هذه الليلة بعنوان حقيقة الانتماء .
الانتماء الذي نريد أن نتحدث عنه هو الانتماء إلى هوية واضحة ثابتة , هوية مستقلة متميِّزة , فهو الذي يعطي الأمم الوصف الذي تستحق به أن تكون أمماً ، وهو القاعدة الأساسية لبناء الأمم لأن الهوية التي تنتمي إليها أي أمة هي تميزها عن غيرها .
فما هي أيها الأحبة الكرام هويتنا نحن المسلمون ؟ ولمن يكون انتماؤنا ؟ إلى من ننتسب ؟ ولأي شيء نتعصب ؟ وعلى أي شيء نوالي ونعادي ؟
في العصور الأخيرة وبالتحديد في القرن الهجري الماضي ، حصل للأمة المسلمة ما يمكن أن نسميه أو نطلق عليه " بأزمة الهوية " أزمة تحقيق الانتماء ، فحصل فيها ولها من التخبط والتنقل على موائد الشرق والغرب ما أضاع الأمة وأفقدها استقلالها وتميزها وشخصيتها . وإلى هذا اليوم لا تزال الأمة تعيش هذه الأزمة , أزمة الهوية ، أزمة الانتماء ، إما في ضياع الهوية ضياعاً كاملاً عند فئة من المستغربين ، و إما بالغبش والغُبارية وتكدر الرؤية عن كثير ممن ينتسب لهذه الأمة ، سواءً كان من عامة الشعوب ، أو كان ممن ينتمي إلى العمل الإسلامي أو حتى من الحكومات أو غير ذلك . لذلك يجب أن نحدد هويتنا , يجب أن نحددها بدقة وأن نعرفها بوضوح لنعرف ما هي حقيقتنا و أهدافنا وما هو المنهج الذي يجب أن نسير عليه ؟(8/1)
هل هويتنا أيها الأحبة هي القومية أم هل هويتنا هي الوطنية ؟ أم هل هويتنا هي التبعية للشرق أو الغرب أو لهيئة الأمم ؟ أم هل هي هويتنا هي السير وفق النظام العالمي الجديد ؟
ما هي هويتنا نحن المسلمين ؟
القومية جاءتنا عن طريق الغرب , عن طريق أوروبا , ونشرها اليهود في تركيا فأثاروا النعرة القومية الطورانية ؛ ثم أخذها النصارى المارونيون في لبنان بالتحديد ونشروا القومية العربية ، ففرقت بين المسلم من أرض العرب وبين المسلم من البلدان الأخرى ، فبدل أن يكون الرقم الذي معنا يتعدى الألف مليون أصبح لا يتجاوز مائة وخمسون مليون . ثم ما الذي حصل ؟ حصل التفرق والانحطاط .. نعم أيها الأحبة .. هذه القومية ما أخذت حتى بقيم العرب في الجاهلية والتي عبر عنها شاعرهم بقوله :
و أغض الطرف إذا تبدت جارتي ***** حتى يواري جارتي مأواها
بل أخذت التحلل والتهتك والفجور والفساد ونقلوه إلى بلاد العرب بصفة التقدم والرقي والحضارة .
هل هويتنا هي الوطنية ؟! الأوطان رقعة ضيقة , ما الذي يحدها ؟ ما الذي يُبَيِّنُها ؟ هل هي المكان الذي قضيت فيه حياتك ؟ ما تحديد هذا الوطن الذي يجب أن يتعصب له الإنسان وأن يوالي عليه وأن يعادي ؟ إن الوطن لا يحد ولا يوضح فإذا قيل مثلاً إن أهل مصر يجب أن يتعصبوا لمصر ، فسيختلف أهل مصر لأي شيء يتعصبون : للصعيد أم للقاهرة ؟ وأهل الصعيد سيختلفون يتعصبون لأي شيء لأسوان أو لأسيوط ؟ إن هذه الهوية لا تحديد لها وإنها تفرقة وضعف وخور في الأمة .
هل ننتمي لهيئة الأمم ؟ وللشرعية التي يطنطنون بها ، وهي في واقع الأمر جاهلية يسيرها اليهود والنصارى ، ونحن كما قال جرير :
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ********** ولا يستأمرون وهم شهود(8/2)
أم هل ننتمي للنظام العالمي الجديد ؟ الذي نكون عجلة من عجلاته ولكن السائق غربي يقود الحافلة ، إلى أي شيء ننتمي ؟ وما الذي يميزنا عن غيرنا ؟ ما الذي يحدد هويتنا نحن هذه الأمة ؟ ما الذي يجعلنا نجتمع على كلمة سواء ؟
إن هويتنا أيها الأحبة الكرام هي هذا الدين الذي أكرمنا الله به وأخرجنا به من الضلالة إلى الهدى ومن العمى إلى البصيرة ، هذا الدين هو القاسم المشترك الوحيد الذي تلتقي عنده وحدة الإسلام ، هذه الأمة الكبرى من مشرق الأرض إلى مغربها ، فلا يجمعها جنس ولا تجمعها لغة ولكن يجمعها دين واحد ، هذا الدين اتحدت عليه وائتلفت عليه . لقد كان المسلم يخرج من أقصى المغرب وينتقل إلى أقصى المشرق وهو يعتبر الجميع بلاده ، لا بل إنه ينتقل من بلد بعيد إلى بلد آخر بعيد فإذا جاء احتفى به أهل البلد وعينوه لهم قاضياً و إماماً . انظر مثلاً ابن خلدون العالم الكبير المؤرخ صاحب المقدمة التي هي من قواعد علم الاجتماع , ولد في بلاد تونس وفيها نشأ وانتقل إلى بلاد الأندلس فاستقبلوه استقبالاً حافلاً ، ونتقل إلى مصر فعينوه فيها قاضياً .. وهكذا كانت الأمة :
ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً ******** الشام فيه ووادي النيل سيانِ
و كل ما ذكر اسم الله في بلدٍ ******** عددت أرجاءه من لب أوطاني
بل أيها الأحبة الكرام ، إن تاريخ هذه الأمة المسلمة يتعدى الألف وأربع مائة سنة الماضية إلى أعماق التاريخ , إلى يوم أن أنزل آدم – عليه السلام – إلى هذه الأرض ، منذ أن وجد الإسلام على هذه الأرض وذاك هو تاريخنا ، الأمة المسلمة أمة واحدة من عهد آدم عليه السلام كما قال الله تبارك وتعالى : {{ إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون }} . وقال سبحانه في سورة المؤمنون : {{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم * إن هذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم فاتقون }} .(8/3)
فدين هذه الأمة دين واحد هو الإسلام {{ إن الدين عند الله الإسلام }} ، وتاريخها واحد هو تاريخ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ثم أتباعهم من المؤمنين ، ولذلك فنحن أيها الأحبة نتفاعل مع قصص الأنبياء عندما نقرؤها في كتاب الله جل وعلا . عندما تقرأ سورة يوسف أو عندما تقرأ قصة إلقاء أبينا إبراهيم في النار أو عندما نقرأ قصة موسى مع فرعون تحس بشعور غريب ، كأنما أنت ممن شهد الحدث ، وممن هو معني به ، كما أنك أيضاً عندما تقرأ هذه القصص تجد في نفسك العداوة للطواغيت فرعون وهامان وقارون ، كما في نفس الوقت تعادي أبا جهل وأُبي بن خلف وعبدالله بن أُبي ومن تبعهم إلى عصرنا ، إن هذا هو الشعور الواحد شعور الأمة الواحدة ، كما قال الله سبحانه : {{ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل }} . هو : أي الله عز وجل , سماكم المسلمين من قبل ، وفي هذا : أي في هذا القرآن {{ ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير }} . ويقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي الحارث الأشعري رضي الله تعالى عنه : ( ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثى جهنم ، قيل : و إن صلى وصام ، قال : وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله ) . إن لنا ثلاثة أسماء سمانا الله بها ( المسلمين ) ، ( المؤمنين ) ، ( عباد الله ) ، وهذا الحديث رواه أحمد ورواه الترمذي وابن حبان وغيرهم . وهو حديث صحيح ، صححه جماعة من أهل العلم قديماً وحديثاً ، وممن صححه في عصرنا سماحة الإمام الشيخ عبدالعزيز بن باز والعلامة الشيخ ناصر الدين الألباني .(8/4)
فإذن دعوى الجاهلية التي جاءت في هذا العصر الحديث وتوعد عليها بأن صاحبها من حثى جهنم هو كل تعصب لغير هذا الدين سواء كان تعصباً لجنس ، لقبيلة ، لوطن ، لأرض ، لقومية , للغة ، كل تعصب لغير هذا الدين على غير حق فصاحبه قد دعى بدعوى الجاهلية .
فالتعصب إذن للأوطان أو للأنساب أو الدعوة للقومية أو الوطنية هو أمر من أمور الجاهلية ، فكيف بالسعي لتعميق هذه الانتماءات ، ثم أيضاً التفريق بين الناس على هذا الأساس ، و وزنهم بهذا الميزان : ميزان القوميات والوطنيات واللغات والأجناس ؟ كل هذا من دعوى الجاهلية .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من غراء الجاهلية " .
و قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية للإنسان ومثله التعصب للمذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعض على بعض ، وكونه منتسباً إليه يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي ويزن الناس به فكل هذا من دعوى الجاهلية " .
ثم نتذكر أيها الأحبة القصة المشهورة التي رواها البخاري ومسلم عندما ضرب رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ، فقال المهاجري : يا للمهاجرين . ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أبدعوى الجاهلية و أنا بين أظهركم ؟ ما بال دعوى الجاهلية دعوها فإنها خبيثة ، دعوها فإنها منتنة ) . رواية البخاري " دعوها فإنها خبيثة " ، و رواية مسلم : " دعوها فإنها منتنة " . مع أن هذه " يا للأنصار يا للمهاجرين " أوصاف يحبها الله ورسوله ، الله عز و جل سمى المهاجرين بهذا الاسم ، وهو الذي سمى الأنصار بهذا الاسم ، {{ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان }} . ومع ذلك لما أصبحت الدعوة هنا على غير حق تعصب للباطل أصبحت من دعوى الجاهلية ، فكيف بغير ذلك أيها الأحبة .
أيها الأحبة:(8/5)
و مما يجدر أن نذكره في هذا الحديث ما ذكره بعض الدعاة إلى الله عز وجل عن قصة مؤثرة ينبغي أن نأخذ منها عبرة ... يقول :
" أنه عقدت ندوة في فلسطين المحتلة عام 1980هـ وبالتحديد في 19/12/1980هـ ، حضرها من مصر الدكتور مصطفى خليل رئيس وزراء مصر الأسبق وحضر هذه الندوة عدد من الأساتذة اليهود المتخصصين في الشؤون السياسية والعربية , فقال خليل هذا : ( أود أن أطمئنكم أننا في مصر نفرق بين الدين و القومية ولا نقبل أبداً أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة إلى عقائدنا الدينية ) ، فوقف أحد اليهود - بروفيسور اسمه " دافين " - قائلاً : ( إنكم أيها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة ولكنني أحب أن أقول لكم إننا في إسرائيل نرفض أن نقول إن اليهودية مجرد دين فقط ؛ بل إننا نؤكد لكم أن اليهودية دين وشعب ووطن ) ، وقام آخر - البروفيسور " تيفي ياقوت " – وقال : ( أود أن أقول للدكتور مصطفى خليل إنه يكون على خطأ كبير إذا أصر على التفريق بين الدين والقومية و إننا نرفض أن يعتبرنا الدكتور خليل مجرد أصحاب دين لا قومية فنحن نعتبر اليهودية ديننا وشعبنا و وطننا ..... إلى آخر كلامه الذي ذكر فيه أن القومية أوروبية المنشأ والمصدر و أن الأوربيون صدروها إلى الشرق ) . ألا شاهت وجوه الناعقين بالانتماء لغير الإسلام ، الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ، نقول لهم خذوا الدروس من هذا اليهودي إذا كنتم قد صددتم عن أخذ الدروس من الكتاب والسنة .(8/6)
والسؤال أيها الأحبة الذي يطرح نفسه : ما هو الإسلام الذي ننتمي إليه ؟ هل هو ما يدعوا إليه أهل الخرافة والطرقية و أهل البدع والموالد الذين حياتهم احتفالات , كلما انتهى مولد انتقلوا إلى مولد آخر ، الذين يدعون إلى الشرك والوثنية في من قال بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم الأولياء والصالحين ، أم هو الذي يعتني بالشكليات والرسميات والمظاهر دون المضمون فيرضى عنه الكافرون حيث لا خطر على مصالحهم وأطماعهم ؟ أم هو ما يريده بعض المفتونين بالغرب الكافر من إسلام متميع يحصلون تحت مظلته على أهواء نفوسهم وشهواتهم ؟
إن الإسلام الذي ننتمي إليه هو الإسلام الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه عز وجل ، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة المتمسكون بالكتاب و السنة بفهم السلف الصالح ، المتمسكون بما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان . هذا الإسلام هو مصدر القوة والعزة : {{ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون }} ، {{ وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون }} ، {{ لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون }} ، {{ بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون }} . تأملوا أيها المسلمون تأملوا هذه الآيات العظيمات التي تقول لكم إن هذا الدين فيه شرفكم وفيه ذكركم وفيه عزتكم و رفعتكم . هذا الدين عرف حتى الكفار أنه سبب قوة المسلمين ، عرفوا أنه سبب عزة المسلمين .(8/7)
من حوادث مطلع القرن الثاني الهجري ، أن ملك سجستان - وكان يقال له "روتبيل" - رفض أداء الخراج للدولة الأموية وذلك في آخر عهدها ، فأوفدوا إليه وفداً يفاوضونه ويسألونه ما السبب ؟ فسألهم : أين القوم الذين كانوا يأتوننا قبلكم ؟ كانوا ضامري البطون من الجوع ، يلبسون نعال الخوص ، وفي وجوههم سيما من أثر السجود ، قالوا : قد مضوا ـ يعني ماتوا وانتهى جيلهم ـ ، فقال روتبيل الكافر : إنكم أنضر منهم وجوهاً ـ يعني أحسن منهم وجوهاً ـ ولكنهم أصدق منكم وعداً ، وأشد بأساً ، ثم أتى بما عليه من خراج .
والله إن هذا درس وعبرة أبلغ من آلاف المواعظ ، و أبلغ من آلاف الخطب ، فقد عرف الأعداء سر قوة المسلمين ، وفي هذا الزمان بعض أبناء المسلمين لا يعرفون ذلك ، فذلوا للكفار و من ثم جروا أمتهم إلى الذلة .
ثم أيضاً هذا الدين الذي ننتمي إليه هو أيضاً مصدر الأمن ومصدر الطمأنينة في بلدان المسلمين ، {{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }} ، {{ وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرماً آمناً }} . آية عظيمة إذا خرج الإنسان من الحرم لا يأمن على نفسه وإذا دخل فهو آمن . أليس القادر على ذلك قادراً على أن يجعل الأمن يعم ربوع بلاد المسلمين ؟ بلى والله .(8/8)
والله إن حجة من يقول إن الأخذ بالدين كاملاً وتطبيقه إنه سبب ضعفنا أو سبب في تكالب الأمم علينا أو أنه سبب في أن يغزونا أو نذل للكفار ، والله إن هذا ليس بصحيح بل هو سبب العزة والقوة وسبب خوف الكفار من هذه الأمة . وكل صدود أيها الأحبة عن هذا المنهج ، كل صدود عن هذا الدين الحق ، كل انحراف عن هذا الانتماء الحق هو من اتباع الأهواء ، {{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدىً من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين }} . ثم في هذا الدين في هذا الانتماء الحق ، في التمسك بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح صلاح الأمة , كما قال الإمام مالك ـ رحمه الله تعالى ـ : ( لم يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها ) . كما هو أيضاً سبب في رفع قيمة الفرد المسلم ، الإنسان المسلم سبب من أسباب رفعته بأن يكون متمسكاً بهذا الدين , كما في الحديث ( أن عمر ـ رضي الله عنه ـ ولى رجلا على مكة ـ اسمه نافع بن عبدالحارث الخزاعي ـ ذهب عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى مكة فقابل نافع هذا في الطريق , فسأله : من استعملت على أهل الوادي ـ يعني على أهل مكة ـ ؟ قال : ابن أبزة ، قال : ومن ابن أبزة ؟ قال : من موالينا ، قال : استعملت على أهل الوادي مولى - تستعمل على صناديد قريش مولى - ؟ قال : يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض ، قال : أما إني سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ) .
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه ******* فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
فقد رفع الإسلام سلمان الفارسي ****** وقد وضع الكفر النسيب أبا لهب(8/9)
كما أيضاً أيها الأحبة الكرام الانتماء الحق لهذا الدين والتمسك الصحيح به سبب لرفع الذلة التي ضربت اليوم على هذه الأمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا تبايعتم بالعينة وتبعتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم " حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود . إذاً سبب ذلة الأمة انحرافها عن هذا الدين ، وسبب رفع الذلة عنها رجوعها لهذا الدين وتمسكها الحق به ، وانتماؤها الصحيح لا الانتماء المدعى .
أيها الأحبة:
ينبغي أن نعلم أن الانتماء لهذا الدين لا يتعارض مع حب الأوطان ولا مع حب العربية , فحب الأوطان فطرة وجبلة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب مكة ولولا أنه أخرج منها ما خرج .
وكذلك العربية حبها من الدين ، وخدمة الأوطان من دين الإسلام وأن تسعى في قوتها وعزتها ورفعتها ما دامت بلد الإسلام ، و حب اللغة العربية وحب العرب كل هذا من الإيمان يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم ما معناه : " أن الأمة مجمعة على فضل جنس العرب على غيرهم " , لكن إذا كان هذا يندرج تحت الانتماء لهذا الدين , وإذا كان يخدم الانتماء العام والهدف العام و الإطار العام لهذه الأمة . أما إذا افترض وجود تعارض أو إذا كان ذلك ينتقل إلى التعصب والموالاة والمعاداة في الوطن أو في العروبة فلا ثم لا ، يكون ذلك من دعوى الجاهلية .
أيها الأحبة :
هذا الانتماء الحق للإسلام ، أو حقيقة الانتماء تتجلى في أمور يقتضي منا أمور أجملها في النقاط التالية :(8/10)
أولها : التمسك التام بالعقيدة الصحيحة ، عقيدة التوحيد النقية الصافية ، سواء كان ذلك في توحيد الربوبية أو في توحيد الألوهية أو في الأسماء والصفات والاعتناء بها ودراستها وتعلمها وتعليمها ونشرها ، ثم أيضاً في الدخول في الإسلام كله {{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة }} ، السلم هنا : هو الإسلام ، أي خذوا الإسلام كاملاً فالدين حق كله وهدى كله ونور كله وليس فيه قشر ولباب ، وهذا التقسيم تقسيم مبتدع وتقسيم ضلال وتقسيم باطل و إن قال به من قال به .
ثم أيضاً من ذلك :
تطبيق الشريعة واقعاً عملياً نعيشه ونحياه ، تطبيق الشريعة حقاً لا دعوى ، تطبيق الشريعة في كل مجالات الحياة هو المعبر للانتماء الحق لهذا الدين .
ثم أيضاً :
الولاء والبراء في هذا الدين ، والأخوة الإيمانية والرابطة الإسلامية هي أقوى الروابط ، رابطة الإيمان أيها الأحبة هي التي جعلت الملائكة الذين يحملون العرش يستغفرون للمؤمنين {{ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا }} ، ما الذي جعل أولئك الملائكة الكرام الذين يحملون العرش و كرمهم الله بذلك , ما الذي جعلهم يستغفرون للمؤمنين إلا هذه الرابطة رابطة الإيمان . إذن الولاء والبراء في هذا الدين الموالاة والمعاداة مآخاة المؤمنين ومحبتهم أينما كانوا من أي لون ومن أي بلد تحس بإحساسهم وتتألم لآلامهم تحاول أن تعينهم بالكلمة بالمال بالعمل ، ومعاداة الكافرين وإن كانوا من أبناء بلدنا ويتكلمون بألسنتنا ولهم ألوان جلدتنا .(8/11)
كما يقتضي ذلك الدفاع عن الحق الذي ننتمي إليه والهوية التي تميزنا عن غيرنا من الأمم . نعم يجب أن ندافع عن هذه الهوية مما يفسدها ، ومما يطعن فيها ، ومما يكدر صفاءها ونقاءها ومن ذلك - أي من الهجوم على هويتنا وعلى انتماءنا ومما يكدر ذلك ويفسده ويضيعه - الطعن الخفي لهذا الدين بالتعريض تارة والتلميح وبالرمز والإشارة وأحياناً بالتصريح وأحياناً يكون بالهجوم بطرق ملتوية , بالهجوم على التراث , بالهجوم على كتب العلماء وتسميتها بأسماء منفرة وهم يريدون من ذلك الطعن في هذا الدين .
ومن ذلك :
محاولة تمييع الهوية التي تميزنا عن غيرنا سواء كان بتوجهات عامة أو كان بأمور موجهه للفرد بمحاولة إلهائه بمحاولة تضييعه ، بمحاولة صرفه عن حمل الرسالة التي كلفه الله وشرفه بها في آن واحد .
ومن ذلك أيضاً :
تجزئة الإسلام بأخذ بعضه وترك بعضه {{ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا … }} .
ومن ذلك:
تبرير الباطل وإلباسه لبوس الحق وتغليفه بما لا ينكشف معه ، فإن الباطل لا يروج إلا إذا لبس بلبوس الباطل وقد كان ذلك ديدن اليهود {{ يا أهل الكتاب لمَ تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون }} ، تبرير الباطل بمقالة ، بكلمة ، بفتوى ، بغير ذلك : كما حصل من بعضهم و أفتى بحل بعض أنواع الربا في بعض البلدان .
من ذلك أيها الأحبة :
الظهور بمظهر المدافع لهذا الدين بالدعاء للعصرانية أو الفكر المستنير أو التجديد و هم من هذا الدين براء وبينهم وبينه كما بين المشرق والمغرب إنما يريدون هدمه بواسطة اسمه و بواسطة انتحاله وبواسطة الدفاع عنه كما يزعمون .
ومن ذلك أيضاً :(8/12)
وهو من أخطر ما يكدر الهوية في نفوس الشباب : الازدواجية التي نراها في المجتمع ، انظر مثلاً ما يعلمه الناس في المدارس في التعليم ثم انظر ما يرونه في الإعلام ، ازدواجية وتعارض . قبل سنوات عقدت ندوة بإشراف مكتب التربية بدول الخليج العربي عنوانها " ماذا يريد التربويون من الإعلاميون " ملخص هذه الندوة شيء واحد هو أن ما يبنيه التربويون في النهار يجب أن لا يهدمه الإعلاميون في الليل . إذن الازدواجية هذه من أخطر ما يكدر الانتماء الحق ، ومن أخطر ما يكدر صفاء الهوية التي نحملها وننتمي إليها .
ثم أيضاً من أخطر ما يكون:
محاولات تكريس الانتماء لغير هذا الدين وللدعاوى الجاهلية في مقالات ، في كلمات ، في مقررات ، في غير ذلك . كل ذلك مما يجب أن يدافعه المؤمنون المنتمون إلى هوية الإسلام ، والمنتمون حقاً لهذا الدين . إننا بحاجة إلى رجل العقيدة الذي يعرف حقيقة الانتماء لهذا الدين ، يعيش من أجل هذه العقيدة ، ويحمل هذه الرسالة للبشرية في أنحاء الأرض سواءً رضي الناس أم سخطوا .
يقول الشيخ محمد أمين المصري ـ رحمه الله تعالى : " الأمة التي يفقد أبناءها حمل الرسالة تفقد معاني الجهاد وتفقد قيمة الحياة وحين لا يكون للأفراد رسالة يشعل الخواء القلب وتمتد الشهوات وتستعلي الغرائز " . رجل العقيدة هذا الذي يعرف حقيقة الانتماء لها وهو الذي يتصف بالصفات التي تؤهله لحمل مسؤولية هذا الدين .
ومن ذلك :(8/13)
بعد صفاء العقيدة في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات ، وبعد الاستقامة التامة والمحافظة على السنة : أن يكون متميزا عن الآخرين . متميزا في علمه ، متميزاً في عمله متميزاً في معاملته وسلوكه وخلقه ، متميزاً في هديه وشكله ومظهره , متميزاً في جده واجتهاده , متميزاً في دعوته لهذا الدين ... فإن ديننا هذا هو دين التميز , نحن متميزون في عقيدتنا , نحن متميزون في تعبدنا , نحن متميزون في أخلاقنا ، كما أننا أيضاً متميزون في شكلنا وفي مظهرنا . وقد حرص نبينا صلى الله عليه وسلم على هذا التميز حرصاً عظيماً وقد وضح ذلك وجلاّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه ـ في اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم .
كما أيضاً من صفات رجل العقيدة هذا الذي نريده ونتطلع له : أن يكون ممن يحس بالخطر الدائم على هذه الأمة ويشعر بهذا الخطر النازل على الأمة سواءً كان خطر داخلي بالانحراف والمعصية أو كان خطرا خارجيا , يكون واعياً بأزمات الأمة ويرى نفسه مسؤولاً مسئوليةً تامةً عن هذا الدين , هذا الرجل هو الذي يدعوا إلى الله عز وجل وينفق أوقاته ويبذل جهده لهذا الدين , للدعوة إلى الله عز وجل إما مباشرةً إن كان يستطيع - بخطبةٍ أو محاضرةٍ أو موعظة أو كلمة - أو تسبباً إن كان لا يستطيع أن يكون داعية مباشرةً . يكون متسبباً بنقل الشريط ، بنقل فتوى ، بنقل الرسالة ، بنقل دعوة إلى حضور محاضرة , بدعوة إلى حضور درس علمي ، كل ذلك من طرق الدعوة إلى الله عز وجل , والحمد لله الذي لم يجعل طريقة الدعوة محصورة في شيء محدد ، وكلما أغلق الظالمون باباً فتح الله عز وجل لعباده المؤمنين أبواباً .(8/14)
هذا الرجل - رجل العقيدة الذي نسأل الله عز وجل أن يكثر من أمثاله بين المسلمين - هو الذي ينقل الناس من عدم الوعي إلى الوعي ؛ هو الذي ينقل الناس من أزمة الوعي إلى الوعي بالأزمة ؛ ينقل الناس من أنهم يعيشون أزمة وعي لا يعون دينهم ولا ما يحيط بهم ينقلهم إلى أن وعوا الأزمة التي تعيشها هذه الأمة ، ويعملوا على تعميق الانتماء لهذا الدين .
أيها الأحبة :
نقل الدكتور محمد أمين المصري ـ رحمة الله عليه ـ عن الباحثين النفسيين أنهم يقولون : " إن الفرد الذي يحمل رسالة كريمة هو الفرد المتكامل في شخصيته , و الذي لا يحمل رسالة كالقصبة الجوفاء قلبه خاوٍ ولا يعرف معنىً للحياة , وأنه يشارك العجماوات في تسليط شهواته عليه وتملك غرائزه له ولكنه دونها لأنها تؤدي رسالة وهي خدمة الإنسان و إن كانت لا تشعر بها , وذلك الشخص ليس له رسالة في الحياة " . ثم ينقل ـ رحمه الله تعالى ـ عن الباحثين الاجتماعيين قولهم : " دور حمل الرسالة هو دور نهوض الأمة وصعودها و دور التخلي عن الرسالة هو دور الانحدار والهبوط " ثم يعلق ـ رحمه الله ـ بقوله : " و لقد ظل المسلمون يصعدون برسالتهم حيناً من الدهر ـ يعني لما كانوا يحملون هذه الرسالة ـ ثم تخلوا عنها شيئاً فشيئاً فعاشوا فترةً يسيرون بقوة الدفعة الأولى ثم كان دور الانحدار وإن الأمر خطير , إننا نحمل اسم الإسلام ولكننا لا نحمل رسالة الإسلام " انتهى كلامه .
أيها الأخوة في الله :
والانتماء الحق للإسلام يقتضي من العاملين للإسلام والدعاة إلى الله عز وجل وعلماء الإسلام أمور منها :(8/15)
أن التعصب إنما يكون للحق , للكتاب و السنة لا لأقوال الرجال وتجاربهم ولا للأحزاب والجماعات . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته و يوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ينصب كلاماً يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة ، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون بين الأمة يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون " . و قال أيضاً رحمة الله عليه : " من نصب شخصاً كائنا من كان - يعني غير النبي صلى الله عليه وسلم - فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً " .
كما أن الانتماء الحق لهذا الدين يقتضي من العاملين للإسلام السعي في الوحدة الإسلامية :
أولاً : السعي لوحدة العاملين في الإسلام على المنهج الحق ، ولا تكاد تجد داعية إلى الله عز وجل إلا وهو يقول أنه ينتمي لأهل السنة والجماعة . إذن نريد تحقيق هذا الانتماء ، إننا نريد أن يتحد العاملون للإسلام على المنهج الصواب الذي يحمله أهل السنة و الجماعة وهو الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح ، بإجماع سلف الأمة الذي كان عليه الأئمة المرضيون في القرون الثلاثة المفضلة . هذا هو الحق وهذا هو مذهب أهل السنة , فمن كان على مذهب أهل السنة حقيقةً فإن عليه أن يسعى في وحدة العاملين لهذا الدين . ثم إن عليهم أن يتعاونوا كل في مجاله ، من كان بارزاً في علم العقيدة ومن كان بارزاً في علم الفقه ومن كان بارزاً في الوعظ ومن كان بارزاً في الصحافة ومن كان بارزاً في السياسة , الكل على ثغرة و الكل يجب أن يكمل بعضهم بعضاً ولا يجب أن يطعن بعضهم في بعض ولا أن يصف بعضهم بعضاً بما لا يليق ولا يتنابزوا بالألقاب .(8/16)
ثم على العاملين للإسلام أن يتناصحوا و أن يتقبلوا النقد والتواصي بالحق وعليهم أن يتواصوا بالحق وأن يتواصوا بالصبر وأن تكون صدورهم متسعة للخلاف . والذي نراه في واقع الإسلاميين أن صدورهم تضيق بالخلاف و أن بعضهم لا يتحمل أن يُنْتَقَدْ وإن بعضهم أيضاً ربما لا يتحمل أن يقال عن شيخه شيئاً , لا يتحمل أن يقال عن جماعته , عن حزبه , أن هذا الأمر صواب وأن هذا الأمر خطأ . ولا شك أن هذا مما يسبب الافتراق والاختلاف فلا بد أن يتداعوا إلى التعاون والاجتماع على كلمة الحق .
ثم أيضاً في الوحدة الإسلامية على الدعاة إلى الله عز وجل والعاملين للإسلام في كل أقطار الأرض أن يسعوا إلى تضامن المسلمين و إلى تكتل الأمة فإن هذا العالم هو عالم التكتلات . الأمم الأوروبية تريد أن تتحد ، وهي الآن شعوبها تصوت على اتفاقية أو على معاهدة اسمها معاهدة ( ماسترخت ) يريدون أن تتحد دول أوروبا الغربية لتكون دولة أوروبية واحدة . عالمنا هذا لا يعيش فيه إلا الأقوياء وقد جربت الأمة يوماً من الأيام مدى التضامن الإسلامي فكان له أثر عظيم , عندما نودي به قطعت معظم الدول الأفريقية علاقاتها مع اليهود وعندما تخلي عنه بدأت الدول هذه نفسها تراجع علاقاتها مع اليهود وترجعها إلى حالها الأول .
إذن أيها الأحبة :
لابد أن يجتمع المسلمون ومصلحة المسلمين هي في ذلك وهذا هو أول خطوة على الطريق , أن يتضامنوا بل أن يجعلوا لهم سوقاً مشتركاً كما فعل الأوربيون . وعجبي من الذين يقلدون الغرب الكافر ولكنهم في نفس الوقت لا يفعلون أفعاله الإيجابية هذه ، يتجه إلى الاتحاد وهم يتجهون إلى الفرقة .(8/17)
أيضاً أيها الأحبة إن الانتماء إلى المنهج الحق : يقتضي من العاملين للإسلام أن يتلمسوا مواطن العلل ومواطن الضعف والخلل في هذه الأمة و أن يقوموا ببيانها وتشخيصها ثم يقوموا بتقديم العلاج الناجح لها . إن نقد الخطأ وأن بيانه أمر طيب ، ولكن أفضل منه وهو أطيب وأحسن أن نبين معه علاجه وأن توضح البديل عنه . إن الأمة تشكوا من أمراض مستعصية ولعل من أعظم هذه الأمراض : " الانحراف العقائدي الخطير " الموجود في كثير من فئات الأمة وفي كثير من شعوب المسلمين . إن هناك بعدا عن حقائق الكتاب والسنة وعدم الفهم الصحيح لنصوص الكتاب والسنة . ثم إن الأمة تشكوا أيضاً من: " الانحراف السلوكي " الذي أدى إلى ترك العبادات وإلى التحليل والتسيب الخلقي . ثم إن الأمة أيضاً تشكوا من " داء الفرقة والاختلاف والتفتت والتمزق " على عكس ما أراد الله لها عندما قال لها : {{ ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزبٍ بما لديه فرحون }} ، وعندما قال لها : {{ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا }} . كما أن الأمة تشكوا من : " تخلفها في معظم مجالات الحياة " , إن الأمة تشتري كل ما تحتاجه من الكفار حتى لقمة العيش كثيراً من شعوب المسلمين تعتمد فيه على أمريكا وأوروبا . تخلف مريع لا يمكن أن تقوم للمسلمين قائمة ولن تكون لهم قوة وهم هكذا . كيف تكون للمسلمين قوة وهم يشترون سلاحهم من عدوهم فإذا احتاجوا إليه قطعه عنهم ؟! ثم أيضاً : " داء ومرض الظلم الاجتماعي " الذي تعيشه الأمم المسلمة يوجد في بلدان المسلمين فقراء وطبقات فقيرة تحت مستوى الفقر , إنها طبقات لا تملك حتى خفي حنين ، وهذه هي الأكثر ، وتوجد طبقات قارونية غنية جداً ولكنها لا تلتفت إلى إخوانها ولا تؤدي زكاة أموالها ، هذا الظلم الاجتماعي الظلم المريع من أعظم أمراض هذه الأمة المسلمة . ثم إن هناك المرض الخطير والداء العضال وهو: " التبعية الفكرية والسياسية(8/18)
والاقتصادية والعسكرية للكافرين " , تبعية نراها في كل شيء ، يراها المسلم أينما اتجه وأينما سار ، يراها في الشارع يراها في المستشفى ، يراها في الجامعة ، يراها في أماكن كثيرة من بلدان هذه الأمة . ثم إن هناك : " مرض التخاذل أمام الأعداء " مرض التخاذل أمام اليهود ، أمام النصارى ، أمام الرافضة ، كل هؤلاء استأسدوا على هذه الأمة و أخذوا ينهشونها . ثم إن هناك : " مرض الاستبداد والطغيان " الذي يواجهه أهل الإسلام في كثير من بقاع المسلمين من بقاع الأرض ، يواجهه المسلمون عامة والدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ خاصة ، وما أحداث مصر وتونس و الجزائر عنا ببعيد .
ومن أعظم الأدواء و الأمراض التي تواجهها هذه الأمة تلك الأمراض التي تناقض الهوية والتي تضعف انتماءنا لهذا الدين والتي سبق ذكرها آنفاً .
إن الانتماء لهذا الدين يقتضي من العاملين للإسلام أيضاً :
أن يكونوا على حذر ، و أن يكونوا على يقظة تامة ووعي كامل بأساليب أعداء الدعوة و بمخططاتهم . إنهم يكيدون لهذه الدعوة ، وربما يوقعون الدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ في أمور يتندمون عليها في آخر الوقت عندما يتضح لهم الحق ، بل أحياناً بعض الدعاة يُوقع في أمور يقول فيها الحق ويتكلم بالحق ولكن يوظف هذا الحق الذي قاله في خدمة أهل الباطل . وفي مصر عقدت ندوات كلها تتكلم عن التطرف ، وتكلم بعض الدعاة المرموقين المحترمين الذين نجلهم و نحترمهم بكلام جيد في الجملة ولكنه استغل بمحاربة شباب الإسلام والجماعات الإسلامية ! إنها وقعة وقع فيها ذلك الداعية . وأيضاً كتبت بعض المجلات أو وضعت ملفاً للغلو والتطرف ودعت واستكتبت كثيرا من الكُتّاب , كلهم أو جلهم من العلمانيين والمنحرفين إلا واحداً تقريباً من الإسلاميين . وكتب ـ غفر الله له ـ وكانت كتابته في وسط كتاباتهم مما كان له أثر في تقويةً للتيار الذي أرادوه هم .(8/19)
إذن ينبغي للدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ في مختلف أنحاء الأرض أن يكونوا على حذر من ألاعيب الساسة ومخططات أعداء الإسلام .
أيها الأحبة :
إن الانتماء الحق لهذا الدين ولأهل السنة يعني الثبات والصدق على المبادئ تنظيراً وعملاً وبناءً , وعلى هذا فإن التنازل عن شيء من العقيدة ممنوع بأي حجة كانت وبأي هدف كان ، فالقول بأن ذلك من مصلحة الدعوة أو للتكتيك مرفوض . فالإسلاميون الذين يتحالفون مع العلمانيين بحجة الوطنية أو يدخلون تحت مظلتهم لا شك أنهم على خطأ ، فإن الثبات على المبادئ أعظم بكثير من المصلحة الموهمة والمظنونة .
ثم أيضاً إن الانتماء و الأحكام الشرعية لا تخضع للاعتبارات الأخرى , ولذا فإن تسمية الكفرة والمرتدين بـ ( الإخوة ) من أعظم الخطأ الذي يقع فيه بعض الدعاة وبعض أهل العلم ، وقد رأينا وقرأنا أن بعضهم كان يقول للأقباط ( أخوتنا الأقباط ) وبعضهم ألّف كتاباً يرد فيه على العلمانيين وهو شخص محترم مرموق وقال في أوله : " ونقول لإخواننا العلمانيين الذين يطعنون في الإسلام ويدافعون عن العلمانية " !! . العتب والله لا ينقضي , قوم يطعنون في الإسلام ويدافعون عن العلمانية يُسمون " إخوة " ؟! إخوة في ماذا ؟ في أي شيء ؟(8/20)
ثم إن الانتماء الحق لهذا الدين وإن الثبات الصادق على المبادئ يقتضي أيضاً أن نتخذ المواقف الشرعية الصحيحة على الأساس الشرعي السليم لا على أي أساس آخر ، لا على أساس حزبي ولا على أساس تعصب وعلى غير ذلك . فمثلاً عندما يتهجم بعضهم على بعض الجماعات الإسلامية التي كانت لها رأي في قضية أزمة الخليج بتهمة أنهم وقفوا موقفاً لا نرضاه نقول إن هذا خطأ ، على افتراض أنهم وقعوا فيه فإن ذلك لا يحق ولا يبرر أن يشن عليهم هجوم ، وأيضاً الذين دافعوا عن بعض الجماعات أو الذين نشروا أفكار و آراء بعض الجماعات التي عارضت جبهة الإنقاذ في الجزائر ، وشمتت بها وأيدت الطواغيت وأثنت عليهم هؤلاء نقول لهم : قد أخطأتم في ذلك . في الجزائر حصل ما حصل ، وقامت بعض الجماعات بصراحة وليس بتلميح بالشماتة لما حصل لإخوانهم , العجب ليس من فعل هؤلاء إنما العجب في فعل آخرين في المشرق العربي جلسوا وقتاً طويلاً وهم يبرزون هؤلاء وينشرون أقوالهم وينشرون صورهم على أغلفة مجلاتهم . إن الثبات على المبادئ يقتضي منا أن نقول للمخطئ أخطأت وأن نقول للمصيب أصبت ، وأن ننصحه وأن نبين له الحق وأن نتخذ الموقف المشروع شرعاً بالعدل والإنصاف لا بتحيز ولا بظلم .
أيها الأحبة :
إن الانتماء الحق لهذا الدين يعني مراعاة سنن الله ـ عز وجل ـ في تغيير المجتمعات ، ومن سنن الله ـ عز وجل ـ في التغيير : البدء في الأنفس ، كما قال الله سبحانه : {{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }} . فهل بدأ العاملون للإسلام بذلك ؟ هل عدلوا ما عندهم من الانحراف إن كان موجوداً ؟ هل كملوا ما عندهم من نقص إن اكتشفوه وتبين لهم ؟(8/21)
لا شك أن مما يؤلم أن ترى بعض من يتصدى للدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ أو من يتصدى للعمل الإسلامي و إذا رأيته لا تكاد تفرق بينه وبين المستغربين المتفرنجين ، حلق لحيته ولبس لباساً لا يفرق بينه وبين غيره , ثم لا يتميز بسلوك ولا بهدي عن غيره ممن يحمل الأفكار الدخيلة على هذه الأمة .
ثم إن أيضاً ما يصيب العاملين للإسلام من انتكاسات أو خسائر فهو راجع إلى سنة بيّنها الله ـ عز وجل ـ لنا في كتابه بقوله : {{ أو لمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنَّى هذا قل هو من عند أنفسكم }} ، فهل راجع الإسلاميون أنفسهم ؟ هل نظروا من أسباب ما وقع بهم من مصائب ؟ هل بحثوا عن مواطن الخلل ؟ إن ذلك يقتضي منهم أن يشرحوا صدورهم و أن يتقبلوا ما يهدى إليهم من نقد أو نصح أو بيان .
أيها الأحبة :
ثم إن هناك مظاهر لا تعبر عن الانتماء الحقيقي الصادق للإسلام وهي موجودة في مجتمعات المسلمين من هذه المظاهر :
طاعة الكفار واتباع أهوائهم ، فهي ظاهرة موجودة في أنحاء العالم الإسلامي وقد قال الله ـ عز وجل ـ : {{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من وليٍ ولا نصير }} .(8/22)
ثم أيضاً من المظاهر التي تعبر إلى عدم الانتماء لهذا الدين : انتشار اللغة الأجنبية في بلدان المسلمين ومحاولة نشرها . انتشار اللغة الأجنبية في بلدان المسلمين سواء كانت اللغة الإنجليزية في المشرق العربي ، أو اللغة الفرنسية في المغرب العربي ، كل ذلك من مظاهر الانهزام الذي تعيشه هذه الأمة ومن مظاهر تمييع الهوية التي هي موجودة الآن في هذه الأمة . في الجزائر على سبيل المثال صدر قرار بتجميد قانون يسمى " قانون التعريب " , فقد كانوا قد سعوا في التعريب بأن تكون أمور الدولة عربية ولكن جمد هذا القانون الذي صدر قبل مدة وجيزة . في بعض البلدان تجد اللغة الإنجليزية هي لغة الجامعات ، لغة المستشفيات ، لغة المطارات ، لغة الشركات ، ما هذا ؟ هذا يدل على أن الانتماء للإسلام ليس انتماء كاملاً , ليس الانتماء الحق التام الصادق ، إن هناك خللا تعيشه هذه الأمة .
ومن ذلك أيضاً تمييع الهوية عند الكثيرين حتى بعض الجماعات الإسلامية . مثلاً : هناك بعض الجماعات في الجهاد الأفغاني لا تفرق بين السنة والرافضة والشيوعيين والمليشيات . لا شك أنها طعن عظيم في عقيدة أهل السنة والجماعة , العقيدة المتميزة سواء كان ذلك هناك أو في غيرها من الأماكن .
ثم من مظاهر البعد عن الهوية الإسلامية وعن الانتماء الحق لهذا الدين : التخاذل عن نصرة الإسلام ونصرة أهله والتخاذل في الغيرة على حرمات الله ـ عز وجل ـ . تجد الكثيرين يتخاذلون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أي والله يا إخوان إن بعضهم يجادلك في ذلك . أناس لا يُصَلُّون ثم تذهب وتريد من إخوانك الذين يحافظون على الصلوات في الأوقات الخمسة أن يعينوك , فيقولون اتركهم مالك ولهم .(8/23)
ثم هناك الهجوم المتواصل على الدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ وتجريحهم وتتبع عثراتهم وتضخيم ما يتوهم أنه خطأ , ونحن لا نقول أن الدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ بمعزل عن الخطأ ولا نقول أنهم معصومون ولكن قد جعل الله لكل شيء قدره والحق أحق أن يتبع .
أقِلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم ************* أو سدوا المكان الذي سدوا
إن هؤلاء الذين قد شهروا أسلحتهم ضد الدعاة وجندوا أنفسهم للصد عن الدعوة , هؤلاء إنما هم عون للكافرين وظهير للمجرمين وقد قال موسى عليه السلام : {{ ربي بما أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيراً للكافرين }} .
ثم أيضاً أيها الأحبة مما انتشر عندنا , وهو من المظاهر التي لا تعبر عن الانتماء التام الحقيقي لهذا الدين : تربية الأبناء تربية مادية , أي تربيتهم على حب الدنيا وكراهية الموت . يسعى الأب لتعليم أولاده في المدارس وفي المتوسطات والثانويات والجامعات كل ذلك لهدف وهو أن يؤمن مستقبله وأن يحصل على شهادة ووظيفة . لا تجده يتطلع بأن يربي أولاده تربيةً جهادية ، بأن يجعله أن يتمنى بأن يكون مجاهداً في ساحات الوغى .
ثم من هذه المظاهر التي لا تعبر عن الانتماء لهذا الدين : عيش الكثير من الشباب على هامش الحياة . عيشهم كعيش الذي لا يحمل رسالة ولا يعيش لمبدأ ، ولا كأن عليه مسئولية أمام الله ـ عز وجل ـ ، وكأنه لم يكرم ولم يشرف بحمل هذا الدين . إن هذه الأمة كرمها الله ـ عز وجل ـ بحمل الإسلام وجعل لها مكان السيادة والقيادة والريادة ، {{ كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس }} بماذا {{ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }} ، فإذا تخلت عن هذه الأوصاف ، وتخلت عن هذه الرسالة ، فإنها بلا شك ستتقهقر عن مكان الريادة كما هي حالها الآن .
أيها الأحبة في الختام أقول : إن أبرز خصائص الانتماء الذي تميز من حقق الانتماء لهذا الدين والتي تميز رجل العقيدة عن غيره ، ثلاثة أمور :(8/24)
أولها : التربية القرآنية الإيمانية ، التربية الجهادية
في المنزل , في الأسرة , في المسجد , في المدرسة , يربي نفسه وأولاده بأن يكون مجاهداً ، مجاهداً بماله ، مجاهداً بنفسه ، مجاهداً بلسانه في تحمل الرسالة .
وثانيا : الولاء والبراء
فهو من أبرز ما يميز من حقق انتماءه لهذا الدين ، وإن الكثيرين في عصرنا هذا من عباد الله الصالحين قد ضيعوا هذا المبدأ . تجد كثيراً منهم عندهم ولاء ، يوالون ويحبون المؤمنين ولكن البراء والمعاداة في الله قد ضعفت عند الأكثرين .
والأمر الثالث : الجهاد بأنواعه الثلاثة
الجهاد ذروة سنام الإسلام كما أنه أيضاً هو المميز بين الصادقين وبين غيرهم ، الأمة أيها الأحبة كالبركة التي ملئت ماء ، هذه البركة التي ملئت بالماء إن كانت راكدة فإنها مع الزمن ستتحول إلى بركة آسنة قد علتها الطحالب والأوساخ ، وأما إذا كان الماء يذهب ويجيء ويتغير فإنها ستكون صافية ونقية . هكذا الأمة ، الأمة إذا كانت لا تجاهد فإنها ستفسد وسيعلوها الفساد ، وأما إذا كانت أمة مجاهدة ، إذا كانت أمة يذهب أبناؤها إلى الجبهات , إلى ساحات الجهاد ويرجعون ، وحديث أولادها عندما يستيقظون ، عندما ينامون هو : استشهد فلان وقاتل فلان وفعل فلان ؛ هذه الأمة هي الأمة النقية الصافية . فالجهاد هو ما يميز هذه الأمة وهو الذي يرفع هذه الأمة وبه عزتها ، قد جعلها الله مربوطةً به كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث السابق - : " إذا تبايعتم بالعينة .... الحديث ".(8/25)
إننا نريد من شباب الإسلام أن يعيشوا لدينهم و أن يقوموا بتبليغ هذه الرسالة ، وتحمل هذه المسؤولية ، وإني أتمنى من الشباب الذين يملكون الحس الدعوي ، الشباب النابغ ، الذي يتحرك لنصرة هذا الدين ؛ ألا يتكسب في المدن ويبقوا فيها ، وأن يتفرقوا في بلاد الله الواسعة ، يدعون إلى الله ـ عز وجل ـ في الشعاب والوديان في القرى والهجر ، في الضواحي ، في الأماكن النائية ، وربما يهدي الله ـ عز وجل ـ على أيديهم أعداد غفيرة من الناس فينال السعادتين : سعادة الدنيا وسعادة الآخرة .
أيها الأحبة:
ثم إني أختم حديثي هذه الليلة بكلمةٍ جميلة لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية تكون ختام المسك . يقول رحمه الله في قول الله ـ عز وجل ـ {{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض }} , يقول رحمه الله :
" فهذا الوعد مناسب لكل من اتصف بهذا الوصف , فلما اتصف به الأولون استخلفهم الله ـ عز وجل ـ كما وعد ، وقد اتصف به قوم حسب إيمانهم وعملهم الصالح فمن كان أكمل أيماناً وعملاً صالحاً كان استخلافه المذكور أتم ، فإن كان فيه نقص وخلل ، كان في تمكينه خلل ونقص ، وذلك أن هذا جزاء هذا العمل فمن قام بذلك العمل استحق ذلك الجزاء " .
ختاماً :(8/26)
أسأل الله ـ عز وجل ـ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا جميعاً للعمل لهذا الدين ونصرته ونشره بين العالمين ، ونسأل الله ـ سبحانه ـ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرد هذه الأمة إليه رداً جميلاً ، وأن يهيء لها من أمرها رشداً . اللهم أنصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين ، اللهم أنصر دينك وأعلي كلمتك ، اللهم أعز أولياءك وأذل أعداءك ، اللهم هيء لهذه الأمة من أمرها رشدا . اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان ، اللهم انصر من يجاهد في سبيلك بلسانه أو بقلمه أو بماله أو بنفسه ، اللهم انصرهم نصراً مؤزراً . اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء .... اللهم اشغله بنفسه ورد كيده في نحره وأرنا فيه عجائب قدرتك ، وأدر عليه دائرة السوء يا رب العالمين يا قوي يا عزيز إنك على كل شيء قدير .
أقول هذا القول ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
الأسئلة
س/
أحد الأخوة يقول في مجمل كلامك فهمت منه أنك ترمي إلى عدم محبة الأوطان والعربية إن كانت هناك مشاكل أرجو توضيح هذه النقطة ؟
ج/(8/27)
أقول أولاً أن حب الأوطان وحب العربية أمر مطلوب شرعاً ، فهو علاوة على أنه فطرة فهو أيضاً مطلوب شرعاً ، ولكني أقصد عندما يفترض أن يوجد هناك تناقض وتعارض بين مصلحة العرب وبين الإسلام كما يزعمون ، أنا على يقين أنه لا يوجد تعارض ولا يوجد تناقض بين العروبة وبين الإسلام ، ولا بين الأوطان ولا بين الإسلام فهذه جزء من الإسلام ، يعني الإسلام هو الكل وهذه أجزاء منه ، إنما لو افترض وجود تعارض بأن يُقال على سبيل المثال في القومية العربية إنه لا فرق بين المسلمين والنصارى و أن الجميع إخوة في العروبة ، فنقول : لا ، هذا تعارض ونرفضه وديننا قد أخبرنا أن الكافر عدو وإن كان شريفاً قرشياً ، وأن المسلم أخ لنا وإن كان عبداً حبشياً . فالمسلمون إخوة ولو اختلفت ألسنتهم وأما المسلم والكافر هم أعداء ولو كانوا أبناء بلد واحد .
فإذا تعارضت قضية الأوطان مع الإسلام فلا شك أن الإسلام هو المهيمن والذي يجب أن يكون حاكماً على غيره ، ولذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى الإسلام لا ينتشر في مكة بحث عن مكان آخر وهجر وطنه وتركه .
س/
نرى في هذا الزمان أقواماً يتعلمون - أو قال يعملون - مع الكفرة وغيرهم ، فهل هذا يكون منتم إلى الإسلام ؟
ج/
ينبغي أولاً أن أبين أمراً مهماً وهو أنني عندما تكلمت في هذه المحاضرة كنت أقصد الانتماء الحق التام الصادق للإسلام ، فأما مجرد الانتماء والانتساب إلى الإسلام فهذا حتى لو كان الشخص فاسقاً فنحن لا نخرج أحداً من الملة ما لم يرتكب ناقضاً . فلو ارتكب الإنسان كبيرة من كبائر الذنوب ليست بناقض من نواقض الإسلام فهو مسلم ، لكنني أتكلم عن الانتماء الحق والكامل الذي نريد أن يتصف به شباب الإسلام .(8/28)
العمل مع الكفار أو التعلم مع الكفار هذا له ضوابط , فإن كانت حاجة المسلمين ماسة لهذا الأمر ، فلو افترضنا أن الأمة لا يمكن أن تتقدم ولا أن تحصل على مجدها وعزتها إلا أن يتعلم طائفة من أبناءها مع الكفار , بل حتى تحت إشراف الكفار , يتعلمون منهم ما عندهم من صناعات بما لا يتعارض مع دينهم و عقيدتهم , فلا نقول فقط إن هذا مطلوب بل نقول أنه فرض كفاية على الأمة . واجب الأمة أن تكون قوية و أن تكون قائدة العالم وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فأما إن لم تكن هناك حاجة , كأن يذهب الإنسان بطراً ومحبة للكافرين فلا شك أن هذا هو المحظور .
س/
يقول : تحقيق الانتماء للدين أو للأمة هدف كبير ولكن كيف نحقق ذلك ونحن نعيش تعصباً قبيحاً من قبل البعض ، فهذا من مدينة كذا والآخر من كذا ؟
ج/
على كل حال أقول هذا أقبح من التعصب للأوطان ، فإذا كانت الأوطان التي ينتمي إليها الإنسان التعصب إليها مرفوض شرعاً ، فإنه كلما ضاق هذا التعصب فهو أشد تحريماً . التعصب للقومية أوسع من التعصب للدولة , ثم التعصب للمنطقة أضيق من التعصب للدولة , والتعصب للمدينة أضيق من التعصب للمنطقة ، وكلما ضاق التعصب كلما كان أقبح وأشد تحريماً . فإذا كان التعصب للقوميات والأوطان ممنوع فمن باب أولى التعصب للمناطق والأقاليم والمدن وغير ذلك .
س/
يقول : ما رأيكم فيمن ينادي في هذا الوقت وخاصة بعض الكتاب في الصحف بموالاة أعدائنا من يهود ونصارى وأنهم أصحاب دين سماوي وخاصةً الأمريكان ؟
ج/(8/29)
أقول : هؤلاء قوم طُبِع على قلوبهم وضلوا ويريدون أن يضلوا معهم الأمة . هناك دعوة قديمة بمسمى " العالمية " وهي دعوة ماسونية تزعم أنها تتجاوز الأديان والأجناس والوطنيات إلى المؤاخاة في الإنسانية ، هذه الدعوة في واقعها هي دعوة يهودية من أجل مصلحة اليهود . وقد تأثر بهذه الدعوة كثير من شباب المسلمين بل وحتى إلى ممن ينسب إلى المفكرين ، فدعوا بهذه الدعوة وهي " العالمية " ، و إذا كانوا يعلمون هدفها ويعلمون حقيقتها وما تتضمنه ، فلا شك إن هذا يصل إلى الكفر ، لأنه لا مساواة أبداً بين الإسلام وبين الأديان المحرفة المنسوخة ، التي غيرت وبدلت و نسخها الله عز وجل ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم . ولكن قد يكون هناك من لا يفقه هذه الأمور فيختلف الحكم في شأنه .
س/
أحد الإخوة يقول : لو وضحت الازدواجية بين التربويين ورجال الإعلام بصورة أكبر .
ج/
التربويون : هم أهل التعليم وأهل التوجيه والمدارس هؤلاء يعلمون منهجا معينا ، على سبيل المثال : يعلمون المحافظة على الخلق الفاضل ( الصدق والوفاء ، والالتزام بالحجاب للمرأة ) ، ثم يأتي التلفاز وتأتي المجلات لتخرب ما فعله هذا . فيحصل ما قال الشاعر :
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه ********* إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
فإذا كان التربويون يبنون الخلق القويم في أنفس التلاميذ ثم يخرج التلميذ فينظر في التلفاز إلى المرأة المتحللة وإلى الخلق المرذول وإلى الكذب وإلى الجريمة وإلى السطو , أفلا يكون هناك ازدواجية وتصارع ؟ والغالب في وقتنا هذا تأثير وسائل الإعلام أكثر بكثير من تأثير التربويين والمعلمين فيكون الوضع خطير جداً مما يفسد الانتماء الحضاري لهذه الأمة .
س/
يقول : حصرت الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ على أشخاص معينين رغم أن من المعروف أن كل مسلم داعية ؟
ج/(8/30)
أنا يا أخي الكريم لم أحصر الدعوة على ناس معينين فالدعوة وظيفة كل مسلم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة كل مسلم ، ليس مخصوصاً بأناس معينين لا في العلم ولا حتى في الوظائف الرسمية والعملية . الدعوة إلى الله سبيل أتباع محمد صلى الله عليه وسلم , فمن تبع محمداً فإنه داعية بنفس هذا الاتباع {{ قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنِ }} ، ولكنني أقصد الشاب المتميز الذي يوصف بأنه رجل عقيدة , هذا الشاب هو النادر من الشباب , عنده استعداد بأن يفعل ما فعله الشيخ عبدالله القرعاوي رحمه الله وينتقل إلى أقصى الجنوب ينشئ أمة من الجهل لتكون أمة علم ، ويبث روحاً من الوعي ومن الاستقامة في أناس كان يعشعش عندهم الجهل والخرافة . هذا هو الرجل الذي نحتاجه " رجل العقيدة " الذي يقول : أهجر بلدي ، وأهجر المدن ، وانتقل إلى الهجر والقرى والوديان والشعاب و رؤوس الجبال وأكون مدرساً هناك ، وأكون إمام مسجد هناك من أجل أن أخرج جيلاً مؤمناً ، هذا هو الشخص الذي تكلمت عنه وهو الذي نريده .
س/
ما رأيكم فيمن يكون منتم إلى شخص في دعوته حيث بأنه لا يقوم بأي مجال في الدعوة إلا بعد أن يأمره ذلك الشخص بأن يدعو في مجال ويترك آخر ؟
ج/
أقول إذا كان هذا الشخص الذي يوجهك عالماً ، مستقيماً ، ذا عقيدة صافية ، وذا منهج مستقيم ، فإنه سيوجهك للخير وسيمنعك من ضده ، وسيوجهك لما فيه المصلحة بدون ارتباط ولا أساس حزبي ، فأما إن كان الأمر غير ذلك وهو أن الآمر حزبي يوجهك لخدمة معينة ، يهدفون إليها فالدعوة ليست حكراً على أساليب معينة .
س/
سؤال يقول : ما الحكم فيمن أصر على استقدام الكفار رغم مناصحته وهو مصر على قوله بأنهم أنصح من المسلمين بالعمل ، ولا يتركون العمل للحج ولا للعمرة ؟
ج/
أقول : نسأل الله ـ عز وجل ـ لنا وله الهداية لا شك أن هذا قد ارتكب ذنباً عظيماً وهذا الذنب مركب من أمور :(8/31)
الأمر الأول : أنه استقدم الكفار في جزيرة العرب ، وجزيرة العرب يجب أن تكون للمسلمين فقط ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( أخرِجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب ) ، وكان ذلك من آخر ما وصى به أمته ، وهو عليه الصلاة والسلام على فراش الموت .
الأمر الآخر : قوله أنهم أنصح من المسلمين ، هذا ليس بصحيح أبداً ، من قال هذا ؟ من قال أنهم أنصح من المسلمين ؟ الله ـ عز وجل ـ أخبرنا بأن الكفار أغش من المسلمين {{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون }} .
لا تتخذوا بطانة : من الكفار , لا يألونكم خبالاً : لا يقصرون فيما يفسد حالكم ، ودوا ما عنتم : أي أحبوا ما يشق عليكم ، قد بدت البغضاء : يعني على فلتات ألسنتهم من غير قصد و إرادة من غير أن يوضحوه , وما تخفي صدورهم أكبر : من الحقد والغل والغش للإسلام والمسلمين .
فكيف يُقال بعد هذا أن الكافرين أنصح لنا في العمل من المسلمين ، ثم قد يكون في ذهن بعض الناس أن الكفار أعلم بالأعمال من المسلمين , فنقول له إنك لو اتقيت الله ـ عز وجل ـ لجعل لك مخرجاً ، وإذا أردت أن تأتي بعمال مسلمين من ذوي الخبرة ومن ذوي المهارة فإن عليك أن تعمل للأسباب اللازمة لذلك وستجد . إنك ستجد في بلدان المسلمين من هو أفضل بكثير من الكفار ومن سينصح لك , وعليك أن تعتني بإخوانك في الله الذين هم من الإسلاميين ، فهؤلاء أنصح وأفضل . ثم في نفس الوقت ستعين أهل الإسلام والدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ , وأما إذا جلبت الكافرين فإنك ستعين الكفار وستذهب أموالك إليهم ، وربما بنوا بها كنائس ، وربما طبعوا بها كتب تحارب هذا الدين تحارب الإسلام ، وربما اشتروا بها رصاصاً توجه إلى صدور إخوانك .(8/32)
ثم أقول : بأنهم لا يذهبون لحج ولا عمرة عجب لا ينقضي من زهد المسلم في الأجر ، إذا جاءك أخ مسلم وذهب إلى الحج والعمرة ، وأعنته على ذلك كان لك أجر ، وإذا يسرت له الأمر كان لك الأجر ، فسبحان الله كيف هذا الزهد في ثواب الله عز وجل وفي أجره ، وربما يدعو لك هذا المسلم بدعوة خالصة صادقة في تلك المواطن الشريفة فيتقبلها ربك فيغفر لك فتنال السعادة .
على كل حال أقول : إن هذا الشخص يجب أن يُناصح ، وأن يُعطى فتاوى أهل العلم ، وأن يبين له خطورة الأمر ، فإن اتعظ فالحمد لله ويُدعى له بالهداية ، وإن بقي وأصر فادعوا له واجتنبوه وحذروا منه .
س/
أحد الإخوة يسأل عن قصة رئيس الوفد المصري إلى إسرائيل يقول : أين مرجعها؟
ج/
مرجعها ذكرها الشيخ " يوسف القرضاوي " في بعض كتبه ، ولا أتذكر الكتاب ، إما كتاب " الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه " أو كتاب " الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي الكبير " في أحد هذين الكتابين في آخره .
س/
هنا أسئلة عن التعصب الرياضي والتشجيع للأندية :
ج/
على كل حال هذه من وسائل الإلهاء التي تضيع الشباب المسلم ، والتعصب لها مذموم ولاشك ، وقد وصل بهم التعصب إلى الموالاة والمعاداة في الأندية الرياضية فمن كان يشجع فريقه فهو يواليه ومن كان يشجع فريقاً آخر فهو يعاديه و يبغضه ويسبه ويشتمه . وهذه والله مأساة من مآسي المسلمين ومن أمراض هذه الأمة ، ولكنه ليس بالمرض العضال ، هو من الأمراض التي يمكن تداركها بإذن الله تعالى بجهودكم وجهود إخوانكم من الدعاة إلى الله عز وجل .
س/
أحد الإخوة يسأل عن الإنتساب إلى المذاهب الحنبلي والشافعي .
ج/(8/33)
أقول الانتساب إلى هذه المذاهب إذا لم يكن فيه تعصب - التعصب لغير الحق - فهذا لا بأس به و أجازه أهل العلم ، لكن إذا أدى ذلك إلى ترك الدليل تعصباً للمذهب أو إلى الطعن في الأئمة الآخرين من المذاهب الأخرى ، فلا شك أن ذلك مذموم وينطبق عليه ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم الذي ذكرناه سابقاً . وابن القيم كلامه جلي واضح في هذا لأنه قد عاش مسألة هذا التعصب وقد أوذي شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ بسبب هذا النوع من التعصب .
أكتفي بهذا القدر في الإجابة على الأسئلة ومرةً أخرى أعتذر للإخوة الذين لم يسعفني الوقت في الإجابة على أسئلتهم ، وأسأل الله ـ جل وعلا ـ لنا جميعاً التوفيق والإعانة والهداية والسداد ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .(8/34)
خطبة : (حياة أوقفت لله)
فضيلة الشيخ : عبد الوهاب الطريري
.......................................................
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وألبسنا لباس التقوى خير لباس.
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، لا ربَ غيرُه ولا معبودَ بحقٍ سواه.
و أشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واهتدى بهداه.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى..
أيها المؤمنون بالله ولقائه وبالرسول ورسالاته، أيها الأخوة المتحابون بجلال الله.
إن رسالاتِ اللهِ إلى أهلِ الأرض، والدينَ الذي اختاره اللهُ لهم هو أثمنُ هبةٍ للبشرِ واعظمُ منةٍ عليهم، خيرةُ اللهِ للإنسانِ منهاجَ حياته، وطريقَه الموصلَ إلى جنته، هو النعمةُ التامةُ والفضلُ المبين.
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً )(المائدة)
أي نعمةٍ أعظمُ و أتمُ من أن تتنزلَ ملائكةُ الله بكلمات الله على رسول الله لتقول للإنسان هذا طريقُك إلى الله.
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(الأنعام:
إن هذا العطاءَ الإلهيَ والهبةَ الربانيةَ منةٌ تستشعرُ نفوسُ المؤمنين كِبرَ نعمةِ الله بها عليهم، فتتضاءلُ النفسُ أن تكونَ ثمناً لهذه النعمة.
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
(ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان –فذكر منهن- وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ1 أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).
ولذا حفلت مسيرة المؤمنين في التاريخ بصور من عطاء الحياة بسخاوة نفس ثمنا لهذا الدين.
ثمنا لعطاء الله من الهداية.(9/1)
ثمنا لنعمة الله بالنور المبين.
أعطيت الحياة بسخاوة نفس يوم كان ثمنها هذه العقيدة وهذه الرسالة وهذه المنة الإلهية، يوم كان ثمنها خيرة الله للإنسان طريق حياته ومنهاجه وثمنها الجنة ورضاء الله.
أستمع إلى سحرة فرعون يتقبلون وعيده وهو يقول:
( فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى)(طه:71)
فماذا كان الجواب على هذا التهديد ؟
بل كيف استقبل هذا الوعيد وقد وصل فيه فرعون إلى كل ما يستطيعه من تنكيل ؟
أستمع إلى ثبات المؤمن المستشعر عظم المنة بالهداية المنتظر من الله فضلا تحتقر له الحياة كلها.
أستمع إلى جواب السحرة وهم يقدمون للدين أرواحهم بسخاوة نفس:
(قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طه:72)
نعم ما أصر الحياة وما أهون الحياة الدنيا حين تكون ثمنا للإيمان باله عز وجل، وإن عذابها مهما اشتد ونكالها مهما كاد وبطش أيسر من أن يخشاه قلب موصول بالله عز وجل ينتظر ثوابه وينتظر مغفرته وينتظر رضاه وجنته:
(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه:73)
أيها الأحباب إنه الإيمان، إنه الإيمان إذا خالطت بشاشتُه القلوب، استحكَم الولاءُ له، وكان العطاءُ للدينِ سخياً، كان العطاءُ للدينِ سخيا غايةَ السخاء، لأنه معاملةٌ مع كريمٍ، وتلقٍِ لمننٍ من إله عظيم..
آيها المؤمنون بالله رب وبمحمد (صلى الله عليه وسلم) نبيا، وبرسالته الإسلام دينا.
إذا كانت الحياةُ تقدمُ فداءً للدين، وثمناً للدين فهيَ كذلك تسخرُ لخدمةِ الدين، تسخرُ للعطاءِ للدين، إذا كلُ ما فيها لله، وإذا هيَ حياةُ أوقفت كلٌها لله.(9/2)
يقول نوح وهو يخاطب ربه:(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً) (نوح:5)
إنه الجهدُ الدائمُ الذي لا ينقطعُ ولا يمَلُ، ولا يفترُ ولا ييئسُ أمامَ الأعراضِ، ألفَ سنةٍ إلا خمسين عاما.
(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً)
ثم يقولُ: )ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً) (نوح:9)
الله أكبر.
ماذا بقيَ من حياةِ نبيَ اللهِ نوح لم يسخَر لدعوته ولم يبذَل لرسالتِه ؟
الليلُ والنهار، الجهر والإسرار كلُها لله، حياةُ أوقِفَت كلُها لله.
ثم سرح طرفك في مسيرة أنبياء الله ورسله :
لتقف أمام نبي الله يوسف السجين الغريب الطريد الشريد الذي يعاني ألم الغربة وقهر السجن وشجى الفراق وعذاب الظلم، في هذا كله وبين هذا كله في زنزانة السجن يسأله صاحبا السجن عن تعبير الرؤيا .
فلا يدع نبي الله يوسف الفرصة تفلت منه.
لا تنسيه مرارة المعاناة القاسية واجب العمل لله والعطاء لدينه فإذا به يحول السجن إلى مدرسة للدعوة.
ويرى أن كونه سجينا لا يعفيه أبدا من تصحيح الأوضاع الفاسدة والعقائد الفاسدة فإذا به ينادي في السجن:
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف:39)
عذاب السجن وألم الغربة وقهر الظلم كل ذلك لم يذهل ولم يدهشه ولم ينسه واجب الدعوة.
لأن العمل للدين رسالة في الحياة لا يمكن التحلل منها بحال.
وهكذا تسير ركاب المؤمنين برسالات الله، لا تدع فرصة للعمل للدين تفلت ولا فرصة للعطاء للدين تضيع.
كل عطاء يقدم مهما كان قليل.
وكل جهد يبذل مهما كان يسيرا.
وكل فرصة تلوح للعمل للدين لا يمكن أن تفلت من يدي مؤمن بالعمل لهذا الدين.
هذه أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ رضي اللهُ عنهما
لما جهزت رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) و أبا بكرٍ جهازهما للهجرة.(9/3)
جمعت سفرةَ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) التي فيها طعامُه، والسقاءَ الذي فيه شرابُه، ثم جاءت لتحملَهما فلم تجد ما تربطُ به السفرةَ والسقاء، فعمدَت إلى نطاقِها فشقته نصفين فربطت بأحدهما السفرةَ وبالأخرِ السقاء.
امرأةُ تأبى إلا أن تقدم للدين، وتعطيَ للدين ولو كانت لا تملكُ إلا نطاقها فليكن عطاؤُها هذا النطاق، وإذا لم يكن النطاقُ كافيا فليشقَ النطاقُ نصفين.
وترحلَت الأيامُ تُعطرُ سني التاريخِ بخبرِ أسماء، وتحملُ صفحاتُ التاريخ هذاِ الخبرَ، ومعهُ تشريفُ أسماء وتلقيبُها بذاتِ النطاقين، إن هذا اللقبَ يعبرُ عن العطاء للدين الذي لا يدعُ فرصةً تفلتَ دون أن يقدَم لدين مهما كان هذا العطاءُ قليلاً فهو الجهدُ وهو الطاقة.
ثم سر قليلا لترى الرجل الكفيف الأعمى عبد الله أبن أم مكتوم رضي الله عنه مؤذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي عذره الله في قرأنه: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ )(النور 61).
لم يرى أنه يسعه أن يدع فيها فرصة يخدم فيها الدين تفلت منه، ولتكن هناك في مواقع القتال وقعقعة السيوف وطعن الرماح وإراقة الدماء، ليكن له موقع ثم..
فيصحب كتائب المسلمين ويطلب أن توكل إليه المهمة التي تناسبه وتليق به:
(إني رجل أعمى لا أفر، فادفعوا إلى الراية أمسك بها).
يأبى إلا أن يشارك بنفسه على أي صورة كانت هذه المشاركة ممكنة.
حتى إذا كان يوم القادسية كان هو حامل الراية للمسلمين، الممسك بها أعمى ضرير يرى أن في عماه مؤهل لحمل الراية:
(إني رجل أعمى لا أفر).
وتحمل كتب التاريخ أنباء عبد الله أبن أم مكتوم وأنه كان أحد شهداء القاسية يوم غشيته الرماح فلم تصادف فرارا ولا موليا ولا معطي دبره في قتال.
إن معنى العطاء لهذا الدين كان أمرا تشرب به نفوس الصحابة مذ أن تبسط أيديهم إلى كف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مبايعة على الإسلام.
هذا ضمام أبن ثعلبة رضي الله عنه(9/4)
يأتي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقف يسأله عن شهادة لا إله إلا الله.
وأن محمدا رسول الله.
وأقام الصلاة.
وإيتاء الزكاة.
وصوم رمضان.
وحج بيت الله الحرام.
حتى إذا عرفها أمن بها ثم رفع أصابعه الخمس قائلا:
( يا رسول الله والله لا أزيد على هذه ولا أنقص).
لكنه لا يرى ولا يُرى أن العمل للدين داخل في ما تحلل منه.
ولكنه رآه داخل في وجب عليه فإذا به ينقلب إلى قومه داعيا إلى الله يقول لهم:
(يا قوم بئست اللات، بئست العزى).
فيضل بين ظهرانيهم حتى لا يبقى بيت من بيوتهم إلا دخله الإسلام، فيقول عمر رضي الله عنه:
(ما رأينا قادما على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان أيمن من ضمام أبن ثعلبه).
إن وضوح هذا المعنى للصحابة هو الذي دفع كتائبهم فانداحت بها الأرض فإذا مائة سنة تشهد أعظم إنجاز يتحقق على الأرض يوم طوي بساط المشرق إلى الصين، وبساط المغرب إلى المحيط الأطلسي تفتحه كتائب الصحابة والتابعين.
ما كان هذا الإنجاز ليتحقق إلا على أيدي الرجال الذين يعلنون في كل موقعة قائلين:
(أن الله إبتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد).
لم يكن هذا الإنجاز ليتحقق إلا على أيدي رجا أوقفت حياتهم كلها لله.
أمة الإسلام، أتباع محمد (صلى الله عليه وسلم):
إن هذا المعنى العظيم معنى العطاء للدين والبذل له وتسخير الحياة من أجله حتى إذا الحياةُ كلُها، بليلِها ونهارِها، وإذا النفسُ بمشاعِرها ووجدانها وبكلِ طاقاتِها سخرةُ لهذا الدين.
هذا المعنى توارى أو خفتَ في نفوسِ كثيرٍ من المسلمين، بل ضعف في نفوس الشباب المتدين ذاته.
إنا نقلب الطرفَ فتقرُ العينُ وتبتهجُ النفسُ، برُؤيةِ الوجوه العريضة الملحية للشباب الواعد من شباب الصحوة.
إذ هيَ جموعُ تضيقُ بها المحافل.
وتكتظُ بها المساجد، وتتزين بها وتتزي ردهات الجامعات.
جموع أصبحت تواري التائهين، وتحجب الرؤيا عن الشاردين، فإذا هم الواجهة كثرة ووجودا وحضورا.(9/5)
لكن هل يتناسبُ هذا العدد مع العطاء المنتظر؟
إن عدد شباب الصحوة الدافق المائج لا يتناسب مع ما ينتظر من عطاء.
لو أن كل نفس أشربت هذا المعنى وسخرت للدين هذا التسخير.
إن هذا المعنى أمر ينبغي أن يذكى في القلوب ويوقد في النفوس وتشحذ له العزائم وتسخر له الطاقات.
يبدأ من توتر القلب لهذا الدين.
توتر القلب وانفعاله وتوهج العاطفة وتلظيها ابتهاجا لكل خطوة إلى الأمام يتقدمها أهل الخير.
ويعتصر ألما وحرقة يوم يرى أي صورة من صور حجب الدين أو المضايقة لأهله أو المزاحمة لدعاته أو التضييق على الكلمة الهادفة أو حجب الكلمة الناصحة.
يتلظى القلب وتشتعل النفس ويلتهب الوجدان تفاعلا مع مصاب الأمة في الكلمة الهادئة يوم يراد لها الحجاب والإطفاء.
فما مدى التفاعل مع الكلمة والدعوة والدعاة والغيرة لهم؟
نحن والله نعيش منة الله علينا بالهداية بدعوة دعاة مخلصين سخروا ليلهم ونهارهم وزاحموا ساعات حياتهم عطاء للدين، فما مدى امتناننا لله بهذه النعمة ؟
ثم شكرنا لمن أهدانا الهداية وبذل الكلمة والوقت والنفس دعوة وجهادا ومجاهدة.
ما حال القلوب، ما حال النفوس تعاطفا مع الكلمة عندما يراد لها أن تطفأ أو تخبو ؟
إن الغيرة على رسالة الله وعلى أنبياء الله منسحبة إلى ورثة أنبياء الله الذين يرثون عن الأنبياء علمهم ودورهم في الأمة، فهل أوقد في القلوب الحماس والتعاطف والتواصل والتوهج مع الدعوة والدعاة ؟
والتوتر المنفعل مع قضايا الدعوة وآلام الدعاة؟
إن القلوب ينبغي أن لا تشح بمشاعرها.
والعيون لا تبخل بدموعها وأن تقدّر أن مصابها في الدعاة وكلمتهم مصاب لقداسة الأمة في الصميم.
أيها الأحباب:
أين العطاءُ للدين في حياتنِا ؟
أين العطاء للدين، هل يعيشُ كلُ منا همَ العطاءِ للدين فإذا به يحاول جهده أن يكون مؤثرا على قطاعا يقل أو يكثر يصغر أو يكبر في المجتمع ؟(9/6)
هل يسألُ كلُ منا نفسَهُ إذا غربَت شمسُ كلِ يوم، هل غرَبت وقد قدم لدينه شيئاً في ذلك اليوم ؟
هل العطاءُ للدين همُ جاثمُ في القلوب يحركُها إلا أن تعطي، يبعثُها إلا أن تُقدم ؟
لنتساءل بالتفصيل:
هل اشتريت كتابا فأبى عليك حس الدعوة إلا أن تشتري بدل النسخة نسخا لنفسك منها واحدة وللدعوة أخر؟
هل استمعت إلى شريط فلما أعجبك حملك حب الهداية إلى أن تهديه إلى غيرك ؟
هل وجدت نفسك تحف وترف لجمع التبرعات لمساعدة الأنشطة الإسلامية والجهد الهادف والدعوة الخيرة ؟
هل تفكرت في نفسك فرأيت أن من الواجب عليك أن تكفي الأمة مجتمعك، فإن عجزت فحيك، فإن قصرت فبيتك ؟
هل وجدت أنه ينبغي أن يكون لك حضور لا يفقد في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
فاتضحت لك المشاركة والوجود.
أيها الأحباب:
إن الطاقة موجودة تحتاج إلى توظيف.
إن الطاقات كامنة تحتاج إلى تشغيل.
وصدق النية أيضا موجود، ولكن نحتاج إلى عزيمة وهمل يخرج للوجود.
إن أعظم مؤسسة نشر قد تنشر من كتيب أو كتاب مائة ألغ نسخة وإن شئت فقل مائتا ألف..
لكن لو قام كل متدين يعلم أنه يتحمل مسؤولية بلاغ رسالات الله بنشر الكتاب الموجه والشريط الهادف فأي طاقة نملكها في النشر ؟ وأي جهد يقدم للدعوة من خلال ذلك ؟
إننا سنجد أنفسنا أمام عملية نشر واسعة لا نظير لها توقظ الأمة من رقاد تفيقها من غفلة.
بل تبعثها من ممات وتحركها من همود..
أيها الأحباب:
إن واجبنا ن نتفقد أنفسنا ما مدى العزيمة على العطاء في نفوسنا ؟
ما مقدار الهم للعمل للدين في قلوبنا ؟
ثم نحول ذلك إلى برنامج عملي في حياتنا.
برنامج يومي يعيشه كل منا في يومه وهو أن يكون ذا عطاء لهذا الدين.
لقد مرِضَ المسلمون اليومَ بالتدينِ السلبيِ الجامدِ الهامد الذي لا يقدمُ ولا ينفعُ ولا يحرك،
إننا اليوم أمام خير لا خيار لنا غيره؛
وهو أن نقدم لديننا وأن نعيش له حتى نلقى الله وقد قدمنا شيئا لهذا الدين.(9/7)
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.......................................
الحمد لله على إحسان والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله لا الله تعظيما لشأنه وأشهد أن محمدا عبده ورسول الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى وأعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل وعلا:
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب:56).
اللهم صلي وسلم وبارك أطيب وأزكي صلاة وبركة على نبينا وأمامنا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وخلفائه الراشدين وسائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أرضى عن أصحاب نبيك وأرضهم، اللهم أسلك بنا طريقتهم و احشرنا في زمرتهم.
الله العن من لعنهم وعادي من عادهم وخص بذلك الرافضة أعداء أصحاب نبيك.
اللهم عليك بالرافضة فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بإخوان القردة والخنازير.
اللهم عليك باليهود، اللهم أقر أعين المسلمين بفتح بيت المقدس وإقامة دولة إسلامية لا اشتراكية ولا علمانية.
اللهم عليك بإخوان القردة والخنازير فإنهم لا يعجزونك.
اللهم عليك بهم، الهم عليك بهم، اللهم عليك بهم.
اللهم أبر لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر وتقال فيه كلمة الحق لا يخشى قائلها في الله لومة لائم.
وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
ربنا آتتا في الدنيا حسن وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
………………………………
تم بحمد الله وتوفيقه.
أخي الحبيب – رعاك الله(9/8)
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب،
بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
- إبلاغنا عن الخطأ الإملائي أو الهجائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
أخي الحبيب لا تحرمنا من دعوة صالحة في ظهر الغيب.
من خلال اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الجليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
للتواصل: أخوكم البوراق / anaheho@maktoob.com(9/9)
بسم الله الرحمن الرحيم
صفحة صدق
فضيلة الشيخ / علي ابن عبد الخالق القرني
.............................
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
أشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102)
أما بعد عباد الله:
اتقوا الله واعلموا أن المحن محك لا يخطأ، وميزان لا يظلم، يكشف عن ما في القلوب، ويظهر مكنونات الصدور، ينتفي معه الزيف والرياء، وتنكشف معه حقيقة الصدق بجلاء.
إن المحن تطهير ليس معه زيف ولا دخل، وتصريح لا يبقى معه غبش ولا خلل، إنها لتفتح في القلب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن عن نفسه لولا المحن.
قد يظن الإنسان في نفسه قبل المحن التجرد والنزاهة، فإذا وقعت الواقعة تبين من بكى ممن تباكى، تبين الغبش من الصفاء والهلع من الصبر، والصدق من الكذب، والثقة من القنوط.
عندها يدرك المرء أنه بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، فمن الخير له أن يستدرك نفسه قبل أن يكون عبرة ويقع ضحية.
( وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران الآية154).
بالمحن تستيقظ الضمائر وترق القلوب وتتوجه إلى بارئها تضرع إليه وتطلب رحمته وعفوه، معلنة تمام العبودية والتسليم الكامل له لا حول ولا قوة إلا به.
لا مهرب منه إلا إليه، ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، لا معقب لحكمه لا إله إلا هو.(10/1)
باق فلا يفنى ولا يبيد ........ ولا يكون غير ما يريد
منفرد بالخلق والإرادة ...... وحاكم جل بما أراده
سبحانه وبحمده.
عباد الله:
وصور المحن والمنح في السيرة جليلة وكثيرة، وجديرة بالتملي والتأمل.
والحديث كما تعلمون بل كما تشعرون عن سيرةَ المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وصحبِه حديثٌ تُحبُه وتُجلُه النفوسُ المؤمنةُ، تأنسُ به قلوبُ بالإيمانِ هانئةٌ مطمئنةٌ، حُبه في شغافِ القلوبِ والأفئدةِ، وتوقيرُه قد أُشربت به الأنفُسَ بأبي هو وأمي (صلى الله عليه وسلم).
فهلمَ هلم عباد اللهِ لنتصفحَ ونتفحص صفحةَ صدقٍ بيضاء نقيةٍ لنرى من خلالِها المحنةَ بكلِ صورِها، وبالصدقِ تُتخطى، لنعلمَ عبرَها وعِضاتَها فقد مُلئت عبراً وعبرات، وفكراً ونظرات، دموعاً حرى وحسرات، هجرُ الأقربينَ فيها شديدُ المضاضهِ ومع ذلك بارزٌ وظاهر، وتزلفُ المناوئين والمنافقين فيها مشرئب زاخر، صفحةٌ ملئت بأحداثٍ تذرفُ منها الدموع، وتخشعُ لها القلوب، صفحةٌ جسدت الصدق والإخلاصَ والقدوة بالصبرِ على الضراء والشكرِ على السراء تطبيقاً عملياً ماثلا.
إنها صفحةٌ بُدئت باستنفارِ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) أصحابه لملاقاة من؟
لملاقاة الروم يوم تحركوا بعسكرهم وفكرهم ودسائسهم يطفئوا نورَ الله بأفواههم واللهُ متمُ نورِه ولو كره الكافرون.
إنه استنفارٌ وأي استنفار في أيامٍ قائظة وظروفٍ قاسيةٍ، في جهدٍ مضنيٍ ونفقاتٍ باهظةٍ، طابت الثمار، واستوى الظلال، وعندها بدأ الامتحانِ ليسطرَ في آياتِ في آيات الكتاب بإفاضة واستيعاب، أفاضت آيات الله في أنباء الطائعين والمثبطين، واستوعبت أنباء المخلصين والقاعدين، فيالها من مشاهد وأحداث تتنوع وتثير.
يجيء المعذرون ليُؤذنَ لهم، ويقعدَ الذين كذبوا اللهَ ورسولَه، ويتولى الذين لم يجدوا ما يُحملونَ عليه بفيضِ دموعِهم حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون.(10/2)
ويرجفُ المرجفون ( لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة: الآية81).
والساقط في الفتنة يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي وفِي الْفِتْنَةِ وقع، فر من الموت وفي الموت وقع.
وآخرون يلمزون ويسخرون من المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم،فمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ.
ومنهم رجالٌ تخلفوا عن ركب المؤمنين لا عن شكٍ ولا عن نفاقٍ لكن غلبتُهم أنفسُهم، وأدركَهم ضعفَهم البشري مع سلامةِ إيمانهم ومعتقدِهم رضي اللهُ عنهم وأرضاهم.
على رأسِ هؤلاء صحابيٌ جليل، مجاهد نحرير لن يبلغَ آلفُ رجلٍ منا بالقولِ ما بلغَه مرةً واحدةً بالفعل، لكنَه بشرٌ تبقى له بشريتُه غيرُ معصوم.
لنقفَ مع صفحةٍ من صفحاتِ حياتِه، صفحة تتضمنُ قصةَ الخطيئةِ ، وحقيقةَ التوبةِ أهيَ قولٌ باللسانِ أم هيَ الندمُ الدافعُ لعملِ الجوارحِ والأركان والتأثرُ البالغُ في النفسِ والجنان.
صفحتنا مثبتة في الصحيحين، راويها صاحب المعاناة فيها، فأسمع إليه عبد الله تجد كلامه يدخل الأذن بلا إذن، أصغ إليه وهو يتحدث عن نفسه ويخبرنا عن سوف كيف صنعت به، فيقول وقد تخلف عن تبوك:
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي راحلتان قبلها قط، ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزاة، في حر شديد واستقبل سفرا بعيد ومفازا وعدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجه الذي يريد.
والمسلمون مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كثير لا يكاد يجمعهم كتاب فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى ما لم ينزل وحي الله.(10/3)
وغزا رسول الله (صلى اللله عليه وسلم) والمسلمون معه، يقول فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقضي شيً، فأقولُ في نفسي أنا قادرٌ عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، وأصبح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون معهم ولم أقضي من جهازي شيئا، فقلت أتجهز بعده بيومٍ أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقضي شيئا.
قال فلم يزل بي ذلك حتى أسرعوا وتفارط الغزو وفات، وهممت أن ارتحل فادركهم - وليتني فعلت - فلم يقدر لي ذلك، ويأخذ ذلك من كعب مآخذه، وتبلغ الحاسبة ذروتها ولسان حاله:
ندمت ندامة لو أن نفسي...... تطاوعني إذا لقطعت خمسي
عباد الله :
إن كعباً رضي اللهُ عنه يعيشُ كل يومٍ مع سوفَ وهذه والله ليست مشكلةُ كعبٍ فحسب، إنها مشكلةٌ كبيرةٌ في أمة الإسلام، مشكلةٌ التسويف، استطاع الشيطانُ أن يلج إلينا من هذا البابِ الواسع ونحنُ لا نشعرُ، حالَ بينَنا وبين كثيرِ من الأعمالِ قد عزمنا على فعلها ، فقلنا سوف نعملها ثم لم نعمل:
كم من مذنبٍ قال سوف أتوب وداهمَه الموتُ وما تاب.
كم من باغٍ للخيرِ عازم عليه وأدركَه الموتُ ولم يستطع ذلك حال بينَه وبين الخيرِ سوفَ.
كم من عازمٍ على الخيرِ سوّفَه.
كم ساع إلى فضيلة سوف ثبطته وقيدته.
فالحزم الحزمَ بتداركِ الوقت وترك التسويف فإن سوف جنديٌ من جنودِ إبليس.
فأطرح سوف وحتى ........ فهما داء دخيل
يقولُ كعب:
فكنتُ إذا خرجتُ في الناس بعد خروج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحزنني أن لا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصا علي النفاق، أو رجلا ممن عذره الله من الضعفاء واللذين لا يجدون ما ينفقون.
ولم يذكرني رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) حتى بلغَ تبوك فقال وهو جالسُ بين أصحابِه:
ما فعلَ كعب ؟
فقال رجلُ من بني سلَمة: يا رسول الله حبسَه برداه ونظره في عطفيه ( أي إعجابه بنفسه).(10/4)
فقال معاذُ وقد استنكرَ الأمرَ وهو يعلم من أخيه ما يعلم: بئس ما قلت واللهِ يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكتَ (صلى الله عليه وسلم).
أيها المسلمون:
إن معاذً رضي اللهُ عنه لم يسَعَه السكوت وهو يرى من ينالُ من عرضِ أخيه المسلم فبادرَ بالإنكار، لم تغلبه المجاملة فيسكتَ كما يفعلُ البعض، كيف يسكت وهو يعلم قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، من رد عن عرض أخيه رد الله عن عرضه وعن وجهه النار يوم القيامة). ويهو يعلم أيضا أن الساكت كالراضي، والراضي كالفاعل فلينتبه.
يقول كعب:
فلما بلغني أنه توجَه قافلا (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم) حضرني همي – حضره بثه وحزنه- قال فطفقت أتذكر الكذب وأقولُ: بماذا أخرج من سخط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غدا.
واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلم قيل إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أظل قادما، زاح عني الباطلَ وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيءٍ في كذب فأجمعتُ صدقَه ويا له من رأي.
وقدم (صلى الله عليه وسلم) ثم جلسَ للناسِ، وجاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون له فقبلَ منهم علانَيتهم ووكل سرائرَهم إلى الله وهذا هو منهجنا.
وجئته فلما سلمت عليه تبسمَ تبسم المُغضب ثم قال تعال، فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال:
ما خلفَك يا كعب، ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟
فقلتُ يا رسولَ الله:
والله لو جلستُ عند غيرِك من أهلِ الدنيا لرأيتُ أني سأخرجُ من سخطِه بعذر، واللهِ لقد أُعطيتُ جدلا، ولكني والله لقد علمتُ أني لإن حدثتُك اليومَ حديثِ كذبٍ ترضى به عني، ليوشكَن اللهَ أن يسخطَك علي، ولأن حدثتُك حديث صدقٍ تجد علي فيه إني لأرجُ فيه عفو الله، واللهِ يا رسولَ الله ما كان لي من عذر، والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفتُ عنك.
فقال (صلى الله عليه وسلم) أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضيَ الله فيك.(10/5)
صدقٌ، وضوح، صراحة لا التواء ولا مراوغة، علم كعبُ أن نجاتَه في الدنيا والآخرةِ إنما هي في الصدق، وقد هدي ووفق للصواب، والموفق من وفقه الله.
يقول كعب فقمتُ وثار رجال من بني سلمة فأتبعوني وقالوا لي:
واللهِ ما علمناك يا كعبُ قد أذنب ذنبا مثل هذا، أو قد عجزت أن لا تكونَ اعتذرتَ إلى رسولِ الله بما اعتذر إليه المخلفون، قد كان كافيك ذنبَك استغفارُ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) لك.
يقولُ فواللهِ ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجعَ فأكذبَ نفسي.
عباد الله:
ما أشد خطر صديق السوء، كاد يهلك سعد بسبب بني عمومته الذين يظهرون بمظهر الناصح المشفق، وهم يدفعون به إلى واد سحيق من الهلاك هلك به جمع كبير من المنافقين.
إنها مقالة ويا لها من مقالة كثيرا ما تتكرر في مجالسنا، يتهمون الصادق بأنه طيب القلب غر لا يحسن المراوغة ولا المخارج، ويصفون الكاذب بالذكي الألمعي العبقري، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم.
أرأيت لهؤلاء عندما وصفوا الأمر لكعب بأنها أول كذبة ولا ضير منها، وسيعقبها استغفار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك، وكل ذلك وسائل لتزيين الباطل يبهرجها قرين السوء من حيث شعر أو لم يشعر فلينتبه.
فمن العداوة ما ينالك نفعه........ ومن الصداقة ما يضر ويألم
وأعلنت المقاطعة لهذا وصحبه، بل التربية النبوية العميقة.
يقول كعب:
ونهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المسلمين عن كلامنا من بين كل من تخلف عنه، قال فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرضُ فما هي بالأرضِ التي أعرف، ولبثنا على ذلك خمسين ليلةً، وكنتُ أشد القوم وأجلَدَهم فكنتُ أخرجُ فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق فلا يكلمني أحد،، وآتي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو في مجلسِه بعد الصلاة فأسلمَ عليه فأقولَ في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا.(10/6)
ثم أصلي قريباً منه فاسارقَه النظر فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت إليه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيتُ حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو أبنُ عمي وأحبُ الناسَ إلي، قال فسلمت عليه، فواللهِ ما ردَ علي السلام.
فقلتُ له نشدتُك الله هل تعلمني أحبُ اللهَ ورسولَه ؟ فسكت.
فنشدتهُ فسكت، فأعدتُ عليه فنشدته فقال اللهُ ورسولُه أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار أهيمُ على وجهي.
وأنظر أخي في الله كيف تكاتف المجتمع المسلم بكاملة، وامتثل الأمر الموجه إليه، فلا أحد يكلمه، حتى ولو كان ذلك في غيبة أعين الرقباء، نعم إن الرقابة لله، حتى ولو كان ابن عمه، نعم إن المراقبة لله.
إن أضر شيئا على المجتمع أن يجد أهل الفسق والفجور صدورا رحبة تحتضنهم وترضى عنهم وتبجلهم وتقدرهم، ولو أن العصاة والمنحرفين وجدوا مقاطعو وازدراء عاما لكان دافعا إلى أن يرشد الغاوي ويستقيم المعوج ويصلح الطالح.
انظر إلى ذلك الأسلوب التربوي العميق المتمثل في تلك المقاطعة النفسية والاجتماعية التي شملت مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، في الأسواق، في المساجد، مع الأصدقاء، بل حتى مع بني العمومة، بل حتى مع الزوجة، فلم تترك منفذا يمكن أن يخل بهذه المقاطعة أو يحول دون تحقيق الغاية التربوية منها.
كان لذلك تأثير عميق على النفوس الخيرة التي تعودت أن تألف وتُألف وذلك عين الحكمة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التي تقضي باللين في مكانه، والشدة في مكانها، وهذا ما يحتاجه الناس في دعوتهم، وتعاملهم وتربيتهم لمن تحت أيديهم.
عبد الله:
وهل تخفى أخبار المجتمع الإسلامي على الأعداء، إن هناك صفا يعمل داخل الصف الإسلامي دائما، ولذلك يجب أخذ الحيطة والحذر، وأن لا تكون أسرار وخفايا المجتمع المسلم معلنة للجميع لتنقل للعدو فينفذ من داخلها للمسلمين.(10/7)
يقولُ كعبٌ: فبينا أنا أمشي في سوقِ المدينة إذ نبطي من أنباط أهلِ الشامِ يقول: من يدل على كعب؟
فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع لي كتابا مِن مَن؟
من ملك غسان، فإذا فيه أما بعد:
فإنه قد بلغني أن صاحبك ( يعني رسولَ الله صلى الله عليه وسلم) قد جفاك، ولم يجعلُك الله بدارِ هوانٍ ولا مضيعة فألحق بنا نواسك.
فلما قرأتها قلت أيضا هذا من البلاء، هذا من الامتحان فيممت بها التنور وسجرته بها (احرقها).
عباد الله:
هذا هو ديدن أعداء الله، يتحسسون الأنباء، ويترصدون الفرص والأخطار، وكم من الأقدام في مثل هذا زلت وانزلقت، إن المسلم قد يخطأ ولكنه لا يعالج الخطأ بخطأ آخر، قد يخطأ فيتخلف عن الغزو في سبيل الله، لكنه لا يتبع هذا بخيانة الأمة وموالاة أعداء الله ومظاهرتهم على المؤمنين.
إن أداة المعصية يوم تكون قريبة فإنها تذكر بالمعصية، وتفتح للشيطان باب الوسوسة والمراودة الكرة بعد الكرة، أما كعب فقد تخلص من هذه الأداة فأحرقها حتى يغلق مثل هذا الباب رضي الله عنه وأرضاه وهذا هو الحل.
إن آلة المعصية التي توجد في المنازل، في المكاتب، وفي غيرها، يوم تترك بعد العلم بضررها فإنها مدعاة لأن يضعف أمامها يوما ما، ويعاود القرب منها والممارسة لها إلا من عصم الله، فلينتبه وليتخلص منها كما فعل كعب بالرسالة، يمم بها التنور فسجرها.
ولا يزال البلاء والتمحيص بكعب، حتى أمر باعتزال زوجته فامتثل الأمر واعتزلها وطلب منها اللحاق بأهلها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
يقولُ كعب:
وكملت لنا خمسون ليلةً وأنا على ظهرِ بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكرها الله في ما بعد قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرضُ بما رحبت، سمعتُ صوتَ صارخٍ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته:
يا كعبَ أبشر بخيرِ يومٍ مر عليكَ منذُ ولدتكَ أمك.
قال فخررتُ ساجداً شاكراً لله عز وجل، وعرفتُ أن قد جاء الفرج.(10/8)
نعم جاء الفرج وانبلج الفجر بعد أن بلغ الليل كماله في السواد.
وأدرك كعب عظم نعمة الله عليه بصدقه، فقال بعد ذلك: واله ما أنعم الله علي من نعمة بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وتأتي البشرى وأي بشرى بحسن العقبى، يركض بها الفارس، ويهتف بها الراكب، وعلى مثلها تكون التهاني، لمثلها تكون البشائر والجوائز.
يقول كعب فلما جاءني الذي بشرني، نزعت له ثوبيَ فكسوته إياهما، والله ما أملك غيريهما، واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ودخلتُ عليه في المسجد، فإذا هو جالس والناس حولَه جلوس فقام إلي طلحةُ فرحا مغتبطا يهرولُ حتى صافحني وهنأني، وللهِ ما قام إلي رجلٍ من المهاجرينَ غيرَه و ولله ما أنساها لطلحةَ رضي الله عنه.
الله أكبر ما أعظمَه من تعاملٍ لصحابةِ مع أخيهم، بالأمسِ القريب لا يتحدثونَ معه، ولا يردون عليه السلام، واليوم يتنافسون في من يصلَ إليه أولاً ليبلغه نبأ التوبة.
إنه حبُ الخيرِ لأخيهم كما يحبونَه لأنفسِهم ولكن تحت ضوابط الشرع وأوامرَ الشارع.
قال كعب:
فسلمت على رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال وهو يبرق سرورا وجهُه كأنه فلقة قمر:
أبشر يا كعب بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك.
فقلت أمن عندك يا رسولَ الله أم من عندِ الله؟
فقال بل من عندِ الله، فحمد الله وأثناء عليه.
( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (التوبة:118)
وفاز الصادقونَ بصدقهم، وحبطَ عملُ الكاذبين واللهُ لا يهدي القومَ الفاسقين، وظهر الاعتبارُ بكمالِ النهايةِ لا بنقصِ البداية.(10/9)
هؤلاء هم رجلُ الصدق، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تخرجوا من مدرسةِ النبوة:
صدقُ في الإيمان.
قوةُ في اليقين.
صدقٌ في الحديث.
صدقٌ في المواقفِ.
صبرُ عند اللقاء.
اعترافٌ بالخطيئةِ.
كلمةُ الحق في الرضاء والغضبِ من غيرِ تنميقِ عباراتٍ أو تلفيقِِ اعتذارات.
( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام:90) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119)
عباد الله:
اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وعودوا معي والعود أحمد إلى كعب ابن مالك صاحب القصة رضي الله عنه وأرضاه.
فإن الأمر لم يقف عند بشارتِه بالتوبة وتهنئته بالقبول، إنما جلسَ كعبُ بين يدي رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) معلناً التأكيدِ لهذه التوبةِ والتمسكَ بها، قائماً مقام الذاكرين الشاكرين التائبين المخبتين، قائلاً يا رسولَ الله:
إن من توبتي أن أنخلعَ من مالي صدقةً إلى لله ورسولِه.
فقال عليه الصلاة والسلام، أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.
ثم يعلنُ أخرى رضي الله عنه التمسك بالصدق سلوكا ثابتا في مستقبل حياته إذ بالصدق نجى فيقول يا رسول الله:
إن الله إنما أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدثّ إلا صدقاً ما بقيت.
حاله كحال الآخر يوم يقول: والله لو نادى مناد من السماء أن الكذب حلال ما كذبت.
يقول كعبُ فواللهِ ما علمتُ أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدقِ الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) أحسن مما أبلاني الله به.
ولله ما تعمدتُ كذبةً منذ قلت ذلك لرسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) إلى يومِ هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله في ما بقيت، ولله ما أنعمَ الله علي نعمةٍ قط بعد أن هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي لرسولِ الله (صلى الله عليه وسلم). لما يا كعب ؟(10/10)
قال أن لا أكونَ كذبتُه فأهلك مع اللذين كذبوا، فإن قال فيهم شرَ ما قال لأحد يوم قال سبحانه:
( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:95-96)
عباد الله:
اعلموا أن الصدقَ فضيلةً وطمأنينة وصفةً من صفاتِ المؤمنين، فعليكم به وليكن قدوتَكم كعباً وصحبَه ومن اقتدى به، فليسَ بينَك وبينَهم حاجب.
إذا أعجبتك خصال امرئ ....... فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات.... إذا جئتها حاجب يحجبك
تحروا الصدق وإن رأيتم الهلكَة فيه، فإن النجاة فيه.
وإياكم والكذب وإن رأيتم النجاة فيه فإن الهلَكة وعظيم الفتنة به.
وكم تركت الفتن من قلب مقلب وهوى مغلب، وكم سار في طريقها من كادح فكثر الهاجي وقل المادح.
وما النفسُ إلا حيث يجعلُها الفتى........ فكنِ الحرَ وقُدها بزمام
وأصدُق حديثَك إن المرءَ يتبعهُ.......... ما كان يبني إذا ما نعشُه حملا
اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم اجعلنا من الصادقين الصابرين الشاكرين.
اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم آتي نفوسنا تقواها.
اللهم زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولها. وأنت أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأنصر عبادك الموحدين.
اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك ولا مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك.
اللهم ارحم سائلك ومؤملك لا منجى له ولا ملجئ إلا إليك.
اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين.
اللهم فرج همهم ونفس كربهم وارفع درجتهم واخلفهم في أهلهم.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء.(10/11)
يا سميع الدعاء
الله ارحم موتى المسلمين، اللهم إنهم عبيدك بنوا عبيدك بنو إمائك احتاجوا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابهم، الله زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم أنت أرحم بهم وأنت أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
................................................
تم بحمد الله وتوفيقه.
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب، بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
- إبلاغنا عن الخطأ الإملائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
- الاستئذان من الشيخ لتبني طباعتها ككتيب يكون صدقة جارية لك إلى قيام الساعة.
في اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الجليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
أخي الحبيب لا تحرمنا ومن شارك في هذا الجهد من دعوة صالحة في ظهر الغيب..
للتواصل:
أخوكم البوراق / anaheho@maktoob.com
واحات الهداية / http://www.khayma.com/ante99/index.htm(10/12)
بسم الله الرحمن الرحيم
عيش السعداء
الحمد لله الذي أنشأ خلقه وبرا ..
الحمد لله الذي خلق الخلق بقدرته .. وصرف أمورهم بحكمته ..
الحمد لله الذي ذلت لعظمته الرقاب .. ولانت لقوته الصعاب .. وجرى بأمره السحاب ..
الحمد لله .. الذي تسبحه البحار الزاخرات .. والأنهار الجاريات .. والجبال الراسيات ..
أحمده سبحانه وحلاوة محامده تزداد مع التكرار .. وأشكره وفضله على من شكر مدرار ..
والصلاة والسلام على النعمة المهداة .. والرحمة المسداة .. محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم ..
أما بعد أيها الأخوة والأخوات ..
خلق الله تعالى الخلق من أصل واحد .. وجعلهم يختلفون في أشكالهم وأحوالهم ..
منهم الغني ومنهم الفقير .. ومنهم والأبيض والأسود .. والبخيل والكريم .. والشاكر واللئيم .. منهم التقي العابد .. الفاجر الفاسد ..
ومنهم الصالح الزاهد .. والكافر الحاقد ..
لكن هؤلاء جميعاً يتفقون في أنهم يسعون سعياً حثيثاً لتحصيل غاية واحدة .. هي السعادة ..
فالتاجر الذي يمضي نهاره في التجارات .. والطالب الذي يقضي السنين بين المدارس والجامعات .. والموظف الذي يبحث عن أرفع المرتبات ..
والرجل الذي يتزوج امرأة حسناء .. أو يبني منزلاً فاخراً .. كل هؤلاء إنما يبحثون عن السعادة ..
بل والشباب والفتيات الذين يستمعون الأغنيات .. وينظرون إلى المحرمات .. إنما يبحثون عن السعادة ..
سعة الصدر .. وراحة البال .. وصفاء النفس .. غايات تسعى النفوس لتحصيلها ..
فعجباً لهذه السعادة الذي يكثر طلابها .. ويزدحم الناس في طريق الوصول إليها ..
ولكن السؤال الكبير .. هل حصل أحد من هؤلاء على السعادة التي يرجوها ؟!
هل هو في أنس وفرح حقيقي ليس فيه تصنع ولا تظاهر ؟
كلا بل - والله - أكثر هؤلاء كما قال أحدهم :
ما لقيت الأنام إلا رأوا مني ابتساماً وليس يدرون ما بي
أُظهر الانشراح للناس حتى يتمنوا أنهم في ثيابي(11/1)
لو دروا أني شقي حزين ضاق في صدره فسيح الرحاب
لتناءوا عني ولم يقربوني ثم زادوا نفورهم باغتيابي
فكأني آتي بأعظم ذنب لو تبدت تعاستي للصحاب
هكذا الناس يطلبون المنايا للذي بينهم جليل المصاب
وأول من يفقد السعادة هو من التمسها بمعصية الله تعالى ..
فأصحاب المعاصي في الحقيقة ليسوا سعداء .. وإن أظهروا الانشراح والفرح ..
ولا تغتر بظاهر عبيد الشهوة .. فإنهم يبتسمون ويضحكون ..
ولكن قلوبهم على غير ذلك ..
ووالله لو شاهدت هاتيك الصدور رأيتها كمراجل النيران
ووقودها الشهوات والحسرات والالآم لا تخبو مدى الأزمان
أرواحهم في وحشة وجسومهم في كدحها لا في رضى الرحمن
ما سعيهم إلا لطيب العيش في الدنيا ولو أفضى إلى النيران
هربوا من الرق الذي خلقوا له فبلوا برق النفس والشيطان
لا ترض ما اختاروه هم لنفوسهم فقد ارتضوا بالذل والحرمان
لو ساوت الدنيا جناح بعوضة لم يسق منها الرب ذا الكفران
لكنها والله أحقر عنده من ذا الجناح القاصر الطيران
طبعت على كدر فكيف تنالها صفواً أهذا قط في الإمكان
والله لو أن القلوب سليمة لتقطعت أسفا من الحرمان
لكنها سكرى بحب حياتها الدنيا وسوف تفيق بعد زمان
بالله ما عذر امرئ هو مؤمن حقا بهذا ليس باليقظان
تالله لو شاقتك جنات النعيم طلبتها بنفائس الأثمان
ولكن لله تعالى أقوام عاشوا عيش سعداء ..
أذاقهم الله طعم محبّته .. ونعّمهم بمناجاته .. وطهّر سرائرهم بمراقبته .. وزين رؤوسهم بتيجان مودّته ..
فذاقوا نعيم الجنة قبل أن يدخلوها ..
فلله درهم من أقوام عرفوا طريق السعادة فسلكوه ..
وقد اشتاق النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا العيش فكان يدعو كما عند الترمذي وغيره ويقول : اللهم إني أسألك الفوز عند القضاء .. ونزل الشهداء .. وعيش السعداء .. ومرافقة الأنبياء .. والنصر على الأعداء ..
أولئك السعداء .. إذا ضاق صدر أحدهم بمصيبة .. أو اشتاقت نفسه إلى حاجة ..(11/2)
بسط في ظلمة الليل يداً سائلة .. وسجد بنفس واجلة .. وسأل ربه من خير كل نائلة ..
وأحسن الظن بربه .. وعلم بأنه واقف بين يدي ملك .. لا تشتبه عليه اللغات .. ولا تختلط عنده الأصوات .. ولا يتبرم بكثرة السائلين وتنوع المسئولات ..
إذا جن عليهم الليل .. وفتح ربهم أبواب مغفرته .. كانوا أولَ الداخلين .. فهم المؤمنون بآيات الله حقاً ..
] إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون * أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون * ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون [ ..
روى البخاري ومسلم ..
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وكنت غلاماً شاباً .. وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني .. فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية كطي البئر .. وإذا لها قرنان .. وإذا فيها أناس قد عرفتهم .. فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار .. قال : فلقينا ملك آخر .. فقال لي : لم ترع .. فقصصتُها على حفصة .. فقصّتها حفصةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقال : نعم الرجل عبد الله .. لو كان يصلي من الليل ..
فكان عبد الله بعدها لا ينام من الليل إلا قليلاً ..
قال عنه مولاه نافع : كبر سنّ عبد الله بن عمر ..(11/3)
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الوتر فقال فيما رواه الترمذي وأصله في الصحيحين : ( إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن ) ..
ويجمع الله لمن يصلي الوتر بين نعمتي الدنيا والآخرة .. استمع إلى هذا الحديث الحسن .. الذي رواه الترمذي قال صلى الله عليه وسلم : ( قال عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وإن قيام الليل قربة إلى الله ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد ) ..
والعجب .. أن صلاة الوتر هي أسهل العبادات .. ومع ذلك يهملها كثير من الناس ..
لو إن إنساناً صلى المغرب ..
ولو حدثت رجلاً بفضل صلاة الضحى ..
صلاة الوتر أفضل ..
ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها أحد عشرة ركعة .. فإن ثقلت عليك فصلها تسع ركعات فإن شقّت فصلها سبعاً أو خمساً أو صلها ثلاثاً .. فإن تكاسلت نفسك عن ذلك فصلها ولو ركعة واحدة ..
الله أكبر ركعة وتكتب عند الله ممن صلوا الليل ..
وبعض الناس إذا قلنا صلاة الليل ظن بأنه لا بدَّ أن يقوم قبل الفجر ..
فكن من هؤلاء السعداء .. الذين أحسنوا علاقتهم بربهم ..
فإذا نزلت بك حاجة ..
فصفَّ قدميك في المحراب .. وعفر وجهك في التراب .. واستعن بالملك الغلاب ..
واصدق في لجئك .. وابك بين يدي ربك ..
فإذا رأى الله منك الذل والانكسار .. وصدق الحاجة والاعتذار ..
كشف عنك الضر .. ومنَّ عليك بانشراح الصدر ..
فعندها تذوق لذائذ الصالحين .. وتحيا حياة المطمئنين ..
وفي القلب فاقة لا يسدها إلا محبة الله والإقبال عليه .. والإنابة إليه ..
ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه :
أن رجلاً فقيراً كان له بغل يكاري عليه من دمشق إلى الزبداني قال هذا الرجل :(11/4)
فركب معي ذات مرة رجل فمررنا على بعض الطريق على طريق غير مسلوكة فقال لي: خذ في هذه فإنها أقرب .. فقلت: لا خبرة لي فيها .. فقال: بل هي أقرب .. فسلكناها فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق وفيه قتلى كثيرة فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل .. فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه وسل سكيناً معه وقصدني .. ففررت من بين يديه وتبعني .. فناشدته الله وقلت : خذ البغل بما عليه .. فقال هو لي : وإنما أريد قتلك .. فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل .. فاستسلمت بين يديه وقلت: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين فقال: عجل .. فقمت أصلي فأرتج علي القرآن فلم يحضرني منه حرف واحد .. فبقيت واقفاً متحيراً وهو يقول: هيا افرغ .. فأجرى الله على لساني قوله تعالى: "أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء" فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده فخر صريعاً .. فتعلقت بالفارس وقلت: بالله من أنت ؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالماً.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر وضاق صدره .. فزع إلى الصلاة ..
وكان يقول أرحنا بالصلاة يا بلال .. وقد قال صلى الله عليه وسلم : جعلت قرة عيني في الصلاة ..
وكان للصالحين مع الصلاة شأن عجيب ..
قال أبو صالح ابن أخت مالك بن دينار : كان خالي إذا جنَّ عليه الليل ..
وقال أبو سليمان الداراني يقول : بينما أنا ساجد بالليل إذ غلبني النوم .. فإذا أنا بحوراء .. فركضتني برجلها وقالت :حبيبي أترقد عيناك .. والمَلِك يقظان ينظر إلى المتهجدين ؟ بؤساً لعين آثرت لذة نوم على لذة مناجاة العزيز .. قم فقد دنا الفراغ .. ولقي المحبون بعضهم بعضاً .. فما هذا الرقاد ؟ حبيبي وقرةَ عيني .. أترقد عيناك ؟؟ وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام ؟ ..(11/5)
الله أكبر تعب هؤلاء في الصلوات .. وفارقوا الشهوات .. حتى تزينت لهم الحور في الجنات ..
] إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور [ ..
وأينما جالست هؤلاء السعداء .. وجدت أنهم أبعدُ الناس عما يغضب ربهم ..
قطع خوف الله قلوبهم .. وملأت محبته نفوسهم ..
علموا أن الله غافرُ الذنب .. وقابلُ التوب .. لكن ذلك لم ينسهم أنه شديد العقاب ..دقيق الحساب ..
إذا رضي رحم .. ورحمته وسعت كل شيء .. وإذا غضب لعن .. ولعنته لا يقوم لها شيء ..
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .. في يوم خيبر .. غلام ..
كلا .. والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها يوم خيبر .. من المغانم لم تصبها المقاسم .. لتشتعل عليه ناراً ..
ولا يجر العبد إلى المعاصي الكبار إلا تساهلُه بالصغار ..
وقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه قال وهو يكلم التابعين .. وحسبك بهم عبادة وورعاً .. يقول لهم :
إنكم لتعملون أعمالاً .. هي أدق في أعينكم من الشعر .. إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات يعني المهلكات ..
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاباً قال له فيه :
وإذا أحببت أن تحقر عملك .. فتفكر فيما أنعم الله عليك .. وقدر ما عمل الصالحون قبلك .. وقدر عقوبته في الذنوب ..
إنما فعل الله بآدم الذي فعل بأكلة أكلها .. فقال عنه : [ وعصى آدم ربه فغوى ] ..
وإنما لعن إبليس وجعله شيطاناً رجيماً .. من أجل سجدة أبى أن يسجدها ..
ولعن اليهود .. وجعل منهم قردة وخنازير من أجل حيتان أصابوها يوم السبت وقد نهوا أن يصيدوا فيه ..
فتفكر في نعيم الجنة .. وملكها .. وكرامتها ..
فإذا فكرت في هذا كله عرفت نفسك ..
وعلمت أن عملك لن يغني عنك شيئاً .. إلا أن يتغمدك الله برحمته وبعفوه ..(11/6)
وكم من الناس – أيها الأخوة - يتساهل بالمحرمات فإذا نُصح قال :
أنا ما فعلت إلا شيئاً يسيراً .. والناس يفعلون أكبر مما أفعل ..
والله تعالى يقول : [ وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ] ..
ومن هانت عظمة ربه في نفسه .. فتساهل بالمعاصي والمخالفات .. فليعلم أنه ما ضرّ إلا نفسه ..
وأن لله تعالى عباداً لا يعصون الله ما أمرهم .. ويفعلون ما يؤمرون ..
وهم أكثر منا عدداً .. وأكثر تعبداً وخوفاً ..
روى البخاري ومسلم أن في السماء بيتاً يسمى بالبيت المعمور يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك فيصلون ثم يخرجون منه .. ولا يعودون إلى يوم القيامة ..
وصحّ فيما رواه أبو داود والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أُذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة عام ) ..
وصح عند الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إني لأرى ما لا ترون .. وأسمع ما لا تسمعون .. إن السماء أطت ( يعني ثقلت من شدة ما فوقها ) وحق لها أن تئط .. ما منها موضع أربع أصابع .. إلإ وعليه ملك واضع جبهته ساجداً لله .. والله لو تعلمون ما أعلم .. لضحكتم قليلاً .. ولبكيتم كثيراً .. ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل ) ..
وأخرج المروزي بإسناد حسّنه ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إن لله تعالى ملائكةٌ ترعد فرائصهم من خيفته .. ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه .. إلا وقعت على ملك يصلي ..
وإن لله عز وجل ملائكةٌ سجود لله مذ يومَ خلق الله السماوات والأرض .. لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعون إلى يوم القيامة ..
وملائكةٌ ركوع لم يرفعوا رؤوسهم .. ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ..
وصفوفٌ لم ينصرفوا عن مصافهم .. ولا ينصرفون عنها إلى يوم القيامة ..
وإذا رفعوا ونظروا إلى وجه الله تعالى قالوا : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ) ..(11/7)
والله تعالى يقول : ] فإن استكبروا فالذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون [ ..
ولما عظم هؤلاء السعداءُ ربهم حق التعظيم .. قاموا على أقدام الخوف .. فخافوا من ويلات الذنوب .. وتركوا لذة عيشهم .. في سبيل أن يلقوا ربهم وهو راض عنهم ..
ماعز بن مالك رضي الله عنه ..
أصل قصته في الصحيحين وأسوقها لكم من مجموع رواياتها ..
كان ماعز شاباً من الصحابة .. متزوج في المدينة ..
وسوس له الشيطان يوماً .. وأغراه بجارية لرجل من الأنصار ..
فخلا بها عن أعين الناس .. وكان الشيطان ثالثَهما .. فلم يزل يزين كلاً منهما لصاحبه حتى زنيا ..
فلما فرغ ماعز من جرمه .. تخلى عنه الشيطان .. فبكى وحاسب نفسه .. ولامها .. وخاف من عذاب الله .. وضاقت عليه حياته .. وأحاطت به خطيئته .. حتى أحرق الذنب قلبه ..
فجاء إلى طبيب القلوب .. ووقف بين يديه وصاح من حرّ ما يجد وقال :
يا رسول الله .. إن الأبعد قد زنى .. فطهرني ..
فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم .. فجاء من شقه الآخرَ فقال : يا رسول الله .. زنيت .. فطهرني ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ويحك ارجع .. فاستغفر الله وتب إليه ..
فرجع غير بعيد .. فلم يطق صبراً ..
فعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله طهرني ..
فقال رسول الله : ويحك .. ارجع فاستغفر الله وتب إليه ..
قال : فرجع غير بعيد .. ثم جاء فقال : يا رسول الله طهرني ..
فصاح به النبي صلى الله عليه وسلم .. وقال : ويلك .. وما يدريك ما الزنى ؟ ..
ثم أمر به فطرد .. وأخرج ..
ثم أتاه الثانية ، فقال : يا رسول الله ، زنيت .. فطهرني ..
فقال : ويلك .. وما يدريك ما الزنى ؟ ..
وأمر به .. فطُرد .. وأخرج ..
ثم أتاه الثالثةَ .. والرابعةَ كذلك .. فلما أكثر عليه ..
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قومَه : أبه جنون ؟ قالوا : يا رسول الله .. ما علمنا به بأساً ..(11/8)
فقال : أشرب خمراً ؟ فقام رجل فاستنكهه وشمّه فلم يجد منه ريح خمر ..
فقال صلى الله عليه وسلم : هل تدري ما الزنى ؟
قال : نعم .. أتيت من امرأة حراماً ، مثلَ ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً ..
فقال صلى الله عليه وسلم : فما تريد بهذا القول ؟
قال : أريد أن تطهرني ..
قال صلى الله عليه وسلم : نعم .. فأمر به أن يرجم .. فرجم حتى مات ..
فلما صلوا عليه ودفنوه مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على موضعه مع بعض أصحابه ..
فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه :
أنظر إلى هذا .. الذي ستر الله عليه ولم تدعه نفسه حتى رُجم رَجم الكلاب ..
فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم سار ساعة .. حتى مر بجيفة حمار .. قد أحرقته الشمس حتى انتفخ وارتفعت رجلاه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : أين فلان وفلان ؟
قالا : نحن ذانِ .. يا رسول الله ..
قال : انزلا .. فكلا من جيفة هذا الحمار ..
قالا : يا نبي الله !! غفر الله لك .. من يأكل من هذا ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : ما نلتما .. من عرض أخيكما .. آنفا أشدُّ من أكل الميتة .. لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم .. والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها ..
فطوبى .. لماعز بن مالك .. نعم وقع في الزنى .. وهتك الستر الذي بينه وبين ربه ..
فلما فرغ من معصيته .. ذهبت اللذات .. وبقيت الحسرات ..
لكنه تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم ..
صبروا قليلا فاستراحوا دائما يا عزة التوفيق للإنسان
والرب ليس يضيع ما يتحمل المتحملون من أجله من شان
ويذكر الرحمن واحدهم مذاكرة الحبيب يقول يا بن فلان
هل تذكر اليوم الذي قد كنت فيه مبارزا بالذنب والعصيان
فيقول رب أما مننت بغفرة قدما فانك واسع الغفران
فيجيبه الرحمن مغفرتي التي قد أوصلتك إلى المحل الداني(11/9)
ولا يعني كلامنا عن ماعز رضي الله عنه أننا نطلب من كل من وقع في كبيرة أن يطالب بإقامة الحدّ عليه .. لكن الذي نريده هو أن لا تتمكن المعصية من القلب حتى يألفها ولا يحدث منها توبة .. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أحوال القلوب فقال كما في صحيح مسلم :
تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا .. فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء .. وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء .. حتى تصير على قلبين ..
على أبيض مثلِ الصفا .. فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ..
والآخر أسود مرباداً .. كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ..
فأين تلك القلوب البيضاء التي ترتجف إذا وقعت في المعصية .. فتسارع إلى التوبة والإنابة ..
فإن التساهل بالذنوب هو طريق السوء والخذلان .. في الدنيا والآخرة ..
ذكر ابن الجوزي في ذم الهوى ..
أنه كان ببغداد رجل يطلق بصره في المحرمات .. ويتتبع الشهوات .. ذكر فلم يدكر .. وزجر فلم بنزجر ..
فاجتاز يوماً بباب رجل نصراني .. فاطلع داخل البيت فرأى ابنة النصراني فتعلق بها قلبه ..
فقال لي : قد جاء الأجل .. وحان الوقت .. وما لقيت صاحبتي في الدنيا .. وأنا أريد أن ألقاها في الآخرة .. فقلت : ستلقى خيراً منها في الآخرة ..
فقال : لا أريد إلا هي ..
قلت : لا سبيل لك إلى ذلك .. وأنت مسلم وهي نصرانية ..
فشهق بأعلى صوته وقال : فإني أرجع عن دين محمد .. وأؤمن بعيسى والصليبِ الأعظم ..
فصحت به اتق الله .. ولا تكفر .. ما عند الله خير وأبقى .. فبكى وأخذ يشهق حتى مات ..
فتولى أهل المارستان أمره ..
ومضيت أنا إلى تلك المرأة .. فوجدتها مريضة .. فدخلت عليها وجعلت أحدثها عنه ..
فلما علمت بموته صاحت وقالت :
أنا ما لقيت صاحبي في الدنيا .. وأريد أن ألقاه في الآخرة .. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..وأنا بريئة من دين النصرانية ..(11/10)
فنهرها أبوها ..فبكت .. واشتدَّ بكاها ..
فقال أبوها : خذها إليكم فلا أساكن من فارقت دينها .. قال : فلم تلبث بعد ذلك إلا يسيراً .. وماتت ..
نعوذ بالله من الخذلان .. ووساوس الشيطان ..
وكم من امرأة ورجل تلذذت منهما العينان .. وأطربت الأذنان .. لكن عاقبة ذلك الذلُ والهوان .. وعذابُ النيران .. ولا يظلم ربك أحداً ..
فمن استقام على دين الله عاش عيش السعداء .. وختم بخاتمة الأتقياء .. وحشر مع الأتقياء .. ورافق الأنبياء ..
] إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم [ ..
والسعداء قوم كثر في الدنيا اجتهادهم .. فعلت بين الناس رتبهم .. حتى أصبحوا لا يقاسون عند الله بأشكالهم وأحجامهم وإنما يرتفعون عند الله بأعمالهم ..
روى الإمام أحمد وغيرُه .. أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .. كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فمرا بشجرة فأمره النبي أن يصعدها ويحتزَّ له عوداً يتسوك به ..
فرقى ابن مسعود وكان خفيفاً نحيل الجسم .. فأخذ يعالج العود لقطعه .. فأتت الريح فحركت ثوبه وكشفت ساقيه .. فإذا هما ساقان دقيقتان صغيرتان ..
فضحك القوم من دقة ساقيه ..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ممّ تضحكون ؟! .. من دقة ساقيه ؟! والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أحد ..
ما الذي أثقلهما في الميزان .. إنه طول القيام .. ومداومة الصيام ..
ما حملته ساقاه إلى حرام ..(11/11)
أما غير ابن مسعود ممن زينوا ظواهرهم .. وأهملوا بواطنهم .. بيّضوا ثيابهم وسوّدوا قلوبهم .. فقد قال فيهم أبو القاسم صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : ( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة .. ثم قال صلى الله عليه وسلم : اقرءوا إن شئتم ] فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً [ ..
وإن الإنسان كلما أعرض عن طاعة مولاه .. وازداد انخراطاً في اللذات .. واتباعاً للشهوات .. نزع الله منه أسباب السعادة . وسلط عليه الضيق والهموم .. ولا يرُفع عنه ذلك إلا بالتوبة إلى الله والرجوع إليه ..
لماذا ؟ لأن انشراح الصدر .. ولذة العمر .. نعم عظيمة لا يعطيها الله إلا لمن يحب .. لذا امتن الله بها على رسوله وقال له ] ألم نشرح لك صدرك [ ..
وأول عقوبات المعاصي ضيق الصدر .. ولو علم العاصي والعاصية .. ما في العفاف والطاعة من اللذة والسرور .. والانشراح والحبور .. لعلموا أن الذي فاتهم من لذة الإيمان .. أضعافُ ما حصل لهم من لذة معصية عابرة .. فضلاً عما يكون يوم القيامة ..
قال ابن عباس رضي الله عنه : إن للحسنة نوراً في القلب .. وضياء في الوجه .. وسعة في الرزق .. ومحبة في قلوب الناس .. وإن للسيئة ظلمة في القلب .. وسواداً في الوجه .. ووهناً في البدن .. وبغضة في قلوب الخلق ..
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ..
وصدق الله إذ قال : ] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون [ ..
فأهل الهدى والإيمان لهم انشراح الصدر واتساعه .. وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والبلاء .. والكربة والشقاء .. وانفراط الأمر .. وتعاسة العمر .. وقد قال الله : ] ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً [ ..(11/12)
إن الملل الدائم الذي ينزله الله بمن عصاه .. أو طلب السعادة والأنس في غير رضاه .. ليضيق على أهل المعصية دنياهم .. وينغص عليهم عيشهم .. حتى يتحول ما يسعون وراءه من متع إلى عذاب يتعذبون به .
لماذا ..
لماذا يتحول سماعهم للغناء .. ومواقعتهم للفحشاء .. وشربهم للخمر .. ونظرهم إلى الحرام ..
لماذا يتحول هذا إلى ضيق بعد أن كان سعة .. وحزن بعد أن كان فرحة ..
لماذا ؟ لأن الله تعالى خلق الإنسان لوظيفة واحدة .. لا يمكن أن تستقيم حياته لو اشتغل بغيرها .. ] وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ ..
فإذا استعمل الإنسان جسده وروحه لغير الوظيفة التي خالق لأجلها تحولت حياته إلى جحيم ..
لو أن رجلاً يمشي في طريق فانقطع نعله فجأة فلما رأى ذلك قال : لا مشكلة أستعمل القلم بدل النعل ثم وضع نعله تحت رجله وأراد المشي لقلنا له : أنت مجنون لأن القلم صنع للكتابة ولم يصنع للمشي ..
وكذلك احتاج قلماً فلم يجد فقال : لا مشكلة أكتب بحذائي ثم تناول حذاءه وبدأ يجرّه على الورق !! لقلنا له : أنت مجنون لأن الحذاء إنما صنع لوظيفة واحدة هي المشي ولم يصنع للكتابة ..
وكذلك الإنسان خلق لوظيفة واحدة هي طاعة لله وعبادته .. فمن استعمل حياته لغير هذه الوظيفة فلا بدَّ أن يضل ويشقى ..
ولو نظرت في حال من استعملوا حياتهم لغير ما خلقوا له لوجدت في حياتهم من الفساد والضياع ما لا يوجد عند غيرهم ..
لماذا يكثر الانتحار في بلاد الإباحية والفجور ..
لماذا ينتحر في أمريكا سنويا أكثر من خمسة وعشرين ألف شخص ..
وقل مثل ذلك في بريطانيا .. وقل مثله في فرنسا .. وفي السويد .. وإيطاليا ..وغيرها ..
لماذا .. ألم يجدوا خموراً يشربون ؟ كلا الخمور كثيرة ..
ألم يجدوا بلاداً يسافرون ؟ كلا البلاد واسعة ..
أو منعوا من الزنى ؟
أم حيل بينهم وبين الملاعب والملاهي ..
أو أقفلت في وجوههم الحانات والبارات ..(11/13)
كلا .. بل هم يفعلون ما شاءوا .. يتقلبون بين متع أعينهم .. وأبصارهم وفروجهم ..
إذن لماذا ينتحرون .. لماذا يملون من حياتهم ؟
لماذا يتركون الخمور والزنى والملاهي .. ويختارون الموت .. لماذا ..
الجواب واضح ] ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً [ ..
تلاحقه المعيشة الضنك في ذهابه ومجيئه .. وسفره وإقامته .. تأكل معه وتشرب ..
تقوم معه وتقعد .. تلازمه في نومه ويقظته ..
تنغّص عليه حياته حتى الموت .. ومن أعرض عن الله وتكبر .. ألقى الله عليه الرعب الدائم .. قال الله ] سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب [ .. لماذا ؟ ] بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين [ ..
أما العارفون لربهم .. المقبلون عليه بقلوبهم فهم السعداء ] من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ ..
حدثني أحد الدعاة أنه ذهب للعلاج في بريطانيا ..
قال : فأدخلت إلى مستشفى من أكبر المستشفيات هناك .. لا يكاد يدخله إلا كبير أو وزير .. فلما دخل عليَّ الطبيب ورأى مظهري قال : أنت مسلم ؟
قلت : نعم ..
فقال : هناك مشكلة تحيرني منذ عرفت نفسي .. هل يمكن أن تسمعها مني ؟
قلت : نعم ..
فقال : أنا عندي أموال كثيرة .. ووظيفة مرموقة .. وشهادة عالية .. وقد جربت جميع المتع .. شربت الخمور المتنوعة .. وواقعت الزنى ..وسافرت إلى بلاد كثيرة .. ومع ذلك .. لا أزال أشعر بضيق دائم .. وملل من هذه المتع .. حتى عرضت نفسي على عدة أطباء نفسيين .. وفكرت في الانتحار عدة مرات لعلي أجد حياة أخرى .. ليس فيها ملل .. ألا تشعر أنت بمثل هذا الملل والضيق ؟!
فقلت له : لا .. بل أنا في سعادة دائمة .. وسوف أذلك على حل المشكلة .. ولكن أجبني ..
أنت إذا أردت أن تمتع عينيك فماذا تفعل ؟ قال : نظر إلى امرأة حسناء أو منظر جميل ..(11/14)
قلت : فإذا أردت أن تمتع أذنيك فماذا تفعل ؟ قال : أستمع إلى موسيقى هادئة ..
قلت : فإذا أردت أن تمتع أنفك فماذا تفعل ؟ قال : أشم عطراً .. أو أذهب إلى حديقة ..
قلت له : حسناً .. إذا أردت أن تمتع عينك لماذا لا تستمع إلى موسيقى ؟
فعجب مني وقال : لا يمكن لأن هذه متعة خاصة بالأذن ..
قلت : فإذا أردت أن تمتع أنفك لماذا لا تنظر إلى منظر جميل ؟ فعجب أكثر وقال : لا يمكن لأن هذه متعة خاصة بالعين .. ولا يمكن أن يتمتع بها الأنف ..
قلت له : حسناً .. وصلت إلى ما أريده منك ..
أنت تحس بهذا الضيق والملل في عينك ؟
قال : لا .. قلت : تحس به في أذنك .. في أنفك .. فمك .. فرجك ..
قال : لا أحس به في قلبي .. في صدري ..
قلت : أنت تحس بهذا الضيق في قلبك .. والقلب له متعة خاصة به .. لا يمكن أن يتمتع بغيرها .. ولا بدَّ أن تعرف الشيء الذي يمتع القلب .. لأنك بسماعك للموسيقى .. وشربك للخمر .. ونظرك وزناك .. لست تمتع قلبك وإنما تمتع هذه الأعضاء ..
فعجب الرجل .. وقال : صحيح .. فكيف أمتع قلبي ؟
قلت : بأن تشهد أن لا إله إلا الله .. وأن محمداً رسول الله .. وتسجد بين يدي خالقك .. وتشكو بثك وهمك إلى الله .. فإنك بذلك تعيش في راحة واطمئنان وسعادة ..
فهزّ الرجل رأسه وقال : أعطني كتباً عن الإسلام .. وادعُ لي .. وسوف أسلم ..
وصدق الله إذ قال : ] يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين * قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ ..
فعجباً لأقوام يلتمسون الأنس والانشراح .. ويبحثون عن السعادة في غير طريقها .. والله يقول : ] أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ ..
ففرّق الله بين عيش السعداء .. وعيش الأشقياء .. في المحيا والممات ..(11/15)
بل إن المحسن كلما ازداد إحساناً في الدنيا .. عظمت لذته وسعادته .. وأحسن الله إليه في رزقه .. وولده .. ووظيفته .. ومسكنه .. أحسن إليه في كل شيء ..
قال تعالى : ] قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ ..
ذكر أصحاب السير وأصل القصة في صحيح مسلم ..
أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه الصحابي الجليل .. قتل أبوه في معركة أحد .. وخلف عنده سبع أخوات ليس لهن عائل غيره .. وخلف ديناً كثيراً .. على ظهر هذا الشاب الذي لا يزال في أول شبابه ..
فكان جابر دائماً ساهم الفكر .. منشغل البال بأمر دَينه وأخواته .. والغرماء يطالبونه صباحاً ومساءً ..
خرج جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع .. وكان لشدة فقره على جمل كليل ضعيف ما يكاد يسير .. ولم يجد جابر ما يشتري به جملاً .. فسبقه الناس وصار هو في آخر القافلة ..
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في آخر الجيش .. فأدرك جابراً يدبّ به جمله .. والناس قد سبقوه .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مالك يا جابر ؟
قال : يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا ..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنخه .. فأناخه جابر وأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته .. ثم قال : أعطني العصا من يدك أو اقطع لي عصا من شجرة ..فناوله جابر العصا ..
فما زالا يتزايدان حتى بالغا به أربعين درهماً .. أوقية من ذهب ..
فقال جابر : نعم .. ولكن أشترط عليك أن أبقى عليه إلى المدينة ..
قال صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم : نعم ..
فلما وصلوا إلى المدينة .. مضى جابر إلى منزله وأنزل متاعه من على الجمل ومضى ليصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم وربط الجمل عند المسجد ..
فما خرج النبي صلى الله عليه وسلم قال جابر : يا رسول الله هذا جملك ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا بلال .. أعط جابراً أربعين درهماً وزده ..(11/16)
أتراني ماكستك لآخذ جملك ..
يعني أنا لم أكن أطالبك بخفض السعر لأجل أن آخذ الجمل وإنما لأجل أن أقدر كم أعطيك من المال معونة لك على أمورك ..
ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ..
وإنك لتحزن .. إذا رأيت مسلمين عقلاء .. يلتمسون السرور وسعة الصدر ..
بالاجتماع على مشاهدة محرم .. أو الحديث عنه .. أو مزاولته .. في بيت أو بستان .. أو متنزّه .. أو في جلسة على طريق أو شاطئ ..
في مجالس لا تقربها الملائكة .. ولا تغشاها الرحمة ..
ويتفرقون عنها بصدور ضيقة .. وأنفسٍ مكتئبة ..
ويزين بعضهم لبعض هذا المنكر .. وكأنهم قد اجتمعوا على مباح أو طاعة ..
وكأن ليس لهم إله يراقبهم .. ولا ربٌ يحاسبهم .. وتبحث عنهم في مجالس الذكر فلا تجدهم ..
ثم يوم القيامة يكفر بعضه ببعض ويلعن بعضهم بعضاً ..
وقد قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم : ( أيما قوم جلسوا .. فأطالوا الجلوس .. ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله .. ويصلوا على نبيه صلى الله عليه وسلم .. إلا كانت عليهم من الله ترة ( أي ثأر وعقوبة ) إن شاء الله عذبهم .. وإن شاء غفر لهم ) ..
وإنه ليشتدّ حزنك أكثر .. إذا رأيت فتيات مسلمات .. هن حفيدات خديجة وفاطمة .. وأخوات حفصة وعائشة .. قد طهّر الله قلوبهن من الشرك .. وأعينهن من الخيانة .. وحفظ فروجهن من الفجور ..
قد سلم لهن الأسماع والأبصار .. وتفضل عليهن بالستر والعافية .. لم تروّع إحداهن في بلدها .. ولم تفجع في أبيها ولا ولدها .. لم يغتصبها فاجر .. ولم يعتدِ عليها كافر ..
ومع كل هذه النعم تجد إحداهن تتسكع سوق .. وتنساق وراء شهوة .. في هاتف .. أو مجلة .. أو صداقة فاجرة ..
وتخالف ربها بتقليد الكافرات .. في اللباس والمظهر ..
وقد يكون نظرها إلى القنوات .. وتقليبها للمجلات .. أكثرَ من نظرها في السور والآيات .. وحضور مجالس الصالحات ..(11/17)
وتظن المسكينة أن السعادة فيما تفعله .. أو تزينه لها صديقاتها .. أو يحتال به عليها ذئب فاجر .. أو شاب غادر ..
ولا يلبث كل ذلك أن ينقلب عليها شقاءً وضيقاً ..
والعبد حتى لو حصل شيئاً من ملاذه فتمتع بها .. وسعِد بتحصيلها .. فإنه لا يلبث حتى يملها .. ويذهب عنه ذهوله .. وتتحول هذه الملاذّ إلى أسباب ضيق وملل وتعاسة ..
ذكر ابن الجوزي في كتابه المنتظم أن المسلمين غزو حصناً من حصون الروم .. وكان حصناً منيعاً .. فحاصروه وأطالوا الحصار وتمنع عليهم ..
وأثناء حصارهم أطلت امرأة من نساء الروم فرآها رجل من المسلمين اسمه ابن عبد الرحيم ..
فأعجبته .. وتعلق قلبه بها .. فراسلها : كيف السبيل إليك ؟
فقالت : أن تتنصر .. وتصعد إليَّ ..
فتنصّر وتسلل إليها ..
مسكين ظن أن السعادة في امرأة ينكحها .. وخمر يشربها .. ونسي أن السعادة العظمى هي مصاحبته لهؤلاء الأخيار يصوم ويصلي .. ويقرأ ويجاهد ..
فلما فقده المسلمون اغتموا لذلك غماً شديداً ..
ثم طالت بهم الأيام ولم يستطيعوا فتح الحصن فذهبوا ..
فلما كان بعد مدة مرّ فريق منهم بالحصن فتذاكروا ابن عبد الرحيم .. فتساءلوا عنه .. وعلى أي حال هو الآن ؟! ..
فنادوا باسمه : يا ابن عبد الرحيم .. فأطلَّ عليهم ..
فقالوا : قد حصلت ما تريد .. فأين قرآنك وعلمك ؟ ما فعلت صلاتك ؟
فقال : لقد أنسيت القرآن كله .. ولا أذكر منه إلا آية واحدة .. قوله تعالى : ] ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين [ قال الله : ] ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ ..
فهذه هي السعادة الحقيقية .. واللذة الأبدية .. التي ضيع طريقها الكثيرون ..
هذه هي السعادة التي يعيش بها المرء حياة المطمئنين ..
فيا من فقد السعادة .. إن كنت تريد السعادة .. فقد عرفت طريقها ..
واحذر من خداع إبليس الذي يوسوس لك بالنظر إلى المحرمات .. والوقوع في الشهوات .. يمنيك بالمتعة والسرور .. والأنس والحبور ..(11/18)
فما هي إلا ساعة حتى يبعثر ما في القبور .. ويحصل ما في الصدور .. وتتساوى أقدام الخلائق في القيام لله .. وينظر كل عبد ما قدمت يداه ..
واعلم بأن السعداء إذا ذكروا تذكروا ..
فذاك إبراهيم بن أدهم كان أبوه من ملوك خراسان .. وكان في سهو وغفلة .. فصاح به صائح يوماً فقال له : يا إبراهيم .. ما للهو خلقت .. ] أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون [ .. فخف من ربك وأعدّ الزاد لقبرك .. فتاب إبراهيم من ساعته وأصبح من العباد ..
وذاك الفضيل بن عياض .. كان سارقاً قاطع طريق .. فقفز في بيت في ظلمة الليل .. فسمع قارئاً يقرأ قوله تعالى : ] ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [ .. فبكى الفضيل وقال : ربِّ قد آن .. ربِّ قد آن .. ثم قصد المسجد من ساعته وتاب واستعدَّ للقاء ربه ..
وذاك زاذان الكندي الإمام المحدث كان صاحب لهو وطرب ..
ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى .
فقام و ضرب بالعود على الأرض فكسره ثم أسرع فأدركه وجعل يبكي بين يدي عبد الله بن مسعود ..
فاعتنقه عبد الله بن مسعود .. وبكى وقال : كيف لا أحب من قد أحبه الله .. ثم لازم زاذان ابن مسعود حتى تعلم القرآن .. وصار إماماً في العلم ..
وذاك القعنبي الإمام المحدث .. كان في شبابه يشرب النبيذ ويصحب الأحداث ..
فدعى أصحابه يوماً .. وقعد على الباب ينتظرهم ..
فمر شعبة بن الحجاج الإمام المحدث على والناس خلفه يهرعون ..
فقال القعنبي : من هذا ؟
قيل : شعبة ..
قال : وأيش شعبة ؟
قالوا : محدث ..
فقام إليه وعليه إزار أحمر .. فقال له : حدثني .. يعني ما دمت محدثاً فحدّثني ..
فقال له : ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك ..
فأشهر سكينة وقال: تحدثني أو أطعنك ؟(11/19)
فالتفت إليه شعبة وقال : حدثنا منصور .. عن ربعي .. عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت ..
فلما سمع القعنبي هذا الحديث .. وافق منه قلباً صافياً .. وتذكر ما يحارب به ربَّه منذ سنين ..
ورمى سكينه ورجع إلى منزله . فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب فهراقه ..
ثم استأذن أمه بالسفر إلى المدينة لطلب العلم .. ومضى من وقته ولزم مالك بن أنس .. حتى حفظ عنه وأصبح من كبار العلماء المحدثين ..
وسبب هدايته موعظة عابرة .. لكنها صادفت قلباً حياً ..
فأدم ذكر ربك على جميع أحوالك .. واحرص على مجالسة الصالحين .. وحضور دروس العلم والدين .. فإن للذكر من شرح الصدر .. ولذة العمر .. ما لا يوصف ..
فابكِ بين يدي ربك .. واعترف بتقصيرك وذنبك .. واعترف بنعمته عليك .. وقل :
يا منزل الآيات والفرقان بيني وبينك حرمة القرآن
اشرح به صدري لمعرفة الهدى واعصم به قلبي من الشيطان
يسر به أمري واقض مآربي وأجرْ به جسدي من النيران
واحطط به وزري وأخلص نيتي واشدد به أزري وأصلح شاني
واكشف به ضري وحقق توبتي أربِح به بيعي بلا خسران
طهر به قلبي وصفِّ سريرتي أجمل به ذكري وأعلِ مكاني
واقطع به طمعي وشرِّف همتي كثِّر به ورعي وأحيي جناني
أسهر به ليلي وأظم جوارحي أسبِل بفيض دموعها أجفاني
أمزجه يا ربي بلحمي مع دمي واغسل به قلبي من الأضغان
أنت الذي صوَّرتني وخلقتني وهديتني لشرائع الإيمان
أنت الذي علمتني ورحمتني وجعلت صدري واعي القرآن
أنت الذي أطعمتني وسقيتني من غير كسب يد ولا دكان
وجبرتني وسترتني ونصرتني وغمرتني بالفضل والإحسان
أنت الذي آويتني وحبوتني وهديتني من حيرة الخذلان
وزرعت لي بين القلوب مودة والعطفَ منك برحمة وحنان
ونشرت لي في العالمين محامداً وسترت عن أبصارهم عصياني
وجعلت ذِكري في البريّة شائعاً حتى جعلت جميعهم إخواني(11/20)
والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام عليَّ من يلقاني
ولأعرضوا عني وملّوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي وحلُمتَ عن سقطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوارحي ولساني
ولقد مننت عليَّ ربِّ بأنعُمٍ ما لي بشكر أقلِّهن يدان
فوَحق حكمتك التي آتيتني حتى شددت بنورها أركاني
لإن اجتبتني من رضاك معونة حتى يقوي أيدُها إيماني
لأُسبحنك بكرة وعشية ولَتخدمنك في الدجى أركاني
ولأذكرنك قائماً أو قاعداً ولأشكرنك سائر الأحيان
ولأكتمنَّ عن البرية خِلّتي ولأشكونّ إليك جهد زماني
ولأجعلنّ المقلتين كلاهما من خشية الرحمن باكيتان
ولأجعلن رضاك أكبر هِمتي ولأقبضنّ عن الفجور عناني
ولأمنعن النفس عن شهواتها ولأجعلن الزهد من أعواني
ولأحسمن عن الأنام مطامعي بحسام يأس لم تشبه بنان
ولأقصدنك في جميع حوائجي من دون قصد فلانة وفلان
ولأتلونَّ حروف وحيك في الدجى ولأُحرِقنّ بنوره شيطاني
اللهم إنا نسألك عيش السعداء .. وموت الشهداء .. والحشر مع الأتقياء .. ومرافقة الأنبياء .. اللهم إنا نسألك من الخير كله ..
كتبه / د. محمد بن عبد الرحمن العريفي(11/21)
كونوا على الخير أعوانا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " آل عمران : 102
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا " النساء : 1
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما " الاحزاب : 70-71
أما بعد :
فقد جاء الإسلام بالأمر بالتعاون على البر والخير والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان قال الله تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب ِ(2) سورة المائدة
وما أحوجنا في هذا الزمان الذي انتشر فيه الشرّ وانحسر فيه الخير وقلّ المعينون عليه أن نحيي هذه الشعيرة العظيمة وندعو إليها ونحثّ عليها لما فيها من الخير العظيم والنفع العميم . من إقامة أمر الدين وتقوية المصلحين ، وكسر الشرّ ومحاصرة المفسدين .
الإعانة ومرادفاتها في اللغة
قال صاحب الألفاظ المؤتلفة :
باب الاعانة :
يقال أعانه وأجاره وأيده .. ورأمه ورافده وأغاثه وعاونه وعاضده وآزره وناصره .. وظافره وظاهره ومالأه ، والعون : الظهير ، ورجل معوان كثير المعونة للناس و استعان به فأعانه و عاونه وفي الدعاء رب أعني ولا تعن علي وتعاون القوم أعان بعضهم بعضا .
وقال الجرجاني في تعريف الألفة : اتفاق الآراء في المعاونة على تدبير المعاش
( انظر الألفاظ المؤتلفة 1/159 ، التعريفات 1 /51 ، ولسان العرب 13/298 )(12/1)
وفي التعريف كلمة مهمة وهي : " اتفاق الآراء " وما توحي به من وحدة الهدف ، واجتماع القلوب على بلوغه .
معنى التعاون شرعا
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : " الإعانة هي : الإتيان بكل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها ، والامتناع عن كل خصلة من خصال الشر المأمور بتركها ، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه ، وبمعاونة غيره عليها من إخوانه المسلمين ، بكل قول يبعث عليها ، وبكل فعل كذلك " ( تيسير الكريم الرحمن 2/238 بتصرف يسير )
وسئل سفيان بن عيينة عن قوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى " فقال : هو أن تعمل به وتدعو إليه وتعين فيه وتدل عليه . ( حلية الأولياء 7 /284 )
يقول القرطبي في تفسيره : ( وتعاونوا على البر والتقوى : هو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى ؛ أي ليُعِن بعضكم بعضا ، وتحاثوا على أمر الله تعالى واعملوا به ، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه ، وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الدال على الخير كفاعله ) الجامع لأحكام القرآن 3/6/33 .
وقال القاسمي في تفسيره : ( لما كان الاعتداء غالبا بطريق التظاهر والتعاون ، أُمروا - إثر ما نهوا عنه - بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى ، ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى .. ، ثم نُهوا عن التعاون في كل ما هو مقولة الظلم والمعاصي ) ( محاسن التأويل 3/22)
وقال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى .. الآية :(12/2)
( اشتملت هذه الاية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم ، فإن كل عبد لاينفك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين : واجب بينه وبين الله وواجب بينه وبين الخلق ، فأما ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونه والصحبة فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه ولاسعادة له إلا بها وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله ) ( زاد المهاجر 1 /6-7 ) .
ثم بيّن أهمية التعاون على البر والتقوى وأنه من مقاصد اجتماع الناس فقال : " والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم هو التعاون على البر والتقوى ، فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علما وعملا ، فإن العبد وحده لايستقلُّ بعلم ذلك ولابالقدرة عليه ؛ فاقتضت حكمة الرب سبحانه أن جعل النوع الانساني قائما بعضه ببعضه معينا بعضه لبعضه . ( زاد المهاجر 1 /13)
فالإنسان ضعيف بوصفه فردا ، قوي باجتماعه مع الآخرين ، وشعور الإنسان بهذا الضعف يدفعه حتما إلى التعاون مع غيره في أي مجال ، فأمر الله العباد أن يجعلوا تعاونهم على البرّ والتقوى .
الفرق بين البر والتقوى ، والإثم والعدوان :
قيل : البر والتقوى لفظان بمعنى واحد ، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة ، إذ كل برّ تقوى ، وكل تقوى بر . وقال ابن عطية : وفي هذا تسامح ما ، والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب ، فإن جعل أحدهما بدل الآخر تجوّز .
وقال الماوردي : ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له ؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى ، وفي البرّ رضا الناس ، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمّت سعادته وعمّت نعمته . ( الجامع لأحكام القرآن 6/33)(12/3)
وفرق بينهما الشيخ السعدي رحمه الله فقال : " البرّ هو اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأعمال الظاهرة والباطنة ، من حقوق الله ، وحقوق الآدميين ، والتقوى في هذه الآية : اسم جامع ، لترك كل ما يكرهه الله ورسوله ، من الأعمال الظاهرة والباطنة . ( تيسير الكريم الرحمن 2/238)
وقال ابن القيم مفرقا بينهما : " وأما عند اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ) فالفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها فإن البرّ مطلوب لذاته إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه كما تقدم وأما التقوى فهي الطريق الموصل الى البر والوسيلة اليه ( زاد المهاجر 1 /11)
أما الفرق بين الإثم والعدوان :
فيقول الشيخ عبد الرحمن السعدي : ( " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وهو التجري على المعاصي التي يأثم صاحبها .. " والعدوان " وهو التعدي على الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم .
فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه ، ثم إعانة غيره على تركه ) ( تيسير الكريم الرحمن 2/239)
ومن القواعد المؤكّدة في التعاون :
أن المعاونة على البرّ : برّ
قال البيهقي - رحمه الله - : " الثالث والخمسون من شعب الإيمان ؛ وهو باب في التعاون على البر والتقوى قال الله عز وجل وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ومعنى هذا الباب أن المعاونة على البر بر لأنه إذا عدمت مع وجود الحاجة إليه لم يوجد البر وإذا أوجدت وجد البر فبان بأنها في نفسها بر ثم رجح هذا البر على البر الذي ينفرد به الواحد بما فيه من حصول بر كثير مع موافقة أهل الدين والتشبه بما بني عليه أكثر الطاعات من الاشتراك فيها وأدائها بالجماعة " ( شعب الإيمان 6/101 )(12/4)
ثم ساق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال تمنعه من الظلم ، فذلك نصره ) أخرجه البخاري برقم 2444
ومعنى هذا أن الظالم مظلوم من جهته كما قال الله عز وجل ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه فكما ينبغي أن ينصر المظلوم إذا كان غير نفس الظالم ليدفع الظلم عنه كذلك ينبغي أن يُنصر إذا كان نفس الظالم ..
التعاون بين البشر من فطرة الله التي فطر الناس عليها
يقول ابن خلدون في مقدمته :
الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء والكَنّ وغير ذلك وإنما تميز عنها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع المهيّء لذلك التعاون ، وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى والعمل به واتباع صلاح أخراه . ( مقدمة ابن خلدون 1/429 )
وبيّن رحمه الله أهمية الاجتماع والتعاون لبني البشر وذكر أن التعاون يحصل به من الثمرة أكثر من حاجات المتعاونين فقال :
( قد عرف وثبت أن الواحد من البشر غير مستقل لتحصيل حاجاته في معاشه وأنهم متعاونون جميعا في عمرانهم على ذلك ، والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تشتد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافا ، فالقوت من الحنطة مثلا لا يستقلّ الواحد بتحصيل حصته منه وإذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حدّاد ونجار للآلات وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السنبل وسائر مؤن الفلح وتوزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم ) . انتهى ( مقدمة ابن خلدون ج: 1 ص: 360)(12/5)
ويقول في موضع آخر فيه مزيد بيان : ( إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وركّبه على صورة لا يصلح حياتها ولا بقاؤها إلا بالغذاء ، وهداه إلى التماسه بفطرته ، وبما ركّب فيه من القدرة على تحصيله ، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء ، غير موفية له بمادة حياته منه .
ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا ، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري .
هب أنه يأكل حبا من غير علاج ؛ فهو أيضا يحتاج في تحصيله حبا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه ؛ الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل ، ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير ، ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد ، فلابد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم ) ( مقدمة ابن خلدون 2/272-274 ) .
وهذا الكلام يدل قطعا على أن توزيع المهمات لإنجاز العمل الواحد من التعاون المطلوب ، وأن هذا التعاون بين الأفراد ينتقل بعمل كلّ منهم ليصبح وظيفة عامة اجتماعية تكفل العيش لعدد كبير من المجمتع ، فالتعاون بين الأفراد وتقسيم العمل ظاهرتان ملازمتان للإنسان ولا غنى له عنهما ، وأنّ تعاون المجموعة لا يُنتج ما يكفيهم فقط وإنما يزيد ويفيض .
وهذا كلام عام في الأمور الدينية والدنيوية ، فأما بالنسبة للتعاون الشّرعي فإن الأسباب الدافعة لدى المسلم للتعاون على البرّ والتقوى والمشاركة في الخير عدّة ومنها :
- تحصيل ثواب امتثال الأمر الوارد في قوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى "(12/6)
- زيادة الأجر والمضاعفة : قال ابن القيم رحمه الله : ( فإن العبد بإيمانه وطاعته لله ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله ، فإن المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها كالصلاة في جماعة ؛ فإن كل واحد منهم تضاعف صلاته إلى سبعة وعشرين ضعفا لمشاركة غيره له في الصلاة ، فعمل غيره كان سببا لزيادة أجره كما أن عمله سبب لزيادة أجر الآخر بل قد قيل إن الصلاة يضاعف ثوابها بعدد المصلين ، وكذلك اشتراكهم في الجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا وشبك بين أصابعه ، ومعلوم أن هذا بأمور الدين أولى منه بأمور الدنيا فدخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته ، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم ، وقد أخبر الله سبحانه عن حملة العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم واخبر عن دعاء رسله واستغفارهم للمؤمنين كنوح وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم .
- الحاجة : فإنّ كثيرا من الأهداف والمشاريع الإسلامية لا يُمكن تحقيقها فرديا ، ولهذا قيل : لا يعجز القوم إذا تعاونوا .
والتعاون المأمور به في الآية :
الأول : تعاون على البر والتقوى ؛ من الجهاد وإقامة الحدود ، واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ، يقول القرطبي في تفسيره : ( والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه ، فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم ، ويعينهم الغني بماله ، والشجاع بشجلعته في سبيل الله ، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة ، ويجب الإعراض عن المتعدي ، وترك النصرة له ورده عما هو عليه ) ( الجامع لاحكام القرآن 6/33 )(12/7)
والتعاون المنهي عنه في الآية : التعاون على الإثم والعدوان ؛ كالإعانة على دم معصوم ، أو أخذ مال معصوم ، وضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك ..
وتكون المعاونة بالجاه والبدن والنفس والمال .
أمثلة من مجالات التعاون على البر والتقوى :
إن التعاون على البر والتقوى يكون بوجوه كثيرة تفوق الحصر ، فكل عمل في مرضاة الله يكون التعاون والتظاهر عليه من التعاون على البر والتقوى .. ومن أمثلة ذلك :
أولا : التعاون في مجال الدعوة ونصرة الدين :
ويكون ذلك بنصرة الإسلام وأهله ، فقد حرض الله تعالى عباده المؤمنين على نصرة دينه وأوليائه ، ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة بشتى الوسائل ، فقال عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله " الصف : 14 ، أي يساعدني في الدعوة إلى الله ( البداية والنهاية 2/85 ) .
ولهذا ينبغي أن تتعاون مع أخيك المسلم في الدعوة إلى الله ، ألم تر أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام : " سنشد عضدك بأخيك " ( القصص : 35 ) ، وقال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم : " وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا " أي أعاونك وأؤيدك في نشر دعوتك .
ومن صور التعاون في مجال الدعوة ونصرة الدين : الجهاد في سبيل الله عز وجل ، ومشاركة أهل الدعوة المحمدية في الحروب ضد أهل الكفر والضلال ، وتهيئة جميع الوسائل والعدة والعتاد من أجل الجهاد في سبيل الله ؛ وقد تعاون الصحابة في الجهاد في مشاهد كثيرة ومواقف متنوعة ومن ذلك حفر الخندق وأصابهم في سبيل ذلك ما أصابهم فصبروا ، فعن جابر رضي الله عنه أنه قال : " لما حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الخندق أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرا من الجوع " أخرجه البخاري برقم 4101 .(12/8)
ومن صور التعاون في نصرة الدين التي حدثت في التاريخ الإسلامي التعاون على قتل مدعي النبوة ، وقتل رؤوس أهل الشرك والمرتدين ومنهم الذين يسبون النبي صلى الله عليه وسلم .
فعن جابر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله ، فقام محمد بن سلمة ، فقال : يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم ، قال : فأذن لي أن أقول شيئا ، قال : قل ، فأتاه محمد بن سلمة فقال : إن هذا الرجل قد سألنا صدقة وإنه قد عنّانا وإني قد أتيتك أستسلفك ، قال : والله لتملّنّه ( ليزيد ضجركم منه ) قال : إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه ، فقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين ، فقال : نعم ارهنوني ، قالوا : أي شيء تريد ؟ قال : ارهنوني نساءكم ، قالوا : كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب . قال : فارهنوني أبناءكم ؟ قالوا : كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم ، فيقال : رُهن بوسق أو وسقين ، هذا عار علينا ، ولكنا نرهنك اللأمة ( يعني السلاح ) ، فواعده أن يأتيه ، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة ، فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم ، فقالت له امرأته : أين تخرج هذه الساعة ؟ فقال : إنما هو محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة ، إن الكريم لو دعي لطعنة بليل لأجاب ، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب ، فقال : ما رأيت كاليوم ريحا - أي أطيب - قال عمرو : أتأذن لي أن أشم رأسك ، قال : نعم ، فشمه ، ثم أشم أصحابه ، ثم قال : أتأذن لي ، قال : نعم ، فلما استمكن منه ، قال : دونكم ، فقتلوه ، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه . ( أخرجه البخاري برقم 4037 ) .(12/9)
وقال ابن عبد البر في ترجمة زياد بن حنظلة التميمي : له صحبة ، وهو الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر ليتعاونوا على مسيلمة وطليحة والأسود . ( بغية الطلب في تاريخ حلب 9/3916 ) .
ثانيا : التعاون على إقامة العبادات :
جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في خطبة خطبها في قوم : ( فانظروا رحمكم الله واعقلوا وأحكموا الصلاة واتقوا الله فيها وتعاونوا عليها وتناصحوا فيها بالتعليم من بعضكم لبعض والتذكير من بعضكم لبعض من الغفلة والنسيان فإن الله عز وجل قد أمركم أن تعاونوا على البر والتقوى والصلاة أفضل البر ) ( طبقات الحنابلة 1/ 354 ) .. ومن أمثلة ذلك :
التعاون على قيام الليل
كان أهل البيت الواحد من أوائل هذه الأمة يتوزعون الليل أثلاثا يصلي هذا الثلث ثم يوقظ الثاني وهكذا .
فقد كان الحسن بن صالح وأخوه عليّ وأمهما يتعاونون على العبادة بالليل لا ينامون وبالنهار لا يفطرون فلما ماتت أمهما تعاونا على القيام والصيام عنهما وعن أمهما فلما مات علي قام الحسن عن نفسه وعنهما وكان يقال للحسن حية الوادي يعني لا ينام بالليل . ( حلية الأولياء 7/ 328 )
ونقل الخطيب البغدادي حادثة فريدة في تعاون الزوجين على العبادة :
كان أبو شعيب البراثي في كوخ يتعبد فيه ، فمرت بكوخه جارية من بنات الكبار من أبناء الدنيا كانت ربيت في قصور الملوك ، فنظرت إلى أبي شعيب فاستحسنت حاله ، وما كان عليه ، .. فجاءت إليه وقالت : أريد أن أكون لك خادمة ، فقال لها : إن أردت ذلك فغَيِّري من هيئتك وتجردي عما أنت فيه ، حتى تصلحي لما أردت ، فتجردّت عن كل ما تملكه ، ولبست لبسة النساك وحضرته فتزوجها ، فمكثت معه سنين عديدة يتعبدان أحسن عبادة وتوفيا على ذلك متعاونين . ( تاريخ بغداد 14/418) ، فلنقارن هذا بحالنا مع زوجاتنا !!
التعاون في بناء المساجد :(12/10)
قال الله تعالى : " مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ " التوبة :18
وقد أورد البخاري في صحيحه بابا في التعاون في بناء المساجد ، وسطر فيه أحاديثا تبين بوضوح مدى التعاون بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بناء المسجد النبوي فعن أَبِي سَعِيدٍ في ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ قَالَ كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ ( رواه البخاري 428 )
وقام المسلمون يعمرون المساجد في البلاد التي فتحوها ، قال بعض الشعراء في وصف مسجد الكوفة لما بُني على أربعة أساطين ضخمة لم يحدث فيها خلل ولا عيب :
بنى زياد لذكر الله مصنعة ...... من الحجارة لم تعمل من الطين
لولا تعاون أيدي الانس ترفعها ..... إذا لقلنا من اعمال الشياطين
( فتوح البلدان 1/342 )
ثالثا : التعاون في مجال طلب العلم :(12/11)
وهذا باب من التعاون لا يحتاج منا في معرفته إلا أن نطالع كتب السير الغاصّة بالقصص التي بلغت من التعاون أوجه ، فهذا عمر بن حفص الأشقر يقول كنا مع محمد بن إسماعيل بالبصرة نكتب الحديث ففقدناه ايامنا فطلبناه فوجدناه في بيت وهو عريان وقد نفذ ماعنده ولم يبق معه شيء ، فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوبا وكسوناه ثم اندفع معنا في كتابة الحديث . ( تاريخ بغداد 2 / 13) .
وقال هياج بن عبيد كان لرافع قدم في الزهد وإنما تفقه الشيخ أبو إسحاق وأبو يعلى بن الفراء بمعاونة رافع لهما لأنه كان يحمل وينفق عليهما . ( سير أعلام النبلاء 18/52 )
وكان من ضمن هذا الباب من التعاون : التعاون في تأليف الكتب ، فقد جاء في ترجمة الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي رحمه الله أنه " ولع بتخريج أحاديث الإحياء ورافق الزيلعي الحنفي في تخريجه أحاديث الكشاف وأحاديث الهداية فكانا يتعاونان . " ( طبقات الشافعية ج: 4 ص: 30 ) فاستفدنا من ذلك تخريج ثلاثة كتب صارت من أهم المراجع لطلاب الحديث .
ويدخل في التعاون في هذا الباب شرح المواد الدراسية من الخبير بها للقاصر عن فهمها ، وكان بعض نبلاء المسلمين يشتري المصاحف والألواح ويوزعها على أطفال الكتاتيب معونة لهم على حفظ القرآن الكريم .
رابعا : المعاونة في إقامة الأنشطة الخيرية والأعمال الإسلامية
والمشاركة فيها بالنفس والمال ، والجود عليها بالوقت ، والحثّ على الحضور ، وتكثير السّواد فيها ، وحسن استقبال روّادها ، وإتقان وضع برامجها وترتيب جداولها ، وشحذ الهمم لتنفيذ مهامّها ، والعمل على تحقيق مقاصدها ، ونشر فكرتها ، وتصحيح مسيرتها ، والذبّ عنها ، وحراسة أهلها ، ومقاومة محاولات هدمها .
خامسا : التعاون في القيام بحقوق المسلمين :(12/12)
روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ( مسند الإمام أحمد 15147 )
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ قَالَ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ ( رواه مسلم 3258 ) .
ففِي هَذَا الْحَدِيث : الْحَثّ عَلَى الصَّدَقَة وَالْجُود وَالْمُوَاسَاة وَالِْحْسَان إِلَى الرُّفْقَة وَالْأَصْحَاب , وَالاعْتِنَاء بِمَصَالِح الأَصْحَاب , وَأَمْر كَبِير الْقَوْم أَصْحَابه بِمُوَاسَاتِ الْمُحْتَاج , وَأَنَّهُ يُكْتَفَى فِي حَاجَة الْمُحْتَاج بِتَعَرُّضِهِ لِلْعَطَاءِ , وَتَعْرِيضه مِنْ غَيْر سُؤَال , وَهَذَا مَعْنَى قَوْله ( فَجَعَلَ يَصْرِف بَصَره ) أَيْ : مُتَعَرِّضًا لِشَيْءٍ يَدْفَع بِهِ حَاجَته . وَفِيهِ : مُوَاسَاة اِبْن السَّبِيل , وَالصَّدَقَة عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا , وَإِنْ كَانَ لَهُ رَاحِلَة , وَعَلَيْهِ ثِيَاب , أَوْ كَانَ مُوسِرًا فِي وَطَنه , وَلِهَذَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاة فِي هَذِهِ الْحَال . وَاللَّهُ أَعْلَم .(12/13)
وباب التعاون في القيام بحقوق المسلمين واسع ، ويدخل ضمنه مجالات متعدده ، منها :
إعانة الملهوف
عن يزيد بن الأسود قال لقد أدركت أقواما من سلف هذه الأمة قد كان الرجل إذا وقع في هوي أو دجلة نادى يا لعباد الله فيتوثبوا إليه فيستخرجونه ودابته مما هو فيه ولقد وقع رجل ذات يوم في دجلة فنادى يا لعباد الله فتواثب الناس إليه فما أدركت إلا مقاصه في الطين فلأن أكون أدركت من متاعه شيئا فأخرجه من تلك الوحلة أحب إلي من دنياكم التي ترغبون فيها . ( شعب الإيمان 6 / 107 )
فانظر اخي المسلم كيف كان السلف الصالح يتفانون في إغاثة الملهوف وإعانته على ضرورته .
إعانة الضعفاء والمظلومين وحمايتهم من الاعتداءات
عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل - وفي رواية أي العمل أفضل - قال إيمان بالله وجهاد في سبيله قال قلت أي الرقاب أفضل قال أنفَسها عند أهلها وأكثرها ثمنا - وفي رواية وأغلاها ثمنا - قال قلت أرأيت إن لم أفعل قال تعين صانعا أو تصنع لأخرق .. الحديث رواه مسلم 84 وهو في صحيح البخاري بلفظ تعين ضايعا .
وعند قوله أن تعين صانعا ( ضايعا ) أو تصنع لأخرق نتذكّر القصة العظيمة التي قصّها علينا ربنا تبارك وتعالى في سورة الكهف :
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا(83)إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(84)فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85) ..
آتيناه من كل شيء سببا أي من اسباب التمكين من الجنود وآلات الحرب وأعطيناه الأسباب والوسائل ، وهذا يعني أنّ صاحب الإمكانات وبالتالي عليه مسئوليات .
ثم قال عزّ وجلّ(12/14)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا(93)قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا(94)قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95)ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا(96)فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا(97)قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا(98) سورة الكهف ، ففي هذه الآيات صورة من صور التعاون على الخير ودفع الشر .
وفي تاريخنا أمثلة عظيمة في هذا المقام ، ففي ترجمة محسن بن محمد بن على فايع الصنعانى أنه : كان حسن الأخلاق واسع المروءة رفيع السيادة والفتوة كريم الطباع مفضالا بَذَل نفسه في معاونة الفقراء والمساكين والوافدين إلى الخلفاء وأتعب خاطره في الطلب لهم وتفقد أحوالهم والسعى في قضاء حوايجهم وعلاج مرضاهم والقيام بموءنتهم وجعلت بنظره صدقات وصلات فبالغ في التحرى عليها وإنفاقها في وجوه الخير وعمر المساجد العجيبة وزاد في بعضها زيادة محتاج إليها واعتنى بدرسة القرآن وأهل المنازل وجعل لهم راتبا معلوما خصوصا في شهر رمضان .. وله الزيادة الواسعة النافعة في مسجد الفليحى بصنعاء وكان يضيق بالمصلين فأنفق عليه جل ماله وبنى لله مسجدا في ساحة سمرة معمر بصنعاء عمره في آخر أيامه ووقف له .. وكان كثيرا العوارض والأمراض متلقيا لها بالقبول . ( البدر الطالع 2 /192 )(12/15)
وكان بعض النبلاء المسلمين يعطي فقراء الفلاحين البذور ، والتقاوي إعانه لهم على زرع محاصيل يستفيدون منها . ومن صور التعاون العامة ؛ ما جاء في آداب الطريق وقد جمعها الحافظ ابن حجر رحمه الله في قوله :
جَمَعْت آدَاب مَنْ رَامَ الْجُلُوس عَلَى ....... الطَّرِيق مِنْ قَوْل خَيْر الْخَلْق إِنْسَانَا
اُفْشُ السَّلَام وَأَحْسِنْ فِي الْكَلَام ........... وَشَمِّتْ عَاطِسًا وَسَلَامًا رُدَّ إِحْسَانَا
فِي الْحَمْل عَاوِنْ وَمَظْلُومًا أَعِنْ ........... وَأَغِثْ لَهْفَان اِهْدِ سَبِيلًا وَاهْدِ حَيْرَانَا
بِالْعُرْفِ مُرْ وَانْهَ عَنْ نُكُر وَكُفَّ .......... أَذَى وَغُضَّ طَرْفًا وَأَكْثِرْ ذِكْر مَوْلَانَا
التعاون في مواجهة شدائد العَيْش
من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل بعض الناس أغنياء ، والبعض الآخر فقراء ، ؛ ليساعد بعضهم بعضا ، خاصة في أمور معاشهم ، ومشاركتهم في شظف الدنيا ، ومواساتهم فيها ، ويشهد لذلك ما رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى أنه قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ ( صحيح البخاري 2306 )
قَوْلُهُ : ( إِذَا أَرْمَلُوا ) أَيْ فَنِيَ زَادهمْ , وَأَصْله مِنْ الرَّمْلِ كَأَنَّهُمْ لَصِقُوا بِالرَّمْلِ مِنْ الْقِلَّةِ ، وفي الحديث : وَفَضِيلَة الْإِيثَارِ وَالْمُوَاسَاةِ , وَاسْتِحْبَاب خَلْطَ الزَّاد فِي السَّفَرِ وَفِي الْإِقَامَةِ أَيْضًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
تعاون أصحاب المسئوليات فيما بينهم(12/16)
لعل من أهم صور التعاون ؛ تعاون كل من تجمعهم مهمة واحدة لإنجاز هذه المهمة على الوجه الذي يرضي الله تعالى ، وهذا هو مفهوم توجيه النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ حيث قَالَ يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلا تَخْتَلِفَا ( رواه البخاري 2811 )
وتلك الوصية النبوية جاءت لتؤصِّل عند جميع المسلمين دور التعاون في إنجاح جميع الأعمال والمهامّ حتى العظيم منها ، ولهذا كان من أوائل ما اهتم به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة عقد أسباب التعاون ، وكان ذلك بأن آخى بين المهاجرين والانصار ليحصل بذلك مؤازرة ومعاونة لهؤلاء بهؤلاء ( سير أعلام النبلاء 1 / 143 ) ؛ وذلك لأن المعاونة تورث المحبة .
وقد قيل لسعيد بن عامر بن حذيم : إن أهل الشام يحبونك ؟ قال : لأني أعاونهم وأواسيهم .
هذا وصور التعاون على البرّ والتقوى كثيرة جدا لا يُمكن حصرها ومجال الاستدلال بتلك الآية الجامعة الفاذّة واسع جدا وهذا الذهبي رحمه الله لم يستدل من القرآن على مشروعية التعزية إلا بها فقال : رحمه الله : " واعلم رحمك الله أن التعزية هي التصبير وذكْر ما يسلّي صاحب الميت ويخفف حزنه ويهوِّن مصيبته وهي مستحبة لأنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أيضا داخلة في قول الله تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى ، وهذا من أحسن ما يستدل به في التعزية واعلم أن التعزية - وهي الأمر بالصبر - مستحب قبل الدفن وبعده قال أصحاب الشافعي من حين يموت الميت . ( الكبائر 1/188 ) .
وللتعاون أصول وضوابط حتى ذكر بعض المصنفين علما يسمى " بالسياسة المدنية " بعد ذكره علم تدبير المنزل فقال في أبجد العلوم :(12/17)
أ - علم التدبير المنزلي والحكمة المنزلية : وهي العلم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل كالوالد والولد والمالك والمملولك ونحو ذلك ، وفائدة هذا العلم ان تعلم المشاركة التي ينبغي ان تكون بين اهل منزل واحد لتنتظم بها المصلحة المنزلية التي تهم بين زوج وزوجة ومالك ومملوك ووالد ومولود .
ب - علم السياسة المدنية : وهو علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة وفائدته ان تعلم كيفية المشاركة التي بين اشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الابدان ومصالح بقاء نوع الانسان . ( أبجد العلوم 2 /246 )
وهذا من أهم مقاصد المدنية ؛ ألا وهو التعاون على أمور المعيشة ، ومصالح الأبدان والنفوس ، فكيف إذن إذا كان التعاون من أجل مصلحة الدين ؟
التعاون على الشيطان
ورد في بعض الآثار في صفة المؤمن أخو المؤمن يتعاونان على الفتّان : أي الشيطان
والتعاون على الشيطان : أن يتناهيا عن اتباعه والافتتان بخُدَعه ( الفائق 3 /102 )
ولا يجوز لمسلم أن يعاون الشيطان على أخيه المسلم .. كما دلّ عليه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ قَالَ اضْرِبُوهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ أَخْزَاكَ اللَّهُ قَالَ لَا تَقُولُوا هَكَذَا لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ . رواه البخاري 6777
قال ابن حجر رحمه الله :(12/18)
وَوَجْهُ عَوْنِهِمْ الشَّيْطَانَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَان يُرِيدُ بِتَزْيِينِهِ لَهُ الْمَعْصِيَةَ أَنْ يَحْصُل لَهُ الْخِزْيُ فَإِذَا دَعَوْا عَلَيْهِ بِالْخِزْيِ فَكَأَنَّهُمْ قَدْ حَصَّلُوا مَقْصُودَ الشَّيْطَانِ . وَوَقَعَ عِنْد أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيق اِبْن وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ بْن شُرَيْح وَيَحْيَى بْن أَيُّوب وَابْن لَهِيعَةَ ثَلَاثَتهمْ عَنْ يَزِيد بْن الْهَاد نَحْوه وَزَادَ فِي آخِره " وَلَكِنْ قُولُوا اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ اِرْحَمْهُ " زَادَ فِيهِ أَيْضًا بَعْد الضَّرْب " ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ بَكِّتُوهُ " وَهُوَ أَمْرٌ بِالتَّبْكِيتِ وَهُوَ مُوَاجَهَتُهُ بِقَبِيحِ فِعْلِهِ , وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْخَبَر بِقَوْلِهِ " فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ لَهُ مَا اِتَّقَيْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ , مَا خَشِيت اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ , مَا اِسْتَحْيَيْت مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ " وَفِي حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن أَزْهَر عِنْد الشَّافِعِيّ بَعْد ذِكْر الضَّرْب " ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلام : بَكِّتُوهُ فَبَكَّتُوهُ , ثُمَّ أَرْسَلَهُ " وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ الدُّعَاءِ عَلَى الْعَاصِي بِالْإِبْعَادِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّه كَاللَّعْنِ . انتهى
الضرب الثاني من ضروب التعاون : التعاون على الإثم والعدوان
وقد جاء النهي الصريح في كتاب الله عز وجل عن التعاون على الإثم والعدوان ، قال تعالى : " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ، وكما تتعدد صور التعاون على البر والتقوى فكذلك تتعدد ضروب التعاون على الإثم ، وحيث أن المقصود الأساس في هذه الرسالة الحثّ على التعاون على الخير فأكتفي بهذه الصور للعكس ومن ذلك :
- التعاون على إقامة الشرك والكفر(12/19)
وهذا له ضروب كثيرة ومن أمثلته المعاونة على بناء كنائس النصارى
ومن القصص الجيدة في إنكار ذلك أبيات أرسلت لا بن شهاب لما عاون عرب طور سيناء على بناء البيعة بعكبرا ، يقول الشاعر المسلم يحثّ على رفض ذلك ومعاقبة من فعله :
أردتكم حصنا حصينا لتدفعوا نبال العدى عني فكنتم نصالَها
فيا ليت إذا لم تحفظوا لي مودتي وقفتم ، فكنتم لا عليها ولا لها
فيا سيف دين الله لا تنبُ عن هدى ودولة آل هاشم وكمالها
أعيذك بالرحمن أن تنصر الهوى فتلك لعمري عثرة لن تُقالَها
أفي حكم حق الشكر إنشاء بيعة النـ صارى لتتلو كفرها وضلالها
يَشيد موذينا الدمشقيُّ بيعة بأرضك تبنيها له لينالها
وينفق فيها مال حران والرُّها وتفتيحها قسرا وتُسبى رجالُها
وترغم أنف المسلمين بأسرهم وتلزمهم شنآنَها ووبالَها
أبى ذاك ما تتلوه في كل سورة فتعرف منها حرامها وحلالها
ويركب في أسواقنا متبخترا بأعلاج روم قد أطالت سبالها
فخذ ماله واقتله واستصف حاله بذا أمر الله الكريم وقالها
ولا تسمعن قول الشهود فإنهم طغاة بغاة يكذبون مقالها
ويوفون دنياهم بإتلاف دينهم ليرضوك حتى يحفظوا منك مالها
بل من شروط أهل الذمة التي ذكرها العلماء : " أن لا يحدثوا كنيسة وأن يعاونوا المسلمين ويرشدوهم ويصلحوا الجسور فإن تركوا شيئا من ذلك فلا ذمة لهم . " معجم البلدان ج: 1 ص: 57
ولذلك كان من البلية والفساد العظيم فتح مجالات التعاون مع النصارى وغيرهم من أعداء الإسلام ؛ لما يترتب على ذلك من هدم القيم الإسلامية والمثل العليا للأمة ... يقول السلطان عبد الحميد :(12/20)
" ان طراز التفكير عند الاوربيين وعند النصارى طراز غريب ملىء بالتناقضات فلا يستطيع الانسان أن يحدد رأيه فيهم فيوما تراهم عريقين صادقين ويوما سفلة ظالمين ، .. إنهم أناس لا يؤمنون بمبدأ ولا يدينون بدين يستصغرون رب العالمين تعالى الله عما يقولون ، لقد جاءنا أناس منهم بصفة أساتذة أفاضل فأصابتنا الدهشة عندما عرفناهم وعرفنا دناءتهم ، إن مفاهيم الحياة عندهم تغاير مفاهيمنا والبون بيننا شاسع والهوة سحيقة كيف يمكننا أن نفكر في التعاون معهم في مثل هذه الظروف " ( مذكراتي السياسية 1/196 )
- الاستعانة بالشياطين على السحر والاعتداء وإيذاء المسلمين وكذلك الاستعانة بهم على سائر الحرام ، قال ابن القيم رحمه الله في كلامه عن العشق : فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين الجن إما بسحر أو استخدام أو نحو ذلك ضم الى الشرك والظلم كفر السحر ، فإن لم يفعله هو ورضي به كان راضيا بالكفر غير كاره لحصول مقصوده ؛ وهذا ليس ببعيد من الكفر والمقصود أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان . انتهى ( الجواب الكافي 1/154 )
- التعاون على إحياء البدع وإقامتها
ومن ذلك المشاركة في مجالس الذكر المبتدعة والإنفاق عليها والدعوة إليها والتشجيع على غشيانها وفتح مجالات البدع المختلفة ولا يفعل هذا إلا أعداء السنة والجهلة بها وما أُحييت سنة إلا أميتت بدعة .
- أن يعاون الظلمة بأخذ المكوس ويكون في زمرة العمال الظلمة المترصدين في الطرق وغيرها . ( أنظر أبجد العلوم 2/58 )
- أن يدل رجلا على مطلوب ليقتل ظلما أو يحضر له سكينا وهذا يحرم لقوله : " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ( شعب الإيمان 1/ 268 ) ويحرم كذلك تجهيز الشِّعْر للمغنين . ( شعب الإيمان 4/281 )
- المعاونة على المنكر عموما
وشرّ المراتب في المنكر بعد ارتكابه المعاونة عليه وقبلها الرضا وقبلها المداهنة وقبلها السكوت عن الإنكار .(12/21)
وعلى المسلم أن يصبر على أذى من يخالفهم لأجل منكرهم
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وذلك ان كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه ويبغضون من لا يوافقهم ، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم ومعاداتهم لمخالفيهم وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختار أهلها ويؤثرون من يشاركهم في أمورهم وشهواتهم إما للمعاونة على ذلك كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطّاع الطريق ونحو ذلك واما لتلذذهم بالموافقة كما في المجتمعين على شرب الخمر مثلا فإنهم يحبون أن يشرب كل من حضر عندهم وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير إما حسدا له على ذلك وإما لئلا يعلو عليهم بذلك ويُحمد دونهم وإما لئلا يكون له عليهم حجة وإما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه أو بمن يرفع ذلك اليهم ولئلا يكونوا تحت منّته وخطره ونحو ذلك من الأسباب .. . انتهى ( الاستقامة 2/256 )
وفي رفض التعاون على الإثم والعدوان يقول ابن القيم رحمه الله :
" الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس ، والناس لهم إرادات وتصورات واعتقادات(12/22)
فيطلبون منه أن يوافقهم عليها فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر ؛ فلابد له من الناس ومخالطتهم ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم وإراداتهم ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المترتّب على موافقتهم ، واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم أو فاحشة أو شهادة زور أو المعاونة على محرم فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى ، وإن وافقهم فرارا من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فرَّ منه والغالب أنهم يسلطون عليه فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد فألم يسير يعقب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تعقب ألما عظيما دائما والتوفيق بيد الله . انتهى ( إغاثة اللهفان 2/193 ) .
نسأل الله أن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى التاركين للإثم والعدوان وأن يرزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
كتبه
محمد صالح المنجد
الخبر ص . ب 2999 .(12/23)
لكي ينتصر الإسلام
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونتوب إليه , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه , بعثه اللهُ تعالى على حين فترةٍ من الرسل وانقطاعٍ من السبل فهدى به من الضلالة وبصر به من العمى وجمع به بعد الفرقة و أغنى به بعد العيلة , فصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار صلاةً وتسليماً دائمين إلي يوم الدين عليه وعلى صحبه والتابعين الأبرار الأطهار .. أما بعد أيها المسلمون :
إن الله تعالى أنعم على هذه الأمة ببعثة خاتم الرسل فجعلها خاتم الأمم كما كان نبيها خاتم الرسل عليه وعليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام . بعث الله تعالى هذا النبي المختار في أمة كان كل همها و وكدها وشغلها تتبع أصول أذناب الإبل في هذه الصحراء القاحلة , وأنها كانت تركض وراء اليرابيع و الضببة تأكل منها وتشرب من ماء هذه الصحراء ثم لا هم لها بعد ذلك غير ذلك أبدا . فصوت فيها النبي صلى الله عليه وسلم وصاح فيها بنداء لا إله إلا الله محمد رسول الله فرفعت إليه رؤوسها وفتحت له عيونها و أصاخت له آذانها فاهتدت بهداه فكانت بذلك خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله عز وجل وتجاهد في سبيله , فخرجت من هذه الصحراء القاحلة لتقول لأساتذة المدنية وشيوخ الحضارة في فارس والروم جئناكم لنخرج من شاء الله تعالى من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة العيش ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
أيها الأحبة ..(13/1)
هذا النبي الذي بُعث في هذه الأمة كان من أعظم ما أهدى لها هداية السماء ونور التوحيد الذي عرف به الإنسان معنى إنسانيته وكرامته . ذلك الإنسان الذي لم يكن له معنى في الجاهلية وكان يرضى أن يطأطئ رأسه لإله من حجرٍ أو شجرٍ أو صنمٍ فيعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى بعث إليه صلى الله عليه وسلم ليعلمه ألا إله إلا الله و لا معبود بحق سواه و أنه لا يجوز أن يطأطئ رأسه إلا لله عز وجل فلا يسجد لغيره ولا يعبد سواه مخلصاً له الدين ولو كره الكافرون . فنفخ فيه روح العزة ومعنى الحمية وسر الشجاعة والإنسانية حتى علّم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الإنسان الأعزل الفقير علمه إلا يذل ويخضع لشيء من متاع الدنيا وكيف يذل لغير الله عز وجل.
تأبى عقيدتنا ، تأبى أصالتنا *** أن يصبح العُرب أشتاتا وقطعانا
فلا لشرقٍ ولا غربٍ نطأطئها ***** بل ترفض الجبهة الشماء إذعاناً(13/2)
فأصبح هذا الأعرابي بالأمس الذي يركض وراء إبله و غنمه وكل همه من الدنيا ملبس أو مطعم أو مشرب , أصبح هذا الإنسان عزيزا مرفوع الهامة تناطح السحاب لا يذل لغير الله عز وجل وليس لديه أي استعداد أن يهادن أو يداهن في دين الله عز وجل , حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في ضمن دروس العزة والكرامة التي ألقاها على هذه الأمة العظيمة (( من قُتل دون ماله فهو شهيد ومن قُتل دون دمه أو نفسه فهو شهيد ومن قُتل دون عرضه فهو شهيد )) فعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان أن يكون أبياً رفيعاً قوياً عزيزاً منيعاً وألا يكون همه هذه الحياة الدنيا . كلا , لابد أن يكون للإنسان سرٌ وراء هذه الحياة ومعنىً فوق هذه الدنيا وألا يكون الإنسان تراباً فحسب ، بل هو حفنة من التراب عانقت هدي السماء فارتفعت وسمت و سمقت وارتفعت وشمخت فأصبحت أعظم من كل معاني البشرية لأنها ارتبطت بهدي الله عز وجل ونور الوحي النازل من السماء , فأصبح الإنسان بذلك عزيزاً مرفوع الهامة شامخ الأنف لا يذل لغير الله عز وجل طرفة أو لحظة . لم يسمح النبي صلى الله عليه وسلم للقبيلة أن تهدر قيمة الفرد كما لم يسمح للفرد أن يعتدي على كرامة القبيلة أو المجتمع أو الدولة بل جعل هذه الأشياء كلها تسير جنبا إلى جنب . فلا قيمة لقبيلة أفرادها مجموعة من الضعفاء والأتباع المقهورين الأذلاء الذين لا يرون لأنفسهم قيمة ولا كرامة , ولا قيمة لفردٍ لا ينتسب لذلك المجتمع الإسلامي الكبير الذي يتعاون أفراده على البر والتقوى ولا يتعاونون على الآثم والعدوان .
لقد جاء الإسلام الذي يحمّل الإنسان -كل إنسان- مسئوليته على كافة المستويات فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يخاطب الفرد ليحمّله مسئوليته على كافة الأصعدة.(13/3)
مسئوليته أولاً : في تعلُمِ العلم الشرعي أصولا وفروعا عقيدة وأحكاما , فلا يكون الإنسان مقلدا أو تابعا رضي أن يهدر عقله ويهدر فهمه ويهدر إدراكه ليكونَ تابعاً ومقلداً لفلان وفلانٍ دون حجةٍ ولا بصيرةٍ ولا هدى ولا كتابٍ منيرٍ . بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر العذاب الذي يصيب الإنسان الفاجر أو الكافر في قبره بَيَّنَ أنَّ من أعظم أسباب هذا العذاب أن يكون الإنسان مقلدا في دينه لم يتعب في البحث عن الدين ولم يجهد في استخراج الحجج واستنباطها ولم يستخدم هذا العقل الذي أنعم الله تعالى به عليه في الوصول إلى الحق بالدليل الشرعي من آية أو حديث أو إجماع و إنما رضي أن يكون مجرد مقلد لفلانٍ وفلانٍ . فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا وضع في قبره أنه يُسأل من ربُك ؟ وما دينُك ؟ ومن نبيُك ؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم .. وحينئذ يُسأل سؤالا رابعا ما علمك؟ من أين حصلت على هذا العلم؟ هل هو بالهوى والتقليد أو حصلت علية بالبحث والاتباع ؟ فيقول المؤمن الموقن : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت . إذا هو علمٌ مبنيٌ على التحري ومبنيٌ على الدليل ومبنيٌ على الاتباع ومبنيٌ على الحُجة من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أجهد هذا المسلم نفسه في طلب العلم وثنى ركبه في مجالس الذكر واستمع إلى قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعمل عقله حتى وصل إلى الهداية وظفر بها وتمسك بها وعض عليها بالنواجذ , ولهذا نجح في الاختبار العظيم الكبير يوم يُوسَد في قبره ويتخلى عنه كل أحبابه وأصحابه وأولاده وأتباعه ويبقى وحيداً إلا من عمله الصالح . أما الكافر أو المنافق الذي كان لا يعرف الدين حقيقة في هذه الدنيا أو يقلد الناس فيقول ما يقولون دون حجةٍ ودون تَبصرٍ ودون أن يستخدم هذه الجوهرة العظيمة التي أعطاه الله تعالى - العقل -(13/4)
في معرفة دين الله تعالى وفهم النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والوصول إلى الحق , ولو كان يردد في هذه الدنيا العبارات والكلمات والألفاظ دون أن يعيها فإنه يُخفق في الاختبار فيقول : هاه هاه لا أدري كنت أقول ما يقول الناس . إذا هو كان يقول وكان يردد لكن دون وعي ودون بصيرة ودون أن يحرك إنسانيته أو يستخدم مواهبه , إنما كان مجرد مقلد لفلان وفلان . فيخفق ولا يتذكر ماذا كان يقول في الدنيا وينسى ما يجب أن يقول في القبر فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس , فيقال له : لا دريت ولا تليت فيضرب بمطرقة من حديد يصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلان ولو سمعها الإنس والجن لصعقوا من هول ما يسمعون .
فيا أخي الكريم .. صور نفسك وأنت في هذا الموقع الصعب العسير وأنت تتعرض لهذا الابتلاء الكبير في ذلك الموقف الخطير الذي لن ينفعك فيه مال ولا جاه ولا سمعة ولا شهرة ولا فلان ولا علان , إنما ينفعك فقط شيءٌ واحدٌ : علمٌ نافع أو عمل صالح . فهل تلقيت دينَ الله تعالى بالحجةِ والبرهان والدليلِ أم تلقيته من فلانٍ وعلانٍ ؟ وهل اهتممت بهذا الدين وتتبعت أحكامه أم اكتفيت بالموروثات الاجتماعية ؟ هذه الموروثات التي قد تكون صواباً في بعض الأحيان وقد تكون خطأً في أحيانٍ أخرى ونحن نرى اليوم مع الأسف الشديد أن الكثير من المسلمين يتعصبون لهذه الموروثات ويتحمسون لها ويركضون وراءها و يتناصرون من أجلها أكثر مما يتحمسون لبعض الأحكام الشرعية التي يسمعونها من أفواه العلماء و الدعاة والمتحدثين . إذاً لقد جعل الله تعالى عليك أنت بالذات مسئوليةً شخصيةً في تَعَلُمِ دينِ الله تعالى ومعرفة أحكام ما أنزل الله على رسوله بالأدلة الشرعية ولا يغنيك أن تكون مجرد مقلدٍ أعمى دون أن تبحث عن دليلٍ أو حجةٍ , لا يكفي أن تكون مقلداً لما نشأت عليه في مجتمعك .(13/5)
كما إن الإسلام حمّلك مسئولية شخصية في وجوب تزكية نفسك لهذا العلم . فأيُ معنى أو قيمةٍ لعلمٍ يكون محصوراً في رأسك وعقلك لم يتحول إلى علم نافع بل هو علم مجرد , وكثيراً ما نواجه في مجتمعنا وواقعنا أشخاصاً إذا تكلموا كانوا كالفلاسفة , يعرفون ويتحدثون وربما يستشهدون بالنصوص وربما يقولون قال فلان وعلان لكن إذا أتيت إلى واقعهم الشخصي في عباداتهم , في علاقاتهم بأهلهم , الوضع البيتي والمنزلي الذي يعيشون فيه , الوضع الاقتصادي , الوضع الاجتماعي , لوجدت هؤلاء الأشخاصَ أبعدَ ما يكونون عن تَمثُلِ والتزام هداية السماء في تزكية أنفسهم وتزكية من حولهم . كم من إنسان قد يتكلم بالحق في لسانه ولكنك حين تنظر إلى سلوكه الشخصي تجد شيئا آخر وحين تنظر إلى بيته تجد ألوان المعاصي والمنكرات وتجد أهله وذريته وأولاده في وادٍ آخر لم يتعاهدهم بالهداية ولم يعلمهم بل ولم يمنعهم من الحرام فأتاح لهم كل وسائل الفساد وكل وسائل الاتصال بالعالم كله وهو يقول هؤلاء على مستوى أن يميزوا الطيب من الخبيث ، نعم كانوا على مستوى أن يميزوا الطيب من الخبيث لو أنك تعاهدتهم وعلمتهم وربيتهم وهذبتهم وأدبتهم ووضعت لهم الموازين المستقيمة التي يستطيعون أن يميزوا بها بين الحق والباطل والهُدى والضلال أما أن تتركهم لعوادي الزمن وخطط الأعداء يسمع في التلفاز الكثير ويسمع في المذياع الكثير و يقرأ في الجريدة الكثير ويسمع في المدرسة ويجالس قرناء السوء وربما أتيح له كثيراً أن يشاهد أفلام الفيديو مثلاً بل أن يطلع على القنوات الفضائية التي تبث من أنحاء العالم ومنها قنوات تنصيرية ومنها قنوات جنسية ومنها قنوات تخريبيه ومنها قنوات تنقل لنا قاذورات العالم كله وما فيه من خير وشر , ثم تترك لهذا العقل الغض الطري البسيط الذي لم ينضج بعد ولم يملك إمكانية التمييز وتقول إنه قادرٌ , فإن الأمر حينئذ يكون كما قيل :(13/6)
ألقاه في اليَمِ مكتوفاً وقال له ******* إياكَ إياكَ أن تبتلَ بالماءِ
أو تجد هذا الإنسان الذي قد يفهم بعض النصوص في تعاملاته التجارية قد يأكل الربا ويأكل الحرام وقد يغش وقد يخدع وقد يأخذ أموال الآخرين أو يعتدي على أراضيهم أو يأخذ مالهم بالباطل لا بالحق , ومع ذلك يلتمس لنفسه ألف عذرٍ وعذر في أن من حقه أن يفعل ذلك كله . فأين التزكية إذن ؟ً وأين العلم الذي يجيده هذا الإنسان في لسانه والله تعالى يقول {{ ونفسٍ وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها }} فلا بد أن تزكي نفسك ثانيا بهذا العلم . وهذه التزكية لا يغني فيها أحدٌ عن أحدٍ ولا ينفع فيها قريبٌ عن قريبه ولا أبٌ عن ابنه ولا زوجٌ عن زوجه {{ يوم لا يُغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون }} , {{ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم }} .(13/7)
كما إن الإسلام لم يقنع منك بهذا فحسب , فلم يقنع منك أن تكون عالماً بالشرع فقط أو أن تضيفَ إلي ذلك تزكية نفسك شخصيا وتزكية أولادك وزوجك ومن ائتمنك الله عليهم فحسب , بل لابد أن تضيف إلى هذين الأمرين أمراً ثالثاً هو عربون دينك وإيمانك وانتسابك إلى هذا الاسم الشريف العظيم " الإسلام " وإلى هذا المجتمع الكبير - المجتمع المسلم - ألا وهو أن تكون متحمساً لقضايا المسلمين , متعاطفاً مع همومهم , فلا تعتبر أن ما يصيب المسلم في المشرق والمغرب قضيةٌ خارجيةٌ لا تعنيك أو شأنٌ خاصٌ في دولةٍ من الدول , بل تعتبر أن من علامة صدق الإيمان في قلبك أن يتحرك المؤشر كلما سمعت خبراً , فإن كان الخبرُ ساراً تحرك المؤشرُ بالفرحِ والسرور وإن كان الخبرُ مزعجاً تحرك المؤشر بالحزن والتعاطفِ مع قضايا المسلمين بقدر ما تستطيع . وأنت تستطيع الكثير ولو لم تستطع إلا الكلمة الطيبة لكانت الكلمة الطيبة صدقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم . فمن الذي يحول بينك وبين أن تتحدث عن قضايا المسلمين وهمومهم أو تشاطرهم أفراحهم وأتراحهم وأحزانهم , أو تعمل على توعية من حولك بما يعانيه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من ألوان الاضطهاد والتنكيل التي تبدأ بمحاولة نقلهم عن دينهم إلى دين آخر , سواء كان هذا الدين هو النصرانية أو كان هذا الدين هو العلمانية أو كان هذا الدين هو الإعراض عن دين الله عز وجل والجهل به , وهو الذي نشهده في كثير من الشعوب الإسلامية التي تحمل بطاقة مسلم أو هوية مسلم ولكنك حين تسأله تجد أنه يجهل كل قضايا الإسلام , بدءاً بقضية التوحيد وشهادة أن محمداً رسولُ الله التي أصبح من المسلمين من يجهلها , وانتهاءً بالأحكام الشرعية التي لا يفهم الكثير منها إلا أقل القليل , ومرورا بتجهيل المسلمين أمور دنياهم ليصبحوا عالة على عدوهم فهم يستوردون من عدوهم كل شي ويعتمدون على عدوهم في كل شي , لا أقول في السلاح فقط بل يعتمدون(13/8)
على عدوهم في الثوب الذي يلبسونه والنعل الذي ينتعلون والسيارة التي يركبون والبيت الذي يسكنون والورق الذي عليه يكتبون والقلم الذي يستخدمون وكل وسائل الحياة التي يحتاجون إليها أصبحوا عالة على عدوهم فأصبح عدوهم يمسك بخناقهم . وأصبح المسلمون في كثير من البلاد يحكمهم نصراني فيجعل التعليم لأبناء النصارى ويجعل الوظائف لأبناء النصارى ويجعل البعثات العلمية لهم ويجعل المواقع الحساسة لهم , أما المسلم فأصبح حظُه فقط هو أن يكون مستهلِكا مُستَعمَرا مهجَناً ليس له من الأمر شيئٌ - قليل أو كثير - وانتهاءً باضطهاد المسلم والتضييق عليه ومحاولة تصفيته جسديا والقضاء عليهم بما يسمى بالتطهير العرقي الذي يعمد إلى القضاء على المسلم , حتى لو كان المسلم ضعيف الولاء لدينه , حتى لو كان مسلما جاهلا , حتى لو كان مسلما لا يُقدم لدينه أي شيء , أصبح الكفارُ لا يُطيقون من يحمل اسمَ محمدٍ , أو علي , أو صالحٍ , أو يحمل في هويته أنه مسلمٌ أو ينتسب إلى عُروقٍ إسلاميةٍ ولو كان لا يُمت إلى الإسلام بأدنى صلة . إنهم يقتلون المسلم اليوم بالهوية في عدد من البلاد القريبة والبعيدة .(13/9)
فلا بد أن تتحدث عن هذه القضايا ولا بد أن تشاطر المسلمين همومهم بالكلمة الطيبة على أقل تقدير , والكلمة الطيبة منك لا تكفي لأنك تملك أكثر من ذلك , تملك المشاركة الحقيقية : المشاركة بالمال مثلاً في قضايا المسلمين فإذا سمعت نكبة المسلمين في الصومال التي نستطيع أن تقول أنها نكبه الغرب وأن الصومال اليوم هو أفقر بلد في العالم وأنه يعيش كارثة و أزمة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلا , تهدد بإبادة شعب بأكمله من الوجود , أتدري لماذا ؟ صحيح أن الجانب القدري في هذا واضح وهذا قضاء الله تعالى وقدره ومسألة الجفاف لا يد لأحد فيها , ولكن ثمة سبب أخر . إن أصابع النصارى واضحة فيما يبدو , فالصومال هو البلد الأفريقي الوحيد الذي يسكنه المسلمون فقط ( 100% مسلمون ) لا يوجد به نصرانيٌ واحدٌ ولم يكن به قبل بضع سنوات كنيسة واحدة , فعمل النصارى على تمزيق هذا البلد وقسموه إلى خمسة أقسام واستعمروه وحاولوا أن يسلطوا عليه الأعداء بعد الخروج منه , حتى أثاروا النعرات القبلية وما زالوا يخططون و يكيدون ويمكرون مكر الليل والنهار , حتى أصبحت الصومال تواجه هذه الأزمة الخانقة التي تعيشها اليوم , واستطاع النصارى أن يستغلوا هذه الكارثة في محاولة تنصير أعدادٍ غفيرةٍ من المسلمين رجالاً ونساءً , كباراً وصغاراً , يقول أحد المسلمين وهو يبكي : " واللهِ لقد كُنا يوما من الأيام نسأل الله تعالى ونحن في قلب الصحراء أن لا نرى بأعيننا نصرانياً أو كافراً على وجه الأرض , فإذا بنا اليوم نفرح إذا رأينا النصراني لأننا نجد عنده الطعام والشراب والغذاء والدواء والكساء . واللهِ لقد كنا يوما من الأيام إذا وجدنا إناءً شرب فيه النصراني أو أكل غسلناه سبع مرات إحداهن بالتراب كما نفعل إذا شرب فيه الكلب ، أما اليوم فقد أصبحنا نَهِشُ للنصارى ونَبِشُ ونستقبلُهم بالبشر والترحاب لأننا وجدنا عندهم الإغاثة التي لم نجدها مع الأسف عند إخواننا(13/10)
المسلمين " . وأصبح ما يزيد على مليوني مسلمٍ في بلاد أوروبا يتعرضون لعملية تنصيرٍ جادةٍ تستهدف تحويل الصومال إلى منطقةٍ أو دولةٍ نصرانيةٍ .
فأنت تستطيع حين تسمع هذا أن تشارك بالمال وأن تؤدي بعض شكر نعمة الله تعالى عليك بالزكاة أو غيرها من الصدقات التي قد تُطعِم بها جائعاً أو تكسو عارياً أو تروي ظمآناً أو تعالج بها مريضاً أو يهدي اللهُ تعالى بها ضالاً أو متعرضا للتنصير والتكفير . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( تصدق رجلٌ من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره - حتى قال عليه الصلاة والسلام - ولو بشق تمره ) . إذن لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن يكون ذلك شق تمره أو ريالاً واحداً , فأنت لو تصورت أن ألف مليون مسلم اليوم أو ألفاً ومائتي مليونِ مسلمٍ , لو أن كل واحد منهم تخلى عن ريالٍ واحدٍ فقط لكان معنى ذلك أننا جمعنا في حملةٍ واحدةٍ ألف ومائتين مليون ريال !! كم سوف تنفع هذه الأموال ؟ كم سوف تدفع بإذن الله تعالى من الشرور عن المسلمين ؟ لكن المشكلة العظيمة أن الكثيرين تخلوا عن دورهم ولو كان دوراً محدوداً ولو كان دوراً قليلاً وظنوا أن المطالبةَ بالإنفاق وأن المطالبةَ بالبذل هي مسئوليةُ الأغنياءِ فقط , أو تخلوا عن دورهم في الدعوة والهِداية وظنوا أن الدعوة والهداية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مسئولية العلماء أو مسئولية الدعاة فقط أو مسئولية الخطباء فقط ونسوا أن الله تعالى حين خلقنا جمعياً خلقنا بشراً مسئولين مكلفين , وحين أنزل الدين لم يقل أبدا إن الدين مسئولية فئة الخاصة ولا مسئولية طبقة معينة و إنما جعل مسئولية هذا الدين على عاتق كل واحد منا سواء قام بها وحفظها أم ضيعها فهو مسؤول بين يدي الله عز وجل , قال الله تعالى {{ وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون }} .(13/11)
أسال الله تعالى أن يوفقني وإياكم إلي القيام بما ائتمننا عليه إنه على كل شي قدير أقول هذا القول وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله ..
إن من ألوان المشاركة أيها الأخ الكريم أن تشارك بنفسك فإن المسلمين اليوم يتعرضون لحملات تقتيل وتشريد في بلاد شتى وهم بأمس الحاجة إلى أن نقول لهم إننا معكم , ولكن هذه الكلمة بذاتها لا يمكن أن تنقذ إنساناً من القتل ولا يمكن أن تُخرجَه من الأزمة التي يعيشها , فلماذا لا نتبع القول بالعمل و نصدق كلامنا بأفعالنا ؟! فنعبر للمسلمين حقيقة عن تعاطفنا معهم ووقوفنا إلى جانبهم وأن مشاعر الاخوة الإسلامية التي أقامها هذا الدين لا تزال تتحرك في صدورنا ولا تزال تعتمل في نفوسنا . إن العدو قد أفلح في إقامة الحواجز بين المسلمين فأصبحنا لا نشعر بهموم المسلمين البعيدين كما نشعر بهموم من حولنا , وأصبحوا هم يشكون في صدق أخوتنا لهم ويشكون في تعاوننا معهم . لقد رأوا أن الذين يقفون إلى جانبهم في كل المواقف غالباً هم النصارى أو غير المسلمين , أما المسلمين فطالما صاحوا ثم صاحوا ثم صاحوا ولا من مجيب .
لقد أسمعت لو ناديت حياً ********** ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت ******** ولكن أنت تنفخ في رمادٍ(13/12)
أنتم جمعيا سمعتم ورأيتم بعيونكم المأساة التاريخية التي يشهدها المسلمون في البوسنة والهرسك . إنها عملية إبادة تصرح وسائل الأعلام الغربية بأن القرن كله لم يشهد لها مثيل , فهل فعلا لا يستطيع المسلمون في العالم الإسلامي أن يصنعوا لإخوانهم في يوغسلافيا شيئاً ؟ نقول كلا ثم كلا . واللهِ الذي لا إله غيرُه لو أن المسلمين شعروا بالمسئولية لاستطاعوا أن يصنعوا من الهزيمة في يوغسلافيا نصراً ومن الذل عزاً ومن القهر تمرداً ليس على الصرب الملاعين والكفار فقط بل على الصليبية العالمية ممثلة في هيئة الأمم المتحدة وفى الدول الكبرى التي تقف وراءها . إن الغرب يزعجه كثيرا أن يسمع كلمة جهاد , ولو شعر الغرب أن المسلمين يتنادون إلى دعم إخوانهم في البوسنة والهرسك , وأن هناك أعداداً من المسلمين وقفت إلى جانبهم تعلمهم وتصبرهم وتثبتهم وتعزز مواقعهم ومواقفهم وتدعوا الله تعالى لهم بالنصر وتؤازرهم بالمال وبما تستطيع , لو شعر الغرب لأحس أنه مهددٌ في قلبه – في قلب أوروبا - مهددٌ بخطر كبير يستدعي أن يسارع في حل المشكلة خشية أن تتفاقم وتتطور إلى أمور لا يستطيع أن يوقفها عند حدها , ولكن المسلمين في كثير من الأحيان يشعرون بأنهم عاجزون وأنهم مكتوفوا الأيدي على حين أنهم يستطيعون أن يعملوا الكثير.
أيها الأحبة ..(13/13)
لنفرض جدلاً أنك لا تستطيع أن تتكلم ولا أن تعمل ولا أن تبذل المال ولا أن تقف بنفسك مع إخوانك معلماً وداعياً ومرشدا و مُصَبِّراًً , فإنك تستطيع ولا بد أمراً بعد ذلك ألا وهو المشاركة الوجدانية . قدم لي الدليل العملي على أنك فعلا تشعر بمشاعر المسلمين في كل مكان , أثبت لي أنك لست شامتاً تسخر مما يقع للمسلمين , قدم الأدلة المادية على أن روح الاخوة الإسلامية ما ماتت بعدُ في قلبك . إن المشاركة الشعورية والوجدانية هي أحد الأشياء التي نحتاج أليها كثيرا ولو لم تعمل , فإن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه وهو في معركة تبوك يقول لهم : ( إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر ) . إذن لنفترض أنك معذورٌ لا تستطيع أن تتكلم لأنك أبكم ولا تستطيع أن تنفقَ لأنك فقيرٌ ولا تستطيع أن تشاركَ بنفسك لأنك مريضٌ ولا تستطيع أن تعمل شيئاً , أثبت لنا أن عندك قلباً يحزن لآلامهم ويفرح لفرحهم , أثبت أن لديك مشاركةً وجدانيةً مع إخوانك في كل مكان ، أثبت أن روح الاخوة لا تزال تعمل في قلبك .
يا راحلين إلى البيت العتيق ******* لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً
إنا أقمنا على عذرٍ نكابده ******** ومن أقام على عذرٍ كمن راحَا
هذا الشعور الوجداني في قلبك سيتبعه تمني , سيتبعه على أقل تقدير دعوة ترفعها في الهزيع الأخير من الليل إلى رب العالمين تفتح لها أبوابُ السماء:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ********* ولا تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن ********* لها أجلٌ وللأجل انقضاء(13/14)
الأمة التي قوام أعدادها ألف ومائتا مليون , هل تعتقد أنه لا يوجد فيها واحد مستجاب الدعوة ؟ هل تظن أن أرحام النساء عقمت أن تلد شخصاً تقياً ولياً لو أقسم على الله لأبره ؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) ؟ نحن نجزم يقيناً أن في هذه الأمة من الأولياء من لو دعوا الله لأجابهم , ولو استسقوا المطر من السماء لسقاهم شراباً طهوراً , ولو سألوا الله تعالى ما رد سؤالهم , ولو أقسموا على الله تعالى لأبرهم , فأين هؤلاء ؟ لماذا لا نحرك همم الناس ؟ العجائز والأطفال والكبار والصغار والسذج والمغفلين والجهال والمتعلمين والجميع لنقول لهم ادعوا الله . وإذا دعوت الله فادعُ لنفسك أولا ولا شك ولا تلام على هذا , ولكن أضف إلى هذا أن تدعوا إلى غيرك كما تدعوا لوالديك وللأقربين وللعلماء وللدعاة أن تدعوا لإخوانك المسلمين في كل مكان أن يفرج الله تعالى عنهم كروبهم ويزيل عنهم همومهم ويؤمنهم من خوف و يطعمهم من جوع ويرويهم من ظمأ , وقبل ذلك كله أن يعلمهم من جهل وأن يبصرهم في دينهم .
أيها الاخوة ..(13/15)
إن آخر هذه الأمة لن يَصْلُحَ إلا بما صَلُحَ به أولها , فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم رَبَّى هذه الأمة على هذه المعاني , فرباها على المسئولية الشخصية في طلب العلم الشرعي والتعب وراء تحصيله بدليله , وربى هذه الأمة على مسئولية التزكية لهذا العلم للنفس وللغير , و ربى هذه الأمة على مسئولية المشاركة وأن تكون الأمة جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى كما قال عليه الصلاة والسلام , وكما قال في الحديث الآخر المتفق عليه ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها . فلا بد إذن من دعوة لهذه الأمة , دعوة إلى الدين كله لا بعضه فلا ندعوا إلى بعض الدين ونغفل عن بعضه {{ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }} إننا لا نقبل تجزيء الإسلام أو علمنته فالدين جاء ليُعلم الإنسان كيف يتوضأ وكيف يصلي وكيف يبيع ويشتري وكيف يحكم , جاء ليهيمن على حياة الإنسان كلها دقيقها وجليلها , ولا يجوز التفريط بشي من الدين أو اعتبار أن جزءاً من الحياة غير داخل في مسألة الهداية الربانية . ولا بد أن تكون الدعوة إلى الدين لا إلى الهوى فالدين واحد أما الأهواء فهي شتى {{ ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون }} , {{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم }} . يجب أن ندعو إلى دين الله : كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا , لسنا ندعوا إلى أهوائنا ولا إلى أمزجتنا ولا إلى رغباتنا ولا إلى آرائنا الشخصية وإنماً ندعو إلى دين الله تعالى , أما آراءنا فقد نعرضها ولكننا لا نُلزم بها أحداً لأنها تحتمل أن تكون خطأ وتحتمل أن تكون صواباً . والراياتُ المرفوعة اليوم كثيرة والكثير منها ينادي إلى القرآن والسنة ولا شك أن الدعوة إلى الكتاب(13/16)
والسنة دعوةُ خيرٍ وهي دعوة تامة فاللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة . والخلاف بين المسلمين اليوم كثير و ربما الكثير منه خلاف شخصي ناتج عن اختلاف الطبائع وتفاوت الملكات ويمكن تجاوز الاختلاف بأن نقوم بعمل واحد في خدمة هذا الدين نتعاون فيه على البر والتقوى كما أمر الله عز وجل {{ وتعاونوا على البر و التقوى }} ولابد أن تكون دعوتنا إلى الدين فوق مستوى أن ندعو إلى لافتةٍ خاصةٍ أو رايةٍ خاصةٍ واسمٍ خاصٍ أو حزبٍ خاصٍ أو شخصٍ معينٍ , و إنما نحن نهتم بالدين وندعو إلى الدين ولا يهمنا بعد ذلك أي جنس تكون وأي لون تكون وأي اسمٍ تنتحل فإن المهم هو أن تكون ملتزماً بحقيقة الدين وجوهره ومظهره , فلا بد من هذا أولا أن نقوم بدعوة جادةٍ إلى دين الله عز وجل . ولا بد ثانيا أن تكون هذه الدعوة موجهةً للأمة كلها فليست الدعوة إلى الإسلام حكراً على فئةٍ خاصةٍ من المثقفين مثلاً أو من الأذكياء أو من الطلابِ والشبابِ أو من الدعاةِ كلا الدين نزل للجميع , والأعرابي الذي يركض وراء إبله أو ينعق بغنمه قد نزل الدين له و بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه لدعوته . وقد يتساءل البعض وماذا يستفيد الإسلام من الأعرابي في الصحراء أو مزارع في بستانه ؟ فأقول دعك من سؤال ماذا يستفيد الإسلام من هذا الرجل , و لكن اسأل ماذا يستفيد هذا الرجل من الإسلام , يكفيه أن ينقذه الله من النار . وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على يهودي وهو في مرض الموت فقال له : ( قل أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فنطق بها ثم مات فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه من النار ) , هذا الرجل اليهودي الذي أسلم لم يقدم للدين شيئا ولكنه قدم لنفسه . والدين جاء لهداية الناس وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ووقايتهم من عذاب السعير ومن سخط الله تعالى حتى يحظوا برضوان الله تعالى(13/17)
والجنة , فالذي يُهمُنا أن ننقذ الناس بدين الله تعالى ولو لم يقدموا لدين الله تعالى شيئاً . ثم إن هذا الأمر جانب من تعظيم الإسلام لهذا الإنسان , فإن هذا الإنسان إذا اهتدى كان له شأنٌ كبيرٌ وقدرٌ عظيمٌ عند الله عز وجل مهما رخص في نظر الناس وقد هبت الريح يوماً من الأيام فلعبت بعبد الله بن أم مسعود وكان قصير القامة نحيف الساقين فضحك الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أتعجبون من دقة ساقيه والله لهما في الميزان أثقل من جبل أحد ) . ثم إنك لا تدري في أي طعامك البركة , فما يدريك أن يكون هذا الأعرابي الذي تحقره أو هذا الفلاح الذي لا تقيم له وزنا أو هذا العامي المشغول بتجارته أو هذا الإنسان الساذج المغفل الذي لا تعبأ به , ما يدريك أن يكون هذا الإنسان عظيما عند الله أو صادق القلب أو مخلص النية أو ذا دعوة مستجابة ؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أبغوني ضعفاءكم هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم بدعائهم و استنصارهم ) .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين اللهم أعطنا ولا تحرمنا اللهم أكرمنا ولا تُهنا اللهم أعنا و لا تعن علينا اللهم انصرنا على من بغى علينا . اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين اللهم ارض عن صحابته وعن التابعين وتابعيهم إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنّك وكرمك يا أرحم الراحمين . أيها الناس اتقوا الله تعالى وراقبوه واحذروا أسباب سخطه فإن طاعة الله تعالى وتقواه خير زاد والسلام عليكم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده رسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وأقم الصلاة إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر .(13/18)
محاضرة: (ضبط النفس)
فضيلة الشيخ: د. ناصر ابن سليمان العُمر
.............................................................................
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
احمد الله واثني عليه، وأشكره جل وعلا أن يسر لهذا اللقاء، وأسأله أن يبارك فيه وأن يتمه على خير وبركة، وأشكركم أيها الأخوة على مجيئكم وحضوركم وأسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم يوم القيامة.
موضوعنا كما قرأتم بعنوان ضبط النفس، وهذا الموضوع من المواضوعات المهمة جدا، وبخاصة في هذه الأزمان، خاصة في زمن الفتن الذي تكاثرت على المسلمين.
ولو تأملنا في موضوع ضبط النفس لوجدنا أن القلة من الناس من يتقن هذا الأمر ومن يوفق له، وموضوع ضبط النفس ليس خاصا بفئة دون فئة، بل هو للرجال وللنساء، للصغار وللكبار، للعلماء والدعاة وطلاب العلم وللعامة.
وإنه بسبب عدم ضبط النفس، وبسبب أنفاذ الغيظ والانسياق وراء الغضب والتصرفات المفاجئة، كم حدثت من محن وفتن سواء على مستوى الخاصة أو العامة.
فلو جئنا للخاصة مثلا:
لوجدنا عددا من جرائم القتل أكثرها كان بسبب عد ضبط النفس.(14/1)
روي أن رجلا جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقود رجلا فقال:
يا رسول الله إنه قتل أبني.
فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): أقتلته؟
قال نعم. قال ولما؟ قال: كنت أحتطب أنا وإياه، فسبني وشتمني فأهويت بالفأس على رأسه فقتلته. أو كما ورد في الحديث.
وكثير من جرائم القتل تقع بسبب نزوة شيطان، وبسبب غضب لا يكتم فيه الإنسان غيظه، ولا يضبط نفسه، فيع ما يقع، وعندما تقرءون كثيرا من البيانات التي تتلى عند القِصاص تجدون أن نسبة عظمى من أولئك كانت بسبب شجار أو خصام توصل في النهاية إلي القتل والقتال.
لو نظرنا إلى داخل البيوت وتتبعنا حالة واحدة وهي حالة الطلاق، ولو سألنا القضاة عن هذا الأمر، وعن أكثر أسباب وقوع الطلاق، لقالوا إنه الغضب، أو نزوة لم بضبط الإنسان فيها نفسه فوقع الطلاق.
إذا هذه المسألة وهي حالات الطلاق أكثرها يقع لعدم ضبط الخصمين وبالذات عدم ضبط الزوج تصرفاته فيقع الطلاق والعياذ بالله.
فأقول إن كثيرا من مسائل الطلاق تقع بسبب عدم ضبط النفس، وكثير من البيوت أصابها الخراب والدمار بسبب تصرفات هوجاء كانت تحتاج إلى مسألة واحدة وهي قضية ضبط النفس.
أما على المستوى العام:
على مستوى الدعاة، وعلى مستوى طلاب العلم، فلو تأملنا في الواقع المرير لكثير من الدعاة وبخاصة في بعض البلاد الإسلامية، لوجدنا أن من أعظم أسبابها أن الأعداء قد استفزوا أولئك الدعاة الصالحين، فوقع كثير منهم في الاستفزاز، ولم يتمكن من ضبط نفسه، ثم انجرت الويلات تبعا لذلك كالسبحة إذا انقطعت تتوالى حباتها الواحدة تلو الأخرى.
فموضوع ضبط النفس نحن في أمس الحاجة إليه سواء على المستوى الخاص في داخل بيوتنا ومع أقاربنا ومع أهلينا ومع جيراننا ومع أصحابنا، وكذلك نحن بحاجة إليه على المستوى الدعوة إلى الله جل وعلا.(14/2)
نحن بأمس الحاجة إليه وبخاصة في هذه الأيام التي نلحظ فيها كثرة الفتن، وكثرة مراحل الاستدراج، وينصب الفخ لكثير من الدعاة، فقد يقع ، وقد يقعون في ما ينسب لهم من أعدائهم، فمن أجل بيان هذا الأمر وخطورة هذا الأمر نقف هذه الليلة بأذن الله مع هذا الموضوع المهم، وما أشرت إليه من حيث الأهمية ما هو لا نزرا يسيرا يبين أهمية هذا الموضوع.
* ضبط النفس هو بمعنى كظم الغيظ، ولذلك أثنى الله جل وعلى على الكاظمين الغيظ فقال جل من قائل: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * للَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، فالمتقين هنا من صفاتهم أنهم يكظمون الغيظ، فكظم الغيظ وهو أحد معاني ضبط النفس، جنة عرضها السماوات والأرض، ولو لم يأتنا إلا هذه الآية لكفانا بها والله فضلا وشرفا.
قال القرطبي في معناه:
كظم الغيظ رده في الجوف.
يقال كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه.
وكظمت السقاء أي ملأته وسددت عليه.
والكظامة ما يسد به مجرى الماء.
ومنه الكظام للسير الذي يربط به فم الذق والقربة.
وكظم البعير جرته إذا ردها في جوفه.
وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه كظم، وكظم البعير والناقة إذا لم يجترا.
فكظم الغيظ هو منعه من أن يقع، فنستطيع أن نعرف ضبط النفس بالكلمات التالية:
فضبط النفس هو منعها من التصرف خطأ في المواقف الطارئة والمفاجئة التي تتطلب قدرا من الشجاعة والحكمة وحسن التصرف.
وقد أوضحت لكم أن بين كظم الغيظ وبين ضبط النفس ترادف وتشابها، فالذي يضبط نفسه هو الذي يكظم غيظه، وهو الذي يحبس غضبه، وقد ورد أحاديث كثيرة عن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) فيها بيان فضل كظم الغيظ وبالتالي ضبط النفس وأقرأ عليكم بعضها:(14/3)
قال (صلى الله عليه وسلم): (ما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا).
وقال (صلى الله عليه وسلم): (من كظم غيظا وهو قادر أن ينفذه ملء الله جوفه أمنا وإيمانا).
وقال (صلى الله عليه وسلم): (من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء).
وعنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله جل وعلا).
وكما أسلفت أن الأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا.
* مظاهر عدم ضبط النفس:
كيف نعرف أن هذا الإنسان لم يضبط نفسه؟ هناك مظاهر عدة ودلالات أذكر هنا أبرزها:
- سرعة الغضب والانفعال، والتأثر.
حدوث أفعال وردود أفعال لم تدرس عواقبها، نسمع أحيانا أن هناك تصرفات تحدث كرد فعل لم تدرس عواقبها، وهذه هي التي قلت قبل قليل أنها تجر علينا الويلات.
مثلا قد يؤذى أحد الدعاة، ويطلب منا في هذا المقام أن ننصر أخانا نصرا مؤزرا، (أنصر أخاك ظالما و مظلوما)، لكن ما الذي يحدث بسبب الحماس والانفعال، وبسبب عدم ضبط النفس ؟
قد يتصرف البعض تصرفات تجر إلى ويلات، وتجر إلى مصائب، وتجر إلى أمور لا تحمد عقباها، وهذا أيها الأخوة يحتاج منا إلى نظر وإلى تبصر.
وحينما أشير إلى ذلك لا لكونها واقعة ولكنني أتحدث عنها لكي لا تقع، لأن معالجة المرض قبل وقوعه أولى من معالجته بعد وقوعه.
لنأخذ مثلا واحدا: عند مسجد من المساجد جاء رجال الأمن لمنع بيع أشرطة التسجيل عند المسجد، وهؤلاء الرجال جاءوا ينفذون أمرا قد صدر لهم، فبسبب الانفعال والحماس تحمس بعض الحضور ووقع احتكاك بين رجال الأمن وبين هؤلاء الشباب الذين لا نشك في حماسهم وخيرهم وصدقهم، ولكن ماذا تكون النتيجة؟
هل هذا التصرف منهم قد منعَ اتخاذ مثل هذه القرارات ؟ لا بل زاد الأمر سوء وجر على هؤلاء الشباب أمورا نحن في غنى عنها.(14/4)
هناك وسائل مشروعة نسلكها لإلغاء مثل هذه القرارات، بالكتابة للعلماء، بالاتصال بالعلماء، بالكتابة للمسئولين، والوسائل متعددة ليس المقام لحصرها.
ولكن أن نستفز بمثل هذه الأمور، هذا ما يريده الأعداء، وهذا ما يتمناه الأعداء، وهذا ما يسعى إليه الأعداء، فردود الأفعال غير المدروسة، يكون لها من الآثار كما وقع في بلاد كثيرة ما لا يخفى على أمثالكم.
- إطلاق اللسان.
بالسب أو الشتم أو نحو ذلك كما سمعتم قبل قليل في الحديث الذي رواه البخاري لما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) للرجل أقتلته، قال نعم، قال ولما؟ قال لأنه سبني وشتمني، فلم يتمكن هذا من ضبط نفسه فأهوى عليه بالفأس فقتله.
كم من البيوت خربت لأن الزوج لا يتمكن من ضبط لسانه فيقع الطلاق، تتصرف المرأة تصرفا خاطىء وقد تثير زوجها بانفعال أو غيره، فأقرب ما يتجه إليه الزوج هو أن يطلقَ لسانه بالطلاق، وأمر الطلاق ليس بالأمر ليسير ولا بالأمر الهين، وكم جاء للعلماء وجاء للمشايخ من يقول إنني كنت بانفعال، أنني كنت مغضبا وطلقت وأنا لا أشعر.
نعم المرأة تخطئ، والمرأة ضعيفة، لكن كيف نقابل هذا الأمر؟
هل نقابله بالضرب، أو بإطلاق اللسان، لا.
اسمعوا إلى هذه القصة لنعرف كيف نقابل مثل هذه الأحداث التي تقع في البيوت:
كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) عند عائشة في يوم من الأيام، فأرسلت إحدى زوجاته رضي الله عنهن جميعا طعاما للرسول (صلى الله عليه وسلم) قد أصلحته بصحفة مع جارية لها.
فلما جاءت بالطعام والرسول عند عائشة، أخذت الغيرة عائشة رضي الله عنها، تأتي بطعام واليوم يومها والرسول عندها.
الغيرة شديدة بالنسبة للنساء، فقامت عائشة وأخذت الصحفة وكسرتها وانتثر الطعام، فقام (صلى الله عليه وسلم) يجمع ما انتثر من الطعام ويقول:
غارت أمكم، غارت أمكم وهو يبتسم (صلى الله عليه وسلم)، وأخذ صحفة جديدة وأرسلها إلى أم المؤمنين بدل ما كسر. الله أكبر ما هذا الأسلوب.(14/5)
هل نتعامل مع زوجاتنا بهذا الأسلوب ؟
هل غضب (صلى الله عليه وسلم) وضربها ؟
هل غضب (صلى الله عليه وسلم) وتكلم عليها ؟
هل غضب أقل شيء وخرج من عندها ؟
لم يفعل ذلكح (صلى الله عليه وسلم)، إنما قام هو يجمع ما انتثر من الطعام ويقول غارت أمكم. ويعطي المرأة الأخرى صحفة بدل الصحفة التي انكسرت.
هذا هو خلق المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وهذا هو الخلق.
كم من المتحادثين وبسبب كلمة قالها أحدهم، فرد عليه الآخر حتى تصل أحيانا إلى أن يلعن الرجل أباه وأمه، (قيل كيف يا رسول الله يلعن الرجل أباه وأمه؟ قال يسب أب الرجل فيسب أباه ويسب أمه الرجل فيسب أمه). أو كما قال (صلى الله عليه وسلم).
إن القلوب إذا تناثر ودها....... مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
فهذه بعض مظاهر عدم ضبط النفس.
وهنا يأتي أهم باب في هذا الموضوع، فأقول أدركنا من خلال ما ذكرت أهمية ضبط النفس، وضبط الأعصاب، وأن نتصرف التصرفات الحميدة التي نحسب نتائجها قبل أي تصرف.
كل منا يقول أتمنى ذلك، كل واحد يقول أتمنى أن اضبط نفسي ولكن لا أستطيع، كل منا يقول أريد ن اكتم غيظي ولكن لا أقدر.
فنقول لا، تقدر بأذن الله، تقدر إذا التزمت بأسباب سيأتي ذكر وبيانها:
يقول الشاعر:
وإذا غضبت فكن وقورا كاظما........للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفا تصبر ساعة........... يرضى بها عنك الإله وترفع
ويقول عروة ابن الزبير:
لن يبلغ المجد أقوم وإن شرفوا........ حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويُشتموا فترى الألوان مشرقة........ لا عفو ذل ولكن عفو إكرام
* الأسباب والدواعي المضادة لضبط النفس:
بعبارة أخرى ما هي العوامل التي تثير الإنسان؟ الحقيقة أن هناك عدة أسباب تؤدي إلى كون الإنسان لا يضبط نفسه، وكون الإنسان قد يغضب، وكون الإنسان قد يثور، وكون الإنسان قد يستفز وهي أسباب عامة وخاصة، وأذكر هنا أهم تلك الأسباب:
- تحريش الشيطان.(14/6)
ولا شك فالشيطان جاهز، فالشيطان ينزغ في مثل هذه المواقف لأنه يريد أن يُقع المرء في مثل هذه المهلكات من الاستعجال أو التصرفات التي لا تحمد عقباها.
- استفزاز المنافقين وأعداء الله.
وقد أشرت إلى ذلك، وهذا يكون بمثل الاستفزازات التي تسمعون عنها في أنحاء العالم الإسلامي من استفزازات الأنظمة، والأفراد سواء بالقول أو الفعل، فهناك استفزازات الآن تجري في الكثير من الدول وفي كثير من البلاد، يتولاها منافقون، ويتولاها علمانيون، وتتولها أنظمة معادية للإسلام لتوقع الدعاة في الفخ، لأن المستعجلين منهم قد لا يصبروا فيستعجلوا ويتحمسوا ولا يضبطوا نفسهم.
- الإهانات والضربات الموجه للمسلمين.
وحقيقة أن المسلمون يعيشون في وضع لا يحسدون عليه من الذل والمهانة، وهذا يحتاج إلى شيء من ضبط النفس، والتبصر بالعواقب، والنظر في مآلات الأمور، وعدم جعل هذه الأسباب العامة سببا لهذا الأمر.
ولو تأملنا كيف كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) في مكة، وكم مرة يقول الصحابة له (صلى الله عليه وسلم) أنقبل الدنية في ديننا، ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يوجههم بالصبر وبضبط النفس، وعدم التحمس والاستعجال.
- ارتفاع صوت الباطل وخفوت صوت الحق.
- تخاذل بعض القادرين على نصرة دين الله من قول كلمة الحق.
فهناك من القادرين من يستطيع أن يقول للظالم يا ظالم، من يستطيع أن ينصر الدعاة، من يستطيع أن يقف مع المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، ولكنه يسكت ويتخاذل، فما الذي يحدث عندها؟ يأتي بعض الشباب ويتحمسون ولا يستطيعون الصبر ولا التحمل فيتصرفون بعض التصرفات التي تكون نتائجها غير محمودة.
- إفشاء وتشجيع الفساد بجميع الوسائل.
وحمايته فهذا سبب من الأسباب التي قد تؤدي إلى عدم ضبط النفس، وإلى الاستعجال أو إلى التصرفات التي قد لا تحمد عواقبها.
- مضايقة الدعوة والدعاة، مع تشجيع الضد وحماية الضد.
- الأراجيف والإشاعات.(14/7)
وخاصة أن البعض يتعجلون بتصديق هذه الإشاعات، وهذا مسألة يجب أن نأخذ منها بيانا.
أذكر مثلا: أنه منذ فترة قريبة أوقف بعض الدعاة، فما علم الناس إلا وإعلانات توزع في بعض الأماكن أنه ستكون هناك مسيرة من المسجد الفلاني إلى الإمارة، وبعد التتبع والاستقصاء واهتمام العلماء بهذه المسألة تبين أن طلاب العلم والدعاة ليسو هم من قام بهذا الأمر، وأن هناك أيدي مغرضة تريد الإيقاع بطلاب العلم، تريد الإيقاع بالشباب، وترديد مثل هذه التصرفات التي لا تحمد عقباها.
فهناك إشاعات وهناك تصرفات تكون مكتوبة أو غير مكتوبة يقصد بها إحداث فوضى، يقصد بها إحداث خلل، يقصد بها إيقاع الطيبين في الفخ، فلننتبه.
إذا الإشاعات والأراجيف وألاعيب بعض العابثين قد تكون سببا رئيسا في وقوع بعض الأمور التي لا تضاد ضبط النفس.
- الأحداث المتلاحقة في العالم الإسلامي.
نعم الأحداث التي تجري على المسلمين من التعذيب والأذى والامتهان كما في الصومال والبوسنة والهرسك وفلسطين وغيرها، يجعل بعض الناس قد لا يتحمل، وقد ينفجر، وقد يتصرف تصرفات غير محمودة العواقب.
- الطبائع الفردية.
فالناس يختلفون، فهناك من أعطاه الله سعة في الصدر، وتحملا وقدرة على ضبط النفس، وهناك آخرون سريعو الغضب، سريعو الثورة، فأي سبب يقع في بيته قد يطلق معه زوجته، قد يسيء إلى ابنه، وقد يتعدى هذا الأمر إلى ما يتعلق بأمور المسلمين العامة، فبسبب طبيعته المتعجلة، وبسبب طبيعته الشخصية التي لا تتحمل قد يجني على المسلمين ما لا يحمد عقباه.
إذا هذه اختصار بعض الأسباب التي قد تؤدي إلى ما يضاد ضبط النفس.
* وسائل ضبط النفس:
وسائل ضبط النفس كثيرة جدان وأذكر منها هنا ما يناسب المقام، فأقول مستعينا بالله:
- العلم حصن حصين.
نعم فالعلم حصن حصين يمنع من التصرفات الهوجاء، وإليكم الدليل: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).(14/8)
ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قدوة، انظروا كيف كان يتصرف في الشدائد.
كيف كان (صلى الله عليه وسلم) في الملمات.
كيف كان إذا استفز ولطالما استفز (صلى الله عليه وسلم) ولم يقبل الاستفزاز.
ثم انظروا إلة أولئك الذين تحدث منهم ردود أفعال، وغضب ستجدون أن أقل نسبة في هذا هم العلماء.
فالعلم شرف، والعلم حصانة، والعلم مانع بإذن الله من الوقوع في مثل هذه الأمور:
ما الفضل إلا لأهل العلماء إنهمو ........... على الهدى لمن استهدى أدلاء
العلم أولا بعاقبة عدم كظم الغيظ، وبعاقبة كظم الغيظ أيضا، العلم بمائلات الأمور، العلم بفضل كظم الغيظ، بعض الأحاديث التي ذكرتها قبل قليل قد يكون عدد منا يسمعها لأول مرة، وقد يكون مضى من عمره ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة.
إذا عندما نتعلم، ومن العلم الذي نتعلمه فضل كظم الغيظ، هذا يكون مساعدا لنا، وقد سمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جُرعَة، نعم تجرّع كما يتجّرع البعير، فأنتم ترون البعير يتجرعها أولا ثم يعيدها مرة أخرها، فكذلك ضبط النفس وكظم الغيظ وكأن الإنسان يبلعها.
وقد ترون بعض العامة أحيانا حينما توجه له إهانة فيقول بلعتها، أي لن أظهرها ولم أتعدها، فكذلك في الأحاديث سمها رسول (صلى الله عليه وسلم) جرعة يتجرعها الإنسان.
فالعلم حصانة بإذن الله من الوقوع في الغضب أو آثاره.
- تحري الحكمة.
نعم أن نتحرى الحكمة: ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ). واقرءوا سورة لقمان (ولَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ)، فالوصايا التي أوصى بها ابنه تدل على عقل وعلى حكمة وعلى بعد نظر: ( وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).
والحكمة هي فعل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي، فضبط النفس هو الحكمة، فهذا الذي نريده أن تفعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي وكما ينبغي.(14/9)
فمن تحرى الحكمة هدي إليها: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، فإذا كنت تتحرى الحكمة في أفعالك، وفي تصرفاتك فأطمئن فستوفق إليها: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ).
- رجاحة العقل.
مما يمنع من التصرفات التي لا تحسب نتائجها رجاحة العقل والرزانة، ولذلك يقول الله جل وعلا: ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)، ويقول (صلى الله عليه وسلم): (ليس الشديد بالصُرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب)، ومما ورد في أهمية العقل ما قال بعض الشعراء:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم....... أدنى إلى شرف من الإنسان
ولربما طعن الفتى أقرانه ............ بالرأي قبل تطاعن الأقران
ويقول آخر:
ألم ترى أن العقل زين لأهله........ ولكن تمام العقل طول التجارب
يقول لك العقل الذي زيّن الفتى..... إذا لم تكن تقدر عدوك داره
ويقول آخر:
يعد رفيع القوم من كان عاقلا ..... وإن لم يكن في قومه بحسيب
وإن حل أرضا عاش فيها بعقله..... وما عاقل في بلدة بغريب
ويقول آخر بيتا هو نص في موضوعنا:
ذوي العقل في معترك الأقدار مقتدر..... لكن ذا الجهل مغلوب ومغلول
وعقل ذو الحزم مرآة الأمور بها......... يرى الحقائق والمجهول مجهول
فالعقل أيها الأخوة مرآة ومانع من الوقوع في المحظور.
- ضبط اللسان.
يقول (صلى الله عليه وسلم) أمسك عليك لسانك، ولما قال له معاذ رضي الله عنه: إن يا رسول الله مآخذون بما نتكلم؟ قال ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
وقال (صلى الله عليه وسلم) وقد أمسك بلسان نفسه: كف عليك هذا.
ودخل عمر رضي الله عنه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو آخذ بلسانه يجره، وكأنه يريد أن يقلعه، قال له يا أبا بكر حسبك، قال هذا الذي أوردني الموارد.(14/10)
أبو بكر الصديق يقول عن لسانه هذا الذي أوردني الموارد، ماذا نقول نحن عن ألسنتنا، فالمحافظة على اللسان وضبط اللسان مما يمنع من التصرفات التي لا تحمد عقباها.
يصاب الفتى من عثرة بلسانه....... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه....... وعثرته بالرجل تبرأ على مهل
احفظ لسانك أيها الإنسان......... لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه........كانت تهاب لقاءه الشجعان
الصمت زين والسكون سلامة...... فإذا نطقت فلا تكن مكثار
فإذا ندمت على سكوتك مرة....... فلتندمن على الكلام مرار
احفظ لسانك واستعذ من شره...... إن اللسان هو العدو الكاشح
وزن الكلام إذا نطقت بمجلس....... فإذا استوى فهناك حلمك راجح
والصمت من سعد السعود بمطلع..... تحي به والنطق سعد الرابح
عود لسانك قول الخير تنجو به....... من زلة اللفظ أو من زلة القدم
واحذر لسانك من خلٍ تنادمه........ إن النديم لمشتق من الندم
فالمحافظة على اللسان وضبط اللسان سبب لضبط النفس بل هو جزء من ضبط النفس.
- التجرد لله جل وعلا.
وهذا سبب أوجهه لأحبتي من الدعاة ومن طلاب العلم بصفة خاصة.
وللأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وللقائمين بحدود الله.
التجرد من حظوظ النفس فعند التأمل والتحقيق قد يكون الغضب ليس لله، كيف؟
كم من الناس يغضبون ثم يتصرفون ثم يقولون غضبنا لله، ولو درسنا المسألة دراسة حقيقة مجردة لثبت لنا أنه في الحقيقة لم يكن الغضب لله، بمعنى أنه قد يكون أصل الغضب لله نعم.. مثلاً:
قد تأتي لإنسان فتقول له قم للصلاة جزاك الله خيرا، فيتلفظ عليك بكلمات، فقد لا تحتمل أعصابك فتصرف إما بالضرب أو بالشتم أو بغير ذلك. نعم يحدث هذا، وعندما يقال لك لماذا هذا التصرف؟ تقول إنني غضبت لله.
تأمل أخي الكريم، تأمل أخي الداعية أأنت غضبت لله أم غضبت لنفسك؟(14/11)
كثير من الناس يقع في هذا البلاء وقد غضب لنفسه ولم يغضب لله جل وعلا، صحيح أنه كان يأمر بالأمر بالمعروف، صحيح أنه كان ينهى عن المنكر، وكان أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لله، لا نشك في ذلك، لكن ما حدث بعد ذلك من ثورة وغضب وفوران وتعدي لم يكن لله جل وعلا، ولكن لأن هذا الشخص أساء إليك فغضبت لنفسك.
فالتجرد من حظوظ النفس وهو أمر لا يقدر عليه إلا من أعطاه الله قوة وعزما: ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
فأقول أن نتجرد لله جل وعلا وأن يكون غضبنا لله لا لأنفسنا، ولو تأملنا وأخذنا الأمور بهدوء وناقشنا أنفسنا بعد ذلك، لوجدنا أن الغضب الذي كثيرا ما يحدث م يكن أثره غضبا لله وإنما هو لحظ النفس.
إذا فالتجرد من حظ النفس يعين على ضبط النفس بإذن الله.
- التربية الجادة وحسن الخلق.
وهنا كلمة للآباء والأمهات، وإلى المربين بصفة خاصة بالتربية على التحمل، ربوا أبناءكم، ربوا تلاميذكم على تحمل الإساءة من الآخرين، إننا لا نستغرب الإساءة من الآخرين، ولكننا نستغرب ردود الأفعال من الصالحين.
يقول (صلى الله عليه وسلم): (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن). فالتربية الجادة، والتربية الصالحة تؤدي بإذن الله إلى ضبط النفس.
وأشير هنا إلى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يشجع أصحابه على ضبط النفس، قال لأشج عبد قيس: (إن فيك خصلتين يحبوهما الله جل وعلا؛ الحلم والأناة).
فالحلم كما سيأتي بعد قليل كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يربي على ذلك، والتربية على التصرف في الأزمات مما يساعد على التخلص من هذا البلاء.
- معرفة مآلات الأمور.(14/12)
من أعظم الأسباب التي تمنع من التصرفات الخاطئة معرفة عواقب الأمور، وإتقان قاعدة المصالح والمفاسد، الله جل وعلا يقول للصحابة:
( ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ )، إذا كان سب الأصنام سيؤدي إلى سب الله جل وعلا، فلا تسبوا الأصنام، هذه قضية نغفل عنها.
الرسول (صلى الله عليه وسلم) جاء ليحطم الأصنام وجاء لينقل الناس من عبادة الأصنام إلى عبادة الله، ومع ذلك نجد أن الله ينهى الصحابة من أن يسبوا الأصنام، لماذا؟
لأن سب الأصنام يؤدي إلى أن المشركين يسبون الله جل وعلا.
فالمعرفة بمآلات الأمور أمر عظيم جدا.
معرفة النتائج أمور مهم جدا، الآن قد يأخذنا الأنفال بتصرف أهل السوء تصرفات هوجاء، ومع زحمة الانفعال والغضب والغيرة على دين الله وعلى محارم الله قد نتصرف ولا نعرف ماذا سيترتب على ذك، ونحن يجب أن نكون أكثر حكمة.
وإليكم هذا المثال:
قصة أصحاب القرية التي وردت في سورة ياسين:
أرسل الله جل وعلا لقرية رسولين، ثم عزز بثالث، فقالوا إنا إليكم مرسلون، ودامت القصة بين أهل القرية وبين الرسل، وفي آخر المطاف قال أهل القرية، لأن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم، هذه نهاية القصة.
فجاء رجل مؤمن، انظروا كيف يتم ضبط الأعصاب، انظروا كيف التصرف في المواقف الحاسمة: ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى)، ماذا سيفعل هذا الرجل؟
أهل القرية يهددون الرسل، أهل القرية يعلنون الشرك علانية، انتبهوا معي بدقة إلى أصل القصة، مشركون بالله ويستهزؤن بالرسل، يعلنون أنهم سيعذبونهم وسيقتلونهم، ويأتي الرجل يسعى ماذا سيفعل؟ ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).(14/13)
أرأيتم الأسلوب، أريتم ضبط الأعصاب، أرأيتم كيف التصرف في مواقف الشدة، يقول يا قومي، بأحب الألفاظ إليه، وكان المتوقع بحدود فهمنا القاصر أنه مادام هؤلاء يهددون الرسل ويؤذنهم ويريدون أن يقتلوهم أن يأتي هذا ويلتحم بمعركة مع هؤلاء المشركين، لا، بل يقول بأحب الألفاظ إليهم: ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
هل ستواجهون منكرا أعظم من هذا؟ أي منكر رأيتموه لن يكون أعظم من منكر أهل القرية، لأن أهل القرية مشركون كفروا بالله، هددوا الرسل، استهزئوا بالله، ومع ذلك يأتي هذا الرجل ويقول هذه الكلمات الهادئة، هذه الكلمات العاقلة، هذه الكلمات المطمئنة، ويثني الله جل وعلا عليه في نهاية القصة :( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ).
فإذا رأيتم منكرا لا نقول لا تغيروه، كلا وحاشا، ولكن ضبط الأعصاب مطلب شرعي لنعرف كيف نتصرف.
إذا اللهَ الله بالحلم وتدريب النفس على ذلك، الحلمَ الحلم، وإنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، وقدوتنا في ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
روى أنس أن رجلا جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فجذبه من عنقه قال يا محمد أعطني من مال الله، يقول أنس حتى رأيت أثر الجذبة بين رقبة وحتفه (صلى الله عليه وسلم)، ماذا فعل (صلى الله عليه وسلم)؟ تبسم وأعطاه حتى أرضاه. حلم عجيب ولا عجب فهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
يوسف عليه السلام:
تصوروا أن إخوانه الذي آذوه، وألقوه في البئر حتى سيق مملوكا، واشتري بثمن بخس، وسجن سنوات طويلة، ثم بعد ذلك يصبح عزيز مصر، فلما جاءت قصة أخيه قال أخوته:
( قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)، ماذا يقصدون ؟(14/14)
يقصدون يوسف عليه السلام، هذا الذي أذوه وأهانوه وهو الآن عزيز مصر، ماذا فعل يوسف؟ وانظروا إلى ضبط النفس:
( فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ).
حتى ما أراد أن يجرح مشاعرهم بهذه الكلمة، نعم حتى كلمة (أنتم شر مكانا) ما نطقها بل قالها سرا في نفسه،مع أنه وهو في موقعه عزيزا لمصر يستطيع أن يأخذهم وأن يعاقبهم وأن يعذبهم وأن يقتلهم، لكن مجرد أن يجرح مشاعرهم مع أنهم أذوه من قبل، بل وإلى الآن هم يجرحون مشاعره عندما قالوا: (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)، يتهمونه بالسرقة أيضا رغم أنه لم يسرق عليه السلام، وإنما هي تهمة لُبّست عليه وهو صغير، ومع ذلك لم يرد عليه السلام أن يجرح مشاعرهم، وهذا والله هو كظم الغيظ مع القدرة على التنفيذ، مع القدرة على المعاقبة.
عندما كان عليه السلام صغيرا وأخذوه وألقوه في البئر لم يكن يملك من أمره شيئا، ولكن الآن هو عزيز مصر ولو أراد أن ينتقم منهم لفعل، ولكن ليست قصة انتقام، بل حتى أن يجرح مشاعرهم بكلمة واحدة لا يريد.
الأحنف وهو سيد قومه يقال أنه إذا غضب غضبَ له مائة ألف لا يسألونه فيما غضب، لكن متى يغضب الأحنف؟ قيل له ممن تعلمت الحلم؟:
قال تعلمته من قيس ابن عاصم حيث كان يوما جالسا مع أصحابه في مجلسه، فجاءوا له برجل مقيد يرسف بالحديد، وقالوا له: هذا أبن أخيك قتل ابنك.
فالتفت إلى أبن أخيه وقال: يا ابن أخي أقتلت ابن عمك وأسأت إلى لرحمك، وأثمت نفسك.
ثم التفت إلى ابنه وقال قم أطلق سراح ابن عمك، وأدي الدية إلى أمك، وجهز أخاك ثم آذنا بعد ذلك، واستمر في مجلسه، نعم لم يتحرك من مجلسه. الله أكبر.
ميمون ابن مهران:
كان جالسا مع أصحاب في مجلسه، فجاءت الجارية تحمل مرقة حارة لتقدمها لهم، فعثرت وسقطت المرقة على ميمون ابن مهران، فغضب غضبا شديدا، وكاد أن يعاقبها.(14/15)
فقالت له حسبك، ألم تسمع إلى قوله تعالى: (والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) فكظم غيظه.
قالت ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) قال قد عفوت عنك.
قالت: (َاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال أنتي حرة لوجه الله جل وعلا.
الحلم أيها الأخوة زين ومن زينة الرجال:
ألا إن حلم المرء أكرم نسبة ......... تسامى بها عند الفخار حليم
فيا رب هب لي منك حلما فإنني..... أرى الحلم لم يندم عليه كريم
أحب مكارم الأخلاق جهدي....... وأكره أن أعيب وأن أعابا
وأصفح عن سباب الناس حلما...... وشر الناس من يهوى السبابا
ومن هاب الرجال تهيبوه............ ومن حقر الرجال فلن يهابا
- الأعراض عن الجاهلين.
وهذا مما يساعد على ضبط النفس، يقول جل وعلا:
( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، ويقول: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)، ويقول: ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً).
ومرة أخرى كان الأحنف يسير إلى مجلسه، وورائه رجل يتبعه ويسبه ويشتمه، فلما قرب الأحنف من بيته وقف وقال لهذا الرجل الذي يسبه ويشتمه، وكان يجري خلفه منذ مسافة، قال له يا أخي اعطني ما بقي عندك، أكمل السب والشتام، فأستغرب الرجل فقال لماذا؟
قال أخشى أن أدخل إلى حارتي وأنت تسبني فيراك سفهاء قومنا فيؤذوك وأنا لا أريد أن يؤذوك، فأطرق الرجل حياء وانصرف.
ولقد أمر على اللئيم يسبني ........... فمضيت ثم قلت لا يعنيني
لو كل كلب عوى أقمته حجرا ...... لأصبح الصخر مثقالا بدينار
فالإعراض عن الجاهلين منهج يؤدي إلى ضبط النفس.
- دفع السيئة بالحسنة.(14/16)
يقول تعالى: ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
ويقول (صلى الله عليه وسلم): ( اتق الله حث ما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحوها وخالق الناس بخلق حسن).
- الاستشارة.
نعم مما يعين على ضبط النفس الاستشارة فيما يجب اتخاذه من المواقف الطارئة والمفاجئة والاستعداد لذلك: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
ولكن ما معنى أن نتشاور؟
هو أن نقول نتوقع أن يحدث كذا، واحتمال هذا اليوم أن يستفزنا أحد، واحتمال عند وقوع هذا الأمر أن يحدث كذا، ماذا تنصحونا ؟
فنتشاور عن الحدث قبل وقوعه، فإذا وقع وإذا نحن قد قلبنا النظر، وإذا نحن قد استشار بعضنا بعضا، فنعرف كيف نتصرف، أما إذا أقدمنا دون استشارة فقد يكون أحدنا يرى الحسن خطأ والخطأ حسن: ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ).
- الصبر والتقوى.
يقول تعالى: ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)، ويقول: ( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، ويقول: ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
ويقول الشاعر في الصبر:
أصبر قليلا فبعد العسر تيسير ...... وكل وقت له أمر وتدبير(14/17)
وللمهيمن في حالاتنا قدر.......... وفوق تدبيرنا لله تدبير
أصبر فبالصبر خير لو علمت به..... لكنت باركت شكرا صاحب النعم
وأعلم بأنك إن لم تصطبر كرما.... صبرت قهرا على ما خط بالقلم
كن حليما إذا بليت بغيظ......... وكن صبورا إذا أتتك مصيبة
فالليالي من الزمان حبالى.......... مثقلات يلدن كل عجيبة
أصبر قليلا وكن بالله معتصما..... لا تعجلن فإن العجز بالعجل
الصبر مثل اسمه في كل نائبة....... لكن عواقبه أحلى من العسل
إذا جرحت مساويهم فؤادي...... صبرت على الإساءة وانطويت
وجئت إليهمو طلق المحيا......... كأني لا سمعت ولا رأيت
فالصبر من أعظم العلاج في مسالة ضبط النفس.
- الالتزام بما ورد في الشرع الذهاب الغضب.
وهي وسيلة عظيمة تجمع عدة وسائل، فأنتم تعلمون أن موضوع ضبط النفس يعني مدافعة الغضب، فكيف يدفع الواحد منا غضبه.
فمثلا إذا غضب الواحد منا على زوجته أو على ابنه، أو على أقاربه، أو أثاره الغضب على أمر من أمور الشرع، فكيف يذهب هذا الغضب؟
هذا الموضوع يحتاج بذاته إلى محاضرة خاصة، وأحيل الأخوة إلى كتاب للشيخ محمد المنجد بعنوان (شكاوى وحلول)، وهي رسالة جميلة ذكر فيها بابا عن الغضب، وكيف نعالج الغضب، وأذكر لكم هنا أبرز الوسائل التي مستطيع أن ندفع بها الغضب، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها:
الاستعاذة بالله من الشيطان: فعن سليمان بن سرد قال: كنت جالسا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) ورجلان يستبان، فأحدهما أحمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان لذهب عنه ما يجد. وقال (صلى الله عليه وسلم) إذا غضب الرجل فقال أعوذ بالله سكن غضبه.
إذا التعوذ من الشيطان وسيلة مهمة من وسائل ضبط النفس.
السكوت: فيا أخي الكريم إذا غضبت إياك والكلمة، أخرج واترك الموضع، قال (صلى الله عليه وسلم):( إذا غضب أحدكم فليسكت).(14/18)
السكون وتغيير الحالة التي هو عليها: قال (صلى الله عليه وسلم):(إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإذا ذهب عنه الغضب وإلا فيضطجع).
وهذا حديث يبين لنا كيف نتصرف: (قال رجل للنبي (صلى الله عليه وسلم) أوصني، قال لا تغضب، قال أوصني، قال لا تغضب، قال أوصني، قال لا تغضب.)يقول هذا الصحابي ففكرت حين قال النبي (صلى الله عليه وسلم) ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله.
فإذا كنت مع زوجتك تتكلم مثلا، اعلم أنك لو أنفذت غضبك فقد يقع الطلاق، وماذا بعد الطلاق ؟، لو كنت مع خصم لك وغضبت فقد يحدث ما لا يحمد عقباه.
أذكر هنا قصة عجيبة حدثت قبل سنوات:
(امرأة من أهل السنة ذهبت لشراء اللحم، وكان بعض الجزارين في تلك البلاد من الرافضة، فذهبت إلى أحد الجزارين وكان رافضيا، فقالت أريد منك لحم، فقام وأعطاها لحما، فلما نظرت اللحم فإذا هو قد غشها، فغضبت ورمت اللحم عليه وقالت أعطي هذه للخميني (وكان ذلك أيام الثورة)، فما كان من هذا الجزار إلا أن رفع السطور وقسمها نصفين، عليه من الله ما يستحق). أرأيتم الغضب ؟
فالغضب أيها الأخوة سببا لأكثر مشاكل القتل، نعم تبدأ مشاجرة عادية ثم تتطور شيئا فشيئا حتى تصل إلى القتل.
الدعاء: وهو من أعظم ما يضبط النفس، فالدعاء سلاح، أن يلح الإنسان على الله بالدعاء أن يرزقه حلما وعلما ويقينا وثباتا، نعم خاصة الثبات، أدعوا الله أن يثبت أقدامكم.
هذه أبرز وسائل ضبط النفس.
وأخير أقف مع نقطتين مهمتين:
* الأولى ثمار ضبط النفس:
- أولا ثمرة من ثمار ضبط النفس الاتصاف بصفة من صفات المتقين.
( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
تفويت الفرص على الأعداء، وحماية الصحوة من المتربصين.(14/19)
يا شبابنا يا إخواننا والله إن الأعداء يتربصون ويتمنون أن يقع من شباب الصحوة، ومن طلاب العلم تصرفات تكون مبرر للإيقاع بهم، ففوتوا الفرصة عليهم، فإن من أعظم ثمار ضبط النفس تفويت الفرصة على الأعداء.
- تجنيب النفس الحسرة والندامة.
وكم من الناس في السجون يتحسرون على نزوة حصلت، كم من الرجال في داخل بيوتهم يتأثرون ويتحسرون على خراب بيوتهم.
جاءني رجل منذ أيام يقول لي أبحث لي عن مخرج، قلت ما الذي حدث؟
قال طلقت زوجتي وهذه هي المرة الثالثة أي بانت منه، وكنت مغضبا ومشكلتي الآن أطفالي ماذا افعل بهم؟ إن جلسوا معي مشكلة وإن ذهبوا معها مشكلة.
وهو الآن يعيش في حالة لا يعلمها إلا الله، ولم أجد له مخرج لأنني وجدت أن أسباب الغضب التي أدت به إلى الطلاق لا تبرر أن نعتبر أن إحدى تلك الطلقات خارجة عن إرادته، فقلت لا أجد لك حلا وأذهب إلى من هو أعلم مني.
وهو الآن يعيش حسيرا كسيرا متألما بسبب غضب لم يكظمه، فخرب بيته.
وإنني هنا أوجه الآباء والأمهات إلى الترفق بأبنائهم وإلى كظم الغيظ مع منهم تحت أيديهم، فقد كان (ص) رفيقا بأبنائه يداعب الحسن والحسين، ويفرح فرحا شديدا بمقدميهما، كان (ص) وهو يصلي يحمل إمامة، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها، كان لطيفا بالأطفال، كان يداعب أبا عمير طفل من الأطفال ويقول له: يا أبا عمير ما فعل النغير - طائر كان يلعب به -.
أما ما يفعله بعض الآباء فخذوا بعض هذه القصص ولعل فيها العبرة:
دخل أحد الآباء يوما على أولاده فوجدهم قد عبثوا في أثاث المنزل، تعلمون عن لعب الصغار يلحق بعضهم بعضا، وقد يرمون كرة وقد يكسرون شيئا أو يفسدون شيئا.
فغضب غضبا شديدا ونادى أكبرهم وربطه بيديه ربطا شديدا، وأقسم على أمه إن فككته من رباطه فأنت طالق.
وكان الطفل يبكي بكاء شديدا ويتأوه والأب لا يتصرف ولا يحرك ساكنا حتى ازرقت يدا الطفل. أخذه إلى المستشفى فقالوا له:؛(14/20)
لا خلاص إلا بأن نقطع يدا أبنك، حيث أن هذا الدم إن وصل إلى القلب مات الطفل، فأضطر بعد أن اقتنع أن يوقع على قطع يدا أبنه، وهو يبكي.
ولما انتهت العملية وأفاق الطفل وجاء أبوه يزوره وكان يقول لأبيه:
يا أبتي أعد إلى يدي ولن أعبث بأثاث المنزل، والأب كلما رأى أبنه بكى وتأثر بسبب تصرف أهوج كان هو أعقل من أن يفعل ذلك.
و يقول لي أحد الآباء إن أحد أبنائي كان عاصيا ومفرطا وكنت آمره وأنهاه ولم يأتمر ولم ينتهي، وقد كان هذا الأب قواما صواما فقام ودعا عليه.
وأثناء مجيء ابنه من إحدى المباريات وقع له حادث وأصيب بشلل، ولله لقد رأيت هذا الابن وهو مشلول على الكرسي، وأبوه يقول أن أذاه بعد شلله كان أعظم من أذاه قبل شلله.
كان يكسر زجاج البيت، كان يسب أهله كان يؤذيهم، وفي نهاية المطاف ما كحان منه إلا أن أحرق نفسه مع البيت، ثم توفي أبوه بعد ذلك.
فبعض الأمهات هداهن الله تدعو على أبنه غضبا، وقد توافق ساعة إجابة، فيا أختي الكريمة عودي لسانك بدلا من أن تقولي أهلكك الله أن تقولي أصلحك الله:
عود لسانك قول الخير تنجو به........ من زلة اللفظ أو من زلة القدم
فبدل أن تسب أدعو لأبنك، بدلا أن تدعو عليه أدعو له: ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً).
أحد الآباء شد على ابنه وغضب عليه، وأمره أن يخرج في الظلام لينفذ له حاجة من الحوائج، والابن الصغير الخائف يقول لا أستطيع، فأصر عليه والده وهو يقول له أنت جبان أخرج، فخرج وكان عمره عشر سنوات، فلما عاد الابن رجع وقد فقد عقله.
فأقول رفقا بأبنائكم، لطفا بأبنائكم، رحمة بأبنائكم.
- القدوة الصالحة.(14/21)
طفل من الأطفال خرج في يوم من الأيام مع مجموعة من الدعاة، فلما وصلوا إلى القرية التي ذهبوا إليها قالوا: كل منا يذهب إلى شارع ويطرق البيوت على أهل هذه البلدة ويقول إن إخواننا لكم قد جاءوا لزيارتكم وهم سيلقون درسا أو محاضرة في المسجد الفلاني.
هذا الطفل ذهب وطرق باب أحد الناس، فخرج عليه صاحب البيت وربما كان نائما أو مشغولا أو لسبب من الأسباب، فلما خرج قال للطفل لماذا طرقت الباب، قال نحن إخوان لكم جئنا من مدينة كذا ونريد أن نزوركم وأن تحضروا معنا بعض الدروس، قال أمن أجل هذا تطرق الباب، ثم بصق في وجهه بغضب.
فما كان من هذا الطفل إلا أن مسح البصاق في وجهه وهو يقول: الحمد لله الذي أوذيت في سبيلك ثم انصرف.
هذا الرجل وقف مشدوها، فما كان منه إلا أن لحق بالطفل وقال له:؛
قف يا بني، لقد أخطأت عليك، أين إخوانك فأنتم ضيوف علينا وأريد أن تسامحني، ثم ذهب معه إليهم وجلس معهم وأكرمهم. أرأيتم القدوة الصالحة، نحتاج إلى قدوات لضبط النفس.
*أخيرا وقفات مهمة:
- الوقفة الأولى:
اعلموا أن عدم ضبط النفس مظهر ضعف لا مظهر قوة، يعني إذا جاء إليك إنسان وقال أن فلانا شتمنى أو تصرف كذا وأني ضربته، فلا تقل له أنه بطل، أبدا فهو بالحقيقة ضعيف، ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ).
يقول الإمام أحمد رحمه الله مبينا هذه المسألة:
(الصدع بالحق عظيم يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن قام بهما كاملا فهو صدّيق، ومن ضعف فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب، وليس بعد ذلك إيمان).
إذا عد ضبط النفس مظهر ضعف لا مظهر قوة.
- الوقفة الثانية:
هناك فرق عظيم بين ضبط النفس وبين الذل، فقد يقول قائل أن المعنى أن كل ما جاءنا نصبر عليه، وهذا يؤدي بنا إلى الذل والضعف، أقول لا.
فرق بين الذل وبين ضبط النفس:(14/22)
ضبط النفس هو تحمل الأذى في سبيل الله، من أجل الله ومن أجل دعوته.
ضبط النفس هو تحمل الأذى والنظر في مآلات الأمور.
ضبط النفس هو مراعاة قواعد المصالح والمفاسد.
فإذا كان تصرفك سيجر علينا مصيبة أعظم فلا، وبارك الله فيك، أما إن كنت قادرا ولن يترتب على ذلك مفسدة فأقدم وبارك الله فيك، إن كنت صاحب سلطة فأدب هؤلاء.
أما الذل فهو تحمل الأذى والإهانة من أجل مصلحة النفس، كثير من الناس يتحمل الأذى والإهانة من أجل مصلحة نفسه، يخشى على وظيفته، أو يخشى أن يسجن، أو يخشى من أي أذى شخصي وهذا هو الذل.
هؤلاء هم الذين يتربون على الذل، أما أن تتحمل في سبيل الله، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) قد وضع السلى على رأسه الكريمة فما حركه وصبر (صلى الله عليه وسلم)، بل شجوا رأسه وصبر (صلى الله عليه وسلم).
فيجب أن نفرق بين ضبط النفس وبين الذل حتى لا يقع وهم، أو يتصور أحد منكم أن هناك خلط بين الأمرين.
( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى )، لا نحن لا نقبل بالذل ولا نرضى به أبدا، ولكن هناك فرق بين الأمرين فلتنتبهوا.
* الوقفة الأخيرة:
أن الغضب لله إذا انتهكت محارمه مطلوب شرعا، وهذا آخر ما أختم به كلامي لأهميته، الغضب من أجل الله إذا انتهكت محارمه مطلوب شرعا ولكن بضوابطه الشرعية، ضوابط المصلحة والمفسدة.
فالرسول (صلى الله عليه وسلم) الرحيم الحليم قد غضب غضبا شديدا عندما خرج والصحابة يتكلمون في القدر، وكأن ما تفقأ في وجهه الرمان (صلى الله عليه وسلم) أو كحب الرمان، وقال أيضرب بكتاب الله بعضه ببعض وأنا بين أظهركم.
وعندما بلغه أن معاذا كان يطيل الصلاة في الناس غضب (صلى الله عليه وسلم) وقال: أفتان أنت يا معاذ.
وعندما دخل على عائشة ووجد في غرفتها صور غضب (صلى الله عليه وسلم).
عندما جاء إسامة يشفع في المخزومية غضب (صلى الله عليه وسلم) وقال: يا إسامة أتشفع في حد من حدود الله.(14/23)
وعندما قتل إسامة الرجل الكافر الذي قال في آخر حياته (لا إله إلا الله)، فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): أقتلته وقد قال لا إله إلا الله؟ ماذا تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة وغضب (صلى الله عليه وسلم).
ولكن غضبه لم يخرجه عن الحد الشرعي، وحاشاه من ذلك، بل إن غضبه شرعيا (صلى الله عليه وسلم).
إذا الغضب لله في ضوابطه الشرعية، وإذا لم يؤدي إلى مفسدة أعظم، وضبط بهذه الضوابط فهو مطلوب، والذي لا يغضب لله لا خير فيه.
وقد ذكر بعض الشعراء بعضا من ذلك:
إذا كنت محتاجا إلى الحلم إنني ...... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ....... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم ........ ومن شاء تعويجي فإني معوج
ونحن لا نسميه جهلا، ولكن الشاعر سماه جهلا.
إذا كنت بين الحلم والجهل ناشئا....... وخيرت أنى شئت فالحلم أفضل
ولكن إذا أنصفت من ليس منصف..... ولم يرضى منك الحلم فالجهل أمثل
والجهل هنا يقصد به الغضب.
ولا خير في حلم إذا لم يكن له...... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له...... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فأقول إن الغضب في الله، والغضب لله ولمحارم الله وضبط بضوابطه الشرعية فهو مطلوبا شرعا.
وختاما:
أسال الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القوا فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم بحمد الله وتوفيقه.
………………………………………………………
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب،
بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
- إبلاغنا عن الخطأ الإملائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
في حال أمكان الأستاذان من الشيخ لتبني طباعتها ككتيب يكون صدقة جارية لك.(14/24)
أخي الحبيب لا تحرمنا من دعوة صالحة في ظهر الغيب.
و من خلال اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الجليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
للتواصل:
أخوكم البوراق / anaheho@maktoob.com
واحات الهداية/ http://www.khayma.com/ante99/index.htm(14/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
نحن المسؤلون
فضيلة الشيخ/ سلمان بن فهد العوده
…………………………………………..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أم محمدا عبده ورسوله.
( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد الذي بلغ الرسالة وأدا الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، فجزاه الله عنا وعن أمة الإسلام خير الجزاء.
أحبتي الكرام:
في هذه الليلة ليلة السبت 29/11/1410هـ تنعقد هذه لمحاضرة.
حياكم الله أيها الأخوة، ونحن الآن في هذا البلد الكريم المضياف في الأحساء.
نحن في هجر التي قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
(أنبئت أن دار هجرتي أرض ذلت حرتين فذهب وهلي إلى هجر).
لقد فكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما من الأيام أن تكون هذه البلاد هي دار هجرته ومقامه ومنطلق رسالته وبعثته، وفي هذا من الدلالة والإيماء والإشارة ما فيه.
هذه البلد بلد عبد القيس الذين كانوا من أول الناس إسلاما، من أو القبائل إسلاما ووفودا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وخبرهم في الصحيحين :
(قالوا يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا لحي من كفار مضر، وإننا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فأمرنا بأمر فصل نخبر به من ورائنا وندخل به الجنة).
فأخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبشرهم وأمرهم بخمس ونهاهم عن خمس، أو أمرهم بأربع ونهاهم عن أربع).
بلد أشج عبد القيس الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في الحديث الصحيح:
(إن فيك خصلتين يحبهما الله ؛ الحلم والأناة.
قال يا رسول الله أخصلتان جبلت عليهما أم اكتسبتهما؟
قال بل جُبلت عليهما.
قال الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه ويرضاه).(15/1)
أحبتي الكرام:
أقول لكم أن الموضوع الذي سأتحدث عنه موضوع في غاية الخطورة، بلا أدنى إشكال، وهو موضوع خطير بالنسبة لكل فرد منا.
بالنسبة لكل مسلم سواء كان أبا أو ابنا
معلما أو طالبا
كبيرا أو صغيرا
مسئولا أو موظفا
مزارعا أو تاجرا، أم أي شيء آخر.
ما دام مسلما فهذا الموضوع في الغاية العليا من الأهمية والخطورة بالنسبة له.
ألا وهو تحديد من المسؤول ؟
وهذا الموضوع مع أهميته، ففيه طرافة وفيه عجب وفيه إثارة جيدة لمن عقل وتفهم وتدبر.
أول نقطة في هذا الموضوع أتناولها كمقدمة إليه هي:
بيان قيمة الفرد في الإسلام.
فنحن نجد أن الإسلام جعل الفرد هو مناط التكليف ومركزه، لم يخلق الله الإنسان ملكا مجبولا على الخير والاستقامة والطاعة، كما أنه لم يخلقه شيطانا رجيما متمحضا للشر والفساد، وإنما جعله إنسانا قابلا للهدى والضلال والخير والشر ولإيمان والفجور:
يقول الله تعالى:
(ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها).
ولذلك جعل الله عز وجل الجزاء الأخروي كله منوطا بالعمل الذي تعمله أنت والشيء الذي تختاره، فالله عز وجل يقول مثلا فيما يتعلق بالجزاء الأخروي:
يقال لأهل الجنة كما قال الله عز وجل: ( أدخلوا الجنة بما كنت تعملون).
ويقول عز وجل: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شر يره).
ويقول عز وجل: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ، لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا).
إذا كل إنسان مكلف مسؤول يوم القيامة ومحاسب وموقوف.
يقول الله عز وجل: (وقفوهم إنهم مسؤولون).
الأب لا ينفع ابنه، والابن لا ينفع أباه، والزوج لا ينفع زوجه.
يقول الله عز وجل: (يوم لا يغني مولا عن مولا شيئا ولا هم ينصرون).
من هو المولى ؟
القريب، ابن العم، السيد، الزعيم، الحبيب كل هؤلاء بعضهم مولى لبعض.
يقول الله عز وجل: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).(15/2)
ويقول الله عز وجل:
(يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يوم إذ شأن يغنيه).
إذا الإسلام جعل الجزاء الأخروي فرديا، أنت توقف يوم القيامة للحساب فُرادا.
يقول الله عز وجل: (ولقد جئتمونا فرادا كما خلقناكم أول مرة، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم).
المال والعبيد والأولاد والسلطان والجاه والمنزلة والمكانة، كلها تركتموها وراء ظهوركم، وجئتمونا فرادا حفاة عراة (كما بدأنا أو خلق نعيده).
إذا هذه بديهية أيها الأحبة:
يجب أن تحيا في نفوسنا، الجزاء يوم القيامة جزاء أخروي كل إنسانا يوقف بمفرده، ما فيه احتمال وإمكانية أن يتبرع أحد لأحد، ولا يستطيع أحد أن يملي جوبا لأحد، هذا غير وارد وغير متصور. المسؤولية فردية.
وكذلك الحال بالنسبة للواقع الدنيوي فإن القرآن الكريم صريح وظاهر في أن كل ما يلاقي الناس في هذه الدنيا من خير أو شر فهو يسبب أعمالهم.
أسمع قول الله عز وجل مثلا:
(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير).
كل مصيبة، حتى المصيبة الدنيوية التي تنزل بك فهي بما كسبت يداك.
ويقول الله عز وجل لأصحاب رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حين انهزموا في معركة أحد، وتعجبوا ، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يهزمون بزعامة محمد ابن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأمام الطغمة الفاجرة الكافرة من عتاة قريش وفجارها.
يهزمون ويقتل منهم من يقتل، وتسيل الدماء ويسقط الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حفر أب عامر الفاسق، ويشج رأسه وتكسر رباعيته وتدخل حلقت المغفر في وجنته الكريمة ، بأبي هو وأمي (صلى الله عليه وآله وسلم).
تعجبوا، كيف يحدث هذا ؟
(قالوا أنى هذا) كيف حدث هذا ؟
استغربوا ما كانوا يتصورون أن المؤمن يُهزم أمام الكافر.
فقال الله عز وجل:
(أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّا هذا قل هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير).
قل هو من عند أنفسكم، إذا أنتم المسؤولون.(15/3)
وأنتم السبب دون غيركم في هذه الهزيمة النكراء التي لم تحسبوا لها حسابا.
وكذلك يقول الله عز وجل:
(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا).
فكل فساد يظهر في البر أو في البحر فهو بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا.
حتى حين ينظر الإنسان السطحي المغفل فلا يدرك، فإن العقلاء يدركون أن كل فساد يقع في البر أو البحر أو الجو أيضا فإنه بما كسبت أيدي الناس، وأنه ليس كل العقوبة إنما بعض الذي عملوا، هو مجرد إيماء، تحذير، تنبيه، وخز لعلهم يرجعون.
وفي ما يتعلق بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتعرفون الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
( يا معشر المهاجرين خمس خصال إن ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن)
يعني ذكر خمس خصال من المصائب والنكبات وعقوبتها في الدنيا.
لا أريد أن أذكر الحديث فهو بطوله معروف.
لكن مثلا ذكر عقوبة الزنى، وهي ظهور الطواعين والأمراض التي لم تكن في أسلافهم، الهربس الإيدز إلى غير ذلك من الأمراض الجنسية.
ذكر الربا وأنه سبب لأن يبتلى الناس بانحباس المطر عنهم.
ذكر ظلم السلاطين إلى غير ذلك من العقوبات التي رتبها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بعض المعاصي التي يفعلها الناس في هذه الدار.
إذا هل نستطيع أن نقول أيها الأحبة أننا جميعا مدركون موقنون إيقانا كاملا لا ريب فيه أن الإنسان وحين نقول الإنسان نقصد العاقل، أما المجنون فشأنه آخر، رفع القلم عن ثلاثة، لكن العاقل يدرك أنه مسؤول مسؤولية كاملة عما يفعل في الدنيا وفي الآخرة؟
وأن كل ما يقع من إنسان فردا كان أو طائفة أو أمة أو دولة، أو للبشرية كلها من المصائب الدنيوية أو العقوبات الأخروية فإنما هي بسبب ما عملوا.(15/4)
هذه نتيجة بديهية مسلّمة لا يلتبس الأمر فيها، ولا يختلف فيها اثنان، ولا ينتطح فيها عنزان ( كما يقول العرب ).
أنتقل إلى نقطة ثانية وهي مهمة في الموضوع بعد هذه المقدمة وهي الحديث عن واقع المسلمين، وواقعنا نحن اتجاه هذه القضية.
قضية المسؤولية فيما يقع، مسؤولية من؟
أخطر مشكلة تواجه الأمة هي غفلة الفرد عن قيمته، وعن مسئوليته وظنه أنه شيء وكم مهمل لا قيمة له ولا وزن ولا اعتبار، وهذه من أخطر الأمراض التي إذا وجدت فتكت بالناس.
تأتي إنسان فتقول له مثلا:
لماذا تفعل كذا ؟ أو يفعل غيرك كذا أو لماذا حدث كذا ؟
فيقول أنا مسكين، ليس لي دور، ما بيدي شيء، ما بيدي حل ولا ربط ولا أمر ولا نهي، أنا وجودي كعدمه، أنا صفر على الشمال، ويظل الإنسان يوبخ نفسه بطريقة مهينة حتى لكأنك أما م لا شيء، أو أمام إنسان فقد شعوره بذاته وبإنسانيته، وببشريته، وبتكريم الله تعالى له، فضلا عن شعوره بالمسؤولية التي ألقاها الشرع على كاهله، وعلى كتفه.
ولذلك أيها الأخوة تقول الإحصائيات إن عدد المسلمين الآن ألف مليون، مليار إنسان، وعدد المسلمين يعتبر من أعظم الطوائف أو المجموعات التي تدين بدين سماوي في هذه الدنيا، بل لعلهم يحتلون المركز الأول أو ينافسون عليه.
لكن هذا العدد الكبير، ما مدى انتمائهم إلى هذه الدين وارتباطهم به وشعورهم بهذا الانتساب؟
أم أنها مجرد أرقام رصيد له ؟
المشكلة أن الجواب الثاني هو الراجح وأن أكثر المسلمين هم بالصورة التي سوف أتحدث عنها وأشير إلى جوانب منها.
في واقع الأمة الإسلامية ضاعت قيمة الفرد في نفسه، وبالتالي ضاعت قيمته في من يتعامل معه.
فمثلا إذا كان الإنسان لا يحس بقيمته، فمن باب أولى أن الآخرين لا يحسون بقيمته أيضا.
الإنسان إذا كان هو نفسه لا يحس بقيمته
زوجته مثلا لا تحس بقيمته، أولاده لا يحسون بقيمته.
المسؤول عنه في الدائرة الحكومية لا يحس بقيمته.
المسؤول عنه في البلد لا يحس بقيمته.(15/5)
المسؤول عنه في الدولة لا يحس بقيمته.
العدو من باب أولى لا يحس بقيمته ولا يحسب له أي حساب.
مثلا الآن تلاحظون أحبتي أن المسلمين إذا نزل بهم مصيبة يسرعون إلى نداء ومخاطبة الأموات، إما على سبيل الجد وإما على سبيل التعبير والكناية والمجاز.
فكم من مسلم إذا احترق بيته بدلا من أن يقوم هو بالإطفاء أو ينادي المطافئ تجده يصرخ يا فلان يا عبد القادر يا علي حسين يا فلان يا علان.
يريد من هؤلاء الأموات الرفات الذين في قبورهم أن يهبوا من نومهم ليسرعوا بأنابيب المطافئ حتى يطفئوا هذا الحريق الذي يشتعل في بيته.
إذا نزلت به مصيبة من مرض أو فقر أو فقد ولد صار ينادي الأموات.
ومن جهة أخرى تجد بعض المسلمين يعبرون بتعبير له دلالته عن شعورهم بالأسف من الواقع بنداء الأموات، مثلا امرأة تقول الشعر وقد لاحظت ما تعانيه الأمة الإسلامية من فقر وتخلف ومرض وجهل وذل إلى غير ذلك.
فبدلا من ن تنادي نفسها وتنادي أخواتها ومثيلاتها وتنادي المسلمين كما قالت المسلمة الأولى لما أهينت واضطهدت قالت وامعتصماه، تصرخ بالمعتصم الحاكم في بغداد فيقول المعتصم قد أجبتك، ويجهز جيشا مائة ألف ويذهب لعمورية حتى يفتحها.
تسعون ألفا كأساد الشراء نضجت….. جلودههم قبل نضج التين والعنب
يا يوم وقعة عمورية انصرفت ………عنك المونى حفّلا معسولة الحلب
بدلا من ذك أصبحت اصبحت تنادي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تخاطبه فتقول:
يا مرسلا جاء للدنيا فأنقذها…..من البلاء وعافاها من السقم
اذكر لربك أنا أمة جهلة……فقادها الجهل للبأساء والعدم
واحد آخر شاعر بائس خبيث مخبث وهو الشاعر المشهور قباني، له قصيدة في لحظة من لحظات يقظته وانتباهها من السكر الدائم المزمن، قصيدة طويلة جميلة يتكلم فيها عن واقع الأمة الإسلامية وما حل بها من النكبات والمصائب، ويقول ضمن هذه القصيدة:
وقبر خالد في حمص تلامسه……فيرجف القبر من زواره غضبا(15/6)
ورُب ميت على أقدامه انتصب…….يا رُب حي رخام القبر مسكنه
يا ابن الوليد ألا سيف تأجره..……فإن أسيافنا قد أصبحت خشبا
رجعنا ننادي الأموات، عجزنا عن الأحياء فرجعنا ننادي الأموات، يريد من خالد أن يقوم ليأجره سيفه المسلول الذي انتصر في المعارك الإسلامية. لماذا ؟
لأن أسيافنا قد أصبحت خشبا.
وأذكر شاعرا آخر كان ينادي صلاح الدين ويقول:
قم يا صلاح الدين طهر أرضنا….من كل معترق ومن ماسوني.
المهم صلاح الدين، وخالد وغير خالد والأموات كلهم لا ينفعون الإنسان شيء، ولا يغنون عنه من الله شيء، ولا يجوز للإنسان أن يدعوهم أو يناديهم.
ليس مقصود الآن هو الكلام عن هذه النقطة، لكن مقصودي أن أقول لماذا أصبحنا ننادي الأموات ؟
لأن الأحياء فقدنا ثقتنا فيهم، فقدنا شعورنا بقيمة الأحياء في الوقت الذي نشعر فيه بقيمة الأموات، ونعرف ماذا صنع خالد ابن الوليد، ونعرف ماذا صنع صلاح الدين، ونور الدين وعماد الدين ولذلك نناديهم نريد أن يجددوا لنا الأعمال.
طيب لماذا لا ننادي محمد وصالح وعلي وأحمد وإبراهيم من الأحياء الذين يعيشون على أقدامهم، لماذا لا نناديهم لأنهم أموات.
ورُب ميت على أقدامه انتصب…….يا رُب حي رخام القبر مسكنه
فنحن نشعر بأن لا قيمة لهم لا تأثير، لا يحسون بالمسؤولية فننادي غيرهم.
هذه صورة تدلك على عدم شعورنا بالمسؤولية اتجاه هذه الأعمال.
صورة أخرى من صور الغيبوبة التي نعيشها نحن الآن كأفراد، ونعيشها أيضا كأمة، وهي قضية عدم اعتبار المسلمين، وعدم النظر إلى إرادتهم.
كم من موقف أو عقد أو تصرف يفعله إنسان واحد بالنيابة عن الأمة كلها، أو بالنيابة عن قطاع كبير من الأمة جزء من الأمة. لم يأخذ فيه رأي مع أنه أمر مصيري يتحدد بناء عليه أشياء كثيرة.
على سبيل المثال قضية الصلح مع اليهود، هذه القضية ليست قضية فرد بعينه، ليست قضية محمد أو صالح أو علي أو أحمد أو فلان، هذه قضية الأمة كلها.(15/7)
فمن هو الذي خول شخصا من الأشخاص أن يتصرف بالنيابة عن المسلمين كلهم ليبرم صلحا أو لا يبرم صلحا، أو يتقدم أو يتأخر أو يسالم أو يحارب أو ما أشبه ذلك؟
هنا غيبة المسلمين أو غيبوبتهم جعلت إرادتهم معدومة، لا أحد ينظر إلى إرادتهم، لا أحد يأخذ رأيهم أو يستشيرهم، لماذا ؟
لأنهم هم أنفسهم فقدوا شعورهم بقيمتهم كأفراد، فقدوا شعورهم بقيمتهم باعتبارهم مسلمين مكلفين محاسبين ومسؤولين حتى في الدنيا مسؤولية تاريخية، فقدوا ذلك وبالتالي الناس فقدوا شعورهم بهم وصاروا يتصرفون دون الرجوع إليهم، فصار الأمر كما قال الأول:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم……ولا يستأمرون وهم شهود
صورة ثالثة، تسمعون يوما من الأيام أنه في روسيا قتل ستة من اليهود، فقامت الدنيا وما قعدت، وأجهزت الإعلام تشتغل ليس في إسرائيل فقط بل في دول العالم الغربي كله ليلا نهار.
لماذا حقوق الإنسان مهدرة؟
لماذا يقتل هؤلاء، بأي جرم، وما هي المحاكمة التي تعرضوا لها؟
أين مواثيق الأمم المتحدة؟ وهكذا نسمع جلبة.
ستة من اليهود، ثم ماذا ؟
ستة من اليهود من أخوان القردة والخنازير، لا وزن لهم ولا قيمة ولا اعتبار، ( إنهم إلا كالأنعام بل هم أضر).
لكنهم يشعرون بقيمتهم وبالتالي قومهم يشعرون بقيمتهم فيحركون العالم كله أمام هؤلاء الذين قتلوا.
لكن بالنسبة للمسلمين؟
ما هي مسالة ستة أو ست مائه، المسالة بالألوف، وأحيانا شعوب بكاملها تباد بأكملها، ولا أحد يتحرك، دمائنا رخيصة عند قومنا وعند الأعداء، أما الأعداء فلا يلامون، لكن المشكلة أن دمائنا رخيصة حتى عند أقوامنا، وتأتي قضية ( أكلت يوم أكل الثور الأبيض أو السود).
المهم أن المسلمين دمائهم رخيصة تسفك، ولعلكم يوميا تسمعون وجبات من دماء المسلمين، كما نجد الآن من آخر القضايا قضية كشمير.(15/8)
حينما تقرأ الأخبار، والله الذي لا إله غيره أننا نشك في صدقها، مع أن الإنسان أحيانا مقتنع أنها صحيحة، ولكن من شدة غرابة الخبر وسكوت أجهزة الإعلام عنه، يقول الإنسان معقول ؟
معقول يقتل هؤلاء الآلاف المؤلفة ؟
معقول تباد قرى باكمالها وأحيانا بالقنابل ؟
وأحيانا بالأسلحة الكيميائية ولا أحد يتحرك ولا أحد يلتفت ؟
نعم معقول، لأن هؤلاء المسلمين أو كثيرا منهم فقدوا إحساسهم بقيمتهم ففقد الآخرون الإحساس بهم، وفقدوا الترابط الذي هم نتيجة للشعور بأننا أصحاب هم واحد، كما كان يقول الشاعر أحمد شوقي:
نصحت ونحن مختلفون دارا……..ولكن كلنا في الهم شرق
نحن نقول كلنا في الهم إسلام ومسلمون.
فلو كان كل إنسان يحس بمسئوليته عن نفسه حقيقة لأحس بمسئوليته عن إخوانه في كل مكان مصداقا لقول الحق عز وجل:
( إنما المؤمنون أخوة ).
وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ترى المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).
تخلي المسلمين عن مسؤولية ما يحدث:
صورة أخرى من صور تخلينا عن المسؤولية، لو سالت أي فرد منا، ودعونا ممن هم خارج المسجد الآن، خلونا واقعيين حتى ما نتكلم عن أحد غائب من أجل يكون الكلام له قيمته يعتبر كل فرد أن الخطاب يخصه دون غيره.
لو سألنا إخواننا الموجودين في المسجد:
هل أحد منا يشعر أن له دور أو مشاركة في قضية احتلال اليهود لفلسطين ؟
أو احتلال الروس لأفغانستان، أو انتشار المنكرات في المجتمع مثلا ؟
أو في ضعف الأمة الإسلامية ؟
أو بالتخلف العلمي الذي نعيشه ؟
أو في الوضع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه الأمة ؟
قد تجد تسعين بالمائة على الأقل يقول لا ليس لي دخل، أنا ليس لدي دور، أنا قائم بعملي خير قيام وليس لي بأعمال الناس: ( ولا تزر وازرة وزرا أخرى ).(15/9)
إذا فقدنا شعورنا بالأحداث الكبار، دعك من الأحداث العالمية مثل قضية سقوط لشيوعية، أو قضية التحالفات الجديدة، هذه أمور وأحداث عالمية دعك منها.
لكن دعونا في الأحداث الإسلامية، بل دعنا من الأحداث الإسلامية البعيدة، دعنا في الأحداث الإسلامية القريبة التي تحدث في المجتمع.
والله أكثرنا يقول:
ليس لنا علاقة، من نحن ؟
إنسان في أخر المشوار و في أخر القائمة، يعني نقطة لا وزن لها ولا اعتبار، هذا تقديرنا لأنفسنا.
وهكذا أصبحنا نعيش سلبية قاتلة اتجاه كل ما يحدث قريبا كان أو بعيدا.
حتى صح وصدق علنا قول القائل:
ما أكثر الناس، لا بل ما أقلهم …… الله يعلم أني لم أقل فلتا
إني لأفتح عيني حين فتحها….. على كثير ولكن لا أرى أحدا
وأذكر لكم قصة أو نكتة في الواقع:
أحد العلماء كان عنده خلق كثير من الطلاب، له حلقة يحضرها ألوف، فخشي من الحاكم أو السلطان، وقال هذا العالم له جمهور وله رواد.
فأحضره يوما من الأيام وقال له:
في لواقع أني غير مرتاح لهذه الجموع الغفيرة التي تجلس عندك، وإني أخشى منهم.
قال له العالم، لا تخف من هؤلاء، ما عندي أحد.
قال كم عندك في الحلقة ؟
قال عندي واحد ونصف، فضحك الحاكم وقال لقد حضرت الحلقة ورأيتهم ألوفا مؤلفة.
قال أبدا، أصدقك الحديث ما عندي إلا واحد ونصف.
قال كيف، قال العالم سوف أريك الآن.
فأخذ بيد الحاكم وخرج به إلى الردهة يطلون على الشارع.
جاء الناس إلى المسجد يريدون الحلقة فما وجدوا الحلقة، سألوا أين الشيخ أو أين العالم؟ قيل ذهب إلى السلطان فقد دعاه.
فكل ذهب إلى حال سبيله، هذا في دكانه، وهذا في مزرعته، وهذا في مدرسته، وبعضهم يركض ركضا لا يدري أحد أنه ينتسب إلى هذه الحلقة، والثالث والرابع المهم لاذوا بالفرار.
ثم جاء فلاح عل كتفه آلة الحراثة فقال أين الشيخ ؟ قالوا ذهب إلى السلطان.(15/10)
فلم يلوي وذهب حالا إلى السلطان، فلم وقف أما القصر ووجد الجنود والحرس والأعوان والشرط والسياط والسيوف، فلم يلتفت إليهم بل صار يشق الصفوف شقا.
فقال العالم للحاكم، أترى هذا ؟ قال نعم. قال هذا واحد.
فقال الحاكم طيب أين النصف ؟ قال يأتيك الآن.
بعد قليل جاء إنسان فصار يتقدم خطوة ويتأخر خطوة، ويلتفت يمنة ويسرة، ويريد أن يدخل ثم يرجع، ثم يريد أن يدخ ثم يرجع.
فقال العالم هذه هو النصف، ولو وجد آخر مثله لمسك بيده ودخلوا مثل الأول، ولكن ما وجد أحد فهو نصف رجل يحتاج إلى نصف ثاني ليكمله.
إذا الأمر كما قال أحد شعراء الشام وهو يصف مصائب المسلمين و يتحدث عما نزل بهم فيقول:
مالي أرى الصخرة الشماء من كمد……تذوي وعهدي بها مرفوعة العنق
ومنبر المسجد الأقصى يئن أسى….. قد كان يحبوُ الدنى من طهرها الغدق
اليوم دنسه فجر ألم به من………. غدر شعب اليهود الداعر الفسق
وللعذارى العذارى المسلمات على……… أعواده رنة الموفي على الغرق
لو استطاع لألقى نفسه حمما…….صونا لهن ودك الأرض في حنق
وظلت الكعبة الغراء باكية……..وغم كل أذن غمة الشرق
هذه مصائبنا، ثم يقول:
كثر ولكن عبيد لا اعتداد به…..جمع ولكن بديد غير ملتصق
إذا مصائب كثيرة بعددها، لكن نحن بكثرة لا اعتداد بنا، ليس لنا مواقف صحيحة صريحة، ولا قوة ولا شجاعة، ولا شعور بقيمتنا، ولا شعور بمسئوليتنا.
وأذكر في هذه المناسبة مثلا موجود عن بعض الشعوب يقول:
( أن المشاكل التي نعانيها صنعها من قبلنا، وسيحلها من بعدنا، أما نحن فأبرياء ).
إذا نحن ليس لنا من الأمر شيء، صنع لمشاكل التي نجدها ونعانيها ونصطلي بنارها صنعتها أجيال سابقة، ولن نحلها تحن إنما سيحلها الجيل اللاحق.
أما نحن فخرجنا لنصبح بين القوسين ليس لنا من أمر شيء، لم نصنع هذه المشكلات، يعني لم نعترف بخطئنا في المشاركة، وبالتالي لم نعترف بدورنا الملقى على عواتقنا بوجوب حل هذه المشكلات أو المساهمة في حلها.(15/11)
هناك تحديا كثيرة تواجه الأمة الإسلامية.
وسوف أضرب بعض الأمثلة لهذه التحديات أيضا، وإلا فالواقع أن الموضوع طويل كما أسلفت:
مثلا من التحديات المستوى العلمي والحضاري والاقتصادي المتردي للأمة الإسلامية:
هذا أمر الكلام فيه واضح، فالأمم الغربية سبقتنا بمراحل في هذا الباب، بل نحن لم ندخل حلبة السباق إلى الآن، ولم نتسأل عن سبب هذا التخلف ومن المسؤول عنه ؟
تجد لا أحد منا يستطيع أن يقول نحن المسؤولون عن هذا الأمر، بل قد نحّمل المسؤولية جهات أخرى، قد نحّملها مثلا الحكام، أو نحّملها جيلا معينا، أو نحّملها الظروف إلى غير ذلك من الأشياء التي نعلق عليها أخطأنا كما سوف أشير إليها في نهاية المحاضرة.
من التحديات التي تواجه المسلمين اليوم قضية وجود اليهود.
واحتلالهم لأراضي المسلمين وتوسعهم يوما بعد يوم، طيب كم عدد المسلمين ؟
قلنا ألف مليون مسلم كما تقول الإحصائيات ؟
وكما قال الأفغاني أو غيره :
( لو أن كل مسلم نفخ على اليهود نفخة لطاروا ).
ألف مليون لو كل واحد نفخ جهة إسرائيل لطارت إسرائيل من هذه العواصف.
ويقول آخر :
( لو كل مسلم بصق على اليهود بصقة لغرقوا).
هذه حقيقة، يعني لو أن كل إنسان قام بدوره ولو دور ضئيل جدا لكانت النتيجة أننا استطعنا أن نطرد اليهود، ونفس الكلام يقال على الشيوعيون الذي يحتلون أفغانستان، أو النصارى الذي يحتلون بعض البلاد الإسلامية.
الكلام واحد لو أن كل مسلم أدى دوره لزالت تلك المشكلات.
من التحديات قضية المنكرات.
المجتمع بلا شك مليء بالمنكرات ظاهرة ومستترة على كافة المستويات:
منكرات إعلامية.
منكرات اقتصادية.
منكرات اجتماعية، إلى غير ذلك من أنواع المنكرات.
ولم نأتي نتسأل من المسؤول عن إزالة هذه المنكرات ؟
لا يوجد أحد إلا من رحم الله يستطيع أن يقول أنا مسؤول إلا النادر.
ولذلك يقول لي أحد الأخوة من طلاب العلم:(15/12)
يقول عجبت حيث التقيت بأناس كثيرين حتى من طلاب العلم، بل حتى من العلماء فما تشتكي لواحد منهم منكرا، إلا ويقول اذهب إلى فلان، انظر فلان، تكلم مع علان، قولوا كذا أو افعلوا كذا.
يكتفي فقط بالتوجيه إلا شخص واحد من خلال تجربتي - وهذا رأي المتحدث – إلا شخص واحد وهو سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله).
ما ذكرت له يوما من الأيام منكرا أو خطئ وقال لي اذهب إلى فلان أو علان أو أفعل كذا.
وإنما قال نفعل إن شاء الله، نخاطب الولاة، نتحدث، ننكر، نبلغ.
يعني رجل يشعر بمسئوليته هكذا تستطيع أن تصفه.
طيب أريتم لو أننا قاطعنا المنكرات، ما لذي يحدث ؟ سوف تكسد أسواقها.
مثلا شريط سيئ أو أغنية، مجلة، كتاب، أي بضاعة محرمة لو قاطعناها من يشتريها ؟
لا أقول سوف تكسد أو تنقطع عن هذه البلاد بل ستتوقف عن الصدور، فإن كثيرا من المجلات والكتب وغيرها تجد في أسواق هذه البلاد من الرواج والانتشار ما لا تجده في أي بلد آخر.
فلو كل واحد منا قاطع هذه الأشياء، مجرد حل سلبي ومشاركة سلبية أنك تقاطع هذه المنكرات لانتهت هذه المنكرات وزالت.
بنوك الربى، لو أن كل واحد منا لا يتعاطى الربا، ولا يودع أمواله، ولا يأخذ الفوائد لانتهت.
لكن أنا وأنت والثاني والثالث نقول حرام ونأخذه، وبالتالي أصبحنا نعمر بأيدينا وبأموالنا وبجهودنا هذه المنكرات التي نتحدث عنها ونقول أنها منكرات.
أمر ثاني حينما ترى منكرا فما دورك ؟
تقول ليس لي دور، وأقول والله لا يوجد أحد يا أخواني ليس له دور، وأضرب لكم مثلا بسيطا.
قبل شهر فتحت صندوق البريد فوجدت فيه رسالة، ففتحتها فوجدت فيها خطاب من شاب مجهول لا أعرفه أو شيخا أو غير ذلك يقول لي:(15/13)
فلان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، يصلك مع هذا الخطاب قصاصة من جريدة كذا وفيها إعلان عن حفل غنائي سوف يقام في بلد كذا في يوم كذا وهو حفل مختلط كما يدل عليه الإعلان، نرجو أن تقوموا بما تستطيعون في هذا المجال. ووجدته أرفق مع الخطاب قصاصة من إحدى جرائدنا المحلية وإذا فيها:
( إعلان عن حفل يقام بعد عيد الفطر المبارك، وحفل مختلط للعائلات رجال ونساء يحييه الفنان المحبوب فلان، والفنان الموهون علان.، وللحجز والاستفسار اتصلوا بوكالة كذا هاتف كذا).
التوقع أن هذا الشاب كتب عدة رسائل لعد ة أشخاص، فقام بدوره، فلما وضع أمامي القضية وجدت أن الأمر سهل، ولا يتطلب مني أنا أيضا أكثر من أن أتصل بالهاتف على هذه الوكالة من أجل المناصحة والمحبة في الله.
وفعلا اتصلت فقالوا لي أن هذا قد الغي وكتبنا في لجريدة نفسها اعتذارا، وكان خطئ وقعنا فيه، وأبلغنا الجهات المختصة بطريقة الوقوع في الخطأ حتى لا يتكرر في غيرنا، وكان ذلك بفضل الله وبفضل تدخل الطيبين الصالحين طلاب العلم، وإن شاء الله نعدكم أنه لن يتكرر.
هذا جيد، هذا حسن، إذا الغي الحفل بسبب بالتأكيد خطوة كالخطوة التي حدثت.
ومثال آخر:
يوما من الأيام أعلن في أحد الجمعيات، يسمونها جمعيات الثقافة من باب تسمية الشيء بضده، كان أعلن في إحدى هذه الجمعيات بأنه سوف يقام دورة للتدريب على الموسيقى للصغار من سن ثلاثة عشر إلى ثمانية عشر.
أحد الصالحين صور الخبر الذي فيه هذا وكتب رقم هاتف الجمعية كي يتصل بهم ويناصحهم من يحب أن يقول لهم كلمة طيبة،والكلمة الطيبة لا تضير، ثم أرسلها إلى بعض فلان من الناس الذين يعتقد أنه سوف يكون لهم تأثير. وفعلا كان لهذه القضية تأثير.
وحتى لو لم يترتب عليها إلغاء مثل هذه الدورة، سيترتب عليها أنه في المرة الثانية يحسب الإنسان ألف حساب لمثل هذا العمل الذي يواجه به المجتمع ويقوم به بأمر لا ينفعنا لا في دنيا ولا في دين.(15/14)
إذا يمكن لك أن تفعل شيئا، بالخطاب، بالهاتف، بالكلمة الطيبة، بالنصيحة، بالمراسلة، بأي شيء، وأضعف الإيمان المقاطعة، لا تفعل المنكر، ولا تجلس في المكان الذي يُفعل فيه، ولا تساهم فيه بشكل من الأشكال، هذا أضعف الأيمان.
مثالا آخر، قضية التبرعات:
المسلمون يمرون بتحدي اقتصادي، وأي مشروع في الدنيا لابد له من مال، الجهاد في أفغانستان أو الفليبين أو إريتريا أو فلسطين.
المشاريع الدعوية تحتاج إلى المال.
المسلمون المنكوبون من المهاجرون في أفغانستان أو في السودان أو في غيره يحتاجون إلى المال، إلى كسرة الخبز، إلى الغذاء، إلى الكساء الذي يسترون به عوراتهم، هذا تحدي كبير.
طيب من أين نجمع هذه الأموال ؟
تجد كل واحد منا يقول مالي دور، المسؤول فلان، ويشير إلى ثري من الأثرياء.
لماذا ليس لك دور يا أخي ؟
لو رجعنا إلى الرقم الذي رددناه مرارا، ألف مليون مسلم.
نريد من كل واحد أن يعطينا ريالا واحدا فقط، أحد ما يستطيع ؟
والله نعطي أطفالنا أحيانا عشرة، ومائة، و ألف ريال ونشتري لهم اللعابا بأغلى الأثمان.
إذا نريد ريال واحدا، معناه أننا بحملة تبرعات واحدة سنجمع ألف مليون ريال، كل واحد ما أعطانا إلا ريالا واحدا.
إذا فالقضية الأساسية أيها الأخوة هي فقدان كثير من المسلمين الشعور بذاتهم، الشعور بقيمتهم، الشعور بدورهم ومسئوليتهم، وبالتالي تعطلت كثير من الأعمال، وأصبح من الصعب تحديد المسؤول عنها، ولذلك أقول الخلاصة من النقطة السابقة:
أننا نعمل قدر المستطاع على سبيل الحيلة النفسية أن نتخلص من المسؤولية لنلقي بها على الآخرين، يعني قد ندرك أحيانا أننا مسؤولون، ولكن من باب الخداع، خداع النفس نحاول أن نتخلص من المسئولية بأي شكل لنلقي بها على فلان أو على علاّن.
أنتقل إلى نقطة ثالثة في هذه المحاضرة وهي قضية من المسؤول؟(15/15)
إذا في نظرنا نحن المسلمين الذي غاب عنا إحساسنا بشخصياتنا وقيمتنا وإنسانيتنا ودورنا المنتظر، نلقي بالمسؤولية على جهات شتى:
أولا القضاء والقدر:
فإذا نظرنا إلى المصائب التي تنزل بالأمة، النكبات واحتلال البلاد، التدمير، المشاكل والتخلف، قلنا هذا بقضاء الله وقدره، وربما يذهب بعضنا إلى أن يستدل بالأحاديث الواردة في آخر الزمان وما ينزل بالمسلمين من الفتن وغربة الإسلام وما أشبه ذلك.
طيب القضاء والقدر لم يمنع الكفار من أن يتقدموا بعدما بذلوا الأسباب واستفرغوا الإمكانيات ومشوا في طريق، فما منعهم القضاء والقدر من أن يتقدموا، ويمشوا خطوات، أبدا.
والإنسان هو الذي يصنع واقعه بنفسه، والقضاء والقدر غيب مكتوم لا يعلمه إلا الله عز وجل، فهو سر لا يعلمه الإنسان، المتخلف المتأخر المقصر ما علم أن هذا قدره حتى نفذهن إنما فعل هذا بنفسه ثم بعدما وقع ما وقع أحتج بالقدر.
مثل ذلك تماما قضية الاحتجاج بالقضاء والقدر على المعايب وعلى المعاصي، فإنك إذا تأتي إنسان عاصي فاسق هو بنفسه يخطو خطوات إلى الرذيلة ويمد يده إلى الحرام، ويفتح فمه للقمة الحرام، ويلبس الحرام، ويركب الحرام، ومع ذلك إذا قلت له يا أخي لماذا ؟ قال يا أخي قضاء وقدر.
يا سبحان الله، قضاء وقدر! هذا شأن المشركين :
(سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا نحن ولا آبائنا ولا حرمنا من شيء ). هكذا.
( وقالوا لو شاء الله ما عبدناهم ).
( وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله، قال الذين كفروا للذين أمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ).
أربعة مواضع في القرآن الكريم ذكر الله فيها أن الاحتجاج بالقضاء والقدر على المعايب والمعاصي إنما هو شأن الكفار والمشركين.
أما المؤمن فيعلم أن القضاء والقدر واقع، وأن كل شيئا بقضاء وقدر لكن يجعل المسؤولية مسئولية نفسه كما قال أبونا عليه الصلاة والسلام لما وقع في المعصية وأكل من الشجرة ما قال قضاء وقدر، بل قال هو وزجه:(15/16)
( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ).
ويقول بعض أهل العلم أن من وقع في المعصية فأحتج بالقدر ففيه شبه من إبليس لأن إبليس لما رفض أحتج بالقضاء والقدر.
ومن وقع في المعصية فأستغفر وقال ربنا ظلمنا أنفسنا ففيه شبه من أبيه أدم ومن شابه أباه فما ظلم.
إذا ليس صحيحا أن يخطئ الإنسان فيحتج بالقضاء والقدر، أو يقعد عن العمل فيحتج بالقضاء والقدر، بل الواقع أن القدر غيب من غيب الله تعالى لا يعلمه إلا الله، والإنسان مطالبا بأن يعمل ما ينفعه في عاجل مره وآجله، في دنياه وأخرته على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي.
أما الأمر الثاني الذي نعلق عليه أخطائنا فهو الشيطان:
والشيطان مسلط على بني آدم لا شك، وقد نهانا الله عن أن نتخذه وليا وأمرنا أن نعاديه فقال:
( إن الشيطان لكم عدوا فاتخذوه عدوا ).
لكن أيضا الشيطان لم يكن ليبلغ فينا ما بلغ لو لا أنه وجد عندنا قابلية.
يعني جرثومة الفسق والانحلال والطاعة للشيطان كانت موجودة في نفوسنا، فلما نفث الشيطان وأرسل أشعته المفسدة المضلة وجدت عندنا قابلية وامتصاص في قلوبنا، فأفرزت وأثمرت انحرافا وانحلالا قال عز وجل:
( إنه ليس له سلطان على الذين أمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون).
إذا الشيطان لم يكن ليحقق فينا ما يريد لولا أنه وجد عندنا استجابة، ولذلك هو نفسه يوم القيامة يقوم خطيبا بأتباعه:
( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم).
لاحظ الأمور يوم القيامة برحت وانكشفت وبانت، ولم يعد هناك مجال للتلاعب والتحايل واللف والدوران، أصبحت القضية مكشوفة, وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم.(15/17)
إذا الذي يحتج بكيد الشيطان هو أصاب من جانب فإن الشيطان يكيد، لكنه غفل عن الجانب الآخر أن القابلية لهذا الكيد موجودة عنده.
تماما مثل الجراثيم التي تنتشر أحيانا في الهواء، فهذا إنسان قد أخذ طُعم ضد هذا المرض فلا يضره ولا يؤثر فيه، وذاك إنسان آخر حسمه ضعيف وهزيل أصلا فوجد فيه قابلية ففعلت الجراثيم فعلها فيه، فقد تكون مرضته أو ألقته صريعا ميتا.
أمر ثالث نعلق عليه أخطائنا الظروف والأوضاع لتاريخية الموروثة أو ما نسميه بالزمان:
كثيرا ما نتكلم عن الزمن والحال وتغير الزمن وننسى:
أن لشمس التي تطلع علينا هي الشمس التي طلعت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وعمر.
وأن القمر الذي يطل علينا هو الذي كان يطل عليهم.
وأن الأرض التي نسكنها هي التي سكنوها، والسماء التي تظلنا هي التي أظلتهم.
فالأمور لم يتغير بها شيء والكون هو الكون والحياة هي الحياة والأجرام السماوية هيَ هي، والزمان هو هوَ والليل والنهار هما هماَ والأمر كما كان الأمام الشافعي رضي الله عنه يقول:
نعيب زماننا والعيب فينا……..وما لزماننا عيب سوانا
وقد نهجوا الزمان بغير جرم……..ولو نطق الزمان بنا هجانا
وليس الذئب يكل لحم ذئب…… ويأكل بعضنا بعضا عيانا
نعيب زمان والعيب فينا، وما الزمان ؟
الزمان ليس له حقيقة إلا من خلال وجود إنسان يمر به الوقت فيستخدمه في طاعة أو في معصية في خير أو في شر، في صلاح أو في فساد، ولذلك تلاحظون أن الرسول نهى عن ذلك كما في الحديث القدسي في الصحيحين عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يقول الله عز وجل:
( يؤذيني أبن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار )، وفي رواية ( لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ).
وليس المقصود أن الدهر أسم من أسماء الله تعالى، كلا وإنما بين (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك بقوله في ما يرويه عن ربه أن الله تعالى قال:
( بيدي الأمر أقلب الليل والنهار).(15/18)
يعني أن الدهر إنما هو مخلوق لله عز وجل يمر على الناس ويتقلب عليهم بإرادة الله تعالى.
والناس يفعلون في هذا الدهر ويملئونه بما شاءوا، فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه.
الأمر الرابع الذي نلقي عليه أخطاءنا هي قضية البيئة والمجتمع وانتشار الفساد فيها:
وهذا كثيرا ما نتكلم عنه، فإذا واحد منا يفعل عادة سيئة كبيرة أو صغيرة، أفترض أنه يدخن مثلا فتقول له لماذا ؟ فيقول عادات اتخذناه عن الوالدين عن الزملاء عن الجيران، عادات تلقيناه.
فأصبح الواحد منا كأنه مجبور لا خيار له أما هذه العادات.
وكأن الإنسان حين إذ ليس له شخصية ولا طاقة ولا اختيار، إنما هو إنسان يسمع ما يقول له المجتمع فينفذ وكأنه مرآة ينعكس عليها ما يقع في حال الناس، وهذا أيضا غير صحيح بل نحن شاركنا في صنع هذه العادات من جهة وأوجدنا، ومن جهة أخرى استأسرنا لها وقبلناها.
يقول أحد الدعاة كان هناك خطيبا يتكلم على المنابر، وفي يوم من الأيام تكلم عن قضية غلاء المهور، وكثيرا ما ينصح الناس ويؤكد عليهم ويلومهم ويسوق النصوص على ذلك.
كان عنده بنت فجاء من يخطبها فطلب منه مهرا كبيرا، فقال له أنت أمس تتكلم عن الموضوع هذا، قال الخطيب وهل تريد لابنتي أن تكون أقل من بنات الناس.
طيب أين ما كنت تقوله لنا بالأمس ؟
قال هذه عادات الناس هذا المجتمع إذا الناس غيروا أنا أغير.
طيب من يعلق الجرس ؟
هنا أصبحنا كما يقال ندور في حلقة مفرغة، ونستأسر للعادات والعادات الاجتماعية والظروف القائمة وكأننا نعيش في جبرية لا مفر لنا منها.
وحتى في الأمور الأخرى على مستوى أوسع حين نظر مثلا إلى قضية الاتجاهات العلمية.
فالأمة بحاجة إلى علماء، إلى أطباء إلى مهندسين إلى مخترعين ومبتكرين وإلى اقتصاديين يحملون هم الإسلام قبل ذلك وبعده.
كثر من الناس لا يهتمون بهذه القضايا ولا يكترثون لها، لماذا ؟(15/19)
نهم استوحوا إتجاهتهم من خلال نظرة المجتمع ومن خلال واقع الناس، وغفلوا عن الأمر الآخر.
حتى أنك قد تجد أحيانا متخصصا ناجحا في تخصصه، فيدع هذا التخصص ويتجه ليعمل عملا يمكن أن يقوم به غيره، بينما هو يحمل تخصصا نادرا لم يهتم له، لماذا ؟
لأن المجتمع لم يكترث به ولم يلتفت له.
الأمر الخامس الذي نعلق عليه أخطاءنا هو قضية الطبيعة والجبلة الموروثة والأخلاق المأخوذة عن الأباء والأجداد.
فكثير من الناس يحتج بأن هذه طبيعة، أبي كان كذا وجدي كان كذا، وأنا أعترف أن هذا له رصيد من الواقع أحيانا وأقر ب مثال قضية الوسواس.
الوسواس من أسبابه حيانا أسبابا وراثية، فتجد أنه قد يكون في الجد فينتقل إلى الأب ثم الابن بصورة أو بأخرى، هذا قد يحدث لكن ليس صحيحا أن الإنسان مجبور على ما هو مجبول عليه أو على ما ورثه من آبائه أجداده، بل إن التهذيب وارد وممكن، ولذلك تجد الشرع أمر بأخلاق معينة ونهى عن أخلاق معينة، وتجد أن لتربية يمكن أن تصوغ الإنسان صياغة جديدة وتغير مجرى حياته، وتبدل بعض الأخلاق الموجودة عنده وتجدد فيه أخلاقا أخرى حميدة.
فليس صحيحا أن الإنسان يقع أما جبرية حتمية إلزامية لا مفر منها اتجاه ما كسبه من آبائه وأجداده أو اتجاه الطبائع الموروثة.
إضافة إلى أن كل جبلة أو طبيعة فيها إيجابيات، نعم أنت قد تكون ورثت عيوبا من أبيك وجدك، تقول مثلا من طبيعتنا أننا فرضا عندنا جبن وخوف، هذا ورثناه ما نريد ولكن طبيعة.
نعم لكن أيضا آبائك وأجدادك عندهم كرم وأريحية وشهامة ومروءة، لماذا حاولت أن لا تقلدهم في هذه الخصال الحميدة ؟ فبرزت عندك الخصال الذميمة، واختفت عندك الخصال الحميدة.
الأمر السادس الذي نعلق عليه أخطاءنا فهو قضية طبيعة الشعوب:
أحد المستشرقين الخبثاء وأسمه المستشرق (جب)، له دراسات عن المسلمين وعن الأمة الإسلامية، فيحاول هذا الخبيث أن يوحي للمسلمين بأنهم يعيشون نوعا من التخلف العقلي الموروث. فيقول:(15/20)
( طبيعة الشعوب الإسلامية فيها ضعف، عدم قدرة على التخطيط، ليس عندا بعد نظر ).
وهذا أمر في غاية الخطورة لأنه يريد أن يلقي للمسلمين بإيحاء مؤداه أن لا تحاولون أنتم مخلوقون هكذا، وإلا فهذا الأمر منقوض علميا ومنقوض تاريخيا، فلو أتيت بمخ من يسمونه (أنشتاين) صاحب نظرية النسبة، ومخ أي إنسان من المسلمين أو من غير المسلمين قد لا تجد فيه فرقا كبيرا.
ولا تجد أن هناك شعوبا تتميز بذكاء عن غيرها من الشعوب، بل الأمر مشاع بين الخلق كلهم.
أما من الناحية التاريخية فالحضارة في يوم من الأيام كانت هنا، والتقدم العلمي كان هنا، والأسماء اللامعة في مجال الاختراع والطب وغيرها كانت من الأسماء الإسلامية، وقد قام المسلمون بدورهم ببناء وتشييد العلم والتقدم والحضارة بما هو معروف، ولا زالت أوربا تعيش على المناهج العلمية التجريبية الإسلامية.
فنحن قدنا البشرية في يوم من الأيام، وملكنا أقاليم البلاد، وأذعنت لنا الدنيا، وأثبتنا الجدارة في هذا الأمر، وجربنا فنجحنا.
إذا ليست القضية كما يزعم (جب) أو غيره من أعداء الإسلام.
الأمر السابع الذي نعلق عليه أخطاءنا هو أننا نلقي باللوم على العلماء:
فإذا رأينا ما رأينا قلنا أهل العلم، أو فلان أبن فلان، وقد يستشهد بعضنا بالحديث الذي رواه أبو نعيم عن ابن عباس:
(صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس).
تجد أننا نحمل المسؤولية العلماء، وكل ما حصل شيء قلنا فلان الله يهديه، وفلان ما قام بدوره، وفلان ما أدى واجبه، وأحيانا نعمم فنقول أن العلماء لم يقوموا بدورهم ولم يؤدوا واجبهم.
ولست أنكر أن العلماء لهم دور أكثر من غيرهم، وهم رواد الأمة وقوادها وزعمائها الذين يجب أن تكون الأمة كلها ورائهم، لكن يجب أن نتفطن هنا أن إلى القضية الخطيرة والخطيرة جدا:
قضية دورنا نحن كأفراد، العالم لا يقوم بدوره إلا إذا كان ورائه أفراد كثيرون مثلنا، كما كان يقول الفارس العربي، يقول:(15/21)
ولو أن قومي أنطقتني رماحهم…..…نطقت ولكن الرماح أجرتي
يقول لو أن خلفي رجال شجعان، أقويا، صناديد لرأيتم كيف تكون بسالتي وشجاعتي ونكايتي في العدو، لكن خلفي أناسا أعرف أنهم أول من ينهزم في المعركة، وأول من يهرب ولذلك تأخرت الرماح فتأخرت أنا.
والمشكلة أن العالم أحيانا يكون كالقائد بلا جنود، كما ورد:
( ياله مسعر حرب لو كان معه رجال).
أنت لو رميت هذا الحب مثلا في أرض مبلطة، هل تنتظر أن يثمر؟ لا.
الحب قابل لأن ينبت شجرا ولكن بشروط أن يوضع في تربة، ويسقى الماء، ويُتعهد ويُحمى من المؤثرات حتى يثمر، فالعالم بحد ذاته يمكن أن يحدث حركة، نشاط، علم، أمر، نهي، تغيير ولكن بشرط توفر وسائل أخرى وإمكانيات أخرى، بشرط أن يكون ورائه أناس يعرفون قدره، يحفظونه.
أما أن ننتظر من العالم أن يؤدي دوره ونحن ممن يساهم في إسقاطه صباحا مساء، فهذا غير صحيح.
كثير منا وخاصة أهل السنة –مع الأسف- أصبحنا من حيث نعي أو لا نعي نقلل من أهمية علمائنا، فإذا جلسنا قلنا مثلا:
والله فلانا من العلماء له أرض كذا وله مؤسسة في كذا، وعنده كذا وراتبه سبعين ألف ريال.
وإذا كان ذلك كذلك! هل ما هو حلال على غيره أصيح حراما عليه هو؟
من حق العالم أن يستغني، وأن يطلب الدنيا والرزق مما أباح الله له، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وكذا سائر الأنبياء والمرسلين.
وكفا بالعالم فخرا أن يستغني عن الحرام، ويذهب إلى الحلال المباح الذي أحله الله له، ومطلوب منا جميعا ن نساهم في تحريك اقتصاد الأمة الإسلامية بأن يكون لكل فرد من دور.
طيب، أحيانا ما وجدنا للعالم شيء، ووجدنا هذا العالم زاهدا في الدنيا ما عند شيء أبدا، وأعرف بعض أهل العلم يعيشون في بيوت من الطين لا يستطيع الواحد منا أن يجلس فيها ساعة أو ساعتين، ركلوا الدنيا بأقدامهم وجعلوها وراء ظهورهم.(15/22)
ومع ذلك ما يسلم منا هذا العالم فتجدنا نجلس وما وجدنا عليه عيب فنذهب نبحث ونبحث فنقول أولاده غير صالحين، انظر أبنه فلان في كذا وأبنه فلان في كذا.
سبحان الله! هذا إن كان صحيحا:
( فلا تزر وازرة وزرى أخرى ).
( إنك لا تهدي من أحببت ).
وقد يكون من أسباب ما يقع فيه ولده أن هذا العالم كان مشغولا بما هو كبر وأهم، كان يحمل قضية الأمة والمجتمع، فهو يذهب ويأتي أمرا داعيا معلما مرشدا مؤلفا باحثا، ولذلك أنشغل عن القيام بتربية أولاده، أو قصر في ذلك لانشغاله بما هو أهم من باب الموازنة بين المصالح والمفاسد.
أحيانا تجد طالب العلم ينال من العالم، فإذا أصبح الطالب يعرف شيء من العلم، اصبح لا يجد مانعا من أن ينال من أهل العلم، فيقول فلانا أخطئ في كذا وفلان كذا، وإذا وجد أحد ينقل فتوى عالما من العلماء قال:
( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ).
يعني نحن جميعا نساهم في تقليص دور العالم، وتأخيره وبالتالي نقول ما أدى دوره.
العالم يجب أن يقول حين إذ: ولو أنا قومي أنطقتني رماحهم…..نطقت ولكن الرماح أجرتي.
الأمر السابع الذي نعلق عليه أخطاءنا فهو الحاكم:
وكما ورد في الحديث السابق حديث أبن عباس:
(صنفان إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس، العلماء والأمراء).
طبعا الحديث لعلي ذكرت لكم أنه ضعيف لا يصح، بل قال بعض أهل العلم أنه ضعيف جدا، رواه أبو نعيم في الحلية، ولكن يحتج به الإنسان لأنه يوافق هوى ورغبة في نفسه.
فالحديث برئنا من المسؤولية وجعلنا تُبع، فإذا صلح العالِم والحاكم صلحنا، وإذا فسدا فسدنا. والحمد لله رب العالمين، إذا فالحديث لا يصح لا متنا ولا سندا.(15/23)
فنحن نقول السلطان والسلاطين ونحملهم المسؤولية، ولا شك أن السلطان له دوره، دور كبير ومن أهم أدوار السلاطين اختيار المسؤولين الأكفاء وتوليتهم الأعمال، الرجل المناسب في المكان المناسب، وهذه أهمية كبيرة حتى قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما عند البخاري قال :
( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قالوا وما إضاعتها ؟ قال عليه الصلاة والسلام إذا أوكل الأمر إلى غير أهله فأنتظر الساعة ).
فأعظم دور للسلاطين والحكام هو اختيار المسؤولين الأكفاء ووضعهم في المكان المناسب أولا.
ثم محاسبتهم كما كان يفعل عمر فيرسل للناس :
( إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن بعثتهم إليكم ليعلموكم دينكم، وليقسموا فيكم فيئكم). يقسموا بينكم الأموال ويعلمونكم الدين.
ومن الملاحظ أن هناك تناسقا ظاهرا بين وضع الحكام والمسؤولين وبين وضع الناس، فيقول بعض أهل العلم وبعض المؤرخين:
لما وليَ أبو بكر رضي الله عنه وكان رجلا متواضعا، خاشعا ذليلا لله تعالى كان يلبس أبسط الثياب ففعل الناس مثل فعله، فوفد عليه الملوك وأمراء القبائل وغيرها من اليمن ومن أنحاء الدنيا، وكانوا يلبسون التيجان والثياب الفاخرة، فلما رأوا أبو بكر رضي الله عنه خلعوا تيجانهم وثيابهم.
حتى نقل أن ذا الكلاع وهو ملك من ملوك حمير لما رأى أبا بكر وتواضعه وزهده ولباسه خلع لباسه ولبس لباسا عاديا جدا، حتى إنه تواضع وتذلل وكان يوما يمشي في الشارع وعلى ظهره جلد شاه.
ملك، فلما رءاه القوم قالوا فضحتنا يا فلان، أنت سيدنا ورئيسنا بين المهاجرين والأنصار تحمل جلد شاة على ظهرك. فقال والله لقد رأيت خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أرى يسعني أن أسلك غير مسلك خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مادام خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمشي في السوق، ويحمل بضاعته بنفسه ومتاعه بنفسه، فأنا مثله سواء بسواء.(15/24)
ومثل ذلك الأشعث أبن قيس وغيره من الكبار الذين كانوا تعودوا على الأبهة والفخامة والملابس الفاخرة والأموال والعبيد والخدم والحشم، فلما جاءوا وجدوا أبا بكر رضي الله عنه كذلك سلكوا نفس السيرة ونفس المسلك.
ولما جاء عثمان رضي الله عنه، وكان رجل فيه سماحة وجود وكرم وسخاء، والله تعالى فتح على المسلمين الأرض والأموال فكان يعطي الناس من الأموال ويوسع عليهم ويقسم عندهم، حتى يعطيهم اللحم في بيوتهم والأطعمة والملابس وغيرها.
وبالتالي تجد المجتمع كذلك فتجد الصحابة رضي الله عنهم يتوسعون توسعا مباحا بل محمودا في بعض الجوانب، فبنوا القصور والدور والمساكن وغيرها، كما فعل مثلا الزبير رضي الله عنه في الكوفة، والبصرة والشام ومصر والمدينة، وغيره مثل طلحة ابن عبيد الله، سعد أبن أبي وقاص.
وهكذا حتى كثير منهم من خيرة أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل من العشرة المبشرين بالجنة، ولا حرج بل إن هذا مسلك حسن من بعض الوجوه كما قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
( نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح).
وكما قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
( إن الله جميل يحب الجمال ).
وقال عليه الصلاة والسلام:
( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).
فهذا مسلك حسن من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي كل خير.
ومثال ثالث لما ولي على ابن أبي طالب رضي الله عنه جاءه رجل فقال له:
( يا أبا حسن أجتمع الناس على أبي بكر وتوحدت كلمتهم عليه، فلما وليت أنت أختلف الناس عليك وحصل ما حصل) فقال له علي رضي الله عنه: ( أتدري لماذا ؟ ) قال: لا.
الرجل يريد أن يحمل المسؤولية من ؟ يريد أن يحمل المسؤولية على أبن أبي طالب، لكن علي كان فقيها في سنن الله تعالى ولذلك قال لهذا الرجل:
( لأن أبا بكر رضي الله عنه كان يحكم مثلي، أما أنا فصرت أحكم مثلك ).
وبالتالي فيه تناسب بين الراعي والرعية من وجوه عديدة.(15/25)
وهذا أمر مطرد، ولذلك يقولون في أمراء بني أمية لما تولى مثلا هشام ابن عبد الملك وكان رجلا بخيلا ممسكا للمال وبالتالي الناس بخلوا لما تولى.
بل وصار هناك شح في الأموال وفي الإمكانيات وفي وظائف الجند، وفي غيرها، حتى قيل ما مر بالناس عهد وعصر كان أشد عليهم ولا أنكى من عهد هشام لأنه أمسك الأموال وقلت في عصره، فأمسك الناس ما في أيديهم تناسبا مع حاله ووضعه.
ولما تولى حاكم آخر قبله كعبد الملك كما هو معروف وكان يحب الشعر، ولذلك كثر الشعر في عصره ووجد الشعراء مثل جرير والفرزدق والأخطل.
وكان الرجل أيضا عنده إسراف في الدماء والقتل ولذل سخر له من الأعوان من يكون على شاكلته في أكثر البلدان، ولعل من أشهرهم الحجاج أبن يوسف، وكذلك أخوه محمد أبن يوسف في اليمن وغيرهم من الأمراء الجورَه الذين كانوا يفتكون بالناس ويسفكون الدماء.
إذا فيه تناسب وهذا صحيح، لكن هل التناسب بسبب أن الحاكم من الرعية؟
أو بسبب تأثير الحاكم على الرعية ؟
كلاهما موجود وكلاهما واقع، فالحاكم واحد من أفراد الناس يوما من الأيام، مثله مثل أي واحد منهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن له تأثير أكبر من أي إنسان، وهذا لا يُعتقد أنه موضع خلاف.
لكن ينبغي أن ندرك نه حتى حين نتصور أن هناك حاكما أو سلطانا في أي بلد استبد بالناس وأفقد الناس قيمتهم، وجعلهم أصفارا، فإن هذا الأمر يرجع إليهم هم.
بمنظار الشارع يقول الله عز وجل مثلا في القرآن الكريم قاعدة يرسيها الله تبارك وتعالى:
( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ).
مولي بعض الظالمين بعضا، أي نجعلهم أولياء، فمثلا يوم كان الناس أمثال قارون وهامان وأمثالهم سلط الله عليهم فرعون.
ويوم كان الناس مثل عمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وسعد قيض الله لهم مثل ابي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
ولما فسد أمر الناس فسد أمر ولاتهم، فالمر فيه تناسب:
(نولي بعض الظالمين بعضا).(15/26)
ولذلك يقول بعضهم أن الله قيض لعمر أبن عبد العزيز لما ولي أمثال رجاء أبن حي وغيره من الأتقياء العباد الزهاد الفقهاء، وكذلك قيض لعبد الملك ابن مروان وأمثاله الحجاج أبن يوسف وأمثاله من الفساق الضلال الظلام.
وهكذا تأتي القضية (نولي بعض الظالمين بعضا).
ويقول الله تعالى عن فرعون:
(فأستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوما فاسقين).
ما كان فرعون يستطيع أن يقف خطيبا في الناس ليقول:
( أنا ربكم الأعلى ).
ويقول ( يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري).
ما كان يفعل ذلك لو أنه عرف أن أمامه أناس لا قيمة لهم، ولا يمكن أن يردوا عليه، ولا يقاموا بطشه وظلمه بأسه وعناده، بل هم يؤمنون على ما يقول خطأ كان أم صوابا، حقا كان أم باطلا، ولذلك أصبح يقول ما يقول دون أن يتوقع من أحد أن ينكر عليه أو يرد عليه ما قال.
فهناك هناك تناسب واضح وما يقع من هؤلاء فبسبب أن الناس فقدوا شعورهم بقيمتهم كأفراد، فقدوا شعورهم بمسئوليتهم فتسلط عليهم هؤلاء.
الأمر الثامن من الأشياء التي نعلق عليها أخطاءنا هو قضية الكيد الخارجي:
وهذا أمر الكلام فيه يطول لكنني لا أري أن أطيل فيه، لأننا كثيرا ما نرتاح ونستأنس حينما نتكلم عن الكيد الخارجي لأننا أصبحنا أبرياء، لماذا ؟
لأن اليهود هم الذين فعلوا وخططوا، حكماء صهيون، الماسونية، الشيوعية، النصارى، المشركون، الكذا، الكذا.
المهم أصبح أمامنا الآن ألوف مؤلفة من الأمم والأديان والنظريات والمذاهب والجمعيات السرية والمخططات، أصبحنا نلقي عليها كل أخطاءنا.
وهذا مهرب نفسي واضح، ولذلك تجد أن الناس يكثرون من الحديث عنه ويرتاحون لذلك أشد الراحة، حتى أنك تجد الأمة على مستواها العام تلقي بالمسؤولية على من ذكرت.(15/27)
لكن حينما تنتقل إلى الخاصة من الأمة وهم الدعاة، إلى الله في كثير من البلاد تجدهم يلقون بالمسؤولية عن الأشياء التي وقعت لهم، فلا يقولون نحن المسؤولون، بل يقولون المسؤولون هم الحكام في تلك البلاد.
مثلا حاكم بطش بالدعوة في بلد ما، واضطهد وعذب أذى وقتل وعلق على أعواد المشانق، وهذا حدث في بلاد عديدة.
قل ما تجد داعية يقوم فيقول نحن المسؤولون، ويحلل الموضوع ليخرج بنتيجة أن هناك أخطاء في الدعوة، في طريقة الدعوة، في سلوك الدعاة، في أساليبهم كانت أثمرت هذا الاضطهاد.
بل يكتفي بأن يقول هذا هو فعل الحاكم الذي اضطهد وأذى المؤمنين واعتدى عليهم، وانتهت القضية بأن الحاكم هو المسؤول، وخرج الدعاة أبرياء من كل مسؤولية.
والأمة كذلك اليهود والنصارى هم الذين خططوا وفعلوا وأوصلوا الأمة إلى ما وصلت إليه، أما الأمة فبريئة وما فعلت شيء تعاب به.
وهنا نقول كما قلنا سابقا نرجع لمسئوليتنا نحن يقول الله عز وحل حينما ذكر كيد المشركين:
( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ).
لم يكن كيد الأعداء ليبلغ ما بلغ لولا كنا أهل صبر وتقوى:
(وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ).
فالله سبحانه وتعالى يدافع عن الذين أمنوا ويحميهم ويحفظهم من كيد أعدائهم، وإنما الأمر كما قال أحد المفكرين الغربيين :
( إن الأسباب الحقيقة لكل انحطاط هي أسباب داخلية وليست خارجية).
داخلية وليست خارجية، ثم قال:
(وليس علينا أن نلوم العواصف إذا أسقطت شجرة نخرة، لكن علينا أن نلوم الشجرة نفسها).
شجرة أصلا تتمايل آيلة للسقوط فجاءت عاصفة فأسقطتها وجعفتها، ليس المسؤول عن ذلك العاصفة وإنما الشجرة أصلا كانت مهيأة لهذا الأمر.
أختم الحديث بالنقطة الأخيرة والمهمة وهي كيف نستطيع أن نشعر الفرد بأهميته ؟
كيف نستطيع أم نحل المشكلة هذه ؟ نستطيع أن نحل هذه المشكلة بستة حلول أذكرها بإيجاز :
1/ من الضروري أن نشعر بالمسؤولية جميعا.(15/28)
وهذا ضروري أن نحس بالمسؤولية، وأقول أحبتي لو خرجنا من هذه المحاضرة وكل فرد منا يحس بأنه مسؤول، أعتبر هذا كسبا عظيما، ونتيجة جبارة، وهذا أمر واضح لأن الأمر كما قرأت لكم:
( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ).
ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث المتفق عليه عن أبن عمر:
(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
ما استثنى أحدا (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى المرأة، حتى الولد، حتى العبد مسؤول في مال سيده ومسؤول عن رعيته، الجميع راع ومسؤول عن رعيته، إذا القضية الأولى أن نشعر جميعا بالمسؤولية اتجاه ما يقع في القريب والبعيد، لا بد من ذلك أولا.
2/ من أهم الوسائل تحقيق الشورى.
أحرص على تحقيق الشورى ولها أثر عظيم في إشعار الفرد بقيمته، وذلك لأنك إذا استشرت الإنسان جعلته أما مشكلة يفكر فيها ويحس أنه طرف فيه.
الشورى على كل مستوى، خذ مثلا أنت تريد أن تربي أولادك أستشرهم في أمورهم.
إذا أردت أن تشتري له ثوبا أو حتى لعبة أو أي قضية فأجعل له رأي في هذا الموضوع.
عوده على أن يساهم في التفكير في هذه القضايا وأن لا يكون تعود على أن هناك أشياء تفرض عليه وتقدم له فقط، لا بد أن ننفذ الشورى.
الأستاذ مع طلابه، الداعية مع من يدعوهم إلى الله ويربيهم على المنهج الصحيح، فيربيهم على الشورى، وأن يكون الأمر أمرنا جميعا هذا شأننا كلنا، حتى لو فرض ووقع خطأ في ما بعد نتحمله جميعا، فلا نرجع ونقول أنت المسؤول فأنت فعلت شيئا باستبداد دون رأي منا ولا مشورة.(15/29)
لا نحن جميعا تشاورنا وانتهينا إلى هذا الأمر فإن كان خطأ فنحن جميعا مسؤولون عن هذا الأمر الذي وقع، ولهذا لم يكن أحد أكثر مشاورة من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه مع أنه معصوم ومؤيد بالوحي من السماء، لكن ليعلم الناس إن من أهم وسائل إشعار الناس بقيمتهم أن يشاورهم، ولذلك لا شي يذهب قيمة الفرد مثل الاستبداد.
إذا كان الإنسان مفروضا عليه كل شيء حتى الأثواب التي يلبسها، والمدرسة التي يدخلها، والعمل الذي يقوم به، والكتاب الذي يقرأه، والشريط الذي يسمعه، كل شيء مفروض عليه وليس له فيه خيار.
هنا يفقد الشخص قيمته كإنسان ويصبح مجرد آله.
3/ أن نحرص على أن نُشرك الناس في تحميلهم المسؤولية.
في كل شيء، في الدعوة، في التعليم، في قضاء الوقت، ونجعل للسمع والطاعة حدودا، والمشكلة أحيانا أننا نخلط بين قضية السمع والطاعة، أو نجعل السمع والطاعة بديلا عن قضية تحمي الناس المسؤولية.
أنت إنسان في عمل معين أستاذ، مشرف في مدرسة.
في مركز صيفي، في حلقة تعليم، في حلقة تحفيظ قرآن.
أب في بيتك كما أسلفت، أي صورة من الصور.
فرق بين أن تكون والله همك أن تعود من أمامك السمع والطاعة، لأن كثير من الناس يطيب له ويلذ له أن يكون سيدا زعيما إذا أشار قال الناس سمعا وطاعة، سمعنا وأطعنا يعجبه ذلك ويرتاح له.
لكن لا، لا ينبغي أن ننساق مع هذا الأمر الذي نحبه، ينبغي أن ندرك أنه يجب أن نربي الناس على أن يكون لهم مشاركة حقيقة في تحمل المسؤولية، هذا له كذا وهذا له كذا.
ولذلك نجد بعض العقلاء المدركين الفاهمين في أمور الإدارة، تجد أنه إذا كان لديه عمل يوزعه بين مجموعة، أنت عندك كذا، عندك كذا، وهكذا، وبالتالي هو مجرد مشرف يتابع ما يحدث.(15/30)
رحلة يريد أن يخرج بها مجموعة، بدلا من كون الإنسان هو كل شيء من الألف إلى الياء، هو الذي يعد البرامج الثقافية والعلمية، وهو الذي يأتي بالأطعمة، وهو الذي يأتي بالأواني، وهو الذي منه السيارة، وهو الذي يحدد المكان، وهو الذي يحدد الزمان، لا، جعل كل إنسان له دور، وهو له دور آخر، يمكن أن يكون مع هؤلاء جميعا أو فوقهم أيضا، المهم كل إنسان له جزء من المسؤولية يتحملها وبالتالي برزت شخصيته وأصبح إنسان يشعر بقيمته وليس مجرد شجرة صغيرة نبتت في الظل، ليس فيها قوة ولا نماء ولا خضرة، لا هذا لا يصح.
مثلا موضوع التعليم، الآن في كثير من الأحيان تجد التعليم يعتمد مثل ما نحن الآن واحد يتكلم والبقية يستمعون ويسجلون.
حتى في الجامعات مثلا وغيرها أستاذ يلقي والطلاب يكتبون، وفي النهاية يختبرون، إذا لم يعد للطالب دور، لم يعد له مسؤولية، لكن عند السلف على الأقل كان الطالب يحفظ ويقرأ وبالتالي له دور في التعليم، يشارك في العملية ويتحمل قسطا من المسؤولية، فظلا عن قضية إعداد البحوث، فظلا عن التدريس أحيان، فقد كان الطالب يشارك في التدريس وكان السلف يسمونه معيدا لأنه يلقي ويعيد الدرس بالنيابة عن الشيخ، فيكو هناك مشاركة في تحمل المسؤولية.
4/ التربية على الإقدام ونزع الخوف من الفشل.
كثير من الأحيان الإنسان يستطيع أن يعمل أشياء كثيرة، لكن يمنعه شيء وهو الخوف من الفشل، مثلا تريد أن تتكلم أمام مجموعة من الناس بنصيحة أو كلمة توجيهية، أول أمر يخطر في البال ممكن تفشل، لما تقف تغلق الأبواب في وجهك فلا تستطيع أن تتكلم في شيء، يرتج عليك أو تقول كلام خطاء أو ترتبك.(15/31)
إذا خوف الفشل يدعوك إلى الإحجام، قل مثل ذلك في أي عمل علمي أو تجاري أو دعوي فإذا الإنسان يمنعه الخوف من الفشل من الإقدام على هذا العمل، والواقع أن الإنسان يحتاج إلى قدر من الإقدام والشجاعة مع الضبط والحكمة والتخطيط السليم، ولإعداد الجيد وحتى يبني نفسه بناء جيد ويشارك في تحمل المسؤولية مشاركة فعالة.
5/ إعطاء الفرد دوره في النقد والتصحيح.
الابن، التلميذ، الشخص، الداعية، المواطن أي إنسانا يعطى دور في النقد.
كما كان عمر رضي الله عنه، من أقوى الشخصيات، كان الشيطان يخاف منه حتى أنه يهرب منه إذا راءاه في شارع (ما سلك عمر فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجه).
الناس يخافون منه، أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يضطرب أحدهم إذا دعاه عمر فكانوا يصححون له، ولعلكم تعرفون أمثلة كثيرة منه قصة الرجل حينما قال عمر:
أيها الناس أسمعوا وأطيعوا.
قام رجل وقال لا يا عمر، لا سمع ولا طاعة.
قال لما رحمك الله؟
قال عليك ثوبين ونحن على ثوب واحد، لا نسمع ولا نطيع.
قال عمر أين عبد الله، فقام أبن عمر وقال ها أنا ي أمير المؤمنين.
قال عمر أنشدك الله من أين لي هذا الثوب ؟
قال والله هو ثوبي أهديته لك يا أمير المؤمنين.
فقال الرجل الآن يا عمر قل نسمع ونطيع.
وتعرفون قصة المرأة إن صحت، وقد حسنها السيوطي وغيره، لما وقف عمر وقال لا تغالوا في صدوق النساء، فقامت امرأة وقالت أخطأت يا عمر فالله يقول:
(وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيء) ويروى أن عمر قال أخطأ عمر وأصابت امرأة. حت على المنبر يعلنا ما فيه مانع، ما ينقص ذلك من قدره ولا زالت الأجيال تتمدح وتتمجد بهذه الأعمال الجليلة والمواقف التي تدل على الثقة بالنفس وقوة الشخصية.
6/ عدم المبالغة في العقاب.(15/32)
نعم عدم المبالغة في العقاب على الخطاء، يعني داعية أو موظف عندك أو أبن أو أي نوعية من الناس لك ارتباط به وقع منه خطاء، هنا يجب عدم المبالغة في عقابه على الخطأ في الصورة التي تجعله في المرات القادمة يحسب ألف حساب ويتولد لديه خوفا شديدا.
فمثلا الأب الذي يعود أولاده عل أنه يضربهم بقوة على أي خطاء، تجد هؤلاء الأولاد دائما عندهم تردد وخوف وهيبة ولا يقدمون على شيء أبدا، ليس لديهم ثقة بأنفسهم، قد يكبر الواحد منهم ما عنده ثقة بنفسه لأنه تربى على هذا الأمر.
فيجب أن ننتبه إلى هذه الأمور وبعضها تربوية يحتاج إلى أن تتربى عليه الأجيال حتى يخرج عندنا أجيال واثقون بأنفسهم.
وفي نهاية المحاضرة أقول كما قلت في عنوانها:
نحن جميعا وبشكل فردي المسؤولون مسؤولية كبيرة عن ما يحدث لنا أفرادا، وعن ما يحدث للأمة في مشارق الأرض ومغاربها.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
…………………………………………………..
تم بحمد الله وتوفيقه
اللهم أجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم…(15/33)
بسم الله الرحمن الرحيم
( يا أمة الإسلام )
فضيلة الشيخ / عبد الوهاب الطريري.
………………………………………………….
الحمدُ لله ما تعاقبةِ الليالي والأيام،
الحمد لله عدد الشهورِ والأعوام
الحمد لله ما فرح صائمُ بصيام، وأفطر مفطرُ لتمام
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له جل عن الشبيه والنظير
لا تدركُه الأبصارُ وهو يدركُ الأبصارَ وهو اللطيفُ الخبير،
وأشهد أن محمدا عبدُه ورسولُه وأمينُه على وحيهِ وخيرتُه من خلقِه وسفيرُه بيُنه وبين عباده،
المبعوثُ بالدينِ القويمِ والمنهجِ المستقيم، أرسله الله رحمةً للعالمينَ وإماما للمتقينَ وحجةً على الخلائقِ أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا،
اللهُ أكبرُ عدد ما صام صائمُ وأفطر، الله أكبرُ عدد ما هلل مهللُ وكبر،
الله أكبر ما هل هلالُ عيدٍ وأقمر، وطلع فجرُ وأسفر، وأيعن غصنُ وأثمر،
سبحان من سبحت له السماواتُ وأملاكُها، والنجومُ وأفلاكُها والأرضُ وسكانُها والبحارُ وحيتانُها، والنجومُ والجبالُ والشجرُ الدواب، وكلُ رطبٍ ويابس، وكلُ حيٍ وميت:
(تسبحُ له السماواتُ السبعُ والأرضُ ومن فيهن)
( وإن من شيء إلا يسبحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحَهم، إنه كان حليما غفورا)
أيها المسلمون:
أيها المسلمون، إنكم في يومٍ تبسمتم لكم فيه الدنيا، أرضُها وسمائُها شمسُها وضيائُها، أنتم في يومِ فرحٍ وسرورٍ وساعاتٍ كطاقات الزهور.
صمتم لله ثلاثينَ يوما، وقمتم لله ثلاثين ليله، ثم جئتم اليومَ تسألون اللهَ الرضى والقبول، وتحمدَونه على الإنعامِِ بالتمام.
فالحمد لله الذي بنعمتِه تتم الصالحات، الحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله:
(قل فبفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا هو خيرُ مما يجمعون).
هذا يومُ يفطرُ المسلمون، هذا يومُ يفرحُ المؤمنون، هذا يومُ تكملوا العدةَ وتكبروا اللهَ على ما هداكم ولعلكم تشكرون.(16/1)
فبارك الله لكم عيدَكم يا أمة الإسلام يا خيرَ أمةٍ أخرجت للناس:
(كنتم خيرَ أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكرِ وتأمنون بالله..)
هذه حقيقةِ الأمة وقيمتُها، هذه رُتبتها ومكانتها، أمةُ أخرجت لتكونَ لها الريادة، ولها القيادة، أمةُ أخرجت لتكونَ طليعةً للأمم شهيدةً على الأمم:
(وكذلك جعلناكم أمةً وسطاء لتكونوا شهداء على الناس..)
أمةُ لها دورُ خاص، ومقامُ خاص ولها على ذلك حسابُ خاص،
أمةُ لها مركزُ القيادةِ الذي لا يأخذُ إدعاءَ، ولا يسلّم إلا لمن يكونُ لهُ أهلا، ولهذا المركزِ تبعاتُه وله واجباتُه. هذه أمتُكم يا أهل الإسلام.
الأمة التي جعلها اللهُ خاتمةَ الأمم، كما جعل رسولَها خاتم الرسل، وجعلها شهيدةً على الناس ناطقةً بالكتاب، وارثةً للحق خليفةً في الأرض.
هذه أمتُكم الأمةُ الخالدة، الأمةُ الوسط، أمةُ أحمديةَ الملة، عُمريةَ الحكم، صلاحيةُ الجهاد، دستوُرها؛ كتابُ الله، إمامُها؛ حبيبُه، قبلتُها؛ بيتُه، مآبها؛ جنتُه. هذه أمتُكم يا أهل الإسلام.
جعلها اللهُ شامةً في جبين الزمان، جعلها خير أمةٍ أخرجت للإنسان، كلام شهدائها بلا تُرجمان، قاتلت معها الملائكةُ يومَ التقى الجمعان. هذه أمتُكم،
الأمةُ التي لم يجعلِ اللهُ لها نهجا ولا سمتا إلا الإسلام، أمةُ لم يجعلِ الله لها رسما ولا اسما إلا الإسلام:
(هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدينِ من حرج، ملةَ أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا).
أمة َالإسلام، أهل القرآن، أهل الإيمان:
وحينما نكونُ في عيدنا هذا أمةً واعيةً لا يحولُ احتفائها بأيامِها السعيدة، وأعيادِها المجيدة عن مراجعةِ ذاتِها وتفقُدها لحالِها، ننظرُ في الأمةِ أين هيَ؟
أين هيَ من هذه المكانة التي لا تصلحُ إلا لها؟
أين هي والمهمة التي لا تقومُ إلا بها؟
أين هي أمتُنا بين الأمم؟ مكانتُها وقيمتُها، دورُها ومهمتُها؟(16/2)
إن حال الأمةِ اليوم هي الحالُ التي يُرثى لها، فلا ضعفُ المسلمينَ ووهنُهم مما يُرضي الإسلام،
ولا هوانُ المسلمينَ على أعداِئهم حتى أصبحت دمائُهم بالمجان مما يُرضي الإسلامِ،
ولا قيامُ دويلةِِ إسرائيل في عقرِ دار المسلمينَ مما يُرضي الإسلام،
ولا أكلُ الأعداءِ لديارِ المسلمين من حواشيها يُرضي الإسلام،
ولا التجزئةُ والتفتتُ الذي عليه الأمة يُرضي الإسلام،
ولا التغّربُ الفكري والحضاري ولا التبعيةُ الاقتصاديةُ والسياسيةُ يرضى بها الإسلام.
آلا إن الآمر الأمر والخطرَ الأخطر:
هو تحطمُ البناءَ النفسي لإنسان حتى تركزت فيه القابليةُ للهوان، وفقد دورَه الريادي، بل تشكلت مفاهيمُ فكرية تفلسفُ هذا الواقع الذي فقد الريادةَ بل فقد الإرادة.
وصلت الأمةُ إلى هذا الوضع بعد أن جربت مُختلفَ الشعارات فارتفعت البراقعُ الكاذبة عن تلك الاتجاهات التي أردتها زيتونةً شرقيةً أو غربية، مالت بها يميناً ويسارا.
ومر على وعي الأمةَ وجسمِ الأمة ألوانُ من الطُروحاتِ والانقلابات والثورات والزعامات ثم توالتَ الهزائمُ والنكبات.
لقد كبرت أزمةُ الأمة حتى بلغت من الكبرِ عتيا، جربتِ الأمةُ البرامجَ والسياساتِ الأرضيةَ حتى لم يبقى طريقُ من تلكَ الطرقِ إلا ولجت بابهُ ثم اكتوت بنارهِ بما كفاها.
وسلكت فجَ التغريبِ حتى أوغلت فيه، ووصلت إلى حد الانصياع لحضارةِ الغربِ وثقافتِه حتى أوصلتها تجاربُ عشراتِ السنين إلى افتضاحِ الفكرِ المتغرب وانكشافِ تهافته.
لقد عاشت الأمةُ تغريبا خنق فيها كلَ أصالة وهي تلهثُ وراء التشبهِ بالغربِ وتقلدُه وتقتفي أثرهُ فابتعدت عن هويتِها الأصليةَ وهي تدخلُ جحرَ الضب حتى رأيتَ فئاماً من الأمةِ كثير حالُهم كالذي استهوته الشياطينُ في الأرض حيران، له أصحابُ يدعونَه إلى الهدى ائتنا، قل إن هدى اللهِ هو الهدى، وأمرنا لنسلمَ لربِ العالمين.
أمةَ الإسلام:(16/3)
إننا لا يمكنُ أن نفهمَ أسبابَ الهزائمَ المتكررة، والانهيارات في بناءِ الأمة واستمراء الهوانِ والاستسلام إلا إذا عدنا إلى عمق الأمةَ، إلى الفكرِ الذي تحملُه، إلى النهجِ الذي تسير عليه، لنرى حين إذٍ أسباباً لا تُنتجُ إلا هذه النتائجَ المريرة، ولنرى مساربَ ومسارات لا تنتهي إلا إلى هذه الهاويةِ المريعة.
لقد لقيتَ الأمةُ ما لقيت وصليت ما صليت يومَ تعددت مصادرُ التلقي بعد أن كان المصدرُ كتابَ الله:
(كتابُ أنزلَ إليك فلا يكن في صدرك حرجُ منه لتنذرَ به وذكرى للمؤمنين).
(يا أيها الناسُ قد جاءكم برهانُ من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا).
فإذا بالأمةِ تمزجُ بين الوحي وأحكامِ البشر.
إنها أمةُ ذاتُ أهدافٍ وذاتُ رسالةٍ وذاتُ تاريخ، وعلينا نحنُ أبناءَ هذه الأمة أن لا نسمحَ لأحدٍ أن يسلبَنا شخصيتَنا.
وأن يمليَ علينا منهجَه وقواعدَه في التفكير، فنحنُ لم نخلق لنجرَ من آذاننا.
ولا لنقولَ لأيِ مخلوقٍ- كائنا من كان- سمعنا وأطعنا، ونتركُ خيرةَ اللهِ لنا وندائَه إيانا يوم قال:
(وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبلَ فتفرقَ بكم عن سبيله).
ولن نستطيع أن نحرر أرضا ما لم نحرر أنفسَنا وأفكرنا.
شعوبُك في شرقِ البلادِ وغربِها.…......كأصحابِ كهفٍ في عميقِ سباتِ
بأيمانهم نوران، ذكرُ وسنةُ........ فما بالُهم في حالك الظلمات
وصلت الأمةُ إلى ما وصلت إليه يوم انطفأت جذوةُ حب النبي صلى الله عليه وسلم
والتفاني في إتباعِه والذبِ عن سنته، وغابَ ما كان حاضراً لدى أصحابِ رسولِ صلى الله عليه وسلم، يومَ قالَ عمرو ابنَ العاصِ رضي الله عنه:
(واللهِ ما ملئتُ عيني من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم منذُ أسلمت إجلالاً له أن أنظر إليه).
يوم كان كلَ صحابيٍ يصدّرُ حديثَه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قائلاً بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.(16/4)
فإذا جذوةَ الحماسِ لدينه صلى الله عليه وسلم تخبُ وإذا الالتزامُ بسنتِه يضعفُ وإذا الغيرةُ على نهجِه تتقاصرُ وتتطامنُ، وإذا في الساحةِ مع النهجِ المحمدي مناهج، ومع الهدي المحمدي طروحاتُ وأفكارُ أُخر.
وصلت الأمةُ إلى ما وصلت إليه يومَ تلفتَ فيها ندرتُ العلماء الربانيين، الأمناءِ على الجيل
الأوفياءِ للأمة، الآخذينَ بحجزِها أن تقعَ في النار، أو تتيه في متاهاتِ الظلام. العلماء الذين إستشهدَهم اللهُ على أعظمِ شهادة (شهد اللهُ أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط….)،
العلماء الذين هم ورثةُ الأنبياء، ورثوا علمَهم وورثوا دورَهم وورثوا مهمتَهم على الأرض، فأصبح العلماء الربانيون العاملون أعز من الكبريتِ الأحمر، وإذا وجدوا وجدَ في الأمةِ من يرميهِم بالحجارة، يتتبعَهم ويثيرُ الفتنةَ من حولِهم، فئامُ من الشاغبين وعلى من؟
على الدعاةِ الهداة، فئامُ ممن إذا قالوا تسمعُ لقولِهم وإذا رأيتَهم تعجبكَ أجسامُهم، فإذا نظرت إلى طروحاتِهم فإذا هي مزاحمةُ الدعاة والتشكيكُ في العلماء الهداة.
هؤلاء العلماء أندرُ في الأمةِ من الكبريت الأحمر، فإذا وجدوا فينبغي أن يكون مقرُهم سويداءُ القلوبُ وحدق المقل وأن يبوئوا المكانةَ التي بوئهم اللهُ إياها، فتكونوا أعراضُهم مصانةُ، وحرماتُهم محفوظةُ، ومقامُهم أسماء من مقامِ كلِ أمير، وأعلا من كلِ وزير، وأرفعُ من كلِ مسئول.
لأن مقامَهم في الأمة مقامُ محمدُ صلى الله عليه وسلم فيها، إذ هم ورثتُه وحملةُ رسالتِه والداعونَ بدعوتِه، فمن نوقِّر إذا لم نوقِرهم؟ وعلى من نغار إذا لم نغَرعليهم؟ وعن من ننافح إذا لم ننافحِ عنهم؟(16/5)
ونتولى مسئوليةَ الذبِ عن أعراضِهم وحمايةَ ظهورِهم من خلفِهم، وأن لا يسلموا إلى من أعطوا بسطةً في المقال، أو بسطةً في اليد، أو تمكينا أو سلطانا ليكونَ لهم عليهم قولُ في مقال، أو استطالةُ بكلام، فظلاً عن أن يؤذوا أو يضايقوا، فظلاً عن أن يحجرَ على دعوتِهم أو يضّيقَ على كلمتِهم، أو تصادرَ المهمةُ التي يقومونَ بها في الأمة.
إن مقامَ الدعاة ينبغي أن يكونَ محلَ الغيرةَ من كلِ مسلمٍِ يؤمنُ برسالةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويوقّرُ ورثَته ويغارُ على أتباعِ سنتِه وحملةِ رسالتِه، عارٌ على أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم أن ترى أممَ الأرضِ توقرُ كهنتَها ورهبانَها وحاخاماتِها وآياتِها بينما علماء الإسلام تصادرُ الكلمةُ الهادئة والمنطقُ الرشيد والنصحُ لسديد الذي يهدونَه للأمة.
أين معايير المحاكمةَ العادلة لكلامِ العلماء؟
أين معايير التقويمِ الحق لمقال المتكلمين؟
آلا إن الغيرةَ على العلماء والغيرةَ على الدعاة ، أعراضُهم، وسمعتُهم، كلمتُهم ودورُهم بالأمة، كلُ ذلك مسئوليةُ كلُ مسلم يقبسُ من نورِهم ويرجعُ إلى علمِهم ويستنيرُ بدلالتِهم.
أما يكفي أن نرى الكثرةَ الكاثرةَ من الناسِ تعيشُ لا تشعروا بأحد، ولا يشعرُ بها احد؟
وأن نرى فئاماً من الناس تعيشُ قبل عصرِها بمراحل؟
حنى إذا أضاءَ للأمةِ شعلةُ هداية يحملُها داعية كان على الأمة كلِها مسئوليةُ إبقائها مضيئة وحمايتُها أن تنطفئ أو تطفئ.
إنا إذا نظرنا إلى ما وصلت إليه الأمة رأينا أن من أسبابِ ذلك انطماسِ هويةِ هذه الأمة، هذه الأمةَ الخالدة المتميزة ذات الأصالةِ والنهجِ المستقيم
فإذا أبنائُها ما بين من وقعَ في براثن التشبه للشرقيين أو الغربيين فأتبعوا سننَ من كان قبلَهم.
وبين منهومٍ بلذتِه عاكفٍ على صنمِ شهوتِه، فهم ممن يعبدُ اللهَ على حرث.(16/6)
ومنهم من يعيشُ عيشةَ الجاهلية فهو لا يعرفُ من الإسلامِ إلا أسمه معرضا عن التفقه غافلا عن الوحي، ومنهم من جعل ثقافتَه وقلمَه ولسانتَه وبيانَه قذائفَ يدافعُ بها دينَ الله ويهاجمُ بها طلائعَ الإسلام صباح مساء:
( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، آلا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
ومنهم المتلون حسب منافعِه وأغراضِه:
( وإذا لقوا الذين أمنوا قالوا أمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم)، فهو مع المؤمنين ولي ومع المحبين شجي، ومع العاطلين خلي، لا يستقرُ على حال.
اهؤلاء أبناءَ الأمةِ الخالدة، الأمةِ ذات الرسالة؟
لو أسمعوا عمرَ الفاروقَ نسبتَهم………… وأخبروه الرزايا أنكرَ النسبَ
من زمزمٍ قد سقينا الناسَ قاطبةً………… وجيلُنا اليومَ من أعدائه شربا
هذه أسبابُ من أسباب أودت بالأمةِ إلى ما وصلت إليه، وأوصلتها إلى القاعِ الذي سقطت فيه.
وإن من أراد أن يصلحَ هذه الأمة فعليه أن يردَها إلى هدي لا إله إلا الله؛
لا إله إلا الله؛ منهجُ حياة
لا إله إلا الله؛ في الحاكمية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).
لا إله إلا الله؛ في العلم (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين).
لا إله إلا الله؛ في الولاءِ والبراء (إنما وليكم اللهُ ورسولُه والذين أمنوا ).
لا إله إلا الله؛ منهجُ حياةٍ مهيمنةٍ على الفكرِ والثقافة، الاقتصادِ والسياسة، السلم والحرب، على كل منحا من مناحي الحياة ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له…).
إنه الحل الإسلاميُ لا غيرُه :
هو الذي يهيُ الجوَ الإيجابي والبيئةَ المساعدة لتكوين الفردَ المؤمنَ الذي يشري الحياةَ الدنيا بالآخرة ويشري نفسَه ابتغاءَ مرضاة الله، ويوقنُ أن الرزقَ والأجل والحياة والممات بيد اللهِ وحده.
إنه الحلُ الإسلاميُ لا غيره :(16/7)
هو الذي يعد الأمة الإسلاميةَ للجهاد الحق، ويوفر طاقاتِها الماديةِ والبشرية لحرب عدوها، ويجعلها أمةً من فولاذ لا أمةً من ورقٍ يسهلُ اختراقُها بل تمزيقُها.
إنه الحل الإسلاميُ لا غيرُه :
الذي يحررُ الأمةَ من التضليلِ الحزبي، والتخريبِ الفكري والاستبدادِ السياسي والظلمِ الاجتماعي.
إنه الحلُ الإسلاميُ لا غيرُه :
الذي ينشأُ الشعب المتماسك وينشأُ فيه وحدةَ الاتجاه، ووحدة الهدف ووحدةَ الشعور حتى يصبحَ كالجسدِ الواحد إذا اشتكى منه عضوُ تداعى له سائرَ الجسدِ بالسهرِ والحمى.
إنه الحلُ الإسلاميُ لا غيره :
الذي يزيلُ الهوةَ التي حفرها الاستعمارُ بين الدول الإسلامية بعضِها وبعض فإذا هي قنابلَ موقوتةٍ تنفجرُ بين فينةٍ وأخرى، هذه الحفر وسعتها القومياتُ العلمانيةُ وعمقتها النعراتُ الجاهلية والأنانياتُ الحاكمة.
إنه الحلُ الإسلاميُ وحدَه :
الذي يجعل الأمة أهلاً لنصرِ الله وإمدادِه، ويجعلُ ملائكةَ السماء في تأييدها وجنودَ الأرضِ في خدمتِها.
إنه الحلُ الإسلاميُ كما أنه الحلُ الصحيح فإنه الحل الوحيد وبدونِه ستظلُ الأمةُ تشرقُ وتغربُ بدون جدوى، تخرج من حفرةٍ لتسقط في هاوية، وستهدر الجهود وتبدد الطاقات وتتوالى تترى الهزائمُ والنكبات، أما جربنا الطروحاتِ كلِها شرقيها وغربيها فأفلستَ وجنت على الأمةِ بوارا ؟
أما جربنا التحالفاتِ كلِها أمريكيها وروسيها فكانت عاقبتُ أمرها خسرا ؟
أما بحثنا في زبالاتِ الغربِ ونحاتات الشرق الذهنية عن كلِ فلسفةٍ وافدةٍ وطروحاتٍ فكريةٍ فلبسناها فلم يكن منها شيءُ على مقاسنا.
ونطقنا بها كلِها فلم يستقم منها شيءُ على لسانِنا.
وبقي لنا لباسُ التقوى ولباسُ التقوى خير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاتِه ولا تموتنا إلا وأنتم مسلمون )
أقول ما تسمعون وأستغفرُ الله لي ولكم…….
الخطبة الثانية:(16/8)
اللهم لك الحمدُ على كل نعمتٍ أنعمتَ بها علينا في قديمٍ أو حديث، أو سرا أو علانيةً، أو حاضراً أو غائباً، لك الحمدُ بالإسلامِ ولك الحمدُ بالإيمانِ ولك الحمد بالإيمان ولك الحمدُ بالقرآنِ ولك الحمدُ بالمالِ والمعافاةِ والصحةِ والأهلِ والولدِ.
اللهم لك الحمدُ حتى ترضى ولك الحمدُ إذا رضيت، اللهم لك الحمدُ حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما تحبُ ربَنا وترضى.
اللهم لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وجهِك وعظيمِ سلطانِك وأشهدُ أن لا إله ألا اللهَ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدا عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
اللهم إني أسألك أن تجعلنا جميعا ممن إذ ابتليَ صبر، وإذا أنعمَ عليه شكر، وإذا أذنب استغفر.
أيها الناس: اتقوا اللهَ حق التقوى
أيها المسلمون، أيها الموحدون، أيها الأخوة المتحابون بجلالِ الله:
ها قد ترحلتَ أيامُ رمضانَ ولياليه، تلك الأيامُ الغر، والليالي الزهر بعد أن تلذذنا بصيامه، وتمتعنا بقيامه، وآنسنا في النفوس بروح العبوديةِ والذكر لله عز وجل.
ثم جاءت أيامُ العيدِ بزهوِها، وبهجتِها، وأنسِها وفرحتِها، فهي تحفةً للصائمين وجائزةُ للمتعبدين:
(ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون).
أيها الأحباب:
لقد أصبح الطريقُ مسدودا أمام كل الطروحاتِ الأرضية، والأفكارِ القوميةِ العلمانية.
لقد أخذت فرصتها في التطبيق، وأخذت أكثر من فرصتِها من التجارب، ثم ماذا كان عاقبةُ أمرها ؟
لقد كان عاقبةُ أمرها خسرا.
انحصرت القسمةُ وتبين أن لا خيار إلا في الحلِ الإسلامي.
تبين ذلك وأنه لا خيارَ إلا خيارُ الله للأمة. ولا طريق إلا الصراطُ المستقيمُ والذي بينَه محمد صلى الله عليه وسلم للبشرية.(16/9)
وأصبح واجبُ المسلمين التعاونَ بين أفرادِهم وجماعاتِهم بين مؤسساتهِم الخاصة ومؤسساتِهم الرسميةَ لتحقيقِ التدينُ الفردي والتدينُ الجماعي، وتحقيقُ العبوديةَ لله عز وجل، وتحقيقِ الهيمنة لأحكامه على كلِ مناحي الحياة كلِها بلا استثناءٍ ولا تفصيل.
لا بد أن تُنتجَ لنا التجاربُ السابقةَ تصحيحاً لأسلوبِ طرحِنا ومعالجتِنا.
لا بد أن ينتجَ لنا ذلك اعترافا بالأخطاء ومعالجةً لها بوضوح:
وأن لا تبقى أخطائُنا مدفونةً تحت الرمال محجوبة عن الأعين محجوبة عن الألسن حتى تكشفها لنا الأحداث في أحرج اللحظات.
يجب أن يوصف الدعاة المتحدثون عن الأخطاء بنصح أنهم ناصحون لا مرجفون، وأن يعرفوا بأنهم دعاة إصلاح لا دعاةُ ولا يسمحُ وصفَهم إطلاقا بأنهم دعاة فتنة.
إذا كان لا بد من الاستشهاد بالغرب، إذا كان لا بد من تقليد الغرب، إذا كنا لا زلنا مفتتنين بالغرب فإن الغرب قد زاده قوة وضوح المكاشفة للأخطاء، ولم نسمع أن متحدثا عن الأخطاء في الغرب وصف أنه مرجف، ولا أنه داعية فتنة.
ونحن أهل الإسلام أحق بهذا الخلق وأولى به أن نتكاشف بأخطائنا وأن نتداعى لإصلاحها، وأن نرى أن هذا واجبنا جميعا المتحدثُ عنه محل الحفاوة من الكل.
ينبغي أن نخرج من التجارب السابقة بتصحيح لمسار الفكر:
فيغيب عن الساحة الفكر العبثي والفكر السطحي والفكر القردي المقلد، ننتظر فكرا يعمق الوعي يزيل الضباب والقتامة من حول القضايا فيجليها للعقول ويجليها للبصائر كما هي بلا مغالطة ولا تزييف ولا علو ولا تحيز.
ننتظر فكرا نيرا يرد الأشياء إلى أصولها يربطها بأسبابها البعيدة والعميقة والعديدة ولا يكتفي بما يطفو على السطح.
ننتظر فكرا أصيلا يعرفونا من نحن، ما رسالتنا ما دورنا من عدونا حقيقة ماذا نملك وماذا يملك؟
ننظر فكرا عميقا ينظر إلى الغد البعيد ولا يخطفُ بصره الحاضر القريب، يستفيد من دروس الأمس وآلام اليوم وآمال الغد.(16/10)
ننتظر فكرا هادفا يوضح لنا الهدف ويرسم لنا الطريق ويضع أيدينا على العقبات والمعوقات.
هذه هي مهمة الفكر، وهذه دوره، وهذا ما يجب أن يقوم به.
ننتظر أن يصح الفكر السكران وأن يستقيم الفكر المعوج، وأن يظهر الفكر الأصيل، ويختبئ ويتوارى ويذهب إلى غير رجعة الفكر الدخيل، الفكر السطحي الفكر الجبان.
لقد خاب ضنهم وطاش سهمهم فماذا بقي لهم؟
ننتظر أن نخرج من التجارب بتصحيح فوري لمسار الاقتصاد :
بعيدا عن محاربة الله ورسوله، فنحن أضعف وأقل وأهون من ذلك، وتبقى سبل الكسب والادخار الشرعي هي الخيار الوحيد لكل من يبغي استثمارا وربحا وكسبا.
ننتظر أن نخرج من التجارب بتصحيح للإعلام:
ليكون منبرا للدعاة الصالحين المصلحين هدفه تعميق أصالة الأمة وتوعيتها بعيدا عن الطرح التافه أو الإلهاء الرخيص.
إعلاما يعيشُ معانةِ الأمة حقيقة ويعالج مشاكلها بأصالة بعيدا عن تمجيد الذوات وترديد الشعارات فللأمة قضيتها ومهمتها ورسالتها التي ينبغي أن يتمثلها إعلامها فينطق بها.
ننتظر أن نخرج من تلك التجارب والدعاة الصادقون الناصحون في المقدمة منا:
كلمتهم عالية صوتهم مسموع نصحهم مستجاب له، ننتظر أن نخرج من هذه التجارب ولنا قدواتنا من العلماء الراسخين في العلم العاملين بعلمِهم ليكونوا محل الحفاوة منا جميعا ومحل القدوة لنا جميعا، ومحل الاحترام والتقدير على كافة الأصعدة.
عار على أجهزة الإعلام صحفا ومجلات ومرئيا ومسموعا أن يكون في الأمة رجال يعملون منذ عقود من السنين عددا، يعملون بصمت وإنهاك لقواهم، يعملون للأمة بتفاني وصدق ونصح ثم نرى تعتيما لدورهم وتجاهلا لوجودهم حتى لا يكادوا يذكروا في أجهزة إعلامنا.
فمن يذكر إذا لم يذكر هؤلاء؟
ومن يشكر إذا لم يشكر هؤلاء؟
إلى متى سنظل نتلهى بالتافهين من المغنين والممثلين.
ماذا استفدنا مما قدموا؟
ماذا كان رصيدهم عند الشدائد؟
لقد آن الأوان أن يوضع الرجال في مقاماتهم الصحيحة وأن يوضع كل في رتبته:(16/11)
(يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أوتوا العلماء درجات).
فلنرفع من رفعه الله ولنضع من وضعه الله.
ننتظر أن نخرج من تلك التجارب بصدق مع الله ليصدقنا الله:
وبغضب لله ليغضب لنا الله، وبنصر لله لينصرنا الله :
( يا أيها الذين أمنوا إن تنصروا الله ينصركم………).
إن الذين يكرهون ما أنزل الله ينبغي أن يحجب صوتهم عن الأمة وأن تبقى كراهيتَهم مقهورة في صدورهم لا تفوه بها ألسنتهم.
ننتظر أن نخرج من التجارب السابقة بتطبيق حقيقي شامل للدين:
بعيدا عن التطبيق الانتقائي، بعيدا عن التطبيق الجزئي، تطبيقا للدين يهيمن على كل مسارب الحياة ومساراتها وكلياتها وجزئياتها.
فقد تعبت الأمة من أصحاب الطروحات الثورية الملحدة الذين إذا اشتدت بهم الشدائد رفعوا الإسلام شعارا وغرروا بالأمم فانساقت معهم، وبقي التطبيق الحقيقي والتطبيق الأصيل لأهل الإسلام الحق.
إن على الأمة أن تذكر نعمة الله عليها أن حل عليها هذا الشهر المبارك وهذا العيد السعيد المجيد ونحن في حال أمن وآمان وسلام وإسلام، أقبل المسلمون على صلاتهم وصيامهم، اكتظت المساجد بجموعهم، وضجت الأجواء بدعائهم، وابتهج الحرم المكي بآلاف الشباب تفور بهم أدواره وتغلي بهم ساحاته من وجوه واعدة نيرة تقدم للدنيا رسالة تقول:
لإن عرف التاريخ أوسا وخزرجا……..فلله أوس قادمون وخزرج
وإن سجوف الغيظ تخفي ورائها……..جموعا إلى الإسلام للحق تخرج
توجه رسالة للدنيا إلى أن شبيبة الأمة قد ثبت لها إفلاس كل خيار إلا الإسلام، فاختارت الإسلام عبودية لله وانقيادا لأمر الله ونصرة لشرع الله وجهادا في سبيل الله.
فهنئا للأمة شبيبتها وشيوخها، وهنئا للأمة صحوتها وعلمائها.
والله ربنا المسؤول أن يسدد خطى الأمة على الحق وأن يعصمها من زيغ الشيطان وكيد الكائدين وإرجاف المرجفين، وأن يحول بينهم وبين كل مريد لدعاتها بسوء ومستبطر بهم كيدا.(16/12)
محاضرة : يا سامعا لكل شكوى
فضيلة الشيخ : إبراهيم الدويّش
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يُطعم ولا يطعم، منّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا.
الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصّر من العمى، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا سامعا لكل شكوى.
يا خالق الأكوان أنت المرتجى...... وإليك وحدك ترتقي صلواتي
يا خالقي ماذا أقول وأنت تعلمني وتعلم حاجتي وشكاتي
يا خالقي ماذا أقول وأنت........... مطلع على شكواي والأناتي
اللهم يا موضع كل شكوى، ويا سمع كل نجوى، ويا شاهد كل بلوى، يا عالم كل خفية، و يا كاشف كل بلية، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين ندعوك دعاء من أشدت فاقته، وضعفت قوته، وقلت حيلته دعاء الغرباء المضطرين الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت.
يا أرحم الراحمين أكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان.
يا سامعا لكل شكوى أعن المساكين والمستضعفين وأرحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذي الشيبة الكبير، إنك على كل شيء قدير.
معاشر الأخوة والأخوات:
إن في تقلب الدهر عجائب، وفي تغير الأحوال مواعظ، توالت العقبات، وتكاثرت النكبات، وطغت الماديات على كثير من الخلق فتنكروا لربهم ووهنت صلتهم به.
اعتمدوا على الأسباب المادية البحتة، فسادة موجات القلق والاضطراب، والضعف والهوان، وعم الهلع والخوف من المستقبل، خافوا على المستقبل، تخلوا عن ربهم فتخلى الله عنهم:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).(17/1)
جميعُ الخلق مفتقرون إلى الله، مفتقرون إلى الله في كل شؤونِهم وأحوالِهم، وفي كلِ كبيرةٍ وصغيره، وفي هذا العصرُ تعلقَ الناسُ بالناسِ، وشكا الناسُ إلى الناس، ولا بئسَ أن يُستعانُ بالناس في ما يقدرون عليه، لكن أن يكونَ المُعتمَدُ عليهم، والسؤال إليهم، والتعلقُ بهم فهذا هو الهلاكُ بعينه، فإن من تعلق بشيٍ وكلَ إليه.
نعتمدُ على أنفسِنا وذكائِنا بكل غرورٍ وعجب وصلف، أما أن نسأل اللهَ العونَ والتوفيق، ونلحَ عليه بالدعاء، ونحرِصِ على دوام الصلة باللهِ في كلِ الأشياء، وفي الشدةِ والرخاء، فهذا أخرُ ما يفكرُ به بعض الناس.
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي.........ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي...........وأطمعُ منك في لفضلِ الكبيرِ
الهي ما سألتُ سواك عونا......فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
الهي ما سألتُ سواك عفوا.....فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
الهي ما سألتُ سواك هديا.....فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي......فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
إن الفرار إلى الله، واللجوء إليه في كلِ حالٍ وفي كل كربٍ وهم، هو السبيلُ للتخلصَ من ضعفنا وفتورنا وذلنا و هواننا.
إن في هذه الدنيا مصائبَ ورزايا، ومحناً وبلايا، آلامُ تضيقُ بها النفوس، ومزعجاتُ تورث الخوفَ والجزع، كم في الدنيا من عينٍ باكيةٍ ؟
وكم فيها من قلب حزين؟
وكم فيها من الضعفاءِ والمعدومين، قلوبُهم تشتعل، ودموعُهم تسيل ؟
هذا يشكُ علةً وسقما.
وذاك حاجةً وفقرا.
وآخر هماً وقلقا.
عزيزٌ قد ذل، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مرض، رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخرُ يشكُ ويئنُ من ظلمِ سيده.
وثالثٌ كسدة وبارت تجارته، شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.
هذا مسحور وذاك مدين ،وأخر ابتليَ بالإدمان والتدخين، ورابعُ أصابه الخوفُ ووسوسةُ الشياطين.
تلك هي الدنيا، تضحكُ وتبكي، وتجمعُ وتشتت، شدةُ ورخاءُ وسراءٌ وضراءُ.(17/2)
وصدق الله العظيم: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
أيها الأخوة، السؤال الذي يجب أن يكون، هؤلاء إلى من يشكون، و أيديَهم إلى من يمدون؟
يجيبك واقعُ الحال على بشرٍ مثلُهم يترددون، وللعبيدِ يتملقون، يسألون ويلحون وفي المديح والثناء يتقلبون، وربما على السحرة والكهنة يتهافتون.
نعم والله تألمنا شكاوي المستضعفين، وزفراتُ المساكين، وصرخاتُ المنكوبين، وتدمعُ أعُينَنا - يعلم الله- لأهات المتوجعين، وأناتُ المظلومين، وانكسارِ الملذوعين، لكن أليس إلى اللهِ وحدَه المشتكى ؟
أين الإيمان بالله ؟ أين التوكلُ على الله ؟ أين الثقةُ و اليقينُ بالله ؟
وإذا عرتك بليةًُ فأصبر لها.......صبرُ الكريمِ فإنه بك أرحمُ
وإذا شكوتَ إلى ابنِ أدم إنما.....تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ
ألم نسمع عن أناس كانوا يشكون إلى الله حتى انقطاع سير نعلهم، نعم حتى سير النعل كانوا يسألونه الله، بل كانوا يسألون الله حتى الملح.
يا أصحابَ الحاجات.
أيها المرضى.
أيها المدينون.
أيها المكروب والمظلوم.
أيها المُعسرُ والمهموم.
أيها الفقيرُ والمحروم.
يا من يبحث عن السعادة الزوجية.
يا من يشكو العقم ويبحث عن الذرية.
يا من يريد التوفيق بالدراسة والوظيفة.
يا من يهتم لأمر المسلمين.
يا كلُ محتاج، يا من ضاقت عليه الأرضُ بما رحبت.
لماذا لا نشكوُ إلى اللهِ أمرنا وهو القائل: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
لماذا لا نرفعُ أكفَ الضراعة إلى الله وهو القائل: ( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ).
لماذا ضُعفُ الصلةِ بالله، وقلةُ الاعتمادِ على الله، وهو القائل: ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ). لولا دعاؤكم.(17/3)
أيها المؤمنون، أيها المسلمون يا أصحابَ الحاجات، ألم نقرأ في القرآنِ قول الحق عز وجل: ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) لماذا ؟ ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).
فأين نحن من الشكوى لله، أين نحن من الإلحاح والتضرعِ الله؟
سبحان الله، ألسنا بحاجةٍ إلى ربنا؟
أنعتمدُ على قوتنا وحولِنا، والله ثم واللهِ لا حول لنا ولا قوةَ إلا بالله.
واللهِ لا شفاء إلا بيد الله، ولا كاشفَ للبلوى إلا الله، لا توفيق ولا فلاح ولا سعادةَ ولا نجاح إلا من الله.
العجيبُ والغريب أيها الأخوةُ أن كلَ مسلمٍ يعلمُ ذلك، ويعترفُ بهذا بل ويقسمُ على هذا، فلماذا إذاً تتعلقُ القلوبُ بالضعفاءُ العاجزين ؟
ولماذا نشكو إلى الناسِ ونلجأَ للمخلوقين ؟
سل الله ربك ما عنده......... ولا تسأل الناس ما عندهم
ولا تبتغي من سواه الغنى..... وكن عبده لا تكن عبدهم
فمن يا إذا بُليت سلاك أحبابك، وهجرك أصحابك.
يا من نزلت بها نازلة، أو حلت به كارثة.
يا من بليت بمصيبةٍ أو بلاءٍ، ارفع يديك إلى السماء وأكثر الدمعَ والبكاء، وألحَ على اللهِ بالدعاء وقل:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
إذا استعنت فأستعن بالله، وإذا سألت فأسأل الله، وقل يا سامعاً لكل شكوى.
توكل على الله وحده، وأعلن بصدقٍ أنك عبده واسجد لله بخشوع، وردد بصوتٍ مسموع:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
أنت الملاذُ إذا ما أزمةٌ شملت........وأنت ملجأُ من ضاقت بهِ الحيلُ
أنتَ المنادى به في كلِ حادثِةٍ.......أنت الإلهُ وأنت الذخرُ والأملُ
أنت الرجاءُ لمن سُدت مذاهبهُ......أنت الدليلُ لمن ضلت بهِ السبلُ
إنا قصدناك والآمال واقعةٌ.........عليكَ والكلُ ملهوفُ ومبتهلُ
إن الأنبياء والرسلَ، وهم خيرُ الخلق، وأحبُ الناسَ إلى الله، نزل بهم البلاء واشتدَ بهم الكرب، فماذا فعلوا وإلى من لجئوا.(17/4)
أخي الحبيب، أختصرُ لك الإجابة، إنه التضرعُ والدعاء، والافتقارُ لربِ الأرضِ والسماء، إنها الشكايةُ لله وحُسنُ الصلةِ بالله.
هذا نوحٌ عليه السلام يشكو أمرَه إلى الله ويلجأُ لمولاه:
قال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
كانتِ المناداة، كانتِ المناجاة، فكانتِ الإجابةُ من الرحمن الرحيم.
وقال تعالى: ( وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
وقال عز من قائل: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ).
هذا أيوبُ عليه السلام، ابتلاهُ اللهُ بالمرضِ ثمانيةَ عشر عاماً حتى أن الناسُ ملوا زيارته لطولِ المدة، فلم يبقى معه إلا رجلانِ من إخوانهِ يزورانه، لكنه لم ييئس عليه السلام، بل صبرَ واحتسب، وأثنى الله عليه: ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، أواب أي رجاعٌ منيبٌ إلى ربه، ظل على صلتِه بربِه وثقتِه به، ورضِاهُ بما قُسم الله له، توجه إلى ربه بالشكوى ليرفع عنه الضراء والبلوى قال تعالى:(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
قال الحقُ عز وجل ، العليمُ البصيرُ بعباده، الرحمنُ الرحيم قالَ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ).
هذا يونسُ عليه السلام، رفع الشكاية لله فلم ينادي ولم يناجي إلا الله قال تعالى:(17/5)
( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).
وزكريا عليه السلام قال الحق عز وجل عنه: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ). ماذا كانت النتيجة ؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ). الذين يشكون العقم وقلة الولد.
إذا لماذا استجاب الله دعاه؟
لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، وكانوا لا يملون الدعاء، بل كان القلب متصل متعلق بالله، لذلك قال الله عنهم: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
خاشعين متذللين، معترفين بالتقصير، فالشكاية تخرج من القلب قبل اللسان.
يعقوبُ عليه السلام قال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، انظروا لليقين، انظروا للمعرفة برب العالمين: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، فاستجاب اللهُ دعائَه وشكواه وردَ عليه يوسفَ وأخاه.
وهذا يوسف عليه السلام ابتلاه الله بكيد النساء، فلجأ إلى الله، وشكى إليه ودعاه فقال:
( وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، إنه التضرع والدعاء، والافتقار لرب الأرض والسماء، إنها الشكاية لله، وحسن الصلة بالله.
(فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).(17/6)
وأخبر الله عن نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فقال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ). استغاثة لجاءة إلى الله، شكوى وصلة بالله سبحانه وتعالى.
وهكذا أيها الأحبةِ حينما نستعرضُ حياةَ الرسلِ جميعاً، كما قصها علينا القرآن الكريم، نرى أن الابتلاء والامتحان كان مادتُها وماُئها، وأن الصبرَ وحسنُ الصلةِ بالله ودوام الالتجاءِ وكثرةُ الدعاءِ وحلاوة الشكوى كان قوَمُها.
وما أشرنا إليه إنما هي نماذج من الاستجابة للدعاء، ومن في كتب السير والتفاسير وقف على شدةِ البلاء الذي أصاب الأنبياء، وعلم أن الاستجابةَ جاءت بعد إلحاحٍ ودعاء، واستغاثةٍ ونداء.
إنها آياتُ بينات وبراهينُ واضحات، تقول بل وتعلن أن من توكلَ واعتمد على الله، وأحسن الصلة بمولاه استجاب الله دعاه، وحفظه ورعاه، فإن لم يكن ذلك في الدنيا كان في الآخرة: ( وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ).
أنها صفحاتٌ من الابتلاء والصبر معروضةٌ للبشرية، لتسجل أن لا اعتماد إلا على الله، وان لا فارجَ للهمِ ولا كاشفَ للبلوى إلا الله.
هذا هو طريق الاستعلاء أن تنظرَ إلى السماء، وأن نلحُ بالدعاء، لأن الشكوى إلى الله تشعرك بالقوةِ والسعادة، وأنك تأوي إلى ركنٍ شديد.
أما الشكوى إلى الناس، والنظرِ إلى ما في أيدي الناس فيشعرك بالضعف والذل والإهانةِ والتبعية.
يا أهل التوحيد، أليس هذا أصل من أصول التوحيد ؟
إن من أصول التوحيد أن تتعلق القلوبُ بخالقها في وقت الشدةِ والرخاء والخوفِ والأمن، والمرضِ والصحة، وفي كل حالٍ وزمان.
وما نراه اليومَ من تعلقِ القلوب بالمخلوقين، وبالأسباب وحدها دون اللجأ إلى الله، لهو نذيرُ خطرٍ يزعزعُ عقيدةِ التوحيدِ في النفوس.(17/7)
أيها الأحبة: إن الشكوى لله، والتضرعَ إلى الله، وإظهارَ الحاجة إليه، ولاعتراف بالافتقار إليه من أعظمِ عرى الإيمانِ وثوابتِ التوحيد، وبرهانُ ذلك الدعاء والإلحاح بالسؤال، والثقةُ واليقينُ بالله في كلِ حال.
ولقد زخرت كتبُ السنةِ بأنواعٍ من الدعاءِ تجعلُ المسلمَ على صلةٍ بربه، وفي حرزٍ من عدوه، يقضي أمره ويكفي همه.
في كلِ مناسبةٍ دعا، في اليقظةِ والمنام، والحركة والسكون، قياماً وقعودا، وعلى الجنوب، ابتهالٌ وتضرعٌ في كل ما أهم العبد، وهل إلى غيرِ الله مفر، أم هل إلى غيره ملاذ.
ففي المرض مثلا الأحاديث كثيرة، والأدعية مستفيضة، إليك على سبيل المثال ما أحرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه المعوذات، وينفث، فلما أشتد وجعه كنت اقرأ عليه وأمسح عليه رجاء بركتها.
وأخرج البخاري ومسلم أيضا من حديث عائشة قالت:
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب البأس رب الناس، وأشفي أنت الشافي لا شفاء إلا شفائك، شفاء لا يغادر سقما، أي لا يترك سقما.
وفي صحيح مسلم عن عثمان أبن أبي العاص رضي الله تعالى عنه:
أنه شكى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): ضع يدك على الذي تألم من جسدك.
انظروا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قدوتنا وحبيبنا يربي الناس، ويربي أصحابه على الاعتماد واللجاءة إلى الله، ضع يدك، الإرشاد أولا لله، التعلق أولا بالله، لم يرشده أولا لطبيب حاذق ولا بأس بهذا، لكن التعلق بالله يأتي أولا.
ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله، بسم الله ثم يقول سبعا أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر.(17/8)
وفي رواية أمسحه بيمينك سبع مرات، وفي رواية قال عثمان فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.
سبحان الله، اسمعوا لحسن الصلة بالله، والتوكل على الله، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.
أيها المريض، أعلم أن من أعظم أسباب الشفاء التداوي بالرقى الشرعية من القرآن والأدعية النبوية، ولها أثر عجيب في شفاء المريض وزوال علته، لكنها تريد قلبا صادقا وذلا وخضوعا لله.
رددها أنت بلسانك، فرقيتك لنفسك أفضل وأنجح، فأنت المريض وأنت صاحب الحاجة، وأنت المضطر، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، وما حك جلدك مثل ظفرك، فتوكل على الله بصدق وألح عليه بدون ملل، وأظهر ضعفك وعجزك، وحالك وفقرك إليه، وستجد النتيجة العجيبة إن شاء الله ثقة بالله.
فإلى كل مريض مهما كان مرضه أقول:
شفاك الله وعافاك، اعلم أن الأمراض من جملة ما يبتلي الله به عباده، والله عز وجل لا يقضي شيئا إلا وفيه الخير والرحمة لعباده، وربما كان مرضك لحكمة خفيت عليك، أو خفيت على عقلك البشري الضعيف، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
أيها الحبيب شفاك الله، هل علمت أن للأمراض والأسقام فوائد وحكم أشار أبن القيم إلى أنه أحصاها فزادت على مائة فائدة (انظر كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل صفحة 525).
أيها المسلم أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك وأن يعافيك، هل سمعت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها.
وهل سمعت أنها (صلى الله عليه وآله وسلم): زار أم العلاء وهي مريضة فقال الله ابشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة.
قال أبن عبد البر رحمه الله: الذنوب تكفرها المصائب والآلام، والأمراض والأسقام، وهذا أمر مجتمع عليه.(17/9)
والأحاديث والآثار في هذا مشهورة ليس هذا مقام بسطها، لكن المراد هنا أننا نرى حال بعض الناس إذا مرض فهو يفعل كل الأسباب المادية من ذهاب للأطباء وأخذ للدواء وبذل للأموال وسفر للقريب والبعيد، ولا شك أن هذا مشروع محمود، ولكن الأمر الغريب أن يطرق كل الأبواب وينسى باب مسبب الأسباب، بل ربما لجأ للسحرة والمشعوذين، نعوذ بالله من حال الشرك والمشركين.
ألم يقرأ هذا وأمثاله في القرآن:( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).
أيها المريض أعلم أن الشافي هو الله، ولا شفاء إلا شفائه.
أيها المريض، بل يا كل مصاب أيا كانت مصيبته، هل سألت نفسك لماذا ابتلاك الله بهذا المرض، أو بهذه المصيبة ؟ ربما لخير كثير ولحكم لا تعلمها ولكن الله يعلمها،ألم يخطر ببالك أنه أصابك بهذا البلاء ليسمع صوتك وأنت تدعوه، ويرى فقرك وأنت ترجوه، فمن فوائد المصائب استخراج مكنون عبودية الدعاء.
قال أحدهم: سبحان من استخرج الدعاء بالبلاء.
وفي الأثر أن الله ابتلى عبدا صالحا من عباده وقال لملائكته لأسمع صوته.
يعني بالدعاء والإلحاح.
أيها المريض، المرض يريك فقرك وحاجتك إلى الله، وأنه لا غنى لك عنه طرفة عين، فيتعلق قلبك بالله، وتقبل عليه بعد أن كنت غافلا عنه، وصدق من قال:
فربما صحت الأجسام بالعلل.
فأرفع يديك وأسل دمع عينيك، وأظهر فقرك وعجزك، واعترف بذلك وضعفك.
في رواية عن سعيد ابن عنبسة قال: بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصى ويحذف به إذ رجعت حصاة منه عليه فصارت في أذنه، فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه مدة وهي تألمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئ يقرأ: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ).
فقال الرجل: يا رب أنت المجيب وأنا المضطر فأكشف عني ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه في الحال.
لا تعجب، إن ربي لسميع الدعاء، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.(17/10)
أيها المريض، إياك وسوء الظن بالله إن طال بك المرض، فتعتقد أن الله أراد بك سوء، أو أنه لا يريد معافاتك، أو أنه ظالم لك، فإنك إن ظننت ذلك فإنك على خطر عظيم.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله تعالى يقول أنا عند ظني عبد بي، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله.
يعني ما كان في ظنه فإني فاعله به، فأحسن الظن بالله تجد خيرا إن شاء الله.
لا تجزعن إذا نالتك موجعة.............. واضرع إلى الله يسرع نحوك الفرج
ثم استعن بجميل الصبر محتسبا............ فصبح يسرك بعد العسر ينسلج
فسوف يدلج عنك الهم مرتحلا........... وإن أقام قليلا سوف يدّلج
هذا في المرض، وأطلت فيه لكثرة المرضى، وحاجة الناس إلى مثل هذه التوجيهات، وهي تحتاج إلى دروس ومحاضرات، ولكن حسبي ما ذكرته الآن لأن الموضوع عام في المصائب والآلام.
ومن المصائب والآلام التي يحتاج الناس فيها إلى الشكوى إلى الله تراكم الديون وكثرة المعسرين.
كم من مدين عجز عن الوفاء، وكم من معسر يعيش في شقاء، هم في الليل وذل في النهار، أحزان وآلام لا يغمض في منام، ولا يهنأ في طعام، طريد للغرماء، أو مع السجناء، صبية صغار، وبيت للأجار، وزوجة مسكينة لا تدري أتطرق أبواب المحسنين أو تسلك طرق الفاسقين.
هذه رسالة مؤلمة من زوجة إلى زوجها في السجن بسبب الديون جاء فيها:
لم أتمتع معك في حياتنا الزوجية إلا فترة من الزمن حتى غيبوك في غياهب السجون، كم سنة غبت عني لا أدري ماذا فعل الله بك، ولا أدري عنك أحي فترجى أم ميت فتنعى، ليتك ترى حالي وحال أولادك، ليتك ترى حال صغارك، لست أدري هل أخون أمانة الله وأمانتك وأطلب الرزق لهؤلاء بطرق محرمة وأنا في ذمتك وعهدك، أم أطلب الطلاق ويضيع أولادك.. إلى أخر الرسالة من كتاب إلى الدائنين والمدينين.(17/11)
وأقول أيها الأحبة، تصوروا حال هذا الزوج كيف يكون وهو يقرأ هذه الكلمات، ديون وسجون وهموم وأولاد، ذل وخضوع للناس.
وأسمعوا لهذا الرجل وهو يشكو حاله ويقول: أنا رجل سجين علي مبلغ من المال، وصار لي في السجن أكثر من سنة ونصف، ولا يقبل خصمي كفيلا، وأنا معسر وصاحب عائلة فهل يجوز سجني؟
إلى هؤلاء وأمثالهم أقول: لماذا طرقتم الأبواب كلها ونسيتم باب من يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا خائبتين. وسنده جيد.
قال السري السبطي: كن مثل الصبي إذا اشتهى على أبويه شهوة فلم يمكناه قعد يبكي عليهما، فكن أنت مثله إذا سألت ربك ولم يعطك، فأقعد وأبكي عليه.
ولرب نازلة يضيق بها الفتى............... ذرعا وعند الله منها مخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها.......... فرجت وكان يظنها لا تفرج
ومن الأدعية في قضاء الدين ما أخرجه أبو داوود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد ذات يوم فرأى فيه رجلا من الأنصار يقال له أبو أمامه، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة، قال هموم لزمتني، وديون يا رسول الله. قال (صلى الله عليه وآله وسلم) أفلا أعلمك كلاما إذ قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك، قلت بلى يا رسول الله، قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.
قال ففعلت ذلك فأذهب الله تعالى همي وغمي وقضى عني ديني.
يعلق القلوب بالله صلوات الله وسلامه عليه.(17/12)
وروى البيهقي في فضائل الأعمال عن حماد ابن سلمة أن عاصما ابن أبي إسحاق شيخ القراء في زمانه قال: أصابتني خصاصة -أ ي حاجة وفاقة - فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الصحراء ثم وضعت وجهي على الأرض وقلت يا مسبب الأسباب، يا مفتح الأبواب، يا سمع الأصوات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضل عن من سواك. يلح على الله بهذا الدعاء.
قال فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعت بقربي، فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيسا أحمر فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون دينارا وجوهرا ملفوفا بقطنة، فبعت الجواهر بمال عظيم، وأبقيت الدنانير فاشتريت منها عقارا وحمدت الله تعالى على ذلك.
لا نعجب أيها الأخوة، إن ربي لسميع الدعاء، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
ومن الأدعية عند الهم والقلق ما أخرجه أحمد في المسند من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك، ابن عبدك أبن أمتك نصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضائك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزن وأبدله مكانه فرجا، وفي رواية فرحا، قال فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها، قال بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها.
أيها الأخوة، إن الإنسان منا ضعيف، ضعيف فكيف إذا اجتمعت عليه الهموم والأحزان، وشواغل الدنيا ومشاكلها فزادته ضعفا، وجعلته فريسة للهم والقلق والتمزق النفسي.
انظروا للعيادات النفسية، وكثرت المراجعين لها، شباب وفتيات في أعمار الزهور، أين هؤلاء من الاعتصام بالله، والاتصال والشكوى للذي قدّر الهموم والغموم وقضى بالمصائب والأحزان.(17/13)
يتصل به متذللا معترفا بذنبه طارقا بابه مستعينا به مستيقنا بأنه هو القادر على كشفها دون سواه، وما سواه إلا أسباب هو الذي يقدرها ويهيئها للعبد.
إن الله تعالى يقول: ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً).
قال أبن القيم في طريق الهجرتين: فإن الإنسان ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة ضعيف الصبر والآفات إليه مع هذا الضعف أسرع من السيل في صيب الحدور، فبالاضطرار لابد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المعين فالهلاك أقرب إليه من نفسه.
إذا فلنتعلم هذا الحديث كما أوصى (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن فيه خضوعا وخشوعا لله، فيه اعترافا بالعبودية والذل لله، فيه توسل واستغاثة بجميع أسماء الله ما يُغرف منها وما لا يعرف، ما كتب وما أخفى.
وأبشر أخي الحبيب فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج......... أبشر بخير فإن الفارج الله
إذا بليت فثق بالله وأرضى به......... إن الذي يكشف البلوى هو الله
ومن الأدعية عند النوازل والفتن والخوف ما أخرجه أبو داوود والنسائي عن أبي موسى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا خاف قوما قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
وكان يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) عند لقاء العدو: اللهم أنت عضدي وأنت ناصري، بك أصول وبك أجول وبك أقاتل.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حين القي في النار، وقالها نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم.
فإذا كان المحيي والمميت والرزاق هو الله، فلماذا التعلق بغير الله؟(17/14)
لماذا الخوف من الناس و(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك.
أيها المسلم، لا يمكن للقلب أبدا أن يسكن أو يرتاح أو يطمأن لغير الله، فاحفظ الله يحفظك وردد : ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
رأى موسى عليه السلام البحر أمامه والعدو خلفه فقال: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، إنها العناية الربانية إذا ركن إليها العبد صادقا مخلصا.
نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار ويرى أقدام أعدائه على باب الغار، ويلتفت إلى صاحبه يقول: ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )، والأعجب من ذلك أنه مطارد مشرد يبشر سراقة بأنه سوف يلبس سواري كسرى، هكذا الإيمان والاعتصام بالله.
كان (صلى) إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، أي إذا نزل به أم أو أصابه غم لجأ إلى الله، فزع إلى الصلاة ليلجأ إلى الله، ويشكو إلى الله، ويناجي مولاه.
إنها الثقة بالله عند الشدائد، فهو يأوي إلى ركن شديد.
فيا من وقعت بشدة أرفع يديك إلى السماء، وألح على الله بالدعاء والله يعصمك من الناس.
وإن كنتَ مظلوماً فأبشر فإن النبيَ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: وأتقِ دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
ألا قولوا لشخص قد تقوى............على ضعفي ولم يخشى رقيبه
خبأت له سهاما في الليالي............. وأرجو أن تكون له مصيبة
أيها الأخوة والأخوات، إن من أعظم البلايا وأشد الرزايا ما يصيب المسلمين في كل مكان من غزو واجتياح وتعديات ومظالم وفقر وتجويع حتى أصاب بعض النفوس الضعيفة اليأس والقنوط والإحباط وفقدان الثقة والأمل.(17/15)
لماذا أيها الأخوة ؟ أليس الأمر لله من قبل ومن بعد، أليس حسبنا الله وكفى بالله حسيبا، أليس الله بقادر، أليس هو الناصر وكفى بالله نصيرا، ألا يعلم الله مكرهم، ألم يقل:
( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
أليس الله بكافي عبده: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
ألم يقل: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ).
ألم يقل: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
معاشر الأخوة اسمعوا وعوا، وأعلموا وأعلنوا، إن مصيبتنا ليست بقوة عدونا، إنما هي بضعف صلتنا بربنا، وضعف ثقتنا وقلة اعتمادنا عليه، لنفتش في أنفسنا عند وقوعنا في الشدائد والمحن، أين الضراعة والشكوى لله، أين اللجاءة والمنجاة لله؟ ليس شيء أفضل عند الله من الدعاء لأن فيه إظهار الفقر والعجز، والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته وغناه.
أيها المسلمون، نريد أن تعلم فن الدعاء والتذلل والخضوع والبكاء، لنعترف بالفقر إليه، ولنظهر العجز والضعف بين يديه، أليس لنا في رسول الله قدوة، أليس لنا فيه أسوة، أوذي أشد الأذى، وكذّب أشد التكذيب، أتهم بعرضه وخدشت كرامته، وطرد من بلده، عاشا يتيما وافتقر، ومن شدةِ الجوع ربط على بطنه الحجر، قيل عنه كذابُ وساحر، ومجنونُ وشاعر، توضعُ العراقيلُ في طريقه، وسلى الجزورِ على ظهره، يشجُ رأسُه، وتكسرُ رباعيتُه، يقتلُ عمه، جمعوا عليه الأحزابَ وحاصروه، المشركون والمنافقون واليهود.
يذهبُ إلى الطائفِ يبلغُ دعوتَه فيقابلَ بالتكذيبِ والسبِ والشتمِ، ويطُردَ ويلاحقَ ويرمى بالحجارةِ فماذا فعل -بأبي هوَ وأمي- (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟(17/16)
أين ذهب، من يسأل، على من يشكو، إلى ذي الجبروتِ والملكوتِ، إلى القوي العزيز، فأعلن (صلى الله عليه وآله وسلم) الشكوى، ورفعَ يديه بالنجوى، دعاء وألحَ وبكاء، وتظلمَ وتألمَ وشكا، لكن اسمع لفنِ الشكوى وإظهار العجزِ والضعفِ والافتقار منه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
اللهم إليك أشكو ضعفَ قوتي وقلتَ حيلتي وهوانِ على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكِلني إلى عدوٍ يتجهمني، أم إلى قريبٍ ملكتَه أمري، إن لم تكن ساخطاً عليَ فلا أُبالي، غير أن عافيتَك أوسعُ لي، أعوذ بنورِ وجهَك الكريم، الذي أضاءت له السماوات، وأشرقت له الظلمات، وصلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرة، أن تُحلَ عليَ غضبَك أو تُنزلَ علي سخَطَك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قوة إلا بك. هكذا كان (صلى الله عليه وآله وسلم) ضراعة ونجوى لربه.
أيها الأخوة، لماذا نشكو إلى الناس، ونبث الضعف والهوان والهزيمة النفسية في مجالسنا، وننسى أو نتكاسل عن الشكوى لمن بيده الأمر من قبل ومن بعد:( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين َ* قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).
أليس فينا من بينه وبين الله أسرار؟ أليس فينا أيها الأحبة أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، أليس فينا من يرفع يديه إلى الله في ظلمة الليل يسجد ويركع، ينتحب ويرفع الشكوى إلى الله.
فلنشكو إلى الله ولنقوي الصلة بالله: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).(17/17)
ومن الأدعية في المصيبة والكرب والشدة والضيق ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم.
وفي رواية كان إذا حزبه أمر قال ذلك، قال النووي في شرح مسلم: هو حديث جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة، وقال الطبراني كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب.
وأخرج أبو داوود وأحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: دعوات المكروب، اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفت عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
وأخرج الترمذي عن سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوت ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدعو بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
لما قالها يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت، قال الله عز وجل: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، قال ابن كثير في تفسيره: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا في هذا الدعاء في حال البلاء، فقد جاء الترغيب بها عن سيد الأنبياء.
وأخرج مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إن لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها.
قالت فلما مات أبو سلمة قلت في نفسي أي المسلمين خير من أبي سلمة؟(17/18)
أو بيت هاجر إلى رسول الله، ثم إني قلتها –أي الدعاء- فأخلف الله لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
إذا فالاسترجاع ملجأ وملاذ لذوي المصائب، ومعناه باختصار: إن لله توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وإن إليه راجعون إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثنا.
إذا فالأمر كله لله، ولا ملجأ منه إلا إليه، والله عز وجل يقول: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
إليكم أيها الأحبة أمثلة ومواقف للذين لجئوا إلى حصن الإيمان وسلاح الدعاء، وأدركوا أن المفزع بعد الإيمان هو الدعاء، السلاح الذي يستدفع به البلاء ويرد به شر القضاء.
عن أصبغ ابن زيد قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثا لم نطعم شيئا من الجوع، فخرجت إلي ابنتي الصغيرة وقالت يا أبتي الجوع، تشكو الجوع، قال فأتيت مكان الوضوء – انظروا إلى من اللجاءة، انظروا إلى من يلجئون- فتوضأت وصليت ركعتين، وألهمت دعاء دعوت به وفي آخره: اللهم افتح علي رزقا لا تجعل لأحد علي فيه منة، ولا لك علي فيه في الآخرة تبعة برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت إلى البيت فإذا بابنتي الكبيرة قامت إلي وقالت: يا أبه جاء رجل يقول أنه عمي بهذه الصرة من الدراهم وبحمال عليه دقيق وحمال عليه من كل شيء في السوق، وقال: أقرءوا أخي السلام وقول له إذا احتجت إلى شيء فأدعو بهذا الدعاء تأتيك حاجتك.
قال أصبغ ابن زيد والله ما كان لي أخو قط، ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله على كل شيء قدير.
فقلت للفكر لما صار مضطربا.......وخانني الصبر والتفريط والجلد
دعها سماوية تمشي على قدر........لا تعترضها بأمر منك تنفسد
فحفني بخفي اللطف خالقنا........ نعم الوكيل ونعم العون والمدد(17/19)
وعن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعدا فقال لي أهلي قد ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به، قال فتوضأت – نرجع إلى السبب الذي كانوا يدورون حوله رضوان الله عليهم- فتوضأت وكان لي صديق لا يزال يقسم علي بالله إن يكون لي حاجة أعلمه بها ولا أكتمها عنه، فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد، فذكرت ما روي عن أبي جعفر قال: من عرضت له حاجة إلى مخلوق فليبدأ فيها بالله عز وجل، قال فدخلت المسجد فصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد أفرغ علي النوم، فرأيت في منامي أنه قيل: يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، قال فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني فيه ربي، فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة، ثم تركت الذهاب لصاحبي وتوكلت على الله، ثم انصرفت إلى المنزل فوجدت الذي أردت أن اقصد قد حركه الله وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم.
إن ربي لسميع الدعاء، فلا نعجب أيها الأحبة، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
وأسمع لدعا أبن القيم في الفاتحة يقول: ومكثت بمكة مدة يعتريني أدوار لا أجد لها طبيبا ولا دواء، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأرى لها تأثيرا عجيبا، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما، فكان كثير منهم يبرأ سريعا.
وفي حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه لما قرأ على سيد الحي الفاتحة قال: فكأنما نشط من عقال، وهذا يشهد أيضا بفضل الفاتحة.
ومن المواقف الجميلة الطريفة في فضل الدعاء أنه كان لسعيد أبن جبير ديكا، كان يقوم من الليل بصياحه، فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، فلم يصلي سعيد قيام الليل تلك الليلة فشق عليه ذلك، فقال ماله قطع الله صوته –يعني الديك-؟
وكان سعيد مجاب الدعوة، فما سمع للديك صوت بعد ذلك الدعاء، فقالت أم سعيد:
يا بني لا تدعو على شيء بعدها.(17/20)
وذكر أحد الدعاة في بعض رسائله أن رجلا من العباد كان مع أهله في الصحراء في جهة البادية، وكان عابدا قانتا منيبا ذاكرا لله، قال فانقطعت المياه المجاورة لنا وذهبت التمس ماء لأهلي فوجدت أن الغدير قد جف، فعدت إليهم ثم التمسنا الماء يمنة ويسرة فلم نجد ولو قطرة، وأدركنا الظمأ واحتاج أطفالي للماء، فتذكرت رب العزة سبحانه القريب المجيب، فقمت وتيممت واستقبلت القبلة وصليت ركعتين، ثم رفعت يدي وبكيت وسالت دموعي وسألت الله بإلحاح وتذكرت قوله:
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
قال وما هو والله إلا أن قمت من مقامي وليس في السماء من سحاب ولا غيم، وإذا بسحابة قد توسطت مكاني ومنزلي في الصحراء، واحتكمت على المكان ثم أنزلت ماءها فامتلأت الغدران من حولنا وعن يميننا وعن يسارنا فشربنا واغتسلنا وتوضئنا وحمدنا الله سبحانه وتعالى، ثم ارتحلت قليلا خلف هذا المكان وإذا الجدب والقحط، فعلمت أن الله ساقها لي بدعائي، فحمدت الله عز وجل:
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ).
وذكر أيضا أن رجلا مسلما ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهله إليها، وطلب بأن تمنحه جنسية، قال فأغلقت في وجهه الأبواب، وحاول هذا الرجل كل المحاولة وستفرغ جهده وعرض الأمر على كل معارفه، فبارت الحيل وسدت السبل، ثم لقي عالما ورعا فشكا إليه الحال، فقال له عليك بالثلث الأخير من الليل فأدعو مولاك، إنه الميسر سبحانه وتعالى، قال هذا الرجل: ووالله فقد تركت الذهاب إلى الناس وطلب الشفاعات، وأخذت أداوم على الثلث الأخير كما أخبرني ذلك العالم، وكنت أهتف لله في السحر وأدعوه، وما هو إلا بعد أيام وتقدمت بمعروض عادي ولم اجعل بيني وبينهم واسطة فذهب هذا الخطاب وما هو إلا أيام وفوجئت وأنا في بيتي أني ادعى وأسلم الجنسية، وكنت في ظروف صعبة.(17/21)
إن الله سميع مجيب، ولطيف قريب، لكن التقصير منا، لابد أن نلج على الله وندعوه، وابشروا:
(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).
وأذكر أن طالبا متميز في دراسته حصل له ظرف في ليلة امتحان إحدى المواد، ولم يستطع أن يذاكر جميع المنهج المقرر للمادة إلا بقدر الثلث، فأهتم لذلك واغتم وضاقت عليه نفسه، ولم يستطع الإفادة من باقي الوقت لاضطراب النفس وطول المنهج.
فما كان منه إلا أن توضأ وصلى ركعتين وألح على الله بأسمائه وصفاته وباسمه الأعظم، يقول الطالب فدخلت قاعة الامتحان ووزعت أوراق الأسئلة، وقبل أن انظر فيها دعوت الله ورددت بعض الأذكار، ثم قلبت الورقة فإذا الأسئلة أكثرها من ذلك الثلث الذي درسته، فبدأت بالإجابة ففتح الله علي فتحا عجيبا لم ك أتصوره، ولكن ربي سميع مجيب.
فإلى كل الطلاب والطالبات أقول:
لماذا غفلتم عن الدعاء والشكوى لله وأنتم تشكون لبعضكم وتزفرون وتتوجعون ؟
لماذا يعتمد الكثير منكم على نفسه وذكائه، بل ربما اعتمد البعض على الغش والاحتيال.
إن النفس مهما بلغت من الكمال والذكاء فإنها ضعيفة وهي عرضة للغفلة والنسيان، نعم لنفعل الأسباب ولنحفظ ولنذاكر ولنجتهد ولكن كلها لا شيء إن لم يعينك الله ويفتح عليك، فلا حول ولا قوة إلا بالله في كل شيء، فهل طلبت العون من الله، توكل على الله، وافعل الأسباب، وارفع يديك إلى السماء وقل:
يا سامعا لكل شكوى، وأظهر ضعفك وفقرك لله وسترى النتائج بأذن الله.
وأنت أيها المدرس والمدرسة، بل ويا كل داعية لماذا نعتمد على أنفسنا الضعيفة في التوجيه والتعليم، هب أننا أعددنا الدرس جيدا وفعلنا كل الأسباب، هل يكفي هذا؟
لعلك تسأل ما بقي؟
أقول هل سألت الله العون والتوفيق عند تحضير الدرس؟
هل سألت الله أن يفتح لك القلوب وأن يبارك في كلماتك وأن ينفع بها؟
هل سألت الله العون والتوفيق وأنت تلقي الدرس؟
هل دعوت لطلابك أن يبارك الله لهم وأن ينفع بهم وأن يصلحهم وأن ييسر عليهم.(17/22)
هذه بعض الأمثلة والمواقف، وما يعرف ويحكى أكثر وأكثر، ولكننا نريد العمل والتطبيق.
تنبيه مهم:
كثير من الناس إذا وقع بشدة عمد إلى الحرام، كمن يذهب للسحرة والكهان، أو يتعامل بالربا والحرام، فإذا نصح أو ذكّر قال: أنه مضطر، أو كما يقول البعض ليس كمن رجله في النار كمن رجله في الماء.
ولعلي أيها الحبيب أذكرك بآية ربما أنك نسّيتها في خضم المصيبة والشدة التي وقعت فيها، إن الله عز وجل يقول: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)،والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدنيا إلى اللجأ والتضرع إلى الله كما يقول الزمخشري.
وأنت أيها الأخ، أو أيتها الأخت، تذكر أنك مضطر والمضطر وعده الله بالإجابة حتى وإن كان فاسقا، فإذا كان الله قد أجاب دعوة المشركين عند الاضطرار فإن إجابته للمسلمين مع تقصيرهم من باب أولى.
جاء رجل إلى مالك ابن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر، قال فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
إن الله قد عز وجل قد ذم من لا يستكين له، ولا يتضرع إليه عند الشدائد، وانتبهوا أيها الأحبة أنه لابد للضراعة والاستكانة لله عند الشدة كما أخبر الله فقال عز من قائل:
(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ).
أي لو استكانوا لربهم لكان أمرا أخر، فكيف بحال من يقع بالشرك والحرام عند البلاء والشدة فيزيد الطين بلة، كيف يريد الشفاء أو انكشاف البلاء وهو يطلبه من مخلوقين مثله ضعفاء.
قال بعض السلف: قرأت في بعض الكتب المنزلة أن الله عز وجل يقول: يؤمل غيري للشدائد والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجى غيري ويطرق بابه بالبكرات وبيدي مفاتيح الخزائن وبابي مفتوح لمن دعاني، من ذا الذي أملني لنائبة فقطعن به؟
أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه ؟
ومن ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له ؟(17/23)
أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني.
أبخيل أنا فيبخلني عبدي، أليست الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي ؟
فما يمنع المؤملين أن يؤملوني، ولو جمعت أهل السماوات وأهل الأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبلغت كل واحد منهم أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه، فيا بأسا للقانطين من رحمتي، ويا بأسا لمن عصاني ووثب على محارمي. ذكر ذل ابن رجب في نور الاقتباس، والإسرائيليات يعتضد بها ولا يعتمد عليه كما يقول شيخ الإسلام أبن تيمية رحمه الله.
أيها الأخوة إن اللهَ يحبُ أن يُسأل، ويغضبُ على من لا يسألُه، فإنه يريدُ من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه، ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحبُ الملحين في الدعاء، بل وينادي في كلِ ليلةٍ : هل من سأل فأعطيه، هل من داعٍ فأستجيب له.
فأين المضطرون، أين أصحابُ الحاجات، أين من وقع في الشدائدِ والكُربات.
معاشر الأخوة والأخوات، اقرءوا وانظروا في حادثة الإفك، وفي حديث الثلاثة أصحاب الغار، وحديث المغترب الذي وضع المال في الخشبة وألقاها في البحر، وحديث الثلاثة الذين خلفوا، وغيرها من القصص النبوي في الصحاح والسنن، فرج عنهم بسؤالهم لله، وإلحاحهم بالدعاء، رفعوا أيديهم إلى الله، وأعلنوا الخضوع والذل لله، وهذا الذل لا يصلح إلى لله، لحبيبه ومولاه.
ذل الفتى في الحب مكرمة....... وخضوعه لحبيبه شرف
فالعبوديةُ لله عزٌ ورفعةٌ، ولغيره ذلٌ ومهانة، وفي سؤال الله عبودية عظيمة لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج.
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا......فأبذله للمتكرم المفضال
كان يحي ابن معاذ يقول: يا من يغضب على من لا يسأله لا تمنع من سألك.
وكان بكر المزني يقول: من مثل يا ابن آدم؟ متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان.(17/24)
وسأل رجل بعض الصالحين أن يشفع له في حاجة إلى بعض المخلوقين، فقال له أنا لا أترع بابا مفتوحا وأذهب إلى باب مغلق.
هكذا فلتكن الثقة بالله والتوكل على الله.
وقبل الختام وحتى نصل إلى ما نريد من فن الشكوى وحسن النجوى تنبه إلى هذه التوجيهات:
أولا: الدعاء له آداب وشروط:
لابد من تعلمها والحرص عليها، واسمع لهذا الكلام الجميل النفيس من ابن القيم رحمه الله قال: وإذا جمع العبد مع الدعاء حضور القلب وصادف وقتا من أوقات الإجابة وخشوعا في القلب وانكسارا بين يدي الرب وذلا له وتضرعا ورقة واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على رسول الله، ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدم بين يدي دعائه صدقة فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا، ولا سيما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها مظنة الإجابة، وأنها متضمنة للإسم الأعظم. انتهى كلامه بتصرف.
ثانيا: الصدقة:
وقد أكد عليها أبن القيم في كلامه السابق، ولها أثر عجيب في قبول الدعاء، بل وفعل المعروف أيا كان وصنائع المعروف تقي مصارع السوء كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والله عز وجل يقول عن يونس عليه السلام: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
ثالثا: عليك بالصبر وإياك واليأس والقنوط:(17/25)
وفي هذا توجيهات منها أن تعلم أن الدعاء عبادة، ولو لم يتوفر لك من دعائك إلا الأجر على هذا الدعاء بعد إخلاصك لله عز وجل فيه لكفى، ومنها أن تعلم أن أعلم بمصلحتك منك، فيعلم سبحانه أن مصلحتك بتأجيل الإجابة أو عدمها، ومنها لا تجزع من عدم الإجابة فربما دُفع عنك بهذا الدعاء شرا كان سينزل بك، فعن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا أتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدعو بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم إذا نكثر، قال الله أكثر. وزاد فيه الحاكم: أو يدخر له من الأجر مثلها.
رابعا:ربما كان عدم الإجابة أو تأخيرها امتحان لصبرك وتحملك وجلدك:
وهل تستمر في الدعاء وفي هذه العبادة، أم تستحسر وتمل وتترك الدعاء، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يستجاب لأحكم ما لم يعجل يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي.
وفي رواية لمسلم قيل: يا رسول الله ماالاستعجال؟ قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء.
خامسا: أن تلقي باللوم على نفسك:
وهي من أهمها، فقد يمون سبب عدم الإجابة وقوعك أنت في بعض المعاصي، أو التقصير وإخلالك بالدعاء أو تعديك فيه، فمن أعظم الأمور أن تتهم نفسك وتنسب التقصير وعدم الإجابة لنفسك، فهذا من أعظم الذل والافتقار لله.(17/26)
وأسمع أيضا لهذا الكلام الجميل النفيس لأبن رجب رحمه الله يقول: إن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه ولا سيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة، رجع إلى نفسه باللائمة يقول لها إنما أتيت من قبلك، ولو كان فيك خيرا لأُجبت، وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه، فلذلك يسرع إليه حين إذ إجابة الدعاء، وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وعلى قدر الكسر يكون الجبر. انتهى كلامه.
سادسا: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة:
قال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دعاء في السراء، فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت معروف فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعا في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت ليس بمعروف.
أيها الأخوة، وأنا أتأمل في حديث الثلاثة أصحاب الغار وهم يدعون ويتوسلون إلى الله بصالح أعمالهم وأخلصها لله، أقول في نفسي وأفتش فيها أين ذلك العمل الصالح الخالص لله الخالي من حظوظ النفس، الذي سألجأ إلى الله فيه عند الشدة.
فلنرجع لأنفسنا ولنسألها مثل هذا السؤال، لنبحث في أعمالنا وعن الإخلاص لله فيها، ولنكن على صلة بالله في الرخاء، وصدق من قال:
إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد......ذخرا يكون كصالح الأعمال
سابعا: إن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان بالله تعالى:
وفيه اطمئنان للنفس وراحة للقلب، فأعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطئك لم يكن ليصيبك، وتذكر دائما أن كل شيء بقضاء وقدر، وأنه من عند الله.
ثامنا: أحرص على أكل الحلال فهو شرط من شروط إجابة الدعاء:
وفي الحديث: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنا يستجاب له.(17/27)
فالله الله بالحلال فإن له أثر عجيب في إجابة الدعاء، ربما قصرنا بوظائفنا، أي نوع من التقصير، وكان ذلك التقصير سبب في رد الدعاء أو إجابته، فلنتنبه لهذا أيها الأحبة.
تاسعا: حتى تكون مجاب للدعوة إن شاء الله أكثر من الاستغفار في الليل والنهار:
فلو لم يكن فيه إلا قول الحق عز وجل: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً)، فأين من يشكو الفقر والعقم والقحط عن هذه الآية.
هذه توجيهات أنتبه إليها قبل أن ترفع يديك إلى السماء لتكن مجاب الدعاء إن شاء الله.
إلى كل مصاب ومنكوب، وإلى كل من وقع في شدة وضيق أقول:
اطمأنوا فقد سبقكم أناس في هذا الطريق، وما هي إلا أيام سرعان ما تنقضي، وفي بطون الكتب المصنفة في الفرج بعد الشدة للتنوخي وأبن أبي الدنيا والسيوطي وغيرهم مئات القصص لمن مرضوا أو افتقروا أو عذبوا أو شردوا أو حبسوا أو عزلوا، ثم جاءهم الفرج ساقه لهم السميع المجيب.
فلك في المصابين أسوة قال ابن القيم في زاد المعاد كلام جميل أيضا فأسمعه:
قال ومن علاجه – أي علاج المصيبة- أن يطفأ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة، ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة، وأنه لو فتش العلم لم يرى فيهم إلا مبتلى إما بفوت محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرت يوما ساءت دهرا، وإن متعت قليلا منعت طويلا، وما ملئت دارا حبرة –أي سعادة- إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور.(17/28)
أيها الأخوة والأخوات، قصص القرآن والأحاديث في كتب السنة والقصص والمواقف في كتب الفرج بعد الشدة، والأحداث والعبر في واقعنا المعاصر جميعها تخبرنا أن الشدائد مهما طالت لا تدوم على أصحابها.
إذا اشتملت على اليأس القلوب......وضاقت لما به الصدر الرحيب
و أوطنت المكاره واطمأنت..........وأرست غي أماكنها الخطوب
ولم ترى لانكشاف الضر وجها.....ولا أغني بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث........ يجيء به القريب المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت......... فموصول بها الفرج القريب
ولو لم يكن في المصائب والبلايا إلا أنها سبب لتكفير الذنوب، وكسر لجماح النفس وغرورها، ونيل للثواب بالصبر عليها وتذكير بالعمة التي غفل عن شكرها.
وهي تذكر العبد بذنوبه، فربما تاب وأقلع عنها.
وهي تجلب عطف الناس ووقوفهم مع المصاب، بل من أعظم ثمار المصيبة أن يتوجه العبد بقلبه إلى الله، ويقف بابه ويتضرع إليه، فسبحان مستخرج الدعاء بالبلاء.
فالبلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات للمخلوقين ويوجب له الإقبال على الخالق وحده، وهذا هو الإخلاص والتوحيد.
فإذا علم العبد أن هذه من ثمار المصيبة أنس بها وارتاح ولم ينزعج، ولم يقنط، فإلى ذوي المصائب والحاجات والشدائد والكربات إن منهج القرآن يقول:
( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
بل اسمعوا إلى هذه الآية العجيبة ففيها عزاء وتطمين لكل المسلمين قال تعالى:
( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).
فلماذا التسخط والجزع والشكوى والأنين فلعل في ما حصل خيرا لك فتفاءل وأبشر، واعتمد على الله وارفع يديك إلى السماء وقل: يا سامعا لكل شكوى.
واحسن الظن بالله وقل:
صبرا جميلا ما أسرع الفرج
من صدق الله في الأمور نجى
من خشي الله لم ينله أذى(17/29)
من رجا الله كان حيث رجا
هذه كلمات لتسلية المحزونين، وتفريج كرب الملذوعين، وهي عزاء للمصابين وتطييب للمنكسرين.
أسأل الله أن ينفع بها المسلمين وأن يغفر لي ولك أجمعين.
فيا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى.
يا سابغ النعم، ويا دفع النقم، ويا فارج الغمم، ويا كشف الظلل، ويا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا ولي من ظُلم.
يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث ولا الدهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه الليل ويشرق عليه النهار.
كم من نعمة أنعمت بها علينا قل لك عندها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قل عندها صبرنا، فيا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا، ويا من قل عند بلائه صبرنا فلم يخذلنا أقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك حتى لا نرجو أحدا غيرك.
اللهم إنا نسألك إيمانا ثابتا، ويقينا صادقا حتى نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا، اللهم لا نهلك وأنت رجائنا، اللهم لا نهلك وأنت رجائنا احرسنا بعينك التي لا تنام وبركنك الذي لا يرام.
يا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى، يا كاشف كربتنا، ويا مستمع دعوتنا، ويا راحم عبرتنا، ويا مقيل عثرتنا.
يا رب البيت العتيق أكشف عنا وعن المسلمين كل شدة وضيق، واكفنا والمسلمين ما نطيق وما لا نطيق، اللهم فرج عنا وعن المسلمين كل هم غم، وأخرجنا والمسلمين من كل حزن وكرب.
يا فارج الهم، يا كاشف الغم، يا منزل القطر، يا مجيب دعوت المضطر، يا سامعا لكل نجوى احفظ إيمان وأمن بلادنا، ووفق ولاة الأمر لما فيه صلاح الإسلام والعباد.
يا كاشف كل ضر وبلية، ويا عالم كل سر وخفية نسألك فرجا قريبا للمسلمين، وصبرا جميلا للمستضعفين، يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدا، ويا ذا النعم التي لا تحصى أبدا، أسألك أن تصلي على محمد وعلى آلي محمد أبدا.(17/30)
اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
.............................................................................................................................................................
تم بحمد الله وتوفيقه.
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب،
بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
- إبلاغنا عن الخطأ الإملائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
- الاستئذان من الشيخ لتبني طباعتها ككتيب يكون صدقة جارية لك إلى قيام الساعة.
في اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الجليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
أخي الحبيب لا تحرمنا من دعوة صالحة في ظهر الغيب..
للتواصل:
أخوكم البوراق / anaheho@maktoob.com
واحات الهداية: http://www.khayma.com/ante99/index.htm(17/31)