عبر من الأحداث
إن الناظر إلى واقع المسلمين اليوم يجد أن الوهن واليأس قد دب إلى قلوب كثير من المسلمين؛ وذلك بسبب الأحداث والمنعطفات التي تمر بها الأمة، فالواجب على دعاة الأمة أن يوجهوا خطابهم الدعوي ليبثوا من خلاله روح العزيمة في قلوب الناس، وتبشيرهم بوعد الله بالنصر لهذه الأمة، وبيان أن الصراع بين الحق والباطل مستمر إلى يوم القيامة، وأن الغلبة للحق بإذن الله.(1/1)
الاستدلال بالماضي على الحاضر من خلال القصص القرآني
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
أما بعد: أيها الفضلاء! أحمد الله الذي هيأ لنا هذا اللقاء، وجمعنا هذا المساء في هذا المسجد المبارك، وأسأل الله سبحانه كما جمعنا فيه أن يجمعنا في جنات النعيم، وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم، وأن يجعلنا {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
وفي بداية هذه الكلمة أقول: إن في القرآن الكريم قصصاً وعبراً، وعندما قص الله جل جلاله علينا شيئاً من أخبار الأولين قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111]، وهذه العبر لا تقتصر على ما مضى، بل لو نظر المسلم المتدبر للقرآن الكريم في تلك القصص وقاسها بواقعه الذي يعيشه فإنه يستطيع أن يستدل بماضيه على حاضره، ولو أن مسلماً شك في أن فئة قليلة مستضعفة يمكن أن تنتصر على فئة كثيرة مستعلية، فليقرأ قول ربنا جل جلاله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:13]، ولو أن مسلماً نظر إلى بعض المتألهين المتجبرين، وإلى بعض الطغاة المستكبرين، فليقرأ في القرآن الكريم قول الله جل جلاله عن فرعون اللئيم: {فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات:21 - 26]، ولو أن مسلماً نظر إلى دولة كافرة متكبرة عاتية تريد أن تفرض على الدنيا ثقافتها ورؤاها وحضارتها، فليقرأ في القرآن الكريم: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:45 - 46]، وليقرأ قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:102 - 103].(1/2)
تذكير الناس بمعاني العزة والكرامة
ولذا: فما أحرانا إلى أن نذكر الناس بمثل هذه المعاني، وإلى أن ندلهم على أن يرجعوا إلى القرآن؛ لكي يلتمسوا منه العبر والدروس وخاصة في زماننا هذا الذي اشتدت فيه الأزمات، وتوالت القوارع والنكبات على المسلمين، فاحتُلّت كثير من ديارهم، وعُطلت شريعتهم، وطُمست معالم دينهم، وأراد أعداؤهم أن يفرضوا عليهم ما يريدون من ثقافة وحضارة ورؤى واستشراف للمستقبل، وأرادوا أن يزرعوا في قلوبهم اليأس، وأنه لا أمل لهم في أن يرجعوا إلى دينهم، أو أن يستعيدوا أمجادهم، وصار حال الناس كما قال القائل: أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه إن هذا الواقع الذي يعيشه الناس أدى إلى أن يدب اليأس والقنوط إلى قلوب كثير منهم، بل لقد دبَّ إلى ألسنتهم، فتجد عبارات تنضح باليأس، وربما يتفوه بها بعض الخاصة لا العامة! بل وخاصتهم من علمائهم ومفكريهم ومثقفيهم وأهل الحل والعقد فيهم! وتجد كثيراً من هؤلاء يتكلمون وكأنه لا أمل ولا نجاة لنا بل لا بد أن نستسلم!! فمثل هؤلاء الناس لم ينظروا في عبر التاريخ، ولم ينظروا في تاريخ هذه الأمة الذي كان ولا زال في مد وجزر، وتقدم وتقهقر، ونصر وهزيمة، وأمل وألم، هؤلاء يحتاجون إلى أن يذكروا بقول الله عز وجل: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52]، ويحتاجون إلى من يذكرهم بقول الله جل جلاله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، ويحتاجون إلى من يذكرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أشد حالاته حين كان محاصراً في مكة وكان أصحابه مضطهدين معذبين جاءه خباب بن الأرت رضي الله عنه -والنبي صلى الله عليه وسلم متوسد بردة له في ظل الكعبة- فقال له خباب -وقد عانى من المشركين ما عانى هو وإخوانه المؤمنون-: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟)، فيقول هذا الكلام وهو رضي الله عنه يشعر بالضيق والكرب حين كان المشركون يأتون بالمسلم فيجيعونه ويعطشونه ويلقونه في حر الشمس، ويضعون على صدره الصخرة العظيمة، ويقولون له: واللات والعزى لا ندعك حتى تكفر بمحمد وإله محمد.
وهذا مثل الوضع الذي فيه المسلمون الآن، فبعضهم أسرى، وبعضهم مسجون، وبعضهم معذب، وبعضهم مطارَد، وبعضهم مضطهَد، وهكذا كان الصحابة، (فاعتدل النبي صلى الله عليه وسلم في جلسته وقال له: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع المنشار على رأسه حتى يفرق بين رجليه، ويمشطونه بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يرده ذلك عن دينه، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام والصحابة لا يرون بادرة أمل في الأفق، لكنه عليه الصلاة والسلام يزرع في قلوبهم الأمل، ويستدل على ذلك بأخبار الأولين، ولذلك لو قال قائل من الدعاة اليوم وهو يخاطب جماهير المسلمين: إن مع الصبر نصراً، وإن مع الكرب فرجاً، وإن مع العسر يسراً، وإن مع الشدة والسقم عافية ورحمة، ثم استدل على ذلك بأخبار الأولين وبعبر التاريخ وقصص الماضين، فلا ينبغي أن يقول قائل: إن هذا إنسان يعيش مع التاريخ، أو يعيش مع القصص والحكايات، فالله جل جلاله حين يريد أن يزرع في قلوب الناس الأمل فإنه يذكرهم بالماضي، فها هو يقول لأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]، فالله عز وجل هنا يستدل بالماضي من أجل أن يبشرهم بالمستقبل، ومن أجل أن يدلهم على الحاضر، فينبغي أن نقول للمسلمين: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، ونقول لهم: لا ينبغي أن يصيبكم وهن ولا حزن، ولا ضيق مهما توالت النكبات، ومهما اشتدت الأزمات، ومهما تتابعت القوارع، ومهما قتل من المسلمين العدد الكثير، نعم إننا نحزن لذلك كما كان يحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما استشهد في مؤتة جعفر، وزيد، وعبد الله بن رواحة رضوان الله عليهم صعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر ودموعه على خديه، فنعى للصحابة جعفراً وزيداً وعبد الله بن رواحة، ولما وقف على جثمان عمه حمزة رضي الله عنه وقد بُقرت بطنه، وجُدعت أنفه، وقطعت أذناه، دمعت عيناه صلوات ربي وسلامه عليه وقال: (والله ما وقفت موقفاً أغيظ من هذا)، وكان عليه الصلاة والسلام يحزن عندما يصيبه الكرب، لكنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقطع أمله في الله قط، بل كان يبشر المسلمين في أشد اللحظات ضيقاً وحرجاً، ففي وقعة الأحزاب كان المسلمون محاصَرون، وقد اجتمع عليهم ثلاثة أنواع من الكروب: برد شديد، وجوع شديد، وخوف شديد، قال تعالى عنهم: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10]، فالمسلمون وهم في تلك الحال ترامت الأنباء بأن اليهود قد نقضوا العهد، وأنهم مالئوا المشركين على المسلمين، فأرسل النبي عليه الصلاة والسلام السعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضوان الله عليهما، وقال لهما عليه الصلاة والسلام -وهو القائد الخبير المحنك-: (إن وجدتم اليهود على العهد باقين فأعلنوا ذلك للناس، وإن وجدتموهم قد نقضوا العهد فالحنوا لي لحناً أعرفه)، أي: لئلا تفتوا في عضد الناس.
فذهب السعدان رضي الله عنهما فوجدا اليهود على شر حال: يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكرونه بالسوء، فقال السعدان لليهود: هل أنتم على العهد؟ قالوا: وأي عهد؟ قالا لهم: عهدكم مع رسول الله، قالوا: ومن رسول الله! وسبوه سباً قبيحاً، فرجع السعدان رضوان الله عليهما وقالا: يا رسول الله! عضل والقارة -فهذا هو اللحن- ففهم النبي عليه الصلاة والسلام أن اليهود قد غدروا بالمسلمين غدراً كغدر قبيلتَي عضل والقارة بـ خبيب وأصحابه، فقال عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين!)، فسبحان الله! فأي بشرى هذه؟! وهؤلاء المشركون من قريش وغطفان والأحابيش قد حاصروا المدينة من كل ناحية، وهؤلاء اليهود قد نقضوا العهد، وهؤلاء المنافقون يتسللون لواذاً يفتون في عضد الناس، {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13]، ومع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشروا يا معشر المسلمين!) ولم يقل ذلك عليه الصلاة والسلام إلا لأنه يعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، والآن تمالئ على المسلمين أمم الأرض من كل حدب وصوب، فما إن يسمع أعداء الله عز وجل بجماعة من المسلمين في بلد من البلاد قد نشروا الأمن، وحكموا شريعة الله، ووجد المسلمون معهم حلاوة الحياة إلا سعوا في وأدهم، وتدميرهم، وتقتيلهم، ومطاردتهم، وأن يلصقوا بهم أبشع التهم، وأشنع الأوصاف، وشردوا بهم من خلفهم، ونجد أن المنافقين يتسللون بكتاباتهم وأحاديثهم وإشاعاتهم ليفتوا في عضد الناس، وليدخلوا اليأس في القلوب، فنذكر هؤلاء بقول ربنا: ((وَلا تَهِنُوا))، فالوهن ممنوع، ونذكرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، واحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل).
فيا أيها المسلم! اقرأ قول الله عز وجل: ((وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ))، ويا من تقارع أعداء الله وتجاهد في سبيل الله! ويا من تتوق إلى نصر الإسلام! اقرأ هذه الآية: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، وتأمل في هذه الآية، واعلم بأن الله عز وجل بشرك أولاً: بأن الألم الذي يصيبك فإنه يصيب الكفار مثله: ((إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ))، وإن كان في المسلمين قتيل وجريح ومعوق ومتألم فكذلك في الكفار، وما دام في المسلمين من يرفع هذه الراية: لا إله إلا الله، ويعتقد أن معقد العز وذروة سنام الإسلام هو الجهاد فليعلم أنه من أهل هذه الآية: ((إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ)).
ثانياً: قال الله عز وجل: ((وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ))، فالكافر أمله في هذه الدنيا، وأما أنت أيها المسلم! فتعتقد أن بعد هذه الحياة حياة، وأن بعد هذه الدنيا جنة عرضها السموات والأرض، {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55]، فتعتقد أن هناك جنة تنتظرك، وهذه الجنة بناؤها لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ، وترابها الزعفران، من دخلها ينعم فلا يبأس، ويسعد فلا يشقى، ويشب فلا يهرم، ويخلد فلا يموت: ((وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ))، وهذا المعنى هو الذي فه(1/3)
دروس وحقائق من الأحداث
إن الأحداث التي تعصف بالأمة في أيامنا هذه لهي من نعم الله على العباد؛ حتى يدركوا جملة من الحقائق، أولها:(1/4)
عداوة الكفار عداوة عقدية أصيلة
إن عداوة الكفار للمسلمين عداوة أصلية راسخة، وليست عداوة طارئة ولا عداوة تابعة للمصالح، فلابد أن يذكّر الناس بقول ربنا جل جلاله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120].
وقوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109]، فليست الحرب حرباً على شخص حاكم، ولا حرباً على نظام بعينه بدعوى أنه نظام دكتاتوري، أو أنه لا يعطي للناس حرياتهم، بل إن العداوة هي للدين نفسه، والعداوة لكل مسلم مهما تسمى ومهما انتمى إلى أي طائفة أو جماعة، فهذه حقيقة لابد أن يدركها الناس الآن.(1/5)
الكفر ملة واحدة
ثاني هذه الحقائق التي لابد أن يدركها الناس: أن الكفر ملة واحدة، وأن المنظمات الدولية وغيرها سراب يستعملها الكفار متى ما أرادوا، ثم بعد ذلك يدوسون عليها بالنعال ويهمشونها، ويغضون الطرف عنها متى ما كان الإجرام مسلطاً على المسلمين، أو على بلدة مسلمة، أو على جماعة من المسلمين، وحينئذ فهذه المنظمات لا قيمة لها، ولذلك لا ينبغي لعقلاء المسلمين أن يعولوا عليها، وليكن تعويلهم على رب العالمين جل جلاله، وليكن تعويلهم على استمساكهم بدينهم، وليكن تعويلهم على وحدتهم التي هي سر قوتهم.(1/6)
الجهاد هو المخرج لهذه الأمة من الذلة
ثالث هذه الحقائق التي ينبغي أن يذكر الناس بها: أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، فإذا تركه الناس ضرب عليهم الذل، وضربت عليهم المسكنة، وأحاط بهم الأعداء من كل جانب، وغزوهم في عقر دارهم.(1/7)
ضرورة ووجوب الوحدة بين المسلمين
رابع هذه الحقائق: أنه لا طاقة للمسلمين بمواجهة عدوهم إلا إذا اعتصموا بالله ربهم، وأما إذا رفعوا شعارات القومية، أو شعارات الوطنية، أو غيرها من الشعارات مما كنا نسمعه إلى عهد قريب من اشتراكية وبعثية فهذه كلها لن تغني عنهم من الله شيئاً، ولا يستطيع أن يواجه أهل الكفر إلا قوم رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وبالقرآن إماماً، وحالهم كحال خبيب رضي الله عنه، أو كحال زيد بن الدثنة، أو كحال عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وأمثالهم رضوان الله عليهم، فعندما كان الواحد منهم يقاد إلى القتل فيسأل فيقال له: يا فلان! أتحب أنك بين أهلك وولدك ومحمد مكانك صلى الله عليه وسلم؟ فكان يعلنها مدوية: والله ما أحب أني بين أهلي ومالي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشاك بشوكة، فهكذا كان حبهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام، حتى أنطق الله بعض الكفار فقال: لقد أتيت كسرى وقيصر فما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.(1/8)
الأيام دول
ثم خامس هذه الحقائق والعبر التي ينبغي أن يذكر الناس بها في هذه الأحداث: أن الأيام دول، وأن الدهر يتغير، وأن صراع الحق مع الباطل جولات وليست جولة واحدة، فيأتي أهل الباطل فيقذفون أهل الحق بطائراتهم، ويسلطون عليهم حممهم ونيرانهم، ثم لا ينتهي الأمر عند ذلك، والقرآن الكريم يذكرنا بذلك القانون الإلهي، يقول الله عز وجل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] أي: بين نصر وهزيمة، تقدم وتقهقر، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:9]، وهذا السلاح -أعني: سلاح التذكير بعاقبة الأمم المتغطرسة المتجبرة- هو السلاح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيف به أعداء الله، فعندما جاءه عتبة بن ربيعة وقال له: (يا محمد! ما رأيت رجلاً أشأم على قومه منك؛ لقد سفهت أحلامنا، وفرقت جماعتنا، وعبت آلهتنا، فانظر ما تريد؟ إن كنت تريد مالاً جمعنا لك حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رأي من الجن التمسنا لك الطب، وإن كنت تريد نساء فانظر أجمل نساء قريش نزوجك عشراً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أو قد فرغت يا عم؟! قال: نعم، فاردد عليَّ قولي إن استطعت، قال له فاسمع: بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1 - 4] إلى أن بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]، فألقى الله الرعب في قلب الكافر، فجاء فوضع كفه على فم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا محمد! ناشدتك الله والرحم أن تكف عنا).
فمطلوب منا أن نذكر المسلمين اليائسين بأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون، ونذكرهم بأن أمماً قد ملكت وسادت ثم بادت، وعلت واستكبرت في الأرض ثم بدل الله عز وجل الحال غير الحال، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6].(1/9)
بث روح الحماس والعزة في نفوس الناس
ولا بد أن نطرح أسئلة على هؤلاء المسلمين اليائسين فنقول لهم: هل شباب الإسلام الآن أكثر التزاماً، أم أنهم كانوا أكثر التزاماً في السنوات الماضية؟ إن كبار السن الذين قد بلغوا من العمر الخمسين أو الستين سنة ليشهدون بأن الشباب اليوم هم خير وأفضل وأكثر استقامة وسداداً من الشباب الذين كانوا قبل ثلاثين أو أربعين سنة، وهذا إن دل فإنما يدل على أن الأمة إلى خير بإذن الله تعالى.
ونطرح أيضاً هذا السؤال؟ كلمة الجهاد التي ترهب أعداء الله وتخيفهم! هل كانوا يسمعونها قبل خمسين أو ستين سنة؟ فقد طمست معالمها حتى في معاهد العلم الشرعي، فقد كانوا يطوونها طياً، بل إن بعض الكتب التي ألفت في تفسير القرآن نجد أن آيات الجهاد كانت تطوى طياً، ثم إذا مروا على غيرها من الآيات فيقولون: ولنا هنا وقفات، ويبدءون في التفصيل والتفريع والتقسيم، وأما آيات الجهاد بل وسور الجهاد فإنها تطوى طياً، والآن نجد الناس يسألون عن الجهاد، ولهم رغبة في معرفة فقه الجهاد وآداب الجهاد، ونفوسهم تتوق إلى هذه الكلمة التي عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام.
ونطرح سؤالاً آخر فنقول: أليس جمهور المسلمين يتوقون إلى أن تحكيم شريعة الله؟ وإلى أن يحل الحلال ويحرم الحرام؟ أليس جمهور المسلمين الآن نافرين من تلك الأنظمة المستوردة مما فرض على بلاد المسلمين شرقاً وغرباً؟ فالناس الآن زاهدون في هذا كله، ويتوقون إلى العودة إلى شريعة ربهم التي جاءت صفواً، ويتوقون إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، وهذا يلمس في كل مكان.
لذلك: نقول للناس: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، فهذا وعد ربنا في القرآن والله لا يخلف الميعاد: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ} [آل عمران:146] أو قُتِلَ {مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران:146 - 148] أي: جنتاً ونعيماً.
ونقول لهم: (جاء بعض الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا رسول الله! نصبح ونمسي في السلاح، أي: أنهم يشتكون رضوان الله عليهم، فهم في المدينة دائماً في حالة طوارئ وخوف من اليهود ومن المنافقين ومن قبائل الأعراب التي تحيط بالمدينة ولم تدن بعد لله، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]).
وقد صدق موعود ربنا فيها في هذه الآية، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام محصور في جزيرة العرب ونجد والحجاز وتهامة واليمن، ولم يمض سوى عقدين من الزمان (عشرين سنة) حتى كان الإسلام قد بلغ الشام والعراق وفارس ومصر والشمال الإفريقي، بل وبلغ الإسلام إلى حدود الصين شرقاً، ودق أبواب فرنسا غرباً، والآن يقول العارفون بحقائق الأمور: إن الإسلام هو أكثر الأديان انتشاراً، وليس ذلك في أدغال إفريقيا، ولا في أحواش آسيا، ولا في أطراف الدنيا، بل في أوروبا وأمريكا، وليس يدخل فيه أقوام يبحثون عن كسوة أو غذاء أو جرعة دواء، بل يدخل فيه عِلية القوم من علمائهم ومفكريهم ومثقفيهم ممن يستطيعون أن يميزوا الخبيث من الطيب، فهؤلاء هم الذين يدخلون في دين محمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك؛ (لما جاء عدي بن حاتم وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يجادله ليدخله في الإسلام قال له: ما حملك على الفرار أغاظك أن يقال: الله أكبر، فهل أحد أكبر من الله؟ أغاظك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل إله غير الله؟ يقول عدي رضي الله عنه: رأيت أصحابه يحفون به إن تكلم سكتوا، وإن أمر ابتدروا، فقلت: إن هذا ملك، فهذه أخلاق الملوك، يقول عدي: فلما قام إلى بيته تبعته عليه الصلاة والسلام من المسجد إلى بيته، فاستوقفته امرأة عجوز فوقف يناجيها طويلاً، فقلت: والله ما هذه أخلاق ملك! قال: فلما دخلت معه بيته ألقى إلي وسادة وقال: اجلس عليها، قلت: بل اجلس أنت، قال: لا، بل اجلس أنت، فأجلسني على الوسادة وجلس على الأرض، ثم قال له: يا عدي! لعله يمنعك من الإسلام ما ترى من ضعف أصحابي؟ قال: بلى، قال: ولعله يمنعك من الإسلام ما ترى من فقرهم؟ قال: بلى، قال له: أسلم فإنه يوشك إن طالت بك حياة أن ترى الظعينة تخرج من الحيرة، أتعرف الحيرة؟ قلت: لا، لكنني سمعت بها، قال: يوشك إن طالت بك حياة أن ترى الظعينة -المرأة المسافرة- تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت ليست في جوار أحد إلا الله، ويوشك إن طالت بك حياة أن تفتح كنوز كسرى بن هرمز، ويوشك إن طالت بك حياة أن ترى المال يعطى صحاحاً فلا يقبله أحد، قال عدي رضي الله عنه: فوالله لقد عشت حتى رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت ليست في جوار أحد إلا الله، وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والله لتقعن الثالثة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم).
إن المسلمين الآن بحاجة إلى يقين كيقين عدي، فلا بد أن يعتقدوا أن الله لا يخلف الميعاد، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وأن كل ما أخبر الله به في القرآن، وكل ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام فيما صح من سنته لابد كائن ولابد واقع، فهذا الأمر نحتاج إليه ونحتاج أن نذكر الناس به.
أسأل الله عز وجل أن ينصر دينه وكتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين.
اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذل دينك، اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذل دينك، اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذل دينك.
اللهم من أرادنا وبلادنا والإسلام والمسلمين بخير فأجري الخير على يديه، ومن أرادنا وبلادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، وأشغله بنفسه، واجعل تدميره في تدبيره، وأهلكه كما أهلكت عاداً وثمود.
اللهم إنا نسألك يا أكرم الأكرمين! ويا أرحم الراحمين! لإخواننا المجاهدين في كل مكان نصراً عزيزاً، وفتح قريباً، اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان، اللهم ثبت أقدامهم، وقوي شوكتهم، واجمع كلمتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على من عاداك وعاداهم يا أرحم الراحمين! ويا أكرم الأكرمين! وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله.(1/10)
حمالة الحطب
تحدث القرآن الكريم عن الأبرار والفجار، وذكر صفات كل منهما، ومن صفات الفجار: السعي بين الناس بالنميمة، وقد ذكر القرآن امرأة أبي لهب وأنها في النار؛ لأنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة.
والنميمة داء وبيل وشرٌ عظيم يفسد العلاقات الأخوية بين الناس، وينشئ المنازعات والقتال بينهم.
والنميمة من كبائر الذنوب، ومن أسباب عذاب القبر، ومن موانع دخول الجنة، فيجب الحذر منها وتجنب الاستماع إلى أصحابها.(2/1)
أنصار الخير وأنصار الشر
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، أحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار.
وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار.
وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
أما بعد: أيها الفضلاء! أحمد الله الذي هيأ لنا هذا اللقاء في هذه الليلة المباركة، ليلة الجمعة التي يستحب فيها الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه في الحديث أنه قال: (إن من خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا من الصلاة علي فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ -يعنون: بليت- فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).
أسأل الله سبحانه كما جمعنا في هذا المسجد المبارك، أن يجمعنا في جنات النعيم، وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم، وأن يجعلنا إخواناً على سرر متقابلين.
إخوتي الكرام! عنوان هذه الكلمة: حمّالة الحطب، أقول في مقدمتها: ما أكثر الشخصيات التي تحدث عنها القرآن، وهي على نوعين: النوع الأول: شخصيات مؤمنة برة تقية، ملأت الأرض نوراً وعدلاً وهدىً ورحمة، كأنبياء الله ورسله وأوليائه وصالحي عباده، جزاهم الله عن الإسلام وأهله خيراً.
النوع الثاني: شخصيات ملأت الأرض ظلماً وجوراً وبطشاً، وتحدث عنها القرآن بما فيها، ومن هؤلاء: حمّالة الحطب زوجة أبي لهب العوراء، أم جميل بنت حرب، التي توعدها ربنا جل جلاله هي وزوجها بنار ذات لهب، {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] قال أهل التفسير: التباب هو الخسار، كما في قوله جل جلاله: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37] أي: في خسار.
قالوا: (تبت) الأولى: دعاء، (وتب) خبر.(2/2)
المال لا يغني عن المرء شيئاً
يقول الله عز وجل بعدما دعا عليه وقد حصل هذا التباب والخسار: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2] ما أغنى عنه ماله الذي جمعه وحرص على تنميته وتثميره؟ وما أغنى عنه كسبه؟ قالوا: المقصود بالكسب هاهنا الذرية والأولاد.
قال أهل التفسير: اختصم بنو أبي لهب، فجاءو إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ليصلح بينهم، فاقتتلوا عنده، فقام ليحجز بينهم، فدفعوه حتى سقط، فقال رضي الله عنه: أخرجوا عني الكسب الخبيث! وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه).
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للناس في الموسم أو في سوق عكاظ: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم، إني رسول الله إليكم جميعاً، وكان عمه أبو لهب -وهو رجل أحول جسيم ذو غديرتين- يسير خلفه ويقول: لا تصدقوه فإنه كذاب، لا تصدقوه فإنه ساحر، فيعجب الناس ويقولون: من هذا؟ فيقول أهل مكة: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله، والرجل الذي خلفه عمه أبو لهب، فكان الناس يقولون: عمّه أعلم به) أي: إذا قال عمّه: إنه كذاب فهو كذلك، وإذا قال: إنه ساحر فهو كذلك، فكان صاداً عن سبيل الله، قال الله عز وجل: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3].(2/3)
جزاء إيذاء الصالحين
قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ} [المسد:4] أي: زوجته، وهي العوراء أم جميل بنت حرب، {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4] أو (حمالةُ الحطب) قراءتان، قال أهل التفسير: كانت هذه المرأة الظالمة الباغية تطرح الأقذار والأشواك والحطب في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بابه، فما كان صلى الله عليه وسلم يزيد على أن يرفع يده ويقول: (ما هذا الجوار يا بني عبد المطلب؟!).
وقيل: بل قوله تعالى: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) إخبار عن المآل وأنها في النار والعياذ بالله، فهي ستأخذ الحطب وتطرحه على زوجها؛ لتزيده عذاباً فوق العذاب؛ لأنها في الدنيا حرَّضته على الكفر وزينت له الشرك.
وقيل: بل قوله تعالى: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) لأنها كانت بخيلة رغم غناها وكثرة مالها، وكانت تنقل الحطب على رأسها وتبيعه.
وقيل: بل قوله تعالى: (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) كناية عن سعيها بالنميمة بين الناس، كانت تنقل كلام الناس بعضهم إلى بعض؛ لتفسد بينهم، وتقطع الأواصر، وتزرع العداوة والبغضاء، فهي بمثابة من يحمل الحطب ليزيد النار اشتعالاً، قال تعالى: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:5].
أيها الفضلاء! ما أكثر آباء لهب وأمهات لهب في زماننا، ما أكثر هؤلاء الصَّادين عن سبيل الله، المشائين بالنميمة بين الناس، الملتمسين للبرآءِ العيب، الذين يعملون على زرع العداوة والبغضاء بين المؤمنين والمؤمنات، هؤلاء جميعاً ينبغي أن يُذكّروا بهذه الآية؛ لأن الله عز وجل وصف تلك المرأة الباغية الظالمة بهذا الوصف القبيح، ليحذرنا من أن نسلك سلوكها، وأن نسير سيرها، فالنميمة من القبائح والمنكرات التي نهانا عنها ربنا جل جلاله.(2/4)
النميمة
النميمة هي: نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتَّات).
قيل: القتَّات هو النمَّام، وقيل: بل القتات هو الذي ينقل كلاماً ما سمعه وإنما نُقل إليه، كأن يُقال له: إن فلاناً قال في فلان كذا، فيبادر إلى نقل الكلام دون أن يكون قد سمعه منه، أما النمام فهو الذي سمع الكلام بنفسه فنقله.
وقد أجمع المسلمون على أن النميمة حرام، وما قال بجوازها أحد.(2/5)
الفرق بين النميمة والغيبة
قال أهل العلم: الفرق بين النميمة وبين الغيبة أن الغيبة قد تجوز أحياناً، كما قال القائل: القدح ليس بغيبة في ستةٍ متظلمٍ ومعرفٍ ومحذر ولمظهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومن طلب الإعانةَ في إزالةِ منكرِ فالغيبة قد تجوز أحياناً، أما النميمة فلا تجوز بحال.
ومن الفروق بينهما أن الغيبة قد تكون باللسان، وقد تكون بالقلب، كأن تظن بفلان ظن السوء، أما النميمة فلا تكون إلا باللسان.
ومن الفروق بينهما كذلك: أن الغيبة تختص بالمغتاب وحده الذي يتكلم بها، أما النميمة فإنه يشترك فيها أطراف متعددة.(2/6)
خطر النميمة
النميمة من كبائر الذنوب؛ لأنها مؤدية إلى فساد ذات البين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما هو أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين).
فالنميمة سبب في حلق الدين؛ لأنها تفسد ذات بين المسلمين، وقد قال الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] وقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114].
فالنمّام مرتكب كبيرة، وقد قال الله عز وجل: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم:10 - 12]، قال بعض أهل التفسير: قلَّ أن تجد نماماً إلا وهو -والعياذ بالله- ولد زنا، واستدل بهذه الآية، فإن الله تعالى قال بعد هذه الأوصاف: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:13]، والزنيم: هو الذي لا نسب له يعرف، وهو ابن السفاح والعياذ بالله! ولا يلزم ما قالوه على كل نمام، لكن الشاهد أن النمام نادى على نفسه بأنه شخص غير سوي.
قال أهل العلم: وقلَّ أن تجد إنساناً إلا وهو يمقت النمام حتى وإن نقل إليه ما يقول الناس فيه، فسامعه في قرارة نفسه يبغض هذا الناقل ويكرهه، لأنه نقل إليه ما يؤذيه.(2/7)
النميمة من أسباب عذاب القبر
جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على قبرين فقال: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة).
قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: ذكر بعض أهل العلم مناسبة الذنبين للعقوبتين في ذلك الموضع، فالذنب الأول: عدم الاستتار والتنزه من البول، والذنب الثاني: المشي بالنميمة بين الناس، قال: مناسبة ذلك أن (القبر هو أول منازل الآخرة) كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، وأول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة من عمله الصلاة، والصلاة مفتاحها الطهارة من الحدث، وهذا لم يتطهر من الحدث، وأول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء، والدماء سببها في الغالب النميمة، ولذلك كان عامة عذاب القبر من هذين الذنبين: عدم الاستتار من البول، والمشي بالنميمة بين الناس: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) أي: بزعمهما، وقال بعضهم: (وما يعذبان في كبير) أي: ليس كبيراً عليهما تركه، فقد كان يمكنهما تركه لو أرادا، (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه لكبير)، ثم أخذ عليه الصلاة والسلام جريدة رطبة فشقها نصفين، وغرس في كل قبر واحدة وقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).(2/8)
الأسباب الحاملة على النميمة
الأسباب الحاملة على النميمة ثلاثة: أولها: إرادة السوء بالمنقول عنه، حين تنقل بأن فلاناً قال كذا وكذا.
السبب الثاني: حب المحكي له، فقد تكون محباً لفلان وسمعت فلاناً آخراً يقول فيه كلاماً قبيحاً، فتنقل إليه ما قيل فيه محبة له.
السبب الثالث: الاشتغال بالفضول، بعض الناس يشتغل بفضول القول، ما عنده ما يشغله، وما عوّد لسانه ذكر الله ولا تلاوة القرآن، ولا الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عوّد نفسه على نوافل الصلاة وغيرها من الأعمال الصالحة، ولا يشتغل بعمل نافع من أعمال الدنيا، لكنه يشتغل بالفضول وأن فلاناً قال، وأن فلاناً حكى إلى غير ذلك مما لا نفع فيه.(2/9)
موقف المسلم من النمام
قال الإمام الذهبي ومن قبله النووي وغيرهما من أهل العلم: الواجب على من نُقلت إليه قالة السوء التي قيلت فيه أمور ستة: أولها: ألا يصدّق هذا النمام؛ لأنه فاسق، والله عز وجل يقول: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، فلا تصدقه فيما نقل إليك.
ثانياً: أن تزجره وتقبّح له فعله، وتنهاه عن تعاطي مثله في مستقبل أيامه، وأن تبين له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة نمام)، وأنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)، وأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن النميمة، وأن الله عز وجل نهى عن طاعة المشّاء بالنميمة بين الناس.
ثالثاً: أن تبغضه في الله؛ لأنه قد تعاطى سبباً يستحق به البغض، فالذي يسعى بالنميمة ينبغي أن يكون بغيضاً إليك، لأنه بغيض إلى الله عز وجل.
رابعاً: ألا تظن بأخيك الذي نُقلت عنه تلك الكلمة أو تلك الحكاية إلا خيراً؛ لأن الله عز وجل قال: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12].
ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يطوف حول الكعبة، وقال لها: (ما أطيبكِ وأطيب ريحكِ، ما أعظمكِ وأعظم حرمتكِ، والذي نفسي بيده! لحرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتكِ، دمه وماله وعرضه وألا يُظنّ به إلا خيراً).
خامساً: لا تبحث عما قيل، ولا تتجسس، ولا يحملنك الفضول على أن تفتشّ وراء المنقول عنه، هل قال أو لم يقل، وإلا فقد وقعت في المنهي عنه، قال ربنا جل جلاله: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12].
سادساً: لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله، طالما أنك نهيت ذلك النمام فلا تحك ما قال، ولا تنقل ما نقله إليك، وإلا كنت أنت وإياه بمنزلة سواء.(2/10)
مواقف السلف في زجر النمام ورد النميمة
أيها الإخوة الكرام! المتأمل في حياة الناس والذي يتتبع مشكلاتهم يجد أن أغلبها مبدأه من النميمة؛ ولذلك كان عباد الله الصالحون، أئمة العدل وأهل التقى والهدى والنور؛ أشد الناس حذراً من النميمة والنمامين.
جاء رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال له: إن فلاناً قال عنك كذا، وعلي ممن نوّر الله قلبه، وكان محباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكان يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال له علي رضي الله عنه: يا هذا! إن كنت صادقاً مقتناك - أي: كرهناك وأبغضناك -، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك، قال: بل أقلني يا أمير المؤمنين.
فـ علي رضي الله عنه قال له: سنفتش عما قلت، فإن كنت صادقاً كرهناك؛ لأنك نمام، وإن كنت كاذباً عاقبناك، فلابد من تعزيرك بكذبك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك، قال: أقلني يا أمير المؤمنين ولا أعود أبداً.
وكذلك الإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما نقل إليه بعض الناس كلاماً قال له عمر: يا هذا! إن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11]، وإن كنت كاذباً فأنت من أهل تلك الآية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، وإن شئت أقلناك ولا تعد، قال: لا أعود.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إيّاك وقاتل الثلاثة، قال: ويلك من قاتل الثلاثة؟! قال: الذي ينقل للإمام حديث غيره فيقتله الإمام، (يقتل المنقول عنه) فيكون ذلك الرجل قتل صاحبه ونفسه والإمام، قتل صاحبه بالوشاية، وقتل نفسه؛ لأنه هلك عند الله عز وجل، وكان سبباً في هلاك ذلك الإمام الذي قتل نفساً بغير نفسٍ أو فساد في الأرض.(2/11)
آثار النميمة وأضرارها
الآثار الاجتماعية التي تترتب على النميمة كثيرة، منها: التفرقة بين الزوجين المتحابين، وإيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين والمؤمنات، وتهديم الأسر وتشتيت العوائل، وربما إسالة الدماء وإثارة النعرات وغير ذلك، وهذه الآثار الخطيرة الموجودة الآن في مجتمعات المسلمين تحملنا حملاً على أن نحذر من هذه الآفة، وأن نأخذ بالأسباب القاطعة لأصلها، وقد قال أهل العلم: ينبغي للنمام أن يبادر إلى الله عز وجل بالتوبة، وأن يشتغل بعيبه عن عيوب الناس، وأن يشتغل بإصلاح نفسه، وأن يعلم يقيناً أنه ما دام مقيماً على هذا الذنب، فقد عرض نفسه لسخط الله عز وجل، وقد اتبع نهج شياطين الإنس والجن، ممن يوقعون العداوة والبغضاء بين المؤمنين والمؤمنات.
أسأل الله عز وجل أن يهدينا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا سيئها لا يصرف سيئها إلا هو.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، ونسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين.
اللهم إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهُنا، وارفعنا ولا تضعنا.
اللهم سلمنا وسلم الناس منا، اللهم سلمنا وسلم الناس منا، اللهم سلمنا وسلم الناس منا.
اللهم تقبل توبتنا واغفر حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا، واجعل هذا المجلس المبارك شاهداً لنا لا علينا، واجعله في صحائف حسناتنا يوم نلقاك، وكما جمعتنا فيه نسألك أن تجمعنا في مستقر رحمتك ودار كرامتك مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(2/12)
دروس عن الهجرة [1]
إن الأنبياء هم أشد الناس بلاءً، وقد ابتلي النبي صلى الله عليه وسلم بقومه الذين صبوا عليه وعلى أصحابه أنواعاً وأشكالاً من العذاب؛ فقد أوذي وسُب وشُتم وحوصر هو وأصحابه، فصبروا على ذلك حتى جاء فرج الله، وأذن الله لهم بالهجرة إلى القوم الذين نذروا أنفسهم لنصرة هذا الدين ونصرة النبي عليه الصلاة والسلام.(3/1)
الهجرة من دار الاستضعاف إلى دار التمكين والعزة
الحمد لله رب العالمين، نحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم! صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام! في هذا الدرس -إن شاء الله- نتناول طرفاً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهجرته المباركة التي كانت انتقالاً من دار الكفر إلى دار الإسلام، وانتقالاً من مرحلة الاستضعاف والقلة إلى مرحلة العزة والكثرة، كما قال الله عز وجل في معرض الامتنان على نبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26].(3/2)
أنواع العذاب الذي صبر عليه المصطفى وأصحابه
لقد أرسل الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فمكث في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى الله، وكان يقول: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم، قولوا: لا إله إلا الله كلمة أشهد لكم بها عند الله)، ولكن القوم: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7]، وكانوا يسخرون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، وكانوا يقولون: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36]، وكانوا يقولون: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء:49] ونحو ذلك من أنواع السخرية والاستهزاء بالنبي عليه الصلاة والسلام.
ولم يكتفوا بذلك فحسب، بل سلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه رضوان الله عليهم نوعين من الحروب المؤذية الفتاكة: النوع الأول: الحرب الاقتصادية، وذلك حين كتبوا تلك الصحيفة الظالمة الخاطئة، وعلقوها في جوف الكعبة: ألا يبيعوا للمسلمين ولا يبتاعوا منهم، وألا يزوجوهم ولا يتزوجوا منهم، فحوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في شعب بني هاشم ثلاث سنوات حتى اضطروا إلى أن يأكلوا أوراق الشجر، يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كان أحدنا يضع كما تضع الشاة! فإذا أراد أحدهم أن يقضي حاجته فإنه يخرج منه كالبعر الذي يخرج من الشاة من شدة الجوع وقسوة العيش التي كانوا يعانونها، وكل ذلك من أجل أن يردوهم عن دينهم! النوع الثاني: حرب التصفية الجسدية، فقد كانوا يأتون بالرجل ويجوعونه ويعطشونه، يلقونه في حر الشمس، ويضعون على صدره الصخرة العظيمة، ويضربونه بالسياط، ويدفعونه إلى صبيان مكة يتقاذفونه، ويقولون له: واللات والعزى! لا ندعك حتى تكفر بمحمد وإله محمد، حتى إن بعض الصحابة فقد بصره من شدة التعذيب والأذى، مثل زنيرة جارية رومية فقدت بصرها، فقال المشركون: أذهب بصرها اللات والعزى، فقالت رضي الله عنها: كذبتم وبيت الله! ما تنفع اللات والعزى وما تضر، ما أذهب بصري إلا الله وهو قادر على أن يرده إلي، فرد الله عليها بصرها.
وسمية بنت خياط أم عمار بن ياسر رضي الله عنهما كانوا يعذبونها، حتى دخل عليها عدو الله أبو جهل وأفحش لها في القول، وقال لها: ما أسلمت إلا من أجل الرجال، فما ردت عليه وما أجابت؛ لأنها من عباد الرحمن الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فعمد عدو الله إلى حربته فطعنها في فرجها، فمضت شهيدة إلى ربها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مواسياً لـ عمار: (قتل الله قاتل أمك يا عمار!).
وهكذا كان حال كثير من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانوا يعانون الأذى الشديد والتعذيب من هؤلاء الكفار الفجار، ولم يسلم من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا النبي الكريم الذي ما آذى أحداً، ولا منه الناس كلمة لاغية، ولا لفظة فاحشة، فقد ناله عليه الصلاة والسلام شيء عظيم من الأذى، ومن ذلك: أنه كان ساجداً عند الكعبة، فقال المشركون بعضهم لبعض: من ينطلق إلى جزور بني فلان فيأتي بسلاها فيطرحه على رأس محمد، فانبعث أشقاهم وهو: عقبة بن أبي معيط، فأتى بالقذر والنتن وطرحه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد.
وأحياناً يكون ساجداً فيأتي المشركون بالتراب فيضعونه على رأسه.
وأحياناً يكون ساجداً صلوات ربي وسلامه عليه فيأتي أحد المشركين فيضع رجله على عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادت عيناه تندران، أي: تخرجان.
ومرة أخرى يأتي الطارق إلى أبي بكر ويقول له: أدرك صاحبك فإن القوم قاتلوه، فيخرج أبو بكر رضي الله عنه الله عنه يجر إزاره، فيجد المشركين قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: فهذا يشتمه، وذاك يصفعه، وهذا يجذبه، فجاء أبو بكر مسرعاً فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]، فردد الكلمات التي قالها مؤمن آل فرعون، فترك القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر يصفعونه ويضربونه، حتى كان عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بالنعل على وجهه، حتى دمى وجه أبي بكر، وأغشي عليه رضي الله عنه، وحمل إلى بيته وهو لا يعقل شيئاً، فلما أفاق فتح عينيه فقُرب إليه طعام، فكان أول كلام نطق به أن قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير يا أبا بكر! قال: والله! لا أذوق ذواقاً ولا أطعم طعاماً، حتى آتيه فأنظر إليه.
هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مثل هذا الجو المشحون بالأذى والكيد والمكر، فأذن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بأن يخرجوا إلى الحبشة، فخرجوا رضوان الله عليهم بالهجرة الأولى، ثم خرجوا بالهجرة الثانية، وما زال الأذى يشتد ويتفاقم، وما زال الكيد يعظم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الأمر مداه، وذلك حين اجتمع القوم ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
ومكر الله عز وجل هو بطشه وأخذه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:102 - 103].
فلما بلغ الأمر بالنبي عليه الصلاة والسلام ذلك المبلغ، أذن لأصحابه بأن يخرجوا إلى المدينة، وإلى خير دار مع خير جيران، وهذا كله بوحي وبأمر وبتدبير الله، فإن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في التوراة والإنجيل هي: عبدي ونبيي محمد، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أميته حتى أقيم به الملة العوجاء، وأفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً.
ومن صفته صلى الله عليه وسلم أنه مهاجر إلى أرض سبخة، كثيرة الحجارة بين حرتين.
وهذا الوصف ينطبق على المدينة المنورة التي كانت تسمى يثرب، فقد قيض الله عز وجل لبنيه صلى الله عليه وسلم جماعة أخياراً من الأوس والخزرج، فبايعوه البيعة الأولى وهي التي تسمى ببيعة النساء، والتي فيها الأمور الستة: ألا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصون رسول الله صلى الله عليه وسلم في معروف، هكذا كانت البيعة الأولى.
ثم كانت البيعة الثانية التي شهدها ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وهي بيعة العقبة الثانية، وهي التي طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج مهاجراً إليهم على أن يمنعوه ما يمنعون منه نساءهم وأولادهم، وأن يدافعوا عنه بكل ما أوتوا.
فلما ذهب النبي عليه الصلاة والسلام ليبايع القوم حرص عمه العباس أن يشهد تلك البيعة رضي الله عنه، وكان إذ ذاك على دين قومه، فقال للأنصار: (يا معشر الأوس والخزرج! إن محمداً ابن أخي منا حيث قد علمتم، قد فارق ديننا وعاب آلهتنا، لكنه منا بمقام عظيم، فإن كنتم مسلميه إن عضتكم الحرب فمن الآن فدعوه، فالتفت القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا رسول الله! اشترط لنفسك ولربك، فاشترط صلى الله عليه وسلم لربه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، واشترط لنفسه أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم، قالوا: فما لنا إن وفينا؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل).
فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تلك البيعة العظيمة التي ترتبت عليها الهجرة المباركة، كما يأتي تفصيله في درس آخر.
أسأل الله أن ينفعني وإياكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/3)
دروس عن الهجرة [2]
إن المتأمل في الهجرة النبوية يستفيد منها دروساً جليلة، وعبراً عظيمة، ومن ذلك: عناية الله بأوليائه وحفظه لهم من أعدائهم، وإنزال الطمأنينة على قلوب المؤمنين في الشدائد، وتثبيت قلوبهم.(4/1)
الإذن بالهجرة
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
أما بعد: فقد سبق أن ذكرنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام ما خرج مهاجراً إلى المدينة، ولا أمر أصحابه بالهجرة إلا إنفاذاً لأمر الله عز وجل، وعملاً بقوله سبحانه: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56].
وعملاً بقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:97 - 99].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن المسلم لا يدع عبادة ربه، ولا يرضى بالذل، ولا يرضى بالضيم، بل يخرج من أرض إلى أرض، ويهاجر من بلد إلى بلد، ويلتمس مكاناً يعبد فيه ربه، ويقيم فيه شعائر دينه، ويجاهد في سبيله، وهذا هو الذي نتعلمه من حادثة الهجرة النبوية المباركة.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خرج من مكة بغضاً لها، ولا زهداً في الإقامة بها، بل هي منشؤه، ومرتع صباه، ومسقط رأسه، وبلد قومه، لكنه عليه الصلاة السلام لما ضاقت عليه مكة، وأبى أهلها أن ينقادوا لحكم الله، وأن يدخلوا في دين الله عز وجل، عند ذلك ضحى النبي عليه الصلاة والسلام بحبه لبلده، وبمقامه في أرضه، وخرج صلى الله عليه وسلم من مكة، ثم نظر إليها وقال: (والله إنك لأحب البلاد إلي، ولولاء أن قومك أخرجوني ما خرجت)، وأنزل الله عز وجل قوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، فالله عز وجل يبشره بأنه سيرجع إلى مكة فاتحاً منتصراً، وسيمكنه الله عز وجل من البلاد والعباد.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خرج في تلك الرحلة المباركة إلا ليفتتح عهداً جديداً، وليقيم دولة، وليربي أمة، ولينشر ديناً.
وهذه الرحلة -رحلة الهجرة- هي نوع من أنواع سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام أبو عبد الله بن القيم رحمه الله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أكرمه ربه بالرسالة، ما خرج مسافراً إلا لأمور أربعة: إما هجرة في سبيل الله، فقد خرج من مكة إلى المدينة مهاجراً، وإما مجاهداًً صلوات ربي وسلامه عليه، فقد خرج في سبع وعشرين غزوة كلها في سبيل الله، وإما حاجاً، وهذا لم يحصل إلا مرة واحدة، وهي حجة الوداع، وحجة البلاغ، وحجة الإسلام، وإما معتمراً، وهذه حصلت أربع مرار كلهن في ذي القعدة، فاعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة مهاجراً، ولو تأملنا فيها لرأينا فيها دروساً عظيمة ينبغي للمؤمنين أن يتأملوا فيها.(4/2)
دروس من الهجرة النبوية(4/3)
عناية الله تعالى بأوليائه الصالحين
الدرس الأول: أن الله عز وجل كاف عبده، فهو لا يسلم أوليائه للأعداء، ولا يخذل الصالحين من عباده، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاط المشركون ببيته إحاطة السوار بالمعصم، وفي يد كل رجل منهم سيف صلت، يريدون أن يضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والقوم هكذا حالهم قد أحاطوا به ووقفوا على بابه، فيخرج ثابت القلب، رابط الجأش، مطمئن النفس، وهو يتلو صدر سورة ياسين، إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، والقوم وقوف على بابه، وأبو جهل يتكلم مع إخوانه في الكفر، ويقول لهم: أيعدكم محمد أنكم إذا تابعتموه على دينه دخلتم الجنة، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن، وإن عصيتموه وأبيتم دينه دخلتم النار! والله ما هذا إلا الكذب، فيأخذ رسول الله عليه وسلم حفنة من تراب ويضعها على رأس أبي جهل ومن معه وهم لا يعقلون شيئاً، ويخرج من بينهم صلوات ربي وسلامه عليه تصحبه عناية الله.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان ثم وهو في طريق الهجرة صلوات ربي وسلامه عليه لحق بهم سراقة بن مالك الفارس المغوار، والبطل الضرغام، فدعا عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فساخت قوائم فرسه في الأرض، قال سراقة: فعلمت أنه ممنوع، أي: أنني لن أصل إليه بأذى، ولن أستطيع أن أمد إليه يداً بسوء، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيل عثرته، فدعا صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل فنهض فرسه، وبشر سراقة بأنه سيلبس سواري كسرى بن هرمز، وحقق الله عز وجل تلك النبوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فتحت بلاد فارس واستولى المسلمون على أسورة كسرى بن هرمز، جاء سراقة فذكر عمر بن الخطاب بما قاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألبسه عمر سواري كسرى، وقال: الحمد لله الذي كسا سراقة بن مالك -أعرابياً بوالاً على عقبيه من بني جعشم- سواري كسرى بن هرمز، وحمد عمر رضي الله عنه ربه على هذه الآية العظيمة.
فالمؤمن المقيم على طاعة الله العامل بأمر الله يطمئن إلى أن الله ناصره؛ لأنه لا يخلف الميعاد، وقد قال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
فنصر الله للمؤمنين في الدنيا والآخرة.(4/4)
الأخذ بالأسباب
الدرس الثاني: ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخذ بالأسباب، ومن هذه الأسباب: أنه أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يبتاع راحلتين قبل الهجرة.
وأنه صلى الله عليه وسلم أخذ بعوامل السِّرِّية، حتى أنه لما جاء ليخبر أبا بكر بأمر الهجرة جاءه في ساعة منكرة متنكراً بردائه فقال: (يا أبا بكر! أخرج من عندك.
فقال: يا رسول الله! إنما هو ابنتاي) فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله قد أمره بأن يهاجر.
ومن الأخذ بالأسباب: أن رسول الله صلى الله عليه خرج من غير الطريق الذي اعتاده الناس من أجل أن يلبس على القوم، ويعمي عليهم الآثار.
ومن الأخذ بالأسباب: أنه استأجر عبد الله بن أريقط -رجلاً من بني الديل- هادياً خريتاً خبيراً بالصحراء؛ من أجل أن يدلهم على الطريق.
ومن الأخذ بالأسباب كذلك: ما صنعته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما من إعداد الزاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه.
ومن الأخذ بالأسباب: ما كان من أمر دخولهما في غار ثور ومكثهما فيه أياماً ثلاثة إلى أن خف الطلب، وأيس القوم من اللحاق بهما، وعند ذلك خرجا.
والسؤال الذي يطرحه كثيرٌ من الناس في أيامنا هذه فيقولون: ما بالنا نحن مسلمون مؤمنون مصدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإن أهل الكفر قد تحكموا في رقابنا، وأديلوا علينا، وطاروا فوق رءوسنا، لِمَ ونحن مسلمون وهم كفار؟! فنقول: لأننا لم نأخذ بأسباب القوة التي أمرنا أن نأخذ بها، وانتظرنا أن ينزل علينا نصر من السماء دون أن نعد العدة، ونأخذ الأهبة، ونعمل بأسباب القوة، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنه موعود من الله بأن يحفظه، وأن يكلؤه ويرعاه إلا أنه أخذ بالأسباب.(4/5)
إنزال الله الطمأنينة والسكينة على قلب المؤمن في الشدائد
الدرس الثالث من دروس الهجرة النبوية: طمأنينة القلب، وسكينة النفس التي يرزقها الله عز وجل عبده المؤمن عند الشدائد، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو بشركما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110]- وهو في الغار، والقوم قد وقفوا على رأس الغار، وأبو بكر رضي الله عنه بحكم بشريته تدمع عيناه، ويرجف فؤاده حذراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما شأنك يا أبا بكر؟! قال: يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا، فقال صلى الله عليه وسلم -تلك الكلمة الخالدة-: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وخلد الله تلك المقولة في القرآن فقال: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].
وهنا قد يحلو لبعض أهل الشغب أن يقولوا: بكاء أبي بكر دليل على ضعف إيمانه.
نقول: لا والله حاشاه ذلك، أولاً: أن أبا بكر لو كان خائفاً على نفسه فلا حرج، فالقرآن الكريم ذكر عن موسى أنه خاف، وموسى نبي مكلَّم، قال الله عز وجل عنه: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21] أي: من فرعون، وموسى عليه السلام قال مثل ذلك لفرعون: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:21].
ثانياً: والله ما خاف أبو بكر على نفسه، وإنما كان خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك: أن أبا بكر في طريق الهجرة -كما تواترت الأخبار- تارة كان يمشي أمام النبي عليه الصلاة والسلام، وتارة خلفه، وتارة عن يمينه، وتارة عن شماله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ما تصنع يا أبا بكر؟! قال: يا رسول الله! أتذكر الرصد -أن هناك إنساناً يرصدك- فأمشي أمامك، وأتذكر الطلب -الذي كان يطلبك- فأمشي من ورائك، وأتذكر العدو عن يمينك وعن شمالك، فأمشي عن يمينك وعن شمالك، فقال له صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! أتحب أن ينزل بك المصاب دوني؟! قال: نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله).
ثم لما وصلوا إلى غار ثور قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: على رسلك، فدخل رضي الله عنه وتحسس جبال الغار، فما وجد فتحة إلا قطع من ردائه وسدها، حتى أمَّن الغار، ثم طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدخل.
أهذا صنيع من يخاف؟! لا والله! ثم لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم الغار توسد قدم أبي بكر، فلدغته عقرب عدة مرات وهو لا يتحرك من مكانه؛ كراهة أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ عليه الصلاة والسلام ورأى ما في أبي بكر من الأذى والألم تفل على موضع الألم فكأنه لم يكن.
لذلك ينبغي لنا أن ننزل أبا بكر منزلته وأن نثبت له ما أثبته القرآن من الفضل، فقد أثبت له الصحبة قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة:40].
فهناك نبي الله موسى عليه السلام قال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله معنا) معي ومعك يا أبا بكر! أسأل الله عز وجل أن يرزقنا الاقتداء بـ أبي بكر، وأن يرزقنا محبته، وأن يوفقنا لنصنع ما صنع.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله.(4/6)
دروس عن الهجرة [3]
لقد أذن الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة، فاتخذ عليه الصلاة والسلام أسباباً للنجاة والوصول إلى المدينة بسلام، ومن ذلك: اتخاذه من أبي بكر الصديق رفيقاً وصديقاً، فكان نعم الصاحب.
وقد حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم أخلاق طيبة مع من صادفهم في طريق هجرته إلى الله، ومع من رافقه أثناء رحلته، فصلى الله وسلم على من أدبه ربه فأحسن تأديبه.(5/1)
بين يدي الموضوع
الحمد لله رب العالمين، نحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم! صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام! قد تقدم معنا الكلام على بعض الدروس المستفادة من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام؛ ومنها أن الله عز وجل مع أوليائه، وأنه ناصر عباده المؤمنين، كما وعد في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
ومنها أن الله عز وجل ينزل على قلوب أنبيائه وأوليائه سكينة وطمأنينة عند الشدائد، فلا يخافون ولا يحزنون، كما قال ربنا سبحانه في شأن أم موسى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10]، وكما قال في شأن إبراهيم عليه السلام: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
ومن الدروس المستفادة: الأخذ بالأسباب، وهذا ظاهر في جميع مراحل الهجرة النبوية المباركة.(5/2)
الدروس المستفادة من هجرة المصطفى(5/3)
اتخاذ الصاحب الطيب
ومن الدروس المستفادة: اتخاذ الرفيق الصالح الطيب المؤمن التقي، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي).
فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الهجرة، ويريد منه أن يأذن له في الهجرة، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: (يا أبا بكر! اصبر، لعل الله يجعل لك صاحباً)، فيغيب أبو بكر أياماً ثم يأتي يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم حاله كحال العبد الصالح الذي قال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]، ويريد أن يعجل بالهجرة إرضاءً لله عز وجل، فكان صلى الله عليه وسلم يقول له: (اصبر، لعل الله يجعل لك صاحباً)، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر وقال له: (يا أبا بكر! إن الله أمرني بالهجرة، قال أبو بكر: الصحبة الصحبة يا رسول الله! -أي: اجعلني لك صاحباً ورفيقاً- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بلى يا أبا بكر! فبكى رضي الله عنه).
تقول أمنا عائشة: والله! ما ظننت أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي في ذلك اليوم.(5/4)
الدعوة إلى الله بالأقوال والأفعال
ومن الدروس المستفادة من هذه الرحلة: أن العبد الصالح يدعو إلى الله عز وجل بأقواله وفعاله وسمته وهيئته، وهذا الأمر نستدل عليه من مرور النبي صلى الله عليه وسلم بخيمة أم معبد الخزاعية، وهي امرأة برزة جلدة، تحتبي بفناء الخيمة، وتطعم وتسقي من يمر بها، فإذا مر بها قوم مسافرون فإنها تطعمهم وتسقيهم، وهي امرأة معروفة بالكرم، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحباه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعبد الله بن أريقط فسلم عليها صلى الله عليه وسلم، ثم سألها: (هل من لبن فنشربه؟ أو لحم فنشتريه؟ فقالت له المرأة: فداك أبي وأمي، لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت)، تقول له: لو كان عندنا طعام أو شراب ما نحوجكم إلى أن تطلبوا، وإنما نكرمكم ابتداءً، لكن لا حلوبة في البيت، أي: ليس في البيت شاة تحلب، ثم إن الشاة التي تحلب هي في المرعى عازب، أي: بعيدة، (فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في ستر الخيمة -أي: في جانب الخيمة- فقال لها: ما هذه الشاة؟ قالت له: خلفها الجهد عن الغنم -يعني: هي مريضة- فقال لها: هل بها من حلب؟ -أي: هل فيها شيء يحلب؟ - قالت له: هي أجهد من ذلك، فقال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: فداك أبي وأمي! إن كان بها حلب فاحلب -يعني: طالما أنك لا تريد أن تصدق فجرب-، فدعا صلى الله عليه وسلم بإناء يربض الرهط -يعني: إناء كبير- فسمَّى النبي صلى الله عليه وسلم الله عز وجل، ومسح على الضرع فتفاجت -أي: هذه الشاة فرجت بين رجليها-، فحلب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاً حتى علته الرغوة، ثم دفع الإناء إلى المرأة -إلى أم معبد أولاً- فشربت ثم سقى صاحبيه، ثم سمى الله عز وجل وشرب آخر القوم عليه الصلاة والسلام، ثم حلب فيه ثانية، فشربوا عللاً بعد نهل، ثم حلب فيه صلى الله عليه وسلم وخمره وقال: ارفعي هذا لـ أبي معبد، ثم سلم وانصرف، قال: فما لبثت إلا قليلاً، حتى أقبل أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً يتساوقن هزالاً لا نقي فيهن، فقال: ما هذا اللبن -يا أم معبد - والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت؟! قالت: لا والله! إلا أنه مر بنا رجل مبارك)، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تلا عليها قرآناً، ولا ألقى عليها خطبة، وإنما وصفته بالبركة بما رأت من حاله وكلامه وسمته وهيئته وفعاله صلوات ربي وسلامه عليه، فوصفته بأنه رجل مبارك، وكان من خبره كيت وكيت، فقال أبو معبد: صفيه لي يا أم معبد! فقالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، أبلج الوجه، في عينه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي عنقه سطع، وفي صوته صهل، وسيم قسيم، لم تعبه ثجلة، ولم تزريه صعلة، أجمل الناس وأحلاهم من بعيد، وأحسنهم وأبهاهم من قريب، إذا تكلم علاه البهاء، وإذا سكت علاه الوقار، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له أصحاب يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر ابتدروا أمره، محفود محشود، غير عابس ولا مفنَّد، فقال لها زوجها: والله! إنه لصاحب قريش الذي تطلب، ولأجهدن حتى ألحق به، ولأتابعنه على دينه.
أي: بمجرد أن رأوا من حاله وأفعاله صلوات ربي وسلامه عليه هذا الحال قال: لأجهدن حتى ألحق به، ولأتابعنه على دينه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة المباركة يعلمنا أن الإنسان يدعو إلى الله عز وجل بقوله وفعله وسمته وهيئته صلوات ربي وسلامه عليه.
ومما يستفاد من هذه القصة: حسن رعايته صلى الله عليه وسلم لأصحابه في السفر، فلما حلب الشاة ما شرب اللبن صلى الله عليه وسلم، وما آثر نفسه، بل آثر أصحابه رضوان الله عليهم، وسقى أم معبد من أجل أن تزداد يقيناً، وأن تعلم حقاً أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/5)
لابد للنصر من بذل وتضحية
ومن الدروس المستفادة من هذه الرحلة المباركة: أن دين الله عز وجل لا ينتصر إلا ببذل جهد، ولا ينتصر إلا بعناء، ولا ينتصر إلا ببذل المال والنفس والوقت، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج مع أبي بكر رضي الله عنه، ويسلك طريقاً غير الطريق، ويعاني عليه الصلاة والسلام من الحر والقر والشمس وظلمة الليل، ويستغرق في الطريق خمسة عشر يوماً، وهو مع هذا كله مطارد، صلوات الله وسلامه عليه، فيطارده المشركون، ويعرضون العروض لمن يأتي به حياً أو ميتاً، كل هذا والنبي صلى الله عليه وسلم واثق بربه، فبذل هذا الجهد، وترك الأهل والمال والوطن، وترك بناته صلوات ربي وسلامه عليه في مكة، وخرج مهاجراً إلى الله يريد أن ينتصر لدين الله، فهذه غايته، وهذا هدفه صلوات الله وسلامه عليه.
ولذلك لا يظنن ظان بأن الدين ينتصر والناس قعود، وهم في هجوع، والناس في كسل ونعاس، فلا يجتهد الواحد في أن يطلب علماً، ولا أن يحصل عملاً، بل إن بعض الناس يمنّ على ربه أنه يصلي الفريضة في وقتها، وبعضهم يمن على ربه أنه يخرج الفريضة من ماله، وبعض الناس يمنّ على ربه أنه يأمر بالمعروف أو ينهى عن منكر، أو يدعو إلى هدى، أو يقيم أمر الله في بيته، فلا ينتصر الدين بمثل هذا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحقق أنواع الجهاد كلها، فيجاهد نفسه، ويجاهد الشيطان والهوى، ويجاهد بماله، ويجاهد الكفار والمنافقين، وكل هذه الأنواع من الجهاد مارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك قرن الله عز وجل بين الهجرة والجهاد في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72]، فإيمان وهجرة وجهاد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في هذه الأنواع كلها.(5/6)
حسن اختيار الله لأصحاب رسول الله
ومما يستفاد من هذه الهجرة المباركة: أن الله عز وجل قد اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم أصحاباً هم خير الأصحاب، وأنصاراً هم خير الأنصار، فقد مضى معنا خبر أبي بكر وماذا كان يصنع في طريق الهجرة، وإلى أن وصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأبو بكر معه كالخادم الأمين، يقول الأنصار رضي الله عنهم: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومعه أبو بكر وأكثرنا ما رآه، ما عرفنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أبا بكر حتى زال الظل وجاءت الشمس، فخلع أبو بكر رداءه وظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمنا أن الجالس هو رسول الله وأن القائم عليه هو أبو بكر.
وكذلك علي رضي الله عنه نام في فراش النبي عليه الصلاة والسلام وقد أحاطت به الأخطار، وأسماء بنت أبي بكر، يأتي جدها أبا قحافة فيقول لها: لقد خدعكم أبوكم في نفسه وماله، فتعمد رضي الله عنها إلى حجارة تجمعها، ثم تأخذ بيدي جدها وقد كان أعمى، فيتحسس تلك الأحجار، تقول له: ترك لنا مالاً كثيراً، من أجل أن تطمئنه وتصرف الوسواس عنه.
ويأتي عدو الله أبو جهل يدق باب أبي بكر ويقول: يا أسماء! أين أبوك، تقول: ما أدري، فيلطمها عدو الله لطمة حتى يطير قرطها، أي: الحلق الذي في أذنها.
وقل مثل ذلك في عامر بن فهيرة، وفي عبد الله بن أبي بكر، وهؤلاء جميعاً رضوان الله عليهم، كانت لهم قدم صدق في الإسلام.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الاقتداء بهم، والسير على نهجهم، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله.(5/7)
دروس عن الهجرة [4]
إن الهجرة سنة باقية إلى قيام الساعة، فمن كان في بلاد لا يستطيع أن يقيم فيها دينه فيجب عليه الهجرة إلى البلد التي يستطيع أن يقيم فيها دينه، ويحفظ عرضه، ولا عذر لأحد في ذلك إلا من كان لا يطيق ولا يستطيع الهجرة كالنساء والولدان.(6/1)
الهجرة فريضة شرعية باقية إلى يوم القيامة
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
أما بعد: لقد كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة نصراً للإسلام وأهله، وإيذاناً للانتقال من حال إلى حال، ومن فترة إلى فترة، فبعدما كان المسلمون قلة مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، صار لهم في المدينة دولة وصولة وجولة، وصاروا أهل جهاد وغزو وفتح ونصر، وتمت نعمة الله عليهم، حيث أمنوا في دارهم، وعبدوا ربهم، وقاموا بدينهم خير قيام.
إن هذه الهجرة لا ينبغي أن نسرد أحداثها، ولا أن نذكر تفاصيلها على أنها كانت حدثاً من الأحداث ثم انقضى ومر، كلا؛ إن الهجرة صفحة في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم لها أحكام وآداب، وهي باقية لا تنقطع كما ثبت عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها).
وكل مسلم في أي أرض لا يستطيع أن يُظْهِر فيها شعائر دينه، ولا أن يعبد ربه حق العبادة، وهو بها ذليل مستضعف، فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى إخوانه الذين يستعز ويستكثر بهم، ويجب عليه أن يهاجر إلى الأرض التي يعبد فيها ربه، ويقيم فيها شعائر دينه، ويأمن على نفسه وماله وعرضه.(6/2)
الهجرة سنة الأنبياء
إن هجرة نبينا لم تكن بدعاً في سيرة الأنبياء والمرسلين، بل لقد هاجر الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كإبراهيم خليل الرحمن على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فبعد أن دعا قومه إلى الله وقال: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25].
وأبى قومه أن يؤمنوا به، قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:24].
بعد هذا قال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26].
فترك تلك الأرض التي أبى أهلها إلا الكفر والإلحاد والشرك به جل جلاله، وهاجر إلى الله عز وجل.
وكذلك نوح عليه السلام لما دعا قومه إلى الله فأبوا الإيمان بالله تعالى، فقال له قومه: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116].
قيل المراد بالمرجومين: المخرجين.
وكذلك لوط عليه السلام قال له قومه: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116].
وكذلك نبي الله موسى عليه السلام لما خاف على نفسه من فرعون اللئيم أن يصيبه بسوء خرج من مصر، كما قال الله عز وجل: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21].
وهذا المعنى أيضاً عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول للدعوة، وذلك عندما نزل عليه جبريل في غار حراء، فرجع عليه الصلاة والسلام إلى خديجة رضي الله عنها يرتجف فؤاده، فطمأنته رضي الله عنها بتلك الكلمات العِذاب: كلا والله يا ابن العم! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وما اكتفت رضي الله عنها بذلك، بل أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان شيخاً كبيراً قد قرأ الكتاب الأول، وله علم بالعبرانية لغة أهل الكتاب، فقص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال له ورقة بن نوفل: إنه الناموس الذي كان ينزل على موسى عليه السلام، وقال له: ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، فقال له النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام متعجباً: (أومخرجي هم؟)، أي: هل قومي يجرءون على إخراجي وأنا فيهم من أنا! أنا الصادق الأمين! وأنا العزيز الكريم! وأنا البر التقي؟! فقال له ورقة -وهو العارف العالم-: نعم؛ ما أتى أحد بمثل ما جئت به إلا عاداه قومه وأخرجوه؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام كان متهيئاً لذلك اليوم، ولكنه كان ينتظر أمر الله عز وجل، وكل نبي من الأنبياء كانت الهجرة له ديناً وديدناً، وسبيلاً لنشر الدعوة، وإحقاق الحق، والانتصار لدين الله عز وجل، وهداية الناس، والتماس الأرض التي ينتشر فيها الخير والنور.(6/3)
وجوب الهجرة لمن ليس متمكناً من إقامة دينه
الهجرة ليست خاصة بفئة معينة، ولا بقوم من الناس معلومة، وإنما هي شريعة ماضية إلى يوم القيامة، ولذلك أثنى الله عز وجل على المهاجرين الذين يتركون الأوطان التي ألفوها، والبلاد التي نشأوا فيها، يخرجون منها طلباً للهداية، وللصلاح، وللسداد، وللانتصار لدين الله عز وجل، يقول ربنا سبحانه في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218].
ويقول في سورة الأنفال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:72].
ويقول في سورة التوبة: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:20].
وفي سورة النساء نجد أن الله عز وجل يعد هؤلاء المهاجرين بسعة الأرزاق، وسلامة الأبدان، وطمأنينة القلوب، فيقول الله سبحانه: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:100]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74].
إن هذا المعنى الذي تضمنته هذه الآيات المباركات، والذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لا يقبل الله من مشرك عملاً بعدما أسلم أو يفارق المشركين) أي: حتى يفارق المشركين، وهذا المعنى نحن المسلمون اليوم بحاجة إلى تأكيده ومعرفته، فإن كثيراً من المسلمين ممن يقيمون في ديار الكفر، أو الأرض التي تكون الغلبة فيها للكفار والشريعة السائدة هي شريعة الكفر، والأرض التي لا يسمع فيها أذان، ولا يسمع فيها قرآن، ولا يؤمر فيها بمعروف، ولا ينهى فيها عن منكر، وتمارس فيها الفواحش جهاراً نهاراً في الشوارع والطرقات، وأعني بذلك بلاد أوروبا وأمريكا وما أشبه ذلك، فكثير من المسلمين هنالك -نسأل الله السلامة العافية- رضي بأن يعطي الدنية في دينه، وأن يرضى بالذل، وأن يعيش في ذلك الجو المأفون والمليء بالموبقات والفواحش والكبائر والذنوب والمعاصي، والتي لا يسمع فيها لآمر ولا لناهي، فهو قد رضي بأن يقيم في تلك الأرض من أجل دراهم معدودة أو من أجل رغد عيش يطلبه أو نحو ذلك من الأسباب.
إن هؤلاء توعدهم الله عز وجل في القرآن، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
ثم استثنى ربنا جل جلاله برحمته وعدله وفضله من ألجأتهم الضرورة، ومن أحاطت بهم الحاجة الملحة، فقال سبحانه: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:98 - 99].
فهؤلاء ممن أقاموا؛ لأنهم لا يجدون داراً يلجأون إليها، ولا بلداً يهاجرون إليها، أو كانوا مستضعفين لكونهم نساء أو أطفالاً، فهؤلاء عسى الله أن يعفو عنهم.
يقول الضحاك بن قيس رحمه الله ورضي عنه في هذه الآية: نزلت هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع.
فمن كان مقيماً في تلك الأرض، وزوجه وبناته لا يستطعن أن يرتدين الحجاب الشرعي، أو كان مقيماً في تلك البلاد، ولكن لا أمر له على أولاده من بنين وبنات لم تجز له الإقامة، والآن بعض الناس يقيم في بلاد أوروبا وأمريكا وهو لا يستطيع أن يأمر ابنته ولا أن ينهاها، وربما تأتي ابنته بصديقها إلى البيت، ولو تكلم اتصلت للشرطة، وكذلك لو أنه وبخ ولده أو ضربه فللولد أن يشكوه، وبعد ذلك تأتي الشرطة وتنتصف من هذا الأب الذي أراد أن يربي ولده، فهناك شعار الحرية المرفوع يكفل لكل إنسان أن يفعل ما يريد، فلا يستطيع والد أن يوجه ولده ولا أن يأمره، ولا أن ينهاه، ولا أن يربيه، فمثل هؤلاء نقول لهم: الهجرة واجبة عليكم، نعم أن بلاد المسلمين أغلب الشريعة فيها غائبة، وأحكام الله فيها إما مبدلة، وإما ليست مطبقة، أو تطبيقها ضعيف، لكن نقول: ما زالت بلاد المسلمين الحياء فيها غالب، والأدب فيها ظاهر، وما زلنا في بلاد المسلمين يملك الوالد أن يوجه ولده وأن يأمره وينهاه، وتملك الأم أن تربي ابنتها على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ولا يتدخل في ذلك أحد، لكن كثيراً من الناس -نسأل الله السلامة والعافية- استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، رضي بلعاعة من الدنيا، ففتن بتلك المظاهر وبتلك البهارج، لكنه لم يفكر في هذه القوارع التي نزلت في كتاب الله عز وجل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أقام بين المشركين فقد برئت منه الذمة).
فهذا الحكم واجب علينا أن نتذكره حين نتدارس هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله سبحانه أن يحيينا مسلمين، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.(6/4)
لباب النقول في أسباب النزول [1]
اعتنى العلماء بمعرفة أسباب نزول الآيات، وكتبوا في ذلك المؤلفات، وهذا العلم من أهم علوم القرآن، وله فوائد جمة، يحصل عليها المبحر في هذا العلم الرائع الجميل.(7/1)
فوائد معرفة أسباب النزول
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فتقدم معنا الكلام في الدرس السابق أن آيات القرآن الكريم على قسمين: قسم قد تنزل من غير سبب خاص، وهو أكثر القرآن الكريم، وقسم تنزل جواباً على سؤال أو عقيب حادثة معينة، وهذا الذي اصطلح أهل التفسير على تسميته بسبب النزول.
وعرفنا أن سبب النزول يعرف عن طريق الرواية الموثوقة عن الصحابي حين يقول: نزلت آية كذا في شأن كذا، أو نزلت سورة كذا في شأن كذا، أو عن طريق التابعي الذي عرف عنه الاشتغال بالتفسير كـ سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر وعكرمة مولى ابن عباس ومن كان مثلهم رحمة الله عليهم أجمعين.
وتوقف بنا الكلام عند فوائد معرفة سبب النزول، فما هي الفائدة في أن نعرف أن سورة كذا، نزلت في شأن كذا أو أن آية كذا نزلت في شأن كذا؟(7/2)
معرفة سبب النزول تعين على فهم الآية
الفائدة الأولى: أن معرفة سبب النزول تعني على فهم الآية، وتزيل الإشكال الذي قد يعلق بالذهن في فهمها؛ لأن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، وذكر في ذلك أمثلة منها: أن عروة بن الزبير رضي الله عنهما لم يفهم معنى قول الله عز وجل: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] إلا بعدما عرف سبب النزول، وكذلك قدامة بن مظعون لم يعرف معنى قول الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93] إلا بعدما عرف سبب النزول، وكذلك قول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:115] لا نفهم معنى هذه الآية إلا بعد معرفة سبب النزول.(7/3)
معرفة سبب النزول تعين على فهم الحكمة التي يشتمل عليها التشريع
الفائدة الثانية: أنَّ معرفة سبب النزول يعين على فهم الحكمة التي يشتمل عليها التشريع، وهذا مفيد بالنسبة للمؤمن ولغير المؤمن، أما المؤمن فإنه يزداد إيماناً، وأما غير المؤمن فإنه يعلم أن التشريع إنما جاء لجلب المصلحة ودفع المفسدة.
مثلاً: شرب الخمر حرام، وهو من كبائر الذنوب، والدليل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90 - 91].
سبب نزول هذه الآية ما قاله عبد الرحمن بن عوف: (صنع لنا رجل من الأنصار طعاماً، فأكلنا لحم جزور -أي لحم جمل- ثم سقانا خمراً فتفاخرنا، فقال أحدهم: الأنصار خير من المهاجرين، فقلت: بل المهاجرون خير من الأنصار، فقام أنصاري بلحي جمل، -لحي الجمل: العظم- فضربني على أنفي حتى كسره، فسال الدم، فقلت: والله لا أمسح الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء عبد الرحمن إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ودمه يسيل، فأنزل الله هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91]).
معرفة سبب النزول هنا يزيد المؤمن إيماناً بضرر الخمر، ويدعو غير المؤمن إلى أن يفكر أن الله عز وجل ما حرم شيئاً إلا لأنه خبيث ولأنه ضار.(7/4)
معرفة سبب النزول ترفع توهم الحصر
الفائدة الثالثة: رفع توهم الحصر، الإنسان أحياناً لو قرأ آية فإنه يظن أن هذه الآية جاءت للحصر، مثلاً: قال الله عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [الأنعام:145].
يعني: المحرمات فقط هذه الأربع، والدليل: النفي مع الاستثناء: ((إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً)) يعني: إلا أن يكون واحداً من هذه الأربع، هل المحرمات هي هذه الأربع فقط؟ لا، فهذه الأربع لم يذكر فيها الخمر، ولم يذكر فيها الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، وغير ذلك، فإذا عرفنا سبب النزول سيرتفع هذا الوهم، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: إن الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم، كأن الآية تقول: لا حرام إلا ما حللتموه، ولا حلال إلا ما حرمتموه، يعني: الكفار كانوا يأكلون الميتة، والخنزيز، والدم المسفوح، وما أهل لغير الله به، فكأن الآية جاءت مناقضة لقصدهم تقول لهم: الحرام هو الذي تأكلونه، وبالمقابل الكفار كانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فالآية تقول لهم: ولا حلال إلا ما حرمتموه.
هذا كلام الشافعي رحمة الله عليه.(7/5)
معرفة سبب النزول تعرفنا باسم من نزلت فيه الآية
الفائدة الرابعة: معرفة اسم من نزلت فيه الآية، وقد قال ابن مسعود: والله الذي لا إله غيره ما أنزل الله في القرآن سورة إلا وأنا أعلم أين نزلت، وأنا أعلم فيمن نزلت.
فسبب النزول يعيننا على معرفة أن هذه الآية نزلت في فلان، فمثلاً: مروان بن الحكم بن أبي العاص كان يقول: إن قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17] نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: والله ما نزلت في عبد الرحمن، ولو شئت أن أسميه لسميته.
فالسيدة عائشة تريد أن تستر اسم الرجل الذي نزلت فيه؛ لأنه أسلم وصار من الطيبين، لكن في الوقت نفسه تنفي عن أخيها عبد الرحمن أن تكون هذه الآية قد نزلت فيه.
كذلك قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
فقوله: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ)) أي: يبيع نفسه، ((ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ)) هذه الآية نزلت في سيدنا صهيب بن سنان الرومي، (وذلك أن صهيباً أراد أن يهاجر لكن الكفار منعوه، وقد أقاموا عليه حراساً، فتصنع رضي الله عنه أنه مصاب بمرض، وبدأ يستأذن أن يمشي إلى الخلاء، فمشى إلى الخلاء ثم رجع وبعد قليل استأذن ليذهب إلى الخلاء وهم يراقبونه، فمشي إلى الخلاء ثم رجع، ثم استأذن أن يمشي إلى الخلاء فقال الكفار بعضهم لبعض: قد شغله الله ببطنه فدعوه، لا يستطيع الهرب؛ لأنه مريض، فمشى هذه المرة وما رجع، فما انتبهوا له إلا بعد مسافة، فأدركوه رضي الله عنه وهو في طريقه إلى المدينة فلحقوه، فالتفت إليهم وقال: تعلمون -معشر قريش- أني أرماكم - يعني أنا أحسنكم رماية - والله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي، ولو شئتم دللتكم على مالي فأخذتموه -أول الأمر رهبهم ثم رغبهم- قالوا: دلنا، قال لهم: هو في مكان كذا تحت أسكفة الباب، يعني: تحت عتبة الباب، قالوا له: الآن لا حاجة لنا فيك، فرجعوا وحفروا وأخذوا المال، وهو رضي الله عنه فر بجلده، فلما وصل إلى المدينة استقبله الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى) هذه صفقة رابحة، وهو لم يكن قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
فهذه الآية نزلت في صهيب بن سنان رضي الله عنه.
كذلك قول الله عز وجل: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37] نزلت في زيد بن حارثة لما تزوج زينب بنت جحش رضي الله عنهما، وكان يريد أن يطلقها، وهي بنت عمة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن أمها أميمة بنت عبد المطلب، وكان زيد يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (يا رسول الله! إني أريد طلاقهاً ائذن لي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: هل رابك منها شيء فكان يقول: لا، لكنها تؤذيني بلسانها؟ فكان صلى الله عليه وسلم يقول له: أمسك عليك زوجك واتق الله) يعني: دع زوجتك معك واتق الله.(7/6)
معرفة سبب النزول تبين لنا أن صورة السبب داخلة في عموم الحكم
الفائدة الخامسة: أن سبب النزول غير خارج من حكم الآية فيما إذا كان لفظ الآية عاماً وورد مخصص لها، فبمعرفة سبب النزول يعلم أن ما عداه يشمله هذا التخصيص، أما سبب النزول فهو داخل في العموم، وهذا بإجماع العلماء أن صورة السبب داخلة في الحكم، مثلاً: قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53]، (إناه) أي: نضجه؛ ولذلك قال الله عز وجل عن أهل جهنم والعياذ بالله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:2 - 5] يعني: تناهى حرها.
فيكون معنى الآية السابقة: أيها المؤمنون! لا تدخلوا بيت الرسول عليه الصلاة والسلام إلا بعد استئذان، وإذا دعاكم إلى طعام فأتوه وقت الطعام، ولا تجلسوا فترة طويلة تنتظرون نضج الطعام.
وسبب النزول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أولم وليمة، وجاء بعض الصحابة فأكلوا وانصرفوا إلا رجلين بقيا يتكلمان، ويستأنسان، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده إلا غرفة واحدة، قال الحسن البصري: دخلت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا فتى -يعني: شاب- فكنت إذا رفعت يدي نلت سقفها، وإذا مددت رجلي نلت جدارها، وهذان الرجلان قعدا يستأنسان، وبقيت زينب رضي الله عنها ووجهها إلى الحائط تنتظر خروجهما، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حيياً، فبقي صلى الله عليه وسلم يدخل ثم يخرج ويدخل ثم يخرج لعلهم يشعرون بذلك ويخرجون، ولكنهم لم ينصرفوا، فنزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53].
فالحكم هنا عام، فبيتي وبيتك مثل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز دخول البيوت إلا بإذن.
فإذا قال قائل: إن هذا الحكم خاص بالنبي فنقول: تدخل بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً؛ لأن الآية نازلة في شأنه عليه الصلاة والسلام.
وهذا دليل على أن سبب النزول يستفاد منه أن الخاص يدخل تحت حكم العام، فإذا وجد التخصيص كان هذا التخصيص شاملاً لما عداه.(7/7)
معرفة سبب النزول تثبيت الوحي وتيسر الحفظ والفهم
الفائدة السادسة: تثبيت الوحي، وتيسير الحفظ والفهم، وتأكيد الحكم في ذهن من يسمع الآية.
مثال ذلك: قصة الإفك، هذه القصة نزلت فيها عشر آيات، منها: قول الله عز وجل: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12].
فلو عرفت سبب نزول هذه الآية لن تنسى هذه الآية أبداً، إن سبب نزولها: أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه دخل على زوجته أم أيوب والناس يتناقلون الكلام في المدينة كما قال الله عز وجل: ((إِذْ تَلَقَّوْنَهُ)) مع أنه في العادة أن الإنسان يتلقى الكلام بالأذن, ولكن من سرعة النقل قال الله عز وجل: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور:15] أي: أ، الرجل لا يسمع بأذنيه وإنما بلسانه فيروج لذلك، لكن أكثر الصحابة لم تكن هذه صفتهم، فـ أبو أيوب دخل على زوجته وقال لها بمنتهى الصراحة والوضوح: يا أم أيوب! أسمعت ما يقول الناس في شأن عائشة وصفوان؟ قالت: نعم، هو والله الكذب، فقال لها رضي الله عنه: أكنت فاعلته يا أم أيوب قالت: لا والله معاذ الله، قال لها: فـ عائشة خير منك وصفوان خير مني.
إذاً ينبغي للمؤمن أن يحسن الظن بأخيه، ومن حسن ظن المؤمن أن يعتقد أن أخاه خير منه.
مثال آخر: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] هذه الآية سبب نزولها: (ما كان من بعض الأعراب الذين جاءوا في وقت القيلولة والراحة، وقالوا: يا محمد! أخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمنا شين -يعني: أخرج علينا بسرعة وإلا سنقول فيك شعراً-؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية يؤنب فيها هؤلاء الذين لم يتأدبوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت هذه الآية جلس أحد الصحابة وهو ثابت بن قيس بن شماس في بيته يبكي، فعلم به الرسول صلى الله عليه وسلم فجاءه وقال له: مالك؟ فقال ثابت: يا رسول الله! أنا رجل جهوري الصوت، وكنت أرفع صوتي عليك، وأخشى أن يكون قد حبط عملي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: بل تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة إن شاء الله) فالإنسان إذا عرف سبب نزل هذه الآية لا ينساها أبداً؛ لأنه فهم معناها تماماًَ؛ ولذلك فإن معرفة سبب النزول يربط الأسباب بالمسببات، والأحداث بالأشخاص، والمبنى بالمعنى، والأزمنة بالأمثلة، وكل هذا يدعو إلى تقرر الأشياء وتأكيدها في الذهن.(7/8)
حكم تعدد أسباب نزول الآية الواحدة
قد تتعدد الأسباب في نزول الآية الواحدة، فمثلاً: سورة الضحى المشتملة على إحدى عشرة آية، ورد في سبب نزولها: (أن الوحي انقطع عن الرسول صلى الله عليه وسلم فترة من الزمن، قيل: مدة أربعين يوماً، وقيل: ستة أشهر؛ فجاءت أم جميل زوجة عمه أبي لهب فقالت: يا محمد! ما أرى شيطانك إلا قد ودعك -يعني: تركك الشيطان الذي كان يأتيك بالكلام- فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الكلام، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3]).
هذه الرواية في الصحيحين، وفي رواية أخرى رواها الإمام الطبراني عن حفص بن سعيد القرشي عن أمه وكانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (إن جرواً دخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم تحت السرير فمات فمكث النبي صلى الله عليه وسلم لا ينزل عليه الوحي فقال: يا خولة! ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ -فالرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الصحابية خولة بنت حكيم ما الذي حدث في بيته صلى الله عليه وسلم؟ - جبريل انقطع عني، قالت: فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، قالت: فأهويت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترتعد لحيته، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته رعدة عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله عليه: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3]).
وليس بين السببين تعارض، حيث كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم جرو قد مات، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم به، وصادف أن تلك المرأة العوراء قالت له هذا الكلام: (ما أرى شيطانك إلا ودعك، فأنزل الله عز وجل السورة على السببين جميعاً).
والرواية الأولى في الصحيحين، أما الرواية الثانية فهي عند الطبراني وفيها راو لم يسم، ففي سندها كلام.(7/9)
الأسئلة(7/10)
كفارة من لم يستطع الصوم في رمضان بسبب المرض
السؤال
أنا مصاب بمرض السكري، وحسب قرار الطبيب فقد منعني من الصوم، وأنا أقوم بدفع ألف جنيه كل يوم للمسكين، فهل هذه تعتبر فدية؟
الجواب
لا تعتبر فدية، الفدية لا بد أن تكون طعاماً، وأنت مخير بين أمرين: إما أن تصنع أكلاً يكفي عشرة مساكين، وفي يوم آخر تصنع أكلاً يكفي عشرة، وفي يوم آخر تصنع أكلاً يكفي عشرة؛ فتبرأ ذمتك، أو خمسة خمسة خمسة إلى أن تبرأ ذمتك، أو أن تأخذ كيساً من الدقيق وتسلمه لأخوة أو إلى أمام مسجد من المساجد من أجل إطعام الفقراء والمساكين.(7/11)
حكم رفع التاجر للأسعار في وقت دون آخر
السؤال
ما الحكم في تاجر يرفع الأسعار في شهر رمضان؛ لأنه يقول: هذا موسم جيد للبيع غير الأيام العادية؟
الجواب
أولاً: نحن عندنا الأصل قول الله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النساء:29].
ثانياً: الشريعة لم تحدد للربح سقفاً، ولا يوجد ربح محدد، يعني: الشريعة لم تقل: إن الربح يكون عشرة في المائة أو عشرين في المائة أو مائة في المائة، لكن المسألة راجعة إلى التراضي.
ثالثاً: السوق مفتوح وليس هناك تسعيرة، ويمكن لك أن تبحث عن تاجر آخر، ومعلوم أن البقالات أو محلات البيع ليست سواء، فهناك محلات في أماكن سياحية، وهناك محلات في أماكن شعبية، وهناك خيام، وهناك أسواق: سوق الجمعة، وسوق الإثنين، وسوق السبت، وغير ذلك، ولك أن تجتهد في ذلك، ثم هناك فرق بين الأقوات وبين السلع التحسينية، فمثلاً: على التاجر أن يتقي الله عز وجل في التمور والدقيق والأشياء الضرورية، وأما غيرها من السلع غير الضرورية فلو جعل السلعة بعشرة آلاف فليس بالضروري أن تشتروها فهناك فرق بين سلعة ضرورية، وسلعة تحسينية.(7/12)
الإكثار من ذكر الله من كمال العقل وسلامته
السؤال
رجل يذكر الله كثيراً عند قيامه وقعوده وعلى جنبه وفي السوق وفي الشارع وفي حله وترحاله، لكن يظن الناس أنه مصاب بمس أو به جنة وهو بكامل قواه العقلية، هل حالته هذه طيبة؟
الجواب
والله ليس هناك أطيب من ذلك، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41].
والناس يظنون به الجنون؛ لأنهم ليسوا متعودين على ذلك، ولو كان هذا الرجل يغني دائماً لما ظنوا به الجنون! بل يقولون: ما شاء الله دائماً هو فرحان وسعيد؛ لأنه دائماً مغن؛ نسأل الله السلامة والعافية، أما هذا الذي يذكر الله ذكراً كثيراً فهم يستغربون منه، وهذا ليس جديداً، وأذكر لكم مثلاً: وقع في المدينة المنورة قبل سنوات أنه لما قيل: رئي هلال ذي الحجة أخذ أحد الناس يمشي في الشارع وهو يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، يقولها بصوت مرتفع، فأخذ الناس ينظرون إليه من أعلى إلى أسفل مع أن هذا الرجل قد أتى بالسنة، قال الله عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28].
فمن السنة التكبير لعشر ذي الحجة حتى نصلي العيد، وبعد صلاة العيد كذلك، ففي دبر الصلوات نكبر، في أيام عيد الأضحى نكبر، لكن السنة صارت على الناس غريبة؛ ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما يمشي في السوق ومعه أحد أصحابه، وكان كلما مر بالناس قال: السلام عليكم، ويكررها كلما مر عليهم، فقال له تلميذه: في كل يوم أراك تدخل السوق ولا تشتري شيئاً، وكان هذا الرجل كبير البطن، فقال له ابن عمر: يا أبا بطن: ألا تراني أسلم على المسلمين؟! فـ ابن عمر يمر يلقط حسنات ويرجع، ومن قال: السلام عليكم فله عشر حسنات، وقد يمر على مائة دكان، ويرجع بألف حسنة في دقائق معدودة، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يعرفون كيف يتاجرون مع الله عز وجل، فهذا الرجل ليس به مس بل الذي به مس من اتهمه بأنه موسوس.
وما أصدق ما قيل في ذلك: رمتني بدائها وانسلت، الذي لا يذكر الله قال تعالى عنه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، ولذلك تجده دائماً يغني.(7/13)
حكم دخول الحائض المسجد
السؤال
هل هناك دليل صحيح وصريح يمنع دخول الحائض المسجد؟
الجواب
يا صاحب السؤال! إن كنت طالب علم فاعلم أن أكثر الأدلة إما أن تكون ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة، وكونك تريد دليلاً قطعي الثبوت قطعي الدلالة فهذا قليل جداً، فلا تسألني عن دليل صحيح وصريح، لكن عود نفسك احترام أقوال أهل العلم؛ لأنهم أعرف بالدليل منا، وعود عدم على الخروج من الخلاف ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وعود نفسك أن تتهم رأيك في مقابل رأي الأئمة رحمة الله عليهم أجمعين، قال الإمام مالك: ألف عن ألف أحب إلى من واحد عن واحد.
وأما بالنسبة لدخول الحائض للمسجد فأولاً: عندنا قول الله عز وجل: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] فقد قاس أهل العلم الحائض على الجنب بجامع إيجاب الغسل في كل منهما، وكما أن الجنابة توجب الغسل فكذلك الحيض يوجب الغسل.
ثانياً: هناك حديث رواه الإمام أبو داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب)، وهذا الحديث اختلف العلماء رحمهم الله في صحته، لكن الذي عليه الجماهير بأن الحائض لا تدخل المسجد.(7/14)
حكم خصم نسبة من مرتب العاملين الضعفاء وتوزيع ما يشترى بها على جميع الموظفين
السؤال
شركة إنتاجية تمنح العاملين حاصل إنتاج سنوي، وتقوم بخصم نسبة من مرتب العاملين الذين تكون تقاريرهم ضعيفة، ومن هذه المبالغ المخصومة تقوم بشراء مواد تموينية توزع على جميع العاملين في شهر رمضان كهدية من الشركة؟
الجواب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم)، فإذا كانت هذه الشركة اشترطت عليك أنه لو كان تقريرك ضعيفاً قطعنا من مرتبك، وأنت رضيت بهذا الشرط، فاحرص على ألا يكون تقريرك ضعيفاً، وما قطعته الشركة فهي في ذلك مخيرة في أن تقوم بتوزيعه على بقية العاملين تطييباً لقلوب الناس، أو عدم توزيعه، فهذا الفعل ليس من أجل أكل حقوقهم، وإنما من أجل زيادة الإنتاج.(7/15)
الفرق بين زكاة الفطر والفدية لغير الصائم
السؤال
أرجو أن تفيدنا بالفرق بين زكاة الفطر، والفدية لغير الصائم؟
الجواب
هناك فرق بينهما، أما الفدية فقد نص ربنا جل جلاله عليها بقوله: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، أما بالنسبة لزكاة الفطر فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم) والإغناء كما يتحقق بالإطعام يتحقق بالنقد، بل النقد في زماننا أنفع وأيسر؛ لأننا جميعاً لو أننا أعطينا الفقراء طعاماً سيضطر الفقراء إلى بيعه من أجل أن يواجهوا ما يطلب منهم من فاتورة الكهرباء وفاتورة الماء وغير ذلك، هذا الفرق الأول.
الفرق الثاني: أن فدية كفارة الإنسان الذي أفطر تكون موزعة، أما زكاة الفطر فكلها تأتي في وقت متقارب، فأغلب الناس يخرجون زكاتهم في صبيحة يوم العيد، وبعضهم يخرجها قبل العيد بيوم أو يومين؛ ولذلك بعض العلماء وعلى رأسهم الإمام أبو حنيفة يبيح إخراج القيمة في زكاة الفطر وفي الكفارات جميعاً، وهناك بعض العلماء يمنع القيمة مطلقاً سواء كانت في زكاة الفطر أو في الكفارات، وبعض أهل العلم فرق بين هذه وهذه.(7/16)
موقف أهل السنة من مصطلحات الشيعة في الأماكن والأشخاص
السؤال
العتبات المقدسة، والصحن الحيدري، ومرقد الإمام علي، والنجف الأشرف، والمرجع الديني كلمات ظلت تردد عبر وسائل الإعلام لفترة طويلة، ما موقفنا نحن أهل السنة منها؟ وما هو الرأي في التحالف القائم في أرض العراق بين السنة والشيعة في مواجهة الاحتلال الأمريكي؟
الجواب
لا يوجد تحالف، الشيعة إلى يومنا هذا ليس لديهم فتوى في مواجهة ومقاومة وجهاد الأمريكان، والمرجع الديني الكبير التابع لهم إلى الآن يدعو إلى الصبر الجميل، ولذلك تسمعون اليوم في الأخبار بأن الأمريكان طلبوا من البريطانيين أن يأتوا بكتيبة قوامها ستمائة جندي من جنوب العراق؛ لأن أمريكا مضطرة لسحب كتيبة تأتي إلى الفلوجة، والفلوجة، والرمادي، وسامراء، هذه كلها يسمونها المثلث السني، فليس في العراق جهاد إلا من أهل السنة، أما الشيعة فإنهم يمنعون الجهاد بفتاوى صريحة، أو يشكلون بعض الحركات كما حصل مما يسمى بجيش المهدي، والآن سلموا أسلحتهم كاملة غير منقوصة، ورفعوا الراية البيضاء! فليس هناك تحالف يا أخي الكريم! وهذا هو تاريخ الشيعة الطويل، فأنتم تعرفون منذ أن قامت الثورة في إيران، وهم في كل جمعة يهتفون الموت لأمريكا، فلما جاء الموت لأمريكا في الحادي عشر من سبتمبر في يوم الثلاثاء، قاموا في الجمعة التالية للحادث واستنكروا وشجبوا هذا الحادث، وقالوا: إننا بريئون منه ولا نرضاه، وقد كانوا من قبل يقولون: الموت لأمريكا، فها هو ذا الموت قد جاء من حيث لم يحتسبوا.
أما بالنسبة لهذه المصطلحات فهي مصطلحات ليست شرعية، بل فيها من التزوير الشيء الكثير، لاسيما مرقد الإمام علي، فالإمام علي لا يعرف له قبر؛ لأنه رضي الله عنه لما قتل وكان الناس قد فتنوا به في حياته عرف أولاده أنهم لو دفنوه في مكان معروف فإنه سيتخذ القبر وثناً يعبد من دون الله؛ ولذلك حفروا أحد عشر قبراً في أماكن مختلفة، وفي الليل لما نام الناس أدخلوه في أحدها وطمسوها كلها، فلا يعرف لـ علي قبر، ومن الغريب ومن خرافات الشيعة أن علياً كان من وصيته لأولاده بعد أن يموت أن يجعل على حمار ويترك، فهل يعقل أن علياً يوصي بهذا، وهو يقرأ قول الله عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26]؟ وعلي رضي الله عنه يعرف أن السنة الدفن، وخير البشر صلى الله عليه وسلم دفن في التراب.
وكذلك حكاية النجف الأشرف، نحن لا نعرف مكاناً شرفه الله عز وجل وهو مقدس عندنا ومعظم وتشد إليه الرحال إلا ثلاثة مساجد: مكة المكرمة حيث المسجد الحرام، والمدينة المنورة حيث المسجد النبوي، وبيت المقدس حيث المسجد الأقصى، هذا الذي نعرفه، أما حكاية النجف أو غيره فالقاديانية في لاهور في باكستان يقدسون قبر الميرزا غلام أحمد الذي ادعى النبوة، وعندهم أنه مكان شريف، فكلهم أصحاب بدعة.
وكذلك حكاية المرجع الديني، نحن عندنا المرجع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، لكن هذه الاصطلاحات ترجع إلى معنى استقر عند الشيعة، وهو عصمة الأئمة، أما نحن فليس عندنا أحد معصوم بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأي إمام أو عالم فإنه يخطئ ويصيب؛ فلذلك أخشى لو أننا تسامحنا في أن تجري هذه العبارات على ألسنتنا مثلما جرت عبارة: علي كرم الله وجهه، وعبارة: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ونحن نقول: علي كرم الله وجهه وعلي أمير المؤمنين، لكن ليس لوحده؛ لأن الشيعة يقولون: قال الأمير عليه السلام؛ لأنهم لا يعترفون بمن قبله، لا يعترفون بـ أبي بكر ولا عمر ولا عثمان، أما نحن أهل السنة فنعتقد أن الأربعة إمامتهم صحيحة، وأن الأربعة من المبشرين بالجنة، وأن الأربعة ممن توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم اجعلنا من عتقائك في هذا الشهر المبارك من النار.
اللهم أعنا على أن نصوم رمضان إيماناً واحتساباً، وعلى أن نقوم رمضان إيماناً واحتساباً.
اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.(7/17)
لباب النقول في أسباب النزول [2]
معرفة أسباب النزول للآيات القرآنية يزيد معناها وضوحاً وجلاءً، ونستفيد أيضاً من معرفة أسباب النزول أن الحوادث التي نزلت الآيات لأجلها تكون داخلة دخولاً أولياً في معنى الآية، ثم إن أسباب النزول قد تكون لواقعة أو لأكثر، والآية تشمل كل ما يدخل في لفظها إلى قيام الساعة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.(8/1)
فائدة معرفة سبب النزول
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
أما بعد: فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المقبولين.
تقدم الكلام عن أسباب النزول، وذكرنا أن هذا العلم مطلوب من المسلم الإحاطة به من أجل أن تتوثق صلته بالقرآن، خاصة في شهر القرآن، وأن معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، ويعين على معرفة الحكمة من التشريع، سواء أكان بالتحليل أم بالتحريم، كما أن معرفة سبب النزول للآية يثبت القرآن، ويجعله مستقراً في الأذهان، ويرفع توهم الحصر، وعن طريق معرفة سبب النزول نعرف اسم من نزلت أو في شأنه الآية، وكذلك نعرف بأن هذا السبب يدخل دخولاً أولياً تحت معنى الآية.(8/2)
تعدد سبب النزول
توقف الكلام بنا عند تعداد الوقائع في آية واحدة؛ لأنه قد يقال: سبب نزول الآية كذا ويُذكر سبب، أو نزلت هذه الآية في شأن كذا وكذا ويذكر سبب آخر، فماذا نصنع في تلك الحال؟ نقول: إذا كانت الروايتان صحيحتين ولا تعارض بينهما فيحملا على تعدد السبب.
فمثلاً: آية اللعان، لو أن إنساناً اتهم زوجته -والعياذ بالله- بالزنا، فلا يطلب منه أن يأتي بأربعة شهود، وإنما يحلف أربع مرات أن هذه المرأة قد زنت، وأنه رآها تزني، وإذا كان هناك حمل يحلف بأن هذا الحمل ليس منه، وفي المرة الخامسة يقول: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فلو أن الزوجة اعترفت بالزنا، ترجم، ولو أنها نفت فإنها تطالب بأن تحلف أربع مرات بأنها ما زنت، وأن هذا الرجل قد كذب عليها، وأن هذا الحمل الذي في بطنها منه، وفي المرة الخامسة تقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
هذا التشريع سببه: أن هلال بن أمية الواقفي رضي الله عنه اتهم زوجته بالزنا، وفي رواية أخرى أن الذي اتهم امرأته بالزنا هو: عويمر العجلاني رضي الله عنه نقول: لا تعارض؛ فإنه يمكن أن يكون هذا الصحابي قد جاء، ثم جاء آخر بعده؛ فشكا من الواقعة نفسها؛ فنزلت الآية في السببين معاً، أي: يحمل ذلك على تعدد الواقعة.
وأحياناً يكون هناك روايتان لكن يمكن أن نرجح إحداهما على الأخرى، مثال ذلك: ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متكئ على عسيب، فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: لو سألتموه عن الروح واليهود دائماً يحاولون طرح الأسئلة لمحاولة إحراج الرسول صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ورفع رأسه، يقول ابن مسعود: فعرفت أنه يوحى إليه، فقال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]).
وهذه القصة حصلت في المدينة؛ لأن مكة ليس فيها يهود، لكن جاء في سنن الترمذي عن عبد الله بن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل -يعنون: النبي صلى الله عليه وسلم- فقال لهم اليهود: سلوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85]، هذه الحادثة الثانية رواها عبد الله بن عباس، ويدل على أنها وقعت في مكة، وأن وفداً من قريش ذهبوا إلى اليهود في المدينة، وعرف منهم هذا السؤال، ورجعوا إلى الرسول في مكة، وأن السائلين هم المشركون، فلو أردنا أن نرجح بين الروايتين فسنرجح الرواية الأولى؛ لأن راويها ابن مسعود وهو أقدم إسلاماً من ابن عباس، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي وعمر عبد الله بن عباس خمس عشرة سنة؛ فإنه سئل: كم كان عمرك حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: توفي وأنا غلام ختين.
يعني: مختون، وكانوا لا يختنون الغلام حتى يبلغ، وفي بعض الروايات: أنه كان عمره ثلاثة عشر عاماً، وعلى كلا التقديرين فلم يكن ابن عباس حاضراً القصة، والحاضر هو ابن مسعود؛ فلذلك نرجح روايته على رواية ابن عباس رضي الله عن الجميع.(8/3)
سبب نزول قوله تعالى (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)
هناك أحوال تستوي فيها الروايتان في الصحة، ويكون نزول الآية عليهما معاً بعيداً؛ لتباعد الزمان، مثال ذلك: ما رواه البيهقي عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة وقد مثل المشركون به) وكان ذلك في أحد؛ فإن المشركين جدعوا أنفه، وقطعوا أذنه، وبقروا بطنه، واستخرجوا كبده، فالرسول صلى الله عليه وسلم وقف على عمه وهو في تلك الحال فقال: (لأمثلن بسبعين منهم مكانك.
فأنزل الله عز وجل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126])، فهذه الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه فيها أن الآية نزلت يوم أحد، وهناك رواية أخرى رواها الترمذي والحاكم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، فمثلوا به، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً كهذا لنربين عليهم) يعني: لنزيدن، من الربا، والربا هو: الزيادة، ومنه قول الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] يعني: زادت الأرض، فهؤلاء الجماعة من الأنصار قالوا: (لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله: ((وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ)) [النحل:126])، فالرواية الأولى تذكر أن هذه الآية نزلت في غزوة أحد، وغزوة أحد كانت في السنة الثالثة، والرواية الثانية رواية أبي تذكر أن هذه الآية نزلت يوم الفتح، والفتح كان في السنة الثامنة، فلا نستطيع أن نجمع بين الروايتين، فما عندنا إلا حل من اثنين: الأول: إما أن نحملها على تكرار النزول، وأنها نزلت يوم أحد ثم نزلت يوم الفتح؛ لأن هناك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لأمثلن بسبعين مكانك)، ويوم الفتح حدث الشيء نفسه من الأنصار رضي الله عنهم، فقد كانوا مغتاظين على أهل مكة؛ لأنهم آذوا الرسول صلى الله عليه وسلم، والأنصار ما نسوا يوم أحد، حيث شجت جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته السفلية، ودخلت حديدتان في وجنتيه عليه الصلاة والسلام، حتى أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه لما خلع واحدة منهما ندرت معها ثنيته، فلذا قال الأنصار هذا الكلام، ولذلك سعد بن عبادة لما أخذ الراية قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، لا قريش بعد اليوم، فلم يسرها في نفسه، بل أعلنها قائلاً: اليوم يوم الملحمة، يعني حرباً طاحنة، اليوم تستحل الحرمة، لا شيء اسمه حرم، ولا مكة، اليوم فقط دم، لا قريش بعد اليوم!! فالرسول صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا قال: (اليوم تعظم الحرمة، ثم أخذ الراية من سعد بن عبادة وأعطاها لولده قيس بن سعد بن عبادة)، وهذا تصرف في غاية الحكمة من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرجل المحارب قد يكون فيه نوع من الرهق والاندفاع، بحكم أنه يملك السلاح، وعنده القوة، فيقع منه ما لا ينبغي؛ لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها منه؛ لأن مثل هذا نفسيته غير مستقرة في هذا الوقت، ثم لكي لا ينفخ الشيطان في الأنصار، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الراية من سيدهم وأعطاها لولده، أخذها من أنصاري ووضعها في أنصاري آخر، أخذها من سيد الأنصار، وأعطاها لولد سيد الأنصار كأنه ما تغير شيء، لكن قيس بن سعد فهم الدرس، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يهز حرمة مكة، بل يريد أن يفتح مكة بأقل قدر من الدماء.
ولذلك نقول: هذه الآية تحمل على تكرار نزولها، كما قال الزركشي رحمه الله في البرهان: قد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه، وتذكيراً به عند حدوث سببه، وخوف نسيانه، وهناك أمثلة، فقالوا: الفاتحة نزلت مرتين، مرة في مكة ومرة في المدينة، وقالوا: آية الروح نزلت مرتين، مرة في مكة جواباً على سؤال المشركين، ومرة في المدينة جواباً على سؤال اليهود، لكن بعض العلماء أنكر مسألة تكرار النزول، ولم يبق أمامه إلا الحل الثاني وهو العمل بإحدى الروايتين وإهمال الأخرى.(8/4)
نزول أكثر من آية في واقعة واحدة
أيضاًً قد تتعدد الآيات والسبب واحد.
ومثال سبب واحد نزلت فيه آيتان ما أخرجه البخاري من حديث زيد بن ثابت، وزيد بن ثابت كاتب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه ما كان يكتب ولا يقرأ عليه الصلاة والسلام وإنما ينزل عليه جبريل بالوحي وبحكمة الله عز وجل يتم الحفظ، كما قال سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 17] يعني: قراءته، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19]، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما كانت تنزل عليه الآية أو الآيات، يدعو واحداً من كتاب الوحي كالخلفاء الأربعة، كـ أبي بكر أو عمر، أو عثمان، أو علي، أو زيد بن ثابت، أو ابن مسعود، أو معاوية بن أبي سفيان أو غيرهم ليكتب له، وبعضهم أحصى كتاب الوحي فبلغ بهم بضعاً وأربعين نفساً، فيدعو النبي صلى الله عليه وسلم أحدهم ويملي عليه، ومنها هذه الآية: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [النساء:95]، فجاء ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى فقال: يا رسول الله! لو أستطيع الجهاد لجاهدت، فأنزل الله عز وجل: ((غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ))، فصارت الآية: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [النساء:95].
هناك آية أخرى نزلت بالسبب نفسه، يقول زيد بن ثابت: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لواضع القلم على أذني إذ أمر بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه، إذ جاء أعمى فقال: يا رسول الله! كيف لي وأنا أعمى؟ يعني: كيف أجاهد وأنا أعمى؟ فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة:91]، فنزل قول الله عز وجل: ((لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ))، هذه في سورة النساء، وقوله: ((لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ))، في سورة التوبة، آيتان كلاهما نزلتا بسبب مجيء الأعمى، سواء كان ابن أم مكتوم أو غيره، فقد شكا للرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يستطيع الجهاد، وممكن أن يكون الأعمى في المرة الثانية غير ابن أم مكتوم كالذي ذكر في حديث التوسل المعروف.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! لا أسمع الله ذكر النساء بشيء في الهجرة -يعني: أم سلمة رضي الله عنها قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: الآيات التي نزلت في شأن الهجرة كلها في شأن الرجال والنساء لم ينزل فيهن شيء- فأنزل الله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]) أي: الرجال والنساء بعضهم من بعض، يعني: نحن الرجال من النساء، باعتبار أننا جميعاً خرجنا من أرحام أمهاتنا، وقد يكون المعنى: بعضكم من بعض: النساء من الرجال، باعتبار الخلقة الأولى أن حواء خلقت من ضلع آدم.
فهذه الآية نزلت بسبب سؤال أم سلمه.
وأخرج الحاكم عن أم سلمه قالت: يا رسول الله! تذكر الرجال ولا تذكر النساء.
يعني: آيات القرآن كلها في الرجال، وليس هناك شيء في النساء، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، فهنا سألت أم سلمة، فنزل بسبب سؤالها آيتان، وفي كلتا الآيتين ذكر للنساء بجوار ذكر الرجال.(8/5)
إكرام الإسلام للمرأة
قضية الرجال والنساء حسمها الإسلام ففي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] أي: أن قضية الذكورة والأنوثة كما يقول أهل العلم: وصف طردي لا تأثير له في الحكم مع أن هناك أشياء مخصوصة خص الله بها الرجال أو النساء من أجل موافقة الخِلقة والطبيعة، لكن الحكم العام: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، وهذا الذي يوافق الفطرة والواقع والشرع، أما الناس الذين يريدون أن يجعلوا الذكر كالأنثى، والأنثى كالذكر في كل شيء فإن هؤلاء يخالفون الواقع والفطرة والشرع، لأن الترتيب الجسماني: ليس الذكر كالأنثى، والاستعداد الفطري: ليس الذكر كالأنثى، والقوى العقلية والمواهب الكسبية: ليس الذكر كالأنثى، ولذلك لما سمع رجل من عامة الناس إحدى النساء المسترجلات تتكلم أن المرأة نصف المجتمع ولا بد أن تدخل المرأة مع الرجل، وتزاحم الرجال، قال لها العامي: هذا الكلام صحيح ((لَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى))، قالت له: وكيف؟ قال لها: أتصارعينني؟ -هذا بفهمه- طبعاً، فسكتت وبهتت، وهو قال كلاماً صحيحاً؛ لأنه ليس الاستعداد واحداً، ليست قوة التفكير واحدة، ليس التذكر واحداً، ليست العاطفة واحدة، ميز الله الرجال بأشياء وميز النساء بأشياء، هذه قضية معلومة، ولعلها ستأتي معنا في آية الدين في قول الله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة:282] أو في قراءة حمزة -وهو من القراء السبعة-: {إِنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]؛ لأن المرأة في الغالب اهتمامها بأمور البيت، والمطبخ، والملابس، والتجميل، ورعاية العيال، وليس لها اهتمام في الغالب بالأمور المالية، وضبط الحسابات، والتفكير في المشروعات، وهكذا، ولا يعترض أحد فيقول لي: أنا أعرف امرأة تعمل في العمارات، امرأة فتحت مكتباً تابعاً للعقارات تعمل فيه، وآخر يقول: كذا كذا، نقول: هذا من الشاذ النادر، والشاذ لا حكم له.
كما أنه قد يوجد من الرجال -والعياذ بالله- من هو مستأنث، بحيث إن زوجته قوامة عليه، تحشر أنفها في كل شيء، تقول: اقعد فيقعد، قم فيقوم، نقول: هذا شاذ وإلا فالأصل بالفطرة أن الرجل لا يقبل مثل هذا، سواء أكان عنده دين أم ليس عنده دين.
وفي الختام نسأل الله أن يجعل هذه الكلمات نافعة لي ولكم، وأن يجعلها لنا جميعاً في صحائف الحسنات، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(8/6)
الأسئلة(8/7)
نصيب الزوجات في الميراث إن وجد الولد
السؤال
توفي رجل وهو متزوج امرأتين، ولديه أولاد من إحدى زوجتيه، والأخرى لم تنجب، فكيف يكون نصيب الزوجتين؟
الجواب
نصيب الزوجتين الثمن، يعني: كل واحدة عندها واحد على ستة عشر، فيقسم الثمن بينهما، ويستوي في ذلك الكبيرة والصغيرة، والقديمة والجديدة، والشوهاء والجميلة، والولود والعقيم، كلهن سواء، حتى إذا كن أربعاً فإن الثمن بينهن، أي: واحد على اثنين وثلاثين.(8/8)
إغماض العينين في الصلاة طلباً للخشوع
السؤال
إني أغمض عيني في صلاة التراويح والتهجد لكي أخشع وأستمع وأتدبر؛ لأن النظر إلى قفى الناس والفرش الملونة يشغلني عن صلاتي؛ فما الحكم في ذلك؟
الجواب
من رحمة الله علينا أننا عندما نصلي في الفضاء لا يوجد شيء ننظر إليه أصلاً، حتى النور الذي أسرجوه لنا أطفأه الناس، حتى إن الفرش التي نصلي عليها ليس فيها زخارف ولا زركشة تلهي الناس، فلذلك نقول: الأصل أن الإنسان يرمي ببصره نحو موضع سجوده، وإن كان هناك ما يشغله ويشوش عليه صلاته فلا حرج أن يغمض عينيه، وإن كان تغميض العينين أيضاً يجلب الخشوع فلا حرج في ذلك.(8/9)
استحباب إخبار من تحبه في الله بذلك وميزان المحبة في الإسلام
السؤال
من كان يحب أحد الإخوان لطيب خلقه ودينه، وحسن سمته وصلاحه، هل يخبره بأنه يحبه في الله؟
الجواب
نعم، قال أحد الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني أحب فلاناً في الله، فقال صلى الله عليه وسلم: هل أخبرته؟ فقال: لا، قال: إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره، ليقل له: إني أحبك في الله، وليقل له أخوه: أحبك الله الذي أحببتني من أجله).
لكن ما معنى المحبة في الله؟ هذه قضية مهمة جداً؛ لأن البعض يحب صديقه لأنه صاحب نكتة ويضحك الناس في المجالس، يقوم أحد الناس ويقول له: إني أحبك في الله، هذا الكلام خطأ، إن المحبة في الله معناها: أن تحب شخصاً من أجل أفعاله وأقواله التي يحبها الله، فأحبه؛ لأنه مواظب على الجماعة؛ ولأنه كف لسانه عن الولوغ في أعراض المسلمين؛ ولأنه كثير الإحسان؛ ومعظم لحرمة الدين؛ ومحب للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم؛ وإنسان خاشع؛ وإنسان متواضع؛ ونحو ذلك، هذه محبة في الله، أما أن تحب إنساناً مثلاً لجمال شكله فليست هذه محبة في الله، أو تحب إنساناً لأنه رجل حسن المظهر، هذه ليست محبة في الله، وهكذا لو أن إنساناً قال: والله إن فلاناً من الناس أحسن رجلٍ! نقول له: كيف ذلك؟ قال: والله لو رأيته ذا عمةٍ مهيبةٍ وعصاً بيمينه تكسوه وقاراً!! وما قيمة ما ذكرت؟ يحمل عصاة!!! قد يكون حطباً لجهنم! فيجب أن تدرك أن موازين الناس في هذا الزمان فيها نوع من الخلل والتخبط.(8/10)
الذكر بعد صلاة الوتر
السؤال كلمة: (سبحان الملك القدوس) هل نقولها بعد السلام من الوتر أم بعد صلاة التراويح أم دبر كل صلاة؟
الجواب
تقولها بعد الوتر، هذا هو الثابت عن أمنا عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الوتر قال ثلاثاً: سبحان الملك القدوس، يرفع بها صوته)، فلذلك من السنة بعد الوتر أن نقول: سبحان الملك القدوس ثلاثاً.(8/11)
جواز إحرام الحاج والمعتمر الآتي من السودان من جدة
السؤال
هل يجوز للحاج والمعتمر الآتي من السودان إلى بيت الله العتيق الإحرام من جدة؟
الجواب
نعم، يجوز للحاج والمعتمر الخارج من السودان الإحرام من جدة.(8/12)
حكم تطهير غير المحارم لنجاسة الرجل العاجز
السؤال
أخي متخلف عقلياً وقد بلغ الحلم، ولكن لا يوجد من ينظفه من النجاسة إذا قضى حاجته إلا أمي، وهي طاعنة في السن وزوجتي، فهل يجوز لزوجتي ذلك؟ وكيف العمل إذا كان لا يجوز لها تنظيفه؟
الجواب
زوجتك لا يجوز لها أن تقوم بالأمر طالما أن الوالدة موجودة وأنت موجود، فأنتم تقومون بواجبكم نحوه، ونسأل الله أن يعظم أجركم، ونسأله كذلك أن يكشف عنكم البلاء، وأن يشفي أخاكم، وفي الحقيقة هذا من البلاء، والله عز وجل يقول: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، ما تدري لعل في هذا خيراً لكم، وقد قال الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، وقال سبحانه: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، لكن زوجتك لا يحل لها الاطلاع على عورة أخيك لأنه لا ضرورة، حتى في حال التطبيب، نقول: إذا مرض رجل لا يجوز للطبيبة أن تكشف على عورة هذا الرجل، فقم بهذا الأمر أنت، ولا تكلف أمك فوق طاقتها، أما إن كانت هناك مشقة من جهة أنك أحياناً تخرج إلى العمل الذي تقتات منه وليس أحد في البيت سوى أمك، فلتقم هي بهذا، وسيعظم الله أجرها، لكن زوجتك لا يجوز لها ذلك.(8/13)
لا تسلب عن القاتل صفة الإيمان
السؤال
معلوم أن القاتل يكون أخاً لولي القتيل، ولا تنتفي منه صفة الإيمان، فكيف نجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]؟
الجواب
هذه الآية فيها كلام كثير لأهل العلم، والصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أن هذه الآية مقيدة بالآية التي في النساء وتكررت مرتين، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، فأيهما أعظم الشرك أم القتل؟ الشرك، فاللهُ عز وجل هنا يبين أن من مات مشركاً ليس له طريق إلى المغفرة، أما من مات وله ذنوب دون الشرك فهو تحت المشيئة، فمن قتل نفساًًًًًًًًًًً، أو ارتكب فاحشة، أو شرب خمراً، أو غير ذلك فهو تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له, ولذلك لو أن إنساناً قتل مؤمناً وحكم عليه بالقصاص وقتلوه به، فإننا نغسله ونكفنه ونصلي عليه في المسجد، وندعو له: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، ولو كان كافراً ما فعلنا به ذلك.
والمعنى نفسه موجود في قول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، فهنا سماهم مؤمنين، رغم أنهم اقتتلوا، كذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما صعد على المنبر ومعه الحسن ابن فاطمة عليهما السلام، وقال: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وفعلاً أصلح الله به في العام الذي سمي بعام الجماعة سنة أربعين أو واحد وأربعين من الهجرة، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الفئتين المتقاتلتين (مسلمتين) رغم أنهما تقاتلتا، فالقاتل إذاً لا تسلب عنه صفة الإيمان، حتى لو قلنا بظاهر الآية التي في سورة النساء فلا يلزم من الخلود نفي الإيمان.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم تقبل منا الصيام والقيام واجعله خالصاً لوجهك الكريم.
اللهم اجعلنا من عتقائك في هذا الشهر المبارك من النار، اللهم اجعلنا من عتقائك في هذا الشهر المبارك من النار، اللهم اجعلنا من عتقائك في هذا الشهر المبارك من النار.
اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل متقبل مبرور.
اللهم اجعل هذا المجلس المبارك شاهداً لنا لا علينا، واجعله في صحائف حسناتنا يوم نلقاك، اللهم كما جمعتنا فيه نسألك أن تجمعنا في جنات النعيم وأن ترزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم، وأن تجعلنا إخواناً على سرر متقابلين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد.(8/14)
لباب النقول في أسباب النزول [3]
لقد جعل الله عز وجل القرآن الكريم كتاب هداية، فقد بين فيه أصول الدين وفروعه، وتناول القرآن الكريم قسطاً كبيراً من القواعد والأصول التي تقرر بها الأحكام، ومن ذلك نزول آياته على وقائع حادثة معينة تبياناً وإرشاداً، وقد يكون للواقعة والسبب الذي نزل بشأنه النص القرآني صور، وللعلماء فيها كلام عظيم وتفصيلات مهمة.(9/1)
حالات تعدد الروايات في سبب النزول وكيفية التعامل معها
تقدم معنا الكلام في أنه إذا روي أكثر من رواية حول سبب نزول آية واحدة من كتاب الله فهذا الأمر لا يخلو من إحدى حالات أربع: الحالة الأولى: أن تكون إحدى الروايتين صحيحة والأخرى ليست كذلك، ومثال هذا سبب نزول قول الله عز وجل: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، فهناك رواية صحيحة بأن امرأة من شياطين قريش -وهي العوراء أم جميل - قالت: يا محمد! ما أرى شيطانك إلا قد ودعك.
فأنزل الله هذه الآية.
وهناك رواية عند الإمام الطبراني في قصة دخول الجرو وموته تحت سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أننا لو أثبتنا هذه الرواية لا يكون هناك تعارض.
الحالة الثانية: أن تكون الروايتان صحيحتين، ولكن يمكن الترجيح بينهما، كحديث ابن مسعود رضي الله عنه في قصة مرور النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من اليهود وسؤالهم إياه عن الروح، ورواية ابن عباس أن السائلين هم المشركون، وأنهم سألوا بإيعاز من اليهود.
فنقدم الرواية الأولى؛ لأن ابن مسعود أقدم إسلاماً من ابن عباس، ويحمل ذلك على أنه قد رأى هذه الحادثة، أما ابن عباس رضي الله عنه فقد رويت له رواية.
الحالة الثالثة: أن تكون الروايتان صحيحتين، ولكن لا يمكن الترجيح بينهما، ويمكن أن تكون الآية قد نزلت فيهما، ومثال ذلك آيات اللعان، فقد قيل: إن سبب نزولها أن هلال بن أمية الواقفي رمى زوجته بـ شريك بن سحماء، وقيل: بل الرامي هو عويمر العجلاني، والروايتان صحيحتان، فنقول: لا تعارض، وتحمل الروايتان على أن الرمي حصل من هذا ومن هذا؛ فنزلت الآيات فيهما.
الحالة الرابعة: استواء الروايتين -أو الروايات- في الصحة وعدم إمكان الترجيح بينهما، وعدم إمكان القول بأن الآية قد نزلت فيهما، ومثاله قول الله عز وجل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، قيل: نزلت عقيب أحد، وقيل: نزلت يوم الفتح، وما بين أحد والفتح خمس سنوات، ولذلك لا سبيل إلى القول بأن الآية قد نزلت في الأمرين جميعاً، إلا أن يحمل ذلك على تعدد أو تكرر النزول، أي أنها نزلت مرة بعد مرة.(9/2)
عموم اللفظ وخصوص السبب
إن موضوع عموم اللفظ وخصوص السبب أشبه بعلم الأصول أكثر من شبهه بعلوم القرآن، فقد اعتنى به الأصوليون في مبحث العام والخاص.
وإذا كان هناك أربع حالات أو أربع صور في تعدد الروايات في سبب النزول، فإن لقضية عموم اللفظ وخصوص السبب أربع صور أيضاً: الصورة الأولى: أن يكون كل من السبب واللفظ النازل عليه خاصاً.
الصورة الثانية: أن يكون كل من السبب واللفظ المنزل عليه عاماً.
وهاتان الصورتان لا خلاف فيهما بين أهل العلم.
الصورة الثالثة: أن يكون السبب عاماً واللفظ النازل عليه خاصاً.
الصورة الرابعة: أن يكون السبب خاصاً واللفظ النازل عليه عاماً، فهاتان الصورتان محل خلاف بين أهل العلم، والذي عليه جمهور العلماء أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.(9/3)
مثال عموم اللفظ وخصوص السبب
مثال كون اللفظ عاماً والسبب خاصاً أن إحدى النساء جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -واسمها خولة بنت ثعلبة - تشكي زوجها فقالت: يا رسول الله! كان صدري له سقاء، وبطني له وعاء، وحجري له حواء، حتى إذا كبر سني ورق عظمي ظاهر مني، إلى الله أشكو.
فقولها: (كان صدري له سقاء) أي: يسقي أولاده، (وكان بطني له وعاء) أي: حاملة لأولاده، (وكان حجري له حواء) أي يضم أولاده.
وكان من عادة أهل الجاهلية أن الواحد منهم إذا غضب من امرأته يقول لها: أنت علي كظهر أمي.
يعني: أنت حرام علي كحرمة أمي.
فتبقى المسكينة معلقة إلى أن يرضى الزوج فيرجع إليها.
فزوجها أوس بن الصامت رضي الله عنه كان فيه حدة، فحصل بينهما كلام فقال لها: أنت علي كظهر أمي.
فجاءت تشكو، ومما قالت في شكواها: وعندي منه أولاد إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا.
وهذه قسمة معروفة فعلاً، فالأم لو أخذت الأبناء فمن أين ستؤكلهم؟ ولو أبقتهم لصاحبها سيتزوج ويأتي لهم بشيطانة تعكر عليهم صفوهم.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ساكتاً والمرأة تلح في السؤال، والسيدة عائشة رضي الله عنها كانت جالسة في ناحية من البيت، وكانت بعد ذلك تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات! إني لأسمع حديثها ويخفى علي بعضه، فسمعها الله من فوق سبع سماوات وأنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] إلى أن بين الكفارة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:3]، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة:4]، وهذه مشكلة تحصل اليوم كثيراً، فبعض الرجال ممن لا عقول لهم إذا حصل بين الواحد منهم وبين المرأة خلاف في لقيمات أو في شيء تافه قال لها: أنت حرام علي مثل أمي، وهذا ذنب وإثم؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، فكيف تصير امرأتك أمك؟! {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4] إلا أن يقصد أنه في الاحترام يعاملها مثل أمه فهذا أمر آخر، أما أن الزوجة تحرم عليك كحرمة أمك فهذا زور، ومن قال ذلك فهو آثم تلزمه الكفارة، وليس له أن يعتبر ذلك أمراً عادياً إذا ذهب غضبه، بل عليه ألا يقربها إلا بعد عتق رقبة، والآن ليس هناك رقاب، فيبقى الصيام، ولكن الواقع أن كثيراً من الناس لا يلتزمون بهذا، فتجد أحدهم يرمي الكلمة ثم يقول: لقد اتفقنا! فهذه الآيات عند كثير من المسلمين حبر على ورق لا يفكر فيها إلا القليل منهم.
فالسبب في هذه القصة خاص برجل معروف اسمه أوس بن الصامت وامرأة معروفة اسمها خولة بنت ثعلبة، لكن اللفظ عام؛ لأن ربنا قال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] ولفظ (الذين) من ألفاظ العموم، لذلك قال العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.(9/4)
مثال خصوص اللفظ وخصوص السبب
وأما كون السبب خاصاً واللفظ خاصاً فمثاله أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جالساً في المسجد فجاءت امرأة فقالت: يا رسول الله! إني وهبت لك نفسي.
فهذه المرأة الصالحة الطيبة الفاضلة رضي الله عنها كانت تفكر في مستقبلها في الآخرة، فهي تعرف أنها لو تزوجت بالرسول صلى الله عليه وسلم فلن يسكنها في قصر، بل في حجرة من طين، وستمر عليها الأيام لا يوجد فيها سوى تمر وماء، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر عليه الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيته نار، وليس لهم طعام إلا الأسودان: التمر والماء.
فهذه المرأة قالت: (وهبت لك نفسي) من أجل أن تكون من بعد زوجته في الجنة، فهي في الدنيا ستعيش سنين في الشظف، ثم بعد ذلك ستنتقل إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فلما قالت ذلك صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر فيها وصوبه، ثم سكت عليه الصلاة والسلام، يقول الصحابة: (حتى أشفقنا عليها من طول القيام)، فوجد أحد الصحابة فرصة عظيمة، وعرف أن هذه المرأة صالحة ولن تكلفه كثيراً؛ لأن التي تأتي وتهب نفسها لا تريد دنيا، فقال: يا رسول الله! زوجنيها.
فقال عليه الصلاة والسلام: (ابذل لها شيئاً) أي: ادفع لها مهراً، فمشى ثم رجع فقال: يا رسول الله! ما عندي إلا إزاري، فقال: (وما تصنع بإزارك؟! اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد) فذهب ثم جاء فقال: ما وجدت شيئاً، فقال عليه الصلاة والسلام: (هل معك شيء من القرآن؟ فقال: نعم معي كذا وكذا وكذا، حتى عد عشرين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن)، فأنزل الله عز وجل: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50].(9/5)
مثال آخر لخصوص اللفظ وخصوص السبب
ومثال ذلك أيضاً أنه لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ودعا الصحابة إلى الطعام ثم أكلوا من الطعام، ثم مكثوا يتحدثون، كانت الحجرة ضيقة، وكانت زينب رضي الله عنها قد جعلت وجهها للحائط، فقال أحد الصحابة: إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم نكحت بعده عائشة.
فلو أن هذا الرجل في بيتك وقال هذا الكلام وبلغ سمعك فماذا أنت صانع؟! لعله لا يخرج من بيتك حياً، مع أن الذي قيل في بيته هذا الكلام هو سيد البشر صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما تغير صلى الله عليه وسلم تجاه هذا الصحابي، ولا قال شيئاً، وأنزل الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]، فهنا السبب خاص واللفظ خاص، فهذه حالة خاصة، وإلا فإن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لو مات جاز أن تتزوج امرأته من بعده.(9/6)
مثال خصوص السبب وعموم اللفظ
وأما كون السبب خاصاً واللفظ عاماً فمثاله قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء:51 - 52]، فهذه الآية سبب نزولها أن جماعة من المشركين جاءوا إلى اليهود، فبدأ اليهود يحرضونهم على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا لهم: يا معشر اليهود! أنتم أهل العلم بالكتاب الأول، نسألكم بالله: أديننا خير أم دين محمد؟ واليهود كانوا يعرفون أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويسجدون لها ويطوفون حولها، فالمسألة لا تريد اجتهاداً، لكن اليهود على عادتهم في التحريف قالوا لهم: وما دينكم؟ فقالوا: نحن ننحر الكوماء، -والكوماء الناقة الكبيرة- في الشتاء، ونطعم الحاج، ونقري الضيف.
فقال لهم اليهود: لا والله، دينكم خير من دين محمد.
فهنا سبب خاص، ونزلت الآية عامة في الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، وحكم الله عليهم باللعنة فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:52].
وقد رجح السبكي تقي الدين رحمه الله تعالى في جمع الجوامع أن هذه مرتبة متوسطة، فهي دون السبب وفوق التجرد.(9/7)
الأسئلة(9/8)
سبب تسمية سورة غافر بسورة المؤمن
السؤال
لماذا سميت سورة غافر بسورة المؤمن؟
الجواب
لأن فيها خبر مؤمن آل فرعون، كما في قوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]، وسور القرآن بعضها لها أكثر من اسم، مثل الفاتحة، فإن أسماءها كثيرة، منها: الفاتحة، وأم الكتاب، وأم القرآن، والكافية، والشافية، والسبع المثاني، والقرآن العظيم، والأساس، وغير ذلك.
وسورة التوبة تسمى التوبة، وبراءة، والفاضحة، والبحوث، والمزلزلة، والمقشقشة، والمدمدمة.
والبقرة وآل عمران تسميان الزهراوين.(9/9)
تقسيم إرث من مات عن أختين وابني عم
السؤال
مات رجل عن أخت شقيقة ورجلين من أبناء عمه، فما نصيب كل منهم من الميراث؟
الجواب
الأخت الشقيقة لها النصف والباقي لابني عمه إن لم يكن هناك ذكر أقرب منهما.(9/10)
حكم بث الأصوات الموسيقية في ميكرفون المسجد
السؤال
مؤذن أحد المساجد يضع الراديو بالقرب من الميكرفون لينقل أذان المغرب في رمضان ويفطر بعيداً عن المسجد مع أهله وجماعته، لكن بعدما ينتهي الأذان يعقبه موسيقى يسمونها موسيقى الإفطار تسبب إزعاجاً لأهل القرية، فما حكم هذا؟
الجواب
هذه -والله- مصيبة، وأذكر أنه كان لنا درس في مسجد، وكان جهاز الصوت التابع للمسجد فيه شيء من الخراب، فحانت مني سكتة فدخلت الإذاعة على الخط بسبب الجهاز، وكان الذي في الإذاعة مباراة كرة، فقال المذيع: باركومبا يطلع بالكورة.
وكان هذا في المسجد على ملأ من الناس، وما أدري أباركومبا مازال حياً أم مات.
فما من شك أن هذا الرجل منتهك لحرمة بيت الله؛ لأن المعازف محرمة، ويعظم البلاء حين يأتي بها إلى الجامع، وعن طريق الميكرفون يعمم الشر على الناس، فهذا الرجل ينصح؛ لأن فعله هذا هو من الشر بمكان عظيم، وخير له ألا يؤذن أصلاً من أن يحدث هذا؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.(9/11)
معنى الاستعاذة بالله تعالى من الحور بعد الكور
السؤال
نحن نعوذ بالله من الحور بعد الكور، فما معنى ذلك؟
الجواب
الاستعاذة بالله تعالى من الحور بعد الكور معناها الاستعاذة به من النقصان بعد الزيادة، لذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا).(9/12)
حكم قول (سبحانك) ونحوه عند ذكر تمجيد الله في دعاء القنوت
السؤال
في دعاء القنوت يقول بعض الناس عند سماع تمجيد الله: سبحانك، فما صحة ذلك؟
الجواب
هذا مما تلقاه الناس عن إخواننا المصريين، وتجد بعضهم إذا وصل الإمام إلى قوله: فإنك تقضي ولا يقضى عليك إلخ يقولون: حقاً إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، يا ألله، وهذه سمعوها من الإذاعة المصرية ولكنها ليست سنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، ولا قال بها أحد من الأئمة، فالذي ينبغي هو أن تؤمن فقط، لا أن تخترع كلمات من عندك.(9/13)
حكم طلب ما بعد الأمر بـ (قل) في القرآن الكريم
السؤال
عند سماع تلاوة القرآن يمر القارئ بطلب مقدم بـ (قل) فهل للسامع أن يطلب ما بعد الأمر إن كان طلباً أو استعاذة؟
الجواب
لا، فهل في نحو قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] أقول: هو الله أحد؟! وفي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] أقول: يا أيها الكافرون؟! ليس ذلك مقصوداً، وإنما (قل) خوطب بها النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.(9/14)
وقت إمساك الصائم عن المفطرات
السؤال
متى يكون الإمساك في حق الصائم عن المفطرات، هل مع بداية الأذان أم قبل أن يقول المؤذن: الصلاة خير من النوم؟
الجواب
إذا أذن المؤذن فأمسك عن الأكل، وإن كان في فمك شيء فأخرجه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)، أي: إذا قال ابن أم مكتوم: الله أكبر فأمسكوا.
وقد جاءتنا فتاوى جديدة يقول قائلها: يجوز الأكل إلى أن يقول المؤذن: الصلاة خير من النوم، والعجب أننا رأينا أحد الناس يمر في المساجد يقول للناس: يجوز الأكل إلى الإقامة! وهذه فوضى في الفتاوى، فقد صار كل إنسان يفتي بما يخطر على باله، وينبغي أن يكون على الفتوى محتسبون كما أن على الخبازين محتسبين، فالمخابز يجري عليها تفتيش وأصحاب السمكرة وغيرهم من أصحاب المهن عليهم مفتشون يتابعونهم إلا الفتوى، فأي إنسان يمكن أن يقوم في المسجد ويتكلم ويفتي ويشرع ويضل عباد الله عز وجل، وهذا من الشر العظيم، ونسأل الله أن يتوب علينا أجمعين.(9/15)
حكم الذهاب لأداء العمرة حال الاستدانة
السؤال
أنا تاجر وأريد الذهاب للعمرة إن شاء الله، علماً بأنني على مدار السنة دائن مدين، هل يجوز لي الذهاب؟
الجواب
إذا كانت الديون مؤجلة فاذهب ولا حرج، وإذا كانت الديون قد حان وقت سدادها فاستأذن من أصحابها.(9/16)
حكم أداء صلاة العشاء في المسجد أثناء صلاة الناس التراويح
السؤال
ما حكم الصلاة في المسجد في جماعة أثناء التراويح؟
الجواب
هذا أقل أحواله الكراهة، فمن جاء بعد صلاة العشاء فإنه يدخل مع الإمام في التراويح بنية العشاء، ولا حرج في ذلك؛ لأنه يصح أن يصلي المفترض خلف المتنفل.(9/17)
لباب النقول في أسباب النزول [4]
هناك وجوه شبه كثيرة تربط بين اليهود وإخوانهم المنافقين، وتتجلى العلاقة واضحة عندما يقفوا في صف واحد ضد الهدى وفي وجه رسول الهدى، قاهر العدى.
وقد توعد الله كلا الصنفين الخبيثين بالعذاب الشديد في الآخرة.(10/1)
فضل سورة البقرة وأصناف المدعوين الذين تحدثت عنهم
سيكون الكلام عن أسباب نزول بعض آي القرآن مما أورده الإمام الجلال السيوطي رحمه الله في كتابه: (لباب النقول في أسباب النزول).
ونبدأ بأطول سور القرآن وأغزرها أحكاماً، وهي (سورة البقرة) هذه السورة المباركة أيها الإخوان! أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءتها والعناية بها فقال: (اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)، أي: السحرة، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم: (أن لكل شيء سناماً وسنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهاراً لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام، ومن قرأها ليلاً لم يدخل الشيطان ثلاث ليال).
وأخبرنا بأن الشياطين تنفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، هذه السورة المباركة في أولها خمس آيات في شأن المؤمنين، وآيتان في شأن الكافرين، وثلاث عشرة آية في شأن المنافقين، فالصنف الأول: مؤمنون ظاهراً وباطناً، والصنف الثاني: كافرون ظاهراً وباطناً، والصنف الثالث: مؤمنون في الظاهر كفار في الباطن.(10/2)
سبب نزول قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أسباب نزول الآية السادسة والسابعة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:6]، وأخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنهما نزلتا في يهود المدينة].
هذه الآية أيها الإخوان! ظاهرها أن الكافر لا يؤمن، سواء حصل الإنذار أو لم يحصل، وسواء تليت عليه الآيات أو لم تتلَ، لكن كما قال أهل التفسير: هي من العام المخصوص، أي: قوله: ((الَّذِينَ كَفَرُوا))، عموم أريد به أناس مخصوصون من الكفار.
فقول ابن عباس: (نزلنا في يهود المدينة) وذلك لأن عندهم من الأدلة والبراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما ليس عند غيرهم من الكفار، لكن كفروا حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق.(10/3)
سبب نزول قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أسباب نزول الآية الرابعة عشرة قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:14]، أخرج الواحدي والثعلبي من طريق محمد بن مروان السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن أبي: انظروا كيف أرد عنكم هؤلاء السفهاء، فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحباً بـ الصديق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحباً بسيد بني عدي بن كعب الفاروق، القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد علي فقال: مرحباً بابن عم رسول الله وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله، ثم افترقوا فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليه خيراً، فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك فنزلت هذه الآية].
عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين من أكفر خلق الله، كافر، ولما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة كان قومه يعقدون له الخرز من أجل أن يصنعوا له تاجاً يتوجوه ملكاً على الأوس والخزرج، فلما وصل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة صار الملك لله، فـ ابن سلول امتلأ صدره غيظاً وحنقاً وحقداً، وبدأ يمارس حرباً قذرةً على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتارة يتكلم في عرضه، وتارة يتكلم في ذمته المالية، وتارة يطعن في كونه نبياً، ولما حصلت هزيمة أحد قال: لو كان نبياً ما غلب، ولكنه ملك كسائر الناس، تارة يَغلب وتارة يُغلب.
هكذا قال ابن سلول، وكان المسلمون كالجبل الأشم لا يتزلزلون.
هنا في هذه الحالة يريد من ناحية أن يظهر خلاف ما يبطن؛ لأنه في باطنه يعتقد أن هؤلاء المؤمنين كـ أبي بكر وعمر وعلي سفهاء، ومن ناحية أخرى يريد أن يوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء؛ لأنه جرت عادة الناس أن الأقران إذا أثني على أحدهم فإن الآخر يغضب ويتحسس، فهذا الخبيث يأخذ بيد أبي بكر ويقول: مرحباً بسيد بني تيم، مرحباً بثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لله ورسوله، ثم يأخذ بيد عمر ويقول: مرحباً بسيد بني عدي بن كعب مرحباً بـ الفاروق، الباذل نفسه لرسول الله، ثم يأخذ بيد علي ويقول: مرحباً بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله.(10/4)
سبب نزول قوله تعالى: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أسباب نزول الآية التاسعة عشرة قوله تعالى: ((أَوْ كَصَيِّبٍ))] يعني: عندنا في السورة مثلان، اصطلح أهل التفسير على تسميتهما: بالمثل الناري، والمثل المائي.
والأمثال في القرآن علم، قال عز وجل: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وكان بعض الصالحين يقول: إني إذا قرأت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي.
وأمثلة القرآن على نوعين أمثلة ظاهرة، وأمثلة كاملة، فمن الأمثلة الظاهرة قول الله عز وجل: {مَثَلُهُمْ} [البقرة:17] أي: مثل المنافقين {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17]، يعني: إذا قال المنافق: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فهل هو صادق أم كاذب؟ هو كاذب، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]؟ فالمنافق كذاب، لكن لما قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فالمسلمون عاملوه بالظاهر، فأجروا عليه أحكام لا إله إلا الله، فعصموا دمه وماله، وزوجوه وتزوجوا منه، فهو انتفع بلا إله إلا الله في الدنيا، لكن إذا نزل به الموت لا تنفعه لا إله إلا الله.
قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17] هذا هو المثل الناري، إنسان أوقد ناراً ثم انتفع بضوئها في أحلك اللحظات، وفي أحوج ما يكون إليها أطفأها الله، فكذلك المنافق قال: لا إله إلا الله كاذباً؛ فانتفع بها في الدنيا، لكن عند الموت لو جئنا بمكبر صوت أقوى من هذا ووضعناه في أذنه وقلنا: يا فلان قل: لا إله إلا الله، فبعض الناس قال: أنا كافر بلا إله إلا الله، وبعض الناس قال: هي أشد علي من الجبال الراسيات، لو وضعتم علي جبلاً لكان أهون من أن تقولوا لي: قل: لا إله إلا الله، فالله عز وجل ضرب هذا المثل، وضرب مثلاً آخر فقال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19]، الصيب هو المطر {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:19].
ضرب الله هذا المثل، لعدم انتفاع المنافقين بأنوار الوحي، فالقرآن بالنسبة للمؤمنين تطمئن به القلوب وتخشع، وتدمع به العيون، ولكن القرآن بالنسبة للمنافق ظلمات، ولذلك كانوا يستمعون للقرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة، لكن إذا خرجوا قال بعضهم لبعض: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أخرج ابن جرير من طريق السدي الكبير عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مُرَّةَ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد، وصواعق وبرق، فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يضعان أصابعهما في آذانهما من الفَرق -ي: من الخوف-أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يده، فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يد الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة.
قال ابن عباس: وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أن ينزل فيهم شيء] يعني: كما قال الله عن قوم نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7].(10/5)
سبب نزول قوله تعالى: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أسباب نزول الآية (26)، (27) قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} [البقرة:26]] أي: مثل بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، أي: فما دونها، والعرب تستعمل كلمة الفوق بمعنى الدون، كما تستعمل كلمة وراء بمعنى أمام كما في قوله سبحانه: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف:79]، يعني: قدامهم، أقول لك: فلان فقير؟ تقول لي: أو فوق ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أخرج ابن جرير عن السدي بأسانيده: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقِين أو للمنافقَين، الذي هو المثل الناري والمثل المائي، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} [البقرة:26] إلى قوله: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27].
عن ابن عباس: إن الله ذكر آلهة المشركين فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} [الحج:73]] يعني: هذه الأصنام التي تعبدونها أيها الكفار من دون الله لا تستطيع أن تخلق أحقر المخلوقات وهي الذباب.
ولو أن الذباب خطف منهم شيئاً من الذي كانوا يضعونه عند الأصنام من المأكولات، كما في قول الله عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام:136]! فإن هذه الأصنام لا تستطيع أن تسترد ما أخذه الذباب، قال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، فالأصنام طالب، والذباب مطلوب، أو على العكس: ((ضَعُفَ الطَّالِبُ))، الطالب المشركون، والمطلوب أصنامهم، وفي الآية الأخرى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ} [العنكبوت:41]، مرة الذباب، ومرة العنكبوت، فقال الكفار: ما شأن هذا الذي ينزل على محمد؟! أيذكر الله الذباب والعنكبوت؟! الله أعلى وأجل، هذا الكلام لا يشبه كلام رب العالمين، ربنا عظيم فلا يتكلم عن الذباب والعنكبوت، فأنزل الله هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26].(10/6)
سبب نزول قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أسباب نزول الآية (44) قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]] هذه الآية خوطب بها بنو إسرائيل، فكان الواحد منهم يكون له صاحب من الأنصار، يقول له: يا فلان! الزم هذا الرجل فإنه رسول الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة.
كان الرجل منهم يقول لصهره ولذوي قرابته ولمن بينه وبينهم رضاع من المسلمين: اثبت على الدين الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا الرجل فإن أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه].
العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فهذه الآية نزلت في بني إسرائيل ولكننا نحن أيضاً مخاطبون بها، ولذلك قال الحكيم: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كي ما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فيدور في النار كما يدور الحمار في الرحى، وتندلق أقتابه -أي: أمعاؤه- فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: يا فلان! أما كنت تأمرنا وتنهانا -أنت كنت تخطب الجمعة، وتعمل لنا دروساً، وكنت تمر بنا ونحن نشرب الخمر، أو نلعب الميسر، أو نفحش فكنت تأمرنا وتنهانا- فيقول: نعم.
كنت آمركم ولا أفعل، وأنهاكم وأفعل)، كان يمر بهم وهم يشربون الخمر، فيقول لهم: الخمر حرام، اتقوا الله! وهو داخل البيت عنده قارورة، يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، نعوذ بالله من تلك الحال.
وما زال شيوخنا يذكرون لنا قصة الرجل الذي خطب يوم الجمعة وأمر الناس بالصدقة، وأتاهم بالآيات والنصوص والأشعار حتى أبكاهم، وبعد الصلاة انتظر في المسجد يسلم على الناس، فلما رجع إلى البيت، وجد ولده قد أخرج القمح والسكر والبلح والبصل وبدأ يوزع، والمساكين قد اجتمعوا عليه، فقال له: يا أحمق ماذا تصنع؟ قال له: أنا سمعت منك وبدأت أطبق، قال له: يا مسكين! نحن نتكلم وهم يعملون.
قال سيد قطب رحمه الله في الظلال: وهذه آفة رجال الدين، حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة تتفاعل معها القلوب، يقول: يكفي رجال دين، رجال المال، ورجال الأعمال، ورجال السياسة، فهناك طبقةٌ اسمها رجال دين، وهؤلاء الذين زوروا الدين على امتداد الزمن.(10/7)
سبب نزول قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أسباب نزول الآية (62) قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم فذكرت من صلاتهم وعبادتهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ)) [البقرة:62])].
سلمان رضي الله عنه بدأ رحلة طويلة، كان أصلاً في أصبهان في إيران، ثم انتقل من أصبهان إلى راهب في عمورية في أرض الروم، ثم إلى بلاد الشام، ثم إلى وادي القرى إلى أن وصل إلى المدينة، وكان آخر راهب قال له: لا أعلم أحداً على الدين الحق، لكن قد أظل زمان نبي يخرج، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة.
فـ سلمان، كان في المدينة يعمل عند يهودي، فقال له يهودي آخر: قاتل الله بني قيلة يعني: الأوس والخزرج اجتمعوا على رجل في قباء جاء من مكة يزعم أنه نبي، يعني أن اليهودي يسخر منه، فاليهود عندهم عقدة التفوق، قال الله عنهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فهم لا يتصورون نبوة في غير بني إسرائيل، فاليهودي عندما قال هذا الكلام، يقول سلمان: فأخذتني عروراء، يعني: رجفة، قلت له: ماذا قلت؟ قال: فرفع سيدي اليهودي يده فلطمني لطمة منكرة، قال: ما شأنك تدخل في كلام الكبار، فقلت: لا شيء، وإنما سمعت فأحببت أن أستثبته عما قال، قال: ورجعت إلى عملي، فلما أمسى أخذ رضي الله عنه صحناً من تمر حتى ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في مكانه، وأصحابه من حوله، فقال له: (بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب فقراء، فهذه صدقة، فكف صلى الله عليه وسلم يده، وقال لأصحابه كلوا، قال: سلمان هذه والله واحدة.
فجاء في اليوم الثاني بطبق ثانٍ، وقال له: هذه هدية فسمى الله وقال لأصحابه: كلوا وأكل معهم، قال سلمان: وهذه والله ثانية، بقيت الثالثة، فبدأ يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى كانوا في جنازة في بقيع الغرقد، والرسول صلى الله عليه وسلم جالس وهم يحفرون، وبدأ سلمان يدور من حوله وهو صلى الله عليه وسلم أذكى الناس، وأصفاهم قريحة، وأجودهم عقلاً عرف بأن سلمان يفتش عن شيء، فألقى رداءه صلى الله عليه وسلم، فوجد سلمان بين كتفيه خاتم النبوة كبيضة حمامة عليها شعرات، فأكب يقبل ظهر رسول صلى الله عليه وسلم ويبكي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تحول، ما شأنك؟ فحكى له ما كان، وأسلم، وشهد شهادة الحق) فصار من ذلك اليوم سلمان ابن الإسلام رضوان الله عليه، نسأل الله أن يجمعنا به في الجنة.
هذا الرجل المبارك يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، عن أولئك القوم الطيبين الذين كانوا يعبدون الله على دين المسيح ما شأنهم؟ فأنزل الله هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة:62]، يعني: الآية تتكلم عن ناس كانوا على دين الحق قبل مجيء الإسلام، ليس كما يظن الجهال والمخرفون الآن، فيستدلون بهذه الآية على أن اليهود والنصارى الموجودين الآن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، بل كفروا بموسى وعيسى؛ على أنهم يمكن أن يكون لهم في الجنة نصيب، وهذا من التدليس والتلبيس والتزوير الذي لا يليق بعباد الله المؤمنين.(10/8)
الأسئلة(10/9)
حرمة دم المسلم
السؤال
قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال:72]، فهل يجوز أن تتخلى بعض الدول والجماعات عن نصرة إخوانهم بذريعة أن هناك مواثيق وقوانين ومعاهدات وما إلى ذلك أم لها الحق أن تنقض المواثيق والمعاهدات كلها بالتعدي على أي مسلم؟
الجواب
إذا تعدى من بيننا وبينهم ميثاق على مسلم واحد، فقد انتقض الميثاق بيننا وبينهم، ولذلك قريش لما أعانت بكراً على خزاعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا نقضاً للعهد الذي أبرم في صلح الحديبية.
أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابيين: (أوفيا بعهدكما ونستعين بالله عليهم) فهذا العهد كان في شأن حذيفة وأبيه رضي الله عنهما، كان المشركون قد أمسكوا بهما وهما في عمرة، وأخذوا عليهما عهداً ألا يعينوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن عندنا قاعدة: بأن الحق السابق لا يرفع بالحق اللاحق، فهؤلاء أخذوا العهد، فحقهم سابق، بعد ذلك مجيء حذيفة وأبيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حق لاحق.(10/10)
حكم الاستهزاء بالحديث النبوي
السؤال
تردد في هذه الأيام رسائل في الجوال بين الشباب على شاكلة الأحاديث النبوية مثل: عن أبي نوكيا كثر الله رصيده اتصل علينا، فإن لم تستطع فبرسالة، فإن لم تستطع فبرنة، فما حكم هذا؟
الجواب
هذا من الاستهزاء والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالسنة، والواجب الضرب على أيدي هؤلاء، ولا يفعلها سليم القلب أبداً، فالإنسان الذي يجعل من الأحاديث النبوية مادة للسخرية والتندر وإدخال الكلمات الأعجمية، هذا إنسان قد بلغ من الحقارة شأواً بعيداً، فأنا أريد أن أنصح الإخوان نصيحة عامة فأقول: رسائل الجوال يا إخواننا مزعجة، وبعض الناس يرسل إليك رسالة فيها دعاء: اللهم أعط فلاناً كذا وكذا، وما إلى ذلك، بينما ينبغي أن يكون دعاء المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب، وهناك دعوات لا تجوز، فرجل أرسل لي رسالة فيها: أسأل الله أن يعطيك عمر نوح، وجمال يوسف، وصبر أيوب، وحكمة لقمان، إلى أن ختمها بالرسول صلى الله عليه وسلم، سبحان الله! الأشياء التي جعلها الله عز وجل في القمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مثلاً: عمر نوح ألف سنة، فهل يعيش الرجل ألف سنة في هذا الزمن؟! والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)، ففيه اعتداء.
قال أهل العلم في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]: من الاعتداء في الدعاء أن تسأل الله المستحيل، كأن تقول: اللهم لا تمتني أبداً، أي: خلدني في الأرض، هذا مستحيل، اللهم أنزلني في الجنة منزلة فوق منزلة النبيين، هذا مستحيل! كذلك قولهم: جعلك الله ملازماً للحق، نقيباً، رائداً، وأمسك بالرتب حتى وصل للمشير، وهذا أيضاً من الاعتداء في الدعاء لا ينبغي.(10/11)
حكم صلاة المفترض خلف المتنفل
السؤال
إذا حضر الشخص إلى المسجد وهم يصلون صلاة التراويح وهو يعلم ذلك، هل يصلي معهم بنية صلاة العشاء؟
الجواب
نعم؛ لأنه يصح أن يصلي المفترض خلف المتنفل.(10/12)
حكم النوم عن صلاة الوتر
السؤال
أنام كثيراً عن صلاة الوتر ولا أصليها في المسجد بنية أن أقوم، ولكنني لا أستطيع فما الحكم؟
الجواب
يا أخي أوتر ثم نم، فإن قمت فالحمد لله، صل مثنى مثنى، ولا توتر ثانية، فإذا لم تقم، حينئذٍ تكون عملت الذي عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نام العبد وهو ينوي أن يقوم من الليل فغلبته عيناه فنام، كتب الله له ثواب ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه).(10/13)
تفسير قوله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)
السؤال
ما المقصود بقوله تعالى في الآية الكريمة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]؟
الجواب
ذكرنا أن هذه الآية إما أن تكون منسوخة لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]؛ لأن الصيام كان في الأول على التخيير الذي يريد الصيام صام والذي يريد الفطر أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر إلى أن نزل قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] فصار الصوم واجباً على المستطيع الذي عنده مال، والذي ما عنده مال.
وعلى الرأي الثاني أن هذه الآية محكمة، وأنها في شأن الشيخ الكبير والمرأة العجوز والمريض الزمن.(10/14)
حكم من أفطر رمضانات متتالية بعذر شرعي
السؤال
ثلاث رمضانات متتالية مرَّت وأنا حامل مرةً ومرضع مرةً فما الحكم في ذلك؟
الجواب
عليك القضاء.(10/15)
حكم قضاء الصلاة ممن تركها كسلاً
السؤال
تقول امرأة: تركت الصلاة لسنوات كثيرة كسلاً وعدم تعود، وعدت إلى الله وواظبت على صلاتي، ماذا أفعل فيما فاتني، مع العلم أنني أم لخمسة أطفال، وأجد صعوبة في القضاء؟
الجواب
يا أمة الله! أسأل الله أن يتوب علينا أجمعين، الصلاة دين، ومن شروط صحة التوبة أداء الحقوق، سواء كانت حقوقاً لله أو حقوقاً للعباد، والصلاة حق الله، فمن تاب وجب عليه القضاء على حسب الطاقة، فلا تشتغلي بنافلة، ولا بتطوع وإنما اشتغلي بالقضاء، مع كل فرض صلي فرضاً أو فرضين، إلى أن يغلب على الظن أنه قد تم الأمر.(10/16)
تفسير كلمة الشفع والوتر
السؤال
ما هو الشفع؟ وهل هو ركعتان قبل الوتر؟
الجواب
الشفع: هو الزوج، والوتر: هو الفرد، فالثلاثة كلها وتر، لكن لئلا نشبهها بصلاة المغرب نصلي ركعتين ونسلم، ومن ثم نصلي ركعة، ويمكن نصلي الثلاث متصلة بتشهد واحد.(10/17)
الطلاق الشرعي والطلاق البدعي
السؤال
ما معنى قول العلماء: الطلاق الشرعي هو أن تطلق المرأة في طهر لا تمسها فيه؟ وهل من جامع امرأته بالليل، ثم طلقها في الصباح لا يقع طلاقه؟
الجواب
من جامع امرأته في الليل ثم طلقها في الصباح وقع طلاقه وهو آثم؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يطلق امرأته وهي حائض، ولا يجوز أن يطلق امرأته وهي نفساء، ولا يجوز أن يطلقها في طهر قد مسها فيه، بل تنتظر إلى أن تطهر، وبعد ذلك إن شئت طلق وإن شئت أمسك.
والغرض من هذا أمرين: الأمر الأول: تأخير الطلاق وتأجيله، بحيث أن الإنسان يتروى ويفكر.
الأمر الثاني: هو عدم إطالة مدة العدة، يعني: لو طلقت امرأة وهي حائض فهذه مشكلة؛ لأن الحيض لا يعتد به، وإنما العدة بالأقراء التي هي الأطهار، قال عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228].(10/18)
لباب النقول في أسباب النزول [5]
اليهود هم من كذب رسل الله وجحدوا آياته، وآذوا أنبياء الله وأولياءه، وفي القرآن الكريم عدد كثير من الآيات التي تذكر أوصافهم وتبين لؤم طباعهم وخسة نفوسهم، فهم الذين حرفوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة من جملة ما حرفوه، وهم المفترون على الله تعالى بأنه لن يذيقهم النار إلا أياماً معدودةً، وهم الجاحدون لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا يستفتحون به على مشركي العرب، وهم الذين أعلنوا عداوتهم لأمين الوحي جبريل عليه السلام ولي الأنبياء، فأي خير يرتجى ممن هذه أفعالهم وهذه طبائعهم؟!(11/1)
سبب نزول قوله تعالى: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)
الآية السادسة والسبعون من سورة البقرة قول الله عز وجل: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:76].
سبب نزول هذه الآية كما أخرج ابن جرير عن مجاهد رحمه الله قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم تحت حصونهم يوم قريظة فقال: يا إخوان القردة، ويا إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت.
فقالوا -أي: قال اليهود بعضهم لبعض-: من أخبر بهذا محمداً؟! ما خرج هذا إلا منكم، أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليكون لهم حجة عليكم).
فاليهود مسخ الله عز وجل طائفة منهم قردة؛ لأنهم مسخوا شرع الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى حرم عليهم الصيد في يوم السبت؛ ثم ابتلاهم بأنه كان في يوم السبت تأتيهم حيتانهم شرعاً، أي: منع الصيد فكثرت الحيتان، وكانت ترفع رءوسها تتراءى لهم، ثم في يوم الأحد كانت هذه الحيتان تختفي، فاليهود ما صبروا طويلاً، بل لجئوا إلى الحيلة، فكما يخادعون البشر أرادوا أن يخدعوا رب العالمين جل جلاله، فكانوا يأتون بالشباك، ويأتون بالحبل الطويل الذي ربط فيه الطوق، ويربطون طرفه بوتد على الشاطئ، وفي يوم السبت الذي حرم فيه الصيد كانوا إذا جاءت الحيتان رموا هذا الطوق لأنه مربوط على الشاطئ، ثم إذا غربت شمس السبت جروه وسحبوه وهم يضحكون، ويقولون: ما صدنا يوم السبت، فلما مسخوا شرع الله مسخهم الله عز وجل قردة وخنازير، هذه القصة كان اليهود يخفونها، بحيث لم يعرفها أحد، والله عز وجل قد قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة:15]، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما حصلت خيانة اليهود يوم قريظة، ومالئوا الكفار من قريش وتميم وغطفان، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25] رجع إلى بيته، فخلع لأمته ووضع سلاحه، فنزل عليه جبريل فقال له: يا محمد! أو قد وضعت السلاح؟! فقال: نعم، قال له: فإن الملائكة لم تضع أسلحتها، وإني ذاهب إلى قريظة فمزلزل بهم الأرض فاتبعني.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة) وخرج بنفسه عليه الصلاة والسلام، وأول ما وصل إلى حصونهم خاطبهم بهذا الكلام فقال: (يا إخوان القردة، يا إخوان الخنازير، يا عبدة الطاغوت) فهنا اليهود استغربوا، كيف عرف محمد صلى الله عليه وسلم هذه المعلومات الخطيرة، فقال بعضهم لبعض: ما خرج هذا إلا منكم، {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:76]، قال الله عز وجل: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:77] وهل تخفى على الله خافية في الأرض أو في السماء؟!(11/2)
سبب نزول قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله)
الآية التاسعة والسبعون قول الله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:79].
أخرج النسائي عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت في أحبار اليهود؛ وجدوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة: أكحل، أعين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه.
كما قال الله عز وجل: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] وجدوا صفته في التوراة عليه الصلاة والسلام بأنه أكحل، أي: يبدو وكأن عينيه قد كحلتا بينما هو لم يكحلهما، وبعض الناس إلى الآن تجده بهذه الصفة، بحيث يبدو وكأن في عينيه كحلاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أكحل، أعين، أي: واسع العينين، وكان ربعة، أي: ليس بالطويل ولا بالقصير، وكان جعد الشعر، أي: ما كان صلى الله عليه وسلم سبط الشعر، فبعض الناس شعره ناعم، بحيث لو سجد ينزل شعره، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كان هكذا، ما كان شعره سبطاً، ولا كان شديد الجعودة، وإنما كان شعره صلى الله عليه وسلم ناعماً لكن دون أن يكون سبطاً، وكان حسن الوجه، فاليهود وجدوا هذه الصفات منطبقة على الرسول صلى الله عليه وسلم، فمسحوها وغيروها، وقالوا: نجده طويلاً، أزرق، سبط الشعر.
وذلك لكي لا تنطبق على النبي صلى الله عليه وسلم بحال من الأحوال، فالله عز وجل قال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]، وفي آل عمران قال: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ومَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:78].(11/3)
سبب نزول قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة)
الآية الثمانون قول الله عز وجل: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [آل عمران:80] فاليهود أصحاب تناقض، فمرة قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] وفي مرة أخرى قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة:111]، وهنا قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] وهذه من المعلومات المغلوطة المكذوبة.
وقد أخرج الطبراني وابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود يقولون: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الله الناس بكل ألف يوماً)، وهذا كله كذب، فمن أين لهم أن الدنيا سبعة آلاف سنة والله تعالى يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف:187]؟! فاليهود قالوا: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الله الناس بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوماً واحداً من أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام ثم ينقطع العذاب.
كما قال سبحانه في سورة آل عمران عنهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَات} [آل عمران:80] فهذه هي دعوى اليهود قاتلهم الله.(11/4)
سبب نزول قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم)
الآية التاسعة والثمانون: قول الله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:89].
سبب نزول هذه الآية أن اليهود حاربت غطفان، فقهرتهم غطفان، فقالت اليهود في تلك المعركة: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم.
وكانوا كذلك يستفتحون على الأوس والخزرج، يقولون لهم: إن نبياً قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم.
ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الأنصار بعضهم لبعض: إنه النبي الذي تتوعدكم به يهود، فأسلم الأوس والخزرج وكفر اليهود، وقد قال معاذ بن جبل وبشر بن البراء: يا معشر يهود! اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته! فقال لهم سلام بن مشكم أحد أحبار اليهود: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم.
وهكذا اليهود يلعبون بدين الله عز وجل.(11/5)
سبب نزول قوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله)
الآية الرابعة والتسعون قول الله عز وجل مخاطباً اليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:94].
أخرج ابن جرير عن أبي العالية قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، فأنزل الله هذه الآية، أي إن كنتم صادقين في أن الجنة خالصة لكم ومحرمة على غيركم فتمنوا الموت.
والآن لو أن الواحد منا يضمن أنه إن مات فسيدخل الجنة فهل ستبقى له إرادة في الدنيا؟! لا؛ لأنه لا يوجد ضمان، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت)؛ لأنك لا تعرف، ولذلك تجد بعض الجهال إذا ضاقت به الدنيا يقول: يا رب! أرحني بالموت! وما أدراك أنه سيريحك؟ ربما إذا مت يكون ذلك بداية العذاب والنكال، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خير بين الخلد في الدنيا وبين لقاء الله اختار لقاء الله عليه الصلاة والسلام.
فاليهود قال الله عز وجل لهم: إن كنتم صادقين فتمنوا الموت الآن، قال الله عز وجل: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95]؛ لأنهم يعرفون أن صحيفتهم سوداء ملطخة بالعار والشنار، لذلك لن يتمنوا الموت، وهذا من تحدي القرآن، وقد كان يمكن اليهود أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقولون له: يا محمد! قد زعمت أن الله أنزل عليك أننا لن نتمنى الموت، وها نحن نتمناه -ويرفعون أيديهم-: اللهم إنا نسألك أن تميتنا الآن.
فلو أن القرآن كان من عند غير الله لكان يمكن اليهود أن يفعلوا ذلك، لكن القرآن كلام الله، فلذلك ما جاءوا، قال الله عز وجل: ((وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا)) يعني: ليس الآن فقط، بل الآن وغداً وبعد ألف سنة، وقد قال الله تعالى عنهم: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة:96] قالوا: ليس المقصود الألف بعددها، وإنما المقصود التكثير، وإلا فإن الواحد منهم يتمنى لو يعمر عشرة آلاف سنة {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96].(11/6)
سبب نزول قوله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل)
الآية السابعة والتسعون: قول الله عز وجل: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:97].
سبب نزول هذه الآية ما رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه (أن بعض أحبار اليهود جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا محمد! نسألك عن أربع خصال فإن أجبتنا فأنت نبي)، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد جرب فيما مضى أن أجابهم ثم جحدوا، (فقال لهم: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى إن أنا أجبتكم لتؤمنن بي ولتتابعنني على ديني؟! فأعطوه عهد الله وميثاقه، فقال: سلوا عما بدا لكم، فقالوا له: ما كان الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا عن ماء الرجل وماء المرأة، فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق، فقال لهم: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن نبي الله يعقوب عليه السلام كان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها، فمرض فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه على نفسه؟! قالوا: بلى.
قال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر؟! قالوا: بلى.
قال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أنه إذا سبق ماء الرجل أذكر بإذن الله، وإذا سبق ماء المرأة آنث بإذن الله؟ قالوا: بلى.
فقالوا له: أخبرنا: من وليك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك؟ فقال: إن وليي جبريل، فقالوا: جبريل ذاك عدونا، لو كان غيره لاتبعناك)، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97 - 98]، وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله نبياً إلا وهو وليه) فأي نبي من الأنبياء جبريل وليه عليه صلاة الله وسلامه.(11/7)
لباب النقول في أسباب النزول [6]
لليهود -عليهم لعائن الله- مواقفهم الكفرية مع الإسلام ورسوله وشريعته، فقد جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات البينات فما وجد منهم إلا الإنكار والجحود، ولقد اقترحوا الآيات بأهوائهم تعنتاً لا طلباً للتصديق، وكفروا بعيسى عليه السلام وكذبوا إنجيله، ووصل بهم العناد والشقاق والكذب والبهتان إلى أن اتهموا سليمان عليه السلام بالسحر، فهؤلاء هم أشقياء الخلق الذين خابوا وخسروا في الدنيا والآخرة.(12/1)
سبب نزول قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون)
الآية التاسعة والتسعون من سورة البقرة: قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة:99].
سبب نزولها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: (قال ابن صوريا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة، فأنزل الله في ذلك: ((وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)) [البقرة:99]).
والآيات: جمع آية، وهي العلامة، ومنه قول الله عز وجل: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة:248]، فقوله تعالى: ((إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ)) بمعنى: علامة ملكه.
وآيات الرسل صلوات الله وسلامه عليهم هي المعجزات التي أيدهم الله عز وجل بها، كما قال ربنا سبحانه عن موسى عليه السلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101] وهي الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، والسنين، ونقص من الثمرات، وعيسى عليه السلام آتاه الله عز وجل آيات، منها أنه تكلم في المهد صبياً، وأنه كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وكان يحيي الموتى بإذن الله، وكان ينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.
وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم آتاه الله عز وجل من الآيات مثلما آتى الأنبياء قبله، فكان عليه الصلاة والسلام يبرئ المريض، وكان مجاب الدعوة، وكان يخبر عن المغيبات مما علمه الله عز وجل، وكان عليه الصلاة والسلام يخاطب الحيوانات، بل كان صلى الله عليه وسلم يخاطب الشجر، وكان الحجر يسلم عليه، كما في الحديث: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي) ولما جاءه الأعرابي فقال: من أنت؟ قال: أنا رسول الله، فقال: أرني آية.
فقال له: اذهب إلى تلك الشجرة وقل لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فذهب الأعرابي وهو يرى أنه قد استهزأ به، فذهب إلى الشجرة فقال لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك.
فأقبلت تخد الأرض خداً -أي: عملت في الأرض أخدوداً- حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الأعرابي: مرها فلترجع، فأمرها صلى الله عليه وسلم، فرجعت من حيث جاءت.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم فاق سائر الأنبياء بهذا القرآن؛ وذلك لأن معجزات الأنبياء عليهم السلام كانت معجزات وقتية محدودة بوقتها، لا يعلمها إلا من رآها، أما القرآن فهو معجزة خالدة إلى أن تقوم الساعة وشاهد ناطق على أن محمداً رسول الله.
وقد مر معنا في قول الله عز وجل: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [البقرة:76] أنها نزلت لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود: (يا إخوان القردة، يا إخوان الخنازير، يا عبدة الطاغوت)، فاليهود كانوا يخفون هذه المعلومات، فمن أين عرفها محمد صلى الله عليه وسلم؟! فلما قال هذا الحبر الكذاب ابن صوريا: يا محمد! ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بينة، قال الله عز وجل جواباً عليه: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة:99].(12/2)
سبب نزول قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)
الآية الثانية بعد المائة: قول الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102].
أخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب قال: قالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل! يذكر سليمان مع الأنبياء، وما كان إلا ساحراً يركب الريح.
فاليهود يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يخلط الحق بالباطل؛ لأنه يذكر سليمان مع الأنبياء، وما كان سليمان إلا ساحراً يركب الريح.
والله عز وجل ذكر سليمان في الأنبياء في عدة مواضع، فقد قال سبحانه: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30]، وقال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:163]، وقال سبحانه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام:83 - 84] إلى غير ذلك من الآيات، فهو نبي قطعاً، لكن اليهود الذين اتهموا المسيح ابن مريم بأنه ابن زنا، واتهموا موسى بأنه آدر، واتهموا نوحاً بأنه شرب الخمر، ولوطاً بأنه زنى بابنتيه، اتهموا سليمان بأنه كان ساحراً، قال الله عز وجل: ((وَاتَّبَعُوا)) أي: اليهود، ((مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ))، وسليمان عليه السلام سخر الله له الجن والإنس والطير، ولم يسخر الجن لأحد من بعده؛ لأنه عليه السلام دعا الله فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35].
أقول هذا الكلام لأن بعض الدجالين يموهون على الناس، بحيث يقول قائلهم: أنا عندي خدام، وقد سخر لي من الجن كذا.
ويحصي عدداً، فنقول: إن الجن لا يسخرون لأحد بعد سليمان، فهذا الدجال ليس الجن خداماً له، وإنما الخِدْمات بينهم متبادلة، فالجن يسرقون له بعض الأشياء، ويخبرونه ببعض الأشياء في مقابل كفره بالله عز وجل.
فالمرأة تذهب إلى الدجال فتنتظر في مكان الاستقبال، وأول ما تدخل على الدجال يقول لها: أنت فاطمة بنت زينب، وتسكنين في مكان كذا، وعندك وجع في الكلى، وعندئذ تستسلم المرأة وتظن أن هذا رجل صالح عنده كشف، والواقع أن الذي أخبره شيطانه، وشيطانه لا يعرف الغيب، فمن أين عرف؟ يعرف ذلك عن طريق القرين الشيطاني الآخر.
فالمقصود أن سليمان سخر الله له الجن، كما قال تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:37]، فكان إذا أراد أن يبني مسجداً لا يحتاج إلى مقاولين ولا إلى عمال، بل هؤلاء الجن يعطيهم المواصفات وخلال أيام يكون المسجد قد اكتمل، كما قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ:13] يعني: مساجد {وَتَمَاثِيلَ} [سبأ:13]، وكان ذلك في شريعتهم جائزاً، وهناك من الشياطين من يغوصون في البحر ويأتونه بالأصداف، والذي يتمرد منهم فإنه يحكم عليه بما ذكره الله تعالى في قوله: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:38].
فالشياطين كانوا يعملون مع سليمان وهم كارهون وخائفون، فلما مات عليه السلام كان متكئاً على عصاه، فبدأت دابة الأرض تأكل منسأته، والجن يعملون، قال تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14].
ثم جاءت الشياطين بالسحر فدفنته تحت كرسي سليمان بعدما مات، فجاء اليهود وحفروا واستخرجوا تلك الأسحار، وقالوا: بهذا كان يملككم ابن داود، أي: كان مسخركم عن طريق السحر.
فالله عز وجل ينفي هذه التهمة عن سليمان بقوله تعالى: ((وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ))، ولو كان ساحراً لكان كافراً {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] فأي ساحر أستاذه الشيطان، فلا يتعلم السحر إلا من طريق الشيطان، فهذا الذي ينبغي أن يعلم.(12/3)
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا)
الآية الرابعة بعد المائة قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة:104]، وسبب نزولها أن الأنصار عليهم من الله الرضوان كانوا يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: راعنا.
من المراعاة، أي: اصبر علينا وعلمنا وفهمنا وأعد الكلام علينا.
وكانت كلمة (راعنا) يقصد بها اليهود السب من باب الرعونة، كما يقال: فلان أرعن، أي: طائش أحمق.
فبدأ اليهود يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا محمد! راعناً -بالتنوين- يقصدون الشتم والسب، مثلما كانوا يقولون له: السام عليك يا محمد، يوهمونه بأنهم يقولون: السلام، وهم يقولون: السام عليك يا محمد، فكان يقول لهم: (وعليكم) دون أن يزيد، فهنا قالوا: راعناً.
وقال لهم سعد بن معاذ: يا أعداء الله! عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لو سمعت أحدكم يقولها لأضربن عنقه.
فقالوا له: أولستم تقولونها؟! فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة:104].(12/4)
سبب نزول قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)
الآية السادسة بعد المائة: قول الله عز وجل: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106].
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان ربما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار.
وهذا -ولله المثل الأعلى- مثل الطبيب يراجعه المريض فيغير له الدواء حيناً بعد حين، إلى أن يحصل الشفاء، ولله المثل الأعلى، فالله عز وجل يغير في التشريع في الأحكام مراعاة لحال المكلفين، والنسخ لا يدخل في العقائد ولا يدخل في الأخبار، وإنما هو فقط في الأحكام.
مثاله: كانت عدة المرأة أول الإسلام إذا مات زوجها حولاً كاملاً، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] فنسخ هذا بقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [البقرة:234].
والله سبحانه وتعالى أنزل القرآن على العرب، وكان عندهم عادات مضطربة، ومن بين عاداتهم أن المرأة إذا توفي زوجها كانت تدخل حفشاً -والحفش أردأ بيت وأظلمه- فتقعد فيه، ولا تمس ماء سنة كاملة، ولا تغير لباساً، ولا تخرج من هذا المكان، بل يأتونها بالطعام في مكانها، فإذا انتهت السنة خرجت وأخذت بعرة ورمت بها، قالوا: هذا كناية وكأنها تقول: إن الذي عانيته في سبيل زوجي الذي مات لا يساوي عندي إلا كما تساوي هذه البعرة.
أي: أنا لست مهتمة بالسنة التي قضيتها في الضنك والعذاب.
وقيل: ترمي بالبعرة كناية عن انقطاع ذكرى زوجها، وبعد سنة كاملة يكون عليها الوسخ، فتحتك بشاة أو ببعير؛ لأن الماء لا يستطيع أن ينظفها، تقول أم سلمة: فقلما احتكت بشيء إلا مات.
فالقرآن نزل على هؤلاء الناس، وأبطل هذه العادات الباطلة كلها، وأثبت العدة سنة، وبعد مدة لما استقر الأمر جعل الله عز وجل العدة أربعة أشهر وعشراً، لمعرفة براءة الرحم؛ لأن الجنين يتم تكوينه في أربعة أشهر، والعشرة أيام احتياط من أجل أن تشعر بالحركة.
وكذلك الخمر، فالعرب كانوا يشربون الخمر، ولا يظنون أن يأتي عليهم يوم يفارقونها، فالله عز وجل حرم الخمر أولاً قرب أوقات الصلاة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43]، فكان الخمر محرماً قرب أوقات الصلاة، أما بعد العشاء فإن من أراد أن يشرب يشرب، حتى نزل قول الله عز وجل: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] فصارت الخمر حراماً بالليل والنهار.(12/5)
سبب نزول قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)
الآية الثامنة بعد المائة: قول الله عز وجل: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة:108].
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال: رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا محمد ائتنا بكتاب ينزل عليك من السماء نقرؤه، أو فجر لنا أنهاراً؛ نتبعك ونصدقك، فأنزل الله عز وجل هذه الآية).
فالكفار كانوا يقترحون الآيات، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسراء:89 - 92]، أي: قطعاً {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:92] أي: أمامنا {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء:93] أي: من ذهب {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:93] هذه كانت اقتراحات المشركين، فأجابهم الله عز وجل بقوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:93].
فهذان الرجلان يطلبان من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بكتاب من السماء ليقرءوه، أو يفجر لهم أنهاراً، فالله عز وجل عاب عليهم ذلك فقال: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة:108].(12/6)
سبب نزول قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء)
الآية الثالثة عشرة بعد المائة: قول الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113].
قال ابن عباس: (لما قدم أهل نجران -أي: النصارى- على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار يهود فتنازعوا، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء وكفر بعيسى والإنجيل، فقال رجل من أهل نجران لليهود: ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى عليه السلام).
ونصارى نجران بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم رسالة دعاهم فيها إلى الإسلام، فجاء منهم وفد بقياد ثلاثة: السيد والعاقب وعبد المسيح، وبدءوا يناظرون الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي أثناء جلوسهم في المسجد جاء اليهود وبدءوا يجادلون أولئك النصارى، ولما احتد الجدال أنكر اليهود نبوة المسيح وأنكروا الإنجيل، وقام النصارى كذلك وقالوا: أنكرتم نبينا والكتاب ونحن كذلك لا نؤمن بموسى ولا بالتوراة! وهكذا كفر متبادل والعياذ بالله، أما نحن -المسلمين، والحمد لله- فنؤمن بموسى ونؤمن بعيسى وبسائر الأنبياء وبما أنزل الله عليهم مثلما نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك ذكروا أن الخديوي الذي كان يحكم أيام الإنجليز مصر والسودان جاءه حاخام اليهود وراهب النصارى وكان شيخ الأزهر الشيخ محمد عبده، فـ الخديوي يبدو أنه كان رجلاً خفيف العقل، فقال لهم: أنا أريد أن يثبت كل واحد منكم بأنه سيدخل الجنة وأن الاثنين الآخرين لن يدخلاها، فاليهودي قال: ليتكلم حبر النصارى أولاً، وذلك لكي يفكر، فقام حبر النصارى فقال: ليتكلم شيخ المسلمين أولاً، فالشيخ محمد عبده رحمه الله قال: إذا كان اليهود سيدخلون الجنة لأنهم آمنوا بموسى وبالتوراة فإنا داخلوها؛ لأنا آمنا بموسى وبالتوراة، وإذا كان النصارى سيدخلون الجنة لأنهم آمنوا بعيسى والإنجيل فإنا داخلوها؛ لأنا آمنا بعيسى والإنجيل، وإذا كنا داخليها فليسوا هم بداخليها؛ لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.
وهذا نوع من الاستدلال الجيد.
فهؤلاء اليهود قالوا: {لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113].(12/7)
سبب نزول قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)
الآية الرابعة عشرة بعد المائة: قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة:114].
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله هذه الآية).
وقيل: بل نزلت لما صد المشركون المسلمين عن البيت الحرام عام الحديبية.
لكن الآية تشمل كل ظالم إلى يوم القيامة، والآن في كثير من بلاد المسلمين -والحمد لله الذي عافانا- تفتح المساجد قبل الأذان بخمس دقائق وتغلق بعد الصلاة بخمس دقائق، فإذا انتهت الصلاة لا يوجد شيء اسمه قراءة قرآن بعد ذلك، وليس هناك شيء اسمه اعتكاف، بل في بعض بلاد الله يطارد الشباب الذين يترددون على المساجد، فإذا كان هناك شيخ طاعن في السن فإنه يصلي، أما إذا كان شاباً فإنه يكتب عنه تقرير ويحاصر؛ لأن هذا خطير ومتطرف، فهؤلاء جميعاً يشملهم قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114].(12/8)
سبب نزول قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب)
الآية الخامسة عشرة بعد المائة: قول الله عز وجل: ((وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)).
أخرج الإمام مسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوعاً أينما توجهت به، وهو آت من مكة إلى المدينة).
وهذا شرح للآية وليس سبباً للنزول، وهو يفيد أن الإنسان في السفر لو أراد أن يتنفل فليس بالضرورة أن يستقبل القبلة، فإذا كنت راكباً سيارتك وأنت جالس وأردت أن تصلي نافلة فإنك تكبر وتومئ بالركوع والسجود.
أما سبب نزول الآية فهو ما رواه الترمذي وابن ماجة والدارقطني عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله -يعني: على ما أداه إليه اجتهاده- فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]).
فالإنسان لو أشكلت عليه القبلة وما عرف إلى أين يصلي فصلى ثم استبان له أنه صلى إلى غير القبلة فصلاته صحيحة، وليس عليه إعادة.(12/9)
الأسئلة(12/10)
ما يعالج به المصاب بالاكتئاب
السؤال
مريض يعاني من حالة اكتئاب، فنرجو إن كانت هناك آيات قرآنية معينة يجب عليه تلاوتها أن تدلونا عليها؟
الجواب
هناك كتاب اسمه العلاج بالرقى فيه ذكر العلاج، وأنصحك بالاستغفار يا صاحب الاكتئاب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)، وأنصحك بالإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه بذلك يقضى دينك ويفرج الله همك.(12/11)
بيان قوله تعالى (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج)
السؤال
أرجو التكرم بالحديث عن هذه الآية: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب:52]؟
الجواب
هذه الآية من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزلت بعد أن اجتمع عليه زوجاته يطالبنه بالنفقة، وذلك أن الحياة كانت صعبة، حيث كان يمر الهلال والهلال والهلال وما يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، وما لهم من طعام إلا الأسودان، فاجتمعن عليه يطالبنه بالنفقة، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28] فالمرأة التي تحب الذهب والفضة والبحبوحة وتكتفي بذلك مستغنية به عما عند الله تعالى لا تصلح زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تريد أن تصبر على شظف العيش أعد الله عز وجل لها أجراً كريماً في الآخرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بـ عائشة فقال لها: (يا عائشة! إني سأعرض عليك أمراً، ولا تعجلي حتى تستأمري أبويك)، وذلك أنه رأى أن عائشة صغيرة يمكن أن تستعجل، فقال لها: استشيري أبويك، وتلا عليها الآيات، فكانت رضي الله عنها كبيرة، فقالت: يا رسول الله! فيك أستأمر أبوي؟! -أي: أذهب إليهما أشاورهما بأن أبقى معك أو أطلق؟! - بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة! أي: أصبر على شظف العيش.
ثم قالت له: يا رسول الله! هل تخير الأخريات؟ فقال: (بل سأخيرهن، فقالت: فلا تخبرهن بما اخترته).
فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: والله لأخبرهن، وجميعهن اخترنه صلى الله عليه وسلم، فمن باب المكافئة وتعجيل الثواب لهن قال الله عز وجل له: ((لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ)) يعني: لا تتزوج ((وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ)) تقول: أطلق واحدة وآتي بواحدة مكانها.
وهذا من باب تعجيل الجزاء لهن رضوان الله عليهن.(12/12)
الزكاة في رأس المال والربح
السؤال
أنا زوجة ومعي أولادي، وقد ورثنا من زوجي بعض المال، فاشترينا ببعضه أرضاً وأردنا أن نبني بالباقي، ولكن قبل ذلك قمنا بالعمل بهذا المال فربحنا فيه (30%)، فهل عليه زكاة، وإذا كان عليه زكاة فهل على الربح ورأس المال؟
الجواب
الزكاة تجب في أصل المال وربحه، فلو كان عندك غنم حال عليها الحول فإن الزكاة في أصلها ونتاجها، فلو كان عندك في رمضان أربعون شاة، وفي أثناء العام كل واحدة من الغنم أنتجت ثلاثاً، فلا تقل عند مجيء الحول: لن أزكي إلا الأربعين؛ لأن الأربعين كانت في رمضان، أما الباقيات فقد جئن في أثناء السنة، فأصل المال يزكى مع ربحه.(12/13)
لباب النقول في أسباب النزول [7]
إن معرفة أسباب نزول الآيات لها أهمية عظيمة، إذ بها تتضح الأحكام وتنتفي الشبه، وكثير من آيات سورة البقرة نزلت في اليهود، وبعضها في المشركين، وأحكامها عامة لجميع أفراد الأمة.(13/1)
سبب نزول قوله: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية)
الآية الثامنة عشرة بعد المائة: قول الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:118]، هذه الآية نزلت في شأن رجل من اليهود اسمه رافع بن حريملة، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت رسولاً من الله حقاً كما تقول فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه، هذا الرجل شابه أسلافه من اليهود الذين قالوا لنبي الله موسى عليه السلام: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، وهكذا اليهود دائماً يعتدون على ذات الإله جل جلاله، ويتكلمون عنه مثل ما يتكلمون عن واحد من المخلوقات.(13/2)
سبب نزول قوله: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً)
الآية التاسعة عشرة بعد المائة: قول الله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119] روى عبد الرزاق عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليت شعري ما فعل أبواي؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119] فما ذكرهما حتى توفاه الله).
يعني: في هذه الآية الله عز وجل يطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه ليس مسئولاً قبل بعثته، وليس مسئولاً عمن اختار الكفر على الإيمان، فلا تسأل عن أصحاب الجحيم.(13/3)
سبب نزول قوله: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)
الآية العشرون بعد المائة، قول الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
عن ابن عباس قال: إن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم، وأيسوا أن يوافقهم على دينهم؛ فأنزل الله هذه الآية.
يعني: ليست القضية مع اليهود والنصارى قضية القبلة، بل هي أعمق من ذلك، لو أنك يا مسلم وافقتهم في قبلتهم، وشاركتهم في بعض شعائرهم، وتشبهت بهم في أخلاقهم؛ فهذا كله لن يرضيهم، لن يرضى عنك هؤلاء إلا إذا تركت ملتك واتبعت ملتهم، وفي هذا درس لكثير من المسلمين الآن الذين يظنون أنهم إن وافقوا أهل الكتاب في بعض الأمور رضوا عنهم، وكفوا أذاهم عنهم.(13/4)
سبب نزول قوله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)
الآية الخامسة والعشرون بعد المائة: قال الله عز وجل: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125].
هذه الآية فيها فضيلة لسيدنا عمر رضي الله عنه، روى البخاري وغيره عن عمر قال: (وافقت ربي في ثلاث - أي: في ثلاث خصال - قلت: يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125].
وقلت: يا رسول الله! إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53].
واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت كذلك).
فهذا عمر رضي الله عنه من أدبه يقول: وافقت ربي، ما قال: وافقني ربي، وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، صل عند المقام، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125].
قلت: يا رسول الله! إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، الناس ليسوا سواء، فلو أمرتهن بالحجاب فنزلت آية الحجاب.
واجتمع نساؤه في الغيرة، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف ألا يدخل على نسائه شهراً لما أكثرن من الطلب والإلحاح، شهر كامل اعتزلهن في علية عليه الصلاة والسلام، وكان الصحابة يتوقعون بين عشية وضحاها أن يطلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فـ عمر دخل على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وفيهن ابنته حفصة وقال لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت الآية بنفس الألفاظ التي قالها عمر رضي الله عنه.(13/5)
سبب نزول قوله: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه)
الآية الثلاثون بعد المائة: قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130].
بعدما ذكر ربنا خبر ذلك العبد الصالح إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنه ابتلاه بكلمات فأتمهن، ونجح نجاحاً عظيماً في كل الاختبارات، بذل ماله للضيفان، وبذل نفسه للنيران، وولده للقربان، وابتلاه الله عز وجل بالطغاة والجبابرة مثل النمرود بن كنعان الذي قال: أنا أحيي وأميت، وابتلاه بأبيه الطاغية الذي كان يصنع الأصنام ويبيعها للناس، وابتلاه الله عز وجل كذلك بخصال الفطرة، خمس في الرأس وخمس في الجسد، أما التي في الرأس: فالمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، وفرق الرأس، وأما التي في الجسد: فالاستحداد، والختان، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وغسل أثر البول والغائط بالماء، فإبراهيم عليه السلام نجح في هذا كله، فقال الله عز وجل: ((وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ)) يعني: من يترك ملة إبراهيم الحنيفية السمحة إلى غيرها إلا السفيه: ((إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ))، وهذه المادة: السين والفاء والهاء تدل على الرقة والخفة، ومنه تقول العرب: ثوب سفيه إذا كان رقيقاً خفيفاً، وإذا قيل: هذا رجل سفيه، يعني: في عقله خفة.
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130].
هذه الآية نزلت لما دعا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله قد قال في التوراة: إني باعث نبياً من ولد إسماعيل اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر، فنزلت الآية.
وعبد الله بن سلام هو الحبر البحر الذي أسلم عن علم، وأثنى عليه ربه في القرآن فقال: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد:43]، والذي عنده علم الكتاب هو عبد الله بن سلام.
وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف:10] والشاهد هو عبد الله بن سلام.
وقد دعا ابني أخيه إلى الإسلام عن علم، واحتج عليهما بالتوراة، وقال لهما: قد علمتما أن الله ذكر في التوراة أنه باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد هدي ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأحد الرجلين وفق فأسلم، والآخر أبى؛ فأنزل الله عز وجل: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130].(13/6)
سبب نزول قوله: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا)
الآية الخامسة والثلاثون بعد المائة: قول الله عز وجل: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:135].
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال ابن صورياء للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا -يا محمد- تهتدي، وقالت النصارى: ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا -يا محمد- تهتدي؛ فأنزل الله عز وجل: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:135]، ومن كان يهودياً أو كان نصرنياً فقد ضل ضلالاً بعيداً، {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67].(13/7)
سبب نزول قوله: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها)
لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يستقبل بيت المقدس في الصلاة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، إذا أراد الصلاة استقبل الشام، وكان يهود يسخرون ويقولون: ما بال هذا الرجل يخالف ملتنا ويستقبل قبلتنا؟! فأنزل الله عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، فبدأ اليهود يشككون في القبلة فقالوا للمسلمين: في كل يوم قبلة؟! إن كانت الأولى حقاً فالثانية باطلة، وإن كانت الثانية حقاً فالأولى باطلة، فأنزل الله عز وجل الآيات من الثانية والأربعين بعد المائة إلى الخمسين: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ} [البقرة:142] أي: ما صرفهم {عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) [البقرة:142] جل جلاله، إن شاء وجهنا إلى المشرق وإن شاء وجهنا إلى المغرب، وهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وقال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أبْنَاءهُم} [البقرة:146]، يعرفون أمر النسخ، وأنه كان في شريعتهم نسخ، وأن يعقوب كان يحل له الجمع بين الأختين، فيجوز أن يتزوج امرأة وأختها، وأن هذا في شريعة موسى حرام، أليس هذا نسخاً؟ شيء يكون حلالاً في شريعة إسرائيل وحراماً في شريعة موسى عليه السلام.
روى ابن إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] فقال رجل من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة وكيف بصلاتنا قِبل بيت المقدس؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، وقال السفهاء من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله: ((سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ)) [البقرة:142]) الآية.(13/8)
سبب نزول قوله: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات)
الآية الرابعة والخمسون بعد المائة: قول الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} [البقرة:154] قيل: هذه الآية نزلت في شأن عمير بن الحمام رضي الله عنه الذي كان أول الشهداء يوم بدر، الذي كان يأكل تمرات من مخبأة معه، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة: (والذي نفسي بيده! لا يقاتلنهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة).
فسمع عمير فقال: بخ بخ، وألقى ما كان في يده من تمرات، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على قولك: بخ بخ؟ قال: يا رسول الله! ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ قال: بلى، قال: إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات).
أي: لو انتظرت خمس دقائق حتى أكمل هذه التمرات إنها لحياة طويلة! الآن الآن، فألقى التمرات وسل سيفه ودخل في صفوف المشركين، وكان رضي الله عنه أول من قتل في ذلك اليوم.
حدثني بعض الشيوخ الفضلاء: إن بعض السفهاء في التلفاز قبل أيام صنعوا أضحوكة يسمونها التمثيلية، وهي: أن امرأة استشهد زوجها فجاء أخوه يخطبها، فجاء مجموعة في هيئة شيوخ أو منسوبين للعلم يلبسون عمائم كبيرة وما يسمى بالعباءة، ثم جلسوا مع هذا الشاب الخاطب وقالوا له: لا يحل لك أن تخطب زوجة أخيك أو أرملة أخيك، قال لهم: كيف؟ فقرءوا عليه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] فهو ما زال حياً وهي زوجته؛ فاقتنع بكلامهم وترك الخطبة.
فهذه الأضحوكة المقصود منها السخرية من الآية أو من شعيرة الجهاد، وإلا فمعلوم أن الآية واضحة في ألفاظها: ((أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ))، أما في حكم الدنيا فهم أموات، ولذلك تقسم أموالهم، وتنكح نساؤهم، وفي الدنيا نجعلهم تحت التراب، فلو كانوا أحياء ما دفناهم في التراب، فالشهيد في حكم الدنيا ميت، أما عند الله فهو حي حياة برزخية لا يعلم كيفيتها إلا الله.
فهذه سفاهة وتطاول، ولا ينبغي للمسلم أن يسمع مثل هذا، ولا أن تنطلي عليه هذه الحيل، والله عز وجل يقول: {إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140].
فما كان ينبغي للقائمين على التلفاز لو كانوا يتقون الله أن يسمحوا بأن يبث مثل هذا الهراء والغثاء، وهذا الباطل الذي فيه تحريف للكلم عن مواضعه.(13/9)
سبب نزول قوله: (إن الصفا والمروة من شعائر الله)
الآية الثامنة والخمسون بعد المائة، قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، قد مضى عند الكلام عن أسباب النزول أن عروة بن الزبير لم يفهم هذه الآية على وجهها فظن أن الآية تنفي الجُناح عمن لم يسع بين الصفا والمروة، فالسيدة عائشة رضي الله عنها بينت له الصواب، وأن الآية نازلة في شأن الصحابة الذين تحرجوا من أن يسعوا بين الصفا والمروة بعد الإسلام؛ لأنه في الجاهلية كان عند الصفا صنم يقال له مناة، وعند المروة صنم يقال له هبل، وكانوا إذا سعوا تمسحوا بهما، فأنزل الله هذه الآية ينفي الجُناح عمن سعى، لأن الجاهلية قد مضت بشرورها وآثامها، وما داخل هذه المناسك من شعائر الشرك فإنه لا ينفي كونها حقاً وخيراً.(13/10)
سبب نزول قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب)
الآية التاسعة والخمسون بعد المائة: قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174]، نزلت هذه الآية -كما قال ابن عباس - حين سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار).
فكتمان العلم حرام، لكن -أيها الإخوان- أحياناً يكون كتمان العلم لمصلحة السائل نفسه، ولذلك ذكروا أن عبد الله بن عباس جاء إليه رجل يسأله: هل للقاتل توبة؟ قال له: لا.
القاتل ليس توبة، فخرج الرجل، فأصحاب ابن عباس سألوه وقالوا له: قد سمعناك تقول بأن للقاتل توبة، فقال لهم: إن هذا الرجل أراد أن يقتل، ونحن لا نريد ذلك، فجاء يأخذ فتوى على أنه ممكن أن يتوب، كأن ابن عباس تفرس في الرجل توتراً وضيقاً، وفعلاً تتبع أصحاب ابن عباس ذلك الرجل فوجدوه كما قال.
فمثل هذا قد يُكتم عنه العلم؛ لأن المتلقي لن يفهم، وفي الحديث: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
ولذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله؟ وقد يُكتم العلم لأن صاحب العلم يخاف على نفسه، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته -أي: نشرته- وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا الحلقوم، فهو يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاني علماً كثيراً، فبعضه نشرته بين الناس ورويته، والآخر لو نشرته لحدثت مشكلة.
قال أهل الحديث: ما كتمه أبو هريرة هو أسماء أمراء الجور من بني أمية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: سيلي فلان وهو جائر، وفلان فاسق، وفلان ظالم، يذكرهم بأسمائهم، فـ أبو هريرة قام في الناس وأخبر أنه لا مصلحة من نشر هذا سوى تهييج الناس؛ لأن الناس لو سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك فسيثورون عليهم، وإذا ثاروا على أمراء الجور فسيواجهون الثورة وتسيل الدماء، وتزهق الأرواح، وتخرب الممتلكات، ولا يعود الناس بفائدة، ولا ينالون خيراً، فلذلك أبو هريرة رضي الله عنه رأى أن من المصلحة ألا يخبر بذلك.(13/11)
لباب النقول في أسباب النزول [8]
القرآن الكريم فيه أنواع مختلفة من الأحكام والأخبار والقصص، فمن أخباره ما حكاه الله عز وجل عن موقف المشركين من التوحيد ودعوة الله عز وجل لهم إلى التفكر في خلقه، ومنها ما حكاه عن جرائم اليهود بأكلهم أموال الناس بالباطل وكتمانهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أحكامه أنه كتب القصاص بين المسلمين في قتل العمد، وبين أنه لا يقتل إلا القاتل، ومنها بيان حل الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان، وبيان حرمة أكل الأموال بالباطل والإدلاء بها إلى الحكام لأخذها بطريق محرم.(14/1)
سبب نزول قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض)
الآية الرابعة والستون بعد المائة من سورة البقرة: قول الله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164].
سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قول الله عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] تعجب المشركون وقالوا: كيف يسع العالم إله واحد؟! وقد حكى ربنا عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وهناك سبب آخر، وهو أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقاً فأتنا بآية، وادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً -أي: جبل الصفا- نتقوى به على عدونا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية يخبرهم فيها أنهم لا يحتاجون إلى هذا الدليل، وهو جعل الصفا ذهباً، فهناك آيات أعظم وأجل، وهي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا.
فهذه آيات عظيمة، كما قال سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].(14/2)
سبب نزول قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا)
الآية السبعون بعد المائة: قول الله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170] هذه الآية نزلت في اليهود، قال ابن عباس: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام، ورغبهم فيه، وحذرهم عذاب الله ونقمه، فقال مالك بن عوف ورافع بن حريملة: بل نتبع -يا محمد-! ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم وخيراً منا.
أي: لن نستمع إلى القرآن الذي تتلوه، ولا الخير الذي جئت به، بل نحن على ما كان عليه آباؤنا؛ لأن آباءنا كانوا أعلم وخيراً منا.
وهذا القول قالته كل أمة كافرة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فكل أمة كافرة كانت تقول ذلك، وإلى الآن تجد بعض الناس ممن تلبسوا بشيء من البدع أو الأمور الشركية إذا قيل لهم: قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وسلم، يقولون: هذا الذي وجدنا عليه آباءنا، ونحن لن نغيره، وأنت جئتنا بدين جديد.(14/3)
سبب نزول قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً)
الآية الرابعة والسبعون بعد المائة: قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174].
هذه الآية نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم، وكانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضل، وكانوا يرجون أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من غيرهم، خافوا ذهاب مأكلتهم، وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم فغيروها، وقد حكى الله عنهم في القرآن قوله: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة:34]، وهذه حيلة رجال الدين في كل ملة إذا فسدت القلوب والعياذ بالله، يتخذون من الدين سبباً ووسيلة لأكل أموال الناس بالباطل، مثلما يفعل الآن زعماء الروافض ممن ينتسبون إلى الإسلام، حيث يفرضون على الناس الخمس في أي شيء يكتسب، ومثلما يفعل رهبان النصارى، فإذا وقع الإنسان في خطيئة فلا بد أن يأتي إلى الراهب ويقول: إني قد فعلت كذا وكذا وكذا، ويطلب منه المغفرة، فيرفع الراهب الصليب دلالة على أنه قد قبلت توبته، وغفرت خطيئته، ويضع بعد ذلك هذا التائب في الصندوق شيئاً معلوماً.
ومثل ذلك ما يفعله بعض علماء المسلمين حين يبدل الفتاوى ويغيرها من أجل أن يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً.
فاليهود علموا أنهم لو تابعوا محمد صلى الله عليه وسلم على دينه فإنهم سيصبحون كسائر الناس، وكعامة المسلمين، وستذهب رئاستهم وملكهم، فعمدوا إلى تغيير صفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو عندهم في التوراة: أنه رجل ربعة أبيض مشرب بحمرة إلى غير ذلك من صفاته صلوات الله وسلامه عليه، فغيروا هذه الصفات، فقالوا: إنه رجل طويل آدم -أي: أسمر- وسبط الرأس، وقالوا: هذا النبي لا يشبه ذا الصفة الموجودة عندنا، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:174].(14/4)
سبب نزول قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب)
الآية السابعة والسبعون بعد المائة: قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177].
هذه الآية جاءت في ثنايا الحديث عن تحويل القبلة، وقد كانت النصارى تستقبل المشرق، وكان اليهود يستقبلون المغرب، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177]، ولكن البر يتمثل في أمور قلبية، وأمور تعبدية، وأمور أخلاقية سلوكية، ولذا قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] وهذه مسائل عقدية قلبية {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177] يعني: وهو محب لهذا المال {ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة:177] وهذه كلها عبادات وشعائر.
ثم ذكر الأخلاق بقوله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، فهذه هي حقيقة البر.
قال أهل التفسير: هذه الآية أجمع آية لخصال البر في القرآن.(14/5)
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى)
الآية الثامنة والسبعون بعد المائة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178].
نزلت هذه الآية في حيين من العرب اقتتلا في الجاهلية، وكان أحد الحيين قد قهر الآخر وظهر عليه، فلما جاء الله بالإسلام وأسلموا قال ذلك الحي المنتصر: والله لا نقتل بالأنثى منا إلا الذكر منهم، ولا نقتل بالعبد منا إلا الحر منهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية يبين فيها أن المفترض قتل القاتل وحده، وأن لا يتعدى القتل إلى غيره، فيقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى للأنثى.
وليس المقصود من الآية أن الأنثى لا يقتل بها الذكر، فقد أجمع أهل العلم على أن الرجل لو قتل امرأة فإنه يقتل بها.
إذاً: الآية ليست على ظاهرها الذي يفهم، وإنما يفهم معناها بمعرفة سبب نزولها، وهو أنه لا يقتل إلا القاتل.(14/6)
سبب نزول قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)
الآية الرابعة والثمانون بعد المائة: قول الله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184].
نزلت هذه الآية -كما قال مجاهد - في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم، والمرأة العجوز، والمريض الذي لازمه مرضه، هؤلاء جميعاً ليس عليهم الصيام، وإنما عليهم الإطعام.
قال تعالى: ((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)) ولا بأس بأن يطعموا جميعاً دفعة واحدة، كما كان يفعل أنس بن مالك رضي الله عنه، فقد كان يصنع جفنة من ثريد ويدعو ثلاثين مسكيناً فيطعمهم.(14/7)
سبب نزول قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب)
الآية السادسة والثمانون بعد المائة: قول الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186].
نزلت إجابة لسؤال رجل أعرابي قال: (يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟) أي: أقريب ربنا فنتكلم بالنجوى -وهي المخافتة- أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية يبين أنه قريب من عباده يسمع دعوة الداعي، ويجيبه جل جلاله.
وهذه الآية مثلها قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] ولذلك فإن الدعاء كلما كان مخافتة كلما كان أظهر في الافتقار؛ لأنك عندما تتكلم مع من دونك قد تصرخ عليه وترفع صوتك، وإذا تكلمت مع من هو أعلى منك شأناً فإنك تخفض صوتك، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60].
وهناك ناحية أخرى، وهي أن المخافتة في الدعاء أدل على الإيمان، أي أنك تؤمن بأن الله يسمعك جل جلاله، وأنه لا تخفى عليه خافية، وذلك أبلغ في الأدب.(14/8)
سبب نزول قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)
الآية السابعة والثمانون بعد المائة: قول الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187].
أخرج الإمام أحمد وابن جرير عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد.
أي: ليس من حقه أن يستيقظ فيأكل أو يشرب، فلا طعام ولا شراب، إلا إذا غربت الشمس من اليوم الذي يليه.
قال: وإن عمر بن الخطاب كان عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده، أي: جلس عنده في الليل يتكلمان في مصالح المسلمين، فرجع من عنده، فأراد امرأته -أي: أراد أن يأتي أهله-، فقالت له امرأته: إني قد نمت، فقال لها: ما نمت، -وهي أدرى بحالها- ووقع عليها، وصنع كعب مثل ذلك، فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصباح فأنزل الله هذه الآية وفيها الفرج: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187]، وقال عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187]، وقد كان رجال إذا أرادوا الصوم -كما روى البخاري عن سهل بن سعد - ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله عز وجل: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار.
وجاءت تسمية الرجل الذي فعل ذلك في بعض الروايات بأنه عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه.(14/9)
سبب نزول قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)
الآية الثامنة والثمانون بعد المائة: قول الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] أي: للباطل، وللغش، وللرشوة، وللربا، وللكذب، ولشهادة الزور قال تعالى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة:188] أي: ترفعوا القضايا إلى المحاكم {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} [البقرة:188] أي: طائفة من أموال الناس ((بالإثم وأنتم تعلمون)) بأن هذا المال حرام عليكم أكله.
وقد نزلت هذه الآية في رجلين اختصما في أرض، وأراد أحدهما أن يحلف، فنزلت هذه الآية، ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها) أي: أن بعض الناس يخاصم في قضية، وهو يعلم أنه على باطل، فلو حكم القاضي له بناء على الظاهر لكون المحامي ذكياً مثلاً، أو لأنه زور أوراقاً وشهادات وغير ذلك، فهل يحل له هذا المال؟ لا يحل له أبداً.
قال أهل العلم: إن حكم القاضي لا يحل الحرام مطلقاً، وقد تكون الخصومة بين الزوجين، بحيث يطلق الرجل المرأة، وبدأ بعد ذلك يذلها، ولا يعطيها النفقة الواجبة، ويكون له منها أولاد، فتشفع الشفعاء، ويتوسط الوسطاء، فأبى، فترفع الزوجة عليه قضية، والله يعلم أن عنده من المال الشيء الكثير، لكنه يذهب إلى القاضي، ويدعي بأنه عاطل عن العمل، وأنه مدين، وأنه مفلس، وأنه غريم، وأنه مريض، وأنه وأنه، ويقيم على ذلك شهادة الزور، والله يعلم أنه يطيق أن يدفع المليون، فيقول له القاضي: ادفع كذا وكذا وهو ما لا يكفي للخبز الجاف، ويقول للمرأة: ما عندنا إلا هذا، وبعد ذلك يماطل الرجل في أداء هذا القليل، ولو مات فإنه يلقى الله غارماً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج في الضعيفين: اليتيم والمرأة) فإن طلقتها فلا تظلمها، واتق الله عز وجل فيها، وأد إليها حقوقها.(14/10)
لباب النقول في أسباب النزول [9]
وردت آيات في سورة البقرة تنص على أنه ينبغي أن يكون السؤال هادفاً نافعاً للناس، وأن القتال محرم في الأشهر الحرم إلا إن بدأونا بذلك، وأن التهلكة إنما هي في ترك الجهاد والإقامة بين الأهل والمال، وأن التجارة في الحج جائزة إذا أديت مناسك الله بلا إخلال.(15/1)
سبب نزول قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة)
الآية التاسعة والثمانون بعد المائة: قول الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة:189].
سبب نزول هذه الآية كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية: أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة قالا: (يا رسول الله! ما بال الهلال يطلع دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟) أي: أن الصحابة رضي الله عنهم يسألون: لم يبدو الهلال في أول الشهر دقيقاً مثل الخيط، ثم لا يزال يكبر ويزيد حتى يستدير، ثم يرجع فينقص ويستدق حتى يكون كما بدأ، ولا يكون على حال واحدة؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية ليبين العلة التي من أجلها خلق الله الأهلة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] يعني: أن الله عز وجل يوجههم إلى السؤال الأوفق والأنسب؛ لأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم ما جاء ليشرح الظواهر الطبيعية، وإنما جاء ليهدي الناس، وهذا ينطبق الآن على كثير من الناس ممن يطرحون أسئلة ليس فيها كبير فائدة، فبعض الناس ربما يقرأ قول الله عز وجل: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73]، فيسأل ما هو البعض الذي ضرب به قتيل بني إسرائيل؟ ويقرأ قصة أصحاب الكهف فيسأل عن عدتهم كم كانوا؟ مع أن الله تعالى قال: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف:22]، ويسأل عن لون الكلب الذي كان معهم.
وإذا قرأ قول الله عز وجل: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63] يقول: هذه العصا من أي خشب كانت؟ وإذا قرأ قول الله عز وجل: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44]، قال أين الجودي؟ وسفينة نوح كم كان طولها؟ وكم كان عرضها؟ فهذه كلها أسئلة لا تؤدي إلى فائدة، ولو كان العلم بهذه التفاصيل مؤثراً لذكرت في القرآن.
فهنا الله عز وجل يرشدنا إلى السؤال المناسب، وإلى العلة الصحيحة، مثلما قال في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101].
وقول الله عز وجل: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189]، كانت للعرب في الجاهلية عادات ما أنزل الله بها من سلطان، ومن ذلك: أن الواحد منهم إذا أحرم بالنسك فلا يدخل إلى بيته من الباب، وإنما لا بد أن يتسوره، ويعتقدون بأن هذا من التقوى، ثم إذا ذهب فقضى نسكه ورجع أيضاً لا يدخل من الباب، وإنما يأتي من ظهر البيت، فأنزل الله عز وجل يقول: ((وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا)) أي: ليس البر في هذه الأشكال، ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى))، كما مر معنا قول الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:177].
فمن الخطأ أن يخترع الإنسان طقوساً ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا موجود الآن، فتجد المرأة مثلاً إذا توفي عنها زوجها فإنها تخترع طقوساً، مثلاً: قالت الشريعة للمرأة: يا من توفي عنك زوجك، لا تكتحلي، ولا تتخضبي، ولا تتطيبي، ولا تتحلي، ولا تلبسي ملابس الزينة، فزادوا من عندهم أنه لا بد لها أن تلبس الأبيض، ولا بد أن تجلس على ملاءة بيضاء، ولا بد أن تجلس في غرفة، أو في برندة، ولا ينفع أن تقعد في الحوش، ولا يصلح أن تتكلم مع أحد عند طلوع الشمس وعند غروبها، وأن تستقبل الشمس عند شروقها وغروبها؛ فإذا انقضت العدة أربعة أشهر وعشر ذهبوا بها إلى البحر كما يوجد في بعض الأقاليم، فهذا كله ما أنزل الله به من سلطان.
ومثلما اخترعوا الطقوس في العرس، وأنه لابد من الحناء، وأنه إذا لم يتحنَ فلن يولد له ولد، ونحن لم نتحن وعندنا جيش من البنين والبنات والحمد لله، فهذه كلها طقوس ما أنزل الله بها من سلطان اخترعها الناس، ثم اعتقدوا بأنها دين يجب التمسك به والعض عليه.(15/2)
سبب نزول قول الله: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم)
الآية التسعون بعد المائة: قول الله عز وجل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190].
هذه الآية كما قال ابن عباس: نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه صدوا عن البيت، ومنعوا من الوصول إلى البيت الحرام، ثم صالحه المشركون على أن يرجع من عامه هذا ذو القعدة سنة ست، ولا يعتمر، ثم يعود في العام القابل من عام سبعة من الهجرة، فلما كان العام القادم تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي قريش بوعدها، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره الصحابة أن يقاتلوا في الشهر الحرام وهو ذو القعدة، وتحرجوا من ذلك فأنزل الله عز وجل هذه الآية لتبين لهم: أن من قاتلكم فقاتلوه ولو كان ذلك في الشهر الحرام، ولو كان في البلد الحرام: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190].(15/3)
سبب نزول قول الله: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
الآية الخامسة والتسعون بعد المائة: قول الله عز وجل: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)).
ماذا يفهم الناس من هذه الآية؟ للأسف الشديد يستدل بها بعض الناس على تحريم العمليات الاستشهادية التي يقوم بها المجاهدون في فلسطين أو في غيرها من بلاد الله، فيقولون: لا يجوز؛ لأن الله تعالى قال: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ))، وهذا الاستدلال ليس صحيحاً، ويتضح ذلك من سبب نزول الآية.
روى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: نزلت في النفقة، كيف هذا؟ يعني: أن الأنصار عليهم من الله الرضوان كانوا أهل كرم، وهم الذين قال الله فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فأصابتهم سنة، يعني: أمسكت السماء في عام من الأعوام، فكأن الأنصار عليهم من الله الرضوان أمسكوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية يبين أن التهلكة في الإمساك، وهذه الرواية أخرجها البخاري.
وللآية سبب آخر؛ فقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم وغيرهم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار.
لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سراً: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام؛ فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله عز وجل فيما قلنا: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، فكانت التهلكة في الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الغزو، يعني: أن الأنصار رضي الله عنهم جاهدوا في الله حق جهاده، فلما فتح الله مكة، وأعز الله الإسلام، وكثر أنصاره في أنحاء الجزيرة، قال الأنصار: نحن قد أهملنا مزارعنا، وضيعنا أموالنا، وشغلنا بالجهاد سنين عدداً، والحمد لله، فها قد تحققت الغاية، وارتفعت الراية، وكثر أنصار الإسلام؛ فهلم نرجع فنصلح أموالنا، ونثمر زروعنا، وننمي مواشينا، ويقوم بالجهاد غيرنا؛ فأنزل الله عز وجل: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) فكانت التهلكة في الإقامة وترك الجهاد.
فلا علاقة بين الآية وبين ما يقوله المانعون من العمليات الاستشهادية.(15/4)
سبب نزول قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله)
الآية السادسة والتسعون بعد المائة: قول الله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196].
أخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متضمخاً بالزعفران عليه جبة، فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين السائل عن العمرة؟ قال: هأنذا، فقال له عليه الصلاة والسلام: ألق عنك ثيابك، ثم اغتسل، واستنشق ما استطعت، ثم اصنع ما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك).
وهل يجوز للمحرم التضمخ بالطيب؟
الجواب
لا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يلبس القمص) فالمحرم لا يلبس قميصاً، (ولا العمائم ولا سراويل)، والمحرم لا يلبس سروالاً، (ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران) يعني: الثوب الذي فيه طيب لا يلبسه.
وهذا الرجل جاء متضمخاً بالزعفران، وعليه جبة، ويسأل عن العمرة، فأنزل الله هذه الآية، والرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (ألق عنك جبتك)، فالجبة التي عليك لا تنفع في الإحرام.
(ثم اغتسل)، من أجل أن تذهب رائحة الزعفران.
(واستنشق ما استطعت) من أجل أن تزيله، (ثم ما كنت صانعاً في حجك فاصنع في عمرتك) يعني: نفس هيئة الطواف في الحج هي في العمرة، ونفس هيئة السعي في الحج هي في العمرة، ومثلما تحلق أو تقصر في الحج، فاصنع في العمرة مثله.(15/5)
سبب نزول قوله تعالى: (فمن كان مريضاً أو به أذىً من رأسه)
قال الله عز وجل في الآية نفسها: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، ما سبب نزول الآية؟ روى البخاري عن كعب بن عجرة قال: (حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك هذا، أما تجد شاة؟ قلت: لا.
قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، واحلق رأسك).
فهل يجوز للمحرم أن يحلق رأسه؟
الجواب
لا يجوز أن يحلق رأسه ولا غيره، كأن يقص شاربه، أما اللحية فخلقها حرام في الإحرام وفي غير الإحرام.
المقصود: أن كعب بن عجرة رضي الله عنه كان شعره كثيراً، وكان قد أحرم، وكان شعره مليئاً بالقمل، والقمل يضايق الإنسان، فلما اشتد عليه الأذى، حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه، والرسول صلى الله عليه وسلم رءوف رحيم، والمفتي لا بد أن يتحلى بهذا الجانب، فمن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يرحم الناس بما لا يتعارض مع الشرع، فالرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمل يتناثر على الرجل، فما قال له: اصبر يومين أو ثلاثة وما أشبه ذلك، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أبدى التأثر، وقال له: (ما كنت أظن أن الجهد يبلغ منك ما أرى)، فيمكن أن نحل هذه القضية، قال: (هل تجد شاة؟ قال: لا).
فإما أنه لا توجد الشياة أصلاً، أو أن الشياة موجودة وليس عنده الثمن، فالرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه البديل، فقال له: (فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك).
وهذا هو معنى الآية: ((فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)).
مثلاً: رجل محرم، ولباس الإحرام معروف رداء وإزار، لكن الرجل مصاب بحساسية، بحيث إن الإحرام لا يناسبه فنقول له: البس ثيابك، واذبح شاة بعد ذلك، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، وهكذا في سائر المحظورات.
مثال آخر: رجل طالت أظفاره، ولم يتنبه لها حتى أحرم، ثم بدأت أظفاره تتكسر، وتؤذيه، ويسيل منها الدم، ففي هذه الحالة نقول له: إن ربنا لم يأمرنا بالضرر، فافد وقلم أظفارك، والفدية: شاة، أو صدقة، أو صيام، والله أعلم.(15/6)
سبب نزول قوله تعالى: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)
الآية السابعة والتسعون بعد المائة: قال الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].
روى البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فأنزل الله: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى))، يعني: أن أناساً من اليمن كانوا يحجون ولا يحملون معهم طعاماً، ويقولون: نحن متوكلون على الله، وهذا لا يصلح فقد قال صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل)، ومن التوكل: الأخذ بالأسباب، كما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يتزود لسفره عليه الصلاة والسلام، ولذلك جاء رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله وقال له: إني حاج، فقال له: تزود، قال: إني متوكل، قال له: إذاً اخرج وحدك، فقال: لا، بل أخرج مع القوم، قال له: إذاً أنت متوكل على أزواد القوم.
يعني: أنت لست متوكلاً على الله تعالى، وإنما متوكل على طعام القوم وشرابهم.(15/7)
سبب نزول قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم)
الآية الثامنة والتسعون بعد المائة: قول الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198].
روى البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] أي: في مواطن الحج، يعني: ليس هناك مانع للرجل بأن يحج ويتاجر أو يؤجر سيارته للناس مثلاً، وكذلك الجزار والحلاق، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198].(15/8)
سبب نزول قوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)
الآية التاسعة والتسعون بعد المائة، قول الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199].
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، يعني: أن قريشاً كانوا يشعرون بأنهم أرفع من الناس قدراً، وأسلم ديناً، وكانوا يقولون: نحن أهل الله والحرم؛ فلا نقف مع الناس في عرفة، بل يكون لنا مكان خاص وهو المزدلفة، فأنزل الله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] يعني: يا معشر قريش! قفوا حيث وقف الناس، وأفيضوا من حيث أفاض الناس.(15/9)
سبب نزول قوله تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله)
الآية المائتان: قول الله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:200].
كانت لدى العرب عادة ذميمة وهي: أنهم إذا انتهوا من يوم عرفة وذهبوا إلى المزدلفة ورموا الجمرة يقفون يتفاخرون، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم الطعام، ويحمل الحمالات، ويدفع الديات، وكان أبي، وكان أبي، فبين الله لهم: أن هذا الموضع ليس موضعاً لذكر الآباء، ثم قال لهم: ((فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ)) أي: إذا ذكرتم آباءكم فاذكروا الله كذكركم آباءكم، يعني: على الأقل اجعلوا لله عز وجل نصيباً كنصيب آباءكم، أي: لا يذكر أباه وينسى ذكر الله تعالى، نعوذ بالله من تلك الحال.(15/10)
لباب النقول في أسباب النزول [10]
لله تعالى في كونه الكثير من السنن فمنها: انقسام الناس إلى صادق القول والقلب، ومنهم من لسانه حلو الكلام وفعله قبيح الأعمال، وقد أمر الله عباده بالدخول في كل أحكام الإسلام، وحذرهم من اتباع خطوات الشيطان.(16/1)
سبب نزول قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك)
الآية الرابعة بعد المائتين: قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].
هذه الآية تحكي نموذجاً لنوع من الناس حلو اللسان، لكنه عظيم الفساد في الأرض، يعطيك من طرف اللسان حلاوة، ولكن أعماله تكذب أقواله، وهذا حال المنافقين.
هذه الآية نزلت -كما قال ابن عباس - في شأن رجلين من المنافقين؛ إذ لما أصيب أصحاب الرجيع عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وإخوانهم، قال المنافقون: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهليهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم؛ فهم يشمتون بالمسلمين الذين قتلوا.
وهذا يشبه قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156]، هكذا المنافقون يحاولون دائماً أن يلقوا الحسرة والندامة في قلوب المؤمنين.(16/2)
سبب نزول قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه)
الآية السابعة بعد المائتين: قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
ومن الناس صنف يشري أي: يبيع نفسه طلباً لرضوان الله عز وجل.
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: نزلت في صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه لما خرج مهاجراً فلحق به بعض المشركين، فالتفت إليهم، وقال: قد علمتم معشر قريش أني أرمى القوم، يعني: أنه من أحسن الناس رماية، والله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي فأخذتموه، فدلهم على مكان ماله، وأنه تحت عتبة الباب، فرجع القوم وأخذوا مال صهيب كله، فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى) وأنزل الله عز وجل هذه الآية.(16/3)
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم)
الآية الثامنة بعد المائتين: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:208].
نزلت هذه الآية في جماعة من اليهود أسلموا، ثم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يسبتوا -أي: أن يعظموا السبت وأن يقوموا الليل بالتوراة، فأنزل الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)).
الإسلام لا يصلح فيه التلفيق، بأن تكون قطعة من هنا، وقطعة من هناك، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] إن كنت مسلماً فانس الماضي، كما قال الله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] ولا يمكن أن تكون مسلماً وأنت لا زلت تحتج بالتوراة وتنظر فيها وتعظم السبت، وقد أبدلك الله بالتوراة قرآناً، وبالسبت الجمعة، فلا يصلح.(16/4)
سبب نزول قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل)
الآية الرابعة عشرة بعد المائتين: قول الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
هذه الآية نزلت في يوم الأحزاب، عندما كان المشركون يحاصرون المسلمين، وجاءوهم من أعلى المدينة، واليهود كانوا في أسفلها، والمنافقون كانوا في الصفوف يثبطون الناس ويشككونهم؛ حتى إن بعض المسلمين داخلهم شيء من الشك، وقالوا: يا رسول الله! نصبح ونمسي في السلاح، يعني: نحن دائماً خائفون متوقعون العدو أن يأتينا من هنا أو هنا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية ليبين لهم أن من سنة الدعوات التمحيص والابتلاء والزلزلة.
أم حسبتم أيها المسلمون أن تدخلوا الجنة وأنتم ما عرفتم أخبار السابقين من أتباع النبيين ممن مستهم البأساء والضراء، البأساء: الحرب والقتال، والضراء: الضر من مرض وفقر ونحوه.
وَزُلْزِلُوا لكثرة الأعداء، حتى إن النبي منهم كان يتساءل هو والمؤمنون معه ويقولون: متى نصر الله؟ قال الله عز وجل: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
لكن هذا القرب في علمه هو جل جلاله، وليس بمقاييسنا نحن البشر، فلا نقول: إن النصر سيكون بعد شهر أو سنة أو نحو ذلك.(16/5)
سبب نزول قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون)
الآية الخامسة عشر بعد المائتين: قول الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215].
أخرج ابن جرير عن عبد الملك بن جريج: أن المسلمين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]، فإن كان عندك مال أنفق على نفسك حتى تعفها، ثم بعد ذلك على والديك، هذه النفقة الواجبة، ثم بعد ذلك على الأرحام الأقرب فالأقرب.(16/6)
سبب نزول قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه)
الآية السابعة عشرة بعد المائتين: قول الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ} [البقرة:217].
هذه الآية نزلت في شأن عبد الله بن جحش، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عبد الله بن جحش رضي الله عنه: إذا صليت الصبح غداً فوافني عند باب المسجد، فجاء عبد الله بن جحش فوجد مجموعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم عكاشة بن محصن، وأبو حذيفة بن عتبة، وخالد بن البكير، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان، وواقد بن عبد الله اليربوعي.
ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب فأملى عليه كتاباً، ثم خيط هذا الكتاب ودفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن جحش وقال له: اذهب فقد أمرتك على هؤلاء النفر، سر يومين ثم افتح كتابي، وهذه يسمونها المهام المكتومة، يعني: حتى الجندي لا يعرف ما يراد منه، وهي إلى الآن مستعملة في الحروب، يركب الجنود طائرة ولا يعرفون إلى أين تتوجه بهم، المهم يقال لهم: حيث ما حطت الطائرة تعاملوا مع عدوكم.
فسار رضي الله عنه بأصحابه يومين، ثم فتح الكتاب، فإذا فيه: أما بعد: (أن سر حتى تأتي نخلة بين مكة والطائف فترصد عيراً لقريش، ولا تكره أحداً من أصحابك على المسير معك).
فـ عبد الله بن جحش تلا الكتاب على من معه، وقال لهم: وقد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أستكرهكم وإني ماض لأمره، فقال الصحابة: ونحن ماضون لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذهبوا رضوان الله عليهم حتى وصلوا بطن نخلة، فوجدوا عيراً لقريش قد جاءت من قبل اليمن، وفيها الزبيب، والعنب، والأدم وغير ذلك، يقودها رجل يقال له: عمرو بن الحضرمي، ومعه رجلان من بني مخزوم وكان ذلك في آخر يوم من رجب، ورجب من الأشهر الحرم، لو تركوا القافلة فسوف تمضي، فكانوا يقولون: ننتظر غداً حتى يدخل شعبان، فبدءوا يتشاورون فقالوا: هل اليوم الثلاثون من رجب أم الأول من شعبان؟ وفي النهاية قالوا: هو الأول من شعبان.
وكان واقد بن عبد الله التميمي رجلاً رامياً، وهو الذي رمى عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، ثم اشتدوا إثر هؤلاء المشركين، أما أحدهم فقد أعجزهم هرباً، والثاني جاءوا به أسيراً، واستاقوا العير، وهنا أجلب المشركون بخيلهم ورجلهم، وقالوا: إن محمداً وأصحابه قد استحلوا الشهر الحرام، وغيروا دين إبراهيم.
ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم في حرج شديد، وقال لهم: (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام)؛ لأن هذا التصرف خطأ، وخلاف التعليمات؛ فضاقت صدور الصحابة رضوان الله عليه، فجاء الفرج من الله: ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ)) المعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام.
((قُلْ)) يا محمد! ((قِتَالٌ فِيهِ)) حكمه كبير، وخطأ ومعصية.
ثم قال سبحانه: ((وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)) يقول ربنا سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: إن كان أصحابك أخطئوا مرة، فإن هؤلاء المشركين ارتكبوا أربع جرائم كبيرة؛ فهم يشوشون عليكم من أجل خطأ، وهم قد وقعوا فيما هو أعظم وأنكى وهو: الكفر بالله، والصد عن سبيل الله، وإخراج المسلمين من المسجد الحرام، ولذلك قال عبد الله بن جحش يخاطب المشركين: تعدون قتلاً في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد وكفر به والله راء وشاهد وإخراجكم من مسجد الله أهله لئلا يرى لله في البيت ساجد فإنا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا ببطن نخلة لما أوقد الحرب واقد ونفس الشيء يحدث الآن من الأمريكان الكفرة قاتلهم الله، فهم يقتلون في العراق ثلاثين ألف مسلم، يدكون المباني على أهلها، ثم المسلمون إذا أمسكوا بجماعة من الكفرة وذبحوهم ذبح الشياه تقوم الدنيا ولا تقعد؛ لأن هذا خلاف الأديان، والحضارة، والتسامح، والإنسانية، وهذه وحشية، وهكذا وكذا.
وهذا الذي تفعلونه، وهذه القنابل التي يسمونها القنابل الذكية، والانشطارية، والعنقودية وغيرها من الأسماء، هل هذه حضارة ورحمة؟! فلذلك ينبغي أن نجيبهم بنفس الجواب.
فنقول: ربما يكون هذا خطأ، مع أنا لا نسلم بأن الذبح خطأ، لكن لو فرض أنه خطأ في حق مائة، ولكنكم قد ارتكبتم الفظائع في حق شعب بأكمله، فما الذي جعل هذا مباحاً حلالاً، وجعل هذا قبيحاً حراماً؟! فنفس الدعاية التي يثيرها هؤلاء الكفرة الآن كان أسلافهم كـ أبي جهل وأبي لهب يثيرونها حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.(16/7)
سبب نزول قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر)
الآية التاسعة عشرة بعد المائتين: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219].
الخمر هو كل ما خامر العقل فغطاه، سواء كانت من الذرة، أو الشعير، أو العنب، أو التمر، أو الحنطة أو غير ذلك مما يستحدثه الناس.
والعلماء رحمهم الله قالوا: الخمر أو المسكر ما أذهب العقل دون الحواس مع نشوة وطرب، يعني: الرجل السكران -عافني الله وإياكم- يكون عقله غير موجود لكن حواسه موجودة، بحيث إنه لو وضع يده على النار فإنه يشعر، فالمسكر ما أذهب العقل دون الحواس مع نشوة وطرب، قال الشاعر: وإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا أفقت فإنني رب الشويهة والبعير يعني: عندما يكون سكران يرى نفسه في قصور وأنه ملك، فإذا أفاق وجد نفسه مع الغنم.
والخورنق والسدير قصران للنعمان بن المنذر في الحيرة.
ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً لا ينهنهنا اللقاء فالمسكر ما أذهب العقل دون الحواس مع نشوة وطرب.
والمخدر هو ما أذهب العقل دون الحواس لا مع نشوة وطرب، فالرجل السكران بالخمر تجده في نشوة وطرب أما الذي أخذ المخدر فإنك تجده ساكناً هادئاً تقول له: السلام عليكم، فيقول: هاه.
والمسلمون كانوا يشربون الخمر، فالله عز وجل بحكمته ورحمته ما حرمه عليهم مرة واحدة، وإنما حرمها على أربع مراحل: المرحلة الأولى: قول ربنا سبحانه: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67] ما دام أن الناس اتخذوا سكراً ورزقاً حسناً، فمعناه أن السكر ليس رزقاً حسناً.
وقال عمر: اللهم أنزل لنا في الخمر بياناً شافياً، فجاءت المرحلة الثانية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] فقال عمر: اللهم أنزل لنا في الخمر بياناً شافياً.
فجاءت المرحلة الثالثة: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43].
فبعض المسلمين قالوا: لا خير في شيء يشغل عن الصلاة، لكن بعضهم ما زال يشرب الخمر، فجاءت المرحلة الرابعة: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90].
وقد لعن الله في الخمر عشرة: شاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، وآكل ثمنها، وعاصرها، ومعتصرها، كل من أحاط بالخمر فإنه ملعون، نسأل الله العافية.(16/8)
الأسئلة(16/9)
حصول الأجر بالنية الصادقة بلا عمل
السؤال
لي نية في الاعتكاف ولكن ظروفي لا تسمح، فهل يندرج هذا تحت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (تركنا أقواماً بالمدينة ما قطعنا وادياً إلا كانوا معنا حبسهم العذر)؟
الجواب
أولاً: قال ربنا سبحانه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100].
ثانياً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثلما كان يعمل مقيماً صحيحاً).
ثالثاً: في غزوة تبوك قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: (إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً، إلا شاركوكم في الأجر، حبسهم العذر) من هنا أخذ العلماء قاعدة: كل من نوى عملاً صالحاً حيل بينه وبين ما يشتهي يكتب الله له أجره.
فأنت تحب الصيام وتصوم فإذا قدر الله عز وجل عليك مرضاً منعك من الصيام، فإن الله يكتب لك أجر الصائم.
أنت تصلي الفرض في جماعة، فتصلي صلواتك الخمس في المسجد، فإذا قدر الله عليك ملاريا، وجلست أسبوعاً لا تخرج من البيت يكتب الله لك أجر الجماعة، مع أنك تصلي إلى جوار سريرك، لماذا؟ لأن الله لا يعاملنا بالعدل وحده، وإنما يعاملنا بالعدل والفضل، ولذلك يوم القيامة تكون الحسنة بعشر إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، والسيئة واحدة.(16/10)
حكم الشرع في اتخاذ الطيور للزينة وحبسها
السؤال
ما حكم الشرع في اتخاذ الطيور للزينة وحبسها، مع العلم أنه يهيأ لها المكان، ويوفر لها الطعام والشراب؟
الجواب
من اتخذ طيوراً فأطعمها وسقاها، وكنها من الحر والقر فلا حرج عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض) معناه: لو حصل أحد الأمرين فقد انتفى الحرج، لو أنك أطعمتها فقد خرجت من الحرج، ولو تركتها تأكل من خشاش الأرض فقد انتفى الحرج، أما أن تحبسها في قفص، ثم لا تطعمها ولا تسقيها حتى تموت، فأنت عاصٍ والجزاء من جنس العمل، من عذب خلق الله عذبه الله.(16/11)
جواز الاعتكاف في أي مسجد
السؤال
قال تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] هل يدل هذا على جواز الاعتكاف في أي مسجد غير المساجد الثلاثة؟
الجواب
الذي عليه جمهور العلماء أن الاعتكاف يجوز في أي مسجد، اللهم إلا إذا كان الاعتكاف في العشر الأواخر فلا بد أن يكون مسجداً جامعاً؛ لئلا تضطر للخروج إلى الجمعة؛ لأنك لو خرجت بطل اعتكافك.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) فهذا يحمل على الاعتكاف الكامل، يعني: ذو الأجر الكبير، ولا شك أنه لا مقارنة بين اعتكاف في مسجد ما وبين اعتكاف في المسجد الحرام أو المسجد النبوي.(16/12)
عدم جواز الخروج من المعتكف إلا لضرورة
السؤال
أنوي الاعتكاف -إن شاء الله- ولكن لدي معاينة في أحد أيام الاعتكاف، فهل هذه ضرورة أقطع لها الاعتكاف أم أنه يبطل وينقص الأجر؟ ومتى يبدأ الاعتكاف في هذا المسجد؟
الجواب
الاعتكاف ليس فيه شيء نظامي يبدأ يوم كذا وينتهي يوم كذا، من شاء أن يعتكف من أول رمضان فبيت الله يسع الجميع، لكن الاعتكاف يكون في العشر الأواخر، وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدخل في اليوم العشرين قبل غروب شمسه؛ من أجل أن يدرك أول ليالي الوتر، التي هي ليلة إحدى وعشرين، وما كان يخرج صلى الله عليه وسلم إلا إلى مصلى العيد.
أما الخروج من المعتكف لغير ضرورة فإنه يبطل الاعتكاف، ولذلك لا تترك المعاينة إن شاء الله، واخرج ثم تعال واستأنف وجدد النية، وابدأ اعتكافاً من جديد، وليس هناك شيء يضيع الاعتكاف الأول، وسوف تجده في الميزان، والذي اعتكفته آخراً سوف تجده في الميزان.(16/13)
حكم البنج
السؤال
هل البنج من المخدرات المحرمة؟
الجواب
البنج من المخدرات بلا شك، فهو مسكر ويذهب العقل، بدليل أن الإنسان في العميلة الجراحية يستعمل معه المشرط، وتغرز فيه الحقن ولا يشعر، لكن هذا من باب الضرورة العلاجية، بشرط أن تكون الجراحة نفسها مباحة، وإلا لو كانت الجراحة محرمة مثل جراحة تغيير الجلد، أو من لا يعجبه أنه رجل، ويريد أن يصبح امرأة -والعياذ بالله- وامرأة لا يعجبها أنها امرأة، فتريد أن تكون رجلاً، فهذه جراحة محرمة، ومثل ذلك جراحة التجميل التحسينية، كمن يرى أنفه كبيرة، وقالوا له: هناك دكتور يمكن أن يصغرها، فهذه محرمة؛ لأنها داخلة في قوله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119]، فإذا كانت الجراحة محرمة، فإن التخدير محرم.(16/14)
استخدام الموبايل أثناء الاعتكاف
السؤال
هل يجوز للمعتكف استخدام الموبايل أثناء فترة الاعتكاف؟
الجواب
إذا كان يستخدم الموبايل في خير، فهو خير، وإذا كان يستخدم الموبايل لكي يسأل عن أولاده، فلا مانع، صفية رضي الله عنها كانت تأتي وتزور الرسول صلى الله عليه وسلم في المعتكف، وعائشة رضي الله عنها كان يدخل النبي عليه الصلاة والسلام لها رأسه فترجله وهو في معتكفه، وهي حائض رضي الله عنها.
فالموبايل قد تسخدمه في شيء واجب أو مباح بقدر معلوم، لكن من يلعب به، أو يدير أعماله من خلاله، فالأفضل في حقه ألا يعتكف؛ لئلا يؤذي الناس، وبعض الناس يعتكفون ليقضوا أياماً طيبة، فيها الفرفشة، فهذا لا يصلح.
الاعتكاف معناه: أن تحبس نفسك في بيت الله على عمل مخصوص، ذكر، قرآن، دعاء، استغفار، صلاة ونحو ذلك، ولذلك سن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم الخباء، بأن يصنع الرجل له حاجزاً من أجل ألا يشتغل بالناس، ولا هم يشتغلون به.(16/15)
حكم القنوت في الصلاة
السؤال
ما حكم القنوت في الصلاة؟
الجواب
القنوت مسألة خلافية بين الأئمة الأربعة، فالناس على مذهب إمامهم، إن قنت وجب عليهم أن يقنتوا معه، وإن لم يقنت فلا يقنتوا.(16/16)
معنى دعاء (اللهم احفظ قلوبنا من النفاق)
السؤال
ماذا يعني الدعاء القائل: اللهم احفظ قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء، وأعيننا من الخيانة؟
الجواب
يقول ابن أبي مليكة رحمه الله: أدركت ثلاثين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق، ولذلك الإنسان العاقل دائماً يدعو الله أن يطهر قلبه من النفاق، وأعماله من الرياء فالرياء يسري إليها، والرياء لا يكاد يسلم منه أحد، حتى الصديق رضي الله عنه سيد هذه الأمة جاء يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم فعلمه دعاء يدعو به.
وأعيننا من الخيانة، العين تخون، يعني: يا رب احفظ بصري من أن تكون له خائنة، وخائنة الأعين هي: أن الإنسان إذا كان بين الناس غض بصره، وإذا لم يكن معهم تتبع المرأة ببصره، ويعاين مرة ثانية إذا تأكد من أنه لا يوجد رجل يراه؛ لأنه يتظاهر بالورع، فهذه خائنة الأعين.
وبعض الناس يلبس نظارات سوداء يشاهد من خلالها المحرمات، والناس لا يعرفون؛ لأن الرأس في ناحية، والنظر في ناحية.
ومن الأدعية أيضاً: اللهم سلمنا وسلم ديننا! اللهم سلمنا! أي: سلمنا من سائر الشرور والآفات.
وسلم ديننا: سلم ديننا من كل نقص، وسلب، وطعن.
ولا تسلب وقت النزع إيماننا، أي يا رب! في وقت نزع الروح توفنا ونحن مؤمنون.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة: (اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفاه على الإيمان).(16/17)
مدة بقاء موسى في مدين
السؤال
كم بقى موسى في مدين:
الجواب
{ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} [القصص:27] على أن تعمل أجيراً عندي ثماني حجج، {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27].
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (سألت جبر أين الأجلين قضاهما موسى؟ فقال: أتمهما وأوفاهما) يعني: موسى رجل كريم، يقابل الكرم بالكرم، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فعمل عند العبد الصالح عشر سنين.(16/18)
لباب النقول في أسباب النزول [11]
إن المرأة كانت قبل الإسلام تعيش حالة من البؤس والشقاء والإذلال والمهانة، إلى أن سطع نور الإسلام وأنبلج فأعاد للمرأة إنسانيتها التي سُلبت منها، فشرع لها أحكاماً تحفظ لها كرامتها، ومن جملة هذه الأحكام: أن أجاز للرجل معاشرة ومخالطة زوجته أثناء الحيض دون جماع، وكذلك حرم الإسلام أن يأخذ الزوج من زوجته شيئاً من صداقها إذا طلقها، بل أوجب عليه أن يسرحها سراحاً جميلاً، وجعل الطلاق مرتين لئلا تصير المرأة معلقة في يد زوجها متى شاء طلقها ومتى شاء راجعها.(17/1)
سبب نزول قوله تعالى: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير)
الآية العشرون بعد المائتين: قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:220].
أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، فجعل يفصل له شيئاً من طعامه فيحبسه له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة:220].
ومعنى كلام ابن عباس رضي الله عنهما: أنه لما نزلت الآيات التي تحذر من أكل مال اليتيم والتعرض لماله بغير التي هي أحسن أثرت هذه الآيات في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، فأي شخص من الصحابة كان عنده يتيم انطلق فعزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه؛ حذراً من هذه الآية، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة:220].
وهذا معلوم حتى من ناحية التربية، فلو كان عندي يتيم في البيت فعزلت له طعامه بعيداً عن طعام الأهل والعيال فهذا يؤثر عليه تأثيراً سلبياً؛ ولذلك أرشدنا الله عز وجل إلى مخالطتهم فقال: ((وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ)) وبين ربنا أن الأعمال بالنيات فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] أي: أن الله يعلم من الذي يريد أن يأكل مال اليتيم ومن الذي لا يريد ذلك، وهذا نظيره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).(17/2)
سبب نزول قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن)
الآية الحادية والعشرون بعد المائتين: قول الله عز وجل: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221].
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقاتل بن سليمان قال: نزلت هذه الآية في مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه عندما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عناق أن يتزوجها، وكانت ذات حظ وجمال فنزلت: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221]، ومرثد بن أبي مرثد هو من المهاجرين الأولين، وكانت لديه علاقة في الجاهلية بامرأة اسمها عناق، فلقيت عناق مرثداً فدعته إلى نفسها فأبى وقال لها: قد حرم الله الزنا، فقالت له: تزوجني فقال: لا أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء واستأذن نزلت هذه الآية التي يبين الله فيها أن نكاح المشركة حرام أياً كان شركها سواء كانت ملحدة لا تؤمن بالله أصلاً، أو كانت ذات دين باطل كالبوذية، والمجوسية، والهندوسية، والزرادشتية، والشيوعية ونحو ذلك، فهذه المرأة لا يجوز نكاحها، وما استثنى ربنا من أهل الأديان الباطلة إلا اليهوديات والنصرانيات بشرط العفة، فقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] المحصنات يعني: العفيفات، فالنصرانية أو اليهودية لو كانت زانية كما هو حال أكثرهن في زماننا هذا لا يجوز التزوج بها.(17/3)
سبب نزول قوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض)
الآية الثانية والعشرون بعد المائتين قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222].
روى مسلم والترمذي عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت -ومعنى يجامعوها في البيوت أي: يساكنوها- فسأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) فاليهود كانوا أصحاب السيطرة الثقافية والتوجيه الفكري في المدينة، وكان الأوس والخزرج أهل أوثان، فكانوا إذا اختلفوا في شيء رجعوا إلى اليهود بوصفهم أهل العلم بالكتاب الأول، ومما عرفوه من ثقافة اليهود أن المرأة إذا حاضت اعتزلوها تماماً فلم يؤاكلوها، يعني لا يقعدوا معها في سفرة واحدة، ولا يضاجعونها، أي: أن اليهودي لا ينام مع المرأة الحائض في فراش واحد، ولا يجامعوها في البيوت، حتى الغرفة التي هي فيها لا يقعد معها فيها، فأنزل الله عز وجل هذه الآية فقال: ((فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ))، وفسر الرسول صلى الله عليه وسلم الاعتزال بقوله: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يعامل المرأة التي تكون حائضاً معاملة عادية، كما قالت أمنا عائشة: (كان يكون علي الحيض فيأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتزر فيباشرني وأنا حائض).
وكذلك كان يضع رأسه في حجر عائشة فيرتل القرآن وهي حائض، فتكون عائشة رضي الله عنها حائضاً والرسول عليه الصلاة والسلام يضع رأسه في حجرها ويرتل القرآن.
فيا عبد الله! إذا حاضت الزوجة فممنوع عليك الجماع في الفرج فقط، أما ما كان دون ذلك فلا إشكال.(17/4)
سبب نزول قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم)
الآية الثالثة والعشرون بعد المائتين: قول الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223].
روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فأنزل الله عز وجل هذه الآية يبيح فيها للمسلم أن يأتي أهله من أي مكان طالما أن الجماع في محل الحرث أي: محل زراعة الولد، سواء جاء من أمام أو من الخلف، وسواءً كانت قائمة أو باركة أو راكعة أو ساجدة على كل الأحوال.(17/5)
سبب نزول قوله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم)
الآية الرابعة والعشرون بعد المائتين: قول الله عز وجل: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224] هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق في شأن مسطح بن أثاثة، وهذا الرجل كان ابن خالة أبي بكر يعني من أرحامه، ولما تكلم عبد الله بن سلول في عرض أمنا عائشة واتهمها بـ صفوان بن المعطل رضوان الله عليهما، كان مسطح من الذين خاضوا في حديث الإفك، فلما أنزل الله براءة أمنا من السماء غضب أبو بكر وقال: والله! لا أنفعه بخير ما حييت، فبعدما كان يتصدق عليه أقسم بالله ألا يعطيه شيئاً، فأنزل الله عز وجل هذه الآية ينهى المسلم عن المسارعة إلى اليمين إلى الحلف.
ومثلها قول الله عز وجل: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:22] أي: لا يحلف، فالألية القسم، ومنه قول القائل: قليل الألايا حافظ ليمينه وإن بدرت منه الألية برت قال الله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] فـ أبو بكر رضي الله عنه رجع عن يمينه وأخذ يعطي مسطحاً ضعف ما كان يعطيه؛ لأن الله عز وجل ختم الآية بقوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى إني لأحب أن يغفر الله لي.(17/6)
سبب نزول قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)
الآية الثامنة والعشرون بعد المائتين: قول الله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] قال أبو داود: هذه الآية نزلت في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية رضي الله عنها قالت: (طلقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل الله العدة للطلاق: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]).
(المطلقات): جمع مطلقة، والمطلقة هي التي طلقها زوجها، طلقها بلفظة تدل على نقض عقد التزويج إما أنه تلفظ أو قال لها: أنت طالق أو مطلقة أو نحو ذلك، أو استعمل الكنايات فقال لها: حبلك على غاربك، أو قال لها: أنت حرة، أو قال لها: اذهبي إلى بيت أبيك، أو قال لها: الذي بيني وبينك انتهى، فهذه كلها كنايات، وهذه المطلقة عليها عدة، والمفروض أنها لا تذهب إلى بيت أبيها إلا بعدما تقضي ثلاثة أطهار، والقرء هو: الطهر، فتمكث في بيت الزوجية مع زوجها الذي طلقها، وتتزين له لعل الله أن يحدث بعد ذلك أمراً.(17/7)
سبب نزول قوله تعالى: (الطلاق مرتان)
الآية التاسعة والعشرون بعد المائتين: قول الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229].
أخرج الترمذي والحاكم وغيرهما عن عائشة قالت: (كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة وأكثر) يعني: في الجاهلية ما كان هناك حد للطلاق، فهو يطلقها وهي في العدة ثم يرجعها، وبعد فترة يطلقها وهكذا، ولو طلقها مائة مرة أو أكثر، قالت: (حتى كان رجل قال لامرأته: والله! لا أطلقك فتبيني مني ولا آويك أبداً) قال لها: أنا لن أطلقك ولن أدعك زوجة، سأجعلك معلقة (قالت له: كيف ذلك؟ قال لها: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229]) أي: أنه قال لها: كل مرة سأطلقك إلى قبل نهاية عدتك بقليل فأراجعك، فمثلاً: غداً أطلقك ثم تعتدي ثلاثة قروء وقبل نهاية عدتك أراجعك، وهكذا تبقين معلقة، فالمرأة رضي الله عنها ما صبرت على هذا الظلم، وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} يعني لا يستطيع -حتى ولو كانت نيته نية سوء- أن يعلقها إلا مرتين وهي تقريباً ثلاثة أشهر ثم بعد ذلك يصبح أمرها بيدها، ((فَإِنْ طَلَّقَهَا)) يعني: للمرة الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230].(17/8)
سبب نزول قوله تعالى (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً)
وفي نفس الآية قال الله عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة:229].
قال ابن عباس: كان الرجل يأكل مال امرأته من نحلته التي نحلها، لا يرى أن عليه جناحاً، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقيل كما في رواية ابن جرير عن عبد الملك بن جريج: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وزوجته حبيبة فقد شكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم.
فدعاه فذكر له ذلك، قال: وتطيب لي بذلك -يا رسول الله- قال: نعم، قال: ففعلت).
ومعنى الكلام: أن الرجل في الجاهلية كان يتزوج المرأة ويعيش معها سنة أو سنتين أو خمساً وبعد ذلك يزهد فيها ولكنه لا يريد أن يطلقها مجاناً، فيبدأ يضيق عليها، ويعبس في وجهها، ويغلظ القول لها، فإذا قالت له: طلقني، قال لها: ردي علي ما دفعت! وهو ما يفعله الظالمون في هذا الزمان، وهذا حرام.
فإن أردت أن تطلق زوجتك فلا يحل لك أن تأخذ مما آتيتها شيئاً، بل الواجب أن تعطيها؛ لأن الله عز وجل قال: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ} [الأحزاب:49] متعوهن يعني: عندما تزوجتها اشتريت لها ملابس وذهباً وعطوراً، فعندما تطلقها اشتر لها أيضاً، قال الله عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241].
وخاطب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28].
قال الله عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229] يعني: لو كان النشوز من قبل المرأة وكرهت زوجها، فإذا سئلت: هل الرجل فيه عيب في دينه؟ قالت: لا.
وهل هذا الرجل أخلاقه صعبة؟ فأجابت: لا.
وهل يسيء إليك؟ فإذا قالت: لا.
وهل يقصر في النفقة؟ فإذا قالت: لا.
فإذاً: لم تريدين الطلاق؟ فأجابت: كرهته، لماذا كرهتيه؟ قالت -مثلاً-: كرشه كبير، أو قالت: هو قصير، أو قالت: هو طويل، فهذا كله من صنع الله عز وجل ومن تقديره، ففي هذه الحالة نقول لها: ردي ما دفع لك، كما فعلت حبيبة بنت سهل رضي الله عنها فقد (جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت له: يا رسول الله! زوجي -وهو ثابت بن قيس - ما أعيب عليه خلقاً ولا ديناً ولكن لا يجمعني وإياه سقف واحد -أنا لا أعيش معه-، قال لها: ولم؟ قالت له: نظرت من كوة في الجدار -يعني: من الشباك- وهو مقبل مع جماعة فإذا هو أقصرهم قامة وأسودهم وجهاً!).
فالرسول صلى الله عليه وسلم ما قال لها: لا تقعدي معه، وإنما استدعى زوجها وقال له: (طلقها -أي: طلق المرأة التي لا تريدك- قال: يا رسول الله! أصدقتها حديقة -المهر كان حديقة بستان-، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لزوجته: أتردين عليه الحديقة؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته، فقال عليه الصلاة والسلام: أما الزيادة فلا، فقال لـ ثابت: طلقها تطليقة، وقال للمرأة: ردي عليه الحديقة.
فقال ثابت: وتطيب لي بذلك يا رسول الله؟! -يعني: الحديقة هذه تكون طيبة لي حلالاً؟ - قال صلى الله عليه وسلم: نعم).
فهذا يكون في حالة الكراهية من الزوجة لزوجها، أما إذا كنت أنت الذي كرهتها فاتق الله عز وجل وطلقها ومتعها كما قال الله: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49]، ولذلك ما زال الصالحون من عباد الله الواحد منهم إذا زهد في صحبة المرأة فإنه يطلقها ثم يزودها بعد انقضاء عدتها بكل ما تحتاج إليه من ثياب ومتاع وأثاث، وبعض الصالحين يخيرها ويقول لها: خذي كل ما تريدينه من البيت من أثاث ومن غيره، ثم يحملها معززة مكرمة إلى بيت أهلها، فلا يشتم ولا يسيء ولا يطلع الناس على عيوبها.(17/9)
الأسئلة(17/10)
بيان ما يجب على من قتل خطأ
السؤال
في حالة القتل الخطأ وبعد دفع الدية هل يترتب على القاتل صيام؟
الجواب
نعم، القتل الخطأ فيه حقان: حق لأولياء الدم، وحق لله، حق أولياء الدم: الدية، فإن عفوا فجزاهم الله خيراً، ويبقى حق الله، وتكون الكفارة بعتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله.(17/11)
حكم بيع الطعام في نهار رمضان لغير المسلمين
السؤال
امرأة مسلمة تبيع الطعام لمجموعة من النصارى يعملون في إحدى الأسواق الصغيرة في وضح نهار رمضان المبارك، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
لا يجوز بيع الطعام في نهار رمضان لمسلم ولا لكافر يريد أن يأكل في نهار رمضان؛ لعموم قول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
والذي عليه جمهور العلماء أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، يعني: أن الكافر يوم القيامة سيحاسب على كفره بالله وكفره بالرسل، ثم بعد ذلك يحاسب على الصلاة، ويحاسب على الصيام، ويحاسب على الحج، وكل فروع الشريعة في العبادات وفي المعاملات وفي الأخلاق؛ ولذلك هذا لا يجوز.
وقد يقول بعض الناس: أنا عندي رجل شغال في البيت وهو غير مسلم هل أعطيه أكلاً؟ ف
الجواب
لا تعطه، ولا تجبره على الصيام لأنه لا إكراه في الدين، لكن لا أعينه على كفره بالله عز وجل.(17/12)
حكم تكرار العمرة من التنعيم
السؤال
من ذهب للعمرة في رمضان وجلس في مكة واعتمر أكثر من مرة؛ لأنه يقول: إن هذه فرصة وربما لا أعود لهذه الرحاب المباركة، وكان يذهب للتنعيم ويحرم منها، فهل عمرته صحيحة؟ وهل إحرامه من التنعيم صحيح؟
الجواب
عمرته صحيحة وإحرامه صحيح، وقد فعلت ذلك أمنا عائشة رضي الله عنها، فبعدما فرغت من الحج قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أيرجع صويحباتي بحجة وعمرة وأرجع بحجة؟! فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر بأن يصحبها إلى الحل، أي أنه: ليس ضرورياً من التنعيم، بل من أي مكان مثل: جدة أو الطائف، فإذا ذهب إلى أي مكان خارج حدود الحرم، فليحرم من هناك ويأتي بعمرة من الحل.(17/13)
حكم من جعل سداد دينه جزءاً من زكاته
السؤال
لي دين على أحد الأقارب تعثر في سداده لأكثر من عام، فهل يمكن أن أتركه له وأخصمه من زكاة أموالي لهذا العام؟
الجواب
لا يجوز أن تفدي الدين الذي لك بالزكاة، وهذا باتفاق أهل العلم، فأنا دينت فلاناً من الناس مليون ريال ثم بعد ذلك ما استطاع السداد، فلما حال الحول كانت زكاتي عشرة مليون، فهل أقول: المليون هذا نعتبره من الزكاة؟ هذا لا يجوز.(17/14)
حكم زكاة الأرض
السؤال
ما حكم زكاة الأرض؟
الجواب
الأرض إذا اشتريتها من أجل أن تبني عليها سكناً لك ولأسرتك فليس فيها زكاة، أما من اشتراها بغرض الاستثمار فإنه إذا باعها يخرج زكاتها لحول واحد.(17/15)
حكم من قال إنك تجعلنا نكفر
السؤال
بعد الإفطار تناقشت مع أخي الأصغر في خطأ فعله، وأغضبني فقلت له: إنك تجعلنا نكفر في رمضان، فما هو الحكم في هذا؟
الجواب
والله! أنا لا أدري ماذا تقصد بهذه الكلمة، لعلك تقصد بالكفر: المعصية، يعني: تجعلنا نعصي ربنا، والشريعة سمت بعض المعاصي كفراً، كقوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
فإذا كنت تقصد: أنك تجعلنا نعصي الله ونضيع ثواب صيامنا فلا شيء عليك في ذلك، وكذلك إذا كنت تقصد كفر النعمة فلا شيء عليك في ذلك.(17/16)
حكم من أكل أو شرب بعد الأذان الثاني لصلاة الفجر معتقداً أنه الأول
السؤال
استيقظت في الأذان الثاني للفجر ولكني سمعت أذاناً واحداً فظننت أنه أذن قبل المساجد الأخرى، فشربت وانتظرت لتؤذن المساجد الأخرى، ولكنها أقيمت الصلاة، واتضح لي أن الأذان الذي سمعته كان آخر مؤذن، فهل أفطرت عمداً، وما كفارة يومي هذا؟
الجواب
يا أخي! أنت لديك ساعة، فالأذان يكون -مثلاً- الساعة: الخامسة وسبع وعشرون دقيقة، يعني: في ذلك الوقت يجب عليك الإمساك ولو لم تسمع أذاناً، فلو فرضنا أن كل المؤذنين ناموا فيجب عليك أن تمسك، فالذي يظهر -والعلم عند الله تعالى- أن عليك القضاء مكان ذلك اليوم؛ لأنك تأولت تأويلاً ليس بذاك، وليس عليك إلا القضاء.(17/17)
حكم المضاربة أو القراض
السؤال
نحن نساء في الحي نتعامل مع امرأة ونعطيها ذهباً قديماً والمعروف أن قيمته المادية تقل عن الذهب الجديد، ثم تستثمره وترد لنا بعد فترة مالاً بسعر الذهب الجديد، وأحياناً أعطيها مبلغاً من المال ثم ترده لنا بفائدة بعد فترة أي بالزيادة باعتبار أنه ربح، فما حكم هذا التعامل؟
الجواب
هذه المعاملة تعتبر مضاربة وتسمى قراضاً، بمعنى: أني أدفع مالاً لإنسان يشتغل به، بعد ذلك نقتسم الربح بيننا، لكن المفروض ألا أشترط عليها أنه لابد أن تزيد ربحاً محدداً، فالله أعلم، قد تربح وقد تخسر، فإذا كان فيه اشتراط فهذه مضاربة فاسدة، بل هذا هو الربا بعينه الذي حرمه الله عز وجل، أما إذا كان الذهب القديم تتجر فيه ثم بعد ذلك ما يقسم الله من ربح يكون بينكما حسب ما تتفقان عليه فلا حرج في ذلك إن شاء الله.
فإذا لم يكن هناك ربا فلا حرج أن نعطيها المال ونقول لها: اتجري به والربح بيننا بالسوية، النصف بالنصف، أو الثلث والثلثين أو العكس، وإذا لم نعرف كم الربح فلا حرج، أما أن نعطيها مليوناً ونقول لها: بشرط بعد شهرين نجعل على مليون ومائتين ألف فهذا هو الربا بعينه، والله تعالى أعلم.(17/18)
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد
لقد اشتملت سورة الأعلى والغاشية والفجر والبلد على فوائد جمةٍ، ومعانٍ عظيمةٍ، ولفتاتٍ قيمةٍ، وهي من السور المكية التي يغلب عليها طابع الإعجاز والتحدي، والتذكير بالآخرة، ولفت أذهان ذوي الألباب إلى مشاهدة دلائل التوحيد والربوبية الموجودة في الخلق وفي النفس البشرية، ولفت أنظارهم كذلك إلى ما أعده الله لأوليائه، وما توعد به أعدائه، فالله تعالى ما ترك لنا شيئاً خيَّراً إلا وأرشدنا إليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه، فلنعظم الله بالتوحيد، ولنسبحه بالتقديس والتمجيد، فالله مولانا وهو خير الناصرين.(18/1)
تفسير سورة الأعلى(18/2)
فضل سورة الأعلى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم من المقبولين.
سورة الأعلى هي السورة التي نقرأ بها في صلاة الوتر في كل ليلة، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه: (هلا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى).
وثبت في مسند الإمام أحمد من حديث أم المؤمنين عائشة، وأبي بن كعب، وعبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنهم أجمعين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)، زادت أمنا عائشة رضي الله عنها: (وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس).
وثبت في مسند أحمد من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية في صلاة العيد، وفي صلاة الجمعة).
وقد اشتملت هذه السورة المباركة على تسع عشرة آية، وثمان وسبعين كلمة، وإحدى وسبعين ومائتي حرف، بمعنى: أن من قرأ هذه السورة فإن له من الحسنات ألفان وسبعمائة وعشر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة لأنها اشتملت على بشارتين: البشارة الأولى: قول الله عز وجل: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] أي: نيسرك لكل سبيل خير في الأقوال والأعمال.
والبشارة الثانية: قول الله عز وجل: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6]، فبشره الله عز وجل بأن القرآن محفوظ لا يحتاج منه إلى جهد صلوات الله وسلامه عليه، كما قال في الآية الأخرى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:17 - 18].(18/3)
معنى قوله سبحانه: سبح اسم ربك الأعلى
وهذه السورة افتتحت بالأمر: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، أي: نزه اسم ربك إذا كان مختصاً به جل جلاله، وقد أجمع أهل العلم على أن هناك اسمين عظيمين لا يطلقان إلا على رب العزة جل جلاله: الله والرحمن، قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110]، ولذلك لا يوصف أحد من خلق الله بواحد من هذين، فلا يقال عن أحد: إنه الله، أو الرحمن، ويمكن أن يقال: الرحيم، كما قال الله عز وجل: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، أو: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] في حق نبينا صلى الله عليه وسلم.
فنزه اسم الله عز وجل عن أن تطلقه على غيره إذا كان مختصاً به، نزه اسم الله عز وجل أن تؤله غيره، نزه اسم الله عز وجل من أن تعتقد أن غيره يتصف به على سبيل الكمال، بأن تقول: فلان رازقي، أو أنا توكلت على فلان.
فهذا كله ممنوع يخالف التنزيه الوارد، ونزه اسم الله عز وجل من أن يطرح على الأرض، أو يلقى في المزابل.
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، أي: الأعلى مكاناً جل جلاله، فهو سبحانه مستو على عرشه، بائن من خلقه، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، تعرج الملائكة إليه، ويتنزل الأمر من عنده سبحانه وتعالى، فهو سبحانه الأعلى مكاناً، والأعلى مكانة: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى:4]، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19 - 20] فهو سبحانه أعلى ذاتاً ومكانة.(18/4)
لماذا نسبح الله تعالى؟
قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، يا ربنا! لم نسبحك؟ ذكر سبحانه الحيثيات والأسباب لذلك: أول سبب: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2]، فقد استدل سبحانه بخلقه على جلاله وقدرته سبحانه وتعالى.
وهذا سبيل الأنبياء كما قال الرازي رحمه الله، فطريقة أكابر الأنبياء: الاستدلال بالخلق على الله، كما قال إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:77 - 80]، وكما قال موسى عليه السلام لما سأله فرعون عن رب العالمين جل جلاله، فقال له موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، وهذه هي صفته سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}، سوى بين الخلائق في الإحكام والإتقان، فكما أن خلقة السماء محكمة متقنة متينة كذلك فإن أدنى حشرة من الحشرات محكمة.
والسبب الثاني: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3].
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]، فقد هدى بني آدم لما ينفعهم {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وهدى البهائم لمراتعها، فحتى البهائم والطيور تعرف ما ينفعها مما يضرها {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
والسبب الثالث: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى:4].
وهو الحشائش الرطبة التي ترعى فيها البهائم فتسمن وتبدن ويدر ضرعها بإذن ربها، {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى:5]، فبعد أن كان هذا المرعى رطباً طيباً يؤكل صار غثاء يابساً هشيماً يحمله السيل بزبده، وأحوى: أي أسود بعدما كان أخضر يانعاً خضرته تسر الناظرين.(18/5)
إثبات النسخ في الأحكام
ثم وجه ربنا جل جلاله الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6]، وهذا القرآن محفوظ بحفظ الله عز وجل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وعاء حافظ، فجبريل ينزل بالوحي والنبي عليه الصلاة والسلام لا يحتاج إلى أن يردد ولا أن يعيد، وإنما يحصل الحفظ تلقائياً ومن ثم البلاغ.
{إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:7] إلا ما شاء الله أن ينسيك إياه لكونه منسوخاً، يعني: -ولله المثل الأعلى- كما أن الطبيب يكتب للمريض دواء، ثم بعد حين تقتضي حالة المريض تغيير الدواء، كذلك ربنا جل جلاله يغير في الأحكام، فعلى زمن التشريع كانت تتغير الأحكام، فبعدما كان الواجب هو صيام عاشوراء فقط، نسخ صيام هذا اليوم بصيام شهر كامل هو شهر رمضان، وبعدما كان صيام رمضان على التخيير من شاء صام ومن شاء أطعم صار واجباً {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، ولو كان غنياً، ولو أطعم ألف مسكين، بل ألف ألف مسكين لا يسقط عنه الصيام.(18/6)
إحاطة علمه سبحانه بالسر والعلانية
قال تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:7]، فالله جل جلاله يعلم ما نجهر به وما نعلن، وما نخفيه ونضمره، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
لذلك كان بعض الناس يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده سؤال فيقول: يا رسول الله! إني سائلك، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (سل، وإن شئت أخبرتك قبل أن تسأل) فمن أين عرف عليه الصلاة والسلام؟ من الله سبحانه وتعالى.
كذلك الحارث بن أبي ضرار رضي الله عنه سيد بني المصطلق: فقد جاء يوماً في فداء ابنته جويرية بإبل كثيرة، ولما وصل على مشارف المدينة أعجبه بعيرين، فغيبهما في شعب من الشعاب، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! جئتك في فداء ابنتي، وهذه الإبل كلها في فدائها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (دع عنك هذا وأخبرني عن البعيرين اللذين غيبتهما في ذلك الشعب ما خبرهما؟! فقال الرجل: والله ما أعلمك إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله).
فالله عز وجل يعلم السر وما كان أخفى من السر، والسر: هو ما يكون بينك وبين فلان، والأخفى من السر: هو ما أضمرته في نفسك ولم تحدث به أحداً قط.
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8]، أي: الشريعة السمحة السهلة الميسرة في أحكامها، الميسرة في فهمها وأداء أركانها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمح الناس وأيسرهم، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما عليه الصلاة السلام، ودينه اليسر: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].(18/7)
مكانة الذكرى في قلوب المتقين
قال الله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9].
وهذا كقوله سبحانه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45].
قال أهل العلم: يؤخذ من هذا أدب: أن العلم لا يوضع عند من لا يوقره ولا يحترمه، وإنما يبذل العلم لمن ينتفع به: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9].
قال الله عز وجل: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10] كما قال: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس:70]، فمن يخشى الله عز وجل ويتقيه هو الذي ينتفع بهذا القرآن.
أما الفاجر والمنافق والشقي فإن القرآن ظلمات عليه.
{وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى:11]، نزلت في الوليد بن المغيرة الذي كان يسمع القرآن، ويقول: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر، ثم قال بعد ذلك: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24]، فهذا هو الأشقى.
{الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:12]، الذي سيعاني حرها، ويصلى سعيرها.
{ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13]، نسأل الله العافية، فهو في النار لا ميتاً فينسى، ولا حياً فيرجع، قال الله عز وجل: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17]، وليته مات، {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، يطلبون من الله أن يميتهم وأن يهلكهم لكن لا يستجاب لهم، وهكذا {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56]، {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97].
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]، نال الفلاح من زكى نفسه بالطاعة والعبادة والذكر وقراءة القرآن والدعاء.
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] قالوا: المقصود بالزكاة زكاة الفطر، فهو يزكى ثم يصلى بعدها صلاة العيد، وذكر اسم ربه بالتكبير فصلى.(18/8)
شقاء من آثر الدنيا على الآخرة
قال الله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16] وهذه هي عادة بني آدم في الأعم الأغلب، {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20 - 21]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ويجمع لها من لا عقل له).
وقال علي بن أبي طالب: (الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل يحق الحق ويبطل الباطل، فكونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها ولدها)، بل حالكم أنكم تؤثرون الحياة الدنيا، تؤثرون العاجلة، كما قال بعض الفساق: لا أبيع نقداً بنسيئة، يعني بالنقد: الدنيا، وبالنسيئة: الآخرة، أنا لا أبيع الدنيا من أجل الآخرة.
قال الحسن البصري رحمه الله: لو كانت الدنيا ذهباً يفنى، والآخرة خزفاً يبقى، لوجب على العاقل أن يؤثر الباقي على الفاني، فكيف والدنيا خزف يفنى، والآخرة ذهب يبقى؟! بالله عليكم! لو أن إنساناً يبني بيتاً ويجمله فهل يبقى على جماله؟ بل إنه يصير بعد سنة وسنتان وثلاث وعشر بالياً خرباً، لكن الآخرة ذهب يبقى، وأهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا منهم- لا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم، لا يبصقون، ولا يمرضون، ولا يمتخطون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، في نعيم الأبد هذا حالهم.
{وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17] وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه، كقول الله عز وجل: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] إذ لا مقارنة بين مقيل أهل الجنة وأهل النار لأجل أن يقال: أحسن، فأفعل التفضيل ليس على بابه.(18/9)
الأمثال والعبر هي فحوى صحف إبراهيم وموسى
قال الله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى:18]، الإشارة هنا لقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] وهذا مذكور في قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].
{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:19]، سأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما كانت صحف إبراهيم؟ قال عليه الصلاة والسلام: (كانت أمثالاً)، ومن بين أمثاله التي وردت وحكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينبغي للعاقل أن تكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو بحاجته من المطعم والمشرب، وينبغي للعاقل ألا يكون ظاعناً إلا في ثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم).
فالإنسان إما أن يسعى للآخرة، أو للدنيا، أو يتلذذ بغير محرم.
وينبغي للعاقل أن يكون مقبلاً على شانه، ممسكاً للسانه، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا في ما يعني، قال أبو ذر: يا رسول الله! فما كانت صحف موسى؟ قال: (كانت عبراً كلها، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن؟! وعجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟! وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف لا يعمل؟! وعجبت لمن أيقن بالدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟!) إنسان رأى الدنيا، ورأى تقلبها بأهلها، الصحيح يسقم، والغني يفتقر، والقوي يضعف، كيف يطمئن إلى هذه الدنيا ويخلد إليها؟! ومن السنة: قراءة سورة الأعلى مع سورة الكافرون في صلاة الوتر، ومن السنة: قراءة سورة الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة، ومن السنة: قراءتهما في صلاة العيد.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المرتفعين المعتدلين المتعظين.(18/10)
تفسير سورة الغاشية
وقد اشتملت هذه السورة المباركة على ست وعشرين آية، وضمنت اثنتين وتسعين كلمة، في ثلاثمائة وواحد وثمانين حرفاً، معنى ذلك: أن من قرأها فله من الحسنات ثلاثة آلاف وثمانمائة وعشر.
وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يقرأها مع سورة الأعلى في صلاة الجمعة، وفي صلاة العيد.(18/11)
غشيان الأهوال للناس يوم القيامة
بدأت هذه السورة بالسؤال والخطاب لرسول الله صلى الله وعليه وسلم: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] قال أهل التفسير: هل بمعنى: قد، أي: قد أتاك، كما في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان:1] أي: قد أتى، وروي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في طريق من طرقات المدينة، فسمع امرأة ترتل القرآن، فوقف يصغي، فقرأت: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] قال: نعم، قد أتاني قد أتاني) والغاشية هي القيامة، سميت بذلك لأنها تغشى الناس بأهوالها ومصائبها، كما قال الله عز وجل: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت:55] {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41].(18/12)
حال الكفار في أرض المحشر
ثم بدأ ربنا جل جلاله يصف أحوال الناس في ذلك اليوم العظيم، وأنهم ينقسمون إلى فريقين، ولكل فريق سمات وصفات وأحوال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2]، هذا حال الكفار والفجار نسأل الله السلامة، ((خَاشِعَةٌ)) أي: خاضعة ذليلة من الخزي، كما قال الله عز وجل: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [المعارج:43 - 44] فالخشوع بمعنى: الذلة والسكون والتنكيس والخضوع، وهو حال الكفار.(18/13)
حال الكفار في الدنيا
قال الله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:3]، وهي صفتان: في الدنيا والآخرة.
روى الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: هم النصارى.
وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم: هم الرهبان في الصوامع.
فربنا يصف حال هؤلاء الناس في الدنيا وأنهم كانوا في عمل متعب لكن ما النتيجة؟ يقول الحسن البصري رحمه الله: لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلاد الشام جاءه راهب شيخ رث الهيئة، وسخ الثياب، يابس الجلد، فلما رآه عمر رضي الله عنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمراً فأخطأه، ورجى رجاءاً فلم يصبه، ثم تلا هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:2 - 3]، ففي الدنيا كانت تعمل وتجتهد لكن في ضلال وكفر وبدعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يجاء بأناس من أمتي يوم القيامة فيذادون عن الحوض -يمنعون من ورود حوضه عليه الصلاة والسلام- فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم بدلوا وغيروا).
فقد كانوا في الدنيا في تعب في غير ما شرع محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك الحال في قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
وقد كان علي بن أبي طالب ينزل هذه الآية على الخوارج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقراءتكم مع قراءتهم) ومع ذلك فهم كلاب النار، مع أنهم يكثرون من الصلاة وقراءة القرآن، لكنهم يكفرون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك ليس لهم في الآخرة إلا النار.
ثم إن هذه الوجوه التي كانت في الدنيا عاملة ناصبة تعبت كذلك يوم القيامة -والعياذ بالله- يقفون حفاة عراة في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة، ثم يسحبون في النار على وجوههم، ويعانون صعود الجبال والوهاد والوديان في حر النار، كما قال الله عز وجل: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17]؛ فيكلف صعود جبل في النار، كلما بلغ قمته هوى إلى قاعه وأسفله، وهذا حاله.(18/14)
شراب الكفار في النار وطعامهم
قال الله: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:4]، وقد مر معنا قول الله عز وجل: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:12] فيصلى أي: يقاسي حرها وسعيرها.
{تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} قد اشتد حرها غيظاً وغضباً: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]؛ لأن النار غاضبة على هؤلاء الكفار والفجار: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5]؛ أي: بلغت غايتها في الحرارة، كما قال الله عز وجل: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] أي: نضجه وتمامه.
وهذه العين قد بلغت الكمال في الحر والسعير، ولو أن قطرة منها سقطت على الأرض لأذابتها، قال الله عز وجل: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16]، وقال: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29].
{لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6]، قال قتادة رحمه الله: أبشع الطعام وأخبثه وأنتنه؛ شوك ينبت في النار، وقيل: سمي ضريعاً؛ لأنهم يتضرعون إلى الله منه، ويدعون الله بألا يطعموه، وفي تفسير ابن عطية: سمي ضريعاً؛ لأنه مضرع يسبب هزالاً في الجسد، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حال ابني جعفر: (مالي أراهما ضارعين) يعني: نحيفين هزيلين.
يقول الإمام القرطبي في قول الله عز وجل: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:35 - 36]، ما عندهم طعام إلا الغسلين، وهنا يقول: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] قال: ووجه الجمع بين الآيتين: أن النار دركات -والعياذ بالله- فمن أهل النار من طعامه الغسلين، ومن أهل النار من طعامه الضريع، ومن أهل النار من طعامه الزقوم، كما أن من أهل النار من شرابه الحميم، ومن أهل النار من شرابه الصديد، قال الله عز وجل: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:44]، وهذا حالهم.
{لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7] لا يتحقق به مقصود، ولا يندفع به محذور، فليس فيه فائدة.(18/15)
حال أهل الجنة في نعيمهم
ثم انتقل ربنا إلى حال أهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا منهم- فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] ناعمة: عليها البهاء والحسن، كما قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22].
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39]، فهذه الوجوه يظهر عليها أثر النعيم.
{لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية:9] راضية عن عملها الذي كان في الدنيا، فإنه يجلس بعضهم مع بعض يستأنسون، ويقول قائلهم: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27] فقد كنا في الدنيا أهل صيام، وقيام، وصلاة، وقرآن، ودعاء، وكنا في الدنيا أهل صدقات وبر وإحسان وصلة للأرحام، وقيام بالحقوق، وهم الآن يشعرون بالرضا، كحال الطالب الذي إذا ظهرت نتيجته وبانت، وتفوق على الأقران، شعر بالرضا عن عمله وسعيه.
{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة:22] بهية رفيعة القدر، عالية المكان والمكانة.
{لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:11] ولاغية: مصدر كالعاقبة، فلا تسمع فيها قولاً شائناً، ولا إفكاً مبيناً، ولا إثماً ولا كذباً، كما قال الله عز وجل: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} [النبأ:35]، {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23]، {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]، ليس في الجنة كلام باطل، ولا ساقط.(18/16)
من أوصاف الجنة
ثم قال الله: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية:12] تجري من تحت أرجلهم في غير أخدود.
والماء الآن إذا جرى لا بد أن يجري في مكان محفوظ، إما أن يكون بحراً، أو أخدوداً، لكن الجنة تجري من تحتها الأنهار من غير أخاديد.
{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13] مرفوعة سمكها، مرفوعة قدرها، عليها الفرش الناعمة، والحور العين.
{وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية:14] أكواب، وأباريق، وأوانٍ من فضة وذهب يشربون فيها من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى، {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} [الإنسان:15 - 18]، هذا حالهم.
{وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية:14] أي: قريبة في متناول أيديهم، {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} [الغاشية:15] النمارق: جمع نمرقة، وهي: الوسائد والمرافق التي يتكئون عليها مرصوصة بنظام تسعه وتسع زواره، وإخوانه ومن يأتونه.
{وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:16] الزرابي: جمع زربية، وهي البسط الفاخرة، ولم يقل: وزرابي مصفوفة، وإنما قال: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}، كما قال هنالك في حال خدم أهل الجنة: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا} [الإنسان:19] فقالوا: إن اللؤلؤ المنثور أجمل من اللؤلؤ المنضود، وكذلك هذه الزرابي فإن جمالها في أنها مبثوثة، قد ألقيت هنا وهناك بسط فاخرة ثمينة، ففي سنن ابن ماجة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ألا من مشمر إلى الجنة، هي والذي نفسي بيده نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، وفاكهة كثيرة، وثمرة نضيدة، وزوجة حسناء جميلة في مقام أبداً، قال الصحابة: نحن المشمرون يا رسول الله، قال: قولوا: إن شاء الله، فقال الصحابة: إن شاء الله)، فهذا وصف الجنة.
{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:10 - 16].
ولما سمع الكفار هذا الكلام استهزءوا وسخروا وقالوا: يعدنا محمد بجنان كجنان الأردن، ويتوعدنا محمد بشجر ينبت في النار: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46].
وفي الآية الأخرى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:62 - 64]، قالوا: يعدنا بشجرة تخرج في النار، والنار تأكل الشجر! إن هذا كلام لا أصل له.(18/17)
آية الله في خلق الإبل والسماء والجبال والأرض
قال الله عز وجل: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17]، فيا من تكذبون بالجنة والنار! قد جعلت لكم آيات باهرات بين أيديكم: هذه الإبل ضرب الله بها المثل؛ لأنها قوية شديدة غليظة عظيمة الخلق سخرها الله عز وجل للإنسان الضعيف الراعي الذي لا يزن خمسين كيلو يقود هذا الجمل حيث شاء، ويحمله من الأثقال ما شاء، فقد سخر الله عظيماً لصغير، قال أهل التفسير: وقد ذكر الله الإبل أولاً؛ لأن الحيوانات على أربعة أنواع: أكولة، وحلوبة، وركوبة، وحمولة، فإما أن يأكل لحمها، وإما أن يشرب لبنها، وإما أن يركب ظهرها، وإما أن يحمل عليها، والإبل فيها الأربع: يؤكل لحمها، ويركب ظهرها، ويحلب درها، ويحمل عليها، كما قال الله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} [غافر:79 - 81] {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل:8 - 9].
والله عز وجل يضرب المثل بهذه الأمثل: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:17 - 18] فكيف رفعت هذه السماء التي فوقهم؟ {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2]، وليس هناك بناء في الدنيا على صغر حجمه إلا وله أعمدة، أما هذه السماء التي لا تدركها الأبصار فليس لها عمد، {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:19 - 20]، أي: سخرت للسالكين، وإلى الجبال كيف جعلها الله عز وجل منصوبة أوتاداً تمنع الأرض من أن تميد وتضطرب.(18/18)
نسخ قوله تعالى: (لست عليهم بمصيطر) بأمر الله لرسوله بإبلاغ هذا الدين ولو بالقتال
قال الله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] هذه مهمتك، {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22].
يقول ابن عطية رحمه الله: هذه آية منسوخة بآيات القتال، ففي البداية كان الرسول صلى الله عليه وسلم مذكراً لا مسيطراً، ثم بعد ذلك أمره الله عز وجل بأن يقاتل من كفر، كما قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله).
{إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية:23] قال ابن كثير: تولى عن العمل بأركانه، وكفر بالحق بجنانه ولسانه.
أي: تحقق فيه الكفر كله، {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية:24]، وهو العذاب الذي مضى ذكره، ثم سلى الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:25]، فسيرجعون إلينا، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:26]، كما قال الله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]، فأنت تبلغ وتأمر وتذكر، والحساب على الله رب العالمين.
أيها الإخوة الكرام! إننا إذا قرأنا في هذه السورة ومثيلاتها في صفة الجنة والنار، فسنجد أن ذلك يحفز المؤمن للعمل على أن يكون من أهل الجنة، وعلى أن يجتنب النار.
نسأل الله التوفيق لما يحب ويرضى.(18/19)
تفسير سورة الفجر
سورة الفجر سورة مكية كالأعلى والغاشية، لكنها أطول منهما، مشتملة على ثلاثين آية، في سبع وعشرين ومائة كلمة، وخمسمائة وتسعة وتسعين حرفاً، يعني: ستمائة حرف إلا واحداً.
وهذه السورة المباركة عنيت بالحديث عن اليوم الآخر، وعن فساد مقاييس المشركين اللاتي يقيسون بها الأمور، وقد افتتحها ربنا جل جلاله بالقسم، والقسم في القرآن ورد في تسع عشرة سورة افتتحت به.(18/20)
المقسم به في سورة الفجر
قال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، الفجر: هو الوقت المعروف، وسمي بالفجر؛ لأن الضياء ينفجر من الظلمة.
{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:2] هذه الليالي العشر قيل: هي العشر الأول من ذي الحجة، وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من أيام العشر) يعني: عشر ذي الحجة.
وقيل: هي العشر الأواخر من رمضان، وقيل: هي العشر الأول من المحرم، وقيل: هي العشر التي ذكرها ربنا في قصة موسى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142].
{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3]، قيل: الوترُ هو: الله جل جلاله، والشفع: خلقه، {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49].
{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:8].
وقال عكرمة رحمه الله: الشفع: هو يوم النحر، والوتر: يوم عرفة؛ لأن يوم عرفة هو يوم التاسع، ويوم النحر هو اليوم العاشر، وقيل: الشفع والوتر هي الأيام منها شفع، ومنها وتر، وقيل: العدد منه شفع ومنه وتر، وقيل: الصلوات، فمنها شفع كالعشاء، ووتر كالمغرب، وقيل: الشفع والوتر آدم وحواء، فقد كان آدم عليه السلام وتراً فلما خلقت حواء صارا شفعاً، وقيل: الشفع والوتر إشارة إلى صفات المخلوقين وصفات الخالق جل جلاله، فصفات المخلوقين شفع: قدرة وعجز، قوة وضعف، علم وجهل، بصر وعمى، كلام وخرف، هذا حال المخلوق.
أما الله عز وجل فصفاته علم بلا جهل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وكلام بلا خرف، وبصر بلا عمى جل جلاله.(18/21)
الأمم المقسم عليها في سورة الفجر
وقد أقسم ربنا جل جلاله بالفجر، {وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر:2 - 4] أي: إذا ذهب ومضى، كما قال سبحانه: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17].
{وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:33 - 34].
وهذه الخمسة أقسم بها ربنا جل جلاله ثم قال: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:5]، الحجر: هو العقل، وسمي حجراً؛ لأنه يحجر الإنسان ويمنعه عن تعاطي ما لا يليق من الأقوال والأفعال، ومنه سميت الحجرة حجرة؛ لأنها تحجر وتحجز ما بداخلها.
{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} يعني: أيها المشركون! إذا كانت لكم عقول فتأملوا في هذه الخمسة التي ذكرها ربنا جل جلاله، ثم إن المشركين كانوا معجبين بقوتهم، وكانوا يدلون على الله عز وجل بغناهم وأموالهم، فالله عز وجل ذكر لهم خبر ثلاثة من الأمم قبلهم كانوا أهل قوة وغناء، وأهل يسار وسعة فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:6 - 7] وعاد: هي القبيلة العربية التي أرسل الله إليها هوداً عليه السلام، وكانوا عتاة جبارين متمردين على أمر الله، مكذبين لرسله، جاحدين لكتبه، وكانوا أهل كبر وعتي، يقولون: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، ونبيهم عليه السلام قال لهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:128 - 130] أتبنون بكل مكان مرتفع بناية كبيرة لمجرد العبث لا للسكنى، يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويأملون ما لا يدركون، هذه قبيلة العماد: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7] وإرم: هو جدهم الأكبر، ذات العماد: كانت لهم أعمدة وأبنية كما حكى ربنا عنهم في القرآن: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء:149] وهذا حالهم.
{الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:8]، وتأملوا هذه الأوصاف فإنكم تجدونها تنطبق على الدولة المتكبرة على الناس اليوم.
ثم الأمة الثانية: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:9] وقبيلة ثمود: قبيلة عربية، أرسل الله إليهم صالحاً عليه السلام، وجابوا: أي: قطعوا، ومنه قولهم: فلان يجوب البلاد، أي: يقطعها جيئة وذهاباً، ومنه سميت الجيب جيباً، أي: وقطع الذين جابوا الصخر بالواد هؤلاء أيضاً، كما قال لهم نبيهم صالح عليه السلام: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف:73 - 74]، فقد كانوا يصنعون من الجبال بيوتاً قوية محكمة.
{وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} [الفجر:10] وفرعون: هو اللئيم الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر:29]، {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38].
وقد قيل: ذو الأوتاد: أي: الجيوش الكثيرة التي تشيد ملكه وتدفع عنه، وقيل: كان يدق أوتاداً في الأرض ويشد إليها من خالفوه حتى يموتوا، مثلما هدد موسى عليه السلام: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29].(18/22)
عقاب الله للمخالفين من الشعوب والأفراد
قال الله: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر:11 - 12] هؤلاء الثلاثة: عاد وثمود وفرعون، {طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر:11 - 12] وفسادهم: عقدي، وسياسي، واجتماعي، {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:12 - 13] وصب: أي أفرغ عليهم عذاباً مؤلماً خالط اللحم والدم، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:13] قيل: السوط: هو العذاب الذي يخالط اللحم والدم، من قولهم: ساطه يسوطه، فالرجل يسوط السكر في الشاي من أجل أن يختلط، ولذلك سمي السوط سوطاً.
{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] فالله عز وجل يرصد خلقه، ويراقب أفعالهم، ويسمع كلامهم، ويرى أحوالهم، ولا يخفى عليه شيء من أمرهم.(18/23)
عظم حكمة الله تعالى في توزيع الأرزاق على الخلق
ثم بين ربنا جل جلاله أن أكثر الخلق خاطئون؛ إذ أن كثيراً من الناس إذا كان غنياً موسراً يظن أن هذا المال جاءه لأنه كريم على الله، وكثير من الناس يظن إذا كان فقيراً معدماً بأن هذه الفاقة قد أصابته لأنه هين على الله، كما حكى القرآن قول ذلك الكافر الذي قال لأخيه: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، ثم قال له: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، ويقول الله عز وجل في وصف هذا الإنسان: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50] هذا حال كثير من الناس.
يقول الله سبحانه: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15 - 16]، ((فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ)) اختبره، ((فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ)) ((وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ)) اختبره فقدر عليه، أي: ضيق رزقه: ((فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)).
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وهؤلاء الذين يظنون أنهم قد حرموا الرزق لكونهم هينين على الله ليسوا بأحق عند الله ممن ظنوا أنهم نالوا المال لكرامتهم عند الله، وقد قال الله سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56]، فالله عز وجل يعطي الدنيا لمن أحب ومن لا يحب، وقد كان الوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، وأبو جهل، وأمثالهم من أغنى أغنياء البشر، ومع ذلك فهم في أسفل سافلين.
يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله: وهذا الذي خفيت حكمته على كثير من أهل الشرك والزندقة حتى قال قائلهم: كم من عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تراه مرزوقاً كم من عاقل عاقل أعيت مذاهبه: يعني: ما استطاع أن يتحصل على المال، وجاهل جاهل تراه مرزوقاً.
هذا الذي ترك الأفهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقاً فهو يعترض على الله عز وجل ويقول: كيف يكون العالم فقيراً، والجاهل غنياً ميسوراً؟ لكن الله عز وجل بين أن ذلك لا يرجع لمسألة كرامة أو إهانة، وإنما هو ابتلاء واختبار.(18/24)
التغليظ في حرمة أكل الأموال بالباطل عموماً ومال اليتيم خصوصاً
قال تعالى: {كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر:17]؛ لأن اليتيم عندكم مهان، {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:18]، أي: لا يحض بعضكم بعضاً على إطعام المسكين، {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} [الفجر:19] أي: جمعاً، يقال: لَمَّ الشيء إذا جمعه، ومنه الدعاء: اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تجمع بها قلوبنا، وتلم بها شعثنا.
تأكلون التراث، أي: ميراث النساء والصغار، وهو فعل من لا يتقي الله إلى يومنا هذا، فالنساء عندهم ليس لهن في الميراث نصيب، والصغار ليس لهم نصيب.(18/25)
حديث سورة الفجر عن يوم القيامة
ثم بدأ ربنا جل جلاله يحدثهم عن القيامة: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} [الفجر:21] زلزلت وغيرت وبدلت، كما قال ربنا سبحانه: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:14 - 16].
{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] مجيئاً يليق بجلاله سبحانه وتعالى لا نسأل كيف؟ (والملك)، أي: الملائكة صفاً صفاً.
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] نعوذ بالله من حرها، ((وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ))، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى يومئذٍ بجهنم ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها).
((يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى))، يتذكر عمله، تفريطه في جنب الله، تقصيره في الطاعات، إقدامه على المعاصي، جرأته على حدود الله، تكذيبه للشرع وللقدر: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23]، ما الفائدة؟ {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] يندم ويتحسر، يا ليتني قد فعلت الطاعات واجتنبت المحرمات، يا ليتني تزودت من القربات، يا ليتني قدمت عملاً صالحاً، ويسألون الله: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، يبدءون فيستغيثون، لكن لا سبيل إلى النجاة: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23].
{فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26]؛ ففي ذلك اليوم ليس عذاب كعذاب الله -نعوذ بالله منه- ولا وثاق ورباط كوثاق الله عز وجل، يأمر الله هؤلاء الملائكة فيجعلون ذلك الكافر في سلسلة طويلة ذرعها سبعون ذراعاً، {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72]، {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48]، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97].(18/26)
بشارة المؤمن بالرضوان عند خروج روحه من جسده
ثم قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
وقد قيل: نزلت هذه الآية في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وهو سيد الشهداء، ولما سمعها أبو بكر قال: ما أحسن هذا الكلام يا رسول الله! قال: (سيقوله لك الملك عند الموت يا أبا بكر)، سيقول لك: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28].
وفي سنن ابن ماجة من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد المؤمن إذا توفي يناديه الملك: يا أيتها النفس المطمئنة! اخرجي إلى مغفرة ورضوان، ورب راض غير غضبان، فتخرج روحه تسيل كما تسيل القطرة من فم السقاء) هذا حال المؤمن.
ويروي ابن أبي حاتم رحمه الله عن سعيد بن جبير قال: لما مات ابن عباس وحمل إلى قبره في الطائف، جاء طائر لم يرَ على خلقته قط، فدخل في نعشه ما بين كفنه وجسده، ثم لم يرَ خارجاً منه، فلما وضعناه في قبره سمعنا تالياً يتلو لا نرى صورته: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:27 - 29] أي: في عبادي الصالحين، {وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:30].
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا منهم.(18/27)
تفسير سورة البلد
سورة البلد سورة مكية، تضمنت عشرين آية في اثنتين وثمانين كلمة، في ثلاثمائة وواحد وخمسين حرفاً.(18/28)
إقسام الله بمكة
وقد افتتح الله هذه السورة المباركة بقوله: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] والبلد: هو مكة بإجماع المفسرين، وقد أقسم ربنا جل جلاله بمكة في قوله سبحانه: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3]، وهنا يقول: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1]، قال أهل التفسير: (لا) هاهنا مزيدة صلة على عادة العرب في كلامهم، وقد تكرر هذا في القرآن كثيراً، كقول الله عز وجل مخاطباً إبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12] والمعنى: ما منعك أن تسجد، وقول موسى لهارون: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ} [طه:92 - 93] أي: أن تتبعني، وقول الله عز وجل: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:29] أي: ليعلم أهل الكتاب، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيراً حيث يؤتى بلا زائدة، ومنه أيضاً قول القائل: ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر أي: أبو بكر وعمر، وقول الله عز وجل: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] أي: ولا تستوي الحسنة والسيئة.
وبعض أهل التفسير قال: أصل الكلام: (لأقسم بيوم القيامة) وأشبعت الفتحة حتى صارت ألفاً، كما قال بعض العرب: وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترا قبلي أسيراً يمانياً والمعنى: كأن لم ترَ قبلي أسيراً يمانياً، لكن قال: كأن لم ترا.
والآخر يقول: ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زيادِ فيجعل ألم يأتك ألم يأتيك وأشبع الكسرة، فالله عز وجل قال: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] البلد: مكة، والمعنى أقسم بهذا البلد.(18/29)
إباحة الله مكة لنبيه عام الفتح
قال تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2]، وأنت يا محمد -صلى الله وعليه وسلم- حلال لك ما تفعله في مكة يومئذ من غير ضيق ولا حرج، بل إنك مصيب فيه، وأنا عنك راض، يعني: تدخل مكة تقتل من تقتل، وتأسر من تأسر، وتفعل ما تفعل وأنا عنك راض.
وهذا المعنى قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: (ألا إن الله عز وجل قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض؛ فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تلتقط لقطتها، وإنها قد حلت لي ساعة من نهار، ولا تحل لأحد بعدي، ألا فليبلغ الشاهد الغائب).
ومعنى الكلام: أن الله عز وجل قد أحل لرسوله صلى الله عليه وسلم مكة إذا فتحها أن يفعل فيها ما يشاء، ولذلك عفا الرسول صلى الله وعليه وسلم عن أهل مكة كما في الخبر: (ما ترون أني صانع بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء).
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل ناساً منهم: مقيس بن صبابة، وعبد الله بن خطل وجاريتيه اللتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهدر دماء أقوام؛ لأن الله عز وجل قال له: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2].(18/30)
الإنسان في مكابدة مستمرة
ثم قال الله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد:3] فبعد أن أقسم ربنا بالبلد أقسم بالوالد وهو آدم عليه السلام وأولاده، أو بالصالحين من ذريته.
{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد:3] ما جواب القسم؟ {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، فالله عز وجل يحلف بالبلد، وبآدم وذريته على أن هذا الإنسان مخلوق في مكابدة وشدة وضيق وحرج، وهاهنا كلمات للإمام أبي عبد الله القرطبي أقرأها بنصها؛ لأن فيها حكمة بالغة، قال: قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سرته.
وهذا أول ما يعانيه الإنسان، ويمكن أن نقول: إن أول ما يعانيه هو الخروج من بطن أمه، هل يخرج بسهولة أم أنهم يجرونه جراً، ويسحبونه سحباً، وأحياناً رأسه؟! فهذا كله يحصل، لكن الشيخ قال: أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا قمط قماطاً وشد رباطه، يعني: عندما يلف الطفل لفاً محكماً، وربما يكون ذلك في شدة الحر، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، فيعاني الطفل ما يعاني إلى أن يعتاد ثدي أمه، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، والأسنان غير سهلة إذا طلعت، وتصحبها حمى وإسهالات، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، فأول يوم نذهب فيه إلى المدارس نبكي، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يكون إيرادها من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغمّ اليدين، ووجع السن، وألم الأذن، ويكابد محناً في المال والنفس مثل الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا ويقاسي فيه شدة، ويكابد فيه مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مسألة الملك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة، وإما في النار، قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] فلو كان الأمر إليك -أيها الإنسان- لما اخترت هذه الشدائد، فدل ذلك على أن لك خالقاً دبرك، وقضى عليك بتلك الأحوال فامتثل أمره {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4].
وهذه الآية -أيها الإخوان- فيها عزاء لأي شدة يقابلها الإنسان.(18/31)
نعم الله على الإنسان
قال الله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5] يا مسكين! يا ضعيف! أتحسب أن الله عز وجل ليس بقادر على أن يعيدك كما بدأك؟ {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد:6].
قال مقاتل بن سليمان: نزلت هذه الآية في الحارث بن نوفل أذنب ذنباً، فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة، فماذا قال؟ قال: لقد أهلكت مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد، لقد أهلكت مالاً لبداً أي: كثيراً.
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:7]، وهذه دعوى يطلقها كثير من الناس يقول: أنا أنفقت وأنا فعلت، والله عز وجل هو العالم جل جلاله، {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5].
ثم بدأ ربنا جل جلاله يعدد النعم التي ما طلب فيها ثمناً: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد:8] هاتان العينيان هل طلب منك عنهما مالاً؟ {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9]، تصوروا لو أن الله عز وجل ما خلق لنا هاتين الشفتين كيف يكون منظر أحدنا؟ بل جعل الله هاتين الشفتين في خدمة الإنسان؛ فمتى شئت أطبقتهما، ومتى شئت فتحتهما.
ثم النعمة الأكبر: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، فبين لك طريق الخير وطريق الشر.(18/32)
سبل اقتحام العقبة
قال الله: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] هلا اقتحمت العقبة يا ابن آدم؟! قال ابن عمر: العقبة: جبل في جهنم.
وقال غيره: بل هو الصراط المضروب على جهنم، وقال آخرون: هي جهنم نفسها.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد:12]، كيف نقتحم العقبة؟ دلنا ربنا جل جلاله على ثلاث سبل: السبيل الأول: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:13] تعتق من كان رقيقاً، كما في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق نفساً مسلمة أعتق الله بكل عضوٍ عضواً حتى ليعتق اليد باليد، والرجل بالرجل، والفرج بالفرج).
وفي الحديث الآخر: (من بنى لله مسجداً يذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة، ومن أعتق نفساً مؤمنة أعتقه الله من النار، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة).
السبيل الثاني: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:14]، إطعام الطعام في يوم ذي مسغبة، في يوم فيه مجاعة، فيه أزمة ومخمصة، في يوم ذي مسغبة نطعم من يا ربنا؟ {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:15] فهو يتيم ومن الأرحام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أطعم مسلماً على جوع أطعمه الله يوم القيامة، ومن كسا مسلماً على عري كساه الله من حلل الجنة)، أطعم يتيماً من الأرحام، (خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه).
{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16]، إنسان مسكين من شدة مسكنته وعظيم فاقته التصقت يده بالتراب فما عاد يستطيع القيام، {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16].
السبيل الثالث: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17]، فلو أنك أعتقت رقبة، وأطعمت مسكيناً، وكفلت يتيماً من غير إيمان فلن ينفعك كل هذا، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور:39] كرماد لا ينفعهم عند الله.
وقد سألت عائشة رضي الله عنها الرسول عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله! إن عبد الله بن جدعان كان يصل الرحم، ويطعم الطعام، ويكسو العاري، ويحمل على إبله لله، فهل ينفعه ذلك شيئاً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفعه ذلك شيئاً؛ لأنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين).
ما سينفعه، لماذا؟ لأن الله قال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97].
وقال: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19].
ولذلك فإن رهبان النصارى يتعبدون، وأحبار اليهود وعباد الوثن وغيرهم يتعبدون؛ لكنهم حصب النار؛ لأنه لا يوجد لديهم إيمان صحيح، فمن أراد الفوز فلابد أن يكون من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، أوصى بعضهم بعضاً بالصبر، وأوصى بعضهم بعضاً بأن يرحموا خلق الله: (الراحمون يرحمهم الرحمن).
(من لا يرحم لا يرحم).
(ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد:18] أي: أصحاب الجنة.(18/33)
مآل أصحاب المشأمة في الآخرة
قال الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [البلد:19] نسأل الله العافية، أي: أصحاب الشمال.
{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20]، وفي قراءة {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوْصَدَةٌ} [البلد:20]، أي: مغلقة، قال أبو عمران الجوني رحمه الله وهو من سادة المفسرين: إذا كان يوم القيامة أمر الله عز وجل بكل جبار وكل شيطان، وكل من كان في الدنيا يخاف الناس شره فأوثقوا في الحديد، ثم أمر بهم إلى جهنم، ثم أوصدت عليهم، أي: أطبقت، قال: فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبداً، ولا والله لا ينظرون إلى أديم سماء فوقهم أبداً، ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبداً، ولا والله لا يذوقون بارد شراب أبداً، هذا حالهم في النار: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله عز وجل أن ينسى أهل النار جعل لأحدهم صندوقاً من نار على قدره، ثم أقفل عليه بأقفال من نار، فلا يضرب منه عرق إلا وفيه مسمار، ثم جعل ذلك التابوت في تابوت آخر من نار) وتلا قوله تعالى: ((لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ)).
نسأل الله أن يجيرنا من النار برحمته.(18/34)
تفسير من سورة الشمس إلى سورة الشرح
تُعدُّ سورة الشمس والليل والضحى والشرح من السور المكية التي نزلت في فترة حرجة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد احتوت على دروس وفوائد عظيمة، ومنها: أن العظيم لا يقسم إلا بعظيم، وقد أقسم الله في هذه السور بعدد من مخلوقاته العظيمة والعجيبة، وبيان عاقبة من حاد الله ورسوله من الأمم السابقة، وفضل الجود والإنفاق في سبيل الله، وذم الشح والبخل وبيان عاقبته، وذكر النعم والمنن التي امتن الله بها على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرها من الدروس والفوائد العظيمة.
فعلى المسلم أن يقف مع كتاب الله عز وجل متدبراً متأملاً، ليكون له نبراساً ونوراً في طريقه إلى ربه تبارك وتعالى.(19/1)
تفسير سورة الشمس
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فنسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم من المقبولين.
سورة الشمس سورة مكية، اشتملت على خمس عشرة آية، وفيها أربع وخمسون كلمة، ومائتان وأربعون حرفاً، فمن وفقه الله لتلاوتها كتب الله له أربعمائة وألفي حسنة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وهذه السورة المباركة افتتحت بالقسم، وقد تقدم أن في القرآن تسع عشرة سورة افتتحت بالقسم، وفي هذه السورة المباركة أقسم ربنا جل جلاله بسبعة من مخلوقاته: أقسم بالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض والنفس.(19/2)
إقسام الله بالشمس وعظيم خلقها وأثرها
بدأ ربنا جل جلاله هذه السورة بقوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1].
فأقسم ربنا جل جلاله بالشمس؛ لأنها من عظيم مخلوقاته، وآية من آياته، كما قال سبحانه: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:37 - 40].
والشمس هي الآية التي حج بها إبراهيم عليه السلام النمرود بن كنعان الطاغية المستبد: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258].
والله عز وجل يقسم بالشمس لأنها عظيمة في خلقها وأثرها، عظيمة الحرارة والضوء على مر الزمان بلا انتقاص.
يقول العلامة الشيخ عطية رحمه الله في أضواء البيان: قال أهل العلم من أهل الفلك: لو أن الشمس اقتربت من الأرض قليلاً أو ابتعدت عن الأرض قليلاً ما أدت مفعولها ولا وظيفتها؛ فلو ابتعدت قليلاً تجمدت المخلوقات، ولو اقتربت قليلاً احترق العالم.
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38].
فيقسم الله عز وجل بالشمس وضحاها، وضحى الشمس هو: انتشار لضوئها من حين طلوعها وارتفاعها قدر رمح -فيما يظهر للرائي- إلى قبيل الزوال بربع ساعة تقريباً.
وقال بعض أهل التفسير: الضحى المقصود به هاهنا وفي قوله تعالى: {وَالضُّحَى} [الضحى:1]: الساعة التي خر السحرة فيها ساجدين.
بيانه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] فأقسم ربنا بالشمس وضحاها.(19/3)
إقسام الله بالقمر وعظيم خلقه وأثره
أقسم تعالى بالقمر، فقال: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:2]، وهو أيضاً من عظيم مخلوقات الله عز وجل، فيخفف ظلمة الليل، وجعله الله عز وجل ميقاتاً للناس في زكاتهم، وصيامهم، وإفطارهم، وحجهم، وحساب حول زكاتهم، وعدة المرأة إذا طلقت أو توفي عنها زوجها، وليس عندها ما تحسب به إلا هذا القمر، وقد أعلى الله عز وجل قدره فأقسم به في القرآن فقال: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق:17 - 18] أي: إذا اكتمل.
وقول الله عز وجل: {كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:32 - 34].
فيقسم ربنا بالقمر إذا غربت الشمس، ثم ظهر القمر وتلاها وتبعها في بعض أيام الشهر، وعلى العكس في أيام أخرى.
قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: ابتدئ القسم في هذه السورة بالشمس إيماء لشأن الإسلام أنه سينتشر انتشار الشمس بحيث لا يترك للضلال مسلكاً، وإيماء لعموم نوره في الكون كما عَمَّ نور الشمس.
ومصداق كلامه رحمه الله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار)، فأقسم ربنا بالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها.(19/4)
إقسام الله بآيتي الليل والنهار
أقسم الله أيضاً بالنهار إذا جلاها فقال: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:3] أي: النهار إذا جلى ضوء الشمس.
وقال ابن كثير رحمه الله: الضمير يرجع إلى الأرض {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا}، أي: كشف الأرض بحيث ينتشر الناس آمنين.
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:4] فيغطي الأرض ويغطي الشمس.
فهاتان الآيتان لا ينتبه إليهما الناس، لكن الله عز وجل نبهنا إلى أن الليل والنهار آيتان من آيات الله كما أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله.
وربنا سبحانه وتعالى بين أنه لو لم ينعم علينا بنعمة الليل ومثلها نعمة النهار ما استطاع أحد أن يأتي بها: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:71 - 73].
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62] الليل آية من آيات الله، والنهار آية من آيات الله، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]، {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:10 - 11]، هذه آية من آيات الله.(19/5)
إقسام الله بالسماء والأرض وعظيم بنيانهما
قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5].
قال بعض أهل التفسير: (ما) هنا بمعنى من، أي: السماء ومن بناها؟ والمقصود رب العزة جل جلاله، كما في قوله تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3]، أي: من أعبد جل جلاله؟ وقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]، أي: من طاب لكم من النساء؟ فـ (ما) تقام مقام من أحياناً، وقال بعضهم: بل (ما) مصدرية، والمعنى: والسماء وبناءها.
فيقسم الله عز وجل بهذه السماء التي رفعها بغير عمد، والتي لفت إليها الأنطار في كثير من آيات القرآن فقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6].
وفي سورة الملك أمرنا الله عز وجل بأن نكرر البصر إلى هذه السماء لننظر هل فيها من فطور؟ هل فيها من شقوق؟ لا، إنها من آيات الله جل جلاله.
{وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس:6] طحاها بمعنى دحاها، وكما في سورة النازعات: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] أي: كورها؛ لأن دحاها وطحاها بمعنى واحد.(19/6)
معاني النفس في القرآن
قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] اعلموا بارك الله فيكم أن النفس في القرآن تطلق ويراد بها أربعة معاني: كلمة النفس تطلق ويراد بها الروح، ومنه قول الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:93]، أي: أرواحكم.
وتطلق النفس ويراد بها مجموع الروح والجسد مع بعضهما، كما في هذه الآية: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7]، أي: سوى خلقتها فجعلها معتدلة مستقيمة، وسوى فطرتها فجعلها فطرة قويمة.
وتطلق النفس ويراد بها القلب، كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف:205]، أي: في قلبك.
{تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف:205].
وقول الله عز وجل في شأن قصة يوسف: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} [يوسف:77] أي: في قلبه.
وتطلق النفس على القوة المفكرة المدبرة، كما في قول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، وقول الله عز وجل: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2].
فيقسم ربنا بهذه النفس التي فيها عجائب {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] أي: ومن سواها جل جلاله أو وتسويتها.(19/7)
إلهام الله للنفوس فجورها وتقواها
يقول ربنا سبحانه: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8]، الإلهام علم يحصل من غير تعليم من الله جل جلاله.
{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] التقوى: الطاعة والخير، والفجور: المعصية والشر.
وهذا كله بقدر الله.
روى الإمام مسلم عن أبي الأسود الدؤلي رحمه الله: أن عمران بن حصين رضي الله عنه سأله فقال له: أرأيت ما يسعى الناس فيه ويتكادحون، أأمر قدر عليهم فيما مضى وسبق، أم أمر يستقبلونه فيما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقلت: بل أمر قدره الله عليهم وسبق، فكل شيء بقدر، فقال: أترى ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت فزعاً شديداً، وقلت له: ليس ظلماً بل الله عز وجل لا يسأل عما يفعل، فقال لي: سددك الله! إنما سألتك لأختبر عقلك.
وهذا يؤخذ منه: أن العالم يطرح السؤال على المتعلم من أجل أن يختبره، وإذا كان مخطئاً يسدده ويصححه.
قال: إنما سألتك لأختبر عقلك، وإن رجلاً من مزينة أو جهينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا رسول الله! أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه، أأمر قد قضي فيما سبق وقدر أم أمر يستقبلونه وتقوم الحجة به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل أمر قد قدر.
قال: ففيم الحساب؟ -إذا كان شيء مقدر وكتب الفجور وكتبت التقوى- قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له).(19/8)
فلاح الأنفس بالطاعات وخسرانها بالمعاصي
قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] أي: من زكى نفسه وطهرها بالطاعات وبالإيمان، والتزكية في القرآن تنسب إلى الله {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49] {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21].
وأحياناً تنسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة:2]، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103].
وأحياناً تنسب إلى الشخص، ومنه قوله في هذه الآية: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9].
تزكية النفس تكون بالطاعات، الصلاة، الطهارة، الزكاة، الصيام، ذكر الله، قراءة القرآن، الدعاء، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، الدعوة إلى الله كل هذا تزكية للنفس.
ثم كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) فالتزكية من الله عز وجل.
{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] قال أهل التفسير: دساها بالمعاصي، دساها أخفاها.
قال الإمام القرطبي: فأولئك علوا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها، قال: وكذا الفاجر أبدا خفي المكان، فهو غامض الشخص، ناكس الرأس، زمر المروءة.
أي: قليل المروءة.
هذا هو الفاجر والعياذ بالله.
وقال بعض أهل التفسير: أخفاها في أهل الطاعات وهو ليس منهم.
(خاب من دساها) أي: يدس نفسه ويسلك بنفسه مع الصالحين وهو ليس منهم يسلك نفسه مع الصالحين ببعض المظاهر والأشكال، وهو يعلم من حاله أنه ليس صالحاً، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10].(19/9)
قتل ثمود لناقة الله
ذكر ربنا قصة أولئك القوم العتاة الجبابرة الذين ذكروا في سورة الفجر: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:9] جابوا: قطعوا، فقد كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين.
قال الله عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس:11]، أي: بسبب طغيانها وعتوها وجبروتها وكبرها.
{إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس:12] رجل اسمه قدار بن سالف عارم عزيز في قومه، كان معجباً بنفسه معتزاً برهطه، هذا الرجل انبعث فاعتدى على الناقة، وكانوا ثمود قد طلبوا من صالح آية.
ما الآية التي تريدون؟ قالوا: نريد ناقة كوماء، أي: ضخمة، وكثيرة اللبن، فيكون لبنها في الشتاء دافئاً، وفي الصيف بارداً.
هكذا طلبوا آية على مزاجهم، فدعا الله عز وجل فانشقت صخرة، وخرجت منها الناقة على الصفة المذكورة، قال لهم صالح: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]، هذه ناقة تشرب في يوم، ثم أنتم تشربون في اليوم الذي بعده.
{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف:73]، لكن القوم كانوا جبارين عتاة شياطين؛ فحرضوا هذا الخبيث قدار بن سالف، فانبعث أشقى القوم، وكان صالح عليه السلام قد حذرهم: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13] (فقال لهم رسول الله) صالح.
(ناقة الله) احذروا ناقة الله وسقياها، ولا تمسوها بسوء.
قال أهل التفسير: الإضافة إلى الله للتشريف، ومعلوم بأن النوق كلها لله، لكن الإضافة للتشريف احذروا ناقة الله وسقياها.
{فَكَذَّبُوهُ} [الشمس:14] وقالوا: ائتنا بعذاب الله إن كنت من المرسلين، قال الله على ألسنتهم: {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:77].
مثلما قال قوم لوط وقوم هود.(19/10)
الراضي بالمنكر كالفاعل له
{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:14] مع أن العاقر واحد، وانتبهوا أن الله نسب الفعل للجميع؛ لأنهم كانوا راضين، فالمنكر إذا فعل ولم ينكره الإنسان لا بيده ولا بلسانه ولا كرهه بقلبه فحكمه حكم الفاعل، فلذلك الله عز وجل نسب الفعل للجميع، وأنزل العذاب على الجميع.
((فَعَقَرُوهَا)) قال قتادة رحمه الله: بلغني أن الشقي ما عقرها إلا بعدما بايعه كبيرهم وصغيرهم وذكرهم وأنثاهم، بل كانوا يريدون أكثر من ذلك كانوا يريدون قتل صالح، {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49]، قال الله عز وجل: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:50 - 51].(19/11)
إهلاك الله لثمود
قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس:14]، قال القرطبي رحمه الله: الدمدمة إهلاك مع استئصال، وبين ربنا جل جلاله صفة الإهلاك في آيات أخرى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:31] فكان هذا حالهم.
{فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس:14] سواها فيها تفسيران: فقيل: سوى بينهم في العقوبة.
وقيل: سوى عليهم الأرض ودفنهم بعدما أرسل عليهم الصاعقة.
قال سبحانه: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:15] الله أكبر، الله عز وجل يقول عن نفسه: أنا لا أخاف عاقبة الفعل، وقد قال في الحديث القدسي في صحيح مسلم من رواية أبي ذر: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
فالله عز وجل لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، نسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين.(19/12)
تفسير سورة الليل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم من المقبولين.
سورة الليل سورة مكية، اشتملت على إحدى وعشرين آية، في إحدى وسبعين كلمة، في ثلاثمائة وعشرة أحرف.
وهذه السورة من قرأها له من الحسنات ثلاثة آلاف ومائة حسنة {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
وهذه السورة كسابقتها افتتحت بالقسم، وتقدم أن سورة الشمس قد أقسم الله فيها بسبعة من مخلوقاته، وفي هذه السورة أقسم الله عز وجل بثلاثة من مخلوقاته.(19/13)
إقسام الله بالليل والنهار
قال الله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:1 - 3].
أقسم ربنا سبحانه بالليل إذا يغشى الكون بظلامه ويغطيه بظلمته، وأقسم ربنا جل جلاله بالنهار إذا تجلى بضوئه وأسفر بنوره، والليل والنهار آيتان من آيات الله ذكرهما ربنا جل جلاله في كثير من آياته، وبين أنهما من آثار رحمته: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73].
وأنه لا أحد سوى الله يستطيع أن يأتي بالليل أو بالنهار: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:71 - 72].
قوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:3].
قال بعض أهل التفسير: (ما) بمعنى من، كما في قول الله عز وجل: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] أي: ومن بناها الله جل جلاله، ومن خلق الذكر والأنثى، فيقسم ربنا بذاته.
وقال بعض أهل التفسير: (ما) مصدرية، أي: والذكر والأنثى.
والمقسم عليه قول الله عز وجل: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]، فالناس في هذه الدنيا سعيهم مختلف؛ فمن فاعل خيراً، ومن فاعل شراً، ومن فاعل لرضا الله، ومن فاعل لرضا الناس، ومن آمر بالمعروف وناه عن المنكر، ومن ناه عن المعروف وآمر بالمنكر.(19/14)
بيان جزاء من أعطى واتقى وصدق بالحسنى
يقول الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7].
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} [الليل:5] قال قتادة رحمه الله: أي: أعطى حق الله، واتقى محارم الله، والحسنى هي: الإسلام.
وقيل: لا إله إلا الله.
وقيل: الجنة.
ويشهد لهذا قول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26].
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الحسنى، أي: أيقن بالخلف من الله، وأن الله عز وجل سيخلف عليه.
{وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل:6] صدق بالإسلام، بلا إله إلا الله، بالجنة، بأن الله سيخلف عليه.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:7] سنيسره للخصلة الميسرة المؤدية إلى الخير الباعثة على الهدى.
هذه الآيات نزلت مبشرة جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى رأسهم صديق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه، هذا التقي النقي الجواد الكريم الباذل ماله في رضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
مر على بلال رضي الله عنه وقد ألقي في حر الشمس بعد أن أجاعوه وعطشوه ووضعوا على صدره الصخرة العظيمة، ودفعوه إلى غلمان قريش يتقاذفونه كالكرة.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أمية! أما آن لك أن ترحم هذا المسكين؟! أما تتقي الله فيه؟ فقال له الكافر الخبيث: يا أبا بكر! أنت الذي أفسدته، فإن شئت خلصه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بكم تبيعه؟ قال: بعشر أواق.
فذهب أبو بكر رضي الله عنه فعد المال نقداً، ثم جاء به إلى أمية، وبعدما أمسك الخبيث بماله قال: أما لو أبيت إلا أوقية لبعتك، قال أبو بكر: والله لو أبيت إلا مائة لاشتريت.
فأنزل الله عز وجل هذه الآيات.
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} [الليل:5] أبو بكر رضي الله عنه أعطى حق الله، واتقى محارم الله، وصدق بالخلف من الله عز وجل {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:7].
وروى ابن أبي حاتم رحمه الله، عن ابن عباس: أن رجلاً كانت له نخلة فرعها مائل في بيت رجل من الأنصار، فكان هذا الرجل صاحب النخلة إذا صعد ليأخذ شيئاً من تمرها ربما سقط شيء من التمر من الفرع المائل في بيت الأنصاري الفقير، فيأخذ أولاده ذلك التمر فيأكلون منه، فيشرع ذلك الرجل فيجمع التمر، بل ربما يخرجها من فم الصبي الصغير، فاشتكي الفقير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام: اذهب، ثم لقي صاحب النخلة، فقال له: يا فلان! أرأيت نخلتك المائل فرعها في دار فلان؟ قال: بلى، قال: أعطنيها ولك بها نخلة في الجنة -فيبدو والله أعلم أن الرجل كان منافقاً- فقال: لقد أعطيت -أي: الثمن طيب- ولكن تمرها أحب إلي من كل شيء، فهو لا يريد أن يبيعها بنخلة في الجنة.
وكان رجل من الصحابة اسمه ابن الدحداح ويقال له أبو الدحداح، فسمع هذا الكلام، فذهب لذلك الرجل وقال له: أتبيعني نخلتك المائل فرعها في دار فلان، فقال له ذلك الرجل: لعلك سمعت أن محمداً قد أعطاني بها نخلة في الجنة.
قال له: بلى.
قال له: فإني لا أبيعها إلا بأربعين نخلة.
فقال له: نخلتك المائل فرعها بأربعين نخلة لقد سألت عظيماً، قال: لا أريد غير ذلك، فسكت الرجل رضي الله عنه حينا، ً ثم قال له: قد اشتريت.
فقال له: إن كنت صادقاً فأشهد من كان حاضراً على أنه قد باعه حائطه الذي حوى أربعين نخلة بتلك النخلة المائل فرعها، فلما تمت الصفقة جاء ابن الدحداح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أرأيت ما قلت لفلان؟ قال: بلى.
قال: أرأيت لو أني قد أعطيتكها أتعطيني نخلة في الجنة؟ قال: بلى.
قال: فهي لك يا رسول الله اصنع بها ما شئت.
فهذا الرجل أعطى تلك النخلة للرسول عليه الصلاة والسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم ذهب للأنصاري الفقير، وقال له: النخلة لك ولعيالك، وما مضى إلا قليل على أبي الدحداح رضي الله عنهما، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يضعه في لحده ويقول: (كم من عذق معلق في الجنة لـ أبي الدحداح)، باع فانياً بباقي، وعاجلاً بآجل رضي الله عنه وأرضاه.
وأنزل الله عز وجل هذه الآيات في شأن هؤلاء، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7]، يعينه الله عز وجل ويوفقه من خير إلى خير، ومن حسنة إلى حسنة، ومن طاعة إلى طاعة.(19/15)
بيان جزاء من بخل واستغنى وكذب بالحسنى
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10] وأما من بخل -والعياذ بالله- بحق الله، واستغنى عن رحمة الله.
{وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} حين يقول: لا أبيع عاجلاً بآجل، لا أبيع نقداً بنسيئة، لا أبيع حاضراً بغائب.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}، أي: سنيسره للخصلة المؤذية القبيحة الشديدة.
قال أبو حيان رحمه الله: هذا على سبيل المقابلة (فسنيسره لليسرى) (فسنيسره للعسرى)؛ لأن العسرى لا تيسير فيها.
وقال العلامة الشيخ عطية رحمة الله عليه: وقد يكون التيسير حقيقياً لا مجازياً؛ فإن المشاهد من حال من خذلهم الله -والعياذ بالله- أن الواحد منهم يجد قبولاً وارتياحاً وتيسيراً في كل حرام، حتى إنه لا يستطعم الحلال، ولا يجد للحلال طعماً.
قال: وقد حدثوني أن واحداً من الناس قد احترف السرقة، فلما كثر ماله وكبرت سنه ترك السرقة، لكنه لم يصبر عليها، وهو لا يستطيع أن يمارسها بنفسه، قال: فاستأجر رجلاً وأعطاه مالاً ليسرق له ثمراً من بستان فلان، قال: فذهب الرجل المستأجر إلى بستان الرجل الخبيث نفسه، وأتاه بثمرة، فبمجرد ما أكلها لفظها، وقال: لا أجد فيها طعم السرقة، فصار يميز ويستطعم.
قارنوا حال هذا الرجل بحال أبي بكر الذي كان لا يأكل طعاماً حتى يسأل من أين هو؟ فجاءه غلامه يوماً بطعام وأبو بكر جائع فأكل لقمة، فقال له الغلام: كنت تسألني في كل ليلة، ولم تسألني في هذه الليلة؟ قال: والله ما حملني إلا الجوع، من أين أتيت بها؟ قال له: إني تكهنت لقوم في الجاهلية، أي: ادعيت أني أعرف الغيب وقرأت لهم الكف وضربت الرمل، فجعلوا لي جعلاً، فما أعطوني إلا الليلة، فابتعت لك هذا الطعام.
قال أبو بكر: لا إله إلا الله كدت تهلكني، فأخذ رضي الله عنه يشرب الماء ويضع أصبعه في فيه ويتقيأ، قال له بعض الناس: إنها لقمة.
قال: والله لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، فقارنوا هذا بهذا.
قال الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:8 - 11] قال الإمام القرطبي رحمه الله: دلت هاتان الآيتان: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل:5 - 6]، مع قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، وقوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة:274] على: أن الجود من مكارم الأخلاق، وأن البخل من أرذلها، وليس الجواد هو الذي يعطي في غير موضع العطاء، ولا البخيل الذي يمنع في موضع المنع، لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من استفاد بما يعطى أجراً وحمداً فهو الجواد، وكل من استحق بالمنع ذماً أو عقاباً فهو البخيل.
قال الله عز وجل عن هذا البخيل المستغني: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:11] أي: إذا هوى وسقط في دركات الجحيم سيندم، ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28]، {لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3].(19/16)
هداية البيان والإرشاد
قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل:12] أي: أن الله عز وجل يقطع على نفسه عهداً بأن يهدي، قال أهل التفسير: الهداية هنا هداية البيان والإرشاد، ولا تعارض هذه الآية قول الله عز وجل: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:16] فالهداية هنا بمعنى الدلالة والإرشاد، وهي للناس عامة.
{وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} [الليل:13] أي: لله عز وجل الدنيا والآخرة.(19/17)
بيان من يستحق النار
{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل:14] أي: ناراً حامية تتلظى وتتلمظ لمجيء الكفار والفجار.
{لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى} [الليل:15] أي: لا يقاسي حرها إلا الأشقى.
قيل: نزلت في أمية بن خلف.
{الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:16] أي: كذب بكلام الله وتولى عن طاعته، وقيل: كذب بقلبه، وتولى بجوارحه، كما في قول الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية:23 - 24].(19/18)
إنفاق الصديق وبذله للأموال في سبيل الله
قال الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17]، قال ابن كثير رحمه الله: أجمع المفسرون على أن هذه الآية نازلت في أبي بكر.
قال: ولا ريب أن صديق هذه الأمة التقي النقي الجواد الممدح الباذل ماله في رضا الله ورسوله داخل دخولاً أولياً في هذه الآية، فإنه قد بذل ماله لا على الضعفاء والمساكين بل على السادات والرؤساء، ويدلك على ذلك: أن عروة بن مسعود الثقفي يوم الحدييبة كان يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا محمد! لا يغرنك هؤلاء الذين اجتمعوا حولك فإنهم عما قليل يوشك أن ينفضوا عنك -يمارس معه حرباً نفسية- فقال له أبو بكر: نحن ننفض عنه؟! امصص بظر اللات، فقال عروة: من هذا يا محمد؟ من هذا الفظ الغليظ، قال له: هذا أبو بكر، فقال عروة بن مسعود: والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لرددت عليك.
أي: لولا أنك رجل كريم ورجل باذل، وقد فعلت في معروفاً، وهذا المعروف أنا ما جزيتك به، لكنت رددت عليك هذه الكلمة بمثلها، لكنني لا أستطيع.
أبو بكر رضي الله عنه نزلت فيه هذه الآية: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18] فينفق ماله، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله ما نفعني مال مثلما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ما بقيت لأحد يد في الإسلام إلا جزيناه بها إلا أبا بكر، فإن له يداً يجزيه الله بها يوم القيامة)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)، رواه مسلم عن أبي ذر.
وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي يوم القيامة: يا عبد الله! هذا خير ادخل من باب الجنة.
قال أبو بكر رضي الله عنه: فهل أحد يدعى من الأبواب كلها يا رسول الله؟ قال: نعم، وأنت منهم يا أبا بكر!).
{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:19] أبو بكر لما اشترى بلالاً وزنيرة وجارية بني المؤمل وفلاناً وفلاناً من الضعفاء وقال في بلال: لو أبى أمية إلا مائة لاشتريت، قال المشركون: إن لـ أبي بكر يداً عند بلال، أي: أبو بكر عمل جميلة في بلال وبلال يريد ردها، قال الله عز وجل: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ} [الليل:19] لا بلال ولا غيره {مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21] أي: هو ما عمل شيئاً من أجل الناس وإنما من أجل الله، قال الله عز وجل: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21]، الله أكبر! سيرضى إذ رافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وكان معه ولم يفارقه قط في غزاة ولا هجرة ولا سفر ولا حضر، حتى قيل لـ عمر رضي الله عنه: أنت خير أم أبو بكر؟ فبكى رضي الله عنه، وقال: والله ليلة لـ أبي بكر مع رسول الله في الغار خير من عمر وآل عمر، وليتني كنت شعرة في صدر أبي بكر، أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي.
ثم أرضاه الله بأن يرافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في البرزخ، ثم سيرضى يوم البعث الأكبر، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً بين أبي بكر وعمر وقال: (هكذا نبعث يوم القيامة) نسأل الله أن يحشرنا معهم.(19/19)
تفسير سورة الضحى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم من المقبولين.
سورة الضحى هي سورة مكية، اشتملت على إحدى عشر آية، في خمسين كلمة، في مائة واثنين وسبعين حرفاً.(19/20)
سبب نزول سورة الضحى
هذه السورة المباركة يقول عنها سيد قطب رحمه الله: هذه السورة بموضوعها وتعبيرها ومشاهدها وظلالها وإيقاعها لمسة حنان، ونسمة رحمة وطائف من ود، وهي بموضوعها وتعبيرها وظلالها وتصويرها خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع، وقد نزلت في ظروف خاصة.
روى البخاري ومسلم من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه: أن امرأة من قريش قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد! ما أرى شيطانك إلا ودعك! وكان الوحي قد أبطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم في فترة، فقالت: -وجاء في بعض الروايات تسميتها بأنها- أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان زوجة أبي لهب التي سماها الله في القرآن حمالة الحطب: ما أرى شيطانك إلا ودعك، فأنزل الله عز وجل هذه السورة: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3].(19/21)
إقسام الله بالضحى والليل إذا سجى
يقسم ربنا جل جلاله بالضحى وبالليل، وقد تقدم القسم بهما في سورة الشمس، وعرفنا بأن الضحى هو: الوقت من طلوع الشمس وارتفاعها قدر رمح -فيما يظهر للرائي- إلى قبيل الزوال، وهذا هو الوقت الذي خر فيه السحرة ساجدين، وذلك عندما حشروا ضحى في مواجهة موسى الكليم عليه الصلاة والسلام.
فيقسم ربنا بهذا الوقت (والضحى، والليل إذا سجى) يقال: ليلة ساجية إذا غطت بظلامها الكون، ويقال: تسجى فلان بالثوب إذا تغطى.
والمقسم عليه هو: (ما ودعك ربك)، أي: ما تركك.
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] قال أهل التفسير: المعنى وما قلاك، لكن من أجل مراعاة الفواصل قال: (وما قلى)، أي: وما أبغضك منذ أحبك، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(19/22)
ما ادخره الله لنبيه في الآخرة أعظم مما أعطاه في الدنيا
قال الله: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4] أي: ما أعطاه الله عز وجل في الدنيا من شرح الصدر، ورفع الذكر، وحط الوزر، وظهور أمره، وعلو شأنه، وما ألقاه الله عز وجل له من المحبة في قلوب خلقه، كل هذا لا شيء بجوار ما أعد الله له في الآخرة.
(وللآخرة خير لك من الأولى) قال أهل التفسير: أري رسول الله صلى الله عليه وسلم ملك أمته من بعده فسر بذلك، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: (وللآخرة خير لك من الأولى) فأعطاه الله عز وجل ألف ألف قصر من لؤلؤ في الجنة، ترابه المسك مع ما ينبغي له.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سألت ربي مسألة وددت أني ما سألته إياها، قلت: يا رب لقد اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً، واصطفيت نوحاً على البشر، وجعلت عيسى يحيي الموتى فما أعطيتني؟ قال الله عز وجل له: يا محمد! ألم أجدك يتيماً فآويتك، ووجدتك ضالاً فهديتك، ووجدتك عائلاً فأغنيتك، ألم أشرح لك صدرك، وأضع عنك وزرك، وأرفع لك ذكرك، قلت: بلى يا رب! قال: (وللآخرة خير لك من الأولى)، أعطيتك الكوثر ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، وعدد آنيته بعدد نجوم السماء).
قال ابن كثير رحمه الله: ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد خلق الله في الدنيا، وأعظمهم اطراحاً لها، حتى أنه لما خير صلوات ربي وسلامه عليه بين الخلد في الدنيا وملكها وبين لقاء الله عز وجل اختار ما عند الله.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، ثم استيقظ وقد أثر الحصير في جنبه، فجعلت أمسح عنه، وأقول: يا رسول الله! هلا آذنتنا لنفرش لك على الحصير شيئاً، فقال عليه الصلاة والسلام: ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها).
وهذا أيضاً تكرر مع عمر رضي الله عنه لما رأى أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى عمر وقال: (يا رسول! كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت أكرم الخلق على الله تنام على مثل هذا؟ فقال له صلى الله عليه وسلم معلماً ومصححاً: يا عمر! أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قال: رضيت يا رسول الله! قال: فاحمد الله على ذلك).(19/23)
عطاءات الله لنبيه وأمته
قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] هذه الآية من أعظم آي القرآن بشارة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويتضح ذلك من سبب نزولها.
فقد روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل على لسان إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وقول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، فرفع يديه، وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عز وجل لجبريل: يا جبريل -وربك أعلم- اذهب إلى محمد فقل له: ما يبكيك؟ فجاء جبريل عليه السلام ثم رجع إلى ربه فأخبره، قال الله عز وجل لجبريل: اذهب إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك).
ولذلك قال القائل: ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى فحاشاك أن ترضى وفينا معذب وقال علي بن أبي طالب: أما نحن أهل البيت فنقول: إن هذه أرجى آية في كتاب الله.
وبعض أهل التفسير قالوا: أرجى آية في القرآن قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] وقال بعضهم: أرجى آية في القرآن: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، وقال بعضهم: أرجى آية في القرآن: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [الرعد:23]، فهي تشمل الظالم المقتصد، والسابق بالخيرات، أما علي رضي الله عنه فيقول: أما نحن أهل البيت فنقول: هذه أرجى آية في القرآن: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5].(19/24)
منن الله على نبيه صلى الله عليه وسلم
المنة الأولى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6]، أي: يا محمد! قد علم ربك أنك يتيم لا أب لك ولا أم، ومع ذلك آواك ربك، وسخر لك من يكفلك ويرعاك ويقوم على شأنك.
وقد سئل جعفر الصادق رحمه الله: لم يتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيه وأمه؟ أبوه مات وهو في بطن أمه، وأمه ماتت لما بلغ السادسة.
قال: لئلا تكون لمخلوق عليه منة، وتبقى المنة لله وحده.
وقال مجاهد بن جبر رحمه الله: اليتيم هاهنا من قول العرب: درة يتيمة، إذا لم يكن هناك مثلها.
المنة الثانية: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، الضلال هنا قال بعض أهل التفسير: هو عدم معرفة تفاصيل الشريعة.
وقال الرازي رحمه الله: أجمع أهل العلم على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أشرك بالله قط، وحاشاه عليه الصلاة والسلام.
فالضلال هنا مستبعد فيه معنى الشرك والكفر والفسق، وهذا كله قد برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالضلال هاهنا معناه: عدم معرفة تفاصيل الشريعة، كما قال ربنا سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} [الشورى:52]، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يدري، وهذا هو معنى الضلال في الآية.
وقال بعضهم: ووجدك ضالاً، أي: وجدك محباً للهداية فهداك.
وقال بعضهم: الضلال هنا بمعنى: المحبة، وأنشدوا في ذلك قول كثير عزة: هذا الضلال أشاب مني المفرقا والعارضين ولم أكن متحققا عجباً لعزة في اختيار قطيعتي بعد الضلال فحبلها قد أخلقا بعد الضلال أي: بعد المحبة، لكن لعل هذا المعنى -والله أعلم- بعيد، فالضلال هاهنا معناه الحيرة.
المنة الثالثة: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:8] أي: وجدك عائلاً فقيراً عديماً ما عندك شيء، وتقول العرب: فلان عائل، وكما في قول جرير: الله أنزل في الكتاب فريضة لابن السبيل وللفقير العائل فالعائل بمعنى: الفقير المعدم.
فالله عز وجل أغنى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وحتى قد مكنه من مفاتيح خزائن الأرض، فكان عليه الصلاة والسلام تأتيه الغنائم والأنفال كأمثال الجبال، ومن الغنى الذي سكن قلبه لا تغرب عليه الشمس إلا وقد وزعها جميعاً، ولا يصطفي لنفسه شيئاً عليه الصلاة والسلام.
وقد نظر بعض الأعراب إلى إبل في واد وهو مذهول من كثرتها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبك؟ قال: نعم.
قال: فهي لك كلها، فالرجل رجع إلى قومه أشبه بالمجنون، وقال لقومه: يا قوم! أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، أي: ليس عطاء معتاداً.
فالله عز وجل امتن عليه بهذه المنن الثلاث: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8].
وهنا طرح الرازي رحمه الله سؤالاً فقال: أما ذم الله فرعون لما قال لموسى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:18]، أي: أن فرعون اللئيم يمتن على موسى الكليم بهذا: كنت تأكل من طعامنا وتشرب من مائنا، والله عز وجل هنا يمتن على محمد صلى الله عليه وسلم.
وحقيقة أن سؤال الرازي رحمه الله هذا عجيب، فالله عز وجل لا يسأل عما يفعل.
لكن على كل حال هو طرح هذا السؤال وأجاب بقوله: شتان شتان بين مآن هو الله، ومآن هو فرعون، قال: ثم عاقبة المن مختلفة، ففرعون يقول: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:18]، ومعنى كلامه: فما بالك لا تعبدني ولا تخدمني، والله عز وجل يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8] فما بالك تقطع عني رجاءك ليستمر رجاؤك لسبق نعمي عليك.(19/25)
توجيهات سماوية للنبي صلى الله عليه وسلم
ثم ختم ربنا جل جلاله هذه السورة بثلاث توجيهات: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9 - 11].
واليتيم هو: الذي فقد أباه قبل البلوغ، فلا تقهره، ولا تؤذه، ولا تتسلط عليه.(19/26)
وصايا القرآن باليتامى
قال العلامة الشيخ عطية رحمه الله في أضواء البيان: علم من استقراء القرآن أن الآيات التي أوصت باليتامى على خمسة أنواع: النوع الأول: آيات جاءت لدفع المضار عن اليتيم، كقول الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام:152] وكقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10].
ثانياً: جلب المنفعة له، فالله عز وجل يأمرنا بأن نرعى مال اليتيم، وأن نحفظه، فإذا بلغ رشده دفعناه إليه، قال الله عز وجل: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء:6] إلى أن قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء:6].
ثالثاً: عدم الإساءة لليتيم في الجانب النفسي، يعني ليس فقط في الجانب المادي، لا، بل حتى في الجانب النفسي، قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9]، وقال ذاماً أقواماً: {كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر:17]، وقال: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:2].
رابعاً: أمر الله عز وجل بالإحسان إلى اليتيم وحسن تربيته، يقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة:220].
خامساً: يعلي الله عز وجل في القرآن الكريم من شأن اليتيم، ويبين أن جلب المنفعة له من خصال الصالحين والأنبياء، وفي قصة موسى مع الخضر يتكلف العبد الصالح ببناء جدار، والبناء يتحمل فيه الإنسان مشقة وعنتاً، ثم بعد ذلك يعلل ويقول: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82].
وهنا تنبيه: ليس من قهر اليتيم زجره لينصلح حاله، فلو أن إنساناً ولي يتيماً، فالواجب عليه أن يعامله كما يعامل ولده، وولدك يحتاج أحياناً إلى زجر وقرع بالكلام، ويحتاج إلى ضرب أحياناً، فكذلك اليتيم وكما قيل: فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم(19/27)
بيان مفهوم السائل وأحكامه
قال الله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] السائل فيها تفسيران: التفسير الأول: السائل عن أحكام الدين، فمن جاء يسأل عن الحلال والحرام فإنه لا ينهر، اللهم إلا إذا كان سؤاله يقتضي نهراً، كما نهر النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة لما قالت: وهل تحتلم المرأة؟ ونهر صلى الله عليه وسلم الرجل الذي سأل عن ضالة الإبل؟ ونهر صلى الله عليه وسلم من قال: يا رسول الله! من أبي؟ ونحو ذلك، وهذا معروف عند أهل العلم.
التفسير الثاني: السائل هو: الذي يطلب نولاً من مال أو طعام، فهذا السائل يجيبه ببذل يسير أو رد جميل.
تنبيهان: التنبيه الأول: شاع عند الناس حديث: (لا ترد السائل ولو جاء على فرس)، وبعضهم يقول: للسائل حق وإن جاء على فرس.
قال الإمام أحمد: لا أصل له وهو حديث مخترع.
وقد يكون السائلون هم الذين اخترعوه كما اخترع غيرهم أحاديث، فالسائل إذا كان محتاجاً يعطى، وإذا كان غير محتاج فلا يعطى، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لما جاءه رجلان يطلبان الصدقة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله جزأها ثمانية أجزاء؛ فإن كنتم من أهلها أعطيتكم وإلا فلا).
وأخبر صلى الله عليه وسلم (أن من سأل وله ما يكفيه جاءت مسألته يوم القيامة خموشاً في وجهه، حتى يلقى أحدهم ربه وليس في وجهه مزعة لحم).
ولو أننا أعطينا من اعتاد التسول لكان هذا من التعاون على الإثم والعدوان، إذ قد تجد الشاب فارع الجسم، قوي العضلات، حاضر القوة، ثم بعد ذلك تعرف من حاله أنه قد احترف السؤال، ولو أنك أعطيته تكون متعاوناً معه على الإثم والعدوان، وكأنك تقول له: أرق ماء وجهك وابذل حياءك في مقابل دريهمات ترمى لك، فتكون قد تعاونت معه على الإثم والعدوان.
التنبيه الثاني: قال الإمام الألوسي رحمه الله: إذا كان السائل لا يندفع إلا بالزجر فإنه يزجر.
أي: إذا كان إنسان يسأل وأنت تعرف أنه لا يستحق فرددته ثم عاد فإنه يزجر، وقد فعل ذلك عمر، عندما قام واحد يسأل في المسجد، فـ عمر رضي الله عنه قال لأحد الصحابة: خذ الرجل هذا وأطعمه، فجاء في صلاة العشاء فوجد الرجل يسأل، فقال للصحابي: ألم أقل لك أطعمه.
قال له: أطعمته.
فـ عمر رضي الله عنه أمسك بالشيء الذي يحمله الرجل ونظر فيه فوجد فيه خبزاً وكذا وكذا، فذهب فنثره في إبل الصدقة ثم ضرب بها وجهه وقال له: الآن سلمنا، فهذا زجر من عمر رضي الله عنه؛ لأنه وجد الرجل قد احترف الأمر.(19/28)
التحدث بالنعمة الدينية والدنيوية
قال الله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] النعمة إما أن تكون نعمة دينية أو دنيوية، فالنعمة الدينية يتحدث الإنسان بها: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، الحمد لله الذي وفقنا لصيام رمضان، وهذا في الشيء العام.
أما الشيء الخاص الذي هو سر بينك وبين الله فلا تتحدث به واجعله سراً، فكونك تصدقت، أو صليت بالليل، أو ختمت القرآن كذا من المرات، أو فعلت كذا وكذا من الخيرات فاجعله سراً بينك وبين ربك.
ثم النعمة الدنيوية فتحدث بها بأن يرى أثرها عليك، وفي الحديث الذي رواه النسائي عن مالك بن نضلة الجشمي رضي الله عنه قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلي فإذا أنا رث الهيئة، فقال: ألك مال؟ قلت: نعم من كل المال، فقال صلى الله عليه وسلم: فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)، أي: أعطاك الله مالاً ليرى أثر هذا المال في ثيابك، وطعامك، ومسكنك، ومركبك من غير سرف ولا مخيلة، وبذلك تكون قد تحدثت بنعمة الله.
نسأل الله أن يتم نعمته علينا.(19/29)
تفسير سورة الشرح
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم من المقبولين.
سورة الشرح أو سورة الانشراح هي في معناها مكملة لسورة الضحى، ففي سورة الضحى امتن الله عز وجل على نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بتلك النعم الثلاث: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8].
وهاهنا أيضاً يعدد بعض نعمه على نبيه صلى الله عليه وسلم، فيقول سبحانه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1 - 4].(19/30)
شرح الله لصدر نبيه
قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] قال أهل التفسير: الاستفهام هنا للتحقيق، أي: أن حرف الاستفهام وهو (الهمزة) إذا دخلت على (لم) النافية فإنه يراد بها التحقيق، كما في قول الله عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8]، وكما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40]، وكما في قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح (ألم نشرح لك صدرك) بلى، قد شرح الله له صدره.
قال أهل التفسير: المعنى: ألم نوسع لك صدرك؟ ألم نفسح لك في صدرك؟ قال أهل التفسير: ومن شرحه لصدر نبيه صلى الله عليه وسلم: أن صدره وسع علوم الأولين والآخرين، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (أوتيت جوامع الكلم)، أي: يجمع المعنى الغزير في اللفظ اليسير.
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضوان الله عليهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت صوتاً يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فجاءني ملكان ومعهما طست فيه ماء زمزم، فشرحا صدري إلى أسفل بطني) أي: شقا صدره صلوات ربي وسلامه عليه.
والحديث أيضاً عندما الإمام أحمد عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان أبو هريرة جريئاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن أشياء لا يسأل عنها غيره.
قال مرة: يا رسول الله! ما أول نبوءتك؟ قال: فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً وقال: إني في الصحراء ابن عشر سنين وأشهر -يعني: كان عمره صلوات ربي وسلامه عليه عشر سنوات وشهور- إذ رأيت ملكين بأرواح فاستقبلاني بوجوه لم أراها لخلق قط وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أجدها على أحد من خلق الله قط، قال أحدهما للآخر: أهو هو؟ قال: نعم.
قال: فأخذ كل منهما بعضدي لا أجد لأحدهما مساً، فقال أحدهما للآخر: أضجعه فأضجعاني، ثم قال: افلق صدره، ففلق صدري من غير وجع ولا دم، ثم استخرجا منه مثل العلقة.
قال: أخرج الغل والحسد، ثم قال: أدخل الرقة والرحمة، فأدخلا شيئاً شبيه الفضة، ثم هز إبهام رجلي اليمنى، وقال: اغدو واسلم رحمة للصغير ورقة للكبير).
قال العلامة الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله: ومن شرح الصدر الممتن به على نبينا صلى الله عليه وسلم: ما آتاه الله عز وجل من صبر وحلم وصفح ورقة، حتى أنه كان ليعامل العدو اللدود معاملة الصديق الصدوق، وهذا ظاهر في سيرته صلوات ربي وسلامه عليه لما غزا ثقيفاً، وأصيب عدد من أصحابه وما استطاعوا أن يفتحوا حصونها، ولما استحر فيهم القتل رضي الله عنهم وأوجعوا قالوا: (يا رسول الله! ادع على ثقيف، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم)، فدعا بذلك ثلاث مرات فجاءت قبيلة ثقيف كلهم مؤمنون مسلمون.
وكذلك لما جاء أبو هريرة رضي الله عنه يبكي قال صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك؟ قال: يا رسول الله! أمي دعوتها إلى الإسلام فأسمعتني فيك ما أكره، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال: اللهم اهد أم أبي هريرة، اللهم اهد أم أبي هريرة).
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فانطلقت أعدو والباب مجاف، وسمعت صوت خضخضة الماء، قالت أمي: على رسلك يا أبا هر! ثم خرجت إلي وقد عجلت عن خمارها، وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فنبينا عليه الصلاة والسلام اتسع صدره حتى شمل العدو المخالف مع المؤمن الموافق، وكان صدره عليه الصلاة والسلام فسيحاً بنعمة الله عز وجل، ومثلما آتاه الله صدراً منشرحاً آتاه شريعة سهلة ميسرة لا تشق على شيخ كبير، ولا شاب صغير، ولا امرأة عجوز، ولا فتاة محدثة، وإنما الكل يجد في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ما يناسبه وما يصلح دنياه وآخرته.(19/31)
وضع الله لوزر نبيه وكلام العلماء فيه
قال الله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2] وضعنا: حططنا وأزلنا.
هذه الآية كقول الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:1 - 2].
و
السؤال
ما هو الوزر الذي وضع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال بعض أهل التفسير: هو ما عاتبه عليه ربه جل جلاله في القرآن من الأمور الراجعة للاجتهاد، كقوله سبحانه: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1]، {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67].
وقال بعضهم: بل المراد ما كان من أمر الجاهلية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على مذهب قومه، ولعله قد عبد صنماً أو وثناً.
وقال بعضهم: هي ذنوب أمته، ونسبت إليه؛ لأنه كان مشغولاً بها صلوات الله وسلامه عليه.
وقال الحسين بن الفضيل رحمه الله: بل المراد الخطأ والنسيان؛ لأن الخطأ والنسيان في حق الأنبياء ليس كما هو في حق غيرهم، وكلنا يقرأ في القرآن قول ربنا جل جلاله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115] وقد عدها ربنا معصية {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121].
{وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2].
وهاهنا بحث قال أهل العلم فيه: ينبغي الجزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البعثة كان معصوماً من الذنوب صغيرها وكبيرها، وهذا نص القرآن في قول ربنا سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، والتأسي لا يتحقق لو كان يذنب، فهو صلى الله عليه وسلم بعد البعثة لا يذنب ولا يتعمد كبيرة ولا صغيرة، فهو معصوم من الذنوب.
وأما قبل البعثة فهو كذلك صلوات ربي وسلامه عليه لم يأت كبيرة قط؛ لأنه قد هيئ منذ صغره للنبوة، ولو كانت عهدت عليه كبيرة لاحتج بها مخالفوه وشانئوه بها، كأمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة وعقبة بن أبي معيط وشيبة بن ربيعة ومن كان مثلهم من صناديد الكفر، لقالوا: يا محمد! أنت فعلت كذا أو أنت قلت كذا، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عهدت عنه فاحشة ولا كذبة ولا غدراً ولا خيانة صلوات ربي وسلامه عليه.
وأما بالنسبة للصغائر قبل البعثة فهي محل احتمال، فامتن الله عز وجل عليه بهذه المنة.
{الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:3] أي: أنقض حتى سمع لظهرك نقيض صوت العظام والمفاصل، وكأن هذا الأمر كان ثقيلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل بشره.(19/32)
رفع الله لذكر نبيه
ثم قال له: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] قال مجاهد رحمه الله: المعنى: لا أذكر إلا ذكرت معي، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المعنى: أنه لا يذكر الله إلا ويذكر معه محمد رسول الله، في الأذان والإقامة والتشهد في الصلاة وخطبة الجمعة وخطبة العيد وخطبة النكاح، وإذا أراد إنسان أن يدخل دين الإسلام لا يتم له الأمر إلا بعد أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وهذا المعنى أخذه حسان عليه من الله الرضوان حين قال: وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد فاسمه صلوات ربي وسلامه عليه مرفوع فوق المآذن في مشارق الأرض ومغاربها، فيذكر اسمه بالليل والنهار.
وقال الزمخشري: من رفع الذكر: أن الله عز وجل قرن بينه وبين نبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن فقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور:54]، وقال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62]، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
قال الرازي رحمه الله: ومن رفع الذكر أن الله عز وجل ما ناداه في القرآن باسمه، ما قال كما قال: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144]، {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55]، {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105]، فهو لم يقل أبداً: يا محمد! بل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1].
وهذا كله من رفع الذكر.(19/33)
تيسير الله على النبي وأمته
قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6].
هذه الآيات نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام وهو في مكة محاصر مضطهد، وهو صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يستطيعون أن يظهروا دينهم ولا أن يجهروا بدعوتهم، ولا أن يواجهوا مخالفيهم، فالله عز وجل يعده ويقول له: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6].
قال الإمام القرطبي رحمه الله: ويمكن أن تفسر هذه الآية بأن العسر ما كان في مكة من ضيق واضطهاد، فيحصل معه يسر وهو ما كان يوم الفتح حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل لا يعرف أوله من آخره، فجعل الله بعد العسر يسراً.
قال: ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله له مكة واليمن، وهاداه ملوك هجر والبحرين، وآتاه الله عز وجل بالغنائم والأنفال حتى كان يعطي الرجل الواحد المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويعد لأهله قوت سنة، وهذا كله في حياته صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا المعنى فهمه الصحابة حق الفهم، فلما كان أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه في بعض الغزوات وجاء الروم بجموع كثيرة، وخاف أبو عبيدة رضي الله عنه من كثرتهم، كتب إلى عمر رضي الله عنه يشكو إليه، ويطلب دعاءه، فأجابه عمر: أما بعد: فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من ضيق وشدة يجعل الله له فرجاً، ولن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
وهذا المعنى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم به في أحلك اللحظات، وأشد الحالات، ومن ذلك: عندما كان الصحابة رضي الله عنهم يعذبون في مكة جاء خباب بن الأرت فشكا إليه وقال: يا رسول الله! ألا تدعو لنا، ألا تستنصر لنا؟ قال: (فاعتدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والذي نفسي بيده! لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يرده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
فينبغي أن يعلم الإنسان أنه لو كان في ضيق فإن بعد الضيق فرجاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً).
وليعلم أن الفرج من الله عز وجل آت لا محالة: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.(19/34)
أمر الله لنبيه بدوام عبادته
ختم ربنا جل جلاله هذه السورة بأمرين مثلما ختم سورة الضحى، قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9 - 11]، وهنا أيضاً قال الله عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8].
وقد نبه أهل العلم إلى أن بعض المبتدعة قرأ هذه الآية: فإذا فرغت فانصب.
وقال: نصب إماماً، وهم الرافضة ويقصدون بذلك علياً، قال بعض أهل التفسير: ويمكن للناصبي المبتدع في الجهة المقابلة أن يقرأها: فإذا فرغت فانصَب.
من النصب وهو كراهية آل البيت، ودين الله لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (فإذا فرغت) من الفرائض (فانصب) في قيام الليل.
والنصب هو: التعب.
وقال الكلبي: فإذا فرغت من جهاد عدوك فاستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات.
وقال قتادة رحمه الله: فإذا فرغت من أمر الخلق فاجتهد في عبادة الحق.
وقال آخرون: فإذا فرغت من أمور نفسك فتفرغ لعبادة ربك، وانصب في عبادة ربك.
والمعنى: أن الله عز وجل يريد لنبيه صلى الله عليه وسلم ولكل مؤمن أن ينتقل من عبادة إلى عبادة، ومن طاعة إلى طاعة، ولنتأمل شهر الصيام، فإذا أفل نجمه دخلت أشهر الحج، فإذا انتهى الحج دخل شهر الله المحرم، وأحب الصيام إلى الله بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، وهكذا المسلم ليله ونهاره في كل وقت من أوقات العمر يتقلب من عبادة إلى عبادة، ومن طاعة إلى طاعة، وليس هناك سن للتقاعد في عبادة الله عز وجل، بل كما قال الله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
وقوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:8].
أي: لتكن رغبتك وحاجتك إلى ربك.
وبعض أهل التفسير فسر هذه الآية بقوله: فإذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، وهذا المعنى صحيح، ويشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل: (يا معاذ! والله إني لأحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى.(19/35)
تفسير سورتي التين والعلق
إن الله سبحانه وتعالى ذو الجلال والإكرام يقسم بما شاء من مخلوقاته، كالتين والطور والبلد الأمين، لكن المخلوق لا يجوز له أن يقسم إلا به سبحانه؛ لأن الله أعظم من كل عظيم جل جلاله، وما الحلف إلا إقسام بمعظم، وتتجلى عظمة الرب سبحانه في خلقه لبني آدم بهذا القوام الحسن السوي، ولا يكون لهذا الإنسان قيمة عند ربه سبحانه إلا بإيمانه وعمله الصالح، وسبيل ذلك العلم، وأعظم وسائل العلم القراءة والكتابة، فامتن الله بهما على رسوله، بل أمره بالقراءة لما يتلى عليه، وتكفل له بكبت عدوه وإهلاكه إن عمل بمقتضى ما علمه من السجود لربه والاقتراب من مولاه، وحاشا رسول الله أن يخالف ذلك طرفة عين.(20/1)
مقدمة بين يدي تفسير سورة التين
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم من المقبولين، هذا الدرس في تفسير سورة التين، وهي سورة مكية، وقد اشتملت على ثمان آيات في أربع وثلاثين كلمة في مائة وخمسين حرفاً، يعني عدد حروف سورة التين عدد حروف سورة الشرح، فمن وفقه الله إلى قراءة هذه السورة المباركة فله من الحسنات ألف وخمسمائة حسنة، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.
وهذه السورة افتتحت بالقسم، فأقسم ربنا جل جلاله فيها بأربعة من مخلوقاته، أقسم بالتين، وبالزيتون، وبطور سينين، وبالبلد الأمين.
وتقدم معنا أن سورة الشمس افتتحت بالقسم، وأقسم ربنا جل جلاله فيها بسبعة أشياء، وسورة الليل أقسم فيها ربنا بثلاثة أشياء: بالليل والنهار، وخلق الذكر والأنثى، وسورة الضحى أقسم ربنا جل جلاله فيها بشيئين: بالضحى، وبالليل.
فالله عز وجل يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس لنا معشر المخلوقات إلا أن نقسم بالله جل في علاه؛ لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).
وهذه السورة المباركة شأنها شأن السور المكية التي تناولت الحديث عن نعم الله عز وجل في الكون والآفاق وخلق الإنسان، والاستدلال بهذا كله على أن البعث والجزاء حق.(20/2)
تفسير قوله تعالى: (والتين والزيتون)
قال الله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1].
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي وغيرهم من أهل التفسير: قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي منه تعصرون.
يعني: الله عز وجل أقسم بهاتين الثمرتين: التين، والزيتون.
قال أهل التفسير: أقسم ربنا جل جلاله بالتين؛ لأنه فاكهة حسنة المظهر طيبة المخبر، سهلة الجنى، وتؤكل قوتاً وأدماً وفاكهة، وهي بمقدار المضغة، ونعمة الله عز وجل فيها ظاهرة.
قال ابن القيم رحمه الله: والتين أقسم به ربنا جل جلاله لظهور العزة فيه؛ فإنه يستعمل قوتاً، يمكن للإنسان أن يستغني به، ويستعمل أدماً، يمكن أن يؤتدم به ويؤكل بالخبز، ويستعمل كذلك فاكهة يمكن للإنسان أن يتفكه به بعد الطعام.
ثم قال: وهو فاكهة لا عجم لها.
يعني: ليس فيها نوى كالعنب مثلاً والتمر، وإنما تؤكل كلها سهلة دون أن يخشى الإنسان غائلتها، ثم إن التين يستعمل في صنع كثير من الأدوية.
قوله: {وَالزَّيْتُونِ} [التين:1]، الزيتون أيها الإخوة الكرام الآية فيه ظاهرة؛ فإن الله عز وجل جعله ثمرة تؤكل، وجعل منه الزيت الذي يُعصر، فيدهن ويستصبح به، أي: يجعل في المصابيح، ويتداوى به، وسماه الله عز وجل نوراً كما بين في كتابه الكريم قال تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ} [النور:35]، فضرب الله عز وجل المثل بهذه الثمرة.
ونبهنا ربنا جل جلاله على هذه الآية في كثير من آيات كتابه، فقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:99].
فأقسم الله عز وجل بالتين والزيتون، والمراد: القسم بمنبتهما ومكانهما وهي الأرض المباركة فلسطين، كما قال بعض أهل التفسير، وليس المراد كما قال ابن عباس ومن معه: إن التين هو تينكم الذي تأكلون، والزيتون زيتونكم الذي تعصرون، وإنما المقصود منبتهما وهي الأرض المباركة، واستدلوا على ذلك بأن الله أتبعها بذكر طور سينين الذي كلم عليه موسى، والبلد الأمين الذي ولد فيه محمد صلى الله عليه وسلم، فذكر أماكن هؤلاء الأنبياء الكبار أصحاب الشرائع صلوات الله وسلامه عليهم.(20/3)
تفسير قوله تعالى: (وطور سينين)
قال الله تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ} [التين:2].
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: الطور: هو الجبل بلغة النبط ولغة الحبش، وقد ذكره ربنا جل جلاله في كثير من آيات القرآن كقوله سبحانه: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52].
زقوله سبحانه: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه:80].
وقوله عز وجل: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص:46].
وقول الله عز وجل: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1 - 2] يعني: أقسم بهذا الجبل في أول سورة الطور، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى، وطمع موسى فيما هو أكثر من الكلام فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، وهو الجبل الذي دفن عنده موسى عليه السلام، كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن موسى عليه السلام لما جاءه ملك الموت سأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة مقدار رمية حجر، قال عليه الصلاة والسلام: (فلو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر) والكثيب هو مجتمع الرمل.
فأقسم ربنا بطور سينين، وسينين قالوا: هو المكان الذي تجتمع فيه الشجر، أيضاً بلغة الحبشة، وهذا كله على مذهب من يقول بأن في القرآن كلمات أعجمية.(20/4)
تفسير قوله تعالى: (وهذا البلد الأمين)
قال الله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3].
إن الله عز وجل تدرج في القسم من الفاضل إلى ما هو أفضل، فأقسم بالتين والزيتون وهو المكان الذي ولد فيه المسيح عيسى بن مريم، ثم بطور سينين، وهو المكان الذي كلم الله فيه موسى، ثم أقسم بالبلد الأمين موطن محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا تعارض -أيها الفضلاء- بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] فقد تقدم معنا أن المفسرين قالوا فيها: (لا) هنا زائدة، كما في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] والمعنى: حرم عليكم أن تشركوا به شيئاً.
وفي قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] أي: ولا تستوي الحسنة والسيئة.
وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد:29] أي: ليعلم أهل الكتاب.
وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65] المعنى: فوربك لا يؤمنون حتى يحكموك، فـ (لا) هنا زائدة على عادة العرب في كلامهم، أو يكون المعنى: لأقسم بهذا البلد، وتكون اللام للتوكيد، لكن أشبعت فتحتها حتى عادت ألفاً، كما في قول بعض العرب: وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم تر قبلي أسيراً يمانيا وقول الآخر: إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضّاها ولا تملق أي: لا ترضّها، لكن أشبع الفتحة فأثبت الألف.
فالله عز وجل أقسم بالتين والزيتون، وطور سينين، وأقسم بالبلد الأمين، والمقسم عليه، قوله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] أي: يقسم الله جل جلاله أنه خلق هذا الإنسان في أحسن صورة وأكمل هيئة.
قال الإمام القاضي أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله: ثبت بهذه الآية أن الإنسان أحسن شيء خلقه الله قط: جمال صورة، وبديع تركيب، له لسان ذلق، وعينان بصيرتان، وأذنان سميعتان، والرأس بما وعى، والبطن بما حوى، واليدان بما بطشتا، والرجلان بما مشتا، ثم جعله الله عز وجل سميعاً بصيراً مدبراً مريداً متكلماً حكيماً.
هذه الصفات كلها وضعها الله عز وجل في هذا الإنسان، خلقه الله عز وجل طويل القامة، لا يمشي مكباً على وجهه كسائر الحيوانات، وخلقه الله عز وجل يأكل بيديه ونوع له المطاعم والمشارب، ثم كساه بهذا اللباس الذي زاده جمالاً، قال عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26] فهل رأيتم حماراً أو بقرة تلبس عباية أو بنطالاً أو قميصاً؟ لا، وإنما تمشي كما خلقها الله، لكن الإنسان خلقه الله عز وجل باللباس الذي يستر سوأته.
ثم خلق له الريش الذي يزيده جمالاً، عمامة أو شالاً، ويلبس عباءة، وينتعل في رجليه جوارب، وهذه كلها مكملات بعدما ستر العورة.(20/5)
تفسير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)
قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4].
يذكر الإمام القرطبي رحمه الله قصة في هذا الموطن فيقول: كان هناك شخص اسمه عيسى بن موسى الهاشمي، وكان يحب زوجته حباً جماً، في أيام خلافة هارون الرشيد رحمه الله الخليفة الصالح العادل، فهذا الرجل كان يتكلم مع زوجته يؤنسها، فقال لها: أنت طالق ثلاثاً إن لم تكوني أجمل من القمر، فالمرأة كانت ورعة وصاحبة دين فاعتزلته، فوجد الرجل وجداً شديداً، وندم ندماً شديداً على ما قال، وذهب إلى هارون فقال له: أنا بالله ثم بك أوجد لي مخرجاً، ف هارون جمع الفقهاء، فكلهم أفتوا بأن المرأة قد بانت منه، غير فقيه واحد كان ساكتاً، فطلب منه الخليفة أن يتكلم فقال: يا أمير المؤمنين اقرأ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] فقرأ هارون -وكان رجلاً عالماً- حتى بلغ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] فقال الفقيه: حسبك، فإن الله عز وجل قد أفتى، فالإنسان أجمل من القمر، ف هارون رحمه الله قال لذلك الرجل الذي طلق زوجته ثلاثاً: قم ولا تعد لمثل ذلك، ثم أرسل الخليفة إلى زوجته أن أطيعي زوجك فأنت حلال له.
فقول الله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] أي: في أحسن صورة وأجمل هيئة.(20/6)
تفسير قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين)
قال الله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:5 - 6].
هنا للمفسرين قولان: الأول: قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وغيره: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5]، قالوا: أي: إلى أرذل العمر، واستدلوا على ذلك بالآيات التي تناولت تلك الحال، كقول الله عز وجل: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68].
وقول الله عز وجل: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل:70].
وقول الله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:54] لكن الإشكال في الاستثناء، وذلك أن الله عز وجل قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5] أي: إلى أرذل العمر، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [التين:6] فهل الذين آمنوا مستثنون؟ يقول الشيخ العلامة عطية رحمة الله عليه في أضواء البيان: فيكون الاستثناء راجعاً إلى حال المؤمنين الذين إذا تقدم بهم العمر فإنهم لا يعانون خرفاً ولا هذياناً.
قال: وقد تواتر عند الخاصة والعامة أن حافظ القرآن المداوم على تلاوته لا يصيبه الخرف.
هذا شائع حقيقة بين الناس، وإن لم يكن هناك نص يؤيده، لكن عندنا الصالحون من عباد الله بلغوا من الكبر عتياً وبلغوا من العمر أرذله وهم في كامل قواهم العقلية.
فهذه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين رضي الله عنها زاد عمرها على المائة وما سقط لها سن، ودخل عليها الحجاج الطاغية وهي في ذلك العمر وقد صلب ولدها عبد الله بن الزبير الصالح القانت العابد رضي الله عنه، فقال لها: إنك امرأة عجوز قد خرفت، قالت له: لا والله ما خرفت، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج في ثقيف كذاب ومبير -أي: سفاح- أما الكذاب فقد عرفناه -وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي - وأما المبير فما إخاله إلا أنت)، تقول هذا الكلام وهي فوق المائة، ثم أمر الحجاج بأن ينزل ولدها وأن يُسلم إليها، فقامت بتغسيله بنفسها وهي فوق المائة من عمرها، وحنطته وما عاشت بعده إلا أياماً رضي الله عنها وأرضاها.
وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه الذي بلغ من العمر تسعاً وتسعين سنة، وقيل: بل بلغ مائة سنة وسنة، ومع ذلك كان في كامل حضور ذهنه واستحضاره للأحكام، وكان يفتي الناس رضي الله عنه، وقس على ذلك خلقاً كثيرين.
والآن يوجد أناس طاعنون في السن قد صار لأولادهم أحفاد، ومع ذلك الواحد منهم في كل يوم يقرأ من القرآن عشرة أجزاء، لكنه يأكل ويشرب قليلاً، وليس له عمل يشغله إلا القرآن يعكف عليه، وينتظر أن يأتيه النداء من ربه فيجيب، فنسأل الله أن يحسن لنا الختام.
فالتفسير الأول لقوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5] أي: إلى أرذل العمر.
أما التفسير الثاني لقوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5] أي: النار، والعياذ بالله.
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا التفسير هو الصحيح من وجوه: الوجه الأول: أن من يرد إلى أرذل العمر قليل من الناس، وأكثرهم يموت قبل ذلك.
الوجه الثاني: أن المؤمنين والكفار سواء في الرد إلى أرذل العمر.
الوجه الثالث: هذه الآية لها نظائر في القرآن، كقول الله عز وجل: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:24 - 25].
وكقول الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:1 - 3].
إذاً: فرددناه أسفل سافلين، أي: إلى النار في أسفل سافلين، ومعلوم أن الجنة في أعلى عليين، ولعل هذا التفسير هو الصواب، والعلم عند الله تعالى.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: لما وصف الله الإنسان بهذه الصفات الزاكيات طغى وعلا حتى قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] فجعله الله عز وجل مشحوناً قذراً مملوء النجاسة، وجعلها تخرج على ظاهره خروجاً منكراً على وجه الاختيار تارة وعلى وجه الغلبة تارة؛ من أجل أن يعرف قدره.
يعني: أن الإنسان يتعظ بما يخرج منه في الحمام من النجاسة، ولذلك قال القائل: يا مظهر الكبر إعجاباً بصورته انظر خلاك فإن النتن تثريب لو فكر الناس فيما في بطونهم ما استشعر الكبر شبان ولا شيب وكما قيل: إن المهلب الذي كان قائداً من القواد العظام، جاء يمشي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب خز يتبختر، فقام له الناس إلا ابن أبي ذئب -وكان من نظراء مالك - كان جالساً ماداً رجليه، فجاء المهلب فقال له: أما عرفتني؟ قال: بلى عرفتك.
قال له: فلم لم تقم؟ قال له: لأني عرفتك.
قال له: فمن أنا؟ قال له: أنت أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين هذا وذاك تحمل في جوفك العذرة.
فالله عز وجل جعل الإنسان سميعاً بصيراً متكلماً مريداً مدبراً مفكراً ناطقاً، لكن جعل في جوفه النجاسة من أجل أن لا يعدو قدره ويتكبر.
قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:6] فهؤلاء الذين استثناهم ربنا.
قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:6] أي: غير مقطوع، وهذه بشرى عظيمة.
قال ابن عباس: من واظب على عمل صالح في شبابه ثم عجز عنه عند الهرم أجرى عليه الله الأجر والثواب.
وليستبشر بذلك كبار السن الذين تعودوا على صلاة الجماعة وألفوا بيوت الله، وتعودوا صيام التطوع، وتعودوا كثيراً من الأعمال الصالحة، وعجزوا وما استطاعوا أن يأتوا إلى المسجد، وما استطاعوا أن يصوموا تطوعاً، بل ربما ما استطاعوا أن يصوموا رمضان، فإن الله يكتب لهم الجر والثواب، ولا ينقطع عنهم حتى يموتوا.(20/7)
تفسير قوله تعالى: (فما يكذبك بعد بالدين)
قال الله تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7] أي: ما الذي يحملك يا عبد الله على التكذيب بالجزاء والحساب والجنة والنار؟! ألم يخلقك ربك في أحسن تقويم؟! وذكر الله عز وجل هذه الآية من أجل أن يستدل بها على البعث والنشور، كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [غافر:64].
كقوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن:3].
كقوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:4].
فإذا كنت أيها الإنسان مكرماً بأن الله قد خلقك وأنشأك النشأة الأولى فينبغي أن تقر بأنه قادر على أن يعيدك مرة ثانية، قال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27].(20/8)
تفسير قوله تعالى: (أليس الله بأحكم الحاكمين)
قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8].
روى الإمام الترمذي أن عبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب رضوان الله عليهما كانا إذا قرأا هذه الآية قالا: (بلى ونحن على ذلك من الشاهدين).
فحكمة الله عز وجل ظاهرة في أمرين اثنين: في خلقه، وفي قضائه، أما في خلقه فقد قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] وأما في قضائه فإنه لا يسوي جل جلاله بين مختلفين، قال عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
وقال عز وجل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
هذه السورة أيها الإخوة الكرام جدير بنا أن نتأملها وأن نكثر من تلاوتها، وأن ننظر في عظمة خلق الله عز وجل، خاصة في زماننا هذا بعدما تقدمت العلوم وتطورت الفنون، واكتشف الناس ما لم يكونوا يعرفون، فنستدل بذلك على أن الخالق الأعظم جل جلاله قادر على أن يعيدنا كما بدأنا، أسأل الله أن يجعلنا من المتعظين.(20/9)
مقدمة بين يدي تفسير سورة العلق
بسم الله الرحمن الرحيم.
معنا في هذا الدرس تفسير سورة العلق، وهذه السورة المباركة هي إحدى ست سور في القرآن افتتحت بالأمر، فقال سبحانه هنا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، ثم القواقل الخمس: الكافرون، والإخلاص، والفلق، والناس، والجن، هذه السور الست افتتحت بالأمر الموجه لرسول صلى الله عليه وسلم.
وسورة العلق مكية بإجماع المفسرين، وقد اشتملت على تسع عشرة آية، واثنتين وتسعين كلمة، في مائتين وثمانين حرفاً، من وفقه الله لقراءتها فله من الحسنات ثمانمائة وألفا حسنة، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.
هذه السورة عند جمهور أهل العلم هي أول ما نزل من القرآن، أي: الآيات الخمس الأولى منها هي أول ما نزل من القرآن، ويدل على ذلك حديث أمنا عائشة رضي الله عنها في الصحيحين قالت: (أول ما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي أنه كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح).
قال أهل الحديث: واستمر ذلك لمدة ستة أشهر، وهذا تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصادقة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة)؛ لأن النبوة استمرت ثلاثاً وعشرين سنة، فالرؤيا الصادقة كانت ستة أشهر، يعني: جزءاً من ست وأربعين جزءاً، فأول ما بدأ به صلى الله عليه وسلم من الوحي أنه كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتعبد ويتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ثم يرجع لـ خديجة فيتزود لمثلها حتى فجعه الوحي وهو في الغار، فقال: (اقرأ، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم قال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، ثم قرأ عليه الخمس الآيات الأول من سورة العلق، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يرجف فؤاده، وقال: لقد خشيت على نفسي، فطمأنته رضي الله عنها وجزاها الله عن نبي الإسلام خيراً، قالت: كلا والله يا ابن عم ما يخزيك الله أبداً، إنك لتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، ثم صحبته إلى ابن عمها ورقة) إلى آخر القصة المعروفة.
فالله عز وجل نبأ محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات، وأرسله بـ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2].(20/10)
تفسير قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)
قال الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1].
القراءة في اللغة: إبراز الشيء وإظهاره، ومنه قول القائل في وصف الناقة: لم تقرأ جنيناً، أي: لم تنتج ولم تبرز جنيناً، أي: ولم تلد.
قوله: ((اقْرَأْ)) هنا سؤال طرحه أهل التفسير: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمياً؟
الجواب
نعم، فكيف يوجه إليه الأمر بالقراءة؟ قالوا: القراءة على نوعين: إما أن تكون قراءة من شيء مكتوب، وإما أن تكون قراءة من متلو، وهاهنا قراءة من متلو، فجبريل عليه السلام يتلو ويأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بأمر الله أن يردد، هذه هي القراءة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك بعض الناس يستغرب إذا سمع أحد العلماء وقد كُف بصره، يقول: أنا قرأت في كتاب كذا، أو قرأت في جريدة كذا، يقولون: هذا الرجل يكذب، كيف قرأ وهو أعمى؟! نقول: لا، القراءة إما أن تكون من مكتوب أو متلو.
قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] أي: اقرأ مفتتحاً ومبتدئاً ومنشئاً باسم الله، فالله هو الذي أرسلك، وهذا الوحي والرسالة منه، والأمر منه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67].
فقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ذكر ربنا جل جلاله هنا صفة من صفاته أو فعلاً من أفعاله وهو الخلق، وما قال: اقرأ باسم ربك الذي أوحى، أو: اقرأ باسم ربك الذي أرسل، وإنما قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، قالوا: لسببين اثنين: السبب الأول: أن الخلق هو ألزم أوصاف الربوبية، فالرب عز وجل هو الخالق، ثم يأتي بعد ذلك كونه رازقاً، وكونه نافعاً، قال الله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40].
السبب الثاني: أن المشركين كانوا مقرين بأن الله هو الذي خلقهم، قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25].
وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87].
وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9].
فمن أجل هذا ذكر ربنا جل جلاله هذه الصفة، وكأن إنساناً سأل: لم أقرأ: باسم الله؟ فجاء
الجواب
لأنه الذي خلق، كما في أول أمر في القرآن، قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] لم؟ {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] يعني: ما دام هو الخالق جل جلاله فينبغي أن يكون هو المعبود.(20/11)
تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من علق)
قال الله تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:2].
خلق الله عز وجل الإنسان وخلق الكائنات كلها، خلق الدواب والشجر والأنعام والحشرات والطيور والإنس والجن، لكنه ذكر الإنسان تشريفاً له، ولأمرين أولاً: من باب عطف الخاص على العام مثل: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر:4] الروح من الملائكة، لكن خصه الله بالذكر تشريفاً له، فهنا أيضاً لما كان الإنسان هو أشرف مخلوق خصه الله عز وجل بالذكر.
ثانياً: أن خلق الإنسان آية من آيات الله، كما قال سبحانه: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
وقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20].
وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58 - 59].
وقال في آية أخرى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35].
وفي قوله تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:2]، يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفي هذا تعريض بتحميق المشركين -يعني: وصفهم بالحمق- الذين لم يستدلوا بخلق أنفسهم على وحدانية الله جل جلاله.(20/12)
حقيقة العلقة ووجه ذكرها دون غيرها
قوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} العلقة: هي قطعة من الدم المتجمد، وهي المرحلة الثالثة أو الطور الثالث من خلق الإنسان؛ لأن الله عز وجل خلق الإنسان في سبعة أطوار، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون:12 - 14] ثم تأتي نسخ الروح: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] ووجه ذكر ربنا العلق ولم يذكر مرحلة التراب ولا مرحلة النطفة لسببين: الأول: أن ظهور آيته في العلقة أبلغ؛ لأن النطفة تكون من الرجل وتكون من المرأة كلاً على حدة، أما العلقة فلا تكون من مجموعهما، قال عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:2] أي: أخلاط، اختلطت نطفة المرأة بنطفة الرجل.
الثاني: أنهم ما رأوا مرحلة التراب، أي: ما شاهدوا خلق آدم عليه السلام، وقضية المني هذه بالنسبة إليهم أمر معتاد، وقضية العلقة كانوا يرونها بأنفسهم في حال إجهاض المرأة أو إسقاطها، وكانوا يعجبون من ذلك، فذكرها الله عز وجل.(20/13)
تفسير قوله تعالى: (اقرأ وربك الأكرم)
قال الله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:3] (اقرأ) هذا أمر آخر.
كأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل: كيف أقرأ وأنا أمي لا أعرف القراءة بعد؟ فقال الله له: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:3] وحقيقة الكرم: عطاء ينتفع به المعطى له من غير منٍّ ولا أذى، لكن الله عز وجل له المن كله، فهنا امتن عليه وقال: أنا أعلمك، أنا أفقهك، أنا أوجهك، أنا أظهرك، أنا أنصرك، كما امتن عليه في آية أخرى فقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113].(20/14)
تفسير قوله تعالى: (الذي علم بالقلم)
قال عز وجل: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:4] ذكر سبحانه وتعالى وسيلة من وسائل التعليم، فالتعليم يكون بالإلهام، ويكون بالتلقين، ويكون بالقلم.
والقلم آية من آيات الله، قال قتادة السدوسي رحمه الله: القلم نعمة من نعم الله العظيمة، لولاه لم يقم دين ولم يصلح عيش.(20/15)
فوائد القلم
للقلم عدة فوائد منها: أن به كتب الوحي، وحفظ العلم، ودونت الحكمة، وبه نقلت أخبار الماضين وقصص الغابرين، وبه نقلت علوم السلف للخلف، وبه حفظت المعاملات ودون التاريخ، وأثبتت الحقوق، وعلمت الوصايا، وعرفت الشهادات، هذه كلها بالقلم، ولذلك أعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن الكتابة، فأمر الناس أن يتعلموا، ونعرف بأنه عليه الصلاة والسلام كان ينزل عليه الوحي، وكان له كتاب يكتبون، أحصى بعض أهل العلم هؤلاء الصحابة الذين كانوا يكتبون الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغوا اثنين وأربعين صحابياً، منهم الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، كلهم كانوا يكتبون الوحي تلقياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك يوم بدر، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من لم يكن عنده فداء من الأسرى بأن يعلم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة ثم يطلقه، وكان من بين من تعلموا في تلك الفترة الشاب الذكي الزكي زيد بن ثابت رضي الله عنه، الذي كان فيما بعد أحد كتاب الوحي.(20/16)
أنواع القلم
دلت الشريعة على أن القلم أنواع: القلم الأول: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب ما كان وما سيكون) فهذا هو القلم الأول.
الثاني: القلم الذي تكتب به الملائكة الأقدار في ليلة القدر من كل عام: من حياة وموت ورزق وجدب ومرض وصحة، وغير ذلك كله يكتب.
الثالث: القلم الذي يستعمله الكرام الكاتبون، قال الله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
وقال سبحانه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11].
الرابع: القلم الذي يستعمله الملك الذي وكل بنا ونحن في أرحام أمهاتنا، بعد أن يكمل أحدنا أربعة شهور، فيرسل الله ملكاً يأمره بأن ينفخ فيه الروح، وأن يكتب أربع كلمات: الرزق، والأجل، والعمل، والشقاوة والسعادة، هذه الكلمات الأربع يكتبها الملك ونحن في بطون أمهاتنا.
الخامس: سائر الأقلام التي نستعملها نحن البشر وتعلمنا بها الكتابة.
يقول الرازي رحمه الله: روي أن سليمان سأل عفريتاً من الجن، قال له: ما الكلام؟ فقال له العفريت: ريح يذهب، قال له: فما قيده؟ قال: الكتابة.
ولذلك يقول الرازي رحمه الله: لا تقل: القلم نائب عن اللسان؛ فإن القلم ينوب عن اللسان واللسان لا ينوب عن القلم.
يعني: أن الإنسان إذا أراد أن يكلم إنساناً آخر، فإنه يكتب له، فالقلم يقوم مقام الكلام، لكن اللسان لا يقوم مقام القلم، فقد يكتب إنسان مالا يستطيع نطقه.
ولما كان القلم بهذه المنزلة أيها الإخوة الكرام يقول الرازي رحمه الله: بركوعه تسجد الأنام، وبحركته يحفظ العلم على مر الليالي والأيام.(20/17)
تفسير قوله تعالى: (علم الإنسان ما لم يعلم)
قال الله تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5].
قيل: المراد بالإنسان آدم عليه السلام، فقد علمه الله أسماء كل شيء بكل لغة، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] فظهرت مزيته وبان شرفه وعلمه صلوات الله وسلامه عليه، لكن قد بين الله عز وجل أن هذه الآية تعمنا وتشملنا، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].(20/18)
تفسير قوله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى)
بعدما استمرت مسيرة الدعوة حيناً وظهر لها مناوئون ومعارضون ومبغضون، جاءت بقية السورة، يقول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] أصل الطغيان: التعاظم والكبر ومجاوزة الحد، والسبب: أن الإنسان بمجرد ما يستغني ويكثر ماله وتسبغ عليه نعم الله فإنه يطغى ويتكبر على الله أولاً صاحب النعمة جل جلاله، ومثال ذلك: فرعون اللئيم عليه لعنة الله، قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51].
وكذلك قارون لما قال له قومه: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، فأبى أن يقبل النصيحة، وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] أي: ليس لله فيه نصيب.
وكذلك الأقرع صاحب بني إسرائيل ثالث الثلاثة قال: (إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر).
لا يريد أن يعترف لله بالنعمة.
وكذلك الوليد بن المغيرة الذي كان يريد أن يكون الوحي إليه، فقال: لم يكون محمد نبياً؟ لم لا أكون أنا؟ قال تعالى مخبراً عن الكفار: {وَقَالوُا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، أي: كيف يكون محمد نبياً وهو فقير لا مال له، ولم يكن الوليد أو عروة الثقفي نبياً؟! فهذا الإنسان طاغية جبار، قال أهل التفسير في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6] هذا من العام المخصوص، فقد وجد من صنف الإنسان أناس آتاهم الله المال والعلم فما زادهم ذلك إلا تواضعاً، وعلى رأسهم سليمان عليه السلام، فقد آتاه الله ما لم يؤت أحداً، فعلمه عز وجل منطق الطير، وآتاه من كل شيء، وسخر له الريح، قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:36 - 37].
يعني: في أيام معدودات يبنون له مسجداً عظيماً، وقال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13] ومع ذلك فإنه عليه الصلاة والسلام لما أُتي بعرش بلقيس: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40].
كذلك وجد من الصالحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو كذلك، كالقصة التي رواها مالك في الموطأ قال: (شغل صحابي ببستانه فتأخر عن الصلاة يوماً، وكان بستانه قد بلغ حالاً من النمو وكثرة النخيل فيه، حتى إن الطير لم تستطع الطيران في البستان؛ لكثرة الأشجار وتزاحمها، فذهب الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! قد شغلت ببستاني عن الصلاة فهو في سبيل الله، اجعله حيث شئت).
فهذا الرجل حاكى وشابه سليمان عليه السلام حين قال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:32 - 33] فذبحها كلها؛ لئلا تشغله عن ذكر الله.
وأيضاً من الصحابة من كان ماله سبيله إلى الجنة، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه: (جاء بمال كثير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فصبه في حجره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبه ويقول: اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، وقال: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم).
الأصل أن الإنسان إذا استغنى طغى، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] نظير ذلك في سورة البقرة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:258] أي: بسبب أن الله آتاه الملك وأغناه طغى وتكبر.
قال تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:8]، أي: المآب إلى الله، فهو سبحانه سيحاسب الكل، وأصحاب المال حسابهم أشد، {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} [النبأ:21 - 22] أي: مرجعاً ومصيراً.(20/19)
تفسير قوله تعالى: (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى)
قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9 - 10] قوله: ((أَرَأَيْتَ)) أي: اعجب يا محمد وحق لك أن تعجب من كافر فاجر طاغية ينهى عبداً صالحاً مؤمناً عن الصلاة، وما ضرتهم صلاة محمد صلى الله عليه وسلم عند الكعبة شيئاً، لكن الطغيان.
وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن أبا جهل لعنه الله وقف في ملأ قريش يوماً وقال: أما زال محمد يعفر وجهه بين أظهركم، فقيل له: نعم.
قال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأشدخن رأسه بحجر، فما لبث إلا قليلاً حتى قيل له: يا أبا الحكم هذا محمد يعفر وجهه، فجاء عدو الله ومعه حجر يمشي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ينظرون، فما فجأهم إلا وقد ألقى الحجر من يديه، ثم رجع وهو يتقي بيديه ممتقعاً لونه، فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ قال: والله ما إن دنوت منه حتى رأيت بيني وبينه خندقاً وأهوالاً وأجنحة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: تلك الملائكة والله لو دنا لتخطفته عضواً عضواً).
فكان هذا الفاجر ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة.(20/20)
تفسير قوله تعالى: (أرأيت إن كان على الهدى)
قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} [العلق:11 - 12]، يعني: يا أبا جهل افترض أن محمداً صلى الله عليه وسلم على الهدى ويأمر بالتقوى، فما شأنك به؟ دعه.
قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [العلق:13] أي: إن كذب بقلبه وتولى عن العمل بجوارحه.
وقال سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] أي: يا أبا جهل يا طاغية يا من تجبرت وبغيت واستعليت أما علمت أن الله مطلع عليك، سامع لمقولتك، وأنه جل جلاله سينتقم منك.
قال عز وجل: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق:15]، السفع: الجذب بشدة، وقيل: السفع تعريض الوجه لحر الشمس حتى يسود، وقيل: السفع الضرب، وكله حاصل يوم القيامة.
قوله: ((لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ)) خصت الناصية بالذكر؛ لأن العرب إذا أرادوا إذلال شخص وإهانته أخذوا بناصيته.
قال تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16]، من باب إطلاق الجزء مع إرادة الكل، كما في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1] فما تبت يداه وحدها وإنما تب وهلك كله، لكن هذا باب من إطلاق الجزء مع إرادة الكل.(20/21)
تفسير قوله تعالى: (فليد نادية)
قال الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:17 - 18] كان أبو جهل يخاف من الرسول صلى الله عليه وسلم خوفاً شديداً، وهذه من عجائب صنع الله، مثل ما صنع الله لموسى، قالوا: كان فرعون إذا رأى موسى أحدث، مع أنه كان يتكبر ويقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52].
ومما يدل على خوف أبي جهل من الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء في الحديث: (أن رجلاً من بني إراش باع إبلاً من أبي جهل فماطله أبو جهل ولم يدفع له قيمة إبله، فذهب عند الكعبة، فوجد جماعة من قريش فقال: يا قوم من ينصفني من أبي الحكم؟ فقالوا وهم يسخرون منه: ذاك الرجل من بني عبد المطلب يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم، سيستخرج حقك من أبي الحكم، فذهب الرجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: يا أخا العرب أتنصفني من أبي الحكم؟ قال: وما ذاك، قال: بعته إبلاً فأبى أن يعطيني الثمن، ودلني القوم عليك، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: قم بنا إليه، فمشى صلى الله عليه وسلم وضرب على أبي جهل بابه، قال: من؟ قال: محمد، فخرج عدو الله ممتقع اللون، فقال له صلى الله عليه وسلم: أعط هذا الرجل حقه، قال: أفعل يا أبا القاسم، فرجع الرجل للملأ من قريش وقال لهم: جزاكم الله خيراً، قالوا: وما ذاك؟ قال: أعطاني الثمن.
فلما جاء أبو جهل قالوا: كيف ذلك يا أبا الحكم؟ قال: والله ما إن ضرب علي محمد بابي فخرجت إليه حتى رأيت فوق رأسه فحلاً لو تأخرت لطحنني بين أنيابه).
فهو عليه الصلاة والسلام لم يكن معه حرس ولا حشم، وإنما ألقى الله عليه المهابة والجلالة والفخامة صلوات الله وسلامه عليه.
وجاء في حديث آخر: (أن عدو الله أبا جهل جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: ألم أنهك؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم زجره ونهره وطرده، فقال له: يا محمد لا ترفع علي صوتك، فإن قريشاً تعلم أنه لا أحد أكثر نادياً مني -يعني: أنا أكثر حاشية وجماعة- فقال الله عز وجل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} [العلق:17]) أي: فليأت بناديه وجماعته وحاشيته.
قال تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:18]، قال ابن عاشور رحمه الله: وهذه من معجزات القرآن، ف أبو جهل سمع الآية وسمعها الملأ من قريش وما جرؤ واحد منهم على أن يقول: أنا قبلت التحدي، وإلا لتخطفتهم الملائكة واحداً واحداً.
قوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}، الزبانية: جمع زبني أو زبنية أو زباني، والمقصود خزنة جهنم.
قال تعالى: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] أي: لا تلتفت إلى هذا الخبيث، كما قال في آية أخرى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10].
وقال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24].
أي: لا تطعه واسجد واقترب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في مسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم).
وثبت في صحيح مسلم أيضاً: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في هذه السورة وسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1]) نسأل الله أن يجعلنا من الساجدين.(20/22)
تفسير من سورة القدر إلى سورة العاديات
في سورة من قصار السور ذكر الله فضل ليلة القدر، وما لها من مكانة في ديننا العظيم، وذكر فضل البينة وأنها رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة، وذكر أن من عمل مثقال ذرة خيراً أو شراً يره، وذكر حال الإنسان الكافر في الدنيا.(21/1)
مقدمة في تفسير سورة القدر
سورة القدر مكية في قول بعض المفسرين، ومدنية في قول الأكثرين، وفيها خمس آيات وثلاثون كلمة، ومائة واثنا عشر حرفاً، وهذه السورة المباركة هي واحدة من ثلاث وعشرين سورة في القرآن افتتحت بالجمل الخبرية، كقوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1] وقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:1]، ونحو ذلك.(21/2)
تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1].
(إنا) هذا ضمير التعظيم، فالله عز وجل يعظم ذاته العلية، وتكرر هذا في القرآن كثيراً، كقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105]، وقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} [ق:43]، وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، ونحو ذلك من الآيات.
وفي بعض الآيات الله عز وجل يتحدث عن نفسه بضمير الإفراد، كما في قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، فالله سبحانه يعظم نفسه متى شاء، فهو العظيم وهو الكبير وهو المتعالي سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: ((إنا أنزلناه)) الضمير في قوله سبحانه: (أنزلناه) بإجماع المفسرين يرجع إلى القرآن، أي: أنزلنا القرآن، قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفي الإتيان بالضمير بدلاً من الاسم الظاهر إيماء إلى أنه مستقر في أذهان المسلمين؛ لشدة اشتغالهم به وشغفهم بقراءته.
يعني لم يقل الله عز وجل: إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، وإنما قال: ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ)) اكتفى بذكر الضمير، فقوله: ((إنا أنزلناه)) هذه الجملة إشارة إلى أنه من الله سبحانه، أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون يقولون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجلس إلى غلام نصراني اسمه جبر، أو اسمه يسار، وكان قيناً أي: حداداً يصنع السيوف، فقال المشركون: إن قرآن محمد يتعلمه من هذا الغلام النصراني، فقال الله عز وجل: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] أي: هذا النصراني أعجمي وهذا القرآن عربي مبين، وكما في الآية الأخرى قال الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195].(21/3)
أقوال العلماء في سبب تسمية القدر بهذا الاسم
قوله: ((فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)) ذكروا في تسمية ليلة القدر بهذا الاسم أقوالاً ثلاثة: الأول: قولهم: فلان ذو قدر، أي ذو شرف ومكانة، فسميت ليلة القدر؛ لشرفها ومكانتها، كما قال مجاهد؛ لأن الله تعالى أنزل فيها كتاباً ذا قدر، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر، فأخذت الليلة شرفها من نزول القرآن فيها.
الثاني: سميت ليلة القدر بهذا الاسم؛ لأنه تقدر فيها المقادير، والآجال، والأرزاق، والأعمال، كما قال ربنا سبحانه: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، كل شيء يقدر في هذه الليلة، خلال عام كامل، يكتب من يولد ومن سيموت، من سيؤمن ومن سيكفر، من سيهتدي ومن سيضل، يكتب ما يكون من مطر، ومن جدب، ومن وعطاء، ومن منع، ومن حياة، ومن موت، ومن صحة، ومن سقم، قالوا: حتى أسماء الحجيج تكتب فلا يزيدون واحداً ولا ينقصون واحداً، ونسأل الله أن يجعلنا من المكتوبين منهم.
الثالث: سميت ليلة القدر بهذا الاسم من القدر الذي هو التضييق، كما مر معنا في قول الله عز وجل: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:16] أي ضيق؛ لأن الملائكة ينزلون في تلك الليلة فيضيقون فجاج الأرض وأفواه السكك.(21/4)
كيفية نزول القرآن في ليلة القدر
قوله: ((أنزلناه)) أي: القرآن، إما أن يكون المقصود ابتداء التنزيل، كما مر معنا في قول الله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وهو أن هذه الآيات نزلت على قلب محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر.
وإما أن يكون كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم بعد ذلك نزل به الملك منجماً على حسب الوقائع والأحداث، كما قال الله عز وجل: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:106]، وقال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32].(21/5)
تفسير قوله تعالى: (وما أدراك ما ليلة القدر)
قال الله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:2].
هذا استفهام للتفخيم والتعظيم، قال الفراء وسفيان بن عيينة: كلما كان في القرآن (وما أدراك) فقد أدراه، وما كان في القرآن (وما يدريك) فلم يدره.
يعني: ذكرت جملة (وما يدريك) في القرآن ثلاث مرات: الأولى: قول الله عز وجل في الأحزاب: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63].
الثانية: قوله في الشورى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:17].
الثالثة: قوله في سورة عبس: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3].
(وما أدراك) وردت في عشرة مواضع، كلها في المفصَّل في قصار السور: الأول: قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 3].
الثاني: قوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر:26 - 27].
الثالث: قول الله عز وجل في سورة المرسلات: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [المرسلات:13 - 14].
الرابع والخامس: قول الله عز وجل في سورة الانفطار: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار:17 - 18].
السادس والسابع: قوله تعالى في المطففين: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين:8]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:19].
الثامن: قول الله عز وجل: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد:11 - 12].
التاسع: قول الله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:3].
العاشر: قوله هنا في سورة القدر: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:2]، كل هذه أخبر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم وأدراه بها.
فالسؤال للتفخيم: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:2] أي: هل عرفت خبرها؟ وهل أتاك نبؤها.(21/6)
تفسير قوله تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر)
قال الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3].
يقول العلامة الشيخ عطية رحمه الله: تنزيل القرآن بالليل، وجعل كتابة الأقدار بالليل دليل على أن لليل خاصية ومزية؛ ولذلك قال الله عز وجل في القرآن: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1]، وقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79]، وقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:40]، وقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:26]، وقال: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6].
ثم قال: دل ذلك على أن الليل هو وقت التجليات، ونزول الرحمة، ونزول الفيوضات؛ لسكونه وهدأته، وسكون الأصوات والحركات فيه؛ ولذلك فإن الموفقين من عباد الله يلتمسون الخير في الليل.
لقد كرر الله عز وجل هذه الكلمة ثلاث مرات حيث قال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:1 - 2]، وكان من الممكن أن يقول سبحانه: هي خير من ألف شهر، لكن الله عز وجل كرر وقال: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] قال المفسرون: إن الإظهار في مقام الإضمار يكون للتفخيم والتعظيم وهو مزيد من العناية والاهتمام، كما قال سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران:78] فكرر كلمة الكتاب ثلاث مرات.
قال أهل التفسير ومنهم مجاهد بن جبر رحمه الله: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل، لبس السلاح في سبيل الله ثمانين سنة ما عصى الله طرفة عين، فقال الصحابة: ومن يطيقه يا رسول الله؟ فأنزل الله عز وجل هذه السورة فيها عطية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم).
فمن وفق لعبادة الله عز وجل في هذه الليلة، فهو خير ممن عبد الله ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وألف شهر تعدل ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر؛ ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه ويقول لهم: (قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، افترض الله عليكم صيامه، فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم).
وبعض المفسرين قالوا: ليس المقصود الألف وإنما المقصود التكثير، كما في قول العرب: فلان بألف رجل، يعنون: أنه عالي الهمة، عظيم القدر، ومنه قول الله عز وجل: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة:96] وليس المقصود الألف، وإنما المقصود طول العمر، فهنا قالوا: المقصود تفخيم هذه الليلة، وليس المقصود أنها تعدل بالضبط ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر.(21/7)
تفسير قوله تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر)
قال الله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4].
ليلة القدر هذه ليلة مباركة تتنزل فيها الملائكة بأنوارها وبركاتها ويتنزل فيها جبريل عليه السلام إلى هذه الأرض.
قوله: ((بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)) أي: بأمر ربهم، الباء إما أن تكون باء السببية، أي: بسبب أمر ربهم وإذنه جل جلاله، وإما أن تكون باء المصاحبة، أي: مصحوبين بأمر ربهم.
قوله: ((مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)) أي: بكل أمر؛ لأن (من) هنا بمعنى الباء، ومنه قول الله عز وجل: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] أي: يحفظونه بأمر الله، بأمر ربهم، والأمر إما أن يكون واحد الأمور أي: الأشياء، أو واحد الأوامر وكلاهما مراد، كما في قول الله عز وجل: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:4 - 5] فقوله: ((فيها يفرق كل أمر)) أي: واحد الأمور وقوله: ((أمراً من عندنا)) واحد الأوامر.(21/8)
تفسير قوله تعالى: (سلام هي حتى مطلع الفجر)
قال الله تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5].
قوله: ((سَلامٌ هِيَ)) أي: لا يستطيع الشيطان أن يتصرف فيها بسوء، ولا أن يصيب أحداً بأذى؛ لأنها ليلة سالمة من الآفات، وسالمة من البلايا والرزايا.
قال بعض أهل التفسير: المراد تسليم الملائكة على المؤمنين، أي: أنهم ينزلون فيسلمون على المؤمنين في مساجدهم واحداً واحداً.
قوله: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} معلوم بأن الليلة تنتهي بطلوع الفجر، لكن الله عز وجل عيَّنها فقال: ((هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)) من أجل أن يحفزنا على عبادته فيها؛ لأن هذه ليلة محدودة، وساعاتها معدودة، فاجتهدوا فيها.(21/9)
أقوال العلماء في تحديد ليلة القدر وتعيينها
قال الإمام القرطبي رحمه الله: أكثر أهل العلم على أنها ليلة سبع وعشرين؛ لما رواه مسلم في صحيحه من حديث زر بن حبيش رحمه الله قال: قلت لـ أبي بن كعب: (إن أخاك عبد الله بن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر) أي: من يقوم الليل خلال السنة كلها يصيب ليلة القدر، (فقال أبي بن كعب: يرحم الله أبا عبد الرحمن! والله إنه ليعلم أي ليلة هي، ولكن أراد ألا تتكلوا -يعني: ابن مسعود يعرف أنها ليلة سبع وعشرين، لكن أراد من الناس أن يقوموا السنة كلها لا ليلة سبع وعشرين فقط- والله الذي لا إله غيره إنها ليلة سبع وعشرين، قلت له: بأي شيء تقوله؟ فقال: بالعلامة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس تخرج في صبيحتها ولا شعاع لها) يعني: تخرج باهتة، هذه رواية.
وأيضاً الرواية الأخرى: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للصحابة رضي الله عنهم: ترى أي ليلة هي ليلة القدر؟ فقال عبد الله بن عباس: إن عندي منها علماً.
فقد كان عبد الله بن عباس جريئاً رضي الله عنه جرأة العالم الواثق، حتى كان يقول في قول الله عز وجل: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] كان يقول: أنا من ذلك القليل.
وحق له رضي الله عنه.
قال لـ عمر: وما ذاك؟ قال له: هي لسبعة تبقى أو لسبعة تمضي-أي: إما ليلة ثلاث وعشرين، أو ليلة سبع وعشرين- قال له: بأي شيء قلت هذا؟ قال له: خلق الله السماوات سبعاً، والأرضين سبعاً، والأيام سبعاً، والشهر يدور على سبع، والإنسان خلق من سبع، وطعامهم من سبع، كما قال الله عز وجل: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس:24 - 28] إلى آخر الآيات، فـ عمر رضي الله عنه قال له: فطنت لما غفلنا عنه).
وهنا يرجح ابن عباس أن ليلة القدر إما ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين.
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأواسط من رمضان، قال: فخرج علينا ليلة عشرين، صلوات ربي وسلامه عليه، فقال: أيها الناس! من كان ملتمساً ليلة القدر فليلتمسها في العشر الأواخر، وإني أريت أني أسجد صبيحتها في ماء وطين، يقول أبو سعيد: وما في السماء قزعة، فهطلت السماء بالمطر، وكان سقف المسجد من جريد النخل، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما انفتل من صلاته حتى رأيت أثر الطين والماء في جبهته وأنفه عليه الصلاة والسلام، وكانت ليلة إحدى وعشرين).
والذي عليه الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وكثير من أهل العلم أنها متنقلة، وليست ثابتة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أريت أني أسجد صبيحتها في ماء وطين) يعني: في تلك السنة.
وقول أبي بن كعب رضي الله عنه: (إنها ليلة سبع وعشرين) يحمل ذلك على الغالب، لكن ليس على أنها في ليلة سبع وعشرين لا تتخلف عنها.
ولذلك جاء في الحديث: (أنها في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى، في ثالثة تبقى، في واحدة تبقى) هذه الخمس ليالي الوتر، هي أكثر مظنة لالتماس ليلة القدر فيها.
أما ما قاله بعض العلماء: إنها في ليلة سبع وعشرين؛ لأن قوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ} [القدر:5] رقم سبع وعشرين، فهذا لا يعول عليه كثيراً، وكذلك من قالوا: بأن ليلة القدر من تسعة أحرف، وتكررت ثلاث مرات في السورة، فحاصل ضرب التسعة في الثلاثة يساوي سبعة وعشرين، كل هذا كما قال ابن عطية: من ملح التفسير، وليس من متين العلم.(21/10)
الأعمال التي تؤدى في ليلة القدر
كثير من الناس يهتم بأن يتتبع ما يقوله الناس في اليوم الذي بعده، أو يهتم بالليل هل يسمع نباح كلب، ويترقب العلامات؛ من أجل أن يعرف هل هذه ليلة القدر، أم ليست ليلة القدر، ليس هذا مهماً، فالعلماء رحمهم الله قالوا: هي ليلة ساجية ساطعة، كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة، هادئة، بلجة، مضيئة، وذكروا أيضاً حديثاً ثبت بأن في صبيحتها تخرج الشمس لا شعاع لها، وهذه العلامة تكون بعد وقوعها، ولا فائدة من معرفة هذه العلامة، ولذلك ينبغي للإنسان أن يجتهد في ليلة القدر في عبادة الله عز وجل، وجزى الله أمنا عائشة رضي الله عنها خيراً، فقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تقول فيها؟ فقال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) فهذا الدعاء ينبغي أن نكرره وأن نحرص عليه.
وأسأل الله أن يوفقنا لإصابة ليلة القدر.(21/11)
مقدمة بين يدي تفسير سورة البينة
سورة البينة هي سورة مكية، وفيها ثمان آيات، وأربع وسبعون كلمة، وثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفاً.
وهذه السورة ذكر لها المفسرون ستة أسماء، فسموها: البينة، والقيمة، وأهل الكتاب، ولم يكن، والانفكاك، والبرية، وهذه كلها من أسمائها، ونحن نعرف من علوم القرآن أن بعض السور لها أكثر من اسم.(21/12)
المحاور والقضايا التي اشتملت عليها سورة البينة
يقول سيد قطب رحمه الله في تفسيره (الظلال): هذه السورة قد اشتملت على أربع قضايا أساسية وهي: القضية الأولى: أن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ضرورية؛ لإخراج المشركين وأهل الكتاب من الضلال والتيه الذي دخلوا فيه.
القضية الثانية: أن أهل الكتاب ما انحرفوا عن الحق عن جهل، بل بعدما جاءتهم البينة وجاءهم العلم، وجاءهم الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
القضية الثالثة: أن الدين في أصله واحد، وأن قواعده بسيطة، وأن حقائقه واضحة، ليس في الدين اختلاف منذ أن جاء به آدم عليه السلام إلى أن ختم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فدين الله واحد.
القضية الرابعة: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية، وأن الذين كفروا هم شر البرية، أي: شر من الدواب والحمير.(21/13)
سبب نزول سورة البينة
روى الإمام أحمد والشيخان البخاري ومسلم من حديث أبي حبة البدري الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بن كعب: يا أبي! إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، فقال أبي رضي الله عنه: وقد سماني لك يا رسول الله؟! قال: نعم، فبكى أبي رضي الله عنه، قال له بعض الصحابة: أفرحت يا أبا المنذر! قال: ومالي لا أفرح والله عز وجل قد قال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]).
قال الإمام القرطبي رحمه الله: وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي؛ ليعلم الناس التواضع، ولئلا يأنف العالم عن القراءة على من هو دونه، أو أقل منه.
قال ابن كثير رحمه الله: والسبب -والله أعلم- هو ما رواه النسائي وغيره عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (أنه سمع عبد الله بن مسعود يقرأ قراءة أنكرها غير التي أقرأه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم) ونحن نعرف اختلاف القراءات كقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] أو: (نزّل به الروح الأمين) أو بعض الناس يقرأ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، وبعض القراء يقرأ: (ملك يوم الدين) وبعضهم يقرأ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ) [الفاتحة:6] بالصاد، وبعضهم يقرأ (اهدنا السراط)، وبعضهم يقرأ بالإشمام بين الصاد والسين، وكلها قراءات متواترة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فـ أبي رضي الله عنه سمع من ابن مسعود قراءة أنكرها، فقال له: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال له ابن مسعود: ولكن أقرأنيها هكذا، فذهب أبي مع ابن مسعود يتحاكمان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا أبي! فقرأ وقال: اقرأ يا ابن مسعود! فقرأ، فقال: كلاكما أصاب يقول أبي رضي الله عنه: فدخلني من الشك ولا إذ كنت في الجاهلية، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدري ففضت عرقاً كأني أنظر إلى الله فرقاً، وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل أتاه فقال: يا محمد! إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقلت: أسأل الله معافاته ومغفرته، فقال: على حرفين، فلم يزل حتى قال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف) والسبعة أحرف هذه كلها داخلة في لغة قريش، وكلها داخلة في القراءات المتواترة العشر التي يقرأ بها جماهير المسلمين في المشارق والمغارب.
يقول ابن كثير رحمه الله: قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على أبي كانت قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار لا قراءة تعلم واستذكار.
فالله عز وجل يتولى الصالحين، ولما كان أبي رجلاً صالحاً عبداً لله قانتاً حنيفاً؛ فالله عز وجل لم يتركه للشكوك والأوهام والشبهات، بل قيض له من ضربة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن قراءته عليه الصلاة والسلام ما زاده إيماناً ويقيناً.(21/14)
تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب)
قال الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1].
قوله: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ)) أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، باعتبار أن أصل دينيهما كتاب سماوي: التوراة، والإنجيل، أما المشركون فيدخل فيهم عبدة الأوثان، وعبدة النيران، وعبدة الكواكب والنجوم من العرب وغيرهم.
فالكفر اسم جنس يجمع أهل الكتاب مع المشركين، كما قال الله عز وجل في سورة التوبة: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30].
قوله: ((مُنفَكِّينَ)) أي: لم يكونوا مزايلين ومباينين وتاركين ما هم عليه من الكفر حتى تأتيهم البينة والبينة هي: كل ما أقيم لإظهار الحق.(21/15)
تفسير قوله تعالى: (رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة.
فيها كتب قيمة)
قال الله تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [البينة:2].
قوله: ((رسول من الله)) أي: محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: ((يتلوا صحفاً)) الصحف: هي القراطيس التي يكتب فيها الكلام.
قوله ((مطهرة)) أي: مطهرة من الشك والريبة والباطل، ومطهرة من أن تتضارب وتتناقض، ومطهرة من الشرك والكفر.
قوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:3].
قال بعض أهل العلم: الكتب هي القرآن، وسمي كتباً باعتباره سوراً وباعتباره موضوعات فيها هذه الأحكام، وهذه القصص، وهذه العقائد، ونحو ذلك.
وقال بعض أهل التفسير: بل الكتب القيمة المقصود بها ما كان قبل القرآن، وكل ما فيها من علوم ومعارف أودعها الله في القرآن، وهذا هو منطوق القرآن، يقول الله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى:13]، ومر معنا قول الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]، وقول الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196]، وقول الله عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، وقول الله عز وجل على لسان الجن: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30].(21/16)
تفسير قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة)
قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4].
لقد تفرق أهل الكتاب واختلفوا، وتفرق المشركون أيضاً، فمرة يقولون: ساحر، ومرة: كاهن، ومرة: مجنون، ومرة: شاعر، ومرة: يكتب أساطير الأولين، ومرة: إنما يعلمه بشر، يقول الله عز وجل: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] أي: الكذابون، وقال: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] أي: كل يوم عندكم كلام يختلف عن الذي قبله، وقد خصَّ الله أهل الكتاب بالذكر في قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4]، قال أبو السعود رحمه الله في تفسيره: قصد الآية التشنيع على كلام مسوق لغاية تشنيع أهل الكتاب خاصة، أي: لأن عندهم كتباً، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه، وصفته، ومولده، ومهاجره، وقد قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] وقال عيسى عليه السلام: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، فكان الواجب عليهم ألا يختلفوا، لكنهم عياذاً بالله ما تفرقوا جهلاً، وإنما عمداً.
فاليهود قاتلهم الله كانوا يطرحون على الرسول الله صلى الله عليه وسلم الأسئلة، فقد سألوه عن فتية خرجوا في الدهر الأول ما خبرهم؟ فيجيب بأنهم أهل الكهف، ويقرأ عليهم الآيات، وسألوه عن رجل ملك المشارق والمغارب، فيقرأ عليهم خبر ذي القرنين، وسألوه هل ينزع الولد لأبيه أو لأمه؟ فيخبرهم صلى الله عليه وسلم، وسألوه صلوات الله وسلامه عليه: (ما أول طعام أهل الجنة؟ فقال لهم: زيادة كبد حوت)، وسألوه ما أول أشراط الساعة؟ فقال: (نار تخرج من قعر عدن تحشر الناس إلى المحشر)، وفي حديث آخر: (يأتيه وفد من اليهود: فقالوا: يا محمد! نسألك فإن أجبتنا فأنت نبي، قال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، إن أنا أجبتكم أتؤمنون؟ قالوا: بلى، قال: سلوا، قالوا: نسألك أولاً ما هو الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل -يعقوب عليه السلام- أكل لحم إبل فمرض، فنذر إن عافاه الله أن يحرم على نفسه لحم الإبل؟ قالوا: بلى، قال: اللهم اشهد) هذه واحدة، ثم طرحوا عليه سؤالاً ثانياً وثالثاً ورابعاً، وفي النهاية قالوا له: (يا محمد! من وليك من الملائكة؟ أي: من يأتيك بالوحي؟ قال لهم: جبريل، قالوا: جبريل ذاك عدونا، لو كان غيره لاتبعناك، قال: فما يمنعكم من اتباعه؟ قالوا: إنه يأتي بالعذاب، لو كان ميكائيل لاتبعناك) يعني: جعلوا الدين تبعاً للأهواء.
وبعضهم كان يقول: أنا رأس في قومي، كيف أرضى أن أكون تبعاً لمحمد؟! فباع آخرته بدنيا حقيرة.
وهذا كعب بن أسد لعنه الله لما حوصر مع بني قريظة قال لقومه: يا قوم! أعرض عليكم خصالاً ثلاثاً، قالوا: هات الأولى، قال: الأولى: أن ننزل من حصوننا فنتابع هذا الرجل؛ فإنكم تعلمون أنه النبي المذكور في التوراة، فقالوا: لا نفارق ديننا، هات الثانية، قال: الثانية: اليوم يوم السبت، وقد أمننا محمد وأصحابه، ننزل فنناجزهم، نغدر بهم، قالوا: قد علمت من اعتدى في السبت ما فعل الله به، قال لهم: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65]، هات الثالثة، قال: الثالثة: أن نقتل نساءنا وأطفالنا، ونناجز محمداً فإن ظهر علينا لم يكن وراءنا ما نخاف عليه، وإن ظهرنا عليه اتخذنا الذرية والأزواج، قالوا: فما خير العيش بعد قتل الذرية والأزواج، قال: قاتلكم الله ما بات رجل على رأي منذ ولدته أمه.
هذا الخبيث الذي كان يقول: إنكم تعلمون أنه النبي المذكور في التوراة، لما حكم عليه بالقتل، وأخذ ليقتل لينفذ فيه حكم الإعدام مقيداً، نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! والله ما ندمت على عداوتك لحظة.
نعوذ بالله!(21/17)
تفسير قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء)
قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].
الله عز وجل ما بعث نبياً ولا ما بعث رسولاً إلا قال له: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) أي: عبادة لا يخالطها شرك، ولا رياء، حنفاء مائلين عن الشرك إلى التوحيد، وعن الضلال إلى الهدى.
قال سعيد بن جبير رحمه الله: لا يسمى الحنيف حنيفاً إلا إذا حج واختتن.
ولا شك أن هذا تفسير للعام ببعض أفراده، فإن الختان من الحنيفية، والحج من الحنيفية، لكن الحنيفية هي دين إبراهيم عليه السلام، أساسها التوحيد: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله.
قوله: ((حُنَفَاءَ)) أي: حنفاء لا يعبدون أحباراً ولا رهباناً.
قوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5] هذه في دين كل نبي، ولذلك أثنى الله على إسماعيل بقوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54 - 55]، وأثنى الله عز وجل على غيره من الأنبياء، بل على أهل الكتاب عموماً فقال: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] فالصلاة والزكاة أساس في جميع الشرائع والأديان.
قوله: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] أي: هذا هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ميل ولا انحراف.(21/18)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6].
أي: هم في النار ولا أمل لهم في الخروج، روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي أو نصراي ثم لا يؤمن بي إلا أكبه الله على وجهه في النار) خالداً مخلداً، يبقى فيها لا يخرج منها أبداً، {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6]، وفي بعض القراءات: (أولئك هم شر البريئة) من البرء أي: الخلق، أولئك هم شر الخليقة، شر من الدواب والكلاب، والخنازير، والثعابين، قال الله عز وجل: {إِنّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]، وقال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال:55].(21/19)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات جزاؤهم عند ربهم جنات عدن)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7].
أي: هم خير خلق الله، وهذه الآية استدل بها من يقول: إن المؤمنين أفضل من الملائكة، وهذه المسألة من فضول المسائل التي لا يتعلق بالبحث فيها عمل.
قال تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8].
قوله: ((جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ)) الله عز وجل يسمي الجنة دار السلام، ويسميها جنات النعيم، ويسميها جنات عدن، وعدن أي: إقامة، ومنه سمي المعدن معدناً؛ لأنه مستقر، يقال: عدن فلان إذا أقام واستقر، فقوله: ((جنات عدن)) أي: جنات إقامة أبدية لا يخرجون منها، ولا ينامون ولا يموتون ولا يسقمون ولا يهرمون.
((جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) الأنهار أربعة أنواع قال تعالى: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] خمر ليس فيها صداع، ولا مرض، ولا نتن، ولا غول، يقول ابن كثير: ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل.
أما خمر الدنيا ففيها صداع الرأس، ومغص البطن، ونتن الريح، وقبح الفعل.
إذاً: خمر الجنة ليس فيها شيء من ذلك، قال عز وجل: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]، وهذه الأنهار تجري من تحتهم في غير أخدود، يقول الشيخ الصواف رحمه الله في تفسيره: كأن الله عز وجل يجزيهم من جنس عملهم، فأعمالهم كانت في الدنيا جارية ما داموا أحياء، فجعل الله أنهارهم في الجنة جارية من غير انقطاع، والجزاء من جنس العمل.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [البينة:8] أي: رضي الله عنهم بأعمالهم، {وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:8] أي: لما دخلوا الجنة واستقروا فيها رضوا عن الله سبحانه كرضاهم عن الله في الدنيا كما قال أبو قلابة رحمه الله: رضاك عن الله أن تتلقى أوامره من غير ضجر.
جاء في الحديث: (إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله عز وجل لهم -نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم-: يا أهل الجنة! هل رضيتم؟ يقولون: يا ربنا وما لنا لا نرضى؟! ألم تثقل موازيننا؟ ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تجرنا من النار؟ فيقول الله عز وجل: إني جعلت جزاءكم أن أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً).
رضوان ليس بعده سخط، ذلك الجزاء الذي مضى لمن كان في الدنيا خائفاً، وعاش مقيداً بالأوامر والنواهي.
إن هذه السورة فيها جواب عن شبهة كبيرة تروج في هذا الزمان: وهي قضية وحدة الأديان، لكن لعل هذه القضية نعرض لها بالتفصيل إن شاء الله عند تفسير سورة الكافرون.(21/20)
مقدمة بين يدي تفسير سورة الزلزلة
سورة الزلزلة هي سورة مكية، وهي مشتملة على ثمان آيات، في خمس وثلاثين كلمة، في مائة وتسعة عشر حرفاً، وموضوعها هو موضوع القرآن المكي في الحديث عن اليوم الآخر وبيان أهواله وما يكون فيه.(21/21)
سبب نزول سورة الزلزلة
روى الواحدي في أسباب النزول عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه هذه السورة وأبو بكر رضي الله عنه قاعد عنده، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا أبا بكر؟! فقال: يا رسول الله! أبكاني نزول هذه السورة! أو أسأل عن مثاقيل الذر؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى في الدنيا مما تكره هو مثاقيل الشر، ومثاقيل الخير يدخرها الله لك إلى يوم القيامة، ثم قال له: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم).
ومعنى هذه الرواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر الصديق أبا بكر رضي الله عنه ومعه كل مؤمن بأن ما يكون في هذه الدنيا من الآفات والشرور التي تصيب الإنسان، من هم أو غم أو نصب أو وصب، أو نقص من الأموال والأنفس والثمرات، وتسلط الأعداء ونحو ذلك، فهذا كله يكفر الله به مثاقيل الشر التي اقترفناها، وأما مثاقيل الخير فهو يدخرها لنا سبحانه إلى يوم القيامة.
وقال مقاتل بن سليمان رحمه الله: نزلت هذه السورة في رجلين: كان أحدهما يستقل التمرة والكسرة والجوزة أن يعطيها للمسكين، يقول: ما نؤجر على مثل هذا، وإنما نؤجر على ما نعطي مما نحبه، وكان الآخر يستقل اليسير من الذنب، كالنظرة والكذبة، ويقول: ما يؤاخذ الله بمثل هذا، إنما توعد الله بالنار على الكبائر، فأنزل الله عز وجل هذه السورة يحث فيها المسلمين على ألا يحتقروا الخير اليسير، فإنه يوشك أن يكثر، ويحذرهم من أن يحتقروا الذنب اليسير؛ فإنه يوشك أن يكثر.(21/22)
تفسير قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض زلزالها)
بدأ ربنا جل جلاله هذه السورة بالحديث عن واحد من أهوال يوم القيامة، يقول الله عز وجل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1].
هذه الجملة شرطية، أداة الشرط (إذا)، وفعل الشرط (زلزلت)، وجواب الشرط في قول الله تعالى: {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] يعني: فصل ربنا بين فعل الشرط وجوابه بفاصل طويل، قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:1 - 4].
يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله: والفصل بين فعل الشرط وجوابه بهذا الطول؛ من أجل التشويق لمعرفة جواب الشرط.
قال الله عز وجل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] الزلزلة: على وزن فعللة، هذا البناء في كلام العرب يدل على حركة واضطراب، ومنه قولهم: قلقلة، وقولهم: رجرجة، وقولهم: بلبلة، ونحو ذلك.
قوله: ((إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ)) أي: حركت حركة عنيفة، وماجت واضطربت، وتمور الأرض موراً، هذا الهول كرره ربنا في بعض آياته، كقوله في صدر سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]، وقوله سبحانه في صدر سورة الواقعة: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:1 - 5] أي: صارت الجبال كأنها بسيسة وهو الدقيق الذي يصنع بالسمن، فيتفتت بعدما ينضج بالنار، هكذا تكون الجبال، وهذا سيأتي معناه في قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5].
وقال ربنا سبحانه في سورة الحاقة: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:14 - 16].(21/23)
أقوال العلماء في وقت حدوث الزلزلة
يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: اختلف العلماء متى تكون هذه الزلزلة؟ هل تكون عند خروج الناس من قبورهم وحشرهم إلى عرصات القيامة أم أنها تكون في القيامة نفسها بعد النفخة؟ فقال بالقول الأول: جماعة من أهل التفسير كـ عبد الملك بن جريج وعبيد بن عمير والشعبي وغيرهم.
ولكن هذا المعنى وإن كان له وجه من النظر فليس له ما يسنده من الأثر.
قال: والأثر يدل على أن هذه الزلزلة تكون مع القيامة، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول الله عز وجل: أخرج بعث النار من ولدك، فيقول آدم: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول الله له: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد إلى الجنة، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) فلو تدبرنا هذا الحديث مع قوله سبحانه: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] علم أن القول الراجح بأن هذه الزلزلة تكون في القيامة.(21/24)
تفسير قوله تعالى: (وأخرجت الأرض أثقالها)
قال الله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2].
قوله: ((وأخرجت الأرض أثقالها)) أي: أخرجت الأرض ما فيها من موتى، وما فيها من كنوز، كما قال سبحانه: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:3 - 5] وكما في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تخرج الأرض كنوزها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت، ويجيء من قطع رحمه فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه ولا يأخذون منه شيئاً).
وهذه الزلزلة لا تترك معلماً ولا بناءً ولا شجراً، وإنما تصير الدنيا كلها هباء منثوراً، قال عز وجل: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47].(21/25)
تفسير قوله تعالى: (وقال الإنسان ما لها)
يقول تعالى: {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:3].
يقول ابن عاشور رحمه الله: يستوي في ذلك الجبان والشجاع، والطائش والحليم، {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:3].
ويمكن أن يقال: لفظ الإنسان ها هنا من العام المخصوص والمركب.
أي: الإنسان الكافر، أما المؤمن فإنه إذا شاهد هذا الهول يقول: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52]؛ لأنه كان ينتظر ذلك اليوم ويحسب له حساباً.
فقوله تعالى: {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا} يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال: سؤال المشبوه المبهوت المفجوع، سؤال من رأى ما لا قبل له، ومن شاهد ما لا صبر له عنه، ما لها تترجرج؟ ما لها تهتز؟ وكأنه يريد أن يتعلق بشيء يمسك به، ويستند إليه، فلا يجد شيئاً.(21/26)
تفسير قوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها.
بأن ربك أوحى لها)
قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4].
جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حسن صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما أخبارها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا فهذه أخبارها).
والواجب أيها الإخوان! أن نستحضر هذه الآية دائماً، وذلك بأن نعلم أن الأرض التي نمشي عليها ونقف فوقها ستشهد لنا أو علينا، ستشهد بأن فلاناً قد سجد، وستشهد بأن فلاناً قد جلس فقرأ قرآناً، وأن فلاناً قد جلس فأمر بمعروف أو نهى عن منكر، وستشهد بأن فلاناً جلس عليها فشرب خمراً، وأن فلاناً قد جلس عليها ففعل فاحشة، وأن فلاناً قد وقف عليها يحارب الله ورسوله، ويستهزئ بالشريعة؛ ولذلك يقول الله عز وجل: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان:29] قال علي رضي الله عنه: (إذا مات المؤمن بكى عليه موضع سجوده في الأرض، وموضع صعود عمله الصالح في السماء) يقول تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5].
الباء هنا باء السببية، أي: بسبب أن ربك أوحى لها أمرها، أذن لها بأن تتزلزل، والأرض مطيعة، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] أي: أوحى لها فأطاعت.(21/27)
تفسير قوله تعالى: (يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم)
قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6].
الصدور ضد الورود، فالورود هو القدوم، والصدور هو الرجوع، ولذلك عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما كان في طريقه إلى مؤتة خرج المسلمون يودعونه، قالوا له: (يا ابن رواحة! ردك الله سالماً، فبكى رضي الله عنه وقيل له: ما يبكيك، أتبكي خوف القتل؟ قال: لا والله! لكنني تذكرت آية من كتاب الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] فلم أدر كيف الصدور بعد الورود؟!) فقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} أي: يرجعون بعدما حشروا.
قوله: {أَشْتَاتًا} [الزلزلة:6] واحدها شت، بفتح الشين وتشديد التاء، أي: يصدرون أنواعاً وأصنافاً، كما قال الله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14]، وقال الله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43]، فمنهم من هو صادر إلى الجنة، ومنهم من هو صادر إلى النار، ومنهم من هو صادر بوجه مستبشر فرح ضحك، ومنقلب إلى أهله وهو مسرور، ومنهم من هو صادر والعياذ بالله بوجه عليه غبرة, ترهقه قترة، بوجه قد اسود من الكفر بالله والفجور والعمل بمعصية الله.
قوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} فمنهم من هو آخذ كتابه بيمينه، وتراه يصرخ في الناس قائلاً: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]، ومنهم من هو آخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، وتراه يصرخ ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29].
قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
يقول الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40] يقول المفسرون رحمهم الله في مقدار الذرة: هي نملة حمراء صغيرة لا تكاد ترى، وقال بعض أهل اللغة: الذرة أن تضرب بيدك على الأرض، فما علق بها من الرمل الصغار تسمى واحدتها ذرة.
يقول سيد قطب رحمه الله: ونحن ندرك الآن أن الذرة شيء قد استقر في ضمير العلماء؛ لكنه لا يرى أصلاً، يعني: لا هو نملة ولا هو رملة، ولا هو شيء يرى بالعين، ولا بأكبر المجاهر التي تكبر الصغير جداً، وإنما الذرة أصغر من هذا كله.
فقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} هذه الآية تحفز المؤمن على أن يطلب كل عمل صالح ولو كان شيئاً يسيراً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاه) يعني: ظلف الشاة، وهو شيء لا يكاد ينتفع به، لكن لو أن جارة طلبت من جارتها فتعطيها ولو هذا الشيء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً أصابه العطش فنزل في ركية فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث، ويلحس الثرى من شدة العطش، فلم يجد إناء فملأ موقه -أي: خفه- ثم سقى ذلك الكلب، فشكر الله له فأدخله الجنة).
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (رأيت رجلاً يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من طريق الناس، كانت تؤذي المسلمين) فهو قطع شجرة من طريق الناس؛ فأدخله الله بها الجنة، وبالمقابل: (دخلت امرأة النار في هرة)، وجاء في الحديث: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، تهوي به في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب).
هذه الآية فهمها الصحابة حق الفهم، فقد ذكر الإمام مالك رحمه الله: (أن أمنا عائشة رضي الله عنها كان بين يديها عنب تأكل منه، فجاء سائل فأمرت إنساناً عندها بأن يأخذ عنبة فيعطيها إياه، فالسائل على العادة أخذ يقلبها، ينظر إليها ويعجب، يعني: أم المؤمنين وزوجة النبي الأمين، والعالمة الفاضلة تعطيني عنبة! فقالت له عائشة وهي الفقيهة العالمة: أتعجب منها؟ قال: بلى، قالت: كم فيها من مثاقيل الذر، والله عز وجل يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة:7]).
وكذلك جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أنه كان يأكل تمراً، فجاء سائل فأعطاه تمرتين، فقبض يده وأبى أن يأخذ التمرتين، فقال له: يا هذا! إن الله يجزينا على مثاقيل الذر، ألا تقبلها أنت؟!).
وإننا نقرأ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه (كان عليه الصلاة والسلام في غزوة خيبر فجاءه غلام أسود يعمل راعياً، فقال له: من أنت؟ قال: أنا رسول الله! قال: إلام تدعو؟ قال له: أدعو إلى كذا وكذا، قال: مالي إن آمنت بك؟ قال: الجنة، قال: فمن يرد هذه الغنم لسيدي؟ -يعني: هو أمين، وسيده يهودي- قال له صلى الله عليه وسلم: اضرب على وجهها، فإن الله سيؤدي عنك، فشهد الرجل شهادة الحق، شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! إني أسود الوجه، منتن الريح، دنس الثياب، ما لي عند الله؟ قال له صلى الله عليه وسلم: أما إن الله سيبيض وجهك، وسيطيب ريحك، وسينظف ثوبك، ثم هذا الرجل اشترك في القتال فقتل قبل أن يركع لله ركعة، فجيء به، فلما وضع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنه صلى الله عليه وسلم وأشاح بوجهه، قال الصحابة: ما لك يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده! لقد رأيت زوجتيه من الحور العين تدخلان ما بين جبته وجلده) هذا الرجل ما ركع ولا سجد ولم يعمل خيراً قط، وإنما آمن بالله ورسوله واشترك في هذه المعركة واستشهد، والله عز وجل قبله ورفع درجته في عليين.
وبالمقابل أيها الإخوة الكرام! قد يتهاون العبد بالمعصية، ويرى ذنوبه كذبابة وقعت على أنفه، فقال بيده هكذا، يتهاون بالكذبة، ويتهاون بالنظرة، ويتهاون بالسخرية، وأحياناً من بعض أحكام الشرع، ولعلها تكون عند الله بميزان عظيم، كما قال سبحانه: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
وأذكر لذلك مثلاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قذف محصنة يهدم عمل مائة سنة) يعني: قذف امرأة مسلمة عفيفة في عرضها يهدم عمل مائة سنة، فلو كان للقاذف عمل صالح يعدل مائة سنة يهدمه القذف للمحصنة؛ قال أهل العلم: لأن العار الذي يلحق بتلك المرأة البريئة من جراء هذه الكلمة قد لا يزول عنها حتى تموت، وتبقى الألسنة التي لا تتقي الله تلوكها، ويبقى وزرها على من قالها أول مرة.(21/28)
تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره)
قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6].
الصدور ضد الورود، فالورود هو القدوم، والصدور هو الرجوع، ولذلك عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما كان في طريقه إلى مؤتة خرج المسلمون يودعونه، قالوا له: (يا ابن رواحة! ردك الله سالماً، فبكى رضي الله عنه وقيل له: ما يبكيك، أتبكي خوف القتل؟ قال: لا والله! لكنني تذكرت آية من كتاب الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] فلم أدر كيف الصدور بعد الورود؟!) فقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} أي: يرجعون بعدما حشروا.
قوله: {أَشْتَاتًا} [الزلزلة:6] واحدها شت، بفتح الشين وتشديد التاء، أي: يصدرون أنواعاً وأصنافاً، كما قال الله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14]، وقال الله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43]، فمنهم من هو صادر إلى الجنة، ومنهم من هو صادر إلى النار، ومنهم من هو صادر بوجه مستبشر فرح ضحك، ومنقلب إلى أهله وهو مسرور، ومنهم من هو صادر والعياذ بالله بوجه عليه غبرة, ترهقه قترة، بوجه قد اسود من الكفر بالله والفجور والعمل بمعصية الله.
قوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} فمنهم من هو آخذ كتابه بيمينه، وتراه يصرخ في الناس قائلاً: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]، ومنهم من هو آخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، وتراه يصرخ ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29].
قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
يقول الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40] يقول المفسرون رحمهم الله في مقدار الذرة: هي نملة حمراء صغيرة لا تكاد ترى، وقال بعض أهل اللغة: الذرة أن تضرب بيدك على الأرض، فما علق بها من الرمل الصغار تسمى واحدتها ذرة.
يقول سيد قطب رحمه الله: ونحن ندرك الآن أن الذرة شيء قد استقر في ضمير العلماء؛ لكنه لا يرى أصلاً، يعني: لا هو نملة ولا هو رملة، ولا هو شيء يرى بالعين، ولا بأكبر المجاهر التي تكبر الصغير جداً، وإنما الذرة أصغر من هذا كله.
فقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} هذه الآية تحفز المؤمن على أن يطلب كل عمل صالح ولو كان شيئاً يسيراً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاه) يعني: ظلف الشاة، وهو شيء لا يكاد ينتفع به، لكن لو أن جارة طلبت من جارتها فتعطيها ولو هذا الشيء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً أصابه العطش فنزل في ركية فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث، ويلحس الثرى من شدة العطش، فلم يجد إناء فملأ موقه -أي: خفه- ثم سقى ذلك الكلب، فشكر الله له فأدخله الجنة).
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (رأيت رجلاً يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من طريق الناس، كانت تؤذي المسلمين) فهو قطع شجرة من طريق الناس؛ فأدخله الله بها الجنة، وبالمقابل: (دخلت امرأة النار في هرة)، وجاء في الحديث: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، تهوي به في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب).
هذه الآية فهمها الصحابة حق الفهم، فقد ذكر الإمام مالك رحمه الله: (أن أمنا عائشة رضي الله عنها كان بين يديها عنب تأكل منه، فجاء سائل فأمرت إنساناً عندها بأن يأخذ عنبة فيعطيها إياه، فالسائل على العادة أخذ يقلبها، ينظر إليها ويعجب، يعني: أم المؤمنين وزوجة النبي الأمين، والعالمة الفاضلة تعطيني عنبة! فقالت له عائشة وهي الفقيهة العالمة: أتعجب منها؟ قال: بلى، قالت: كم فيها من مثاقيل الذر، والله عز وجل يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة:7]).
وكذلك جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أنه كان يأكل تمراً، فجاء سائل فأعطاه تمرتين، فقبض يده وأبى أن يأخذ التمرتين، فقال له: يا هذا! إن الله يجزينا على مثاقيل الذر، ألا تقبلها أنت؟!).
وإننا نقرأ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه (كان عليه الصلاة والسلام في غزوة خيبر فجاءه غلام أسود يعمل راعياً، فقال له: من أنت؟ قال: أنا رسول الله! قال: إلام تدعو؟ قال له: أدعو إلى كذا وكذا، قال: مالي إن آمنت بك؟ قال: الجنة، قال: فمن يرد هذه الغنم لسيدي؟ -يعني: هو أمين، وسيده يهودي- قال له صلى الله عليه وسلم: اضرب على وجهها، فإن الله سيؤدي عنك، فشهد الرجل شهادة الحق، شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! إني أسود الوجه، منتن الريح، دنس الثياب، ما لي عند الله؟ قال له صلى الله عليه وسلم: أما إن الله سيبيض وجهك، وسيطيب ريحك، وسينظف ثوبك، ثم هذا الرجل اشترك في القتال فقتل قبل أن يركع لله ركعة، فجيء به، فلما وضع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنه صلى الله عليه وسلم وأشاح بوجهه، قال الصحابة: ما لك يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده! لقد رأيت زوجتيه من الحور العين تدخلان ما بين جبته وجلده) هذا الرجل ما ركع ولا سجد ولم يعمل خيراً قط، وإنما آمن بالله ورسوله واشترك في هذه المعركة واستشهد، والله عز وجل قبله ورفع درجته في عليين.
وبالمقابل أيها الإخوة الكرام! قد يتهاون العبد بالمعصية، ويرى ذنوبه كذبابة وقعت على أنفه، فقال بيده هكذا، يتهاون بالكذبة، ويتهاون بالنظرة، ويتهاون بالسخرية، وأحياناً من بعض أحكام الشرع، ولعلها تكون عند الله بميزان عظيم، كما قال سبحانه: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
وأذكر لذلك مثلاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قذف محصنة يهدم عمل مائة سنة) يعني: قذف امرأة مسلمة عفيفة في عرضها يهدم عمل مائة سنة، فلو كان للقاذف عمل صالح يعدل مائة سنة يهدمه القذف للمحصنة؛ قال أهل العلم: لأن العار الذي يلحق بتلك المرأة البريئة من جراء هذه الكلمة قد لا يزول عنها حتى تموت، وتبقى الألسنة التي لا تتقي الله تلوكها، ويبقى وزرها على من قالها أول مرة.(21/29)
أحكم آية وأجمع آية في القرآن
قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما في القرآن آية أحكم منها أي: من قوله تعالى: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره)) [الزلزلة: 7] وقال كعب الأحبار رضي الله عنه: لقد أنزل الله في القرآن آية جمعت ما في التوراة والإنجيل والزبور، وقرأ هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
وفسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بقوله: (الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال طيلها -أي: حبلها- فإذا استنت شرفاً أو شرفين كانت أرواثها -أي: ما يخرج منها من الروث والبعر- وآثارها على الأرض في ميزان حسناته، فإذا أتت نهراً فشربت منه، ولم يرد أن يسقيها، كان ذلك حسنات له، وأما الذي له ستر، فرجل ربطها تغنياً -أي: استغناء عن الناس- وتعففاً، ولم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، وأما الذي عليه وزر، فرجل ربطها رياء وفخراً) من أجل أن يقول: عندي خيل عربية، وجياد أصيلة، ويستعرض بها في المضامير، (فقال الصحابة: يا رسول الله! فالحمر؟ قال عليه الصلاة والسلام: ما أنزل الله علي فيها شيئاً إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]) يعني: الحمار نفس الشيء، قد يكون لك فيه أجر، وقد يكون لك ستر، وقد يكون عليك وزره، وقل مثل ذلك في السيارة، وقل مثل ذلك في البيت، وقل مثل ذلك في ثيابك التي تلبسها، وفي طعامك الذي تأكله، نسأل الله أن يعيننا على فعل الخيرات.(21/30)
مقدمة بين يدي تفسير سورة العاديات
سورة العاديات سورة مكية في قول جمهور المفسرين، وقد اشتملت على إحدى عشرة آية، في أربعين كلمة، ومائة وستين حرفاً، فمن وفقه الله عز وجل لقراءتها فله ألف وستمائة حسنة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم.
هذه السورة أقسم فيها ربنا جل جلاله بنوع واحد من مخلوقاته وهي الخيل، لما فيها من آياته الباهرة، ونعمه الظاهرة التي يراها الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة).(21/31)
سبب نزول سورة العاديات
سبب نزول هذه السورة ما روى الإمام الحاكم عن مقاتل بن سليمان رحمه الله أنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني كنانة، وأمر عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري، فتأخر خبرهم، حتى أرجف المنافقون وقالوا: قد قتلوا جميعاً، فأنزل الله عز وجل هذه السورة مبشراً بأن الخيل قد فعلت الصفات التي ذكرت في هذه السورة المباركة).(21/32)
تفسير قوله تعالى: (والعاديات ضبحاً * فالموريات قدحا)
قال الله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1] العاديات: هي الخيل التي تعدو، وتغير على الأعداء.
وقوله: ((ضبحاً)) مفعول مطلق من صوت الخيل، يقال: ضبحت ضبحاً إذا أصدرت صوتاً معروفاً، قال ابن عباس لا يضبح من الدواب إلا ثلاثة: الخيل والكلب والثعلب.
قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: سمعت ابن عباس يحكي صوت الضبح: أح، أح.
وابن عباس رضي الله عنه وكثير من المفسرين قالوا: (العاديات) هي الخيل تعدو على الأعداء، لكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يرى أن العاديات هي الإبل، يقول ابن عباس رضي الله عنه: (بينا أنا في الحجر جالساً جاءني رجل فقال لي: يا ابن عباس! ما قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1]؟ فقلت له: الخيل حين تعدو على الأعداء، ثم إذا جن الليل فإنها تأوي بمن معها من الفرسان، فيورون أي: يوقدون نارهم، ويصنعون طعامهم، فذهب الرجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو جالس عند سقاية زمزم، فقال له: ما قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1]؟ فقال له علي: هل سألت أحداً قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عباس فقال: هي الخيل حين تعدو في سبيل الله، فقال له علي: اذهب فأتني به، يقول ابن عباس: فلما وقفت عليه، قال لي: يا ابن عباس! أتفتي فيما لا علم لك به؟ انظروا أيها الإخوان إلى الشدة في الكلام، يقول علي هذا لـ ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن، الذي مسح النبي عليه الصلاة والسلام على رأسه وقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) وعمر رضي الله عنه كان يرجع إليه في المعضلات.
فـ علي يزجر ابن عباس ويقول: (أتفتي فيما لا علم لك به؟ والله إن كانت أول غزوة غزيناها بدراً، وما لنا إلا فرسان: فرس للزبير، وفرس للمقداد، فكيف تكون العاديات ضبحاً هي الخيل؟! بل هي الإبل تعدو من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى) هذا رأي علي رضي الله عنه.
قال ابن عطية رحمه الله في المحرر الوجيز: وفي الآية قسم بالخيل أو بالإبل أو بهما معاً، فلا معارضة بين قول ابن عباس وقول علي، لكن أكثر المفسرين يقولون بقول ابن عباس بأن العاديات هي الخيل.
قال الله تعالى: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:2].
الخيل تضرب بحوافرها الحجارة فتتقد ناراً.
وقال عكرمة: الموريات قدحاً هي الألسنة؛ لأنها تقدح الحجج وتظهره، قال ابن عطية رحمه الله: وهذا على سبيل الاستعارة وليس على الحقيقة.(21/33)
تفسير قوله تعالى: (فالمغيرات صبحاً فوسطن به جمعاً)
قال الله تعالى: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات:3].
المغيرات: هي الخيل تغير على العدو صباحاً، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: وهذا على الأغلب، أي: الأغلب أن الغارة تكون صباحاً.
وتعلمون في الحروب الأخيرة هذه الأيام أن أعداء الله عز وجل يبدءون بصب نيرانهم وحممهم في وقت الفجر أو في وقت السحر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أغار على قوم فوصل ليلاً ينتظر حتى إذا أصبح أغار عليهم عليه الصلاة والسلام، كما قال: (الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
يقول تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} [العاديات:4].
أي: أنَّ هذه الخيل هيجت تراباً وغباراً، والنقع: هو التراب، وقيل: بل المراد بالنقع الصوت، ومنه قول عمر رضي الله عنه لما توفي سيف الله المسلول خالد رضي الله عنه فاجتمع أهله من النساء يبكين: ما على نساء بني المغيرة أن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقعاً أو لقلقة، فالنقع هو رفع الصوت بالبكاء.
يقول سبحانه: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:5].
أي: هذه الخيل توسطت العدو، وهذا كله حكاية عما كان في تلك السرية، سرية المنذر بن عمرو الأنصاري، فهذه الخيل عدت وأغارت وأثارت تراباً وتوسطت أولئك الأعداء من بني كنانة، وسلمهم الله عز وجل وأغنمهم.(21/34)
تفسير قوله تعالى: (إن الإنسان لربه لكنود.
وإنه على ذلك لشهيد)
أقسم الله عز وجل أقسم بالخيل ووصفها بأنها عاديات، وأنها موريات، وأنها مغيرات، والمقسم عليه قول الله عز وجل: {إن الإنسان لربه لكنود} [العاديات:6].
وكلمة (كنود) الكاف والنون والدال من كند تحمل معنى الجحود، وقبيلة كندة من قبائل العرب المعروفة، ومن ينسب إليها يقال له: الكندي، قيل سميت كندة بهذا الاسم؛ لأنهم جحدوا أباهم وأنكروه.
فالإنسان كنود، يعني: جحود كفور، وقيل: هو الذي يذكر المصائب وينسى النعم، وهذا حال كثير من الناس، إذا سألته عن حاله قال لك: والله أنا عيني فيها كذا وكذا وكذا، هذا حالنا جميعاً، وينسى أن الله سلم له الأخرى، وسلم الأذنين، وسلم اليدين، وسلم الرجلين، وأنه لا شيء فيه، فقط صار همه في عينه.
وقيل: الكنود هو الذي لا يشكر الكثير، وينسى اليسير، يعني: لو أعطاه الله يسيراً نسيه، ولو أعطاه كثيراً ما شكره.
وقيل: الكنود هو الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده.
وقيل: الكنود هو العاصي الذي يستعمل نعم الله في معصيته سبحانه.
وقيل: الكنود هو البخيل سيئ الملكة، يعني: لو أن الله ملكه أناساً؛ مثلاً: تحته زوجة تراه يسيء معاملتها، تحته أولاد يسيء معاملتهم، تحته عمال أو خدم فهو سيئ الخلق معهم.
وقيل: الكنود هو الحسود الحقود والعياذ بالله.
وقيل: الكنود هو الذي إذا مسه الخير كان منوعاً، وإذا مسه الشر كان جزوعاً.
قال القرطبي رحمه الله: وهذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الجحود والكفران.
هذه صفة الإنسان إلا من رحم الله، {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] يجحد نعمه جل جلاله، ونعمه لا تحصى، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
قال تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:7].
أي: يشهد على ذلك بحاله، كما قال الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة:17].
قال سيد قطب رحمه الله في الظلال: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} يوم ينطق بالحق، يوم لا يستطيع أن يكذب، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24] هذا حالهم.(21/35)
تفسير قوله تعالى: (وإنه لحب الخير لشديد)
قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8].
الخير في القرآن هو المال، ومنه قول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] فالخير هنا هو المال، فقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} قال ابن زيد رحمه الله: سمى الله عز وجل المال خيراً؛ لأن الناس يعتقدونه خيراً، وربما يكون شراً، كما سمى الله القتل سوءاً رغم أنه قد يكون خيراً، قال الله عز وجل: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:174].
يعني: القتل، والقتل قد لا يكون سوءاً؛ لأن بعده عز الإسلام، وارتفاع رايته، وظهور كلمته، والقتيل نفسه إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فالله عز وجل سمى المال خيراً باعتبار حال الناس.
قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] قال أهل التفسير: أي: يحرص على جمع المال من كل وجه.(21/36)
ذم البخل والتنفير منه
قال بعضهم: الشديد في قوله ها هنا: ((الشديد)) هو البخيل، واستدلوا بقول القائل: أرى الموت يغتال الكرام ويعتام صولة الباخل المتشدد يعني: وصف البخيل بأنه متشدد.
وهذه السورة لو ضممناها إلى ما قبلها في سورة الفجر، فإنَّ الله عز وجل ذم أناساً فقال: {كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:17 - 20].
وقال في سورة الليل: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل:8 - 9].
وسيأتي بعدها في سورة الماعون: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] بعد أن قال: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:2 - 3].
وخلاصة هذه الآيات أن الله عز وجل عد البخل من أراذل الأخلاق، ومن أقبح الصفات التي يتصف بها الإنسان، نسأل الله العافية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة أقسم عليهن: لا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم، ولا يجتمع في قلب شح وإيمان أبداً) الإيمان والشح لا يجتمعان.(21/37)
صور من كرم النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته
كان صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيماناً وأكثرهم بذلاً، وكان أطولهم يداً، وقد ورث منه هذه الصفة الصحابة الكرام، وخاصة أهل البيت عليهم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقد خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضوان الله عليهم في سفر فذهبت رواحلهم -يعني: كأنهم ناموا في مكان، ففقدوا ما كانوا يركبون عليه، وعليها الطعام والشراب- فجاعوا وعطشوا وتعبوا، فأووا إلى خيمة امرأة عجوز، قالوا لها: هل من شيء نشربه؟ وما كان عندها إلا شاةً صغيرة، فقالت: خذوا تلك الشاة واحلبوها واخلطوا اللبن بالماء واشربوا، فشربوا، حتى رووا، ثمَّ قالوا لها: هل من طعام؟ فنظرت المرأة وقالت: ليقم أحدكم إلى هذه الشاة فيذبحها -وما عندها غيرها-، فقام أحدهم فذبحها وكشطها -أي: سلخها-، فصنعت لهم طعاماً فأكلوا وشبعوا، ثم قالوا لها: جزاك الله خيراً، نحن نفر من قريش فإذا أتيت إلى المدينة أصبت منا خيراً وذهبوا، فجاء زوجها وسألها: أين الشاة؟ قالت: قدم نفر من قريش فكان من خبرهم كذا وكذا فذبحتها لهم، وهم نفر من قريش، فقال: فعل الله بك وفعل بك، دعا عليها وسبها، ثم أصابتهم فاقة؛ فتركوا مكانهم وجاءوا إلى المدينة، وزوجها ينقل الحطب، وبينما هي تمشي يوماً والحسن رضي الله عنه جالس أمام بابه عرفها وهي له منكرة، فقال لها: يا أمة الله! أما تذكرينني؟ أنا الذي مررت بك في يوم كذا، وفعلت بنا كذا وكذا، قالت: أنت هو بأبي وأمي! قال: إي والله، قال لها: اصبري! فأرسل غلامه فابتاع ألف شاة من غنم الصدقة وأعطاها إياها ومعها ألف دينار، ثم بعث بها إلى الحسين قال لها: كم أعطاك أخي؟ قالت له: ألف دينار وألف شاة، فأعطاها ألف دينار وألف شاة، ثم جاءت إلى عبد الله بن جعفر، فقال لها: كم أعطاك أخواي؟ قالت: كل منهما أعطاني ألف شاة وألف دينار، فأعطاها ألفي شاة وألفي دينار! وقال لها: والله لو بدأت بي لأتعبتهما.
فرجعت هذه المرأة بأربعة آلاف شاة، وأربعة آلاف دينار، قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39].(21/38)
صورة ونموذج من البخلاء
هناك أناس عهد عنهم الشح والبخل وضرب بهم المثل، حتى إن الجاحظ ألف كتاباً سماه (البخلاء) وذكر فيه قصصاً هي أغرب من الخيال.
فذكر عن واحد اسمه محمد بن يحيى بن خالد بن برمك أنه كان بخيلاً بخلاً عجيباً، وأخذ نسيبه أخو زوجته يسأل عنه، قالوا له: كيف مائدة محمد بن يحيى؟ قال: طولها فتر في فتر، يعني: شبر في شبر! قيل له: فكيف صحافه؟ قال: كحب الخشخش، قيل له: ما يأكل معه أحد؟ قال: نعم، الكرام الكاتبون! قيل له: ما يغشى مائدته أحد؟ قال: والله إلا الذباب، قالوا له: ثوبك مخرق، قال: والله ما أملك إبرة لأخيطها، قالوا: هلا سألته الإبرة؟ قال: والله لو جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب عليه السلام؛ فسألوه إبرة ليخيط بها ثوب يوسف الذي قد من دبر ما أعطاه.
فنعوذ بالله من هذا البخل! هذا مثل لإنسان بلغ القمة في البخل والشح والإمساك والتقتير، والله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:36 - 37]، والبخيل فوق بخله يتهم الكريم بالسفه، ويحثه على البخل.(21/39)
تفسير قوله تعالى: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور)
قال الله تعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} [العاديات:9].
أي: هذا الإنسان ما فكر في ذلك اليوم الذي يخرج الله عز وجل فيه ما في القبور، كما مر معنا: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2].
يقول تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10].
أي يبتلي الله كل امرئ بنيته، قال عز وجل: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9].
يقول تعالى: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:11] أي: العالم بجميع ما كانوا يصنعون ويعملون.(21/40)
تفسير من سورة القارعة إلى سورة الهمزة
سور القرآن القصيرة فيها مواعظ عظيمة يحيي الله بها قلوب من يشاء من عباده، ففيها التخويف من يوم القيامة وبيان حقيقة الدنيا والتحذير من الالتهاء بها وبيان أقسام الناس وأحوالهم.(22/1)
مقدمة في تفسير سورة القارعة
سورة القارعة سورة مكية، وعدد آياتها إحدى عشرة آية، في ست وثلاثين كلمة، وهذه السورة المباركة اشتملت على مائة وخمسين حرفاً، فلقارئها (1500) من الحسنات، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.
إن موضوعها افتتح بما اختتم به سورة العاديات، وسورة العاديات فيها حديث عن يوم القيامة في قوله تعالى: (إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9 - 10]، وسورة القارعة من أولها إلى آخرها تتكلم عن ذلك اليوم، وسميت بالقارعة وهو اسم من أسماء القيامة، قال الإمام القرطبي رحمه الله: ومهيع كلام العرب أن الشيء كلما عظم قدره كلما كثرت أسماؤه، ألا ترى أنهم جعلوا للسيف خمسمائة اسم، فالسيف لما كان أثره عظيماً جعلوا له أسماء كثيرة، وكذلك الأسد سموه أسداً وسموه سبعاً وسموه ليثاً وسموه أسامة، وسموه أبا الحارث وغير ذلك من الأسماء، وكذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن نفسه: (أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي محا الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على إثري، وأنا العاقب فلا نبي بعدي)، عليه الصلاة والسلام، فكثرت أسماؤه؛ لأنه أعظم البشر وأعلاهم عند الله قدراً.
كذلك يوم القيامة أحصى له الإمام السيوطي، والإمام الغزالي، والإمام القرطبي وغيرهم أكثر من خمسين اسماً من القرآن، فسماه الله عز وجل: يوم القيامة وهو أشهر الأسماء، وقد ورد في أكثر من سبعين آية، وسماه الله: اليوم الآخر، ويوم البعث، ويوم التناد، ويوم النشور، ويوم الحسرة، ويوم الآزفة، ويوم الخروج، ويوم الخلود، والقارعة، والحاقة، والصاخة، والطامة وغيرها من الأسماء.(22/2)
تفسير قوله تعالى: (القارعة)
قال الله تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 3]، القارعة مشتقة من القرع وهو الضرب بشدة، ومنه قول القائل: العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الملامة ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} [الرعد:31]، وتطلق القارعة على المصيبة الشديدة، فالله عز وجل سمى يوم القيامة القارعة؛ لأنها تقرع الناس بأهوالها كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الهول يبدأ من القبر في قوله: (من مات قامت قيامته)، فالذي في القبر يرى ما لا عهد له به، أما المؤمنون فإن الله يثبتهم، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) [إبراهيم:27]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:101 - 102] أي: حسيس النار {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:102 - 103]، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
قوله تعالى: ((مَا الْقَارِعَةُ)) الاستفهام هنا للتهويل والتعظيم.
قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} هذا خطاب موجه إلى غير معين؛ لزيادة التهويل.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفي هذه الآيات عدة مؤكدات تبين هول ذلك اليوم، أولها: الافتتاح بالجملة الاسمية {الْقَارِعَةُ} [القارعة:1].
ثانيها: الاستفهام الذي يفيد التهويل.
ثالثها: الإظهار في مقام الإضمار لأول مرة.
يعني: قال الله عز وجل: ((الْقَارِعَةُ)) ثم قال: ((مَا الْقَارِعَةُ))، وفي غير القرآن يمكن أن يقال: القارعة، ما هي؟ لكن الله عز وجل أظهر في مقام الإضمار: ((الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ)) ثم الاستفهام الثاني وتوجيه الخطاب إلى غير معين، ثم الإظهار في مقام الإضمار مرة ثانية، فلم يقل: وما أدراك ما هي؟ بل قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} فتكرر اسم القارعة ثلاث مرات، وهذا كله من باب التهويل والتفخيم والتعظيم لما يحصل في ذلك اليوم.(22/3)
تفسير قوله تعالى: (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث)
ثم بدأ ربنا جل جلاله يفصل بقوله: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 3] فبعد أن اشتاقت الأسماع وتهيأت الأذهان لمعرفة ما يكون في ذلك اليوم قال الله عز وجل: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:4 - 5] يعني: يوم يكون الناس وتكون الجبال، الكون الأول كون تحول، والكون الثاني كون اضمحلال.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4]، الفراش واحدته فراشة، وهي دواب صغار تطير وتحوم دائماً حول النور، أو حول النيران، والحديث في صحيح مسلم ومسند أحمد عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وما مثلي ومثل الناس إلا كفراش يحوم حول النار ليقع فيه، فأنتم تريدون أن تقعوا في النار وأنا آخذ بحجزكم عنها)؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله الله عز وجل حجاباً وحاجزاً يمنعنا من الوقوع في النيران، كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4]، وقوله عز وجل: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:6 - 7]، وفي سورة القارعة شبه الناس بالفراش، وهنا شبههم بالجراد، قال أهل التفسير: ولا تعارض في هذا فهم في أول خروجهم من القبور يكونون كالفراش متخبطين لا يهتدون إلى مكان، ولا يقر لهم قرار، ثم بعد ذلك إذا سيقوا إلى المحشر، وكانت النار خلفهم تطردهم، فإنهم يكونون كالجراد المنتشر؛ لأن الجراد يسير أسراباً نحو هدف مقصود، أما الفراش فإنها تتخبط دون هدف معين.(22/4)
تفسير قوله تعالى: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش)
قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ} [القارعة:5]، هذه الجبال آية عظيمة من آيات الله، جعلها الله للأرض أوتاداً، وجعل خلقها عظيماً كما مر معنا في قوله تعالى: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:19]، فإذا بها تصير كما قال الله: ((كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ)) والعهن كما قال بعض أهل التفسير: هو الصوف مطلقاً، وقال بعضهم: هو الصوف الأحمر، وقال بعضهم: هو الصوف المصبوغ، وفي آية أخرى قال الله عز وجل: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:8 - 9]، وفي آية ثالثة قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً) [الكهف:47]، وقال في أخرى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ:20]، وقال أيضاً {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور:9 - 10]، وفي آية أخرى يقول تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل:14]، الكثيب: مجتمع الرمل، والمهيل: هو الذي إذا أخذت بعضه سقط كله، ولا تعارض بين هذه الآيات، فالجبال في أول أمرها تكون كالعهن المنفوش، تنتفش نتيجةً لتغير أحوال الكون كله في ذلك اليوم، كما قال الله عز وجل: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:1 - 2] يعني: طمس ضوءها، {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:3 - 4]، العشار هي: النوق الحوامل أي: عطلت عن حملها، وقيل: العشار هي البلاد العامرة تعطل من عمرانها، {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:5 - 6]، هذه البحار الباردة تصبح نيراناً تتأجج، وفي آية أخرى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] أي: تتفجر وتخرج منها الأهوال.
كما قال الشاعر: مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور هذا هو حال الدنيا في ذلك اليوم، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات.
فهذه الجبال تصير كالعهن المنفوش، ثم بعد ذلك تصير مسيرةً: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف:47]، ثم بعد ذلك تصير سراباً كأن لم تكن، ويخرج الناس من قبورهم وليس هناك جبال، ولا بنيان، ولا أشجار، ولا معالم ولا شمس ولا قمر، الكل خسف به وذهب ضوءه، ثم بعد ذلك يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرص الخبز النقي الذي ليس فيه نخالة، فقرصة النقي لا معلم فيها لأحد.(22/5)
تفسير قوله تعالى: (فأما من ثقلت موازينه)
قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:6 - 9].
بعد هذه الأهوال اجتمع الناس في عرصات القيامة، فنصبت الموازين، قال عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الميزان له لسان وكفتان، وهو ميزان حقيقي توزن فيه الأعمال، وتوزن فيه الصحف، ويوزن فيه الأشخاص، كما جاء في آخر سورة الكهف قول الله عز وجل: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] أي: هؤلاء المتكبرون المتغطرسون، الذين كان أحدهم إذا تكلم مال بفمه ذات اليمين وذات الشمال، وإذا مشى يمشي على الأرض مختالاً متكبراً، يتبختر في مشيته يوم القيامة، فهؤلاء يحشرون كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم كأنهم ذباب أو بعوض لا قيمة لهم.
والله عز وجل ينصب تلك الموازين ثم ينقسم الناس مع تلك الموازين إلى قسمين: الأول: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:6] أي: من ميزانه ثقيل بالحسنات وبالأعمال الصالحات، فجزاؤه كما قال الله: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:7].
الثاني: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:8] أي: ليس فيها حسنات، فجزاؤه كما قال الله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9].
أما كيف يثقل الميزان أو يخف فإن أبا بكر لما كان في سكرات الموت أوصى عمر رضي الله عنه وقال له: واعلم يا عمر أنه ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلاً يوم القيامة، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً يوم القيامة.
وأكثر ما يثقل به الميزان كلمة لا إله إلا الله، من قال هذه الكلمة موقناً بها خالصاً من قلبه، معتقداً حقيقتها، بأنه لا معبود بحق إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة إلا الله، فميزانه ثقيل يوم القيامة، وقد ذكر الرسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- قصة الرجل الذي ينادى به يوم القيامة على رءوس الأشهاد، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فيها سيئاته وخطيئاته، فتوضع هذه السجلات فيقول الله عز وجل له: (يا ابن آدم! هل ظلمك الكرام الكاتبون؟ يقول: لا يا رب، هل نقصوا من حسناتك شيئاً؟ يقول: لا يا رب، هل لك من حسنة ترجوها؟ فالرجل يتردد فيقول الله عز وجل: بلى إن لك عندنا حسنة لا ظلم اليوم، فتنشر له بطاقة مكتوب فيها: لا إله إلا الله توضع في كفة حسناته، فتطيش تلك السجلات وترجح بهن لا إله إلا الله).
وليس معنى ذلك أنه قالها بلسانه دون اعتقاد وعمل، لكنه قال: لا إله إلا الله موقناً بها معتقداً حقيقتها عاملاً بما استطاع، لكن غلبته نفسه وغلبت عليه شقوته وشهوته فنجاه إخلاصه.
وهذا يفسر به قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، أي: قالها مخلصاً، فثقلت موازينه بلا إله إلا الله وبالطاعات.(22/6)
تفسير قوله تعالى: (فهو في عيشة راضية)
قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} قال أكثر المفسرين: هذا من المجاز، والمعنى فهو في عيشة مرضي عنها، فهو راض عن عيشته هذه، وكيف لا يرضى بها وفيها سرر مرفوعة تتواضع له، فلا يحتاج معها إلى سلم، بل هي تتواضع له، كذلك تكون الأشجار عالية، فإذا اشتهى من قطوفها شيئاً تدلت إليه ولا يحتاج إلى أن يصعد فيتعرض لجرح أو لأذى، كذلك الأنهار تمشي معه حيث مشى، قال الله عز وجل: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] يعني: المؤمن هو الذي يفجر الأنهار، وإذا اشتهى طيراً من طيور الجنة خرَّ مشوياً بين يديه.
وقال بعضهم: بل العيشة راضية حقيقة لا مجازاً، ودليل ذلك أن كل شيء في هذه العيشة راض عن المؤمن الساكن فيها، فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب يقولون: سلام عليكم بما صبرتم، والحور العين راضيات عن المؤمن، قال الله عز وجل: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، (قاصرات) أي: حابسات أعينهن عن غير أزواجهن، وفي آية أخرى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، محبوسات في الخيام، فهي حابسة ومحبوسة، ولا تحبس طرفها إلا إذا كانت راضية عن زوجها في الجنة، ولذلك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الرجل من أهل الجنة يذهب إلى سوق الشمال يوم الجمعة فتحثو عليهم ريح الجنة في وجوههم وفي ثيابهم، فيرجع الواحد إلى زوجته فتقول له: والله لقد ازددت بعدنا حسناً وجمالاً، فيقول لها: وأنت والله لقد ازددت حسناً وجمالاً) فهذا يعبر عن رضاهن بهم، ورضاهم بهن، ولا يتأفف بعضهم من بعض، فليس في الجنة تأفف ولا غيره، قال عز وجل: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]، رضاً تام.(22/7)
تفسير قوله تعالى: (فأمه هاوية)
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:8 - 9] الهاوية فيها تفسيران: قيل: الهاوية اسم من أسماء جهنم، أو دركة من دركاتها، ونسب إليها؛ لأنها صارت مستقره، كما يقال للأرض: أم، قال أمية بن أبي الصلت: والأرض معقلنا وكانت أمنا منها خلقنا وفيها ندفن فالأرض تسمى أماً باعتبار قرارنا عليها، كذلك جهنم -والعياذ بالله- صارت أماً لهذا الإنسان، باعتبار قراره فيها.
وقيل: المراد بالهاوية، أي: أنه يسقط على أم رأسه نسأل الله العافية، كما أخبرنا ربنا في القرآن بأنهم ينكسون في جهنم والعياذ بالله، وقد جاء عن أبي هريرة وأنس بن مالك رضوان الله عليهما أنهما قالا: (إن روح المؤمن إذا قبضت، يُذْهَبُ بها إلى أرواح المؤمنين، وأرواح المؤمنين في أعلى عليين، فيقول المؤمنون بعضهم لبعض: روِّحوا على أخيكم؛ فإنه كان في نكد الدنيا، فيسألونه عن أهل الدنيا حتى يقولون: ما فعل فلان؟ فيقول: أو ما جاءكم -يعني: أن فلاناً هذا قد مات فيقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله، ذُهِبَ به إلى أمه الهاوية).(22/8)
تفسير قوله تعالى: (وما أدراك ما هيه نار حامية)
قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة:10]، أصل الكلمة في اللغة: ما أدراك ما هي؟ لكن جيء بهاء السكت.
قال الله تعالى: {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:11]، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم)، وقال في الحديث الذي في الصحيح: (إن أهون أهل النار عذاباً من يوضع في أسفل قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه)، وقال أيضاً في الحديث: (إن الله أوقد النار ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقدها ألف عام حتى احمرت، ثم أوقدها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة)، نسأل الله أن يجيرنا منها برحمته.(22/9)
مقدمة في تفسير سورة التكاثر
سورة التكاثر سورة مكية، وعدد آياتها ثمان، وكلماتها ثمان وعشرون كلمة، وحروفها عشرون ومائة حرف.
أما سبب نزولها فهو كما قال مقاتل بن سليمان الكلبي: أن حيين من قريش افتخرا: وهم بنو عبد مناف وبنو سهم، كل حي منهما قال: نحن أعز نفراً، وأكثر كاثراً، حتى بلغ بهم الحال أن بني عبد مناف كثروا على بني سهم فذهبوا إلى المقابر وأخذوا يعدون موتاهم ويقول كل حي للآخر: أفيكم مثل فلان؟ ويشيرون إلى قبره، أفيكم مثل فلان؟ حتى كثر بنو سهم على بني عبد مناف.
وقيل: بل نزلت في حيين من الأنصار: وهم بنو الحارث وبنو حارثة.
وقيل: بل نزلت في حيين من يهود: وهم بنو النضير وبنو قريظة.
على كلٍّ فقد نزلت الآية لمعالجة خلل في النفس الآدمية، وهذا الأمر قد تكرر في القرآن، فقد حكى ربنا جل جلاله عن ذلك الخاسر الشقي الذي قال لصاحبه وهو يحاوره: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، وحكى الله جل جلاله عن الوليد بن المغيرة، ذاك الذي آتاه الله مالاً ممدوداً، وبنين شهوداً، ومهد له تمهيداً، ثم بعد ذلك ظن أن الله أعطاه هذا كله؛ لأنه كريم على الله، وظن نفسه أهلاً للنبوة وللرسالة، فكانت عاقبته كما قال الله عز وجل: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17] أي: سأكلفه أن يصعد جبلاً في جهنم، كلما بلغ قمته خر إلى قاعه.
وقد بين عز وجل في القرآن أن التكاثر يكون في شيئين: في الأموال والأولاد، وهذا كله سماه الله عز وجل: لهواً ولعباً كما في قوله تعالى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]، وقوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، وقوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنعام:32]، وبين ربنا جل جلاله أنما عنده خير وأبقى، كما قال سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11].
فالله عز وجل أنكر على هؤلاء الناس الذين يتكاثرون بالأموال والأولاد وبالعشيرة وبالأنساب.(22/10)
تفسير قوله تعالى: (ألهاكم التكاثر)
قال الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] (ألهاكم): أي: شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد وأنساكم طاعة ربكم، والمسارعة في مرضاة مولاكم.
يقول ابن القيم رحمه الله: التكاثر تفاعل بين اثنين، كل منهما يدعي أنه أكثر من صاحبه فيما يكاثره به، ثم يقول رحمه الله: ولو كانت كثرة من غير تكاثر لم تضر.
يعني: لو كان الإنسان عنده مال كثير، وعنده أولاد وعشيرة ورهط، ولكنه لم يكاثر غيره بها لم يضره ذلك كما كان الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كان بعضهم ذوي كثرة ولم تضره تلك الكثرة، كـ أنس بن مالك رضي الله عنه لما قال: وحدثتني ابنتي أُمَينة أني دفنت بيدي هاتين مائة من ولدي، وقد كان أبو بكر والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعثمان بن عفان رضوان الله عليهم من أصحاب الأموال الكثيرة، ولم تضرهم، لكن من كاثر بالدنيا سيندم يوم القيامة، فسيسأله ربه جل جلاله عما آتاه فلا يجد جواباً، وحينها يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100].
روى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجاء بالعبد يوم القيامة كأنه بذج -واحد البذجان وهو ولد الضأن- فيقول الله عز وجل له: قد أعطيتك وخولتك فما صنعت؟ يقول: يا رب قد أخذته ونميته وكثرته حتى تركته أوفر ما كان، رب ارجعني أنفقه في سبيلك، فيمضى به إلى النار)، وهذا حال من لم يعرف حق الله عز وجل في ماله.
روى الإمام مسلم عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه رضي الله عنهما قال: (انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]، فقال: يقول ابن آدم: مالي مالي، وليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى).
وجاء في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله)، فهذا هو الذي ينفعه.
إن التنافس المحمود هو ما يكون في أمور الآخرة، فلو أن الإنسان يراقب غيره فلا تطمئن نفسه، ولا يهدأ باله إذا وجد غيره أغزر منه علماً أو أكثر منه عملاً، أو أحسن منه حالاً في علاقته مع ربه، فهكذا كان حال الصحابة رضوان الله عليهم؛ ولذلك لما جاء الفقراء يشكون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال عليه الصلاة والسلام: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، إن لكم بكل تسبيحه صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، فذهبوا ثم جاءوا فقالوا: يا رسول الله! سمع إخواننا بما قلت لنا فعملوا مثل ما عملنا، فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
وكما كان يتنافس أبو بكر، وعمر، وعندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالنفقة قال عمر: (اليوم أسبق أبا بكر، فيذهب رضي الله عنه فيأتي بمال كثير، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ما تركت لولدك؟ يقول: تركت لهم مثله، فيأتي أبو بكر بمال كثير فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تركت لولدك؟ يقول: تركت لهم الله ورسوله، فيقول عمر: والله لا أسابقك بعدها).
وكذلك المكاثرة بين الأوس والخزرج رضوان الله عليهم، فقد كان الخزرج لا يسمعون بخير فعله الأوس إلا فعلوا مثله، وكذلك الأوس لا يسمعون بخير فعله الخزرج إلا فعلوا مثله، ولذلك لما قتل الأوسُ الشريرَ الخبيثَ اللعينَ كعبَ بن الأشرف النضري، بادر الخزرج رضوان الله عليهم إلى قتل أبي رافع تاجر الحجاز الذي كان يعادي الله ورسوله.
إذاً: التكاثر في أمور الآخرة مطلوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها).(22/11)
تفسير قوله تعالى: (حتى زرتم المقابر)
قال الله تعالى: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2]، هذه الآية فيها تأويلان: الأول: حتى زرتم المقابر من أجل أن تعدوا موتاكم.
الثاني: حتى نزلتم بها موتى صرعى، وحين ذلك عرفتم أن التكاثر في أمر الدنيا لن يغني عنكم من الله شيئاً، كما قال تعالى: {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].(22/12)
تفسير قوله تعالى: (كلا سوف تعلمون)
قال الله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:3 - 5] (كلا) تكررت هنا ثلاث مرات، وللمفسرين فيها قولان: الأول: أنه جيء بها ردعاً وزجراً.
الثاني: أنها جارية مجرى القسم، ومعناها حقاً.
وقال بعض أهل التفسير: (كلا) هنا هي للتوكيد.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في هذه الآية: يُروى عن بعض السلف أن قوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3] عند الموت، وقوله: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:4] عند دخول القبر، فالأولى عند الموت، يعني: إذا نزلت بك ملائكة الموت فلن يغني عنك من الله شيء من الدنيا، ولا يبقى لك إلا العمل الصالح، والثانية في القبر، يعني: إذا كنت من الصالحين أتاك رجل حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب، فتقول له: من أنت فوجهك الذي يأتي بالخير؟ فيقول لك: أنا عملك الصالح، فوالله لقد عهدتك سريعاً في طاعة الله، بطيئاً عن معصية الله، وإن كانت الأخرى -والعياذ بالله- أتاك رجل قبيح الوجه، منتن الريح، رث الثياب، فتقول له: من أنت، فوجهك الذي لا يأتي بالخير؟ فيقول لك: أنا عملك السيئ، فوالله لقد عهدتك بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله.
وقيل: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3] الأولى إذا دخلتم قبوركم، والثانية: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:4] إذا قامت القيامة الكبرى.
وقد استدل بعض أهل التفسير بهذه الآية على أن عذاب القبر حق، وعذاب القبر قد وردت فيه نصوص واضحة في القرآن والسنة، كما في سورة الأنعام قول ربنا الرحمن: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:93 - 94]، وفي سورة غافر قول الله عز وجل عن آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
قال تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:5].
(لو) هنا شرطية وجواب الشرط محذوف تقديره: لعلمتم أن التكاثر لن يغني عنكم من الله شيئاً.(22/13)
تفسير قوله تعالى: (لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين)
قال الله تعالى: {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ} [التكاثر:6].
يعني: يجاء بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:12 - 14].
وقال بعضهم: الخطاب للكفار.
قال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:7].
قال العلامة الشيخ عطية سالم رحمه الله في أضواء البيان: العلم على ثلاث مراتب: علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، أما علم اليقين فهو ما كان قائماً على الأدلة، وأما حق اليقين فهو ما كان قائماً على المشاهدة، وأما عين اليقين فهو ما كان قائماً على الملابسة والمخالطة، كما قال الله عز وجل: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:23 - 24].(22/14)
تفسير قوله تعالى: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم)
قال الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8].
النعيم مشتق من النعومة والليونة، وهو ضد اليبوسة والخشونة والشدة.
والنعيم هنا كلمة عامة، وتبقى على عمومها، فنحن سنسأل عن الأمن والصحة والرزق والفراغ، وسنسأل عن نعمة الأموال، ونعمة الأولاد، ونعمة الحواس، كما قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، وسنسأل عن لذة المطاعم والمشارب، وعن شبع البطون، وعن الري بالماء البارد، وعما متعنا الله به من النعم المعنوية، كنعمة الإسلام، ونعمة الإيمان، ونعمة القرآن، ونعمة العلم؛ وذلك لعموم قوله تعالى: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8].
روى الترمذي أنه لما نزلت هذه الآية: قال الصحابة: (يا رسول الله! أي نعيم نسأل عنه؟ وإنما نأكل خبز الشعير في أنصاف بطوننا؟ فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: أن قل لهم: ألستم تحتذون النعال؟! ألستم تشربون من الماء البارد؟!) فالصحابة لم يكونوا مثلنا في النعيم، بل كان عيشهم خشناً.
وجاء في الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة أن يقال له: ألم نصح لك جسدك؟! ألم نروك من الماء البارد؟!)، ونحن كذلك، سيسأل الله كل واحد منا: ألم أعلمك؟! ألم أخولك وأجعلك تسود؟! ألم أرزقك الأموال والأولاد؟ يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال عند تفسير هذه الآية: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]، هل من حلال وفي حلال؟! أم من حرام وفي حرام؟! أم من طاعة وفي طاعة؟! أم من معصية وفي معصية؟ هل عرفتم حق الله عز وجل في النعيم الذي خولكم إياه؟! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه)، خاصة من تقدم به العمر، فقد أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ الستين، ثم قال: (وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسده فيما أبلاه) فهذا الجسد نعمة عظيمة بما فيه من الحواس التي أعطاك الله إياها، فهذه اليدان وما بطشتا، والرجلان وما مشتا عليه، والرأس وما وعى، والبطن وما حوى، والعينان البصيرتان، والأذنان السميعتان، والشفتان واللسان، كل هذه النعم ستسأل عنها: هل استعملتها في طاعة الله أم في معصية الله؟ وإذا أردنا أن نعرف قدر ما نحن فيه من النعيم، فلنرجع إلى الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً في نحر الظهيرة فوجد أبا بكر وعمر فقالا له: ما الذي أخرجك يا رسول الله؟! قال: وأنتما ما الذي أخرجكما؟ قالا: ما أخرجنا إلا الجوع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما أخرجني إلا الذي أخرجكما، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! إن أبا الهيثم بن التيهان رجل من الأنصار، عنده بستان ما رأيت مثل تمره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلما إليه، فذهبوا إلى بستان أبي الهيثم فلقيتهم زوجة أبي الهيثم، فقالت: مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فقال عليه الصلاة والسلام: ما لي لا أرى أبا الهيثم، فقالت: ذهب يستعذب لنا الماء -أي: ذهب ليحضر لنا ماءً حلواً-، فذهبت رضي الله عنها -وهي الكريمة الفاضلة التي اعتادت هذا الخلق من زوجها- فجاءت بعثكول تمر، وقربته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وجاءتهم بماء بارد، فأكلوا وشربوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمسك بالعثكول فقال: والله لتسألن يوم القيامة عن هذا، فأمسك عمر رضي الله عنه بالعثكول، وضرب به الأرض وقال: يا رسول الله! نسأل عن هذا؟ قال: إيه والذي نفسي بيده، ثم إن أبا الهيثم رضي الله عنه جاء ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، فاستبشر وقال: مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، والله ما على وجه الأرض اليوم أحد أكرم أضيافاً مني -يحلف وصدق رضي الله عنه- فأخذ السكين ليذبح ما يكرمهم به، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إياك والحلوب، فذهب رضي الله عنه وذبح وشوى، ثم جاء باللحم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه).
يقول عبد الله بن رواحة يمدح أبا الهيثم: فلم أر في الإسلام عزاً لأمة ولا مثل أضياف الإراشي معشراً نبي وصديق وفاروق أمة وخير بني حواء فرعاً وعنصراً فوافوا بميقات وقدر قضية وكان قضاءُ الله قدراً مقدراً إلى رجل نجدٍ يباري بجوده شموس الضحى جوداً ومجداً ومفخراً وفارس خلق الله في كل غارة إذا لبس القوم الحديد المسمرا ففدى وحيا ثم أدنى قراهم ولم يقرهم إلا سميناً متمراً إذاً: نعم الله عز وجل لو كانت تحصى لكان الأمر هيناً، لكن الأمر كما قال ربنا: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].(22/15)
مقدمة في تفسير سورة العصر ومناسبتها لما قبلها
سورة العصر سورة مكية، مشتملة على ثلاث آيات، ويوجد في القرآن ثلاث سور فيها ثلاث آيات: سورة العصر، وسورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]، وسورة: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، لكن من جهة الحروف فأقلهن حروفاً سورة الكوثر، وهذه السورة المباركة مشتملة على أربع عشرة كلمة، في ثمانية وستين حرفاً، فمن قرأها فله من الحسنات ستمائة وثمانون حسنةً، والله يضاعف لمن يشاء.
ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه في السورة الماضية ذكر الله عز وجل أن أكثر الناس مشتغلون بالتكاثر، ظناً منهم أن العزة في ذلك، وجاءت هذه السورة مبينةٌ أيضاً أن الإنسان خاسر، تدعوه نفسه إلى البوار، وتلقيه في الدمار، إلا من اعتصم بالله عز وجل، واتصف بالصفات الأربع الواردة في هذه السورة المباركة.
روى الإمام الطبراني من حديث عبيد الله بن حصين الأنصاري رضي الله عنه قال: (كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لا يفترقان حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم عليه وينصرف)، ونقل الشيخ الصواف في تفسيره عن الإمام الطبرسي قال: هذه السورة دليل على إعجاز القرآن؛ لأنها مع قلة ألفاظها، ووجازة عبارتها قد جمعت كل ما يحتاج إليه الناس في دينهم علماً وعملاً.
وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي: لو تدبر الناس ما في هذه السورة لوسعتهم.
ويذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره وغيره من أهل العلم أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما كان كافراً وفد على مسيلمة الكذاب لعنه الله، فقال له مسيلمة الكذاب: يا عمرو! ماذا أنزل على صاحبكم؟ فقال له عمرو: نزلت عليه سورة وجيزة بليغة، وقرأ عليه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]، فسكت مسيلمة هنيهة ثم قال: وقد أنزل علي مثلها، فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفر نقر، ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله يا مسيلمة إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب، يقول ابن كثير رحمه الله: فأراد مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القرآن.
فـ عمرو بن العاص كان عابداً للأوثان، ومع ذلك تبين له كذب مسيلمة.
والوبر: هو دابة من دواب الأرض، أعظم ما فيها أذناها وصدرها، وباقيه دميمٌ، وهذا الكلام.
مثله قوله الآخر: يا ضفدع يا بنت الضفدعين، نقي كما تنقين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تروين، رأسك في الماء وذنبك في الطين، وعَدَّ مسيلمة هذا قرآناً.
ومثله قوله أيضاً: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل إلى آخر كلامه الفارغ الذي أراد به أن يصدق الناس أنه نبي يوحى إليه، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر.(22/16)
تفسير قوله تعالى: (والعصر)
قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1].
يقسم الله تعالى في هذه السورة بالعصر، قال بعض أهل التفسير: العصر هو الدهر، والله عز وجل قد بين أنه آية من آياته، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء:12]، وفي آية أخرى قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62].
وقال بعض أهل التفسير: بل المراد بالعصر ههنا صلاة العصر؛ لأنها الصلاة الوسطى؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حث عليها، وأخبر أن من حافظ عليها دخل الجنة، وأن من تركها فكأنما وتر أهله وماله، وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن المحافظة على هذه الصلاة المباركة سبب لإكرام الله للعبد بالنظر إلى وجهه يوم القيامة، قال عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، فمن استطاع منكم ألا يغلب على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فليفعل).
وقال بعض أهل التفسير: بل المراد بالقسم هنا: القسم بوقت معين، وهو عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم المبارك الذي كان يعيش فيه على ظهر هذه الأرض.(22/17)
تفسير قوله تعالى: (إن الإنسان لفي خسر)
قال الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2].
قال ابن عباس: المراد به الكافر، وقيل: بل المراد العموم، فيشمل الإنس الجن، كما قال الله عز وجل في آية أخرى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:25]، الخسر، والخسران، والخسارة كل هذا مصدر خسر خساراً وخسراناً، وأصله النقص فالله عز وجل يقسم بالعصر على أن جنس الإنسان خاسر هذا الخسران، كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: قد يكون خسراناً تاماً، وهذا في حال من خسر الدنيا والآخرة، كما قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]، وكحال بعض الناس الذين يعيشون في الدنيا في ضنك وفي ضيق وهم وغم؛ وهم مع ذلك يعصون الله؛ ولذلك فإن بعض الصالحين لما رأى عمالاً ينقلون الأثقال ويغنون بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشقى الناس من خسر الدنيا والآخرة)، فهذا خسار تام.
وقد يكون الخسران نسبياً، فإما أن يخسر الدنيا، وإما إن يخسر الآخرة.(22/18)
أسباب الخسران
ما هو سبب الخسران؟ إن القرآن بين أن سبب الخسران هو الشرك، قال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
أو سبب الخسران التكذيب بالقيامة، قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس:45]، وقال سبحانه: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31].
وقد يكون الخسران بسبب ترك العمل كما في سورة المؤمنون قال عز وجل: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103].
وهناك سبب رابع من أسباب الخسران وهو اتباع الشيطان، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء:119]، وقال تعالى: {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19].(22/19)
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].
لقد استثنى ربنا جل جلاله من عموم الخسران من اتصفوا بأربع صفات: الصفة الأولى: الإيمان، قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3]، والإيمان كما قال الإمام البخاري رحمه الله: لقيت أكثر من ألف من أهل العلم يقولون: الإيمان قول وعمل، ولذلك لا تجد في القرآن أن الله عز وجل يذكر الإيمان وحده، بل لابد أن يتبع الإيمان بالعمل كما قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] ونحو ذلك من الآيات، ولذلك فإن الإمام البخاري رحمه الله بوب في صحيحه: باب الإيمان نية وقول وعمل، وعلى هذا اتفاق أهل الحق.
فالإيمان اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، فلو أن إنساناً لا يصلي الفرض، ولا يصوم رمضان، ولا يحج البيت، ولا يزكي ماله، ولا يحل الحلال، ولا يحرم الحرام، ثم يزعم أنه مؤمن، فهو كذاب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم) فكون الإنسان يفعل شيئاً من الطاعات، ويرتكب المحرمات، ثم يقول: أنا مؤمن، والإيمان موجود في القلب، نقول له: نحن لا نعرف ما بداخل القلب، فلا بد أن نرى آثار ما في القلب تظهر في الأعمال؛ لأن الله نصب العمل أمارة على وجود الإيمان، كما قال الحسن البصري رحمه الله: وإن قوماً أساءوا وقالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
الصفة الثانية: قال تعالى: ((وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) الصالحات تشمل فعل الفرائض وإتيان المستحبات، واجتناب المحرمات والتورع عن المكروهات والشبهات.
الصفة الثالثة: قال تعالى: ((وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)).
قال الرازي رحمه الله في تفسيره: علم بهذه الآية أن تبعة الحق ثقيلة.
ويقول سيد قطب رحمه الله: والحق ثقيل يحتاج إلى تواص؛ لأنه يعارضه طغيان الطغاة، وظلم الظالمين، وجور الجائرين، وتصورات البيئة، وضغوط المادة، هذه كلها تعارض الحق، فلابد أن يوصي بعضنا بعضاً.
وقد تأكد هذا المعنى في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وعلى أثرة علينا، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم).
وفي حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال الخير: ألا أخاف في الله لومة لائم، وأن أقول بالحق أينما كنت) رواه ابن حبان في صحيحه.
وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا هابت أمتي أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تودع منهم) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحقرن أحدكم نفسه، قالوا: كيف يحقر أحدنا نفسه يا رسول الله؟! قال: يرى لله مقالاً فلا يقول به، فيقول له الله يوم القيامة: ما منعك أن تقول كذا وكذا في كذا وكذا؟ يقول: يا رب خشيت الناس، فيقول الله عز وجل: فإياي كنت أحق أن تخشى)، ولذلك فإن الله عز وجل قال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]، وهذا المعنى فهمه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، لما مر عمر بن الخطاب في السوق استوقفته امرأة عجوز وقالت له: يا ابن الخطاب لقد عهدتك في سوق عكاظ ترعى الغنم بعصاك، تدعى عميراً تضرب الصبيان، ثم لم تمض الأيام حتى صرت عمر، ثم لم تمض الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن أيقن بالحساب أعد له العدة، فبكى عمر رضي الله عنه، فقال لها بعض الناس: إيه يا امرأة لقد أغلظت على أمير المؤمنين، قال عمر: دعها فإنها خولة بنت ثعلبة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، فـ عمر أحرى أن يسمع لها.
فهذا من التواصي بالحق الذي كان بين الصحابة رضوان الله عليهم.
الصفة الرابعة: قال تعالى: ((وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) أوصى بعضهم بعضاً بالصبر بأنواعه الثلاثة: النوع الأول: الصبر على طاعة الله، فمثلاً: صلاة التراويح تحتاج إلى صبر، والصيام يحتاج إلى صبر، وصلاة الصبح في شدة البرد تحتاج إلى صبر، وقل مثل ذلك في الطاعات كلها.
النوع الثاني: الصبر عن معصية الله، وذلك بأن يصبر عما لا يحبه الله ولا يرضاه، رغم أن نفسه تشتهيه وقلبه يميل إليه.
النوع الثالث: الصبر على قضاء الله وقدره، وقد جاء في بعض الكتب: أن الله عز وجل أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود! اصبر على المئونة تكن مني المعونة، والمعنى: اصبر على مئونة الدنيا ومئونة التكاليف الشرعية تكن مني المعونة.
وهذا ظاهرٌ، فكثير من الخيرات يبدؤها الإنسان وهو متهيب متردد، لكن الله عز وجل يثبت القلب ويربط على الفؤاد، وبعد أن كان الإنسان متردداً جباناً، يجعله شجاعاً مقداماً، يقدم على هذه الطاعات وهو يعلم أنها زاده إلى الآخرة.(22/20)
مقدمة في تفسير سورة الهمزة وسبب نزولها
سورة الهمزة سورة مكية، فيها تسع آيات، وثلاث وثلاثون كلمةً، وثلاثون ومائة حرف.
هذه السورة المباركة نزلت في جماعة من المشركين نصبوا أنفسهم للمز المسلمين ونشر الأخبار السيئة عنهم، وقد سمت لنا الروايات بعض هؤلاء الأشقياء، منهم: أبي بن خلف، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة المخزومي، وجميل بن معمر من بني جمح، وكذلك الأسود بن عبد يغوث والأخنس بن شريق، وهذان من ثقيف، وكلهم من ذوي الثراء والمال ممن أنعم الله عليهم ووسع عليهم في الأرزاق، لكنهم قابلوا نعمة الله عز وجل بالكفران والجحود، كما قال الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] يعني: دائماً الغنى يكون معه الطغيان إلا من رحم الله.
يقول سيد قطب رحمه الله: وهذه السورة تعرض صورة من الصور الواقعية في الدعوة الإسلامية في عهدها الأول، فتعرض صورة اللئيم الصغير النفس، الذي آتاه الله مالاً فسيطرت عليه نفسه، حتى لم يعد يطيق نفسه، وظن أن المال كفيل بأن يلغي الأقدار وأن يلغي الكرامات، وأن المال كفيل بأن يعدل الحساب والجزاء، لو كان يعتقد أن ثمة حساباً وجزاءً.(22/21)
تفسير قوله تعالى: (ويل لكل همزة لمزة)
قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1].
(ويل) إما دعاء وإما خبر، وعندنا في القرآن ثلاث سور بدأت بالدعاء: سورة المطففين أولها: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1]، وهذه السورة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهمزة:1]، وسورة المسد {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، هذه السور الثلاث مبدوءة بالدعاء، على قول من يقول من أهل التفسير أن المقصود بـ (ويل) الدعاء، لكن بعضهم قال: (ويل) هو خبر أي: عذاب وهلاك، أو كما قال بعض المفسرين: هو وادٍ في جهنم بعيد قعره شديد حره.
قوله: ((لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ))، همزة لمزة وزنها فعلة، وهذا الوزن يطلق على الإنسان الذي يكثر من الفعل، فمن يكثر الضحك يقال له: ضُحَكة، ومن يكثر من اللعن يقال له: لُعَنة.
والمفسرون رحمهم الله أقوالهم في معنى همزة لمزة تدور على أن الهمزة اللمزة هو: العياب الغياب الطعان، أي: الذي يعيب الناس ويغتابهم ويطعن فيهم.
ما الفرق بينهما؟ قال بعضهم: الهمز يكون باللسان، واللمز يكون بالعين وبالرأس وباليد ونحو ذلك، وبعضهم يعكس ويقول: الهمزة ما كان باليد والرأس والعين، واللمزة ما كان باللسان، واستدل بقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) [الحجرات:11]، وبعضهم يقول: الأمر لا يتعلق بالآلة، وإنما الهمزة هو من يطعنك في وجهك، واللمزة هو من يطعنك في غيابك، وعلى كلٍّ، فكلاهما مذموم منبوذ مقبوح، توعد الله صاحبه بالويل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن شرار الناس الهمازون اللمازون الباغون للبرآء العنت، المفسدون بين الأحبة).
وجاء في سنن الترمذي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد على المنبر فقال: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف رحله)، وجاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة قتات)، والقتات: هو النمام، وهذا المعنى أخذه الإمام الشافعي رحمه الله في أبيات ما أفصحها وما أحسنها حين قال: إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى ودينك موفور وعرضك صين لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك سوءات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ودافع ولكن بالتي هي أحسن فهذه الآية نزلت في المشركين الذين كانوا يلمزون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم عدو الله أبو لهب بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث عن جميل بن عباد قال: (إني لفي سوق عكاظ وأنا غلام صغير مع أبي، إذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف بين الناس وهم حوله يقول: أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله، وخلفه رجل أحول وضيع ذو غديرتين يقول: لا تصدقوه فإنه كذاب، لا تصدقوه فإنه مجنون، لا تصدقوه فإنه ساحر، قلنا: من هذا؟ قالوا: هذا محمد بن عبد الله، يزعم أن الله أرسله، والرجل الذي خلفه عمه أبو لهب، فكان الناس يقولون: عمه أعرف به) أي: شهد عليه عمه بأنه مجنون، وأنه كذاب، وأنه ساحر، فعمه أدرى به، فهذا ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم، وأحياناً كان الأمر يتعدى إلى استعمال اليد، كما فعل عقبة بن أبي معيط لما كان صلى الله عليه وسلم ساجداً عند الكعبة، فجاء الخبيث بسلى جزور فطرحها على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فضحك القوم حتى مال بعضهم على بعض، ولم يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه كراهة أن يقذر البيت، -أي: تحمل الأذى صلى الله عليه وسلم في رأسه كراهة أن ينزل على أرض المسجد الحرام- حتى جاءت ابنته فاطمة رضي الله عنها وهي تبكي، فأزالت الأذى عن رأس أبيها، فنظر إليهم وقال: (اللهم عليك بالملأ من قريش، اللهم عليك بـ عتبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ شيبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ أمية بن خلف، اللهم عليك بـ أبي جهل بن هشام، اللهم عليك بـ عقبة بن أبي معيط)، فقتل الخمسة يوم بدر كفاراً إلى جهنم وبئس المصير.
ومما يبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قوي النفس عالي الهمة واثقاً من نصر ربه: (أن الكفار جلسوا يوماً عند الكعبة، وذكروا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا أصبر منا على هذا الرجل، عاب آلهتنا، وسفه أحلامنا، وفرق جماعتنا، وهم يتكلمون، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف حول الكعبة، فلما مر بهم غمزوه، ثم طاف صلى الله عليه وسلم فلما مر بهم غمزوه، فلما كانت الثالثة التفت إليهم صلى الله عليه وسلم كالأسد الهصور، وقال: تعلمون معشر قريش والله لقد جئتكم بالذبح، وأشار إلى عنقه، فعاد أكثرهم جهالة يقول له: انصرف أبا القاسم! والله! ما كنت جهولاً) فالله تعالى ألقى الرعب في قلوبهم من هذه الكلمة التي نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل توعد هؤلاء بالويل وأنزل فيهم هذه الآية: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1].(22/22)
تفسير قوله تعالى: (الذي جمع مالاً وعدده)
قال الله تعالى: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} [الهمزة:2].
المال هو: ما يقتنيه الإنسان؛ لينتفع به، وعند أهل المدن يطلق المال على النقد من الذهب والفضة وما يقوم مقامها، وعند أهل البادية يطلق على الأنعام والإبل والبقر والغنم، وعند أهل القرى يطلق على الحرث، وهذا ذكره الله حين قال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14].
قوله: ((عدده)) قال بعض أهل التفسير: المراد أحصاه، وقال بعضهم: المراد نوّعه يعني: جعل من المال عقاراً ومتاعاً ونعماً أي: من كل أصناف المال، وقيل: (عدده) بمعنى: كثره، وهذه آفة في النفس، يعني: الإنسان مغرم بالمال، فقد يكون عنده مال وهو يعرف مقداره، لكنه في كل ليلة يخرجه ويعدده، حتى حصل لبعض الشباب أن واحداً من أعمامه له مال مغرم به، وهو في كل ليلة يأخذ المال كأنه صراف، ويبدأ يغمس يديه فيه، ولا ينام إلا إذا فعل هذه الفعلة!(22/23)
تفسير قوله تعالى: (يحسب أن ماله أخلده)
قال الله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:3].
أي: يحسب هذا المسكين أن ماله سيضمن له الخلود في الدنيا، والبقاء فيها بقاء سرمدياً، كما قال الشقي الأول: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:35 - 36]، فيظن أن لا موت ولا قيامة، وهذا حال بعض الناس، حتى يبلغ به الحال -نسأل الله العافية- إلى أن يبخل بحق الله في الزكاة المفروضة، فلا يخرجها، ولذلك ثبت في سنن النسائي من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة مثل له شجاع أقرع يطوقه في عنقه، يقول له: أنا مالك أنا كنزك وتلا: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:180]).(22/24)
تفسير قوله تعالى: (كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة)
قال الله تعالى: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة:4].
((كلا)) على التفسيرين: إما أنها تقوم مقام القسم حقاً، وإما أن معناها: ليس الأمر كما يظن.
قوله: ((لينبذن)) النبذ: هو الطرح بإهمال، قال صاحب الكشاف الزمخشري عند تفسير قول الله عز وجل في شأن فرعون: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [القصص:40]: قال ذلك استحقاراً لهم، شبههم الله عز وجل بحصيات يأخذهن آخذ فيطرحهن بإهمال بغير قيمة.
قوله: ((في الحطمة)) الحطمة دركة من دركات جهنم، وسميت الحطمة حطمةً؛ لأنها تحطم كل ما فيها، فتحطم العظام، وتحطم الرءوس وغيرها.
قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} [الهمزة:5].
الاستفهام هنا للتفخيم والتهويل، وهنا إظهار في مقام الإضمار، وفي غير القرآن يمكن أن يقال: وما أدراك ما هي؟ لكن كرر اللفظ في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} للتهويل.(22/25)
تفسير قوله تعالى: (نار الله الموقدة)
قال الله تعالى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:6].
الإضافة هنا للتهويل، وإلا فإن النيران كلها نيران الله، وذلك لقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} [الواقعة:72 - 72]، لكن أضافها هنا إلى نفسه؛ تهويلاً لشأنها وتفخيماً، فهي: (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ) التي لا تخبو، ولا ينطفئ سعيرها.
قال تعالى: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} [الهمزة:7].
أي: التي تحرق الجلود واللحوم والعظام حتى تخلص إلى الفؤاد، يقول القرطبي رحمه الله: ومعلوم أن النار إذا وصلت إلى الفؤاد مات صاحبها، ويتمنى أن يموت فلا يموت، قال الله عز وجل: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13]، وقال: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36]، وحالهم كما قال تعالى حاكياً عنهم: {ونَادوا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].(22/26)
تفسير قوله تعالى: (إنها عليهم مؤصدة)
قال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} [الهمزة:8].
أي: مغلقة محكمة، والوصيد هو الباب، كما في قول الله عز وجل: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] أي: باب الكهف، فهي مؤصدة عليها أبواب، وعلى الأبواب أقفال، وبعد الأقفال خزنة زيادةً في النكال، قال الله عز وجل: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) [الكهف:29] أي: لا سبيل إلى هروب ولا فرار، ووجود الخزنة لأجل الزيادة في تعذيبهم وإرهاقهم.
قال تعالى: {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:9].
قال بعض أهل التفسير: العمد على الأبواب، ورجح العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان بأن هذه العمد عليهم أنفسهم؛ زيادةً في النكال، واستدل بقول الله عز وجل: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:13 - 14].
وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن الله عز وجل يبعث إليهم ملائكة بأطباق من نار ومسامير من نار، فيجعلونها في تلك العمد، ثم يطبقونها عليهم فيتشاغل أهل الجنة بنعيمهم والرحمن على عرشه ينساهم) قوله: (ينساهم) يعني: يتركهم كما في قول الله عز وجل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، فالنسيان هنا بمعنى الترك، وليس بمعنى الذهول، ثم قال: (فلا والله لا يدخل إليهم رَوْح) روح يعني: هواء.
ثم قال: (ولا يخرج منها غم) أي: لو كان للغم سبيل للخروج لما استطاع أن يخرج من تلك الأعمدة، ثم قال: (ثم ينقطع الكلام والبكاء ولا يبقى إلا الزفير والشهيق) أي: لا يستطيعون أن يتكلموا أو يصرخوا أو يستغيثوا، وحين يصرخون بعد مئات أو ألوف من السنين يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:107 - 108]، فلا يجيبهم بما يريحهم، يصرخون حتى تتقطع الحناجر، ينادون أهل الجنة: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]، فلا يسمعون كلاماً يطيب خواطرهم، ولا يخفف عذابهم، نعوذ بالله من تلك الحال، وهذا كله جزاء على مصيبتين: المصيبة الأولى: همز المؤمنين ولمزهم، والمصيبة الثانية: عدم معرفة حق الله في المال، نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.(22/27)
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر
من عظمة هذا القرآن أن سرد الله فيه مواقف تجلو الهم والغم عن فؤاد من يقرؤه، وقد ذكر الله قصة أصحاب الفيل الذين أهلكهم الله -مع القوة التي كانوا يملكونها- وكأنه يقول: إن الذي أهلك أصحاب هذه القوة العظيمة قادر على أن يهلك من هو أضعف منهم من أعداء الله.
ومن التناسب بين سور القرآن الكريم أن الله عز وجل أظهر امتنانه على قريش بأن أسبغ نعمة الأمن عليهم بعد حادثة الفيل، وأمرهم أن يشكروه على هذه النعمة ويفردونه بالعبادة وحده.(23/1)
تفسير سورة الفيل(23/2)
قصة محاولة هدم الكعبة
سورة الفيل سورة مكية فيها خمس آيات، وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة وتسعون حرفاً.
وهذه السورة المباركة تحكي قصة معروفة منقولة بالتواتر قد عرفها العرب كلهم أجمعون، وهذه القصة مفادها أن ذا نواس الملك الحميري تهود، فعمد إلى تهويد الناس بالقوة، وقتل خلقاً كُثر من النصارى كانوا بقيادة رجل صالح يقال له عبد الله بن التامر، وهم الذين حكى الله خبرهم في سورة البروج: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج:4 - 6] الآيات.
فتسلط النجاشي ملك الحبشة على بلاد اليمن، أرسل جيشاً إلى بلاد اليمن بقيادة رجل يقال له أرياط، ثم نازعه رجل يقال له: أبرهة الأشرم، فدانت بلاد اليمن لهذا الرجل، ثم لما حكم بلاد اليمن رأى أن أهل اليمن في موسم معين يذهبون جماعات جماعات، ويخرجون على حالة معينة وهيئة خاصة، فسأل: أين يريدون؟ وأين يذهبون؟ فقيل له: إنهم يحجون بيتاً في مكة يعظمونه، ويطوفون به، ويقبلون أركانه، ويصلون عنده، فقال لهم: ومن أي شيء بني؟ قالوا: من الحجارة، قال: وبأي شيء كسي؟ قالوا: بهذه الوصائل -الوصائل ثياب يمانية مخططة-، فقال: سأبني خيراً منه، وهذه عادة الطواغيت، فالطواغيت المعاصرون الذين يحكمون بلاد المسلمين كل واحد منهم يبني مسجداً، وتتحدث وكالات الأنباء والجرائد المسبحة بحمده بأن هذا المسجد سعته سعة المسجد الحرام، فبعضهم بنى مسجداً في البحر، فيصلي الإنسان والسمك أمامه، وما يدري ما يصلي.
فـ أبرهة لما كان طاغوتاً خبيثاً بنفس المنطق، ظن أن تعظيم البيت راجع للحجارة وإلى الكساء، فبنى كنيسة عظيمة تفنن فيها وحسنها وجملها وزخرفها وسماها القِلّيس أو القُلَّيس، وكتب إلى النجاشي كتاباً قال فيه: أيها الملك! إني ابتنيت لك بيتاً ما سمع الناس بمثله، ولست بمنته حتى أصرف حج العرب إليه، ولن تطيب نفسي إلا إذا تحول العرب من مكة إلى هذه الكنيسة التي في صنعاء.
والعرب كانوا ذوي عصبية لدينهم الباطل، وقد ورثوا تعظيم البيت من دين الخليل إبراهيم عليه السلام، وهو من الحق القليل الذي بقي بأيديهم، فسمع واحد من بني كنانة بما قال هذا المسكين، فرد عليه رداً عملياً، فجاء إلى هذه الكنيسة وتغوط فيها ثم حمل من النجاسة ولطخ جدرانها، وبعض الروايات تذكر بأن جماعة من العرب جاءوا فأوقدوا نيراناً، وصنعوا طعاماً، فحملت الريح تلك النيران فأحرقت تلك الكنيسة، والله أعلم أي ذلك كان.
فلما سمع أبرهة بذلك استشاض غضباً، وعزم على أن يسير جيشاً عظيماً لهدم الكعبة المشرفة زادها الله شرفاً، وظن أن الأمر يعود إلى القوة المادية وإلى الأمر الظاهر، فذهب إلى هناك، فتعرض له من أشراف العرب رجل يقال له: ذو نفر، وكان من ملوك اليمن فهُزِم، فلما مر ببلاد خثعم تعرض له رجل يقال له نفيل بن حبيب الخثعمي، وأراد أن يقاوم جيش أبرهة فهزم وأخذ أسيراً، وأراد أبرهة قتله فقال له نفيل: لا تقتلني وأنا دليلك، فاستبقاه، ثم استمر سائراً إلى أن وصل إلى الطائف وإلى بلاد ثقيف، فخرج له مسعود بن معقب، وكان سيد ثقيف، وقال له: أيها الملك! هذا بيتنا، وكان عندهم صنم يقال له اللات، وأما البيت الذي تريده فهو بمكة، وسنبعث معك هذا الرجل أبا رغال يكون لك دليلاً يدلك على البيت، فلما كان ببعض الطريق قتله الله عز وجل فهلك، فرجمت العرب قبره.
وما أكثر الرغالات في حكام المسلمين، أبو رغال هو دليل الأمريكان الآن ما أكثره في بلاد المسلمين! واستمر أبرهة ماشياً إلى أن وصل إلى مشارف مكة، فأغار على سرح كان فيه إبل لـ عبد المطلب بن هاشم، ثم بعد ذلك بعث مندوباً إليه، فجاء عبد المطلب وكان رجلاً قسيماً وسيماً عظيماً، عليه مهابة وجلالة ووقار، فكره أبرهة أن يجلسه على الأرض ويجلس هو على سرير الملك، وكره أن يجلس عبد المطلب إلى جواره، فنزل وجلس إليه، وقال له: أنا جئت لهدم هذا البيت، فإن خليتم بيني وبينه فلا حاجة لي في دمائكم، فقال عبد المطلب: أيها الملك! إن لي إبلاً قد أخذتموها، فردوها إلي، أما البيت فله رب يحميه.
فصارت هذه الكلمة مثلاً، واستنكر أبرهة فقال له: لقد أعجبتني حين رأيتك، لكنك الآن لست بذاك المكان، تترك بيتاً هو دينك ودين آبائك وأجدادك، وتحدثني في شأن إبلك! فقال له عبد المطلب: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه، فأمر بأن تعاد إليه الإبل.
وعبد المطلب كان رجلاً عاقلاً راجحاً، وأمر أهل مكة أن يصعدوا إلى الجبال وأن يتركوا مكة ويخلوها، وكأنه كان يرى لفراسته بأن أمراً ما سيحدث، ثم ذهب عبد المطلب ومعه بعض كبار قريش، فأخذ بحلقة باب البيت وقال: اللهم إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدواً محالك إن تركتهم وقبـ لتنا فأمر ما بدا لك إلى آخر ما قال، ثم خرجوا.
ولما تمكن من أبرهة الغرور، ووجد أنه لا مقاومة، وليس هناك من يعترض سبيله، أمر بتسيير الجيش لإنفاذ ما يريد، فكانوا إذا وجهوا الفيل قبل مكة، برك وأبى، وإذا وجهوه قبل اليمن أو قبل المشرق أو قبل المغرب حيثما وجهوه فإنه يمضي ويركض، وهذا ثابت في الحديث الصحيح لما بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وقال الصحابة: (خلأت القصواء، فقال: ما خلأت وما هو لها بخلق، لكن حبسها حابس الفيل).
فبعد ذلك تدخل الله عز وجل بقدرته التي لا مثيل لها في الوقت المناسب، فأرسل طيراً أبابيل، قالت عائشة: كالخطاطيف.
وقال بعضهم: كالوطواط، وقال سعيد بن جبير: كانت طيراً لم ير قبلها ولا بعدها مثلها.
وكانت مخصوصة مع كل طائر ثلاثة أحجار حجر في منقاره، وحجران في رجليه، وكانت هذه الحجارة تنزل على رأس الرجل من الأحباش فتخرق رأسه، ثم تخرج من دبره فتخلص إلى الفيل فتقتله، وكانت الطيور عجيبة تصيب المقاتل، وأصابت بعضهم في جسده، قال ابن عباس: فكان الواحد منهم إذا أصيب نفط جلده -أَيْ: انتفخ-، وكان ذلك أول ظهور الجدري من تلك الحادثة، والله أعلم.
وقالت عائشة: لقد رأيت سائس الفيل وقائده أعميين بمكة يتكففان الناس.
وقال أبو صالح: رأيت تلك الحجارة في بيت أم هانئ بنت أبي طالب -كأنهم جمعوا تلك الحجارة من أجل أن تكون دليلاً- رأيتها حجارة صغاراً سوداً فيها خطوط حمراء.
وهذا صنيع الله عز وجل بمن تكبر وتجبر، وسنة الله أن يهلك المتجبر بأضعف خلقه، فمثلاً النمرود الذي قال: أنا أحيي وأميت، أهلكه الله بحشرة البعوضة، وكذلك يأجوج ومأجوج الذين يقولون: فرغنا من أهل الأرض وعلونا أهل السماء، أرسل الله عليهم النغف وهي دود في أنوفهم فتتركهم فرسى.(23/3)
تفسير قوله تعالى (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)
يقول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ألم تر بمعنى: ألم تعلم نبأ أولئك القوم وما صنع الله بهم، قاله أهل التفسير، فالله عز وجل خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان يتأذى من طغيان المشركين وسوء أدبهم معه ومع الله، فقال له: يا محمد! أما علمت ما فعلت بـ أبرهة الحبشي، وجنوده الأقوياء وفيله العظيمة، أما هؤلاء المساكين أمثال: العاص بن وائل السهمي، والوليد بن المغيرة المخزومي، وأبي بن خلف الجمحي وعمرو بن هشام وأمثالهم من الهمازين واللمازين فالله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تحمل هماً، أنا سأنتقم لك منهم، كما انتقمت من أبرهة! لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على الله من بيت الله، بل المسلم الواحد أكرم على الله، وحرمته أعظم من بيت الله، كما قال عليه الصلاة والسلام حين طاف بالكعبة: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، وما أطيبك وأطيب ريحك، والذي نفسي بيده! لحرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتك، دمه وماله وعرضه، وألا يظن به إلا خيراً).
وكلمة الرب في الآية مضافة إلى ضمير المخاطب، فربك الذي يتولاك هو الذي يرعاك، ويكلؤك ويحفظك، ولم يقل الله: ألم تر كيف فعل الله أو ألم تر كيف فعل رب العالمين، أو رب الناس، وإنما قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}، والفيل معروف، لكن المفسرون رحمهم الله ما تركوا شيئاً، فقالوا: إن الفيل حيوان من ذوات الأربع، وهو أضخم من البعير وأعلى منه، وبطنه أكبر، وهو ركوبة وحامل أثقال، ويوجد في البلاد الحارة ذوات الأنهار، كالصين والهند والحبشة والسودان، ويجمع على فِيَلة وفيول وأفيلة، وأنثى الفيل فِيْلة، وهو ضخم وله خرطوم طويل، يعدو به على ما يريد من حيوان، وهو غير مأكول ولحمه حرام؛ لأنه خبيث مستقذر، فهو داخل في عموم قول الله عزل وجل: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].(23/4)
تفسير قوله تعالى (ألم يجعل كيدهم في تضليل
قال تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:2]، هنا سؤال طرحه العلامة الشيخ الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير، قال: سمى الله عز وجل حربهم كيداً، فهل أبرهة كاد سراً وخطط أم أنه جاء في حرب معلنة وهدف ظاهر، فالله عز وجل ما قال: ألم يجعل حربهم وإنما قال: ((أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ))؟
الجواب
أنه تعلل بعلة ظاهرة باطلة، وأخفى سبباً كامناً هو الحقيق بحمله على الحرب، أعلن أن سبب حربه الغضب من فعل الكناني الذي تغوط في الكنيسة، ولكن الحقيقة أنه أراد أن يصرف حج العرب من البيت الحرام إلى كنيسته ليتنصروا.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فالصليبيون الأمريكان ومن معهم يعلنون لافتة ظاهرة وهي القضاء على الإرهاب، ولكن حقيقة الأمر القضاء على الإسلام، وهذا -والله- ما يحتاج إلى دليل، فكل مسلم ببصيرته يراها رأي العين، إنهم يريدون أن يتدخلوا في المناهج، وأن يوجهوا الثقافات، وأن يفرضوا اتفاقيات، وأن يجعلوا نظماً خاصة بالمرأة تشابه ما عندهم من انحلال وفساد، وهذا كله تحت عنوان ظاهر وهو القضاء على الإرهاب.
ومعنى قوله: ((فِي تَضْلِيلٍ)) أي: في تضييع وإبطال وخسار.(23/5)
تفسير قوله تعالى (وأرسل عليهم طيراً أبابيل)
قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل:3] قال الرازي رحمه الله في تفسيره: التنكير للتحقير، والمعنى: أي طير، فالله عز وجل قال لها: كوني، فكانت، وليست طيوراً ضخاماً كباراً، إنما طيراً أبابيل، جمع إبيل، على وزن سكين، أَيْ: مجموعات مجموعات، أو جماعات جماعات.(23/6)
تفسير قوله تعالى (ترميهم بحجارة من سجيل)
قال تعالى: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:4] السجيل هو الطين المحترق، وهو الآجر المطبوخ بنار جهنم، من جنس ما أرسله الله على قوم لوط، والقرآن يفسر بالقرآن، قال تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات:31 - 34]، وفي سورة هود قال الله عز وجل: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82].
وقال بعض المفسرين: سجيل، أصلها سجين بالنون، وهي دركة من دركات جهنم وأبدلت النون لاماً.(23/7)
تفسير قوله تعالى (فجعلهم كعصف مأكول)
قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] أي: كتبن أكلته الدواب فراثته، والروث هو البعر الذي يتقطع عما قليل، ويصير قطعاً قطعاً، أو كطحين أكل ثم راثته الدواب، فالله عز وجل قتل بعض أصحاب الفيل قتلاً فورياً، وبعضهم كـ أبرهة جعل لحمه يتزايل قطعة قطعة، ولما وصل إلى صنعاء مذعوراً مدهوشاً انصدع صدره عن قلبه فهلك.
والسؤال الذي طرحه بعض المفسرين، ومنهم صاحب أضواء البيان رحمه الله، كيف ينصر الله عز وجل أهل مكة وهم وثنيون على أبرهة ومن معه وهم أهل كتاب نصارى؟ فأجاب من وجوه وهي: الوجه الأول: أنهم كانوا ظلمة، والظلم مرتعه وخيم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اتق دعوة المظلوم ولو كان كافراً) أي: ولو كان وثنياً، وهذا الذي يجعلنا نستبشر بأن نهاية الأمريكان الظالمين قريبة وشيكة؛ لأنهم ظلمة، فتعديهم على أفغانستان ظلم، وتعديهم على العراق ظلم، وتعديهم على إخواننا في فلسطين ظلم، وتعديهم على بلاد السودان قبل سنوات كان ظلماً، فهم استمروا في الظلم واعتادوه، والظلم عاقبته وخيمة، قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: ثلاث -أي ثلاث خصال- من فعلهن عادت عليه، من بغى، ومن مكر، ومن نكث، أما من بغى فقد قال الله عز وجل: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23]، وقال الله عز وجل: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح:10]، وقال: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، من بغى أو مكر أو نكث عاد عليه.
الوجه الثاني: أن الوثنية كانت اعتداء على حق الخالق، أما فعل أبرهة فكان اعتداء على المخلوقين، والله عز وجل في حقه يمهل ويتسامح، لكن في حق المخلوقين يأخذ أخذ عزيز مقتدر.
الوجه الثالث: أن البيت في أساسه بني على التوحيد، وأسس على تقوى من الله ورضوان، رفع قواعده الخليل إبراهيم أستاذ التوحيد العظيم وشيخ الأنبياء، ومعه ولده إسماعيل، وبقي البيت قبلة وكهفاً للموحدين ومثابة للمؤمنين زماناً طويلاً، والوثنية كانت شيئاً طارئاً، والحمد لله لم تستمر طويلاً فقد طهرها الله بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعاد إلى البيت رونقه وبهاءه.
فهذه القصة كما يقول أهل التفسير: كانت معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها صاحبت مولده المبارك، إيذاناً بأن الظلم قد انتهى، وأن عهده قد ولى، وأن مولده عليه الصلاة والسلام علامة وأمارة على رفع لواء العدل ورد الحقوق إلى أهلها.(23/8)
تفسير سورة قريش(23/9)
مناسبة السورة بما قبلها
سورة قريش مشتملة على أربع آيات، وتسع عشرة كلمة، وثلاثة وسبعين حرفاً.
وهذه السورة المباركة متصلة بما قبلها، فقد ذكر الله عز وجل في سورة الفيل أنه صرف عن مكة ذلك الطاغية اللئيم، وأرسل عليه آية من آياته: طيراً صغاراً رمته بحجارة صغيرة فأهلكته وجعله الله عز وجل ومن معه من الأجناد كتبن أكلته الدواب ثم راثته.(23/10)
تفسير قوله تعالى (لإيلاف قريش)
يقول الله عز وجل: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش:1]، يقول العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله: هذا افتتاح مبدع، وهو افتتاح بالجار والمجرور المقدم، وقد فصل بينه وبين متعلقه بخمس كلمات مما زاد الكلام تشويقاً، والإيلاف مصدر ألفه يألفه إلافاً وإيلافاً إذا اعتاده وزالت النفرة منه والغرابة عنه.
والجار والمجرور -كما قال بعض المفسرين- متعلق بقول الله عز وجل: {كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5]، واستدلوا على ذلك بأنه ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ في ركعة بسورة الفيل وسورة قريش ولم يفصل بينهما.
ومعنى الكلام أنَّ الله عز وجل أرسل على جيش الأحباش طيراً أبابيل أهلكتهم ودمرتهم، من أجل أن يألف القرشيون هاتين الرحلتين ويأمنوا من كل عادية ومن كل ضرر.
وقال بعض المفسرين: الجار والمجرور متعلق بقوله سبحانه: {فَلْيَعْبُدُوا} [قريش:3] أي عليهم أن يعبدوا رب هذا البيت الذي أكرمهم، وأطعمهم، وأمنهم، وصرف عنهم كيد الأعادي؛ من أجل أن تبقى هذه النعمة، ويحفظ الله لهم ذلك الأمن، ويصرف عنهم شر الأشرار.
وقال البعض الآخر: بل المتعلق محذوف، وتقديره: اعجبوا لإيلاف قريش، اعجبوا لصنع الله لهم وما أسبغ عليهم من نعمه ظاهرة وباطنة، ثم بعد ذلك هم ينصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان والأصنام! وقريش: علم على القبيلة المعروفة من بني النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس، وهؤلاء هم القوم الذين كانوا يسمون أهل الله والحرم.
وسميت قريشاً من التقرش وهو التجمع؛ لأنهم كانوا متفرقين فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم.
وقيل سميت قريشاً من التقرش الذي هو التكسب؛ لأنهم يتكسبون ويتجرون، وقيل: سميت قريشاً نسبة إلى دابة من دواب البحر يقال لها: القرش، تأكل ولا تؤكل، والنسبة إليها قرشي وقريشي، كما قال القائل: وكل قريشي عليه مهابة سريع إلى داع الندى والتكرم وهذه القبيلة تشرفت ورفع الله قدرها وأعلى ذكرها بأن أخرج من بينها محمداً صلى الله عليه وسلم، جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم فأنا خيار من خيار من خيار) عليه الصلاة والسلام.(23/11)
تفسير قوله تعالى (إيلافهم رحلة الشتاء والصيف)
قال تعالى: {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:2] ((إِيلافِهِمْ))، هذا المصدر قرر للتوكيد، أي: من أجل تأليفهم، ومن أجل أن يألفوا ما هم عليه، والرحلة اسم للارتحال، وهو المسير من مكان إلى مكان بعيد، ولذلك سمي البعير الذي يركب في تلك الرحلة راحلة، والشتاء هو أحد فصول السنة الأربعة المعروفة، والصيف كذلك، ورحلة الشتاء كانت إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام.
ففي رحلة الشتاء إلى اليمن كانوا يجلبون ما يريدون من جلود وأدم ونحو ذلك، وفي رحلة الصيف إلى الشام كانوا يجلبون ما يريدون من أقوات وفاكهة.
وكان أول من سن هذه الرحلة كما قال المؤرخون هو هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن مكة كانت وما زالت بلداً ليس فيها زرع، وجوها ليس ملائماً لإنبات نبات، فكان أهل مكة أحياناً تصيبهم خصاصة، وتنزل بهم مجاعة في ذلك، فكان الواحد من قريش إذا أصابته خصاصة فإنه لا يسأل الناس تعففاً وعزة، وإنما يجمع عياله وأسرته ثم يذهب بهم إلى مكان معين ويضرب عليه خيمة ويبقى فيه إلى أن يهلك هو وعياله جوعاً وعطشاً، هذه كانت طريقتهم، حتى قدر الله أن بيتاً من بني مخزوم أصابتهم تلك الخصاصة، وكان يوجد ولد من بني مخزوم ترباً لـ أسد بن هاشم، أي: لولد من أولاد هاشم يقال له أسد، فقال له: غداً سنعتفر، نعتفر هو هذا المكان الذي يجلس فيه من أصابته المجاعة حتى يموت، فيسمى بيت الاعتفار.
فذهب أسد بن هاشم إلى أبيه باكياً، وأخبره الخبر، فأرسل إليهم هاشم بسمن وأقط وخبز ولحم يكفيهم، وكان رجلاً جواداً ممدحاً، حتى قال فيه الشاعر: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسبتون عجاف كان اسمه عمراً وسمي هاشماً؛ لأنه يهشم الخبز ويصنع منه الثريد، يعني: كان يصنع الثريد ويطعم الحجيج.
فأرسل إليهم ما يكفيهم، لكن بعد حين رجعت الخصاصة كما كانت، وقال الصغير لتربه: غداً سنعتفر، سنذهب من أجل أن نجلس في بيت الاعتفار حتى نهلك، فأخبر أسد بن هاشم أباه، فقام في البيت الحرام خطيباً، فقال: يا معشر قريش! إنكم أحدثتم حدثاً به تقلون والعرب يزيدون، وبه تذلون والعرب يعزون، وأنتم أهل الله والحرم والناس لكم تبع، فبعدما بين لهم خطأ هذا الفعل، أخذ من كل رجلين من بني أب واحد، فحملهم على راحلة، وسار بهم تلك الرحلة، ومن اكتسب منهم مالاً تقاسمه بينه وبين أخيه الفقير الذي لم يكتسب، حتى قال مطرود الخزاعي: يا أيها الرجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد مناف الآخذون العهد من أطرافها والظاعنون لرحلة الإيلاف والخالطون غنيهم بفقيرهم حتى يكون غنيهم كالكافي فحصل نوع من التضامن والتكافل، وكان هاشم رجلاً ذا سياسة حكيمة وحيلة بارعة، فأقام عهوداً مع ملوك الروم، وملوك فارس، والملوك في نواحي الجزيرة العربية على أساس أنهم أهل الله والحرم فلا يتعرضوا لهم بسوء، ولذلك كانت الغارات تشن على القوافل، فإذا قيل: هذه قافلة قريش، قالوا: هؤلاء أهل الله والحرم فكفوا عنهم وتركوهم، فالله عز وجل امتن عليهم بهذه المنة: ((رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ)).(23/12)
تفسير قوله تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت)
قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:3] أي: يا أهل مكة! يا من أطعمكم الله وآواكم! يا من كفاكم وأغناكم! مع أن بلادكم بلاد جوع وسنة ومخمصة، الواجب عليكم أن تعبدوا هذا الرب الكريم.
وهذه المنة قد تكررت، قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57]، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67] أي: من حولهم غارات سلب ونهب وحرب وقتل، وهم آمنون.
((فَلْيَعْبُدُوا)) وهذا هو الواجب عليهم أن يعبدوا هذا الرب الكريم؛ لأنه تأذن بالزيادة لمن شكر، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}، الله عز وجل هو رب البيوت كلها جل جلاله، لكن الإضافة هنا للتشريف، كما قيل في: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:6]، والنار كلها لله، وكما قيل: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس:13] والنوق كلها لله، لكن الإضافة للتشريف والتعظيم.
فالبيت الحرام بيت جليل وعظيم، حرمه الله وسمى بلده مكة؛ لأنها تبك من ظلم فيها، وتدق عنقه، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، أعتق الله البيت الحرام من أن يتسلط عليه جبار، فلذلك سمي البيت العتيق، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}، وما قال: فليعبدوا ربهم، أو فليعبدوا إلههم، أو فليعبدوا رب العالمين، وإنما قال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}، كأنه سبحانه ينبههم بأن شرفهم وعزهم وسؤددهم راجع إلى وجود هذا البيت، كما قال سبحانه: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:97]، ولولا البيت الحرام فما قيمة مكة؟! فهي ليست بمكان سياحي، أو ذات طبيعة خلابة، فليس فيها إلا الجبال والقيظ والفجاج الضيقة، والشعاب المتعرجة إلى يومنا هذا، ومع ذلك القلوب إليها مشتاقة، كما قال الله على لسان الخليل إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37]، {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125]، قال أهل التفسير: لا تشبع منه نفس المؤمن أبداً، يخرج منه وهو مشتاق إليه، نسأل الله أن يكرمنا بزيارته، والطواف به.
قالوا: ومن حكمة الله عز وجل في هذا البلد الحرام أنه لا يدخله الطاعون، فإن من أطيب بلاد الله هواء، وأصحها جواً، يدخلها الطاعون، فبلاد الشام مثلاً الطاعون يدخلها والأوبئة تدخلها، وفي أيام الحج تكثر القاذورات في البلد الحرام، ولو كان في بلد آخر لنزل وباء وفتك بالناس كلهم أجمعين، ومع ذلك فالحجاج يزيدون على المليونين أحياناً، وهم في فجاج ضيقة، يأكلون ويشربون وكل شيء يحصل ومع ذلك يسلمهم الله عز وجل.(23/13)
تفسير قوله تعالى (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)
قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4]، ثم ذكر سبحانه سبب هذه العبادة، كما قال في سورة البقرة: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] إلى أن قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22]، وهنا أيضاً: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4].
ومن هنا بدلية، والمعنى: الذي أطعمهم بدل الجوع، وآمنهم بدل الخوف، وفي الجمع بين النعمتين دليل على أن إحداهما لا تغني عن الأخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) فلو كان الإنسان عنده أموال كثيرة، ولم يكن عنده أمن، فليس للأموال أي قيمة، ولو كان آمناً وليس معه شيء من القوت؛ فليس للأمن أي قيمة، فلابد من الجمع بين النعمتين، ولذلك من كفر بالله سلط الله عليه العذابين، الجوع والخوف قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112]، وقد فعل الله ذلك بأهل مكة لما أصروا على الكفر، وحاولوا أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما آذوه في بدنه وفي عرضه وفي أصحابه، فخرج صلى الله عليه وسلم مهاجراً، ودعا عليهم: (اللهم! اجعلها عليهم سنيناً كسني يوسف) أي: سبع سنوات عجاف، لا تنزل السماء قطرة، ولا تنبت الأرض حبة، فأكلوا الأدم وهي الجلود، وأكلوا البعر من شدة الجوع، وكان الواحد منهم ينظر إلى السماء فيخيل إليه أن بينها وبينه دخاناً مبيناً من شدة الجوع والجهد، فأرسلوا يستغيثون بالرسول صلى الله عليه وسلم: يا محمد! جئت تأمر بصلة الرحم، ادع الله أن يغيثنا، فدعا الله فرجعوا إلى الكفر، مثلهم مثل فرعون اللئيم عدو الله، الذي أرسل الله عليه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وكل مرة كان يقول لموسى: ادع لنا ربك، ومرات يستخدم ألفاظ تدل على شحة في الأدب فيقول: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف:49]، فكان موسى عليه السلام يدعو الله عليهم بالطوفان، فيقول فرعون: أنا ربكم الأعلى وقد أمرت النيل فهبط، وبعد قليل أرسل الله عليهم الضفادع، فكانوا يرونها في جيوبهم وفي غرفهم وفي فرشهم وفي أي مكان يتواجدون فيه، فكان الواحد من الفراعنة يطبخ طعاماً فيلقاه كله ضفادعاً، ويطبخ دجاجة فيلقاها ضفادع، فيدعو موسى الله عز وجل أن يرفع عنهم الضفادع فيستجيب الله له ويقول فرعون للناس: أرأيتم؟ حتى بلغ به السخف أنه لما فلق الله البحر لموسى، التفت إلى جنوده وقال: أرأيتم ما صنعت بالبحر من أجل أن أتبع عبيدي هؤلاء الآبقين؟ وهو دجل وكذب وضلال، فكانت النتيجة أن الله عز وجل لما خرج آخر واحد من قوم موسى كان آخر واحد من جنوده قد دخل، فأمر الله البحر فعاد كما كان، فأهلكهم الله جميعاً.
وخلاصة القول أن الإنسان إذا أراد أن تدوم عليه نعمة الله، فالواجب عليه أن يعبد المنعم جل جلاله، لذلك قال ابن القيم رحمه الله: هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم أليس من الواجب المستحق حياء العباد من المنعم أي: افرض أنه لا يوجد بعث، ولا جنة ولا نار، وبعد هذا كله كان الواجب علينا أن نعبد الله، فإن الواحد من الناس لو أسدى إليك معروفاً، وهو لا يملك جنة ولا ناراً، فأنت تشعر نحوه بالامتنان وتستحي منه، وتدعو له، وتترفق معه في الكلام، فما بالكم بالله رب العالمين: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4]، {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20]، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم:32 - 34]، و {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:72]، و {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) [النحل:80].
فلو جلسنا نعدد نعم الله ما استطعنا عدها، فالإنسان صاحب الوجه الكالح الذي يتكبر، الذي لا يسجد لله ولا يركع له، الدواب العجماوات خير منه بنص القرآن: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]، وإذا كان الإنسان يعيش فقط في هذه الدنيا من أجل أن يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وينكح فإن الدواب خير منه؛ لأنها تعرف الله، أما هذا فهو يأكل وما سمى الله، ويشبع وما حمد الله، ولا يركع ولا يسجد لله عز وجل، فهو من أمثال أبي جهل، وأبي لهب، وعقبة، وعتبة، والوليد، والعاص بن وائل فإن الله عز وجل توعد أمثال هؤلاء في هذه السورة بالجوع والخوف.(23/14)
تفسير سورة الماعون(23/15)
سبب نزولها
سورة الماعون اختلف فيها أهل التفسير هل هي مكية أو مدنية أو أن بعضها مكي وبعضها مدني؟ واختلفوا في سبب نزولها، قال مقاتل والكلبي: نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، وقال عبد الملك بن جريج: نزلت في أبي سفيان بن حرب كان ينحر كل أسبوع جزورين، فجاءه يتيم مرة فقرعه بعصاه وطرده؛ فأنزل الله عز وجل: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1 - 3].
وقيل: بل نزلت في عمرو بن عائذ المخزومي، وقيل: بل نزلت في رجل من المنافقين وعينه بعضهم بأنه عبد الله بن أبي بن سلول.
يقول سيد قطب رحمه الله: هذا الدين ليس مظاهر وطقوساً، والعبادات فيه إذا لم تنعكس على إخلاص في القلب وسلامة في السلوك، فإنها لا قيمة لها، فالله عز وجل بدأ هذه السورة باستفهام في قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون:1]، والاستفهام المراد منه التعجب من حال هذا الإنسان الذي اتسم بست صفات هي من أخس صفات المخلوقين: الصفة الأولى: التكذيب بالبعث والجزاء.
والصفة الثانية: دفع اليتيم، ومعاملته بالإيذاء.
والصفة الثالثة: منع الخير عن المسكين.
والصفة الرابعة: إهمال الصلاة، وتضييعها، والتهاون بشأنها.
والصفة الخامسة: الرياء بالعمل.
والصفة السادسة: منع ما لا يضره، ولو كان شيء ينقصه لكان للمنع وجه، لكنه يمنع ما لا يضره، ولو أنه بذله لا يضره.(23/16)
تفسير قوله تعالى (أرأيت الذي يكذب بالدين)
يقول الله عز وجل: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون:1] الدين كما في قول الله عز وجل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] أي الجزاء والحساب، وكما في قول الله عز وجل: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:5 - 6]، فالدين هو الجزاء والحساب، وهذا معلوم من كلام العرب كما قال القائل: حصادك يوماً ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن وقول الآخر: اعلم يقيناً أن ملكك زائل واعلم بأن كما تدين تدان وهذا الإنسان يكذب بيوم الدين، كما قال الأول: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:36] وكما قال قارون، وغيره من الناس الذين أنكروا يوم الحساب، ومثلما قالت العرب: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء:49]، فكانوا ينكرون ما يعدهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوعدهم من جنة ونار، وحساب وجزاء، وثواب وعقاب.(23/17)
تفسير قوله تعالى (فذلك الذي يدع اليتيم)
قال تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:2].
قال العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله في قوله سبحانه ((فَذَلِكَ)): الإشارة من أجل أن يتخيل المخاطب صفة هذا المتكلم عنه، فكأنه حاضر أمامه يشار إليه.
وقوله تعالى: ((يَدُعُّ الْيَتِيمَ)) أي: يدفعه، كما قال الله عز وجل: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13].(23/18)
تفسير قوله تعالى (ولا يحض على طعام المسكين)
قال تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:3] أي: لا يحث غيره على أن يطعم مسكيناً، فالإحسان إلى الفقير لا يتأتى منه ذلك أبداً؛ لأن النفوس البشرية جبلت على أنها لا تبذل إلا بعوض، ولا تكف إلا من خوف، ولا تمتنع من شر إلا وهي تخاف عاقبته، واليتيم والمسكين العوض منهما غير مأمول، والخوف منهما أيضاً مندفع، ولذلك لا ينكر دفع الإساءة عنهما، ولا بذل المعروف لهما إلا من قبل إنسان يؤمن بالله واليوم الآخر.
ولذلك فإن الله عز وجل أثنى على أهل الإيمان فقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:8 - 9]، ثم قالوا: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]، فهم يطعمون اليتيم والمسكين لا لأنهم يرجون جزاء منهما، أو يخافون شراً متوقعاً من قبلهما، وإنما يخافون من ربهم يوماً عبوساً قمطريراً، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من ضم يتيماً من أبوين مسلمين حتى يستغني عنه وجبت له الجنة) ولما شكا إليه بعض الصحابة قسوة قلبه أمره بأن يمسح على رأس اليتيم، وآيات القرآن الكريم في الوصية باليتيم ووجوب الإحسان إليه ودفع الضرر عنه كثيرة جداً.
وكذلك الإحسان إلى المسكين سبب للوقاية من حر النار، وللاستظلال تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، وسبب لتثقيل الميزان وتكثير الحسنات، ودفع مصارع السوء، ومداواة الجسد وغير ذلك من المنافع العظيمة، والكافر الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يؤذي المسكين، ولا يحض على طعام المسكين.(23/19)
تفسير قوله تعالى (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون)
قال الله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] الويل: عذاب، أو هلاك، أو واد في جهنم.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] قال مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: قلت لـ سعد: أهو الذي يسهو في صلاته؟ قال: لا، بل الذي يسهو عنها.
وقال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: الحمد لله الذي قال: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}، ولم يقل: الذين هم في صلاتهم ساهون؛ لأنه لا يسلم أحد من أن يسهو في صلاته حتى النبي الأكرم والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فإنه قام من اثنتين وسلم من اثنتين وقام إلى خامسة، وقال: (إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني).
وهذه الآية تنطبق على المنافقين، فإذا كان أحدهم بين الناس فإنه يصلي؛ لئلا يقال عنه: أنه تارك الصلاة، وإذا كان وحده فإنه لا يركع لله أبداً؛ لأنه لا يرجو على فعلها ثواباً، ولا يخاف من تركها عقاباً، فهذا الإنسان ساه عن صلاته، إما أن يضيعها حتى يخرج وقتها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (تلك صلاة المنافق ينتظر حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان، قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً).
وفي القرآن الكريم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142].
أو أنه ساه عن صلاته بحيث إنه لا يحصل شروطها، كما يذكر عن بعض المنافقين أنهم كانوا يصلون بغير وضوء، وقد أفتى بعض أهل العلم بكفر من فعل ذلك؛ لأن هذا مستخف بالله عز وجل؛ أو لأنه لا يتم أركانها على الوجه المشروع، ولا يحقق الطمأنينة فيها، فهؤلاء جميعاً توعدهم الله بالويل، وعندنا في القرآن قول ربنا الرحمن: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:59 - 60].(23/20)
من ثمرات الصلاة
الصلاة قد جعلها الله عز وجل سبباً لكل خير في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهي ناهية عن الفحشاء والمنكر، وهي عون على كل شديدة في الدنيا، قال الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، ولذلك فإن الإنسان المصلي لا يكون جزوعاً، كما قال ربنا سبحانه: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:19 - 23] فهو لا يفرط فيها، فليس جزوعاً عند الشر، ولا هلوعاً عند الخير، ولا منوعاً.
والصلاة أيضاً سبب للنور يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وقال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12]، وفي الحديث أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! كيف تعرف أمتك يوم القيامة؟ قال: أرأيت لو كان لك خيل بيض بين خيل بهم أما كنت تعرفها؟ قيل له: بلى، قال: فكذلك أمتي يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء).(23/21)
تفسير قوله تعالى (الذين هم يراءون)
قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون:6] أي: يراءون الناس بأعمالهم، فهم يفعلون الطاعة لتحصل لهم المنزلة في قلوب الخلق، فلا يصلون لأجل الله، ولا يصومون ولا يتصدقون إلا من أجل أن يقال عنهم كذا وكذا، ويلبسون ثياباً خشنة إظهاراً للزهد في الدنيا، كما يفعل الآن بعض الناس فإنهم يلبسون المرقع، أو يلبسون ثياباً خضراء مكفوفة بكفة حمراء يخالفون ما عليه الناس، من أجل أن يظهروا أنهم من الزهاد الصالحين، فهذا هو الرياء.
والرياء قد يكون بالأقوال، وقد يكون بالأفعال، كإظهار الصلاة أو الصدقة، قال الإمام القرطبي رحمه الله: ولا يكون الرجل مرائياً إذا أظهر العمل الصالح الذي هو فرض؛ لأن الفرض تلحق تاركه المذمة والإثم ويظن به السوء، فإذا دفع التهمة عنه بإظهار الفرض فلا حرج.
يعني رحمه الله تعالى: أن الصلاة مع الجماعة ليس فيها رياء، فلا يتخفى المصلي ولا يتلثم إذا صلى مع الجماعة وإن رآه الناس، وكذلك الزكاة المفروضة، فإذا أخرجها علانية فلا حرج في ذلك، أما ما كان تطوعاً من صلاة أو صدقة أو صيام أو ما أشبه ذلك، فالأفضل أن يكون ذلك سراً بينه وبين الله عز وجل، كما قال لقمان لابنه: يا بني! ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بإخلاص، وما كلفت إخفاءه من العمل فأحب ألا يطلع عليه إلا الله.
ولو أن إنساناً أظهر عمله الصالح ونيته أن يقتدي به غيره فهو على خير، ومأجور إن شاء الله، وكذلك لو أن الناس أثنوا عليه دون سعي منه وقصد وطلب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك عاجل بشرى المؤمن).
والرياء ما يكاد يسلم منه أحد، ومن خطورته أنه محبط للعمل، والنبي صلى الله عليه وسلم سماه الشرك الخفي، وأخبر (أن الشرك أخفى من دبيب النمل)، وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن المرائي لا يقبل عمله، قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك، فيه معي غيري تركته وشركه).
وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة عالم ومنفق وشهيد، والسبب أنهم كانوا مرائين، فالعالم تعلم وعلم ليقال عنه: عالم، والمنفق أنفق ليقال عنه: جواد، والشهيد قاتل حتى قتل من أجل أن يقال عنه: جريء وشجاع، وقد قيل ذلك في الدنيا فيسحب بهم إلى النار.
ومن وفق إلى عمل صالح فليكتم ولا يتحدث به، فلا يقول: تصدقت أو اعتمرت ويكرر هذا بمناسبة أو بغير مناسبة، كأنه يمن على الله عز وجل، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38]، فلا تنفعه نفقته، وهذا يدل حقيقة على حمق صاحب العمل وقلة عقله، كما ذكر عن بعض الحمقى أنه كان يصلي في المسجد، فقال بعض الناس الجالسين في المسجد: ما أحسن صلاته! وما أطولها! فالتفت إليهم، وقال لهم: وأنا مع ذلك صائم! أي: وأنا بعد هذا التعب كله صائم، فهذا لا صلى ولا صام، وما له عند الله عز وجل إلا البغض والبعد والمقت، نسأل الله العافية.(23/22)
تفسير قوله تعالى: (ويمنعون الماعون)
قوله تعالى: ((وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)) قال عكرمة رحمه الله: الماعون هو: عارية الدلو والقدر والفأس والإبرة والمنخل وما أشبه ذلك، فهذه كلها يمكن أن تعار لفلان من الناس فينتفع بها مع بقاء عينها، فالمعير ليس متضرراً، وبعض الناس قد يبلغ درجة من الشر بأن يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره، فلو أعطى شيئاً لفلان من الناس يستعمله ثم يعيده فإنه لا يتضرر، لكنه لا يعطي؛ لأن قلبه قد خلا من الخير.
وقال الموفق بن قدامة رحمه الله: أجمع أهل العلم على استحباب العارية، والعارية قد تكون واجبة عند الضرورة، فمثلاً: لو أن إنساناً عطشان، وسيموت لو أنه ما شرب الماء، ورجل عنده ماء فمنعه منه فمات، فيكون هذا الرجل هو القاتل، فالحكم العام للعارية أنها للاستحباب لكنها قد تكون واجبة.
ولو أن إنساناً أعرته شيئاً فتلف عنده، فيجب عليه التعويض بالمثل إن كان مثلياً، فإذا لم يكن عنده المثل فتجب عليه القيمة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)، والنبي صلى الله عليه وسلم لما استعار من صفوان بن أمية دروعاً يوم حنين قال صفوان: (أغصباً يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة)، وفعلاً ضاعت بعض هذه الدروع فعرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه عوضاً عنها فقال: (لا يا رسول الله! أنا اليوم في الإسلام أرغب) أي: أنا رغبتي في الإسلام وفيما عند الله من الأجر والثواب.(23/23)
من فوائد السورة
كلمة أخيرة نبه عليها العلامة الشيخ عطية محمد سالم رحمة الله عليه فقال: هذه السورة تعلم طالب العلم أن من آداب البحث جمع أطراف الموضوع والنصوص في الباب الواحد، ولا يقتصر على بعضها دون بعض، ومثال ذلك لو أنَّ إنساناً أخذ الآية: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] واقتصر عليها، لاستفاد منها فهماً مغلوطاً أن الله توعد المصلين بالويل، كما فعل بعض الشياطين حيث قال: دع المساجد للعباد تسكنها وسر بنا إلى حانة الخمار يسقينا ما قال ربك ويل للألى سكروا ولكن قال ويل للمصلينا فالشيطان الماجن قال هذا سخرية واستهزاء؛ لأنه أخذ جزءاً من الكلام.
وبعض الشباب أفتى بأن المرأة لو باتت في مكان غير بيت زوجها يجب أن تبيت بحجابها كاملاً، واستدل بحديث: (أيما امرأة خلعت ثيابها في غير بيت زوجها كانت في سخط الله)، فهذا فهم الحديث على غير وجهه، وأشياء كثيرة ذكرها العلماء فيها التحريف والتصحيف.(23/24)
تفسير سورة الكوثر
سورة الكوثر هي أصغر سور القرآن عدداً في الكلمات والحروف، ويوجد في القرآن ثلاث سور كلها من ثلاث آيات وهي: سورة العصر وسورة الكوثر وسورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]، لكن سورة الكوثر أقصرهن من حيث عدد الكلمات والحروف، فكلماتها عشراً، وحروفها اثنان وأربعون حرفاً، أما سورة العصر فهي مشتملة على أربعة عشرة كلمة، وثمان وستين حرفاً، وسورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فيها ست وعشرون كلمة، واثنان وسبعون حرفاً، فسورة الكوثر هي أقصر سور القرآن.(23/25)
مناسبة السورة لما قبلها
هذه السورة المباركة لها صلة بالسورة التي قبلها، كما يقول الفخر الرازي: إن الله عز وجل عاب على أولئك الكفار الفجار صفات قبيحة، ومن بين هذه الصفات أربع صفات قاتلة، وهي: البخل، وترك الصلاة، والمراءاة، ومنع الخير عن الناس.
وذكر الله في هذه السورة أربع صفات مقابلة للصفات المذكورة في سورة الماعون: ففي مقابل البخل قال الله عز وجل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] أي: إنا أعطيناك الخير الكثير فأعط الكثير ولا تبخل، والكوثر هو الخير الكثير.
وفي مقابل ترك الصلاة قال الله عز وجل: ((فَصَلِّ))، وهذا الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي مقابل الرياء قال سبحانه: ((لِرَبِّكَ))، فصل لأجل مرضاة ربك لا مراءاة للناس.
وفي مقابل منع الخير عن الناس، قال الله عز وجل: {وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أي: انحر الأضحية وقد قال الله في الأضاحي: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، فهذا بذل للخير تجاه الناس.(23/26)
سبب نزول السورة
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً من المسجد الحرام، والعاص بن وائل السهمي داخلاً إليه فوقفا عند الباب يتحدثان، وكان في المسجد الحرام بعض صناديد قريش، ثم افترقا، فلما دخل العاص بن وائل قال له المشركون: مع من كنت تتحدث؟ فقال الخبيث: مع هذا الأبتر -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثم قال لهم مطمئناً: لا عليكم، فإنه أبتر إن هلك هلك ذكره، ليس هناك من يحمل اسمه، ويقوم بدعوته من بعده، وظن المسكين أن القضية قضية وراثة يأخذها الأبناء عن الآباء، فإذا لم يكن للآباء أبناء فقد انقطع الأمر وذهبت الدعوة، وكانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت ولده عبد الله وقبله موت ولده القاسم ققالوا: إن محمداً أبتر.
يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال: وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعاً، يعني بذلك رحمه الله: أن هذه الدعاية كانت تجد لها رواجاً في البيئة العربية التي تتفاخر بكثرة الأولاد، وكانت هذه الوخزة اللئيمة تجد لها هوى وصدى في قلوب أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وشانئيه، ولربما أصابه من ذلك شيء من الضيق والغم صلوات الله وسلامه عليه، فجاءت هذه السورة على قلبه بالروح والندى، جاءت لتغسل عنه كل هم وكل غم وكل ضيق، وقد فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنهما قال: (بينا نحن في المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، إذ رفع رأسه إلى السماء ثم أغفى إغفاءة ثم تبسم، فقلنا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: لقد نزل علي سورة آنفاً، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] إلى آخر السورة، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: إنه نهر في الجنة، وعدنيه ربي عليه خير كثير ترده أمتي فيختلج الرجل منهم، فأقول: يا رب! إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدث بعدك).
وفي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما أنا أسير في الجنة أتيت على نهر حافتاه قباب الدر المجوف، فقلت: يا جبريل! ما هذا؟ فقال: هذا هو الكوثر الذي أعطاك ربك).
ومجموع الروايات تذكر بأن هذا نهر في الجنة، عدد آنيته عدد نجوم السماء، ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، نسأل الله أن يجعلنا منهم.(23/27)
تفسير قوله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر)
قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] إنا: ضمير العظمة، كما في قول ربنا تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:3]، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء:105] وهذا في القرآن كثير.
يقول العلامة الطاهر ابن عاشور: وضمير العظمة هذا مشعر بالامتنان بعطاء عظيم، والكلام مساق البشارة بخير آت، لا مساق الإخبار بخير مضى.
والكوثر كما فسره عكرمة ومقاتل بأنه القرآن، وقال أبو بكر بن عياش: إنه الإسلام، وقال الحسن البصري: النبوة، وقال الماوردي: الشفاعة، وقيل: كثرة الأمة، أي: كثرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنَّ معنى الكوثر هو: الخير الكثير، الذي من جملته النهر، والحوض، والشفاعة، والنبوة، والقرآن، والإسلام، وكثرة الأمة والأتباع والأنصار وغير ذلك.
وكلمة الكوثر على وزن فوعل، وفوعل في لغة العرب غالباً من الأسماء الجامدة كالكوكب والجورب والحوشب؛ وتكون أيضاً اسماً مشتقاً للشيء الكثير، فمثلاً من كان كثير الخير والنسل والعطاء يقال له: نوفل، وأحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه: نوفل، وكذلك من كان شجاعاً مقداماً يقال له: جوهر، ومنه قول الكميت يمدح عبد الملك بن مروان: وأنت كثير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن الفضائل كوثراً أي: كثير الخير.
والخير الذي وهبه الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما فيما مضى من السور كثير، فمثلاً: نجد في سورة الضحى قول الله عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، وفي سورة الشرح نجد من الخير شرح الصدر، ورفع الذكر، وحط الوزر، وتيسير الأمر، ونجد بعدها في سورة التين أن الله جعل بلده البلد الأمين، وجعل لأمته أجراً غير منون أي: غير مقطوع، ثم بعدها في سورة العلق: علمه الله ما لم يعلم، وأنزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء، يقرؤه نائماً ويقظاناً، ثم بعدها سورة القدر، أعطاه الله ليلة خيراً من ألف شهر، ثم بعدها سورة البينة جعل الله أمته خير البرية، ثم في سورة الزلزلة بشرنا ربنا بأنه سيجعل في موازيننا مثقال الذر من الخير، ومثاقيل الشر يكفرها الله عز وجل بما يصيبنا مما نكره، من مرض أو ضيق أو نقص في الأموال والأنفس والثمرات، ثم في بعدها من السور امتن الله عز وجل امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بخير كثير، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأوتيت جوامع الكلم، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة)، وهذا كله من الخير الذي أعطاه الله إياه والمذكور في قوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}.(23/28)
تفسير قوله تعالى (فصل لربك وانحر)
قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة له تبع، وفي الآية إظهار في مقام الإضمار، قال تعالى: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ))، فالمعطي هو الله جل جلاله، وفي غير القرآن يمكن أن يقال: فصل له وانحر، لكن قال: ((فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}، والإتيان بالاسم الظاهر مقام الاسم المضمر من أجل الإشعار بأنه جل جلاله مستحق للعبادة؛ لكونه يربي الناس بنعمه لكون عطائه وإفضاله متواصلاً، ثم أضيف الاسم الظاهر لضمير المخاطب: ((فَصَلِّ لِرَبِّكَ))، وهذا تشريف للرسول صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:3]، وهو رب البيوت كلها، فالله عز وجل هو رب محمد صلى الله عليه وسلم ورب الناس جميعاً، ففي هذا تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، وإيماء إلى أنه يربيه ويرعاه ويحوطه ويكلؤه صلوات الله وسلامه عليه.
ومن عجائب التفسير أنَّ بعض المفسرين قال في قوله تعالى: ((فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ))، المراد بالنحر وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، وهذا تفسير بعيد، ففي الآية ترتيب وهو الصلاة ثم النحر ورسول الله صلى الله عليه وسلم رتب ذلك فقال: (إنَّ أول ما نبدأ به يومنا هذا -يوم العيد- أن نغدو فنصلي ثم نرجع فننحر نسكنا، فمن فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما شاته شاة لحم ليست من النسك في شيء)، واتفق أهل العلم على أن من ذبح قبل الصلاة فذبيحته غير مجزئه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان في طريقه للمصلى شم ريح شواء، فقال: (ما هذا؟ قالوا: أبو بردة -أحد الصحابة- ذبح فالرسول صلى الله عليه وسلم استدعاه، قال له: ما هذا؟ قال: يا رسول الله! اشتهيت اللحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذبح مكانها أخرى) أي: فهذه الذبيحة لا تنفع، لأن الله عز وجل رتب بينهما فقال: ((فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ))، وفي سورة الأعلى قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، فزكاة الفطر قبل صلاة العيد، أما في سورة الكوثر فصلاة العيد قبل النحر: ((فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)).(23/29)
تفسير قوله تعالى (إن شانئك هو الأبتر)
قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] شانئك اسم فاعل من الشناءة أو الشنئان، وهو البغض، فمعنى: ((إِنَّ شَانِئَكَ)) إن مبغضك وكارهك وعدوك سواء كان العاص بن وائل، أو الوليد بن المغيرة، أو أبأ جهل، أو أبا لهب، أو عقبة بن أبي معيط، أو أمية بن خلف، أو شيبة بن ربيعة أو غيرهم من صناديد الكفر، فإنه هو الأبتر، أي: المقطوع الخير والذكر.
وكلمة الأبتر مشتقة من الحيوان الأبتر، وهو الذي قطع ذنبه، فالله عز وجل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد! سأرفع ذكرك، وأخلد اسمك، وأما كارهك فإني سأطوي خبره وألغي ذكره، وإذا ذكر فلا يذكر إلا مشيعاً باللعنات.
فهذه الآية نراها ظاهرة أكثر مما كانت في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان مذكوراً في الجزيرة العربية وما حواليها من بلاد الحجاز وتهامة واليمن، وربما في بلاد فارس وفي بلاد الروم، لكن الآن اسم محمد صلى الله عليه وسلم يتردد في الآفاق في المشارق والمغارب بالليل والنهار، في كل أرض وتحت كل سماء يوجد هناك من يشهد أن محمداً رسول الله، ومن يحب محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلي عليه بالليل والنهار، والواحد منهم غاية أمنيته ومنتهى أمله أن يكرمه الله بزيارة قبر محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يكرمه الله يوم القيامة بالاجتماع بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي رحمه الله: وقد دلت الآية على أن بغض رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر، وهذا لا شك فيه، فمن أبغض النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر عدو لله، وبالمقابل دلت الآية على أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم أمر واجب، وأنه من الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام -والحديث في الصحيحين من رواية أنس -: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، والحديث الآخر: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين)، وهذه المرتبة حققها الصحابة الكرام، فمثلاً امرأة خرجت في غزوة أحد بعدما انجلى غبار المعركة، فكانت تمضي في الطريق نحو الميدان فمرت بقتيل فنعي إليها، قيل لها: هذا أبوك، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير يا أم فلان! هو أمامك تلقينه، فمشت فمرت بقتيل فنعي إليها أخوها، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم سألت ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو أمامك يا أم فلان! فمضت فمرت بقتيل، فنعي إليها زوجها، ثم مرت بقتيل فنعي إليها ولدها، إلى أن وصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظرت إليه واطمأنت عليه، قالت: يا رسول الله! كل مصيبة بعدك جلل، والله! ما أبالي إذ سلمت بمن عطب، يعني: طالما أنك سالم فلا أبالي بمن هلك سواء كان الأب أو الأخ أو الزوج أو الولد، المهم أن تسلم أنت يا رسول الله! فهذه الدرجة من المحبة هي التي حققها الصحابة الكرام حتى قال بعض الكفار: لقد أتيت كسرى وقيصر فما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-، والله! ما تنخم نخامة إلا تلقوها بأيديهم، فدلك بها أحدهم وجهه وجلده، ولا توضأ وضوءاً إلا اقتتلوا على وضوئه -صلى الله عليه وسلم-، هذا كان حال الصحابة مع النبي عليه الصلاة والسلام.(23/30)
تفسير من سورة الكافرون إلى سورة المسد
إن الإسلام هو الدين الحق الذي لايرتضي الله من أحد ديناً سواه، بل حكم سبحانه على كل دين سواه بالبطلان وعلى أهله بالخسران؛ ولذلك أظهره الله على سائر الأديان، وفتح لأصحابه الأمصار والبلدان؛ لسيرهم على درب سيد الأنام، الذي كبت عدوه، وأعز حزبه ورفع ذكره.
ألا نرى الوعيد الذي أعده لأبي لهب بسبب عداوته للرسول صلى الله عليه وسلم؟! وهكذا يهين الله ويتوعد كل من سار على خطى أبي لهب، ومن كان معادياً من سللك درب المصطفى عليه الصلاة والسلام.(24/1)
تفسير سورة الكافرون
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين، وأن يجمعنا في جنات نعيم، أما بعد: فهذا الدرس في تفسير سورة الكافرون، وهي سورة مكية بإجماع المفسرين، واشتملت هذه السورة المباركة على ست آيات، وثمانية وعشرين كلمة، وأربعة وتسعين حرفاً.(24/2)
مواضع قراءة النبي لسورتي الإخلاص في صلاته
هذه السورة يقول عنها الإمام الزمخشري في الكشاف، والإمام السيوطي في الإتقان: بأنها تسمى هي وسورة (قل هو الله أحد) المقشقشتين؛ لأنهما أزالتا الشرك، يقال: قشقش إذا أزال.
وتسمى أيضاً هي وسورة (قل هو الله أحد) بـ: سورتي الإخلاص.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بينهما في كثير من المواقف، ففي الحديث في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بالكافرون و (قل هو الله أحد) في ركعتي الطواف).
وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما في ركعتي الفجر).
وفي مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وعشرين مرة يقرأ بالكافرون والإخلاص في الركعتين قبل الفجر، والركعتين بعد المغرب).
فهاتان السورتان الكريمتان كان يقرأ بهما نبينا عليه الصلاة والسلام في السنة الراتبة قبل صلاة الصبح، وفيها بعد صلاة المغرب، وكان يقرأ بهما في ركعتي الطواف.(24/3)
سبب نزول سورة الكافرون
أما سبب نزول هذه السورة المباركة؛ فقد قال أهل التفسير: جاء أربعة من صناديد الكفر وذوي الأسنان ممن تقدمت بهم العمر، وهم: الوليد بن المغيرة المخزومي والعاص بن وائل السهمي وأمية بن خلف الجمحي والأسود بن المطلب، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا محمد! إنا نعرض عليك أمراً، قال: (وما ذاك؟) قالوا: أن تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة؛ فإن كان الذي عندنا خيراً أصبت منه، وإن كان الذي عندك خيراً أصبنا منه.
يعني: نلتقي في منتصف الطريق، والحق نسبي -كما يقول الدجاجلة- قد يكون عندنا نسبة من الحق وعندك نسبة من الحق، فلو أننا عبدنا إلهك سنة وعبدت إلهنا سنة نكون قد أصبنا الحق كله، فأنزل الله عز وجل سورة الكافرون مبرئاً رسوله صلى الله عليه وسلم من أن يميل إلى كفر، أو يتلبس بشرك، أو يشارك في باطل.(24/4)
نفي عبودية النبي لغير الله
افتتحت هذه السورة بفعل الأمر (قل)، وعندنا في القرآن خمس سور افتتحت بـ (قل) وهي: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1]، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1].
قوله سبحانه: (قل): هذا الأمر مشعر بالاهتمام بما بعد القول، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغه للناس بوجه خاص، وبتبليغ الدين كله بوجه عام قال الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، فالدين كله هو مأمور بتبليغه صلوات الله وسلامه عليه، لكن هذا أمر لابد من العناية به تمام العناية، فقال: (قل -أي: يا محمد-: يا أيها الكافرون)، أي: يا عاص، ووليد، وأسود، وأمية، {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2].
يقول العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفي الإتيان بهذا الوصف القبيح تحقير لهم، واستخفاف بشأنهم، وإشعار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهابهم؛ لأنه محفوظ من ربه، فما قال: يا أيها الناس، وما قال: يا من عرفتم هذا العرض، لا، بل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، يا من كفرتم بالله، يا من جحدتم بالنبوة، يا من كذبتم بالبعث والمعاد، يا من اتصفتم بالكفر ماضياً وحاضراً {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2]، أي: لا أعبد ما تعبدون من آلهة باطلة، وأصنام لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع ولا تغني عني شيئاً.
{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] أي: ولا أنتم -أيها المشركون- تعبدون الإله الحق الجليل العظيم الذي أعبده، و (ما) هنا بمعنى من، وهي مثل قول الله عز وجل: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] أي: والسماء ومن بناها، وقول الله عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ} [الليل:1 - 3] أي: ومَن خلق الذكر والأنثى.
ويرى ابن القيم رحمه الله بأنه جيء بـ (ما) ههنا؛ لأن المقصود الصفة وليس الذات، كما في قول الله عز وجل: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء:3] فالمعنى: من طاب لكم من النساء، لكن لما كان الأمر منصباً على وصف الطيب جيء بـ (ما)، وهكذا ههنا المشركون يعبدون إلهاً لكن لا يعرفون صفاته جل جلاله وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ينبغي أن يفرد بالعبادة وحده.(24/5)
تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك وأهله
قال تعالى: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:4 - 5] قال بعض أهل التفسير: هذا تكرار مقصود منه التأكيد، وهذا معروف في كلام العرب، كقول القائل: يا علقمة يا علقمة يا علقمة خير تميم كلها وأكرمه أو قول الآخر: يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع وقول الثالث: تالله إنك قد ملأت مسامعي دراً عليه قد انطوت أحشائي زدني وزدني ثم زدني ولتكن منك الزيادة شافياً للداء فهذا تكرار يراد منه التأكيد.
وقال بعض أهل التفسير: ليس في الآيات تكرار، بل الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل للمشركين: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] لا في الحال ولا في المستقبل، ومقابله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3]، لا في الحال ولا في المستقبل، ثم قال: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون:4]، أي: قبل نزول الوحي علي ما سجدت لأصناكم، ولا تمسحت بأوثانكم، ولا نذرت لآلهتكم، ولا استعملت أزلامكم، ولا تلبست بشيء من أمر جاهليتكم، فقبل نزول الوحي عصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم من ذلك، ومقابلها: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] أي: فيما مضى ما عبدتم الله أصلاً، وهذه براءة تامة له من الشرك.
وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتد بالخليل إبراهيم الذي قال لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27]، ولما قال لأبيه وقومه: ما تعبدون؟ {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71]، فقال لهم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:75 - 77].
وكذلك في الآية الأخرى قال الله عنه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
وكذلك الفتية الطيبون الذين آمنوا بربهم وزادهم هدىً، يقول أحدهم: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:16]، وإبراهيم قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48].
فهذه السورة براءة من الشرك وأهله كما هو ظاهر للعيان منها: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:2 - 5].(24/6)
تهديد الكفار والمشركين
ختمت هذه السورة بهذا التهديد: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
يقول ابن القيم رحمه الله: وقد أخطأ من ظن أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، فليست الآية منسوخة، وليس فيها إقرار للكفار على دينهم الباطل، وإنما المقصود كما في قول الله عز وجل: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41]، وقوله: {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ:25]، وقوله في سورة الكهف: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، أي: تهديد هؤلاء المشركين الذين ما عرفوا الله ولا قدروه حق قدره.
يقول ابن القيم رحمه الله: وفي تقديم اختيارهم على دين الله تهكم واستخفاف بهم، قال الله عز وجل: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، فهو بمنزلة أن تقول لإنسان: هذا سم وهذا دواء، فتقديمك للسم ليس إعلاءً له وإنما استخفافاً بشأنه.(24/7)
أكذوبة التقريب بين الأديان
هذه السورة المباركة -أي: سورة الكافرون- تسمى مع (قل هو الله أحد) سورتي الإخلاص؛ لأن فيها إخلاص العبادة لله عز وجل، وخلع الأنداد وجميع صور الشرك، ونحن محتاجون إليها في زماننا هذا الذي ينشط فيه دعاة وحدة الأديان، والتقريب بينها، وهذا المعني لعلي قد قدمت طرفاً منه في سورة البينة عند قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6].(24/8)
تاريخ التقريب بين الأديان
أيها الإخوة الكرام! الآن تنشط دعوة قد يسمونها: التقريب بين الأديان، أو التقارب بين الأديان، أو التعايش بين الأديان، أو الوحدة بين الأديان، ونسمع عن منظمة التضامن الإسلامي المسيحي، ومنظمة الإخاء الإسلامي المسيحي، والديانة الإبراهيمية، والملة الإبراهيمية، والتوحيد بين الأديان، والصداقة الإسلامية المسيحية، وغير ذلك من العناوين البراقة الخداعة الخلابة، وهذه الدعوة لديها مسرب تاريخي، وذلك أنها كانت في زمن النبوة الأولى على أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث بدأ اليهود والنصارى في محاولة إضلال المسلمين كما حكى ربنا في كتابه الكريم في قوله: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:135]، وفي قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم موجود، والعلم مبثوث، فما وجدت رواجاً بل قمعت في مهدها، ثم أيضاً في القرون المزكاة القرون الفاضلة بحديث: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، خمدت هذه الدعوة وما سمع لها ذكر، لكن بعد انقراض تلك القرون المفضلة جاءت المرحلة الثانية بدعوى أن الخلاف بين الإسلام والنصرانية واليهودية كالخلاف بين المذاهب الفقهية الأربعة.
وتلقى هذه الدعوة وتلقفها المنحرفون من الملاحدة والغلاة من أمثال الحلاج وابن سبعين والعفيف التلمساني وغيرهم، فنطقوا بالكفر حتى قال قائلهم: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة نعوذ بالله من الضلال، فهؤلاء هم دعاة وحدة الوجود، حتى قالوا: إن فرعون نفسه كان مؤمناً، ثم قتل منهم من قتل، وشرد بهم من خلفهم، ثم جاءت المرحلة الثالثة في أعقاب الحرب العالمية الأولى لما نشطت الدعوة الماسونية التي تريد تذويب الفوارق بين الأديان تحت شعار الكلمات الثلاث: إخاء، حرية، مساواة.
ثم نشط الدعاة للتقريب بين الأديان، وقد كتب أحد علماء هذه البلاد في هذا، وهو الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد، ونقل عن الشيخ الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله قوله: كان شيخ من شيوخ الأزهر اسمه الشيخ: حسين الطويل، وكان رجلاً عالماً فحلاً، وكانت الأمة لا يزال فيها خير كثير، فجاءه أحد المستشرقين الإيطاليين وقت إفطاره، وكان الشيخ يفطر فولاً وبصلاً، يعني: يأكل فطوراً معتاداً، فدخل عليه المستشرق ثم شرع يكلمه بأن الأديان كلها شيء واحد، وأننا نريد التقريب، والخلاف الذي بيننا لا يضر، والشيخ لا يجيبه ويأكل فوله وبصله، واستمر في أكله إلى أن جف ريق ذلك الخبيث، وكان الشيخ قد فرغ من طعامه، فشرب ماءً ثم قال له: يا خواجة ما رأيك في فول بالبصل؟ يعني: كلامك هذا كله دخل من ههنا وخرج، قال: أنت تريد مني أن أكذب القرآن وقول الله: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [البقرة:217]، والقرآن قال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، والقرآن قد قرر هذه الحقائق أيضاً في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وفي قوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109]، فكيف أقبل منك هذه الدعوى؟ ثم في ظل ما يسمى بالنظام العالمي الجديد صارت هذه الدعوى جهرية مكشوفة، فيدعى إلى وحدة الأديان صراحة، حتى صدرت دعوة -ونسأل الله العافية- إلى طباعة التوراة والإنجيل والقرآن في غلاف واحد، فيكون الحق والباطل مع بعض! وكانت هناك فكرة في بعض البلاد بأن يقام ما يسمى بمجمع الأديان أي: معبد وكنيسة ومسجد في مكان واحد، وداخل سور واحد! ومن المضحكات المبكيات: أنها أقيمت صلاة مشتركة دعا إليها البابا بين أتباع الديانات الثلاث في الفاتيكان في إيطاليا، وأمهم فيها البابا! يقول الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: هذه أول مرة في تاريخ الإسلام يأتم المسلمون فيها برجل كافر، البابا دعا إلى هذه الصلاة، ودعا بعد إلى صلاة تسمى صلاة روح القدس.(24/9)
سبب دعوى التقريب بين الأديان في أوساط المسلمين
أيها الإخوة الكرام! ما أسباب هذه الدعوى؟ الآن يوجد بعض المسلمين قد يتلبس بهذا الباطل فما السبب؟ هناك عدة أمور أولها: الجهل بالدين، فمثل هذه السورة ما عرفوها ولا عرفوا تفسيرها، فهم ما عرفوا حقائق القرآن وبدهيات العقيدة.
ثانياً: الانهزام النفسي، فالواحد منهم يحاول أن يتقرب إلى الكفار، ويظن أن هذا هو الطريق للدعوة إلى الله.
ثالثاً: الخوف من سطوة الكفار وقهرهم، وذلك أن الكفار الآن هم الأعلون وهم الذين يأمرون وينهون.
رابعاً: المصالح والمنافع الزائلة، فمؤتمرات وتذاكر وسفريات وحوافز وحسابات وما أشبه ذلك، تجعل الحليم حيران، ومن أجلها يبيع الناس دينهم، نسأل الله العافية والسلامة.(24/10)
أهداف دعوى التقريب بين الأديان
ما أهداف هذه الدعوى؟ ما الهدف من وراء الدعوة إلى وحدة الأديان، أو التقريب بينها؟ هناك عدة أهداف رمى القوم إليها وقد حققوها، الهدف الأول: إيجاد مرحلة التشويش على الإسلام، وبلبلة أفكار المسلمين.
وهذا قد حصل، فلو سألت جدك: اليهود والنصارى مؤمنون أم كفار؟ لقال: هم كفار قولاً واحداً، لكن الآن صارت هذه القضية محل تعاط ونقاش بين الناس، فيقول قائلهم: يا أخي هم ليسوا كفاراً! إذاً: فأين آيات القرآن كقوله سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، وكقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، وكقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30]؟ وهناك عشرات الآيات في إثبات كفر القوم، ويكفيهم أنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
يا إخواننا! لو أن معنا إنسان يصلي الآن قال: أنا كافر بعيسى، سنقول له: أنت لست مسلماً، أليس كذلك؟ بلى، ونقوله له: لست مؤمناً، وليس لك في الجنة نصيب، والأمر كذلك لو قال أحد: أنا كافر باليسع أو بإلياس أو بأي نبي من الأنبياء.
فهؤلاء الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كيف يكون لهم في الإيمان نصيب؟! الهدف الثاني: حل الرابطة الإسلامية، وإحلال هذه الرابطة البديلة اللعينة مكانها، الآن نحن ندعوا لإخواننا في فلسطين والعراق، ما الذي بيننا وبينهم؟ هل بيننا وبينهم مصالح؟ نحن في هذا المسجد ندعو لإخواننا في فلسطين وليس بيننا وبينهم لا تجارة ولا نسب ولا شيء، وما بيننا وبينهم إلا {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
فهذه الآية لو تركت وصار اليهود والنصارى أيضاً إخوة لنا كما نسمع الآن بكثرة: إخواننا المسيحيين! لما عاد لأمة الإسلام ميزة.
إذاً: فلو شاهدت في التلفزيون حرباً بين شارون وأحمد ياسين نقول: والله هذين أخوين اختلفا، ندعوا ربنا أن يصلحهم، وستكون حينها أنت أهل حياد؛ لأن شارون أخونا وأحمد ياسين أخونا، وكلنا موحدون! بل من خبثهم يقولون: لابد من التقريب بين الموسوية والعيسوية والمحمدية، فهل نعرف ديانة اسمها المحمدية؟ أنت الآن لو سألتك ما ديانتك؟ هل تقول: أنا محمدي؟! لا.
بل تقول: أنا مسلم، كما قال الله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} [الحج:78]، ولم يقل: هو سماكم المحمديين، لكن هكذا بلبلوا الأفكار.
الهدف الثالث: أرادوا قصر المد الإسلامي واحتوائه، فالآن أكثر الديانات انتشاراً في أوروبا الإسلام فضلاً من الله ونعمة، وهكذا في كثير من بلاد الله عز وجل، فلما وجدوا ذلك وكنائسهم تعصف الريح بأبوابها ولا يتردد عليها أحد، أرادوا خلط الأمور؛ بحيث أن الأوروبي أو الأمريكي إذا أراد أن يدخل في الإسلام يقول: لم الإسلام؟ فهو والنصرانية واليهودية شيء واحد، ومن معين واحد، وفي مصب واحد، لكن الطرق مختلفة.
هكذا أرادوا.
الهدف الرابع: أرادوا كف ألسنة المسلمين وأقلامهم عن تكفير من كفره الله ورسوله ونجحوا.
فالآن كثير من الناس لا يجرؤ على أن يقول: النصارى كفار، ولا يستطيع أن يكتب هذا، فنجحوا في إرهاب الناس بحيث يعتقدون الحق باطلاً والباطل حقاً.
الهدف الخامس: إبطال أحكام الإسلام في معاملة أهل الكتاب، مثل قول ربنا: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وهذا الكلام لا يذكره أحد، بل صار الشعار المعتبر في كثير من بلاد الله: حق المواطنة، وأن الناس جميعاً سواء في الحقوق والواجبات دون النظر إلى الجنس أو الدين، حتى إن بعض المخرفين وهو صحفي لا له في العير ولا في النفير، ألف كتاباً سماه: مواطنون لا ذميون، وقال: لا حاجة إلى مسمى أهل الذمة.
إذاً: أين نذهب بهذه النصوص؟ هل نلغيها ونشطبها؟ بل تاريخنا كله وما أجمع عليه علماؤنا هل نضيعه؟! هذه الأهداف عملوا للوصول إليها، وقد نجحوا نسأل الله العافية.(24/11)
حكم الإسلام في دعوى التقريب بين الأديان
الدعوى لتقريب الأديان دعوة بدعية كفرية ضالة، ولا يدعو إليها من يؤمن بالله واليوم الآخر، وهي تنقض أصل الإيمان بالله؛ لأن عقائد اليهود والنصارى عقائد إلحادية، وهذه الدعوة تنقض أصل الإيمان بالرسل؛ لأن النصارى يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم، واليهود يكفرون بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
ثم هذه الدعوى تنقض أيضاً أصل أن الإسلام ناسخ لما قبله، ومهيمن على ما سواه من الشرائع كما قال الله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، فتصير هذه الشريعة الحقة والشرائع الباطلة كلها سواء بمقتضى هذه الدعوة الباطلة، وكذا العقيدة القائمة على التوحيد الخالص، والعقائد التي فيها الزلل والدخل والانحراف والإلحاد تصير أيضاً واحدة.
ولذلك اقرءوا هذه السورة المباركة واقرءوا تفسيرها، وعضوا عليها بالنواجذ، ونسأل الله أن يتوفانا مسلمين.(24/12)
تفسير سورة النصر
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين، وأن يجمعنا في جنات نعيم.
سورة النصر هي سورة مدنية باتفاق أهل التفسير، وقد اشتملت على ست وعشرين كلمة، واثنتين وسبعين حرفاً، وهذه السورة هي آخر سورة من القرآن نزلت كاملة، ويدل على ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: (أن ابن عباس سأله: ما آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً؟ فقال له: هي سورة النصر، فقال: ابن عباس: صدقت).
هذه السورة المباركة قال عنها بعض أهل التفسير: نزلت عقيب حنين، وبعضهم قال: نزلت قبيل الفتح، وبعضهم قال: نزلت في حجة الوداع.(24/13)
البشارة بنصر الله لنبيه وفتح البلدان له
قال الله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]، هذه السورة افتتحت بالشرط: ((إِذَا جَاءَ)) هذا هو فعل الشرط، وجوابه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3].
ومعنى: ((إِذَا جَاءَ))، أي: إذا حصل وتحقق، والنصر: هو الإعانة على الأعداء والتغلب عليهم، وأضيف هذا النصر لله عز وجل لتعظيمه، وللإشعار بأنه نصر عزيز خارق للعادة جاء وفق ترتيب إلهي وإعداد رباني.
الفتح: هو الاستيلاء على بلاد الأعداء ودخولها، وسمي فتحاً: لأنه يكون دخولاً من الباب، كما قال الله عز وجل في قصة موسى مع قومه: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23]، وقد يكون هذا الفتح من خلال اقتحام الثغور وما أشبه ذلك.
قوله سبحانه: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:2]، (الناس): اسم جمع يدل على مجموعة من الآدميين.
(ورأيت): الرؤيا ههنا إما أن تكون رؤية علمية، أي: إذا جاءتك الأخبار وتواترت عندك، ويحتمل أن تكون رؤية بصرية لمجيء هؤلاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمراد بقوله سبحانه: ((فِي دِينِ اللَّهِ))، أي: في الإسلام، كما قال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال سبحانه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
ومعنى {أَفْوَاجًا} [النصر:2] أي: جماعات وأمماً فوجاً إثر فوج.(24/14)
وجوب مقابلة النعم بالشكر ومعنى الإنابة
قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].
(فسبح) أي: نزه ربك جل جلاله عن كل نقص وعيب، وصفه بكل كمال، سبح: قائلاً ذلك بالحمد، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في ثبت من حديث أمنا عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت هذه السورة: (يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن).
ومعنى: ((وَاسْتَغْفِرْهُ))، أي: اطلب منه المغفرة.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: في هذه الآية أربع مؤكدات: أولاً: حرف التوكيد إن في قوله: (إنه)، ثانياً: الفعل الناسخ (كان)، الذي يدل على الثبوت والدوام، ثالثاً: صيغة المبالغة في قوله: (تواباً) أي: كثير التوبة على عباده، رابعاً: التنوين المشعر بالتعظيم {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].(24/15)
نعي سورة النصر للنبي صلى الله عليه وسلم أجله
في هذه السورة مسائل نعرض لها إن شاء الله.
المسألة الأولى: نعت هذه السورة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، وأخبرت النبي الأكرم والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بأنه ميت، وأن أجله قد دنا، ويدل على ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر رضي الله عنه يدخلني في مجلسه، فوجد بعض الناس من ذلك في نفسه، يعني: بعض كبار الصحابة قالوا: لم يدخل عمر هذا الغلام ولنا أبناء مثله؟ يعني: إذا سمح لصغار السن بالدخول فليسمح للجميع، فتألم عمر رضي الله عنه ولم يعجبه ذلك منهم، فقال لهم: إنه من قد علمتم، يعني: هذا الشاب الصغير الذي أدخله عنده من العلم والفهم والقدرة على تأويل القرآن ما ليس عند كثير من الكبار، ثم أراد أن يريهم ذلك عملياً فدعاه يوماً معهم، ثم قال لهم: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]؟ فقال بعضهم: أمرنا ربنا إذا نصرنا وفتح علينا أن نحمده ونستغفره، وسكت آخرون، قال: وأنت يا ابن عباس ما تقول؟ قال: أقول: هذه السورة نعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه.
قال الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]، أي: فتح مكة، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:2]، فتلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].
فقال عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تقول، أي: هذا الذي تقوله هو الصواب، ويؤيد ذلك رواية الإمام البيهقي رحمه الله عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه السورة دعا ابنته فاطمة رضي الله عنها وقال لها: إنه قد نزلت علي سورة، فقرأها عليها، ثم أسر إليها بكلمات فبكت، ثم أسر إليها بكلمات فضحكت، ثم أخبرت رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسر إليها بأنه مقبوض فبكت، ثم أسر إليها بأنها أول أهله لحوقاً به فضحكت رضي الله عنها، وقد لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أربعين يوماً من وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد توفاها الله ولما تبلغ الثلاثين من عمرها، فلحقت بأبيها صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين في جنات نعيم ترد عليه حوض الكوثر.
فلذلك يقول محمد إقبال رحمه الله: نسب المسيح بن مريم سيرة بقيت على طول المدى ذكراها والمجد يشرق من ثلاث مطالع في مهد فاطمة فما أعلاها هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يداني في الفخار أباها هي ومضة من نور عين المصطفى هادي الشعوب إذا تروم هداها صلى الله عليه وسلم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما يؤذيها، ويريبني ما أرابها).(24/16)
مشروعية صلاة الفتح
المسألة الثانية: قال الإمام ابن كثير رحمه الله: دلت هذه السورة على مشروعية صلاة الفتح، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح الله له مكة صلى ثمان ركعات في وقت الضحى، فقال بعضهم: هي صلاة الضحى.
ونقول: كيف تكون صلاة الضحى، وما كان صلى الله عليه وسلم يواظب عليها؟ فكيف يصليها وهو في سفر وقد كان خلال تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة ويفطر ومعه عشرة آلاف من أصحابه؟ فدل ذلك على أنها صلاة الفتح.
ثم اختلفوا: هل تكون ثمان ركعات بتسليمة واحدة، أو أنها تكون بتسليمة في كل ركعتين؟ قال: وقد روى أبو داود في سننه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم من كل ركعتين، وكذلك فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين فتح المدائن.(24/17)
الكفار لا يردعهم إلا حق تحرسه القوة
المسألة الثالثة: دلت هذه السورة على أن الناس لا يحترمون إلا من كان عنده حق تحرسه القوة، ومن ظن أن الناس سيحترمونه لأنه حلو اللسان، أو لأنه طيب المعشر، أو نحو ذلك -وأعني بالناس الكفار- فهو واهم، إذ الكفار لا يردعهم إلا حق تحرسه قوة.
ويدل على ذلك: ما قاله الحسن البصري رحمه الله: لما فتح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قالت العرب: أما إذ ظفر بأهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لنا به يدان، فجاءوا أفواجاً فوجاً إثر فوج يعلنون إسلامهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فسبب دخولهم في الإسلام هو فتح مكة، قالوا: مكة حمى الله أهلها من أصحاب الفيل وكانوا في جيش قوي من الأحباش، ثم فتحها محمد صلى الله عليه وسلم ودخلها في عشرة آلاف فارس، قالوا: فما لأحد به قوة ولا طاقة، فجاءوا مسلمين.
ويدل على ذلك أيضاً ما رواه البخاري من حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: لما فتحت مكة جاءت أحياء العرب مسلمة، وذلك أنهم كانوا يتلومون بإسلامهم، يتلومون يعني: ينتظرون ويتريثون، يقولون: إذا ظهر على قومه وغلبهم فهو نبي.
هذه هي العلامة.
ولذلك جاءت الوفود بعد ذلك حتى سمي العام التاسع عام الوفود، ولا تظنوا أن مجيء الوفود كان أمراً سهلاً هيناً على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد دخل مع بعضهم في مفاوضات شاقة عسيرة دلت على أن القوم ما فهموا الإسلام بعد.
وأذكر لكم مثلاً لذلك: جاء وفد ثقيف -وهم الذي ذهب إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ورجموه بالحجارة وأسمعوه كلاماً سيئاً- على رأسهم عبد يا ليل بن عمرو وفيهم عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه، فجاءوا فقال المغيرة بن شعبة: يا رسول الله! دعني أكرم قومي، فقال له صلى الله عليه وسلم: ما أمنعك من أن تكرمهم، ولكن أنزلهم حيث يسمعون القرآن، فضربت لهم خيام في المسجد بحيث يسمعون القرآن ويشاهدون الصلاة لعلهم يتأثرون، فمكثوا أياماً، ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: جئناك لتقاضينا، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا أسلمتم أقاضيكم، أي: إذا حصل الإسلام بعد ذلك يحصل بيننا مفاوضة، أما لو لم تسلموا فلا مقاضاة ولا صلح، فارتفع القوم، يعني: انفضت جلسة المحادثات وذهبوا يتشاورون، فقال بعضهم لبعض: إنا نخشى يوماً كيوم مكة فلنرجع إلى الرجل، قالوا له: نسلم ولكننا -بدأت الشروط- قوم نغترب ولابد لنا منه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا والله؛ فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].
قالوا: فالخمر فإنها عصير أرضنا، والطائف كلها عنب وتمور، قال: لا والله فإن الله يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ} [المائدة:90]، إلى أن قال: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90].
قالوا: فالربا فإنه أموالنا كلها، قال: لا والله لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، فإن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278]، فارتفعوا، وذهبوا وتشاوروا ثم جاءوا، فقالوا: نسلم ولكن ماذا نصنع بالربة -مؤنث الرب- وكان عندهم اللات صنم يجللونه ويكسونه كما يكسى البيت الحرام، فقالوا: ما نصنع بالربة؟ أي: اللات مؤنث الله، فقال: تهدم، قالوا: هيهات هيهات، والله لو علمت أنها تهدم لأهلكت القوم.
وكان عمر بن الخطاب يسمع فما صبر، وقال: يا ابن عبد يا ليل ما أجهلك! حتى متى لا تعقل؟ إنها حجارة لا تضر ولا تنفع، فقال: ما جئنا لنكلمك يا ابن الخطاب.
يعني: خليك في حالك، ثم قالوا: يا رسول الله! تول أنت هدمها فأما نحن فإنا لا نهدمها أبداً، ثم قالوا: يا رسول الله! ائذن لنا قبل رسولك، فنحن أعرف بقومنا، فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه لنجابته وحرصه على العلم.
فلما بلغ القوم مشارف بلاد ثقيف تقنعوا على هيئة المكروب المحجول، فقالت ثقيف: ما جاء الوفد بخير، وكان عبد يا ليل رجلاً عاقلاً، فقال لهم: أنا أعرف بالقوم فإنا لو أخبرناهم أنا قد صالحنا الرجل أبو، فجاءوا محجولين مكروبين ونزلوا عند اللات، عند الصنم ذاته، فقال القوم: لعله قد طال العهد بها، جاءوا يسلمون، ثم بعد ذلك قالوا: ما جئتم به؟ قالوا: جئنا من عند رجل فظ غليظ قد دوخ العرب ودان له الناس يقتل بغير حساب، وإنه قد عرض علينا أموراً أبيناها، عرض علينا أن نذر الربا، وأن نترك الزنا، وأن نمنع الخمر؛ فأبينا عليه ذلك كله، قالوا: نعم، والله لا يكون ذلك، قالوا: إذاً تجهزوا للحرب، هيئوا سلاحكم، ورمموا حصنوكم، وتهيأوا لحرب محمد، فذهب القوم ثلاثة أيام يجهزون، ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب، فجاءوا قالوا: هلا رجعتم إلى محمد فصالحتموه، فقال: عبد يا ليل قد فعلنا فاقبلوا من الله عافيته.
الحمد لله هذا الذي حصل والأمر تم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم وفداً فيه خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة من أجل أن يهدموا اللات، فخرج القوم جميعاً رجالاً ونساءً وتحصنوا، وقالوا: ستمتنع اللات من هادميها وستطبش بهم، فقال المغيرة -وهو ثقفي- لـ خالد بن الوليد ولمن معه: دعوني أضحككم من ثقيف، فأخذ الكردين -الفأس- ثم ضربها، ثم ألقى به وبقى يتلبط في مكانه -يرفس- فقال القوم: أبعد الله المغيرة، قتلته اللات، هلم من كان منكم جريئاً فليفعل، يعني: يتحدون الباقي، فقام المغيرة رضي الله عنه وقال: يا قوم! حتى متى لا تعقلون؟ سأريكم، وبدل ما كان يضرب قدمه صعد فوق رأسه وبدأ يهشمه من فوق إلى أن أتى عليه كله، ثم تتابعت بعد ذلك وفود العرب كلهم فأسلموا.(24/18)
التوبة طريق الأنبياء
المسألة الرابعة: قول الله عز وجل: {وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].
التوبة هي طريق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ففي القرآن الكريم نقرأ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، ونقرأ قول نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28]، وقول سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]، قول إبراهيم عليه السلام بعدما بنى البيت: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من التوبة والاستغفار رغم أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فنسأل الله أن يتوب علينا أجمعين.(24/19)
تفسير سورة المسد(24/20)
سبب نزول سورة المسد
الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين، وأن يجمعنا في جنات نعيم.
سورة المسد تسمى في بعض المصاحف سورة أبي لهب، وهي سورة مكية.
سبب نزولها كما روى البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أنه لما نزل قول الله عز وجل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في البطحاء فنادى: واصباحاه، فاجتمع إليه أهل مكة، فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن الجيش مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقام أبو لهب من بين الناس وقال له: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟) فأنزل الله عز وجل هذه السورة ليحكم على هذا الإنسان بالتباب وبالهلاك والخسار.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (نزلت هذه السورة لما جاء أبو لهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد! ما لي إن آمنت بك، فقال عليه الصلاة والسلام: ما يعطى المسلمون، قال: ما لي عليهم فضل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأي شيء تبغي؟ فقال الخبيث: تباً لهذا الدين أن أكون وهؤلاء سواء).
وقال عبد الرحمن بن كيسان رحمه الله: نزلت هذه السورة لأن الوفود كانت تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو لهب ينطلق إليهم أولاً، فيسألونه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون له: أنت أعلم به، فيقول لهم: إنه ساحر كذاب، فلا تأتوه، فيرجع الوفد دون أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجاء في مرة وفد من الوفود وأصروا على أن يلقوا النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، فادعى أبو لهب دعوى كاذبة خاطئة، فقال لهم: ما زلنا نعالجه تباً له، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتأب، فأنزل الله عز وجل هذه السورة.
خلاصة هذه الروايات وغيرها: أن هذا الإنسان الشقي الذي كتب الله له الشقاوة في الأزل كان يمارس نوعاً فريداً غريباً من العداوة والكراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم أنه كان ابن أخيه إلا أنه كان يبغضه ويمقته وكان ينفر الناس منه، ولا يبالي في ذلك بأن يأتي بالأفعال التي يأنف منها العقلاء.(24/21)
علة تخصيص أبي لهب بالذكر دون غيره
يروي الإمام أحمد وابن إسحاق من حديث عباد بن ربيعة الديلي رحمه الله قال: إني لفي سوق ذي المجاز مع أبي إذ أقبل رجل شاب يقول: أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم، وخلفه رجل وضيء أحول ذو غديرتين يقول: لا تصدقوه فإنه كذاب، لا تصدقوه فإنه صابئ، لا تصدقوه فإنه ساحر، فكان الناس يقولون: ما هذا؟ فكانوا يجابون: بأن هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله، والرجل خلفه هو عمه أبو لهب.
فكان الناس يقولون: عمه أعرف به، ما دام أن عمه قال: بأنه ساحر، وأنه صابئ، وأنه كذاب فهو كذلك، فكان هذا الرجل من أعظم الصادين عن سبيل الله، ولذلك خصه الله بسورة، وما خص أمثاله ونضراءه في الكفر ممن مضى معنا خبرهم: كـ أبي جهل والوليد بن المغيرة المخزومي والعاص بن وائل السهمي وأمية بن خلف الجمحي وشيبة بن ربيعة، لكن هذا الإنسان لما كان لصيقاً بالنبي عليه الصلاة والسلام، وكانت هذه الرحم كفيلة بأن تعطفه عليه، وأن تجعله على الأقل كما كان أبو طالب، فمع أنه ما كان مؤمناً لكنه ما كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان يمدحه ويثني عليه ويدفع عنه ويقول: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً تالله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفيناً كان يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأنزل الله عز وجل هذه السورة في أبي لهب لفرط عداوته، والبلوى أنه ما كان وحده، وإنما كانت تعينه زوجه التي هي مثله في الخبث، وصدق الله إذ يقول: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26].(24/22)
خسارة أبي لهب وهلاكه
قال الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
(تبت): من التباب، والتتبيب: هو الخسار والهلاك، كما قال الله عز وجل: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37]، وكما قال الله عز وجل: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود:101]، أي: خسار وهلاك.
فمعنى: (تبت): خسرت وهلكت يداه، وأبو لهب كله خاسر هالك، لكن الله عز وجل خص يديه بالذكر؛ لأن اكتساب الأعمال في الغالب يكون بهما، فهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
وقال بعض أهل التفسير: إن الله عز وجل ذكر يديه الخبيثتين لأنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: تباً لك سائر اليوم، ما اكتفى بالكلمة القبيحة وإنما أخذ حجراً يريد أن يرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم الله عز وجل عليه بالخسار.
وتبت الأولى في قوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، دعاء وتب في آخر الآية: خبر، فكأن الله دعا عليه بالهلاك والخسار، ثم قال: وقد هلك وخسر.
أما أبو لهب فهو عبد العزى بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت كنيته أبو عتبة، وكني بـ أبي لهب إما لحسنه وإشراقه كما يقولون، فقد كان حسن الوجه وضيئاً، أو أن الله عز وجل كناه، كما يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: كناه الله بهذه الكنية من باب الدلالة على أنه ملتجئ إلى جهنم، فهو جهنمي، واسمه له نصيب من مصيره.
وقال أهل التفسير: كان النبي صلى الله عليه وسلم له أربعة أعمام: اثنان مسلمان واثنان كافران، أما المسلمان فـ حمزة والعباس، وأما الكافران فـ أبو لهب وأبو طالب، وكلاهما على غير أسماء المسلمين، أما أبو لهب فكان اسمه عبد العزى وأما أبو طالب فكان اسمه عبد مناف.(24/23)
تفسير قوله تعالى (ما أغنى عنه ماله وما كسب)
وأبو لهب هذا كما قال المفسرون: كناه الله عز وجل بذلك لا تكريماً له، وإنما كراهية أن يذكر باسمه؛ لأن اسمه قبيح.
قال الله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2].
(ما) نافية، أي: ما دفع عنه ماله التباب ولا منع عنه الهلاك، كما قال الله عز وجل: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:11] ويقول الواحد من أهل جهنم: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، وقال الله: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية:10].
والمراد بـ (ماله) في قوله: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2] المال التالف القديم الذي ورثه عن أبيه عبد المطلب.
قوله: (وما كسب) أي: ما اكتسبه بكده وعرقه، وقيل: (وما كسب) هنا أي: الأولاد؛ لأن أبا لهب كان يسخر ويقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً أن هناك قيامة وناراً فإني سأفتدي من عذاب النار بمالي وولدي، قد قال الله عز وجل: {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3] وقول الله عز وجل: (وما كسب) يمكن أن ينطبق فعلاً على الولد؛ لأن الحديث خرجه أبو داود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه)، قالوا: ومما يدل على ذلك أن بني أبي لهب بعد سنين طويلة كانوا مختصمين فجاءوا إلى ابن عباس ليحكم بينهم، فاقتتلوا في أثناء عرض القضية على ابن عباس اقتتلوا، فقام ابن عباس ليحجز بينهم فدفعه أحدهم فطرحه على الفراش، فغضب ابن عباس وقال: أخرجوا عني الكسب الخبيث، هؤلاء الأولاد.(24/24)
تفسير قوله تعالى (سيصلى ناراً ذات لهب)
قال الله عز وجل: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3].
تقدم معنى هذا اللفظ في قول الله عز وجل: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:4] وفي قول الله عز وجل: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:12] فـ (سيصلى) السين للتحقيق، ومعنى: (سيصلى) سيدخل، ويقاسي حر نار شديدة.
قوله: (سيصلى ناراً) التنوين للتعظيم؛ لأنها نار فوق مدارك العقول، ومعنى: ((ذَاتَ لَهَبٍ)) [المسد:3] أي: ذات شرر وإحراق شديدين.(24/25)
تفسير قوله تعالى (وامرأته حمالة الحطب)
قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4].
قوله: (وامرأته) أي: زوجه، كما قال الله عز وجل: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] أي: زوجه، وكما قال الله عز وجل: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:71] أي: زوجه، وامرأة أبي لهب هي العوراء أم جميل بنت حرب، واسمها أروى، ويقال لها: العوراء،، وأم قبيح كما قال ابن العربي رحمه الله، وهي أخت أبي سفيان بن حرب، ولذلك كان معاوية يمزح مرة مع عقيل، فقال: هذا عقيل بن أبي طالب وعمه أبو لهب، فقال له عقيل وهذا معاوية بن أبي سفيان وعمته حمالة الحطب، يعني: نحن تساوينا، فالله عز وجل ذكر هذه المرأة وكانت شريرة كزوجها بل أشد.
قوله: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4] وصفها الله بقوله: (حمالة الحطب) قيل: لأنها عيرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفقره وكانت غنية، فعيرها الله عز وجل بأنها مع غناها بخيلة، ومن بخلها أنها تحمل الحطب، يعني: لا تكلف أحداً أن يأتيها بالحطب، بل تذهب له بنفسها لشدة بخلها.
فقوله: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4] هذه لعنة من الله عليها، وذلك لأنها كانت تأخذ شوك السعدان والإبالة وما أشبه ذلك من الأذى وتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من أجل أن تدمي رجليه صلوات الله وسلامه عليه.
وقيل: وصفت بـ (حمالة الحطب)؛ لأنها كانت لمامة أو قتاتة، أي: تسعى بالنميمة بين الناس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام)، وقال الله عز وجل: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11].(24/26)
تفسير قوله تعالى (في جيدها حبل من مسد)
قال الله تعالى: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:5].
معنى (في جيدها) أي: في عنقها ومعنى (حبل): وهو ما يوصل به بين الأشياء، فقوله: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:5] أي: حبل من ليف اليمن، وهو ليف شديد غليظ، قالوا: ومناسبة الآية: أنها كانت لها قلادة فاخرة غالية، فكانت تقول: واللات والعزى لأنفقنها في حرب محمد، فأبدلها الله عز وجل مكان هذه القلادة في النار حبلاً من ليف تسحب به في نار جهنم حتى تبلغ قمتها، ثم تطلق فتبلغ قعرها وأسفلها، هكذا يفعل بها في النار.(24/27)
مسائل مفيدة في سورة المسد
وههنا مسائل: المسألة الأولى: قال أهل التفسير: هذه السورة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها نزلت وأبو لهب حي، فأخبر الله عز وجل بأنه من أهل النار، وأنه سيصلى ناراً ذات لهب، وفعلاً مات أبو لهب على الكفر، وكان يملك أن يكذب القرآن بأن يقول: من أجل أن أعلمكم بأن محمداً كاذب، هأنذا أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، فكيف أذهب إلى النار، لكنه ما استطاع صرف نفسه عما هو عليه من الكفر؛ ليتحقق وعد الله.
المسألة الثانية: دلت هذه السورة على أن النسب لا يغني عن صاحبه من الله شيئاً، وإذا فسد العمل فلا ينفع النسب كما قال بعضهم: لقد رفع الإسلام سلمان فارس كما حط الكفر الشريف أبا لهب فـ سلمان رضي الله عنه من أبوه؟ من يعرف أباه؟ لا نعرف إلا أنه سلمان الفارسي أبو عبد الله رضي الله عنه، ومع ذلك نحبه ونجله ونترضى عليه، وأبو لهب نعرف نسبه وشرفه وأنه مكي قرشي هاشمي ومن بني عبد المطلب، ومع ذلك إذا ذكرناه قلنا: لعنه الله.
قال الله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101].
فالنسب لن يغني، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا صفية يا عمة رسول الله! اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس يا عم رسول الله! اعمل فإني لا أغني عنك من الله شيئاً).
ولذلك نقول: هذه السورة سيف مصلت على كل رجل وامرأة سلك سلوك أبي لهب وامرأته، وصد عن الإسلام صدودهما، وجحد جحودهما، وعادى الله ورسوله كعداوتهما، فكم في أيامنا من آباء لهب وأمهات لهب، ممن احترفوا عداوة الله ورسوله، وإنما ذلك كما قال الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9].
كم من الناس يدعون إلى مذاهب وضعية، وكم من يعادي شريعة رب البرية، فهؤلاء نقول لهم: لن ينفعكم أنكم شرفاء أو أشراف، أو أنكم تنتسبون إلى بيت معين، فلن يغني عنكم ذلك من الله شيئاً.
المسألة الرابعة: هذا الرجل من إيغاله في العداوة كان قد زوج ابنيه عتبة وعتيبة من بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقية وأم كلثوم، فلما نزلت هذه السورة أمر ولديه بأن يطلقا بنتي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليثقل كاهله ويزيده هماً وغماً.
ثم بعد ذلك كان الولد شراً من أبيه في العداوة، فأراد أن يخرج مع أبيه في سفر فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل أن يأتي قال لأبيه: لآتين محمداً ولأوذينه في ربه، فجاء فبصق على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا محمد أنا كافر بالذي دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) فرجع الولد إلى أبيه وقال: يا أبت لقد أتيت محمداً فآذيته في ربه فقال: يا بني وما قال لك؟ قال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، قال أبو لهب: فاحذر يا بني، فإني لا آمن عليك دعوة محمد، فلما خرجوا في ذلك السفر، جمع أبو لهب التجار لما جن عليهم الليل وقال لهم: لقد علمتم أن محمداً دعا على ابني دعوة لا آمنها عليه، فلا تدعوه وحده وافرشوا حوله، ففعل القوم ذلك وجعلوه في الوسط، يقول هبار بن الأسود وهو يحكي هذه القصة بعدما أسلم: فلما انتصف الليل جاء سبع فشم وجوهنا جميعاً، طبعاً هم رأوه لكن كل منهم يصور نفسه أنه نائم، قال: فلما لم يجد بغيته وثب في وسطنا، وأخذ عتبة من بيننا ثم هزمه هزمة فسخ فيها رأسه، فجاب رأسه نصين، قال: فلما أخبرنا أبا لهب قال: لقد علمت أن دعوة محمد لا تخطئ، فهكذا كان يقول.
المسألة الأخيرة: كيف كانت خاتمة هذا الخبيث؟ نعوذ بالله من سوء الختام، ومن خزي الدنيا وعذاب الآخرة، هذا الرجل لما خرج المشركون لمعركة بدر ما خرج معهم وإنما بعث مكانه العاص بن هشام، ثم بعد ذلك جلس في مكة ينتظر الأخبار، فجاء من يحمل الأخبار فقال أبو لهب ماذا صنعتم؟ قال: واللات والعزى ما إن لقينا محمداً وأصحابه حتى منحناهم أكتافنا، يقتلونا ويأسرون، وكان معهم رجال ذوو ثياب بيض على خيل بلق ما رأيتهم قبل ذلك أبداً.
وكان هناك واحد اسمه: أبو رافع، وهو غلام للعباس، فرفع خباءه وقال وهو فرح: هؤلاء هم الملائكة، فعمد عدو الله أبو لهب إلى هذا الغلام فضربه ضربة حتى شجه شجة منكرة، يقول أبو رافع: فشاورته -يعني: صارعته- لكني كنت شخيصاً ضعيفاً فطرحني أرضاً وقعد على صدري، فعمدت أم الفضل -التي هي زوجة العباس - إلى عمود فسطاطها -أي: عمود خيمتها- فضربته على رأسه فشجته وقالت له: استضعفته أن غاب سيده؟! قال: فقام يلعق جراحه، ولم يعش بعد معركة بدر سوى سبعة أيام.
وابتلاه الله عز وجل بالعدسة، والعدسة: غدة معدية كانت العرب تخاف منها، فهلك بها، فلما هلك تركه أولاده حتى أنتن، فجاءهم بعض رجال قريش، فقال لهم: أما تستحون؟ ألا تسترون أباكم؟ قالوا: قد علمت ما أصابه، وإنا نخشى العدوى، قال: هلم أعينكم عليه، فبدأوا يغسلونه من بعيد، يعني: مثلما تغسل سيارة أو حاجة من بعيد، فشروه بالماء ثم حملوه من أطراف فراشه، فأسندوه إلى جدار وغيبوه بالحجارة: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127].
قال العباس رضي الله عنه: أبا لهب بعدما مات بزمان فقلت: يا أخي ما لقيت بعدنا؟ قال: ما لقيت بعدكم إلا شراً، غير أني أسقى في كل يوم اثنين من نقرة إبهامي، شربة بعتاقتي ثويبة، يعني: لما بشر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد ففرح بأن عبد الله أخاه الذي مات ولد له مولود ذكر فأعتق الجارية، فرحه هذا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ما ضيعه له الله عز وجل، فيسقى في كل يوم اثنين من نقرة، والنقرة: بين الإبهام والسبابة، فتأتي له كذا نقطة ماء يشربها، لو أعطوها لعطشان فلن تغن عنه شيئاً.
فما بالكم من حمالة الحطب التي مثواها النار، أعوذ بالله من الضلال ومن الخبال، ونسأل الله أن يتوفانا على الإيمان.(24/28)
تفسير من سورة الإخلاص إلى سورة الناس
سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن في الأجر والجزاء؛ لأنها اشتملت على صفة الله عز وجل؛ لذا على الإنسان أن يمعن النظر في تفسيرها، وأن يكثر من قراءتها؛ لما فيها من المعاني العظيمة، ومن الأجر العظيم والثواب الجزيل.(25/1)
فضل سورة الإخلاص
سورة الإخلاص يقال لها أيضاً: سورة (قل هو الله أحد)، وهذه السورة المباركة يحفظها المسلمون جميعاً صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، وقد جبلوا على حبها وقراءتها.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورة مع سورة: (قل يا أيها الكافرون) في الركعتين قبل صلاة الصبح، وفي الركعتين بعد صلاة المغرب، وفي ركعتي الطواف.
وهذه السورة المباركة قد اشتملت على أربع آيات فيها خمس عشرة كلمة، وستة وستين حرفاً.(25/2)
سبب نزول سورة الإخلاص
روى الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه: (أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! انسب لنا ربك؛ فأنزل الله عز وجل هذه السورة).
وقال عكرمة رحمه الله: لما قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وكل منهم قال: نحن نعبد إلهنا، فقالت اليهود: نحن نعبد عزيراً، وقالت النصارى: نحن نعبد المسيح، وقال المشركون: نحن نعبد الأوثان، وقالت المجوس: نحن نعبد الشمس والقمر؛ أنزل الله هذه السورة.
وقال الضحاك: بعثت قريش عامر بن الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول له عنهم: يا محمد! لقد شققت عصانا، وسفهت أحلامنا، وعبت دين آبائك، فانظر ماذا تريد؟ إن كنت فقيراً أغنيناك، وإن كنت مجنوناً داويناك، وإن كنت قد هويت امرأة زوجناك، فقال عليه الصلاة السلام: (لست بفقير، ولا مجنون، ولا هويت امرأة، وإنما أنا رسول الله إليكم أدعوكم لأن تعبدوه، وأن تخلعوا عبادة الأوثان) فرجع عامر بن الطفيل لما قال له النبي عليه الصلاة والسلام هذا فأرسله المشركون ثانية، وقالوا له: قل له: يا محمد! صف لنا إلهك، أمن ذهب هو؟ أم من فضة؟ أم من حديد؟ أم من خشب؟ أم من نحاس؟ فأنزل الله عز وجل هذه السورة.
فالمشركون لخفة أحلامهم، وقلة عقولهم، ما خطر ببالهم إلا الآلهة الباطلة التي يصنعونها بأيديهم من حديد أو من نحاس أو من خشب أو من ذهب أو من فضة، هذا هو الإله في تصوراتهم الباطلة.
فأنزل الله هذه السورة المباركة؛ ليثبت أنه الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي ليس له كفؤ، ولا شبيه ولا ند، ولا مثيل، لم يلد ولم يولد جل جلاله.(25/3)
ذكر بعض الأحاديث الواردة في فضل سورة الإخلاص
هذه السورة المباركة ورد في فضلها أحاديث كثيرة، وهي أحاديث صحاح ثابتة، منها: الحديث الأول: روى الشيخان البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً أميراً على سرية، فكان إذا صلى بهم يقرأ بـ (قل هو الله أحد)، فلما ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سلوه لمَ يفعل ذلك؟ فلما سألوه قال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحبها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فإن الله يحبك كما أحببتها).
الحديث الثاني: روى الإمام البخاري تعليقاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً كان يؤم الأنصار في مسجد قباء، وكان لا يصلي بهم صلاة إلا قرأ سورة وقرأ قبلها (قل هو الله أحد) -يعني: يقرأ (قل هو الله أحد)، ثم يقرأ بعدها بالسورة التي يريد- فقال له أصحابه: يا هذا! إنا نراك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترضى حتى تضم إليها أخرى، فإما أن تكتفي بها، وإما أن تقرأ سواها، فقال: والله! ما أنا بفاعل، فإن شئتم أممتكم، وإن شئتم تركتكم، فكرهوا أن يتركهم؛ لأنهم كانوا يرونه أفضلهم وأعلمهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يمنعك أن تطيع أصحابك فيما أرادوا؟! فقال: يا رسول الله! إني أحبها، فقال له صلى الله عليه وسلم: حبك إياها أدخلك الجنة).
ففي الحديث الأول: أن حبها سبب لمحبة الله.
وفي الحديث الثاني: أن حبها سبب لدخول الجنة.
الحديث الثالث: روى الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ (قل هو الله أحد)، ولم يزل يرددها حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يتقالها -يعني: أن هذا الرجل استغرب أن صاحبه ما قرأ من القرآن سوى (قل هو الله أحد)، من أول الليل إلى آخره يرددها- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! إنها لتعدل ثلث القرآن).
الحديث الرابع: روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احشدوا -يعني: اجتمعوا- فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، قال: فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: (قل هو الله أحد) ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني سأقرأ عليكم ثلث القرآن؛ إني لأرى هذا خبراً جاءه من السماء- يعني: ظنوا أنه سيخرج ويواصل- ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن).
أيها الأخوة الكرام! (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن، وللعلماء في ذلك تأويلات ثلاثة: التأويل الأول: أنها تعدل ثلث القرآن في حق من كان لا يحسن غيرها، كما هو حال بعض العجائز، وبعض الشيوخ الكبار.
التأويل الثاني: أنها تعدل ثلث القرآن، لو أن إنساناً قرأ ثلث القرآن ليس فيه (قل هو الله أحد).
التأويل الثالث: أنها تعدل ثلث القرآن باعتبار أجناس المعاني، فإن القرآن فيه ثلاثة معانٍ: التوحيد، والأحكام، والقصص والأخبار.
ولما كانت (قل هو الله أحد) مشتملة على التوحيد: توحيد الله عز وجل في أسمائه وصفاته، ونفي الشبيه والمثيل عنه جل جلاله، كانت هذه السورة تعدل ثلث القرآن.
قال الإمام ابن رشد رحمه الله في كتابه (البيان والتحصيل): وأجمع العلماء على أن من قرأ (قل هو الله أحد) لا يساوي أجره أجر من أحيا ليله بالقرآن كله.
يعني: فلا يظن إنسان أنه لو قرأ (قل هو الله أحد) ثلاثاً أن ثوابه كثواب من قرأ القرآن كله.
الحديث الخامس -وفيه بشارة عظيمة-: روى الإمام أحمد من حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ (قل هو الله أحد) عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! إذاً نكثر قصورنا، قال: الله أكثر وأطيب).
وجاءت رواية أخرى رواها الإمام مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ (قل هو الله أحد) عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة، ومن قرأها عشرين مرة بنى الله له قصرين في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرة بنى الله له ثلاثة قصور في الجنة، فقال له عمر بن الخطاب: إذاً تكثر قصورنا يا رسول الله! قال: الله أوسع وأطيب)، قال ابن كثير: وهذا مرسل جيد.
فالموفق من عباد الله يكثر من قراءة هذه السورة ولا يبالي؛ لأنها صفة الرحمن.
الحديث السادس: في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأوي إلى فراشه ليلاً حتى ينفث في يديه بـ (قل هو الله أحد) والمعوذتين، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده).
الحديث السابع: روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني قال: (لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده فقلت يا رسول الله! بمَ نجاة المؤمن؟ قال: يا عقبة! أخرس لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك، قال: ثم لقيني مرة أخرى، فابتدأني فأخذ بيدي، فقال: يا عقبة بن عامر! ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم؟ قال: قلت: بلى، جعلني الله فداك، قال: فأقرأني (قل هو الله أحد) و (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) ثم قال: يا عقبة! لا تنساهن ولا تبيت ليلة حتى تقرأهن، قال: فما نسيتهن وما بت ليلة قط حتى أقرأهن، قال عقبة: ثم لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده، فقلت: يا رسول الله! أخبرني بفواضل الأعمال، فقال: يا عقبة! صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك).
هذه جملة أحاديث صحاح في فضل هذه السورة المباركة، والموفق من عباد الله من أكثر من قراءة هذه السورة، فمن أراد أن تكثر قصوره في الجنة، ومن أراد أن يحبه الرحمن، ومن أراد أن يدخل الجنة، ومن أراد أن يعصمه الله من الشيطان، ومن أراد أن يزداد إيماناً وهدىً؛ فليكثر من قراءة هذه السورة التي تعدل ثلث القرآن.(25/4)
تفسير قوله تعالى: (قل هو الله أحد)
يقول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] (قل) مر نظيرها في {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وذكرنا أنها تعني: الاهتمام بما بعد فعل القول، والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الكفار: عامر بن الطفيل ومن كان معه ممن سألوك أن تنسب ربك، وأن تصف ربك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي: الله عز وجل واحد لا شريك له، قال أهل العلم: وكلمة (أحد) أبلغ من (واحد) وذلك من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن الواحد يدخل في الأحد، والأحد لا يدخل في الواحد.
الوجه الثاني: أن كلمة (أحد) تعني: النفي المطلق، فمثلاً: لو قلت: إن فلاناً لا يغلبه واحد، فمعنى ذلك: أنه يمكن أن يغلبه اثنان، لكن لو قلت: إن فلاناً لا يغلبه أحد، فقد نفيت الغلبة عنه تماماً.
الوجه الثالث: أن كلمة (واحد) تستعمل في الإثبات، وكلمة (أحد) تستعمل في النفي، فتقول: رأيت رجلاً واحداً، وتقول: ما رأيت أحداً.
وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] قال بعض أهل التفسير: تأملت الشرك فإذا هو من ثمانية وجوه: من ناحية الكثرة والعدد، ومن ناحية النقص والتقلب، ومن ناحية كونه علة أو معلولاً، ومن ناحية الشريك والضد.(25/5)
تفسير قوله تعالى: (الله الصمد)
قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] من أسمائه جل جلاله الحسنى الصمد، وهو فعل بمعنى مفعول، أي: المصمود الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها وهو لا يحتاج إلى أحد.
فمن أراد الغنى، ومن أراد العلم، ومن أراد الفهم، ومن أراد الحكم، ومن أراد النجاة، ومن أراد الأموال والأولاد فعليه أن يلجأ إلى الله عز وجل، ومن أصابه الضر فليلجأ إلى الله، كما قال سبحانه: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] أي: تلجأون إليه جل جلاله.
وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} قال ابن عباس في معنى اسم الله الصمد: (هو السيد الذي كمل سؤدده).
والشريف الذي كمل شرفه، والعظيم الذي كملت عظمته، والحليم الذي كمل حلمه، والحكيم الذي كملت حكمته، والعليم الذي كمل علمه، وهو سبحانه كما قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أحدية الله عز وجل دلت عليها كثير من نصوص القرآن، كقول الله عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163].
وقول الله عز وجل في سورة التوبة: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
وقوله في سورة إبراهيم: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم:52].
وقوله عز وجل في سورة الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22] وتكرر ذلك إلى آخر السورة.
وقوله عز وجل في سورة ص: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص:65 - 66].
وقوله عز وجل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] وهو ما يسميه العلماء: برهان التمانع، أو دليل التمانع.
وقوله عز وجل في سورة الإسراء: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:42 - 44].(25/6)
تفسير قوله تعالى: (لم يلد ولم يولد)
الإله الواحد جل جلاله يصف نفسه بأنه الصمد، ثم ينفي العلة والمعلول فيقول: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3].
و
السؤال
هل الإنسان يولد أولاً أم يلد؟ وهذا لا يحتاج إلى تفكير، فالإنسان يولد أولاً.
فلماذا قدم ربنا في الآية نفي كونه والداً على نفي كونه ولداً؟ قال العلماء رحمهم الله: قدمه لاعتبارين: الاعتبار الأول: أن الآية نزلت في الرد على المشركين من اليهود والنصارى والعرب، فاليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، والعرب قالوا: الملائكة بنات الله، فالله عز وجل قال: ((لَمْ يَلِدْ)) من أجل أن يرد على هؤلاء.
الاعتبار الثاني: أنه لم يوجد في الكون من نسب إلى الله عز وجل أنه مولود، لكن وجد من نسب إلى الله أنه والد، ولذلك قال سبحانه: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن مراراً، كقول ربنا سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116].
وقوله سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26].
وقوله سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:88 - 94].
وقال سبحانه: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158].
وأكثر من فتن به البشر وألهوه هو المسيح ابن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، هذا العبد الصالح الطيب المبارك الذي دعا إلى عبادة الله وحده فتن الناس به؛ لكونه من أم بلا أب، والله عز وجل نفى ألوهية عيسى عليه السلام بقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] فالمسيح بشر، يأكل الطعام، وتعتريه نوازع البشرية، فيحتاج إلى الخلاء للبول والغائط.
والمسيح عليه السلام بشر، أوذي كما يؤذى البشر، والله عز وجل لا يستطيع أحد أن يضره.
والمسيح عليه السلام شأنه كشأن آدم عليهما السلام، كما قال عز وجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:59 - 60].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) رواه الشيخان.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الرحمن ولداً، وأما تكذيبه إياي فقوله: ليس بقادر على أن يعيدني).
قال صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر على أذى من الله؛ ينسبون إليه الصاحبة والولد وهو يرزقهم ويعافيهم) ما أحلمه سبحانه وبحمده على عباده! كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (إني والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم ويتبغضون إلي بالمعاصي، فبي حلفت لأتيحنهم فتنة تدع الحليم فيهم حيراناً).(25/7)
تفسير قوله تعالى: (ولم يكن له كفواً أحد)
الله عز وجل يقول: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] أي: مكافئاً ومماثلاً ونداً وشبيهاً ونظيراً، وهذا كما قال سبحانه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] فليس لله عز وجل مثيل، وليس له شبيه، وليس له نظير.
وهذه السورة المباركة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب على تلاوتها في ركعتي الفجر، وفي الركعتين بعد صلاة المغرب، وفي ركعتي الطواف، وفي صلاة السفر، وفي صلاة الوتر، وفي غير ذلك من المواضع، وهذا يدل على أن لها شأناً وقدراً، نسأل الله أن يرزقنا الإيمان والعمل بها.(25/8)
ذكر ما ورد في فضل المعوذتين
نشرع الآن في تفسير سورة الفلق: سورة الفلق نزلت هي وسورة الناس معاً، واصطلح أهل التفسير وعلماء القرآن على تسميتهما بالمعوذتين، وقد وردت أحاديث في فضلهما معاً، ومن ذلك: ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط؟ قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس).
وروى الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: (بينا أنا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نقب من تلك النقاب إذ قال لي: يا عقبة! ألا تركب؟ قال: فأجللت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أركب مركبه، ثم قال: يا عقيب! ألا تركب؟ قال: فأشفقت أن تكون معصية، قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبت هنية، ثم ركب، ثم قال: يا عقيب! ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: فأقرأني (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس)، ثم أقيمت الصلاة، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بهما، ثم مر بي، قال: كيف رأيت يا عقيب؟! اقرأ بهما كلما نمت، وكلما قمت).
وروى الإمام البخاري عن أمنا عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه، طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه) لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ به الوجع والمرض أنه لا يستطيع أن يحرك يديه، فكانت أمنا عائشة رضي الله عنها هي التي تقرأ، وهي التي تنفث، ولكن من أدبها أنها لم تكن تمسح بيديها، وإنما كانت تأخذ يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمسح بهما؛ لأنها تعلم أنه لا أبرك ولا أفضل ولا أكرم منهما.(25/9)
تفسير قوله تعالى: (قل أعوذ برب الفلق)
قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] مقول القول محذوف، قدره بعض أهل العلم: قيل لي: قل.
وقال ابن القيم رحمه الله: التقدير: قيل لي هذا اللفظ فقلت كما قيل لي، قال: والسر في ذلك: أن يعلم الناس يقيناً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله، ينقل اللفظ كما هو، ولا يتصرف فيه بزيادة ولا نقصان، قال الله له: (قل) فنقلها (قل).
والخطاب في قوله تعالى: (قل) له ثم لسائر الأمة.
وقوله: ((قُلْ أَعُوذُ)) أي: ألتجئ وأستجير.
وقال بعض أهل العلم: من معاني الاستعاذة: اللصوق، ولذلك تقول العرب: أطيب اللحم أعوذه، أي: ما كان ملتصقاً بالعظم.
وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} قال أبو حيان: الفلق فعل بمعنى مفعول، فلق: بمعنى مفلوق، ومن معاني الفلق: الصبح؛ لأنه ينفلق من الليل.
ومن معاني الفلق كذلك: الجبال والصخور؛ لأنها تنفلق عن الماء، كما قال الله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة:74].
ومن معاني الفلق: الرحم؛ لأنه ينفلق عن الحيوان.
قال بعض أهل التفسير: المقصود بقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] جميع الخلق، والمعنى: أستعيذ برب الفلق جل جلاله من أربعة أشياء: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] وهذا فيه عموم، أي: من شر كل ذي شر خلقه الله عز وجل، من أنسي، أو جني، أو طير، أو دابة، أو سبع.
ثم بعد هذا العموم خصوص: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:3 - 5].(25/10)
تفسير قوله تعالى: (من شر ما خلق)
كلمة (من شر) تكررت أربعة مرات، قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: لأن المقام مقام ابتهال فناسب فيه التكرار، قصداً لإجابة الدعاء.
وهذا كما قال الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، إلى أن قال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41].
فكلمة: (ربنا) جعل يكررها؛ لأن المقام مقام ابتهال، يرجو به إجابة الدعاء.(25/11)
تفسير قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب)
قوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} الغاسق هو: الليل في قول جمهور المفسرين، وقد استعيذ بالليل لأنه مظنة الشرور؛ ففي الليل ينشط أهل الباطل، ويكثر اللصوص، وتنتشر السباع، وذوات السموم، والهوام، ويتعذر السير، وتعثر النجدة، ولا يبقى مغيث إلا الله.
وفي الليل كذلك ينتشر أهل الريبة وأهل الفساد، هذا كله يكون في الليل، ولذلك نستعيذ برب العالمين من شر الليل إذا وقب، أي: إذا دخل.
وفي القرآن الكريم قال الله عز وجل: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق:17 - 18] فالغاسق هو: الليل، وقيل: الغاسق هو: القمر إذا أظلم، فقد جاء في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة وأشار إلى القمر: (استعيذي بالله من شر الغاسق إذا وقب) أي: إذا أظلم.
فأهل الريبة كذلك ينتظرون غياب القمر، وذهاب ضوئه، من أجل أن يمارسوا فسادهم، وغيهم، وظلالهم.
قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} النفاثات: جمع نفاثة، وهن: النساء السواحر اللائي يعقدن عقداً ثم ينفثن فيها، وقيل: ليس المقصود النساء، وإنما المقصود: النفوس النفاثات، سواء كانوا رجالاً أو نساءً.(25/12)
تفسير قوله تعالى: (ومن شر النفاثات في العقد)
قوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} الغاسق هو: الليل في قول جمهور المفسرين، وقد استعيذ بالليل لأنه مظنة الشرور؛ ففي الليل ينشط أهل الباطل، ويكثر اللصوص، وتنتشر السباع، وذوات السموم، والهوام، ويتعذر السير، وتعثر النجدة، ولا يبقى مغيث إلا الله.
وفي الليل كذلك ينتشر أهل الريبة وأهل الفساد، هذا كله يكون في الليل، ولذلك نستعيذ برب العالمين من شر الليل إذا وقب، أي: إذا دخل.
وفي القرآن الكريم قال الله عز وجل: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق:17 - 18] فالغاسق هو: الليل، وقيل: الغاسق هو: القمر إذا أظلم، فقد جاء في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة وأشار إلى القمر: (استعيذي بالله من شر الغاسق إذا وقب) أي: إذا أظلم.
فأهل الريبة كذلك ينتظرون غياب القمر، وذهاب ضوئه، من أجل أن يمارسوا فسادهم، وغيهم، وظلالهم.
قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} النفاثات: جمع نفاثة، وهن: النساء السواحر اللائي يعقدن عقداً ثم ينفثن فيها، وقيل: ليس المقصود النساء، وإنما المقصود: النفوس النفاثات، سواء كانوا رجالاً أو نساءً.(25/13)
تفسير قوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد)
قوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] الحسد اسم الفاعل منه: حاسد، والحسد هو: تمني زوال النعمة عن الغير، وهو على درجتين كما قال أهل العلم: الدرجة الأولى: أن يتمنى زوال النعمة عن الغير، وانتقالها إليه.
الدرجة الثانية -وهي شر منها-: أن يتمنى زوال النعمة عن الغير، وإن لم تنتقل إليه، المهم أن تزول.(25/14)
مسائل متفرقة تتعلق بسورة الناس
قوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] الحسد اسم الفاعل منه: حاسد، والحسد هو: تمني زوال النعمة عن الغير، وهو على درجتين كما قال أهل العلم: الدرجة الأولى: أن يتمنى زوال النعمة عن الغير، وانتقالها إليه.
الدرجة الثانية -وهي شر منها-: أن يتمنى زوال النعمة عن الغير، وإن لم تنتقل إليه، المهم أن تزول.(25/15)
أهمية تعليم الأبناء كيف يرقي أحدهم نفسه
في هذه السورة مسائل: المسألة الأولى: ينبغي أن نعلم أولادنا كيف يرقي أحدهم نفسه بها، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه، ويحثهم على قراءة هذه السورة مع التي تليها إذا أصبحوا وإذا أمسوا، ودبر الصلوات المكتوبات، وعند النوم، هذا كله كان يفعله صلوات ربي وسلامه عليه.(25/16)
حكم الاستعاذة بغير الله
المسألة الثانية: اعلموا أنه لا يجوز الاستعاذة بغير الله، ولا يستعاذ إلا بالله رب العالمين، وقد عاب ربنا عز وجل على العرب استعاذتهم بغيره فقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] كان الرجل من العرب إذا نزل وادياً يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه، فيستعيذ بالجن من الجن والعياذ بالله!(25/17)
أركان الاستعاذة
المسألة الثالثة: الاستعاذة لها أركان ثلاثة: مستعيذ، ومستعاذ به، ومستعاذ منه.
أما المستعيذ: فأنا وأنت.
وأما المستعاذ به: فهو الله رب العالمين، الذي يعيذ من شاء من عباده، ويجيره، ويحميه، ويدفع عنه السوء.
وأما المستعاذ منه: فجميع الشرور والآثام، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، ويستعيذ بالله من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وغلبة الدين وقهر الرجال، وكان يستعيذ بالله من زوال نعمته، وفجأة نقمته، وتحول عافيته، وجميع سخطه.
وكان يستعيذ بالله من الكفر والفقر، ومن عذاب القبر.
وكان يستعيذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال، هذه كلها شرور نستعيذ بالله منها.(25/18)
ذكر قصة سحر لبيد بن الأعصم للنبي صلى الله عليه وسلم
المسألة الرابعة: قول الله عز وجل: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] هذه السورة كما قال أهل التفسير: مدنية، وقد نزلت لما سحر لبيد بن الأعصم اليهودي من يهود بني زريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكث عليه الصلاة والسلام مدة قيل: عشرين يوماً، وقيل: شهراً، وقيل: أربعين، مكث عليه الصلاة والسلام مطبوباً، لا يدري ما وجعه، فنزل عليه ملكان من السماء، جلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أحدهما: (ما بال الرجل؟ قال: مطبوب -أي: مسحور- قال: من طبه؟ -والملكان يتحاوران والنبي عليه الصلاة والسلام يسمع- قال: لبيد بن الأعصم من يهود بني زريق في مشط ومشاطة في جف طلعة نخل ذكر في بئر ذروان) يعني: أن هذا الخبيث أخذ شيئاً من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشيئاً من أسنان مشطه الذي كان يرجل به شعره، ثم عقد في ذلك عقداً ونفث من طلاسمه، ورقاه، ثم بعد ذلك جعل هذا السحر في لفافة مع جف طلع نخل ذكر، ثم ألقاه في بئر من آبار المدينة، فالملكان كانا يتحاوران بهذا الكلام (فقرأا على رسول الله صلى الله عليه وسلم (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس)، ومسحاه بهما، فقام عليه الصلاة والسلام وكأنما نشط من عقال، وقال لـ عائشة: أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيه فيه، نزل عليَّ ملكان) وقص عليها الخبر.
ثم صحب جماعة من أصحابه وذهبوا إلى تلك البئر فنزحوها، فإذا ماؤها كنقاعة الحناء، وإذا طلعها كرءوس الشياطين، فأخرجوا تلك اللفافة، فوجدوا فيها إحدى عشرة عقدة، فطفق صلى الله عليه وسلم يقرأ: (قل أعوذ برب الفلق) فيها خمس آيات، و (قل أعوذ برب الفلق) فيها ست آيات، فمجوعها إحدى عشرة آية، وكان عليه الصلاة والسلام كلما قرأ آية يشعر بوخز في جسده، ثم تنحل عقدة فيشعر براحة، ثم يقرأ التي بعدها، فيشعر بوخز في جسده، ثم تنحل العقدة، فيشعر براحة، وهكذا حتى انحلت العقد جميعاً، فأمر بدفن ذلك السحر.(25/19)
حكم السحر
السحر كفر، وممارسة السحر كفر؛ لأن الله عز وجل قال: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، ولأن الله عز وجل قال: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
وقال سبحانه فيمن يتعاطاه: {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] أي: ما له نصيب، ولا ينفى الفلاح ولا ينفى الخلاق بالكلية إلا عمن كفر والعياذ بالله! فالساحر كافر.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً كان آخر عهده من الله).(25/20)
أهمية رقية الإنسان لنفسه
السحر يدفع بالرقية قبل أن ينزل، فالإنسان الذي لا يريد أن يصيبه سحر ينبغي دائماً أن يرقي نفسه في الصباح إذا أصبح، وفي المساء إذا أمسى، فبعد صلاة الصبح يقرأ (قل هو الله أحد) والمعوذتين ثلاثاً، وبعد صلاة المغرب يقرأ (قل هو الله أحد) والمعوذتين ثلاثاً، ويقرأ آية الكرسي دبر كل صلاة، فالإنسان إذا فعل هذا لا يصيبه سحر، ولا يؤثر فيه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ولو قيل: كيف أصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ف
الجواب
أن ذلك كان من باب التشريع والتعليم لأمته.
أي: من أجل أن يعلم أمته كيف يعالجون.(25/21)
حكم الذهاب إلى الساحر لفك السحر
لا يجوز في معالجة السحر الذهاب إلى الساحر، بل قال أهل العلم: من أصيب بالسحر فذهب إلى الساحر ليعالج السحر بالسحر فهو بمنزلة من يطهر الدم بالبول، فالإنسان إذا أصابه دم وصب على الدم بولاً، فإنه لا يزيده إلا نجاسة، فلا يجوز معالجة السحر بالسحر، وإنما السحر يعالج بالقرآن، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام.(25/22)
حد الساحر
يجب على إمام المسلمين أو الحاكم الذي له سلطة إذا ثبت على الإنسان أنه يمارس السحر أن يقتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حد الساحر ضربة بالسيف).
ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه).
وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) وذكر منها: (التارك لدينه المفارق للجماعة)، وقد علم أن الساحر تارك لدينه، مفارق للجماعة، فاعل للفساد، يمشي في الأرض لأذية المسلمين والمسلمات.(25/23)
سبب ذكر النفاثات دون النفاثين
قال أهل التفسير: إن الله عز وجل خص النساء بالذكر ههنا، كما خصهن بالذكر في القذف فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] وقد أجمع أهل العلم على أن الذي يقذف رجلاً بالزنا، أو بالفاحشة، أن حكمه حكم من يرمي امرأة لا بد أن يجلد، لكن خص الله النساء بالذكر لأن القذف في حقهن أضر؛ لأن الرجل إذا قذف ليس الضرر العائد عليه كما لو قذفت المرأة.
وههنا أيضاً الله عز وجل خص النساء بالذكر فقال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] قال المفسرون: لأن السحر في النساء أغلب، وممارسته بينهن أكثر، وهو من الكيد الذي ذكره الله في القرآن حين قال: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28].(25/24)
بيان أن الحسد أول ذنب عصي الله به
قال الله عز وجل: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5].
قال أهل العلم: الحسد أول ذنب عصي الله به في الأرض، وأول ذنب عصي الله به في السماء، أما في السماء فلما حسد إبليس آدم وقال: أنا خير منه، وأما في الأرض فحين حسد قابيل هابيل فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله، فأصبح من الخاسرين.(25/25)
الحسد يسبب الكبائر
الحسد -والعياذ بالله- قد يحمل الإنسان على الكفر بالله، وقد يحمل الإنسان على قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقد يحمل الإنسان على أذية من لا يجوز له أذيته، وهذا ظاهر أيها الأخوان! فاليهود ما كفروا إلا حسداً، كما قال الله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] يعني: يحسدون محمداً صلى الله عليه وسلم، فهذا عموم أريد به الخصوص.
وكذلك قال الله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، فالحسد يحمل على الكفر، والحسد يحمل على قتل النفس، والحسد يحمل على سائر الشرور والآثام.(25/26)
عظم ذنب الحسد
الحسد من كبائر الذنوب والعياذ بالله! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا -عباد الله- إخواناً).
وقال: (إياكم والحسد! فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب).
وقال: (دب إليكم داء الأمم من قبلكم: البغضاء والحسد، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين) أي: أن حسد المسلم المسلم، وبغض المسلم المسلم هذه هي الحالقة التي تحلق الدين، فإنك لو حسدت إنساناً على نعمة آتاه الله إياها، فإن حسدك هذا قد يحملك على أن تتكلم فيه بالباطل، وعلى أن تسلط عليه من يؤذيه، وعلى أن تتقول عليه ما ليس فيه، وهذا كله من الشر العظيم، والداء المستطير.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا: الحاسد بارز الله عز وجل من خمسة أوجه: أحدها: أنه كاره لقسمة الله، كأنه يقول له: يا رب! لمَ قسمت هذا؟ لمَ أعطيت فلاناً ومنعتني؟ هذا حال الحاسد والعياذ بالله! ثانياً: أنه ضاد فعل الله، فإن الله عز وجل قد أعطى فلاناً من فضله، وهذا كاره لفضل الله عز وجل على الناس.
ثالثاً: أنه خذل أولياء الله، أو هو يريد خذلانهم.
رابعاً: أنه أعان عدوه إبليس، والعياذ بالله! خامساً: هذا الحاسد قد اتصف بمساوئ الأخلاق، وتعرض لغضب الله عز وجل.
قالوا: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا في الخلوة إلا جزعاً وهماً، ولا من الملائكة إلا بغضاً ولعنة، ولا من الله إلا مقتاً وبعداً، ولا في الآخرة إلا ناراً واحتراقاً.
قال الحسن البصري رحمه الله: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد، نفس دائم، وحزن لازم، وعبرة لا تنقطع.
فالحاسد الحزن ملازم له، ودائماً كأنه يريد أن يبكي، وكلما رأى على إنسان نعمة كأن هذه النعمة قد قطعت من جلده، وكأنها قد سلبت منه، وأعطيت لفلان هذا، ولذلك تجده دائماً في غم وهم.
قل للحسود إذا تنفس صعدة يا ظالماً وكأنه مظلوم فهو ظالم وفي الوقت نفسه يظهر وكأنه مظلوم.(25/27)
الفرق بين الحسد والعين
يوجد فرق بين الحسد العين، قال العلامة الشيخ: عطية محمد سالم رحمه الله: ولم أجد من فرق بينهما مع وجود الفارق.
والفرق بين العين والحسد من وجوه: الوجه الأول: أن الحاسد -والعياذ بالله- قد يحسد شيئاً لم يره, وقد يحسد نعمة لم تحصل، فيحسد نعمة متوقعة، كما قال الله عز وجل: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح:15]، والغنائم لم تأت بعد، {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح:15].
أما العين فإنها لا تكون إلا لشيء موجود يراه الإنسان.
الوجه الثاني: أن الحسد -والعياذ بالله- لا يصدر إلا من نفس رديئة، وروح خبيثة، أما العين فقد تصدر من الصالح، وقد تصيب هذه العين من تحب، يعني: أحياناً الإنسان قد يصيب زوجته، أو يصيب ولده، أو يصيب ماله.
مثلاً: يرى سيارته وهي بهية جميلة، وقد غسلت، ونظفت، وجملت، فينظر إليها نظرة إعجاب ولا يذكر الله عز وجل فيخرج في الطريق، فلا يمشي إلا قليلاً حتى يصيبها العطب، أو يحصل لها حادث، أو غير ذلك.
أو يرى ولده يتكلم بلسان فصيح، أو أنه ذكي، أو أنه يحسن التصرف، أو أنه بار ونحو ذلك، فينظر إليه بإعجاب ولا يذكر الله، فيصيبه بالعين.
فالإنسان قد يصيب ولده، وقد يصيب ماله، وقد يصيب زوجه، ولذلك ذكر الله عز وجل هو العاصم، وقد حصلت العين حتى من بعض الصحابة، فقد روي الإمام مالك في الموطأ عن أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بأن يتبعه إلى مكان إلى مهمة، فدخل رضي الله عنه يتوضأ، وكان رجلاً حسناً مليحاً، أي: أن سهلاً رضي الله عنه رزقه الله ملاحة وجمالاً وحسناً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فلما دخل يتوضأ رضي الله عنه وكشف عن جلده قال أحد الصحابة -وهو: عامر بن ربيعة وكان من المهاجرين- ما رأيت كاليوم جلداً قط ولا كأنه جلد مخبأة، والمخبأة: الفتاة العذراء التي دائماً تبقى في البيت لا تخرج، فجلدها يكون ناعماً؛ لأنها ما عانت حراً ولا قراً، فـ عامر بن ربيعة قال: ما رأيت كاليوم جلد قط كأنه جلد مخبأة، قال: فلبط سهل في مكانه، أي: لم يقم، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه، ولما نظر إليه عرف، قال له: (من تتهم؟ قال: أتهم عامر بن ربيعة، فإنه قال كذا، وكذا، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب إلى عامر، فقال له: هلا بركت؟) يعني: هلا قلت: ما شاء الله، تبارك الله، أو ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، (علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! اغتسل له).
فإذا عرف أن فلاناً هو الذي أصاب بالعين فإنه يؤمر بأن يغسل يديه، ووجهه، ورجليه، وركبتيه، وداخلة إزاره، ثم يؤتى بهذا الماء، فيصب على المعين؛ فإنه يبرأ بإذن الله.(25/28)
الرد على من ينكر وقوع العين
بعض الفلاسفة أنكر وقوع العين، فقالوا: هذا غير معقول! كيف أن إنساناً يعاين الثاني فيقع؟! قال ابن القيم رحمه الله: وهؤلاء من أخف الناس عقولاً، وأكسفهم طباعاً، وأقلهم علوماً.
أي: أن الذي ينكر العين إنسان ليس عنده عقل.
قال الشيخ عطية رحمه الله: وهم محجوجون بكل موجود في الكون غير محسوس، يعني: أن عقولنا موجودة لكن أين هي؟! وأرواحنا موجودة لكن أين هي؟! وهذه الأشعة التي تستخدم في التقاط الصور الباطنة في باطن جسد الإنسان كيف هي؟ فلو أن الإنسان أصابه كسر أو أصيب بشيء في باطنه، فإنهم يوقفونه أمام جهاز ثم في لمح البصر هذا الجهاز ينقل ما في الداخل بصورة، وهذا كله الآن اخترعه البشر، وهو غير محسوس.
فالعين حق كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين)، وقال: (وإن العين لتدخل الرجل القبر)، وقال: (أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله بالعين) فالعين حق، يقول بعض أهل العلم: إن الإنسان العائن إذا رأى الشيء وأعجبه تخرج من عينه قوة سنية تخترق الشيء المعين، يعني: مثل أشعة إكس الآن، فالعائن تخرج من عينه هذه الأشعة، لكنها سنية، فتخترق الشيء المعين، فيحدث الأثر بإذن الله، فقد يمرض، وقد يموت، وقد يحصل له خلل في تفكيره، وفي ذهنه، وهذا موجود الآن، فكثير من الطلاب يقول: أنا كنت جيد الفهم، مقبلاً على الدرس، وأجد راحة في المذاكرة، وفجأة صرت كلما أفتح الكتاب أغلقه ولا أستطيع أن أفهم، وربما لا أرى السطور، وهذا غالباً يكون من العين؛ لأن هذا الطالب لم يعتن بالأذكار الشرعية، ولم يعتن بأداء الصلوات في أوقاتها، ولذلك أصابه ما أصابه، وإذا أراد الله أمراً هيأ له الأسباب.(25/29)
أسباب الحسد
أسباب الحسد سببان: السبب الأول: إعجاب الحاسد بنفسه.
ثانيها: ازدراء المحسود.
يعني: أن الحاسد يرى نفسه أهلاً لكل نعمة، وأنه كان حقيقاً بهذا الفضل الذي أوتيه فلان، فيرى أنه هو أولى به منه، فيعجب بنفسه، وفي الوقت نفسه يزدري المحسود، فيقول: من هذا حتى يؤتيه الله مالاً؟! ومن هذا حتى يؤتيه الله علماً؟! ما قيمته؟ ما وزنه؟ ما أصله؟ ما فصله؟ من أبوه؟ كما قال إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12] باعتبار الأفضل، {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] وهذا إعجاب بالنفس وازدراء للمحسود، كما قيل: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالناس أعداء له وخصوم فالإنسان إذا رأى إنساناً في نعمة فكره هذه النعمة، فهذا حاسد والعياذ بالله!(25/30)
علاج الحسد
علاج الحسد في أمرين اثنين: الأمر الأول: العلم.
الأمر الثاني: العمل.
أما العلم فبأن تعلم أن أقدار الله سلفت، وأن الأرزاق قد قسمت، وأن الله عز وجل قسمها بحكمته وعلمه جل جلاله، كما قال في القرآن: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32]، والكفار الأولون لما جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم جحدوها حسداً، كما قال عز وجل عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: أن محمداً فقير مسكين، فكيف يكون نبياً ونحن أغنياء، وعندنا الأموال، وعندنا البساتين، ولا يكون الواحد منا نبياً؟ وبعضهم حسده لأنه صغير في السن، كـ أبي بن خلف قال: أنا شيخ كبير، وإني أستحي من أن أتبع هذا الغلام القرشي! قال هذا ازدراءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ألا قل من كان لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في ملكه حيث لم ترض لي ما وهب ثانياً: العمل، بمعنى: أنك تحاول أن تكسر من حدة نفسك، فلو أنها حدثتك بازدراء إنسان فارفع من قدره، وأنزله منزلته، ولو أن نفسك حدثتك بتمني زوال النعمة عن الغير، فسل الله من فضله أن يعطيك مثلما أعطاه؛ فإنه سبحانه فضله عظيم، وخيره عميم.
ثم أيضاً لو أن نفسك حدثتك بأن تسوق إليه أذى، فكف هذه النفس وداوها.
والحسد جائز إذا كان حسداً على أمر ديني، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس).
يعني: لو رأيت إنساناً صلاته حسنة وتمنيت أن أفعل مثلما يفعل، فلا بأس، ولو أني رأيت إنساناً يقرأ القرآن بصوت ندي، فتمنيت أن يعطيني الله مثلما أعطاه، فلا بأس، ولو وجدت إنساناً غنياً ذا مال، وهو ينفق ذات اليمين وذات الشمال في مرضات الله، فتمنيت أن أعطى مثلما أعطي فلا بأس، أسأل الله سبحانه أن يداوي أمراض قلوبنا.(25/31)
فضل سورة الناس
نشرع في تفسير سورة الناس، هذه السورة مدنية، اشتملت على ست آيات، في عشرين كلمة، وتسعة وسبعين حرفاً، فمن وفقه الله عز وجل لقراءة هذه السورة، فله من الحسنات سبعمائة وتسعون حسنة.(25/32)
حكم تكرار سورة واحدة في ركعتين
قبل أن ندخل في تفسير هذه السورة المباركة، أنبه على مسألة وهي: أنه في صلاة المغرب قرأ الإمام بسورة الناس في الركعة الأولى، وقرأ بسورة الناس في الركعة الثانية، وقد ظن بعض الإخوان أن هذا سهو وقع من الإمام، ولكن حقيقة الأمر أنه فعل ذلك عمداً، من أجل أن ينتبه الناس إلى سنة، وهي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بسورة الزلزلة في ركعتين) يعني: قرأ في الركعة الأولى: (إذا زلزلت)، وقرأ في الركعة الثانية: (إذا زلزلت).
وكذلك مر معنا في تفسير سورة الإخلاص الحديث المروي في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً كان يؤم الأنصار في مسجد قباء، فكان إذا صلى افتتح بـ (قل هو الله أحد)، ثم يضم إليها سورة أخرى، فقال له القوم: إنا نراك تفتح بهذه السورة ثم لا ترضى حتى تضم إليها أخرى، فإما أن تقرأها وحدها، وإما أن تقرأ غيرها، فقال: والله! ما أنا بفاعل، إن شئتم أممتكم، وإن شئتم تركتكم، فكرهوا أن يتركهم؛ لأنهم كانوا يرونه من أفضلهم، فشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله النبي عليه الصلاة والسلام: ما يمنعك أن تفعل كما يأمرك أصحابك؟ فقال: يا رسول الله! إني أحبها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: حبك إياها أدخلك الجنة).
فالشاهد: أن هذا الرجل كان يقرأ (قل هو الله أحد) في كل ركعة، ولم ينكر عليه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
والإمام البخاري رحمه الله في كتاب الصلاة بوب باباً بعنوان: باب قراءة سورة في ركعتين، وأورد في ذلك أحاديث، ثم قال: وسئل قتادة عمن قرأ في ركعة بسورتين، وعمن ردد سورة في ركعتين، فقال قتادة: كلٌ كتاب الله يعني: أن ذلك داخل في عموم قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20].(25/33)
تفسير قوله تعالى: (قل أعوذ برب الناس)
يقول ربنا جل جلاله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمفعول محذوف تقديره: قيل لي: (قل)، أو تقديره: قيل لي هذا اللفظ، فقلت كما قيل لي.
وأعوذ أي: أعتصم وأستجير.
وقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] رب الناس: مدبرهم وخالقهم، ورازقهم جل جلاله.
وكلمة الناس هي من أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، وسمي الناس ناساً إما من النسيان، وإما من الأنس، وإما من النوس، وهو: التحرك والتردد.(25/34)
تفسير قوله تعالى: (ملك الناس)
قال تعالى: {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:2] أي: حاكمهم، والمتصرف فيهم.
قال العلامة الشيخ عطية رحمة الله عليه: ملك ملوك الدنيا ملك سياسة ورعاية لا ملك تملك وتصرف، أما ملك الله عز وجل فهو ملك خلق وإيجاد وتصرف، كما قال سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49].
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:189].
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية:27]، فهو سبحانه مالك كل شيء.(25/35)
تفسير قوله تعالى: (إله الناس)
قال تعالى: {إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:3] أي: معبودهم جل جلاله، وإله بمعنى: مألوه، أي: أنه المعبود المطاع سبحانه وتعالى.
قال ابن كثير رحمه الله: وهذه الصفات الثلاث فيها تدرج، فإن الله عز وجل قال: (رب الناس) وهذا يقر به الجميع، حتى مشركو العرب كانوا يقرون بأن الله ربهم وخالقهم ورازقهم.
ثم ترقى إلى أنه ملك الناس جل جلاله، المتصرف فيهم، ثم نتيجة الربوبية والملك أنه سبحانه ينبغي أن يكون هو المألوه، المعبود وحده، فلا يعبد معه غيره.
ويقول صاحب أضواء البيان رحمه الله: بين هذه السورة وسورة الفاتحة رباط بديع؛ فإن في سورة الفاتحة هذه الصفات الثلاثة، ففي مقابل قوله سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
وفي مقابل قوله سبحانه: {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:2] قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وهو مالك الأيام كلها.
وفي مقابل قوله سبحانه: {إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:3] قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
قال: فتكون الخاتمة كالبداية من باب عود على بدء، وكأن أول المصحف وآخره موضوعهما واحد، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].(25/36)
تفسير قوله تعالى: (من شر الوسواس الخناس)
قال تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] الوسواس من الوسوسة، وهي: الحديث الخفي، والوسواس هو: الشيطان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن، قالوا: حتى أنت يا رسول الله! قال: حتى أنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم).
وقوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] الخناس: من خنس إذا اختفى، فالخناس أي: المختفي، وفي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، فإذا غفل وسوس) فالشيطان نهاز فرص، ينتظر غفلة من الآدمي، فيوسوس له بكل شر، ولذلك سماه الله عز وجل: (الوسواس الخناس).(25/37)
تفسير قوله تعالى: (الذي يوسوس في صدور الناس)
قال تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:5] الله عز وجل ذكر الصدور؛ لأنها سياج القلوب، والشيطان جاثم عليها.
والصدور -كما يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله-: هي التي يعبر بها عن حالة النفس، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56].
وقال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في الصدر، وتردد في القلب، وكرهت أن يطلع عليه الناس).(25/38)
تفسير قوله تعالى: (من الجنة والناس)
قال تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6] الموسوس على نوعين: نوع موسوس من الجِنة، وهم: الجن، وسموا جناً لاجتنانهم؛ لأنهم مستورون لا يرون، والموسوس الثاني من الناس، ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد فجلست، فقال: يا أبا ذر! هل صليت؟ قلت: لا يا رسول الله! قال: قم فصل، فصليت ثم أتيته، فقال: يا أبا ذر! تعوذ بالله من شياطين الإنس، قلت: يا رسول الله! أو للإنس شياطين؟ قال: بلى، قلت: يا رسول الله! فما الصلاة؟ قال: خير موضوع، من شاء أقل ومن شاء أكثر، قلت: يا رسول الله! فالصوم؟ قال: فرض مجزئ وعند الله مزيد، قلت: يا رسول الله! فالزكاة؟ قال: أضعاف مضاعفة، قلت: فما أفضلها، قال: جهد من مقل أو سر إلى فقير، قلت: يا رسول الله! فأي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم، قلت: ونبي كان؟ قال: نعم، نبي مكلم، قلت: يا رسول الله! فأي كتاب الله أعظم؟ قال: آية الكرسي: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))).
فهناك من يوسوس من الجنة، وهناك من يوسوس من الناس.(25/39)
مقارنة بين سورتي: الفلق والناس
هذه السورة والسورة التي قبلها نزلتا معاً، وهناك ذكر ربنا صفة واحدة لنفسه، وهي: أنه رب الفلق، وذكر الاستعاذة من أربعة أشياء: من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد.
وهنا ذكر ربنا لذاته ثلاث صفات: رب الناس، ملك الناس، إله الناس، والمستعاذ منه شيء واحد: الوسواس الخناس، قالوا: لأن في السورة السابقة تلك كلها مضرتها في الدنيا، فالحاسد، والساحر، والليل أو القمر إذا غاب، أو شرور المخلوقات عموماً كلها ضررها في الدنيا، أما هذا فضرره يتعدى إلى الآخرة.
هذا أمر.
الأمر الثاني: أن تلك ظاهرة يستطيع الإنسان أن يتقيها، وأن يحترز منها، أما هذا الوسواس الخناس فإنه خفي غير ظاهر، كما قال الله عز وجل: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]؛ ولذلك كانت الاستعاذة منه أعظم.(25/40)
سبب تقديم الجن على الناس في سورة الناس
في هذه السورة قدم الله عز وجل الجنة على الناس، وفي سورة الأنعام قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] فقدم الإنس على الجن، لماذا؟ قالوا: لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون من أن يتسلط عليهم الشياطين، لكن مخالطة خبثاء البشر لهم أكثر، يعني: شياطين الإنس أمثال: أبي جهل، وعقبة بن أبي معيط والوليد بن المغيرة المخزومي وأمثالهم؛ فإن هؤلاء كان ضررهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الشيطان الرجيم.(25/41)
ذكر بعض شرور الشياطين
كل شر في هذا الكون إنما هو من الشيطان قاتله الله، ومن شروره -عليه لعنة الله- أنه قد جعل الله له مدخلاً في جوف ابن آدم، ونفوذاً إلى عروقه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأيام معتكفاً في المسجد، فجاءت زوجه صفية رضي الله عنها، فجلست معه تؤنسه، فلما أرادت أن تنقلب إلى بيتها قام يشيعها، وهذا من مكارم أخلاقه صلوات ربي وسلامه عليه، فجاء رجلان من الأنصار الكرام عليهما من الله الرضوان، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه سواد امرأة أسرعا، فقال عليه الصلاة والسلام: (على رسلكما؛ إنها صفية زوجتي، فقالوا: سبحان الله! يا رسول الله!) يعني: لا يحتاج أن تبرئ ساحتك، أنت النبي، أنت الرسول، أنت المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلبيكما شراً فتهلكا) أي: يقذف في قلوبكم شك سوء نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون الكفر والعياذ بالله! يعني: أنه فعل ذلك حرصاً عليهما لا على نفسه صلوات الله وسلامه عليه.
ومن شر الشيطان أنه ملازم لك يا ابن آدم من المحيا إلى الممات، لا يفارقك، يعني: لا يكون عندك أمل بأن الشيطان سيموت ويريحك، جاء في بعض الآثار: (أن الشيطان لما طرد من الجنة قال: يا رب! أخرجتني من الجنة بسبب آدم وذريته، فأعطني، قال الله عز وجل: لا يولد لآدم ولد إلا ولد لك عشرة، قال: يا رب! زدني، قال الله عز وجل: جعلت صدورهم مساكن لك ولذريتك، قال: يا رب! زدني، قال الله عز وجل: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64]).
ومن شره قاتله الله: أنه يفسد على العبد عبادته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان إذا سمع الأذان أدبر وله ضراط، فإذا قضى أقبل) أي: إذا انتهى المؤذن يرجع الشيطان، (فإذا ثوب بالصلاة -أي: أقيمت الصلاة- أدبر، فإذا قضي رجع، حتى يخطر بين أحدكم وبين قلبه؛ يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، اذكر كذا، حتى ما يدري أصلى ثلاثاً أم أربعاً)، وهذا حاصل نكاد نراه.
ومن شر الشيطان قاتله الله: أن ابن آدم إذا نام عقد على قافيته ثلاث عقد، يقول له: عليك ليل طويل فنم، يعني: لا يريد له أن يقوم لصلاة ولا لذكر.
ومن شر الشيطان: أنه يبول في أذن ابن آدم حتى يصبح، لا يصلي بالليل ولا يذكر الله عز وجل، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل نام حتى أصبح فقال: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه).
ومن شر الشيطان: أنه يحاول أن يصرف ابن آدم عن العبادة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها: قعد له بطريق الإسلام قبل أن يسلم، قال: تسلم، وتذر دينك ودين آبائك، ودين أجدادك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، قال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك؟ فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، قال: تجاهد، وإنما الجهاد ذهاب المال والنفس؟ فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك كان حقاً على الله إن قتل أن يدخله الجنة، وإن مات أن يدخله الجنة، وإن وقصته دابته أن يدخله الجنة).
والشيطان رضي لنفسه أن يكون قواداً لبني آدم، كما قال عز وجل عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، وقال عز وجل: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17].(25/42)
مداخل الشيطان على ابن آدم
حصر ابن القيم شرور الشيطان في أمور ستة يتدرج بها لابن آدم، فإنه يحاول أن يوقعه في الشرك، والكفر بالله، وتلك غاية أمله، فإذا أشرك العبد أو كفر فإن الشيطان قد سكت أنينه، وخف حنينه، وقنعت نفسه ورضيت، فإنه يريد للناس جميعاً أن يكونوا مشركين، وأن يكونوا كفاراً بالله عز وجل.
فإذا لم يقدر على هذه انتقل إلى الثاني، فيوقع الإنسان في البدعة، التي هي بريد الكفر، فيوقعه في أن يشرع في الدين ما لم يأذن به الله، ويخترع من عنده.
فإذا لم يستطع أوقعه في كبائر الذنوب، كقتل النفس، والسرقة، والزنا، وقذف المحصنات الغافلات، وممارسة السحر، وما إلى ذلك.
فإن عجز عن هذه أوقعه في الذنوب الصغيرة، التي مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بجماعة خرجوا في سفر، ثم طلبوا حطباً ليوقدوا ناراً ينضجوا طعامهم، فجعل هذا يأتي بواحدة، وهذا يأتي بواحدة، حتى أنضجوا طعامهم، ثم قال: (إياكم! ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على العبد حتى يهلكنه).
فإن عجز عن هذه انتقل إلى الخامسة، وهي: أن يشغل الإنسان بالعمل المباح عن العمل الواجب، كملاعبة الزوجة والعيال مثلاً، فيشغله بهذا عن صلاة الفريضة في بيت الله عز وجل.
فإن عجز عن هذه الخامسة ينتقل إلى السادسة، وهي: أن يشغله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل، كما يفعل ببعض طلبة العلم، حيث يشغلهم بتحقيق بعض المسائل التي قد تكون من الفضول عن تبليغ الدعوة، والقيام بواجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو يشغل بعض الناس بقيام الليل، ثم ينيمهم عن صلاة الصبح، والفريضة أفضل من النافلة بغير شك.(25/43)
كيفية الوقاية من شر الشيطان
كيف نتقي شر الشيطان؟ الشيطان عدونا، فالنسيان الذي نقع فيه من الشيطان، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63]، وقال: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
والشيطان سبب لسائر الشرور، كما قال عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60]، وقال: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:19]، وقال سبحانه: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117].
فالشيطان عدو لأبينا وعدو لنا، فكيف نتقي شره؟ نتقي شره بعشر وسائل هي: الوسيلة الأولى: الإكثار من الاستعاذة منه، قال الله عز وجل: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:200 - 202]، فالاستعاذة بالله من الشيطان مطلوبة.
الوسيلة الثانية: قراءة هاتين السورتين العظيمتين: (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعوذ متعوذ بمثلهن قط).
الوسيلة الثالثة: قراءة سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة، سورة البقرة من قرأها في بيته نهاراً لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام، ومن قرأها في بيته ليلاً لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال.
الوسيلة الرابعة: قراءة آية الكرسي، وحديث أبي هريرة معروف لما وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفظ صدقة الفطر، فجاء الشيطان يحثو، وعلَّم أبا هريرة أن يقرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه، وقال: إنه لا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وإنه لكذوب).
الوسيلة الخامسة: قراءة خواتيم البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] لما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأهما في ليلة كفتاه).
وفي الحديث الذي رواه أبو داود والحاكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب كتاباً وهو عنده فوق العرش قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين هما: خواتيم سورة البقرة).
الوسيلة السادسة: قراءة أول سورة غافر: {حم} [غافر:1] إلى قوله تعالى: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3] مع آية الكرسي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ (حم) إلى قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مع آية الكرسي حين يصبح حفظ بها حتى يمسي، ومن قرأها حين يمسي حفظ بها حتى يصبح).
الوسيلة السابعة: ذكر الله عز وجل، فإن الذي لا يذكر الله يتمكن الشيطان منه، قال ربنا سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36].
الوسيلة الثامنة: المحافظة على الوضوء والصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم تتقد، ألا ترون إلى احمرار عينيه، وانتفاخ أوداجه؟ فأطفئوه بالماء) فالإنسان إذا غضب، وإذا ثارت قوته الغضبية أو قوته الشهوانية، فعليه أن يستعين بالله عز وجل على هذا الشيطان بالوضوء، فسواء ثار غضبك، أو ثارت شهوتك لما حرم الله عز وجل، فأطفئ ذلك بالماء.
الوسيلة التاسعة: ترك المعاصي، فعلى الإنسان أن يجتنب المعاصي كلها؛ لأن الشيطان لا سبيل له على عباد الله الصالحين.
الوسيلة العاشرة: ترك فضول النظر، وفضول الكلام، وفضول المخالطة، فعلى الإنسان أن يترك فضول النظر، فلا ينظر إلى كل شيء، بل يغض بصره، ويترك فضول الكلام، فلا يتكلم في كل شيء، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ويترك فضول المخالطة، فلا يخالط إلا من ينتفع به في دينه، أو دنياه، أو فيهما معاً.(25/44)
مقدمة الطهارة_وسائل التطهير_أنواع النجاسات
بين الفقهاء أحكام الطهارة وأقسامها وأنواعها، وبينوا وسائل التطهير، كما بينوا أحكام النجاسات وأنواعها وكيفية تطهيرها.
وتستمد الطهارة أهميتها من أهمية العبادات التي لا تصح ولا تقبل إلا بالطهارة.(26/1)
مقدمة في الطهارة(26/2)
تعريف الطهارة
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار.
وصلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد، ما اختلف الليل والنهار.
وصلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا لما تحب وترضى.
أما بعد: الطهارة في اللغة: هي النظافة، تقول: طهر الثوب من القذر، يعني: تنظف.
وأما في الشرع فهي: صفة اعتبارية أو معنوية قدرها الشارع شرطاً للصلاة.(26/3)
أقسام الطهارة وأهميتها
الطهارة تنقسم إلى طهارة ظاهرة وطهارة باطنة، فالظاهرة: تشمل تطهير البدن والمكان والثوب، والباطنة تشمل تطهير القلب بالإيمان واجتناب الشرك، والإنسان إذا لم يطهر باطنه أولاً فلا فائدة له من طهارة الظاهر.
فالنوع الأول من الطهارة: طهارة الباطن، أو الطهارة المعنوية أو الأصلية.
وعدم طهارة الباطن قد يطلق عليها: نجاسة، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، وقد يطلق عليها: مرض، كما في قوله: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) [الأحزاب:32].
وأمراض القلوب هي عبارة عن نجاسة معنوية، وهي تتدرج وتتفاوت، فمن أمراض القلوب الشرك، والشرك هو: أن تصرف شيئاً من العبادة لغير الله، أو أن تحب شيئاً من الأشياء كحب الله، أو تعتقد في أحد غير الله أنه يملك لك الضر أو النفع.
وهذا الشرك، إن لم يطهر الإنسان منه قلبه، فيا خسارته! قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
ومن أمراض القلوب أيضاً: الرياء، وهو: أن يعمل العبد العمل لا يريد به وجه الله، أو أنه يريد به وجه الله وغيره، فهذا هو: الرياء.
ومن أمراض القلوب كذلك: الحسد، وهو: تمني زوال النعمة عن الغير.
فهذه فالطهارة الباطنة نسميها الطهارة المعنوية، أو الطهارة الأصلية، وهي أهم من طهارة البدن، بل لا يمكن أن تقوم طهارة البدن مع وجود نجس الشرك، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة:28]، فلو أن إنساناً سجد للصنم، أو للبشر، ثم بعد ذلك تطهر بأحسن صابون ووضع أطيب العطور، ولبس أحسن الثياب فهو نجس؛ لأن نجاسة القلب لا تغني عنها طهارة البدن.
والنوع الثاني: طهارة ظاهرة: وتسمى الطهارة الحسية، أو الطهارة الفرعية، وهي: ارتفاع الحدث، وزوال الخبث مثلاً: إنسان يصيبه الحدث، والحدث هو: وصف حكميٌ يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة.
فلو أن إنساناً خرج منه ريح، فهذا نسميه حدثاً، أو خرج منه مذي نسميه حدثاً كذلك، ولو كان الحدث الأكبر: مثل خروج المني، فهو حدث أيضاً، فالطهارة الفرعية هي: ارتفاع الحدث وزوال الخبث، والمقصود به: النجاسة، وهي الأشياء التي حكمت الشريعة بأنها نجسة وسيأتي تفصيلها، مثل بول الآدمي ورجيعه، والدم المسفوح والعذرة لما لا يؤكل لحمه، كعذرة الحمار أو الكلب، فهذه كلها نسميها: أعيان نجسة، فكلمة نجس تعادل كلمة خبث.
فالطهارة الظاهرة هي ارتفاع الحدث، وزوال الخبث.
قلنا: وزوال الخبث، ولم نقل: وإزالة الخبث؛ لأنه قد يزول بنفسه، مثلاً: لو جاء كلب -أكرمكم الله- فبال في أرض المسجد، ثم أنزل الله عز وجل من السماء ماء طهوراً، فغسل تلك النجاسة وأزالها المطر دون أن نعمل في إزالتها؛ ولذلك نقول: الطهارة هي ارتفاع الحدث وزوال الخبث.
إذاً: فالطهارة لغة: النظافة.
وهي نوعان: الأول: طهارة باطنة.
الثاني: طهارة ظاهرة.
والطهارتان مطلوبتان، فلا يقول أحد: أنا قلبي نظيف، فلماذا أتوضأ؟! قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ)، ولو كان قلبه أطهر القلوب.(26/4)
الحث على الطهارة
أمرنا ربنا جل جلاله بالطهارة على اختلاف أنواعها، فمن ذلك: قول الله عز وجل: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]، فهذه هي الطهارة الظاهرة وهي: الوضوء.
وقال سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] يعني: الغسل، وهو: طهارة ظاهرة.
وفي طهارة الثياب قال سبحانه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4].
وفي طهارة المكان قال سبحانه: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125].
فالمطلوب: طهارة البدن، وطهارة الثياب، وطهارة المكان، وقبل ذلك كله طهارة القلب، ولذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] ((يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)) أي: من طهروا بواطنهم، ((وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)) أي: من طهروا ظواهرهم.(26/5)
فوائد الطهارة
للطهارة فوائد عظيمة جداً، أول هذه الفوائد: أنها سبب لمحبة الله للعبد، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، وهناك آية في سورة التوبة تتكلم عن مسجد الضرار وفيها قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].
الفائدة الثانية: أنها سبب لدخول الجنة، فالإنسان الذي يحرص على الطهارة دائماً من أهل الجنة إن شاء الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم! اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له أبواب الجنة الثمانية).
فأبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة، قال الله عن جهنم: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:44].
الفائدة الثالثة: الطهارة سبب لتكفير الذنوب والخطايا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم رجل يقرب وَضوءه) وكلمة الوَضوء بالفتح: اسم للماء، والوُضوء بالضم: اسم للفعل، (ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض ويستنشق، إلا خرت خطايا وجهه -وفيه وخياشيمه-).
الفائدة الرابعة: هي سبب للنور التام يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء)، والغرة هي: بياض في جبهة الفرس، وقوله: محجلين من التحجيل، وهو: جمع محجل، والتحجيل أيضاً: بياض في ركبتي الفرس، يعني: أن المؤمن يوم القيامة يكون بين عينيه نور، وفي يديه ورجليه نور، كما قال الله عز وجل: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12].
فمن أسباب هذا النور: الوضوء.
الفائدة الخامسة: أن في المحافظة على الطهارة تشبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذي كان أنظف الناس ثوباً، وأطيبهم ريحاً، فقد كان عرقه صلى الله عليه وسلم كريح المسك، ولذلك لما نام نومة القيلولة، في وقت الظهر في بيت أم حرام بنت ملحان -وكانت خالته من الرضاعة- يعني: رضعت مع أمه آمنة، (استيقظ صلى الله عليه وسلم، فوجدها تمسح العرق عن وجهه، ثم تعصره في سكٍ لها) السك: ما تحفظ فيه المرأة طيبها، (فقال لها: ما تصنعين يا أم حرام؟ قالت: أخلط عرقك بطيبنا فيكون أطيب الطيب).
فالرسول صلى الله عليه وسلم علمنا النظافة، ومن ذلك أنه علمنا صلى الله عليه وسلم أن نستاك فقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وكان يستاك، حتى في مرض موته عليه الصلاة والسلام، فقبل أن يتوفى بقليل كان يستاك عليه الصلاة والسلام، وعلمنا صلى الله عليه وسلم النظافة في كل شيء، دخل عليه بعض الصحابة، وشعره كثير منتفش، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحلقه، أو يرجله، أي: ينظمه، فذهب الصحابي، ثم رجع بعد ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟!).
الفائدة السادسة: أنها استجابة لأمر الله عز وجل، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل أمر بالطهارة فقال: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، وقال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26]، وقال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، وهذه كلها أوامر، فالمتطهر مستجيب لأمر الله، وكذلك مستجيب لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ).(26/6)
وسائل التطهير
التطهير يكون بعدة وسائل وهي على النحو التالي: الوسيلة الأولى: الماء، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48].
فالماء، هو أطيب الطيب، ولذلك لو انقطع الماء عن بيتك، ثم جاءوك بأفخر العطور لا تغني عنك شيئاً، ولكن لو كان عندك ماء وما استعملت العطور لا يضرك؛ ولذلك قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، وعد أهل التفسير الماء من أنواع النعيم التي سنسأل عنها يوم القيامة.
الوسيلة الثانية: التراب، وهو بدل عن الماء في رفع الحدث في حالة عدم وجود الماء، وسيأتي معنا التيمم، فالتراب وسيلة تطهير مع الماء في حال ولوغ الكلب، ودليله حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب).
وفي رواية: (أولاهن)، وفي رواية: (إحداهن)، وفي رواية: (أخراهن)، وفي رواية: (وعفروه الثامنة بالتراب).
لكن الرواية الصحيحة: (أولاهن بالتراب)، وهذا الذي تقتضيه الناحية العقلية؛ لأن الإنسان يستعمل التراب، ثم بعد ذلك الماء المطهر، لكن لو أننا استعملنا الماء، ثم بعد ذلك التراب، فما تطيب النفس بذلك.
فأول شيء نغسله بالتراب، ثم بعد ذلك بالماء، وكذلك سائر ما يلمسه الكلب بلعابه، فلابد أن يغسل سبعاً أولاهن بالتراب؛ لأن نجاسة الكلب مغلظة.(26/7)
أقسام المياه
أقسام المياه: الماء ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس.
فالماء الطهور: هو الماء الباقي على أصل خلقته، أي: لم تتغير أحد أوصافه الثلاثة، لا لونه، ولا طعمه، ولا رائحته، فهذا نسميه ماءً طهوراً، ونستعمله في عاداتنا في شربنا، وفي طبخنا، وفي غسلنا، وفي تنظيفنا لبيوتنا، ونستعمله كذلك في العبادات في وضوئنا، وفي غسلنا، وفي تطهير ما تنجس من ثيابنا أو من أماكننا.
فالماء الطهور نستعمله في العادات، وفي العبادات، مثاله: ماء السماء، وهو الماء الذي ينزل من السماء، قال الله عز وجل: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48].
وقال سبحانه: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11].
ثانياً: ماء العيون؛ لأن ماء العيون أصله من السماء: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} [الزمر:21].
ثالثاً: ماء البحر، سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! إنا نركب البحر - نكون في السفينة - ويكون معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، فهم سألوا سؤالاً واحداً، والرسول صلى الله عليه وسلم أجابهم إجابتين، أو عن سؤالين، أنتوضأ بماء البحر؟ لو كنت أنا وأنت، فسنقول: نعم، توضئوا، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد فائدة أعظم فقال: (هو الطهور) يعني: ماء البحر (الطهور ماؤه) يعني: توضئوا به واغتسلوا ونظفوا آنيتكم، واطبخوا طعامكم، واشربوا منه واصنعوا ما تريدون، ثم قال: (الحل ميتته).
وهنا
السؤال
كان معنا في السفينة خروف، وهذا الخروف قفز، ووقع في البحر فمات، أي: مات في البحر، فهل يحل لنا أكله؟ فإن قال قائل: نعم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (هو الحل ميتته) قيل: هو مات رغماً عن أنفه، وأنت ستموت رغماً عن أنفك، وكلنا سنموت رغماً عن أنوفنا، وهو ليس من دواب البحر، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحل ميتته) أي: ما كان من دوابه فقط، فالخروف إذا مات في البحر ميتة يحرم عليك تناولها.
فإن قيل: فما حكم الحيوانات البرمائية التي تعيش في البر وفي الماء؟ ف
الجواب
نقول: أيها أغلب عيشها في البحر أم عيشها في البر؟ فإذا كان الأغلب عيشها في البحر، فإنها من دواب البحر، وإذا كان الأغلب عيشها في البر، فليست من دواب البحر، والقاعدة تقول: العبرة للأعم الأغلب، لا للشاذ النادر.
وهل كل حيوان بحري يؤكل؟ وما مثاله؟
الجواب
لا، فالتمساح مثلاً اختلف فيه أهل العلم، فبعضهم قال: بجواز أكله لعموم هذا الحديث، وبعضهم قال: لا؛ لأنه مفترس، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع.
ومثله أيضاً خنزير البحر، وشكله مثل الخنزير البري، لكنه يعيش في البحر، فهل يجوز لنا أكله؟ الإمام مالك سئل عن هذا السؤال، فمن ورعه قال للسائل: أنتم تقولون: خنزير، يعني: كيف تستطيبونه واسمه خنزير؟! قال: خنزير اسمه قبيح، ولذلك الخنزير عند اليهود حرام.
ذهب يهودي إلى مطعم، وشم رائحة شوى الخنزير، فدخل في نفسه، وهو يعرف أنه حرام فمشى إلى المطعم، وقال لصاحبه: أريد من هذا السمك، فقال له: هذا خنزير، فقال اليهودي: هل أنا سألتك عن اسمه؟! فهو يريد أن يتحايل على أكله، فيسميه بغير اسمه.
ومن أمثلة الماء الطهور كذلك: ماء الآبار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بئر بضاعة، وهي بئر في المدينة، فقالوا: (يا رسول الله! إنها تلقى فيها الجيف والحيض، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الماء طهور لا ينجسه شيء)، يقصد ماء الآبار، عليه الصلاة والسلام.
وحكم الماء الطهور: أنه طاهر في نفسه، مطهر لغيره، يستعمل في العادات والعبادات.
القسم الثاني: الماء الطاهر: وهو الذي تغير بملاقاة شيء طاهر، كما إذا تغير بطبخ شاي، فيصبح شاياً، يعني: أن تأخذ الماء فتغليه، ثم بعد ذلك تضع فيه شاياً، فهذا الماء صار طاهراً، لكن ليس طهوراً، أو أن تأتي بالماء، ثم تصب عليه محلولاً أحمر، فيصبح عصيراً فهذا نسميه: ماءً طاهراً يستعمل في العادات، كالأكل والشرب، ولا يستعمل في العبادات، كالوضوء والغسل وتطهير الجسد والثوب؛ فإنه لا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً.
لو جاءت صلاة المغرب فما لقينا ماءً فهل أشتري عصيراً لكي أتوضأ؟! هذا الوضوء باطل، وكذلك المرق؛ لأنه ماء طاهر وليس بطهور.
القسم الثالث: الماء النجس: وهو الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة، مثل ماء تغير لونه بدم مسفوح، أو تغيرت رائحته بهر سقط فيه، يعني: لو أن عندك في البيت برميل في أيام انقطاع الماء، وقفزت في هذا البرميل هرة فأنتن، فلما قمت لصلاة الصبح وجدت ريح الماء قد تغير، فهذا الماء نسميه ماء نجساً؛ لأن رائحته تغيرت بنجاسة، والنجاسة: هي الميتة، وسيأتي الكلام في أن الميتة معدودة ضمن النجاسات.
والماء النجس لا يجوز استعماله، لا في العادات، ولا في العبادات، فلا يجوز لك شربه، ولا يجوز لك الوضوء به، ولا تطهير النجاسة به، بل هو نفسه لو وقع على شيء نجسَه.
إذاً: نحن وضعنا ضابطاً وهو: إذا تغير لون الماء أو طعمه أو ريحه، لكن بفرض أن الماء كثير في برميل، وسقطت فيه قطعة من الصابون فرست في قاعه وما غيرت منه طعماً ولا لوناً ولا ريحاً فهو باق على طهوريته.
فلو كان ماء فيه صابون كثير، وثيابك فيها بقعة من الدم، فغسلت الثياب بهذا الماء، فلا تعد الثياب طاهرةً، إلا إذا صببت ماءً طهوراً، وهذا الذي يحصل، فالناس يستعملون الصابون في غسل الثياب، ثم يستعملون بعده ماء طهوراً.(26/8)
مسائل تتعلق بطهارة الماء ونجاسته
هذه مسائل فيها الكثير من الأجوبة على بعض الأسئلة التي طرحت: المسألة الأولى: لا يؤثر على طهورية الماء تغير ريحه بما يجاوره من النجاسات، فلو أن جيفة بجانب غدير أو بركة وتغير ريح الماء منها فإنه يبقى على طهوريته، وهذا خارج عن الإرادة، مثاله: عندي ماء في البيت، وقدر الله أن كلباً مات في الخارج أو في داخل البيت، وأنا لا أعرف مكانه، والماء بعيد عن هذه الجيفة لكنها أثرت عليه، يعني: أثرت على ريحه فلا تسلبه الطهورية؛ لأن هذا شيء خارج الماء ولم يخالطه ولا مازجه وإذا تغير الماء فتغير لونه، أو ريحه، أو طعمه، بأي نوع من أنواع التغيرات، كملوحته من السبخة التي هي مقره، فلا يؤثر على طهوريته.
المسألة الثانية: لا يؤثر على طهورية الماء ما تولد منه وغيره كالطحلب والسمك ومثاله: عندك ماء في برميل وعندما ذهبت تفتح البرميل وجدت هذا الماء فيه أشياء خضراء تولدت في داخله؛ فلا تؤثر على طهوريته، فما تولد في الماء من داخله لا يؤثر على طهوريته.
المسألة الثالثة: لا يؤثر على طهورية الماء ما يعسر الاحتراز منه كورق وسدر يسقطان في غدير أو بركة، فيتغير الماء.
مثاله: عندنا بركة ماء، وفي الخريف أوراق الشجر تتساقط، فتساقطت بكثرة في هذا الغدير، أو في تلك البركة، حتى تغير لونها، فلا يؤثر فيها؛ لأن هذا شيء يشق الاحتراز منه، ومثله أيضاً ما سيأتي معنا في باب النجاسات، لو أن ذبابة وقفت على عذرة كلب وأكلت منه وحملته بجناحيها، ثم جاءتك وأنت تصلي، فوقفت على قمة عمامتك، وبعد الصلاة خلعت العمامة، ونظرت فإذا شيء قليل من النجاسة، فلا يضر؛ لأنه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فديننا والحمد لله يسر قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
المسألة الخامسة: لا يؤثر على طهورية الماء ما غيره مما يستعمل في تطهيره وإصلاحه، ويدخل في ذلك وسائل التعقيم في زماننا مثل مادة الكلور وغيرها التي تستعمل في الماء لتعقيمه.
مسألة: عندنا إناء فيه ماء، فسقطت فيه فأرة فماتت، فحكم الماء أنه نجس؛ لأنه قد لاقته نجاسة فغيرته.
مثال آخر: صهريج يسع ستين جالوناً، وهذا الصهريج دخل إليه حمامة صغيرة فماتت، فلم تغير طعمه ولا لونه ولا ريحه، فحكمه أنه طهور؛ لأن النجاسة يسيرة، والماء كثير، فلم تغير له طعماً، ولا لوناً، ولا ريحاً.
مثال آخر: برميل كان مطلياً بطلاء، فلاحظنا أن لهذا الماء رائحة طلاء، فحكمه طهور؛ لأنه ما تغير بشيء طارئ، وإنما تغير بطول المكث، فهو مثل ما تغير بالسبخة التي هي: طبيعة الأرض التي هو فيها.(26/9)
أنواع النجاسات(26/10)
تعريف النجاسة
أول ما يلزم بيانه تعريف النجاسة: النجاسة: هي كل عين يحرم تناولها لا لضررها، ولا استقذارها، ولا لحرمتها.
ومعنى قولنا: (النجاسة عين يحرم تناولها) أي: لا يجوز للإنسان أن يطعمها، مثل: العذرة، وأما مثل السموم فيحرم تناولها لا لأنها نجسة، وإنما لكونها ضارة.
وقولنا: (ولا لاستقذارها): يخرج مثل البصاق والمخاط، فلا يجوز أكله لا لكونه نجساً، وإنما لأنه مستقذر.
وقولنا: (ولا لحرمتها): أخرج مثل أن يسرق إنسان كبشاً مثلاً، ثم شواه وقال لك: تعال فكل، فلا يجوز أن تأكل منه؛ لأنه حرام مغتصب مسروق، لا لكونه نجساً.(26/11)
بيان الأصل في الأشياء من حيث الطهارة والنجاسة وتعداد النجاسات
ما هي النجاسات؟
الجواب
الأصل في الأشياء الطهارة، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، فهذا الكيس طاهر، وهذا الجهاز طاهر، وهذا الثوب الذي ألبسه طاهر، والمقعد الذي أجلس عليه طاهر، وكل الأشياء طاهرة إلا أشياء معينة بينت الشريعة أنها نجسة.
ومعنى ذلك أنه لو اختلف اثنان في شيء ما هل هو طاهر أو نجس فالمطلوب الدليل ممن يقول بأنه نجس؛ لأن الأصل في الأشياء كلها الطهارة.
إذاً: فما هي الأشياء النجسة؟
الجواب
أولها: المسكرات المائعات كالخمر، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) [المائدة:90].
والمسكر: هو كل ما أذهب العقل دون الحواس مع نشوة وطرب، وهو بخلاف المخدر، فإنها تذهب العقل دون الحواس من غير نشوة ولا طرب، فالسكران الذي يشرب الخمر يذهب عقله، وأما حواسه فموجودة، فإذا وضع يده على شيء ساخن أبعدها، ويكون ذلك مع نشوةٍ وطرب، فتجده يفرح ويغني، ويضحك ويتكلم، وأما من يتعاطى المخدرات فإن عقله يذهب وحواسه موجودة، لكن لا يكون هناك نشوة ولا طرب.
ثانيها: ما فصل من أجزاء الحيوان البري وهو حي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو كميتته)، والحيوانات إما طائرة، أو برية، أو مائية، والمائية مضى معنا قوله صلى الله عليه وسلم فيها: (الحل ميتته)، فلو خرجت ميتة من البحر فلا بأس بها، فلو أخرجنا سمكاً ميتاً فإنا نأكله ولا شيء علينا.
وأما الحيوانات البرية فهي كالخراف والمعز وما أشبه ذلك، فلو أن إنساناً قطع منها شيئاً وهي حية فهذا الشيء نجس؛ لأنه لم تلحقه الذكاة الشرعية، فلو كان عندك جمل مثلاً وكان سنامه كبيراً، فقطعت هذا السنام لتأكله فلا يجوز ما دام حياً.
وإذا كان عندك خروف إليته كبيرة، فقطعت هذه الإلية لتأكلها فلا يجوز لك أكلها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو كميتته).
وهناك أشياء تنفصل من الحيوان البري وهي ليست بنجسة، كالعرق والمخاط والدمع واللعاب، فهذا كله طاهر، فقد جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب فرساً عري لـ أبي طلحة)، أي كان الفرس من غير سرج، ومعروف أن الفرس إذا مشى ورُكب عليه فإنه يعرق، وهذا العرق سيخالط الثياب، فالرسول صلى الله عليه وسلم ركب على هذا الفرس ولم يأتِ عنه أنه غسل أثر العرق، فهو إذاً طاهر وليس بنجس.
وجاء في حديث عمرو بن خارجة قال: (كنت آخذ زمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ولعابها يسيل على كتفي)، فعلم بذلك أن هذا اللعاب طاهر.
إذاً: أول نوع من أنواع النجاسات هو: المسكرات المائعات، والنوع الثاني: ما انفصل من الحيوان البري وهو حي، إلا العرق واللعاب والدمع.
ثالثها: الميتة، فالميتة نجسة، ويستثنى منها الريش والصوف والشعر والوبر، فهذه كلها طاهرة؛ لأنها لا تحلها الحياة، قال الله عز وجل: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80]، ولم يستثن الميتة، ومثاله: أن يكون عند الرجل في البيت خروف مثلاً، وكان الجو بارداً، فأراد أن ينتفع بصوفه فمن الممكن أن يجز صوفه ولا حرج في ذلك إن شاء الله.
إذاً: الميتة نجسة، قال الله عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145]، والرجس: هو النجس، والميتة نجسة إلا ميتة الآدمي، فالآدمي لا يوصف بأنه نجس.
رابعها: الدم المسفوح، وهو الدم الذي يجري عند موجب جريانه.
وقيدنا الدم بالمسفوح ليخرج الدم غير المسفوح، فمثلاً قد تأتي بلحم إلى بيتك فإذا طبخته فإنك ترى في القدر قليلاً من الدم، أو قد ترى في عروق ذلك اللحم قليلاً من الدم، فهذا لا يضر؛ لأنه ليس دماً مسفوحاً، فإنك إذا مررت بالسكين على ذلك اللحم فإن ذلك الدم لا يسيل، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يقولون: كنا نطبخ اللحم فنرى الدم في أعلى القدر.
خامسها: القيح والصديد، فهما نجسان لأنهما متولدان عن الدم، وهناك شيء ثالث وهي السوداء، وهو دم أسود يخرج من معدة المريض عافانا الله وإياكم فهي نجسة أيضاً.
سادسها: المذي، وهو ماء أبيض رقيق يخرج عند الملاعبة أو التفكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب لما سأله عن المذي: (اغسل مذاكيرك وتوضأ)، والأمر بالغسل لا يكون إلا من الشيء النجس.
سابعها: الودي، وهو ماء أبيض خاثر، يعني: فيه ثخانة، يخرج إثر البول، فيجب منه ما يجب من البول.
ثامنها وتاسعها: بول الآدمي ورجيعه، فبول الآدمي وكذلك رجيعه نجسان باتفاق، قال أنس رضي الله عنه: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه -أي: اكفف عن هذا- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه) أي: لا تقطعوا عليه بوله، وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم بُعد نظر؛ لأن الرجل لو ضُرب فإنه سيقوم ويتحرك فبدلاً من أن يبول في مكان واحد فإنه سينجس عدة أمكنه، وبدلاً من أن ينجس المسجد فإنه سينجس بدنه وثيابه؛ لذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه) فتركوه حتى بال، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من القوم فجاء بدلوٍ من ماء فشنه عليه، أي: صبه في مكان البول وانتهت المشكلة، وهذا من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بالأعرابي وقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذه القاذورات، وإنما هي لذكر الله وتلاوة القرآن)، ففرح الأعرابي بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم إياه، ثم ذهب يصلي فقال: اللهم! ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً) أي: إن رحمة الله وسعت كل شيء.
فالمقصود هو أن نتعلم من هذا درساً في معالجة المفسدة بالحكمة خاصة مع الصغار وضعاف العقول وما أشبه ذلك.
العاشر والحادي عشر: بول ما لا يؤكل لحمه ورجيعه، وما لا يؤكل لحمه مثل: الخنزير والكلب والحمر الأهلية -وهي الحمير الموجودة بين الأهالي-، وأما الحمير التي في الخلاء فهذه لا يشملها هذا الحكم، فما لا يؤكل لحمه بوله ورجيعه نجس، ومثال ما يؤكل لحمه البقرة والثور والمعزة والتيس والنعجة والكبش والجمل والناقة والطيور بأنواعها.
فعندنا قاعدة وهي: ما يؤكل لحمه بوله طاهر ورجيعه طاهر، فإذا أتيت إلى المسجد وأمسكت بشاة -مثلاً- فبالت على ثيابي، فمباشرةً أذهب أصلي، ولا حرج عليَّ.
مثال آخر: دخلت تحت جمل، فبال على رأسي، فأصلي ولا حرج عليَّ، والدليل على ذلك: أن جماعة من البدو -من الأعراب- جاءوا إلى المدينة فأسلموا، وأظهروا الإسلام، فأصابهم مرض في حلوقهم، -أو كما جاء في الحديث- فاستوخموا المدينة، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا إلى إبل الصدقة -الإبل التي أخذوها من الزكاة- فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فشربوا فصحوا أي: رجعت إليهم صحتهم، فقتلوا الراعي، وسملوا عينيه، أي: كحلوها بالمسامير المحماة بالنار، ثم ساقوا الإبل وارتدوا عن الإسلام، فهؤلاء ارتكبوا أربع جرائم: الردة وهي أفحشها، ثم القتل، والتمثيل بالراعي، والسرقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم: أتى بهم فأقام عليهم حد الحرابة إلى آخر القصة، والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، قالوا: معناه أن كل ما يؤكل لحمه فبوله ورجيعه طاهر.
وإذا كنت جالساً في المسجد النبوي الشريف، أو جالساً عند الكعبة المشرفة فذرقت حمامة عليك، ووقع ذرقها على ثيابك، فلا حرج في ذلك؛ لأن الحمام يؤكل.
الثاني عشر: المذر، وهو ما تعطل من البيض، فالبيضة إذا تعطلت فهي نجسة؛ لأنها بمنزلة الميتة.
الثالث عشر: القيء المتغير، مثاله: إنسان طعم طعاماً، وهذا الطعام مكث في بطنه ثم قاءه وقد تغير لونه وريحه، فهو بمنزلة الرجيع فهو نجس أيضاً.
أما القيء غير المتغير فطاهر، مثاله: إنسان مصاب بملاريا، تجدونه يشرب الماء ثم يتقيؤه فهذا ليس بنجس، ولا يعد نجساً؛ لأنه ليس متغيراً.
الرابع عشر: الكلب نجس، والدليل على نجاسته قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب)، فالكلب ليس نجساً فقط وإنما نجس نجاسة مغلظة، ولا يوجد حيوان آخر أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نغسل الإناء منه سبع مرات بهذا التغليظ إلا الكلب، فالكلب من الحيوانات النجسة.(26/12)
كيفية تطهير النجاسة
مسألة: كيف نطهر النجاسة؟ الشيء النجس لا يخلو من حالتين: إما أن يكون نجساً بذاته كالبول والغائط والخنزير والدم المسفوح فهذا لا يمكن تطهيره؛ لأن نجاسته ذاتية، مثلاً الدم، لا يمكن تطهيره، فالدم نجس، والبول كذلك، فهذا نجس بذاته.
وإما أن يكون متنجساً، وليس نجساً، وإنما هو طاهر، لكن حصلت فيه نجاسة، فهذا نسميه متنجساً، ومثال المتنجس: ثوب وقع فيه بول، والنعل وقع على الغائط، فنطهره بغسله في الماء الطهور إلى أن ينفصل عنها الماء طاهراً بلا أثر، يعني: أن النجاسة إذا كانت نجاسة مائعة أي: سائلة مثل البول والمذي إذا وقع على الثوب فيكفي أن أكاثره بالماء وأضربه إلى أن أصب الماء فينفصل طاهراً بذات لونه، ومعنى ذلك أن الثوب قد تطهر.
أما إذا كانت النجاسة يابسة فلا بُدَّ من إزالة عينها، فإذا وقع على الثوب دم ويبس، ففي هذه الحالة لا بد من إزالة عين هذه النجاسة، بمعنى: أني أعركه وأفركه وأحكه بأظافري، وأستعمل ما شاء الله إلى أن تزول عين هذه النجاسة، فمثل هذه النجاسة اللزجة لا بد أن أعركها.(26/13)
أحكام الغسل_أحكام التيمم
جاء دين الإسلام بطهارة المسلم ظاهراً وباطناً، ومن طهارة ظاهره أنه شرع له الغسل، والغسل قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً وقد يكون مباحاً.
وجاءت الشريعة بالتيمم تسهيلاً وتيسيراً على من لم يجد الماء أو تعذر عليه استعماله، وهذا من خصائص ومميزات دين الإسلام.(27/1)
تعريف الغسل
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
نتكلم في هذا الدرس على ما يتعلق بأحكام الغسل.
الغسل في اللغة مصدر غسل يغسل غسلاً بالضم، لكن إذا كان تعميماً للبدن بالماء نسميه غُسلاً، ولذلك ما نقول: غَسل الميت وإنما نقول: غُسل الميت؛ لأن الميت لا نغسل منه أعضاءً مخصوصة، وإنما نعمم بدنه، أما بالنسبة لغسل اليد في الوضوء لا نقول: غُسل اليد، وإنما نقول: غَسل اليد.
أما في الشرع فهو: تعميم البدن بالماء مع اقتران النية.(27/2)
الأغسال الواجبة
الغسل على نوعين: غسل واجب وغسلٌ مستحب، ويكون الغسل واجب في أربعة أحوال: أولها: الجنابة، فإذا أصابت الإنسان جنابة وجب عليه الغسل.
ثانيها: غسل المسلم إذا مات.
ثالثها: غسل الكافر إذا أسلم.
رابعها: غسل المرأة إذا انقطع عنها دم الحيض أو النفاس.
هذه أربعة أحوال الغسل فيها فرض.
فغسل الجنابة فرض، وكلمة الجنابة معناها: البعد، كما قال الله عز وجل: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36]، والجنب سمي جنباً لأنه بعيد من العبادة، هذه هي الحالة الأولى من موجبات الغسل.
الحالة الثانية: غسل المسلم إذا مات؛ لأنه إذا مات يجب علينا معشر المسلمين أن نغسله، ولو أنا دفناه من غير غسل ومن غير عذر فإننا آثمون، لكن قد يكون في مكان ليس فيه ماء مثلاً أو قد يكون بدنه مهترئاً بحيث لو غسل تزايل، كما في حالة الغريق الذي لم نجد جثمانه إلا بعد ثلاثة أيام أو أكثر، ففي هذه الحالة يكون بدنه مهترئاً بحيث لو غسل سيتزايل، ففي هذه الحالة لا يجب غسله.
الحالة الثالثة: غسل الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لما ثبت في حديث قيس بن عاصم أنه لما أسلم أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يغتسل.
الحالة الرابعة: غسل المرأة إذا انقطع عنها دم الحيض أو النفاس.(27/3)
الأغسال المستحبة
الأغسال المستحبة هي: 1 - غسل الجمعة.
2 - غسل العيدين.
3 - غسل الإحرام.
4 - الغسل من حمل الميت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ).
5 - الغسل لدخول مكة.
6 - غسل يوم عرفة.
أما غسل يوم الجمعة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، ويحمل على ذلك الغسل في العيدين؛ لأنه لما كانت الجمعة عيداً فيوم الفطر ويوم النحر من باب أولى؛ ولأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ثبت عنه أنه كان يغتسل يوم الجمعة والعيدين.
ثالثاً: غسل حمل الجنازة، فإنه يستحب لك بعدها أن تغتسل.
رابعاً: غسل الإحرام، فإذا أردت أن تحرم بالنسك في الحج أو العمرة فيستحب لك أن تغتسل، كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام.
خامساً: يستحب غسل دخول مكة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى ذي طوى بات بها، ولما أصبح اغتسل ودخل مكة، وهذا من باب التعظيم لحرم الله عز وجل.
أما غسل الجنابة فيدل على وجوبه قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الماء من الماء)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) أي: وإن لم ينزل.(27/4)
فرائض الغسل
فرائض الغسل خمسة: أولها: النية، وفي الوضوء ذكرنا أن أول فرض النية، وفي الغسل أول فرض النية، وسيأتي في التيمم أن أول فرض هو النية، وفي الصلاة سيأتي أن أول فرض هو النية، وفي الصيام أول فرض هو النية، وفي الزكاة أول فرض هو النية، وهكذا في الحج، فكل عمل لابد فيه من نية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، فالغسل لابد فيه من النية، والنية محلها القلب، فلا يصح أن تدخل الحمام وتقول: نويت أن أغتسل غسل الجمعة مثلاً.
الفرض الثاني: تعميم جميع الجسم، كما قال الله عز وجل: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43]، والاغتسال هو غسل جميع الجسد، فلابد أن الماء يصل إلى كل جزء من أجزاء بدنك الظاهرة، ولذلك جاء: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدخل أصابعه في شئون رأسه حتى يروي بشرته) لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يحلق إلا في نسك في حج أو عمرة.
الفرض الثالث: الدلك؛ لأنه لا يقال: اغتسل إلا لمن دلك نفسه، أما إنسان وقف تحت الدش فقط ولم يدلك فهذا يقال: أفاض على جسده الماء، ولا يقال: اغتسل، والعرب تفرق بين قولها: غسلت الثوب وقولها: أفضت عليه الماء، يعني: لو أني أدخلت الثوب تحت الماء فلا يقال: إني غسلته.
والدلك هو: إمرار اليد على العضو إمراراً متوسطاً، هذا هو الدلك.
والمكان الذي لا تصل إليه اليد لا شيء فيه؛ ولو أن إنساناً يستعمل بدل يده خرقة ونحوها أو ما يسمى الآن بالليف فإنه يجزي، وجعل الدلك من فرائض الغسل هو مذهب المالكية، وأما الحنفية والشافعية والحنابلة وغيرهم رحمة الله على الجميع فلا يجعلون الدلك من فرائض الغسل.
الفرض الرابع: تخليل الشعر خفيفاً كان أو كثيفاً؛ لأن أمنا رضي الله عنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بهما أصول شعره)، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كان دائماً يحلق شعره، فلما سئل قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (في كل شعرة جنابة، فمن ترك موضع شعرة لم يصبها الماء فعل الله به كذا وكذا)، فمن ثم عاديت شعري، يعني صار شعري هو عدوي، فكان يحلق دائماً، كلما نبت شعره حلق، وهذا كان فيما مضى؛ لأن القضية كان فيها غرف ماء وكان فيها مشقة، أما الآن بفضل الله تفتح الدش فيصب عليك الماء صباً، وأنت تشتغل بالدلك بكلتا يديك، فلو كان شعرك كصوف خروف فلن يضر؛ لأنك تستطيع أن تخلله بكل سهولة.
الفرض الخامس: الموالاة، وهي: الإتيان بأفعال الغسل في زمن واحد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يغتسل إلا غسلاً متوالياً، ولم نسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل فرجه ثم خرج ثم جاء فتوضأ ثم أكل ثم رجع فخلل شعره ثم ذهب ثم جاء، وإنما أفعال الغسل كلها تقع في وقت واحد متوالية.(27/5)
سنن الغسل
سنن الغسل خمسة: أولها: غسل اليدين إلى الكوعين قبل إدخالهما في الإناء، هذا فيما مضى لما كان الناس يستعملون الآنية، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى الجنب أن يدخل يده في الإناء إلا بعد أن يغسلهما ثلاثاً، وكذلك نهى صلى الله عليه وسلم من استيقظ من النوم أن يغمس يده في الإناء؛ لأن النوم أخو الموت.
ثانيها: المضمضة، وهي: إدخال الماء في الفم وتحريكه، ومضمضة على وزن فعللة، مثل كلمة زلزلة، وفعللة تدل على حركة، كالقلقلة؛ فإن الإنسان يحرك فمه ولسانه عند حروف القلقلة.
ثالثها: الاستنشاق، وهو: جذب الماء إلى داخل الأنف.
رابعها: الاستنثار، وهو: طرح الماء بواسطة النفس.
خامسها: مسح صماخ الأذنين.
فهذه هي سنن الغسل الخمسة، غسل اليدين إلى الكوعين قبل إدخالها في الإناء ثم المضمضة والاستنشاق والاستنثار ومسح صماخ الأذنين.(27/6)
فضائل الغسل
الفرق بين السنة والفضيلة: أن السنة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأظهره للناس وأمر به، والفضيلة ما كان دون ذلك.
وفضائل الغسل هي: أولها: التسمية، وهنا
السؤال
إذا كان الإنسان يتوضأ في الحمام هل يسمي الله؟
و
الجواب
لا يسمي، بل يذكر الله عز وجل بقلبه، لكن لا ينطق؛ فإن اسم الله عز وجل ينزه عن أن ينطق به في تلك الأماكن، وبعض الناس يقول: ما هو الدليل؟ ونقول: الدليل هو الأدب؛ فإنه يجب أن نتأدب مع الله عز وجل، وأن نتأدب مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن نتأدب مع القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا هذا الأدب بأنه كان إذا أراد الخلاء طرح خاتمه صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه اسم الله جل جلاله، فإذا كنت في الحمام فلا تذكر الله، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء يقول: (غفرانك)، تنزيهاً لله من الذكر في ذلك الموطن.
ثانيها: البدء بإزالة الأذى عن جسده وعورته وأعضائه بوضوئه، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام إذا اغتسل من الجنابة يغرف من الماء فيغسل يديه ثلاثاً، ثم يصب بيديه فيغسل بقية أعضاء الوضوء، وأحياناً يؤخر غسل رجليه صلى الله عليه وسلم.
ثالثها: تقديم الأعالي على الأسافل والميامن على المياسر، والإنسان إذا بدأ بالغسل يبدأ بغسل رأسه، وكذلك يبدأ بميامنه قبل مياسره.
رابعها: تثليث غسل رأسه، ففي الوضوء يكون مسح الرأس مرة واحدة، أما في الغسل فلا بد من غسله ثلاثاً كما كان يصنع الرسول عليه الصلاة والسلام.
خامسها: قلة الماء، وقد تقدم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ بالمد، والمد: ملء الكفين المعتدلتين، وكان عليه الصلاة والسلام يغتسل بالصاع، والصاع: حوالى اثنين كيلو وربع.
وهذه الفضائل والسنن أخذناها من حديث عائشة وميمونة رضي الله عنهما، فقد قالت ميمونة رضي الله عنها: (أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من الجنابة، فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات كل حفنة ملء كفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه، ثم أتيته بالمنديل فرده)، وفي رواية: (وجعل ينفض الماء بيديه)، وليس معنى هذا أن تنشيف الأعضاء مكروه، بل ممكن أن تغتسل وتتنشف، وممكن أن تغتسل ولا تتنشف، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنديل إما لأنه كان في المنديل شيء كرهه عليه الصلاة والسلام، أو لأنه كان مستعجلاً، ليس عنده وقت للتنشيف، وإما ليخالف فعل المترفين، أو ليبين جواز التنشف وعدمه، فهذا جائز وهذا جائز.
وميمونة رضي الله عنها ذكرت أنه صلى الله عليه وسلم غسل كفيه مرتين أو ثلاثاً، ثم غسل فرجه صلى الله عليه وسلم، ثم توضأ، ثم حثا على رأسه، ثم أفاض الماء على سائر جسده، ثم غسل رجليه، وقد أجمع أهل العلم على أن المغتسل لو لم يتوضأ جاز له أن يصلي بهذا الغسل؛ لأنه غسل عبادة وليس غسل عادة، يعني: سواء كان غسلاً واجباً أو مستحباً يصح لك أن تصلي بهذا الغسل دون أن تتوضأ؛ لأنهم متفقون على أن الحدث الأصغر يندرج في الحدث الأكبر، وأن الطهارة الصغرى تندرج تحت الطهارة الكبرى، فإذا ارتفع الأكبر فمن باب أولى الأصغر.(27/7)
حكم تعميم الجسد بالماء من غير وضوء
إذا اقتصرت في غسلك على تعميم بدنك بالماء على قول الجمهور جاز لك أن تصلي به، وإذا كان الغسل مستحباً جاز لك أن تصلي به؛ لأنه غسل عبادة؛ لأنك لم تغتسل تبرداً ولا تنظفاً وإنما اغتسلت تعبداً، لذلك الواحد منا لو كان أطهر ما يكون في يوم الجمعة والجو بارد فيستحب له أن يغتسل.(27/8)
حكم الكلام أثناء الوضوء والغسل
من المكروهات في الوضوء والسغل الكلام إلا لمهم كرد سلام وطلب ماء ونحوه إذا طرق عليك الباب طارق مثلاً وقال لك: أنا أريد كذا، فترشده إلى مكان الشيء المطلوب.(27/9)
الأمور التي تمنع منها الجنابة
موانع الجنابة: الحدث الأصغر يمنع من أمور: أولاً: الصلاة.
ثانياً: مس المصحف.
ثالثاً: الطواف.
رابعاً: مس المصحف وقراءة القرآن، فالإنسان إذا كان عليه جنابة لا يجوز له أن يقرأ القرآن؛ لأن نبينا عليه الصلاة والسلام ما كان يمنعه من القرآن شيء إلا الجنابة.
خامساً: دخول المسجد، فالإنسان الذي عليه جنابة وكذلك أيضاً الحائض والنفساء لا يجوز لهم دخول المسجد؛ لأن الله عز وجل قال الله: ((لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ)) قال أهل التفسير: يدخل في ذلك مواضعها، ومواضع الصلاة هي المساجد، قال الله: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43]، فالجنب إذا اتخذ المسجد معبراً فلا حرج عليه، أما المكث في المسجد فممنوع.
فإذا أقيمت الصلاة فاغتسل وصل في بيتك، ولا تأت المسجد وأنت جنب؛ لأن الطهارة شرط.(27/10)
حكم صلاة الجماعة
صلاة الجماعة على قول المالكية والحنفية سنة مؤكدة، وعلى قول الحنابلة واجبة، وعلى قول الشافعية فرض كفاية، ولم يقل أحد بأنها شرط في صحة الصلاة إلا الظاهرية فقط.(27/11)
ذكر بعض أحكام التيمم
إذا لم يجد الإنسان ماءً أو عجز عن استعمال الماء فإنه ينتقل إلى الأصل الثاني الذي منه خلق، ومعلوم أن الإنسان مخلوق من ماء وتراب، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12]، والطين أصله ماء وتراب، وفي آيات أخرى ذكر الله عز وجل الماء وحده، وفي آيات ذكر التراب وحده، كقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، وفي آية أخرى قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [غافر:67]، ولا تعارض في هذا كله، فالمقصود أن الشريعة خففت على العباد، وشريعة الإسلام مبنية على اليسر، كما قال الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، ومن يسر الشريعة أنها أباحت للإنسان إذا عدم الماء أو عجز عن استعماله أن يتيمم.(27/12)
تعريف التيمم
التيمم في اللغة: القصد، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] يعني: لا تقصدوا إلى المال الخبيث فتنفقوا منه، وإنما الإنسان ينفق من الطيب.
وأما التيمم في الشرع فهو: القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة ونحوها، والصعيد هو: ما صعد على الأرض من جنسها، أو ما كان على وجه الأرض من جنسها، ويدخل في ذلك التراب والرمل والحصباء والحجارة، يعني: بشرط ألا تكون دخلت فيه صنعة الآدمي، فلا يصح أن تتيمم بالإسمنت ولا بالجبس ولا بالطوب الأحمر ولا غير ذلك مما دخلت فيه صنعة الآدمي، أما ما كان باقياً على أصله فإنه يصح التيمم به، وهذا كالماء؛ فإنه لا يصح أن تتطهر إلا بالماء الباقي على أصل خلقته الذي هو الماء الطهور، وهنا أيضاً لا تتيمم إلا بما كان صعيداً باقياً على أصل خلقته.(27/13)
أدلة مشروعية التيمم
التيمم مشروع، ودليل ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6])) [النساء:43]، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال لمن لم يجد الماء: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك)، وأجمع المسلمون على مشروعية التيمم متى وجد سببه.(27/14)
الحالات التي يباح فيها التيمم
يباح التيمم في الأحوال الآتية: الحالة الأولى: عند فقد الماء، فإذا لم يجد الإنسان ماءً ليتطهر به سواء كان غسلاً أو وضوءاً، ففي هذه الحالة يتيمم؛ لحديث: (جاء أعرابي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! إني أكون في الرمل أربعة أشهر أو خمسة أشهر، فيكون فينا النفساء والحائض والجنب، فما ترى؟ قال: عليك بالتراب).
والمقصود بالرمل: البادية، فالإنسان إذا كان في الصحراء وعنده ماء قليل فإنه يبقيه لشربه ولسقي ما معه من الإبل والماشية، والرسول عليه الصلاة والسلام أرشد هذا الأعرابي إلى التيمم ولو بقي أربعة أشهر أو خمسة أشهر، وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: (التيمم طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجده فليتق الله وليمسه بشرته).
الحالة الثانية: إذا خاف باستعمال الماء حدوث مرض أو زيادته أو تأخر شفاء، كما هو الحال في الشتاء، فبعض الناس يكون عنده حساسية وهو على يقين أنه لو اغتسل في الفجر فإنه سيمرض أو أن مرضه سيزيد أو أن برأه سيتأخر، ففي هذه الحالة يتيمم، والدليل حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في قصته في غزوة ذات السلاسل قال: (احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك -أي: أموت- فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله! احتلمت في ليلة باردة فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وتذكرت قول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، فتيممت، ثم صليت، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً).
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يسكت على منكر فلو كان عمل عمرو بن العاص باطلاً فلن يقره، وسيأمره صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة، وألا يعود لمثل ذلك، كما فعل ذلك مع الرجل الذي جاء والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي وقد ركع بأصحابه، فالصحابي -وهو أبو بكرة - ركع عند باب المسجد ثم دب وهو راكع حتى دخل في الصف، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة قال له: (زادك الله حرصاً ولا تعد)، فلو كان فعل عمرو خطأً لقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تعد.
الحالة الثالثة: من كان عنده ماء ويخاف العطش على نفسه أو على محترم معه ولو كان ذمياً أو حيواناً فإنه يتيمم ويترك الماء لإنقاذ نفسه أو المحترم الذي معه، يعني: إذا كنت في مكان ليس فيه ماء، وليس معي إلا ماء قليل أستعمله للشرب، فأصابتني جنابة، وأخاف أني لو اغتسلت به ألا أجد ماءً أشرب، ووجدت يهودياً أو نصرانياً ذمياً يحتاج إلى ماء ليشربه، فأشربه أو أسقيه اليهودي أو النصراني وأتيمم، وهكذا إذا كان معي غنم أو بقر أو إبل أو أي شيء من دواب الأرض المحترمة فأسقيها وأتيمم.
ولو كان معي خنزير فلا أسقيه وأتيمم، بل أتركه يموت.
الحالة الرابعة: من كان بقربه ماء ويمنعه خوف لص أو سبع عنده، يعني: الماء موجود لكن بينك وبين الماء أسد أو سبع أو لص، ففي هذه الحالة تتيمم، وبعض الناس قد يقول: لا يصح أن تخاف، لا تخف إلا الله، فقل له: هذا كلام ليس بصحيح، هذا خوف طبيعي، فالإنسان يخاف من النار ويخاف من السبع، فليس عيباً أني أخاف من الأسد أو أخاف من الذئب أو أخاف من كذا، والله عز وجل ذكر عن موسى عليه السلام أنه خاف فقال: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] أي: خرج خائفاً من فرعون، وهذا خوف طبيعي، لكن بعض الناس قد يبلغ درجة في القرب من الله حتى إنه لا يخاف من شيء، مثل سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه كان يمشي وفي الطريق أسد واقف، فرأى الناس محجوزين بسبب الأسد، فجاء عبد الله بن عمر وأخذ بأذنه وقال له: تنح عن طريق الناس! فذهب الأسد، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن! أما تتقي الله؟! يعني: كيف تعمل هذه العملية؟ فقال: إني لأستحي أن أخاف غير الله، أنا أستحي من الله أن أخاف غيره، لكن هذه درجة خاصة يصل إليها من كان ولياً لله، نسأل الله أن يجعلنا منهم، وأن يتوب علينا أجمعين.
فإذا كان في قريباً من الماء لص أو سبع أو كان الماء بقربه ولا يقدر الإنسان على تناوله بنفسه كأن يكون مشلولاً وليس في البيت أحد يناوله ولا يستطيع أن يمشي إلى الماء؛ يتيمم؛ لقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
فمثل هذا يتيمم ويصلي، وهذا كله داخل في عموم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء:43]؛ لأن عدم وجود الماء إما أن يكون حقيقياً أو حكمياً، فالماء قد يكون موجوداً لكن لا أقدر على الوصول إليه، أو لا أقدر على استعماله، أو لا أجد من يناولني إياه.
ولو دخل وقت صلاة العصر فلا يتيمم الإنسان مباشرة إلا إذا خشي خروج الوقت، قال العلماء: الراجي ينتظر إلى آخر الوقت، والمتردد يصلي في وسطه، والآيس يصلي في أوله، مثال ذلك: لو أن هيئة مياه الخرطوم قطعت الماء وعملت إعلاناً: أن الماء لن يأتي إلا في التاسعة مساءً، ودخل وقت صلاة العصر فحكمي أني آيس، والماء لن يأتي إلا بعدما يخرج وقت العصر الاختياري والضروري، وبعدما يخرج وقت المغرب الاختياري، ففي هذه الحالة أتيمم وأصلي.
فإذا كانت هيئة المياه قطعت الماء الساعة الثالثة وأعلنت أن الماء سيرجع في الخامسة والنصف فحكمي أني راجٍ وفي هذه الحالة أنتظر، فإذا لم يأت في الخامسة والنصف أنتظر إلى السادسة، فإذا ما جاء أنتظر إلى السادسة والربع، ثم أتيمم؛ لأن في الساعة السابعة يؤذن أذان المغرب، فالراجي يصلي في آخر الوقت، أي آخر الوقت الاختياري، أما إذا كنت متردداً فأتيمم وأصلي.
كذلك لو أن إنساناً استيقظ لصلاة الصبح مثلاً، لكنه قام متأخراً، وهذه قد تحصل مرة في العمر لا كل يوم، فليس معنى هذا أن الواحد ينام ثم يستيقظ بعد طلوع الشمس، ويقول: النوم هذا سلطان كما يقولون، وهذا ليس بحديث ولا آية، بل إن بعض الناس يتعمد التأخر، نسأل الله العافية، ونعوذ بالله من الضلال، فتجده يضبط المنبه على ميعاد المدرسة أو الجامعة أو الشغل، فيضبط المنبه على الساعة السابعة والنصف؛ لأن الشغل يبدأ في الساعة الثامنة، وهو يعرف أن الشمس تطلع الساعة السابعة وعشر دقائق، فمثل هذا -والعياذ بالله! - يخشى عليه أن يخرج من الإسلام، أعني: الذي يتعمد أن يضيع الصلاة حتى يخرج وقتها، لكن أقول: ممكن أن تحصل مرة في العمر أن الإنسان يكون متعباً فينام ولا يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، وقد حصل ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم مرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في سفر يمشون ولما بقي ثلث الليل الآخر تعبوا، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من يحفظ لنا الفجر)، فقال بلال: أنا يا رسول الله! فناموا، ثم نام بلال، فالصحابة قالوا: أين كنت يا بلال؟! فقال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، شعرت بشيء يهدهدني كما تهدهد الأم وليدها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ذلك الشيطان) أي: أن الشيطان جاء يمرجح بلالاً رضي الله عنه إلى أن نعسه ونومه، وهذه قد تحصل مرة.
وهنا مسألة: لو أن إنساناً استيقظ قبل طلوع الشمس بقليل، وعليه جنابة، ويعلم يقيناً أنه لو اغتسل طلعت الشمس، ففي هذه الحالة نقول له: تيمم وصل؛ لأن فضيلة الوقت مقدمة على استعمال الماء.(27/15)
فرائض التيمم
فرائض التيمم: أول فرض: النية، والدليل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) وأنا عندما أتيمم لا ينبغي أن أنوي رفع الحدث؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما أنوي استباحة الشيء الممنوع، فالصلاة ممنوعة في حال الحدث، فأنوي بالتيمم استباحة الصلاة، وغيرها، يعني: إذا كنت أريد أمس المصحف أنوي بالتيمم استباحة مس المصحف، ونحو ذلك.
الفرض الثاني: قصد الصعيد الطاهر، وهو ما ظهر على وجه الأرض منها من تراب أو حصباء أو رمل أو حجارة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).
الفرض الثالث: أن الضربة الأولى تكون على التراب، ومعرفة هذا الكلام مهم؛ لأنه قد يكون جدك مثلاً: في المستشفى مريضاً، ولا يصلي، فتسأله: لمَ لا تصلي يا جد؟! فيقول لك: أنا لا أقدر أن أستعمل الماء، فقل له: تيمم، فيقول: لا يوجد تراب، ففي الحالة هذه يتيمم ولو بالجدار أو الفراش إذا كان فيه غبار، ولا ينبغي أن يترك الصلاة أبداً حتى لو لم يقدر على التيمم، فإذا لم يوجد حجر ولا شيء فيصلي من غير طهور، لكن لا ينبغي أن يترك الصلاة.
فالضربة الأولى تضرب على التراب أو تضرب على الحجر ثم تمسح وجهك وكفيك؛ لأن الله عز وجل قال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6]، سواء كان من الحدث الأكبر أو الحدث الأصغر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار: (إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر وجهه وكفيه).
الفرض الرابع: مسح الوجه واليدين إلى الكوعين.
الفرض الخامس: الموالاة بين فرائضه، فلو فرق أعاد التيمم، وهذا مثل الموالاة في الوضوء والموالاة في الغسل.(27/16)
سنن التيمم
سنن التيمم هي: السنة الأولى: الضربة الثانية لليدين، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين)، رواه الدارقطني ولو أردنا التحقيق العلمي فإن هذا الحديث لا يصح، فالصحيح -والعلم عند الله تعالى- أن التيمم يكون ضربة واحدة للوجه واليدين إلى الكوعين، هذا هو الراجح.
السنة الثانية: مسح اليدين من الكوعين إلى المرفقين؛ استدلالاً بحديث: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين).
السنة الثالثة: الترتيب؛ لأن حديث عمار قال فيه: (ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه)، فقدم ذكر الكفين على الوجه.
السنة الرابعة: التسمية في أوله، ففي الحديث: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) وتقدم أن هذا الحديث متأول عند جماهير العلماء بأن التسمية مقصود بها النية، يعني: لا وضوء لمن لم ينو.
السنة الخامسة: تقديم مسح اليد اليمنى، وهذا كما تقدم في الوضوء أنه تقدم الميامن، وفي الغسل أيضاً تقدم الميامن، فهنا أيضاً نقدم اليد اليمنى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله.(27/17)
حكم تحريك الخاتم في التيمم
الذي يتيمم إذا كان عنده خاتم يحركه، وفي الوضوء لا نحتاج لتحريك الخاتم؛ لأن الماء يتخلل، أما بالنسبة للتيمم فلابد من تحريك الخاتم.(27/18)
شروط صحة التيمم
شروط صحة التيمم: أولاً: دخول الوقت واتصاله بالصلاة التي تيمم لها؛ لقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت).
ثانياً: التجديد لكل وقت، وهذا بخلاف الوضوء، فلو أني توضأت للمغرب ولم يحصل مني حدث جاز لي أن أصلي بهذا الوضوء صلاة العشاء، فأكون قد صليت المغرب والعشاء بوضوء واحد، أما لو تيممت للمغرب ثم جاء وقت العشاء وما حصل حدث فلابد أن أتيمم مرة أخرى للعشاء؛ لأنه سبق معنا الكلام في أن التيمم لا يرفع الحدث وإنما تستباح به الصلاة، فكل صلاة تحتاج إلى استباحة غير الأولى.(27/19)
مبطلات التيمم
مبطلات التيمم هي مبطلات الوضوء، ويزيد التيمم بوجود الماء قبل الصلاة لا فيها، يعني: لو تيممنا وذهبنا نصلي المغرب فسمعنا خرير الماء، أو قال لنا أحد الناس: جاء الماء، فلا نصلي بالتيمم، بل نذهب ونتوضأ أولاً.
ولكن لو أننا كبرنا للصلاة، وبعد ذلك سمعنا خرير الماء فنواصل الصلاة؛ لأن الله عز وجل قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وهذه الاستطاعة قد فعلناها.
ومن فقد الماء والصعيد بأن لم يكن عنده ماء ولا تراب ولا حجارة ولا حصباء، كأن يكون في الطائرة أو في سجن والسجن بلاطه سراميك، أو كان في مكان فيه جليد، والجليد ماء، لكن ليس ماءً يسيل، وإنما هو ماء متجمد، فهذا يصلي بغير طهور، يعني: بدون وضوء وبدون تيمم؛ لعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فأنا لا أستطيع الوضوء ولا أستطيع التيمم؛ لأني لا أجد ماءً ولا صعيداً، ففي هذه الحالة أصلي بغير طهور؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم قبل أن تنزل آية التيمم كانوا في غزوة من الغزوات وفقدوا الماء قالت عائشة رضي الله عنها: فصلوا بغير وضوء، فأنزل الله سبحانه وتعالى آية التيمم، وكانت رحمة للناس.(27/20)
الأسئلة(27/21)
معنى الرجيع
السؤال
ما هو رجيع بول الآدمي؟
الجواب
لا يوجد شيء اسمه رجيع بول الآدمي، وإنما بول الآدمي شيء والرجيع شيء آخر، الرجيع هو: البراز أو العذرة.(27/22)
حكم غسل المذي من الثوب
السؤال
في حالة الودي أو المذي هل يجب غسل المذاكير فقط أم المذاكير والملابس الداخلية؟
الجواب
المذي نجس يجب غسل الثوب منه، لكن المذي ليس بشيء كثير بحيث يصل إلى الثياب كلها، وإنما هو في الغالب قطرات، وأما المني فيخرج دفقاً، كما قال عز وجل: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:5 - 6]، أما المذي فيكون شيئاً يسيراً يقطر قطراً.(27/23)
حكم الجماعة الثانية في المسجد الواحد
السؤال
يرى البعض أنه لا يجوز للمسبوقين أن يصلوا جماعة ثانية بحجة أنه لا إمامين في مسجد واحد؟
الجواب
أول شيء نفرق بين مساجد الأحياء ومساجد الأسواق، فمساجد الأسواق لا حرج في تعدد الجماعات فيها؛ لأن الإنسان يمر عليها ولا يدري متى يصلون، أما مساجد الأحياء فإن الإنسان يعرف أن صلاة الظهر -مثلاً- في الساعة الواحدة والنصف، والعصر في الساعة الرابعة والنصف، والعشاء في الساعة الثامنة والنصف، فكثير من العلماء كره إقامة جماعة أخرى سوى الجماعة الراتبة؛ لأن معنى الجماعة أنها تجمع الناس، وأما إذا كان كل واحد سيأتي في الوقت الذي يريد ويقيم جماعة فلم يبق للجماعة معنى.
والمالكية رحمهم الله يرون أنه لا كراهة في الجماعة الثانية، لكن تكون في البرحة أو خارج المسجد، يعني: لا يقيمون الجماعة الثانية في داخل المسجد.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.(27/24)
فقه الصلاة_فضل الجماعة وشروط الإمامة
صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع أو خمس وعشرين درجة، وما عذر النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى ورخص له في ترك الجماعة، بل قد عزم صلى الله عليه وسلم على تحريق بيوت المتخلفين عنها، وذلك لأهميتها العظيمة في الإسلام.
والإمامة في الإسلام من أشرف المناصب وأرفعها، كيف لا وأشرف الخلق صلى الله عليه وسلم منذ أن فرض الله الصلاة إلى أن توفاه الله ما ترك إمامة المسلمين في الصلاة إلا بعد أن أقعده المرض قبل وفاته صلى الله عليه وسلم؟! وللإمامة شروط ينبغي توافرها في الإمام.(28/1)
فضل صلاة الجماعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
أما بعد: فنتناول الأحكام المتعلقة بصلاة الجماعة، وبين يدي هذه الأحكام لا بد لنا من مقدمة أذكر فيها بأن الإسلام هو دين الجماعة، ودائماً ما يرغبنا في الاجتماع، سواء كان ذلك في العبادات، أو كان ذلك في العادات، وحتى في الطعام فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (اجتمعوا على الطعام يبارك لكم فيه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار)، ويبين لنا عليه الصلاة والسلام أن (الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب)، وينهانا صلى الله عليه وسلم أن يسافر أحدنا وحده.
فهذا كله من أجلى المظاهر وأوضحها بأن الإسلام هو دين الجماعة، وكذلك هذه الصلوات الخمس المكتوبات، فالإسلام يحثنا على السعي إلى المساجد لأداء هذه الصلوات في جماعة، فقد صح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من غدا إلى المسجد أو راح؛ أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح).
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه رتب على صلاة الجماعة أجراً عظيماً فأخبر: (أن الرجل إذا خرج من بيته لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له درجة، وحطت عنه خطيئة، حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما دامت الصلاة هي التي تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه).
وأخبر عليه الصلاة والسلام بأن صلاة الجماعة يرفع الله بها الدرجات ويمحو بها الخطيئات، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط).
فصلاة الجماعة سبب لمضاعفة الحسنات، وحط الخطيئات، ورفع الدرجات، ويحصل بسببها خير كثير، فالإنسان في المسجد يلقى أخاه المسلم؛ فيتبسم في وجهه؛ فيكتب الله له بذلك صدقة، وقد يصافحه؛ فتتساقط الذنوب قبل أن يتفرقا، وقد يجد في المسجد محتاجاً فيساعده، أو ملهوفاً فيغيثه، وقد يصادف في المسجد جنازة فيصلي عليها، وقد يخبر في المسجد أن فلاناً مريض فيعوده، أو أن فلاناً قد مات له ميت فيعزيه وهكذا صلاة الجماعة سبب لخير كثير؛ لذلك قال الإمام الشوكاني رحمه الله: لا يخل بالمحافظة عليها إلا محروم مشئوم.(28/2)
حكم صلاة الجماعة(28/3)
القول بأن صلاة الجماعة سنة مؤكدة
حكم صلاة الجماعة مختلف فيه: فيقول المالكية رحمهم الله: صلاة الجماعة سنة مؤكدة في الفرض غير الجمعة، أما الجمعة فشرطها الجماعة، أي أن صلاة الجمعة لا تصح إلا في جماعة، أي: لا يصح مثلاً أن أقوم أنا في بيتي منفرداً فأؤذن للظهر، ثم أقوم فأخطب الخطبة الأولى، ثم الثانية، وأصلي ركعتين؛ لأن الجمعة أصلاً مشتقة من الجماعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي معنا الحديث في أحكام صلاة الجمعة-: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة) فاشترط النبي صلى الله عليه وسلم لصحة الجمعة حصول الجماعة، أما الصلوات الخمس فصلاة الجماعة فيها عند المالكية سنة مؤكدة.
والدليل على أن صلاة الجماعة سنة حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، وفي حديث أبي هريرة: (بخمسة وعشرين جزءاً).
فعندنا هاتان الروايتان، في أحدهما: سبع وعشرون، وفي الأخرى: خمس وعشرون، وقد تعددت أوجه أهل العلم رحمهم الله في الجمع بين هاتين الروايتين: فرجع بعضهم رواية الخمس؛ لكثرة رواتها.
ورجح آخرون رواية السبع؛ لأن فيها زيادة للعدل الثقة، وزيادة العدل الثقة مقبولة.
وقال بعضهم: ذكر القليل لا ينفي الكثير، وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد، كما في أصول الفقه؛ لأن المفهومات عند الأصوليين متعددة: فهناك مفهوم اللقب، ومفهوم العدد، ومفهوم الصفة، ومفهوم الشرط، ومفهوم المخالفة، فمفهوم العدد بعض أهل العلم كالحنفية لا يقولون به أصلاً، فمثلاً: قول الله عز وجل: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]، فهل لو استغفر لهم مائة مرة سيغفر الله لهم؟
الجواب
لا، والعدد لا مفهوم له، فههنا أيضاً قالوا: العدد لا مفهوم له، وإنما المراد أن الثواب كثير، وفرضوا هذا في جميع الأعداد الواردة في الجزاء على الأعمال، مثل قول الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّة} [البقرة:261] ثم قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261].
ومثله قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: إذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإن عملها فاكتبوها عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة) فليست القضية أنها تسعيرة لا تزيد ولا تنقص بل هي بحسب نية الإنسان، وجودة عمله، وإخلاصه لله عز وجل، فالثواب يتفاوت، لأسباب متعددة، فهنا قالوا: مفهوم العدد غير مراد، وذكر القليل لا ينفيه الكثير.
الوجه الثالث: قيل: أخبر بالخمس والعشرين، ثم أخبره الله بزيادة الفضل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن صلاة الرجل في جماعة أفضل من صلاة الفذ بخمس وعشرين جزءاً) هكذا أخبر عليه الصلاة والسلام، ثم أوحى الله إليه أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة.
الوجه الرابع: قالوا: إن الفرق باعتبار قرب المسجد وبعده، أي: أنها خمس وعشرون درجة للمسجد القريب، وسبع وعشرون للمسجد البعيد، ويدل على هذا المعنى أن أحد الصحابة رضوان الله عليهم كما يقول الصحابة عنه: كنا لا نعلم رجلاً أبعد ممشى إلى المسجد منه، وكان لا تفوته أو لا تخطئه صلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا له: لو ابتعت حماراً تركبه في الليلة الظلماء، وفي الليلة الشاتية، فقال: والله ما يسرني أن بيتي معلق طنبه بطنب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله إني لأرجو أن يكتب الله لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي منه، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (قد جمع الله لك ذلك كله) أي: أن الدرجات مكتوبة لك في الذهاب وفي الرجوع، فقالوا: كلما كان المسجد أبعد؛ كانت الحسنات أكثر.
الوجه الخامس: أن الفرق باعتبار حال المصلي، كأن يكون أعلم، أو أخشع، فنحن نصلي في المسجد بجوار بعضنا، ولكن أجرنا ليس سواء، فبعض الناس يصلي في المسجد ويخرج بالحسنات كاملة، وبعض الناس يصلي ولم يكتب له إلا نصفها، أو ثلثها، أو ربعها، أو خمسها، أو سدسها، أو سبعها، أو ثمنها، أو تسعها، أو عشرها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فليس الناس في الأجر سواء، فالفرق باعتبار حال المصلين، فبعضهم أعلم من بعض بالصلاة وأحكامها وسننها وآدابها، وبعضهم: قلبه أخشع وأسكن وأكثر طمأنينة، وكما قال العلماء: الخشوع نوعان: خشوع الجوارح، وخشوع القلب، فإذا كانت الجوارح خاشعةً والقلب غافلاً فإن هذا الخشوع يسمى خشوع المنافقين، وهو أن يقف الإنسان في صلاته ساكناً لا يتحرك، لكن قلبه في واد آخر، وكان بعض السلف يقول: نعوذ بالله من خشوع النفاق.
الوجه السادس: أن الفرق بإيقاعها في المسجد أو غيره، أي: أن من صلى في المسجد فله سبع وعشرون، ومن صلى مع الزوجة والعيال في البيت فله خمس وعشرون، وكذلك من صلى أمام الدكان وصلى جماعة معه فله خمس وعشرون، وهذا كما يصنع بعض الناس في رمضان في صلاة المغرب.
الوجه السابع: أن الفرق بالمنتظر للصلاة وغير المنتظر، فإنسان صلى المغرب، وجلس ينتظر العشاء؛ فله سبع وعشرون، وإنسان صلى المغرب وانصرف، ثم رجع للعشاء فله خمس وعشرون، أو إنسان جاء إلى صلاة المغرب قبل عشر دقائق، فمكث في المسجد، وآخر جاء مع الإقامة؛ فليسوا في الأجر سواء.
الوجه الثامن: أن الفرق بإدراكها كلها أو بعضها فلو جاء واحد وأدرك تكبيرة الإحرام، وجاء الثاني وأدرك الركوع الأخير فهل هما في الأجر سواء؟ ليسوا سواء.
الوجه التاسع: أن الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم، فمن صلى في زاوية المصلون فيها عشرة، ليس أجره كمن صلى في الجامع والمصلون فيه ألف أو يزيدون.
الوجه العاشر: أن السبع والعشرين درجة مختصة بالفجر والعشاء، وقيل: الفجر والعصر، وأن الخمس والعشرين مختصة بالصلوات الأخرى.
الحادي عشر: أن السبع والعشرين للجهرية، والخمس والعشرين للسرية، ورجح هذا الحافظ ابن حجر في الفتح، والصلوات الجهرية هي: الصبح، والجمعة، والأوليان من المغرب والعشاء، فالفضل فيها بسبع وعشرين، لماذا؟ لاعتبار زيادة العمل فيها؛ لأن الصلاة المعروف أنها اشتملت على أكثر العبادات، فالصلاة فيها ركوع، وسجود، وخشوع، وفيها كذلك تسبيح، وتحميد، وتهليل وتكبير، وفيها كذلك صيام؛ لأن الإنسان لا يأكل ولا يشرب في الصلاة، وفيها كذلك الصدقة، فالإنسان يتصدق بوقته، فيترك مكتبه، ويترك حانوته، ويترك عمله، وفيها كذلك الاتصال بالبيت الحرام عن طريق استقبال الكعبة، والصلاة الجهرية فيها عمل أكثر من الصلاة السرية، فالإنسان إذا كان إماماً أو منفرداً يقرأ، وإذا كان مأموماً فإنه يمسك عن القراءة، ففيها زيادة عمل، ويترتب على ذلك زيادة في الأجر ونقول: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4]، والعلم عند الله تعالى.
فخلاصة قول المالكية رحمهم الله، ومعهم الحنفية: أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة أي: أن من أدى صلاة الجماعة في المسجد فأجره مضاعف، ومن صلى وحده فصلاته صحيحة، لكنه فوت على نفسه الأجر الكثير.(28/4)
القول بوجوب صلاة الجماعة
القول الثاني: أن صلاة الجماعة واجبة وهو قول: عطاء بن أبي رباح والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل وأبو بكر بن المنذر وابن حبان وابن خزيمة، وأهل الظاهر وهم أصحاب داود بن علي الظاهري وابن حزم فمن تركها من غير عذر؛ فهو آثم.
واستدل المالكية رحمهم الله بقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد …) إلخ.
قالوا: إن قوله: ((أفضل)) معناه: أن في كلتيهما فضيلة، ولكن إحداهما أفضل من الأخرى، أما الذين يقولون بوجوبها فيقولون: لا، بل إن صلاة الجماعة قد استأثرت بالفضل كله، فصلاة الإنسان فرداً مجزئة وتسقط عنه الواجب، لكنه قد يحمل من الإثم وزراً عظيماً، ودليلهم على هذا القول: حديث أبي هريرة في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما؛ لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق ومعي رجال معهم حزم من حطب إلى رجال يصلون في بيوتهم؛ فأحرق عليهم بيوتهم).
واستدلوا أيضاً بحديث أبي هريرة: (أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله! إني أعمى وليس لي قائد يلائمني، والمدينة كثيرة الهوام والسباع، هل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فأذن له، فلما ولى دعاه قال: أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب) رواه مسلم.
واستدلوا بأثر ابن مسعود قال: ولقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، وجه الدلالة من هذه الأدلة: الدليل الأول: وهو حديث أبي هريرة المروي في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الصبح).
ومعناه: أن الصلاة على المنافقين كلها ثقيلة، لكن هاتان الصلاتان أعظم ثقلاً، قال: (ولو يعلمون ما فيهما) أي: من الأجر والثواب، (لأتوهما ولو حبواً) كما يحبوا الصغير على يديه وركبتيه أو على استه.
قال عليه الصلاة والسلام: (ولقد هممت) والهم: هو العزم، (أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق ومعي رجال معهم حزم من حطب إلى رجال يصلون في بيوتهم فأحرق عليهم بيوتهم)، ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على التحريق، والتحريق عقوبة، والعقوبة لا تكون إلا على ترك واجب، أو فعل محرم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاقب الناس على أنهم تركوا صيام الإثنين والخميس -مثلاً- أو على أنهم تركوا ركعتين بعد صلاة المغرب، بل في حديث الأعرابي أنه لما عرف أن الصلوات خمس، وأن الصيام المفروض هو صيام رمضان، وأن الحج مرة، قال: (والله! لا أزيد عليها ولا أنقص، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق).
فكون النبي صلى الله عليه وسلم نوى تحريق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة، دل ذلك على أن صلاة الجماعة واجبة.
لكن المالكية والحنفية ردوا عليهم فقالوا: إذا كانت صلاة الجماعة واجبة فكيف يتركها الرسول صلى الله عليه وسلم ويذهب ليحرق بيوت المتخلفين عنها، فقيل لهم: لا، بل سيرجع ويصليها بعدما يحرق بيوتهم، أو أنه يصلي الجماعة ثم يذهب ليحرق بيوتهم لتخلفهم عن صلاة الجماعة.
فرد عليهم المالكية والحنفية وقالوا: عقوبة التحريق لا تكون إلا للكفار، وهي ليست للمسلمين، فدل ذلك على أن القوم كانوا منافقين، وليسوا مسلمين أصلاً، فتحريق البيوت ليست لترك أهلها الجماعة بل لنفاقهم ولم يذكر عنه أنه أحرق بيت مسلم؛ لأنه يصلي في بيته.
فرد عليهم الحنابلة ومن معهم بقولهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن المنافق كافر في الباطن لا تقبل صلاته، ولا تنفعه سواء أوقعها في البيت أو أوقعها في المسجد، أي: المنافق الذي قلبه انطوى على الكفر لو صلى لا تنفعه صلاته سواء صلى إماماً بالناس أو صلى في الصف الأول ما يزيده ذلك من الله إلا بعداً.
فقال المالكية والحنفية: إن هذا الحديث منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد).
فردوا عليهم بقولهم: أين دليل النسخ؟ وأين الدليل على أن هذا الحديث كان بعد هذا؟ لأن هذا الناسخ الذي زعمتم متأخر عن المنسوخ، وبين القوم أجوبة ومطاولات.
فأتى الحنابلة ومن معهم بالحديث الذي بعده وهو حديث الأعمى الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أعمى وليس لي قائد يلازمني، والمدينة كثيرة الهوام والسباع أتجد لي رخصة؟) طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم الترخيص، والترخيص: هو التسهيل والتيسير، فقال: أتجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم أذن له وقال: (صلِ في بيتك) فلما ولى دعاه وقال: (أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب)، قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرخص للأعمى ترك الجماعة فكيف بالبصير، والحديث صحيح رواه مسلم والنسائي.
وفي الحديث إشكالان: الإشكال الأول: كيف أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم ألزمه ثانياً، قالوا: الإذن أولاً من الرسول صلى الله عليه وسلم، والإلزام ثانياً جاء بوحي من الله، فالرسول اجتهد لكون الرجل أعمى فعذَرَه وأذن له أن يصلي في بيته، ومثل ذلك إذنه للمنافقين في غزوة تبوك اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم؛ فعاتبه الله بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] فهنا أيضاً قالوا: ترخيصه للأعمى كان اجتهاداً منه، وهذا الاجتهاد منع بالوحي، وقيل: إن الأعمى سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أتجد لي رخصة أن أصلي في بيتي أي: ويكون لي أجر الجماعة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، أجب).
ويترتب على هذا الإشكال إشكال ثان: وهو ألم يقل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ َ} [النور:61]؟ وهذه تكررت مرتين في القرآن في سورة النور، وفي سورة الفتح {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ َ} [النور:61]، فهو أعمى وليس عنده قائد يقوده، والمدينة لم تكن شوارعها مرصوفة، ولا كانت فيها الأنوار، وهي كثيرة الهوام والسباع، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يأذن له بترك الجماعة؛ ففي هذا غاية الحرج.
رد الحنفية والمالكية عن ذلك بقولهم: قد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الأعمى تعييناً يستطيع أن يصل إلى المسجد بدون قائد؛ لفرط ذكائه كما هو حال كثير من العميان؛ فألزمه بالحضور، فقد تجد أحياناً أعمى يمشي إلى المكان وحده، وبدون قائد، ومن لا يعرفه يحسبه بصيراً؛ إما لأنه كان يتردد عليه قبل العمى، أو لأنه ذكي ألمعي، ولذلك قد تجد بعض العميان يسلم على الإنسان، وقد طالت الدهور بينهم، فبمجرد أن يسمعه يعرفه؛ لأن الله عز وجل عوضه حاسة بحاسة.
الدليل الثالث: وهو أثر ابن مسعود، قال رضي الله عنه: يا أيها الناس! من سره أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً؛ فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، فلو أنكم صليتم كما يصلي هذا المتخلف في بيته؛ لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم؛ لضللتم، قال: ولقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق.
هذا الكلام الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه لو طبقناه الآن على المسلمين فكم يوجد من المنافقين؟ وإذا قُرنت صلاة الصبح بصلاة الجمعة في سائر المساجد؛ ففي صلاة الجمعة أكثر الناس يصلون في المسجد، ولربما يصلون تحت حرارة الشمس في الشارع، أما صلاة الصبح فنجد الناس يعدون بالأصابع، وبقية الناس أين هم؟ والذي فرض الجمعة هو الذي فرض الصبح، لكن كما قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل صلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الصبح).
وفي بعض الأحاديث قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدكم أنه يجد عظماً سميناً) لو عرف أن المسجد فيه لحم (أو مرماتين حسنتين) وهو لحم الضلوع (لشهد العشاء الآخرة).(28/5)
القول بأن صلاة الجماعة شرط لصحة الصلاة
القول الثالث: أن صلاة الجماعة شرط في صحة الصلاة، فالذي يصلي في بيته صلاته باطلة، وهذا قول الظاهرية، والبعض كالشافعية قالوا: إن صلاة الجماعة فرض كفاية.
وخلاصة ما قاله العلماء رحمهم الله في صلاة الجماعة، والتي ذكرها الشوكاني رحمه الله: أنه لا يخل بالمحافظة عليها إلا محروم مشئوم، وأعيذك بالله ونفسي أن نكون من هؤلاء المحرومين المشئومين؛ لأن في ترك الجماعة في المسجد هجر لبيوت الله عز وجل، وهذا لا يجوز، قال الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، فالرجل صلاته في المسجد.(28/6)
بم تدرك صلاة الجماعة؟
تدرك صلاة الجماعة بإدراك ركعة مع الإمام، وذلك بأن يركع المأموم قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع، وإن لم يطمئن إلا بعد اعتدال الإمام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام؛ فقد أدرك الصلاة).
مثال ذلك: صلاة العشاء في الحضر أربع ركعات، وجئت متأخراً فما أدركت إلا الركوع الأخير وهو ركوع الركعة الرابعة، لكني أدركت الإمام قبل أن يقيم صلبه، فقد أدركت الركعة كاملة، وبالتالي أدركت صلاة الجماعة ولو لم أطمئن -والطمأنينة هي استقرار الأعضاء- إلا بعد اعتدال الإمام، فأنا بذلك أدركت فضل الجماعة، ومعنى ذلك: أن من أدرك التشهد فليس له حكم الجماعةُ، من أدرك الإمام بعدما قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة؛ فليس له حكم الجماعة، أما من ناحية الفضل فالله أعلم بذلك فهل أدرك فضل الجماعة أو لم يدرك؟ الله أعلم.
ولو أن رجلاً تأخر عن الجماعة؛ لأنه كان مشغولاً بتمريض أبيه، أو أمه، وآخر تأخر عن الجماعة؛ لأن هناك مباراة فليس هذا والأول سواء.
ومن أخطاء المصلين أنه إن أدرك الإمام راكعاً أحدث أصواتاً من فرط سرعته ولربما قال للإمام: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] ليتأخر الإمام في الركوع فيدرك معه الركعة، وهذا جهل منه.
ومن الأخطاء: أنه إن أدرك الإمام راكعاً؛ كبر وركع ونوى بهذه التكبيرة الانتقال إلى الركوع، فصلاته باطلة؛ لأنه يكبر تكبيرة الإحرام.(28/7)
فضل الإمامة
الإمامة من أشرف المناصب وأرفعها، ويكفي الإمامة شرفاً: أنه تولاها خير خلق الله صلى الله عليه وسلم، وأنه في حياته المباركة عليه الصلاة والسلام، منذ أن فرض الله الصلاة إلى أن توفاه الله ما تخلف عن إمامة المسلمين سوى خمس عشرة صلاة، وهي: ثلاثة أيام قبل أن يتوفاه الله؛ لأنه ما استطاع أن يصلي بهم أصلاً، فبعدما كان يصلي بهم قائماً، صلى بهم قاعداً، ثم عجز عن الخروج أصلاً، وذلك عندما أمر عليه الصلاة والسلام بماء؛ فوضع له في المخضب؛ فاغتسل عليه الصلاة والسلام، فلما أراد القيام أغشي عليه، فأمر بماء فوضع في المخضب؛ فاغتسل فلما أراد القيام أغشي عليه، فسأل: (هل صلى الناس؟) قالوا: لا، فأمر بماء فوضع له في المخضب؛ فاغتسل فلما أراد القيام أغشي عليه فسأل: أصلى الناس؟ قالوا: لا، هكذا سبع مرات، كلما أراد أن ينهض عليه الصلاة والسلام أغشي عليه، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) لذلك كانت الإمامة أشرف المناصب.
ومن أدلة شرفها: أن الصحابة لما قدموا أبا بكر خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاكماً على المسلمين، استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله إماماً في الصلاة وقالوا: رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا؛ أفلا نرضاك لدنيانا! ومن فضل الإمامة كذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للأئمة فقال: (اللهم! أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين، الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن).(28/8)
شروط الإمامة
الإمامة من أشرف المناصب وأجلها وأرفعها؛ لذا كان لا بد لها من شروط؛ لأن الإمامة العظمى وهي رئاسة الدولة أو الخلافة لها شروط كذلك، فلا يصلح كل شخص للإمامة في الصلاة: والشروط المعتبرة للإمام عند المالكية هي: أول شرط: الذكورة، فلا تصلي بالناس امرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم) فالمالكية رحمهم الله استدلوا بهذا الحديث على: أن المرأة لا تؤم رجالاً، ولا نساء، وهذا خلاف قول الجمهور الذين قالوا: إن المرأة تصلي بالنساء وتقف في وسطهن، ولم يخالف في عدم جواز إمامة المرأة الرجال في الصلاة إلا الإمام الطبري لو صحت الرواية عنه، والإجماع منعقد على أن المرأة لا تؤم الرجال.
ووجه استدلال المالكية في عدم جواز إمامتها للرجال والنساء: أن كلمة القوم معني بها الرجال، والدليل أن الله عز وجل قال: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] ثم قال: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] واستدلوا بقول القائل: وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء والمقصود أرجال آل حصن أم نساء والصحيح -والعلم عند الله تعالى- هو قول الجمهور، وهو أن المرأة تصلي بالنساء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لـ أم ورقة رضي الله عنها أن تتخذ مؤذناً، وأن تؤم نساء دارها.
الشرط الثاني: الإسلام، وهذا لا نقاش فيه؛ لأن الكافر لا يصح منه عمل أصلاً، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور:39].
وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِف} [إبراهيم:18].
وقال: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88].
الشرط الثالث: العقل؛ فالمجنون لا تصح إمامته، وكذلك السكران، لأن قد يصلي العشاء ركعتين، والفجر ثمان وقد يركع في الركعة الواحدة ثلاث ركعات، وقد يفعل الأفاعيل المبطلة للصلاة.
الشرط الرابع: البلوغ، فلا تصح إمامة الصبي؛ لأن الصلاة في حقه نافلة.
وعند المالكية: لا يصح أن يأتم المفترض بالمتنفل، ومثلهم الحنفية في عدم جواز إمامة الصبي، وكذلك الإمام أحمد رحمه الله في قول له، لكن الصحيح أنه يجوز أن يصلي الصبي بالناس، ولا فرق في ذلك بين فريضة أو نافلة، ودليل ذلك: حديث عمرو بن سلمة الذي رواه البخاري قال: (لما كانت وقعة الفتح؛ قدم الناس بإسلامهم وبادر أبي بإسلام قومه ثم جاءنا فقال: قدمت من عند رسول الله حقاً، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة؛ فليؤذن أحدكم؛ وليؤمكم أكثركم قرآناً؛ فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني؛ لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين، وكانت علي بردة، وكنت إذا سجدت تقلصت عني البردة -يعني: إزار صغير فكان إذا سجد تقلصت البردة- فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا سوءة قارئكم؟ قال: فاشتروا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص).
الشاهد من الحديث أنه صلى بالناس وهو ابن ست أو سبع وهو صبي.(28/9)
فقه الصلاة_مكروهات الصلاة [1]
بصلاح الصلاة تصلح سائر الأعمال، وبفسادها تفسد بقية الأعمال فهي فاتحة الحساب يوم الحساب، وهي من أعظم دعائم الدين، ومن شعائره الظاهرة الدالة عليه، ومن هذا المنطلق كان لزاماً على المسلم أن يعرف ما ينقص من أجرها العظيم وخيرها الجليل، ومن ذلك مكروهات الصلاة التي تنقص من قيمة الصلاة.(29/1)
تسوية الصفوف من تمام الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار، أما بعد: أيها الإخوة الكرام! في بداية هذه المحاضرة لا بد من التنبيه على أن السنة ألا يبدأ الناس صفاً حتى يكملوا الصف الذي قبله، فإني دخلت في صلاة المغرب بعد تكبيرة الإحرام، فوجدت ثلاثة صفوف ناقصة؛ وذلك لأن صفوف المسجد طويلة، فالناس يتكاسلون عن إكمال الصف فيبدءون صفاً جديداً، ولربما بعض الناس بدءوا صفاً من ناحية الشمال، وآخرون بدءوا من خلف الإمام، فيكون الصف مقطعاً، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يتمون الصف الأول فالأول) يعني: لا نبدأ صفاً جديداً حتى نتأكد من إكمال الصف الذي قبله.
ثم الإنسان إذا وجد الصف مكتملاً فأراد أن يبدأ بصف جديد فلا بد أن يكون البدء من خلف الإمام، ثم ينتشر الناس يميناً وشمالاً، ولو كان يمين الإمام قليلاً فلا يضر، أما أن يبدأ الناس من الناحية اليسرى فهذا مخالف للسنة، والأصل في ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (فصففت أنا واليتيم خلفه والعجوز من ورائنا)، فلا بد من التزام هذا الأمر.(29/2)
الرجوع إلى الكتاب والسنة والاسترشاد بمذاهب الأئمة
الأمر الثاني أيها الفضلاء! ورد سؤال في نهاية المحاضرة الماضية عن الرجوع إلى الكتاب والسنة مباشرة، وأحسب أن الجواب عليه لم يك كافياً، وأريد أن أقول في تكملة
الجواب
إن الأئمة الكبار قديماً وحديثاً اقتدوا بمن تلقوا عنهم، فإذا قويت ملكة الواحد منهم، ورسخ في العلم قدمه؛ صار له منهج أو صارت له أقوال، لكن لم يبدأ أحد من هؤلاء الأئمة بالإفتاء قبل أن يحفظ القرآن، وقبل أن يعرف السنة، وقبل أن يدرس اللغة العربية، فيقول: أنا آخذ مباشرة من القرآن والسنة! حتى العلماء الكبار المعاصرون في زماننا هذا عندهم مذاهب، فمثلاً الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه حنبلي، والشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله حنبلي، ولا يعني ذلك أنهما لا يخالفان مذهب الإمام أحمد في قليل أو كثير، لكن بعدما رسخت أقدامهم في العلم، وقويت شوكتهم، واشتدت ملكتهم صاروا ينظرون في المذاهب الأخرى، ولربما يختار أحدهم لنفسه قولاً.
وقل مثل ذلك في المتقدمين، فمثلاً الإمام أبو عبد الله بن القيم أو الإمام أبو العباس بن تيمية رحمة الله على الجميع، هؤلاء جميعاً كانت لهم مذاهب.
والآن من يقولون: نرجع إلى الكتاب والسنة حقيقة الأمر أنهم مقلدون، ولكنهم يقلدون بعض المعاصرين، فمثلاً الآن تجد بعض الإخوة يقول: أنا ليس لي مذهب، وإنما آخذ من الكتاب والسنة مباشرة، لكنه في غالب الأمر يرجع إلى أقوال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه، أو يرجع إلى ترجيحاته، فهو مقلد شاء أم أبى، لكن الفرق بينه وبين غيره، أن غيره قلد أحد الأئمة الأربعة أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد، وهو قلد معاصراً من المعاصرين، فالمفروض أن يعرف كل امرئ منا قدره، وألا يعدو هذا القدر، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، فنقلد أولئك الأئمة لأنهم أتقى وأورع، وأعلم وأفضل، وأقرب عهداً بالنبوة، ثم بعد ذلك إن بان لنا الحق في خلاف قول الإمام الذي نقلده نأخذ بالحق اتباعاً للإمام؛ لأن الإمام نفسه سواء كان أبا حنيفة أو مالكاً أو الشافعي أو أحمد أمرنا بأن نتبع الدليل.
فمثلاً إمامنا مالك رحمه الله في صيام ست من شوال قال: أكرهه ولم أر أحداً من أهل العلم يفعله، وأكره أن يلحقه أهل الجفاء برمضان.
فهذا القول من مالك رحمه الله لا يعمل به حتى المالكية أنفسهم؛ لأن الحديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر).(29/3)
من يؤمر بإعادة الصلاة؟
النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي الذي لم يحقق شرط الطمأنينة أن يعيد الصلاة، ولم يأمر معاوية بن الحكم الذي تكلم في الصلاة بالإعادة، مع أن هذا ارتكب مبطلاً والآخر ارتكب مبطلاً، فما الفرق؟ هذا محمول على أن معاوية بن الحكم كان حديث عهد بالتشريع الذي منع فيه الكلام في الصلاة؛ لأنهم في أول الأمر كانوا يتكلمون، فـ معاوية تكلم بناء على الأصل وهو إباحة الكلام، فجاء دليل رافع لهذا الأصل وهو قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].
قال الراوي: [فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام] ومعاوية ما كان يعرف هذا فتكلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم عذره لحداثة عهده؛ ولأنه لم يعلم بهذا التشريع.
ومثل هذا عندما صلى المسلمون في قباء مستقبلين بيت المقدس، وكانت الآية قد نزلت: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، ولما جاء من يبلغهم كانوا قد أتموا ركعتين فقال لهم: نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال وأكملوا الركعتين الأخيرتين وهم مستقبلون المسجد الحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالإعادة رغم أن صلاتهم كانت بعد نزول الآية، لكن الآية لم تبلغهم.
والإمام الشوكاني رحمه الله ذكر جواباً آخر وهو أن الأعرابي أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة صراحة: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ونقل إلينا، أما معاوية فإنه لم ينقل إلينا أنه أمره بالإعادة، وعدم حكاية الأمر بالإعادة لا يستلزم عدم الأمر بها، يعني: راوي الحديث ما نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا معاوية! أعد الصلاة، لكن نقل إلينا أنه قال له: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح وقراءة القرآن) وعدم العلم ليس علماً بالعدم، فمثلاً قال عبد الله بن عباس: الرسول صلى الله عليه وسلم ما صلى في جوف الكعبة، غاية ما عنده أنه ليس عنده علم، ولا يستلزم هذا العلم العدم؛ لأن بلالاً رضي الله عنه أثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة.
فهذا جواب آخر ذكره الإمام الشوكاني رحمة الله عليه، وحقيقة هذه المسألة ترجع إلى أصل وهو هل يعذر الجاهل بالجهل أو لا يعذر؟ فبعض العلماء قالوا: يعذر، وبعضهم قال: لا يعذر.
ومسألة الكلام في الصلاة فيها مسائل كثيرة، مثل من تكلم بآية يقصد جواب مخلوق فصلاته باطلة، كمن يستأذن عليه أحد وهو يصلي فيقرأ قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46]، أو جاء رجل اسمه نوح، فأزعجك وأنت تصلي فتقول: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود:32]، ولكن بعض العلماء يقولون: لا تبطل صلاته، لأنه في حقيقة الأمر قرأ آية، واستدلوا بأن علياً رضي الله عنه بينما كان يصلي جاء رجل من الخوارج ممن ساء أدبهم وقل علمهم فقال له: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، فهم كانوا يتهمون علي بالكفر، فـ علياً رضي الله عنه أجابه على البديهة هكذا: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]، وقصد بذلك جوابه، لكن في مسائل الخلاف الورع يقتضي أن الإنسان يخرج من الخلاف، فلا يفعل شيئاً يجعل صلاته عند البعض صحيحة، وعند البعض باطلة.(29/4)
المكروهات في الصلاة
ننتقل الآن إلى محاضرة اليوم وهي مكروهات الصلاة، والمحاضرة الماضية كانت عن المبطلات، والمبطل: اسم فاعل من البطلان، والبطلان: هو أن يكون العمل باطلاً فلا يعتد به، سواء كان في المعاملات أو في العقود، فالباطل ما لا يترتب عليه أثره، فمثلاً: عقد البيع أثره هو انتقال ملكية الثمن للبائع والمثمن للمشتري، وإذا كان البيع باطلاً لا يترتب عليه أثره شرعاً، يعني: لا ينتقل الثمن للبائع ولا المثمن أو السلعة للمشتري، ومثلاً: عقد النكاح أثره حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر، فإذا كان العقد باطلاً فلا يترتب عليه أثره، مثل أن يكون النكاح من غير الولي، أو فقد الشهود، أو كانت المرأة ليست محلاً للعقد لكونها من المحارم مثلاً، أو لكونها أختاً له من الرضاعة ونحو ذلك، فهذا هو الباطل.
أما المكروه فهو: الذي يثاب تاركه، ولا يعاقب فاعله، مثل النوم على البطن، فهو عند أكثر العلماء مكروه؛ (لأن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً نائماً على بطنه فأيقظه برجله وقال له: قم؛ فإنها ضجعة أهل النار).
قال القرافي رحمه الله: المكروه هو: ما رجح تركه على فعله شرعاً من غير ذم، والمباح ما استوى فيه الطرفان الفعل والترك، يعني: كونك تشرب ماءً أو تشرب عصيراً هذا مباح، أي: ليس في فعله ثواب ولا في تركه عقاب، أما المكروه فطرف الترك فيه راجح، لكن لا يلحق فاعله ذم مثلما يلحق فاعل الحرام، وفاعل الحرام يلحقه الذم، فما هي المكروهات التي على المصلي أن يجتنبها؟(29/5)
الدعاء أثناء قراءة الفاتحة
الأول: يكره الدعاء أثناء الفاتحة، والمصلي لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون إماماً، أو منفرداً، أو مأموماً، فالإمام والمنفرد يقرأان، والمأموم ينصت، فالمصلي لا يخلو من هذين الحالين، إما أن يقرأ، وإما أن ينصت، ولا محل للدعاء، وبعض الناس يدعو عندما يقرأ الإمام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فتجد أحدهم يقول: استعنت بالله، وبعض العلماء يبطل الصلاة بهذه الكلمة، ويجعلها من الكلام الأجنبي الذي هو من غير جنس الصلاة.
وأيضاً بعض الناس إذا قال الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] يدعو بدعوات كثيرة: رب اغفر لي ولوالدي والمؤمنين يوم يقوم الحساب، وفي ظنه أن الناس حين يقولون: آمين، أنهم يؤمنون على دعائه هو! فهذا من الأمور المكروهة في الصلاة، فما ينبغي أن يدعو الإنسان حال قراءة الفاتحة، بل إما أن يقرأ، وإما أن ينصت.(29/6)
الدعاء أثناء الركوع
الثاني: الدعاء أثناء الركوع، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الأذكار في أثناء الصلاة، ففي حال القيام القراءة، وفي حال الركوع ذكر معين، وهو تعظيم الرب جل جلاله، وفي أثناء السجود ذكر معين مع الإكثار من الدعاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)، فالإنسان حال ركوعه إما أن يقول: سبحان ربي العظيم، وإما أن يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، وإما أن يقول: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، وهذا ثابت في صحيح مسلم، ولا يختص بقيام الليل، وإما أن يقول: اللهم لك ركعت وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين.
ويستثنى من الدعاء ذكر واحد ثبت من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في آخر حياته من أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)، قالت: كان يتأول القرآن؛ لأن الله تعالى قال له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]، وفي البخاري وغيره أن عبد الله بن عباس رضي الله عنه كان يدخله عمر في مجلسه وهو شاب، فكأن بعض الصحابة وجد في نفسه وقال: لم يدخل عمر هذا الفتى وعندنا أبناء مثله؟! فـ عمر رضي الله عنه كأنه علم بما قالوا فسألهم في مجلس من مجالسه: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]؟ فقال بعضهم: أمرنا ربنا إذا نصرنا وفتح علينا أن نستغفره ونسبحه، وسكت آخرون فلم يقولوا شيئاً، فقال عمر: وأنت ما تقول يا ابن عباس؟ فقال رضي الله عنه: هذه السورة نعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه فقال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2]، وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]، فقال له عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول.
إذاً: الركوع يشرع فيه تعظيم الرب، إما أن تقول: سبحان ربي العظيم، وإما أن تقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، وإما أن تقول سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وإما أن تقول: اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين، وإما أن تقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، ولا تجعل الركوع محل الدعاء، وإنما محل الدعاء هو السجود.
وبهذه المناسبة أقول: الحنفية رحمهم الله يقولون ببطلان الصلاة بالدعاء بما يشبه كلام الناس كمن يقول: اللهم زوجني فلانة، والحنفية رحمهم الله ليس عندهم على هذا دليل، وهذا دعاء مشروع من حسنة الدنيا، فدعاء: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة:201] فسرت الحسنة منه بالزوجة الصالحة، والإمام المجد بن تيمية رحمه الله ليس أبا العباس وإنما جده صاحب منتقى الأخبار ترجم باب من دعا بما ليس مشروعاً إذا كان جاهلاً، وأتى بقصة الأعرابي الذي بال في المسجد، ثم دعا فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فهذا الدعاء ليس بمشروع، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة؛ لأنه جاهل، فإذا كان هذا ما بطلت صلاته، فمن باب أولى من قال: اللهم زوجني فلانة.(29/7)
قراءة القرآن في الركوع والسجود
الثالث من المكروهات: قراءة القرآن في الركوع وفي السجود؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في نفس الحديث الذي سبق: (ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)، فقراءة القرآن حال الركوع وحال السجود مكروهة؛ لأن هذا الركن ليس محله القراءة، وإنما محل القراءة القيام.
ولو أن سائلاً قال: أنا أريد أن أدعو بشيء من أدعية القرآن فما الحكم؟ فنقول: لا بأس؛ لأنك ما قصدت القراءة، وإنما قصدت الدعاء كما لو قال قائل في دعائه: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192]، أو قال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [إبراهيم:41]، أو قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40]، {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]، أو قال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
وقد اتفق أهل العلم على أن أفضل الدعاء ما كان في القرآن، ويليه في الرتبة ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام؛ وأقول هذا الكلام لأن رمضان قد اقترب نسأل الله أن يبلغنا إياه، وبعض الأئمة يتكلف في الدعاء، ويأتي بأدعية ما أنزل الله بها من سلطان، مثل: اللهم احفظنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، اللهم إنا نسألك العافية في الجسد، والصلاح في الولد، والأمن في البلد، وبعض الناس يدعو فيقول: اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، وأبنائنا وبناتنا، وأعمامنا وعماتنا، وأخوالنا وخالاتنا، وأجدادنا وجداتنا! وخير الدعاء دعاء القرآن، قال تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]، {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28]، ونحو ذلك، أما التكلف في الدعاء فهذا خطأ محض، ولذلك بعض الصالحين لما رأى رجلاً يدعو ويتكلف في الدعاء قال له: يا هذا! أتبالغ على الله؟! لقد رأيت فلاناً في يوم عرفة وما كان يزيد على أن يقول: اللهم اجعلنا مؤمنين، اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك، ونحو هذا، كلام يسير، لكنه يخرج من القلب، فيستجيب الله عز وجل له.
واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه، فلا تبالغوا أيها الفضلاء! وإذا صلى أحدكم بالناس فلا يطول في الدعاء، وحبذا لو اقتصر على المأثور من القرآن وما ثبت عن رسولنا عليه الصلاة والسلام كقوله: (اللهم تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا) (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك) ونحو ذلك مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، وهي أدعية كثيرة.(29/8)
السجود على ما فيه رفاهية
الرابع: السجود على ما فيه رفاهية، قال سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين: الصلاة على الطنفسة محدثة، وهي مثل هذا الفراش الذي يسمى بالموكيت، ومع هذا بعض الناس لشيء في نفسه يأتي من بيته بسجادة فيفرشها فوق هذا الفراش ويسجد عليه، فلو أنه ترك هذا الترف لكان خيراً له، ولا يتميز عن الناس.
والمالكية يقولون: يستحب السجود على الأرض أو على الحصير، قالوا: ولا يسجد على شيء سميك، اللهم إلا إذا كان وقفاً من قبل بناء المسجد، والحقيقة أن الأمر واسع إن شاء الله، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا إليه الصحابة الحر فلم يشكهم، يعني ما التفت إلى شكواهم، ثم أذن لهم صلى الله عليه وسلم أن يبسط أحدهم ثوبه فيسجد عليه، فدل ذلك على أن الإنسان لو بسط رداء أو ثوباً من غير ترفه فلا حرج في ذلك إن شاء الله والصلاة صحيحة.(29/9)
الالتفات في الصلاة بلا حاجة
الخامس من مكروهات الصلاة: الالتفات في الصلاة بلا حاجة، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)، والاختلاس هو من أخذ الأمر خلسة أي: بخفة وبسرعة، قال النووي رحمه الله: الجمهور على أن الالتفات مكروه ما لم يبلغ إلى حد استدبار القبلة، والحكمة في النهي عنه ما فيه من نقص الخشوع، والإعراض عن الله تعالى، وعدم القدرة على مخالفة وسوسة الشيطان، ومن ذلك التلفت بالعينين.
أما من استدبر القبلة فصلاته باطلة؛ لأنه قد أخل بشرط من شروط الصحة.
أما إذا كان الالتفات في الصلاة لحاجة فلا كراهة إن شاء الله، ودليل جواز الالتفات لحاجة حديث جابر رضي الله عنه قال: (اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قياماً فأشار إلينا)، رواه مسلم، ومعنى اشتكى أي مرض، يقال هو شاكٍ أي مريض، ولا تقل: شاكٌ بالتشديد والتنوين، لأنه يكون بمعنى شك.
وحديث سهل بن سعد رضي الله عنه في صلاة أبي بكر بالناس حين ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلح بين بني عمرو بن عوف، وهو متفق عليه.
وحديث سهل بن الحنظلية قال: (ثوب بالصلاة -أي أقيمت صلاة الصبح- فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
إذاً نقول: من مكروهات الصلاة الالتفات، وهذا الالتفات إما أن يكون لحاجة أو لغير حاجة، والالتفات لغير حاجة مثاله: إنسان يصلي في المسجد فأحس بداخل فالتفت لينظر من هذا الداخل أو أحس بخارج فالتفت لينظر من هذا الخارج، أو شعر بأن إنساناً دخل يحمل في يده شيئاً فالتفت لينظر ما في يد هذا الإنسان، هذا كله التفات بغير حاجة، وهو مكروه، أما الالتفات لحاجة فلا كراهة.(29/10)
الأنبياء يطرأ عليهم ما يطرأ على غيرهم من البشر
الأنبياء يطرأ عليهم ما يطرأ على البشر، فهم ينسون كغيرهم من البشر، قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) وهم يخافون كما قال الله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا} [القصص:21]، والنبي قد يغضب، قال الله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف:150]، حتى بلغ من غضب موسى عليه السلام أنه جر أخاه من لحيته، والنبي قد يخطئ إصابة الحق في القضاء، والدليل: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار)، والنبي يمرض، والدليل من القرآن: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، والنبي يموت قال الله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].
والنبي محمد صلى الله عليه وسلم كغيره كان يمرض أحياناً، وقد اعترته العوارض البشرية في يوم أحد، فجرح في رأسه، وجحشت ركبته، وكسرت رباعيته عليه الصلاة والسلام، وتهشمت البيضة على رأسه، وكل هذه عوارض بشرية.(29/11)
الالتفات لحاجة في الصلاة
في الحديث: (صلى عليه الصلاة والسلام بالناس شاكياً فقعد فأحس عليه الصلاة والسلام بالناس من خلفه يصلون قياماً فالتفت عليه الصلاة والسلام وأشار إليهم أن يجلسوا)؛ لأنه عليه الصلاة والسلام علمنا أن الإمام يقتدى به، وقال: (فإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) وعند المالكية لا يصلي أحد قاعداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن شروط الإمام عندهم أن يكون قادراً على الأركان كالمأموم.
فهنا الرسول صلى الله عليه وسلم التفت لحاجة، فهذا الدليل الأول على جواز الالتفات للحاجة.
الحديث الثاني: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهما، فحضرت الصلاة ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم بلال أبا بكر ليصلي للناس، فتقدم أبو بكر، فلما افتتح صلاته قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الناس يتنحنحون، وكان أبو بكر لا يلتفت، فلما أكثر الناس من التنحنح التفت رضي الله عنه، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه أن مكانك -يعني واصل صلاتك إماماً- فحمد أبو بكر ربه، ثم رجع القهقرى وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتم بالناس الصلاة، فلما انصرف قال لـ أبي بكر: ما منعك أن تمكث إذ أمرتك)، وهذا اقتباس من القرآن، فقال أبو بكر: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا أبو بكر التفت لحاجة.
الحديث الثالث: حديث سهل بن الحنظلية رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم ثوب بالصلاة) يعني: أقيمت الصلاة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أذن المؤذن ولى الشيطان وله ضراط، فإذا فرغ رجع، فإذا سمع التثويب -يعني: الإقامة- ولى وله ضراط ثم رجع)، قال: (ثوب بالصلاة -يعني: صلاة الصبح- فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتفت يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، وكان عليه الصلاة والسلام قد أرسل رجلاً حارساً قبل شعب من الشعاب في المدينة) يعني: كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حال خطر في غزوة من الغزوات، فدل ذلك على أن الالتفات في الصلاة إذا كان لحاجة فلا كراهة.
ومن الالتفات للحاجة إذا وسوس لك الشيطان في الصلاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى الاستعاذة، وأن يتفل أحدنا عن يساره ثلاثاً، هكذا نفخ من غير ريق، لحديث عثمان بن أبي العاص الثقفي في صحيح مسلم قال: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن الشيطان قد لبس علي صلاتي فلم أدر كم صليت، فقال صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان يقال له: خنزب)، هذه بالمثلثة يعني: خَنْزب، وخُنْزب، وخِنْزب وعلى الأحوال الثلاثة عليه لعنة الله سواء كان بالفتحة أو بالضمة أو بالكسر، قال: (ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسسته في صلاتك فاتفل عن يسارك ثلاثاً واستعذ بالله منه، قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني).
وفي الحديث السابق أبو بكر استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما كان لأحد أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا تخصيص بالحال، أما أنا مثلاً أصلي بالناس، ومرة التفت فأجد خلفي أعظم علماً، وأكبر سناً، وأفضل وأجدر، فلا يشرع أن أقدمه وقد دخلت في الصلاة.
مثال آخر للالتفات للحاجة، في حالة الحرب تضطر إلى الالتفات ومراقبة العدو، وقد مر معنا الآن حديث سهل بن الحنظلية.
مثال آخر: طبيب يلازم المريض، والمريض حالته حرجة، فهو يصلي وينظر إلى الجهاز ويتتبع تخطيط القلب، فهذا التفات لحاجة، ولو حصل خطر يقطع الصلاة، ثم يستأنفها من جديد، فإذا تزاحمت الواجبات يقدم الأهم فالمهم، كما لو كنت تصلي فرأيت أعمى يسير نحو هاوية مثلاً، أو رأيت طفلاً يسير نحو كهرباء مكشوفة أو نار؛ فتقطع الصلاة، وتنقذ هذه النفس، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32].
قد يقول قائل: كيف خالف أبو بكر أمر الرسول له بالبقاء في الصلاة؟
الجواب
الشافعية يقولون: الأدب مقدم على الأمر، واستدلوا بقصة أبي بكر عندما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمكث في مكانه ويتم الصلاة، لكن أبا بكر رجع، وكذلك قصة علي رضي الله عنه لما كتب بسم الله الرحمن الرحيم فقام سهيل بن عمرو وقال له: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب باسمك اللهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (امحها يا علي!) فـ علي رضي الله عنه محاها، ولما كتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو قال له: لو نعرف أنك رسول الله ما حاربناك، اكتب محمد بن عبد الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (امحها يا علي، فقال: والله لا أمحوها، فمحاها صلى الله عليه وسلم بيده)، لكن لا يخفى عليكم أن كلام الشافعي رحمه الله في هذا الأمر مرجوح؛ لأن الصلاة جعلت لتعظيم الله عز وجل، فلا يناسب أن يسود فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سيدنا بلا شك، ولا خلاف في هذا بين أهل الإسلام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، بل يوجد من دونه من هو سيدنا كما قال عمر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، وهو بلال، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار! قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) أي سعد بن معاذ، ولما قال سعد بن عبادة في الحديث: أهكذا نزلت يا رسول الله؟! قال: (أما تسمعون ما يقول سيدكم؟!)، لكن في الصلاة ما نقول: سيدنا، يوجد مسجد هنا في أم درمان دخلت للصلاة فيه فسمعت المؤذن وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن سيدنا محمد رسول الله، ويكررها! فهذا يفتح باب الابتداع، أنت قلت: سيدنا، وأنا بكرة آتي وأقول: أشهد أن سيدنا ومولانا محمداً رسول الله، وبعد بكرة يأتي واحد يقول: أشهد أن سيدنا ومولانا وحبيبنا محمد رسول الله، والأذان يزداد يوماً بعد يوم كأنه مطاط!(29/12)
فقه الصلاة_مكروهات الصلاة [2]
يتعلق بالصلاة جملة من الأحكام الشرعية، ومنها ما يكره فعله في الصلاة، فقد كره الشرع فعل أشياء في الصلاة كما كره ترك أشياء فيها، فمما كره الشرع فعله في الصلاة تشبيك الأصابع فيها وكذلك حال الذهاب إليها، وكره فرقعة الأصابع فيها، وكره الإقعاء فيها والتخصر وتغميض العينين ورفعهما إلى السماء، وكره التفكير فيها في أمر دنيوي، والاشتغال بما يلهي عن الصلاة، والتثاؤب وغير ذلك، ومما كره الشرع تركه ترك السنن المستحبة في الصلاة كدعاء الاستفتاح والاستعاذة والبسملة ورفع اليدين في مواطن لا يصح رفعهما فيها ونحو ذلك.(30/1)
تابع مكروهات الصلاة(30/2)
تشبيك الأصابع
السادس من الأمور المكروهة في الصلاة: تشبيك الأصابع؛ لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامداً إلى الصلاة فلا يشبكن بين يديه؛ فإنه في صلاة).
والمعنى أن الإنسان لا يشبك بين أصابعه في الصلاة، ولا هو في الطريق إلى الصلاة، ويلحق بذلك أيضاً ما يفعله بعض الناس من أنه يجعل يديه من وراء ظهره.
وقد يقال: لم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشبيك بين الأصابع؟ قيل: لما فيه من العبث، وقيل: لما فيه من التشبه بالشيطان، وقيل: لأنه دال على تشبيك الأحوال، أي أنه دليل الهم والغم والضيق والكرب، لذلك فإن بعض إخواننا لو رأى إنساناً واضعاً يديه على رأسه ينهاه ويقول له: أرسل يديك؛ لأن ذلك دليل الهم.(30/3)
فرقعة الأصابع
المكروه السابع: فرقعة الأصابع، أي: غمز مفاصلها حتى تحدث صوتاً، لحديث معاذ عند البيهقي: (الضاحك في الصلاة والملتفت والمفرقع أصابعه بمنزلة واحدة)، وهذا الحديث ليس صحيحاً؛ لأن في إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف، ولا يخفى أن في المتن نكارة؛ لأن الضاحك في الصلاة صلاته باطلة، والملتفت صلاته ليست باطلة، وإنما فعله ذلك مكروه، فكيف نجمع بين الضاحك والملتفت والمفرقع أصابعه؟ فالمفرقع أصابعه فعله عبث، وأقل أحواله الكراهة.
وقد يقال: لم نأتي بهذا الحديث مع كونه ضعيفاً؟
و
الجواب
أن هذه المذكرة كتبت على مذهب مالك رحمه الله، فما هو مذكور هاهنا هو مذهب مالك رحمه الله، فنذكره وبعضه نرد عليه، ولذلك أتيت بالحديث نقلاً من مذهب مالك، ثم عقبت عليه بأنه ضعيف.
ولكن العلماء جميعاً ينصون على أن فرقعة الأصابع في الصلاة مكروهة؛ لأنها عبث، فإذا كنا نهينا عن الأفعال الكثيرة في الصلاة كحك البشرة وإصلاح الرداء فمن باب أولى ننهى عن الفرقعة؛ لأن الحك قد يحتاج إليه الإنسان، أما الفرقعة فلا يحتاج إليها.(30/4)
الإقعاء
المكروه الثامن: الإقعاء.
والإقعاء: أن يضع المصلي أليتيه على عقبيه بين السجدتين، والعقب هو مؤخر القدم، وهو الذي يسمى العرقوب، فبعض الناس في الصلاة يجلس فيضع أليتيه على عقبيه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عقبة الشيطان، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فلا يقعين إقعاء الكلب).
إلا أنه قد ثبت في الصحيح أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان يجلس على عقبيه بين السجدتين، فقال له طاوس: إنا لنراه جفاءً بالرجل، فقال ابن عباس: هي سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، وطاوس بن كيسان رجل يماني فقيه من تلاميذ عبد الله بن عباس، وكان ابن عباس يقول: والله إني لأظن طاوساً من أهل الجنة، فقد كان من الصالحين ومن العباد ومن العلماء الفضلاء.
وثبت أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا رفع رأسه من السجدة الأولى يقعد على أطراف أصابعه ويقول: إنه من السنة.
وعن طاوس قال: رأيت العبادلة يقعون.
والعبادلة هم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، هؤلاء هم العبادلة، لكن هل أدرك طاوس ابن مسعود؟ المهم أنَّ هؤلاء كلهم عبادلة رضي الله عنهم وأرضاهم.
يقول طاوس: رأيت العبادلة يقعون.
قال الحافظ ابن حجر: وأسانيدها صحيحة.
وعندنا هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن عقبة الشيطان، وقال: (إذا صلى أحدكم فلا يقعين إقعاء الكلب)، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهانا عن التشبه بالحيوانات، ونهانا عن التشبه بالنساء، قال ابن القيم رحمه الله: نهى الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة عن التفات كالتفات الثعلب، وإقعاء كإقعاء الكلب، ونقر كنقر الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، ونهانا صلى الله عليه وسلم أن يرفع أحدنا يديه في الصلاة كأذناب الخيل الشمس، فبعض الناس في التشهد وهو قاعد والإمام في تشهده يحرك يديه كأنه يقول للإمام: أرحنا فيحرك يديه كهيئة الفرس إذا رفع ذيله.
فالنبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن التشبه بالكلب، وعن التشبه بالثعلب، وعن التشبه بالذئب، وعن التشبه بالغراب، وعن التشبه بالسبع، ونهانا عن افتراش كافتراش السبع بأن يضع الإنسان ذراعيه على الأرض حال السجود، وذلك أن بعض الناس من كسله لا يسجد على كفيه، وإنما يمد ذراعيه على الأرض، فهذا -أيضاً- من المكروهات في الصلاة؛ لأن فيه تشبهاً بالحيوانات، فالإقعاء والافتراش والنقر والالتفات وتحريك الأيدي هذا كله فيه تشبه بالحيوانات.
وهذا النهي ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت عن ابن عباس وابن عمر وسائر العبادلة أنهم كانوا يقعون، بمعنى أن أحدهم كان يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين، ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله، فقال الإمام أبو سليمان الخطابي صاحب شرح سنن أبي داود رحمه الله: الإقعاء منسوخ، ولعل ابن عباس لم يبلغه النهي.
وأنكر هذا النووي وابن الصلاح، وقال البيهقي والقاضي عياض وجماعة من المحققين: إن الإقعاء المنهي عنه هو الذي يكون كإقعاء الكلب، وإقعاء الكلب هو أن يلصق أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض.
والإقعاء الذي صرح ابن عباس وغيره أنه من السنة هو وضع الأليتين على العقبين، وتكون الركبتان على الأرض، وهذا ليس فيه كراهة إن شاء الله.(30/5)
التخصر
المكروه التاسع: التخصر، وهو أن يجعل يده على خاصرته؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصراً)، وقد فسر ذلك بأقوال: فقيل: هو أن يمسك بيده مخصرة، أي: يتوكأ على عصا.
وقيل: هو أن يختصر السورة فيقرأ آخرها، وهذا كثير جداً، فبعض الأئمة يقرأ: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وبعد (آمين) يقرأ {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]، فما هو الذي في الصحف الأولى؟! وقيل: أن يختصر في صلاته، فلا يتم قيامها وركوعها وسجودها وحدودها، قال النووي: والصحيح هو أن يجعل يده على خاصرته.
هذا هو معنى التخصر، والخاصرة معقد الإزار، وهو المكان الذي يربط الإنسان فيه إزاره، ويقال للجانب منه أيضاً: الحقو.
فالاختصار أن يجعل الإنسان يده على خاصرته، وبعض الناس يفعل ذلك حتى على المنبر، فتجده يتكلم مع الناس ويفعل ذلك.
وقد يقال: لماذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصراً؟ قيل: لأنه فعل المتكبرين، فلا يليق بالصلاة، وقيل: لأنه فعل اليهود، وقيل: لأنه فعل الشيطان، وقيل: لأنه شكل من أشكال أهل المصائب، وقد سبق أن مما قيل في الحكمة من النهي عن التشبيك بين الأصابع أن النهي دال على تشبيك الأحوال، وكذلك هنا، فلو ذهبت إلى قوم بين أيديهم جنازة تجد أهل الميت واقفين في حال من الحيرة قد وضعوا أيديهم على خواصرهم.(30/6)
تغميض العينين
المكروه العاشر: التغميض في الصلاة؛ لحديث ابن عباس: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة أو في الصلاة فلا يغمض عينيه)، وهذا الحديث إسناده ليس بذاك؛ لأن فيه ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، لكن يمكن أن نقول: التغميض مكروه؛ لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إلى موضع السجود، لكن إذا كان هناك شيء يلهي المصلي ويشغله فليس له حل إلا أن يغمض عينيه.(30/7)
رفع البصر إلى السماء
المكروه الحادي عشر: رفع البصر إلى السماء، فكما أن الالتفات مكروه فكذلك رفع البصر إلى السماء، وقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟! لينتهن عن ذلك أو لتختطفن أبصارهم)، فقوله: (لينتهن عن ذلك) أي: عن رفع البصر إلى السماء.
وقد أجمع العلماء على كراهية هذا الفعل، فمن كان في الصلاة ينظر في السقف ويتأمل في النقوش وفي القبة ونحو ذلك ففعله مكروه.(30/8)
رفع الرجل ووضع رجل على أخرى وإقرانهما حال القيام
المكروه الثاني عشر: رفع رجل أو وضعها على أخرى وإقرانها؛ لأن هذا يتنافى مع هيئة الصلاة وهو من العبث الممقوت.
فتجد بعض الناس يدخل في صلاة التراويح فيطيل الإمام فيبدأ يرفع رجلاً وينزلها ويرفع الثانية وينزلها، ثم يقرنهما على هيئة العساكر، وهذا مكروه لا ينبغي، ومثله ما يفعله بعض الناس ممن يريد تطبيق السنة، حيث يفرج بين رجليه فيكون واقفاً كالهرم، وقد كان السلف يستدلون بهذا الفعل على قلة فقه الرجل، فيا عبد الله! لا تقرن ولا تفرج، وإنما افتح رجليك على قدر منكبيك ليستقيم الصف، وكلا طرفي قصد الأمور ذميمُ.(30/9)
التفكر في أمر دنيوي
المكروه الثالث عشر: التفكر بأمر دنيوي.
وهذا لا يسلم منه كثير من الناس، ولكن بعض الناس يسترسل، وإذا كان التفكر في الأمر الدنيوي مكروهاً فضده -وهو تركه- فيه أجر عظيم، وقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم أمام الصحابة ثم قال: (ما من عبد يتوضأ نحو وضوئي هذا ثم يصلي ركعتين لا يحدث فيهما نفسه إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه).
قال العلماء: إن حديث النفس على نوعين: إما أن يكون حديثاً دنيوياً، وهذا مكروه، ومثاله من يصلي العشاء فيفكر فيها بأنه سيتعشى ثم بعد ذلك سيذهب إلى فلان، ثم يبدأ يخطط في الصلاة ويبرمج، ثم ينتقل إلى اليوم الذي يليه، ولذلك ذكر عن بعض أهل البادية أنه اختلف أهل مسجد صلى فيه أصلى الإمام ثلاثاً أم أربعاً؟ فقال لهم: الإمام صلى ثلاثاً، فقيل له: من أين عرفت ذلك؟ فقال لهم: لأني سلخت البعير ولم أشوه بعد، ففي الركعة الأولى ينحر، وفي الركعة الثانية يسلخ، وفي الركعة الثالثة يغسل، وفي الركعة الرابعة يشوى، فيجعل صلاته كلها شواء ونحراً.
وإما أن يكون التفكر في أمر أخروي، وحينئذٍ لا كراهة، فلو تفكر الإنسان في الآيات التي تتلى وهي تتحدث عن الجنة، فبدأ يتأمل في الجنة، أو كانت تتحدث عن النار فبدأ يتأمل في النار ويسأل الله العافية فهذا ليس مكروهاً، فقد ثبت أن سيدنا عمر كان يقول: إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة.(30/10)
النظر إلى ما يلهي عن الصلاة
وهناك جملة أخرى من المكروهات في الصلاة هي على النحو الآتي: أولاً: النظر إلى ما يلهي.
ومن ذلك تزيين المحراب بآيات تخط بخط جميل، وكذلك المفارش المزينة، فبعض الناس يبدأ يتأمل في هذه الزينة في صلاته، فهذا نظر إلى ما يلهي، وشر من هذا من يصلي والتلفزيون أمامه يبث، فهذا فعل مكروه في الصلاة، وهذا الصنف قد تبطل صلاته، نسأل الله العافية.
ودليل ذلك حديث عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعليه خميصة ذات أعلام، فلما فرغ قال: اذهبوا بها إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيته) فالرسول صلى الله عليه وسلم كان عليه خميصة -وهي ثوب فيه نقوش- فقال: (اذهبوا بها إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيته).
والأنبجانية ثوب ليس فيه أعلام؛ لأن أبا جهم رضي الله عنه كان عنده قميص ليس فيه أعلام.(30/11)
كف الشعر والثوب
ثانياً: أن يكف شعره وثوبه.
لحديث ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، وأن لا أكف شعراً ولا ثوباً) والمقصود ربط الشعر، هذا ليس موجوداً عندنا، فما رزقنا الله شعوراً تحتاج إلى ربط، لكن بعض الناس يربط شعره في الصلاة، فـ عبد الله بن عباس رأى عبد الله بن الحارث رضي الله عنه يصلي وقد عقص رأسه؛ فذهب يكف شعر الرجل وهو يصلي فاستقر له، أي: ما عارضه، وبعدما انتهى من صلاته قال له: يا ابن عباس: ما لك ولرأسي؟ فذكر له هذا الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، وأن لا أكف شعراً ولا ثوباً).
وبعض الناس الآن لا يكف شعره، لكن إذا سجد يتدلى شعر فيكون مهموماً بتسويته وإعادته، بحيث يريد أن يسجد فينزل شعر، ومرة أخرى يقوم فيعيده، والذي ينبغي أن يضع شعره ويسجد معه.(30/12)
مسح الحصى عن الجبهة والثوب
ثالثاً: مسح الحصى في الصلاة.
لما رواه معيقيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمسح الحصى وأنت تصلي).
فالإنسان قد يصلي على التراب، بحيث يأتي إلى المسجد فيجد المكان قد امتلأ والفرش قد شغلت بالمصلين، فيصلي على مكان ليس فيه فراش، فبعض الناس كلما سجد يمسح ما علق بجبهته، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، قيل: لأنه يخالف التواضع والخشوع.
قال أهل العلم: إلا إذا كان يؤلمك، فإذا كان يسبب لك ألماً ففي هذه الحالة لك أن تمسحه لإزالة الضرر.
وكذلك ما كان منه في الثوب، فإنه أيضاً يترك.(30/13)
التثاؤب
رابعاً: التثاؤب.
لحديث أبي هريرة: (إذا تثاءب أحدكم وهو في الصلاة فليرده ما استطاع؛ فإن أحدكم إذا قال: ها ها ضحك الشيطان منه) رواه مسلم.
وفي صلاة الفجر يتثاءب الناس بصورة مزعجة، ويحصل ذلك أحياناً في الدروس، فالتثاؤب في الصلاة مكروه.(30/14)
عد الآيات
خامساً: عد الآي في الصلاة، وذلك لأنه يشغل عن الخشوع.(30/15)
ترك سنة من السنن
سادساً: ترك سنة من السنن، وهذا -أيضاً- مكروه، وهذا يرد على المالكية؛ فإنهم يقولون بكراهة دعاء الاستفتاح، ويقولون بكراهة الاستعاذة والبسملة، كل هذا عندهم مكروه، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح صلاته قال: (سبحانك -اللهم- وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، وربما قال: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي)، ولربما قال في صلاة الليل عليه الصلاة والسلام: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت ربي وأنا عبدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك، أنا منك وإليك، تباركت ربي وتعاليت)، هذا كله كان يقوله في دعاء الاستفتاح، وهذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: الاستعاذة مكروهة، وقد ثبت (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح صلاته يقول: أعوذ بالله السمع العليم من الشيطان الرجيم)، وثبت عنه أنه في صلاة الليل كان يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه).
والبسملة ثابتة أيضاً، فقد كان صلى الله عليه وسلم يبسمل، فالمالكية قالوا بكراهة هذا كله ولا كراهة إن شاء الله.
ومن ذلك ترك سنة القبض، وعند بعض المالكية أنه مكروه، وبعضهم يقول: هو مكروه إذا قصد به الاتكاء.
والقبض لا كراهة فيه إذا كان على الصفة المشروعة بأن تجعل باطن كفك اليمنى على ظاهر كفك اليسرى، أو أن تقبض باليمنى على كوع اليسرى، وتجعلهما فوق الصدر أو تحت الصدر فوق السرة.
ونلحظ أن الناس يتركون كثيراً من السنن في الصلاة، ومنها رفع اليدين في أربعة مواضع: عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع من الركوع، وعند القيام إلى الركعة الثالثة من صلاة ثلاثية أو رباعية، فهذا كله لو تركته فقد ارتكبت مكروهاً، وفوت على نفسك الأجر، ومثله -أيضاً- الإشارة بالأصبع عند التشهد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يقبض على أصابعه كلها ويشير بسبابته، ولربما حلق بين الإبهام والوسطى وأشار بسبابته).
وفي بعض المذاهب -كالحنفية- يقولون: هذا عبث لا يليق في الصلاة.
والحق أنَّ هذا ليس فيه عبث، بل هو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن الأمور المكروهة أن تترك الدعاء الذي هو بعد التشهد، فقد كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.
بل إن طاوس بن كيسان قال لولده: أدعوت بها في صلاتك؟ قال: لا، فقال له: فأعد صلاتك.
فكأنه -رحمه الله- كان يرى الوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا فرغ أحدكم من التشهد فليستعذ بالله من أربع) فكأن طاوساً رحمه الله أخذ بظاهر الحديث.
فيكره لك -أيها الأخ الكريم- أن تترك شيئاً من هذه السنن، لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [لقمان:4] وإقامة الصلاة: أن تؤديها في أوقاتها بكامل أركانها وشروطها وسننها وآدابها، هذه هي الإقامة، وهي الأداء على وجه التمام وبلوغ الغاية.(30/16)
الأسئلة(30/17)
ثبوت جلسة الاستراحة في الصلاة
السؤال
هل ثبتت جلسة الاستراحة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
جلسة الاستراحة قبل القيام ثابتة من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، ففيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس قبل أن يقوم إلى الركعة الثانية أو إلى الركعة الرابعة، لكن أكثر العلماء قالوا: فعل ذلك لما كبر سنه وثقل عليه اللحم عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن صلاته كانت صلاة طويلة، أما اليوم فإن الإمام يقرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ويركع ويسجد، فأي شيءٍ ستستريح منه؟!(30/18)
ما يفعله المأموم بعد فراغه من التشهد قبل سلام الإمام
السؤال
إذا فرغ المأموم من التشهد الأخير قبل سلام الإمام فماذا يصنع؟
الجواب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد قبل إمامه فليتخير من الدعاء أطيبه) فإذا استعذت بالله من الفتن الأربع وفرغت من ذلك قبل سلام الإمام فإن لك أن تدعو بنحو ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقد قال أبو بكر: (يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به في صلاتي؟ فقال له: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)، فإذا فرغت قبل سلام الإمام فادع بما شئت من خير الدنيا والآخرة.(30/19)
حكم استخلاف الإمام حال كثرة بكائه
السؤال
كنا في صلاة الصبح فقرأ الإمام سورة (ق) فأكثر من البكاء وأشار إلى المأمومين فتقدم أحدهم وأتم الصلاة، فهل الصلاة صحيحة؟
الجواب
الأظهر -والله أعلم- أن هناك باعثين لهذا الفعل: الباعث الأول: أن يكون قد خشي من أن يغشى عليه، وقد حصل هذا من بعض الصالحين، كـ علي بن الفضيل بن عياض، فقد كان إذا تلا آية من كتاب الله عز وجل فيها وعيد وتخويف فإنه يغشى عليه وهو في الصلاة.
الباعث الثاني: أن يكون هذا الإمام ممن يعتقد بطلان الصلاة بكثرة البكاء، ولكن الصحيح أن الصلاة لا تبطل بكثرة البكاء إذا كان من خشية الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن وصدره يغلي كأزيز المرجل.(30/20)
نتيجة الإكثار من فعل المكروه
السؤال
هل إذا كثر فعل المكروه يصير حراماً؟
الجواب
المكروه لا يتحول إلى حرام، لكن العلماء قالوا: المكروه بريد الحرام، كما أن الاستكثار من المباح ذريعة للوقوع في المكروه.(30/21)
حكم من أدرك الإمام راكعاً فكبر تكبيرة وركع
السؤال
رجل دخل في الصلاة والإمام راكع فأتى بتكبيرة ليدرك الركوع، فلم يظهر أللإحرام كانت أم للركوع، فما حكم صلاته؟
الجواب
لو أن إنساناً جاء والإمام راكع فكبر ونوى بهذه تكبيرة الركوع فإن صلاته تبطل؛ لأن تكبيرة الإحرام ركن، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة وكبر واقرأ ما تيسر معك من القرآن)، فتكبيرة الإحرام ركن، وعند جمهور أهل العلم لا يجزئ فيها إلا لفظة (الله أكبر) فلو قال: (الله أعظم) أو قال: (الله أجل) لا تصح صلاته.
فإذا وجدت الإمام راكعاً فكبر وانو بذلك تكبيرة الإحرام، ولا يضرك بعد ذلك لو ركعت دون تكبير؛ لأن تكبيرة الانتقال سنة.(30/22)
أثر ترك ركن في الصلاة
السؤال
إذا كان الإمام في صلاة الفرض فترك ركناً من الأركان مثل الركوع فهل ذلك يبطل الصلاة كلها أم الركعة التي ترك فيها الركن؟!
الجواب
يبطل الركعة التي ترك فيها الركن، وبقية صلاته صحيحة، والدليل على ذلك ما جاء في خبر ذي اليدين، فالرسول صلى الله عليه وسلم ترك ركعتين كاملتين، لكنه بنى على ما مضى من صلاته، فيبقى الصحيح صحيحاً.
وأما المؤتمون فإن عليهم أن يسبحوا له، فإذا لم ينتبه فإنهم يتمادون معه في الصلاة، ثم إذا سلم أخبروه بأن الركعة الثالثة أو الركعة الرابعة لم يأت فيها بالركوع، فيقوم الإمام ومعه المصلون فيأتون بركعة كاملة ويسجدون للسهو قبل السلام.(30/23)
ما جاء في الصف عن يمين الإمام
السؤال
ما صحة الأثر الذي يحتج به من يبدأ بالصف عن يمين الإمام، وهو: (إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون عن ميامن الإمام أو عن يمين الإمام)؟
الجواب
هذا ليس أثراً، بل هو حديث صحيح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في ميامن الصفوف، لكننا نقول: إن السنة أن يبدأ الصف من خلف الإمام، فيكون المأموم خلف الإمام إذا كان المأمومون اثنين فأكثر، أما إذا كان واحداً فإنه يقوم عن يمين الإمام كما ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: (بت عند خالتي ميمونة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل نام الغلام؟ فقالوا: لا بعد، فلما رأيت ذلك تناومت -يعني تظاهر بأنه نائم- فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، قال: فقمت عن يساره، قال: فأخذني برأسي من خلف ظهره حتى أقامني عن يمينه)، فعرفنا من ذلك أن الواحد يكون عن يمين الإمام، أما إذا كان المأمومون أكثر من واحد فموقفهم خلف الإمام، ولو كانوا خلف الإمام عن يمينه قليلاً لا يضر ذلك إن شاء الله.(30/24)
حكم الدعاء في الركوع
السؤال
كيف نوفق بين حديث عائشة الذي فيه ذكر الدعاء في الركوع وبين جعل الدعاء في الركوع مكروهاً؟
الجواب
الذكر الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الركوع، وهو (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) مستثنى، ووروده ليس معناه أن يتمادى الإنسان في الدعاء، بحيث يقول وهو راكع: اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله، اللهم إنني أسألك الجنة، فهذا إنما محله السجود.(30/25)
حكم قول (بلى وأنا على ذلك من الشاهدين) بعد سماع قوله تعالى (أليس الله بأحكم الحاكمين)
السؤال
سمعت بعض الناس يقول بعد سماع قوله تعالى في سورة التين: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، فهل يجوز ذلك؟
الجواب
هذا وارد؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما قرأ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين)، ومن هنا اختلف أهل العلم: فالمالكية رحمهم الله يستحبون ذلك، والحنابلة رحمهم الله يمنعون، والأقرب -والعلم عند الله تعالى- أن ذلك يكون في صلاة النافلة لا في صلاة الفريضة، ففي صلاة النافلة إذا مررت بآية فيها رحمة فسل الله من فضله، وإذا مررت بآية فيها عذاب فاستعذ، وإذا مررت بآية فيها تسبيح فسبح، وإذا مررت بآية فيها سؤال فأجب، فلو قرأت في النافلة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] فيمكنك أن تقول: الله رب العالمين، أي: هو الذي يأتينا بماء معين، ولو قرأت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] في النافلة فلك أن تقول: سبحان ربي الأعلى.
ولو قرأت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] فلك أن تقف وتقول: اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.
أما في صلاة الفريضة فلا، خروجاً من الخلاف.(30/26)
سبب تقديم السجود على الركوع في قوله تعالى (واسجدي واركعي مع الراكعين)
السؤال
يقول تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] فما هو السبب في ذكر السجود قبل الركوع؟
الجواب
أولاً: الواو في لغة العرب لا تفيد الترتيب، فإذا قيل: جاء زيد وعمرو فليس بالضرورة أن زيداً قد جاء أولاً.
ثانياً: قالوا: قد يكون في شريعة من قبلنا أن السجود كان قبل الركوع، ومثله -أيضاً- قول الله عز وجل: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113]، وقد جاء في الحديث: (نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً وساجداً) فمعنى ذلك أنه في شريعة من قبلنا كان لا مانع من القراءة حال السجود، لكن من المقرر في قواعد الأصول أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا إذا جاء شرعنا بخلافه، وشرعنا اقتضى الترتيب بين الأركان، فلابد أن يكون القيام قبل الركوع، وأن يكون الركوع قبل السجود، وأن يكون السجود قبل الجلوس.(30/27)
حكم الدعاء بعد الصلاة المكتوبة بشكل جماعي
السؤال
ما حكم الدعاء بعد الصلوات المكتوبة بشكل جماعي؟
الجواب
خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان عليه الصلاة والسلام يرشد الصحابة إلى الدعاء دبر الصلوات المكتوبات، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! والله إني لأحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، فلو كان الدعاء دبر الصلوات جماعة مسنوناً لكان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل إنسان منا يدعو في نفسه، قال أبو العباس رحمه الله: ولو فعل ذلك أحياناً فلا حرج، فلو أن واحداً من أهل المسجد مريض أو مات، أو ستجرى له عملية جراحية فقيل: إن فلاناً ذاهب اليوم ليعمل عملية جراحية فاسألوا الله عز وجل أن يعجل شفاءه، وأن يهيئ له من أمره يسراً ونحو ذلك فلا بأس، لكن لا نجعلها سنة راتبة بعد كل صلاة.(30/28)
حكم اختيار المستفتي لأي مفتٍ حال اختلاف فتوى المفتين
السؤال
هل يجوز للمرء المستفتي أن يقدم إماماً على إمام عند اختلافهما في الحكم؟
الجواب
قال أهل العلم: ليس للمكلف أن ينتقي من المذاهب أيسرها، وإنما إذا كان طالب علم يستطيع أن ينظر ويرجح فبها ونعمت، وإذا كان لا يستطيع ذلك فمذهبه مذهب من يثق به، فإذا كنت أثق بفلان العالم من الناس فذهبت إليه فقلت: حصل كذا وكذا فما الحكم؟ وهل هذا الفعل صحيح أم غير صحيح؟ فقال لي: هو صحيح فذلك كاف، وإن قال: غير صحيح فذاك كاف، ولا أسأل في شيء عالماً ثم أسأل الآخر، ثم أسأل الثالث كما يصنع بعض الناس، حيث يسأل في المسألة الواحدة عشرة أسئلة.(30/29)
حكم التحرك في الصلاة يمنة ويسرة
السؤال
ما حكم التحرك في الصلاة يميناً أو يساراً أو إلى جهة أخرى؟
الجواب
الحركة في الصلاة إذا كانت لحاجة لا حرج فيها، والإمام مالك رحمه الله استحب للمسبوق إذا سلم الإمام أن يتقدم إلى السترة إذا كانت قريبة، كذلك لو حصلت فرجة في الصف الذي أمامي فلا مانع أن أمشي خطوات لأسد تلك الفرجة.(30/30)
فقه الصلاة_مكروهات الصلاة وأحكام صلاة الخوف
الصلاة من أهم دعائم وشعائر الدين الحنيف، ولابد من معرفة أشياء قد تنقص من أجرها ولكن لا تبطلها، وهي المكروهات.
والصلاة لا تسقط في حضر ولا في سفر لأي عذر كان، وقد فرض الإسلام صلاة يصليها المجاهد في ساحة الوغى، وهي صلاة الخوف، ولها صفات معينة في أحوال معينة، وهذا يدل دلالة قاطعة على عظم هذا الدين ورفقة بمعتنقيه.(31/1)
المكروه
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
أما بعد: المكروه: هو الذي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله على عكس المندوب (المستحب)، فهو الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
مثال المكروه: الصلاة بعد العصر من غير ذوات الأسباب، فمن أراد أن يتطوع بعد صلاة العصر ففعله هذا مكروه، لكن إذا مالت الشمس للغروب فهاهنا النافلة تكون حراماً.
كذلك الزيادة في الوضوء على ثلاث مرات في الأعضاء المغسولة، والزيادة على الواحدة في الأعضاء الممسوحة.
كذلك النافلة بعد صلاة الصبح مكروهة، وعند طلوع الشمس محرمة.
ومن المكروه الأكل والشرب بالشمال، وقد يصل هذا إلى درجة الحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
وأكل الفرس مكروه عند المالكية، ولكن الصحيح أن أكل الفرس مباح وليس فيه كراهة؛ لحديث أسماء رضي الله عنها: (ذبحنا فرساً على عهد رسول الله وأكلناه)، فأكل الفرس حلال.
والتمساح بعض أهل العلم حكم بإباحته؛ لأنه من دواب البحر، وبعض أهل العلم حكم بمنعه وتحريمه؛ لأنه ذو ناب.
كذلك الشرب واقفاً على قول بعضهم، لكن الصحيح أن الشرب واقفاً ليس فيه كراهة إن شاء الله؛ لأنه ثبت (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم واقفاً).
وثبت (أن علي بن أبي طالب كان في مجلس القضاء وهو أمير المؤمنين فقام رضي الله عنه فدعا بماء فمسح وجهه ويديه ثم شرب وهو قائم وقال: والله ما فعلت إلا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم).
كذلك النوم بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس؛ فإنها ساعة تقسم فيها الأرزاق.
كذلك الإسراف في استخدام الماء في الوضوء أو الغسل.
كذلك التنفس في الإناء حال الشرب.
كذلك الاستنجاء باليمين.
كذلك الانتعال بجلود السباع، أو لبسها، مثل جلد نمر أو ما أشبه ذلك، فهذا مكروه.
كذلك المشي في نعل واحدة.
كذلك حلاقة بعض الرأس وترك بعضه.
كذلك النوم على البطن، فهذا مكروه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ضجعة أهل النار).
كذلك الجري إلى الصلاة.
كذلك ستر الوجه في الصلاة.
كذلك النوم بعد المغرب والحديث بعد العشاء، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها) اللهم إلا الحديث الذي يكون مع الأهل.
كذلك الكي بالنار، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن كان الشفاء ففي ثلاث: شرطة محجم -أي: الحجامة- أو شربة عسل، أو كية نار، وأنهاكم عن الكي)، فلذلك يقال: آخر الدواء الكي.
كذلك إفراد يوم الجمعة بالصيام, وليلة الجمعة بالقيام.
إذاً: المكروه هو الذي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وقد عرفه شهاب الدين القرافي رحمة الله عليه بأنه: ما رجح تركه على فعله شرعاً من غير ذنب.(31/2)
مكروهات الصلاة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
أما بعد: المكروه: هو الذي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله على عكس المندوب (المستحب)، فهو الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
مثال المكروه: الصلاة بعد العصر من غير ذوات الأسباب، فمن أراد أن يتطوع بعد صلاة العصر ففعله هذا مكروه، لكن إذا مالت الشمس للغروب فهاهنا النافلة تكون حراماً.
كذلك الزيادة في الوضوء على ثلاث مرات في الأعضاء المغسولة، والزيادة على الواحدة في الأعضاء الممسوحة.
كذلك النافلة بعد صلاة الصبح مكروهة، وعند طلوع الشمس محرمة.
ومن المكروه الأكل والشرب بالشمال، وقد يصل هذا إلى درجة الحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
وأكل الفرس مكروه عند المالكية، ولكن الصحيح أن أكل الفرس مباح وليس فيه كراهة؛ لحديث أسماء رضي الله عنها: (ذبحنا فرساً على عهد رسول الله وأكلناه)، فأكل الفرس حلال.
والتمساح بعض أهل العلم حكم بإباحته؛ لأنه من دواب البحر، وبعض أهل العلم حكم بمنعه وتحريمه؛ لأنه ذو ناب.
كذلك الشرب واقفاً على قول بعضهم، لكن الصحيح أن الشرب واقفاً ليس فيه كراهة إن شاء الله؛ لأنه ثبت (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم واقفاً).
وثبت (أن علي بن أبي طالب كان في مجلس القضاء وهو أمير المؤمنين فقام رضي الله عنه فدعا بماء فمسح وجهه ويديه ثم شرب وهو قائم وقال: والله ما فعلت إلا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم).
كذلك النوم بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس؛ فإنها ساعة تقسم فيها الأرزاق.
كذلك الإسراف في استخدام الماء في الوضوء أو الغسل.
كذلك التنفس في الإناء حال الشرب.
كذلك الاستنجاء باليمين.
كذلك الانتعال بجلود السباع، أو لبسها، مثل جلد نمر أو ما أشبه ذلك، فهذا مكروه.
كذلك المشي في نعل واحدة.
كذلك حلاقة بعض الرأس وترك بعضه.
كذلك النوم على البطن، فهذا مكروه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ضجعة أهل النار).
كذلك الجري إلى الصلاة.
كذلك ستر الوجه في الصلاة.
كذلك النوم بعد المغرب والحديث بعد العشاء، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها) اللهم إلا الحديث الذي يكون مع الأهل.
كذلك الكي بالنار، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن كان الشفاء ففي ثلاث: شرطة محجم -أي: الحجامة- أو شربة عسل، أو كية نار، وأنهاكم عن الكي)، فلذلك يقال: آخر الدواء الكي.
كذلك إفراد يوم الجمعة بالصيام, وليلة الجمعة بالقيام.
إذاً: المكروه هو الذي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وقد عرفه شهاب الدين القرافي رحمة الله عليه بأنه: ما رجح تركه على فعله شرعاً من غير ذنب.(31/3)
الدعاء أثناء الفاتحة
في الصلاة أفعال مكروهة، يعني لا تبطل الصلاة لكن تنقص أجرها.
أول هذه الأفعال الدعاء أثناء الفاتحة، فإما أن تقرأ وإما أن تسكت، {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204]، ومن الناس من يقول بعد انتهاء الإمام من قراءة الفاتحة: رب اغفر لي ولوالدي وارحمني وكذا وكذا ظناً منه أن الناس إذا قالوا: آمين فإنهم يؤمنون على دعائه، وهذا كثير عند الشافعية، وليس هذا من السنة، بل هو مكروه.(31/4)
الدعاء أثناء الركوع
ثانياً: الدعاء أثناء الركوع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم).
لكن يشرع هذا الدعاء فقط: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، أما غيره فلا يشرع، مثل: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، أو يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؛ لأن الركوع ليس موطناً للدعاء.(31/5)
قراءة القرآن في الركوع والسجود
ثالثاً: قراءة القرآن في الركوع والسجود، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً وساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم).(31/6)
السجود على ما فيه رفاهية
رابعاً: السجود على ما فيه رفاهية، مثل من يأتي إلى المسجد ومعه سجادة خاصة ليسجد عليها، فهذا مكروه؛ لأن السجود موضع تواضع وذل بين يدي عزيز جل جلاله، فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يتعمد أن يجعل سجوده على ما فيه رفاهية.
ولا مانع أن تفرش شيئاً؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون الظهر ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم كان مفروشاً بالحصى، فكانوا يعانون من شدة حر الرمضاء، فكان أحدهم يبسط كمه فيسجد عليه رضي الله عنهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته يسجد على خمرة.
فالسجود على ما فيه رفاهية مكروه، قال سعيد بن المسيب وابن سيرين: الصلاة على الطنفسة محدث، أي: عمل محدث.(31/7)
الالتفات في الصلاة بلا حاجة
خامساً: الالتفات في الصلاة بلا حاجة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الالتفات في الصلاة فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد).
والالتفات لحاجة يجوز، والدليل على ذلك حديث أبي بكر -وهو ثابت في صحيح البخاري - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يصلح بين حيين من الأنصار من بني عمرو بن عوف، فقال لـ بلال: (إن حضرت الصلاة ولم أرجع فمر أبا بكر فليصل بالناس).
وفعلاً تقدم أبو بكر رضي الله عنه فلما افتتح صلاته حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الناس يتنحنحون من أجل أن ينتبه أبو بكر، وكان رضي الله عنه إذا صلى لا يلتفت، فلما أكثر الناس من التنحنح التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن مكانك فحمد أبو بكر ربه، ثم رجع القهقرى -وهذا من فقهه أنه لم يستدبر القبلة- وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس، وبعد الصلاة قال لـ أبي بكر: (ما منعك أن تمكث إذ أمرتك؟) فقال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعند العلماء قاعدة وهي: أن الأدب مقدم على الطاعة، مثل أن يدخل الأب على ابنه، فيقوم من باب الأدب.
ومن أدب أبي بكر الصديق مع أبيه أنه لما ذهب إلى مكة وهو خليفة وأبوه يريد أن يقوم ليسلم عليه، فعجل أبو بكر فقفز من دابته قبل أن ينيخه من أجل أن يدرك أباه فلا يقوم.
كذلك ابن عمر لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شجرة تشبه المؤمن فما هي؟)، فخاض الناس في شجر البوادي، كل واحد يذكر شجرة، قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، لكنني هبت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر وعمر وعثمان والصحابة الكبار في المجلس، وبعد أن انفض المجلس وأخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنها النخلة قال ابن عمر لأبيه: يا أبت! لقد وقع في نفسي أنها النخلة، ولكنني استحييت، فقال له: والله! لو قلتها لكان خيراً لي من الدنيا وما فيها، فتمنى لو قالها، لأن ذلك سيكون شرف عظيم له، وليس كما نسمع الآن من يقول: اسكت يا ولد! الكبار قاعدون، كيف تتكلم؟ لا، الصغير إذا كان عنده علم فليتكلم: وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت إليه المحافل تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهل وفي صلح الحديبية لما كان علي بن أبي طالب يكتب الصلح كتب علي: بسم الله الرحمن الرحيم، فقام سهيل قال: لا ندري ما الرحمن الرحيم، اكتب باسمك اللهم، فالتفت علي رضي الله عنه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: (امحها)، فمحاها علي، ثم كتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقام سهيل بن عمرو وقال: ما نعرف رسول الله، لو عرفنا أنك رسول الله ما حاربناك، اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (امحها يا علي)، فقال علي: والله لا أمحوها.
وهذا نوع من الأدب، كيف أمحو وصفك يا رسول الله؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم محاها بيده عليه الصلاة والسلام.(31/8)
تشبيك الأصابع
سادساً: تشبيك الأصابع لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامداً إلى الصلاة فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة).
والتشبيك بين الأصابع له صور كثيرة، وهو يدل على أن هذا الإنسان مهموم ومغموم لأنه يمشي إلى الصلاة، أو لأنه داخل المسجد، كما قيل: المنافق في المسجد كالبهيمة في القفص، والمؤمن في المسجد كالسمك في الماء.
ومن الصور أن يجلس الإنسان مشبكاً بين أصابعه في انتظار الصلاة، وهذا دليل على الضجر.
وأيضاً التشبيك أثناء الصلاة مكروه أيضاً.(31/9)
الحبوة
سابعاً: الحبوة وهي مكروهة أثناء خطبة الجمعة؛ لأنها مجلبة للكسل، وبعض الناس يأتي برباط من أجل أن يريح يديه فيربط رجليه مع ظهره ويجلس، أما إذا كان معذوراً كأن يكون من الطاعنين في السن وممن يعانون آلاماً في الظهر فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أما فعلها من غير عذر فهو مكروه.(31/10)
فرقعة الأصابع
ثامناً: فرقعة الأصابع، أي: غمز مفاصلها حتى تصوت، وهذه تلاحظونها بعد الانتهاء من الصلاة، فبعض الناس يريد أن يهرب لكن الأبواب مسدودة بالمصلين، فتجده قلقاً فيفرقع عشرين فرقعة! وقد جاء حديث في سنده ضعف عن معاذ بن جبل قال: قال صلى الله عليه وسلم: (الضاحك في الصلاة والملتفت والمفرقع أصابعه بمنزلة واحدة)، والفرقعة ليست من الصفات المحمودة، وهي تتضمن حركة في الصلاة من غير حاجة.(31/11)
الإقعاء
تاسعاً: الإقعاء: وهو أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين، هذا هو تعريف الفقهاء، والإقعاء مكروه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فلا يقعين إقعاء الكلب).
والسيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن عقبة الشيطان).
وأهل اللغة يعرفون الإقعاء: بأن الإنسان يفرج بين رجليه وينصب أليتيه بالأرض ويضع راحتيه على الأرض، وهي صفة عجيبة جداً.(31/12)
التخصر
عاشراً: التخصر، وهو أن يجعل يده على خاصرته، والخاصرة معروفة، وقد (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصراً).(31/13)
تغميض العينين
الحادي عشر: التغميض، أي أن يصلي وهو مغمض عينيه، وهذا ليس من السنة، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رمى ببصره نحو موضع سجوده، وقال: إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يغمض عينيه)، لكن التغميض لا كراهة فيه إذا كان هناك ما يشغل، كأن يكون السجاد فيه رسومات، أو يكون هناك حركة حول الإنسان، أو يكون الجو فيه غبار، أو كان يوجد زخارف على الحائط.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد: إذا كان التغميض باعثاً للخشوع فلا حرج على المصلي أن يغمض عينيه.(31/14)
رفع البصر إلى السماء
الثاني عشر: رفع البصر إلى السماء، وكل ما علاك فأظلك فهو سماء، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32] يعني: هذا السقف، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؛ لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم)، ونقل ابن بطال رحمه الله الإجماع على كراهة رفع البصر إلى السماء.(31/15)
رفع رجل أو وضعها على الأخرى أو إقرانهما في الصلاة
الثالث عشر: رفع رجل أو وضعها على الأخرى أو إقرانهما، يعني السنة في الصلاة أن تفتح رجليك على قدر منكبيك، وليس من السنة ما يفعله بعض الشباب أنه يحتل المساحة كلها من المكان.(31/16)
التفكر في أمر دنيوي
الرابع عشر: التفكر في أمر دنيوي، لما فيه من الشغل عن الخشوع الذي امتدح الله به المؤمنين في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2].(31/17)
التخلف عن الإمام
الخامس عشر من مكروهات الصلاة: التخلف عن الإمام، يعني الإمام سجد ثم جلس للتشهد، وتجد بعض الناس يطيل السجود، فهذا مكروه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) يعني: لا تتأخروا عنه.
ومن المكروهات أيضاً: بسط اليدين في السجود، أن يسجد الإنسان على ذراعيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبسطن أحدكم يديه انبساط الكلب أو انبساط السبع) بل يجب أن تسجد على كفيك.(31/18)
وضع إحدى الرجلين على الأخرى في السجود
السادس عشر: وضع إحدى الرجلين على الأخرى في السجود؛ لأن الإنسان لو فعل ذلك لا يكون ساجداً على سبعة أعظم كما أمر نبينا عليه الصلاة والسلام.(31/19)
كفت الثوب
السابع عشر من مكروهات الصلاة: كفت الثوب، بعض الناس يدخل الصلاة وهو يكفت كأن عنده معركة مع الملائكة، وبعض الناس يكفت إزاره أيضاً.(31/20)
تطويل الإمام لتكبيرة الإحرام وللتسليم
الثامن عشر من مكروهات الصلاة: تطويل الإمام لتكبيرة الإحرام وللتسليم، مما يسبب أن يسبقه بعض المؤتمين، قالوا: ومن علامة جهل الإمام التطويل في تكبيرة الإحرام وتسليمة التحليل.(31/21)
تطويل الإمام للسجدة الأخيرة
التاسع عشر من المكروهات: ما يفعله بعض الأئمة من تطويل السجدة الأخيرة، وبعض الناس لما سئل عن هذا قال: هذه سجدة مودع، انظروا إلى الفلسفة! فليس هذا من السنة بل هذا من الخرافات التي زادها بعض الناس.(31/22)
التنكيس في قراءة السور
العشرون من المكروهات: التنكيس كأن يقرأ في الركعة الأولى سورة (قل أعوذ برب الناس) وفي الركعة الثانية (قل أعوذ برب الفلق).(31/23)
المصافحة بعد الصلاة
الحادي العشرون من المكروهات: المصافحة بعد الصلاة، فهذا ليس من السنة، وفي بعض البلاد يقولون لمن أنهى الصلاة: حرماً فيجيب بقوله: جمعاً.
وهذه أمور زادوها استحساناً من عند أنفسهم، وليست من السنة، بل قد تفوت بعض الأشياء المستحبة، مثلاً كان الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يلتفت إلى الناس يستغفر الله ثلاثاً ويقول: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام) ثم يقبل على الناس بوجهه، فينبغي نهي الناس عن هذا بأسلوب طيب، فمن مد لك يده صافحه، ثم قل له: أنت تريد الخير، لكن المصافحة ليس محلها بعد الصلاة.(31/24)
الأسئلة(31/25)
حكم النفث في الصلاة
السؤال
ما حكم من كان عنده وسوسة في الصلاة فالتفت عن يساره ونفث؟
الجواب
إذا كان لحاجة يجوز، لحديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: يا رسول الله! إن الشيطان قد لبس علي صلاتي، فقال عليه الصلاة والسلام: (ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسست في صلاتك فاتفل عن يسارك ثلاثاً واستعذ بالله منه)، قال عثمان: ففعلته فأذهبه الله عني.
وهذا التفل يكون أثناء الصلاة، أما بعد الصلاة فليس فيه فائدة، فالشيطان بعد الصلاة سيذهب، وهو يوسوس في الصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان إذا سمع الأذان ولى وله ضراط)، وفي لفظ آخر: (وله خبج كخبج الحمار) يعني: ليس ضراطاً خفيفاً وإنما كضراط الحمار، فإذا انتهى الأذان رجع إلى المسجد يوسوس بين الناس، فإذا سمع الإقامة ولى وله ضراط، فإذا انتهى رجع، فأول ما يدخل الناس في الصلاة يوسوس.
أحد الشيوخ الكرام يحكي فيقول: إن رجلاً أعطاه زكاة ماله، وكانت خمسين ألف ريال، يقول: فحملتها معي في السيارة، وكان معي الأهل والأولاد، فوضعت الشنطة في الصندوق في الخلف على أساس أن الأولاد أنزلهم في مكان ما، والشنطة أدخلها وأغلق عليها، قال: فأنزلت الأولاد ونسيت الشنطة في الصندوق ودخلت المسجد، وتنفلت وجلست أنتظر الإقامة - وهو داعية معروف - قال: فرآني إمام المسجد فجاء وسلم علي وبدأ يتكلم معي، قال: ثم أقسم عليه بالله أن يصلي بالناس، قال: فقمت وصليت بالناس، وبعد أن كبرت ذكرني الشيطان بالشنطة، قال: والله! ما أدري كيف صليت، قال: ما عقلت من الصلاة شيئاً، قال: فانتهيت فقام الإمام وحلف علي أن ألقي على الناس موعظة، قال: أعطيتهم كلمتين وخرجت أركض، والحمد لله وجدت الشنطة كما هي، قال: فأدخلتها وركبنا ثم أعدت الصلاة.
هكذا الشيطان، وجرب مرة عندما يكون عندك شيء ضائع مثل ورق مهم أو مال أو غير ذلك، فعندما تدخل في الصلاة فالشيطان يعطيك الحكاية كلها إلى أن تتذكره، فهذا هو حال الشيطان مع الآدمي، نسأل الله العافية.(31/26)
حكم مسابقة الإمام
السؤال
ما حكم مسابقة الإمام؟
الجواب
مسابقة الإمام محرمة، ومماثلته مكروهة، وهذا صنيع كثير من الناس والله المستعان.(31/27)
حكم الدعاء بعد بعض آيات القرآن
السؤال
بعض الناس يقول أقوالاً بعد بعض آيات القرآن، فما حكم ذلك؟
الجواب
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] فقال: (بلى وأنا على ذلك من الشاهدين)، لكن أكثر العلماء يقولون: هذا خاص بصلاة النافلة، أما في صلاة الفريضة فلا يقال هذا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بآية فيها عذاب استعاذ، وإذا مر بآية فيها ذكر للجنة قال: اللهم إني أسألك من فضلك.
أما ما يقوله بعض الناس إذا قرأ الإمام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فيقولون: استعنت بالله، فهذا من الأمور المكروهة، بل قد تبطل صلاتهم لأنه كلام أجنبي، والصلاة أفعال وأقوال مخصوصة، فلا تزد شيئاً من عندك.(31/28)
أحكام صلاة الخوف
أحكام صلاة الخوف ينبغي أن يحيط بها كل مسلم؛ لأن كل مسلم ينبغي أن ينوي الجهاد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)، فأحكام صلاة الخوف متعلقة بالجهاد، ولذلك كل إنسان ينبغي أن يحيط بها علماً.(31/29)
حكم صلاة الخوف والدليل على مشروعيتها
صلاة الخوف سُنَّت لقتال مشروع سواء كان واجباً كالجهاد في سبيل الله والقتال دون النفس، أو جائزاً كالقتال دون المال، فالإنسان يقاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، أو يقاتل دون نفسه، يعني: لو أن إنساناً جاء يريد قتلك فلا تستسلم له، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون نفسه فهو شهيد).
فواجب أن تدافع عن نفسك ولو أدى ذلك إلى قتل الآخر، فهذا قتال واجب.
وربما يكون القتال جائزاً كما لو كان قتالاً دون المال، كأن يأتي إنسان يريد أن يأخذ مالك، (جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت شهيد، قال: أرأيت لو قتلته؟ قال: هو في النار).
والأصل في مشروعية صلاة الخوف قول الله عز وجل: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102].(31/30)
كيفية صلاة الخوف
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف مع أصحابه.
وفي غزوة الأحزاب شُغل الرسول عليه الصلاة والسلام بمدافعة المشركين حتى غربت الشمس فقال: (شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً)، والصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
ثم أمر بلالاً أن يقوم إلى وادي بطحان فأذن وأقام الصلاة فصلى بالناس العصر بعد غروب الشمس، ثم أذن فأقام فصلى بالناس المغرب، وهذا قبل أن تشرع صلاة الخوف، فرحمة من الله عز وجل بعباده لئلا تفوتهم الصلاة جعل للحرب صلاة خاصة اسمها صلاة الخوف، ولا تأثير للخوف على عدد الركعات، فصلاة الخوف ليست مثل صلاة السفر الرباعية تصير ركعتين، بل صلاة الخوف الأربع أربع، والثلاث ثلاث، والركعتان ركعتان.
فإن كانت في الحضر فتصلى على هيئتها، يعني لو أن العدو جاءنا إلى مكاننا -لا قدر الله- فنصلي الصلاة على هيئتها، وإذا سافرنا للعدو فإنها تقصر، فالظهر والعصر والعشاء تصلى ركعتين.
ورد في صفتها وجوه متعددة وكلها جائزة، وهذا الذي نسميه: اختلاف التنوع مثل الاختلاف في التشهد، أنت تتشهد فتقول: (التحيات لله والصلوات والطيبات) كما جاء في حديث ابن مسعود، وآخر يقول: (التحيات لله الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله).
ورجل يقول: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم).
وآخر يقول: (اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته).
وآخر يقول: (اللهم صل على عبدك محمد النبي الأمي) وهذا كله ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
كذلك ألفاظ الأذان، مؤذن يقول: (الله أكبر، الله أكبر) يكبر مرتين، ومؤذن في مسجد آخر يقول: (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر) كبر أربع مرات، هذا كله جائز.
وكذلك في الإقامة، بعض الناس عنده الإقامة عشر كلمات: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، وهذا مذهب المالكية، وبعض المذاهب الإقامة عندها إحدى عشر كلمة مثل الشافعية والحنابلة، والحنفية عندهم الإقامة تسع عشرة كلمة، فيربعون التكبير، ثم يثنون الشهادة، ويثنون حي على الصلاة، ويثنون حي على الفلاح، ويثنون قد قامت، ويثنون التكبير، والشهادة في الأخير مرة واحدة.
وهذا كله نسميه اختلاف التنوع.
كذلك في الحج شخص يحج مفرداً، وهذا يحج قارناً، وهذا يحج متمتعاً، كله جائز، وهذا من اختلاف التنوع.
صلاة الخوف لها وجوه متعددة كلها جائز، منها ما رواه مالك والبخاري ومسلم عن صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف.
وسميت بذات الرقاع، لأن الناس تقرحت أقدامهم فوضعوا عليها الرقاع.
روى صالح بن خوات عن بعض الصحابة (أن طائفة صفت مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وصفت طائفة تجاه العدو -أي: مقابل العدو- فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً للركعة الثانية وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا تجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم).
فهذه هي الصفة المشروعة.
والخوف الموجب لهذه الصلاة لا يخلو من حالتين؛ الحالة الأولى: خوف هجوم العدو، وفي هذه الحالة يقسم الإمام الناس إلى طائفتين: طائفة تواجه العدو، وطائفة يصلي بها ركعة واحدة إذا كانت الصلاة ثنائية، ثم يقف الإمام ساكتاً أو قارئاً في الركعة الثانية وتتم الطائفة الأولى لنفسها ثم تنصرف تجاه العدو، على نفس الصفة التي ذكرها صالح بن خوات، وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ويسلم الإمام ويتمون لأنفسهم، وإن كانت الصلاة ثلاثية أو رباعية انتظرهم في جلوس التشهد.
الحالة الثانية: أن يشتد الخوف وتطول المعركة يعني: قد حمي وطيسها، وتأججت نيرانها، هناك رصاص يطلق، ورءوس تطير، ودماء تسيل، وأصوات تعلو، والخوف شديد، ولا يمكن في الحالة هذه أن يصلوا جماعة، فيصلون رجالاً قياماً على أقدامهم أو راكبين على آلياتهم، الذي في المدرعة في المدرعة، والذي في الدبابة في الدبابة، والذي في الطيارة في الطيارة، يصلون قياماً على أقدامهم أو ركباناً، مستقبلي القبلة إن تمكنوا أو غير مستقبليها؛ لأن الله عز وجل قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239].
وفي حديث ابن عمر: (فإذا كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها)، وهو يروي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسنة أن تُصلى بأذان وإقامة، وعلى الإمام أن يعلمهم كيفيتها قبل الشروع فيها وجوباً إن جهلوها، وندباً إن علموها لاحتمال نسيانها، مثل صلاة الكسوف يستحب للإمام أن يشرح للناس أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان؛ لأن أكثر الناس لا يعرفونها، والذين يعرفونها قد ينسون، وفي بعض الأحيان حتى صلاة الجنازة قد تحتاج لشرح، وإن كان -والحمد لله- أغلب الناس يعرفونها.(31/31)
الحكمة من مشروعية صلاة الخوف
من حكمة مشروعية صلاة الخوف بيان أهمية الصلاة وعظيم منزلتها في الإسلام، فلو تأملتم في أركان الإسلام الخمسة تجدون أن الأركان الأربعة تسقط أحياناً، فشهادة التوحيد تسقط عن الأخرس، والصيام يسقط عن الشيخ الكبير والمرأة العجوز والمريض المزمن، والزكاة تسقط عن الفقير، والحج يسقط عن الفقير، أما الصلاة فلا تسقط عن الشيخ الكبير، ولا عن المرأة العجوز، ولا عن الفقير، ولا عن الأخرس، ولا عن الأعمى، ولا عن الأعرج، ولا عن المريض حتى لو كان في مرض الموت فيجب أن يصلي، فإن عمر بن الخطاب لما طُعن ترك الصلاة لأنه تكلم وقال: طعنني الكلب، فالصلاة بطلت، فأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فأتم بالناس الصلاة، ثم حمل عمر إلى بيته وهو مغشي عليه رضي الله عنه، فلما أفاق قالوا: الصلاة الصلاة يا أمير المؤمنين، قال: أما إنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وصلى وهو على حاله عليه من الله الرضوان.
أيضاً من الحكم: بيان أهمية صلاة الجماعة، حيث لم يتركها النبي صلى الله عليه وسلم في الحرب فكيف في السلم؟! ومن الحكم: بيان يسر الإسلام وسماحته، وأن الله رفع الحرج عن هذه الأمة، فعندما تتأمل في هذه الصلاة تدرك أن هذا الدين من عند الله، وعندما تتأمل في إباحة الكذب في حال الحرب تدرك أن هذا الدين من عند الله، ما يمكن لبشر أن يجلس ويشرع قوانين لحال الحرب والسلم والأمن والخوف والتشريعات في العبادات، وفي المعاملات، والجنايات، والأسرة، والميراث، والزواج، والطلاق، والعدة، وغير ذلك، وهذا كله في كتاب واحد فيه آيات معدودة، ليس كتاباً فيه مائة ألف آية أو خمسون ألف آية، فالقرآن ستة آلاف آية وزيادة، فهذا القرآن من عند الله وأحكامه لا تتناقض {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
ومن الحكم: بيان كمال هذه الشريعة حيث شرعت لكل حالة ما يناسبها.
ومن الحكم أيضاً: تعظيم شأن الجهاد في الإسلام، وذلك للاستعداد له حيث إننا فوتنا كثيراً من شروط الصلاة وأركانها من أجل الجهاد، فهل يصح في الصلاة أن تستدبر القبلة؟ لا يصح، لكن في الجهاد يصح ذلك إذا اشتد الخوف.
وهل يصح في الصلاة أن الإمام يقوم للركعة الثانية، ويصلي المأموم الركعة الثانية بسرعة ويسلم ويترك الإمام قائماً؟ لا يصح، لكن في وقت الحرب كثير من أحكام الصلاة فوِّتت من أجل الجهاد.(31/32)
فقه الصلاة_مبطلات الصلاة
للصلاة مبطلات كثيرة تنافي ما شرعت من أجله، وقد بين الفقهاء هذه المبطلات، واختلفوا في بعضها، فينبغي معرفة هذه المبطلات، ومعرفة الراجح فيما اختلف الفقهاء فيه، لئلا يقع المسلم دون انتباه منه في أحدهما.(32/1)
من فضائل طلب العلم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه, عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
أما بعد: أيها الفضلاء! قبل الدخول في موضوع مبطلات الصلاة لابد من بيان جملة أمور: الأمر الأول: طلب العلم هو خير ما أنفقت فيه الأعمار، وبذلت فيه الجهود، وصرفت إليه أنواع الاهتمام؛ لأن العلم الشرعي باب عظيم لنيل رضوان الله عز وجل، والفوز بالجنة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العمل رضاً بما يصنع، وإن طالب العلم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر).
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت معلماً)، ويقول عز وجل في القرآن الكريم: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وكانت مزية آدم عليه السلام على الملائكة أن الله عز وجل علمه ما لم تكن الملائكة تعلمه، كما قال عز وجل: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:32 - 33].
فالله عز وجل ميز آدم عليه السلام بالعلم، وكذلك أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام تميز بعضهم بالعلم حتى فاق غيره؛ فعُرِف عن أبي هريرة رضي الله عنه بأنه راوية الإسلام، وعُرِف عن معاذ بن جبل بأنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وعُرِف عن زيد بن ثابت بأنه أفرض هذه الأمة -أي: أعلمها بالفرائض-، وعُرِف عن أبي بن كعب بأنه أقرأ هذه الأمة: (ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه رجالاً على كل منهم قميص؛ منهم من يبلغ قميصه ثدييه، ومنهم من يبلغ قميصه حقويه، ومنهم يبلغ قميصه ركبتيه، ورأى على عمر بن الخطاب قميصاً يجره جراً، قالوا: يا رسول الله! فما تأولته؟ قال: العلم).(32/2)
بيان كون العلم سبب خيري الدنيا والآخرة
الأمر الثاني: أريد أن أنبه إلى أن العلم سبب لخير الدنيا والآخرة إن قرن بالعمل، فالعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل، ومطلوب من الإنسان أن يعمل بما علم وكما قيل: وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن(32/3)
الفرق بين العقيدة والفقه
الأمر الثالث: العقيدة هي التي يسميها العلماء بالفقه الأكبر، وكما قال الإمام الغزالي رحمة الله عليه: إن كلمة الفقه من الألفاظ التي طرأ عليها التخصيص بغير مخصص، فصارت في اصطلاح المتأخرين تطلق على الإحاطة بجملة من الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية، فصار الفقه قاصراً مفهومه على العبادات والمعاملات، والأنكحة، أو ما يسمى بالأحوال الشخصية والجنايات، وما أشبه ذلك، ولكن حقيقة الفقه هو: العلم بالطريق الموصل إلى الله.
أو كما قال بعضهم: الفقه هو: معرفة أحكام الله عقائد وعمليات.
فالعقيدة بفروعها كافة والحديث عن الله عز وجل وأسمائه وصفاته، وأفعاله جل جلاله، والحديث عن أركان الإيمان، والحديث عن الجنة والنار، وعذاب القبر ونعيمه، هذا كله فقه، لكنه فقه القلوب؛ لأنه يتعلق بالعقائد التي تنعقد عليها القلوب.
ومطلوب منا معرفة هذين النوعين من الفقه: معرفة العقائد، ومعرفة العمليات، وهذا الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قيل: وما رياض الجنة يا رسول الله! قال: مجالس الذكر).
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هي المجالس التي يتعلم فيها الحلال والحرام، أي: أن يتعلم المرء كيف ينكح كيف يطلق كيف يبيع كيف يشتري، هذه هي مجالس الذكر، وليست مجالس الذكر هي التي يردد فيها الناس لفظ الجلالة مفرداً، أو يرددون فيها يا لطيف! يا لطيف! أو يستعملون بعض الآلات وما أشبه ذلك.
ومجالس الذكر هي أن يغدو الإنسان إلى بيت من بيوت الله فيتعلم آية أو آيتين أو ثلاثاً، أن يجتمع مع إخوانه يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم، ويتذاكرون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته المطهرة، هذه هي مجالس الذكر.(32/4)
بيان قدر الأئمة الأربعة
الأمر الرابع: هذه الدراسة التي نتناولها هي على مذهب مالك رحمه الله، ولعل قائلاً يقول: ولمَ ندرس مذهب مالك؟ ولم لا ندرس غيره؟
و
الجواب
أن الأمة قد اجتمع قولها على إجلال الأئمة الأربعة، وهم: الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، والإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي، والإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمة الله على الجميع.
ولا يعني ذلك أنه لا يوجد في الأمة سوى هؤلاء الأئمة، بل هناك مثلهم، ومن هو أعلم منهم، ومن هو دونهم، وكلهم إمام مقدم متبوع، وعلى رأس هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة، وكذلك عبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس، فهؤلاء جميعاً لهم أقوال، ولهم فقه منثور في الكتب، ثم من بعدهم: الإمام أبو سعيد الحسن بن يسار البصري، والإمام أبو عمرو عبد الرحمن الأوزاعي، والإمام سفيان الثوري، والإمام خالد بن يزيد الكلبي المعروف بـ أبي ثور، والإمام الليث بن سعد المصري، والإمام داود بن علي الظاهري، والإمام سفيان بن عيينة فهؤلاء جميعاً أئمة كبار، لكن قيض الله عز وجل لهؤلاء الأربعة تلاميذ حفظوا أقوالهم، وسجلوا آراءهم، وبعد ذلك نشروها، وفرعوا عليها، وقعدوا، وكتب الله عز وجل لهم القبول.
والإمام مالك رحمه الله إمام مقدم، من أئمة أهل السنة، عرف عنه العلم والورع والأدب الجم، وعرف عنه سلامة المعتقد، وصحة الاستدلال مع هيبة العلم ووقار التقى، كما قال القائل في مدحه: يدع الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان عز الوقار ونور سلطان التقى فهو المهاب وليس ذا سلطان فالإمام مالك رحمه الله إمام مقدم بين أهل السنة؛ كان قوالاً بالحق: صموت إذا ما الصمت زين أهله وفتاق أبكار الكلام المختم وقد أثنى عليه الأئمة الكبار كـ أبي حنيفة والشافعي وأحمد رحمة الله على الجميع.
فإذا درسنا مذهب مالك رحمه الله فإنما ندرسه؛ لأنه المذهب ولأن أقواله لا تخرج عن الكتاب والسنة مع التأكيد على أننا نعتقد -معشر أهل السنة- أنه ليس في هذه الأمة معصوم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي لا ينطق عن الهوى.
أما سائر من دونه -بداية من أبي بكر رضي الله عنه الذي هو خير هذه الأمة بعد نبيها وانتهاءً بمن دونه- فالكل يؤخذ من قوله ويرد، ويخطئ ويصيب، لكن هؤلاء الأئمة الكبار صوابهم أكثر من خطئهم، ولو كان لهم أخطاء في بعض الأقوال أو الفتاوى فهذه الأخطاء سيئات مغمورة في بحور حسناتهم، ولا أعني بالسيئات ما كان ضد الحسنة؛ لأنهم مأجورون أخطئوا أو أصابوا، كما ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)، والمذموم: أن يقول الإنسان على الله ما لا يعلم، قال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقال: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].
والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (هلا سألوا إذ جهلوا، إنما شفاء العي السؤال)، وقال: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من ترك (لا أدري) أصيبت مقاتله، فعلى طالب العلم أن يعود لسانه على قول: لا أدري، كما كان الأئمة الكبار يفعلون ذلك.(32/5)
مسئولية الإنسان عن أقواله وأفعاله
الأمر الخامس: علينا أن نعلم أننا مسئولون ومحاسبون عما ننطق ونتكلم به.(32/6)
مبطلات الصلاة
مبطلات الصلاة على نوعين: النوع الأول: ما يكون سابقاً عليها، كفقد الطهارة، فإذا صلى إنسان من غير طهارة فصلاته باطلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول).
النوع الثاني: مبطلات تكون في أثناء الصلاة، فمن ترك ركناً عمداً أو سهواً ولم يتدارك ذلك أثناء الصلاة فإنها تبطل بذلك، وهذه المبطلات على مذهب مالك رحمه الله وهي:(32/7)
ترك فرض من فرائضها
أولاً: ترك فرض من فرائضها، وكلمة الفرض وكلمة الركن وكلمة الواجب عند جمهور العلماء معناها واحد؛ اللهم إلا في الحج فإنهم فرقوا بين الركن والواجب، أو بين الركن والفرض، فمثلاً: يقولون: الأركان في الحج أربعة: الإحرام، وطواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، ثم بعد ذلك يعددون الواجبات: الإحرام من الميقات، والمبيت بمزدلفة، والمقام بعرفة إلى أن يجمع بين الليل والنهار، ورمي الجمار في أيام التشريق، والمبيت بمنى، وطواف الوداع، وما إلى ذلك.
أما في الصلاة في الصيام في الزكاة فإن الركن والفرض والواجب بمعنى واحد.
والحنفية وحدهم هم الذين يفرقون بين الفرض والواجب، فحين نقول: تبطل الصلاة بترك فرض من فرائضها فالمقصود: بترك ركن من أركانها، سواء كان هذا الركن قولياً كقراءة الفاتحة، أو كان هذا الركن فعلياً كالركوع أو السجود.
فإن قيل: ما الدليل على أن الصلاة تبطل بترك ركن من أركانها؟ قلنا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه -وهو في الصحيحين- في قصة الرجل الذي أساء الصلاة وفيه: (أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه، وصلى صلاة سريعة، ثم جاء فسلم -وقال: السلام عليك يا رسول الله! قال: عليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل، فذهب الرجل فأعادها على تلك الهيئة، ثم جاء فسلم، فقال: عليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل، فذهب وأعادها ثالثة، ثم جاء فسلم، فقال: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أحسن غيرها فعلمني فداك أبي وأمي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، وكبر، واقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تطمئن قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن قاعداً وافعل ذلك في صلاتك كلها).
وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم ببطلان صلاة ذلك الرجل؛ لفقد ركن واحد من أركانها، وهو الطمأنينة؛ فقد أتى بكل أركانها، لكنه لما لم يطمئن قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فإنك لم تصل)، فدل ذلك على أن ترك ركن من أركان الصلاة يجعلها باطلة، فإن تركها عمداً فقد بطلت، وإن تركها سهواً ولم يتدارك وطال الفصل فقد بطلت كذلك.
وأركان الصلاة هي: النية المعينة، وتكبيرة الإحرام، والقيام لها، وقراءة الفاتحة والقيام لها، والركوع والرفع منه، والسجود، والرفع منه، والطمأنينة، والاعتدال، والترتيب، والسلام المعرف بالألف واللام.(32/8)
تعمد ترك ركن من أركانها الفعلية
الأمر الثاني: تعمد زيادة ركن من الأركان الفعلية، كركوع أو سجود، فلو أن إنساناً بدلاً من أن يركع مرة واحدة ركع مرتين معللاً ذلك بقوله: كما أني أسجد سجدتين أركع ركعتين، أو أنه بدلاً من أن يسجد سجدتين سجد ثلاثاً، فهذا تلاعب بالصلاة، وقد اتفق أهل العلم على أن من تعمد زيادة ركن فعلي فقد بطلت صلاته؛ لأن هذا تلاعب بالصلاة، والدليل على هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) كما جاء ذلك في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) هو مقياس العمل في الباطن، وقوله: (من عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) مقياس العمل في الظاهر، فمن أجل أن يقبل العمل عند الله لابد أن يستقيم الباطن والظاهر، فلو أن إنساناً جاء إلى المسجد ولم تخرجه الصلاة وإنما خرج مجاملة أو لشهود عقد نكاح، أو لأن هناك مبايعة يريد أن يتمها، أو يقصد إنساناً له عليه دين يريد أن يقابله في المسجد ونحو ذلك؛ فليس له أجر، ولو أن إنساناً خرج ونيته الصلاة، لكن صلى على غير الصفة المشروعة فزاد في الأركان ونقص فأيضاً لا تقبل منه.
ولو أن الإنسان تعمد زيادة ركن قولي كالفاتحة، أو كبر تكبيرة الإحرام مرتين، فالمشهور عند الأئمة الأربعة أنها لا تبطل، وإنما البطلان متعلق بزيادة الركن الفعلي.
ويقول المالكية أيضاً: لو سها فأخرج الصلاة عن صفتها بأن صلى -مثلاً- الصلاة الثنائية أربعاً، والصلاة الثلاثية كالمغرب صلاها ستاً، والصلاة الرباعية كالظهر والعصر والعشاء صلاها ثمانياً ساهياً فإنها تبطل، وهذا السهو لا يغتفر؛ لأنه أخرج الصلاة عن صفتها وعن شكلها.
وقد جاء في صحيح مسلم أن الوليد بن عقبة صلى بالناس في الكوفة على عهد عثمان رضي الله عنه الصبح أربعاً، ثم التفت إليهم، وقال: أزيدكم؟ فقال له أحدهم: والله ما زلنا في زيادة منذ أن وليت علينا.
فعزله عثمان رضي الله عنه وجلده؛ لأنهم ذكروا عنه أنه كان شارباً الخمر.(32/9)
الانشغال بما يشغل عن أداء ركن من أركانها
الأمر الثالث: ما يشغل عن أداء ركن من أركانها، مثاله: من صلى ضاماً فخذيه؛ مدافعة للأخبثين: البول والغائط، ومثله: إنسان يعاني من الغثيان، ففي كل حين يمسك بفمه تارة وببطنه أخرى فهو في شغل عن الصلاة، ففي مثل هذه الحال تبطل صلاته، والأصل في ذلك حديث أمنا عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان).
والأخبثان: البول، والغائط.
وهكذا المريض بمرض السكر إذا دافع البول خوفاً من خروجه، حتى اضطر إلى الجلوس؛ خوفاً من خروج البول؛ فإن صلاته تبطل.
وكذلك من وضع شيئاً في فمه وشغله ذلك عن قراءة الفاتحة وبدأ يعاني ما يعاني فإنها تبطل صلاته.
ولابد أن نعرف بأن الطعام هنا مقيد بالحاجة، فمثلاً: لو جئت إلى البيت جائعاً، وقد استبد بك الجوع، فأقيمت الصلاة في المسجد فكل، ثم بعد ذلك صل، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان بين يديه شواء، فأقيمت الصلاة فقال: (لا تعجلونا حتى نفرغ) أي: حتى يقضي الإنسان نهمته من الطعام، لكن لو لم تكن للإنسان في الطعام حاجة، كأن يكون قد أخذ حاجته من الطعام، وإنما ينتظر غيره، من فاكهةٍ أو حلوى أو غير ذلك، فلو جلس إلى هذا فقد ارتكب إثماً؛ لأن هذا ليس قوتاً، ولا ضرورياً، فالواجب تركه وإدراك الصلاة.(32/10)
الضحك
الأمر الرابع: الضحك في الصلاة، فمن ضحك في صلاته فقد بطلت؛ فقد أجمع أهل العلم على أن الضحك في الصلاة مبطل لها، وهذا الإجماع حكاه الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى.
ومن ابتسم في صلاته فأكثر العلماء على أن الصلاة لا تبطل بذلك، لكن الذي يسبب البطلان هو القهقهة والضحك.
وجمهور العلماء على أن صلاة من ضحك فيها باطلة والوضوء صحيح، وانفرد الإمام أبو حنيفة رحمه الله فقال: تبطل الصلاة والوضوء، واستدل على ذلك بحديث ضعيف فيه: (أن قوماً ضحكوا في الصلاة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الوضوء والصلاة).
ورد عليه العلماء فقالوا: أولاً: الحديث لا يثبت، ثانياً: أنه مناقض للأصول؛ إذ كيف يكون الشيء ناقضاً في الصلاة، ولا يكون ناقضاً خارجها؟!! ولذلك لو أن إنساناً توضأ ثم لقي إنساناً فضحك معه فوضوءه لا يبطل باتفاق الحنفية، وغيرهم يقولون: لا يبطل وضوءه ولو ضحك في الصلاة؛ إذ كيف يبطل الضحك الوضوء في الصلاة ولا يبطله خارج الصلاة؟ وردوا على الحنفية بأن قياسكم هذا مناقض للأصول.(32/11)
تعمد النفخ فيها
الأمر الخامس: تعمد النفخ في الصلاة، وقيده بعض العلماء بإذا بدا منه حرفان، والدليل على ذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أفلح، -وهو غلام من غلمان النبي عليه الصلاة والسلام-: (يا أفلح! ترب وجهك).
وهذه كلمة لوم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ثكلتك أمك يا معاذ!)، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر بعد حجة الوداع ويرجع إلى المدينة قيل له: (يا رسول الله! إن صفية قد حاضت، ولم تطف) يعني: لم تطف طواف الإفاضة، فقال: (عقرى حلقى) يعني: يدعو عليها بذهاب الشعر (أحابستنا هي؟ ثم قيل: قد طافت، فقال: فانفروا إذاً).
قال العلماء: هذا كله ليس على ظاهره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقول لأحد أصحابه: ثكلتك أمك، أو ترب وجهك، أو تربت يمينك، أو حلقاء عقرى، أو مثل ذلك من الكلام، فإنه لا يراد به ظاهره، وإنما هو على ما جرى به لسان العرب.
فهذا الغلام كان إذا سجد نفخ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ترب وجهك).
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (النفخ في الصلاة كلام) وهذا موقوف عليه، والحديث الأول -الذي هو حديث أفلح - رواه الإمام الترمذي، وقد ضعفه بعض أهل العلم؛ لأنه من رواية ميمون أبي حمزة.
أما حديث ابن عباس رضي الله عنه فقد رواه سعيد بن منصور في سننه، قال ابن المنذر: ولا يثبت.
فالنفخ يبطل الصلاة ليس استدلالاً بحديث ابن عباس، ولا بحديث أم سلمة في خبر أفلح، وإنما لأن النفخ بمنزلة الكلام، فلذلك تبطل الصلاة بالنفخ.(32/12)
الأكل والشرب
الأمر السادس الذي تبطل به الصلاة: الأكل أو الشرب، والدليل على ذلك الإجماع، قال ابن المنذر رحمه الله: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من أكل أو شرب في صلاة الفرض عامداً أن عليه الإعادة ولو أكل لقمة.
قال أهل العلم: ويعفى عن الشيء اليسير، كحبة بين أسنانه، وبعض الناس في رمضان يأكل التمر، ثم بعد ذلك يصلي دون أن يتمضمض، وفي أثناء الصلاة يعبث بلسانه بين ثناياه، ويبتلع ما يخرج منها، والأولى ألا يفعل ذلك؛ لأن بعض العلماء يبطلها حتى بالحبة اليسيرة، بل بعضهم يبطلها حتى بالنخامة التي تأتي من الرأس إذا بلعها في أثناء الصلاة.
ويلاحظ في كلام ابن المنذر أنه قيد الإعادة بالفرض؛ لأن العلماء رحمهم الله يقولون: إن النفل أوسع من الفرض، بمعنى: أنه يجوز في النفل ما لا يجوز في الفرض، وقد روي عن بعض الصحابة أنه كان يشرب في صلاة النفل.
ومما يدل على أن النفل أوسع من الفرض: أن الإقامة مخصوصة بالفريضة، وما عرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقيم للنافلة، ولو صلاها جماعة كصلاة الكسوف، والخسوف، والاستسقاء، والتراويح في رمضان.(32/13)
تعمد القيء
الأمر السابع: تعمد القيء، إلا إذا غلبه وكان طاهراً يسيراً أي: قليلاً ولم يبتلع منه شيئاً.
وهذه كلها احترازات، فإذا ابتلع منه شيئاً فقد تحقق أنه أكله؛ لأن القيء نتاج الطعام.
وقولهم: وكان طاهراً لأنه إذا مكث الطعام في جوف الإنسان زماناً فتغيرت رائحته وتغير لونه فإنه قد خرج من حد الطهارة إلى النجاسة، فهذا أيضاً تبطل به الصلاة، وإذا تعمد القيء مطلقاً بطلت صلاته.
إذاً: لا تبطل الصلاة إذا ذرعه القيء، أي: غلبه وكان طاهراً، أي: لم يتغير؛ بأن أكل قبل قليل ثم قاء، وكان شيئاً يسيراً وليس كثيراً.(32/14)
الكلام لغير إصلاحها
الأمر الثامن: الكلام إلا القليل لإصلاحها، فمن تكلم في الصلاة لغير مصلحة الصلاة فقد بطلت صلاته، والدليل على ذلك حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جانبه، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].
فأُمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام).
وقوله هنا: أُمرنا ونهينا، معناه: أن الآمر والناهي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو في حكم المرفوع.
وكذلك جاء في حديث معاوية بن الحكم السلمي: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من الكلام، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن) فـ معاوية بن الحكم رضي الله عنه جاء، وما كان يعرف بأن الصلاة قد منع فيها الكلام، فكبر، ثم سأل من بجواره: كم صليتم؟ قال: فما ردوا علي شيئاً، ثم عطس أحد الناس، فقلت له: يرحمك الله، فرمقني الناس بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما لكم تنظرون إلي؟ قال: فأخذوا يضربون أفخاذهم، فسكت، قال: فلما سلم دعاني رسول صلى الله عليه وسلم فوالله! ما رأيت معلماً أحسن منه، فداه أبي وأمي، والله! ما نهرني، ولا كهرني، ولا ضربني، ولكن قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن.
وأما الكلام القليل لإصلاحها فلا يبطلها، مثاله: إذا قام الإمام إلى خامسة فقلت له: سبحان الله! سبحان الله! فإذا لم ينتبه فقلت له: أتممت أربعاً، أو الصلاة تامة فهو كلام قليل يسير؛ يقصد به الإصلاح.
والدليل على ذلك: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بالصحابة إحدى صلاتي العشي -الظهر أو العصر- فسلم بعد ركعتين، ثم قام عليه الصلاة والسلام واستند على المنبر، وشبك بين أصابعه على هيئة المغضب، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابوا أن يكلموه، فقال ذو اليدين -وسمي ذي اليدين إما لأن يديه طويلتان، أو لأنهما قصيرتان-: يا رسول الله! قصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: ما قصرت ولا نسيت، قال: بل نسيت، فقال صلى الله عليه وسلم: أحقاً ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم يا رسول الله.
فاستقبل صلى الله عليه وسلم القبلة، وصلى ركعتين، ثم سجد للسهو).
فهنا حصل كلام، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بنى على ما مضى، ولم يستأنف الصلاة، فوجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى على ما مضى، فدل ذلك على أن الكلام القليل لإصلاحها لا يبطلها.
أما إذا حصل الكلام في الصلاة -ولو كان بآيات، والمقصود الكلام- فقد بطلت الصلاة مثال ذلك: طرق الباب طارق، وقلت: (أدخلوها بسلام آمنين) فالصلاة باطلة.
وهكذا لو أن أحداً من الناس سألك وأنت في الصلاة: ما مالك؟ فقلت: (والخيل والبغال والحمير) فصلاتك باطلة، أو لو أن إنساناً في الصلاة أتى بأمر عجيب، وذكرت آية أو بعض آية وقلت: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68]، أو لو أن إنساناً تكلم بمصيبة، أو ذكر أن فلاناً قد مات، فقلت: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] فصلاتك باطلة، ولو سألك شخص: من أين جئت؟ وأنت في الصلاة، وقلت: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] فصلاتك باطلة، أو لو أن إنساناً في الصلاة قال لك: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، فقلت: (لا إله إلا الله) بطلت أيضاً؛ لأنك قصدت الكلام، ولو جاء إنسان -مثلاً- يطلب كتاباً فقلت وأنت في الصلاة: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} [مريم:12] فصلاتك باطلة، ولو أنك جائع، وأنت تصلي الظهر أو العصر فدخلت الزوجة، فقلت: {آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف:62] فأيضاً صلاتك باطلة.
فالمقصود بأنك إذا نويت الكلام ولو كان بالقرآن فقد بطلت الصلاة، لكن إذا كان الكلام قليلاً وقصد به إصلاحها فلا تبطل الصلاة.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسيء صلاته أن يعيد، ولم يأمر معاوية بن الحكم أن يعيد، مع أن الأول ارتكب مبطلاً وهو ترك الطمأنينة، والثاني ارتكب مبطلاً وهو الكلام، فلمَ أمر أحدهما بالإعادة ولم يأمر الثاني؟ ف
الجواب
أن معاوية بن الحكم معذور بحداثة التشريع؛ لأن نزول قول الله عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] رافع للأصل الذي هو إباحة الكلام، فلما ارتفع هذا الأصل ولم يعلم معاوية برفعه عذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما الآخر المسيء صلاته الأصل وجوب الطمأنينة، ولذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة التي صلاها، ولم يأمره بإعادة ما مضى، فكأنه صلى الله عليه وسلم عذره لجهله فيما مضى، ولم يعذره للجهل في تلك الصلاة الحاضرة.(32/15)
السلام مع الشك في تمامها
الأمر التاسع: من سلم شاكاً في تمام صلاته، فلو أن إنساناً غلب عليه الشك هل صلى ثلاثاً أم أربعاً في الصلاة الرباعية، فسلم، وهو في حال شك، فهذا صلاته باطلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم على الشاك بألا يسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى: أثلاثاً أم أربعاً؟ فليصل ركعة، وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم) يعني: إما أنه يستيقن فيبني على ما استيقن، فإن استيقن التمام بعدما طرأ له الشك فلا كلام، وأما إن استمر معه الشك فواجب عليه أن يبني على الأقل، فإذا كان قد شك أصلى اثنتين أم ثلاثاً؟ فليجعلها اثنتين.
وإذا شك أصلى ثلاثاً أم أربعاً؟ فليجعلها ثلاثاً، وليأت برابعة، فإن كانت تمام الصلاة فالحمد لله، وإن كانت زيادة كان فيها ترغيم للشيطان.
كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.
واستثنى العلماء هنا مسألة -وهي الآن غير موجودة- وذلك إذا دعاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت في الصلاة فإنه يجب عليك أن تجيبه، والدليل على ذلك حديث أبي سعيد بن المعلى في صحيح البخاري قال: (كنت أصلي، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغت أتيته) يعني: أن هذا الصحابي ما أجابه في الصلاة، وإنما انتظر إلى أن فرغ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ فقال: يا رسول الله! كنت أصلي، فقال عليه الصلاة والسلام: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]) فها هنا تنازع الإنسان أمران: الصلاة فريضة، وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً فريضة، ومعلوم أنه إذا تزاحمت الواجبات نقدم الأهم فالمهم، فهنا نقدم إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك الصلاة يمكن تداركها.
وأيضاً: لو كان الإنسان في صلاة، فرأى أعمى يسير نحو هاوية، كأن أوشك أن يقع في بئر أو حفرة، ففي هذه الحالة يترك الصلاة وينقذ هذا الأعمى، أو يتكلم مع هذا الأعمى ويقول له: أمامك حفرة يا فلان! أو أمامك نار، ثم يستأنف صلاته.
يعني: يبدأ من جديد، ولا إثم عليه إن شاء الله.(32/16)
سجود المسبوق الذي لم يدرك ركعة سجود السهو
الأمر العاشر: سجود المسبوق الذي لم يدرك ركعة مع الإمام سجود سهو قبلياً كان أو بعدياً.
مثاله: لو جئت إلى صلاة العشاء وأدركت مع الإمام التشهد الأخير، فإذا سجد هذا الإمام سجود سهو -سواء كان قبلياً أو بعدياً- فسجدت معه بطلت صلاتك؛ لأنك في هذه الحالة تنزل منزلة من تعمد زيادة ركن فعلي؛ لأنك لست في حكم المأموم.
قال رسول صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)، معنى ذلك أنك لو لم تدرك ركعة فلا تعد مأموماً؛ لذلك لا تسجد مع الإمام لا قبلياً ولا بعدياً، أما إذا أدركت مع الإمام ركعة فأنت مأموم، فإذا سجد الإمام سجوداً قبلياً فاسجد معه، أما إذا سجد سجوداً بعدياً فلا تسجد معه، بل أتم صلاتك، ثم اسجد بعد الصلاة.
فالخلاصة: أن من أدرك ركعة يسجد مع الإمام السجود القبلي، أما السجود البعدي فلا، بل يقوم ويتم صلاته، ثم يسجد بعد السلام كما فعل الإمام.
أما إذا لم يدرك مع الإمام شيئاً وذلك بأن جاء في التشهد الأخير، أو جاء في السجدة الأخيرة، أو جاء بعدما رفع الإمام من الركوع في الركعة الرابعة، فحكمه: ألا يسجد لا قبلياً ولا بعدياً، ولو سجد فصلاته باطلة؛ لأنه تعمد زيادة ركن فعلي، وهذه المسألة انفرد بها مالك رحمه الله، أما الأئمة الثلاثة فيقولون: من أدرك مع الإمام من الصلاة ولو لحظة قبل السلام فقد أدرك الصلاة، فيسجد مع الإمام السجود القبلي.(32/17)
ترك سجود السهو القبلي الناشئ عن ثلاث سنن
الأمر الحادي عشر: ترك سجود السهو القبلي إن كان ناشئاً عن ثلاث سنن وطال، مثلاً: إذا صليت الصبح فقرأت الفاتحة، ثم ركعت ونسيت قراءة السورة، فهذه ثلاث سنن: السورة قراءتها سنة، والقيام لها سنة، والجهر بها سنة أو في الركعة الأولى من صلاة الظهر بعد الفاتحة إذا ركعت، ونسيت السورة، فقد تركت ثلاث سنن: السورة سنة، والقيام لها سنة، والإسرار بها سنة، فيجب عليك سجود السهو القبلي، فإن تركته وطال الفصل فصلاتك باطلة، والطول هنا محدد بالعرف، فمثلاً: لو أنك نسيت سجود السهو، ثم بعد ذلك قمت، فصليت السنة، ثم بعد ذلك تكلمت مع بعض الناس، ثم خرجت خارج المسجد، ثم تذكرت أنك لم تسجد للسهو، فإنهم يعتبرون هذا فاصلاً طويلاً، فلا بد من إعادة الصلاة.
فإن قيل: لمَ حددوه بالثلاث؟ ف
الجواب
قالوا: لأن الثلاث هي أول حد الكثرة.
بمعنى: لو أنك تركت سنتين مثلاً: تركت التكبير للركوع، وهذه سنة، وتركت التسميع -قول سمع الله لمن حمده- وهذه سنة، فهذا معفو عنه، أما إذا كانت السنن ثلاثاً فأكثر، وتركت سجود السهو لها، فإن الصلاة تبطل.(32/18)
الأفعال الكثيرة
الأمر الثاني عشر: الأفعال الكثيرة، والمالكية رحمهم الله عندهم حد الكثير أنه إذا نظر إليه الناظر لا يظنه في صلاة.
والشافعية يحدون الكثير بالثلاث حركات في الركن الواحد، فإذا تحرك عندهم الإنسان ثلاثاً تبطل الصلاة، وبعضهم قال: الأفعال الكثيرة هي التي تحتاج إلى اليدين معاً، أما ما كان بيد واحدة فيعد قليلاً.
فمثلاً لو أن إنساناً عبث بلحيته فإنه يحتاج إلى يد واحدة، أما العمامة فتحتاج إلى اليدين كلتيهما، لكن عند المالكية أن الأفعال الكثيرة -كعبث بلحية، وحك جسد، وإصلاح رداء، ونحوه- إذا أكثر الإنسان منها بطلت صلاته، وهذا موجود عند بعض الناس اليوم، فتجده في الصلاة تارة يحك، وتارة يعبث، وتارة ينظف أظافره، وتارة يعبث بجيوبه، وتارة ينظر في الساعة، ولربما لو كانت الكهرباء مقطوعة ثم جاءت فإنه يرفع نظره ليتأكد من المراوح هل اشتغلت أم لا، فهذا تبطل صلاته.
أما الأفعال القليلة فلا تضر، وذلك كإصلاح رداء، ودفع مار، وإشارة بيد، والأدلة على ذلك كثيرة، منها: الدليل الأول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامة بنت زينب، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها).
الدليل الثاني: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه وهو في الصلاة).
وهذه حركات.
الدليل الثالث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأسودين في الصلاة)، والأسودان: العقرب، والحية، وسميت الحية حية لطول حياتها، وهذه حكمة الله في أن الأشياء المؤذية حياتها طويلة، وأعظم الأشياء إيذاءً إبليس، وهو أطول الخلق عمراً.
الدليل الرابع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح الباب لـ عائشة وهو في الصلاة).
وهذه كلها أحاديث صحاح ثابتة.
الدليل الخامس: كان الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة وأمامه سترة فجاءت جارية لتمر بين يديه، فما زال صلى الله عليه وسلم يتقدم حتى مرت من خلفه، وكذلك جاءت شاة لتمر فتقدم صلى الله عليه وسلم حتى مرت من خلفه، وأيضاً في صلاة الكسوف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، فتناول شيئاً ثم وهو في الصلاة تراجع عليه الصلاة والسلام، حتى ركب الناس بعضهم بعضاً، ثم بعد الصلاة سألوه، فقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت الجنة والنار في مقامي هذا، فتناولت عنقوداً من عنب الجنة، لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار -وهذا سبب رجوعه عليه الصلاة والسلام- فلم أر كاليوم قط منظراً أفظع، ورأيت أكثر أهلها من النساء).
وبالمناسبة فإن النساء أكثر أهل النار وأكثر أهل الجنة.
فالشاهد أن الحركة حصلت من الرسول عليه الصلاة والسلام كما في هذه الأحاديث كلها.
ولما نزل عليه جبريل وأخبره أن في نعليه نجاسة خلعهما وهو في الصلاة، فدل ذلك على أن الفعل القليل في الصلاة لا يضر.
وهذا لا يسلم منه أحد إلا من رحم الله، فالإنسان في الصلاة قد يحتاج إلى حك جسد، أو إصلاح رداء، أو دفع مار، ونحو ذلك، فهذا معفو عنه.
أما إذا كانت الصلاة كلها عبثاً ولعباً فهذه الصلاة باطلة نسأل الله العافية.(32/19)
الفتح على غير الإمام
الأمر الثالث عشر: الفتح على غير إمامه، فإذا كان الإمام يقرأ وارتج عليه، وبعض الناس فتح عليه فهذا لا مانع منه، لكن الفتح له آداب، فمثلاً: تجد في صلاة التراويح أن الإمام لو تنحنح أو أراد أن يأخذ نفساً أو بعض الأئمة الموفقين ربما يغلبه البكاء فتجد بعض الناس من خلفه معه مصحف فيباشر بالرد سريعاًً، فمثلاً: لو أن الإمام وقف عند قوله: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1]، فمباشرة يقول له: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:2]، ويبدأ يطارد الإمام، وكذلك لو أن الإمام سكت أو أخطأ تجد أن المسجد كله يرد عليه، وهذا لا ينبغي، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو النهى والأحلام).
فحبذا لو ترك للإمام الفرصة، بل قال بعض المالكية: نتركه إلى أن يردد الآية ثلاثاً، فإذا قرأ: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1].
ثم سكت، ثم قال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1]، ثم سكت، ثم قال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1].
ففي هذه الحالة نقول له: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:2] فيفتح على الإمام، لكن مطاردة الإمام هذه ليست مطلوبة.
والدليل على جواز الفتح على الإمام حديث عبد الله بن عمر: (أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى صلاة فقرأ فيها، فلبس عليه) لأنه عليه الصلاة والسلام بشر، وقد قال: (إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)، قال: (فلبس عليه عليه الصلاة والسلام، فلما انصرف قال لـ أبي: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك).
يعني: فما منعك أن تفتح علي؟ أو ما منعك أن تذكرني؟ أو ما منعك أن تلقنني؟ فدل ذلك على أن المأموم يستحب له أن يفتح على الإمام.
أما مسألة الفتح على غير الإمام فإن صورتها: أن يكون رجل يصلي خلف إمام وآخر يقرأ بجانبه، فقرأ الذي بجانبه مثلاً: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البينة:7]، وارتج عليه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البينة:7] فأشفق عليه الذي في الصلاة فقال له: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7]، فإنه بهذا تبطل صلاته.
والعلة: أن هذا تعليم وتعلم، فكان من جنس كلام الناس.
وأريد أن أنبه هنا على أمرين: الأمر الأول: أن الفقه يقوم على دعامتين، الدعامة الأولى: الدليل.
والدعامة الثانية: التعليم.
يعني: أن الأدلة لابد أن تحفظ سواء كانت آية أو حديثاً والتعليم أيضاً احرص عليه، وليس بالضرورة أن تعبر بنفس الكلام الذي أملي عليك، بل يمكن أن تعبر من عندك، لكن بشرط أن يكون المعنى هو هو.
فالفتح على غير الإمام تبطل به الصلاة؛ لأنه لا يعد صلاة، وإنما يعد درساً.(32/20)
الإحداث فيها
الرابع عشر: من أحدث في الصلاة، مثل إنسان كان يصلي فسبقه الحدث فتبطل صلاته؛ لحديث علي بن طلق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينطلق وليتوضأ، وليعد الصلاة).
وأبو هريرة رضي الله عنه لما ذكر الحديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فسأله رجل من حضرموت: ما الحدث؟ قال: فساء أو ضراط.
قال أهل العلم: فسر أبو هريرة الحدث ببعض أفراده؛ لأن كلمة (الحدث) ليست الفساء والضراط وحدهما، وإنما من بال وهو في الصلاة أو تغوط وهو في الصلاة فإنها تبطل بذلك.
فإن قيل: لمَ فسر أبو هريرة الحدث بهذين: الفساء والضراط؟ قالوا: لأنهما يقعان غالباً في الصلاة أكثر من غيرهما، فيمكن أن الواحد وهو في الصلاة يحصل منه فساء أو ضراط، ولكن نادراً أن الإنسان يبول أو يتغوط في الصلاة.
ففسر الحدث ببعض أفراده لغلبته في الصلاة، أو تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، يعني: إذا كان الفساء والضراط حدث، فمن باب أولى البول والغائط، وهذا كما قال ربنا عز وجل: {َلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23]، إذاً: من باب أولى لا تنهرهما ولا تضربهما، ولا تشتمهما.
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق يسرق البيضة).
فالذي يسرق دجاجة أو يسرق ديكاً لا شك أنه ملعون من باب أولى.(32/21)
نسيان الحدث
الأمر الخامس عشر: نسيان الحدث كإنسان دخل في الصلاة وهو لا يدري أنه محدث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ).(32/22)
أصول مبطلات الصلاة عند المالكية
هذه مبطلات الصلاة عند المالكية، وهي خمسة عشر، وفي بعض كتب المالكية يفصلون أكثر، لكن مردها إلى هذه الخمسة عشر، فمثلاً: قالوا: رفض النية، أي: تركها وإبطالها، وهذا يندرج تحت تعمد ترك ركن من الأركان؛ لأن النية ركن، فلو أنه ترك النية، يعني: في أثناء الصلاة عزم على الخروج منها تبطل صلاته، وهكذا لو علق النية، فمثلاً: زيد إنسان مدين لك، وعنده مال، وقلت في نفسك: أنا جئت أتفقد زيداً فلعل زيداً إن رآني هرب، فأنا أضمرت في نفسي: إن جاء زيد وأنا في الصلاة خرجت، من أجل أن أمسك به، فهذا مندرج تحت تعمد ترك ركن من أركان الصلاة.
أيضاً ذكروا من المبطلات: تعمد زيادة تشهد بعد الركعة الأولى أو الثالثة، وهذا يدخل في تعمد زيادة ركن فعلي، والتشهد ليس ركناً، وإنما الجلوس هو الركن، فإن من أركان الصلاة السلام من جلوس، فلو سلمت في الصلاة وأنت قائم فصلاتك ليست صحيحة.
كذلك قالوا: التصويت عمداً كأن يصوت وهو في الصلاة مثل صوت الغراب، أو زجر هرة فقال: بس: م الله الرحمن الرحيم، فهذا صلاته باطلة.
كذلك ذكروا من مبطلات الصلاة: طروء ناقض للوضوء، وهذا هو الذي ذكرناه أخيراً، فإنه داخل تحت من أحدث في الصلاة.
أيضاً ذكروا من النواقض: كشف العورة المغلظة، وهذه داخلة في النواقض التي هي قبل الصلاة؛ لأنه اختل شرط من شروطها، يعني: من صلى قبل دخول الوقت نقول: صلاته باطلة، ومن صلى إلى غير القبلة فصلاته باطلة، ومن صلى دون أن يستر العورة فصلاته باطلة، ومن صلى بغير طهارة فصلاته باطلة؛ وذلك لتخلف شرط من شروط صحة الصلاة.
فهو أصلاً دخل في الصلاة دون أن يحصل شروطها.
أيضاً: طروء نجاسة على المصلي، أو علمه بها أثناء الصلاة، أو طروء شاغل عن إتمام فرض، وقد ذكرنا منه اثنين: ما يشغل عن أداء الفرض، ومثلنا له باحتباس البول، أو غثيان النفس، أو كثرة الهم، بحيث إنه لا يعقل كم صلى؟ ولا يعقل من صلاته شيئاً.
وهذا يحصل أحياناً.
أيضاً: الردة، نسأل الله العافية، وأعاذنا الله منها! فلو أن إنساناً ارتد في أثناء الصلاة فإنه تبطل صلاته، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]، والآية هنا من قبيل اللف والنشر المرتبين، يعني: أنهما فعلان ترتب عليهما عقوبتان، فالفعلان: ((وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ))، والعقوبتان: ((فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) يعني: كل فعل تقابله عقوبة؛ لئلا يقول قائل بأن في الآية: ((فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ))، فإذا ارتد في صلاته ثم رجع إلى الإسلام فإنه تكون صلاته صحيحة، ويبني على ما مضى، بل نقول له: لا؛ لأنه لما ارتد حبط عمله، ومن جملة العمل الصلاة، وعلى هذا تكون باطلة.
كذلك ذكر المالكية من جملة النواقض: الاتكاء على عصاً أو حائط لغير عذر، قالوا: لأنه يكون مخلاً بالقيام، فيدخل هذا الناقض في الناقض الأول الذي هو تعمد ترك ركن من أركانها، ومن أركان الصلاة القيام للقادر عليه.(32/23)
مبطلات الصلاة التي ذكرها الحنفية ولم يذكرها المالكية
الحنفية رحمة الله عليهم ذكروا مبطلات غير التي قالها المالكية، ومن ذلك: الدعاء بما يشبه كلام الناس، كأن يقول: اللهم زوجني فلانة، فمن قال هذا وهو في الصلاة فعند الحنفية صلاته باطلة، لكن يقال لهم: أليس هذا دعاءً بأمر مشروع؟ فما الذي يجعلها باطلة؟ كذلك أيها الإخوان! الحنفية رحمهم الله قالوا: من مبطلات الصلاة: التأفيف، والتضجر، والأنين، والتأوه، وهذا كله يرجع إلى ما ذكره المالكية في مسألة أنه إذا كان النفخ مبطلاً فهذا من باب أولى.
والإنسان يجد في المساجد عجباً!! كذلك من المبطلات: تشميت العاطس، وهذا يدخل في الكلام لغير مصلحة الصلاة.
ومن المبطلات كذلك عند الحنفية والحنابلة أيضاً: رؤية المتيمم ماءً، فمثلاً: أنا افتقدت الماء، والتمسته، وما وجدته، فطلبته وحرصت عليه ولو بالثمن، فما وجدت فتيممت وشرعت في الصلاة، ثم سمعت خرير الماء وأنا في الصلاة، فتبطل الصلاة عند الحنفية، أما المالكية والشافعية فلا تبطل عندهم عملاً بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ولقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، ولأنك شرعت في العمل الصالح بالشرط الذي أقدرك الله عليه، فتتم صلاتك، بخلاف الحنفية والحنابلة الذين يقولون: إذا رأى المتيمم الماء يقطع الصلاة؛ لأن هذه الصلاة تبطل، ويذهب يتوضأ، ويستأنف من جديد.
كذلك الحنفية يقولون: من المبطلات: قدرة المومئ على الركوع والسجود، والمؤمئ هو الذي يصلي إيماءً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، وإن لم تستطع فعلى جنب، فمن لم يستطع فليومئ إيماءً).
فقالوا: لو تصور بأن إنساناً يومئ في الصلاة، وفي أثناء الصلاة زال العذر، ففي هذه الحالة هذه الصلاة تبطل، ويستأنف من جديد بالركوع والسجود.
قالوا: من المبطلات: وجدان العاري ساتراً، فمثلاً: إذا لم يجد الإنسان شيئاً يستره في الصلاة ولا ثوب حرير ففي هذه الحالة لا يصلي عارياً، بل يتضام، يعني: لا يأتي بالسجود على الهيئة المشروعة بأن يدافع عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، ويجنح، وإنما يتضام، فلو وجد ثوباً وهو يصلي، فالحنفية يقولون: تبطل صلاته ويبدأ من جديد.
أيضاً: من المبطلات عندهم: محاذاة المرأة لرجل بساقيها أو قدميها محرماً كانت أو غير محرم، ولو عجوزاً شوهاء، وفي الحج الإنسان أحياناً قد يصلي وفجأة يجد بجواره امرأة، وربما تكون شابة، بل أغرب من ذلك أن كثيراً من الناس يصلي في البيت مع زوجته، ويقيمها إلى جواره وهذا خطأ، فإذا صليت بزوجتك أو بأمك أو بابنتك فالمفروض أن تكون من خلفك، كما قال أنس: (وصففت أنا واليتيم خلفه، والعجوز من ورائنا)، فهذا الحديث أصل في أن المرأة لا تحاذي الرجل في الصلاة، ولو كانت أصغر.
كذلك يعدون من المبطلات أيضاً: زوال الشمس في العيدين، فوقت صلاة العيد من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى زوالها، فلو أن أناساً أخروا صلاة العيد ثم شرعوا فيها فزالت الشمس قبل أن يأتوا بركعة فقد خرج وقتها، وبطلت.(32/24)
مبطلات الصلاة عند الحنابلة
الحنابلة رحمة الله عليهم يذكرون من المبطلات: اللحن في القراءة بما يغير المعنى، فمثلاً: قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7]، لو أن رجلاً سبق لسانه فقال: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم شر البرية فمثل هذا يغير في المعنى، ومثله أيضاً: قول الله عز وجل في قصة ابني آدم: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، إلى أن قال: {فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا} [المائدة:30 - 31] لو قال: فبعث الله غباراً {يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة:31] فهذا مبطل للصلاة.
فكلام الحنابلة هذا لو أننا أخذنا به فسنحكم ببطلان صلاة أهل السودان، ففيهم أئمة كبار السن يقرءون: إنا أنزلناه في ليلة الغدر، وما أدراك ما ليلة الغدر، ليلة الغدر خير من ألف شهر، وبعضهم يقرأ: المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباغيات الصالحات، والباغيات: جمع بغية.
نسأل الله العافية، لكن القول المعتمد بأن الحروف إذا تقاربت مخارجها يعفى فيها مثل الضاد والظاء.(32/25)
من مبطلات الصلاة عند الشافعية
من مبطلات الصلاة عند الشافعية: تخلفه عن الإمام بركنين فعليين، وهذه موجودة مثل: إمام رفع، وسجد، وهو ما زال راكعاً، فالشافعية يبطلون صلاته، وهذا القول قوي جداً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه).
وما قيمة صلاة الجماعة إذا كان الإمام سيكون ساجداً، وبعض الناس راكعاً، وبعضهم قائماً؟! والحنفية عندهم مبطلات الصلاة ثمانية وستون مبطلاً.(32/26)
الأسئلة(32/27)
حكم مس الحصى أو التراب عند السجود
السؤال
ماذا عن مس الحصى أو التراب عند السجود؟
الجواب
إذا كان رجل يصلي على التراب، وقبل أن يسجد يسوي التراب أو ينفخ حرصاً على عمامته، فهذا صلاته أحرى بالبطلان، وإلا فقد جعل الله لك مخرجاً بأن تضع ثوباً، كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الحر، فلم يشكنا).
يعني: ما استمع إلى شكوانا (وأذن لنا في أن يبسط أحدنا ثوبه) فلا مانع أن تفرش، أما أن تنفخ فلا.(32/28)
حكم من يقول مذهبه الكتاب والسنة
السؤال
ما حكم من يقول: إن مذهبه الكتاب والسنة؟
الجواب
هذه تحتاج إلى كلام كثير؛ لأن الأئمة الكبار رحمة الله عليهم مذهبهم الكتاب والسنة، لكن لو أني لجأت إلى الكتاب والسنة وأنت لجأت إلى الكتاب والسنة والثالث والرابع فسيصبح الأمر فوضى، وما أتي الخوارج إلا من هذا المأتى، فإنهم لما كفروا أصحاب الكبائر استدلوا بالكتاب والسنة، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء:14]، قالوا: الخلود لا يكون إلا للكافر، واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثنتان في أمتي هما بهما كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت).
فقالوا: سمى المعصية كفراً، ولو جلسوا إلى العلماء لفهموا بفهمهم، ولذلك كفروا الأمة، وسفكوا الدماء، فهل يصلح مثلاً إذا أصيب ولدي بمرض أن أذهب إلى كتب الطب، وأقرأ بأنه إذا كان هناك حمى وكحة وكذا فالدواء كذا؟
الجواب
لا، ولو فعلت ذلك لهلك الولد، ولوجبت علي دية القاتل خطأً، فإن من يتطبب وهو ليس بطبيب فإن عليه الضمان، كذلك لو أن إنساناً يلجأ إلى الكتاب والسنة وليس عنده الآلة، وليس عنده فهم في لغة العرب، ولا معرفة بالأسانيد، ولا يستطيع أن يميز الصحيح من السقيم، ولا أن يعرف الخاص والعام والمطلق والمقيد، ولا عرف المسائل الإجماعية والمسائل الخلافية؛ فمثل هذا يحصل به شر عظيم.
والمفروض أننا لا نغالط أنفسنا فلا يقول أحدنا: نحن رجال وهم رجال، كما يقول بعض الناس، بل ممكن أن نقول: نحن ذكور وهم ذكور، أما من الناحية العلمية فلا يخفى أن أولئك السابقين كانوا أورع وأعلم وأتقى وأقرب عهد بميراث النبوة، أما نحن الآن فلساننا أعجمي، وفهمنا سقيم، ونسأل الله أن يعافينا.(32/29)
حكم أكل الميتة والتزود منها إذا خاف على نفسه الهلاك
السؤال
أكل الميتة يجوز إذا خاف الإنسان الهلاك، فهل يجوز له أن يأخذ منه زاداً حتى يجد غيره؟
الجواب
المالكية قالوا: يأكل، ولا يتزود؛ لأن الله عز وجل ما أباح إلا الأكل، والأكل يكون بقدر ما يسد الرمق، فلا تأخذ إلا بقدر ما يسد الرمق، كذلك لو أن إنساناً عانى من العطش أو الغصة فيأخذ من الخمر بقدر ما يزيل الضرورة.(32/30)
حكم صلاة الغضبان
السؤال
الضحك مبطل للصلاة، فما حكم من صلى وهو غضبان؟
الجواب
ليس هناك مشكلة إن شاء الله، لكن ورد في القضاء أنه لا يحكم القاضي وهو غضبان، وقاس عليه العلماء كل ما كان سبيله التشويش، فلا يحكم القاضي وهو جوعان، ولا يحكم القاضي وهو حاقن، ولا يحكم القاضي وهو حاقب يعني: إذا كان القاضي محتاجاً للحمام فإنه يمشي إلى الحمام، وإذا كان جائعاً يأكل، وإذا كان غضبان ينتظر إلى أن يزول غضبه.(32/31)
حكم البصاق في الصلاة
السؤال
ما حكم من بصق أو تفل عن شماله، وهناك من هو عن يمينه في الصلاة؟
الجواب
لا حرج إن شاء الله، ولكن لا يكون في المسجد، ولا يكون في أرض المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها)، أما إذا كان عندك منديل أو بصقت في كمك ونحو ذلك فلا حرج إن شاء الله.(32/32)
حكم صلاة من صلى وفمه ممتلئ بالبصاق
السؤال
ما حكم من صلى وفوه ممتلئ بالبصاق، في صلاة الجهر، أو جعل البصاق بأطراف فيه ثم قرأ؟
الجواب
هذا يدخل في الناقض الثاني.
وهو ما يشغل عن أداء الركن القولي، والركن القولي هو: تكبيرة الإحرام، والفاتحة، والسلام.
فإنسان ممتلئ فوه بالبصاق لا يستطيع أن يسلم ولا أن يقرأ الفاتحة أيضاً، ولا أن يقيم الحروف.(32/33)
لا فرق بين الفريضة والنافلة في مبطلات الصلاة
السؤال
الأدلة التي ذُكرت على أن القليل لا يبطل هل تُحمل على الفرض والنفل أم على الفرض فقط؟
الجواب
نعم.
تُحمل على الفرض والنفل، يعني: أحكام صلاة النفل هي كأحكام صلاة الفرض إلا ما خصه الدليل، فمثلما أن الفريضة يشترط لها استقبال القبلة والطهارة وإزالة النجس وما أشبه ذلك فكذلك النافلة، ومثلما أن الفريضة من أركانها الطمأنينة فكذلك النافلة، إلا ما خصه الدليل من إسقاط القيام ونحو ذلك.(32/34)
الواجب على من رن تلفونه السيار وهو في الصلاة
السؤال
أحياناً قد ينسى الإنسان جهاز الهاتف السيار وهو مفتوح فهل إذا أقفله في الصلاة يعد من القليل الذي لا يبطل؟
الجواب
الواجب أن الإنسان إذا صوت الجهاز وهو في الصلاة أن يغلقه؛ لأنه يشوش على المصلين، ولو أدى ذلك إلى بطلان الصلاة؛ لأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام.
خاصة أن بعض الناس صار يبرمج هاتفه على بعض الأغاني والأناشيد، ثم تجده في المسجد يصدر هذا الصوت، ويبدأ المصلي ولربما الإمام يفكر هل هذه أغنية فلان أم فلان؟ والإثم على هذا الذي لم يتق الله عز وجل في بيت الله.(32/35)
حكم من يصلي مغمضاً عينيه
السؤال
ما حكم من يغمض عينيه في الصلاة؟
الجواب
من مكروهات الصلاة: التغميض، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرمي ببصره نحو موضع سجوده، اللهم إلا إذا كان هناك ما يلهي، أي: إذا كان هناك شيء يلهيك وخفت أن تضيع صلاتك ويذهب خشوعك فأغمضت عينيك فلا حرج إن شاء الله.(32/36)
حكم من يتابع الإمام في قراءته أثناء الصلاة
السؤال
ما حكم محاكاة الإمام في قراءة القرآن؟
الجواب
هذا خطأ، وبعض الناس إذا كان يحفظ السورة التي يقرؤها الإمام، يبدأ يشوش على الإمام، والنبي صلى الله عليه وسلم لما لبس عليه في الصلاة قال: (إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟! هل قرأ منكم أحد معي؟ فالصحابة رضي الله عنهم قالوا: نعم.
قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن).
يعني: إذا قرأت فلا تقرأ إلا الفاتحة فقط، أما أنك تقرأ مع الإمام فلا.(32/37)
حكم الصلاة الصورية للمحدث التي يذكرها المالكية
السؤال
ما حكم الصلاة الصورية مع الإمام المذكورة في بعض كتب المالكية؟
الجواب
من أحدث في الصلاة وجب عليه الخروج، فإذا وجد بأن الصفوف بالخلف ممتلئة والمسجد كبير فيشوش على الناس فيجب عليه الجلوس، أما الصلاة الصورية بأن أقوم مع الإمام وقد علمت بأن صلاتي قد بطلت فبعض العلماء قالوا: يخشى على من فعل هذا من الكفر؛ لأنه مستهزئ، فالإنسان إذا طرأ عليه الحدث يخرج.(32/38)
حكم حبس الريح في الصلاة
السؤال
إذا كنت في الركعة الأخيرة، وشعرت بريح فحبستها وأنا في التشهد، فهل تبطل الصلاة؟
الجواب
طالما أنك حبستها لا تبطل إن شاء الله.(32/39)
فقه الصلاة_أحكام الجنائز
للميت أحكام كثيرة، منها صفة غسل الميت، وصفة تكفينه، والصلاة عليه، وهذه الأحكام من محاسن الشريعة، ومن تكريم الله لعباده أمواتاً كما كرمهم أحياء، وهذا يدل على عظم اهتمام هذا الدين الحنيف بمعتنقيه وأتباعه.(33/1)
مشروعية الإكثار من ذكر الموت
يقال: الجَنازة والجِنازة بمعنىً واحد، وقيل: الجَنازة اسم للميت، والجِنازة اسم للسرير الذي يُحمل عليه.
يجب على المسلم الإكثار من ذكر الموت لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات)، وفي رواية: (هادم) يعني: قاطع اللذات.
فاكثر من ذكر الموت بزيارة القبور، فزيارة القبور تذكر بالآخرة، وعيادة المرضى، ومشاهدة المحتضرين، واتباع الجنائز، وتغسيل الموتى، وقراءة كتب الرقائق.
وبعض الناس إذا وجد درساً في الفقه والأحكام يحرص عليه، أما إذا كان درساً في الرقائق لا يحرص على حضوره، ونحن محتاجون إلى الوعظ، فالله عز وجل يقول: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57].
نحن محتاجون للوعظ، ومحتاجون للسيرة، ومحتاجون للعقيدة، ومحتاجون للأحكام، وكذلك محتاجون أن نعلم كيف نزكي نفوسنا، قال الله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9]، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، والرسول عليه الصلاة والسلام أوصى أبا ذر قائلاً له: (يا أبا ذر! زر القبور تذكر بها الآخرة، وغسل الموتى فإن معالجة الجسد الخاوي موعظة بليغة، واتبع الجنائز لعل ذلك يحزنك، فإن الحزين في ظل الله يوم القيامة يتعرض لكل خير).
على الإنسان أن يحاول إذا وجد فرصة أن يغسل ميتاً فليغسله، وإذا وجد فرصة لاتباع جنازة فليتبعها، وإذا وجد فرصة لعيادة مريض فليعده؛ لأن هذا كله يتذكر به الإنسان نعمة الله عليه.(33/2)
ما يجب على المريض
يجب على المريض أن يرضى بقضاء الله وقدره، وأن يحسن الظن بربه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، ويجب عليه أن يتوب إلى الله من الذنوب، ويرد المظالم إلى أهلها.
ويجب على الطبيب أن يكلمه أن يتهيأ بالتوبة للقاء الله، وذلك برد المظالم، وبالإكثار من الأعمال الصالحة، وبالوصية مثل أن يتبرع لمسجد ونحو ذلك، من أجل أن يتهيأ للقاء الله عز وجل، ولكن بعض الأطباء يقول: لو كلمناه سينتكس، فليس بالضرورة أن تقول له: يا أخي! باقي لك شهران وتموت! ليس بالضرورة أن نكلمه بهذا الأسلوب، ولكن بأسلوب طيب كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكروا عن بعض الحمقى أنه عاد مريضاً فلما خرج عزى أهله، وقال لهم: أحسن الله عزاءكم! قالوا له: ما مات! قال لهم: سيموت إن شاء الله، فهو أعطاهم الخبر بصورة من الحمق.
وهذا لا يصح.
وأحد الملوك رأى في منامه رؤيا فسأل بعض المعبرين، فقال له أحدهم: سيموت أهلك كلهم أجمعون، نساؤك وأولادك وأبوك وأمك كلهم سيموتون مرة واحدة، والتأويل كان صحيحاً.
وأتى بمؤول آخر وقص عليه الرؤيا فقال له: سيطيل الله في عمرك حتى تكون آخر أهلك موتاً، وهذا يعني أن أهله كلهم سيموتون ويبقى بعدهم وحده، لكن أول له الرؤيا بكلام طيب.
فالرسول صلى الله عليه وسلم علمنا أن الكلمة الطيبة صدقة، فلذلك إذا زرنا مريضاً نذكره بالتوبة إلى الله ورد المظالم.
ويجب على كل واحد منا أن يكتب وصيته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعنده شيء يوصي به إلا ووصيته عند رأسه).(33/3)
مشروعية عيادة المريض وتلقين المحتضر
يسن للمسلم عيادة المريض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست -وذكر- وإذا مرض فعده)، وقال: (من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع)، وفي الحديث القدسي: (يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: ألم تعلم أن عبدي فلاناً مرض إلخ الحديث)، وكذلك عندما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه: (من منكم اليوم عاد مريضاً؟).
وإذا نزل به الموت نلقنه شهادة التوحيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)، فإذا قالها فلله الحمد، وإذا قالها وتكلم بعدها بكلام آخر فنعيد تلقينه كلمة لا إله إلا الله من أجل أن تكون آخر كلامه.
ومما اشتهر عند الناس أنه يقال للمحتضر: قل: لا إله إلا الله بغلظة وبشدة وبإلحاح، وهذا خطأ؛ لأن الإلحاح يسبب الضجر، فقل له: قل: لا إله إلا الله بلطف، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل على الغلام اليهودي وهو يحتضر قال له: (يا غلام! قل: لا إله إلا الله) بلطف.(33/4)
مشروعية تغميض عين الميت وتسجيته والاسترجاع والمبادرة بتجهيزه
إذا فارقت الروح البدن نغمض عينيه ونغطي جسده كله؛ لأن الميت عورة فنستره؛ ولذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي سجي ببردته الخضراء عليه الصلاة والسلام، غُطي كله صلوات الله وسلامه عليه.
ولما مات أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وشق بصره أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإغماض عينيه، وأخبر أن الإنسان إذا مات فإن البصر يشخص؛ لأنه يتبع ببصره روحه، فالملائكة أخذت الروح وصعدت به فهو يتبع الملائكة ببصره، فالروح إذا خرج اتبعه البصر؛ ولذلك أرشدنا صلى الله عليه وسلم أن نغمض عينيه.
بعد هذا ندعو له بالخير؛ لأن الملائكة موجودون وهم يؤمنون على دعائنا.
ويسن للمسلم إذا مات له ميت أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها.
وما نترك الجنازة في البيت، ونذهب نفتش ونقول: يا فلان ائت بالكراسي، ويا فلان ائت بالخروف، ويا فلان ائت بكيس سكر، هذا لا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله)، بل يعجل بها.
وكذلك نسارع بقضاء دينه وإنفاذ وصيته.(33/5)
حكم غسل الميت
غسل الميت المسلم واجب، والأغسال الواجبة هي: غسل الجنابة، وغسل الميت المسلم، وغسل الكافر إذا أسلم، والاغتسال من الحيض والنفاس.
وغسل الجمعة مستحب لا واجب.
وغسل المسلم الميت واجب ولو كان صغيراً، ولو كان سقطاً خرج من بطن أمه ميتاً بعد أن أكمل في البطن أربعة أشهر فأكثر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ماتت ابنته زينب قال: (اغسلنها)، والأمر يقتضي الوجوب، ولما مات الرجل في إحرامه قال: (اغسلوه بماء وسدر).(33/6)
صفة غسل الميت
يندب في غسل الميت البدء بغسل الأذى، ثم أعضاء الوضوء، واستعمال المطهرات من سدر أو صابون ونحوهما، وتكون الغسلات وتراً، وأقلها ثلاث مرات، ونحن نعرف أن الوتر أقله واحد، لكن في غسل الميت أقله ثلاث.
ولا يغسل الرجال إلا الرجال، ولا يغسل النساء إلا النساء إلا من كانت دون سبع سنوات.
ويجوز أن تغسل المرأة زوجها وأن يغسل الزوج امرأته، والدليل أن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه.
وسيدنا أبو بكر لما مات غسلته زوجه أسماء بنت عميس، والسيدة فاطمة غسلها زوجها علي بن أبي طالب، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة فكان إجماعاً.
ويجب على الغاسل ستر عورة الميت، يعني: لا يجرد الميت بحيث يكون كيوم ولدته أمه، ولكن تضع بين سرته وركبته ثوباً ثم بعد ذلك تجرده من ثيابه.
ولا يباشر عورة الميت بيده بل يجعل على يده ساتراً كالخرقة أو يلبس قفازات كصنيع الأطباء.
أما شهيد المعترك الذي مات في مكان المعركة فلا يُغسل؛ لأنه يبعث يوم القيامة وكلمه ينزف، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
والغريق والمحروق والمهدوم والمبطون والمطعون والمرأة تموت في الولادة يغسلون، والدليل أنهم غسلوا زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعندما نغسل الميت نضعه في مكان مرتفع مثل السرير أو ما أشبه ذلك، ونجرده من ثيابه إلا ما يستر عورته، ولا يدخل في مكان الغسل إلا من تدعو إليه الحاجة، وإذا كان يكفي أن يغسله واحد فواحد، وإذا احتيج إلى اثنين فاثنين، أو ثلاثة فثلاثة، وإذا كان الميت ذا جسم كبير فقد يحتاج إلى أربعة أو خمسة أو ستة، المهم أن العدد يكون على قدر الحاجة.
ثم بعد ذلك يجلس نصف جلسة، يعني يسند، ويبدأ الغاسل يضغط على بطنه ضغطاً رفيقاً ليخرج ما فيها.
وبعد ذلك يلف على يده شيئاً فيباشر تنظيف عورته قبلاً ودبراً، ثم بعد ذلك يوضئه وضوء الصلاة، ولا يجعل في فمه ولا في أنفه ماء، وإنما يدخل أصبعه في فمه فينظفه، وكذلك ينظف منخريه، ولا يقلم له ظفراً، ولا يحلق له شعراً، ويدفن بأجزائه كلها، وقد نص الإمام النووي وغيره من أهل العلم على أن حلق شعر الميت وقص أظافره بدعة، فلا نحلق شعره ولا نقلم أظفاره، ولا نقص شاربه، ولا نحلق عانته ولا إبطه.
وبعدما نوضئه وضوء الصلاة نغسله الغسلة الأولى بماء صاف، ثم نغسل رأسه، ونبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم شق رأسه الأيسر.
ثم نغسله الغسلة الثانية، ونجعل مع الماء صابوناً أو سدراً ونحو ذلك من المطهرات.
ونجعله على ظهره، والأفضل أن نجعله على جنب من أجل أن يتيسر لنا أن نغسل ظهره وبطنه.
ثم نغسله الغسلة الأخيرة بأن نجعل مع الماء كافوراً؛ لأن الكافور يرطب بدن الميت ويمنع تسرع الهوام إليه.
ثم بعد ذلك نشرع في تكفينه.
وإذا وجدنا الثلاث الغسلات ليست كافية ما نظفته فنزيد رابعة ونجعل الخامسة هي الأخيرة، وإذا ما كفت نزيد سادسة ونجعل السابعة هي الأخيرة.(33/7)
حكم تكفين الميت
يجب بعد الغسل تكفين الميت، والأصل في وجوب التكفين قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي مات محرماً: (وكفنوه في ثوبين) رواه البخاري، وفي الحديث: (كفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيهن قميص ولا عمامة).
والمتحلل نيممه، فلو خفنا أننا إذا غسلناه زال لحمه، فنيممه، مثل الغريق الذي وُجد بعد ثلاثة أيام مهترئاً فإذا غسلناه سيتزايل لحمه، ففي هذه الحالة نكتفي بأن نيممه.(33/8)
صلاة الجنازة
الصلاة على الميت من فروض الكفاية.
وأركانها خمسة: النية، والقيام، والتكبيرات الأربع، والدعاء، والسلام.
القيام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخاً لكم قد مات قوموا فلنصل عليه)، وهو النجاشي أصحمة رحمه الله وأكرمه.
ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة هو: (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد).(33/9)
حكم الرجل يموت بين النساء
مسألة: رجل أجنبي مات بين النساء؛ لأن الرجال قليل والنساء كثير، فالعلماء رحمهم الله اختلفت أقوالهم في ذلك، فقيل: ييمم الميت إذا لم يوجد من جنسه من يغسله، يعني: رجل ما وُجد رجل يغسله أو امرأة ما وُجدت امرأة تغسلها، ييمم.
وبعض أهل العلم قال: يُغسل من فوق حائل أي: من فوق الثياب، لكن ليس على هذا دليل، وكما أنه لا يجوز النظر لا يجوز اللمس.(33/10)
الدفن
يجب دفن الميت ولو كان شهيداً أو سقطاً؛ لأن الله تعالى قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:55]، وقال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26].
ويجب تعميق القبر تعميقاً وسطاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (احفروا وأعمقوا وأحسنوا).
ويستحب اللحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللحد لنا والشق لغيرنا)، والشق هو ما نفعله نحن في مقابرنا ونسميه لحداً، وهو الشق وليس باللحد، وإنما اللحد يكون في جدار القبر مثلما يصنع الآن في البقيع، والميت يدخل مكاناً مثل الدرج ثم يوضع عليه اللبن وينصب نصباً على جدار القبر، ثم يهال التراب على الحفرة وليس على الميت، أما الميت فقد سُتر في داخل جدار القبر، لكن لعل الأرض هاهنا ما تتحمل اللحد.
قال سعد بن أبي وقاص: (الحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم).
لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم اختلف الصحابة هل نلحد له لحداً أو نشق له شقاً؟ فكان في المدينة رجلان أحدهما يلحد والآخر يشق، فقالوا: نبعث فإليهما فأيهما جاء أولاً فقد اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فجاء الذي يلحد فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم لحداً.
بعد ذلك الميت ننزله من ناحية رجليه، ننزله من الخلف ونضعه في قبره برفق قائلين: باسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونضعه على شقه الأيمن مستقبلين به القبلة، ولا بأس أن نضع تحت رأسه قطيفة أو وسادة أو قطعة من الطين، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع تحته قطيفة في قبره صلوات ربي وسلامه عليه، نسأل الله أن يجمعنا به في الجنة! ومن العيوب العجيبة كثرة الكلام في ذاك المقام، وكأنك لست في دفن جنازة، بل كأنك في حفلة، وكل الناس يتكلم مع من يعرف ومن لا يعرف، نعوذ بالله! وزيارة القبور مستحبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فزوروها).
ويستحب لزائر القبور أن يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية.(33/11)
مشروعية تعزية أهل الميت وصنع الطعام لهم
تشرع تعزية أهل الميت، والتعزية المسنونة أن يقال: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبروا واحتسبوا.
أو يقول: أحسن الله عزاءكم، وعظم أجركم، وغفر لميتكم، ونحو ذلك.
أيضاً يستحب تهيئة الطعام لأهل الميت، فالجيران يصنعون الطعام لأهل الميت؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم ما يشغلهم).
أما ما يُفعل اليوم من تجمع الناس عند أهل الميت وتوافدهم إليهم من كل ناحية فإنه مخالف لعمل السلف، وشبيه لصنيع أهل الجاهلية، وقد روى أحمد وابن ماجة عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة.(33/12)
نموذج للوصية
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان.
أولاً: هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، عليها يحيا، وعليها يموت، وعليها يبعث إن شاء الله.
ثانياً: أوصي أهلي وقرابتي وإخواني وجيراني بتقوى الله، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1].
ثالثاً: أنا بريء مما برئ منه الله ورسوله.
يعني: أي شيء يفعلونه عند موته من المحرمات كالنياحة وضرب الخد وشق الجيب والدعاء بالويل والثبور فهذا كله قد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فاعله.
رابعاً: أوصي أن تعملوا بالسنة في غسلي وكفني والصلاة علي ودفني وتقبل العزاء فيَّ ولا تتجاوزوا السنة.
خامساً: أوصي بأن يغسلني فلان، فإن لم يوجد ففلان، وأن يصلي علي فلان فإن لم يوجد ففلان.
سادساً: وأوصي بشيء من مالي الثلث أو أقل، مثلاً أنت تملك ثلاثين مليوناً، فلك الحق أن تتصرف في عشرة أو أقل من عشرة.
وبعد هذا تبين الديون التي لك والتي عليك، وتشهد على ذلك اثنين، وتضع الوصية في مكان معين، وتخبر زوجتك وعيالك أو تخبر صاحبك، أو تخبر أخاك، أو أباك بأن وصيتي في المكان الفلاني، وإذا حصل قضاء الله في أي ساعة من ليل أو نهار فخذوها.(33/13)
الأسئلة(33/14)
حكم الوصية للوالدين
السؤال
ما حكم الوصية للوالدين؟
الجواب
منسوخة بآيات الميراث، أو تحمل على ما لو كان الوالدان ليسا وارثين، كما لو كانا كافرين، مثلاً هو أسلم ووالده كافران، ففي هذه الحالة لو أوصى لهم بشيء من المال فلا حرج.(33/15)
حكم الوضوء من آنية الذهب والفضة
السؤال
هل يجوز الوضوء من آنية الذهب؟
الجواب
لا يجوز، والوضوء صحيح لكنك آثم؛ لأن استعمال آنية الذهب والفضة لا يجوز.(33/16)
حكم من مات في البحر
السؤال
إذا توفي شخص في عرض البحر فأين ندفنه؟
الجواب
من توفي في عرض البحر، فإذا كنا قريبين من الشاطئ نغسله ونكفنه ونصبر إلى أن نصل إلى اليابسة فندفنه.
أما إذا كان الشاطئ بعيداً ونخشى عليه التغير، فإننا نغسله ونكفنه ونصلي عليه ونثقله أي: نربط معه حجر أو شيء ثقيل ثم نرميه في البحر.
وبعض العلماء قالوا: يربط بين لوحين ليبقى طافياً فيجده جماعة يدفنونه، لكن هذا يترتب عليه مفاتن أنه ربما يتكشف، وربما يجده قوم كفار فيعبثون به، فالأنسب أنه يثقل بشيء ثم يرمى في البحر.(33/17)
حكم تطييب الميت في مواضع سجوده
السؤال
ما حكم تطييب الميت في مواضع السجود؟
الجواب
استحب بعض العلماء أن يطيب الميت في مواضع السجود، في الجبهة والكفين والركبتين وأطراف القدمين، وأن يوضع القطن في المنافذ، خاصة بعض موتى الحوادث، فالدم ينزف باستمرار، وفي هذه الحالة نحشو منافذه، يعني منخريه وفمه ودبره بالقطن من أجل أن يتماسك الدم.(33/18)
حكم كشف وجه الميت وتقبيله
السؤال
ما حكم كشف وجه الميت وتقبيله قبل أن يدفن؟
الجواب
ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن وجهه وقبله بين عينيه وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله.
فليس بمانع من كشف وجه الميت وتقبيله، لكن ليس معنى ذلك أن ندفنه وهو كاشف الوجه، اللهم إلا إذا كان شهيد المعترك؛ لأن شهيد المعترك يدفن في ثيابه التي مات فيها.(33/19)
النظر الحرام لا يبطل الوضوء
السؤال
هل يبطل وضوء من نظر إلى امرأة وهو آت إلى المسجد؟
الجواب
من نظر إلى امرأة وهو آت إلى المسجد فقد ارتكب محرماً، لكن ليس كل حرام مبطلاً للوضوء.
وهكذا لا ينتقض وضوء من شرب سيجارة أو لبس خاتم ذهب أو شال حرير أو قميصاً أحمر، ولا يبطل وضوءه إلا إذا خرج منه شيء كمذي ونحوه.(33/20)
فقه الصلاة_أحكام صلاة المسافر
لقد يسر الله سبحانه لهذه الأمة أمور دينها، وأعانها على التمسك بشريعتها، ويسر لها سبل الوصول إلى رضوانه، والفوز برحمته وجناته، ومن ذلك: تصدقه على هذه الأمة بالقصر في السفر؛ لما في الإتمام من المشقة على المسلم المسافر، والحقيقة أن هذه المسألة من المسائل الفقهية التي ينبغي للمسلم أن يفهمها، ويعرف معانيها؛ ليأخذ هذا الدين كما أمر الله ونبي الله، ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين.(34/1)
أحكام قصر الصلاة في السفر(34/2)
حكم الإتمام في السفر
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد تقدمت معنا المسألة الأولى: وهي حكم القصر للمسافر، وذكرنا أن جمهور العلماء رحمهم الله: لا يبيحون القصر إلا لمن كان مسافراً سفراً مباحاً، وأولى منه السفر الواجب أو المندوب، فخرج من ذلك السفر المحرم والمكروه، فيسن للمسافر سفراً مباحاً قصر الصلاة الرباعية، وهي الظهر والعصر والعشاء، وكذلك له العمل ببقية الرخص من المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن، والفطر في نهار رمضان، وترك السنن الرواتب سوى ركعتي الفجر، ولا يستفيد من هذه الرخص كلها إلا من كان مسافراً سفراً مباحاً.
قال الشيخ رحمه الله: ويسن لمن سافر سفراً مباحاً أن يقصر الرباعية، ولو صلاها أربعاً صحت صلاته، والمسألة فيها خلاف، فقيل: الإتمام مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أتم في سفر، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وهذا يشمل الكمية والكيفية، وقيل: القصر واجب ومن أتم فهو آثم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر)، فنقول: إن الإنسان إذا كان مسافراً سفراً مباحاً أو واجباً أو مستحباً فمن السنة أن يصلي الرباعية ركعتين؛ لأن هذا فعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك)، فليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في السفر أربعاً، فالسنة أيها الإنسان إذا كنت في السفر أن تصلي اثنتين.
لكن بعض العلماء قالوا: ليس الأمر مجرد سنة، بل لو صلى أربعاً فقد أتى فعلاً مكروهاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، في الكمية والكيفية.
وقال بعض العلماء: ليس مكروهاً فقط، بل من صلى في السفر أربعاً فهو آثم؛ لحديث عائشة: بأن الصلاة أصلاً كانت ركعتين فزيدت صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، فبقيت كما هي، والصواب في هذه المسألة هو قول المالكية: بأن القصر في السفر سنة ومن أتم أربعاً فصلاته صحيحة، لكنه ترك الأفضل والأولى، ويشهد لهذا أصلان: الأصل الأول: أن المسافر إذا ائتم بالمقيم صلى أربعاً باتفاق أهل العلم.
والأصل الثاني: أن عثمان رضي الله عنه صلى بالناس في منى أربعاً وصلى خلفه الصحابة رضي الله عنه الله عنهم.
وقد سئل أنس رضي الله عنه فقيل له: ما بال المسافر إذا صلى صلى ركعتين وإذا ائتم بمقيم صلى أربعاً؟ فقال: هي السنة.
وكذلك فعل عثمان رضي الله عنه حين صلى بالصحابة أربعاً في منى وصلوا خلفه، مع أن بعضهم كره هذا الفعل من عثمان، حتى إن عبد الله بن مسعود استرجع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر صلوا في منى قصراً، وصلى عثمان في أول خلافته قصراً ثم أتم بعد ذلك.
واختلفوا في سبب إتمامه فقيل: لأنه تأهل؛ أي: تزوج في مكة.
وقيل: لأنه رأى أن الأعراب كثيرون فخشي عثمان رضي الله عنه أن يظن هؤلاء الأعراب أن الظهر والعصر والعشاء ركعتان، ففضل ترك هذه السنة خشية الالتباس على الناس، وهذا أصل مرعي.
وقيل: لأنه كان سلطاناً، والسلطان حيث نزل فالمصر مصره، وهذا تعليل عليل؛ لأن السلطان قبله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبا بكر ثم عمر، فلو كان هذا مرعياً لكان أولئك أولى به.(34/3)
أسباب خروج البغاة على عثمان رضي الله عنه وبيان بطلانها
وهذه من الأسباب التي خرج بها أولئك البغاة على عثمان لما أرادوا قتله، وقالوا أيضاً: لأنه لم يشهد بدراً، وفر يوم أحد، وحرق المصاحف، وضرب عماراً حتى فتق أمعاءه، ونفى أبا ذر إلى الربذة، ورد الحكم بن أبي العاص إلى المدينة بعدما نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف في المنبر حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان منبره صلى الله عليه وسلم ثلاث درجات فجاء أبو بكر فنزل درجة، وجاء عمر فنزل درجة، وقالوا: أما عثمان فوقف حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أتم الصلاة في منى وقد قصرها صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وقالوا أيضاً: إن عثمان حمى الحمى وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ولو تأملنا هذه التهم لوجدناها تهماً زائفة باطلة، فأما أنه لم يشهد بدراً فلأن رقية رضي الله عنها كانت مريضة وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبقى معها لكي يمرضها، وفرض له صلى الله عليه وسلم سهم رجل شهد بدراً.
وأما أنه فر يوم أحد فما فر وحده وإنما فر كثيرون وقد غفر الله له، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران:155]، وأما أنه لم يشهد بيعة الرضوان فالرسول صلى الله عليه وسلم بعثه إلى أهل مكة ليفاوضهم، وسبب بيعة الرضوان أصلاً: إشاعة مقتل عثمان، فبايع الصحابة من أجل ذلك، وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بإحدى يديه على الأخرى وقال: اللهم هذه عن عثمان.
وأما قولهم: إنه ضرب عماراً ونفى أبا ذر فهذا كله كذب، ولو ضرب عماراً حتى فتق أمعاءه لما عاش، ومعروف أن عماراً رضي الله عنه لم يقتل إلا يوم صفين.
فالشاهد: أن الصحابة صلوا خلف عثمان أربعاً، ولو كانت باطلة لما صلوا، فمن صلى في السفر أربعاً فصلاته صحيحة، لكنه ترك الأفضل؛ لأن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم لم يتم في السفر.(34/4)
الدليل على مشروعية القصر في السفر
والمسألة الثانية: الدليل على مشروعية القصر مأخوذة من الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101]، وأما من السنة فحديث يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: قلت لـ عمر بن الخطاب: (ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) فقد أمن الناس؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)، فبين الرسول عليه الصلاة والسلام بأن الآية هاهنا- كما يقول أهل الأصول- وصف كاشف وليس قيداً للاحتراز، وبالمثال يتضح المقال: قال الله عز وجل: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33]، فإذا لم ترد الفتاة تحصناً فهل نشجعها على الزنا؟! لم يقل بهذا أحد، لكن قالوا: هو وصف كاشف أي: وصف للحال؛ لأن عبد الله ابن أبي بن سلول لعنة الله عليه كان عنده إماء وكان يكرههن على البغاء، أو أنه قيد خرج مخرج الغالب.
ومثال ذلك أيضاً: قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23]، فلو أن عندك زوجة، والزوجة عندها بنت من زوج سابق، وأنت لم تر هذه البنت ولا تعرفها، وهي مع خالتها في الصين أفيحل لك نكاحها لأنها ليست في حجرك والله تعالى يقول: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23]؟
الجواب
لا، بل هي محرمة عليك، والقيد هنا خرج مخرج الغالب، لأن الغالب أن ربيبتي تكون في حجري.
فالقصر جائز لمن كان خائفاً ولمن كان آمناً إذا وجدت العلة وهي السفر.
وأما من الإجماع فقد حكى ابن المنذر وغيره الإجماع على مشروعية القصر في سفر تقصر في مثله الصلاة، كسفر الحج وسفر الجهاد وسفر العمرة.(34/5)
المسافة التي يباح فيها القصر في السفر
المسألة الثالثة: ما هي المسافة التي يباح في مثلها القصر؟ قال المالكية رحمهم الله: لا تقصر الصلاة إلا في سفر يبلغ أربعة برد، والبريد: أربعة فراسخ إلى ستة عشر فرسخاً، والفرسخ: ثلاثة أميال فأصبحت ثمانية وأربعين ميلاً، والميل: كيلو وستين بالمائة من الكيلو، فالمسافة تزيد على السبعين كيلو، ثم بعد ذلك شرق الفقهاء وغربوا وأتهموا وأنجدوا وخرطموا ودرمنوا، فقال بعضهم: مسافة القصر اثنان وسبعون كيلو متراً، وقال آخرون: مسافة القصر ثمانون كيلو وأربعة وستون بالمائة، وهو تحديد الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي في كتابه: الفتح الرباني شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني.
وحدد المسافة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام في كتابه (تيسير العلام شرح عمدة الأحكام) فقال: إنها مسافة اثنين وسبعين كيلو متراً.
وجاء آخرون فقالوا: هي مسافة اثنين وسبعين كيلو متراً ومائتين وثمان وثلاثين من ألف.
وقال بعضهم: إنها مسافة أربعة وثمانين كيلو متراً، والمالكية رحمهم الله ها هنا قالوا: هي مسافة أربعة برد.
والبرد: جمع بريد، والبريد: مسافة نصف يوم، وسمي بريداً؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا المراسلات السريعة جعلوها في البريد، فيرتبون بين مسافة كل نصف يوم مستقراً ومستراحاً يكون فيه خيل، فإذا وصل صاحب الفرس الأول إلى هذا المكان نزل عن الفرس ليستريح الفرس وركب فرساً آخر إلى مسيرة نصف يوم، وقدروه بالزمن فقالوا: أربعة برد، وتساوي يومين قاطبين بالسير المعتدل.
فالمالكية قالوا: هذه مسافة القصر، ومن سافر دونها فلا يقصر، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم)، قال الإمام أبو الوليد الباجي رحمه الله: إن مسيرة يوم وليلة ومسيرة أربعة برد واحد، واليوم والليلة في الغالب يسار فيه أربعة برد.
واستدلوا أيضاً بحديث ابن عباس أنه كان يقصر في المسافة ما بين مكة والطائف، ومكة وعسفان، ومكة وجدة، قال مالك: وذلك أربعة برد، وذلك أحب ما تقصر إلي فيه الصلاة.
واستدلوا أيضاً بحديث رواه ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أهل مكة! لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان)، وهذا حديث رواه الدارقطني رحمه الله، وهو ضعيف.
وقد اختلف المالكية والشافعية في تقدير هذه البرد.
والراجح الذي استقر عليه قول أهل العلم أن كل ما يسمى سفراً عرفاً يجوز أن تقصر فيه الصلاة.
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: التقدير بابه التوقيف؛ فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، والحجة مع من أباح الفطر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه.
والمسافر في اللغة هو: من فارق محل إقامته، فيرجع في تعريفه إلى عرف الناس، فلا يعد الذهاب من جبرة مثلاً إلى المقرد سفراً.
فما سمي سفراً عرفاً جاز فيه القصر دون أن نحدد ذلك بمسافة ولا بأيام خاصة؛ حيث يستطيع الإنسان الآن أن يخرج من الخرطوم إلى مكة المكرمة في خلال ساعتين أو تزيد قليلاً ويكون في داخل الحرم.
وأيضاً في سفر المرأة بغير محرم نأخذ بعموم الرواية: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع محرم) وعلى هذا فكل ما يسمى سفراً عرفاً لا يجوز للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم، دون نظر إلى المسافة أو الوسيلة، فلا فرق في السفر بطيارة أو بسفينة فالحكم واحد.(34/6)
استواء وسائل السفر في الحكم
المسألة الرابعة: هل تشترط وسيلة معينة للسفر؟
الجواب
لا تشترط فمن سافر في البحر فهو في الحكم كمن سافر في البر، وقد سأل تميم الداري عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن ركوب البحر، فأمره بقصر الصلاة فيه، وتميم بن أوس الداري الفلسطيني كان رجلاً نصرانياً فأسلم، وسبب إسلامه: حديث الجساسة، وهو في صحيح مسلم وفيه: أنه ركب البحر فاضطربت بهم السفينة، ثم أرفأت إلى جزيرة فوجدوا فيها دابة كثيرة الشعر لا يدرون قبلها من دبرها، قال: فخفنا أن تكون شيطانة، فسألناها ما أنت؟ فتكلمت بلسان عربي مبين وقالت: أنا الجساسة، واعمدوا إلى ذلك الدير فإن به رجلاً هو إلى خبركم بالأشواق، فدخلنا فإذا رجل عظيم الهامة كثير الشعر مجموعة يداه ورجلاه إلى عنقه، فقلنا: ما أنت؟ فبدأ يسألنا ويقول: هل أثمر نخل بيسان؟ فقلنا: نعم، فقال: يوشك ألا يثمر- وبيسان مدينة في فلسطين- وهل ما زال في طبرية ماء؟ -وطبرية بحيرة في فلسطين- قلنا: نعم، قال: يوشك ألا يكون بها ماء، ثم قال: هل خرج نبي الأميين؟ قلنا: نعم، قال: هل تابعته العرب؟ قلنا: لا، قال: إنه خير لهم لو تابعوه، قلنا له: ما أنت؟ قال: أنا الدجال، ويوشك أن أخرج فلا أدع بلداً إلا وطئتها إلا مكة وطيبة، فلما كلم تميم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام أمر بلالاً بجمع الناس ثم قال لـ تميم: حدثهم، فضرب النبي على المنبر وقال: هذه طيبة وطابة، يعني: المدينة يريد بذلك أن يزيد المؤمنين إيماناً، مثل حكاية الرجل الذي كان يرعى الغنم فجاء ذئب وخطف واحدة منها وأقعى عليها، يعني: قارب على افتراسها، فلحق به الراعي وخلص الشاة، فقال له الذئب بلسان عربي مبين: أما تتقي الله وقد حلت بيني وبين رزق ساقه الله إلي؟ فقال الرجل: عجباً لذئب يتكلم بكلام الإنس! فقال له: ألا أدلك على أعجب من ذلك؟ قال وما ذاك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله في المدينة وأنت مشغول بغنمك، فقال له: إذاً آتيه، ولكن من لي بغنمي؟ فقال له الذئب: أنا أحرسها لك، فجاء الأعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وحكى له، فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم الناس، وقال للأعرابي: حدثهم، فلما تكلم الأعرابي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق.
لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه)، يعني: طرف عصاه، والحديث صحيح في سنن الترمذي.
وتميم الداري رضي الله عنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ركوب البحر؟ -وكان عظيم التجارة في البحر- فأمره عمر بقصر الصلاة، واستدل رضي الله عنه- وهو الفقيه- بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22]، وهذا يسمى عند الأصوليين: الإلحاق بنفي الفارق، فإذا كان ربنا جل جلاله أباح القصر في البر فكذلك في البحر، والعلة المشتركة هي السفر.
وكذلك الجو، فإذا كنت في الطائرة وخشيت أن يخرج الوقت فصل في الطائرة، وقد كتب في ذلك العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله رسالة لطيفة في حكم الصلاة في الطائرة، ومما قاله فيها: وإذا دل الكتاب والسنة الإجماع على صحة الصلاة في سفينة البحر فاعلم أنه لا يوجد بينها وبين الطائرة فرق له أثر في الحكم؛ لأن كلاً منهما سفينة محرسة ماشية يصح عليها الإتيان بجميع أركان الصلاة من قيام وركوع وسجود واعتدال وغير ذلك، وكل منهما تمشي على جرم- بكسر الجيم- لأن الهواء جِرم بإجماع المحققين من نظار المسلمين والفلاسفة، وتتحقق صحة ذلك إذا نفخت قربةً -مثلاً- فإن الرائي يظنها مملوءةً بالماء ولو كان الهواء غير جرم لما ملأ الفراغ.
والشيخ رحمه الله كان رجلاً فيلسوفاً بالإضافة إلى حفظه للقرآن والسنة والفقه وأقاويل العلماء وتبحره في العلوم والفنون، وقد جاءه فيلسوف فرنسي ذات مرة فقال له: ما الدابة؟ قال: الدابة كل ما يدب على الأرض، قال له: إذاً السيارة دابة، فقال له: لا؛ أنا قلت لك: كل ما يدب على الأرض، والسيارة لا تدب وإنما تدبب، يعني: لا تدب بنفسها بل لابد لها من قائد يحركها ويقودها فلا يصدق عليها اسم الدابة، ويجب التنبيه لهذا الأمر؛ لأن بعض الناس يقول: وركبنا الدابة ويقصد بها السيارة.
أما الدابة فهي كل ما دب على الأرض كالإنسان والحيوان والطائر وغيره، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].
وبالنسبة للصلاة في الطائرة إذا كانت الرحلة طويلة بحيث يخشى فوات الصلاة، ففي هذه الحال يصح لك أن تصلي في الطائرة قصراً وجمعاً.(34/7)
بيان متى يقصر المسافر الصلاة
المسألة الخامسة: متى يقصر المسافر؟
الجواب
لا يقصر حتى يجاوز البساتين المتصلة بالبلد، وبعض العلماء يقولون: لا يقصر إلا إذا فارق عمران قريته، فإذا كان من أهل البادية فلا يقصر إلا إذا فارق الخيام.
قال مالك رحمه الله: لا يقصر الذي يريد السفر الصلاة حتى يخرج من بيوت القرية، ولا يتم حتى يدخل أول بيوت القرية أو يقارب ذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج في سفر لا يقصر حتى يبلغ ذا الحليفة، وهي معروفة الآن باسم أبيار علي.(34/8)
مسألة مهمة
وهنا مسألة مهمة: وهي أن الصلاة السفرية تقضى سفريةً والحضرية حضريةً، فمثلاً: إذا كنت مسافراً بالأمس في مدني ومع زحمة السفر نسيت صلاة العشاء ثم تذكرتها اليوم فإنني أقضيها في الخرطوم في محل إقامتي ركعتين كالسفر، وعلى العكس، فلو أنني كنت في مدني فتذكرت صلاة العشاء التي نسيتها في الخرطوم قبل أيام فإنني أقضيها أربعاً وهكذا.(34/9)
فقه الصلاة_أحكام العيدين
الدين الإسلامي تشريع رباني تتجلى للمتأمل في عظمته وسعته وشموله معالم صحته وصدقه، وقد ينظر فيه قاصر الفهم فيظنه مقتصراً على بعض العبادات ظاهرة التكليف والمشقة، ولا يدرك تشريعه لعبادات فيما يحبه الناس ويشتهونه فطرة واتجاهاً وميولاً.
ومن ذلك: تشريعه للعيدين وأحكامهما بعد عبادتين مباركتين عظيمتين، ألا وهما: الصيام والحج.(35/1)
تعريف العيد
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم! علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
أما بعد: فسنتكلم بعون الله تعالى في هذا المقام بكلام سهل ميسر، لا يحتاج إلى إمعان نظر أو فكر، بل أدلته واضحة بينة، سنتكلم عن أحكام العيدين، ونبدأ بتعريف العيد فنقول: سمي العيد عيداً؛ لعوده وتكرره؛ فهو يتكرر في كل عام، وقيل: لعوده بالسرور، وقيل: تفاؤلاً ليعود على من أدركه، مثلما سمى العرب الصحراء مفازة تفاؤلاً بأن سالكها سيفوز، مع أن الصحراء مظنة الهلاك، ومثلما سمى العرب الضرير بصيراً، والعليل صحيحاً، تفاؤلاً بأنه سيبصر أو أنه سيصح، فكذلك سموا العيد عيداً تفاؤلاً بأنه سيعود على من أدركه، ومثلما سميت القافلة تفاؤلاً بأن يقفل أصحابها، أي: يرجع من سافروا فيها.
وليس للمسلمين إلا عيدان كلاهما عقيب عبادة: عيد الفطر بعد عبادة الصيام، وعيد النحر في ختام العشر الأولى من ذي الحجة، والتي يكون فيها الحج، ومعلوم أنه لا يحج من المسلمين إلا قليل، فالباقون يشغلون أنفسهم بالأعمال الصالحة، لحديث أبي قتادة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من أيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء).(35/2)
حكم صلاة العيد
قد تقدم معنا الكلام مراراً: أن جميع مسائل الشرع لا تخلو من خمسة أحكام، وهي: الوجوب، والندب والإباحة، والكراهة، والتحريم، فإذا سئلت عن حكم شرب اللبن فقل: الإباحة، وإذا سئلت عن حكم صلاة الجمعة، فقل: الوجوب، وإذا سئلت عن الركعتين بعد صلاة العشاء فقل: الندب أو الاستحباب أو السنية، وإذا سئلت عن النوم على البطن، فقل: مكروه، وإذا سئلت عن شرب الخمر فقل: حرام.
ونحن نتكلم عن حكم صلاة العيد، أي: عيد الفطر وعيد النحر، ولا نقصد عيد الشجرة، أو عيد الحب، أو عيد الأم، أو عيد الجلاء، أو عيد الفاتح من سبتمبر أو بقية الأعياد.
فحكم صلاة العيد: أنها سنة مؤكدة، وهذا مذهب مالك والشافعي رحمة الله عليهما، واستدلا على ذلك بالقرآن والسنة والإجماع، فدليل الكتاب قول ربنا العزيز الوهاب: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، فمعنى: صل لربك أي: صلاة العيد، وانحر أي: نسكك بعد الصلاة، فهي مرتبة هكذا.
رتب الرسول صلى الله عليه وسلم كما رتب القرآن، فإنه لما كان غادياً إلى صلاة العيد شم رائحة شواء، فسأل عليه الصلاة والسلام: (ما هذا؟ فقالوا: أبو بردة نحر) أي: أن أحد الصحابة استعجل وذبح، فقال عليه الصلاة والسلام: (مروه فليذبح مكانها أخرى، ثم قال: إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نغدو إلى مصلانا ثم نرجع فننحر نسكنا، فمن فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما شاته شاة لحم ليست من النسك في شيء)، فهذا السنية من السنة.
وإن قال أحد: قوله تعالى: ((فَصَلِّ)) أمر، والأمر يقتضي الوجوب، فنقول: نعم، لكن هذا الأمر صرف عن الوجوب إلى الندب بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على عباده، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة).
ومعنى ذلك: أنه ليس من الصلوات فرض إلا الخمس المكتوبات.
وإنما قلنا بأن صلاة العيد سنة مؤكدة: لمواظبة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده عليها.
ولحديث أبي سعيد: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر ويوم الأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس على صفوفهم فيعظهم ويأمرهم).
وأما من الإجماع: فقد حكى أبو محمد بن حزم الاتفاق على أنها ليست بفرض، إذاً: فهي سنة، مع أن هذا الإجماع ليس مسلماً به؛ لأن بعض العلماء يحكي مسائلاً على أنها إجماع، وليس فيها إجماع، والخلاف فيها مشهور، وأكثر من يفعل ذلك الإمام الحجة أبو عمر بن عبد البر القرطبي المالكي رحمة الله عليه، فدائماً يقول: وأجمعوا على كذا ولا يكون هناك إجماع، وكذلك ابن المنذر رحمه الله في كتاب الإجماع يقول: وأجمعوا وأجمعوا واتفقوا واتفقوا وهو يعني بذلك الجمهور، ولكن يقول: في المسألة من خالف.
وأما حكم صلاة العيد فالخلاف فيه قوي: فقد ذهب الحنابلة إلى: أنها فرض كفاية، وذهب الإمام أبو حنيفة وأبي العباس بن تيمية إلى: أنها فرض على الأعيان، أي: مثل صلاة الجمعة، واستدلوا على ذلك بأمور: أولاً: بما ثبت في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر نساءه أن يخرجن لصلاة العيد، حتى أمر الحيض وذوات الخدور أن يخرجن وقال: من لم يكن عندها جلباب فلتعرها أختها).
فلم يستثنِ الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم العيد أحداً، وأمر النساء حتى الحيض منهن أن يخرجن، وأمر الحيض بأن يعتزلن المصلى، أي: يبتعدن قليلاً عن الناس الذين يصلون، حتى يشهدن الخير ودعوة المسلمين، وأمر ذوات الخدور، وذوات الخدور: هن الفتيات الشابات، يقال لهن: ذوات الخدور، ويقال لهن: المخدرات، أي: المستورات، فهن دائماً يجلسن في الخدر، وخلف الستر، فمثلاً لو طرق الباب طارق الذي يفتح الباب زوجتك أو العجوز وليس ابنتك الشابة، فإنها تكون مخدرة، أما الأشياء القبيحة التي يتناولها الناس فلا يطلق عليها مُخَدَرات وإنما مُخَدِرات-بكسر الدال-؛ لأنها تخدر الناس، أما هؤلاء فإنهن مُخدرات -بفتح الدال-؛ لأنهن يجلسن في الخدور، ومنه الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها) أي: في سترها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء حتى من كانت حائضاً، وليس عندها جلباب يليق بالصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لتعرها أختها) وتعرها: من الإعارة، أي: تسلفها، فكون النبي صلى الله عليه وسلم ما عفا أحداً فهذا دليل على فرضيتها ووجوبها.
ثانياً: مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين عليها.
ثالثاً: أنها من شعائر الدين الظاهرة، بحيث يقاتل أهل بلد تواطئوا على تركها، فمثلاً: لو قال أهل بلد: نحتفل بالعيد ونلبس الجديد، ولكن لا نصلي صلاة العيد، فهؤلاء يحاسبون، مثلما لو تمالئوا على ترك الأذان، وقالوا: كان هذا الأذان عندما لم يكن للناس ساعات، أما الآن فعندهم ساعات، فما عادوا يحتاجون إليه، وصلوا بغير أذان، فإنهم يقاتلون؛ لأن هذه من شعائر الدين الظاهرة، ويميز بين دار الإسلام ودار الكفر بهذه الشعائر.
فمثلاً: لو نزلت لندن أو فرانكفورت فلن تسمع أذاناً، لكن لو نزلت الخرطوم أو القاهرة أو المدينة فستسمع الأذان في كل مكان، ولو أنك حضرت العيد في إحدى ديار الكفر فلن تشعر أن اليوم يوم عيد، لكن لو نزلت في بلد من بلاد الإسلام -رغم بعد الناس عن الإسلام الآن- إلا أنك تشعر بأن اليوم عيد من كثرة المكبرين والمهللين، وظهور البِشْر والسرور على وجوه الناس، وما يلبسونه من ثياب حسنة تشعر بأن عيداً قد حل على الناس.
وكلام الإمام ابن حزم رحمة الله عليه في أن الإجماع منعقد على أن صلاة العيد ليست فرضاً، غير مسلم له به، فالخلاف مشهور، وقد خالف ما ادعاه من الإجماع على عدم الفرضية أئمة كبار، كالإمام أبي حنيفة في قوله بأنها فرض عين، وكالإمام أحمد في قوله بأنها فرض كفاية.
أما القائلون: بأنها سنة مؤكدة فهم المالكية والشافعية رحمة الله على الجميع.(35/3)
مقدار صلاة العيد
صلاة العيد بالاتفاق ركعتان، وقد حكى النووي: الإجماع على ذلك، والأصل في ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم)، فالصبح والجمعة والأضحى والفطر والسفر كلها ركعتان تمام غير قصر.(35/4)
وقت صلاة العيد
أوله: إذا ارتفعت الشمس وحلت السبحة أي: جازت، والسبحة هي: النافلة، ومنه قول الصحابي: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب ثم صلى العشاء ولم يسبح بينهما شيئاً) أي: لم يتنفل.
ومنه أيضاً حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على راحلته في السفر: يومئ بركوعه وسجوده حيث ما توجهت به)، فمعنى: يسبح على راحلته أي: يتنفل، أما صلاة الفريضة فلا تكون إلا على الأرض، فالسبحة هنا معناها: النافلة، وتحل النافلة إذا طلعت الشمس ورؤيت من وراء البيوت، أي: ما بعد طلوع الشمس بعشر دقائق أو ربع ساعة، وبعد ذلك يجوز للناس أن يتنفلوا.
فأوله: إذا ارتفعت الشمس وحلت السبحة وفوق ذلك قليلاً.
وآخره: إذا زالت الشمس من يوم العيد، أي: مالت ناحية المغرب؛ لأنه معروف أن الشمس تطلع من جهة المشرق، فيبدو للإنسان ظل طويل في جهة المغرب، ثم بعد ذلك كلما ارتفعت الشمس كلما تقلص حجم الظل، وساعة استوائها في كبد السماء يكون الإنسان ليس عنده ظل، فإذا بدأ الظل في الزيادة عرفنا أن الشمس قد زالت ودخل وقت صلاة الظهر، فإذا صار ظلك مثلك فقد انتهى وقت الظهر ودخل وقت العصر، فإذا صار ظلك مثليك فقد دخل الوقت الضروري للظهر والعصر معاً، بحيث أنه من أخر الصلاة إلى ذلك الوقت من غير عذر صلاها، وأصحاب الأعذار هم: المريض، والمسافر، والناسي، وكذلك الحائض لو طهرت، والصبي لو احتلم، والمجنون لو عقل فنقول له: قم وصل الظهر والعصر.
وقوله: إذا زالت الشمس من يوم العيد، قال مالك: مضت السنة التي لا اختلاف فيها عندنا -أي: عند أهل المدينة- في وقت الفطر والأضحى: أن الإمام يخرج من منزله قدر ما يبلغ مصلاه وقد حلت الصلاة، أي: جازت.
ولو فات الناس وقت صلاة العيد فإنهم يقضونها في اليوم التالي.(35/5)
أنواع الصلاة المقضية
وقضاء الصلاة على ثلاثة أنواع: النوع الأول: صلاة تقضى متى ما زال العذر، وهي الصلوات الخمس، فمن نام عن صلاة العصر صلاها متى استيقظ، وفي هذه الحالة يخطئ كثير من الناس، ويقولون: نصليها مع العصر غداً، قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك) فالصلوات الخمس تقضى متى ما زال العذر، فلو تذكر إنسان أنه صلى من غير طهارة ناسياً، أو أنه صلى الصبح جنباً فنقول له: صلها الآن فوراً.
النوع الثاني: صلاة لا تقضى وهي الجمعة، بل تقضى ظهراً، فلو فاتت صلاة الجمعة فلا تقضي ركعتين باتفاق أهل العلم، بل تقضى ظهراً.
النوع الثالث: صلاة تقضى في مثل وقتها من اليوم الثاني، وهي صلاة العيد، فقد حصل في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم صاموا يوم الثلاثين من رمضان، أي: تراءوا الهلال فما رأوه فأصبحوا صائمين، ثم بعدما زالت الشمس جاء بعض الناس من الأعراب وشهدوا بأنهم رأوا الهلال، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا، وواعدهم أن يخرجوا إلى المصلى غداً.(35/6)
كيفية صلاة العيد
يكبر الإمام والناس بعده في الركعة الأولى ستاً غير تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً غير تكبيرة القيام، أي: في الركعة الأولى سبعاً وفي الثانية ستاً، والأصل في ذلك حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة رضي الله عنه، فكبر في الركعة الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الآخرة خمساً قبل القراءة)، قال مالك رحمه الله: وهو الأمر عندنا أي: هذا هو المشهور، وإلا المسألة فيها خلاف.
قالت المالكية: وليس بين التكبير ذكر ولا دعاء، وإنما يسكت الإمام بقدر ما ينقطع تكبير من خلفه، يقول: الله أكبر، فإن قالوا: الله أكبر، فيقول ثانية: الله أكبر وهكذا.
وبعض الناس بين التكبيرتين يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ثم بعد ذلك يقول: الله أكبر، قال ابن مسعود: يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، رواه البيهقي والطبراني في الكبير.
فلو وجدنا إنساناً يذكر الله بين التكبيرات لا ننكر عليه، فالأمر واسع، وأنا أذكر الخلاف دائماً من أجل أن تتسع الآفاق إن شاء الله، وقد حدث أن أحد إخواننا زار السودان قبل حين، فأنكر أن وجد الإمام لما قال: السلام عليكم قال كل الناس: السلام عليكم، بصوت عالٍ؛ لأنه ما رأى هذا في بلده، لكن في حقيقة الأمر هذا منصوص عليه عند المالكية، وهو: استحباب الجهر بتكبيرة الإحرام وتسليمة الختام، وأن من فضائل الصلاة الجهر بتكبيرة الإحرام وتسليمة الختام.
فحقيقةً لما ينشأ الإنسان في بلد معين وعلى مذهب معين يضيق أفقه فلا يتحمل الآخرين، وقد يكون الأمر فيه سعة.
فمثلاً: ذكروا في بعض بلاد الله ممن أهلها أحناف: أنه صلى أحدهم وبجانبه رجل وأشار بأصبعه في التشهد فقام وكسرها؛ لأنه ضيق الأفق، وقد سمع من الفقهاء الأحناف بأن هذا عبث لا يليق بالصلاة، ونحن عرفنا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقبض على أصابعه كلها ويشير بسبابته عليه الصلاة والسلام، ولربما حلق بين الإبهام والوسطى وأشار بسبابته، لكنه لا يستسيغ هذا الكلام، بل ما سمعه من علمائه فهمه: أن يجاهد وهو في الصلاة فيكسر أصبع أخيه المسلم الذي هو أقرب إلى السنة منه.
وهناك أمور كثيرة ينكرها الناس وهي عين السنة، حتى أنه في مرة من المرات جاء أحد الناس زائراً إلى المدينة المنورة، وهو من أهل هذه البلاد، ومعروف أنه في المسجد النبوي بعد كل صلاة يؤتى بجنازة غالباً، وأحياناً أربعاً، وأحياناً تسعاً، فبعد كل صلاة يقوم الناس ليصلوا، والمؤذن يقول: الصلاة على الأموات، أو الصلاة على الرجل، أو على المرأة، فقام وقال لي: يا أخي! هؤلاء الناس يحاربون البدع، هذه الصلاة التي يصلونها بعد الفريضة ما الذي أتى بها؟ فقلت له: أما سمعت المؤذن يقول: الصلاة على المرأة؟ أي: صلاة الجنازة، فعلى الإنسان أن لا يتعجل الإنكار.(35/7)
شروط إنكار المنكر
يقول أهل العلم: من ينكر المنكر لابد أن تتوفر فيه من ثلاثة شروط، هي كالآتي: الشرط الأول: العلم، وبغير العلم قد ينكر الإنسان معروفاً، كالذي كسر أصبع الرجل، ومثل الذي أنكر الجهر بتسليمة التحليل، فالذي ينكر المنكر لابد أن يكون عالماً بما يأمر به وبما ينهى عنه، وعالم بأن الذي يأمر به معروف، وأن الذي ينهى عنه منكر، وإلا فالجاهل قد يأمر بمنكر وينهى عن معروف.
الشرط الثاني: أن يكون حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه، مثل الرسول صلى الله عليه وسلم: (لما أساء الرجل الصلاة وقال: السلام عليك يا رسول الله! قال: وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصل)، فأعاد الصلاة ثلاث مرات وفي كل مرة يسلم عليه فيرد عليه السلام ويقول له: ارجع فصل فإنك لم تصل.
الشرط الثالث: أن يكون صبوراً فيما يأمر به وينهى عنه، فمثلاً: إذا وجدت من يسب -والسبة قبيحة ولا تليق بأهل المروءة- فقل له: السب حرام واتق الله، وليس بالضرورة الانتهاء عن المنكر مباشرة فإنه يراه حسناً: يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن لكن اصبر عليه، واجلس معه وسلم عليه غداً وإن سب، وبعد غد كذلك، وجرب معه أكثر من طريقة، فالمسلم لابد أن يصبر في أمره ونهيه، لكن بعض الناس دائماً يسلك مسلك الشدة وإن كانت المسألة حمالة أوجه.(35/8)
سنن العيدين ومستحباتهما
أول سنن العيد: الغسل بعد صلاة الصبح؛ لحديث نافع: أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو للمصلى.
والأغسال المستحبة ستة: وهي غسل الجمعة، والعيدين، والإحرام، ودخول مكة، ويوم عرفة، وغسل من غسل ميتاً.
السنة الثانية: التطيب والتزين؛ لحديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس برد حبرة في كل عيد).
وجعفر هو ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومحمد أبو جعفر هو: محمد الباقر، وعلي بن الحسين هو: زين العابدين، والحسين هو: الشهيد رضي الله عنه سيد شباب أهل الجنة، وعلي بن أبي طالب هو ختن الرسول وزوج البتول، ومعنى: ختن الرسول، أي: صهره، وزوج البتول فاطمة رضي الله عن الجميع.
فيستحب للإنسان في يوم العيد أن يلبس من الثياب أحسنها، وأن يضع من الطيب ألطفه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس في كل عيد بردة حبرة، أي: مخططة، وكان يتخذ عليه الصلاة والسلام اللباس للعيد وللوفود، فإذا أتاه وفد لمقابلته كان يلبسه عليه الصلاة والسلام، وإلا فهو ذا سمت ووضاءة بأي لباس، كما قالت الصحابية: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنك ترى الشمس طالعة، وكما قال أحد الصحابة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بدر وكانت ليلة الإضحيان -أي: ليلة مقمرة- فجعلت أنظر إلى القمر تارة وأنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم تارة فلهو أجمل في عيني من القمر عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان من أدبه وسنته: أن يتخذ ليوم العيد ثياباً مخصوصة.
السنة الثالثة: المشي إليها -أي: إلى صلاة العيد-؛ لقول علي رضي الله عنه: من السنة أن تخرج إلى العيد ماشياً.
وقد تقدم أن قول الصحابي: من السنة كذا، أن له حكم الرفع، أي: كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اخرجوا إليها ماشين، وهكذا يوم الجمعة فنقول: من لم يشق عليه المشي فعليه به، أما من يشق عليه فله أن يركب.
ويسن تأخر الإمام إلى وقت الصلاة، ودليله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى العيد فأول شيء يبدأ به الصلاة) رواه الشيخان، فصلاة العيد يسن للناس التبكير إليها، فبعد صلاة الفجر يمشي الإنسان إلى المصلى ثم ينشغل بالتكبير إلى أن يخرج الإمام، والإمام ليس من السنة في حقه أن يبكر، وإنما يخرج وقت الصلاة مباشرة، فإذا رآه الناس قاموا إلى صلاتهم، كما هو الحال في الجمعة، أي: من السنة أن يخرج الإمام من بيته إلى المنبر، وليس كما يظن بعض الأئمة: أن من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، وفي الثانية بقرة ثم يقيس العيد عليه، فنقول: هذا مثاب على نيته، ولكنه ليس مثاباً على عمله؛ لأن عمله مخالف للسنة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من بيته إلى المنبر في يوم الجمعة، وكان يخرج من بيته إلى المصلى في يوم العيد.
السنة الرابعة: أن يرجع من طريق غير التي أتى منها؛ لحديث جابر رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق)، فإن قيل: إن الحكمة كثرة الخطى، قلنا: قد يكون الطريق الثاني أقل من الأول، إلا أن يقال: بأن الطريقين كلاهما أطول من الآخر، وهذا مستحيل، فلابد أن يكون أحدهما أطول من الآخر.
وقد قيل: إن الحكمة من ذلك: ليشهد له الطريقان، وقيل: ليشهد سكانهما من الجن والإنس، وقيل: ليسوي بينهما في مزية الفضل بمروره، هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست هناك ميزة لغيره، لكن الصحيح: أن الطريق الذي يمر منه النبي صلى الله عليه وسلم له مزية ولا شك في ذلك، وقيل: للتبرك به صلى الله عليه وسلم، أو لتشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها، وقيل: لإظهار شعار الإسلام فيهما، وقيل: لإظهار ذكر الله تعالى، وقيل: ليغيظ الكفار والمنافقين واليهود، وقيل: ليرهبهم لكثرة من معه من الرجال، وقيل: حذراً من كيد الطائفتين أو إحداهما، والطائفتين هما: اليهود والمنافقين، وهذا ضعيف؛ لأنه لو كان كذلك ما كرر المرور عليه الصلاة والسلام؛ لأنه معروف بعد الإسلام أنه قضي على اليهود، وقيل: فعل ذلك ليعم المسلمين بالسرور به، والتبرك بمروره ورؤيته، والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء أو التعليم أو الاقتداء أو الصدقة أو السلام عليه، وقيل: ليزور أقاربه الأحياء والأموات، أي: يزور ذهاباً وإياباً، وقيل: ليصل رحمه، وقيل: للتفاؤل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضى، وقيل: كان في ذهابه يتصدق عليه الصلاة والسلام، فإذا رجع لم يبق معه شيء، فيرجع من طريق آخر لئلا يرد من سأله، وهذا الذي قال هذا الكلام هل كان مع النبي صلى الله عليه وسلم؟! وهل راقب جيبه؟! فهل يعجز عليه الصلاة والسلام أن يقول: ليس عندي، فهذا في الحقيقة بعيد.
وكان بعض الناس يأتي ويطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: اذهب إلى السوق والشيء الذي تشتريه علي قضاؤه، حتى مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأشفق على الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! ما كلفك الله؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال عمر رضي الله عنه، فقال أحد الأنصار: يا رسول الله! أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً، فتهلل وجهه عليه الصلاة والسلام، وليس هناك كرم مثل هذا، فالكرم من الإنسان أن ينفق شيئاً مما عنده، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فينفق كل ما عنده، بل أكثر من ذلك إذا نفد ما عنده وأتاه من يسأله قال له: خذ، وعليَّ قضاؤه.
فالتعليل الأخير لمخالفة طريقه عليه الصلاة والسلام تعليل ضعيف.
وقيل: إنه خالف بين الطريقين لتخفيف الزحام، وقيل: كان طريقه التي يرجع منها أبعد من التي يتوجه فيها، فأراد تكثير الأجر بتكثير الخطى في الذهاب، وأما في الرجوع فمن أجل أن يسرع إلى منزله، أي: أن الطريق الذي يذهب منه بعيد، والطريق الذي يرجع منه قريب، فهو يسلك البعيد في الذهاب من أجل كثرة الأجر، ويرجع من الطريق القريب في الرجوع حتى يدرك منزله، وهذا غير صحيح.
وقد ذكرنا حديث أبي بن كعب وفيه: (الرجل الذي كان أبعد الناس مسكناً من المسجد، وكانت لا تخطئه صلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قالوا له: لو ابتعت حماراً لليلة الظلماء والليلة الشاتية؟ قال: إني لأرجو أن يكتب الله لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي منه، فقال له صلى الله عليه وسلم: قد جمع الله لك ذلك كله) معناه: أن أجر الذهاب والرجوع مكتوب، فلو كان الطريق بعيداً كما قيل لكان النبي صلى الله عليه وسلم سيحرص على أن يذهب منه ويرجع.
والمقصود من سرد هذه الأقوال: أن نعرف أن الأئمة رحمهم الله أجهدوا أنفسهم واستفرغوا وسعهم في فهم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس صحيحاً ما يظنه بعض الناس: أن مثل أئمة الحديث هؤلاء يروون الأحاديث دون فقه بمعناها، حتى قال بعض الناس: إن علماء الحديث مع أهل الفقه بمنزلة من يأتي بالطوب والبناء يبنيه كما يريد، وما من شك بأن هذا خطأ، فعلماء الحديث رحمهم الله فقهاء، ولذلك لو تأملنا صحيح البخاري وجدنا أنه لا يخلو من الفقه، قال العلماء: تراجم البخاري دليل فقهه أي: أنه يستنبط من الأحاديث.
السنة الخامسة: الأكل قبل الغدو يوم الفطر؛ لحديث أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات) وفي رواية: (وتراً)، والوتر أقله واحدة، لكنه كان يأكل أكثر من واحدة؛ لأنه قال: يأكل تمرات، والمعنى: أن أقلها ثلاث، أما ما يصنعه بعض الناس كأن يأكل كيلو بمفرده، ومن ثم يأتي إلى المصلى ويمسك ببطنه ويصلي الركعتين، ويخرج سريعاً ولا يحضر الخطبة، فليس هذا من السنة، فالسنة أن تأكل تمرات، وجاء في الحديث الصحيح: (من تصبح بسبع تمرات من تمر المدينة -وفي بعض الألفاظ: ما بين لابتيها، وفي بعض الألفاظ: من تمر العوالي- لم يضره سم ولا سحر بإذن الله).
السنة السادسة: تأخير الفطر يوم الأضحى حتى يرجع فيأكل من أضحيته، لحديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي).
وقوله: (فيأكل من أضحيته) مفهومه: بأن الذي لا يضحي لا حرج عليه لو أكل قبل خروجه للصلاة، لكن من كان يريد اتباع السنة وكان ذا سعة وأمكنه الله من الأضحية فلا يأكل حتى يرجع فينحر فيأكل من أضحيته.
السنة السابعة: التكبير جهراً في الغدو إلى المصلى، ويستمر التكبير إلى الشروع في الصلاة، فإذا جلسنا بعد صلاة الفجر فنبدأ بالتكبير ونرفع أصواتنا إلى أن يحين وقت الصلاة، وبالنسبة لعيد الفطر: فالمشروع: التكبير من ليلة العيد، لقول الله عز وجل: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185].
وأما بالنسبة للأضحى: فنكبر من ظهور هلال ذي الحجة، لحديث نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس فيكبر حتى يأتي المصلى، ثم يكبر بالمصلى حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير.
وإذا خرجت إلى المصلى فلا تصلي ركعتين، وإنما تأتي فتجلس وتستمر في التكبير حتى إذا خرج الإمام تقطع التكبير.
السنة الثامنة: أداء الصلاة في المصلى، أي: في الصحراء؛ لحديث أبي سعيد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى)، وتكره صلاتها في المسجد إلا لعذر، كالبرد الشديد، والريح.
فأحياناً يمنع الناس من الخروج إلى المصلى عذر كالمطر أو الريح، أو عدم وجود مكان، أو أن السلطات منعت، كما حصل في بعض البلاد، فلا يصيروها فتنة في ي(35/9)
تنبيهات
الأول: المشي من طريق والرجوع من طريق آخر فرضه بعض العلماء في كل صلاة، أي: أنه في أي صلاة لا بد أن تذهب من طريق وترجع من طريق آخر، وبعض العلماء فرضها في كل قربة، فمثلاً: ذهبت لزيارة والديك -وهي قربة- فتذهب من طريق وترجع من آخر، وكذلك لو ذهبت لعيادة مريض، لكن الأصل: أن نقتصر على ما وردت به السنة من مخالفة الطريق في يوم العيد وحده.
ومشكلة الناس أنهم يصلون العيد الساعة الثامنة، أو التاسعة، أو العاشرة، أو الحادية عشرة، والسنة في يوم الفطر التأخير وفي يوم الأضحى التبكير، وإنما التأخير في يوم الفطر ليتسنى للناس إخراج الزكاة، وفي يوم الأضحى التبكير ليتسنى للناس الذبح، ومثلما قال الشيخ كشك رحمة الله عليه: صارت الأضحية مشكلة: أما الأغنياء فإن الواحد منهم يذبح ولا يصلي أي: لا يهتم بصلاة العيد، فهو يذبح ثم يقعد ينظر إلى الخروف ويقول له: هيت لك، قال: وأما الفقير: فإنه ينظر إلى الخروف ويقول له: بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين.
الثاني: يسن التكبير في الأضحى، إثر خمس عشرة فريضة كما قالت المالكية، وينقطع عندهم بعد صلاة فجر اليوم الرابع، والصحيح: أن التكبير لا ينقطع إلا بعد صلاة العصر، أي: يكبر دبر كل صلاة فريضة كما كان يفعل سيدنا عمر رضي الله عنه في منى، فقد يرفع صوته بالتكبير فترتج به منى، وهذا في عيد الأضحى فقط؛ لقول الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيام منى أيام أكل وشرب وذكر) وفي رواية: (وبعل)، والبعل هو: الزوج أو الزوجة.
الثالث: يبدأ المضحي في الأكل من الأضحية بالكبد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بالكبد، لكن قال بعض العلماء: إن هذه من العادات وليست من السنن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء الذي هو القرع، فبعض الناس لا يحبه أصلاً، فلا نقول: إنه خالف السنة، لكن كمال المحبة أن تحب الدباء، وكمال المحبة أن تبدأ بالأكل من الكبد، كما قال أنس بن مالك: (رأيت رسول الله يتتبع الدباء في الصحفة قال: فما زلت أحب الدباء من يومه)، وكذلك لما لم يأكل من طعام أبي أيوب ففزع أبو أيوب وقال: (يا رسول الله! نستغفر الله هل نزل فينا قرآن؟ قال: لا، ولكن في طعامكم شيء من تلك الشجرة -الثوم- وإني أكرهه قال: وأنا أكره ما تكره يا رسول الله!) أي: مرة أخرى لن يأتي الثوم في بيتنا، لكن لو كان إنسان يحب الثوم لا نقول إنه خالف السنة، لكن لا ينبغي أن يؤذي عباد الله، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم).
ومن أكل ثوماً أو بصلاً ثم تسوك فإن ذهبت الرائحة فالحمد لله، وبعض الناس من أهل التجربة من محبي البصل والثوم قال: لو أكلت بعده بقدونساً ذهبت الرائحة والله أعلم.
الرابع: صلاة العيد هناك من يقول بأنها فريضة، وأما قيام الليل فلا يوجد أحد قال: إنه فريضة على آحاد الأئمة، وقال بعض العلماء: كانت فريضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده؛ استدلاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل:1 - 2].(35/10)
فقه الصلاة_أحكام صلاة الجماعة
اختلف العلماء في حكم صلاة الجماعة، واتفقوا على أن صلاة الجمعة فرض عين، وهناك أعذار مسقطة للجمعة أو الجماعة، كالمطر والوحل والأمراض المنفرة والمؤذية، والخوف من ضرب، أو حبس أو قتل، واللباس المزري والمخل بالمرءوة، ومدافعة الأخبثين، وحضور الطعام مع الحاجة إليه والقدرة على تناوله، وفوات الرفقة في السفر، والريح الباردة الشاقة، وغلبة النعاس، وغيرها من الأعذار.
ويسن للمسافر قصر الصلاة الرباعية والجمع بين الصلاتين.(36/1)
حكم الجماعة والجمعة والأعذار المسقطة للجمعة والجماعة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً كما يشاء ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
أما بعد: فإن الجمعة آكد من الجماعة؛ لأن الجماعة قد مضى الخلاف في حكمها؛ فبعض أهل العلم يقول: بسنيتها، وبعضهم يقول: بوجوبها وجوباً كفائياً، وبعضهم يقول: بوجوبها وجوباً عينياً، أما الجمعة فلا خلاف بين أهل الإسلام أنها فرض عين، فإذا عذر الإنسان في ترك الجمعة، فمن باب أولى يعذر في ترك الجماعة.(36/2)
المطر
والأعذار التي يترك لأجلها الجمعة والجماعة أولها: المطر: وهو الذي يحمل أوساط الناس، أي: من كانوا أوسط الناس عقولاً وحالاً على تغطية الرأس، أي: أناس معتدلون، فتسقط الأمطار فيغطون رءوسهم، فمثل هذا العذر يبيح ترك الجماعة، والأصل في ذلك: ما رواه الشيخان: أن ابن عباس رضي الله عنهما، قال لمؤذنه في يوم مطر: إذا قلت: أشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل: حي على الصلاة، وإنما قل: صلوا في بيوتكم.
فتعجب الناس من مؤذن يرفع الأذان، قال: أشهد أن لا إله الله، مرتين، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، مرتين، وبعدها بدلاً من أن يقول: حي على الصلاة، قال: صلوا في بيوتكم، واستنكر الناس ذلك، فقال رضي الله عنه: أتعجبون من هذا؟! قد فعل ذلك من هو خير مني، أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الجمعة عزمة، أي: فريضة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين والدحض، والأرض الدحض هي: غير الثابتة.
وكثير من الناس الآن إذا فعل سنة فاستنكر الناس، فإنه يغضب، ويقول: بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، ما أجهل الناس بالسنة، ما أجرأهم على الشرع، ويبدأ يقرع الناس، أقول: هذا في زمان ابن عباس، وجهل الناس هذه السنة واستنكروها، كذلك أمنا عائشة رضي الله عنها لما مات سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أمرت أن يؤتى بجنازته إلى المسجد، فتصلي عليها وهي في الحجرة؛ لأنها لا تستطيع أن تذهب إلى المقابر، فصلت على جنازة سعد وهي في حجرتها والجنازة في المسجد، فأكثر الناس من الإنكار، فقالت أمنا رضي الله عنها: ما أسرع ما نسي الناس! والله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء إلا في المسجد.
فإذا كان في الصدر الأول وعلى أيام الصحابة منْ غابت عنهم بعض السنن، فمن باب أولى الآن لَّما بَعُد عهدنا بالنبوة، وعظم في المسلمين الجهل، فإننا نصبر على الناس ولا نعنفهم.
إذاً: العذر الأول الذي تسقط به الجمعة والجماعة: المطر، فإذا كان مطراً خفيفاً فإنه لا يؤثر، ويجب عليك أن تخرج للجمعة وللجماعة.(36/3)
الوحل
العذر الثاني: الوحل (بفتح الواو والحاء) وهو: الطين الذي يحمل أوساط الناس على خلع النعال، ومعنى أوساط الناس واضح، فإنك تجد الأطفال خفاف العقول مجرد ما ينزل المطر -لو كان هناك طريق جافة- فإنهم يخلعون نعالهم ويخوضون في الطين، فهؤلاء لا اعتبار بهم، وإنما المقصود: من كانوا أهل عقلٍ وفطنة واعتدال، فإذا كان بينك وبين المسجد طين ودحض فأنت معذور في أن تصلي في بيتك.(36/4)
الجذام الشديد
العذر الثالث: الجذام الشديد، وكذلك كل مرض يؤذي براحته أو عدواه، عافانا الله وإياكم والمسلمين، فيتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، فهذا المريض نقول له: صل في بيتك ولك أجر الجماعة إن شاء الله، إن علم الله من حالك أنك تحب الصلاة في الجماعة، لأنك تؤذي الناس بالعدوى؛ لأن الجذام معدٍ، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فكل مرض معدٍ نقول لصاحبه: صل في بيتك، وكذا كل مرض يؤذي براحته، ومنه -عافاني الله وإياكم- البخر، أي: إنسان يكون في فمه رائحة تؤذي الناس، فهذا يصلي في بيته ولا تثريب عليه، ودليل ذلك قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض تخلف عن الجماعة، وكان ذلك في مرض موته، فهو قد تخلف عن خمس عشرة صلاة صلاها في بيته عليه الصلاة والسلام، فهذه الأدلة: ثلاثة من القرآن، وعندنا دليل من السنة القولية، ودليل من السنة العملية أو الفعلية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما مرض تخلف عن الجماعة، وأمر أبا بكرٍ أن يصلي بالناس، وكذلك سيدنا عمر رضي الله عنه لما طعن وحمل إلى بيته وسقي حليباً، فخرج الحليب من موضع الجرح، وعلم أنه ميت؛ أمر صهيباً أن يصلي بالناس.(36/5)
المرض الذي يشق معه الوصول ماشياً أو راكباً
العذر الرابع: المرض الذي يشق معه الوصول ماشياً أو راكباً، وهذا في مذهب المالكية رحمهم الله، يقولون: أنت مريض، وعذرك أنك لا تستطيع المشي، فعليك أن تركب إن كنت تستطيع الركوب أو عندك ما تركبه، فإن لم يكن عندك ما تركبه ولا تستطيع المشي، فأنت معذور في ترك الجمعة والجماعة.(36/6)
تمريض قريب خاص أو احتضاره أو موته، أو تمريض بعيد لا أحد يقوم به
العذر الخامس: تمريض قريب خاص كولد ووالد وزوج أو احتضاره أو موته، وكذا تمريض بعيد لم يكن له من يقوم به، فعندك مثلاً ولدك في البيت أو زوجتك، وقد مرضت بداء عضال، وتحتاج إلى مرافق يلازمها ويداويها، ففي هذه الحالة أنت معذور في ترك الجمعة والجماعة، وكذلك لو أن المريض ليس من الأقارب، لكن ليس هناك من يقوم به، كحال أصحاب المهن الطبية كالأطباء والممرضين، فهؤلاء أيضاً يعذرون في ترك الجمعة والجماعة، والدليل قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] والإحياء يكون بالمداواة، والإحياء كذلك بتلقين الشهادة، فإذا كان عندك إنسان محتضر، فلا تتركه وتذهب لأداء صلاة الجمعة، فلربما فاضت روحه ولم يجد من يلقنه، فعليك أن تبقى معه وتلقنه شهادة التوحيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله).(36/7)
الخوف من الضرب أو الحبس أو القتل في غير حق شرعي
العذر السادس: الخوف من الضرب أو الحبس، ومن باب أولى القتل في غير حق شرعي، فإذا كان إنسانٌ في بلد ما يطارده حاكم ظالم، أو أمير جائر، وهو معرض للقبض عليه، كالشاب الذي يحافظ على الجماعة، ويوضع في القائمة السوداء، فمثل هذا معذور، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فلربما يلقى في السجن من غير محاكمة؛ لأنه محافظ على الجماعة، فمن خاف من الضرب أو الحبس، ومن باب أولى القتل، فإنه يعذر في ترك الجمعة والجماعة، وكذلك الخوف على المال من النهب، كإنسان نزل بلداً وليس له فيها مكان يقيم به، فخشي أنه لو ترك متاعه (حقائبه وحاجياته) ودخل إلى المسجد أنه سيخرج فلن يجدها، فمثل هذا معذور، فنقول له: صل وحدك واحرس متاعك، ويمثل الفقهاء الأولون رحمهما الله: بإنسان شرد منه بعيره وهو داخل إلى المسجد، فقيل له: بعيرك في مكان كذا، فإذا دخل مع الجماعة يكون باله مع البعير، فنقول له: أدرك بعيرك، والله غفور رحيم، وقد ذكر الشيخ سعيد بن مسفر: أنه في مرة من المرات، أعطاه شخصٌ زكاة في رمضان مائة وخمسين ألف ريال في حقيبة، وقال له: وزعها، قال: فحملتها في السيارة ومعي أهلي، فذهبنا لزيارة بعض الأقارب؛ وخوفاً على الحقيبة من أن يعبث بها الأطفال وضعتها في الصندوق في الخلف، وذهبت وأوصلت أهلي، ثم ذهبت إلى صلاة العشاء، فرآني إمام المسجد، فقال: قد جاء الله بك اليوم تصلي بنا، قلت له: خير إن شاء الله، قال: وبعد الصلاة بارك الله فيك تذكرهم، فقلت له: خير إن شاء الله، فلما دخلت في صلاة العشاء، وقلت: الله أكبر، قال لي الشيطان: والحقيبة، فو الله ما أدري ما قرأت في الصلاة ولا ما فعلت، وبعد الصلاة اعتذرت للإمام، فقال لي: والله ما نتركك أبداً، لابد أن تعطينا كلمة، فأعطيتهم كلمة لا أدرى ما قلت فيها، ثم خرجت، فوجدت الحقيبة كما هي، فأخذتها ورجعت إلى المسجد فسجدت شكراً لله، ثم أعدت الصلاة مرة ثانية، إذاً: الإمام شدد عليه، وكان من الممكن أن الإمام يعذره، ويقول له: اخرج فأدرك مالك، ثم تلحق بالجماعة أو لا تلحق.(36/8)
من لا يجد من اللباس إلا ما يزري به أو يخل بمروءته
العذر السابع: من لا يجد من اللباس إلا ما يزري به أو يخل بمروءته، كأن يكون شخصٌ ما وجد شيئاً من اللباس، أو أن ملابسه تلفت أو كان الباب مغلقاً، أو ما أشبه ذلك، ولم يجد إلا اللباس الداخلي الذي يسمى بالعلاقي والسروال، وليس هناك ما يستر به رأسه وهو صاحب هيئة حسنة، كأن يكون إمام مسجد ونحو ذلك، فلو خرج على هذه الحال لاستنكره الناس، وقالوا: إن فلاناً قد أصابته لوثة، أو إن فلاناً قد أصابته جنة، أو إن فلاناً حصل به كذا وكذا، فهذا له عذر يترك به الجمعة والجماعة، والأصل في ذلك كله: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي الإشبيلي: كل عبادة تسقط بالعذر الذي يسلب القدرة أو يدخل في المشقة، مثالها: إنسان صائم، فسُلِب القدرة على الصيام، سقط عنه الصيام، كذلك لو أن إنساناً مسافراً يشق عليه الصيام يسقط عنه الصيام، وبعد ذلك يقضي، فالذي يسلب القدرة هو المرض، والذي يدخل في المشقة: الطين والمطر، أو البرد للعريان، أو لا يجد من الثياب ما يكفي، والجو شديد البرد، فإن الله يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وعندنا في ذلك أصل في كتاب الطهارة: بأن عمرو بن العاص رضي الله عنه في غزوة ذات السلاسل لما أجنب تيمم ولم يغتسل، وصلى بالناس إماماً ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(36/9)
مدافعة الأخبثين
العذر الثامن: مدافعة أحد الأخبثين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان) ولأن المدافعة تقتضي انشغال القلب عن الصلاة، وهذا خلل في نفس العبادة، وترك الجماعة خلل في أمر خارج عن العبادة، وهذا يحصل كثيراً، كأن يكون إنسان يريد أن يصلي الظهر مع الجماعة في مكان العمل مثلاً، وعنده وضوء، ولكنه حاقن أو حاقب، ولا يجد حماماً يقضي فيه حاجته، فينبغي له أن لا يصلي مع الجماعة على هذه الحال، بل يرجع إلى بيته، أو يصبر حتى يجد حماماً فيتخلص من الأخبث الذي في جوفه، ثم يصلي وحده؛ لأن الصلاة مع مدافعة الأخبثين فيها انشغال، فهذا خلل في نفس العبادة، بينما ترك الجماعة أمر خارج عن العبادة، كذلك نستدل بأن احتباس هذا الأخبث فيه ضرر على البدن، وقاعدة الإسلام: أنه لا ضرر ولا ضرار، فأنت حين تعاني من بعض الآلام وتذهب إلى طبيب المسالك البولية، فيبين لك أن السبب هو حبس البول زمناً طويلاً، فمدافعة أحد الأخبثين عذر في ترك الجمعة والجماعة.(36/10)
حضور الطعام مع الحاجة إليه والقدرة على تناوله
العدد التاسع: من حضره طعام وهو محتاج إليه قادر على تناوله، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام).
وروى البخاري: أن عبد الله بن عمر كان يسمع قراءة الإمام وهو يتعشى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء)، فإذا رجعت إلى بيتك وأنت جائع تعاني من مسغبة، وحضرت صلاة العصر، فإن أمكن أن تتناول ما يحصل به الشبع، أو يصل إلى حد الشبع، ثم تدرك الصلاة فذلك ما كنا نبغ، وإن تعارضا فابدأ بالطعام، لكن بشرطين: الشرط الأول: أن تكون قادراً على تناوله، كأن تكون جائعاً وتعاني من مسغبة، وكان ذلك في رمضان، وجاء وقت صلاة المغرب، فليس عليك حرج أن تذهب إلى الصلاة؛ لأن الطعام قد حضر، وأنت قادر على تناوله ومشغل بجوعك، وهذا معنى القدرة على تناول الطعام.
الشرط الثاني: ألا يتخذ ذلك عادة، وألا يدخل في التفريط، كأن يجعل وقت طعامه دائماً مع وقت الصلاة، وهذا مذموم بغير شك، واعلم أن الطعام إذا لم ينضج، فإن النفس لا تقدر عليه، لكن سمعنا أن بعض الناس يأكل اللحم نيئاً، ويسمونها مرارة.(36/11)
ملازمة الدائن للمدين ولا شيء معه
العذر العاشر: ملازمة الغريم ولا شيء معه، وصورته: أن يكون لك عندي مال دين، وكلما ذهبت إلى المسجد أمسكت بخناقي، وقلت: يا مماطل! يا كاذب! يا من تأكل حقوق الناس! وتبدأ تسمعني ما أكره في صلاة الظهر، وكذلك في صلاة العصر، وكذلك في صلاة المغرب، فعلى ذلك فإن هذا عذر في ترك الجمعة والجماعة، ونعوذ بالله من غلبة الدين وقهر الرجال، لكن من الممكن أن تصلي في جامع آخر، حسب الخوف الذي يتبعك أنت.(36/12)
أعذار أخرى تبيح ترك الجمعة والجماعة
ومن الأعذار: فوات الرفقة إن كان في سفر، فإن صلى المسافر في جماعة فاتته رفقة أصحابه المسافرين، فهذا عذر يبيح ترك الجمعة أو الجماعة.
ومن الأعذار: الريح الباردة الشديدة في الليلة الظلماء.
ومن الأعذار: غلبة النعاس، مثال ذلك: إنسان يريد أن يصلي، لكن غلبه النعاس، بحيث لا يعقل ما يقول، فهذا يجوز له أن ينام نوماً يسيراً حتى يذهب ما به، ثم يصلي وحده، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا نعس فليرقد، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه).(36/13)
العبرة بالمشقة في الريح الباردة الشديدة
السؤال
ما هو المقياس في الريح الباردة الشديدة؟
الجواب
المشقة، وربما تكون ريحاً باردة، ولكن الإنسان عنده من الثياب ما يقيه ذلك البرد، فليس في ذلك مشقة، أو من الناس مَنْ عنده من الحرارة الداخلية ما لا تؤثر فيه تلك الريح، ومعروف أن النحيف غير السمين.(36/14)
يعذر الإنسان إن ترك الجمعة أو الجماعة لتطويل الإمام
السؤال
بعض الأئمة قد يطول تطويلاً فاحشاً، فهل يعذر الإنسان في ترك الجمعة والجماعة لتطويل الإمام؟
الجواب
نعم، إذا كان طولاً زائداً عن السنة؛ ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوبخ الرجل الذي انصرف من صلاته حين شرع معاذ في سورة البقرة، بل وبخ معاذاً وذلك أن معاذاً رضي الله عنه كان يصلي بالناس، وكان فقيهاً صالحاً رضي الله عنه وأرضاه، فافتتح سورة البقرة وبدأ يقرأ، وأطال كثيراً، فخرج أحد الناس من الصف ومشى إلى الخلف، وكبر وصلى وانتهى، وشكا معاذاً إلى رسول صلى الله عليه وسلم، ثم ذهب معاذ ولحقه رضي الله عنه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنه منافق، وكان الرجل يشكو للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن معاذاً نشكوه مما يطول بنا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إن منكم منفرين، أفتان أنت يا معاذ؟ إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة).(36/15)
يعذر الإنسان إن ترك الجمعة أو الجماعة لسرعة الإمام الزائدة حال الصلاة
السؤال
هل يعذر الإنسان عن تركه الجمعة والجماعة لسرعة الإمام الزائدة؟
الجواب
نعم، إذا كان يسرع إسراعاً لا يتمكن به الإنسان من فعل الواجب؛ كأن لا يتمكن من الطمأنينة في صلاته، وعليه أن يبحث عن مسجد آخر.(36/16)
لا عذر لمن ترك الجمعة والجماعة لكون الإمام فاسقاً
السؤال
هل يعذر الإنسان عن تركه الجمعة والجماعة إذا كان الإمام فاسقاً، كأن يشرب الدخان أو يحلق لحيته أو بذئ اللسان ونحوها؟
الجواب
لا يعذر، بل يصلي معهم، كما هو معروف في صلاتهم خلف الحجاج، لكن الحجاج لم يكن يدخن، ولم يكن يحلق اللحية، وإن كان عندي القتل أقبح من هذا كله.
وقد تقدم: أن كل من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره، فليس في ذلك عذر، لكن إذا أمكن الناس خلع هذا الإمام دون إحداث فتنة، فهذا هو المطلوب، وإلا فلا.(36/17)
حكم من يترك صلاة الجمعة والجماعة لأكله البصل
السؤال
الآكل للبصل هل يعذر إذا ترك الجمعة والجماعة؟
الجواب
المسألة ترجع إلى النية، إن قصد بذلك ألا يصلي مع الجماعة فهذا حرام، أما إذا قصد التمتع به وأنه يشتهيه فليس بحرام، قياساً على المسافر في نهار رمضان، إن قصد بذلك الهروب من الصيام فهو آثم، قيل لأعرابي: دخل رمضان، قال: لأشتتن شمله بالأسفار، فمثل هذا آثم، أما إن كان طرأ عليه السفر، فهذا يفطر ولا إثم عليه اتفاقاً، كذلك من أكل الثوم أو البصل أو الفجل، أو غيره من ذوات الروائح الكريهة فإنه يصلي في بيته وهو معذور.(36/18)
يُمنع الذي يؤذي الناس من حضوره المسجد، لكن ليس معذوراً
والذي يؤدي الناس في حضوره المسجد فإنه لا يحضر ولا يأتي؛ لا لأنه معذور، بل دفعاً لأذيته، والفرق بينه وبين أصحاب الأعذار: أن المعذور يكتب له أجر الجماعة إذا كان من عادته الصلاة في الجماعة، والدليل على ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثلما كان يعمل مقيماً صحيحاً)؛ لأن العذر ليس بيده، لكن صاحب البصل هذا مد يده وأكل البصل أو أكل الثوم.(36/19)
لا يعذر المجرم الهارب من الشرطة عن حضور الجمعة أو الجماعة
السؤال
المجرم إذا خشي أنه إذا خرج إلى الجمعة أو الجماعة أمسكت به الشرطة، هل يعذر في الترك؟
الجواب
لا يعذر؛ لأنه مطالب بحق من تعرض له بظلم، بخلاف الأول الذي هو الخوف من ضرب أو حبس، ومن باب أولى القتل إذا كان من سلطان ظالم ونحوه، فهذا معذور، لكن هذا الذي قتل، ولم يستطع أن يخرج إلى المسجد؛ لئلا يقبض عليه، فمثل هذا لا عذر له.(36/20)
أحكام المسافر(36/21)
سبب تسمية السفر بالسفر ومعناه لغة
السفر لغة: مفارقة محل الإقامة؛ وسمي السفر سفراً؛ لأن الإنسان يسفر به عن نفسه، يعني: هو في بيته مكنون مستور، لكن إذا سافر برز للناس، وعرفه من لم يكن يعرفه، وقيل: لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، ومنه قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:34] وهذا في الزمان الماضي، عندما كان السفر يستغرق زماناً طويلاً، حين كان الناس يستعملون الرواحل، لكنْ الآن إذا ذهب الإنسان إلى العمرة، فإن السفر لا يستغرق إلا ساعة أو تزيد قليلاً، فلا تستطيع أن تتعرف به على أخلاق الرجال، وتعرفون بأن القضاة من سلفنا الصالحين كانوا إذا زكى الرجل منهم رجلاً يسألونه: هل عاملته بالدينار والدرهم؟ هل سافرت معه؟ أما كونه أعرفه في المسجد وأسلم عليه ويسلم علي، فهذه ليست كافية.(36/22)
حكم القصر للمسافر
لا يحق لغير المسافر أن يقصر، ونضرب مثلاً لذلك بالمريض، حيث إنك إن زرت مريضاً في المستشفى، فقال لك: أنا منذ عشرة أيام لشدة المرض أقصر الصلاة، نقول له: وجب عليك أمران: التوبة إلى الله، وإعادة الصلاة، بينما لو قال هذا المريض أنا أجمع بين الصلاتين، بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، نقول له: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185]، وفعلك صحيح، ولو قال مثلاً: أنا لشدة المرض أصلي الصلوات كلها في آخر الليل، نقول له: واجب عليك التوبة إلى الله، ولا إعادة عليك؛ لأنه ليس هناك فائدة، فهو من ناحية الكمية أوقعها صحيحة، لكن من ناحية الوقت قد أخل.
إذاً: الأعذار ثلاثة: إما سفر، وإما مرض، وإما خوف، أما بالنسبة للسفر فهذا عذر يقتضي نقص الكمية والجمع في السفر، فالرباعية تصير اثنتين، ثم يحق لك الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت، في الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في وقت أحدهما.
وبالنسبة للمرض فإنه ليس هناك نقص في الكمية، وإنما هناك جمع إن احتاج إليه.
وبالنسبة للخوف فإن هناك تغيير في الكيفية، ولو كان هناك سفر مع الخوف نقص أيضاً في الكمية، فمثلاً: لو دهمنا العدو لا قدر الله فالصلاة الرباعية تبقى رباعية، لكن الكيفية تختلف؛ كما قال الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239] أي: نحن في حال شدة القتال والخوف الشديد نصلي مستقبلين القبلة أو مستدبريها، نصلي ونحن ماشون، ونحن نجالد العدو، وسواء بطهارة أو بغير طهارة، فهنا اختلفت الكيفية، لكن تبقى الكمية كما هي.
فالأعذار: إما سفر وإما مرض وإما خوف، وقال المالكية رحمهم الله: يسن لمن سافر سفراً مباحاً أن يقصر الرباعية، ولا قصر للمسافر في صلاة المغرب؛ لأنها وتر النهار، ولا قصر في صلاة الصبح؛ لأن قصرها يجعلها وتراً، وهذا التعليل فقط، ويكفينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصر في الرباعية فقط في السفر، ولم يقصر في صلاة المغرب ولا في صلاة الصبح.(36/23)
عدم جواز قصر الصلاة الرباعية لمن كان سفره محرماً
القصر في الصلاة الرباعية لا يسنُّ إلا لمن سافر سفراً مباحاً، كالتجارة مثلاً، أو سافر سفراً مستحباً أو واجباً، كصلة الرحم، ومن سافر سفراً محرماً فلا يجوز له أن يقصر، وأوضح مثال للسفر المحرم في هذا الزمان: سفر المرأة بغير محرم، كسيدات نساء الأعمال، فمن نساء الأعمال من تذهب إلى ماليزيا لحضور مؤتمر كذا، وتذهب إلى دبي لحضور مهرجان كذا وهي وحدها، فهذه لا تقصر، فمن سافر سفراً محرماً فلا يحل له أن يقصر، كسفر المرأة بغير محرم، ومن سافر ليقتل معصوماً، أو سافر ليبرم عقداً ربوياً، أو سافر للفواحش أجاركم الله، كأن يسافر لممارسة الخنا ويشرب المسكر، فلو فرض أنه يصلي فليس من حقه أن يقصر.
ومن سافر سفراً واجباً كمن سافر لحجة الفريضة، أو لطلب العلم الواجب، فمن حقه أن يقصر، ومن سافر سفراً مستحباً، كمن سافر للحجة الثانية، فمن حقه أن يقصر، ومن سافر سفراً مباحاً للنزهة، كما قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم:42] أو سافر للتجارة، أو سافر إلى الصين من أجل أن يستجلب بعض البضائع، فهذا من حقه أن يقصر.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(36/24)
فقه الصلاة_أحكام صلاة الجمعة [1]
إن يوم الجمعة يوم عظيم في الإسلام، هدى الله إليه المسلمين في حين أن اليهود والنصارى ضلوه، وشرع الله فيه صلاة الجمعة، وهي ركعتان قبلهما خطبتان، وهي واجبة عيناً على كل ذكر حر مكلف مستوطن خالٍ من الأعذار، ووقتها كوقت الظهر، وقد ذكر العلماء في سبب تسميتها بهذا الاسم عدة أقوال، كما أنه قد حصل خلاف في العدد الذي تنعقد به صلاة الجمعة.(37/1)
مقدمة في فضل يوم الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكر الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
أما بعد: فالكلام هنا إن شاء الله يتناول الأحكام المتعلقة بصلاة الجمعة، ويوم الجمعة هو خير أيام الأسبوع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة، ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حذراً من قيام الساعة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة)، والجمع بين الحديثين هو كما قال ابن القيم رحمه الله: بأن يوم الجمعة خير يوم باعتبار الأسبوع، ويوم عرفة خير يوم باعتبار السنة.
وثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، وهذا اليوم الذي فرض الله عليهم فضلوا عنه وهدانا الله إليه، والناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد).
إذاً: فقد فرض الله على اليهود والنصارى تعظيم يوم الجمعة لكنهم ضلوا عنه، فعوقب اليهود بالسبت وعوقب النصارى بالأحد، وهدانا الله معشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم لعبادته في هذا اليوم العظيم، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأجر كبير لمن استوفى شروط الجمعة وأتى بسننها وآدابها، فقد ثبت عنه في الحديث أنه قال: (من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فأنصت كان له بكل خطوة يخطوها أجر صيام سنة وقيامها، وذلك على الله يسير)، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تطهر يوم الجمعة بأحسن ما يجد من طهر، ثم لبس من أحسن ثيابه، ثم مس من طيبه أو طيب بيته، ثم خرج إلى المسجد فلم يفرق بين اثنين، ثم صلى ما كتب الله له أن يصلي، ثم إذا خرج الإمام جلس فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة والجمعة وزيادة ثلاثة أيام، وذلك أن الله يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160]).
فيوم الجمعة ثوابه عظيم، وأجره كبير، وحري بالمسلم أن يعرف الأحكام المتعلقة بهذه الفريضة؛ حتى يأتي بها على الوجه الأتم الأكمل، والكلام عن هذه الفريضة العظيمة ينحصر في عدة مسائل نذكرها تباعاً.(37/2)
حكم صلاة الجمعة
يقول المالكية رحمهم الله: الجمعة فرض عين على المكلف الذكر الحر المقيم الخالي من الأعذار التي تمنع شهود الجمعة، وفرض العين: هو الذي يثبت على كل مسلم استقلالاً لا يغني فيه أحد عن أحد، لكن هذه الفرضية متوجهة لمن توافرت فيه ستة شروط من المكلفين، وكلمة المكلف تعني: من توافرت فيه صفتا البلوغ والعقل، فهذان شرطان، والمالكية أجملوهما في شرط واحد فبدلاً من أن يقولوا: الجمعة فرض عين على البالغ العاقل، قالوا: الجمعة فرض عين على المكلف، أي: البالغ العاقل.
وقد جاء في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع القلم عن ثلاث) وعد منهم الصبي والمجنون.(37/3)
مطالبة الكفار بفروع الشريعة
والمالكية لم يقولوا: الجمعة فرض عين على المسلم؛ لأن الكافر مطالب بالعبادات وجميع فروع الشريعة وسيحاسب عليها يوم القيامة، فسيحاسب على كفره وسيحاسب كذلك على ترك الصلاة والصيام؛ لأن الله عز وجل قال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:38 - 43].
بل وأكثر من ذلك: أن الكافر سيحاسب على النعم في يوم القيامة، فسيحاسب على الماء البارد الذي شربه وسيعاقب عليه، وسيحاسب أيضاً على اللحم الذي أكله وعلى العافية التي كانت في بدنه؛ لأن الله عز وجل قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، ومفهوم قوله تعالى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:32]؛ أنها ليست خالصة للكفار.
وكذلك قول الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93]، فمفهوم الآية: أن على الكفار جناح فيما طعموا، ويدل على هذا قول الله عز وجل: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]، خاصة إذا علمنا بأن الكافر يدب على أرض الله، ويستظل بسمائه، ويتقلب في نعمه، ثم بعد ذلك يستعمل هذا النعيم كله لحرب الله ورسوله.(37/4)
من تجب عليهم الجمعة؟
والجمعة فرض على المكلف لا على الصغير، ولا على المجنون، لكن الصغير يؤمر بها؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر)، وفرضيتها: إنما هي على المكلف الذكر، فخرج بذلك الأنثى والخنثى، فالأنثى معروفة، والخنثى: هو الذي اشتبهت ذكوريته بأنوثيته ولم تتبين حقيقته، والدليل على عدم وجوب صلاة الجمعة على الأنثى حديث طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة العبد المملوك والمرأة والصبي والمريض)، فعد النبي صلى الله عليه وسلم المرأة ممن لا تجب عليهم الجمعة، وهذا الحديث رواه الإمام أبو داود والطبراني في الكبير والبيهقي، وطارق بن شهاب رضي الله عنه من صغار الصحابة، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه فهو صحابي؛ لأن الصحابي: هو من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً ومات على إسلامه، وليس المقصود بالرؤية الرؤية البصرية فقط، بل الرؤية البصرية والرؤية القلبية؛ لكي يدخل فيه من كان أعمى كـ عبد الله بن أم مكتوم الصحابي الجليل، ويدخل في هذا التعريف ممن غزا معه ومن لم يغز ممن طالت صحبته، وكذلك من صافحه ولامسه صلوات ربي وسلامه عليه ومن رآه ولو من بعيد.
فالجمعة واجبة على المكلف الذكر الحر وحديث طارق بن شهاب استثنى النبي صلى الله عليه وسلم فيه العبد المملوك؛ لأنه مشغول بحق سيده، وهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، فبعض العلماء يرى دخول العبد في عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، وبعضهم يخصص هذه الآية بهذا الحديث، وبعضهم يتوسط ويقول: إن أذن له سيده فقد وجبت عليه، وإن لم يأذن فلا تجب عليه.(37/5)
عدم وجوب الجمعة على المسافر
فالجمعة واجبة على المكلف الذكر الحر المقيم، فخرج بذلك المسافر، والدليل على أن الجمعة لا تجب على المسافر حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أسفاره لا يصلي الجمعة، وإنما يصلي ظهراً)، وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بطن الوادي يوم عرفة نزل فخطب الناس، ثم بعد الخطبة أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر)، فإن قال قائل: لعله صلى الجمعة فكيف نجيب عليه؟ ف
الجواب
أن الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة سراً، فهذا دليل على أنها كانت ظهراً ولم تكن جمعة؛ لأننا نعرف أن الصلوات الجهرية: هي الصبح والعشاء والمغرب والجمعة، فلما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم سراً دل على أنها كانت ظهراً.
وأيضاً: فقد جاء هنا أنه جمع تلك الصلاة مع العصر، لا تجمع الجمعة مع العصر، فالجمع لا يكون إلا بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء وكذلك نقول: إن خطبة الجمعة تكون بعد الأذان، وفي الحديث أنه خطب قبل الأذان، فعلم بأن هذه الصلاة ليست جمعة، وكذلك فقد خطب رسول الله هنا خطبة واحدة، والجمعة لا تصح إلا بخطبتين كما سيأتي معنا إن شاء الله.
ثم إن جابراً وهو أعلم بما حدث منكم يقول: صلى رسول الله الظهر، فلا داعي أن نستنبط خلافه وهو الذي شاهد ذلك، وهو رضي الله عنه عربي فصيح وقد نص على أنها كانت صلاة ظهر.(37/6)
فائدة في سبب تسمية الجمعة بهذا الاسم
ويوم الجمعة كان في الجاهلية يسمى: يوم العروبة، وسمي هذا اليوم بيوم الجمعة؛ لأن اكتمال خلق السموات والأرض كان فيه؛ وقد قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق:38]، وقيل: لأن آدم عليه السلام اجتمع خلقه فيه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يوم الجمعة كان فيه خلق آدم، وقيل: لأن الأنصار قبل مقدم النبي عليه الصلاة والسلام اجتمعوا على أسعد بن زرارة رضي الله عنه وكان من النقباء ومن سادة الأنصار، فخطب فيهم وذكرهم، وقيل: لأن العرب قبل البعثة كانوا يجتمعون على سعد بن لؤي جد الرسول عليه الصلاة والسلام الأعلى فيخطب فيهم ويذكرهم، وقيل: لأن الناس يجتمعون فيه، وعلى كلِّ هذه الأقوال فهي جمعة مشتقة من الاجتماع، فالاجتماع حاصل في خلق السموات والأرض، وفي خلق آدم، وفي اجتماع الأنصار على أسعد بن زرارة، أو اجتماع الناس على سعد بن لؤي، أو لاجتماع المسلمين في مساجدهم.
والإسلام دين جماعة، وهذه الجماعة لها أنواع منها: جماعة الحي: وهي التي تكون في الصلوات الخمس، وجماعة البلد: وهي التي تكون في الجمعة، ففي بعض البلاد تكون هناك مساجد للناس يصلون فيها الصلوات الخمس، ولكن ليس للجمعة إلا جامع واحد، فالصلوات الخمس اجتماع حي، وصلاة الجمعة اجتماع بلد، ثم اجتماع البلاد كلها يكون في يوم عرفة.(37/7)
أدلة وجوب صلاة الجمعة
ودليل الوجوب من القرآن قول ربنا الرحمن: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، ومن الأدلة أن النبي عليه الصلاة والسلام شدد في النهي عن ترك الجمعة، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لينتهين أقوام عن الجمعات ودعهم أو ليكونن من الغافلين)، ومعنى ودعهم: تركهم، تقول: دع عنك هذا، أي: اتركه، وقال عليه الصلاة والسلام: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه)، قال أهل العلم: أي: يصير الله قلبه قلب منافق؛ لأنه ترك الجمعة تهاوناً ثلاث مرات، وهذا الحديث يحذر مما وقع فيه بعض المسلمين الذين يختارون يوم الجمعة للنزهة فيترتب على ذلك تضييعها، وهذا فيه من الشر والفساد ما يحذرهم منه هذا الحديث: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه)، فالمؤمنون يحافظون على الجمعة، والمنافقون يتهاونون بها، ولذا قال الله عز وجل عنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} [المنافقون:5]، وهذه الآية نزلت في عبد الله ابن سلول لما انخذل بثلث الجيش يوم أحد -وكانت غزوة أحد يوم السبت في الخامس عشر من شوال- فعصى عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع بثلاثمائة من المقاتلين ثم بعد ذلك في يوم الجمعة خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليصعد على المنبر، وإذا بـ عبد الله بن أبي يقول: يا معشر الأنصار هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنهم لا يعرفونه، مع أن الله قد قال عنهم: {وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} [الأعراف:157].
فلما قال ذلك بعدما صنع ما صنع يوم أحد قام في جمعة أخرى ليقول ما يقول فجذبوه من ثوبه وقالوا له: اجلس عدو الله فلست لهذا المقام أهلاً.
فلا تستحق أن تنوه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تأمرنا بنصره وأنت الذي خذلته، فالمنافق -قاتله الله- ظهر نفاقه فخرج يتخطى رقاب الناس مغضباً وترك الصلاة فلقيه بعض الناس على الباب فقالوا له: ويلك! ما شأنك؟ قال: قمت لأشد أمر صاحبهم وأقويه فزجروني وكأني قلت: هجراً، فقالوا له: ويلك! ارجع يستغفر لك رسول الله، فقال: والله ما أريد أن يستغفر لي، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5].
ولذلك قال العلماء: إن من الحكمة في صلاة الجمعة أن يقرأ الإمام في الركعتين بسورة الجمعة والمنافقون، فأما الجمعة؛ فلأن فيها قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9]، وأما المنافقون؛ فلأن من صفات المنافقين التهاون بالجمعة، وقد غلط من نسب إلى الإمام الشافعي أن الجمعة فرض كفاية، بل الجمعة فرض عين بإجماع المسلمين، وما قال الشافعي ولا غيره من أهل العلم رحمهم الله بأن الجمعة فرض كفاية على من توافرت فيه هذه الشروط، بأن يكون بالغاً عاقلاً ذكراً حراً مقيماً.(37/8)
وقت صلاة الجمعة
إن وقت الجمعة كوقت الظهر؛ لأنها بدل عنها، وصلاة الظهر يدخل وقتها بزوال الشمس؛ لأن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ليلة المعراج فصلى، ثم نزل فصلى، ثم نزل فصلى حتى صلى الصلوات الخمس، فصلى به الظهر حين زالت الشمس، وصلى به العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى به المغرب حين أفطر الصائم، وصلى به العشاء حين غاب الشفق، وصلى به الصبح حين طلع الفجر، ثم نزل فصلى به الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى به العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى به المغرب حين أفطر الصائم، وصلى به العشاء حين ذهب ثلث الليل الأول، وصلى به الصبح حين كادت الشمس أن تطلع، وقال له: يا محمد! الوقت ما بين هذين.
ولذلك فالعلماء في كتب الفقه إذا بدءوا في بيان الأحكام فإنهم يبدءون بصلاة الظهر، وكذلك حين يذكرون الصلوات الخمس فإنهم يبدءون بالظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء ثم الصبح، وكثير من الناس يستغرب هذا، ولا غرابة في ذلك؛ لأن الظهر كانت أول صلاة صلاها جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فوقت الجمعة هو وقت الظهر، أما نهاية وقتها فبالغروب وهو الوقت الضروري؛ لأن الصلاة لها وقت اختياري ووقت ضروري، فالوقت الاختياري: إلى أن يصير ظل كل شيء مثله حين يدخل وقت العصر، ووقت العصر الاختياري: منذ أن يصير ظل كل شيء مثله إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، ومنذ أن يصير ظل كل شيء مثليه إلى أن تغرب الشمس، فذلك هو الوقت الضروري المشترك بين الظهر والعصر، فمن أخر الصلاة إلى هذا الوقت من غير عذر فهو آثم، فلو أن شخصاً نام عن صلاة العصر وهو يعلم بأن صلاة المغرب مثلاً في الساعة السادسة والنصف وخمس دقائق فضبط المنبه على السادسة لكي ينام من الرابعة إلى السادسة، ثم قام وصلى في السادسة وعشر دقائق فهو آثم؛ لأنه أخر الصلاة إلى وقتها الضروري من غير عذر، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تلك صلاة المنافق ينتظر حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)، لكن أصحاب الأعذار كالمرأة الحائض إذا طهرت فإلى أن تغتسل سيكون ظل كل شيء مثليه فعليها أن تصلي الظهر والعصر، وكذلك المجنون إذا أفاق في هذا الوقت فعليه أن يصلي الظهر والعصر ولا حرج عليه، وكذلك لو أن إنساناً كان صبياً ثم احتلم فهو أيضاً معذور فيصلي في الوقت الضروري، ومثله الإنسان الذي نام لشدة التعب والإرهاق ولم يستيقظ إلا في الوقت الضروري وليست هذه عادته فيجوز له الصلاة في الوقت الضروري.
لكن لو أن بعض الناس عنده عادة وهي أنه يضبط المنبه على الوقت الضروري في صلاة الصبح وقد علم بأن صلاة الصبح يدخل وقتها في الخامسة والنصف، وأن الشمس تشرق في السادسة وتسع وثلاثين دقيقة، فيضبط المنبه على السادسة والنصف ويقول: أقوم وأتوضأ في أربع دقائق ثم بعدها أصلي فأكون قد أديت الصلاة، فهذا إثم واضح.
هذا بالنسبة لأعذار الأفراد، لكن هل يتصور ذلك في صلاة الجمعة بعذر جماعي تؤخر به الجمعة إلى الوقت الضروري؟
الجواب
نعم، فلو قدر الله أن عدواً دهم البلد فشغلنا بدفعه في يوم الجمعة، وما زلنا نقاومه حتى انجلت الغمة وزال الكرب ولم يبق إلا الوقت الضروري، ففي هذه الحالة نصلي الجمعة ثم نصلي العصر.
فظهر بهذا أن وقت الجمعة يبدأ بزوال الشمس وينتهي بالغروب، لكننا نفرق بين الوقت الاختياري والوقت الضروري، والدليل على ذلك حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تزول الشمس).
قال ابن العربي رحمه الله: اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن الجمعة لا تجب حتى تزول الشمس، واتفقوا على أنه لو صلاها قبل الزوال لا تجزئه إلا ما روي عن أحمد بن حنبل رحمه الله، فهو يرى بأن وقت صلاة الجمعة هو وقت صلاة العيد أي: إذا طلعت الشمس وارتفعت قيد رمح، وذلك بعد طلوع الرمح بعشر دقائق إلى ربع ساعة، فعند الإمام أحمد يصح أن نصلي الجمعة في ذلك الوقت واستدل في ذلك بآثار مروية عن بعض التابعين، وهذا المذهب انقرض الآن، حتى الحنابلة لا نجدهم اليوم يصلون الجمعة قبل الزوال، ومما استدل به من الآثار قول بعض التابعين: صليت مع أبي بكر صلاة الجمعة في أول النهار، وصليت مع عمر حين كاد ينتصف النهار، وصليت مع عثمان حين كاد يذهب النهار، ولم ينكر أحد عليهم، لكن العلماء قالوا: إن هذا أثر لا يصح.
والذي انعقدت عليه أقوال أهل العلم: أن الجمعة لا تصح إلا بعد زوال الشمس.(37/9)
العدد الذي تنعقد به الجمعة
وهذه مسألة عويصة بين العلماء.(37/10)
القول بأنه اثنا عشر سوى الإمام
فقد قال المالكية رحمهم الله: أقل ما يجزئ فيها اثنا عشر حراً ذكراً مكلفاً مستوطناً، ويكون هؤلاء باقين مع الإمام من أول الخطبة إلى انتهاء الصلاة، فيكون الجميع مع الإمام.
ودليلهم: حديث جابر رضي الله عنه في الصحيحين وهو أن الصحابة انفضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلاً، فنزل قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11]، فهذا هو القول الأول.(37/11)
القول بأنها لا تنعقد إلا بأربعين
القول الثاني: قول الشافعية والحنابلة: وهو أن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين، ودليلهم: الحديث الذي رواه الإمام أحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مصعباً بن عمير إلى المدينة، فلما كان يوم الجمعة صلى بهم وكانوا أربعين رجلاً، وكانت أول جمعة في المدينة) وهذا القول نرد عليه بحديث جابر في الصحيحين (بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب في الناس فلما جاءت القافلة -وقد كان الصحابة محتاجين إلى هذه القافلة؛ لما هم فيه من ضيق- فخرجوا رضي الله عنهم ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً)، وأين الدليل على أنهم عادوا؟ بل الأقرب أنهم ما عادوا؛ إذ أن كلاً منهم كان محتاجاً فابتاع منها حاجته، وتفقد كل منهم نصيبه إن كان له في التجارة نصيب، فالأصل أنهم ما عادوا ولا يقال بخلافه إلا أن يقوم دليل ناقل عن هذا الأصل.
وأما المالكية رحمهم الله فالرد عليهم أيضاً نفس ما رد به على الحنابلة والشافعية، فيقال لهم: أثبتوا لنا أنه لو بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم أقل من هذا العدد لقال لهم: إن الجمعة لا تصح، فهذا إنما حصل اتفاقاً من غير قصد، فليس في هذا دليل على أن الجمعة لا تجزئ بأقل من ذلك.(37/12)
القول بأنها تنعقد بأربعة
وأما القول الثالث: فهو للحنفية: وهو أن الجمعة تنعقد بأربعة، واستدلوا بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الجمعة:9]، فالخطاب للجمع، وأقل الجمع ثلاثة، والإمام هو الرابع، فهم استدلوا باللغة وقالوا: المفرد واحد، والاثنان مثنى، والثلاثة جمع، فلابد أن يجتمع إلى الإمام جمع فيكونوا ثلاثة والإمام هو الرابع، ويرد عليهم بأن يقال: إن الخطاب هنا يراد به الجنس لا الجمع، أي: أن الخطاب متوجه إلى كل واحد من المؤمنين، كقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] ومعروف بأن المرأة لا ينكحها إلا واحد ولا يطلقها إلا واحد، ولكن الخطاب للجنس، وليس المقصود عدداً بعينه.
والقول الرابع: هو أن الجمعة تنعقد بثلاثة؛ لأن الجماعة تنعقد بثلاثة، وهو الذي رجحه أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وأصحاب هذا القول استدلوا على ذلك: بأن أقل الجمع ثلاثة، فلو صلى واحد واستمع اثنان لكانت جمعة، وقد روى أحمد من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وأبو الدرداء اسمه عويمر بن عامر، وكان من آخر الأنصار إسلاماً وهو صاحب قصة الصنم الذي كان يعبده، فعمد إليه أحدهم فبال عليه، فجعل أبو الدرداء يمسح البول عنه ويطيبه ويقول له: فعل الله بمن فعل بك كذا وكذا، وفي اليوم الثاني جاء وقد كسر وربط مع ميتة، فهنا أبو الدرداء فطن إلى أن القوم يبعثون إليه برسائل متتابعة بأن هذا الصنم لا يستحق أن يعبد من دون الله، فأسلم بعدها.
وأبو الدرداء رضي الله عنه قد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ثلاثة في قرية لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان)، فأصحاب هذا القول قالوا: ولفظ الصلاة يشمل الجمعة وغيرها، فتنعقد الجمعة بثلاثة أشخاص.(37/13)
القول بأنها تنقعد باثنين
القول الخامس: أن الجمعة تنعقد باثنين أحدهما يخطب والآخر يستمع، وهذا القول رجحه الشوكاني في شرح المنتقى أي: في كتابه نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، ودليل ذلك ما يلي: قالوا: في اللغة أقل الجمع ثلاثة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (الاثنان جماعة).
قال الشوكاني رحمه الله: ومن ادعى الفرق بين الجمعة وغيرها فعليه بالدليل، يعني: الصلوات الخمس.(37/14)
القول بأنها تنعقد بواحد
القول السادس: وهو قول شاذ: وهو أن الجمعة تنعقد بواحد، ودليل شذوذه أنه ما ثبت عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أنه صلى الجمعة وحده، وإنما ثبت أن ابن مسعود رضي الله عنه صلى مع علقمة والأسود صلاة الجمعة، وهو القول الذي رجحه ابن تيمية رحمه الله، وأما شخص واحد فلم يرد ذلك.
وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين: والراجح أن الجمعة لا تنعقد إلا بجماعة يصح أن يطلق على صلاتهم اسم الجمعة بأن يجتمعوا، وليس ذلك مقيداً بعدد معين.(37/15)
فقه الصلاة_أحكام صلاة الجمعة [2]
لقد فرض الله علينا فرائض وأحكاماً، وفصل لنا هذه الفرائض والأحكام حتى نعبده سبحانه على بصيرة، ومن هذه الفرائض: صلاة الجمعة التي هي أفضل الصلوات ويومها أفضل الأيام، فقد شرعها الله للعباد وبين خليله محمد صلى الله عليه وسلم ما فيها من شروط وسنن وآداب ينبغي على العبد أن يتصف بها.(38/1)
شروط صلاة الجمعة
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى من اهتدى بهداه.
أما بعد: تقدم معنا الكلام في ثلاث مسائل: المسألة الأولى: في حكم صلاة الجمعة.
المسألة الثانية: في وقت صلاة الجمعة.
المسألة الثالثة: في العدد الذي تنعقد به صلاة الجمعة.
والآن نتكلم عن المسألة الرابعة، وهي: شروط الجمعة.
والشرط في اللغة: هو العلامة.
وفي الاصطلاح: ما يلزم من عدمه العدم، وهذه الشروط إما أن تكون شروط صحة، أو شروط وجوب، أو شروط وجود في العقليات، فمثلاً: استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة، والبلوغ شرط في وجوب الصلاة، فهذا شرط صحة وهذا شرط وجوب، أما شرط الوجود فكما لو قلت: شرط نزول المطر وجود السحاب، أليس كذلك؟ أو مثلاً: شرط وجود الحمل حصول النكاح، ونعني بالنكاح: الجماع لا العقد، سواء كان نكاحاً شرعياً أو غير شرعي، فلا يكون حمل من غير جماع، ولا يستدل بقصة مريم عليها السلام فتلك معجزة.(38/2)
الجماعة
وأول شرط من شروط الجمعة: الجماعة، وقد مر معنا حديث طارق بن شهاب: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة)، ومر معنا في المحاضرة الماضية أن المالكية يقولون: إن الجماعة سنة مؤكدة في فرض غير جمعة، أما الجمعة فهم متفقون على أن الجماعة شرط فيها على الاختلاف الذي مضى في عدد من تنعقد بهم الجمعة.(38/3)
الإمام الحر المقيم
الشرط الثاني: الإمام الحر المقيم، لأن الجماعة لابد لها من إمام، فلا تصح هذه الإمامة من عبد، ولا من مسافر إلا الخليفة أو نائبه، والمالكية عندهم بأن الجمعة ليست واجبة على العبد، وليست واجبة على المسافر، معنى ذلك: أن العبد والمسافر لو صليا فجزاهما الله خيراً لكنها ليست واجبة عليهم، وبالتالي تكون في حقهم نفلاً، وقد مضى معنا أن من أصول المالكية: أن المتنفل لا يؤمه المفترض؛ لذلك قالوا: إذا كان مسافراً فصلى الجمعة أجزأته، ولو كان مثلاً عبداً فصلى الجمعة أجزأته، ولو كانت امرأة فصلت الجمعة أجزأتها، لكن لا يصلي بالناس المسافر ولا العبد، فلا يكونا إمامين للناس بناءً على الأصل الذي مضى.
واستثنوا من ذلك الخليفة أو نائبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يؤمن الرجل الرجلَ في سلطانه) فلو أن الخليفة مر بهذه البلاد فهذه البلاد سلطانه فلا يتقدم أحد عليه إلا بإذنه ولو كان مسافراًً، بل هو الذي يصلي بالناس.
وبداية هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا سواء فأقدمهم سناً، أو سلماً، قال: ولا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه).
فالجماعة شرط، والإمام الحر المقيم شرط، والصحيح أيها الإخوة الكرام! ما مضى بيانه؛ لأنه يجوز أن يؤم العبد الحر من غير كراهة؛ لأن سالماً مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما كان يصلي بكبار المهاجرين في قباء، وفيهم عمر، وأبو سلمة وكذلك فللمسافر أن يؤم المقيم كما ثبت أن سيدنا عمر رضي الله عنه ومن قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون بأهل مكة ويقولون لهم: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ولا فرق بين الجمعة وغيرها، فيصح إن شاء الله أن يصلي المسافر بالناس الجمعة، وهذا يحصل الآن كثيراً، فقد يمر داعية أو عالم من العلماء ببلد من البلاد فيقول له أهلها: صل بنا الجمعة، فبناءً على كلام المالكية رحمهم الله هذه الجمعة لا تصح؛ لأن هذا مسافر، والجمعة في حقه ليست واجبة.(38/4)
الخطبتان قبل الصلاة
ومن شروط صحة الجمعة: خطبتان قبل الصلاة، مما يطلق عليه اسم خطبة عند العرب، فتؤديان في الوقت المحدد للجمعة، ويقوم فيهن الإمام لحديث ابن عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً ثم يجلس، ثم يقوم كما تفعلون اليوم)، والمالكية يقولون: الخطبتان لابد منهما، وما اشترطوا في هاتين الخطبتين شروطاً من جنس ما قاله غيرهم، فإن غير المالكية يقولون: لابد أن تشتمل الخطبة على خمسة أركان: أولها: الحمد، سواء كان بصيغة الفعل، كأن يقف الإمام فيقول: أحمد الله وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، أو بصيغة الاسم الحمد لله نحمده ونستعينه مثلاً، ويستدلون على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمر لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع أو أبتر)، والحديث فيه كلام.
الركن الثاني: الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستدلون على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يخطب خطبة إلا حمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم.
لكن تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وسلم المجرد لا يدل على الوجوب.
الركن الثالث في الخطبة: قراءة آية، فلابد أن تشتمل الخطبة على آية، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1]، أو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] أو أي آية من القرآن بشرط أن يتم بها المعنى، فلو قرأ شخص آية: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر:21]، فهذه آية في سورة المدثر لكن من الذي نظر؟ ولأي شيء نظر؟ لم نعرفه، وكذلك لو قرأ: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] فإنا نعرف معناها من لغة العرب، أي: شديدتا الثواب، لكن عن أي شيء يتكلم؟! لكن مثلاً: لو قرأ آية يتم بها المعنى من جنس ما ذكرت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]، فهذه فهم بها المعنى.
الركن الرابع: الوصية بتقوى الله، كأن يقول: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، أو {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1] ونحو ذلك.
أو اتقوا الله يا عباد الله! فالمهم أن تشتمل الخطبة على الأمر بتقوى الله.
الركن الخامس: الدعاء.
والمالكية لا يشترطون هذا، وإنما يشترطون خطبتين على كل منهما تطلق كلمة خطبة، أو لفظ خطبة في لغة العرب، وهي بالضم؛ للتفرقة بينها وبين الخِطبة، فالخِطبة غيرُ الخُطبة.(38/5)
الفرق بين خطبة النبي والناس اليوم
أيها الإخوان! قال الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد: كانت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتملة على الوصية وتعليم الأحكام، والحديث عن الجنة بما يشوق المؤمنين إليها، وعن النار بما يخوفهم منها، ولم تكن خطب الناس اليوم إلا عن الحديث عن الموت، وأنكم ستموتون وكذا، فهذا ليس فيه جديد، والموت لا يناقش فيه أحد، حتى الكافر أبو جهل، أو فرعون أو شارون هم جميعاً مقرون بأنهم سيموتون، فقضية أن الإمام يركز على الموت فهذا لا ينبغي.
وكذلك بعض الناس يحول الخطبة إلى نشرة أخبار، وهذا أيضاً لا ينبغي؛ لأن من يبدأ خطبته بأحداث هذا الأسبوع يصير وكأنه يقرأ جريدة أو مجلة، فهذا لا ينبغي، نعم الخطيب يعالج في خطبته قضايا المسلمين، ويتكلم عن واقعهم، لكنه لا يخرج عن معنى الخطبة، ولا بد أن يربط هذا الواقع بالكتاب والسنة، لذلك تجد بعض الناس -نسأل الله العافية- يخطب وربما يتكلم على المنبر ساعة أو تزيد ولا يأتي بآية أو حديث، والخطبة الشرعية ليست هكذا.
كذلك تجد بعض الناس يموت الخطبة إماتةً فيجعل الناس ينامون، ولربما تسمع غطيط بعضهم؛ لأن كلامه فيه ملل، وخطبته لا ريح لها، (وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب علا صوته عليه الصلاة والسلام، واشتد غضبه، واحمرت عيناه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم)؛ لأنه عليه الصلاة والسلام منفعل بما يقول.
ويستحب كذلك تقصيرهما ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلاً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن قصر الخطبة وطول الصلاة مئنة من فقه الإمام) وكان صلى الله عليه وسلم أحياناً يصعد على المنبر ما يزيد على أن يقرأ سورة ثم ينزل.
وقضية الخطبة من الورقة لا بأس بها إذا كان يرى بأن الورقة أضبط للكلام، وأدعى إلى أن يأتي بالآية والحديث، كما نزل بهما الوحي، فهذا طيب، بشرط: أن يفقه ما يقرأ، أما أن يأتي شخص يأخذ له ورقاً ولا يعرف ما فيها، ويقف على المنبر، ويقول: واحد وخمسين، واحد وخمسين من أحوال المسلمين، وبعد الصلاة يأخذ الناس الكتاب فيبحثوا عن معنى واحد وخمسين لأنهم لم يفهموها فيجدونها مكتوبة: آه آه من أحوال المسلمين، وهو قرأها: واحد وخمسين واحد وخمسين من أحوال المسلمين! وبعضهم قال: إن الرباطم والزناعم وكررها ثم تركها وهي: إن الربا طم، والزنا عم، وصاحبنا قرأها: رباطم وزناعم، فبعض الناس حقيقة يحمل كتباً ألفت في غير هذه البلاد فيقف على المنبر يقول: ما بال الفساد قد انتشر في شارع عماد الدين! وشارع عماد الدين من الشوارع المعروفة في القاهرة، وهو يكلم الناس عن شارع عماد الدين وليس موجوداً، ولو قال: في شارع الجمهورية لكان أمراً معقولاً.
وبعض الناس يدعو أيضاً لبعض السلاطين الذين ماتوا؛ لأن تأليف الكتاب قديم، فمثل هذا كله حرام؛ لأن خطبة الجمعة مسئولية، وكما قيل: بأن الجمعة حصة ثقافية أسبوعية إجبارية، والله عز وجل هو الذي أتى بالناس ولم تات أنت بهم، فربنا سبحانه هو الذي جمعهم لك.
ثم في الجمعة مزية ليست في غيرها من الدروس ولا المحاضرات: وهي أنه لا يستطيع أحد أن يمشي، أليس كذلك؟ بينما الآن في الدرس من الممكن للبعض أن يخرج، وكذلك في الجمعة لا يصلح الكلام، بينما الآن يصح أن تتكلم مع صاحبك، وكذلك لا يمكن أن تضحك في الجمعة.
فينبغي للإمام أن يتقي الله عز وجل، فيعتني بالجمعة بأن يوصل للناس معلومات صحيحة ولو كانت يسيرة أو قليلة، فليس بالضرورة أن أخطب ساعة، أو أربعين دقيقة أو نصف ساعة، ولو كانت الخطبة في عشر دقائق يخرج الناس منها بفائدة لبرئت الذمة أمام الله، أما أن يكون همه أن يقولوا: فلان خطب ساعة! أو فلان خطب خمسة وأربعين دقيقة، ولا يبالي بما يقول، فمثل هذا مذموم مقبوح ولا تبرأ ذمته عند الله.
أيها الإخوان! ينبغي أن يستحضر الإمام أنه قائم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو في أشرف المقامات، فإن أول من تولى الخطبة هو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
فينبغي أن يستحضر الإمام ذلك فيتقي الله في كلامه الذي يوصله إلى المسلمين.
كذلك ينبغي له أن يتأدب بالآداب الشرعية؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام في خطبته ما كان يزيد على أن يشير بأصبعه عليه الصلاة والسلام، وليس كما يصنع بعض الأئمة من التلويح بقبضته كأنه يهدد أمريكا وروسيا، أو كما يفعل بعض الأئمة بأن يضع يديه في خاصرتيه ونحوه، أو يضرب المنبر، وبعض الأئمة يبلغ به الحماس فيشير بكذا إلى أن تطير الساعة من يده، وبعض الأئمة خطب يوم الجمعة فلما قام طارت الساعة، وبعد قليل وقع العكاز، فقام شخص من الناس من كبار السن وأخذ حذاءه وذهب، فعاتبه الإمام وقال: يا فلان! أنا أخطب وأنت ذاهب؟! فقال له: وقعت الساعة ثم وقع العكاز ثم بعدها لا أدري ماذا سيقع؟! فينبغي للإمام يوم الجمعة أن يتقيد بهذه الآداب فلا يكثر من الحركات والالتفاتات، وإنما يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد كان لا يزيد على أن يشير بإصبعه حتى في الدعاء الأخير، وبعض الأئمة تجده يرفع يديه في نهاية الخطبة، ولما أرى أحد الصحابة رضوان الله عليهم أحد الناس يخطب في الجمعة ويرفع يديه، قال: قبح الله هاتين اليدين القصيرتين، والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد على أن يشير بأصبعه حتى في الدعاء.
أما بالنسبة للشعر فليس منه مانع إذا كان شعراً فيه ذكر لشمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان شعراً يرقق القلب، ويرغب في الآخرة، أو كان فيه ثناء على الصحابة رضوان الله عليهم، أو على الصالحين من عباد الله فلا مانع من ذلك إن شاء الله.(38/6)
أن يحضر أقل عدد تجزئ به الجمعة
الشرط الرابع: أن يحضر الخطبتين أقل عدد تجزئ به الجمعة، فقالوا: أقل عدد اثنا عشر، معنى ذلك على قول المالكية: أنه لو كان المصلون مع الإمام اثنا عشر رجلاً وفي أثناء الخطبة أحدث أحدهم فخرج بطلت الخطبة فلابد من استئناف الخطبة من جديد، وهذا سيفتح باباً للناس، فأي واحد لم تعجبه الخطبة، أو الإمام ما أعجبه فسيقوم ويقول: والله أنا أحدثت، أو يترك المسجد مرة واحدة، وكذلك قولهم: أقل عدد تجزئ به الجمعة اثنا عشر فلو كان فيهم شخص مسافر فلا تجزئ، ولو كان فيهم شخص مملوك لا تجزئ، ولو كانوا إحدى عشر رجلاً ومعهم صبي لا تجزئ، فأقل عدد تجزئ به الجمعة عندهم اثنا عشر رجلاً، ولكن تقدم معنا الكلام بأن الشريعة ما جعلت للجمعة حداً محدوداً، وإنما هو العدد الذي يصح أن يطلق عليهم اسم جمع.(38/7)
أن يكون المسجد مبنياً بناءً معتاداً لأهل البلد
الشرط الخامس: الجامع المبني بناءً معتاداً لأهل البلد فأعلى، ولا يضر أن يكون خطة، أي: حصيراً، والآن قد تجد الحصير في بناء بعض المساجد فلا مانع، لكن لو كان أهل البلد بناؤهم من الحصير والمسجد مسلح فلا مانع إذا كان أعلى من بناء أهل البلد يعني: أرفع، أو كانت بيوت أهل البلد مثلاً من الطين فبني عندهم مسجد من الحجارة فلا مانع من ذلك.
واشتراط الجامع أيها الإخوة الكرام! يخالف الدليل، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقل من قباء إلى المدينة يوم الجمعة، فأدركته الصلاة في بطن الوادي (وادي رانونا) فجمع بأصحابه فيه، وكان قد وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة يوم الإثنين ضحى كما قال سيدنا أنس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الإثنين ضحىً فأنار منها كل شيء، وتوفي يوم الإثنين ضحى فأظلم فيها كل شيء، وما إن نفضنا أيدينا من تربته حتى أنكرنا قلوبنا.
فلما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام نزل على إخوانه من بني النجار في قباء، فمكث عندهم بقية يوم الإثنين، ويوم الثلاثاء والأربعاء والخميس، ولما كان يوم الجمعة ارتحل إلى المدينة، ثم لما كان في الطريق من قباء إلى المدينة دخل وقت الجمعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه الجمعة في (وادي رانونا) بين قباء والمدينة، وما كان هناك جامع، والآن بني المسجد الذي يسمى مسجد الجمعة، فمن أكرمه الله بزيارة المدينة فسوف يرى ذلك المسجد في الموضع الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمي مسجد الجمعة.
إذاً: فهذا الشرط أيها الناس! يمكن أن يتصور ذهنياً وليس مذهبياً، فإذا سئلت عن مذهب مالك فقل: شروط الجمعة في مذهب مالك كذا وكذا وكذا ومنها: الجامع.
لكن اعلم أيها الأخ الكريم! بأنه لو كنا أهل بلد مستوطنين فوجبت علينا الجمعة وليس عندنا مسجد فالواجب علينا أن نصلي الجمعة ولو كان في ميدان، مثلما كان يصنع النبي عليه الصلاة والسلام في يومي الفطر والأضحى، ومثلما كان يصنع في الاستسقاء.(38/8)
الاستيطان
الشرط السادس: الاستيطان بدور، جمع دار، ومثله أخفاف: جمع خف، وهو القصب أو الحصير، والمقصود من هذا الكلام: أن أهل البادية العرب الرحل لا تجب عليهم الجمعة، فهؤلاء الذين يسكنون ههنا ثم بعد شهور لا أثر لهم ولا عين فلا تجب عليهم الجمعة، والاستيطان بدور أي: ما بني بحجر أو أسمنت أو خشب ونحو ذلك، فالمهم أن يكون من المباني.
أما أهل الخيام وهم أهل البادية فلا جمعة عليهم؛ لأن البدو الذين كانوا حول المدينة لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجمعة مع أنهم كانوا مستوطنين في أماكنهم؛ لكونها ليست ببناء، فوجود جماعة تستقر بهم القرية، وكونهم ساكنين في مكان، وعندهم سوق، فهذا دليل على أن هؤلاء القوم مستقرون في هذا المكان، فهؤلاء الذين تجب عليهم الجمعة.
والعدد عند المالكية الذي تنعقد به الجمعة هل يستثنى منه السلطان؟ ثم الشرط الذي قبله نحن قلنا: شرط الجمعة الجماعة فهل يستثنى منهم السلطان؟
الجواب
لا، لابد من وجود الجماعة، ولابد من وجود العدد، ولابد من الخطبتين، فالقول أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في وادي رانونا؛ لكونه سلطاناً فلا يستقيم الاستدلال بمثل هذا.
إذاً: أيها الإخوان! عندنا ستة شروط عند المالكية.
أولها: الجماعة.
ثانيها: الإمام الحر المقيم، الذي تجب عليه الجمعة، وتقدم معنا أن الصحيح والعلم عند الله تعالى أنه يصح أن يصلي بنا الجمعة الإمام إذا كان عبداً، أو كان مسافراً.
الثالث: الخطبتان، وقد يقول شخص: ما دليل اشتراط الخطبتين؟ نقول: التواتر القطعي، قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، والمراد: الخطبة؛ لأن السعي واجب ووسيلة، فإذا وجبت الوسيلة وجبت الغاية والاستدلال هذا واضح؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى ما قال: فاخطبوا، وإنما قال: (فاسعوا) ونحن نسعى للخطبة لذكر الله، فإذا كان السعي واجباً وهو وسيلة فالغاية واجبة.
كذلك التواتر القطعي أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على الجمعة صيفاً وشتاء، شدة ورخاء.
فإذا قلنا بهذا، فما هو مثل الشدة؟
و
الجواب
أنه صلى بالناس الجمعة في تبوك، ومكث تسعة عشر يوماً أليس كذلك؟ وهذه حقيقة لا أستطيع أن أجزم بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في تبوك مسافراً! لكن عندنا غزوة أحد، فقد كانت في يوم السبت، والرسول صلى الله عليه وسلم صلى بالناس الجمعة، واستشارهم عن وضع خطة؛ لأنه جاءه خطاب من العباس عمه رضي الله عنه بأن أهل مكة قد خرجوا يريدون المدينة، فالرسول عليه الصلاة والسلام بعد الجمعة استشار الناس: ماذا نصنع، هل نبقى في المدينة أو نخرج؟ فكل واحد قال رأيه من الأحداث والشيوخ، وبعد ذلك أتي بجنازة عليه الصلاة والسلام فصلى عليها، ثم دخل فلبس لأمته، أي: عدة الحرب، وقال تلك الكلمة التي صارت مثلاً: (ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه).
فالتواتر القطعي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال: نحن في حالة طوارئ نصلي بدون خطبة، لا، وإنما خطب صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم الخطبتين، ولو لم تجب الخطبة لكانت الجمعة كغيرها من الصلوات كصلاة الصبح، أو العصر.
هل تبطل الخطبتان إذا أحدث الإمام؟! وبعض الناس يقولون: إذا أحدث الإمام في الخطبة أو تذكر أنه ما كان متوضئاً فإنه يواصل، ولكن المشكلة تبقى في الصلاة بعد ذلك، والمالكية يرون أنه لابد أن يخطب واحد فيما يصلي الثاني، وعند غيرهم يجوز، ولعله الراجح؛ لأنه لا دليل يدل على المنع، وبعضهم قال: تبطل الخطبتان بما يناسبهما كقذف أو لعن فمثلاً: الإمام وهو يخطب -وهذا غير متصور- يقول: وإن فلاناً قد زنا، أو إن فلانة زانية، أو يلعن من لا يستحق اللعن، كأن رأى شخصاً يتخطى الرقاب فقال: اجلس لعنك الله، فالخطبة باطلة! نعم؛ لأن مقتضى الخطبة الوصية بتقوى الله، وهذا الذي يخطب يأتي بما يغضب الله، فإذا لعن من لا يستحق اللعن فخطبته تبطل ويجب عليه أن يستأنف.
لكن لو لعن من يستحق في الخطبة فقال: لعن الله إبليس، أو قال: فرعون لعنه الله، فلا حرج في ذلك إن شاء الله.(38/9)
سنن الجمعة(38/10)
الغسل
أولها: الغسل، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل) وهذا فعل أمر بدخول لام الأمر عليه، لكن ما الذي صرف الأمر من الوجوب إلى السنية أو الاستحباب؟ الذي صرفه أن عمر رضي الله عنه كان على المنبر فدخل عثمان، فـ عمر رضي الله عنه قطع خطبته ولام عثمان؛ لأنه جاء متأخراً، ولا يوجد مانع أن الإمام يتكلم مع المأمومين في الجمعة، لكن الممنوع أن يتكلم المأموم مع مأموم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء الرجل يتخطى رقاب الناس، قال: (يا هذا! اجلس فقد آذيت وآنيت) آنيت يعني: جئت متأخراً، فـ عمر لام عثمان؛ لأنه جاء متأخراً، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين! والله ما إن سمعت النداء حتى توضأت وأتيت، فقال له عمر: توضأت ولم تغتسل؟ يعني: هذه مصيبة ثانية، جاء متأخراً وأيضاً لم يغتسل، ما وجه الدلالة؟ أنه لو كان الغسل واجباً لقال عمر لـ عثمان ارجع فاغتسل.
وأوضح من هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل)، فدل هذا على أن الغسل ليس بواجب.(38/11)
التجمل
السنة الثانية: تحسين الهيئة في استعمال خصال الفطرة من قص شارب، ونتف إبط، وحلق عانة، وسواك، ولبس الثياب البيض، فيستحب لك أيها المسلم أن تحسن هيأتك في يوم الجمعة؛ لعموم قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو اتخذ أحدكم ثوبين لجمعته سوى ثوب مهنته).
ولحديث ابن عباس قال عليه الصلاة والسلام: (البسوا من ثيابكم البيض، وكفنوا فيهن موتاكم)، فهذا مما يحمد لأهل هذه البلاد؛ لأنهم في يوم الجمعة قل أن تجد بينهم متبنطلاً.
لكن أغلب الناس يحرص يوم الجمعة على أن يلبس الثياب البيض ويتعمم، وأن يرتدي أحسن ما عنده، وهذا شيء طيب، فهو إحياء لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أيها الأخ الكريم! عود نفسك أن تقص شاربك، وأن تقلم أظافرك، وأن تحلق إبطك وعانتك، وأن تلبس الثياب البيض الحسنة، وتتطيب وما إلى ذلك.(38/12)
التطيب
السنة الثالثة: التطيب؛ لحديث سلمان عليه من الله الرضوان أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى).
فإذا كان يوم الجمعة فاحرص على أن تتطيب.(38/13)
السعي على الأرجل
السنة الرابعة: السعي على الأرجل لمن قدر على ذلك، ولا يتصور أن أكون ساكناً في هذا المكان وأمشي أصلي في مسجد أبي بكر الصديق مع الشيخ علاء الدين، لكن من قدر على ذلك فبها ونعمت؛ لأن بعض الصحابة من الأنصار من بني سلمة كانت ديارهم بعيدة عن المسجد، فأرادوا أن يرحلوا ويأتوا قريباً من مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم).
قوله: (ديارَكم) منصوبة على الإغراء، يغريهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك شيء منصوب على التحذير كقوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13]، فهي منصوبة على التحذير، تقديره: احذروا ناقة الله، وهنا (ديارَكم) منصوبة على الإغراء بمعنى: الزموا دياركم، يغريهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يلزموا ديارهم من أجل أن تكتب لهم هذه الخطوات.
قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] قال مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي تلميذ عبد الله بن عباس رضوان الله عليهم: أي: خطاهم.
فتكتب لك وتجدها يوم القيامة حسنات كأمثال الجبال.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من غسل واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فأنصت، كان له بكل خطوة يخطوها أجر صيام سنة وقيامها، وذلك على الله يسير).
وبعض الناس يجيء يوم الجمعة في الخطبة الثانية ويبدأ يتخطى الرقاب، وهكذا هذا الذي يفرق بين اثنين، وبعض الناس يبلغ بهم سوء الأدب والعياذ بالله من الخذلان -إلى أن يأتي يوم الجمعة فيقف ينظر إلى الإمام أول شيء، ثم ينظر إلى من يليه فيطلب التفسح ثم يلتفت إلى الذي في شماله ويقول له بيده: أفسح، وهذا لا ينبغي؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن تخطي الرقاب يوم الجمعة من الإيذاء.
فقد جاء حديث وإن كان في سنده مقال: (من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة فقد اتخذ جسراً إلى جهنم).
وقال العلماء: إن التخطي يجوز في حالتين: الحالة الأولى: إذا كان المتخطي من أولي النهى والأحلام.
الحالة الثانية: إذا كانت الصفوف الأولى فارغة، وهذا يحصل كثيراً يوم الجمعة؛ لأن بعض الناس عندما يأتي أول شيء يفعله يفتش عن عمود فإذا لم يجد عموداً يتكئ في آخر المسجد، وبعضهم يحجز الأعمدة فيضطر الباقون إلى البحث عن أعمدة في الخلف.
والتخطي لا يجوز سواء قبل صعود الإمام أو بعده؛ لأن العلة موجودة وهي الأذى، فكما أنك تؤذيني بعد صعود الإمام فإنك تؤذيني قبل صعوده.(38/14)
التبكير
السنة الخامسة: التبكير إليها، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن) أي: عنده قرون والبدنة: هي الناقة، وسميت بدنة؛ لأنها تبدن أي: سمينة، (ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر).
فإن قيل: فما هي هذه الساعات الخمس؟! ف
الجواب
قال المالكية: هي خمس لحظات لطيفة من بعد الزوال إلى صعود الإمام المنبر.
وقال الجمهور: هي خمس ساعات من طلوع الفجر إلى صعود الإمام المنبر.
فالمالكية رحمهم الله يقولون: ليس المراد بالساعة الساعة العرفية التي هي ستون دقيقة، وإنما المقصود بهذه الساعات خمس لحظات، والعرب أصلاً لم تكن عندهم ساعات، وإنما كانوا يقدرون، فمثلاً يقولون: قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، يعنون بالساعة مدة زمنية معلومة عندهم، والمالكية رحمهم الله يقولون: الخمس ساعات هذه من بعد الزوال إلى صعود الإمام المنبر، فمثلاً: في أيامنا هذه زوال الشمس في الساعة الثانية عشرة وخمس وثلاثين دقيقة، والإمام سيصعد المنبر في الساعة الواحدة مثلاً، أو في الساعة الواحدة والنصف، أو في الثانية فيقولون: هذه الخمس الساعات التي فيها: البدنة، والبقرة، والكبش، والدجاجة، والبيضة، تقسم على هذه الفترة من زوال الشمس إلى صعود الإمام المنبر، لكن يشكل على هذا -أيها الإخوان- بأن في أكثر بلاد الله ومنها الحرمان أنه بعد زوال الشمس يصعد الإمام، ونحن عندنا هنا فوضى في المساجد، ففي المسجد الفلاني لا يصلي الإمام مبكراً، فيصعد الساعة الواحدة ويخطب ما شاء الله إلى الساعة الثانية والنصف، فهذه فوضى، وعندهم علة عليلة يقول لك: لأجل أن يسمح للذي لا يدرك الجمعة هنا أن يدركها في المسجد الآخر، ولا ينبغي أن نعود الناس على أن يأخذوا راحتهم، فمن المفروض أن نعود الناس على أن الجمعة في وقت واحد، فمن لم يدرك هنا لم يدرك في غيره، أما أن نقول للناس: ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوم فهذا من الخطأ العظيم.
فأقول: إن في بعض بلاد الله أو في أكثر بلاد الله مثلاً: يؤذن الظهر في الساعة الثانية عشرة وخمسة وثلاثين دقيقة، ثم بعد الأذان مباشرة يصعد الإمام، فماذا سيفعل المالكية في هذه الحالة إذا أرادوا أن يقسموا هذه الساعات الخمس على الفترة ما بعد الزوال إلى طلوع الإمام المنبر؟! الجمهور قالوا: إنها خمس ساعات تبدأ من طلوع الفجر، فمن راح في الساعة الأولى فإنه يفضل على من راح في الساعة الثانية كفضل صاحب البدنة على صاحب البقرة، فمثلاً: الفجر يطلع في الخامسة والنصف، والزوال أي: صعود الإمام المنبر في الواحدة، فهذه الفترة من الخامسة والنصف إلى الواحدة نقسمها على خمس فيتبين لنا وقت الساعة الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، وهذا يختلف باختلاف الصيف والشتاء على طول النهار وقصره؛ لأنه في الصيف مثلاً ربما يكون طلوع الفجر في الرابعة والنصف، وفي الشتاء يكون طلوع الفجر قريباً من السادسة، فيختلف باختلاف الصيف والشتاء بقصر النهار وطوله، والغزالي رحمه الله تجافى كما قال الشوكاني فقال: الساعة الأولى من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
والساعة الثانية: من طلوع الشمس إلى ارتفاعها.
والثالثة: من ارتفاعها إلى انبساطها.
والرابعة: من انبساطها إلى أن ترمض الفصال.
والخامسة: من رمض الفصال إلى الزوال، وليس عنده دليل على هذا التقسيم، خاصة أنه تقسيم غير عادل، يعني: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ساعة تقريباً أو تزيد قليلاً.
ومن طلوع الشمس إلى ارتفاعها عشر دقائق أو ربع ساعة.
ثم من ارتفاع الشمس إلى انبساطها أيضاً الوقت لا ينضبط، وكما قلت لكم: فـ الغزالي رحمه الله ليس عنده دليل على هذا التقسيم.
أيها الإخوان! الخلاصة: إنه مطلوب منا يوم الجمعة أن نبكر اللهم إلا في حق الإمام، فالسنة في حقه أن يخرج من بيته إلى المنبر مباشرة؛ فهكذا كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم.(38/15)
استقبال الخطيب بالوجه
السنة السادسة: استقبال الناس للخطيب، والأصل في ذلك: عمل أهل المدينة، قال مالك رحمه الله: السنة عندنا أن يستقبل الناس الإمام يوم الجمعة إذا أراد أن يخطب، حتى من كان منهم يلي القبلة وغيرها، وهل الناس ملتزمون بهذا؟! لا تجدهم ملتزمين، فتجد بعض الناس يوم الجمعة إذا لم يجد عموداً فإنه يستلقي على الجدران ويمدد رجليه ولا يستقبل الإمام بوجهه، وهذا خلاف السنة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (ودنا من الإمام وأنصت) فكثير من الناس يخل بهذا.(38/16)
تقصير الخطبتين
السنة السابعة: تقصير الخطبتين لحديث أبي وائل رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه؛ فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، وإن من البيان لسحراً)، وليسمع هذا الكلام من يخطبون الناس يوم الجمعة، وليحاول قدر الإمكان أن يقصر الخطبة بما لا يشق على الناس، فلا يقصر التقصير المخل؛ لأن بعض الأئمة يقصر فيقوم الناس يثنون عليه؛ فيعجبه هذا الكلام حتى إنه حكي لي عن بعض الأئمة بأنه يجعل الخطبة مع الصلاة كلها في سبع دقائق.(38/17)
رفع الخطيب صوته
السنة الثامنة: رفع الصوت بها، (لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته).(38/18)
بدء الخطبة بالحمد والثناء والصلاة على النبي
السنة التاسعة: بدؤها بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد مضى معنا بأن المالكية لا يجعلون هذا ركناً، بينما يجعل غيرهم للخطبة أركاناً خمسة، والمالكية يقولون: يستحب أن يبدأ الخطبة بالثناء على الله والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم.(38/19)
قراءة القرآن فيها واشتمالها على الوعظ
السنة العاشرة: قراءة القرآن فيها واشتمالها على الوعظ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن في خطبته وكان يقرأ سورة (ق) كما ثبت من حديث أبي واقد الليثي، وكما ثبت من حديث أم حارثة بنت هشام رضي الله عنها قالت: (ما أخذت سورة (ق) إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها على المنبر يوم الجمعة).(38/20)
قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى والمنافقون في الثانية
السنة الحادية عشرة: قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى، والمنافقون في الثانية، فإذا كانت هاتان السورتان طويلتان على الناس فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يقرأ يوم الجمعة: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]).(38/21)
بعض السنن المتعلقة بيوم الجمعة التي لم يذكرها المالكية
أيها الإخوة! هذا ما يتعلق بالجمعة من شروط وسنن، وهناك سنن أخرى لم يذكرها المالكية رحمة الله عليهم، ولعلنا نذكر هذه السنن فمنها: قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة، فمن قرأ سورة الكهف كانت له نوراً إلى الجمعة التي تليها، وكذلك: الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه في الحديث أنه قال: (إن من خير أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا من الصلاة علي فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).
وكذلك: الإكثار من الدعاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها) عليه الصلاة والسلام.
كذلك: التنفل قبل الجمعة بغير عدد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وصلى ما كتب له أن يصلي) يعني: جئت قبل أن يصعد الإمام المنبر فصليت ركعتين، أو أربعاً، ست ركعات، ثمان ركعات، عشر ركعات، عشرين ركعة، فكله أجر.
كذلك: فقد حرم الله علينا البيع بعد النداء، وأوجب علينا السعي، ثم قال سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] لكن لو قال شخص: ما أريد أن أنتشر، أريد أن أبقى في المسجد فهو حر، ولا نستطيع أن نقول بأنه خالف السنة، والحقيقة أن بعضهم يقول: إن الأمر هنا للإباحة؛ لأن الأمر بعد الحظر يكون للإباحة كما في قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] فهذا للإباحة وليس للوجوب.(38/22)
الأسئلة(38/23)
حكم صلاة المنفرد خلف الصف
السؤال
ما حكم صلاة المصلي خلف الصف وحده؟
الجواب
إذا لم يتعمد ذلك بأن جاء فوجد الصف قد اكتمل فصلاته صحيحة إن شاء الله.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(38/24)
فقه الصلاة_أخطاء يقع فيها بعض المصلين [1]
الصلاة بالنسبة لبقية العبادات كالقلب من الجسد، فإذا أصلح العبد صلاته وأتمها أصلح الله بقية أعماله.
فينبغي على المسلم أن يتعرف على تلك الأخطاء التي تقع من بعض المصلين؛ حتى يتجنبها، ولتكون صلاته تامة لا يعتريها أي مبطل لها.(39/1)
أخطاء بعض المصلين أثناء الوضوء
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
أما بعد.
فقد انتهينا مما يتعلق بالمبطلات والمكروهات، وبأحكام الجمعة والجماعة، وأحكام صلاة السفر وصلاة العيدين.
وسوف نذكر هنا بعض أخطاء المصلين، وليس معنى ذلك حصر جميع الأخطاء، وإنما هو التمثيل والتنبيه على بعضها.
وأخطاء المصلين تبدأ من الطهارة، فهناك أخطاء في الطهارة يقع فيها الناس، فبعضهم لا يحسن الوضوء، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ويل للأعقاب من النار)، فبعض الناس إذا توضأ فإنه أول ما يبدأ يتلفظ بالنية، ويقول: نويت أن أتوضأ، ثم بعد ذلك يستغرق وضوءه من الزمان شيئاً كبيراً، فيدلك يديه دلكاً ويفركها فركاً، ويدعو عند غسل كل عضو بدعاء اخترعه من عنده، فإذا غسل وجهه قال: اللهم بيض وجهي يوم تبيض الوجوه، وإذا غسل يده قال: اللهم أعطني كتابي بيميني، وإذا مسح رأسه قال: اللهم حرم شعري على النار، وإذا غسل رجله قال: اللهم سدد قدمي على الصراط، وبعض الناس قد سئل لم لا تصلي؟ قال: لأني لست حافظاً لأدعية الوضوء.
إن الوضوء ليس له أدعية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بدأ بالوضوء سم الله عز وجل قائلاً: باسم الله، ولا يقول: نويت أن أتوضأ، وإذا اختتم رفع طرفه إلى السماء وقال: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)، فهذه هي سنته عليه الصلاة والسلام، لكن قد فرعوا على ذلك تفريعات، فبعضهم إذا توضأ يصب الماء على جبهته حتى يتساقط إلى أسفل وجهه، وبعضهم إذا توضأ لطم وجهه، والبعض ربما استهلك من الماء دلوين أو ثلاثة، وبعضهم إذا توضأ زاد على الثلاث، إلى غير ذلك من الأخطاء العظيمة التي يقع فيها الناس.
وداء العصر هو الوسواس، فأكثر الناس يشكوا منه، والسبب قلة العلم، فلو تعلم الإنسان وتفقه فإنه لن يعاني من الوسواس.(39/2)
أخطاء بعض المصلين المتعلقة بالثياب وستر العورة
أول هذه الأخطاء: الأخطاء التي تتعلق بالثياب وستر العورة.
إن ستر العورة شرط في صحة الصلاة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض بغير خمار)، هذا بالنسبة للنساء، أما الآية فإنها عامة للرجال والنساء، وفيها دلالة على أنه لا بد من ستر العورة في الصلاة.(39/3)
حكم الصلاة في الثياب الرقيقة الشفافة
ومن أخطاء بعض الناس في هذا الباب ما يأتي: أولها: الصلاة في الثياب الرقيقة الشفافة التي تكشف لون البشرة، ومثاله من الواقع: ما يوجد كثيراً في القرى من أن بعض الناس يصلي لابساً ثوباً شفافاً وتحته السروال القصير، الذي يكشف عن شيء من الفخذ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الفخذ عورة).
وإن كان المالكية رحمة الله عليهم يقسمون العورة إلى: عورة مغلظة، وعورة مخففة.
لكنها عند جمهور العلماء عورة يجب سترها.
فتجد هذا السروال في الغالب نازلاً عن السرة ومرتفعاً عن الركبة، وفي بعض البلاد كبلاد الحرمين، تجد بعض الناس يصلي بهذا السروال القصير وثوبه رقيق شفاف.
وقديماً كان سلفنا يقولون: إذا رقت ثياب المرء رق دينه، فإذا أراد الإنسان أن يصلي فإما أن يلبس تحت ثيابه سروالاً طويلاً، وإما أن يلبس ثياباً صفيقة لا يظهر من تحتها لون البشرة.(39/4)
حكم صلاة المرأة وجزء من بدنها مكشوف
ثانيها: دخول المرأة في الصلاة وجزء من بدنها مكشوف، كشعرها، أو جزء من ساعدها، أو ساقها، فقد تخرج المرأة من بيتها إلى المسجد وتتعب في الذهاب والإياب، ولكن ليس لها أجر في ذلك؛ لأنها أخلت بشرط الصحة، وهو ستر العورة، فهي بمنزلة من صلت بغير طهارة، ولو أن إنساناً جاء إلى المسجد ليصلي ولم يتوضأ، فلا شك أن صلاته باطلة.
كذلك من دخل في الصلاة وقد كشف عن عورته، مع القدرة على سترها فصلاته باطلة.
إن كثيراً من النساء يسترن الجزء الأعلى من البدن، بينما الجزء الأسفل مكشوف، وبعضهن تلبس الفستان إلى نصف الساق وفوقه الثوب الشفاف، فيكون الساق والقدم مكشوفين، وبعض النساء تظن أن المطلوب منها في الصلاة ستر الشعر فقط، فتربط خمارها، وتترك العنق وجزء من الصدر مكشوفاً، وأحياناً شيء من الساعدين، كما تكشف أسافل الساقين والقدمين، وهذا خلل في فهم كثير من النساء اللاتي لا يعرفن حدود العورة التي أمرنا بسترها في الصلاة.
إن المرأة إذا دخلت في الصلاة لا يجوز أن يبدو منها سوى وجهها وكفيها فقط، أما ما سوى ذلك فيجب ستره، وهذا الحكم يجب أن تعمله نساءنا، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59].(39/5)
حكم صلاة المرأة وقدماها مكشوفتان
ثالثها: صلاة المرأة وقدماها مكشوفتان، والواجب عليها ستر قدميها، والدليل على ذلك أن أم سلمة رضي الله عنها سئلت عن الثياب الذي تصلي فيه المرأة؟ فقالت: بالخمار والدرع السابغ الذي يغيب ظهوره قدميها.
والسابغ هو: الساتر.(39/6)
ترجمة أم سلمة
أم سلمة هي السيدة: هند بنت أبي أمية بن المغيرة، وكان أبوها يسمى زاد الركب؛ لأنه كان كريماً، فإذا سافر معه أناس فلا يهتمون بنفقة ولا زاد؛ لأنه ينفق عليهم.
وكان زوجها أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، هاجرت معه إلى الحبشة، ثم رجعا إلى مكة، ومن مكة هاجرا إلى المدينة، وقصة هجرتهم معروفة، وهي أنه لما خرج أبو سلمة ومعه أم سلمة وابنهما سلمة يريدون الهجرة إلى المدينة، خرج أهل أم سلمة فقالوا لـ أبي سلمة: قد غلبتنا على نفسك لكنك لن تأخذ ابنتنا معك، وأخذوها منه، فغضب أهل أبي سلمة، وقالوا: إن غلبتمونا على بنتكم فلا نترك لكم ولدنا سلمة، فما زالوا يتجاذبونه حتى خلعت ذراعه، وبقي سلمة عند أهل أبي سلمة، وذهب أبو سلمة المدينة وأم سلمة في مكة، ففقدت زوجها وولدها، فكانت تخرج رضي الله عنها كل يوم إلى الأبطح، وتبكي إلى أن تغرب الشمس، ثم تعود إلى بيتها.
وبعد سنة كاملة رقوا لها وعطفوا عليها، وقالوا لها: إن شئت فالحقي بزوجك، فخرجت رضي الله عنها، فلقيها رجل كان كافراً في ذلك الوقت، وهو عثمان بن طلحة، فقال لها: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ قالت: أريد اللحاق بزوجي، قال لها: والله مالك مترك - أي: لا يمكن أن أتركك تمشي وحدك- فصحبها، تقول رضي الله عنها: والله ما صحبت رجلاً لا يصلي الخمس خيراً منه، -وهذا باستثناء المسلمين، وهنا تنبيه لبعض الناس الآن الذين يقولون: هؤلاء الخواجات طيبون، لكن ليسوا كالمسلمين- فقد كان يقود بعيري، فإذا أردنا أن ننزل فإنه ينيخ البعير، ثم يحول وجهه حتى أنزل، ثم يأخذ البعير فيعقله -أي: يربطه- ثم يضطجع بعيداً عني، فإذا أراد الرحيل أذن لي من مكانه، فتستوي على بعيرها، فيأتي ويقودها، وهكذا إلى أن رأى بيوت المدينة، فضرب وجه البعير وقال: هذه القرية التي فيها زوجك ورجع، فجزاه الله عز وجل بهذه الفعلة وأكرمه بالإسلام.
ولما توفي زوجها هو أبو سلمة قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، فأخلف الله لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما خطبها قالت: يا رسول الله! وددت ولكنه يمنعني أني امرأة غيرى، وأني امرأة مصبية، وقد أصابتني السن- فذكرت ثلاثة أسباب: شديدة الغيرة، وكثيرة الأولاد، وكبيرة في السن- فقال صلى الله عليه وسلم: (أما السن فقد أصابني الذي أصابك - أي كلاهما في السن سواء- وأما الغيرة فسأدعو الله ليذهبها عنك، وأما صبيانك فأضمهم إلي فأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم).
فتزوجها صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث أن ولد أم سلمة هو عمر بن أبي سلمة -ربيب النبي صلى الله عليه وسلم- كان يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت يده تطيش في الصحفة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك وكل مما يليك).(39/7)
الدليل على وجوب ستر المرأة لقدميها في الصلاة وخارجها
جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ -أي: إذا كان ما تحت الكعبين لا يجوز- قال صلى الله عليه وسلم: يرخين شبراً، فقالت أم سلمة: إذاً تنكشف أقدامهن، قال: فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه).
قال البيهقي: ففي هذا دليل على وجوب ستر المرأة قدميها.
وموضع الشاهد هو قولها: إذاً تنكشف أقدامهن، ووجه الدلالة هو أنها أنكرت أن تنكشف أقدام النساء، والنبي صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك الإنكار، وجعل للنساء حكماً خاصاً.
وقد أنكر عليها عندما جاءت أم سليم تسأله: (يا رسول الله! هل على المرأة غسل إذا هي احتلمت؟ فقالت أم سلمة: وهل تحتلم المرأة؟! أي: أنها أنكرت ذلك، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة، وقال: تربت يمينك فمم يكون الشبه)، أي: إذا لم تحتلم المرأة وليس عندها ماء، فلماذا الولد أحياناً يشبه أمه؟ ففي الحديث السابق لو كان كلام أم سلمة في غير محلة، وأن المرأة يجوز لها أن تكشف قدميها لبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنكر عليها إنكارها.(39/8)
حكم تشمير الثياب في الصلاة
رابعا: تشمير الثياب، وهو من مكروهات الصلاة، وهذا في الرجال كثير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة، ولا أكف شعراً ولا ثوباً)، وهذا قد سبق ذكره في المكروهات.
قال النووي: اتفق العلماء على النهي عن صلاة الرجل وثوبه مشمر أو كمه أو نحوه.
فينبغي على المسلم ألا يدخل في الصلاة وهو مشمر، كحال الجزارين.
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كف الثوب والشعر، ويشمل ذلك الأزر والبناطيل والسراويل، ولو شمر المسلم فصلاته صحيحة، لكنه وقع في مكروه.
وسواء دخل الإنسان في الصلاة وهو مشمر، أو شمر في أثناء الصلاة، فهو منهي عنه.(39/9)
حكم صلاة الرجل مكشوف العاتقين
خامسها: صلاة الرجل مكشوف العاتقين، والعاتق: ما بين المنكب والعنق.
ويكثر كشف العاتقين في مناسك الحج والعمرة، فبعض الناس يصلي وقد كشف عن كتفه اليمنى، وهذا جهل كثير منهم بالأحكام، وذلك أن سنة الاضطباع إنما -وهي أن يجعل الإنسان طرف ردائه الأيمن من تحت كتفه ويرمي به على كتفه الأيسر- تكون في طواف القدوم فقط، أما في السعي، أو في عرفة، أو في منى، فالإنسان يكون مستور العاتقين، بل حتى في طواف القدوم لو أقيمت الصلاة فالمطلوب ستر العاتقين؛ لأن صلاة الإنسان مكشوف العاتقين فيها كراهة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)، وهذا يصنعه كثير من الناس في فصل الصيف، حين يصلون بالفنيلة ذات الحبل الذي لا يغطي من العاتق إلا شيئاً قليلاً، والصلاة مع ذلك صحيحة؛ لأن العورة مستورة، ولكن وقع في الكراهة.(39/10)
ترك الزينة عند الخروج إلى المسجد
سادسها: ترك أخذ الزينة عند الخروج إلى المسجد، فبعض الناس يأتي إلى المسجد بثياب العمل، أوبثياب النوم، كالعرابي والسروال، أو يأتي بهذه الجلابيب الجديدة المغربية الواسعة التي ينام فيها بعض الناس، وقد أمرنا الله بأن نتزين فقال {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] وقال عبد الله بن عمر لـ نافع عندما رآه يخرج إلى المسجد في هيئة رثة: لو دعاك أمير المؤمنين ماذا كنت صانعاً؟ قال آخذ حلتي وألبس عمامتي، قال: فالله أحق أن يتجمل له.(39/11)
ذكر مخالفات أخرى
سابعها: ومن المخالفات في هذا الباب: صلاة البعض بثياب كثيرة الثقوب، وأشنع من ذلك أن يصلي في ثياب فيها صلبان.
ثامنها: ومن المخالفات كذلك: الصلاة في الثياب الشفافة أو الضيفة، فإذا كانت صفيقة وواسعة فلا حرج فيها.
وأما الصلاة بالبنطلون فجائز إذا كان واسعاً لا ترى من خلاله العورة.
تاسعها: ومن المخالفات كذلك: الإسبال، وصلاة البعض لابساً فنيلة قصيرة، فتبدو منها السرة، فتكون الصلاة على تلك الحالة معرضه للبطلان، ومن صلى كاشفاً شيئاً من عورته فصلاته باطلة.
وأما الصلاة بدون عمامة فليس فيها مخالفة، ولكن تغطية الرأس في الصلاة من كمال الزينة.(39/12)
أخطاء بعض المصلين المتعلقة بأماكن الصلاة(39/13)
الصلاة إلى الأماكن التي فيها صور أو نقوش
النوع الثاني وهو: أخطاؤهم في أماكن صلاتهم.
الخطأ الأول: الصلاة إلى الأماكن التي فيها صور، أو على سجادة فيها صور ونقوش، فعن عائشة رضي الله عنه قالت: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في خميصة ذات أعلام، فلما قضى صلاته قال: اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية؛ فإنها ألهتني عن صلاتي آنفاً)، قال الصنعاني رحمه الله: وفي الحديث دليل على كراهة ما يشغل عن الصلاة من النقوش ونحوها مما يشغل القلب.
فالإنسان مطلوب منه أن يخشع في صلاته، ومن الخشوع ألا يكون أمامه ما يشغله عنها، والنقوش والزخارف موجودة حتى في المساجد، بل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجدار المسجد من ناحية القبلة كله كتابات ونقوش، وآيات وأحاديث، وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، كنبي الرحمة، ونبي الملحمة، والحاشر، والمقفى، وغير ذلك مهما حاول المصلي أن يغض بصره فإنه يتشاغل بهذه النقوش؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زخرفة المساجد فقال: (لتزخرفن المساجد كما زخرفتها اليهود والنصارى)، فزخرفة المساجد -أيها الإخوان- مكروهة، والآن في بعض المساجد يكتب على جدرانها آيات، وتجد نقوشاً وغير ذلك مما يشغل الناس عن صلاتهم، فإذا أراد المسلم أن يصلي فليحرص على أن يصلي في مكان ليس فيه ما يشغله ويلهيه.
ومن القبح بمكان أن يصلي البعض والتلفاز مفتوح أمامه، يقول الله عز وجل:: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4]، فلا يتأتى أن يخشع وهو يسمع التلفاز، وفي حديث أنس: (كان قرام لـ عائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أميطيه عني؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي)، قال الشوكاني: في الحديث دليل على كراهة الصلاة بمكان فيه تصاوير، وعلى وجوب إزالة ما يشغل بال المصلي.
والحديث يدل أيضاً على أن الصلاة لا تفسد مع وجود الصور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قطعها وما عابها وما أعادها.(39/14)
الصلاة على القبور أو إليها
الخطأ الثاني: الصلاة على القبور وإليها، وهذه قد عمت بها البلوى؛ لأن كثيراً من المساجد قد ضمت قبراً أو أكثر، وليست هذه المصيبة عندنا فقط، بل حتى في بلاد الشام، وحتى في مصر قل أن تدخل مسجداً إلا وفيه قبر، بل بعض المساجد فيها وهو المسمى بجامع البنات، وسبب تسميته بهذا الاسم كما يذكر في تاريخه: أنه مدفون فيه الأمير فخر الدين عبد الغني وبناته السبع، وفي بعض المساجد تجد القبر بادياً وقد ستر بثياب خضر، وجعل على كل ركن عمامة، وترى الناس يطوفون به ونسأل الله العافية.
ومن المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لعن من يتخذون القبور مساجد، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد، ونهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على القبور وإلى القبور، ونهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في سبعة مواضع ومن بينها: المقبرة، ففي الحديث أنه نهى عن الصلاة في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق ومعاطن الإبل والحمام وفوق ظهر بيت الله.(39/15)
الرد على شبهة من يجوز إدخال القبر في المسجد محتجاً بوجود قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده
ومن الناس من يعترض ويقول: لو كان ذلك ممنوعاً فلم جعل قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده الشريف؟
و
الجواب
لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما توفاه الله ضحى يوم الإثنين لم يدفن إلا ليلة الأربعاء، يومين وليلة في مكانه لم يدفن؛ لأن الصحابة شغلوا بعدة أمور: أولاً: بالخلافة، ومن يكون الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن نصب الخليفة واجب.
ثانياً: أنهم شغلوا بكيفية غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لما له من أحكام خاصة، فهل يجرد من ثيابه كما تجرد الأموات، أم يغسل من فوق الثياب؟ ثالثاً: شغلوا في المكان المناسب الذي يدفن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من قال: ندفنه في البقيع، ومن قائل: ندفنه في مكة، ومن قائل: نذهب به إلى الشام، حتى جاء أبو بكر بالقول الفصل فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما قبض الله نبياً إلا ودفن حيث قبض).
وبعد ذلك، اختلفوا هل يلحدون له أم يشقون؟ وكان أبو طلحة الأنصاري يلحد، وكان أبو عبيدة بن الجراح يشق، والشق الذي نفعله الآن في وسط القبر يسمى: لحداً، وليس كذلك، وإنما هو شق، وأما اللحد فهو الذي يكون في جانب القبر، بحيث يدخل الميت في اللحد كما يدخل الدرج في المكتب، ثم ينصب اللبن نصباً.
فلما اختلف الصحابة هل يلحدون أو يشقون؟ قالوا: نرسل إلى أبي طلحة الأنصاري وأبي عبيدة بن الجراح فأيهما جاء أولاً فقد اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فجاء الذي يلحد، فصنعوا للنبي صلى الله عليه وسلم لحداً ووضعوه فيه، ووضعوا تحت رأسه الشريفة قطيفة، ونصبوا عليه اللبن نصباً، ثم أهالوا عليه التراب، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كله كان في حجرة عائشة، ولا يقول عاقل بأن حجرة عائشة كانت في المسجد، وإنما كانت بجوار المسجد من الناحية الشرقية، وبعد ذلك قام سيدنا عمر رضي الله عنه بتوسيع المسجد من الناحية الغربية، ثم جاء عثمان رضي الله عنه فوسعه من الناحية الشمالية، ثم استمر الحال هكذا إلى أن جاء عهد الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص، وكان ذلك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من ثمانين سنة، جاء فأمر بأن يوسع المسجد من الناحية الشرقية، وكانت الحجرات ملاصقة للمسجد من الناحية الشرقية، وإذا وسع المسجد لابد أن يدخل فيه الحجرات، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أمير المدينة، فجمع العلماء واستشارهم في هذا الأمر؛ لأن ذلك سيفضي إلى دخول القبر في المسجد، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فبعث عمر بهذا الكلام إلى الوليد، لكن الوليد أرسل إليه بأن ينفذ ما أمر به، فنفذ عمر بن عبد العزيز ما أمر به الوليد بن عبد الملك فخرج العلماء رحمة الله عليهم في ذلك اليوم من المدينة؛ مخافة أن يسخط الله عليهم بهذه الفعلة، فأدخل عمر الحجرات في المسجد، ولكنه احتياطاً -جعل حول القبر جداراً- حرف القبر عن القبلة بحيث لا يتأتى أن يستقبل الإنسان القبلة والقبر، فإما أن يستقبل القبلة أو القبر، ولا يستطيع الجمع بينهما، ولكن يبقى الذي فعله الوليد بن عبد الملك خطأ، غفر الله له، وهذا لا يقاس عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أحكامه خاصة، وقد دعا ربه فقال: اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد بعدي، ودعاؤه مستجاب، ولكن غيره صلى الله عليه وسلم لا يستطيع الجزم بأن قبره لن يكون وثناً يعبد بعده.
فإذا مات ميت فلا يجوز دفنه في المسجد، أو في البيت كما يصنع في بعض البلاد، وإنما الواجب رده إلى مقابر المسلمين.
ومن الناس من يقول: إن أبا بكر وعمر دفنا بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال لهما: (أنتما مني بمنزلة السمع والبصر)، وسمع الإنسان وبصره لا يفارقانه.
فالصلاة في المساجد التي فيها قبور أقل أحوالها الكراهة، فإذا كان بجوار المسلم مسجد فيه قبر وآخر ليس فيه قبر، فلا يصل في المسجد الذي ضم قبراً، ما دام وأنه في سور المسجد، وسواء كان في أمام المصلين، أو خلفهم، أو عن يمينهم، أو عن شمالهم، لكن لا شك بأن القبر إذا كان في اتجاه القبلة فالأمر أعظم، كما في مسجد في أم درمان فالقبر ملتصق بالمحراب.
وفي مصر القبر المزعوم للحسين، ف الحسين -كما يزعمون- عنده أربعة قبور: قبر في عسقلان في فلسطين، وقبر في كربلاء في العراق، وقبر في مصر، وقبر في البقيع، وأصحها الذي في البقيع؛ لأنه رضي الله عنه باتفاق المؤرخين فقد جسده في كربلاء، وما بقي إلا الرأس، فغسل الرأس وحنط وطيب ودفع إلى زينب أخته، وأرسل معهم يزيد من يحرسهم هم وآل البيت إلى أن وصلوا إلى المدينة، فدفن رأس الحسين بجوار أمه فاطمة وأخيه الحسن رضوان الله عليهم أجمعين.
وفي مصر في هذا القبر المسمى بقبر الحسين تجد الأزاهرة معممين مطربشين، ومع الناس طائفين، وما حالت دون ذلك العمائم البيض، ولا الطرابيش الحمر، فلا يصح الاحتجاج بأن العلماء في الشام أو في مصر أو في السودان يفعلون ذلك، فالعالم يزل، وزلته ليست بحجة، قال سيدنا عمر ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق، وأئمة مضلون.
هؤلاء الثلاثة يهدمون الدين، ولكن الإسلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ غريباً وسيعود غريباً)، فلذلك الأحكام الآن غريبة، وأكثر الناس إذا سمع هذا الكلام يقول لك: هل هؤلاء المسلمون كلهم على خطأ؟ نعم على خطأ، والحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)، (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)، فهذه كلها نصوص واضحة، ولا تحتمل تأويلاً.
وبعض الناس يحتجون بأن الله لو أراد ألا يتم ذلك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان،
و
الجواب
أن هذا هو الصحيح، وكذلك لو أراد الله ألا يجرح رسوله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ما جرح، ولو أراد الله ألا يموت رسوله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن هذه حجة المفلسين، بأن يحتجوا على الشرع بالقدر، وانتبهوا كما قال المشركون الأولون عندما قال لهم: هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]، وعندما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم الميتة حرام، قالوا: الميتة قتلها الله، وما قتله الله أفضل مما قتلناه بأيدينا، وهذه من الحيل الشيطانية.
فمسألة الاحتجاج بأن الله لو ما أراد كذا ما كان كذا من حجج المفلسين، ففي المدينة المنورة حول المسجد النبوي كثير من الأمور الخاطئة، فقد قد تجد من يدخن، أو يعصي الله بكلام لا يليق، فهل نقول: إن الله لو لم يرد ذلك لما كان؟ وقد تجد من يقف على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنداً إلى جدار القبر وقد رفع إحدى رجليه على جدار القبر، فهل نقول: إن الله سبحانه وتعالى لا يغضب لنبيه صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا، ولكن لله عز وجل حكمة، وليس من لوازم الغضب تعجيل العقوبة.(39/16)
قبر إبراهيم ليس في المقام
الذي يقول: إن مقام إبراهيم فيه قبر إبراهيم، يحب عليه أن يأتي بدليل، وهل شارك أو مشى في دفنه، أو خلف جنازتهحتى يقول ذلك؟ فليس هناك قبر نبي من الأنبياء معروفاً سوى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما سائر الأنبياء فلا يعرف أين قبورهم.(39/17)
الرد على القائلين بجواز جعل القبور في المساجد
وقد يستدل بعض الناس بقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، على جواز القبور في المساجد، ويجاب عليهم بالآتي: أولاً: أثبتوا أن القائلين مسلمون؛ لأن كلمة المسجد في اللغة ليس معناها البنيان الذي يتخذ لعبادة الله، وإنما هو مكان السجود، وسواء كان سجود لله أو لغيره.
ثانياً: حتى لو كان القائل مسلماً فشرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، إذا ورد شرعنا بخلافه، مثال ذلك ما جاء في شريعة موسى عليه السلام من أن الله عز وجل حرم عليهم شحوم الحيوان، قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام:146]، وهل هذا ليس حرام في شريعتنا؟ ولا يمكن أن يكون شحمه حراماً؛ لأنه حرم في شريعة موسى، وكذلك في قصة أصحاب الكهف، وحتى لو كان القائلون مسلمين فلا يجوز لنا أن نستدل بفعلهم؛ لأن ذلك في شريعتهم، وقد جاء في شريعتنا ما يخالفه.(39/18)
الأسئلة(39/19)
معنى النهي عن نقر الغراب في الصلاة
السؤال
ما معنى النهي عن نقر الغراب في الصلاة؟
الجواب
النهي عن نقر الغراب في الصلاة معناه: النهي عن الإسراع في الصلاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن التشبه بالحيوانات، فلا نتشبه بغراب ولا ثعلب ولا سبع ولا كلب.(39/20)
حكم إخراج الأشياء الموقوفة من المسجد
السؤال
ما حكم إخراج الأشياء الموقوفة في المسجد؟
الجواب
لا يجوز إخراج ما وقف على المسجد، والاستفادة منها إلا لمصلحة المسجد، أما إذا أخرج فراش المسجد مثلاً لحاجة الإنسان الخاصة، كمناسبة أو غيرها فهذا لا يجوز.(39/21)
حكم صلاة الجنازة في المقابر
السؤال
ما حكم صلاةالجنازة في المقابر؟
الجواب
صلاة الجنازة في المقابر جائزة؛ لأنها دعاء، وليس فيها سجود ولا ركوع، وقد ثبت في الحديث أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، فماتت في الليل، فكره الصحابة أن يؤجلوا دفنها، فقاموا عليها حتى دفنوها، ولما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال: دلوني على قبرها، فلما دلوه على قبرها صلى عليها بعدما دفنت رضي الله عنها.(39/22)
حكم قيام تارك الصلاة لليل في رمضان
السؤال
بعض من يترك الصلاة يصلي التراويح في رمضان، فما الحكم؟
الجواب
تارك الصلاة إذا تركها جحوداً لا يصح منه قيام؛ لأنه ليس من أهل الإسلام، أما إذا تركها تكاسلاً، فالله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة:8]، فله ثواب قيامه الليل، وعليه إثم ترك الصلاة والعلم عند الله.(39/23)
حكم الصلاة في المكان العالي
السؤال
ما حكم صلاة الإمام في مكان عال؟
الجواب
ليس هناك مانع من الصلاة في المكان العالي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل)، أي: في أي مكان، إلا الأماكن التي نهي عنها، وكذلك الإمام فإنه منهي أن يصلي أعلى من المأموم، لكن المأموم يجوز أن يكون أعلى من الإمام، وهذا يوجد في المسجد الحرام مثلاً، فالإمام تحيطه الناس بثلاثة طوابق أعلى منه، فالممنوع هو أن يعلوا الإمام المأموم.(39/24)
ما يلزم المرأة من الثياب
السؤال
هل يجب على المرأة لبس الثوب السوداني؟
الجواب
إن الشريعة لم تلزم المرأة لا بالثوب السوداني، ولا بالثوب الأفغاني، وإنما ألزمت المرأة بأن تستر بدنها، سوى وجهها وكفيها، وإذا سترت الوجه والكفين فجزاها الله خيراً، وقد أتت بما هو أكمل وأفضل.(39/25)
حكم صلاة العصر بعد إمام يصلي الظهر
السؤال
دخلت وقت صلاة العصر الاختياري، وأدركت جماعة تصلي بالمسجد، ولما فرغوا، علمت أنهم يصلون الظهر، فما حكم صلاتي معهم بنية العصر؟
الجواب
هذه الصلاة على مذهب الجمهور صحيحة.(39/26)
حكم هدم المسجد الذي فيه قبر
السؤال
إذا وجد قبر في المسجد، هل يخرج القبر أو يهدم المسجد؟
الجواب
إذا وجد قبر في مسجد فإننا ننظر في السابق، فإذا كان المسجد سابقاً ينبش القبر، وإذا كان القبر سابقاً يهدم المسجد، لأن الحق اللاحق لا يرفع الحق السابق، فإذا دفن الميت أولاً، ثم بني المسجد، فالقبر أسبق ويهدم المسجد، أما إذا بني المسجد ثم أدخل القبر، فينبش القبر ويرد إلى مقابر المسلمين.(39/27)
حكم الطيب إذا كان فيه كحول
السؤال
ما هو الطيب الشرعي الذي يتطيب به المسلم ولا يكون فيه حرمة أو كراهة؟
الجواب
والله أنا ما أعرف طيباً شرعياً وطيباً غير شرعي؛ لكن لعل الأخ يقصد الكحول.
فالذي عليه الأئمة الأربعة أن الخمر نجسة العين، أي: أن نجاسة الخمر كنجاسة الدم، فإذا سقطت على أحد قطرة، وجب عليه غسلها، وهذا الذي عليه الأئمة الأربعة، استدلالاً بقوله تعالى، {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90].
لكن الذي عليه جماعة من المحققين ومنهم: العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسيره (التحرير والتنوير) والعلامة الشيخ ابن عثيمين ومن المعاصرين أيضاً الشيخ سلمان العودة، وغيرهم من السابقين كـ ربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بـ ربيعة الرأي، والليث بن سعد على أن الخمر نجاستها معنوية، وليست حسية، وأنها كنجاسة المشرك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، فلو أن مشركاً لمس ثيابك فليس المعنى أنك تغسلها.
قالوا: ومما يدل على أن الخمر نجاستها معنوية: أنها قرنت بالميسر والأنصاب والأزلام، وهذه نجاستها معنوية وليست حسية، فلا يجب على من لمسها أن يغسل يده، فكذلك الخمر الأقرب -والله تعالى أعلم- أن نجاستها معنوية، ولا حرج على من تعطر بهذه العطور الكحولية.
أما العطر الزيتي والبخور فهما جائزان، اللهم إلا الصائم فإنه لا يتبخر.
أما الخمرة بالنسبة للرجل فلا تنبغي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن طيب الرجال: ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء: ما خفي ريحه وظهر لونه، والرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى على بعض الصحابة أثر صفرة من طيب، قال: لو أمرتموه يغير هذا.
ولأن بعض الرجال يأتي إلى المسجد في صلاة الصبح ورائحته غير طيبه؛ فالخمرة التي هي للنساء.(39/28)
حكم قطع الصلاة لمن لم يدرك منها إلا التشهد الأخير ليدخل مع جماعة أخرى
السؤال
إذا كان إدراك فضل الجماعة بحضور ركعة مع الإمام، فهل لي أن أقطع الصلاة التي لم أدرك فيها إلا التشهد، وأدرك فضل الجماعة مع جماعة أخرى أم أستمر في صلاتي؟
الجواب
تكلمنا على هذه المسألة، وقلنا: إن هناك فرقاً بين الحكم وبين الفضل، الفضل علمه عند ربي، فالله سبحانه وتعالى يعلم سبب التأخر، فقد يتأخر الإنسان لأنه كان يرى مباراة، وقد كان يتأخر لأنه كان مشغولاً بتغسيل جنازة، أو بتمريض والده، فحكمهما ليس سواء.(39/29)
حكم الإقعاء بين السجدتين
السؤال
ما حكم الإقعاء بين السجدتين؟
الجواب
الإقعاء عند الفقهاء: هو وضع الأليتين على العقبين، وثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس أن ذلك من السنة.(39/30)
حكم الصلاة في الأوقات المنهي عنها
السؤال
ما حكم الصلاة في الأوقات المنهي عنها؟
الجواب
الصلاة في الأوقات المكروهة المنهي عنها، كالصلاة بعد العصر، غير جائزة، فإذا دخل الإنسان المسجد بعد صلاة العصر فلا يصلي تحية المسجد، وإذا دخل المسجد بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الشمس فلا يصلي تحية المسجد، وهذا مذهب الحنفية والمالكية رحمة الله عليهم، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس في الصحيحين قال: حدثني رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس).
وأما القائلون بجواز الصلوات التي لها أسباب، فاستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين).
ولكن القاعدة عند العلماء: أن النهي مقدم على الأمر، فإذا تعارض نهي وأمر، قدم النهي؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، خاصة وأن القائلين بجواز صلاة ذوات الأسباب قد نقضوا هذا القول بقول آخر، وهو: أن الصلاة تمنع عند بزوغ الشمس وعند غروبها.
والجواب عليهم: أنه لا فرق بين النهي عن الصلاة عند البزوغ والغروب، والنهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح؛ لأن السنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالواجب أن يطرد النهي في جميع الأوقات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها.
ولكن طالما أن المسألة خلافية فلا ينبغي أن ننكر على من صلى ولا ننكر على من ترك.
وقد روي أن الإمام ابن حزم جاء من جنازة فدخل المسجد قبل المغرب، ثم صلى تحية المسجد، فقام رجل ممن كان في المسجد وقال له: أقعد يا جاهل! فقعد، وفي اليوم التالي، جاء قبل العصر وجلس، فقام رجل وقال له: صل يا جاهل! فلما رأى أنه في كل يوم هو جاهل، طلب العلم، وصار يرد على مالك والشافعي وأبي حنيفة ويغلظ في الرد عليهم.(39/31)
فقه الصلاة_أخطاء يقع فيها بعض المصلين [2]
الصلاة عماد الدين، فينبغي على المسلم أن يتعلمها ويحسنها؛ لأنه إن أخل فيها فقد أخل بجزء كبير من الدين، والخطأ فيها من أهم ما ينبغي تجنبه، ولذا لا بد أن يتعرف المسلم على الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين؛ حتى لا يقع في مثل هذه الأخطاء، وحتى يبين لغيره ممن يقع في تلك الأخطاء ما ينبغي عليه تجنبه منها.(40/1)
ستر العورة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مبارك فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
أما بعد: فهذه مواصلة للكلام عن الأخطاء التي يلاحظها الإنسان على المصلين، وقد تقدم معنا الكلام عن الأخطاء المتعلقة بستر العورة، وذكرنا أن ستر العورة واجب، بل هو شرط في صحة الصلاة؛ لأن الله عز وجل قال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]؛ ولأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قالوا: يا رسول الله! فالرجل يكون خالياً؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه).
وكل ما يتنافى مع هذا الأصل فالواجب تجنبه، فعورة الرجل من سرته إلى ركبته، وعورة المرأة جسدها كله، سوى وجهها وكفيها.
والناس يقعون في جملة أخطاء فيما يتعلق بهذا الأصل مما يفسد عليهم صلاتهم؛ لأن شروط صحة الصلاة كما لا يخفى ستة، ولا تصح إلا بهذه الشروط، وهي: الإسلام، والطهارة من الحدث، والطهارة من الخبث، وستر العورة، واستقبال القبلة، وترك المبطلات.
أما النية فإنها ليست شرطاً، بل ركناً.
وأما دخول الوقت فليس شرط صحة، وإنما هو شرط صحة ووجوب.(40/2)
شروط الصلاة
إن شروط الصلاة على ثلاثة أنواع: شروط وجوب، وشروط صحة، وشروط صحة ووجوب معاً.
أما الوجوب فله شرطان: البلوغ، وعدم الإكراه على تركها.
أما الشرط الأول فمعناه: أن الصبي لا تجب عليه الصلاة، ولكنه لو فعلها صحت، وأما الثاني وهو عدم الإكراه على تركها، فمعناه: أن المكره على الترك لا تجب عليه الصلاة، لكنه لو فعلها صحت.
النوع الثاني من الشروط: شروط الصحة، وهي ستة: أولاً: الإسلام، فالكافر لو صلى لا تنفعه صلاته.
ثانياً: الطهارة من الحدث، سواء كان حدثاً أكبر أو أصغر.
ثالثاً: الطهارة من الخبث، سواء كان في البدن أو في الثياب أو في المكان.
رابعاً: ستر العورة، وهو ما سنذكره هنا.
الخامس: استقبال القبلة.
السادس: ترك المبطلات، ومعنى ترك المبطلات: أن يترك المصلي الأكل والشرب والضحك والكلام واستدبار القبلة إلى آخر ذلك من المبطلات.
النوع الثالث من الشروط: شروط الصحة والوجوب معاً، وهي خمسة: أولاً: العقل، فالمجنون لا تجب عليه، ولو فعلها لما صحت.
ثانياً: دخول الوقت، فلا تجب صلاة العشاء إلا في وقتها مثلاً، ولو صليناها في غير وقتها لما صحت.
ثالثاً: الطهارة من دم الحيض والنفاس، فالحائض والنفساء لا تجب عليهما الصلاة، ولو فعلاها لما صحت.
رابعاً وخامساً: القدرة على الطهارة المائية أو الترابية، وهذا عند من يقول: إن فاقد الطهورين تسقط عنه الصلاة، وهم المالكية، فإنهم قالوا: إن من لم يجد ماءً ولا صعيداً لا تجب عليه الصلاة، ولو صلى لما صحت صلاته، وهو قول ضعيف، بل قال بعض المالكية: إنه قول شاذ مهجور.(40/3)
أخطاء بعض المصلين المتعلقة بالثياب وستر العورة
النوع الأول: ستر العورة شرط في صحة الصلاة، وبعض الناس يخل بهذا الشرط، فيصلي في ثياب رقيقة شفافة، أو يلبس سروالاً قصيراً، فيبدو منه بعض الفخذ، أو تبدو منه السرة وما تحتها، فيكون قد صلى وهو كاشف شيئاً من عورته.
أيضاً من الأخطاء التي تقع فيها النساء: العناية بستر الأعلى وإهمال الأسفل، أو الصلاة في الثياب الحازقة أو الضيقة التي تصف العورة، ومن المعلوم أن ثوب المرأة يجب أن يكون فضفاضاً لا يصف، صفيقاً لا يشف.
وبعض النساء بل أكثر النساء تصلي وأقدامها مكشوفة، ومعلوم أن قدمي المرأة عورة يجب سترها، ولا يلزم المرأة أن تلبس الجورب، وإنما الذي يلزمها هو: أن تستر ظهور قدميها، وأن يكون ثوبها سابغاً يغطي ظهور القدمين، أو ثوباً طويلاً بحيث لو وقفت تكون قدماها مستورتين.
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين: تشمير الثياب، فبعض الناس يدخل في الصلاة أو في أثناء الصلاة ويكفف ثوبه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لما قال: (أمرت أن أسجد على سبعة، وألا أكف ثوباً ولا شعراً).
ومن الأخطاء: أن يصلي الرجل مكشوف العاتقين.
ومن الأخطاء ترك أخذ الزينة عند الخروج إلى المسجد، والله عز وجل يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].(40/4)
أخطاء بعض المصلين المتعلقة بأماكن الصلاة
النوع الثاني: أخطاء المصلين في أماكن صلاتهم، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر في الصحيحين: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، وفي اللفظ الآخر قال: (فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل).
فمن الممكن أن يصلي المسلم في البلاط، أو في التراب، أو في الرخام، أو في أي مكان، إلا المواضع التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالمزبلة، والمقبرة، والمجزرة، والحمام، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله.
أما الذين يصلون في الأماكن التي فيها ملهيات، كنقوش وصور وزخارف، وقد يصلي بعضهم أمام التلفزيون وهو مفتوح، فأمثال هؤلاء مخطئون، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى على خميصة أي: ثوب فيه أعلام فبعد أن أكمل الصلاة قال: (اذهبوا به إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أو بأنبجانيته؛ فإنها ألهتني عن الصلاة آنفاً)، وكذلك السيدة عائشة فقد كان عندها قرام -والقرام مثل الستارة- سترت به جانباً من البيت، فأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تميط ذلك القرام.
فلا ينبغي أن يصلي الإنسان إلى شيء يشغله.(40/5)
حكم الصلاة على القبور أو إليها وحكم بناء المساجد عليها
إن من الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين: الصلاة على القبور وإلى القبور، فالنبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولذلك فإن دفن الميت في المسجد وبناء المسجد على القبر حرام لا يجوز، وأما الاحتجاج على الجواز بقول الله عز وجل: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، فالجواب عليه من وجهين: الوجه الأول: أن هذا في شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا ليس شرعاً لنا.
الوجه الثاني: هذا القول لا ندري أهو من قول قوم مسلمين، أو من قول قوم كافرين، وكلمة المسجد ليس معناها: بناء المسلمين المعروف، وإنما المسجد: كل موضع اتخذ للسجود، سواء كان سجوداً لله أو لغير الله.
وإذا حكى الله مقالة قوم وما ذمهم ولا عقب عليهم بنهي فمعنى ذلك الجواز.
واحتج بعض الناس بأن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجود فيه قبره، ويجاب على ذلك بأنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف الصحابة في مكان دفنه، فبعضهم قال: يدفن بالبقيع، وبعضهم قال: في مكة.
ثم هداهم الله إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما قبض الله نبياً إلا ودفن حيث قبض) فحفروا له تحت فراشه في حجرة عائشة؛ ولأن حجرة عائشة ما يقول عاقل: إنها كانت في داخل المسجد.
إذاً: هذا ليس فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من فعل أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، فما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا باتباعه، ولا من فعل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بأن نعض على سنتهم بالنواجذ.
ثم استمر الحال في عهد الحسن بن علي، ثم في عهد معاوية، ثم في عهد يزيد بن معاوية، ثم في عهد معاوية بن يزيد بن معاوية، ثم في عهد مروان بن الحكم، وفي عهد عبد الله بن الزبير لما بويع بإمرة الحجاز، ثم في عهد عبد الملك بن مروان، وهؤلاء سبعة خلفاء بعد الراشدين، ثم الذي غير هذه السنة هو: الوليد بن عبد الملك.
وقد اعترض على ذلك العلماء وبينوا لـ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بأن هذا يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الوليد بن عبد الملك أمر بإنفاذ ما رأى.
ولا يمكن أن نحتج بفعل الوليد ونترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لا يحل لنا أن نحتج بقول أبي بكر ونترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ظهر بأن بين القولين اختلافاً.
فبناء المساجد على القبور لا يجوز، وأما لو بني مسجد على قبر وأراد الناس أن يقيموا شرع الله، فهل يخرجون القبر من المسجد، أو يهدمون المسجد ويبقى القبر؟ والجواب على ذلك بأن هناك قاعدة تقول: الحق اللاحق لا يرده الحق السابق، فالميت إذا دفن ثبت حقه في المكان الذي دفن فيه؛ لقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26]، أي: تضمكم على ظهرها أحياءً وفي بطنها أمواتاً، فإذا بني مسجد على ذلك المكان فلا ينبش القبر، وإنما يهدم المسجد، وإذا كان المسجد قد بني أولاً، ثم أدخل القبر فالحق للسابق وهو المسجد، فينبش القبر ويخرج الميت ويدفن في مقابر المسلمين.(40/6)
تخصيص مكان في المسجد للصلاة
إن من الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين: تخصيص مكان للصلاة في المسجد، كأن يجلس المصلي في مكان واحد في المسجد كل يوم، ولا يحب أن يجلس فيه أحد غيره، ففي الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير).(40/7)
أخطاء بعص المصلين المتعلقة بالسترة(40/8)
ترك اتخاذ السترة
النوع الثالث من الأخطاء: أخطاؤهم في السترة، وأول خطأ: ترك كثير من الناس اتخاذ السترة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلي إلا إلى سترة، ولا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى قاتله فإن معه قرينا)، وفي حديث أنس: لقد رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري، -والسواري: جمع سارية، وهي: العمود، وكانت أعمدة مسجد الرسول الله صلى الله عليه وسلم من جذوع النخل- حتى يخرج النبي عليه الصلاة والسلام.
فإذا أراد الإنسان أن يصلي منفرداً، أو يصلي بالنا